|
المؤلف : الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد
(1333هـ -1408هـ)
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
إتحاف الرشيد
برسائل الشيخ
عبدالعزيز بن ناصر الرشيد
(1333هـ -1408هـ)
رحمه الله وغفر له
-إعتنى بها -
عبدالمصور السني
-عفا الله عنه-
Alsunney9000@gawab.com
ترجمة المؤلف
ميلاده ونشأته في طلب العلم:
ولد الشيخ الجليل العلامة عبدالعزيز الناصر الرشيد عام 1333هـ في مدينة الرس إحدى مدن منطقة القصيم من أبوين كريمين، فأبوه الرجل الفاضل ناصر العبدالله الرشيد أحد أعيان ووجهاء الرس ـ ووالدته منيرة المحسن الخليفة من أسرة الخليفة من تميم، وفي بواكير نشأته ومطلع صباه بدأ عليه النبوغ المبكر والذكاء الفطري الوقاد فوفق في استغلالهما من أجل طلب العلم والمعرفة منذ الصغر، فأخذ مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم من أشهر الكتاتيب المحيطة به، ومن ثمَّ بدأ يتلقى العلم من منابعه الثرة العذبة على يد شيخين جليلين هما عمه قاضي الرس ونواحيها في ذلك الوقت الشيخ محمد بن عبدالعزيز الرشيد والشيخ إبراهيم الضويان صاحب موسوعة ـ منار السبيل ـ وبطموحه وحرصه في الاستزادة من طلب العلم في جميع فروعه وتخصصاته في الشريعة واللغة وغيرها شد الرحال وهو في ريعان شبابه إلى الرياض عام 1353هـ فأخذ يتلقى العلم بنهم وجلد على يد علمائها الأجلاء المشهورين وفي مقدمتهم سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم وشقيقه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهم. وفي مطلع عام 1385هـ انتقل إلى مكة المكرمة فتلقى فيها قسطاً وافراً من العلوم من علماء الحرم المكي الشريف، ولحصيلته الزاخرة من العلوم الشرعية تم تكليفه مع نخبة مختارة من أمثاله بمهام الوعظ والإرشاد والتدريس في أروقة الحرم المكي، ونظراً لكفاءته ونبوغه وتميزه ُكلف أيضاً وهو في مطلع شبابه بالتدريس بالمعهد السعودي بمكة واستمر بهذه المهام يقوم بها خير قيام حتى تاريخ نقله لسلك القضاء، حيث تم تكليفه وندبه قاضياً شرعياً لبلاد غامد وزهران ـ منطقة الباحة حالياً ـ وسوف نتطرق
(1/1)
بالتفصيل في موضع آخر من المقال لتاريخ ومسلسل حياته العلمية والوظيفية ـ في القضاء والتدريس والإفتاء ورئاسته لتعليم البنات.
مؤلفاته:
رغم شغف العلامة الجليل بالقراءة والاطلاع طوال حياته وحرصه على الاضطلاع بواجباته الوظيفية المتعددة في القضاء والتدريس الجامعي وعضوية دار الإفتاء، ومن ثمَّ رئيساً عاماً لتعليم البنات. وأخيراً رئيساً عاماً لهيئة التمييز، فإن هذه المهام الجسام وغيرها لم تشغله عن التأليف والكتابة والمشاركة في المجالس العلمية والمحاضرة فيها والرد على إجابات السائلين في منزله بعد صلاة العصر يومياً وفي برنامج (نور على الدرب) فقد سطر بأحرف من نور مكانته في المؤلفات الرصينة التي أثبتت على الدوام باعه الطويل في مجال التأليف ومدى غزارة علمه نذكر من هذه المؤلفات ما يلي:
1- عدة الباحث في أحكام التوارث: وهو كتاب قيم في علم الفرائض ألفه قبل خمسين عاماً لطلبته في المعهد العلمي ولا زال مقرراً دراسياً في المعاهد العلمية وطُبع أكثر من عشرين مرة.
2- التنبيهات السنية في شرح العقيدة الواسطية. (يعتبر من أفضل شروح الواسطية)
3- إفادة السائل في أهم الفتاوى والمسائل ـ الجزء الأول. (وقد ألحق به اربع رسائل افردتها هنا)
4- القول الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
5- تفسير آيات الأحكام ـ خمسة أجزاء ـ لم يطبع بعد.
6- وهناك الكثير من المؤلفات والمحاضرات والبحوث العلمية القيمة التي كتبها.
وعندما تأخذ ما تستحق من التنظيم والتنسيق فسوف تأخذ طريقها للطبع والنشر بإذن الله تعميماً لفائدتها والحاجة الماسة إليها.
أوليات في حياته العملية والعلمية:
(1/2)
1- من أوائل من تولى القضاء في ريعان شبابه، حيث عهد إليه الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ مهام القضاء في منطقة الباحة ـ قاعدة بلاد غامد وزهران. وذلك قبل ستين عاماً وكان حينها ـ رحمه الله ـ لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وكان قبل تكليفه بالقضاء يعمل مدرساً مرشداً بالحرم المكي الشريف، وإلى جانب ذلك كان يزاول التدريس بالمعهد السعودي بمكة الذي يتيح لخريجيه وحدهم في ذلك الوقت الابتعاث لاستكمال دراستهم التخصصية خارج المملكة.
2- عندما تأسس المعهد العلمي بالرياض عام 1371هـ كان فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن رشيد أول مدرس سعودي يتم تكليفه بالتدريس بهذا المعهد لكفاءته وقدرته إلى جانب المعلمين الأكفاء الذين تم التعاقد معهم من كبار علماء الأزهر الشريف ومن سورية وغيرها، وهو أيضاً أول مدرس سعودي يتم تكليفه بالتدريس في كلية الشريعة واللغة عند تأسيسها عام 1373هـ.
3- عندما عقد ولاة الأمر العزم على تأسيس جهاز كبير يتولى شؤون تعليم الفتاة السعودية لتنال نصيبها من العلم والثقافة كان الشيخ العلامة ابن رشيد في نظر ولاة الأمر هو المؤهل لهذه المهمة الكبيرة الجليلة، حيث عين أول رئيس عام لرئاسة تعليم البنات في المملكة عام 1380هـ وقام بالواجبات الموكلة إليه خير قيام من واقع تخطيط مدروس قائم على أسس صلبة وقوية وسليمة وفق ثوابت هذا الوطن المبنية على تعاليم الدين الحنيف. وكان بعد صدور الأمر السامي الكريم بتعيينه قد اختار إلى جانبه نخبة مؤهلة وكوكبة لامعة من خيرة الشباب المثقف الواعي المتسلح بسلاح العلم والأخلاق والتربية الإسلامية الرفيعة والخبرة الإدارية، مما جعل الرئاسة تتخطى الصعاب وتحقق الأهداف المنشودة في عهد مبكر وتحوز على رضا المسؤولين والمواطنين على حد سواء.
(1/3)
4- حين صدرت الموافقة الكريمة على إنشاء هيئة للتمييز في عاصمة البلاد تكون من مهامها تمييز القضايا والأحكام الصادرة من المحاكم الشرعية بالمملكة وغيرها من الواجبات ونظراً لمكانة الشيخ عبدالعزيز العلمية وخدمته الطويلة في سلك القضاء والتعليم العالي وعضويته في دار الإفتاء برئاسة سماحة مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم ال الشيخ ـ رحمه الله ـ فقد رأى ولاة الأمر إسناد رئاسة هذه الهيئة إلى فضيلته، وكان من أعضاء هذه الهيئة في عهده المشايخ: صالح بن علي الغصون، ومحمد البواردي، ومحمد بن إبراهيم بن جبير، ومحمد بن سليم وهم الآن جميعاً في رحاب رب كريم رحيم.
5- كان رحمه الله أول عالم معاصر يقوم بتأليف كتاب ميسر ومقرر معتمد وافٍ لمادة الفرائض هو كتاب عدة الباحث في أحكام الموارث، ولا زال مقرراً على المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منذ تأليفه قبل خسمين عاماً حتى الآن، وقد تمت طباعته أكثر من عشرين طبعة، وتمت ترجمة مادته بإشراف مترجمين كبار إلى اللغات الإنجليزية والأردية والتركية.
6- أول من قام بشرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية شرحاً وافياً في كتاب ـ قوامه أربعمائة صفحة من القطع المتوسط سماه ـ التنبيهات السنية في شرح العقيدة الواسطية. وكان قبل أن يجمعه ويعده للطبع يحاضر بمادته طلبته في كلية الشريعة بالرياض، ومن ثمَّ طلبته في المعهد العالي للقضاء.
العلامة الجليل في نظر معاصريه:
(1/4)
قبل ثلاثة أعوام جمعتني مع معالي الشيخ راشد بن خنين المستشار بالديوان الملكي مناسبة عابرة بطريق المصادفة كانت حافلة بالحديث الشائق المختصر المفيد. لقد خرجنا سوياً بعد صلاة العصر في المسجد النبوي الشريف اجتمعنا بعدها في صالة أحد الفنادق الكبيرة المحيطة بالحرم، دار موضوع الحديث أثناء تلك اللحظات عن أستاذه في كلية الشريعة وزميله فيما بعد في دار الإفتاء قبل أربعين عاماً الشيخ العلامة عبدالعزيز الرشيد فأثنى عليه ثناءً عاطراً مقدراً للشيخ دوره المتميز الفاعل في تخريج وتأهيل كواكب متتالية من طلبة كلية الشريعة بالرياض، ومن ثمَّ المعهد للقضاء العالي، حيث تولت هذه النخبة بعد تخرجها الكثير من المناصب الحيوية المهمة في القضاء وهيئات التمييز ومراكز الحسبة وغيرها من المناصب الرفيعة في أجهزة الدولة.
