أَحْكَامُ الصَّك المصرفيّ المردود في السُّودان (دراسة قانونيّة)
( د. عمر محمد حامد إبراهيم (1)
مُقَدِّمَة:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده حمداً يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، أحمده وأثني عليه ثناء عبد غمرته نعم لا تحصى ولا تُعَد، حيث خلقني من العدم، ورزقني بعد فقر، وعلمني بعد جهل، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى هو على نفسه. وأثني عليه بما هو أهل له، وهو أهل لكل ثناء، وهو موصوف بكل كمال، ومنزّه عن كل عيب أو نقصان.
وأصلي وأسلّم على المبعوث رحمة للعالمين، وإماماً وخَاتماً للأنبياء والمرسلين، وأكثر الخلق عبوديّة لربه، وأتقاهم وأنقاهم سريرة، الموقّر، المبجّل، المعصوم، الرؤوف، الرحيم بأُمَّته، وقد أدَّى الرسالة، ونصح الأُمَّة، وكشف الله به الغمَّة، فصلوات الله وتسليماته عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغرّ المحجلين. أمَّا بعد،،،
فقد اخترتُ موضوعاً للبحث، بعنوان: "الصُّكوك المصرفية المردودة في السُّودان"، وقد دفعني لهذا البحث كثرة بلاغات الصُّكوك المردودة، واكتظاظ السُّجون بالمنتظرين للمحاكمات، وارتفاع عدد المحكومين في جرائم الشَّيْكات، وما رأيته من كثرة من فقدوا الأمل في استرداد حقوقهم بعد فشل محرّري الشَّيْكات في سدادها، مما جعل ديونهم المستحقّة بهذه الصُّكوك (الشَّيْكات) ميئوساً من ردّها، فحوَّل الصَّك كماً هائلاً من الأغنياء فقراء، ومن الأحرار سجناء، فترى الطرفين يكتبان الشَّيْكات الآجلة وهما يتخافتان حتى لا يعلم الآخرون ما كسباه، وكأنَّ كل منهما يشعر بأنَّه غرّ الطرف الآخر، ولذا يخشى من اطّلاع الآخرين على هذه المعاملة، فينصح ذاك الطرف بالانسحاب، ويحسب وحده الفائز.
__________
(1) (() أستاذ مشارك بكلية الشريعة بالجامعة.(1/1)
فمحرّره يعتقد بأنَّه فاز بالسَّلعة، من غير أنْ يدفع شيئاً في الحال، وعند حلول الأجل (يحلّها الحلال)، ومن ثم لا يأبه بما تقرَّر في ذمَّته من زيادة سعر السَّلعة عما هي عليه في الأسواق؛ بل قد يبيعها بأقل من سعر يومها بما يُسْمَّى بـ "الكسر"، فيخسر مرّتين، مرّة بدفع قيمة زائدة على السُّوق في مقابل الأجل، ومرة أخرى بالبيع بأقل من السُّوق، بغرض الحصول على النَّقد فوراً.
وبتكرار هذه الصورة في مرات عديدة؛ يصبح مفلساً، عاجزاً عجزاً تاماً عن السَّداد، ولسان حال غالبية هؤلاء يقول: عليك بالحصول على المبالغ، ولا تبالي بالدَّين وسداده، وكأنَّهم يدخلون الدَّيْن بنية الظلم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مَنْ أَخَذَ أموال النَّاس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) (1) .
والمستفيد من الصَّك يفرح بتخلُّصه من بضاعة لم يجد لها سوقاً، وكان قد احتار في تصريفها، فبعد أنْ كاد يبيعها بأقلّ مما اشتراها به؛ يرى أنَّ الله تعالى قد فتح عليه بزبون يشتريها بأكثر من سعر يومها فباعها رابحاً، وكل ذلك فقط مع تأجيل الدَّفع، ويمني نفسه بأنَّ هذا المشترى رجل أمين بعثه الله تعالى إليه لإنقاذه، وأنَّه سيدفع له هذا المبلغ المبالغ فيه عند حلول الأجل.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستقراض وأداء الدُّيون، برقم 2212.(1/2)
وبعد حلول الأجل وفشل محرّر الصَّك عن السَّداد يبدأ الحوار ودخول الأجاويد وخروجهم، لحلّ المشكلة، حتى لا يدخل الأول السِّجن ولا يفقد الثاني كامل المبلغ، ويشيع المثل العامي: (تلته ولا كتلته)، وإذا كان المستفيد محظوظاً ربما رَضِيَ بنصف المبلغ أو ثلثه أو ثلثاه حسب إمكانات الأجاويد، والذي سَيُدْفَع بمساهمات الأهل والأصدقاء ومنهم الوسطاء، وقد يصل المستفيد نفسه بتكرار هذا مع الكثيرين في السُّوق إلى حالة إفلاس تامة، وقد يكون هو الآخر مطارداً بشيكات من آخرين، مما يجعله عرضة أيضاً للسجن، وربما جاور وصادق صاحبه في السِّجن.
والأسئلة التي تطرح في هذا البحث تتمثّل فيما يلي:
ما هو الصَّك المصرفي؟ وما هي وظائفه المرجوة منه؟ وما هي شروطه؟ وما هي أسباب ردّه؟ وما هو التكييف القانوني للصَّك؟ وما علاقة أطرافه شرعاً وقانوناً؟ وما الحكم الشَّرعي والقانوني للإقدام على تحرير أو تظهير الصَّك المردود؟
وقسّمتُ هذا البحث إلى ثلاثة مباحث، وخاتمة جعلتها في النتائج والتَّوصيات.
المبحث الأول: الصَّك المصرفي: تعريفه، وشروطه، وأهميته.
المبحث الثاني: تكييف الصَّك وعلاقات أطرافه فقها وقانوناً.
المبحث الثالث: جريمة ردّ الصَّك المصرفي في السُّودان، وأسبابه وشروطه، وتاريخ تجريمه في السُّودان.
الخاتمة: في النَّتائج والتَّوصيات .
المبحث الأول
الصَّك المصرفيّ: تعريفه، وشروطه، وأهميته
تعريف الصَّك المصرفيّ:
عرَّفه قانون الكمبيالات في المادة (76) منه قائلاً: "الشَّيْك: كمبيالة مسحوبة على مصرف ومستحقّة الدَّفع عند الطلب".
فربط تعريفه بتعريف الكمبيالة.(1/3)
وقد عرَّف القانون نفسه الكمبيالة في الفقرة الأولى من المادة الثالثة بقوله: "الكمبيالة: أمر مكتوب موقَّع عليه من محرّره وغير مقيّد بشرط، موجَّه منه إلى شخص آخر يكلّفه فيه بأنْ يدفع مبلغاً معيَّناً من النُّقود عند الطلب أو في ميعاد معيَّن أو قابل للتعيين إلى شخص معيَّن أو لأمره أو لحامل ذلك الأمر".
وبعد النَّظر في النُّصوص أعلاه وما جرى به العمل؛ يمكننا أنْ نُعْرِّف الصَّك المصرفي ـ وهو المتعارف عليه بالشَّيْك ـ بأنَّه: "أمر مكتوب، صادر عن شخص يُسْمَّى (الساحب)، إلى بنك أو مصرف ويُسْمَّى (المسحوب عليه)، بأنْ يدفع مبلغاً محدداً بالأرقام والحروف بمجرَّد الاطّلاع على الأمر لشخص ثالث هو (المستفيد) أو لمن ظهَّر له المستفيد، وقد يكون لأمر الساحب مباشرة".
ومن هنا يتضّح أنَّ الشَّيْك يحتاج في نشأته وتكوينه إلى العناصر أو الأطراف الآتية:
[1] السَّاحب:
ويُشترط فيه أنْ يكون له حساب في البنك يُسْمَّى بـ (الحساب الجاري)، وهو عبارة عن علاقة تعاقدية بين البنك وصاحب الحساب أو الساحب، تتم وفقاً لشروط وضوابط محدّدة، تجعل الساحب (دائناً)، والبنك أو المسحوب عليه (مديناً). وبموجب علاقة الدائنية الموجودة بينهما يأمر الساحب المسحوب عليه أنْ يدفع مبلغاً من دَيْنه إلى المستفيد، وهذا محتوى الصَّك المصرفي، "وصول القيمة المعتمدة على الرصيد".
[2] المسحوب عليه:
ويُشترط أنْ يكون مصرفاً أو بنكاً، سواء أكان المصرف المركزي أو أي مصرف مصدَّق له بالعمل من البنك المركزي وَفقاً للشروط والضوابط التي تحكم ذلك.
