إِتْحَافُ الفُضَلاءِ
بِحُرْمَةِ الإِسْبَالِ لِغَيْرِ الخُيَلاَءِ
تَألِيفُ
أَحْمَدَ بْنِ فَتْحِيِّ الزَّيْنِيِّ
قَرَأَهُ وَقَدَّمَ لَهُ
الشَّيْخُ الدُّكْتُور
أبو أسَامَةَ سَلِيم بْن عِيدٍ الهِلاَلِيِّ
دار
الصفا والمروة للنشر والتوزيع
الطبعة الأولى: 1430هـ - 2009م
صف كمبيوتر
النور للصف والمراجعة (0171061820)
دار الصفا والمروة للنشر والتوزيع
185 ش جمال عبد الناصر
نهاية نفق سيدي بشر - الإسكندرية
ت: 5496107 / 03 فاكس: 5567134 /03
Email: safa.merwa@yahoo.com
safa.merwa@hotmail.com
قالَ الإمامُ البَرْبَهَارِيُّ ~ فِي كِتَابِ "شَرْحِ السُّنَّةِ":
"وَاعْلَمْ أنَّ النَّاسَ لَمْ يَبْتَدِعُوا بِدْعَةً قَطُّ حَتَّى تَرَكُوا مِنَ السُّنَّةِ مِثْلَهَا".
ث
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور
سليم الهلالي حفظه الله
الحمد لله حقّ حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وآله وصحبه ووفده.
أما بعد:
فقد اطلعت على رسالة: "إتحاف الفضلاء بحرمة الإسبال لغير الخيلاء" فوجدتها على اختصارها وافية بالمقصود؛ جمعَت المسألة من أطرافها بأسلوب ممتع، وأدَبٍ جَمّ عرفته عن وَلَدِنا أحمد بن فتحي - وفقه الله للخيرات-.
هذا وأنصح لِولَدِنا الحبيب بالصبر على الطلب، والأدب في المحاورة، والإخلاص في السير إلى الله، والثبات على السنة؛ فإن أهل السنة غرباء، ولكن طوبى للغرباء.
وبالجملة: فالرسالة نافعة، ونوصي بالاستفادة منها.
وكتبه
سليم بن عيد الهلالي
أبو أسامة
20/ رجب الفرد / 1430 هـ
عمان البلقاء عاصمة جند الأردن
من بلاد الشام المحروسة
ث
المقدمة
الحمد لله على آلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وآله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم لقائه.
أما بعد:(1/1)
فقد انتشر وشاع عند الكثيرين - هداهم الله- إرخاء الملابس وإسبالها تحت الكعبين، أو جرّ أطرافها على الأرض بقصد أو بغيره.
وهذا من المظاهر التي عمَّت بها البَلِيَّة، وعظمت بها الرَّزِيَّة؛ إذ هو خطر عظيم؛ لِمَا فيه من مخالفةٍ لأمر الله ورسوله الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، ولما فيه أيضًا من التشبه بالنساء (1) في طول الكساء.
قال العلامة الهُمام، وحُجة الإسلام، أحمد بن تيمية ~: إن المشاركة في الهدْيِ الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلا بين المتشابهين، يقود ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس ثياب الجند المقاتلة - مثلا - يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع (2) اهـ.
والإسبال يُعدّ من كبائر الذنوب التي غفل - أو تغافل - عنها كثير من المسلمين اليوم، حتى صار من يقصِّر ثيابه ابتغاء وجه ربه، متأسّيًا برسوله ونبيِّه صاحب الأسوة الحسنة ص؛ أصبح وكأنه فَعَلَ مَشينًا، واقترف جُرمًا عظيمًا.
وهذا الإنكار يأتي غالبًا من الرُّوَيْبِضَة الذين ليس لهم في العلم خطام ولا زمام (3) .
__________
(1) سيأتي بيان ذلك في هذه الرسالة إن شاء الله.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 80 - 81).
(3) عن أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ص: "إنها ستأتي على الناس سنون خداعة؛ يُصدَّق فيها الكاذب ويُكَذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة" رواه الإمام أحمد في مسنده؛ بإسناد حسنه العلامة أحمد شاكر رحمه الله.(1/2)
والأدْهَى من ذلك وأمَرُّ أن يتبنَّى هذا الإنكار من ينتسب للعلم والسُّنة، وكأنَّ أمر تقصير الثياب أصبح من المنكرات؛ فالرويبضة يقولون: هذا مظهر غير مقبول، وهل أتيت بكل السُّنن وبقِيَت هذه ؟! وطالما أنه لم يصل الثوب إلى الأرض فلا مشكلة!...الخ، وكلام نحو هذا سقيم، لا يقبله صاحب الدين القويم.
ومن جهة أخرى يقول مُدّعو العلم - بجهل أو بتجاهل -: لا تقصِّر ثوبك كل هذا؛ فالأمر ليس حرامًا إنما هو مكروه!.
وليت القائل يعلم المكروه من غيره!.
ومن جهة أخرى أيضًا: ينكر الوالدان على ابنهما الذي هداه الله لحب الإسلام والعمل به، فيثقل عليهما، ويضيق صدرهما أن يَريا ابنهما في هذا المظهر المنافي للعادات الجارية؛ فَيَظَلانِ في حربٍ معه شديدة حتى يترك السُّنة!.
أقول: ماذا حملكما أيها الوالدان الوقوران على هذه الحرب الضَّروس الشنعاء ؟!
أكراهية أن تريا ابنكما متشبهًا برسول الله ص ؟! أم خوفًا عليه ؟!
ومن أي شيء تخافان عليه ؟! ألا يستطيع ربه سبحانه وتعالى أن يحفظه بتمسكه بما جاء عن الرسول ص ؟! لأن طاعة الرسول واجبةٌ فرض؛ فالله تعالى يقول: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
فاتقيا الله أيها الوالدان إن كنتما تريدان ولدًا صالِحًا يدعُ لكما بعد موتكما؛ إذ كيف يأتي الصلاح من الولد إن لم يُعِنْهُ الوالدان على فعل الصلاح ؟!!
وهل يحب الوالدان أن يقلد ابنهما فاسقًا من الممثلين والمطربين والفُساق الفاجرين؟!
أم يحبان أن يقلد السلفَ الصالحين، والعلماءَ العالِمِين العامِلِين، وأهلَ الخير المُتّبعين؟!
وللهِ دَرُّ القَائِل:
فَتشبَّهُوا إن لم تَكُونُوا مِثْلهم
إنَّ التَّشبُّه بالكِرَامِ فَلاَحُ
فعلَى كل أبٍ مشفق يخشَى على ابنه النار أن يتقيَ الله ويرجو رحمة الغفار، ويحث ابنه على التمسك بسنة المختار، ولا يَرْضَى له تقليد الفُجَّار.(1/3)
ويا أيها الوالد: اترك ولدك يمشي في طريق الحق، لا تكن حجر عثرة في طريقه إلى الله؛ لتكون سابقه في جنات عدن؛ بإعانتك له وصبرك عليه.
