|
كتبها: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة
مقدمة: سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين
عضو الإفتاء سابقًا
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
F
مقدمة سماحة الشيخ
عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين
عضو الإفتاء سابقًا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد سمعت هذه الرسالة الموسومة بـ«افعل ولا حرج»، بقراءة كاتبها فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة وفقه الله(1)، وسرني ما تتضمنه من التسهيل والتوسعة على الحجاج؛ بحيث إن الكثير يتعرضون للزحام الشديد والمضايقات، والتي قد تؤدي إلى الوفيات، وإلى الأضرار، وإلى الصعوبة التي تشغل الحاج عن أهمية العبادة، وعن الحكمة والمصلحة التي شرعت لأجلها تلك العبادة، كما فصله الكاتب وفقه الله.
وهذا ما تطمئن إليه النفس في هذه الأزمنة التي تحدث فيها الوفيات، وزهوق الأرواح المحترمة، فنوصي بالتمشي مع هذه التسهيلات، فـ«إن الدين يسر - كما قال رسول الله ^ - ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا»(2). وعلى ما ذكر الله تعالى:
* } تمت ( - - ( - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - ( - ((( - - - - ( - ( - ( - ((( & [الشرح:5].
وقد أضفت خمسة تعليقات هي:
(1) الوقوف بعرفة يجزئ أية ساعة ليلًا أو نهارًا، من طلوع الشمس إلى طلوع الفجر يوم النحر، كما يدل عليه حديث عروة بن مُضَرِّس ا مرفوعًا: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه»(3).
__________
(1) قرأت هذه الرسالة على سماحة الشيخ مساء يوم الأربعاء (27شعبان1427هـ) في رحلة وصحبة مباركة غرب مدينة الرياض. المؤلف.
(2) أخرجه البخاري (39).
(3) أخرجه أحمد (16253)، وأبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3041)، وابن ماجه (3016).
(1/1)
(2) نمرة داخلة في حدود عرفة، وعرفة واسعة جدًّا، وكذلك عُرنة (بالنون)، كما قال ^: «عرفة كلها موقف، إلا بطن عرنة»(1). وقال ^: «وارفعوا عن بطن عرنة»(2).
والوادي هو المنخفض الذي نهى النبي ^ عن الوقوف فيه.
وتمتد عرفة شمالًا نحو خمسة كيلومترات، وكانت حدودها قديمًا إلى نخل يسمى نخل بني عامر، ولكنه زال الآن.
وتمتد شرقًا إلى الجبال الشاهقة الرفيعة، وغربًا إلى الجبال أيضًا، وجنوبًا إلى الجبال المنخفضة الممتدة.
(3) الاحتياط في التحلل الأول أن يكون باثنين من ثلاثة، كما ذكره الفقهاء، ومنهم الشيخ ابن باز / في «التحقيق والإيضاح»(3)، وهو الذي يترجح لي.
(4) السعي قبل الطواف جاء فيه حديث: سعيت قبل أن أطوف، قال: «لا حرج»(4). وقد اختلف العلماء في صحته.
والأقرب جواز تقديم السعي على الطواف إذا كانا في يوم واحد، حيث إن ظاهر الحديث يدل على أن السائل طاف وسعى في يوم واحد، وهو يوم النحر.
(5) أرى توسعة وقت الرمي للجمرات، وأنه ضروري في هذه الأزمنة، وفي الأزمنة السابقة كان الرمي يسيرًا، ولا مشقة فيه، أما الوقت الآن فقد تغير.
وأسأل الله التوفيق والهداية والقبول للمسلمين جميعًا، إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم..
أملاه:
__________
(1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (384- بغية)، وابن قانع في معجم الصحابة (1/192-193)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1998)، من حديث = = حبيب بن خماشة الخطمي ا. وفي إسناده الواقدي. وقد صح موقوفًا من قول ابن الزبير وابن عمر ي، عند مالك في الموطأ (772)، وابن أبي شيبة في المصنف (13879)، والطبري في تفسيره (3/521)، وغيرهم.
(2) أخرجه أحمد (16797)، وابن ماجه (3012) وغيرهما.
(3) التحقيق والإيضاح (ص:88، 96). وينظر ما سيأتي (ص:97).
(4) أخرجه أبو داود (2015)، وابن خزيمة (2774)، والطبراني (472)، والدارقطني (2/251)، والبيهقي (5/146). وينظر زاد المعاد (2/259).
(1/2)
عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين
27 / 8 / 1427هـ
مقدمة معالي الشيخ
عبدالله بن سليمان بن منيع
عضو هيئة كبار العلماء
الحمد لله القائل: * - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة & [الحج:78]، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد الموصوف باليسر والتيسير، فـ«ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا»(1)، والقائل: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»(2). والقائل: «افعل ولا حرج». وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فلقد سعدت بقراءة رسالة مختصرة جليلة مفيدة بعنوان: «افعل ولا حرج» في بعض مسائل وأحكام الحج، لفضيلة الشيخ الجليل الدكتور سلمان العودة، ذكر فيها مجموعة من مسائل الحج، التي هي في عصورنا الحاضرة في حاجة مُلحّة إلى الأخذ بالتيسير والسير على منهج رسول الله ^: «افعل ولا حرج».. «يسروا ولا تعسروا».
من هذه المسائل: مسألة إفاضة الحجاج من عرفة قبل غروب الشمس جوازًا، والبقاء في عرفة إلى غروب الشمس استحبابًا، وجواز عدم المبيت بمنى ليالي أيام التشريق لمن كان له عذر أو لم يجد مكانًا في منى يبيت فيه. وجواز الرمي -رمي الجمار أيام التشريق- قبل زوال الشمس، استنادًا إلى قواعد التيسير ورفع الحرج، واتباعًا لمن كان أهلًا للاقتداء، كالإمامين: أبي حنيفة وأحمد، وقبلهما التابعيان: طاوس وعكرمة، وغيرهم من علماء سلفنا الصالح رحمهم الله.
__________
(1) كما عند البخاري (3560)، ومسلم (2327) من حديث عائشة ل.
(2) أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734).
(1/3)
إلى غير ذلك من المسائل التي ذكرها فضيلة الدكتور سلمان، ورأى أن التوسع والتيسير على حجاج بيت الله في أحكامها أمر تقتضيه قواعد التيسير ورفع الحرج، لا سيما في عصرنا الحاضر، الذي تكاثر فيه الحجاج، حتى أنهم بلغوا بضع العشرة من ملايين الحجاج، وعوامل تزايدهم تتوافر وتكثر، ومواقع المناسك محدودة زمانًا ومكانًا، ووسائل ترفه القادرين على الترفه والباذلين في سبيل الحصول عليه مهيأة وعلى حساب ضعفاء الحجاج.
كل ذلك يسوّغ الأخذ بمبدأ التيسير والتخفيف ورفع الحرج، ما لم يشتمل ذلك على مخالفة صريحة لنص من كتاب الله أو سنة رسوله ^، وقد أخذ فضيلة الشيخ سلمان جزاه الله خيرًا بهذا المبدأ، فجاءت رسالته القيمة إسهامًا في التيسير على حجاج بيت الله الحرام، ورفع المشقة عنهم.
وأتمنى أن فضيلته أشار إلى الازدحام الشديد في المطاف وفي المسعى، وأعطى رأيه المبارك في علاج هذا الازدحام الشديد الذي هو مقارب للمشقة البالغة في رمي الجمار.
وإسهامًا مني مع فضيلته في المناداة بالتيسير ورفع المشقة والحرج، فيمكننا توسيع المسعى، ببناء دور بين أرضه وسقفه، حيث إن ارتفاع سقفه عن أرضه قرابة اثني عشر مترًا، وكذلك بناء دور بين سقف أرضه وسقف السقف وهو السطح، ليكون لدينا للسعي خمسة مواقع عرض كل موقع قرابة عشرين مترًا، هذه المواقع الخمسة هي: الأرض، وما بين الأرض والسقف، والسقف، وما بين السقف والسطح، والسطح. ولا شك أن هذه توسعة مفيدة لا يترتب عليها مخالفة في زيادة عرض المسعى عما هو عليه الآن.
(1/4)
وكذلك الأمر بالنسبة للمطاف، فلئن كانت الظروف السياسية تؤثر على هدم مبنى الأتراك في الحرم الذي سطحه القباب، فيمكن أن يجعل فوق هذا المبنى جسر معلق، ليكون مطافًا مساندًا للمطاف، وليس في هذا إشكال من الناحية الشرعية؛ فالحجاج والمعتمرون يطوفون في الأروقة وفي السطح، وطوافهم فيها جائز، وطوافهم في الأروقة وسطح الحرم أبعد عن الكعبة من الطواف فوق هذا الجسر المقترح. وهذا علاج للإشكال في الازدحام في الطواف.
وقد تقدمت لخادم الحرمين -حفظه الله- بهذا الاقتراح، ووجَّه بدراسته والأخذ به، ولعل أمر ذلك لا يطول؛ فالحاجة تزداد إلى حد الاضطرار، وعلى أية حال فلا أظن أن أحدًا من أهل العلم
-سواء كان في محيط المسؤولية أم كان في مستواها خارجًا عنها- لا أظن أحدًا من هؤلاء ينكر أن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والظروف إذا كانت محققة المقصد الشرعي غير مخالفة لنص صريح.
وابن القيم / يؤكد في كتابه القيم «إعلام الموقعين عن رب العالمين» أن الفتوى المحققة للمصلحة شرع الله.
وأختم هذا التقديم لهذه الرسالة الجليلة بهذا الدعاء: اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وجنبناه. واجز اللهم أبا معاذ سلمان العودة خير جزاء وأتمه، واجعل هذه الرسالة في موازين حسناته، والله المستعان.
أعد هذا التقديم:
عبدالله بن سليمان المنيع
مقدمة معالي الشيخ
عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
وزير العدل بجمهورية موريتانيا سابقًا
وعضو مجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، وبعد:
فلقد اطلعت على كتاب «افعل ولا حرج» لأخينا العلامة المستبصر الدكتور سلمان بن فهد العودة حفظه الله تعالى، وهو كتاب صغير الحجم، إلا أنه مشتمل على جمل مفيدة من العلم، وبخاصة مسائل الحج والعمرة، جاء في وقته وأوانه، متسمًا بالفهم والتدبر في مشكلات الحج في زمانه ومكانه.
(1/5)
ولعمري إنه لموضوع جدير بالاهتمام، بلغ سيله الزبى وحزامه الطبيين، بعد تكرار حوادث الازدحام التي تؤدي إلى هلاك الأنفس وتشويه صورة الإسلام، حيث يظهر معتنقوه بمظهر الفوضى وعدم الانضباط والانتظام، ويجد أعداء الدين -وهم كثر- فرصة للقدح والتجريح، وكلتا الحالتين منافية لمقاصد الشرع، ومنابذة لمقتضيات العقل والطبع.
وقد طلب مني التقديم لهذا العمل الذي أعتبره إنارة وإثارة؛ أما كونه إنارة، فإنه ينير طريق التيسير لمريد سلوكه، موضحًا بأدلته، وأما كونه إثارة، فإنه يثير لفيفًا من المسائل ينبغي أن تبحث بين الفقهاء لتحرير الفتوى فيها على ضوء الواقع، طبقًا لجدلية الدليل الكلي «المقصد» والدليل الجزئي «النص» وما في معناه من ظاهر أو اقتضاء أو مفهوم، حيث يتجلى فقه الفقهاء وفهم العلماء في مراعاة زوايا هذا المثلث الذي هو: الواقع المستجد من كل جوانبه؛ وهو هنا تزايد أعداد الحجاج، وضيق الرقعة الجغرافية، وذهاب الأنفس شبه المطرد، وتطبيق الحكم الشرعي الذي ينشأ عن نظرة متوازنة للكلي مع الجزئي، تضع نصب عينيها المقاصد الشرعية الأكيدة، دون أن تغيب عن بصرها وبصيرتها النصوص الجزئية، لما يؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد وشموله.. إن ذلك بعينه هو الوسطية التي لا يسع المتعاطي للفتوى إلا مراعاتها دون تقصير ولا شطط.
فأجبت الطلب، واختصرت هذه المقدمة في ثلاثة مطالب:
الأول: عن مقصد التيسير في الشريعة الغراء.
