أحكام بيوع التقسيط
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ونسألك اللهم علما نافعا ينفعنا.
قبل أن أبدأ هذا الدرس أشير إلى أن بعض الإخوة من خلال الأسئلة التي وردت يسألون عن المراجع لمادة هذا الدرس والحقيقة أنه ليس هناك مرجع أو مراجع محددة يمكن أن يحال عليها، بل مادة كل درس لها مراجع تختلف عن الدرس الآخر، ولكن أفضل مراجع هذا الدرس هي الرسائل العلمية رسائل الماجستير والدكتوراة بحثت جزئيات هذه الموضوعات.
يعني مثلا البيع بالتقسيط فيه رسالة، التأجير المنتهي بالتمليك فيه رسالة، الشركات المساهمة فيها رسالة إلى آخره.
تعرفون أن الرسائل العلمية تبذل فيها جهود كبيرة، إن كان مثلا رسالة الدكتوراة يبقى الباحث فيها أربع سنوات على الأقل .أربع سنوات من عمره يمضيها في الرسالة تحت الإشراف العلمي أيضا، ثم يتم تقييمها علميا أيضا من قبل آخرين، ثم مناقشتها وذلك يعطيها قوة. فهذه الرسائل العلمية هي أفضل الكتابات في مادة هذا الموضوع.
وكذلك أيضا بحوث المجامع الفقهية فإن المجمع الفقهي حينما يبحث مسالة يستكتب بعض الباحثين ويستعين ويستأنس بآراء بعض الخبراء، ثم تتم مناقشة ذلك الموضوع، ثم يصدر القرار فيه.
أمر آخر اقترحه بعض الإخوة وهو قال: لو وزع مادة هذا الدرس، ولكن يصعب هذا لما ذكرت من تشتت وتفرق مادة هذا الدرس، لكن هذه المادة محفوظة على موقع البث الإسلامي، وأقول وأطرحها كفكرة لو أمكن بعض الإخوة خاصة من كان عنده همة ونشاط تفريغ هذه المادة، ثم بعد ذلك تعرض علينا بعد هذا ثم ينشر على شكل كتاب، يكون هذا نافعا، ويكون من ثمرات هذه الدورة المباركة إن شاء الله تعالى.(1/1)
اليوم سيكون درسنا عن أحكام بيوع التقسيط، ونتناول كذلك بيع المرابحة للأمر بالشراء، وهي من صور بيع التقسيط، والتورق، أيضا نتكلم عن التورق عند الفقهاء والتورق الموجود في المصارف وحكمه الشرعي، وهذه المسائل من المسائل التي يكثر السؤال عنها، وترد فيها أسئلة كثيرة، بل لا أبالغ إن قلت: إنه في بعض الأيام ترد عشرات الأسئلة حول هذا الموضوع، ولذلك نريد في هذا الدرس تجلية هذه المسائل بوضوح وبيان آراء العلماء المعاصرين فيها.
نقول: بيع التقسيط له صور، أبرز صوره التقسيط المباشر، وصورة التقسيط المباشر أن يبيع رجل بضاعة أو سلعة من السلع بثمن مؤجل أو بأقساط معلومة، ويزيد في قيمة البضاعة مقابل الأجل.
مثال ذلك: سيارة قيمتها نقدا خمسون ألف ريال، أراد رجل أن يشتريها بالتقسيط لمدة سنة بستين ألفا، يعني قيمتها نقدا معروضة في معرض السيارات بخمسين ألفا، فقال: والله أنا ما عندي خمسين ألفا الآن، أنا أشتريها منكم بالتقسيط بستين ألفا إلى سنة فما حكم هذا البيع؟ فهاهنا زيد في قيمة السيارة مقابل الأجل.
وهكذا سائر السلع قيمة السلعة شيء معين، ثم يزاد في قيمة السلعة مقابل زيادة الأجل. فما الحكم في هذا البيع، وما حكم هذه الزيادة مقابل زيادة الأجل ؟
أقول: أكثر العلماء على أن هذا البيع لا بأس به، وأنه بيع صحيح، بل قد حكي الإجماع على جوازه، وممن حكى الإجماع على جوازه الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح فقد حكى الإجماع على جوازه. وروي عن قلة من العلماء أنهم منعوه، قالوا: إنه لا يجوز، ومنهم بعض الظاهرية، ومن المعاصرين اشتهر هذا الرأي عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وأصبح يفتي به عامة تلامذته.(1/2)
وقد قيل إن القول الثاني: إنه قول شاذ؛ لأنه مخالف للإجماع، ولكن على كل حال يبقى قولا يطرح ويفتى به خاصة بعد تبني الشيخ الألباني رحمه الله له، والصحيح في هذه المسألة ما عليه جماهير العلماء قديما وحديثا من جواز هذا البيع من غير كراهة.