وليعلم كل مسلم أن محبة رسول الله ص ونصرته ليست ادعاءً ولا كلامًا، بل الواجب على كل مسلم محبة الرسول ص بطاعته؛ بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وتصديق خبره؛ وبذلك يحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويستحق الثواب، ويسْلَم من العقاب، وعلامة ذلك ودليله التزامه بتعاليم الإسلام أمرًا ونهيًا وتطبيقًا، قولاً واعتقادًا وعملاً، وأن يقول أمام كل أمر ونهي: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } كما قال المؤمنون قبلنا.
وأصل هذه الرسالة: مناقشات مع بعض الفضلاء في حكم الإسبال لغير قَصْد الخيلاء، حيث كانوا يُكْثِرون من الدندنة والنقاش بأن الإسبال إنما حرام للخيلاء والتكبُّر فقط، وما دون ذلك فلا بأس! أو قد يكون مكروهًا عند بعضهم أخذًا بكلام النووي ~ في هذه المسألة، ومنهم من كان يفهم حديث النبي ص للصديق ? "إنك لست ممن يفعله خيلاء" بغير ما أراده النبي نفسه!!.
كما أن من أسباب هذه الرسالة أيضًا ما انتشر انتشار النار في الهشيم بين المستقيمين على دين الله، وغيرهم من عامة المسلمين - إلا من رحم الله - فِعْل هذا الإسبال دون أدنى نكارة! بل لا ينتبه كثير منهم أنه مسبل أصلا!.
وصار العامَّةُ الجُهّال يلمزون المقصر ثيابه! وكأن المسبل أصبح على حق! ومَن قصَّر ثوبه تأسِّيًا بالرسول ص هو المُلام!.
وهذا من علامات آخر الزمان، أن تنقلب الموازين، ويتغير الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله القوي المتين.
فأخذتني الغيرة على دين الله، وعلى سنة رسوله ص، وخِفت ضياع هذه السنة العظيمة، لاسيما وقلّ من يتكلمون فيها أو يكتبون في حد علمي الضئيل؛ ولو سَكَتَ العلماء وطلبة العلم عن المنكرات؛ لضاع الدين ومات.(1/4)
فواجبٌ محتَّمٌ على من عَلِم عِلمًا غاب عن الناس أن يبيِّنه لهم ولا يكتُمْه؛ فيُسئل عنه أمام الله، ويكون وبالا عليه يوم لقاه؛ يقول الله عز وجل: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } .
ولما كان بنو إسرائيل يكتمون العلم استحقوا اللعن من الله، فقال جل جلاله: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } ، ويقول الله تعالى مُحِثًّا على النصيحة والتذكير: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وعن أبي تميم الداري ? قال، قال رسول الله ص: "الدين النصيحة" رواه البخاري، ومسلم وغيرهما.
فاستعنت بالله على كتابة رسالة مختصرة، قصدت فيها الجمع بين سهولة العبارات، وصغر الحجم وقلة الكلمات، بعيدًا عن الإطالات والإطنابات؛ لتكون أكثر رواجًا بين العامة عمومًا، وبين أغلب المستقيمين على دين الله خصوصًا.
وقد سبق ونشرتها بين من يتكلمون بهذا على نطاق ضيق، وحينما حصل لها رواج - بفضل من الله وحده - وقبول الناس لِمَا فيها، واستجابتهم لذلك؛ قام الأخ الفاضل المعين على الخير (وائل الدسوقي الأثري) حفظه الله بتبني هذه الرسالة، والتكفل بطبعها وتوزيعها مبتغيًا بذلك الأجر من الله تعالى؛ فأسأل الله أن تكون في ميزان حسناته، وأن يجزيه خيرًا.(1/5)
كما قمت بإرسال نسخة لشيخنا الدكتور المحدِّث سليم الهلالي حفظه الله ورعاه؛ فقام بما عهدنا منه من نصح وتبيين وتشجيع؛ فجزاه الله خيرًا، وكيف لا، وهو من أوائل من تتلمذوا على علامة العصر ناصر السنة الألباني ~؛ فأخذ العلم، وتعلَّم العمل من شيخه، وإمام دهره ناصر السُّنة الألباني ~، وألحقنا به تحت ظل عرش الإله.
وقد جمعْتُ في هذه الرسالة الصغيرة أطراف المسألة مبينًا فيها الرد على بعض الشبهات، ومجيبًا عن بعض الاستفهامات، مستأنسًا بكلام أهل العلوم والخبرات، رحم الله الأحياء منهم والأموات.
راجيًا من ربي الكريم أن تكون لي ذخرًا بعد الممات، وأن ينفع بها كل مسلم يؤمن بالله والرسول، سائلًا ربي الإخلاص والقبول؛ إنه خير مسئول.
وكتبه
الفقير إلى عفور ربه القدير
أَحْمَدُ بْنُ فَتْحِيِّ الزَّيْنِيِّ
سامحه الله
فرغت من هذه المقدمة صبيحة الأحد الخامس والعشرين من شهر شعبان / لعام ثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة
قليوب - القليوبية - مصر حرسها الله
هاتف: 0183305168
البريدالإلكتروني: ahmed_sep9@hotmail.com
ahmed_binfathy@yahoo.com
فصل
حرمة مخالفة أمر الله ورسوله
اعلم - علمني الله وإياك - أنه لا يحق لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُعرِض عن أمْرٍ أُمِرَ به، أو يرتكب نهيًا نُهِيَ عنه بعد أن تبيَّن له الحق من الباطل؛ فإن الرسول ص قد ذمّ وحذّر أُناسًا لا يُبادرون إلى العمل بالحديث إذا بلغهم، فقال ص: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرَّم رسول الله ص كما حرم الله" (1) .
وممّا ابتُلي به كثير من الناس في هذا الزمان الإسبال حتى أصبح ظاهرة منشَّرة، والله المستعان.
__________
(1) صحيح الجامع (2657)، قال الألباني: صحيح.(1/6)
بل انقلبت الأمور؛ فالرجل يسبل ثيابه، والمرأة تُقصِّر ثيابها وتظهر قدميها!، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعض من غابت عقولهم، وخدعهم الشيطان من الرجال يقصِّرون القميص (الجلباب) ويسبلون السراويل (1) !
***
فصل
معنى الإسبال
الإسبال لغة:
الإرخاء، والإطالة، والإرسال.
قال الجوهري: أسبل إزاره، أي: أرخاه (2) .
يقال: أسبلَ فلان ثيابه؛ إذا طوّلها وأرسلها.
وفي الاصطلاح:
المسبل إزاره: المرخي له، الجار طرفه.
وهو أيضًا: تطويل اللباس بحيث يتجاوز الحد المقرر في النصوص الشرعية، ولا يتقيد بالخيلاء، كما سيأتي بيان ذلك وبيان حدِّه من الناحية الشرعية، إن شاء الله تعالى.
***
فصل
معنى الكعب
والفرق بينه وبين العَقِب ...