وقد يصدر الصَّك عن المصرف من غير أنْ يكون هناك حساب جار، أو مع وجوده، وهنا يختلف الأمر، فبدلاً من أنَّ مديونية البنك في الحالة العادية مديونية مفترضة ويمكن أنْ يثبت عكسها كما في بعض صور الصَّك المردود؛ فإنَّ مديونية البنك هنا حقيقية، فهو المسئول عن سداد المبلغ، وهذا يضيف للصَّك ثقة وقوة.
[3] المستفيد:(1/4)
وهو من كُتِبَ الصَّك باسمه، أو من ظهّر له الصَّك.
أوجه الشبه والاختلاف بين الكمبيالة والشَّيْك :
[أ] أوجه الشبه:
كلاهما من الأوراق التجارية التي تثبت مديونية السَّاحب للمستفيد، والأصل في كليهما وجود ثلاثة أطراف: (الساحب)، و(المسحوب عليه)، و(الرصيد)، وأنَّ العلاقة بين كل هذه الأطراف في كليهما تتمثَّل في أنَّ العلاقة بين الأولين مقابل الوفاء، وهو "الرصيد" علاقة مديونية المسحوب عليه للسَّاحب، بينما العلاقة بين الساحب والمستفيد أيضا علاقة مديونية السَّاحب للمستفيد، وتُسْمَّى بـ "وصول القيمة".
[ب] أوجه الاختلاف:
الشَّيْك مستحقّ الدَّفع بمجرّد الاطّلاع، بينما الأصل في الكمبيالة أنْ تضاف إلى أجل، وأنَّ الشَّيْك يُسحب على بنك بينما الكمبيالة يمكن أنْ تُسحب على البنوك وعلى غيرها، وأنَّ الأصل في ردّ الشَّيْك يمثِّل جريمة جنائية إذا توافرت شروطه التي يتطلّبها القانون الجنائي، بجانب إثباته للحقّ المدني للمستفيد في ردّ قيمة الشَّيْك، بينما ردُّ الكمبيالة لا يُعَدُّ جريمة إلاَّ إذا صاحبه احتيال ونصب.
وبما أنَّ السُّودان ليس به قانونٌ تجاريٌّ موحّدٌ؛ وإنَّما جملة قوانين تشكِّل ما يُعْرَف بـ (القانون التّجاري)، مثل: "قانون الكمبيالات لسنة 1917م"، و"قانون الإفلاس لسنة 1929م"، و"قانون الموازين والمكاييل والمقاييس لسنة 1955م"، و"قانون المعاملات التّجارية لسنة 1969م"، ولا ينتشر فيه نظام الكمبيالات؛ فالشَّيْك يقوم فيه بمهام الشَّيْك والكمبيالة معاً، ويترتب عليه مسئولية جنائيّة ومدنيّة.
الشَّكل العام للصَّك:
لا يُشترط فيه ابتداءً شكل معيّن، فيكون عادة على نموذج مطبوع يسلّمه المصرف للسَّاحب، يحوي البيانات الأساسية التي تُملأ بوساطة السَّاحب، ومن أهمها: التَّاريخ، واسم المستفيد كاملاً، والمبلغ بالأرقام والحروف، وتوقيع السَّاحب أو ختمه المعلوم لدى المسحوب عليه.(1/5)
ويجوز أنْ يكون الصَّك في غير هذا النموذج المعدّ من قِبَل البنك، فيكفي أنْ تكتب هذه البيانات في الورق العادي وتوقَّع بالتَّوقيع أو الختم المتفق عليه، ويُعَدُّ هذا صَكَّاً مصرفيّاً، ويترتّب عليه كل ما يترتّب على الصَّك المكتوب على نموذج المصرف، باستثناء المسئولية الجنائية.
واهتمت البنوك بالشَّيْكات، وبرعاية البنك المركزي، واعتنت بشكل الشَّيْكات إلى أنْ أُصْدرت الشَّيْكات الممغنطة حماية للطرف الثالث (المستفيد)، حتى لا يتعرَّض للنَّصب والاحتيال من خلال دفاتر مزورة ليس لأصحابها حسابات في البنوك، خاصة مع تطوُّر الطباعة والجريمة.
الشُّروط الموضوعية والشَّكلية للصَّك المصرفي:
[1] الأصل في الشَّيْك وجود ثلاثة أطراف أو أكثر، هم:
السَّاحب:
وهو محرّر الشَّيْك، ويُشترط فيه أنْ يكون أهلاً للتَّصرُّف المدني والمسائلة الجنائية، كما يُشترط فيه أنْ يكون له حساب في البنك يُسْمَّى بـ (الحساب الجاري).
والمسحوب عليه:
وهو المصرف الموجَّه إليه الأمر، وهو الذي يفترض مديونيته للسَّاحب برصيد يكفي لسداد قيمة الشَّيْك.
والمستفيد:
وهو الذي كُتِبَ اسمه على الشَّيْك، أو ظهّر له الشَّيْك.
والعلاقة بين الثلاثة علاقة مديونية، فالمستفيد دائن للسَّاحب بالمبلغ المحرَّر على الشَّيْك، وموكَّل منه في صرف المبلغ ثم تملّكه، والسَّاحب دائن للمسحوب عليه، ومدين للمستفيد، والمسحوب عليه مدين للسَّاحب.
[2] في الشَّيْكات المصرفية العلاقة بين طرفين هما البنك وحامل الشَّيْك، حيث يُحرّر الشَّيْك خصماً على البنك مباشرة، وقد يدخل طرف ثالث في بعض الصور.
[3] يُشترط وجود حساب جاري للسَّاحب لدى المسحوب عليه في الشَّيْكات العادية. ومن المفترض وجود رصيد كافٍ لسداد قيمة الصَّك. وعدم وجود الحساب أو الرصيد لا يؤثر في وجود الشَّيْك؛ ولكن يجعل تحريره جريمة يُعاقب عليها القانون الجنائي.(1/6)
[4] يُشترط في الشَّيْك لأداء مهامه استكمال كل الشُّروط الشَّكلية والموضوعية التي يتطلّبها القانون، ومنها: أنْ يكون مكتوباً، وموقَّعاً عليه من السَّاحب، ويحدّد عليه تاريخ الاستحقاق، والمبلغ المستحقّ، والمستفيد بصورة واضحة.
[5] أنْ يكتب بصورة أمر واضحة، تبيِّن أنَّ الدَّفع بمجرّد الاطّلاع عليه ابتداءً من التاريخ الموضَّح عليه، وبصورة قاطعة.
أهمية الشَّيْك:
للشَّيْك أهمية كبيرة في المعاملات التّجارية، وذلك للأسباب التالية:
[أ] يشجِّع الائتمان المصرفي، الذي يؤدي بدوره إلى التنمية، وتقليل كميات النُّقود المتداولة في الأيدي والمحتفظ بها في الحيازات الشَّخصية.
[ب] يُقلِّل من مخاطر حمل النُّقود، والاحتفاظ بها في الحيازات الشَّخصية، مثل: السَّرقات والحريق. وإذا سُرِقَ الشَّيْك يُبلَّغ البنك فيؤمّن الرَّصيد من السَّحب بالشَّيْك المسروق، وإذا تعرَّض الشَّيْك للتلف بالحرق أو الغسيل
أو التَّمزيق فلا يؤثِّر ذلك على الرصيد.
[ج] الائتمان المصرفي يساعد الدَّولة على معرفة الأرصدة الحقيقية للعملاء، واتجاه حركة رؤوس الأموال بالسحب والإيداع، مما يمكِّنها من التخطيط السليم لتوظيف الأموال لخدمة المجتمع على الوجه الصحيح.
أهمية الثِّقة في الشَّيْك:
الثِّقة في التعامل بالشَّيْكات هي التي تحدِّد نسبة تداوله، فكلما كانت الثِّقة كبيرة كلما زاد تداول الشَّيْكات، وكلما اهتزت الثِّقة في الشَّيْكات قَلَّ تداولها، وكثرة تداولها والثِّقة فيها تدفع لزيادة الائتمان الذي يحقِّق ما ذكرنا في أهمية الشَّيْك والائتمان أعلاه من ميزات اجتماعية، واقتصادية، وأمنية.