والثاني: توظيف اختلاف العلماء لرفع الحرج والمشقة عن الأمة، وذلك معنى كون الاختلاف رحمة.
والثالث: مقصد التيسير في الحج بخصوصه، وفتاوى بعض العلماء.
المطلب الأول: ... مقصد التيسير في الشريعة الغراء
(1/6)
اعلم وفقنا الله وإياك أن التيسير من خصائص هذه الرسالة الخاتمة، فقد قال ـ: * - رضي الله عنه -((( - { - - - - - قرآن كريم ((( - ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - { - - - - - (( - } - - - - { - ( - - الله } - - - ( - { - - - (( مقدمة - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - - ( - قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( - (( ( { - - عليه السلام - - ( قرآن كريم ( - - - - ( - - ( - - عز وجل - تمهيد { - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - ( - ( تم بحمد الله ( - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - ((- رضي الله عنهم - - ( - - - ( - ( المحتويات ( - - { - ( { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - - تمهيد - جل جلاله -( - ( - - - - - (- رضي الله عنه -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - - ( تمهيد (- رضي الله عنه - تمهيد ( - - { ( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - { - رضي الله عنه -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - رضي الله عنهم - { ((((- رضي الله عنه - تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - - - (( - (- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - - عليه السلام - - ((( { - - ( فهرس - (( - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - { - - - ( تمهيد - رضي الله عنه - الله أكبر - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - ((( - { - - - - ( } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( (( مقدمة (
(1/7)
- ( فهرس - صلى الله عليه وسلم -( - } - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( فهرس - صلى الله عليه وسلم -( - - (- رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ((- رضي الله عنه - - } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام - - قرآن كريم - - - - - ( - ( - { - - - - رضي الله عنه - - ( - الله أكبر ( - ((( مقدمة - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - - - قرآن كريم ( - ( - ((( - ( - - - ((((( & [الأعراف:157].
إنها آية كريمة ترسم ملامح الرسالة من خلال صفات نبيها ^، وتعرج على ما يجب له من الحقوق، وتبشر أتباعه بالصلاح والفلاح؛ فهو جامع لوصفي الرسالة والنبوة، وهو أمي لم يتعلم من أحد، فلم يتعلم من نبي ولا عالم، وإنما علمه العليم الحكيم، وهو مكتوب موصوف في توراة موسى وإنجيل عيسى.
فهو النبي الخاتم الذي بشر به الأنبياء، وأخذ العهد عليهم بالإيمان به ونصره، ووصف بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويضع عنهم الإصر والأغلال، أي: التكاليف الغليظة التي كانت تكبلهم الشرائع السابقة بها.
إنه تصوير لحالة الضيق والمشقة التي أماطتها هذه الشريعة بالسماحة واليسر.
فالإصر: يقول عنه النضر بن شميل /: هو العهد الثقيل(1). وكل ثقيل فهو إصر؛ لأنه يأصر صاحبه، أي: يحبسه عن الحركة.
أما الأغلال: فجمع غُل بالضم، وهو جامعة الحديد تكون في العنق واليدين. قال مرتضى في «التاج» عن الأغلال: «وقد تكرر ذكرها في القرآن والسنة، ويراد بها التكاليف الشاقة والأعمال المتعبة»(2).
__________
(1) ينظر: لسان العرب (4/22)، وتاج العروس (أ ص ر). وحكاه البغوي في تفسيره (2/288) عن ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد.
(2) ينظر: تاج العروس (غ ل ل).
(1/8)
قلتُ: إنه تصوير ناطق يُقدم إلى السامع صورة شخص مكبل بأغلال حديدية، وهو يحمل على كاهله حملًا ثقيلًا ينوء به! فكيف يقوم بوظيفة الاستخلاف؟ إلى أن امتن ـ عليه برسالة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، فكانت كلمة «يضع» هي المفتاح لفك كبله وإماطة الحمل عن ظهره، فلا غل في الشريعة ولا إصر في الحنيفية السمحة.
وليس التيسير ورفع الحرج قاعدة فقهية فقط عبر عنها الفقهاء بقولهم: «المشقة تجلب التيسير». وقول الشافعي /: «الأمر إذا ضاق اتسع»(1). إلى غير ذلك من العبارات التي تصب في هذا الجدول، بل رفع الحرج والتيسير مقصد أعلى من مقاصد الشريعة.
وهذه فقرات لأبي المقاصد أبي إسحاق الشاطبي / تبين ذلك، حيث يقول: «المسألة السادسة: فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك، كقوله تعالى: * (( - (- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( - - عليه السلام - - ((( { - - ( فهرس - (( - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - { - - - ( تمهيد - رضي الله عنه - الله أكبر - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( & [الأعراف:157]، وقوله: * - - - جل جلاله -( - - عليه السلام - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ( - - - - - - عليه السلام - - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - - ((( { - - رضي الله عنهم - - - - (( مقدمة - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - مقدمة - فهرس - - رضي الله عنه -( - ((( - { - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - عليه السلام - - ( - ( تمهيد - - & [البقرة:286]. وفي الحديث: «قال الله تعالى: قد فعلت»(2). وقد جاء:
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي (83).
(2) أخرجه مسلم (126).
(1/9)
* - صدق الله العظيم ( - ( - - - - ( - ( - - - - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ( { - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم -(( - (- صلى الله عليه وسلم - & [البقرة:286]، و* ( - - ( - ( - ( - - - ( المحتويات ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - - عليه السلام - - ( - ((( - - - & [البقرة:185]، و* - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة & [الحج:78]، و* ( - - ( - ( - ( - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - (- صلى الله عليه وسلم -( - - ( - ( المحتويات ( - - جل جلاله -- رضي الله عنه -( - - رضي الله عنه - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم ( - - الله أكبر تمهيد { - - - - ( - (( - ( & [النساء:28]، و* - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - - ( - ( - ( - - - - - - رضي الله عنهم -(( - - عليه السلام - - ( - المحتويات ( تمهيد ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - ( - - - (( - ( - { المحتويات ( - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ((( الله أكبر ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( تمهيد ( - - رضي الله عنهم -( - - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - (( فهرس - &
(1/10)
[المائدة:6]. وفي الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحة»(1). وحديث: «ما خير رسول الله ^ بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه»(2). وإنما قال: «ما لم يكن إثمًا» لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك. إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى.
ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا لليسر ولا التخفيف ولكان مريدًا للحرج والعسر وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة، كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقّة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.
ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف»(3).
وقال الشاطبي أيضًا: «فالنصوص سالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم، فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعدًا عند مشقة طلب القيام، والقصر والفطر في السفر، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل...».
وأطال النفس قائلًا: «إلى جزئيات كثيرة جدًّا يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج، فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملًا بالاستقراء»(4).
وعلى هذه الشاكلة القول بالأخف:
__________
(1) أخرجه أحمد (21260، 23710).
(2) تقدم تخريجه (ص:7).
(3) الموافقات (2/121- 122).
(4) الموافقات (2/299).
(1/11)
يقول الزركشي: «إن القول بالأخف قد يكون بين المذاهب، وقد يكون بين الاحتمالات المتعارضة أماراتها، وقد صار إليه بعضهم؛ لقوله تعالى: * ( - - ( - ( - ( - - - ( المحتويات ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - - عليه السلام - - ( - ((( - - - & [البقرة:185]. وقوله: * - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة & [الحج:78]. وقوله ^: «بعثت بالحنيفية السمحة»(1).
وهذا يخالف الأخذ بالأقلِّ، فإن هناك يُشترط الاتفاق على الأقل ولا يشترط ذلك هاهنا، وحاصله يرجع إلى أن الأصل في المضار المنع، إذ الأخف منهما هو ذلك.
وقيل: يجب الأخذ بالأشق كما قيل هناك يجب الأخذ بالأكثر»(2).
قال الطوفي في الترجيح عند تعارض الدليلين:
«الثاني: يأخذ بأشد القولين؛ لأن «الحق ثقيل مَرِيءٌ والباطل خفيف وَبيِءٌ». كما يروى في الأثر(3). وفي الحكمة: «إذا ترددت بين أمرين فاجتنب أقربهما من هواك»(4).
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما خُيِّر عمار بين أمرين إلا اختار أشدَّهما». وفي لفظ: «أَرْشَدَهُما». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضا النسائي وابن ماجه(5).
__________
(1) تقدم تخريجه (ص:19).
(2) البحر المحيط للزركشي (4/340).
(3) جاء عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان ب. ينظر: الزهد لابن المبارك (290، 850)، والزهد لهناد (499)، والحلية (1/134)، والفقيه والمتفقه (1211).
(4) ينظر: الفقيه والمتفقه (1212).
(5) ينظر: جامع الترمذي (3799)، وسنن النسائي الكبرى (8276)، وسنن ابن ماجه (148).
(1/12)
فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد.
الثالث: يأخذ بأخف القولين؛ لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة، كقوله Q: * ( - - ( - ( - ( - - - ( المحتويات ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد ( - - عليه السلام - - ( - ((( - - - & [البقرة:185]. وقوله: * - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة & [الحج:78]. وقوله ^:«لا ضرر ولا ضرار»(1). وقوله ^: «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة»(2).
قال شيخنا المزني: من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه، أو كما قال.
قلتُ: وثبت عن النبي ^ أنه «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا»(3).
قلتُ: والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور: أن عمارًا كان مكلفًا محتاطًا لنفسه ودينه، والنبي ^ كان مُشرِّعًا موسِّعًا على الناس لئلا يحرج أمته. وقال: «يَسِّروا ولا تُعَسروا»(4). وقال لبعض أصحابه في سياق الإنكار عليه: «إن فيكم منفرين»(5)(6).
قلت: وقد روي حديث عمار: «أسدهما» بالسين المهملة، من السداد، وعليه فلا دليل فيه للشدة.
__________
(1) أخرجه أحمد (2719)، وابن ماجه (2341)، والحاكم (2345)، وغيرهم.
(2) تقدم تخريجه (ص:19)، دون قوله: «السهلة».
(3) تقدم تخريجه (ص:7).
(4) تقدم تخريجه (ص:7).
(5) أخرجه أحمد (16460)، والبخاري (702)، ومسلم (466).
(6) شرح مختصر الروضة (3/669-671).
(1/13)
وبناء على هذا المقصد رجح العلماء في قضايا الخلاف التيسير على مر الزمان، إذا ظهر أن القول الراجح يؤدي إلى إعنات ومشقة، وعدلوا عن القياس وخصصوا عموم النصوص، فالقاعدة أن «غلبة المشقة مسقطة للأمر»، قال عليه الصلاة والسلام: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(1).
توظيف اختلاف العلماء لرفع الحرج والمشقة
عن الأمة، وذلك معنى كون الاختلاف رحمة
فقد فسر الشاطبي رحمة الخلاف بقوله: «إن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة.
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة: ما رُوي عن القاسم بن محمد قال: «لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله ^ في العمل، لا يعمل العامل بعلم رجل منهم إلا رأى أنه في سَعة»(2).
وعن ضمرة عن رجاء قال: «اجتمع عمر بن عبدالعزيز والقاسم بن محمد، فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجيءُ بالشيء يخالف فيه القاسم، قال: وجعل القاسم يشق ذلك عليه، حتى تبين فيه، فقال له عمر: لا تفعل، فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم»(3).
وروى ابن وهب عن القاسم أيضًا، قال: «لقد أعجبني قول عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب محمد ^ لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة»(4).
__________
(1) أخرجه البخاري (7240)، ومسلم (253).
(2) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1686).
(3) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1688).
(4) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1689).
(1/14)
ومعنى هذا: أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه، لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق؛ لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة -كما تقدم- فيصير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم، وهو نوع من تكليف مالا يطاق، وذلك من أعظم الضيق. فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم * صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - تمهيد ( مقدمة { - - رضي الله عنهم - - - - - عليه السلام - - & [هود:119]، فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها، والحمد لله»(1).
قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب «الدّر المختار»: «وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر»-: «وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس، وهو: «اختلاف أمتي رحمة». قال في «المقاصد الحسنة»: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس ب، بلفظ: قال رسول الله ^: «مهما أوتيتم من كتاب الله؛ فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإنْ لم يكن في كتاب الله فسنة مني، فإنْ لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة». وأورده ابن الحاجب في «المختصر» بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس».