(1/5)
وفي ختام ذلك اللقاء قال معاليه إن سيرة الشيخ عبدالعزيز تحتاج إلى سجل شامل تطرز فيه أعماله الجليلة وأياديه البيضاء وجهوده المتواصلة طوال سنين خدمته التي تجاوزت خمسين عاماً بلا انقطاع وما قاله الشيخ راشد أضاف إليه معالي الشيخ/ منصور المالك رئيس ديوان المظالم/ أحد تلاميذ الشيخ عبدالعزيز الأوفياء المخلصين، فقد قال لي أكثر من مرة بأن علم الشيخ الغزير في مادة الفقه وقدرته الفائقة والشائقة في تدريسها بشمولية وعمق كان لذلك أكبر الأثر فيما وصل إليه طلابه من التفوق والنجاح في حياتهم الدراسية والعملية،.. وعندما أفضى إلى ما قدم قبل خمس عشرة سنة تبارى رجال العلم والقلم من تلاميذه وزملائه ومحبيه بالثناء عليه وذكر فضائله على العلم والإشادة بما تركه بعده من مؤلفات قيمة، وقد رثاه الكثيرون شعراً ونثراً في معظم صحفنا المحلية ومن خيرة من رثاه في كلمة ضافية شافية تلميذه الدكتور/ صالح بن عبدالله المالك وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية آنذاك عضو مجلس الشورى حالياً.. ولعل النية تتجه بتوفيق الله إلى تأليف كتاب عن حياة الشيخ بجهود ومتابعة أبنائه البررة الذين كما أعرفهم بأنهم معدن الوفاء والبر بوالدهم في حياته وبعد مماته.. وذلك بمشاركة تلامذة الشيخ وزملائه ومحبيه. آملين أن يكلل هذا الجهد بالتوفيق.
وفاته:
(1/6)
قبل فجر يوم الاثنين الموافق 4/3/1408هـ ودع عالمنا الجليل هذه الدنيا الفانية بعد أن أسلم روحه الطاهرة إلى بارئها بعد جهاد طويل متواصل في طلب العلم والمعرفة وحياة حافلة بالعطاء المثمر اليانع المتواصل في خدمة الدين والوطن في مجال التعليم والقضاء والإفتاء والوعظ والإرشاد والتأليف، وقد شهد الصلاة عليه ظهر ذلك اليوم جمع غفير من المصلين من داخل الرياض وخارجها، اكتظ بهم جامع الإمام تركي بن عبدالله يتقدمهم الأمراء والعلماء وطلبة العلم وأهل الخير من يعرفه ومن لا يعرفه وقد أم المصلين عليه رفيق دربه في العلم والعمل سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمهما الله جميعاً، وقد شيعه الآلاف إلى مقبرة العود، حيث دفن هناك وقد عانى في أواخر حياته ـ رحمه الله ـ من بعض الأمراض التي كان يتحملها صابراً محتسباً مما اضطره أخيراً للسفر إلى الخارج بصحبة ابنه البار المهندس/ عبدالله، وبعد استكمال الفحوصات وتحسن صحته عاد إلى أرض الوطن.. ولكن الآلام ما لبثت إلا وعاودته مرة أخرى فأصبح يتلقى العلاج في مستشفياتنا، وظل في منزله يناجي الخالق العظيم يستقبل محبيه وعارفي فضله حتى لقي وجه ربه راضياً مرضياً بإذنه تعالى رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
المصدر:
المجلة العربية العدد 314 السنة 28ربيع الأول 1424 هـ - مايو 2003م
وهناك ترجمة كتبها ابنه منصور بن عبدالعزيز الرشيد:مجلة الحرس الوطني شوال 1421هـ(ص 76 – 77 )
إتحاف الرشيد برسائل الشيخ عبدالعزيز الرشيد -1-
هل تجوز
الأضحية عن الميت؟
للشيخ العلامة عبدالعزيز بن ناصر الرشيد
(1333هـ -1408هـ)
رحمه الله وغفر له
-إعتنى بها -
عبدالمصور السني
-عفا الله عنه-
Alsunney9000@gawab.com
هل تجوز الأضحية عن الميت ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ..
(1/7)
فقد اطلعت على رسالة أملاها صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن محمود رئيس محاكم قطر ذكر فيها أن الأضحية عن الميت لا تجوز وأنها غير شرعية وإنما عليه الناس من علماء وعوام من الأضحية عن الميت والوصية بذلك كله خطأ محض حملهم عليه حسن الظن بمن أفتى بصحة ذلك شيخ الإسلام بن تيميه وغيره من علماء الدعوة إلى آخر ما ذكره .
وقد جرى دراستها فلم أجد فيها ما يصلح مستنداً لما ذهب إليه بل بالعكس فالأدلة التي ذكرها في حكم الأضحية وفضلها والأحاديث التي ذكرها في وصول ثواب العمل المهدى إلى الأموات والنقول التي ذكرها في مشروعية الأضحية عن الأموات فهي تدل والأدلة واضحة على مشروعية الأضحية عن الميت : كالحي وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها .
وأما ما أتى به من قبل نفسه وفسر به بعض الأحاديث وحاول به رد كلام علماء المسلمين في الموضوع فهو عمل خاطئ لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره .
لذا رأيت من المتعين بالتنبيه على ذلك بصورة لوضوح أدلة هذه المسألة فأقول وبالله التوفيق ما أفتى به المذكور خطأ من وجوه عديدة
أولاً : أن الأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع قال الله سبحانه : " فصل لربك وانحر " .
وعن أنس رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ) متفق عليه .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى ) رواه البخاري .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عمل ابن آدم من عمل أحب من إهراق الدم وانه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها , وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفساً " رواه الترمذي وابن ماجه .
(1/8)
عن زيد بن أرقم قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال : سنة أبيكم إبراهيم قالوا فما لنا فيها قال : بكل شعرة حسنة قالوا فالصوف يا رسول الله قال : بكل شعرة من الصوف حسنة " رواه أحمد وابن ماجه .
واختلف العلماء رحمهم الله في حكم الأضحية فقال بعضهم أنها واجبة على الموسر دون المعسر وبه قال ربيعة والأوزعي أو حنيفة وأحمد في رواية وبه قال بعض المالكية واستدلوا على ذلك بالآية السابقة وبما رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) قال ابن عبد الهادي رجاله مخرج لهم في الصحيحين إلا القتباني فعند مسلم .
وقال بعض العلماء أنها مستحبة غير واجبة وبه قال الجمهور ومما استدلوا به على ذلك ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود واللفظ له في حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي ) .
فالتعليق بالإرادة دليل على عدم الوجوب .
ومن أقوى ما يحتج به لعدم الوجوب ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عنه وعن أمته في أحاديث صحيحة وحسنة فأسقط عنهم بذلك الوجوب إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على فضل الأضحية وأنها قربة إلى الله من أعظم القرب في ذلك اليوم .
وصرح ابن القيم رحمه الله بتأكيد سنيتها وان ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بأنه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه واظبوا عليها وعدلوا عن الصدقة بثمنها وهم لا يواظبون إلا على الأفضل .
عن ابن عمر رضي الله عنه قال : أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي . رواه النرمذي وحسنه .
(1/9)
عن ابن عمر رضي الله عنهما سأله رجل عن الأضحية أواجبه هي فقال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فأعادها عليه فقال أتعقل ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون . رواه الترمذي .
ثانياً : إن الأضحية عن الميت كالصدقة عنه وكالحج وهذا جائز شرعاً وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة عنه يصله ثوابها كسائر القرب وأي فرق بين وصول ثواب الصدقة والحج وبين وصول ثواب الأضحية ومن فرق بينهما فقد فرق بين متماثلين " .
وما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب الأضحية واقتضت وصول ثواب بقية الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات إلا أن يقول القائل أن الأضحية ليست بقربه وما أظن أحداً يجرؤ على ذلك لأنه مكابرة , أو ينكر وصول ثواب جميع الأعمال وهذا محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع ذكر معناه ابن القيم رحمه الله ولم يقل بهذا إلا بعض أهل البدع , ولذا ذكرت هذه المسألة في كتب العقائد لبيان الاعتقاد الصحيح والتنفير مما عليه أهل البدع .
وقال الشيخ تقي الدين بن تيميه رحمه الله : من زعم أن الإنسان لا ينتفع بعمل غيره فقد خرق الإجماع من وجوه ثم ساقها رحمه الله وسئل الشيخ تقي الدين عن الأضحية عن الميت فقال يجوز أن يضحي عنه كما يحج عنه أ.هـ
وقال أصحابنا رحمهم الله في كتبهم المختصرة والمطولة وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ومثلوا بالصلاة والصيام والصدقة والحج والأضحية فمنهم من صرح في نفس هذه المسألةبالأضحية كصاحب الإقناع ومنهم من عمم بجميع القرب .
وهذا نص صريح منهم أن من أهدى أضحية أو بعضها كالنصف والثلث والربع وأقل من ذلك أنه يصل إلى الميت وينتفع به وباب الإهداء واسع أي شيء فعله العبد من العبادات وأشرك فيه عدة أشخاص فإن ذلك يصل إليهم إذا قبله الله ويسوغ ولا مانع من ذلك .
(1/10)
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح كبشاً وقال هذا عن محمد وآل محمد فأهدى ثواب الكبش لنفسه وآله الحي منهم والميت نقل الكحال في الرجل يعمل شيئاً من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك ويجعل نصفه لأبيه أو أمه .
فقال : الميت يصل إليه كل شيء من الخير من صدقة أو صلاة أو غيره .
وقال ابن القيم رحمه الله في الهدي: أي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها .
قال صاحب المحرر بعد أن ذكر ما تقدم ذكره عن الأصحاب قال وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى بكبشين الحديث.. قال وهو يدل على أن أمته أحياءهم وأمواتهم قد نالهم النفع والأجر بتضحيته وإلا كان ذلك عبثاً أ .هـ من الفروع .
الواجب الذي قد تدخله النيابة وصدقة التطوع والعتق وحج التطوع فإذا فعلها المسلم وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إجماعاً وكذلك تصل إليه القراءة والصلاة والصيام . أ . هـ .