ولأهمية هذه الثِّقة في الشَّيْكات الدَّافعة إلى الائتمان تجرم معظم تشريعات العالم كل ما يهز الثِّقة في تداول الشَّيْكات.(1/7)
ومعظم التَّشريعات تعاقب في الشَّيْك المردود الساحب والمظهر، وبعضها يقصر العقاب على السَّاحب فقط، وجزء منها يشمل بالعقاب الساحب، والمظهر، والمستفيد أيضاً، إذا استلم شيكاً وهو يعلم بعدم وجود الرَّصيد.
وقانون العقوبات السُّوداني في عام 1969م قرَّر عقاب موظف البنك إذا أدلى بمعلومات غير صحيحة عن الرَّصيد، ولكن القانون الحالي ترك هذا الموظف للمواد التي تتحدّث عن عقاب من يدلي بمعلومات غير صحيحة.
المبحث الثاني
تكييف الصَّك المصرفي فقهاً وقانوناً
أقصد بهذا هل الصَّك المصرفي سند مديونية (أي ضمان ) أم سند ائتمان (أي وفاء)؟ وما هي العلاقة بين أطرافه، هل هي علاقة مديونية مباشرة أم هي علاقة ائتمان ووديعة؟
يُعَدُّ الصَّك المصرفي (الشَّيْك) في السُّودان سند مديونية وائتمان في آنٍ واحدٍ، يقوم مقام الكمبيالة والسندات الإذنية بالإضافة لمهام الشَّيْك.
والمديونية عمل مدني يحكمه قانون المعاملات المدنية وبإجراءات مدنية، بينما عدم الوفاء بالائتمان عمل جنائي يحكمه القانون الجنائي وبإجراءات جنائية.
ويجزم الباحث بأنَّ الصَّك المصرفي سند مديونية في كل الأحوال، ولمحرّره الحقّ في نفي المديونية، وإثبات عكسها، كما له الحقّ في الدُّفوع العامة، مثل: الغش، والتَّزوير.
ولكن التردُّد ينشأ في إذا كان الصَّك يُعَدُّ سند ائتمان واجب الوفاء فوراً في كل الأحوال والصور، أم أحياناً يكون سند ائتمان واجب الوفاء في الحال إذا توافرت فيه شروط معيّنة، وأخرى يكون سند مديونية فقط دون الائتمان؟
تكاد التَّشريعات العربية تجمع على أنَّ الشَّيْك سند مديونية وائتمان في آن واحد، ولذا يكتب بتاريخ واحد هو تاريخ الاستحقاق، وبصيغة واحدة مضمونها وجوب الدَّفع بمجرّد تقديم الشَّيْك أو الاطّلاع.
ولكن الأمر يختلف في السُّودان لعدة أسباب، منها: عدم وجود أو انتشار الكمبيالات والسندات الإذنية، مما جعل الشَّيْك يقوم مقامهما في التَّعامل.(1/8)
ولذا يرى الباحث أنَّ الشَّيْك يكون أحياناً سند مديونية وائتمان، وأحياناً يكون سند مديونية فقط، فهو في كل الأحوال سند مديونية، ولكن ليس في كل الأحوال سند ائتمان.
فمثلاً إذا كُتِبَ الصَّك ليُصْرَف لتوه وأوحى إلى حامله بوجود الرَّصيد؛ يكون سند ائتمان واجب الوفاء، وإذا كُتِبَ ليُصْرَف في المستقبل "بعد شهر مثلاً"، فهذا دليل على أنَّ المستفيد على علم حين استلامه للشَّيْك بعدم وجود رصيد كافٍِ لصرف الصَّك، مما جعله يقبله وهو مضاف لزمن متأخّر يقوم فيه السَّاحب بإيجاد رصيد كاف وقابل للسَّحب.
فإذا تعثَّر السَّاحب في إيجاد هذا الرَّصيد ورُدَّ الصَّك فأرى أنَّ هذا لا يختلف كثيراً عن من استدان مبلغاً، ووعد كتابة بأنْ يلتزم بدفع الدَّيْن عند أجل محدّد، ثم فشل في سداد الدَّيْن، فكلاهما دَيْن مضمون بسند مكتوب يعفي الدائن من عبء إثبات حقَّه في الدَّيْن، وقد يمنحه فرصة في التعويض عن العطل والأضرار التي ترتَّبت على التأخُّر، [البقرة: 280].
فأرى من الخطأ أنْ يُعَدَّ هذا الفشل في سداد هذا الدَّيْن عملاً جنائيا يعاقب عليه، ومن ثَمَّ اقترح تعديل المادة (179) من القانون الجنائي، لتستوعب هذا بصورة واضحة مع العلم بأنَّ هذا معمول به الآن في العمل القضائي، ولكن بصورة لا تخلو من أنْ تكون اجتهادات شخصيّة في فهم النُّصوص والظروف التي أحاطت بكتابة الصَّك المصرفي وردّه، مما جعل السوابق القضائية ـ التي ستأتي بعد نهاية هذا المبحث ـ تضطرب أحياناً في هذا الميدان ـ أعني ميدان التفريق بين الشَّيْك المدني والجنائي ـ.
وتعديل هذه المادة بما يستوعب تقسيم الشَّيْك إلى: شيك (مدني) و(جنائي)، ووضع الأسس التي تساعد على التفريق بينهما، يساعد على الآتي:
[1] يؤدي إلى تقليل عدد المتهمين والمحكومين في الصَّكوك المردودة، الذين تزدحم بهم السُّجون والمحاكم الآن.(1/9)
[2] تساعد المستفيد من الشَّيْك في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، بحيث يستلم الصَّك وهو يعلم أنَّه صك مدني قد تطول إجراءاته، ولا يعرِّض محرّره للمساءلة الجنائية، فيقبله أو يرفضه وهو على بيِّنة من أمره.
[3] الأسس التَّشريعية في التَّقسيم توحِّد العمل القضائي، وتنسِّق بين الأحكام، وهو أمر لا تخفى أهميته.
كما يقترح إدخال مادة في القانون الجنائي بعد المادة (179) تضع أسساً لتمييز الصَّك المدني عن الصَّك الجنائي، ويكون نصُّها كالآتي: "من غير المساس بالحقوق المدنية لا يُعَدُّ الصَّك المردود بسبب عدم الرَّصيد الكافي والقابل للسَّحب جريمة وَفقاً لنص المادة (179) في الحالات الآتية:
[1] إذا استلمه المستفيد مع علمه بعدم وجود الرَّصيد الكافي والقابل للسَّحب لحظة استلامه الصَّك.
[2] إذا كتب الصَّك لمصلحة المسحوب عليه.
[3] إذا كتب الصَّك ضماناً لدَيْن سواء كتبه المدين أو غيره.
علاقة أطراف الصَّك المصرفي:
تُكيَّف علاقة أطرافه وَفقاً لِمَا سبق من الحديث عن تكييف الصَّك المصرفي؛ فإنَّ العلاقة بين البنك المسحوب عليه والساحب علاقة ائتمان وديعة، فالسَّاحب ائتمن المسحوب عليه على ماله وديعة لديه، على أنْ يسحبه متى شاء، ولكن هذا الائتمان جعل المسحوب عليه مديناً بهذا المبلغ دَيْن أمانة، ثم يوكّل دائنه المستفيد ليسحب جزءاً من وديعته لدى البنك بتوكيل هو الصَّك، بشرط أنْ تتوافر على هذا التوكيل شروط متفق عليها منها مطابقة التَّوقيع.
وأمَّا العلاقة بين السَّاحب والمستفيد فهي علاقة دَيْن آجل في شيك الضمان والشَّيْكات الآجلة، وعلاقة دَيْن آجل في شكل ائتمان في الشَّيْكات الواجبة الدَّفع حال كتابتها، يحوّله فيها إلى مديونه "المسحوب عليه" أو موكلّه للسَّحب والتملُّك.(1/10)
وبما أنَّ كتابة الصَّك تعني من وجه آخر دعوى أنَّ السَّاحب له دَيْن عند المسحوب عليه "الرصيد"، وهو عبارة عن الوديعة؛ فإذا ثبت غير ذلك يُعَدُّ محتالاً خائناً للأمانة يُعرَّض للعقاب.
تكييف علاقة هذه الأطراف الثلاثة في الفقه الإسلامي:
هل هي علاقة مديونية أم ائتمان وديعة؟ وما هي العلاقة بين هذه العقود (الدَّيْن، والقرض، والأمانة، والوديعة، والحوالة)؟
أُعرِّف أولاً الدَّيْن والقرض والعلاقة بينهما، ثم الوديعة والعلاقة بينها وبين الأمانة، ثم أُعرِّف الحوالة وشروطها، لأخلص إلى تكييف العلاقات أعلاه شرعاً.