والأدلة على جوازه كثيرة، منها قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ولم يشترط الله تعالى أن تكون المداينة بسعر الوقت الحاضر، ومعلوم أن الدين يصحبه الزيادة في الثمن.
ويدل لذلك أيضا ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في الثمر السنة والسنتين وجاء في رواية " والثلاث " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم .
ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك بسعر الوقت الحاضر.
ويدل لهذا أيضا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يشتري البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة .
فهنا زيد في قيمة السلعة مقابل الأجل، البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة، لكن بثمن مؤجل إلى إبل الصدقة.
ويدل لهذا أيضا ما جاء في الصحيحين من قصة بريرة رضي الله عنها حيث اشترت نفسها من أسيادها بتسع أواق في كل عام أوقية وهذا نوع من بيع التقسيط. ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا على بريرة بل أقره.(1/3)
وأيضا يدل لهذا ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل فرهنه درعه ومعلوم أن اليهودي لا يمكن أن يبيع الطعام إلى أجل بثمنه في وقته الحاضر؛ لأن اليهود أهل شح وطمع، فلا يمكن لهذا اليهودي أن يبيع الشعير إلى أجل بثمنه الحاضر؛ ولأن أمور التجارة لا تستقيم إلا على هذا، فإن سعر السلعة إذا بيعت نقدا يختلف عن سعرها إذا بيعت مؤجلا عند عامة العقلاء.
وفي إباحة زيادة قيمة السلع مقابل الأجل فيه مصلحة للطرفين للبائع وللمشتري، فيه مصلحة للبائع وللمشتري، أما البائع فإنه ينتفع بالربح، وأما المشتري فإنه ينتفع بالإمهال والتيسير، ثم إنه ليس كل أحد يستطيع أن يشتري حوائجه نقدا، فلو منعت هذه الزيادة، لو منعت الزيادة في المداينة لكان في ذلك حرج عظيم على كثير من الناس، خاصة أن الأصل في هذا الباب هو الحل والإباحة، والشريعة الإسلامية قد أتت بتحصيل المصالح وتكميلها ودفع المضار وتعطيلها، فكما ترون الأدلة كثيرة.
وأما من منع فليس عندهم حجة في الحقيقة ليس لهم دليل، إلا قياس هذه المسألة على زيادة الدين مقابل زيادة الأجل، وهذ قياس مع الفارق؛ لأن زيادة الدين مقابل الأجل هي زيادة في الدين، أما هنا الزيادة زيادة في قيمة السلعة مقابل زيادة الأجل، فهنا زيادة في ثمن السلعة مقابل زيادة الأجل، أما الدين فإنه زيادة في دين مقابل الأجل، الذي هو أساس الربا في الحقيقة، أساس الربا هو زيادة الدين مقابل زيادة الأجل، أما هنا فليس فيه دين، وإنما فيه ترتيب ثمن يقول له: لا أبيعك هذه السلعة إلا بكذا.(1/4)
نعم لو أنه قال: لا أبيعك هذه السلعة إلا بكذا. ثم لما حل موعد السداد زاد في الثمن مقابل زيادة الأجل، زاد في القيمة المقابلة مقابل زيادة الأجل، نعم تكون هذه من الربا. لكن إذا وُضع الثمن واتفق عليه من البداية فلا بأس به، وإن كان أكثر من ثمنه في الوقت الحاضر هذا القياس إذن قياس مع الفارق.
ولهذا كما قلت يعتبر بعض العلماء هذا القول قول بالمنع أنه قول شاذ، والصواب إذن هو الذي يفتي به عامة مشايخنا الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، وعامة العلماء هو القول بالجواز في هذه الحال، وأنه لا بأس بزيادة قيمة السلعة مقابل الأجل، لكن هذا كما ذكرت عند إنشاء العقديعني في البداية، فإذا هذه صورة التقسيط المباشر، نقول: إنها جائزة ولا بأس بها والحمد لله.