وقال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح بعد أن ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه قال : وهذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع وصول ثواب سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية فالأنواع الثلاثة ثابتة في النص والاعتبار . أ . هـ .
ثالثاً : إن هذه المسألة مذكورة في كتب أهل العلم نصاً ومن لم ينص على هذه المسألة في هذا الموضع فقد اكتفى بما ذكر في حكم إهداء ثواب القرب إلى الأموات لأنه يشملها ذلك وإلا عد ذاك تناقض ولنذكر شيئاً من عباراتهم الصريحة في هذا الموضوع وطرفا من أدلتهم :
(1/11)
قال في الفروع: واختار شيخنا تفضيل الأضحية عن الميت عن الصدقة بثمنها. وقال صاحب الإقناع: وقال غيره وذبحها ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها وكذا الهدي وصرح به ابن القيم في تحفة المودود لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء ولو كانت الصدقة أفضل لعدلوا إليها .
قال في غنية الألمعي من كتب الحنفية: أن قول من رخص في الأضحية وتعهد له بالإبلاغ والآخر عن نفسه أهل بيته ومعلوم أن كثير من أمته صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أحدهما عن أمته ممن شهد بالتوحيد عن الميت مطابق للأدلة ولا دليل لمن منعها فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال في الإنصاف: شمل قوله وأي قربة فعلها : كالدعاء والاستغفارمن قد ماتوا فدخل في أضحيته الأحياء والأموات من أمته وهذا الكبش الذي يضحي به للأحياء من أمته هو للأموات من أمته إذ لا فرق .أ.هـ .
وقال في رد المحتار لابن عابدين ولو ضحى عن ميت وارثه بأمره أي بأمر الميت في وصيته أو وقف ألزم بالتصدق بها وعدم الأكل منها وإن تبرع بها عن الميت فله الأكل منها لأنها تقع على ملك الحي الذابح والثواب للميت .
وقال في مغني الإفهام : ويسن التضحية عن الميت ويصل ثوابها إليه ويعمل فيها كأضحية الحي وجاز أن يضحي عن أموات عدة بواحدة إذا لم تكن واجبة عن واحدة منهم وعن أحياء وأموات لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح عمن شهد له بالبلاغ . أ.هـ .
(1/12)
وفي الدرر السنية : وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله ولا نعلم ـ أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والأضحية إلا إذا استبان أن الشخص من أصحاب الجحيم .. إلى غير ذلك من عباراتهم الصريحة في شرعية الأضحية عن الميت وأنه يصله ثوابها وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها ومن الأدلة على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد فأتى به ليضحي به فقال يا عائشة هلمي المدية ثم قال اشحذيها بحجر ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبح ثم قال بسم الله اللهم تقبل من محمد ومن أمة محمد ثم ضحى . أخرجه مسلم .
وعن أبي رافع قال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين , فقال أحدهما عمن شهد له بالتوحيد وله بالبلاغ والآخر عنه وعن أهل بيته فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كفانا المؤنة " رواه أحمد وإسناده حسن ورواه البزار واحمد وفيه" أتى بأحدهما وهو في مصلاة فذبحه ثم قال اللهم هذا عن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ" رواه أبو يعلي وإسناده حسن .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى يوم النحر بكبشين أملحين فذبح أحدهما فقال هذا عن محمد وأهل بيته وذبح الأخر فقال هذا عمن لم يضح من أمتي " رواه البزار وأحمد باختصاره ورجاله ثقات .
وقال في كتاب نصب الراية في باب الحج عن الغير
(1/13)
الحديث الأول : روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه ضحي بكبشين أملحين موجؤين أحد هما عن نفسه والأخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله وشهد للنبي صلي الله عليه وسلم بالبلاغ قلت روي من حديث عائشة وأبي هريرة ومن حديث حذيفة بن أسيد ومن حديث أبي طلحة الأنصاري ومن حديث أنس ثم ساق هذه الأحاديث كلها وقال أبو داود في سننه: باب الأضحية عن الميت حدثنا ابن أبي شيبه حدثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش قال رأي عليا يضحي بكبشين فقلنا له ما هذا فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فلم أزل أضحي عنه ورواه الترمذي في جامعه بلفظه ومعناه وقال غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه .
ثم قال الترمذي قد رخص بعض أهل العلم أن يضحي عن الميت ولم ير بعضهم أن يضحي عنه وأخرجه البيهقي في سننه وقال أن ثبت هذا كان فيه دلالة على التضحية عن الميت . أ. هـ .
وأخرج الحاكم عن أبي عقيل زهرة بن سعيد عن جده عبد الله ابن هشام وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عن أهل بيته وقال صحيح الإسناد .
وقال أبو أيوب الأنصاري كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون صححه الترمذي ورواه ابن ماجه ومالك وغيرهما وهذا الحديث فيه دليل على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت وأن كثروا كما قضت بذلك السنة .
قال ابن القيم رحمه الله تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته وأن كثر عددهم .
وفي هذا القدر كفاية وصلى الله على محمد وآله وصحبه ....
إتحاف الرشيد برسائل الشيخ عبدالعزيز الرشيد-2-
ماذا تعرف عن ديار ثمود ؟
للشيخ العلامة عبدالعزيز بن ناصر الرشيد
(1333هـ -1408هـ)
رحمه الله وغفر له
-إعتنى بها -
عبدالمصور السني
-عفا الله عنه-
Alsunney9000@gawab.com
ماذا تعرف عن ديار ثمود ؟
(1/14)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .... وبعد .. فقد اطلعت على رسالة أملاها صاحب الفضيلة رئيس محاكم قطر الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود ذكر فيها شيئاً عن أحكام ديار ثمود بصورة السؤال والجواب فقال :
الأول : هل تصح السكنى بديار ثمود ؟
الثاني : نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول في مساكن ثمود هل هو للتحريم أو الكراهة ؟
الثالث : هل يصح الشرب من آبار وهل يجوز الوضوء ؟
الرابع : هل تصح الصلاة في أرض الحجر ؟
أجاب فضيلته على هذه الاشكالات بإباحة الجميع والتسهيل في ذلك " ثم سرد الأحاديث الدالة على عكس ما فهمه وراءه "
لذا رأيت أن المتعين التعقيب على ذلك وإيضاح الحقيقة بصورة مختصرة .
فأقول وبالله التوفيق :
أما السكنى في أرض ثمود :
فالأحاديث صريحة في منع ذلك والنهي عنه والتحذير من دخول ديار ثمود إلا في حالة البكاء والإقامة والسكنى في مثل هذه الحالة متعذرة .
ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال ( لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي )
فهذا الحديث صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل بل مر مروراً وأسرع حتى أجاز الوادي قال في فتح الباري: فدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل ولم يصل هناك كما صنع علي في خسف بابل .
(1/15)
وروى الأمام أحمد من حديث ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك نزل بهم عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها فعجنوا منها ونصبوا القدور فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا أني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم ) قال ابن كثير: وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجه .
فهذا الحديث دليل على أنه نزل عند بيوت ثمود وذلك بعد ما أجاز الوادي كما تقدم في حديث ابن عمر .
قال في عمدة القاري شرح صحيح البخاري: فهذه الأحاديث فيها دلالة على أن ديار هؤلاء لا تسكن بعدهم ولا تتخذ وطناً لأن المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكياً أبداً وقد نهى أن يدخل عليهم إلا أن يكون بهذه الصفة .
وفيه الإسراع عند المرور بديار المعذبين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي محسر .
والحجر قيل: اسم الوادي(كما ذكره الطبري عن قتادة ).
وقيل :هو اسم لمدينتهم( كما روى الزهري ).
قال في الفتح: وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل في الحجر البتة .
قال وفي هذه الأحاديث على المراقبة والزجر عن السكنى في ديار المعذبين والإسراع عند المرور بها .
وقال ابن القيم رحمه الله: وفيها أن من مرَ بديار المغضوب عليهم المعذبين لا ينبغي له أن يدخل عليهم ولا يقيم فيها بل يسرع السير ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها ولا يدخل عليهم إلا باكياً معتبراً ومن هذا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم في وادي محسر بين منى ومزدلفة فإنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه .
وقال ابن بطال وغيره: لم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها البتة ولم يصل هناك .
(1/16)
ولما ذكر فضيلته أن صالحاً ومن اتبعه بقوا في أرض الحجر بعد ما هلك قومهم فلم يذكر فضيلته مستنداً صريحاً في ذلك .
بل الأدلة تدل على أن صالحاً خرج من تلك البلاد وهاجر عنها وأنها بقيت مهجورة إلى زماننا هذا قال تعالى " فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين " .
قال ابن جرير رحمه الله في تفسيره: فأدبر عنهم صالح حين استعجلوه العذاب وعقروا الناقة خارجاً عن أرضهم من بين أظهرهم لأن الله سبحانه أوحى إليه أني مهلكم بعد ثالثة وقيل أنها لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها .
وقال ابن كثير رحمه الله على هذه الآية :
أخبرعن صالح عليه السلام أن خاطب قومه بعد هلاكهم وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها وقد خاطب النبي أهل قليب بدر بعد ثلاث ليال وقف عليهم وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من آخر الليل .
وقال ابن كثير رحمه الله في البداية:ويقال أن صالحاً انتقل إلى حرم الله فأقام به حتى مات ثم ساق ما رواه أحمد عن ابن عباس
وذكر في شرح الثلاثيات: أن الله لما أهلك ثمود قوم صالح قال صالح عليه السلام لمن آمن معه : يا قوم إن هذه دار قد سخط الله على أهلها فاظعنوا عنها والحقوا بحرم الله وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج واحرموا في العباء ورحلوا قلايص حمر مخطمه بجبال من ليف ثم انطلقوا يلبون حتى وردوا مكة يزالوا بها حتى ماتوا , ذكره ابن قتيبة في المعارف .
وذكر نحوا من ذلك القرطبي في تفسيره وكذلك البغوي وغيرهم رحمهم الله .