الدَّيْنُ:
هو انشغال الذِّمَّة المالية للشخص. وقد يكون سببه أي عقد من عقود المعاوضات كالبيع، والقرض، والإجارة، وقد يكون سببه عقد من عقود المشاركات، كالشركة، والقراض، والمساقاة، والمزارعة، وغيرها. وقد يكون سببه عقد من عقود التبرُّعات كالهبة، والوديعة، والعارية، والحمالة، وقد يكون الضمان المترتب على الخطأ.
ويُطْلَق أحياناً مرادفاً للقرض.
القرض:
وهو في اللُّغة: القطع، مصدر قرض الشيء: قطعه. وفي الشَّرع: "دفع مال إرفاقاً لمن ينتفع به ويرد بدله" (1) . أو هو: "دفع متموّل في عِوَض غير مخالف له لا عاجلاً تفضُّلاً فقط، أي حالة كون ذلك الدَّفع تفضُّلاً أو لأجل التفضُّل، ولا يكون الدَّفع تفضُّلاً إلاَّ إذا كان النَّفع للمقترض وحده" (2) .
ومن هنا يمكن القول بأنَّ القرض جزء من الدَّيْن، والدَّيْن أعمّ منه؛ بل القرض سبب لانشغال الذِّمَّة، ومن ثَمَّ فهو سبب من أسباب المديونية.
الوديعة:
تأتي في اللُّغة على وزن هي فعيلة، من دع الشيء أي تركه، إذ هي متروكة عند المودَع. وقيل: مشتقة من الدّعة فكأنَّها عند المودَع غير مبتذلة للانتفاع.
__________
(1) الشيخ منصور البهوتي: كشّاف القناع عن متن الإقناع، دار الفكر، 1402 هـ، 4/312.
(2) الشيخ الدردير: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار الفكر، لبنان، ط/2، 4/359.(1/11)
ومعناها شرعاً: "المال المودَع ـ أي المدفوع ـ إلى من يحفظه بلا عِوَض".
والإيداع توكيل ربّ المال الجائز التصرُّف في حفظه تبرُّعاً من الحافظ، والاستيداع توكّل جائز التصرُّف في حفظ مال غيره تبرُّعاً بغير تصرُّف في المال المحفوظ.. فإنْ أذن المالك للمدفوع إليه في التصرُّف ففعل؛ صارت الوديعة عارية مضمونة (1) .
وقال في "بدائع الصنائع": "المودَع من يحفظ مال غيره"، والوديعة أمانة، والمودَع أمين يحفظ الوديعة بنفسه وبغيره ممن يحفظ له ماله من ولده وأجيره، ويحفظ للمودِع تبرُّعاً من غير أجر؛ فإنْ حفظ لنفسه بأنْ استعمل الوديعة فركب الدّابة، أو خلط النُّقود فهلكت، أو أتلفت فهو ضامن. وأمَّا لو حفظها لمالكها وهلكت من غير تعدٍ، فلا ضمان عليه، وإذا حفظها لربها بأجرة فهي إجارة وليست بوديعة".
ومن هنا يمكننا القول بأنَّ الوديعة هي أعلى درجات الائتمان، فهي أصل الأمانة بلا شك ولا مراء.
الحوالة:
هي "نقل الدَّيْن من ذمة بمثله إلى أخرى تبرأ بها الأولى".
وشروطها تتمثل في:
[1] رضاء المحيل والمحال، ولا يُشترط رضا المحال إليه، أو حضوره، أو إقراره.
[2] ثبوت دَيْن المحيل في ذمّة المحال عليه، وكذا دَيْن المحال على المحيل، وإلاَّ كانت وَكالة أو حمالة تحتاج إلى قبول المحال إليه.
[3] حلول الدَّين المحال به، ولا يُشترط حلول الدَّيْن المحال عليه.
[4] أنْ يتساوى الدَّيْنان قدراً وصفةً، ويجوز إحالة عشرة إلى عشرة من عشرين.
[5] أنْ لا يكون أحدهما أو كلاهما طعام من بيع، لئلا يدخله بيع الطعام قبل قبضه (2) .
خلاصة العلاقة بين هذه العقود شرعاً:
__________
(1) كشّاف القناع، مرجع سابق، 4/166.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، مرجع سابق، 4/529.(1/12)
الدَّيْن انشغال الذِّمَّة المالية لسبب تعاقد، أو تبرُّع أو خطأ أو غير ذلك، والوديعة أمانة بشروط خاصة بها، والقرض دفع مال، إرفاقاً لمن ينتفع به ويرد بدله، وما يجمع بين القرض والوديعة، فكلاهما دَيْنٌ. ولكن يميَّز بينهما فيما يلي:
[أ] أنَّ القرض دَيْن في الذِّمَّة، ومن ثَمَّ يُعاد فيه بدل العين المقرضة، بينما الوديعة أمانة عينية ترجع بذاتها ولا يلجأ إلى مثلها أو قيمتها إلاَّ إذا هلكت بما يوجب الضمان، وهنا يتحوَّل الأمر من وديعة إلى ضمان في الذِّمَّة.
[ب] القرض يتم لمصلحة المُقْرَضِ وهو المدين بينما الوديعة لمصلحة المودِع وهو مالك الوديعة.
ومن هنا نخلص إلى أنَّ علاقة السَّاحب بالمسحوب عليه علاقة مديونية سببها ائتمان وديعة مخلوطة بمال المسحوب عليه وهو المدين، ومأذون له في التصرُّف فيها مع الالتزام بدفعها متى ما طلبها صاحبها، وهي دَيْن في الذِّمَّة ومن ثَمَّ مضمونة. أي يجب ضمانها على المدين لتصرُّفه فيها، وهذا يجعلها عارية مضمونة كما نَصَّ عليه في "كشّاف القناع".
وأمَّا علاقة محرّر الشَّيْك بالسَّاحب فهي علاقة مديونية، فالمستفيد دائن للسَّاحب.
وأمَّا علاقة المستفيد بالمسحوب عليه؛ ففي الشَّيْك المعتمد علاقة حوالة دَيْن تبرئ السَّاحب، وأمَّا في الشَّيْكات العادية؛ فهي امتداد لعلاقة السَّاحب نفسه أي أنَّ المستفيد وكيل على السَّاحب، وإنْ انصرفت إليه آثار الوَكالة بتملُّكه المبلغ المسحوب بالصَّك من المصرف، وكأنَّه تحصَّل على إذن مسبق من السَّاحب بأنْ يسحب هذا المبلغ من البنك بالإنابة عنه ويمتلكه، وذلك لعدم ثبوت مديونية المسحوب عليه قبل تقديم الصَّك للصَّرف، فهي مجرد دعوى يمكن أنْ يصدّقها الواقع أو يكذبها، بعكس الصَّك المعتمد؛ فالمديونية فيه ثابتة بإقرار البنك بذلك بخَتْمِه للصَّك.
الحكم الشَّرعي لتحرير الصَّك المردود أو تظهيره:(1/13)
إذا حرَّر الشَّخص الصَّك مع علمه بعدم وجود رصيد كاف، وأعلم المستفيد بذلك عند الكتابة، فهذا مباح ويحول الصَّك من سند ائتمان واجب الوفاء إلى سند مديونية، ومعلوم أنَّ من حقّ الدَّولة أنْ تمنع بعض المباحات وتعزّر عليها للمصلحة العامة.
وأمَّا إذا لم يُخْطِر المستفيدَ بذلك؛ بل أوحى إليه بأنَّ المبلغ جاهز للصرف في البنك، فهذا احتيال في إضاعة حقوق الآخرين، وأكل أموالهم بغير حقّ، ومن ثَمَّ فهو محرَّم يستحق فاعله التعزير.
وأمَّا إذا لم يعلم بحقيقة رصيده، أو كان يظن وجود رصيد كاف وقابل للسَّحب، ومن ثَمَّ فوجئ بعدم الرَّصيد، فهو معذور، ولكن يقع عليه عبء إثبات هذا، حيث يفترض افتراضاً بسيطاً بأنَّه على علم بحال رصيده.
وكذلك بقية أسباب ردّ الصَّك، فإنْ مورست بحسن نيّة، ونتيجة خطأ فالعذر، وإنْ مورست بسوء نية فهي احتيال محرَّم يستحق فاعله التعزير.