نحن وعدنا بأن نذكر معادلة حساب نصاب الأوراق النقدية لكن بعد ما ننتهي إن شاء الله من الدرس في ... الأخير.
نقول بعد هذا: من يبيع بالتقسيط ينبغي ألا يستغل حاجات إخوانه المسلمين فيزيد عليهم في الربح زيادة فاحشة، فإن هذا مكروه، فقد جاء في سنن أبي داود عن علي رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر .(1/5)
وهذا الحديث في سنده ضعف، ولكن الأصول والقواعد الشرعية تؤيده؛ لأن استغلال الإنسان لحاجات إخوانه المسلمين ومبالغته في أخذ الربح مبالغة فاحشة فوق المعتاد فيه إضرار بإخوانه المسلمين، وفيه شيء من الطمع والهلع، وربما تمحق بركة ذلك البيع بسبب هذه الزيادة المبالغ فيها والذي يحصل بها الاستغلال لإخوانه المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس - يعني بتعلق وطمع - لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع يعني انظر كيف أن الإنسان إذا أخذ المال بسخاوة نفس من غير تعلق من غير طمع من غير شح يبارك له فيه، أما إذا أخذه بإشراف نفس وتعلق وطمع فإنه تنزع البركة من هذا المال ويصبح كالذي يأكل ولا يشبع.
ثم أيضا ينبغي لمن يبيع بالتقسيط أن يجعل الربح مقطوعا، فيقول مثلا: أبيعك هذه السيارة بخمسين ألفا وربح خمسة الآف أو ربح عشرة الآف هذا هو الأحسن والأفضل، ولا يقول: أبيعك هذه السيارة على أن أربح في كل عشرة ألآف ألفا، أو يقول: أبيعك هذه السيارة بنسبة ربح ثمانية في المائة مثلا، فإن هذا قد ورد عن بعض السلف كراهته، وإن كان ليس محرما لكنه مكروه.
ولهذا قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: " والمرابحة أن يبيعه بربح فيقول: رأس مالي فيه مائة وربحي عشرة " فهذا جائز ولا خلاف في صحته، ولا نعلم أحدا كرهه. قال: وإن قال: على أن أربح في كل عشرة فيه درهما فقد كرهه أحمد. ورويت فيه الكراهة عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يعلم لهما في الصحابة مخالف، كذلك كرهه الحسن ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن يسار.
ووجه الكراهة في هذه الحال هو شبهه ببيع دراهم بدراهم يعني شبهه بمسألة الربا. قال الإمام أحمد: كأنه دراهم بدراهم.(1/6)
فيعني بعض السلف كرهوا على أن تكون الزيادة بهذا الوصف، فيقول: أبيعك على أن أربح في كل عشرة ألفا. أو يقول: أبيعك - كما هو عليه الآن - والربح نسبة، 8%، نسبة 10%، نسبة 5% كره هذا بعض السلف؛ لأن هذا الوصف شبيه بالربا، والأحسن أن يجعل الربح مقطوعا وإن كان مؤدى الأمرين واحد في الحقيقة. لو قال: أبيعك على أن أربح عشرة آلاف مثلا في سيارة قيمتها مائة ألف، قال على أن يكون الربح عشرة آلاف أو قال: عشرة في المائة، المؤدى واحد، ولكن بعض السلف كره عبارة أن أربح في كل عشرة ألفا. أو أن يكون بالنسبة، وقالوا: الأفضل أن يجعل الربح مقطوعا، ولكن لو فعل هذا فإنه لا يأثم المسألة لا تعدوا أن تكون مجرد كراهة فقط، ولا يعلم أن أحدا قال بالتحريم وإنما المسألة فقط مجرد كراهة.
ولهذا قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله: اتفقوا على أن ربح المرابحة صحيح، وهو أن يقول: أبيعك وربحي في كل عشرة درهم، وكرهه أحمد لشبهه ببيع العشرة بأحد عشر لا أنه منه حقيقة وإلا حرم ".
هذه إذا هي صورة التقسيط المباشر، وظاهر من هذا أنها بين طرفين فقط.