وقال ملا علي القاري: إن السيوطي قال: أخرجه نصر المقدسيّ في «الحجة» والبيهقي في «الرسالة الأشعرية» بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا.
ونقل السيوطي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول: «ما سرني أن أصحاب محمد ^ لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة».
__________
(1) الاعتصام (2/170).
(1/15)
وأخرج الخطيب أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله! نكتب هذه الكتب -يعني: مؤلفات الإمام مالك- ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة. قال: «يا أمير المؤمنين! إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكلهم على هدى، وكل يريد الله تعالى». وتمامه في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس»(1).
وللاختلاف أسبابه المشروعة في الفقه، ولهذا اعتبر العلماء معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح فقهه.
فقد قال قتادة /: «من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه»(2).
وعن هشام بن عبيد الله الرازي /: «من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه»(3).
وعن عطاء /: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس، حتى يكون عالمًا باختلاف الناس»(4).
وقال يحيى بن سلام /: «لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليّ»(5).
إلى غير ذلك من الأقوال، ويراجع الشاطبي في «الموافقات»، فقد عدَّ معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها(6).
إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق، فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سببًا للتيسير والتسهيل، والتيسير مقصد من مقاصد الشريعة بنص الكتاب والسنة، كما مر عن الشاطبي وغيره.
وبناءً عليه: يوجد في المذاهب كلها العدول عن القول الراجح إلى قول مرجوح، لجلب مصلحة ترجحت، أو درء مفسدة، أو دفع مشقة عرضت.
__________
(1) رد المحتار (1/46-47)، وينظر: المقاصد الحسنة (69-70)، وكشف الخفاء (1/68).
(2) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1520، 1522).
(3) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1523).
(4) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1524).
(5) ذكره ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1534).
(6) الموافقات (4/161).
(1/16)
ولهذا تقرر عند المالكية تقديم القول الضعيف الذي جرى به العمل على القول الراجح في زمن من الأزمنة أو مكان من الأمكنة لتبدل عرف أو عروض جلب مصلحة أو درء مفسدة، فيرتبط العمل بالموجب وجودًا أو عدمًا، كما يقول شارح التحفة. وبنوا على ذلك مئات المسائل.
وقال ابن عابدين كذلك بجواز الإفتاء بالضعيف للضرورة، وذكر أبياتًا في ذلك:
ولا يجوز بالضعيف العمل ... ولا به يجاب من جا يسأل
إلا لعامل له ضروره ... أو من له معرفة مشهوره
ومعنى ذلك: أن مقصد التيسير يرجح القول الضعيف فيتعين العمل به لعروض المشقة، فمعادلة المقصد الكلي بالنص الجزئي مؤثرة في الفتوى على مدار الأزمنة.
يقول ابن القيم / في تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال: «هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله ^»(1).
وتغير الزمان المشار إليه هو تغير أحوال الناس، فالحجيج الذين كانوا يعدون بالآلاف أصبحوا يعدون بالملايين، والأنفس القليلة التي كانت تموت في موسم الحج أصبحت تعد بالمئات.
ومحل الشاهد منه أن الإبقاء على أحكام الجزئيات التي تخالف مقاصد الشريعة وتؤدي إلى مشقة وإعنات، مخالف لروح الشريعة وغلط.
وأي مشقة أعظم من ذهاب الأنفس في الزحام والإثخان بالجروح والآلام، ألا يستحق الأمر اجتهادًا؟
__________
(1) إعلام الموقعين (3/11).
(1/17)
قال ابن عابدين في نفس المعنى: «فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام، ولهذا ترى مشايخ المذاهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه»(1).
وقال أيضًا: «ثم اعلم أن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه، قد تغيرت بتغير الأزمان؛ بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه».
مقصد التيسير في الحج بخصوصه
وفتاوى بعض العلماء
__________
(1) مجموع رسائل ابن عابدين (2/123).
(1/18)
1- إن التصريح برفع الحرج من الشارع فيمن خالف أفعاله في الحج بقوله: «افعل ولا حرج». دليل لملاحظة مقصد التيسير في الحج، بالإضافة إلى كونه مقصدًا عامًّا في كل مناحي التشريع الإسلامي بالنصوص التي ذكرناها سلفًا، إلا أنه تجدر الإشارة إلى قوله تعالى: * - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - (( (((( - - - - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - مقدمة - - - { - ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - بسم الله الرحمن الرحيم - ( - (- رضي الله عنه - - ( - ( { - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( المحتويات ( - - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -((( - ( - ( - ( - ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( تمهيد - - & [الحج:78]، أورد في سورة الحج، وأن الحج من أهم موروث من ملة أبينا إبراهيم ×.
2- إن الحج عبادة قرنت بالاستطاعة نصًّا، مع أن كل العبادات يشترط لوجوبها الاستطاعة، قال تعالى: * ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( } - } - - - - - - ( مقدمة ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه -( - - (- رضي الله عنه - - ( - - - ( مقدمة ( - - - ( { الله - - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - & [آل عمران:97]، وجاء في الحديث: «وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا»(1).
وهذه نصوص تشير إلى إرادة التيسير وعدم الإعنات.
3- إن الحج في كثيرٍ من أحكامه مبني على التخيير، والتخيير أساس التيسير.
__________
(1) صحيح مسلم (12).
(1/19)
فالحج وقته متسع، فهو واجب على التراخي عند بعض العلماء كالشافعية والمغاربة من المالكية، ويشرع فيه بإحرام بواحد من ثلاثة أنساك على سبيل التخيير، وهي: التمتع والقران والإفراد.
وكذلك التخيير في الفدية: * صدق الله العظيم - عليه السلام - - - ( - رضي الله عنه - تمت - - - المحتويات ( - - ( تم بحمد الله - (( - ( - - - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - ((( مقدمة ( - - { - - صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله (( مقدمة ( - ( - { - ( { - رضي الله عنه - - ( - (( - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله تم بحمد الله الله - - عليه السلام - - (( (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - { - - - رضي الله عنهم - - - ( (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - ( - & [البقرة:196].
4- إن بعض أفعال الحج المختلف فيها بالتقديم والتأخير، كالرمي، لا يوجد بخصوصها دليل قولي من الشارع، وإنما تدخل تحت دلالة الفعل، ودلالة الفعل دلالة ضعيفة، وإن كان مستندًا إلى قوله ^: «خذوا عني مناسككم»(1). فمعلوم أن أفعاله ^ في الحج منها الواجب والمسنون والجائز، فيبقى الاحتمال قائمًا في تعيين أي منها، فقد حج راكبًا، وهو أمر جائز، وقد حصَّب(2)، وهو أمر مختلف في دلالته بين الجواز والاستحباب.
وقد رتب الرمي والحلق والإفاضة، وقد ثبت عنه رفع الحرج عمن خالف الترتيب.
وقد سمح لذوي أعذار خفيفة بترك المبيت بمنى، وبجمع الرمي في يوم واحد.
إلى غير ذلك من الرخص التي يشتمل عليها كتاب أخينا العلامة الدكتور سلمان العودة.
__________
(1) أخرجه مسلم (1297)، والنسائي (3062)، والبيهقي (5/125).
(2) التحصيب: نزول الحجاج بالمحصَّب -موضع بين مكة ومنى- عند الخروج من مكة. والمحصَّب أيضًا: موضع الجمار بمنى.
(1/20)
وعدمُ وجود بيان قولي مما يقرب المسألة من منطقة العفو لاحتمال أن يكون فعله ^ محمولًا على الأفضلية، ويرجح مذهب من أجاز الرمي في أي وقت من أيام منى للحاجة والمشقة.
ولهذا ترخص العلماء في مواطن ورد فيها بيان قولي، كمسألة طواف الحائض عندما أدت إلى شدة ومشقة في القرن الثامن الهجري.
وهذه فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية /، كما نقلها اللبدي، ننقلها بكاملها مع تعليقات اللبدي، لما تضمنته من معانٍ توضح منحى التعامل مع المشقات في الحج، حيث يقول:
«مسألة مهمة جدًّا: نبه عليها الشيخ الإمام والحبر الهمام قدوة الأنام شيخ الإسلام بحر العلوم أبو العباس تقي الدين أحمد ابن تيمية، طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه؛ قال /:
وقد يقع في الحج في كل عام ما يبتلى به كثير من نساء العلماء والعوام؛ وذلك أن المحرمة تحيض قبل طواف الإفاضة، ويرحل الركب قبل طهرها، ولا يمكن المقام للطواف.
قال: وفي سنة سبع وسبعمائة جرى ذلك لكثير من نساء الأعيان وغيرهم، فمنهن من انقطع دمها يومًا أو أكثر باستعمال دواء، ومنهن من انقطع دمها يومًا أو أكثر بغير دواء، فظنت أن الدم لا يعود، ففعلت كالأولى، ثم عاد الدم في أيام عدتها، ومنهن من طافت قبل انقطاعه وقبل غسلها، ومنهن من سافرت مع الركب قبل الطواف، وكانت قد طافت طواف القدوم وسعت بعده؛ فهؤلاء أربعة أصناف.
فلما اشتد الأمر بهن، وخفن أن يحرم تزويجهن، ووطء المتزوجة منهن، ويرجعن بلا حج، وقد أتين من بلاد بعيدة، وقاسين المشاق الشديدة، وأنفقن الأموال، كثر منهن السؤال، وقد قاربت عقولهن للزوال: هل من مخرج عن هذا الحرج، وهل مع الشدة من فرج؟
(1/21)
فسألت الله التوفيق والإرشاد، إلى ما فيه التيسير على العباد من مذاهب العلماء الأئمة، الذين جعل اختلافهم رحمة للأمة، فظهر لي في الجواب، والله أعلم بالصواب: أنه يجوز تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة، وأن يُقَلّدَ واحد منهم في مسألة وآخر في أخرى؛ فعلى هذا يصح حج كل منهن:
أما الأولى والثانية: فعلى أحد قولين في مذهب الشافعي، بناء على أن يوم النقاء طهر.
قلت: وهو الصحيح من مذهبنا أيضًا، فقد جزم به في «المنتهى» و«الإقناع» وغيرهما.
قال: وأما الثالثة: فعلى مذهب أبي حنيفة، فعنده لا يشترط للطواف طهارة حدث ولا نجس، وهو أحد الروايتين عن أحمد.
قلت: والصحيح المشهور خلافها.
قال: وأما الرابعة: فقد تتخرج صحة حجها على أحد الروايتين عن مالك، وهي أن من طاف طواف القدوم وسعى بعده ورجع إلى بلده قبل طواف الإفاضة، ناسيًا أو جاهلًا، أجزأه عن طواف الإفاضة، فإنَّ عذر الحيض أظهر من عذر الجاهل والناسي.
قال: وإن لم يعمل بهذه الرواية أو لم يصح التخريج، فعلى قياس أصول مذهب الشافعي، أنها إذا جاوزت مكة بيوم أو أكثر، بحيث لا يمكنها الرجوع إلى مكة، خوفًا على نفسها أو مالها، تصير كالمحصر، فتتحلل كهو وتذبح شاة وتقصر من شعرها، وتصير حلالًا. انتهى باختصار من نحو ورقتين.
وقال / في مواضع أخر: غاية ما في الطهارة أنها شرط في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطًا في الصلاة آكد، ومع ذلك تصح الصلاة بدونها مع العذر عند الأكثر... وذكر كلامًا كثيرًا لا يحتمله هذا المختصر.
والحاصل: أنه انتصر لصحة طواف الحائض انتصارًا لا مزيد عليه، وأقام على ذلك أدلة واضحة، وذكر أنه لا دم عليها.
(1/22)
وآخر ما قال: هذا الذي يتوجه عندي في هذه المسألة، ولضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا تجمشت الكلام فيها، فإني لم أجد فيها كلامًا لغيري، والاجتهاد عند الضرورة مما أمر الله به، فإن يكن ما قلته صوابًا فهو من الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. انتهى ملخصًا من «شرح عمدة الأحكام»(1).