ليس المقصود بالكعب أنه العَقِب الذي هو نهاية القَدَم ويسميه عامة الناس الكعب!!، إنما الكعب هو: العظمان البارزان أسفل القَدَم في نهاية الساق وفوق العقِب، والذي يطلق عليه عامة الناس: (بز الرِّجْل)؛ فهذا هو الكعب المقصود. وأما الذي يطلق عليه عامة الناس (الكعب) إنما هذا يسمى: العقِب.
جاء في لسان العرب: (وكَعْبُ الإِنسان: ما أَشْرَفَ فوقَ رُسْغِه عند قَدَمِه؛ وقيل: هو العظمُ الناشزُ فوق قدمِه؛ وقيل: هو العظم الناشز عند مُلْتَقَى الساقِ، والقَدَمِ.
وأَنكر الأَصمعي قولَ الناسِ إِنه في ظَهْر القَدَم. (قلت: يقصد العَقِب الذي عليه عامة الناس اليوم).
وذهب قومٌ إِلى أَنهما العظمانِ اللذانِ في ظَهْرِ القَدم؛ ومنه قولُ يحيى بن الحرث: رأَيت القَتْلى يومَ زيدِ بنِ عليٍّ، فرأَيتُ الكِعابَ في وَسطِ القَدَم.
وقيل: الكَعْبانِ من الإِنسان العظمانِ الناشزان من جانبي القدم.
وفي حديث الإِزارِ: "ما كان أَسْفَلَ من الكَعْبين، ففي النار".
__________
(1) تنبيه: سراويل مفرد، والجمع: سراويلات. لا كما شاع أنه سروال، والجمع منه سراويل؛ فهذا خطأ لغوي؛ فانتبه، والله أعلم.
(2) انظر: (الصحاح في اللغة) للجوهري.(1/7)
قال ابن الأَثير: الكَعْبانِ العظمانِ الناتئانِ، عند مفْصِلِ الساقِ والقَدم، عن الجنبين، وهو من الفَرس ما بين الوَظِيفين والساقَيْنِ، وقيل: ما بين عظم الوَظِيف وعظمِ الساقِ، وهو الناتِئُ من خَلْفِه، والجمع: أَكْعُبٌ وكُعُوبٌ وكِعابٌ). اهـ بتصرف
***
فصل
ذم الإسبال، وما جاء فيه من وعيد
عن النبي ص قال: "إن الله عزّ وجلّ لا ينظر إلى مسبل الإزار" (1) .
وقال ص: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" (2) .
وعن عمرو بن الشريد عن أبيه أن النبي ص تبع رجلاً من ثقيف حتى هرول في أثره، حتى أخذ ثوبه فقال: "ارفع إزارك" قال: فكشف الرجل عن ركبتيه؛ فقال: يا رسول الله إني أحنف، وتصطك ركبتاي. فقال رسول الله ص: "كل خلق الله عز وجل حسن" قال: ولم يُر ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات (3) .
وقال النبي ص: "المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام" (4) .
وقال ص: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمُنفق سلعته بالحلف الكذب" (5) .
وقال النبي ص: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر - الصديق -: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه.
وفي رواية: إزاري من أحد شقيه.
وفي رواية: إن أحد جانبي إزاري، فقال رسول الله ص: "إنك لست ممن يفعله خيلاء"، وفي رواية: "لست منهم"، وفي رواية: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" (6) .
...
__________
(1) صحيح: رواه النسائي عن ابن عباس، وصححه الألباني في (الصحيحة)..
(2) صحيح: رواه البخاري في (صحيحه). من حديث أبي هريرة.
(3) صحيح: رواه أحمد، وأخرجه الطحاوي في (المشكل)، وصححه الألباني في (الثمر المستطاب).
(4) حسن: ذكره ابن حجر في الفتح (10/269)، وقال: أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود... وذكره..
(5) صحيح: رواه مسلم من حديث أبي ذر.
(6) صحيح: رواه البخاري، والزيادة لأهل السنن.(1/8)
فصل
حَدُّ ما يرخيه الرجل من لباسه، وبيان المستحب منه والواجب
عن ابن عمر ? قال: مررت على رسول الله ص وفي إزاري استرخاء فقال: "يا عبد الله ارفع إزارك" فرفعته، ثم قال: "زِدْ" فما زلت أتحراها بعدُ؛ فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: "أنصاف الساقين" رواه مسلم في صحيحه.
قلت: الحمد لله، وهذا دليل صحيح صريح، وهذا أقصر ما يرفعه الرجل من ثيابه. ولا تقصير فوق أنصاف الساقين.
وعن حذيفة بن اليمان ? قال: أخذ رسول الله ص بعضلة ساقي؛ فقال: "هذا موضع الإزار، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين" (1) .
قلت: وإلى الكعبين أطول شيء، ولا يحل تطويل الثياب إلى ما تحت الكعبين.
وعن أنس بن مالك ? قال: قال رسول الله ص: "الإزار إلى نصف الساق" فلما رأى شدّة ذلك على المسلمين؛ قال: "إلى الكعبين لا خير فيما أسفل من ذلك" (2) .
وعن أبي هريرة ? قال: قال ص: "إزرةُ المؤمن إلى عضلة ساقه، إلى نصف ساقه، ثم إلى كعبه، وما تحت الكعبين من الإزار ففي النار" رواه النسائي.
يقول الحافظ ابن حجر: والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب وهو: أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال الجواز هو: إلى الكعبين (3) .
***
فصل
أقوال أهل العلم وآراؤهم
__________
(1) صحيح: رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وانظر: (الشمائل المحمدية) للترمذي.
(2) صحيح: رواه أحمد (3/ 140)، وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب): رواته رواة الصحيح..
(3) فتح الباري: (10/ 259).(1/9)
أما الصحابة ش فلم يُنقل عن أحد منهم قَطُّ أنه كان يسبل ثوبه أسفل الكعبين، بل كانوا ينهونَ عن ذلك أشد نهي، ويعتبرونه من كبائر الذنوب، ومن الخيلاء، سواءً قَصَدَه المسبل أو لم يقصده؛ لقوله ص: "إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، ولا يحبها الله" (1) ؛ فجعل ص الإسبال كله من المخيلة ولم يفرِّق بين الخيلاء أو غير ذلك؛ لأن من لم يسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك، وإلا فلماذا يُسبل الرجل؟! وما الداعِ إلى إسباله؟! أليس للتظاهر بعدم قِصَر ثيابه؟! بل إن الله لا يحب ذلك، كما جاء فيما سبق من حديث.
وأما الإمام البخاري ~: فقد ساق في صحيحه بابًا بعنوان: (من جر إزاره من غير الخيلاء) وبابًا آخر: (من جر ثوبه من الخيلاء) ثم ساق: (باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار) وساق أحاديث الوعيد بالنار، وأقر تحريم ما كان أسفل الكعبين، للخيلاء أو لغير الخيلاء!! والحمد لله رافع السماء.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني~ : في هذه الأحاديث (يعني: أحاديث الإسبال) أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضًا (2) . اهـ.