ولكن ما الحكم في ما إذا طلب شخص من آخر أو من مصرف أو من مؤسسة أو شركة أن يشتروا له سلعة معينة ثم يشتريها منهم بالتقسيط، وهذه المسألة يسميها بعض المعاصرين بالمرابحة للآمر بالشراء.
وصورة هذه المسألة: هذا رجل يريد سيارة معينة، وليس عنده نقد يشتري به هذه السيارة، فذهب إلى مؤسسة أو إلى بنك مثلا وطلب من هذه المؤسسة أو المصرف أن تشتري له تلك السيارة ثم يشتريها منهم بالتقسيط. يقول: اشتروا لي هذه السيارة وأنا أشتريها منكم بالتقسيط. فما حكم هذا العمل؟
هذا لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يتعاقد ذلك الرجل مع تلك المؤسسة أو المصرف يتعاقد معهم مباشرة بشراء تلك السلعة المعينة، فهذا العقد محرم ولا يصح، لماذا ؟(1/7)
لأن تلك المؤسسة أو البنك قد باع ما لا يملك، يذهب للبنك مباشرة أو المؤسسة ويتعاقد معهم على شراء سيارة بمواصفات معينة، ويبرم معهم العقد أو يعطيهم عربونا أو نحو ذلك .هذا لا يجوز هذا البيع؛ لأن هذه المؤسسة أو البنك لم يملك بعد السيارة فكيف يبيع شيئا لا يملكه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: لا تبع ما ليس عندك .
ثم مع هذا المحظور وهو أن المؤسسة أو البنك باع ما لا يملك وهو الحقيقة يشبه أن يكون حيلة على الربا، حيلة على قرض بفائدة، فكأن هذا الرجل قال لتلك المؤسسة أو لذلك المصرف: أقرضني قيمة هذه السلعة مع فائدة معينة، أقرضني قيمة هذه السلعة بفائدة، لكن بدل ما يسلك هذا المسلك يقول: أقرضني بفائدة أتى بهذا البيع الصوري حيلة على القرض المحرم.
فإذا هذه الصوره نقول: إنها محرمة، وهي يعني مع الأسف موجودة في بعض المؤسسات والبنوك.
الحالة الثانية: ألا يحصل تعاقد سابق بين ذلك الرجل وبين المؤسسة أو المصرف على إتمام عملية الشراء، ولكن يحصل مجرد وعد من تلك المؤسسة أو المصرف بأن يقوموا بشراء تلك البضاعة التي يعدهم هذا الرجل بأنه سوف يشتريها منهم، فتكون المسألة مبنية على وعد غير ملزم. يأتي لهم ويقول: أنا أريد أن تشتروا لي سيارة موديلها كذا نوعها كذا لونها كذا، وأعدكم أنكم إذا اشتريتموها أشتريها منكم.
ما الفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى؟ الأولى في عقد أبرم معهم عقدا، هنا ما في عقد وعد فقط. ولاحظ أنه وعد غير ملزم. يقول: اشتروا لي هذه السلعة وأعدكم بأنني سوف أشتريها منكم. وهذه الصورة تجوز بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون الاتفاق المبدئي بينهما مجرد وعد بالبيع ووعد بالشراء. وهذا الوعد وعد غير ملزم فلكل منهما يعني من المؤسسة أو المصرف وذلك الرجل الخيار لكل منهما الخيار في إتمام ذلك البيع أو عدم إتمامه.(1/8)
ويترتب على هذا أن السلعة لو تلفت بعد شراء المصرف أو المؤسسة لتلك السلعة، وقبل أن يبرم معهم ذلك الرجل عقدا فهي من ضمان المؤسسة أو المصرف؛ لأنه حتى الآن ليس عندنا عقد إنما هو مجرد وعد ومعلوم أنه هناك فرق بين الوعد وبين العقد.
فالوعد مجرد إبداء الرغبة في الشيء أنا أرغب في هذا الشيء، وأما العقد فإنه ارتباط منجز ملزم، ولكن ينبغي أن يعلم بأن الوعد الملزم بمعنى العقد. لكن إذا كان الوعد ملزما فهو بمعنى العقد، لكن إذا كان وعدا غير ملزما فهو مجرد إبداء الرغبة في الشيء، فيقول: أنا أعدكم بأنكم إذا اشتريتم لي هذه السلعة أشتريها منكم، فيذهبون ويشتروا له هذه السلعة، فإذا اشتروها له فهو بالخيار أيضا لا يستطيعون إلزامه بأن يشتريها منهم. فهو بالخيار إن شاء أبرم العقد وإن شاء صرف النظر عنه.