وعلق الزرقاني في «شرحه» عند قول خليل: «وحُبِسَ الكَرِيُّ والوَلِيُّ لحيضٍ أو نِفَاس قَدْرَهُ، وقُيِّدَ إنْ أَمنَ». بقوله - بعد نقله لأقوال مذهب مالك في اعتبار الحائض محصرة وأنها تظل على إحرامها-: «وفيه من المشقة -خصوصًا على من بلادها بعيدة- ما لا يخفى، ومقتضى يسر الدين أن لها أن تقلد: إما ما رواه البصريون المالكية عن الإمام مالك، من أن من طاف للقدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلًا أو ناسيًا أجزأه عن طواف الإفاضة، خلاف ما نقل البغداديون عنه من عدم الإجزاء وإن كان هو المذهب.
ولاشك أن عذر الحائض والنفساء أبلغ من عذر الجاهل والناسي.
وإما أبا حنيفة، أن للحائض أن تطوف؛ لأنه لا يشترط عنده في الطواف طهارة حدث وخبث، وكذا هو إحدى الروايتين عن أحمد، ويلزمها ذبح بدنة ويتم حجها لصحة طوافها، وإن كانت تأثم عندهما أو عند أحمد فقط بدخول المسجد حائضًا. والله أعلم بالصواب»(2).
قلت: وأحوال الناس اليوم أشق وأشد من حال الحائض، لذهاب الأنفس، أفلا تستحق منا اجتهادًا لاختيار الأقوال الميسرة!
بلى؛ لقد أصبح ذلك من الواجب، وهو ما نحسب أن كتاب العلامة الشيخ سلمان ينحو نحوه، فجزاه الله خيرًا ونفع بعلمه، ووفقنا وإياه للسداد في القول، والرشاد في العمل.
وهو سبحانه وتعالى ولي التوفيق
والهادي بمنه وكرمه إلى سواء الطريق
وكتب:
عبدالله بن بيّه
مقدمة
__________
(1) دليل السالك لأداء المناسك للشيخ عبدالغني بن ياسين اللبدي الحنبلي (ص:54).
(2) الزرقاني على مختصر خليل (2/289).
(1/23)
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، والصلوات والتسليمات الطيبات على النبي محمد وآله، ورضوان الله على الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان... ثم أما بعد:
فهذه ورقة مختصرة في مسائل الحج وتيسيراته، انتزعتها من مادة أطول هي شرح كتاب الحج من«عمدة الفقه».
وعالجت فيها بعض القضايا التي تمس الحاجة إليها، ويكثر السؤال عنها، وتعم البلوى بها، ويحتاج الخلق فيها إلى التوسعة.
وقد نشرت هذه المادة على حلقات في موقع «الإسلام اليوم»، وفي بعض الصحف السيارة، ولقيت قبولًا عند القراء وثناء من بعض الشيوخ والفضلاء، وتحفيزًا على طبعها ليعم نفعها.
ورحم الله امرًأ أضاف أو دعا أو صحَّح أو نقَّح..
والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
ليشهدوا منافع لهم
حفلت الآيات الكريمة التي وردت في سياق تشريع العبادات بإبراز المقاصد الشرعية منها، وذلك لما علمه الله تعالى في جبلة الناس من النسيان والغفلة.
وحين يطول الأمد وتقسو القلوب تتحول العبادات عند بعض المؤمنين إلى رسوم وعادات، يؤدونها بمظاهرها وصورها، ولا يتحسسون قلوبَهم إثْرها، بل يغرقون في دقائقها وتفصيلاتها، ثم تأتي مرحلة أخرى جرت على أهل الكتب كلهم بسبب الغفلة عن المقاصد الشرعية، وهي أن يضاف إلى العبادة ما ليس منها، مما أوحاه إليهم الانهماك في ظاهرها والانقطاع عن روحها ولبها ومقصدها.
ومن تأمل هذا ووعاه أدرك طرفًا من الحكمة البالغة في تكرار القصد من تشريع العبادة؛ ففي شأن الصلاة -وهي أم العبادات- يأتي السياق القرآني مؤكدًا على أثرها في صياغة سلوك المسلم؛ بأنها * - - - - ( - - - ((- رضي الله عنه -( (( - - - رضي الله عنه -(( - - (( - - - ( - - - - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - & [العنكبوت:45].
(1/24)
وفي شأن الزكاة، كان التأكيد على أمر النبي ^ بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها، وتكون سببًا في صلاته عليهم، ولهذا كان ^ إذا جاءه قوم بزكاتهم قال: «اللهم صلِّ على آل فلان»(1).
وفي شأن الصوم وضمن سياق مفصل مؤثر قال الله تعالى:
* ( المحتويات ( - ( - - رضي الله عنهم -( - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( { ( - - - ((((( & [البقرة:183].
وفي شأن النسائك، وهي الذبائح والنحائر المرتبطة بمشعر الحج، يقول تعالى: * صدق الله العظيم - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - - { - - - - - رضي الله عنهم - - ( تم بحمد الله قرآن كريم (- رضي الله عنه -( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( { ( - - - - ( المحتويات ( - - ( تم بحمد الله & [الحج:37].
بل في الحج ذاته يبين تعالى أن المقصد من النسك كله هو
* } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - عليه السلام - - ( - - - المحتويات ( - - - ( - - - & [الحج:34]. ولهذا قالت عائشة ل: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله»(2).
فهل يستشعر المؤمن وهو يطوف بالبيت هذا المعنى! أو تغلب عليه روح المنافسة والانتصار، فهو يزاحم بمنكبيه، ويصارع بيديه، ويجادل بصوته، وكأنه في حلبة عراك!
__________
(1) أخرجه البخاري (1498)، ومسلم (1078).
(2) أخرجه الدارمي (1780) وغيره موقوفًا. وأخرجه أحمد (23215، 23328، 23929)، وأبو داود (1888) مرفوعًا، وكأنه بالموقوف أشبه.
(1/25)
أو هل يدرك هذا وهو يدفع من المشاعر وقد احتدم الزحام واصطك الحاج، وصارت رغبة النفس أن تسبق إلى غايتها الجديدة، وتفاخر الناس بذلك، فما يقطعونه في ساعات قد تحقق لي في دقائق! وقد كان من سنته عليه السلام في الدفع من عرفة: «السكينة السكينة.. فإن البر ليس بالإيضاع».
إن البر هو مقصود الحج، وهو لا يتحقق بالإسراع والعجلة والحطم، وإنما بالسكينة والإخبات.
أو هل يستشعر الحاج هذا المعنى وهو يرمي الجمرات، وقد استجمع في نفسه ذكريات ما رأى أو سمع من شدة الموقف، والموت تحت الأقدام، والحديث المسترسل بعدُ مع الصحبة عن الرمي وما جرى فيه، والحيلة والقوة والشدة.
إن هذه العبادات الجماعية تربية ربانية على أداء الواجب بإتقان وإخلاص، وعلى رعاية حقوق الآخرين ومنازلهم، وإكرام كبارهم، والرحمة بصغارهم، والشفقة على غريبهم وضعيفهم وجاهلهم؛ ولهذا قال سبحانه: * - - { - رضي الله عنه -( - - - ( - ( - ( { - صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد (- رضي الله عنه - تم بحمد الله قرآن كريم ( - (( } تم بحمد الله - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - ( - عليه السلام -(- رضي الله عنه - - - ( - (( - - (( - - { - رضي الله عنه -( - - - - - - ( - رضي الله عنهم - { - (- عليه السلام - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ( - (( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - ( - - (( ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - & [البقرة:197].
فهو تخففٌ من الدنيا وحظوظها ينأى به المحرم عن الرفث، وهو الجماع ودواعيه، وهو من محظورات الإحرام باتفاق، ويلتحق بهذا ترك فضول الحديث عن النساء مما يثير الغرائز ويحرك الشهوات.
كما ينأى به عن الفسوق، وهو المعاصي كلها، والفسوق للحاج انتهاك لحرمة النسك، وجراءة على الحرم المقدس، فضلًا عن كونه مُحرمًا أصلًا.
(1/26)
أما الجدال: فهو المخاصمة بالباطل، والاسترسال وراء نوازع النفس وأنانياتها التي تأبى إلا أن تكون الغلبة والكلمة الأخيرة لها، دون أن تلتفت إلى حق وباطل، أو خطأ وصواب، أو على أدنى الأحوال أن تلتفت إلى الاحتمال، ولقد رُوي عن الإمام الشافعي / قوله: «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب».
ويقول بعض الظرفاء: حري بأمثالنا أن نقول: قولنا خطأ يحتمل الصواب!
وجرعة يبتلعها المرء من غيظ عابر، خير من معركة يخوضها مع جليسه أو صاحبه، لا تقرب من جنة، ولا تباعد من نار، ولا تدل على هدى، ولا تصد عن ردى، ولكن أين المعتبر؟
وكل ما شرع الله في الحج وفي غيره فهو لمصلحة عباده العاجلة والآجلة، ولهذا قال الله تعالى في أمر النسك: * } - - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنهم - - ((- عليه السلام - - ( - - - رضي الله عنهم -(((( - - جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله
( المحتويات ( - - - & [الحج:28].
والمنافع تشمل الأجر في الآخرة، كما ذكره قوم من المفسرين، والتجارة في الدنيا، كما ذكره آخرون، والمصالح وراء ذلك، كما ذكره الطبري عن مجاهد / قال: «التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة».
قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم مِن العمل الذي يرضي اللهَ، والتجارة، وذلك أن الله عمَّ * - رضي الله عنهم -(((( - - جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله ( المحتويات ( - - - & [الحج:28] جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم، من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل»(1).
إن الله تعالى غني عن عباده، وحينما رأى رسول الله ^ شيخًا يهادى قد نذر الحج ماشيًا، قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني»(2).
__________
(1) تفسير الطبري (16/521-522).
(2) أخرجه البخاري (1865)، ومسلم (1642).
(1/27)
وحينما ذكر الله تعالى النحائر، قال: * صدق الله العظيم - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - - { - - - - - رضي الله عنهم - - ( تم بحمد الله قرآن كريم (- رضي الله عنه -( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( - صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - - - - - عليه السلام - قرآن كريم ( { ( - - - - ( المحتويات ( - - ( تم بحمد الله & [الحج:37].
ولقد يطول عجب المرء من غفلة كثير من المسلمين الصلحاء عن قيم الحج ومراميه وآثاره في النفس والسلوك والحياة، ولو سألوا عن هذا المعنى كما يسألون عن تفصيلات ما يعرض لهم من الأحكام لكان هذا خيرًا لهم وأقوم.
تكرار الحج
حج الفريضة واجب على كل مسلم قادر توفرت فيه الشروط بإجماع العلماء، بل هو أحد الأركان الخمسة التي عليها مدار الإسلام بالاتفاق، ومن جحد وجوبه كفر إجماعًا.
والتزود من النوافل خير: * صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -( { قرآن كريم - ( - - - - - ( - - رضي الله عنهم - - } تمت ( - - ( { - - - ( - ( - - - {
( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - - رضي الله عنه -( & [البقرة:158].
بيد أن ثمت نوافل تخص الفرد بذاته، كالصلاة والصيام، فهذه تعود إلى المتطوع دون غيره، والأغلب أن الآخرين لا يتضررون منها، ولا يستفيدون منها بصفة مباشرة.
وثمت نوافل تنفع الناس، ويتعدى برها وخيرها لهم؛ كنوافل الصدقة والإحسان، فمهما أكثر منها المرء كان فضلًا له، ونفعًا لغيره؛ ولذا يقال: «لا إسراف في الخير».
(1/28)
وإن كان هذا الأمر ليس على إطلاقه؛ ولذا أمر النبي ^ سعد ابن أبي وقاص ا لما أراد أن يوصي بثلثي ماله أن يستبقي ماله لورثته، فهو خير من أن يذرهم عالة يتكففون الناس(1).
وفي الصحيحين في قصة الثلاثة الذين خلفوا ونزلت توبتهم؛ قال كعب بن مالك ا: يا نبي الله! إن من توبتي أن لا أُحَدِّثَ إلا صدقًا، وأن أنخلع من مالي كله صدقةً إلى الله وإلى رسوله. فقال له النبي ^: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»(2).
ويبقى قسم ثالث من النفل لا يتعلق بالمرء ذاته فحسب، بل له تعلق بالآخرين بسبب المزاحمة في المكان أو في غيره.
والحج والعمرة من هذا القبيل، فإن المشاعر محدودة، والزمان موقوت لا يتقدم ولا يتأخر.