__________
(1) صحيح: رواه البخاري في الأدب المفرد عن سليم بن جابر.
(2) فتح الباري: (10 / 263).(1/10)
وقال العلامة ابن العربي (1) ~: لا يجوز للرجل أن يتجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجرُّه خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظًا؛ ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكمًا أن يقول لا أمتثله لأن العلة ليست فِيّ، فإنها دعوى غير مُسَلَّمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره (2) . اهـ.
وَسُئِلَ الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية ~: عن طول السراويل إذا تَعدَّى عن الكعب، هل يجوز ؟
فأجاب : طول القميص والسراويل وسائر اللباس، إذا تعدَّى ليس له أن يجعل ذلك أسفل من الكعبين، كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن النبي ص، وقال : ( الإسبال في السراويل والإزار والقميص ) . يعني نهى عن الإسبال . اهـ من مجموع الفتاوى.
وقال العلامة الألباني ~: والرجل مأمور بأن يشَمِّر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين، ولهذا لما نهى ص الرجال عن إسبال الإزار، وقيل له: فالنساء ؟ قال: "يرخين شِبرًا"؛ قيل له: إذن تنكشف سوقهن. قال: "ذراعًا لا يزدن عليه". قال الترمذي: (حديث صحيح) (3) . اهـ
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن محمد الاشبيلي. توفي بمدينة فاس سنة 543 هـ كما جاء في شذرات الذهب (4/141). قال عنه ابن كثير رحمه الله: (الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، شارح الترمذي، كان فقيها عالمًا، وزاهدًا عابدًا، وسمع الحديث بعد اشتغاله في الفقه، وصَحِب الغزالي وأخذ عنه، وكان يتهمه برأي الفلاسفة، ويقول: دخل في أجوافهم فلم يخرج منها. والله سبحانه أعلم. اهـ. (البداية والنهاية)، (12/285). قلت: فرحم الله ابن العربي لا النكرة الملحد الصوفي. ...
(2) فتح الباري (10/275).
(3) انظر: (جلباب المرأة المسلمة) للألباني، (ص:152).(1/11)
وقال العلامة عبد العزيز بن باز ~: والإسبال من جملة المعاصي التي يجب تركها والحذر منها؛ لقول النبي ص: "ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار" رواه البخاري في صحيحه، وما سوى الإزار حكمه حكم الإزار، كالقميص، والسراويل، والبشت ونحو ذلك، وقد صح عن رسول الله ص أنه قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". أخرجه مسلم في صحيحه.
وإذا صار سحبه للإزار ونحوه من أجل التكبر، صار ذلك أشد في الإثم وأقرب إلى العقوبة العاجلة؛ لقول النبي ص: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة". والواجب على كل مسلم أن يحذر ما حرم الله عليه من الإسبال وغيره من المعاصي. اهـ. من (فتاوى ومقالات العلامة ابن باز).
وسُئِلَ ~: ما حكم إطالة الثوب إن كان للخيلاء، أو لغير الخيلاء؟ وما الحكم إذا اضطر الإنسان إلى ذلك سواء إجبارًا من أهله إن كان صغيرًا، أو جَرَت العادة على ذلك؟(1/12)
الجواب: حكمه التحريم في حق الرجال، لقول النبي ص: "ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار". رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم في الصحيح عن أبي ذر ? قال: قال رسول الله ص: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". وهذان الحديثان وما في معناهما يعُمَّان من أسبل ثيابه تَكَبُّرًا أو لغير ذلك من الأسباب، لأنه ص عمَّمَ وأطلق، ولم يقيد، وإذا كان الإسبال من أجل الخيلاء صار الإثم أكبر، والوعيد أشد؛ لقوله ص: "ومن جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة". ولا يجوز أن يظن أن المنع من الإسبال مقيد بقصد الخيلاء؛ لأن الرسول لم يقيد ذلك - عليه الصلاة والسلام - في الحديثين المذكورَين آنفا، كما أنه لم يقيد ذلك في الحديث الآخر وهو قوله لبعض أصحابه: "وإياك والإسبال فإنه من المخيلة"؛ فجعل الإسبال كله من المخيلة، لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك، ومن لم يسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك، والوسائل لها حكم الغايات، ولأن ذلك إسراف وتعريض لملابسه للنجاسة والوسخ، ولهذا ثبت عن عمر ? أنه لما رأى شابًّا يمس ثوبه الأرض قال له: ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك.(1/13)
أما قوله لأبي بكر الصديق ? لما قال: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده؛ فقال له ص: "إنك لست ممن يفعله خيلاء"؛ فمراده ص أن من يتعاهد ملابسه إذا استرخت حتى يرفعها لا يعد ممن يجر ثيابه خيلاء لكونه لم يسبلها، وإنما قد تسترخي عليه فيرفعها ويتعاهدها، ولا شك أن هذا معذور، أما من يتعمد إرخاءها سواء كانت بشتا أو سراويل أو إزارًا أو قميصًا فهو داخل في الوعيد، وليس معذورًا في إسباله ملابسه، لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال نعمة بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها؛ فالواجب على كل مسلم أن يحذر الإسبال وأن يتقي الله في ذلك، وألا تنزل ملابسه عن كعبه عملا بهذا الحديث الصحيح، وحذرًا من غضب الله وعقابه. والله ولي التوفيق. اهـ. من (فتاوى ومقالات العلامة ابن باز).
قال العلامة ابن عثيمين ~: وإسبال الثياب يقع على وجهين:
الوجه الأول: أن يجر الثوب خيلاء.
الوجه الثاني: أن ينزل الثوب أسفل من الكعبين من غير خيلاء.
أما الأول: وهو الذي يجر ثوبه خيلاء، فإن النبي ص ذكر له أربع عقوبات والعياذ بالله: لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، - يعني نظر رحمة - ولا يزكيه، وله عذاب أليم. أربع عقوبات بها المرء إذا جر ثوبه خيلاء، ولما سمع أبو بكر بهذا الحديث قال: يا رسول الله (إن أحد شقي إزاري يسترخي عَلَيّ إلا أن أتعاهده) يعني فهل يشملني هذا الوعيد؟ فقال ص: "إنك لست ممن يصنع هذا خيلاء" فزكاه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا يصنع هذا خيلاء. وإنما العقوبة على من فعله خيلاء.(1/14)
أما من لم يفعله خيلاء فعقوبته أهون؛ ففي حديث أبي هريرة ? أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ما أسفل من الكعبين ففي النار" ولم يذكر إلا عقوبة واحدة، ثم هذه العقوبة أيضًا لا تعم البدن كله، إنما تختص بما فيه المخالفة، وهو ما نزل من الكعب، فإذا نزل ثوب الإنسان، أو مشلحه، أو سرواله إلى أسفل من الكعب فإنه يعاقب على هذا النازل بالنار، ولا يشمل النار كل الجسد إنما يكوى بالنار والعياذ بالله بقدر ما نزل.