وقال " كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود "
أي كأن لم يقيموا فيها ويسكنوها في سعة ورزق وغنى وقال تعالى : " ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لأية لقوم يعملون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون "
(1/17)
قوله ( فتلك بيوتهم خاوية ) أي خالية من جميع السكان قد تهدمت جدرانها وأوحشت من ساكنها وعطلت من نازليها .
قال القرطبي : أي خالية عن أهلها ليس بها ساكن .
فهذه الآيات دليل على أن أرض ثمود قد خلت من ساكنها وعطلت وهاجر عنها نبي الله صالح ومن ابتعه ولم يبق فيها أحد والمشاهد الآن أن هذه الأرض مهجورة ليس فيها آثار سكان وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأرض ونهى عن الدخول في تلك المساكن إلا لباك معتبر متعظ بما وقع عليهم أما هو صلى الله عليه وسلم فأسرع السير حتى جاوز الوادي .
وخاطب صلى الله عليه وسلم أصحابه ولم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم تكلم مع غيرهم فدل على انه ليس فيها ساكن ونهى أصحابه عن الشرب من آبار ثمود وأذن في الشرب ونحوه من بئر الناقة فلو كان فيها ساكن لما خص أصحابه بذلك .
وذكر الشيخ تقي الدين أن بئر الناقة معروفة وأنهم يمرون بها ويردها الحاج فهذا دليل على أن تلك الأراضي ليس فيها ساكن يستعمل بئر الناقة ولا غيرها وذكر السفاريني رحمه الله أنه حينما حج ومر بديار ثمود لم يعرفوا بئر الناقة ولم يجدوا من يعرفها لا في ذهابهم ولا في إيابهم .
ـ المشكلة الثانية التي ذكر صاحب الفضيلة أنها مشكلة" نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول مساكن الذين ظلموا وسبب النهي"
ذكر المصنف أن سبب ذلك أن الله قد أوجب على المؤمنين إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يذهبوا حتى يستأذنوه إلى آخر ما قال , ولم يذكر فضيلته مستنداً أن هذا هو سبب نهيه صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عدة منازل قبل ان يصل إلى منازل ثمود ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم في تلك المنازل .
وفضيلته ساق الأحاديث التي ذكر فيها سبب نهيه صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكر تلك الأحاديث .
(1/18)
وذكر أهل العلم سبب ذلك وهو أن لا يدخل الشخص عليهم إلا في حالة اعتبار واتعاظ باكياً خائفاً وجلاً من أن يقع عليه مثل ما وقع على أولئك الذين عصوا ربهم وارتكبوا ما نهاهم عنه نبيهم وأمنوا مكره واستعجلوا العقوبة .
قال النووي رحمه الله : باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم وإظهار الافتقار إلى الله والتحذير من الغفلة عن ذلك ثم ساق حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ( يعني لما وصلوا إلى الحجر لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لأن لا يصيبكم ما أصابهم ) وفي رواية لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر قال ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ألا أن تكونوا باكين ) ثم قنع رسول الله صلى رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي .. متفق عليه .
وقال أصحابنا وسن كون تابع الجنازة متخشعاً متفكرا في مآله متعظاً بالموت وبما يصير إليه الميت قال سعد بن معاذ: ما اتبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها .
وقال في فتح الباري: لما ذكر الأحاديث المتقدمة وقال ووجه هذه الخشية هو ان البكاء يبعث على التفكير والاعتبار فكأنه أمرهم بالتفكير في أحوال توجب البكاء في اختيار أولئك للكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهاله لهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه عليهم وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فاستحبوا العمى على الهدى فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء فقد شابههم في الإهمال على قساوة قلبه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بأعمالهم فيصيبه ما أصابهم . وتقدم كلام ابن القيم رحمه الله في الهدي النبوي .
(1/19)
وقال العيني رحمه الله في عمدة القاري شرح صحيح البخاري لما شرح الأحاديث المتقدمة قال: وفيه أمرهم بالبكاء لأنه ينشأ عن التفكير في مثل ذلك المقام .
وقال ابن الجوزي رحمه الله التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم إلى ثلاثة أقسام أحدها تفكر يتعلق بالله أن قضى على أولئك بالكفر .
الثاني : يتعلق بأولئك القوم إذ بارزوا ربهم بالكفر والفساد .
الثالث : يتعلق بالمسار عليهم لأنه وفق للإيمان وتمكن من الاستدراك والمسامحة .
ثم قال فضيلته :
المشكلةالثالثة : شرب ماء آبار ثمود والوضوء به
وساق الأحاديث الدالة على النهي عن الاستعمال لآبار ثمود في الأكل والشرب والطهارة وغير ذلك لكن فضيلته أعرض عن تلك الأحاديث ولم يرها دالة على ذلك مع صراحتها وفهم العلماء منها ذلك وذكر أيضاً أن العلة في النهي طبية وأنه إذا زال المحذور الذي أشار إليه فلا مانع من استعمالها إلى آخر ما ذكره .
مما هو مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على المنع من استعمالها في الطبخ والعجن والطهارة وغير ذلك .
كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ( أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة )
قال البخاري: ويروى عن سبره بن معبد وأبي الشموس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام, إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع من استعمال آبار ثمود عدا بئر الناقة .
ومعلوم أن النهي يقتضي الفساد .
(1/20)
وهل أبلغ من أنه نهاهم وأمر بإراقة الماء وإلقاء العجين على الأرض أو إعلافه الدواب وهو إفساد للمال وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ) لكن ما تقدم دليل على المبالغة في منع ذلك وتحريمه .
وفي حديث عبد الله بن قدامه رضي الله عنه ( أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأتوا على واد فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنكم بواد ملعون فأسرعوا وقال من أعتجن عجينة أو طبخ قدراً فليكبها ) الحديث رواه البزار .
أما ما ذكره فضيلته من أن علة النهي طبية وأنه إذا زال ما طرأ على هذه الآبار زال المحذور فلم يذكر فضيلته من سبقه إلى هذا الفهم .
ولو كان الأمر كما فهم لما خص آبار ثمود بذلك دون بئر الناقة إذ الكل آبار قديمة وآجنة .
وعلى فهم فضيلته فإن هذه الآبار كلها مستعملة إذ قد ذكر فضيلته أن ديار ثمود مسكونة مستعملة آبارها فلم خص بعض الآبار بالنهي وأباح بعضها إذا كانت العلة كما ذكر طبية .
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعلاف العجين الدواب فإذا كانت أجنة ومضرة فكيف يأذن بإعلافها الدواب .
وأما علة النهي فهي معروفة من الأحاديث التي ذكرت .
ولو فرض أن العلة لم تذكر ولم تعرف فواجب العبد الإيمان والانقياد والطاعة والامتثال .
ولا يتوقف ذلك على معرفة العلة والحكمة قال تعال : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " .
فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام جاءوا بما تحار فيه العقول لا بمحالاتها كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله .
وما ذكرناه من حكم آبار ثمود هو الذي دلت عليه الأحاديث وفهمه العلماء رحمهم الله .
(1/21)
قال ابن القيم رحمه الله في الهدي النبوي: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر بديار ثمود قال : لا تشربوا من مائها شيئاً ولا تتؤضؤوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له ففعل الناس إلا رجلين من بني ساعده خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره فأما بعيره الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح فطرحته في جبل طيء , فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : ألم أنهاكم ألا يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحب له ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفى وأما الأخر فأهدته طيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة قال قلت والذي في صحيح مسلم من حديث أبي حميد انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء . وفي صحيح البخاري: أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه .
وفي صحيح مسلم أنه أمرهم أن يعلفوا العجين للإبل وان يهريقوا الماء ويستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة , وقد رواه البخاري وقد حفظ رواية ما لم يحفظه من روى الطرح وقال أيضاً في فوائد غزوة تبوك ومنها أن الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه ولا الطبخ منه ولا العجين ولا الطهارة به ويجوز أن يسقي البهائم إلا ما كان من بئر الناقة . أ . هـ .
وقال أصحابنا رحمهم ولا يباع من آبار ثمود غير بئر الناقة واستدلوا بالأحاديث المتقدمة .
وقال صاحب الفروع بعد كلام سبق فدل على تحريم آبار ثمود وسأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها ويعجن به قال لا ألا من ضرورة ثم ساق حديث ابن عمر الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد .
(1/22)
وقال ابن حزم رحمه الله في المحلى: ولا يحل الوضوء من ماء بئر ثمود ولا الشرب حاشى بئر الناقة فكل ذلك جائز منها ثم ساق الأحاديث المتقدمة وقال ابن كثير رحمه الله في البداية: قال ابن إسحاق وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا تشربوا من مياهها ولا تتوضؤا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً ثم ساق عدة أحاديث في الموضوع .
أما ما ذكره فضيلته حول قصة الرجل الذي أطارتة الريح وأن علامة الوضع عليها لايحه فهذا عجيب من فضيلته ينكر قصة وردت في الصحاح وذكرها المحققون كابن القيم في الهدي وابن كثير وذكرها إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مختصر السيرة وذكرها ابنه عبد الله في مختصره للسيرة وغيرهم وحسبك بهؤلاء الأئمة تحقيقاً وتثبيتاً .
قال فضيلته : المشكلة الرابعة الصلاة في ديار ثمود :
قد تقدم أن فضيلته يرى أن لا بأس بالصلاة في ديار ثمود رغم أنه ساق الأحاديث الدالة على المنع من الدخول عليهم والإقامة في أرضهم والسكن .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم حين مر بديار ثمود أجاز الوادي مسرعاً ونهى عن الدخول عليهم إلا إذا كان الإنسان باكياً ومعلوم أن دوام البكاء متعذر كما أن الأحاديث تشمل الإقامة للصلاة وغيرها .
قال البخاري رحمه الله : باب الصلاة في أرض الخسف والعذاب قال يذكر عن علي رضي الله عنه أنه كره الصلاة في أرض خسف بابل ثم ساق حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين " .
قال في فتح الباري: لما ذكر الحديث المتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنع رأسه في السير دل على أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل ولم يصل هناك كما صنع علي في خسف بابل .
وقال البيهقي لما ساق الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب الخروج من تلك المساكن وكره المقام فيها إلا باكياً فدخل في ذلك المقام للصلاة وغيرها .
(1/23)
وقال في الاختبارات: ومقتضى كلام الآمدي وابن عقيل أنها لا تصح الصلاة بأرض الخسف وهو قوي ونص أحمد لا يصلي فيها .
وقال في المغني قال أحمد أكره الصلاة في أرض الخسف وذلك لأنها موضع مسخوط عليه وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم لاصحابه يوم مروا بالحجر " لا تدخلوا علي هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ان يصيبكم مثل ما أصابهم " متفق عليه0
وفي السنن أنه نهي عن الصلاة بأرض الخسف0
ولفظ أبي داود من حديث علي رضي الله عنه قال أن النبي صلي الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة إلى غير ذلك من الأدلة , على ما أشرت إليه وصلي الله علي محمد واله وصحبه000
إتحاف الرشيد برسائل الشيخ عبدالعزيز الرشيد-3-
الرد على رسالة
(إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء )
لفضيلة الشيخ عبد الله زيد بن محمود
رئيس محاكم قطر
للشيخ العلامة عبدالعزيز بن ناصر الرشيد
(1333هـ -1408هـ)
رحمه الله وغفر له
-إعتنى بها -
عبدالمصور السني
-عفا الله عنه-
Alsunney9000@gawab.com
الرد على رسالة (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء )
لفضيلة الشيخ عبد الله زيد بن محمود
رئيس محاكم قطر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده :
وبعد 000 فقد اطلعت علي رسالة أملاها فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود رئيس محاكم قطر أسماها ( أتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء ) ذكر فيها أنه لا فرق بين النبي والرسول وأن الاسمين لمسمى واحد وأيضاً ذكر فيها أن الإسلام والإيمان اسم لمسمى واحد وأن كل مسلم مؤمن وبالعكس , إلى غير ذلك من الإغلاظ التي لا يسوغ السكوت عليها .
ولذا تعين التنبيه عليه فيما يلي :
(1/24)
فأقول وبالله التوفيق ... ما ذكره فضيلته من أنه لا فرق بين النبي والرسول وأن الاسمين اسم لمسمى واحد خطأ , والحق أن الاسمين اسمان لمعنيين فإن الرسول أخص من النبي وأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسول فإن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ , وافترقا في أمر خاص وهو الرسالة فالأنبياء والرسل اشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم واختصت الرسل بإرسالهم إلى الأمة .
قال الله سبحانه , وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " الآية .
فعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة ففيها دليل على التغاير بين النبي والرسول وقال تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً " فجمع له بين الرسالة والنبوة .
قال البغوي : فهذان الوصفان مختلفان فكل رسول نبي ولا عكس .
وقال تعالى في إسماعيل " وكان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً " فوصفه بالرسالة والنبوة فدل على ان الرسالة وصف زائد على النبوة .
قال ابن كثير : وهذا دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصفه النبوة فقط وإسماعيل وصفه بالرسالة والنبوة .
وقال تعالى : " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم " قال القرطبي رحمه الله : والرسول والنبي اسمان لمعنيين فإن الرسول أخص من النبي وقدم الرسول اهتماماً بمعنى الرسالة وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال ورسولك الذي أرسلت فقال له قل آمنت بنيك الذي أرسلت أخرجه في الصحيح .
وأيضاً فإن قوله برسولك الذي أرسلت تكرير للرسالة وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه بخلاف قوله ونبيك فليس كل نبي رسولاً لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة فإذا قلت محمد رسول الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول وكذلك غيره من الأنبياء عليهم السلام .
(1/25)
وقال الشيخ تقي الدين بن تيميه رحمه الله بعد كلام سبق فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً والنبوة نفسها جزء من الرسالة فالرسالة تتناول والنبوة وغيرها بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة . هـ .
وأيضاً فإن العلماء رحمهم الله ذكروا المفاضلة بين الأنبياء والرسل فقالوا الرسالة أفضل من النبوة والرسول أفضل من النبي وقالوا أفضل الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم أولو العزم من الرسل ثم بقية الرسل ثم الأنبياء عليهم السلام وذكروا أيضاً الفرق بين النبي والرسول ولو كان الأمر كما زعم صاحب الرسالة لم يكن لذلك معنى ولا فائدة .
وقال ابن حزم رحمه الله في المحلي مسألة وبعد هذا فإن أفضل الأنس والجن الرسل عليهم السلام ثم الأنبياء . هـ
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيميه رحمه الله وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم وأفضل المرسلين ألوا العزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام .
وقال ابن القيم رحمه الله في كتاب سفر الهجرتين طبقات المكلفين في الآخرة ثمانية عشر أعلاها مرتبة الرسل عليهم السلام وهم ثلاث طبقات أعلاهم ألوا العزم الخمسة من عداهم من الرسل ثم الأنبياء الذين لم يرسلوا إلى أممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة فاختصوا عن الأمة بإيحاء الله إليهم وإرساله ملائكته إليهم واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأمة واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم .
(1/26)
وأما قول صاحب الرسالة أنه لم يعلم أحداً ذكر الفرق بين النبي والرسول قبل ابن كثير فإنما يدل ذلك على قلة إطلاعه , وإلا فإن الفرق بين النبي والرسول ذكره الخلق الكثير من العلماء قبل ابن كثير وبعده , فقد سبق أن نقلنا قول ابن حزم في الحلي في مسألة التفضيل ونقلنا كلام القرطبي رحمه الله وكلام الشيخ تقي الدين بن تيميه وكلام ابن القيم وذكره القاضي عياض في الشفا قال وهو الصحيح الذي عليه الجم الغفير وذكره البغوي والنسفي وغيرهم .
وقال ابن حزم في المحلي مسألة والنبوة هي الوحي من الله بأن يعمله الموحي إليه بأمر ما يعلمه ولم يكن قبل والرسالة هي النبوة وزيادة وهي بعثته إلى خلق ما بأمر ما هذا لا خلاف فيه . هـ .
وقال المعتزلة : لا فرق بينهما فانه خاطب محمداً مره بالنبي ومره بالرسول , ذكر صاحب الرسالة أحد التعاريف المشهورة والمذكورة فيها الفرق بين النبي والرسول, فطعن فيه واسهب في رده وذكر أنه يلزم عليه لوازم باطلة ولو يذكر من سبقه إلى هذا الفهم ,فإن هذا التعريف وما يتضمنه من الفروق قد ذكره العلماء كما سبقت الإثارة إلى ذلك ولم يذكروا شيئاً من المحترزات التي توهمها فضيلته واليك ما ذكره صاحب شرح الطحاويه :
قال ان العلماء ذكروا عدة فروق بين النبي والرسول وأحسنها أن من نباه الله بخير السماء أن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي رسول وأن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس برسول فالرسول أخص من النبي فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها فالنبوة جزء من الرسالة تتناول النبوة وغيرها . هـ .
(1/27)
وقال الشيخ تقي الدين بن تيميه رحمه الله بعد ذكر الفرق بين النبي والرسول فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحي إلى أحدهم وحي خاص في قصة معينة . أ . هـ .
ومما يدل على أن صاحب الرسالة أقدم على الكتابة بدون تثبت ما ذكره بقوله أن أعظم كتاب صنف في هذا الموضوع هو كتاب النبوات للشيخ تقي الدين بن تيميه رحمه الله ولم يذكر الفرق بين النبي والرسول ... الخ .
ولو درس الكتاب المذكور لوجد أن الشيخ رحمه الله كتب عن هذا الموضوع من جميع نواحيه وأفاض في البحث وإليك بعض ما ذكره الشيخ رحمه الله في الكتاب المذكور بنصه في ص 173 :
" قال فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبأ بما أنبأه الله فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله فهو رسول وأما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول قال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) الآية ... الخ " .
قال كاتب الرسالة في معرض تأييده لما ذهب إليه ما نصه وهذه الغلطة يظهر أنها دخلت على الناس من طريق حديث موضوع ذكره ابن مردوية وهو حديث أبي ذر ... الخ .
فنقول مع قطع النظر عما أشرنا إليه سابقاً وغيره , ومع التنزل مع فضيلته وأنه ليس فيه غير هذا الحديث فإن هذا الحديث قد صححه بعض العلماء وكان على فضيلته أن يذكر ما قيل عن هذا الحديث .
قال الشيخ تقي الدين بن تيميه رحمه الله في كتاب الجواب الصحيح ما نصه : " وقد روى في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألف والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر وبعض الناس يصحح هذا الحديث وبعضهم يضعفه .
(1/28)
وقال ابن القيم رحمه الله في الهدي وكذلك اختياره الأنبياء من ولد آدم وهم ألف وأربعة وعشرون ألف على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه .
قال صاحب الرسالة ما نصه ومثله قولهم في آدم أنه أول الرسل والصحيح أن أول الرسل نوح ... الخ , قص الكاتب في رسالته أن نوحاً عليه السلام هو أول الأنبياء والرسل وأن آدم عليه السلام وإدريس وشيث ليسوا بأنبياء وهذا الكلام مصادمة صريحة لما ذكر الله سبحانه في القرآن قال الله سبحانه ( واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ورفعناه مكاناً عاليا ) وإدريس هو جد نوح أو جد أبي نوح كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه .
قال في فتح الباري وفي حديث أبي هريرة وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه ابن حبان أن إدريس وكان نبياً رسولاً .