ويعلم كل ذي لب أنه لو حج من المسلمين نسبة قليلة ممن لم يؤدوا الحج أصلًا، ولتكن (1%)، لكان عدد الواقفين بعرفة (12 مليون حاج) ولما وسعهم المكان، ولفات الكثير منهم الحج، وأساء بعضهم إلى بعض بالضرورة.
ولذا فالحجاج الآن (1و0%) من نسبة السكان (أي: واحد بالألف).
ومعنى ذلك أن شعبًا كإندونيسيا (200 مليون) يحتاجون إلى ألف سنة ليتمكنوا من أداء الحج.
وهذا افتراض نظري بحت!!
زد على ذلك المعاناة السنوية بالازدحام الهائل الذي يفقد الفريضة روحانيتها وقدسيتها، ويحيلها إلى صخب وضجيج وعراك وجدل، ويتكرر المشهد دوريًّا، ويموت المئات تحت أقدام إخوانهم، وهم جميعًا متلبسون بأداء فريضة من فرائض الله!
ويا للحزن العميق!
__________
(1) أخرجه البخاري (1295) ومسلم (1628).
(2) أخرجه البخاري (2758)، ومسلم (2769)، والترمذي (3102).
(1/29)
يفترض أن الدافع إيماني دائمًا لهذه الرحلة المباركة... فكيف يغفل المسلم القريب في هذه الديار عن الآثار الصعبة التي يحدثها تكرار الحج كل عام، أو عامًا بعد عام على إخوانه المسلمين القادمين من بعيد، المؤدين للفريضة - وليس النافلة - من شيوخ ونساء وضعفاء ومرضى.. وهو لا يبالي بهم، ولا يكترث لمعاناتهم، المهم أن يداوم على ما اعتاده من الحج!
وفي سبيل هذا العمل قد يزوّر الترخيص، وقد يكذب، وربما استدان مالًا، أو ترك أهله مع حاجتهم له، أو صارت رحلة الحج عنده فسحة ومتعة وتسلية واستئناسًا بالصحبة المعتادة..
وإذا كانت تنظيمات الحج لا تسمح بتكراره الآن إلا بعد خمس سنوات، وهذا مبني على قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، حرصًا على تنظيم الحج وتفويج الراغبين فيه، وقد ورد في حديث فيه مقال عن أبي سعيد الخدري ا أن النبي ^ قال: «إن الله يقول: إن عبدًا أصححت جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، تأتي عليه خمسة أعوام، لم يفد إليَّ لمحروم»(1).
وإذا كانت صحة الجسم وسعة الرزق، وضمنها أمن الطريق، محل رعاية، وهي أمور تعود للإنسان ذاته، فهذا يتضمن باللزوم رعاية حقوق الآخرين واحتياجاتهم ومصالحهم من أهل يعولهم، أو من لهم عليه استحقاق ما، ومنهم إخوانه المسلمون الحجاج الذين يطلبون ما يطلب ويريدون ما يريد.
والكثير من الناس يرددون: ماذا يضر وجودي وأنا فرد واحد! وماذا ينفع غيابي!
وهذا منطق غريب، يوحي باستفحال الرؤية الأنانية، وغياب الإحساس بالمسؤولية.
__________
(1) أخرجه أبو يعلى (1031)، وابن حبان (3703)، والبيهقي (5/262)، وضعفه غير واحد.
(1/30)
ولو أن كل من قرأ هذه السطور أخذ على نفسه أن يتصدق بقيمة حجة النافلة على إخوانه المسلمين، ويتصدق أيضًا بالمكان الذي سوف يحتله لو حج في منى أو عرفة أو مزدلفة أو عند البيت أو عند الجمرة أو في الطرقات أو المراكب؛ لأمكننا أن نساهم فعليًّا في تخفيف الازدحام، وتيسير الحج، وتجنيب المسلمين مغبة الارتباك والقتل عند المشاعر.
والصدقة بقيمة الحج أفضل في مثل هذه الأوقات التي تتعاظم حاجة الناس فيها إلى المال، كما في الكوارث التي تضرب بلاد الإسلام من الزلازل، أو المجاعات، أو الحروب التي لم تنقطع منذ عشرات السنين.
ذكر ابن مفلح في «الفروع» أن الإمام أحمد / سئل: أيحج نفلًا أم يصل قرابته؟ قال: إن كانوا محتاجين يصلهم أحب إليَّ...
ونقل ابن هانئ في هذه المسألة أن الإمام أحمد قال: يضعها في أكباد جائعة...
وفي «الزهد» للإمام أحمد عن الحسن قال: يقول أحدهم: أحج أحج. وقد حججت! صِلْ رحمًا، تصدق على مغموم، أحسن إلى جار.
وفي كتاب «صفة الصفوة» لابن الجوزي: أن الصدقة أفضل من الحج ومن الجهاد.
وعن وكيع عن سفيان عن أبي مسكين قال: كانوا يرون أنه إذا حج مرارًا أن الصدقة أفضل(1). وهو قول الإمام النخعي أيضًا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في«الفتاوى الكبرى»: «والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة، وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرين إلى نفقته»(2).
وفي مثل هذه الأحوال التي يعاني الحجيج فيها من إشكالات عديدة في أداء النسك، بسبب الجهل والازدحام وسوء التنظيم وغير ذلك، يكون الأمر ألزم.
__________
(1) الفروع (2/497-498)، وينظر: الزهد للإمام أحمد (ص:261)، وصفة الصفوة (1/529).
(2) الفتاوى الكبرى (5/382).
(1/31)
وقد قال رسول الله ^ لعمر ا: «يا عمر! إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف؛ إن وجدت خَلوةً فاستلمه، وإلا فاستقبله فهلل وكبر»(1).
وعن ابن عباس ب قال: «إذا وجدت على الركن زحامًا فانصرف ولا تقف»(2).
وعن منبوذ بن أبي سليمان عن أمه، أنها كانت عند عائشة ل، فدخلت عليها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين! طفت بالبيت سبعًا، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثًا. فقالت لها عائشة ل: «لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال؟ ألا كبّرت ومررت!»(3).
وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أنها قالت: كان أبي يقول لنا: «إذا وجدتن فرجة من الناس فاستلمن، وإلا فكبرن وامضين»(4).
وعن ابن عباس ب قال: «كان يكره أن يزاحم على الحجر، تؤذي مسلمًا أو يؤذيك»(5).
وعن سعيد بن عبيد الطائي قال: رأيت الحسن أتى الحجر، فرأى زحامًا فلم يستلمه، فدعا ثم أتى المقام فصلى عنده ركعتين(6).
وهذا ليس خاصًّا بالحجر أو الركن، بل هو قاعدة عامة أن ما يترتب عليه مشقة على الناس أو تضييق فعلى المرء تجنبه.
نعم هنالك من يكون الحج أولى له، أو يلزمه بسبب غير سبب الوجوب الأصلي، كمن يذهب مَحْرَمًا لزوجه أو قريبته، أو مصاحبًا لوالد مسن، أو قائمًا على مسؤولية تتعلق بمصالح الحجيج، دينية كانت أو دنيوية، لكن يظل سواد عريض من مزمعي الحج هم من غير هؤلاء.
__________
(1) أخرجه عبدالرزاق (8910)، وأحمد (190)، والبيهقي (5/80).
(2) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه(8908)، والشافعي في مسنده (494)، والبيهقي (5/80).
(3) أخرجه الشافعي في مسنده (495)، والبيهقي (5/81).
(4) أخرجه الشافعي في الأم (2/258)، والبيهقي (5/81).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (13164).
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (13166).
(1/32)
وإنني أتمنى من الشيوخ الأفاضل والدعاة والمفتين وكبار العلماء، وأخص منهم سماحة المفتي العام للمملكة؛ أن يولوا هذا الموضوع عناية خاصة، وأن يوجهوا نداءات متكررة وقوية إلى الصالحين من أهل هذا البلد خاصة أن يوفروا على إخوانهم وعلى أنفسهم، وأن يتصدقوا بقيمة حجهم، خصوصًا وقد صدر من هيئة كبار العلماء في شأن تنظيم الحج ما سبق.
وربك تعالى سيكتب لهم نياتهم الصالحة ومقاصدهم الحسنة، وليؤثروا إخوانهم ممن لم يؤدوا الفريضة أصلًا، ولا يكونوا بفعلهم هذه النافلة سببًا -ولو غير مباشر- في ارتكاب ذنوب عظيمة، من تفويت حج على مفترض، أو زحام يؤدي إلى إزهاق الأنفس، وليراعوا المقاصد الشرعية العظيمة في سَن هذه العبادات وتشريعها للناس، فربما أدى المرء نافلة، وتسبب في مفسدة أعظم وأكبر.
وليس من أخوة الإيمان بحال أن يعزل المرء نفسه عن مشكلات الآخرين وهمومهم، فهؤلاء المسلمون الذين تزاحمهم عند الحجر وفي المطاف والمسعى وعند الجمرة، هم الذين تتألم لهم وأنت تراهم على شاشة التلفاز جياعًا أو مشردين أو مضطهدين على أيدي الكفرة الغادرين.
والمشكلة الأهم ليست في حج المقتدرين الذين يترتب على حضورهم نفع متعدٍّ بعلم أو إحسان، ولكن في حضور غيرهم ممن يرمون بأنفسهم في الزحام، فيفترشون الطرقات ويسدون المنافذ، ويوقعون المهالك.
افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ
من مقاصد الحج العظيمة أن يتربى الناس على ترك الترفّه والتوسع في المباحات؛ ولذا يتخفف الحاج من ثيابه، إلا ثياب النسك؛ إزار ورداء مجردان، ليس فيهما زينة ولا تكلف.
وهو تذكير بالفقر المطلق للعبد، وخروجه من الدنيا كما دخلها أول مرة، بما يدعو إلى الاستعداد للقاء الله.
ومن هذا الباب -والله أعلم- جاء النهي عن التطيب، والأمر بترك الأظفار والشعر، وتجنب الوصال الجسدي مع المرأة بالجماع، وترك دواعيه وأسبابه من عقد النكاح فما بعده..
(1/33)
ومع هذا جعل الله في الحج سَعة لا توجد في غيره من العبادات، ومن هذا ما رواه البخاري ومسلم، من حديث عبدالله بن عمرو ابن العاص ب، أن رسول الله ^ وقف فى حجة الوداع بمنًى للناس يسألونه، فجاءه رجل، فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: «اذبح ولا حرج». فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: «ارم ولا حرج». فما سئل النبي ^ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج»(1).
وهكذا يحسن أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه، أو في جنس ما أفتى به النبي ^: «افعل ولا حرج».
والسنة المحمدية تجمع التيسيرات التي تفرقت في كتب الفقه، فإن من العلماء من يأخذ بهذه الرخصة ولا يأخذ بالأخرى، ومنهم من يأخذ بغيرها ويدع هذه، بينما السنة وسعت ذلك كله.
فمن قدم أو أخر في أعمال يوم النحر فلا حرج عليه.
وهذا لا يوجد في غير الحج، فلو قدم الركوع على السجود، أو القعود على القيام في الصلاة لما صحت صلاته إجماعًا.
وهكذا ما يتعلق بالنية، وهي من أعظم شروط العبادة، فالحاج ينويه فريضة فينقلب إلى نافلة، كمن قال: سأحج هذا العام نفلًا للتدريب، وأجعل فرضي عامًا آخر، فيقع حجه فرضًا، ولا عبرة بنيته.
ومثله لو حج حجًّا لم يرق له وفرّط وضيّع، وقال: أجعله نافلة، وأجعل حجي هذا العام فريضة. فسيكون ما نواه نفلًا هو الفريضة، وما نواه فرضًا هو النافلة، خلافًا لقصده.
وقد ينوي الحج عن غيره فيقع عنه هو، كمن نواه عن فلان وهو لم يؤد الفريضة، وفي حديث ابن عباس ب، أن النبي ^ سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة. قال: «من شبرمة؟». قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: «حججت عن نفسك؟». قال: لا. قال: «حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة»(2).
وفي مسألة الحج عن الغير قبل النفس خلاف مشهور.
__________
(1) صحيح البخاري (83)، وصحيح مسلم (1306).
(2) أخرجه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وفي الحديث نظر، والأقرب أنه موقوف.