ولا تستغرب أن يكون العذاب على بعض البدن الذي حصلت فيه المخالفة؛ فإنه ثبت في الصحيحين أن النبي ص رأى أصحابه توضؤا ولم يسبغوا الوضوء، فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار" فهنا جعل العقوبة على الأعقاب، يعني العراقيب التي لم يسبغوا وضوءها، فالعقاب بالنار يكون عامًّا كأن يحرق الإنسان كله بالنار والعياذ بالله، ويكون في بعض البدن الذي حصلت فيه المخالفة، ولا غرابة في ذلك.
وبهذا نعرف قول النووي ~ بتحريم الإسبال خيلاء وكراهيته لغير الخيلاء، والصحيح أنه حرام سواء أكان لخيلاء أم لغير خيلاء، بل الصحيح أنه من كبائر الذنوب، لأن كبائر الذنوب: كل ذنب جعل الله عليه عقوبة خاصة به. وهذا عليه عقوبة خاصة؛ ففيه الوعيد بالنار إذا كان لغير الخيلاء، وفيه وعيد بالعقوبات الأربع إذا كان خيلاء، لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم (1) .اهـ
وَسُئِلَ ~: عن حكم الإسبال؟
فأجاب بقوله: إسبال الثوب على نوعين:
أحدهما: أن يكون خيلاء وفخرًا؛ فهذا من كبائر الذنوب وعقوبته عظيمة، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي ص قال: "من جَرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".
__________
(1) انظر: (شرح رياض الصالحين)، باب: صفة طول القميص، والكُم، والإزرار، وطرف العمامة، وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء، وكراهته من غير خيلاء.(1/15)
وعن أبي ذر الغفاري ? أن النبي ص قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله ص ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف والكذب".
فهذا النوع هو الإسبال المقرون بالخيلاء، وفيه هذا الوعيد الشديد: أن الله لا ينظر إلى فاعله، ولا يكلمه، ولا يزكيه يوم القيامة، وله عذاب أليم. وهذا العموم في حديث أبي ذر ? مخصص بحديث ابن عمر ? فيكون الوعيد فيه على من فعل ذلك خيلاء؛ لاتحاد العمل والعقوبة في الحديثين.
النوع الثاني من الإسبال: أن يكون لغير الخيلاء، فهذا حرام، ويُخْشَى أن يكون من الكبائر، لأن النبي ص توعد فيه بالنار؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ? أن النبي ص قال: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار". ولا يمكن أن يكون هذا الحديث مخصصًا بحديث ابن عمر ?؛ لأن العقوبة مختلفة، ويدل لذلك حديث أبي سعيد الخدري ? قال: قال رسول الله ص: "أزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج..."، أو قال: "لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك فهو في النار، ومن جر إزاره بطرًا لم ينظر الله إليه". رواه مالك، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه. ففرَّق النبي ص بين: من جر ثوبه خيلاء، ومن كان إزاره أسفل من كعبيه.
لكن إن كان السروال ينزل عن الكعبين بدون قصد، وهو يتعاهده ويرفعه فلا حرج، ففي حديث ابن عمر السابق أن أبا بكر ? قال: يا رسول الله: إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي ص: "لست ممن يصنعه خيلاء" رواه البخاري. اهـ. من (فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين).
وسئل ~: عن رجل يجعل ثيابه تحت الكعبين ولكن ليس بقصد الخيلاء والكبر، فهل عليه وزر في ذلك؟(1/16)
فأجاب بقوله: عليك وزر إذا نزل ثوبك أو سراويلك إلى ما تحت الكعبين؛ لقول النبي ص "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" ولم يقيده بالخيلاء. اهـ. من (فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين).
وقال معالي الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: المهم أنّ الواجب على كل مسلم أن لا يُسدِل إزاره لما تحت الكعبين، ولا ثوبه، ولا رداءه؛ بل هذا يحرم عليه، وهو من كبائر الذنوب إذا استدام، وأعظم منه أن يفعل ذلك خيلاء، يعني تكبّرًا وطلبًا للرِّفعة؛ فإن هذا أعظم.
وأهل العلم اختلفوا؛ هل يُحمل حديث "ما تحت الكعبين من الإزار في النار" على حديث "من جرّ إزاره خيلاء" أم أن يكون هذا له باب، وهذا له باب؟
على قولين: والمعروف عند جمهور العلماء: أن حديث "من جرّ إزاره خيلاء" هو الأصل، و"ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار" محمولا على من فعله خيلاء، ليجمعوا بين الحديثين، وهذا قول الجمهور، ومنهم الحنابلة.
وقد كان أيوب السختياني فيما رواه عنه عبد الرزاق بإسناد صحيح: كان يُسدل إزاره. والإمام مالك أيضًا ربما فعله، وقد قيل لأيوب: أليس هذا من الخيلاء؟ فقال كانت الخيلاء في جرّ الإزار، والخيلاء اليوم في التشمير.
وهذا ليس بصحيح، ولكنه فعل لبعضهم، لهذا كان الإمام أحمد، وعدد من الأئمة، وهو الذي عليه أصحاب المذاهب أنّ الجر لغير خيلاء أو إسبال الإزار أو الرداء لغير خيلاء مكروه فالأفضل تركه، وأما جرّه للخيلاء فهو المحرم، حملا للحديثين بعضهما على الآخر، لأنّ الأحاديث يفسّر بعضها بعضا.
والقول الثاني: أن الإزار أو الرداء في الإسبال أو الجر محرّم مطلقًا، فإن كان لغير خيلاء فهو في النار، وإذا كان لخيلاء فالإثم أعظم لما رُتّب عليه في قوله: "من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، وهذا له باب، يعني هذا له باب، والحديث الآخر له باب، ولا يندرج عليه حمل المطلق هنا على المقيد، لعدم اتحاد الأثر فيهما أو السبب فيهما.(1/17)
المقصود من هذا: أنه يجب على المسلم أن يتعاهد ذلك، ويُخشَى عليه أن يكون مرتكبًا لكبيرة، وإذا كان مرتكبًا لكبيرة في جرّ الإزار أو الإسبال، فإنه لا يُرجى له تكفير الصغائر، ولا يُرجى له أن تكون الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما؛ لأن فيه "ما اجتنبت الكبائر" فينبغي، بل يجب عليه أن يحذر أشدّ الحذر من هذا (1) . اهـ.
***
فصل
صلاة المُسبِل، إمامًا كان أو مأمومًا
إن الصلاة من أعظم العبادات وأجلِّها، وهي الركن الثاني بعد الشهادتين، وبصلاحها يصلح كل عمل، وبفسادها يفسد سائر العمل. لذا كان على المسلم أن يعتني بها اعتناءً بالغًا، وكما يؤدي قيامها وركوعها وسجودها...الخ؛ فيجب أن يعرف مبطلاتها وما ينبغي أن يلبسه فيها، فلا يكشف فيها عورةً، ولا يلبس فيها لباسًا مُحَرَّمًا (كأن يكون لباسًا ضَيقًا يصف العورة أو يشفَّها، أو لباسًا مُسبَلا)، ولا يصلي بثوب به نجاسة، بل يجب أخذ الزينة عند كل مسجد كما قال بذلك رب العزة جل جلاله.