وذكر ابن كثير في التفسير تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن قال وهم أدم وإدريس ونوح ... الخ , وقال في عمدة القارئ شرح صحيح البخاري ما نصه والصحيح أن أدم نبي ورسول ونزل عليه جبريل وأنزل عليه صحفاً وعلم أولاده الشرايع قال وقول ابن بطال من قال أنه رسول وليس بنبي فظاهر الفساد لأن كل رسول نبي لازم الرسالة النبوة وذكر ابن كثير حديث أبي أمامه أن رجلاً قال يا سرول الله أنبي آدم قال نعم إلى آخر الحديث قال ابن كثير الحديث على شرط مسلم ولم يخرجه .
وقال الشيخ تقي الدين بعد كلام قال فنوح هو أول رسول بعث إلى أهل الأرض وكان قبله أنبياء كشيث وإدريس وقبلهما آدم كان نبياً مكلما ... الخ من كتاب النبوات .
ذكر صاحب الرسالة كلام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في ثلاثة الأصول نبي بإقراء وأرسل بالمدثر ذكر ذلك بعبارة تدل على الاستهجان والاستغراب لهذا الفهم إذ قرن العلماء بالعوام .
(1/29)
ولو أنه بحث في الموضوع أدنى بحث واطلع على كلام المحققين لعلم أن ما قاله الشيخ رحمه الله هو الذي فهمه العلماء فإن اقرأ أمر بالقراءة فقط وهذا هو موضوع النبوة فالنبوة تقتضي إيحاء الله إليه وتخصيصه بإنزال الوحي عليه .
وسورة المدثر فيها الأمر بالإنذار وهذا هو موضوع الرسالة فإن الرسالة تقتضي تبليغ كلام المرسل وتبليغ ما جاء من الشرع قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية لما ذكر أن أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم سورة اقرأ ثم سورة المدثر قال وبهذا حصل الإرسال على الناس وبالأول حصلت النبوة .
وقال ابن القيم رحمه الله في الهدي مراتب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم خمس ثم إنذار عشيرته الأقربين ثم إنذار قومه ثم إنذار الخلق كلهم وهذه الأربعة من أثار الرسالة .
وأما ما ذكره في رسالته من ان الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما اسم لمسمى واحد فهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة فإن الإسلام والإيمان شيئان متباينان كما دل على ذلك الكتاب والسنة .
قال الله سبحانه " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " ففي هذه الآية دليل على أن الإيمان غير الإسلام وأنه ليس كل مسلم مؤمن .
قال ابن كثير قد استفيد من هذه الآية أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .
وقال تعالى : " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات " فعطف أحدهما على الآخر والعطف يقتضي المغايرة .
ويدل عليه أيضاً حديث جبريل حينما سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان فترقى من الأعم إلى الأخص منه .
وما رواه أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً فقال سعد يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن فقال أو مسلم .
(1/30)
ففيما تقدم دليل على مغايرة الإسلام للإيمان وأنهما اسمان لمعنيين مختلفين وإن الدين ثلاث مراتب أعلاها الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام وإن كل محسن مؤمن مسلم وكل مؤمن مسلم وليس كل مؤمن محسناً ولا كل مسلم مؤمناً .
قال تعالى " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " فالظالم لنفسه هو الذي أخل ببعض الواجبات أو انتهاك بعض المحرمات والمقتصد هو الذي قام بفعل الواجبات وترك المحرمات والسابق هو الذي قام بفعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات واستفرغ وسعه في مرضات الله .
وما ذكرناه من تباين الاسمين هو عند اقتران الاسمين كما هو في حديث جبريل , أما إذا أفرد أحدهما بالذكر فإنه يدخل فيه الآخر وإذا فسر به الإسلام , فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله وحده وقال هل تدرون ما الإيمان قالوا لله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا الخمس مما غنمتم .
وكذلك في حديث أبي هريرة ( الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) .
وكقوله : سبحانه " إن الدين عند الله الإسلام " وقوله سبحانه " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " .
فإذا ذكرا مما كما في حديث جبريل فيفسر كل منهما بتفسير فالإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة كما في جبريل وغيره .
وروى الإمام أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الإسلام علانية والإيمان في القلب ) .
(1/31)
قال ابن رجب رحمه الله وبهذا التفصيل يزول الأشكال فيقال إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ وأن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق والتحقيق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده ومن هنا قال المحققون كل مؤمن مسلم فإن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام وليس كل مسلم مؤمناً فإنه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحققاً تاماً مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلماً وليس بمؤمن الإيمان التام كما قال تعالى : " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " فلم يكونوا منافقين على أصح التفسيرين بل كان إيمانهم ضعيفاً ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة لكن اسم الإيمان ينفي عمن ترك شيئاً من واجباته كما في قوله صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني وهو مؤمن " لحديث , وأما الإسلام فلا ينتقي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وأن ينفي الإتيان بما ينافيه بالكلية .
وأما استدلال من استدل بقوله سبحانه " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " فهو استدلال خاطئ لأن هؤلاء مؤمنون وكل مؤمن مسلم .
قال ابن كثير رحمه الله رجح بهذه الآية من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين وهذا الاستدلال ضعيف لأن هؤلاء كانوا قوماً مؤمنين وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس . أ . هـ .
(1/32)
وقال الشيخ تقي الدين في كتاب الإيمان وقد أثبت الله في القرآن إسلاماً بلا إيمان في قوله سبحانه " قالت الأعراب أمنا " الآية , وفي حديث سعد بن أبي وقاص إلى أن قال وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقاً يقال فيه أنه مسلم ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار وهذا متفق عليه بين أهل السنة والجماعة .
إلى أن قال : وأما الخوارج والمعتزلة فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام فإن الإسلام والإيمان عندهم شيء واحد فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام . أ . هـ .
وصلى الله(وسلم) على محمد وآله وصحبه أجمعين ......
إتحاف الرشيد برسائل الشيخ عبدالعزيز الرشيد-4-
الرد على رسالة ( الجهاد المشروع )
للشيخ عبد الله بن زيد بن محمود
رئيس محاكم قطر
للشيخ العلامة عبدالعزيز بن ناصر الرشيد
(1333هـ -1408هـ)
رحمه الله وغفر له
-إعتنى بها -
عبدالمصور السني
-عفا الله عنه-
Alsunney9000@gawab.com
الرد على رسالة ( الجهاد المشروع )
للشيخ عبد الله بن زيد بن محمود
رئيس محاكم قطر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين ....
وبعد ... فقط اطلعت على رسالة أملاها صاحب الفضيلة رئيس محاكم قطر الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود أسماها " الجهاد المشروع " تتضمن هذه الرسالة التخذيل عن الجهاد والتساهل فيه والتوين من شأنه وأنه لا يكون إلا دفاعاً وذكر رسالة بهذا الصدد يذكر أنها للشيخ تقي الدين بن تيميه كما ذكر أدلة يرى أنها دليل على هذا الشيء , كما اطلعت على رسالة جمعها صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ صالح السعد بن لحيدان أصاب فيها , وكنت أردت التعقيب على المسألة التي جمعها الشيخ ابن محمود , غير أني لما رأيت الشيخ ابن لحيدان كتب كتابه في الجهاد المشروع اكتفيت والسعيد من كفي .
(1/33)
إلا أن الشيخ ابن محمود اطلع على رسالة الشيخ ابن لحيدان احتد وظن أنها كتبت رداً على رسالته وتكلم بكلام لا يليق وغمط الكتاب حقد وقد ورد الظن أكذب الحديث .
وقال الشاعر :
إذا ساء فعل ساءت ظنونه
وعادي محببه بقول عداته ... وصدق ما يعتاده من توهم
وأصبح في ليل من الشك وظلم
وقد قيل يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر .
وكم روي عن السلف الصالح رجوعهم إلى من هو أصغر منهم , وقد ورد الكبر بطر الحق وغمط الناس , وورد"أن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" .
فحملني ذلك على الكتابة بصورة مختصرة إذا المسألة واضحة .
فأقول وبالله التوفيق ...
كنا نتوقع وننتظر من الشيخ عبد الله بن محمود أنه يحث على الجهاد ويحرض عليه كما أمر الله نبيه بقوله " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال " وكما حث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة , وهل قام الدين إلا بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وهل الجهاد المشروع إلا ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " متفق عليه . فالجهاد المشروع هو القتال لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه , فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بشرع الجهاد وتضمن القرآن الذي أنزل عليه ذلك وأصحابه رضوان الله عليهم الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها وغزو الكفار في عقر ديارهم سايرون على منهاجه ممتثلون لأمره منتظرون لوعد الله ووعد رسوله في قول الله سبحانه " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم " الآية .
(1/34)
وقوله صلى الله عليه وسلم ( أن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) , وأيضاً فقتال الدفاع واجب متعين على المقصودين كلهم وعلى غيرهم لإعانتهم قال تعالى " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر " فهو دفاع عن الدين والحرمة والأنفس فهو قتال اضطرار .
وأما لأبتداؤه بالقتال فهو قتال اختيار للزيادة في الدين وإعلاء كلمته وإرهاب العدو ففرق بين القسمين القتال ابتداء والقتال دفاعاً فكلا القسمين واجب إلا أن قتال الدفاع فرض عين وقتال الابتداء فرض كفاية كما سيأتي .
وقد التمس فضيلته مبررات لما ذهب إليه , فذكر بعض أسباب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل إلا دفاعاً عن النفس أو مقابلة لاعتداء سابق , وهذا غير صحيح بل قاتل النبي صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإرهاب عدوه .
ونقول أيضا ان العداوة بيننا وبينهم موجودة متأصلة وقتالهم لنا كلما وجدوا فرصة واقع , فلا داعي لذكر بعض أسباب الغزوات إذ لا حاجة لذلك .
قال الله سبحانه " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا "
ولذلك أمر سبحانه بالاستعداد قال تعالى " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " وقال " وخذوا حذركم " وذكر سبحانه " قد بدت بينكم العداوة والبغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " وقال " وإذا خلوا عضو عليكم الأنامل من الغيظ " قال الله سبحانه " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " الآية .