هذا هو الشرط الأول أن يكون الاتفاق بينهما مجرد وعد غير ملزم.
الشرط الثاني: ألا يقع العقد بينهما إلا بعد قبض تلك المؤسسة أو المصرف للسلعة أو البضاعة واستقرارها في ملكه.
يعني تقوم تلك المؤسسة بشراء تلك السلعة أو ذلك البنك أو المصرف بشراء تلك السلعة وقبضها، ثم بعد ذلك يُبرم العقد ويقومون ببيعها عليه.(1/9)
ففي مثالنا السابق أتى شخص إلى مصرف، وقال لهم: أنا أريد منكم أن تشتروا لي سيارة نوعها كذا موديلها كذا لونها كذا، وأعدكم بأنكم إذا اشتريتموها على هذه المواصفات سوف أشتريها منكم، لاحظ هنا ما في عقد الآن، فقام المصرف مثلا أوالمؤسسة أو الشركة أو حتى فرد واشترى له هذه السيارة بهذه المواصفات، وقال له: يا فلان أنت أبديت رغبتك في شراء سيارة بهذه المواصفات نحن اشتريناها وتملكنا هذه السيارة، وقبضناها وهي الآن موجودة. بعد ذلك أجري العقد بينهما، أبرم العقد، فاشتراها منهم بالتقسيط. اشتراها مثلا بخمسين ألفا وأبرم العقد بينهما على أن يشتري هذا الرجل أو المؤسسة أو المصرف أو البنك بسبعين ألف مثلا إلى سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل هذا لا بأس به إذا كان بهذا الوصف بهذه الشروط لا بأس به.
الشرط الأول: أن يكون الاتفاق المبدئي بينهما مجرد وعدا غير ملزم مجرد إبداء رغبة.
الشرط الثاني: أن الموعود بالشراء منه يتملك البضاعة ويقبضها قبضا تاما.
والحقيقة أنه يحصل الإخلال بأحد هذين الشرطين خاصة في البيع الذي يتم عن طريق البنوك، فإما أن يبرم العقد قبل تملك البنك السلعة، وإما ألا يبرم العقد لكن البنك لا يتملك السلعة، وإنما يتفاهم فقط مع معرض من المعارض، ولا بد أن يكون التملك للسلعة بعينها وليس بوصفها.
ومعنى هذا أن البنك مثلا يذهب ويشتري هذه السلعة المعينة، يذهب ويشتري هذه السيارة بعينها، والواقع أن بعض البنوك لا تفعل هذا، وإنما فقط تتفاهم مع معرض السيارات بأننا نحول عليك الزبائن، وهذا غير كاف في الحقيقة هذا لا يكفي. لا بد أن يشتروا شراء حقيقيا، ويتملكوا تلك السيارة بعينها، ويتم القبض ثم بعد ذلك يبيعها.
أما مجرد تفاهم مع صاحب المعرض بأن يحولوا عليه الزبائن فهذا غير كاف، وحينئذ يكون لم يتحقق الشرط الثاني.(1/10)
وبعض الناس يقول: إنه حصل أن اتفق مع البنك بوعد غير ملزم، وقال البنك: السيارة التي تريدها موجودة في المعرض الفلاني، فلما ذهب للمعرض قال: أين السيارة اللي البنك الفلاني أعطاك مواصفاتها. فقال كل هذه سيارات اختر منها واحدة، كل هذه السيارات من النوع الفلاني الموديل الفلاني، هذا ما يصح، لا بد أن يتملك الموعود بالشراء منه السلعة بعينها على سبيل التعيين وليس على سبيل الوصف. فإذا تحقق هذان الشرطان فهذا البيع لا بأس به.
وقد أقر هذا مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بدورة المؤتمر الخامس، أجاز هذا البيع بهذين الشرطين: بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، وقالوا: ولا تجوز المواعدة الملزمة لأنها في معنى العقد، ويشترط أن يكون البائع مالكا للمبيع. يعني بهذين الشرطين أقره مجمع الفقه الإسلامي، وأيضا سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله أيضا أجاز هذا البيع بهذين الشرطين، وعامة المشايخ والعلماء يفتون بالجواز بهذين الشرطين.