ولكي تُقبل الصلاة عند الله عز وجلّ على أتمِّ وجه، لابد أن يعتني المسلم بما يلبسه فيها؛ وقد عرفنا حرمة الإسبال خارج الصلاة، فمن باب أولى ألا يُسبِل المسلم داخل الصلاة.
سُئِلَ العلامة ابن عثيمين ~: إذا كان الثوب نازلاً عن الكعبين فهل تصح الصلاة فيه؟
فأجاب بقوله: إذا كان الثوب نازلاً عن الكعبين فإنه مُحَرَّم؛ لقول النبي صلي الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار". وما قاله النبي صلي الله عليه وسلم في الإزار فإنه يكون في غيره.
وعلى هذا يجب على الإنسان أن يرفع ثوبه وغيره من لباسه عما تحت كعبيه، وإذا صلَّى وهو نازل تحت الكعبين فقد اختلف أهل العلم في صحته:
فمنهم من يرى أن صلاته صحيحه؛ لأن الرجل قد قام بالواجب وهو ستر العورة.
__________
(1) هذا جواب معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله عن سؤال ألقي عليه في (الدرس: 50) من: (شرح العقيدة الطحاوية).(1/18)
ومنهم من يرى أن صلاته ليست بصحيحه؛ وذلك لأنه ستر عورته بثوب مُحَرَّم.
وجعل هؤلاء من شروط الستر أن يكون الثوب مباحًا. فالإنسان على خطر إذا صلى في ثياب مُسبَلَة؛ فعليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يرفع ثيابه حتى تكون فوق كعبيه. اهـ. من (فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين).
وأما الإمام الذي يصلي بالناس وهو مُسبِل فهو أيضًا على خطر، بل قد يكون أشدّ خطرًا لأنه به الناس يقتدون.
وللجواب عن حكم صلاته؛ قال العلامة ابن عثيمين ~: وإذا كان الإسبال حرامًا فإن أهل العلم اختلفوا في صلاة المسبل؛ فبعض أهل العلم يرى أن صلاته تبطل؛ لأن مِن شَرْطِ الساتر أن يكون مباحًا, ساترًا، طاهرًا؛ فالمُحَرَّم لا يحصل الستر به؛ لأنه ممنوع من لبسه, والنجس لا يحصل الستر به؛ لأنه يجب اجتناب النجاسة, والشفاف لا يحصل الستر به كما هو ظاهر.
وقال بعض العلماء: إن صلاة المسبل تصح, ولكن مع إصراره على ذلك يكون فاسقًا, وإمامته لا تصح عند بعض العلماء, ولكن إذا وجدته يصلي فادخل معهم والإثم عليه, وأنت صلاتك صحيحة؛ لأن من صحت صلاته صحت إمامته. اهـ. من (فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين).
فصل
نصيحة للخَيَّاط (التَّرْزِي)
أخي الخيَّاط (الترزي): اعلم - أرشدك الله لطاعته - أن الله جل وعلا بيده الأمر كله، ولا يملك لك أحدٌ من الله شيئًا. واعلم أن تقوى الله عز وجل سبب لزيادة الرزق، وأن المعصية سبب لنقمة الله وغضبه، وسبب للحرمان من الرزق. وأنت إذا لم تُطِب مطعمك، واكتسبته من حرام فإن الله تعالى لن يبارك فيه ولو كان كثيرًا، وإذا تحرَّيْتَ الحلال في رزقك بارك الله لك فيه ولو كان قليلا.
ومما يجب عليك أن تجتنبه في مهنتك الكريمة ألا تفصّل وتصنع ما يصف العورات ويجسِّمها، أو يشفّ الجسد من تحته.(1/19)
فإذا لم تجتنب ذلك كنت مُروِّجًا وناشِرًا للحرام بين المسلمين، وأخذت آثام من تَبِعَك؛ فانظر إلى قول النبي ص حيث قال: "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا". ومما يجب أن تجتنبه كذلك تفصيل وصناعة الألبسة المُسبَلة؛ فيجب أن تتحرّى ذلك أعظم تحرٍّ؛ حتى لا تأخذ آثام من تَبِعَك، وحتى لا تكون مشاركًا في الإثم؛ فالله عز وجل يقول:
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [سورة المائدة].
ثُم تأمّل ما قاله العلامة ابن عثيمين ~ حينما سُئِل، هل يجوز للخيّاط أن يُفَصّل للرجال ثيابًا تنزل عن الكعبين؟
فأجاب بقوله: لا يحل لصاحب محل الخياطة أن يفصِّل للرجال ثيابًا تنزل عن الكعبين، لأن إسبال الثياب عن الكعبين من كبائر الذنوب.
فقد صح عن النبي ص: "أن ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار". وهذا وعيد وتحذير، وكل ذنب فيه وعيد فإنه من الكبائر.
ومَنْ فَصَّل للرجال ثيابًا تنزل عن الكعبين فقد شاركهم في هذه الكبيرة، وله منها نصيب من ذلك، قال تعالى:
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . اهـ من (فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين).
فيا أيها الخيّاط: اعلم أن رزقك لن يأخذه غيرك، وتوكل على الله، وكفى بالله وكيلا، وتذكر قوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } ؟!
وأنت إذا امتنعتَ عن تطويل الثياب، وكنت سببًا لنشر هذه العبادة العظيمة (تقصير الثياب) يؤتيك الله أجرًا عظيمًا؛ فيكتب الله لك أجرك، وأجر من اتبعك. كما أخبر رسول الله ص فقال: "من دعا إلى هُدَى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا".(1/20)
ولا يغرنك من يثبطك ويستهزيء بك؛ فهم الخاسرون وربِّ العالمين.
وهلُمَّ ..هلُمَّ ... أَدخِل نفسك في من يحيون الدِّين، ويحيون سُنة رسول رب العالمين، وانظر لقوله ص: "من سَنَّ في الإسلام سُنة حسنةً؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء". وأسأل الله تعالى أن ييسر لك الأمر كله، وأن يجعل رزقك رغَدًا، ولا يجعل عيشك كَدًّا، إنه سميع مجيب.
***
فصل
شبهات والرد عليها
الشبهة الأولى:
رجل يطيل ثوبه خوفًا من رؤسائه في العمل وضياع الوظيفة؛ فنقول له: اعلم أن الأرزاق بيد الرزاق - سبحانه وبحمده -، يقول تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 58:56].
وإن الله جل وعلا قد كتب رزقك، وقدَّره وأنت في بطن أمِّك؛ فعن ابن مسعود ? قال: حدثنا رسول الله ص، وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يُجمَعُ خَلقُه في بطن أمِّهِ أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمَر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد" (1) .
