كتاب
أَحْكَام السُّوقِ
أو:
النظر والأحكام في جميع أحوال السوق
تأليف
الإمام الفقيه
أبي زكريا يحيى بن عمر بن يوسف الكناني الأندلسي
( 213 – 289 هـ )
اعتنى بضبط النص
جلال علي عامر
كان الله له
عن الطبعة التونسية
تقديم
الأستاذ أبو سلمان محمد العمراوي السجلماسي
مقدمة الشيخ أبي سلمان محمد العمراوي السجلماسي
بسم الله الرحمن الرحيم
-اهتمام علماء الفقه الإسلامي بالتدوين في الجانب المالي.
ومن الأمثلة على ذلك:
1-كتاب الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، المتوفى 224 هـ .
2-الخراج، لأبي يوسف القاضي، المتوفى 182 هـ .
3-الأموال، لأحمد بن نصر الداودي المالكي، المتوفى عام 402 هـ .
4-الأموال في الفقه المالكي، للعابدي العلوي (معاصر) .
- صعوبة البيوع مع شدة الحاجة إليها.
نقل الذهبي عن ابن وهب قال: سمعت مالكا- وقال له ابن القاسم: ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر. فقال مالك: من أين علموا ذلك؟ قال منك يا أبا عبد الله! قال: ما أعلمها أنا فكيف علموها بي ؟.(1)[2]
- إباحة الدخول إلى السوق للتجارة وطلب المعاش، ودعوة الخلق إلى الحق { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } (الفرقان:7) .
- وجوب تعلم الأحكام المتعلقة بالسوق لمن يريد الاتجار فيها. وقد روي عن عمر بن الخطاب –-رضي اله عنه- أنه قال:" لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أكل الربا "، وكان يخرج من السوق من لا يعلم أحكام البيع، كما ذكر الزرقاني في شرحه على الموطأ.
__________
(1) - انظر ذلك في ( سير أعلام النبلاء ) 8/76.(1/1)
ونقل الشيخ أبو محمد في كتاب ( النوادر...) أن عمر –رضي الله عنه- نهى الأعاجم عن البيع في السوق حتى يتفقهوا في الدين، يعني من لا يعرف تحريم الربا .. وبيع الطعام قبل الاستيفاء، وشبه ذلك من كبيرات الأمور وظاهر الفقه، وأما خفيات الفقه والعلم فلم يرده.
- كتاب أحكام السوق ليحيى بن عمر، قد يكون أول كتاب ألف في هذا الباب من أبواب الفقه الإسلامي.
وهذه الكلمات. هي تلخيص لأهم مباحث الكتاب. مع بعض التوضيحات التي يقتضيها المقام.
أهم مباحث الكتاب:
أ-وجوب إشراف الدولة على ضبط حركة السوق، وذلك:
1- بتعيين مراقبين
2- توحيد المكاييل والموازين..
3- معاقبة المتلاعبين بتلك الأنظمة والمعايير ولو بحرمانهم من الاتجار في السوق بإخراجهم منها، أو غلق محلاتهم التجارية.