(1/34)
وقد يحرم بنسك مبهم غير معين، كما أحرم علي ا، فيما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك ا قال: قدم علي ا على النبي ^ من اليمن، فقال: «بم أهللت؟». قال: بما أهل به النبي ^. فقال: «لولا أن معي الهدي لأحللت»(1).
وحتى محظورات الحج فيها توسعة:
فحلق الرأس محظور بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا احتاج إليه حلق وفدى؛ كما في قصة كعب بن عجرة ا في البخاري ومسلم؛ أنه قال: أتى عليَّ النبي ^ زمن الحديبية، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: «أيؤذيك هوام رأسك؟». قلت: نعم. قال: «فاحلق، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكةً»(2).
وكذلك التوسعة في لبس الإزار ولو كان مخيطًا؛ لكن ليس على هيئة السراويل، بل تخاط تكة(3) ويرسل، دون أن يُفصل منه كم عن آخر، وقد حكى ابن تيمية الإجماع على جوازه.
والأصل في ذلك ما رواه البخاري ومسلم، عن ابن عمر ب عن النبي ^، أن رجلًا سأله: ما يلبس المحرم؟ فقال: «لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوبًا مسه الورس، أو الزعفران، فإن لم يجد النعلين؛ فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين»(4).
والمقصود بالمخيط هو ما عبَّر عنه بعضُ الفقهاءِ بقولهم: «المخِيط: المُحِيط»، أي: بالبدنِ أو العضوِ. وإن كانت الكلمة لم ترد في القرآن، ولا في السنة بهذا الاصطلاح.
وقد وقع بها لبس عند البعض، فقالوا: كل مخيط لا يلبس، والعلة هي الخياطة.
وهذا غلط، فلو انشق الإزار أو الرداء اللذان يلبسهما فخاطهما، ثم لَبِسَهُما؛ فلا شيء عليه بالاتفاق.
فهناك توسعة وإذن شرعي في لبس المخيط الذي يكون إزارًا في أسفل البدن؛ فما كان يسمى إزارًا، فإنه يجوز لبسه حال الإحرام.
__________
(1) صحيح البخاري (1558)، وصحيح مسلم (1250).
(2) صحيح البخاري (4190)، وصحيح مسلم (1201).
(3) التكة: رباط السراويل. لسان العرب (10/406).
(4) صحيح البخاري (134)، وصحيح مسلم (1177).
(1/35)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية / في «شرح العمدة»: «إن فتق السراويل يجعله بمنزلة الإزار، حتى يجوز لبسه مع وجود الإزار بالإجماع».
وقال أيضًا: «أما إن خِيط أو وُصِل لا لِيُحيط بالعضو ويكون على قدره؛ مثل الإزار والرداء الموصل والمرقع ونحو ذلك، فلا بأس به، فإن مناط الحكمِ هو اللباسُ المصنوعُ على قدر الأعضاء، وهو اللباسُ المحيطُ بالأعضاء، واللباسُ المعتادُ»(1).
وفي «المجموع» للنووي، و«المغني» لابن قدامة، وغيرهما قريب من هذا(2).
وكذلك لبس الخفين إذا لم يجد النعلين، وفي مشروعية قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين نزاع بين أهل العلم:
فعدم مشروعية القطع هو المشهور عن أحمد، وقطعهما مذهب الجمهور.
واحتج أحمد بحديث ابن عباس وجابر ب: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين»(3). فليس فيهما قطع الخف، وقد قال النبي ^ ذلك بعرفات؛ مع أن كثيرًا من الذين حضروا بعرفات لم يشهدوا كلامه بالمدينة والذي فيه الأمر بالقطع، فدل ذلك على أن هذا ناسخ لما قبله، وهو آخر الأمرين منه ^، مع قول علي ا: «قطع الخفين فساد، يلبسهما كما هما». مع موافقة القياس، فإنه ملبوس أبيح للحاجة، فأشبه السراويل، وقطعه إتلاف للمال(4).
وثمت أمور يتورع عنها بعض الناس، وقد يذكرها من الفقهاء من يذكرها بدون دليل، فالأصل التوسعة على الناس فيها.
ومن ذلك: التورع عن الاغتسال حال الإحرام:
وقد قال أحد الصحابة ا: «إني اغتسلت في إحرامي في يوم واحد سبع مرات».
__________
(1) شرح العمدة (3/16، 34)
(2) المجموع (7/264)، المغني (3/127).
(3) أخرجه البخاري (1841)، ومسلم (1178) عن ابن عباس ب، وأخرجه مسلم (1179) عن جابر ا.
(4) ينظر: المغني (3/275)، شرح العمدة (3/21، 40)، مجموع الفتاوى (21/191-193).
(1/36)
وعن يعلى بن أمية ا قال: بينما عمر بن الخطاب ا يغتسل إلى بعير وأنا أستر عليه بثوب، إذ قال عمر ا: «يا يعلى! أصبب على رأسي؟». فقلت: أمير المؤمنين أعلم. فقال عمر بن الخطاب ا: «والله ما يزيد الماء الشعر إلا شعثًا». فسمى الله ثم أفاض على رأسه(1).
يريد ا أن غسل الرأس بالماء ليس طِيبًا ولا بمعناه، وإنما هو تنظيف محض.
وعن ابن عباس ب قال: «لقد رأيتني أماقل – والمماقلة: التغطيس في الماء - عمر بن الخطاب بالجحفة، ونحن محرمان»(2).
ومثله أن ابن عمر ب كان يترامس – والترامس: التغاطس- هو وابن عباس ب وهما محرمان(3). أي يغوصون في الماء، ويتنافسون أيهم أكثر بقاءً دون أن يتنفس!
وروى البيهقي، وغيره، عن عبدالله بن عمر ب، أن عاصم ابن عمر وعبدالرحمن بن زيد وقعا فى البحر يتماقلان، يغيِّب أحدهما رأس صاحبه، وعمر ينظر إليهما، فلم ينكر ذلك عليهما(4).
وأنت تلحظ في هذا نوع دعابة وتبسط من الخليفة العظيم عمر الفاروق ا، مع شاب كابن عباس، حرصًا على القرب من مشاعر الشباب وأحاسيسهم وعواطفهم وميولهم، وهذا من الحصافة والفقه والمعرفة وبناء الصلة بين الأجيال؛ لئلا يقع الانقطاع بين الشيوخ والشباب.
وكم هو عجيب أن يقع هذا وذاك من أصحاب محمد ^ وهم مُحرمون، ولم يروا به بأسًا، وكانوا، كما وصفهم ابن مسعود ا: «أقل هذه الأمة تكلفًا»(5). وقد فتحوا الدنيا، ونشروا العدل، وأقام الله بهم الملة، وهم هكذا بكل عفوية وفطرية يفتقدها اليوم الكثير من المربين فضلًا عن غيرهم، وربما تدينوا بتركها، أو رأوا فيها ما يدل على خفة فاعلها أو نقص رزانته!
__________
(1) أخرجه مالك (704)، والشافعي في مسنده (535)، والبيهقي (5/63).
(2) أخرجه ابن حزم في المحلى (7/174).
(3) أخرجه ابن حزم في المحلى (7/174 )، وغيره.
(4) سنن البيهقي (5/62)، والمحلى (7/174).
(5) ينظر: جامع بيان العلم (1810).
(1/37)
بل قد روى البخاري، ومسلم، عن عبدالله بن حنين عن عبدالله بن عباس والمسور بن مخرمة ب أنهما اختلفا بالأبواء، فقال عبدالله بن عباس: يغسل المحرم رأسه. وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه. فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري ا أسأله عن ذلك، فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستتر بثوب. قال: فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبدالله بن حنين، أرسلني إليك عبدالله بن عباس، أسألك كيف كان رسول الله ^ يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب ا يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب: اصبب! فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: «هكذا رأيته ^ يفعل»(1).
فهذا كله من التوسعة.
ومثل ذلك: شم الريحان، والتختم، ولبس الهِميان، والتداوي، ودخول الحمام:
قال البخاري/ في صحيحه: «قال ابن عباس ب: «يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن».
وقال عطاء: «يتختم ويلبس الهِميان(2)».
وطاف ابن عمر ب وهو محرم، وقد حزم على بطنه بثوب.
ولم تر عائشة ل بالتُّبَّان(3) بأسًا للذين يرحلون هودجها»(4).
قال ابن حجر / في فتح الباري: «وكأن هذا رأي رأته عائشة (أي: جواز لبسه) وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التُّبَّان والسراويل في منعه للمحرم»(5).
__________
(1) صحيح البخاري(1840)، وصحيح مسلم(1205).
(2) الهِميان: بكسر الهاء معرب، يشبه تكة السراويل يجعل فيها النفقة ويشد في الوسط.
(3) التُّبَّان: هو اللباس الداخلي الذي ليس له أكمام، فهو يستر العورة المغلظة فحسب، وفيه اختلاف.
(4) ينظر: صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم، ويترجل ويدّهن، والمصنف لابن أبي شيبة (14600، 24862)، وسنن البيهقي (5/51)، وفتح الباري (3/396).
(5) فتح الباري (3/397).
(1/38)
وسئل عثمان ا: أيدخل المحرم البستان؟ قال: «نعم ويشم الريحان!»(1).
ودخل ابن عباس ب حمام الجحفة وهو محرم، فقال: «إن الله لا يصنع بأوساخكم شيئًا»(2).
وقال أيضًا: «المحرم يشم الريحان، ويدخل الحمام»(3).
والحمام هنا: ليس هو مكان قضاء الحاجة، بل هو المكان الحار الذي يزيل الوسخ عن البدن بواسطة الحرارة، كما يعرف اليوم بـ(الساونا والجاكوزا) وغيرها.
فالنظافة والجمال وطيب البدن مطالب فاضلة للحاج وغيره، إلا ما ورد النص بالنهي عنه.
ومثله التبرد بالماء البارد أو المكيف أو المروحة، أو الاستظلال بشجرة أو سيارة أو سقف أو شمسية، فهو حسن، ولا يشرع تجنبه.
ولو حمل على رأسه شيئًا لم يضره، لأنه لم يقصد التغطية.
ومن الطريف أن رجلًا سأل الشعبي: أيحك المحرم جلده؟ قال: نعم. قال: إلى أين؟ قال: إلى أن يبلغ العظم!
ومن التيسير: جواز الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، وهذا إجماع، أو شبهه عند أهل العلم(4).
وقد ذهب الشيخ الألباني / إلى وجوب التمتع(5)، ونسبه لابن عباس ب وغيره، ولا أراه يصح عن ابن عباس أن يقول بالتحريم على وجه الإطلاق، وهو لا يرى العمرة للمكي، ومعناه أن المكي لا يتمتع.
وقال قوم: إن الأنساك الثلاثة سواء في الفضيلة.
والأجود: أن القران أفضل لمن ساق الهدي، وأن من أدى العمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله فالأفضل في حقه الإفراد.
وهذا خلاصة ما قرره جمع من أهل العلم.
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، والآجري في الشريعة (ص: 103)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (15/249)، وينظر: مجمع الزوائد (3/524)، والتلخيص الحبير (2/282).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (14791)، والبيهقي (5/63).
(3) أخرجه الدراقطني (2/232)، والبيهقي (5/63).
(4) المغني (3/238)، شرح مسلم للنووي (8/134).
(5) ينظر: حجة النبي ^ كما رواها جابر ا (ص:10).
(1/39)
والمقصود: أن في الأمر سعة، ولا تثريب في ذلك، وعلى المفتي أو طالب العلم أن يراعي أحوال الحجاج، وأن يجعل شعاره كما سبق «افعل ولا حرج» طالما أن في الأمر سعة ورخصة.
كما أن على المفتي أن يدرك اختلاف الناس وتنوع مشاربهم ومذاهبهم وأقوال المفتين لديهم، وحملهم على قول واحد أو مذهب واحد مُتعسّر بل متعذر، وسعة الشريعة لا تحكم بضيق هذا المذهب أو ذاك في بعض الفروع والمسائل.
التيسير في أركان الحج
اتفق العلماء على أن للحج ركنين هما: الوقوف بعرفة والطواف، واختلفوا في غيرهما:
1- الوقوف بعرفة:
الوقوف بعرفة هو ركن بالإجماع، كما نقله ابن المنذر، والكاساني، وابن العربي، وابن قدامة، والنووي، والدبوسي، وابن تيمية، وغيرهم(1).