ولن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها، كما قال رسول الله ص: "يا أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب؛ فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها" (2) .
وهذا الخوف لا يُجيز لك فعل المعصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله.
__________
(1) صحيح: رواه البخاري، ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) صحيح: رواه ابن ماجه، والحاكم وصححه، وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب): صحيح لغيره.(1/21)
كما لابد وأنْ تعْلَم أنَّ الذنوب سبب لحرمان الرزق، وأن طاعة الله وملازمة تقواه سبب لسعة الرزق. يقول الله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 3:2].
فاتق الله ربك، وارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك.
الشبهة الثانية:
رجل يقول: التقصير سنة! فلا بأس لو أطلت الثوب طالما أنه سُنة، ولن أعاقَب على تركها.
فالجواب:
اعلم أن رفع الثوب فوق الكعبين واجب فرض! وليس سُنة، كما تظن أنتَ.
وأما السُّنة: رفع الإزار إلى نصف الساق.
وهذه السُّنة مستحبة، مخيرٌ أنت فيها، إن شئت فعلتها وإن شئت تركتها.
والمستحب في تعريف أهل الأصول:
(هو ما يُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه).
وأما الواجب الذي عليك الإتيان به ألا ترخي ثيابك تحت الكعبين؛ لقوله ص: "وَلا حَقَّ لِلْكَعْبَيْنِ فِي الإِزَارِ" (1) . فاتق الله ربك، وارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك.
الشبهة الثالثة:
يحتج البعض بحديث أبي بكر الصديق، والبعض يحمله على أن الإسبال من غير الخيلاء مكروه.
الجواب:
أن هذا بعيدٌ جدًّا؛ لأن أبا بكر لم يتعمد الإسبال، ولم يسأل عن ذلك، وإنما سأل عن الإسبال رغمًا عنه! ودون عِلم منه، ودون قصد؛ لأن أبا بكر ? كان حريصًا على إصلاحه، إلا أن الإزار يسترخي منه، وذلك لشدة نحافة جسمه ?، وهذا حال من يتعاهد ملابسه إذا استرخت حتى يرفعها، لا يُعَد ممن يجر ثيابه خيلاء لكونه لم يسبلها باختياره، وإنما قد تسترخي عليه فيرفعها ويتعاهدها، ولا شك أن هذا معذور؛ لأن أصل ثيابه قصيرٌ غير مُسْبَل.
__________
(1) صحيح: رواه النسائي، وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي).(1/22)
أمَّا من يتعمَّد إرخاءها فهو داخل في الوعيد، وليس معذورًا في إسباله. وقد سبق جواب أهل العلم وأقوالهم حول هذه الشبهة؛ فلتُرَاجَع لمن أراد الحق.
ولمزيد فائدة: نذكر ما يعضد ما سبق ويؤيد؛ ففي جواب للعلامة ابن باز ~ قال فيه:
وأما ما ثبت عن الصديق ? أنه قال للنبي ص: (إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده) فقال له النبي ص: "إنك لست ممن يفعله خيلاء" فالمراد بذلك: أن من استرخى إزاره بغير قصد وتعاهده وحرص على رفعه لم يدخل في الوعيد، لكونه لم يتعمد ذلك، ولم يقصد الخيلاء، ولم يترك ذلك، بل تعاهد رفعه وكفه. وهذا بخلاف من تعمد إرخاءه فإنه متهم بقصد الخيلاء، وعمله وسيلة إلى ذلك. والله سبحانه هو الذي يعلم ما في القلوب.
والنبي ص أطلق الأحاديث في التحذير من الإسبال، وشدَّدَ في ذلك، ولم يقل فيها: إلا من أرخاها بغير خيلاء.
فالواجب على المسلم أن يَحْذَر مَا حرَّم الله عليه، وأن يبتعد عن أسباب غضب الله، وأن يقف عند حدود الله، يرجو ثوابه، ويخشى عقابه؛ عملا بقول الله سبحانه وتعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، وقوله عز وجل: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه، وصلاح أمرهم في دينهم ودنياهم، إنه خير مسئول.اهـ. من (فتاوى ومقالات العلامة ابن باز).
و سُئِلَ العلامة ابن عثيمين ~: كيف يُجَاب من احتج بحديث أبي بكر ?؟
فقال ~: وأما من احتج علينا بحديث أبي بكر ? فنقول له: ليس لك حجة فيه من وجهين:(1/23)
الوجه الأول: أن أبا بكر ? قال: (إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ..). فهو ? لم يُرخِ ثوبه اختيارًا منه، بل كان ذلك يسترخي، ومع ذلك فهو يتعاهده، والذين يسبلون ويزعمون أنهم لم يقصدوا الخيلاء يرخون ثيابهم عن قصد، فنقول لهم: إن قد تم إنزال ثيابكم إلى أسفل من الكعبين بدون قصد الخيلاء عُذِّبتم على ما نزل فقط بالنار، وإن جررتم ثيابكم خيلاء عُذِّبتم بما هو أعظم من ذلكم: لا يكلمكم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليكم، ولا يزكيكم، ولكم عذاب أليم.
الوجه الثاني: أن أبا بكر ? زَكَّاهُ النبي ص، وشَهِد له أنه ليس ممن يصنع خيلاء، فهل نال أحد من هؤلاء تلك التزكية والشهادة؟ ولكن الشيطان يفتح لبعض الناس اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة؛ ليبرر لهم ما كانوا يعملون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، نسأل الله لنا الهداية والعافية. حرر في 29/6/1399 هـ (1) انتهى.
فاتق الله ربك، وارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك.
وبهذا أكتفي في هذا الفصل، سائلا ربي أن يهدي كل عاصٍ، فهو الهادي إلى سواء السبيل.
فصل
الإسبال للمرأة
الإسبال للنساء فرض، ويجب تطويله إلى الأرض؛ بعكس الرجل.
فعن أم سلمة زوج رسول الله ص، قالت لها امرأة: (إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر). قالت: قال رسول الله ص "يطهره ما بعده" (2) .
وقال ص: "من جر ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شِبرًا، فقالت: إذًا تنكشف أقدامهن، قال: فيرخين ذراعًا ولا يزدن عليه". (رواه الترمذي، وهو صحيح).
قال الحافظ ابن حجر: ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة لأن جميع قدمها عورة (3) . اهـ
__________
(1) انظر: (فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين).
(2) صحيح: رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبو داود، والدارمي. وصححه الألباني في: (مشكاة المصابيح).
(3) فتح الباري: (10/ 259).(1/24)
وقال أيضًا ~: وكذلك للنساء حالان: حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشِّبر، وحال جواز بقدر ذراع (1) .اهـ.