وقال الشاعر :
كل العداوة قد ترحى مودتها ... إلا عداوة من عادك في الدين
وقد ذكر فضيلته أن هذه المسألة خلافية وأن الخلاف فيها بين المتقدمين والمتأخرين فإذا كان الأمر ذكر كيف يسرع بالإنكار والرد وقد قال ابن القيم رحمه الله : إن البدار برد شيء لم تحط علماً به سبب إلى الحرمان ) ومعروف أنه لا إنكار في مسائل الجهاد .
(1/35)
وقال الموفق وغيره اتفاقهم يعني العلماء حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة , وقال بعض السلف ما أحسب اختلاف أصحاب محمد إلا رحمة .
وما أدري ما يعني بالمتأخرين هل يقصد متأخروا الكتاب كعزام وشيت خطاب وأحمد أمين ومحمد حسنين هيكل وأشباه هؤلاء وما هؤلاء عند أولئك الفطاحل .. أين الثرى من الثريا .
لا تعرض بذكرنا مع ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
وهل يذكر هؤلاء مع أولئك ؟
ألم ترى أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل أن السيف أمضى من العصا
أيذكر هؤلاء مع أحمد بن حنبل وسفيان الثوري أم هل يذكر هؤلاء مع موفق الدين بن قدامة والشيخ تقي الدين بن تيمية وابن قيم الجوزية وغير هؤلاء , أم يذكر هؤلاء مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة ؟.
ولو أن الشيخ حينما أراد أن يكتب كتب في الأشياء الواقعة والمسائل الجديدة وصرف ما لديه من نشاط وهمة في إيضاحها لكان أنفع وبه أليق , إذ الجهاد وأحكامه مذكور في المصنفات الكبيرة والصغيرة وقد سبقنا فيه فطاحل العلماء الذين لا يشق غبارهم فالكتابة عنه من الشيء المعاد الممل , وقديما قيل :
إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم
فلا تعد الحديث أن طبعهم ... بما تقدم ما ماض ومن آت
موكل بمعادات العادات
وليس الكتابة عن هذا الموضوع يبدعه فقد كتب عنه الكثير وإنما تختلف الكتابة بحسب الاتجاه ولكل وجهة هو موليها , وقد قال بعض السلف الأرواح جوالة تجول حول العرش وأرواح تجول في الحش .
وللزنبور والبازي جميعاً
ولكن بين ما يصطاد باز ... قوى الطيران أجنحة وخفق
وما يصطاده الزنبور فرق
(1/36)
كتب عنه العلماء يحبذونه وينتشرون فضائله وما فيه من المصالح الدينية والدنيوية وكتب عنه الزنادقة والملاحدة والمستشرقين يطعنون فيه ويطالبون بإلغائه وإنه ليس وسيلة مفيدة أو نافعة وجدوا واجتهدوا في ذلك وركبوا كل صعب وذلول في الاستدلال لذلك وهذه بغية المستعمرين وأمنيتهم ولذلك كتب أذنابهم " كالقاديانية ينادون بإلغاء الجهاد فقد كتب أحمد قادياني ما نصه ( لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ومؤازرتها والطعن في الجهاد وطلب إلغائه من الكتب والنشرات , ما لو جميع بعضه لملأ خمسين خزانة إلى غير ذلك مما أثر عنه وغيره ) .
وكتب النصارى يطعنون فيه ويطعنون على النبي صلى الله عليه وسلم في الغزو والجهاد وقال : إن محمداً رسل رسالاً كونياً وقالوا ( إن محمداً صاحب الغزو والسيف ) وهؤلاء النصارى الذين يطعنون على النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال هم أعظم الناس جراءة على سفك الدماء والاستعباد بأشد أنواع الفتك والدمار مع ان عيسى عليه السلام والذين ينتسبون إليه ويزعمون أنهم من أتباعه لم يؤمر بالجهاد بل روي عنه أنه قال من لطمك على خدك الأيمن فأعطه خدك الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه قميصك , ورد العلماء كالشيخ تقي الدين وابن القيم وغيرهم على هؤلاء من وجوه :
أولاً : قتال الأعداء وغزوهم فضيلة يتنافس المتنافسون وهي دالة على شرف النفس وعلو الهمة .
ثانياً : إن قتاله صلى الله عليه وسلم إنما هو عن أمر الله لإقامة دينه وإعلاء كلمته وهذا من اعظم الفضائل والمناقب .
ثالثاً : إنه علم من أعلام نبوته وأدلة لرسالته لأنه مطابق لنعته الذي جاء في الكتب السابقة كما أذكر في الزبور قوله ( تقلد أيها الجبار بالسيف فإن شريعتك وسنتك مقرونة بهيبتك ) إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أنه يبعث بالسيف والقتال .
(1/37)
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم " .
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم الضحوك القتال , الضحوك في وجوه المؤمنين غير عابس ولا مقطب ولا فظ ولا غليظ القتال لأعداء الله لا يأخذه فيهم لومة لائم ومن أسمائه أيضاً نبي الرحمة ونبي الملحمة , نبي الرحمة الذي أرسله رحمة للعالمين , ونبي الملحمة الذي بعث بجهاد أعداء الله , فلم يجاهد نبي وأمته قط ما جاهد رسول الله وأمته .
وقد أنزل عليه آية السيف وهي قوله سبحانه " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وانزل عليه " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس " .
وروى عن جابر بن عبد الله قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا يعني السيف من عدل عن هذا يعني المصحف "
وقال بعضهم :
دعى المصطفى دهراً بمكة لم يجب
فلما دعا والسيف صلتا بكفه ... وقد وافقته سنة وكتاب
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
وقال تعالى : في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشداء على الكفار رحماء بينهم , وقال في صفة عباد الله الكمل " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "
وأيضاً فالقتال ليس مختصاً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قاتل كثير من الأنبياء وقد أمر الله بني إسرائيل بقتال الجبارين وقال سبحانه " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير "
وقال تعالى " ألم ترى إلى الملأ من بني إسرائيل إذا قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله " .
ولو تتبعنا كتابة الأعداء وما يقولونه فينا وفي شرع الله ودينه أطال بنا المقام وسئمنا الكتابة :
ولو أن من يجري يلقم صخرة ... لأصبح صخر الأرض أغلا من الذهب
(1/38)
وهل يضر السحاب نبح الكلاب وليس يضر البحر أن قام أحمق على شطه يرمي إليه بصخرة .
هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين وأصحابه وأتباعه لا يقدمون على القتال وجلاد الكفار وخوض المعامع إلا بعد الأعذار والإنذار والدعوة إلى الله باللين والرفق امتثالاً لأمر الله قال تعالى " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " .
وقال تعالى " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني "
وقال تعالى " ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين "
وعن ابن عباس قال : لما بعث إلى اليمن قال ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) وفي رواية إلى أن يوحدوا الله . الحديث متفق عليه .
وفي حديث سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام واخبرهم بما يجب عليهم من حق لله فيه فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " .
والكفار ينقسمون إلى قسمين
قسم بلغتهم الدعوة وقسم لم تبلغهم الدعوة
فالذين بلغتهم الدعوة لا يجب إعادة دعوتهم لكن يندب إعادة دعوتهم إقناعاً ومعذرة فالذين بلغتهم يجوز غزوهم بدون إعادة دعوة لحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وابلهم تسقى على الماء , وقل قوم اليوم إلا بلغتهم الدعوة إلا أن يكون أناس وراء الروم ونحوهم فلا بد من دعوتهم .
والقسم الثاني : لم تبلغهم الدعوة فهؤلاء لابد من دعوتهم إلى الله قبل قتالهم لقول الله سبحانه " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " .
عن ابن عباس رضي الله عنه قال ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً إلا دعاهم . رواه أحمد .
(1/39)
فاتضح مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبتاعه لا يقدمون على التال إلا بعد الدعوة والإنذار والاعتذار فالجهاد بالحجة والبيان مقدم على الجهاد السيف والسنان , فالجهاد بالحجة والبيان مكي مدني قال الله تعالى " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيرا " وسورة الفرقان مكية وأما الجهاد بالسيف والسنان مدني .
فإذا لم تفد الدعوة انتقل إلى الجهاد بالسيف والجلاد , فمن لا يفد فيه اللين ينفع فيه التليين فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد البعثة بضع عشرة سنة للدعوة إليه بغير قتال ولا جزية ولا خلاف في ان القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله تعالى" أدفع بالتي هي أحسن " , " واعف عنهم واصفح " وقوله " واهجرهم هجراً جميلاً وقوله " وقوله " لست عليهم بمسيطر " وما كان مثله مما نزل بمكة .
ثم هاجر صلى الله عليه وسلم فأذن له بالقتال من غير فرض عليه ثم أذن له بقتال من قاتله والكف عمن لم يقاتله , ثم نزلت براءة سنة ثمان من الهجرة فأمره بقتال جميع من لم يسلم من العرب من قاتله أو كف عن قتاله فامتثل أمر ربه فقاتل العرب وغيرهم في عقر ديارهم وفتح الله عليه مكة واليمن وأدنت له العرب جزيرة العرب بكاملها وكذلك قاتل الروم وغيرهم وخرج لقتالهم فغزى صلى الله عليه وسلم تبوك بنفسه وكذلك أرسل زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة إلى مؤته في غزو الروم وجيش أسامة بن زيد .
(1/40)
فغزواته وبعوثه وسراياه كانت بعد الهجرة في مدة عشر سنين فالغزوات قبل سبع وعشرون وسراياه وبعوثه قريباً من الستين ثم لما مات صلى الله عليه وسلم قام أصحابه من بعده , فقام الخليفة الراشد أبو بكر الصديق فأخذ جزيرة العرب وبعث الجيوش إلى بلاد فارس والشام ومصر وغيرها ثم قام بعده الفاروق قياماً تاماً وتم أيامه فتح للبلاد الشامية بكاملها ومصر وأكثر أقليم فارس ثم لما صارت الدولة العثمانية امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها فانتشر الدين وعلت كلمة الله .