وهذا الركن يحصل أداؤه بلحظة، حتى إن من العلماء من قال: لو مر بأجواء عرفة بالطائرة أجزأه.
ولو دفع قبل الغروب أجزأه عند الأئمة، خلافًا لمالك.
قال ابن عبدالبر: لا نعلم أحدًا من أهل العلم وافق مالكًا على هذا(2).
وبعضهم يقول: عليه دم. والأقرب أن لا شيء عليه.
والدليل: حديث عروة بن مُضَرِّس الطائي ا قال: أتيت رسول الله ^ بالموقف - يعني بجمع- قلت: جئت يا رسول الله من جبل طيئ، أَكْلَلْتُ مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله ^: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه»(3).
فهذا دليل على أن الحاج لو دفع قبل الغروب فلا شيء عليه.
__________
(1) ينظر: الإجماع لابن المنذر (1/54)، والاستذكار (4/283)، وبداية المجتهد (2/140)، والمجموع (8/103)، وشرح العمدة (3/572).
(2) ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 143)، والاستذكار (6/37).
(3) تقدم تخريجه (ص:4).
(1/40)
وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أي: وقفوا في اليوم الثامن مثلًا وهو يوم التروية، أو وقفوا في اليوم العاشر وهو يوم العيد، على سبيل الخطأ والغلط ظنوه يوم عرفة أجزأهم ذلك إذا اتفقوا وأطبقوا عليه.
قال ابن تيمية /: إنه يكون عرفة ظاهرًا وباطنًا اليوم الذي وقفوا فيه(1).
والنبي ^ يقول: «وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منًى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف»(2).
وهكذا نقول: إن ما أطبق الناس وأجمعوا عليه واتفقوا؛ فهو مقصود الشارع ومراده، وإن كان في نظر قوم غير مطابق أو موافق للحقيقة.
2- طواف الإفاضة:
والركن الثاني هو: طواف الإفاضة، ويسمى طواف الحج والزيارة، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، وهذا فيما أحسب إجماع(3)، وهو ظاهر القرآن الكريم؛ لقوله سبحانه: * - بسم الله الرحمن الرحيم ( بسم الله الرحمن الرحيم } - قرآن كريم ((( { - عليه السلام - - ( - ( المحتويات ( - - الله - ( - - } - قرآن كريم (( قرآن كريم ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( الله أكبر } - قرآن كريم (( { قرآن كريم { (- عليه السلام - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - & [الحج:29]. فجعل الطواف آخرها.
__________
(1) ينظر: مجموع الفتاوى (22/211).
(2) أخرجه أبو داود (2324)، والترمذي (697)، وابن ماجه (1660).
(3) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (8/192)، وتبيين الحقائق للزيلعي (2/19).
(1/41)
وقد وهم الشيخ صديق حسن خان / في «الروضة الندية» حين ظن أن الطواف طواف الحج الذي هو الركن قد يكون قبل الوقوف بعرفة، واعتمد على رواية موهمة في «صحيح البخاري»، وإنما تردّ ألفاظ الحديث بعضها إلى بعض لمعرفة أصله، وقد يروى الحديث بالمعنى، أو يروى مختصرًا(1).
وإنما يبدأ وقت الطواف بعد نصف الليل (ليلة المزدلفة) باعتبار المعذورين للدفع منها من الضعفة والنساء ومن معهم أو في حكمهم.
وهل يبدأ بعد الفجر أو بعد نصف الليل؟
قولان للعلماء، والأمر فيها واسع لعدم توفر نص في هذه الجزئية.
ويمكن تأخير الطواف ليكون هو وطواف الوداع شيئًا واحدًا؛ ليخفف المشقة عليه، والزحام على إخوانه، ويمكن تأخيره إلى نهاية ذي الحجة، ولو فعله بعد الشهر أجزأه.
وقد نص النووي وجماعة أنه لو نسى الإفاضة، وطاف للوداع من غير نية الإفاضة، أو بجهل بوجوب الطواف؛ أجزأه طوافه عنهما معًا(2).
وهذا حسن، وهو من التيسير والرخصة.
ويسقط طواف الوداع عن الحائض، وهي رخصة ثابتة في السنة(3).
وهل تشترط الطهارة للطواف؟
الجمهور يوجبونها من الحدث الأصغر والأكبر.
وأجاز أبو حنيفة الطواف على غير طهارة، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختار ابن تيمية، وابن القيم عدم شرطية الطهارة، وهو ما كان يفتي به الشيخ ابن عثيمين /(4).
__________
(1) الروضة الندية (1/261)، وينظر: التعليقات الرضية على الروضة الندية للشيخ الألباني رحمه الله (2/114-116).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (8/193).
(3) لحديث ابن عباس ب قال: «أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفف عن الحائض». أخرجه البخاري (1755)، ومسلم (1328).
(4) ينظر: شرح مسلم للنووي (8/147)، ومجموع الفتاوى (23/171)، (26/123)، والاختيارات للبعلي (ص:105)، وحاشية ابن القيم على سنن أبي = = داود (1/66)، والفروع (3/371)، وعمدة القاري (1/147)، وفتح الباري (3/505)، والإنصاف (1/222)، والشرح الممتع (7/300).
(1/42)
وهذا يخفف على الناس في الزحام، وصعوبة الوصول إلى أماكن الوضوء.
والحديث المحتج به في الطهارة هو حديث عائشة ل قالت: خرجنا مع النبي ^، لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سَرِفَ طمثت، فدخل عليَّ النبي ^ وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك؟». قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: «لعلك نفست؟». قلت: نعم. قال: «فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري»(1).
وهذا الحديث ليس نصًّا في اشتراط الطهارة.
وإن كنا نقول: ينبغي له أن يتطهر؛ لكن لو لم يتطهر وطاف، أو أحدث خلال الطواف ولم يجدد وضوءه، فلا شيء عليه.
وما الشأن في المرأة الحائض التي لا تطهر إلا بعد وقت طويل، وقد تذهب رفقتها ويلحقها الحرج؟
فهذه أفتى فيها ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وأطالا النفس في تسويغ أن لها أن تتحفظ وتطوف للضرورة.
وهو متفق مع قول الحنفية، ورواية مشهورة عن الإمام أحمد(2).
التيسير في الرمي
ومن التيسير: ما يتعلق برمي الجمار.
وهو واجب عند الجمهور، لفعل النبي ^، وقوله: «خذوا عني مناسككم»(3). وقوله ^، وقد التُقِطت له حصيات مثل حصى الخذف: «أمثال هؤلاء فارموا»(4).
وهو سنة مؤكدة في إحدى الروايات عن مالك، وقول لعائشة ل. والراجح الوجوب(5).
1- التيسير في موضع الرمي:
__________
(1) أخرجه البخاري (305)، ومسلم (1211).
(2) ينظر: الفتاوى الكبرى (3/95)، ومجموع الفتاوى (26 /176)، وإعلام الموقعين (3/20)، وينظر ما تقدم (ص:37).
(3) تقدم تخريجه (ص:35).
(4) أخرجه أحمد (1754)، والنسائي (3057، 3059)، وابن ماجه (3029)، ومعناه عند مسلم (1299).
(5) ينظر: المجموع للنووي (8/138)، وفتح الباري (3/579).
(1/43)
موضع الرمي: هو مجتمع الحصى الذي تتكوم فيه الجمار، سواء الحوض أو ما يحيط به مما تكون فيه الأحجار، والحوض لم يكن في عهد النبوة، ولا الخلفاء الراشدين، وقد اختلف في وقت بنائه، هل كان في عهد بني أمية، أو بعد هذا، وقد كتب فيه المتخصصون.
وهنا يقول الإمام السرخسي الحنفي: «فإن رماها من بعيد، فلم تقع الحصاة عند الجمرة، فإن وقعت قريبًا منها أجزأه; لأن هذا القدر مما لا يتأتى التحرز عنه، خصوصًا عند كثرة الزحام، وإن وقعت بعيدًا منها لم يجزه»(1).
وهذا كلام نفيس؛ خصوصًا في هذه الأيام التي تحول رمي الجمار فيها إلى مشكلة عويصة، وقلّ عام إلا ويسقط العشرات، بل المئات تحت الأقدام صرعى، وينقلون جثثًا هامدة!
وهذا عار يلحقنا جميعًا نحن المسلمين، ويجب علينا حكامًا وعلماء وعامة أن نجاهد في سبيل تلافيه وتداركه.
ولست أدري كم يلزم أن يموت من المسلمين حتى نستيقظ ونتفطن ونغار على أرواحهم ونضع الأمر في نصابه؟!
فما بال أقوام يغارون على فرعيات جرى الخلف فيها، ويغمضون عن كليات جرى الجور عليها.
إن موت المسلم عند الله عظيم، فكيف في مثل هذه المواضع المباركة التي يأمن فيها الطير!
وعبدالله بن عمر ب يقول: رأيت رسول الله ^ يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذى نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك؛ ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرًا»(2).
وقال ^: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم»(3).
أفلا ترى -أخي المفتي- أن الحفاظ على الدماء وعلى حياة الناس أولى بالرعاية وأحق بالتذمم!
ولِمَ يتفاخر قوم أن قد رمينا وأيدينا على الحوض؟!
أفرمى النبي ^ ويده على الحوض؟
__________
(1) المبسوط (4/67).
(2) أخرجه ابن ماجه (3932)، وفيه نصر بن محمد بن سليمان ضُعّف، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات.
(3) أخرجه الترمذي (1395)، والنسائي (3987).
(1/44)
في أي كتاب هذا؟ ولم يكن يومئذٍ حوض كما ذكرنا.
ومقصد الرمي ظاهر، كما في قول عائشة ل: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمى الجمار، لإقامة ذكر الله»(1).
فأين مِن ذكر الله مَن هو مشغول بنفسه، وطالب لنجاته في وسط طوفان من الناس، ماجوا وهاجوا واختلطوا، حتى لا يملك الواحد منهم من أمر نفسه شيئًا، وتحتهم أكوام من الأحذية والملابس والحجارة، والجثث أحيانًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إنني أعلم يقينًا - والله أعلم- أنه لو رأى النبي ^ كثرة الحجيج وإهلالهم من كل فج؛ لسره ذلك.
ولكن لو رأى هذه الفوضى -خاصة عند الجمرات- واضطراب أمر الناس والاقتتال، لساءه ذلك؛ لأنه خلاف هديه وسنته، والله المستعان.
والتأكيد في بعض هذه الفروع قد يسبب الوسواس؛ فيشك الحاج هل رمى ستًّا أو سبعًا، هل سقطت في الحوض أم لا؟
وربما أرهقه ما يسمع من التشديد إلى التردد على المرمى؛ لأنه شك في حصاة هل وصلت أو نقصت.
وقد أخرج النسائي وغيره عن سعد بن أبي وقاص ا قال: «رجعنا في الحجة مع النبي ^، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات. وبعضنا يقول: رميت بست. فلم يعب بعضهم على بعض»(2).
في حين نجد من المصنفين في الفقه من قال: لو خطفها طائر... فما هذا الطائر الحاذق يخطف حصاة في الهواء؟
ومنهم من يقرر: لو وقعت الحصاة على الأرض، فضربت حصاة أخرى، فطارت الأخرى ووقعت في المرمى!!
إلى غير ذلك من الافتراضات والتشقيقات التي لم ترد في كتاب ولا سنة ولا هدي صاحب.
2- التيسير في وقت الرمي:
للحاج أن يرمي ليلًا.
وهو مذهب عبدالله بن عمر ب، ومذهب الحنفية، ورواية عند المالكية، وأحد القولين عند الشافعية، وبه أفتى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ عبدالعزيز
__________
(1) تقدم تخريجه (ص:46-47).
(2) أخرجه أحمد (1362)، والنسائي (3077)، والبيهقي (5/149)، وقال الألباني: صحيح الإسناد، وينظر: فتح الباري (3/581).
(1/45)
ابن باز /، حينما اشتد الزحام على الجمرات(1).
والدليل على ذلك ما رواه البخاري، عن ابن عباس ب قال: سئل النبي ^، فقال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: «لا حرج». قال: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: «لا حرج»(2).