ولا يختلف حكم تظهير الصَّك، عن حكم تحريره في أنَّ المظهر له إمَّا محوّل، وإمَّا وكيل تنصرف إليه آثار التوكيل، وفى أنْ مظهر الصَّك المردود إمَّا أنْ يفعل ذلك بحسن نية فيعذر، وإمَّا أنْ يفعل ذلك بسوء نية فيُعزَّر، ولكن يفترض فيه حسن النِّية وأنَّه يجهل حال حساب السَّاحب والبيِّنة على من يدعى خلاف ذلك.
نماذج سوابق قضائية مؤيِّدة لما تقدَّم بيانه
قضية حكومة السُّودان ضدّ... (1) :
تتلخص وقائعها في قيام علاقة تعاقدية بين المتهم وبنك الخرطوم بالقضارف، وبموجبها:
[أ] يبيع الطرف الثاني "المتهم" (320) جوال ذرة بنظام السَّلم، تسلّم في موعد أقصاه 31/3/1994م في المكان المتفق عليه.
[ب] يعطي الطرف الثاني "المتهم" شيكاً على بياض موقّعاً عليه.
[ج] إذا فشل الطرف الثاني في تسليم المبيع؛ يحقّ للبنك إلغاء العقد، ومطالبة الطرف الثاني بسداد قيمة المبيع وقت المطالبة، كما يحقّ للبنك تنفيذ الضمان.
__________
(1) مجلة الأحكام القضائية السُّودانية لعام 1995م، ص 56 وما بعدها.(1/14)
بالفعل فشل الطرف الثاني في تنفيذ العقد، ومن ثَمَّ ملأ البنك الشَّيْك بقيمة المبيع وقت المطالبة وقدَّمها للصَّرف، فَرُدَّ الصَّك لعدم الرَّصيد، فَفُتِحَ بلاغ من البنك.
خلصت محكمة الموضوع إلى أنَّ الصَّك لم يكن صكَّاً جنائيّاًً محرَّراً بمقابل وفاء؛ وإنَّما كان صكاً مدنياً، ومن ثم شطبت الدعوى، فطعن الشَّاكي أمام محكمة الاستئناف بالقضارف، فأيَّدت حكم محكمة الموضوع.
فطعنَ ثانيةً أمام المحكمة العليا، فغيّرت الحكم وقرّرت قاعدة مقتضاها: (إذا أعطى السَّاحب صكاً مصرفياً على بياض، موقّعاً عليه لشخص مفوّضاً إيَّاه تكملة تدوين البيانات من تاريخ، ومبلغ، ومستفيد، وتقديمه للمصرف، فإنَّ السَّاحب يكون مسئولاً جنائياً في حالة ارتداد الشَّيْك، إذا كان الارتداد لسبب من الأسباب الواردة في المادة (179) من القانون الجنائي.
تعليق:
اختلف حكم محكمة الموضوع، المؤيّد من الاستئناف، عن حكم المحكمة العليا ـ كما ترى ـ، وحتى المحكمة العليا فقد اشترطت للمسئولية التفويض من السَّاحب، وإن اعْتُبِرَ مجرّد الإعطاء تفويضاً حتى يثبت عكسه.
قضية حكومة السُّودان ضدّ... (1) :
قرّرت المحكمة العليا في هذه القضية ما يلي:
[أ] أنَّ الورقة ذات التاريخيين ـ تاريخ تحرير وتاريخ استحقاق أو تقديم للصَّرف ـ لا تُعَدُّ شيكاً، حتى لو أسماها السَّاحب أو المستفيد كذلك؛ لأنَّها تفقد مقوِّمات الشَّيْك، فتتحوَّل إلى كمبيالة.
[ب] الورقة التي تكتمل لها مقوِّمات الشَّيْك، تُعَدُّ في ذاتها أداة خداع لا يقتصر ضررها على المستفيد وحده، وإنَّما قد يمتدّ إلى غيره ممن يتعاملون بها عن طريق التظهير، ولذا يحميها الشَّارع مستقلةً عن الدَّوافع التي أملت إصدارها، والأسباب التي حرّرت بناء عليها.
__________
(1) مجلة الأحكام القضائية السُّودانية لعام 1995م، ص 53 وما بعدها.(1/15)
وذكر قاضي المحكمة العليا الذي كُلِّفَ بكتابة القرار في حديثه ما مضمونه: "إنَّ الشَّيْك إذا لم يحمل أمراً قطعياً بالسَّداد لدى الاطّلاع عليه، أو أنَّ مظهره الخارجي لا يدلُّ على أنَّه شيك؛ فلا يستحقّ الحماية الجنائية، ومن ذلك الشَّيْك ذو التاريخيين".
إلى أنْ قال: "ومعنى ذلك أنَّها سند مثبت للدَّيْنِ، يدلُّ على عدم وجود المبلغ لدى محرّره في تاريخ التَّحرير، وأنَّه يَعِدُ بأنْ يدفع هو أو غيره المبلغ المبيَّن في تاريخ السَّداد، والمستفيد من الشَّيْك راضٍ بذلك، فإذا لم يتيسّر هذا المبلغ في تاريخ السَّداد المؤجّل؛ لجأ صاحب الدَّيْن إلى المطالبة القضائية للحصول عليه، ويكون النِّزاع مدنياً؛ لأنَّ احتمالات عدم الدَّفع، كانت بادية منذ البداية فلا خداع...". وقد وافقه زميلاه.
قضية حكومة السُّودان ضدّ... (1) :
في هذه القضية، شطبت محكمة الموضوع الدَّعوى الجنائية، على أساس أنَّ الشَّيْك موضوع الاتهام لا يُعَدُّ شيكاً بالمعنى القانوني، ومن ثَمَّ لا يحميه القانون الجنائي، وأرست محكمة الاستئناف القواعد التالية:
[أ] إنَّ تحرير الشَّيْك بالتَّوقيع عليه يكفي أنْ يكون محلاً لتوجيه الاتهام إذا ما ارتدَّ؛ لأنَّ الافتراض كان: أنَّ السَّاحب قد فوَّض المستفيد في تحرير التاريخ والمبلغ المطلوب.
[ب] يمكن للمحكمة بعد ذلك مناقشة الرُّكن المعنوي في الجريمة، ولكن يكفي لتحرير التُّهمة توفُّر البينة المبدئية.
قضية حكومة السُّودان ضدّ... (2) :
في هذه القضية أرست المحكمة العليا مجموعة من القواعد، أهمّها:
[أ] لا يُشترط أنْ يكون مقابل الشَّيْك كافياً؛ بل يكفي فيه أنْ يكون موجوداً فقط، متمثّلاً في أي شيء ذي قيمة، وأنْ يكون مشروعاً، وغير مخالف للنِّظام العام.
__________
(1) مجلة الأحكام القضائية السُّودانية لعام 1995م، ص 98.
(2) مجلة الأحكام القضائية السُّودانية لعام 1994م، ص 107.(1/16)
[ب] يفترض أنَّ للشيك مقابل، ومن ثَمَّ يقع عبء إثبات عدم المقابل على السَّاحب، وليس على المستفيد عبء إثبات وجود المقابل.
[ج] الدَّفع بأنَّ الشَّيْك حُرِّرَ للضمان، لا يُجْدِي في دفع المسئولية الجنائية؛ لأنَّه يشكِّل من جهة مقابلاً مقبولاً، ولأنَّه من جهة ثانية لا يخوّل السَّاحب حقّ تحرير شيك بصورة مخالفة للقانون.
[د] اصطلاح (شيك ضمان) في ذاته اصطلاح غريب، والدَّفع به يستند إلى أنَّ الشَّيْك لم يحرَّر من أجل الوفاء، وإنَّما بقصد الضَّمان، ولكن هذا الدَّفع تعتريه من حيث المصداقية القانونية عقبات عديدة؛ بعضها مبدئية، وبعضها وقائعية بحتة.
قضية حكومة السُّودان ضدّ... (1) :
قرّر قضاة المحكمة العليا في هذه القضية ما يلي:
[أ] إعطاء الصَّك الموقَّع على بياض يُعَدُّ قرينة تفويض، وعلى من يَدَّعِى خلاف ذلك البَيِّنَةُ.
[ب] إذا ثبت أنَّ السَّاحب أعطى صكّاً مصرفيّاً موقَّعاً على بياض مع نهيه وتحذيره من عدم كتابة المستفيد، والتاريخ، والمبلغ، والتَّقديم والتَّظهير فلا يُعَدُّ ردّ الصَّك جريمة.