ولكن هناك من العلماء من منع من هذا البيع، وقال: إنه حيلة على الربا. وإن كانوا قلة. يعني الأكثر على الجواز لكن بالضوابط والشروط التي ذكرناها.
من العلماء من قال: إن هذا حيلة على الربا وأنه لا يجوز، ومن أبرز من قال بهذا القول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، بل إنه يشدد في هذه المسألة ويعتبرها حيلة على الربا.(1/11)
ولكن عند التأمل في هذا العقد نجد أنه في الحقيقة ليس فيه حيلة على الربا؛ لأن هذا الوعد هو وعد غير ملزم مجرد إبداء رغبة في هذه السلعة، وهذا الموعود بالشراء منه قد تملك السلعة وقبضها، فأين الحيلة حينئذ، ولكن ربما أن أصحاب هذا القول رأوا توسع البنوك، أو الإخلال الكبير الذي يحصل من البنوك في مثل هذه البيوعات، وهذا حقيقة خلل في التطبيق لا يجعلنا نمنع هذا التعامل، يعني يكون مثلا بعض البنوك يكون لديه خلل في التطبيق لا يجعلنا نمنع المسألة كلها، فالقول بأن هذا حيلة هذا غير ظاهر.
لو قلت لي: أنا أريد سيارة بهذه المواصفات اذهب واشترها لي من السوق وأنا أشتريها منك، فذهبت واشتريتها لك بالمواصفات التي تريدها، ثم أبرمنا عقدا فيما بعد، واشتريتها مني بالتقسيط لمدة سنة، فأين الحيلة في هذا. ليس في حيلة في الحقيقة.
ولهذا جاء في حديث أبي سعيد في قصة تمر البرني لما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني من النوع الجيد، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا يا رسول الله إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال: أوه هذا عين الربا ثم أرشدهم إلى المخرج، فقال: ولكن بع الجمع -يعني أخلاق التمر الرديء- بالدراهم واشتر بالدراهم الجديد. مع أنه قد يقول قائل: هذا حيلة على الربا لأن النتيجة واحدة؛ فإذا بعت صاعين بصاع هي نفسها إذا بعت بعت صاعين بالدراهم، ثم اشتريت بالدراهم صاعا. النتيجة واحدة.(1/12)
ومع ذلك هذا المخرج أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر حيلة على الربا، ثم إن الأصل في هذا الباب الحل والإباحة، ولا نمنع شيئا إلا بدليل واضح، وفي هذا التعامل توسعة على الناس وإرفاق بهم؛ لأنه ليس كل إنسان يجد من يقرضه، وليس كل إنسان يستطيع أن يشتري ما يريده من الحوائج، فالأصل في هذا الحل والإباحة، ولهذا الأظهر والله تعالى أعلم أن بيع المرابحة للآمر بالشراء أنه جائز بهذين الشرطين، وكما ذكرت هو رأي أكثر العلماء، وهو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي، ولم يخالف في هذا إلا قلة من أهل العلم.
هذا ما يتعلق ببيع المرابحة للآمر بالشراء. وهذا ليس خاصا بالسيارات يعني ينضم على جميع البضائع والسلع والدور والعقار وكل شيء إذا تحقق فيه هذان الشرطان فلا بأس، خاصة الشرط الثاني في الحقيقة هو الذي يحصل الإخلال به، يعني لا يحصل التملك والقبض، ولهذا ينبغي لمن يريد أن يتعامل بهذا التعامل أن يتأكد من تملك الموعود بالشراء منه للسلعة وقبضها، فمثلا يرسل مندوب للبنك فيشتري السيارة ويقبضها، ثم يبيعها على هذا الشخص الذي وعده بالشراء منه، في الإمكان أن يضع البنك مندوبا له في المعرض مثلا، ويشتري السيارة ويبيعها، أما مجرد أن يعطوا هذا الشخص الذي وعدهم بالشراء تحويلا على المعرض هذا غير كاف في الحقيقة.
---
فقه المعاملات المالية المعاصرة - أحكام بيوع التقسيط -
موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمية: www.Taimiah.org
حقوق الطبع © 2005 جميع الحقوق محفوظة
Sunday: 16 / 9 / 2007(1/13)