ووقع مصداق قوله تعلى " وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون " فأظهر دينه على ساير الأديان بحيث أنه لم يبقى أهل دين يخالف دين الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم وان لم يكن ذلك في كل المواضع وفي كل الأزمان , فقد قهر اليهود والنصارى وغيرهم والظهور بالحجة والبيان والسيف والسنان .
وقال تعالى " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " .
وقد وعد سبحانه بذلك والله لا يخلف الميعاد , فقال سبحانه " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ويبدلنهم من بعد خوفهم أمناً "
(1/41)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ) , فالصحابة لما كانوا أقوم بأمر الله كان نصرهم وتأييدهم عظيماً وحكموا البلاد والعباد ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأمور كان نصرهم وتأييدهم بحسب لما قاموا به من أمر الله قال الله سبحانه " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " لكن هذا الدين لا يزال قائماً لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة ) وروى الأمام أحمد من حديث تميم الداري قال سمعت رسول الله يقول ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ) . إذا علم ما تقدم وأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا الكفار الغزوات الكثيرة وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم في عقر ديارهم وملكوا اكثر المعمور من الأرض علم عدم صحة قول من زعم أنهم دافعوا عن أنفسهم إذا المدافع في الغالب ضعيف ولم يعلم انهم قاتلوا في المدينة دفاعاً عن النفس اللهم إلا في وقعة الخندق فعلم أنهم إنما جاهدوا لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه وإنقاذ أحكامه وإنقاذ الهالكين في الكفر والضلالة وعبادة الأصنام فروى البخاري في صحيحه في قوله " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم في الإسلام , ولأهمية الجهاد وعظيم مصلحته ومنفعته عدة بعض العلماء ركناً من أركان الإسلام وذكره المسلمون في عقائدهم .
وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً " . …
وقال الشيخ تقي الدين بن تيميه الأمر بالجهاد وفضائله أكثر أن تحصر .
قال الله سبحانه " كتب عليكم القتال " أي فرض .
(1/42)
فهذا دليل واضح أن الجهاد فرض وقال تعالى " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيهم إن الله غفور رحيم " وهل أبلغ من هذه الآية.
وقال تعالى " قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين " .
وقال تعالى " ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير " .
فهذا واضح في وجوب النفير إلى القتال ووعيد شديد في التثاقل عنه والإخلاد إلى الراحة ومتعة الحياة الدنيا , وقوله " انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون " فهذا دليل على وجوب الجهاد بالنفس والمال وتحريم التخلف عن الجهاد إلا من كان معذوراً أو محتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ونحوهم .
وقال تعالى " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين " فهذه الآية دليل على وجوب الجهاد وأنه يبدأ بقتال القريب من الكفار لأنه أكثر ضرراً وفي قتاله دفه ضرره والاشتغال البعيد يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه فإن كان له عذر في البداءة في البعيد فلا بأس .
وقال تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " , فان الله أمر بالقتال كل مشرك في كل موضع قال وهذا أمر مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار دليل ذلك قول تعالى " حتى يكون الدين كله لله " وقال صلي الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله " فدل على أن سبب القتال هو الكفر 0
قوله " فان انتهوا عن الكفر " إما بالإسلام وإما بأداء الجزية في حق أهل الكتاب 0
(1/43)
وقوله ’ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ’ وهذا أمر بقتالهم أينما وجدوا في كل وقت وفي كل زمان قتال مدافعه وقتال مهاجمه .
وقال تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية على يدٍ وهم صاغرون " .
فهذا دليل على أن أهل الكتاب ومن ألحق بهم كالمجوس يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وأما من عداهم من الكفار فيقاتلون حتى يسلمون لما تقدم ولحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الحديث .
وأما الأحاديث الدالة على وجوب الجهاد وأنه لا يتوقف على مهاجمة الكفار للمسلمين بل يجب ابتداء ودفعاً فهي كثيرة جداً ونذكر بعضها :
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه من الإسلام والجهاد في سبيل الله ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل أخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار ) رواه أحمد وأو داود . …
وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر واشتغلتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) رواه مسلم .
وحديث " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ألا بحقها وحسابهم على الله) متفق عليه .
(1/44)
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) رواه أحمد والنسائي والحاكم .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت : يا رسول الله هل على النساء جهاد قال: نعم عليهم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة " رواه ابن ماجه .
وعن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغزو حتى يصبح فإن سمع آذانا أمسك وإن لم يسمع أغار " رواه أحمد والبخاري .
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على وجوب الجهاد واستمرار وجوبه إلى قيام الساعة سواء الجهاد القولي والفعلي وانه يجب مقاتلة الكفار في عقر دارهم وانه لا ينتظر حتى يقاتلونا وهذا صريح الأدلة .
قال الشيخ تقي الدين بن تيميه فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له فإنه يجب قتاله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
وقال ابن حزم في المحلى :والجهاد فرض على المسلمين فإن قام به من يدفع ويغزوهم في عقر ديارهم ويحمي ثغور المسلمين سقط فرضه عن الباقين وإلا فلا قال الله سبحانه " انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم " هـ .
وقال القرطبي نحواً مما تقدم وقال ابن عطية : الذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد فرض كفاية فإن قام به من المسلمين من يكفي سقط عن الباقين إلا أن ينزل العدو ساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين .
وقال صاحب المغني " وهو من فروض الكفاية في قول عوام أهل العلم وحكى ابن المسيب أنه فرض عين لقوله " انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في بسيل الله " وقوله " إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً " وقوله " كتب عليكم التال وهو كره لكم " وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من لم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) رواه مسلم . هـ .
(1/45)
وقد يتعين القتال كما إذا استنفره الإمام قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض " الآية .
وحديث : ( إذا استنفرتم فانفروا ) متفق عليه , أو حضر العدو بلده فيجب على كل قادر القتال وعلى كل مسلم احتيج إليه في مساعدتهم ونصرتهم أو يحتاج إليه وكذلك إذا حضر الصف لقوله " إذا لقيتم فئة فاثبتوا " وقال الشيخ تقي الدين وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتوافرة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله كما قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة وقال " فثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وأن تكلم بالشهادتين " .
فثبت مما تقدم حكم الجهاد وان من ادعى غير ذلك فقد خالف الأدلة من الكتاب والسنة وأما ما استدل به فهو أما يكون قبل أن يفرض الجهاد أو أن يكون له معنى لم يفهمه .
إذاً الجهاد لم يفرض إلا بعد الهجرة النبوية وبعد أن قوي المسلمون واستعدوا للجهاد وبعد أن هاجر إلى المدينة أذن له بالجهاد بقوله سبحانه " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير " .
وقد قال جمع من العلماء أن هذه الآية أو آية نزلت في الجهاد ثم بعد ذلك نزل وجوبه في قوله " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " وأمر بقتال المشركين عامة في قوله " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوهم حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " .
وأمر بقتال أهل الكتاب في قوله سبحانه " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "
(1/46)
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية في السياسة الشرعية: وكان الله بما بعث بنبيه وأمره بدعوة الخلق إلى دينه لم يأذن له في قتل أحد ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله " أذن للذين قاتلون بأنهم ظلموا " ثم أنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله " كتب عليكم التال وهو كره لكم " وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى " قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره " الآية .
وقال ابن القيم رحمه الله: فلما استقر في المدينة وأيده الله بنصرة رمتهم العرب واليهود من قوس واحدة والله يأمرهم بالصفح والعفو حتى قويت شوكتهم فإذن الله لهم في الجهاد ولم يفرضه عليهم فقال تعالى " أذن للذين يقاتلون " الآية , ثم فرض عليهم الجهاد بعد ذلك لمن يقاتلهم دون من يقاتلهم فقال سبحانه " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة وكان محرما ثم مأذوناً فيه ثم مأموراً به لمن بدءهم بالقتال ثم مأموراً به لجميع المشركين , أما فرض عين على أحد القولين أو فرض كفاية على المشهور . هـ , وكذا قال غيرهم من المحققين وبهذا يفهم أن الرسالة التي نسبت للشيخ تقي الدين بن تيمه في الجهاد لم تثبت لأن كتبه المشهور {ه تخالف ما جاء فيها أو أنه صنفها }(1) , ثم رجع عنها كما صنف منسكا لم يرضى ببعض ما فيه ثم صنف المنسك المشهور الذي ذكر فيه أنه قد صنف منسكا قبل هذا ولم يرتضي كل ما ذكره فيه أو غير ذلك من الاحتمالات .
__________
(1) - زيادة يقتضيها السياق.
(1/47)
وسأذكر بعض ما استدل به وليس فيه دلالة على ما رآه فمنها قوله " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " فهذه الآية صريحة في الأمر بالجهاد وقتال الذين يقاتلون أما الذين لا يقاتلون كالمرأة والشيخ الكبير والصغير ونحو ذلك فلا يقاتلون إلا إذا قاتلوا بقول أو فعل والنهي عن الاعتداء يشمل أنواعاً : كقتل من لا يقاتل من النساء والمجانين ونحوهم والتمثيل في القتلى ونحو ذلك .
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمه أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين واما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والشيخ الكبير والراهب والأعمى والذمي ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه فأنكر قتل النساء والصبيان ) متفق عليه .
وقيل قوله " الذين يقاتلونكم " تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله كما قال " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة "
وقوله سبحانه " لا إكراه في الدين " فهذه الآية لا دليل فيها لما ذهب إليه فإن الآية لا تنافي الأمر بالجهاد لأن الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإرهاب العدو وهذا الدين لكماله وكمال براهينه وآياته وحسنه أنه دين الفطرة والعقلي السليم والعلم فمثل هذا لا يحتاج إلى الإكراه عليه يكون على ما تنفر منه القلوب وتأباه الطباع السليمة ويتضح هذا المعنى بقوله " قد تبين الرشد من الغي " .
وهذا ما أردنا إيراده والله الموفق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ....
عبد العزيز بن رشيد
رئيس هيئات التمييز
(1/48)