كما ورد في حديثهم: "وما تَمَّ لاحقاً بشأن كتابة المبلغ والتاريخ لا يغيِّر من أنَّ المتهم قد اتّجهت إرادته فعلاً عند تسليمه للشَّيكات إلى التَّداول، وأنَّه قد أخرجها نهائياً عن يده في مقابل ما تَمَّ تسليمه له من بضاعة؛ لهذا لا يمكن أنْ تكون هنا هي شيكات للضمان فقط؛ ولأنَّه إذا كان المتهم يريدها شيكات ضمان لانصرفت إرادته إلى ذلك، ولأخطر من فوَّضه بذلك بأنَّ هذه الشَّيْكات للضمان فقط ولعدم تقديمها للصرف...".
قضية حكومة السُّودان ضدّ... (2) :
__________
(1) مجلة الأحكام القضائية السُّودانية لعام 1996م، ص 41.
(2) مجلة الأحكام القضائية السُّودانية لعام 1996م، ص 50.(1/17)
أرست المحكمة ما يلي: "بما أنَّ الشَّيْك تعلَّق بمعاملة ربوية؛ فلا يمكن للمحاكم أنْ تصبح أداة لتنفيذ مثل هذه المعاملات الرِّبوية، وعلى الشَّاكي في مثل هذه الحالة أنْ يسعى إلى اقتضاء الدَّيْن بالطريق المدني إنْ كان ذلك ممكناً، أمَّا الاستناد إلى الشَّيْك في اللجوء إلى المحاكم الجنائية فلا سبيل إلى ذلك؛ لأنَّ المقابل لم يكن مشروعاً".
المبحث الثالث
جريمة ردّ الصَّك المصرفي في السُّودان
نَصَّ القانون الجنائي السُّوداني على تجريم محرّر الصَّك المصرفي المردود ومظهره، وذلك في المادة (179) منه، ونصها كما يلي:
[1] يُعَدُّ مرتكباً جريمة إعطاء صك مردود من يعطي شخصاً صكاً مصرفياً وفاءً لالتزام أو بمقابل، ويردّه المسحوب عليه بأيّ من الدَّواعي الآتية:
[أ] عدم وجود حساب للسَّاحب لدى المسحوب عليه وقت تقديم الصَّك.
[ب] عدم وجود رصيد للسَّاحب كافي أو قابل للسَّحب مع علمه بذلك.
[ج] وقف السَّاحب صرف قيمة الصَّك بأمر منه أو ممن ينوب عنه دون سبب معقول.
[د] تحرير السَّاحب للصَّك بصورة غير معقولة (مقبولة) مع علمه بذلك.
[2] من يرتكب جريمة إعطاء صك مردود يعاقب بالغرامة أو بالسِّجن مدة لا تجاوز خمس سنوات أو بالعقوبتين معاً.
[3] من يظهّر صكاً مصرفياً، ويسلّمه لغيره ويردّ، بالوجه الوارد في البند [1] وكان يعلم بما يدعو لردّه؛ يعاقب بالغرامة أو بالسِّجن مدة لا تجاوز ثلاث سنوات أو بالعقوبتين معاً.
[4] من يرتكب للمرة الثالثة جريمة إعطاء صك مردود أو تظهيره يعاقب بالسِّجن مدة لا تجاوز سبع سنوات وبالغرامة.(1/18)
هذه المادة عُنوِنَ لها بـ (إعطاء أو تظهير صك مردود)، وقسَّمها المشرع إلى أربع فقرات، تناول في الفقرة الأولى الصَّك المردود وأسبابه، وشروط تلك الأسباب، وفي الفقرة الثانية نَصَّ على عقوبة إعطاء الصَّك المردود، وتناول في الفقرة الثالثة تظهير الصَّك المردود وعقوبته، ثم تناول في الفقرة الرابعة العود إلى ارتكاب إعطاء أو تظهير الصَّك المردود بحسبانه ظرفاً مشدّداً للعقوبة إذا كانت للمرة الثالثة.
ويُشترط لتجريم الصَّك المردود والعقاب عليه ما يلي:
[1] أنْ يكون الصَّك صكاً مصرفياً، سواء كتب على النّموذج المعدّ من قِبَل البنك أم كُتِبَ على ورقة عادية.
[2] أنْ يحرّر هذا الصَّك وفاء لالتزام أو بمقابل، ويُفترض وجود المقابل افتراضا بسيطاً قابلاً لإثبات العكس، ويُشترط وجود المقابل ولا يُشترط كفايته، ولا تبحث المحكمة الجنائية عادة عن مشروعية المقابل. وإذا أثبت السَّاحب أنَّ المقابل غير مشروع أو مخالف للنِّظام العام والآداب فتشطب الدعوى الجنائية (1) . ومدنياً يجب أنْ يكون المقابل مشروعاً لجواز المطالبة به، وبالتعويض عن الأعطال والأضرار التي تترتّب على عدم صرفه.
[3] أنْ يردّ الصَّك لواحد من الأسباب التالية:
[أ] لعدم وجود حساب للسَّاحب (محرّر الشَّيْك)، لدى المسحوب عليه (البنك)، وذلك وقت تقديم الصَّك للصَّرف، ولا يعتدّ بوجود الحساب وقت كتابة الصَّك. ومعلوم أنَّ صلاحية الصَّك المصرفي تستمر ستة أشهر من تاريخ الاستحقاق.
__________
(1) انظر: مجلة الأحكام القضائية السُّودانية لعام 1996م، ص 50.(1/19)
ويتصوّر عدم الحساب في صورتين هما: ألاَّ يكون للسَّاحب حساب أصلا في البنك، وأنَّه قد تحصل على دفتر الشَّيْكات بطرق غير مشروعة كالسَّرقة والتَّزوير. أو أنْ يكون للسَّاحب سابقاً حساب في البنك، ويتحصَّل على دفتر الشَّيْكات، ثُمَّ ينهي حسابه بالبنك قبل تقديم الشَّيْك للصَّرف، سواء أكان ذلك قبل كتابة الشَّيْك أو بعده، وفي كل هذه الصُّور قد تضاف لمحرر الشَّيْك جرائم أخرى بجانب إعطاء الصَّك المردود، كالسَّرقة أو الاحتيال أو التَّزوير
أو الرَّشوة...الخ.
[ب] عدم وجود رصيد للسَّاحب كاف وقابل للسَّحب وقت تقديم الصَّك مع علمه بذلك، وهذا هو الأكثر شيوعاً في الشَّيْكات المردودة حتى إنَّ الجمهور يُطلق على هذه الجريمة (جريمة شيك بدون رصيد)، ويصدق عدم الرَّصيد على كل من عدم الرَّصيد من أصله كما يتبادر إلى الذِّهن، وعدم كفاية الرَّصيد بحيث يوجد رصيد ولكنه لا يكفي لصرف الشَّيْك، كما يصدق على وجود رصيد كافٍ للصَّك ولكنه غير قابل للصَّرف، مثل أنْ يُحجز جزء من رصيده بوساطة محكمة أو شيك معتمد. ففي كل هذه الصُّور لا يستطيع المسحوب عليه أنْ يصرف الشَّيْك فيردّه مع بيان السبب.
وبما أنَّ عملية الرَّصيد الكافي والقابل للسَّحب سِرٌّ بين السَّاحب والمسحوب عليه، وقد لا يعلم السَّاحب أحياناً بمقدار رصيده وأحواله مع زحمة الحياة، وخاصة إذا كان حسابه في حركة دائبة (سحب وإيداع) بيد السَّاحب وغيره من أعوانه ومديونيه، وأنَّ بعض الشَّيْكات تقدّم بعد فترة من تاريخ كتابتها؛ بل أحياناً تقدّم بعد فترة طويلة من تاريخ استحقاقها، فالسَّتة أشهر ليست باليسيرة.
لكل هذا قدَّر المشرع ظروف السَّاحب، واشترط في حالة ردّ الصَّك لعدم الرَّصيد الكافي والقابل للسَّحب، علمه بذلك، فإذا أثبت أنَّه لم يكن يعلم بأنَّ رصيده غير كافٍ أو غير قابل للسَّحب، فلا يُعَدُّ مرتكباً لهذه الجريمة.(1/20)
[ج] وقف السَّاحب صرف قيمة الشَّيْك بأمر منه، أو ممن ينوب عنه، دون سبب معقول كأنْ يتصل بالمسحوب عليه (البنك) ويطلب منه إيقاف الشَّيْك المعني.