أما في هذا الزمان انقلب العالمين، إلا من رحم رب السماوات والأرضين؛ فأصبح المُشَاهَد: الرجل يسبل ثوبه، والمرأة ترفع ثوبها!، والعجيب: أن الرجل هو الذي يُنكَر عليه تقصير ثوبه، وتُحمَد المرأة لذلك.
وقد قرأت كلمة لأحد القُدَامى يقول: (كل عام تدفع المرأة ثمنًا أكثر في ثوب أقل!). وهذا صحيحٌ حاصلٌ؛ فاللهم رحماك.
***
فصل
تَذكِيرٌ للمُسْبِلين
يا من ابتليتم بالإسبال: أمرُ الإسبال جدُّ خطير، يجب عدم التهاون به كما لم يتهاون به الصحابة ش.
ولكم في قصة مقتل عمر بن الخطاب ? درس عظيم، حيث جاء رجل شاب بعد طَعْنِ عُمر فأثنى عَلَيه خيرًا، فلمَّا أدبر إذا إزاره يمسُّ الأرض، قال عمر: ردُّوا عليَّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك (2) .اهـ.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) الرواية صحيحة: ذكرها البخاري في (صحيحه برقم: 3479) بتمامها من رواية عمرو بن ميمون. وأذكر جزءًا منها للفائدة، يقول عمرو بن ميمون بعد أن طُعِنَ عُمر: (فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذٍ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه، فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس، فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله ص، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا عَلَيَّ ولا لِي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: رُدُّوا عَلَيَّ الغلام، قال: ابن أخي ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك. إلى آخر القصة؛ فرحم الله أمير المؤمنين، ورضي عنه.(1/25)
الله أكبر..!! وهو يغادر الدنيا لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لو كان في زماننا لقاولوا: الآن والأمة في خطر، وتحترق، والأعداء يتكالبون علينا!، أو لقال آخرون: لا تكن متزمتًا؛ الأمر فيه سَعة!.
فأقول: أين فقه عمر من فقه هؤلاء؟؟!! فوالله ما نرى هذه الاجتهادات إلا من مداخل الشيطان.. والله المستعان. إن الأمة ستحترق، نعم؛ إن تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } .
...
ملخص الرسالة
لا فرق بين الإسبال للخيلاء أو لغير الخيلاء؛ للأحاديث المتقدمة، فالكُلُّ يسمَّى إسبالا!، وإنما الفرق في الحكم، وإثم الخيلاء يكون أكبر من الذي يسبله دون قصد الخيلاء، أو عادةً، كما يقولون.
وعقوبة قَصْد الخيلاء:
1- أن لا ينظر الله إليه يوم القيامة.
2- ولا يكلمه.
3- ولا يزكيه.
4- وله عذابٌ أليم.
وأما إذا لم يقصد به الخيلاء، وَفَعَلَه عادةً:
أن يعذَّب بالنار في ما نزل من الكعبين؛ نسأل الله السلامة والعافية.
فالمسبل على كل حال مأزور وليس بمأجور!.
ويَحْرُم الإسبال للأمور التالية:
- الوعيد بالنار لمن أسبل للخيلاء، ولغير الخيلاء كما تقدم.
- الأمر برفع الثوب إلى نصف الساق، أو فوق الكعبين.
- أننا مأمورون بالاقتداء بالنبي ص، وكان ثوبه إلى نصف ساقيه، كما تقدم. وانظر: (الشمائل المحمدية) للإمام للترمذي.
- أن إطالة الثوب مظنّة الخيلاء، وذريعة إلى الخيلاء، وقد جاءت الشريعة بسد ذرائع المحرمات.
- أن الإسبال تشبه بالنساء؛ لأن الأصل في النساء إطالة الثوب، لا كما يفعلنه من تقصير ثيابهن. وهُنَّ بهذا قد وقعن في التشبه بالرجال!!.(1/26)
- أن الإسبال فيه إسراف؛ فالذي يُسبل ثيابه يستعمل قِماشًا أكثر من الذي يقصر ثوبه.
- أن المسبل لا يأمن تعلق النجاسة بثوبه، وإذا مَرَّ بنجاسة على الأرض فإنه يرفع ثوبه! وهذا مما يدل على أنه على عِلمٍ بتأثر ثوبه بالنجاسات إن تركه مُسْبَلاً.
خاتمة
أيها المسلم الحريص على طاعة الله ورسوله ص .. ما جاء من الوعيد الشديد في حق المسبل خطير جد خطير.
ومع ذلك نرى بعض المسلمين لا يهتم به؛ فيترك ثوبه ينزل عن الكعبين وربما يلامس الأرض، وهو لا يبالي.
وهذا منكر فظيع، ومُحرّم شنيع، من كبائر الذنوب.
فيجب على من فعل ذلك أن يتقي الله ويتوب إليه، ويرفع ثوبه إلى الصفة المشروعة؛ حذرًا من غضب الله وعقابه.
فإن الله تعالى يتوب على من تاب، ويغفر لمن استغفر وأناب، وهو الرحيم التواب.
وحريٌّ بالمؤمن أن يقول: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } .
وقد تقدّمت صفة لباس النبي ص بين يديك، وأصبح هديه في ذلك لا يخفى عليك؛ فسارع إلى رحاب الخير ملتزمًا، واصدع بما آتاك الله من الفهم تأثُّمًا.
هذا ما تيسر، وهو جهد المقل. واللهَ أسأل الإخلاص والقبول، والنفع لكل من قرأ، أو نظر.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد خير خلق الله، وعلى آل بيته وصحابته ومن اتبع هداه.
وكتب
الفقير إلى عفو ربه القدير
أَحْمَدُ بْنُ فَتْحِيِّ الزَّيْنِيِّ
سامحه الله
الفهرس
مقدمة فضيلة الشيخ سليم الهلالي حفظه الله ... 3
المقدمة ... 3
فصل حرمة مخالفة أمر الله ورسوله ... 3
فصل معنى الإسبال ... 3
فصل معنى الكعب والفرق بينه وبين العَقِب ... 3
فصل ذم الإسبال، وما جاء فيه من وعيد ... 3
فصل حَدُّ ما يرخيه الرجل من لباسه، وبيان المستحب منه والواجب ... 3
فصل أقوال أهل العلم وآراؤهم ... 3
فصل صلاة المُسبِل، إمامًا كان أو مأمومًا ... 3
فصل نصيحة للخَيَّاط (التَّرْزِي) ... 3
فصل شبهات والرد عليها ... 3(1/27)
فصل الإسبال للمرأة ... 3
فصل تَذكِيرٌ للمُسْبِلين ... 3
ملخص الرسالة ... 3
خاتمة ... 3
الفهرس ... 3
عن أم المؤمنين عائشة ? قالت:
سمعت رسول الله ص يقول: "مُرُوا بالمعروف وانْهَوْا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم".رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني.
فجزى الله خيرًا من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر بنشر هذه الرسالة أو توزيعها؛ تذكيرًا للأمة، وتبرئةً للذِّمَّة
حقوق الطبع محفوظة
لكل مسلم بشرط الرجوع للمؤلف.(1/28)