وله أن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وهو منقول عن ابن عباس ب، وقول طاوس، وعطاء في إحدى الروايتين عنه، ومحمد الباقر، وهو رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، وإليه ذهب ابن عقيل، وابن الجوزي من الحنابلة، والرافعي من الشافعية، ومن المعاصرين: الشيخ عبدالله آل محمود، والشيخ مصطفى الزرقاء، وشيخنا الشيخ صالح البليهي وطائفة من أهل العلم، وقواه الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمهم الله(3).
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ا، أن رسول الله ^ رخص للرعاء أن يرموا بالليل، وأي ساعة من النهار شاءوا(4).
قال ابن قدامة في «الكافي»: «وكل ذي عذر من مرضٍ أو خوفٍ على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم»(5).
__________
(1) ينظر: الموطأ (921)، وبدائع الصنائع (3/122)، والمحلى (7/176)، والمجموع (8/180)، وبداية المجتهد (2/145)، والتاج والإكليل مع مواهب الجليل (3/133)، وأضواء البيان (5/299)، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة (17/368).
(2) صحيح البخاري (1723).
(3) ينظر: بداية المجتهد (1/258)، وبدائع الصنائع (2/137-138)، والمغني (5/328)، والمجموع (8/269) مع حاشية المطيعي، وفتح الباري (3/580)، والإنصاف (4/46)، ومجموعة رسائل الشيخ عبدالله آل محمود (1/22).
(4) أخرجه الدارقطني (2/276). وفي إسناده ضعف، وله شواهد عن ابن عباس وابن عمر ب، لا تخلو من ضعف.
(5) الكافي (1/195).
(1/46)
وبما رواه البخاري ومسلم، من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ب، أن رسول الله ^ وقف في حجة الوداع بمنًى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: «اذبح ولا حرج». فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمى؟ قال: «ارم ولا حرج». فما سئل النبي ^ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج»(1).
ومن أدلتهم: عدم وجود دليل صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، ولا من القياس.
وأما رمي الرسول ^ بعد الزوال، فهو بمثابة وقوفه بعرفة بعد الزوال إلى الغروب، ومن المعلوم أن الوقوف لا ينتهي بذلك الحد، بل الليل كله وقت وقوف أيضًا.
ولو كان الرمي قبل الزوال منهيًّا عنه لبيَّنه النبي ^ بيانًا شافيًا صريحًا حينما أجاب السائل الذي سأله عن رميه بعدما أمسى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومن الأدلة: قوله تعالى: * } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - - - ( - (( - الله - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - المحتويات (- رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم -( - (( } تم بحمد الله & [البقرة:203]. والرمي من الذكر، كما صح عن عائشة ل قالت: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله»(2). فجعل اليوم كله محلًا للذكر، ومنه الرمي.
وهذا يشبه أن يكون كالنص في المسألة عند التأمل، وبه استدل الشيخ عبدالرحمن السعدي / وغيره.
وكذلك قول ابن عمر ب في رواية البخاري وغيره لمن سأله عن وقت الرمي: «إذا رَمى إمامُكَ فَارْمِ»(3).
ولو كان المتعين عنده الرمي بعد الزوال لبيّنه للسائل.
__________
(1) تقدم تخريجه (ص:63-64).
(2) تقدم تخريجه (ص:46-47).
(3) أخرجه البخاري (1746)، وأبو داود (1972)، وغيرهما.
(1/47)
وله أن يؤخر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير، لحديث عاصم بن عدي ا، أن رسول الله ^ أرخص لرعاء الإبل فى البيتوتة خارجين عن منًى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر(1).
فيجوز لمن كان في معنى الرعاة ممن هو مشغول أيام الرمي بعمل لا يفرغ معه للرمي، أو كان منزله بعيدًا عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها؛ أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق). والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء، وأيام التشريق كاليوم الواحد.
وهذا قول الشافعية والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو المعتمد عندهم، واختاره الشنقيطي رحمهم الله.
وهكذا التأخير لتجنب الزحام والمشقة والاقتتال، فهو من أعظم المقاصد الفاضلة المعتبرة.
وحياة الناس أولى بالرعاية من حياة الحيوان، كما في حال الرعاة.
وحفظ الأرواح من المقاصد الخمسة المجمع على اعتبارها في الشريعة.
3- التيسير في الإنابة في الرمي:
للضعفة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي، ولا حرج، ففي الحديث عن جابر ا قال: «خرجنا مع رسول الله ^ حجاجًا، ومعنا النساء والصبيان، فأحرمنا عن الصبيان». رواه سعيد بن منصور في سننه.
ورواه ابن ماجه وغيره بلفظ: «فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم»(2).
ورواه الترمذي بلفظ: «فكنا نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان»(3).
__________
(1) أخرجه مالك (815)، وأحمد (23826)، وأبو داود (1975)، والترمذي (955)، وابن ماجه (3037)، والنسائي (3069).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (13841)، وابن ماجه (3038)، والبيهقي (5/156).
(3) أخرجه الترمذي (927)، وينظر: التلخيص الحبير(2/270).
(1/48)
قال ابن المنذر /: «كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي، كان ابن عمر يفعل ذلك، وبه قال عطاء، والزهري، ومالك، والشافعي، وإسحاق»(1).
وأعجب من إخوة غيورين لا يسمحون لنسائهم بالخروج إلى السوق لحاجة، أو الخروج لزيارة، ثم يصرّون على ذهاب النساء إلى المرمى، حيث تلتصق الأجساد، وتطير الأغطية، وتتخطف العباءات، وتتهاوى الأجساد تحت الأقدام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعض الفضلاء ينحي باللائمة على الضحايا؛ لأنهم سذج ولا يعرفون الطرقات ولا يحسنون اختيار الوقت الملائم للرمي، أي: وقت غفلة الناس. وكأن من شروط الحاج أن يكون خِرّيتًا دليلًا عارفًا بالطريق مجربًا مدركًا مخطط الآخرين متى يزمعون الرمي، ومتى يكثرون، ومتى يقلون!
التيسير في التحلل والمبيت
ومن ذلك: أن التحلل الأول يقع برمي جمرة العقبة، فإذا رماها يوم العيد حل له كل شيء إلا النساء.
وهذا مذهب مالك، وأبي ثور، وأبي يوسف، ورواية عن أحمد، والشافعي، وبه قال علقمة، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعطاء.
قال ابن قدامة في «المغني»: «وهو الصحيح إن شاء الله تعالى»(2).
بل عند ابن حزم أنه يحل له ذلك بمجرد دخول وقت الرمي ولو لم يرم(3).
وهو آخر القولين لشيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز /(4).
واستدلوا بما رُوي عن ابن عباس ب أنه قال: قال رسول الله ^: «إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء، إلا النساء»(5).
__________
(1) ينظر: المغني (3/207).
(2) ينظر: المغني (3/225)، وروضة الطالبين (3/104)، وشرح العمدة لابن تيمية (3/539-540)، والإنصاف (4/41)، ومواهب الجليل (3/89).
(3) ينظر: المحلى (7/139).
(4) قاله في شرح كتاب الحج من بلوغ المرام، وكان ذلك في آخر حياته.
(5) أخرجه أحمد (2090، 3204)، والنسائي (3084)، وابن ماجه (3041).
(1/49)
وبما رُوي عن عائشة ل أنها قالت: قال رسول الله ^: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء، إلا النساء»(1).
وحديث ابن عباس وعائشة ب، وإن كان فيهما ضعف، إلا أنه قد صححهما بعض المعاصرين كالشيخ الألباني /(2) وغيره، ويشهد لهما فتاوى الصحابة ي، وحديث أم سلمة ل في معناهما(3).
ومن الرخصة ما يتعلق بالمبيت بمنى:
وقد فعله النبي ^ وأصحابه ي، وكان جماعة من فقهاء الصحابة يرون وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق على مَن قدر على ذلك، ووجد مكانًا يليق بمثله، وهو قول الجمهور(4).
لكن دلت الأدلة على سقوط المبيت عمن لم يجد مكانًا يليق به، وليس عليه شيء، وله أن يبيت حيث شاء في مكة أو المزدلفة أو العزيزية أو غيرها، ولا يلزمه المبيت حيث انتهت الخيام بمنى.
وليست الطرقات والممرات بين الخيام وأمام دورات المياه والأرصفة وشعف الجبال مكانًا صالحًا لمبيت الآدميين مبيتًا يتناسب مع روح هذه العبادة العظيمة.
ومما يدل على ذلك: حديث ابن عمر ب قال: «استأذن العباس رسول الله ^ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية، فأذن له»(5).
وإذا ثبتت الرخصة في ترك المبيت بمنى لأهل السقاية، وهم يجدون مكانًا للمبيت بمنى، فمن باب أولى أنْ تثبت لمن لم يجد بمنى مكانًا يليق به.
ومن ذلك: أن رسول الله ^ أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر(6).
والذي لا يجد مكانًا يصلح للمبيت بمنى أولى بالرخصة من رعاة الإبل، وهذا ظاهر.
وهذا ابن عباس ب يفتي الحجيج بأنه: إذا كان للرجل متاعٌ بمكة يخشى عليه الضيعة إن بات بمنى، فلا بأس أن يبيت عنده بمكة(7).
__________
(1) أخرجه أبو داود (1978).
(2) السلسلة الصحيحة (239).
(3) أخرجه أحمد (25321)، وأبو داود (1999).
(4) فتح الباري (3/579).
(5) أخرجه البخاري (1745)، ومسلم (1315).
(6) تقدم تخريجه (ص:93-94).
(7) التمهيد (17/263).
(1/50)
وألحق أهل العلم بمن تقدم كلَّ من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يحتاج أن يتعهده، أو يلحقه ضرر أو مشقة ظاهرة.
وفي معنى هؤلاء في جواز الترخص بترك المبيت بمنى، بل أولى به منهم: من لا يجد مكانًا يليق به يبيت فيه، وكذلك من خرج ليطوف بالبيت الحرام فحبسه الزحام حتى فاته المبيت بمنى؛ فإنّ تخلفهما عن المبيت بمنى سببه أمر خارجي، ليس من فعلهما، ولا يستطيعان رفعه.
التيسير في الدماء
ومن التيسير: عدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء؛ فإن الفتوى أحيانًا تُلزم الحاج بدم كلما ترك واجبًا، بناء على أثر ابن عباس ب: «من نسي من نسكه شيئا أو تركه، فليهرق دمًا»(1).
وهو أثر صحيح؛ ولكنه فتوى واجتهاد، وقد كان كثير من السلف لا يلزمون به، ولكنهم يراعون حال السائل من الغنى والفقر وغير ذلك.
وقد أسقط الشارع بعض الواجبات كطواف الوداع عن الحائض، والمبيت بمنى عن الرعاة ومن في حكمهم إلى غير بدل، ولم يلزمهم بشيء، وهذا ثابت معروف في السنة(2).
بينما في فعل المحظور ورد حديث كعب بن عجرة ا في الإذن بحلق الرأس مع الفدية(3).
ولم يثبت في السنة المرفوعة خبر في إيجاب الدم لترك الواجب، ويمكن أن يراعى في هذا أحوال الناس.
وبعد، فهذا آخر ما أردت عرضه، وقد راعيت انتقاء المسائل التي يحتاج عامة الناس إلى مراعاة اليسر فيها، واختصرت في ذلك، إذ قد تتبعتها وبسطتها في كتاب «شرح العمدة»، والذي سيظهر قريبًا بإذن الله.
والله تعالى أعلم وأحكم
فهرس المحتويات
مقدمة سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين ... 3
مقدمة معالي الشيخ عبدالله بن سليمان بن منيع ... 7
مقدمة معالي الشيخ عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه ... 13
مقدمة ... 43
ليشهدوا منافع لهم ... 45
تكرار الحج ... 53
افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ ... 63
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (940)، والبيهقي (5/30، 152).
(2) ينظر ما تقدم (ص:81، 99).
(3) تقدم تخريجه (ص:66).
(1/51)
التيسير في أركان الحج ... 77
1- الوقوف بعرفة: ... 77
2- طواف الإفاضة: ... 79
التيسير في الرمي ... 85
1- التيسير في موضع الرمي: ... 85
2- التيسير في وقت الرمي: ... 90
3- التيسير في الإنابة في الرمي: ... 95
التيسير في التحلل والمبيت ... 97
التيسير في الدماء ... 101
فهرس المحتويات ... 103
(1/52)