وهنا قد يكون هذا الإيقاف لسبب معقول؛ مثل خطأ في المقاصّة أو الحساب، فلا يُعَدُّ هذا التَّعطيل للصرف جريمة؛ وإنَّما يُعَدُّ جريمة إذا كان بغير سبب معقول، سواء صدر من السَّاحب أو ممن يقوم بعمله كوكلائه وأولاده وعمّاله.
[د] تحرير السَّاحب للصَّك بصورة غير معقولة مع علمه بذلك، مثل أنْ يوقّعه بتوقيع وهو يعلم أنَّه غير مطابق للتوقيع المتفق عليه مع البنك، ومثل أنْ يكتبه بالجنيه وهو يعلم أنَّ البنوك لا تتعامل إلاَّ بالدِّينار، حسب العملة المتداولة، ومثل أنْ يشطب كلمة أو يعدلها، ثم لا يوقع في محل الشَّطب
أو التَّعديل. ومعلوم أنَّ البنك في مثل هذه الأمثلة لا يصرف الصَّك بل يردّه.
وهذه الأمثلة المذكورة أعلاه قد تقع من الشَّخص عادة في إطار العمل اليومي، وتتلافى بالتَّوقيع بعد التَّعديل، وقد يكون للشَّخص أكثر من حساب وفي كل حساب توقيع مخالف للآخر، ونتيجة خطأ قد يوقّع على الصَّك بتوقيع حساب آخر، وقد يشطب أو يعدل ثم ينسى التّوقيع عند التعديل، ولذا لم يعتبر المشرع مجرّد الكتابة غير المقبولة أو غير المعقولة كافٍ للتَّجريم؛ وإنَّما أضاف لها شرطاً وهو عبارة: (مع علمه بذلك)، فهذه الكتابة غير المقبولة لدى المسحوب عليه مع العلم بأنَّها غير مقبولة تخرجه من إطار حسن النِّية إلى سوء القصد، ومن ثم إلى احتيال ومماطلة الآخرين في أداء حقوقهم، ومن ثَمَّ تجعله ظالماً جائراً، وهذا الظُّلم والجور يحل عقوبته بالتعزير، وعرضه بالحديث عنه، كأنْ يقول المظلوم: ظلمني فلان، ومن ثَمَّ يشين سمعته، والسُّمعة في السُّوق أغلى ما يباع ويوهب.
عقوبة إعطاء الصَّك المردود:(1/21)
نَصَّ المشرع على هذه العقوبة في الفقرة الثانية، وجعل عقوبة هذه الجريمة الغرامة أو السِّجن مدة لا تجاوز خمس سنوات أو العقوبتين معاً.
سار هذا القانون على ذكر عقوبة السِّجن أولاً، ثُمَّ الغرامة، ثُمَّ العقوبتين معاً، إذ أراد أنْ يطلق يد القضاء للاختيار بين السِّجن والغرامة والجمع بينهما، حسب ملابسات كل قضية، ولكن هنا بدأ بالغرامة، ثُمَّ السِّجن، ثم الجمع، مع ترك حُرِّيَّة الاختيار للمحكمة، لتعاقب بما تراه مناسباً؛ وذلك لأنَّ جريمة الشَّيْك مالية في أسبابها، ودوافعها، ونتائجها، ولهذه العلاقة بدأ المشرع بالغرامة.
كذلك حدّد الحد الأعلى لعقوبة السِّجن وهو مدة لا تجاوز خمس سنوات، وترك الحد الأدنى لحُرِّيَّة المحكمة لتختار ما تراه مناسباً، في إطار إفراد السِّجن
أو الجمع بينه والغرامة، بالإضافة للظُّروف الموضوعية المحيطة بارتكاب الجريمة، وسجل المتهم الجنائي.
كما يلاحظ أنَّ المشرع لم ينص على الحد الأدنى أو الأعلى للغرامة، وإنَّما ترك ذلك للمحكمة، وهو منهج عام سار عليه هذا القانون بعد أنْ وضع قواعد لتقدير الغرامة في جزءه العام في المادة (34-1)، حيث نصَّت على أنْ تقدر المحكمة الغرامة بالنَّظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة، وقدر الكسب غير المشروع فيها، ودرجة مشاركة الجاني، وحالته المادية.
تظهير الصَّك المردود وعقوبته:
جرّم المشرع السُّوداني تظهير الصَّك المردود بالشروط الآتية:
[أ] أنْ يظهّر صكاً مصرفياً، ويسلّمه لغيره.
[ب] أنْ يَرُدّ هذا الصَّك المسحوبُ عليه بسبب من الأسباب الأربعة المذكورة في الفقرة الأولى من المادة (179) إعطاء صك مردود، والمتمثلة في عدم وجود حساب للسَّاحب عند تقديم الصَّك أو عدم وجود رصيد كاف وقابل للسَّحب، أو وقف السَّاحب أو من ينوب عنه صرف الصَّك دون سبب معقول، أو تحرير الصَّك بصورة غير مقبولة.(1/22)
[ج] أنْ يكون لدى المظهِّر العلم أو ما يدعو للعلم بأنَّ الصَّك الذي يُظَهِّرهُ سَيُردّ؛ وذلك لأنَّ الأسباب الواردة أعلاه تخصّ العلاقة بين السَّاحب والمسحوب عليه، ولا يعلمها غيرهما عادة، ومن ثَمَّ إذا ظَهَّر المستفيد الأول الصَّك بحسن نية وهو يعتقد أنَّ للصَّك مقابلاً للوفاء، وأنَّ الصَّك مستوف للشُّروط المطلوبة لدى المسحوب عليه، ثُمَّ رُدَّ الصَّك لعدم الرَّصيد أو عدم مطابقة التوقيع، فلا سبيل لتجريمه إلاَّ إذا عُلِمَ أنَّه كان على علم بذلك، كأنْ يتصل عليه السَّاحب ويخطره بألا يقدِّم الصَّك للمصرف لعدم وجود رصيد، وبعد هذا يظهّره لمستفيد ثاني، فهذا محتال يستحقّ العقاب، ولكن المشرع لم يكتف بالعلم الحقيقي، وإنَّما أضاف عبارة: (وكان يعلم بما يدعو لردّه)، وهي أوسع نطاقاً من كلمة: (وكان يعلم بوجود أسباب لردّه)، وبهذا أتاح فرصة أمام المستفيد الثاني لإثبات إدانته بالقرائن.
وعقوبة من يظهِّر صكاً مصرفياً ـ وتتوافر فيه شروط التجريم السابقة الذِّكر ـ يعاقب بالغرامة أو بالسِّجن مدة لا تجاوز ثلاث سنوات أو بالعقوبتين معاً. ويلاحظ أنَّ المشرع جعل الحد الأعلى لعقوبة سجن مظهِّر الصَّك أقلَّ من معطي الصَّك، حيث جعله ثلاث سنوات، ولمعطي الصَّك خمس سنوات، وهذا يتناسب مع اختلاف مستوى ممارستهم الجرم.
وقد سبق أنْ ذكرنا أنَّ بعض التَّشريعات لا تعاقب على تظهير الصَّك.
ومعلوم أنَّ الصَّك المصرفي من الأوراق التَّجارية التي يتم تداولها بالتظهير أو بالتسليم حسب طريقة تحريرها، وأراد المشرع أنْ يحمي الثِّقة على تداول الصَّك المصرفي في جميع أطوار حياته، فحماه من محرّره ومظهّره.
اعتياد ارتكاب جريمة الصَّك المردود:(1/23)
اعتبر المشرع ارتكاب جريمة الصَّك المردود، إعطاء أو تظهيراً للمرة الثالثة اعتياداً لارتكابها، وهذا يتناقض مع نص الفقرة (1) من المادة (41) التي تنص على أنَّ الإدانة في الجريمة للمرة الثالثة تُعَدُّ ظرفاً مشدّداً.
ولذلك نَصَّ المشرع في الفقرة الرابعة من المادة (179) على أنَّ من يرتكب جريمة إعطاء أو تظهير الصَّك المردود للمرة الثالثة، يعاقب بالسِّجن مدة لا تجاوز سبع سنوات وبالغرامة.
وكان تشديد العقوبة من وجهتين:
[أ] بدأ بالسِّجن ورفع حدّه الأعلى إلى ما لا يجاوز سبع سنوات.
[ب] أوجب الجمع بين العقوبتين "السِّجن والغرامة".
كما يلاحظ أنَّ المشرع في العود ساوى بين محرّر الصَّك ومظهّره، خلافاً لِمَا نَصَّ عليه في غير العود؛ وذلك لأنَّ مظهّر الصَّك المردود إذا اعتاد ذلك وأدين للمرة الثالثة ظَهَرَ بأنَّه مجرم محترف للاحتيال والمماطلة من هذا الوجه، وزال ما كان من فرق بينه وبين محرِّر الصَّك في مستوى سوء النِّية واحتمالات الأخطاء بحسن نية، ومن ثَمَّ زال الفرق بينهما في العقوبة.
تاريخ تجريم الصَّك المردود في السُّودان:
يطلق مصطلح "الصَّك المصرفي" في السُّودان على الشَّيْك، وهو عبارة عن ورقة تجارية، ويقوم في السُّودان بمهام الكمبيالة، ولذا يُعامل معاملتها في القانون السُّوداني، ومن ثم يُعَدُّ عدم الوفاء به عدم وفاء بدَيْن مدني يعرِّض فاعله للمسائلة المدنية بدفع القيمة والتعويض عن الأضرار والأعطال التي ترتَّبت على ردَّه.
ومع ذلك كان يخضع أحياناً لقانون العقوبات تحت الاحتيال، وذلك إذا مارس محرّره بعض الأفعال التي تجعله يدخل تحت تعريف الاحتيال وَفقاً لقانون العقوبات لسنة 1925م. وهي في الواقع ظروف وتصرُّفات يصعب إثباتها، لإثبات جريمة جنائية على محرّر الصَّك المردود.(1/24)
ولعلَّه كان هكذا في معظم الأقطار حتى مطلع القرن العشرين، حيث بدأ تحويل الشَّيْك المردود جريمة جنائية، لا تستلزم أنْ تكون قد مورس فيها الاحتيال والنَّصب لتصبح جنائية؛ بل مجرّد تحرير الشَّيْك دون رصيد يمثِّل جريمة جنائية، وهذه الحماية التي وضعها المشرع إدراكاً لأهمية الثِّقة على تداول الشَّيْك والتي تؤدي إلى زيادة الائتمان؛ بل اعتبر الشَّيْك صنو النُّقود.
ولم يدخل السُّودان هذا المضمار إلاَّ في عام 1969م، حين أدخل تعديلاً على قانون العقوبات لسنة 1925م، بإضافة المادة (362-ب) بالقانون رقم (33) لسنة 1969م.
وبما أنَّ إعطاء وتظهير الصَّك المردود جريمة مالية، ولها علاقة بالاحتيال في بعض صورها، وردت بعد الاحتيال مباشرة وبالرقم نفسه مع إضافة (ب) للتمييز بينهما، ولأغراض فنية أخرى، منها الحفاظ على أرقام المواد كما هي.
والملاحظ أنَّ قبله الاحتيال والمسبوق بخيانة الأمانة، وبعده التملُّك الجنائي وكلها جرائم مالية لها علاقة بالنَّصب وأكل أموال النَّاس بالباطل، ووسائلها التحايل وانتهاز الفرص وترصدها بسوء نية. فهذا ما يجمع بينها، فخيانة الأمانة، والاحتيال، والشَّيْك المردود، والتملُّك الجنائي؛ كلها جرائم أزمة ضمير وسوء نية.
الخاتمة:
وتشمل أهم النَّتائج والتَّوصيات التي توصَّل إليها الباحث.
أولاً: النَّتائج:
[1] ظهر لي من البحث أنَّ الشَّيْك عبارة عن ورقة تجارية، كانت تحكم في الماضي بالتَّشريعات المدنية.
[2] الصَّك المردود جرِّم لأول مرة في السُّودان في عام 1969م، بالقانون رقم (33) ومواده.
[3] يقوم الشَّيْك في السُّودان مقام الكمبيالة والشَّيْك معاً، فإذا قام بعمل الشَّيْك يَحْكُمُ عدمَ الوفاء به القانون الجنائي، وإذا قامَ بعمل الكمبيالة فَيُعَدُّ عدم الوفاء به عملاً مدنياً.
[4] يصعب التمييز بين عدم الوفاء المدني والجنائي.(1/25)
[5] أنَّ المادة (179) من القانون الجنائي الحالي مع خلط العمل المدني والجنائي للشَّيْك جعلا مساهمة الشَّيْك سلبيّة في الحياة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، وهذه المادة بوضعها الحالي غير كافية لحماية محرِّري الشَّيْكات والمستفيدين منها على السَّواء.
[6] عدم وجود أسس تشريعية واضحة ومنضبطة للتفريق بين الشَّيْك المدني والجنائي أدَّى إلى اضطراب في الأحكام القضائية.
[7] الشَّيْك بوصفه الحالي أخرج بيوتات؛ بل مؤسسات من السُّوق، بل ودفع بأعداد هائلة إلى السُّجون، حتى سَمَّى بعض الساخرين بعض أقسام السُّجون بـ "كليات التِّجارة".
[8] تحرير الأسواق في بداية العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي، وما صاحبه من التضخُّم وانفلات سرعة تغيير الأسعار؛ ساعد على انكباب النَّاس على كتابة الشَّيْكات الآجلة، دون الالتفات إلى الرَّصيد؛ بل ظَنَّ الكثيرون أنَّ الفارق بينه والغنى أنْ يفتح حساباً جارياً في البنك ويستلم دفتر الشَّيْكات، فيشترى سلعة بثمن آجل، في حدود عشرة ملايين من الجنيهات، وتباع بعد شهر بخمسة عشرة مليوناً من الجنيهات.
[9] الذين فاتهم الغنى في فترة التضخُّم حاولوا اللحاق بالرَّكب من خلال ما سُمَّيَ في الأسواق بـ "الكسر"، وهو شراء بأجل مع زيادة في السِّعر عما يتوقّع من ارتفاعات التضخُّم، وغالباً بالشَّيْكات الآجلة، ثُمَّ بيع ذلك بالنَّقد، وبأسعار أقلَّ حتى من سعر وقته، رغبة في أنْ يكون في يده نقوداً. وهذا أدَّى بدوره إلى خسارة البائع بأجل، لعدم وفاء المشتري ببناء رصيده، وخسارة وسجن محرِّر الشَّيْك.(1/26)
[10] البنوك أيضاً تعرَّضت لهزة بسبب هذه التصرُّفات، وخاصة البنوك المتخصِّصة، مثل: البنك الزِّراعي، الذي دخلت علاقته بالمزارعين إلى سوق المحاكم، والأجاويد، وساعد في ذلك ضعف ثقافة المجتمع السُّوداني في التعامل مع أموال البنوك، مما جعل أقرب طريق للسِّجن وبيع المنزل والدُّكان التعامل مع أي بنك في القروض، ومعلوم أنَّ من الضَّمانات التي يستوثق بها البنك، الشَّيْكات الآجلة.
ثانياً: التَّوصيات:
ولحل ما سبق؛ أوصي بما يلي:
[1] إعادة النَّظر في المادة (179) من القانون الجنائي، بزيادة العقوبات الواردة فيها، وتفعيلها لتردع محرِّري ومظهِّري الصَّك المردود، بحيث يحسب ألف حساب قبل الإقدام على هذا العمل.
[2] وضع أسس تشريعية واضحة للفصل بين ما يقوم به الصَّك المصرفي من عمل مدني وجنائي.
[3] تثقيف المواطنين عامة في كيفية التعامل مع أموال البنوك خاصة، وبيوتات المال والاستثمار الدَّاعمة للمنتجين، مثل: بنك الادّخار، والبنك الزِّراعي، وديوان الزَّكاة، وبقية الصناديق الخيرية، أو الاستثمارية التي تدعم الأسر المنتجة أو الأفراد المنتجين.
وإذا لم نفعل ذلك؛ فإمَّا عجّلنا بهم إلى السُّجون أو الإفلاس وبيع العقارات والمقتنيات الشَّخصية، أو حوّلناهم إلى مستهلكين لا يبذلون جهداً للاستفادة مما أتيح لهم من المنح؛ بل يتحولون إلى متسولي منح الصَّناديق الخيرية.
وفي الختام أردتُ أنْ أساهم بهذا الجهد المتواضع في حماية الثِّقة على الائتمان المصرفي والنَّتائج المرجوة منه، وحماية محرري الصَّكوك المصرفية المردودة والمستفيدين منها على السواء.
فإنْ أصبت فيه فمن الله، وما أخطأت فيه فمن نفسي والشيطان.
.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..(1/27)