4- حماية السوق من الأموال المزيفة والنقود المزورة، قال الشيخ أبو زكرياء يحيى بن عمر:( ينبغي للوالي الذي يتحرى العدل أن ينظر في أسواق رعيته، ويأمر أوثق من يعرف ببلده أن يتعاهد السوق، ويعير على أهله صنجاتهم وموازينهم ومكاييلهم كلها، فمن وجده قد غير شيئاً من ذلك، عاقبه على قدر ما يرى من بدعته وافتياته.. ثم أخرجه من السوق حتى تظهر منه التوبة ... ولا يغفل النظر، إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة أو مخلوطة بالنحاس، وأن يشدد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفِر به -إن كان واحدا أو جماعة- أن ينالهم بشدة النكال والعقوبة، ويأمر أن يطاف بهم في الأسواق، ويشرد بهم من خلفهم..ص –2- و-40-(1/2)
وسئل عن اختلاف الموازين والمكاييل التي يحدثها الناس دون الرجوع إلى السلطان؟ فقال: ( فلا ينبغي لحواضر المسلمين في أسواقهم أن تكون بهذه الحال التي وصفت. فإن كان لهم وال، فليتق الله ربه فيما استرعاه الله، ويحوطهم في موازينهم ومكاييلهم حتى تكون.. معروفة كلها، وقناطيرها وأرطالها. ويكون أصل ما توضع عليه أرطالهم على الأوزان التي أوجب النبي –صلى الله عليه وسلم- زكاة العين...ويضع مكاييل رعيته.. على الكيل الذي فرض رسول الله زكاة الحبوب به..ص-3-4-5-
-الجماعة تقوم مقام الإمام عند عجزه أو فقده.. قال الشيخ: ( وإذا كان المسلمون في موضع ضيع الوالي هذا من رعيته أو لم يكن معهم وال، فليجتمع خيارهم وأهل الفضل والصلاح منهم حتى يجعلوا لأهل موضعهم من موازينهم ومكاييلهم شيئا مثل ما وصفنا...) وقد ذكر مثل هذا الكلام ابن عبد البر والعلمي..
ب-: تحرير الأسعار وإزالة الإضرار .(1/3)
قال الشيخ تحت باب: الحكم في القيم والتسعير(1)[3]: ( ...وكذلك حدثني من سميت لك من مشايخي عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لا يسعر على أحد من أهل السوق، فإن ذلك ظلم. ولكن إن كان في السوق عشرة أصوع، فحط هذا صاعا يخرج من السوق. قال يحيى بن عمر: هذا الذي آخذ به وأختاره لنفسي .. وقد فعل ذلك عمر.. قال لرجل يبيع زبيبا، إما أن تزيد في السعر وإما أن تخرج من سوقنا.(2)[4]... قال يحيى بن عمر: ولو أن أهل السوق اجتمعوا على أن لا يبيعوا إلا بما يريدون مما قد تراضوا عليه مما فيه المضرة على الناس، وأفسدوا السوق
__________
(1) - [3] اختلف علماؤنا في معنى التسعير الممنوع عند مالك، قال القاضي عبد الوهاب –رحمه الله-: " ولا يجوز التسعير على أهل الأسواق، ولكن من حط سعرا أمر بأن يلحق بأهل السوق أو ينعزل عنهم، واختلف أصحابنا –رحمهم الله- في قول مالك فيمن حط سعرا. فقال البغداديون: من باع خمسة أرطال بدرهم، والناس يبيعون ثمانية بدرهم. وقال بعض البصريين: هو من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة.وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان . انظر ( عيون المجالس ) 3/ 1519.ونقل الشيخ أبو محمد عن ابن القاسم قال مالك في السوق إذا أفسده أهله، وحطوا سعره، أيسعر عليهم ؟ فكره التسعير وأنكره. انظر تفصيل ذلك في ( النوادر والزيادات) 6/449.
(2) -: الرجل المعني هو حاطب ابن أبي بلتعة، وإلى ما ذكره الشيخ هنا ذهب جماعة من أهل العلم كالقاضي عبد الوهاب.. وخالف في ذلك ابن رشد وقال: هذا غلط ظاهر، إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس، ويؤجر إن فعله لوجه الله. انظر (شرح الزرقاني على الموطأ)3/381.(1/4)
كان إخراجهم من السوق حقا على الوالي... وكذلك أرى أن يفعل بمن نقص من السعر الذي عليه أهل السوق... 6-9.و38-42.(1)[5]
ج-: إزالة كل أنواع الغش والتدليس والغرر. وعقوبة من فعل شيئا من ذلك في ماله.
وقد ذكر الشيخ لذلك أمثلة كثيرة نذكر منها نتفا:
- سئل عن الحناطين: هل يجب عليهم أن لا يبيعوا القمح والشعير والفول و... حتى يغربلوها؟ فقال: قال مالك: لا يبيعون كل ما ذكرت إلا بعد أن يغربلوها..قال يحيى: فأرى أن يلزموا بذلك.
-وسئل عن التين المدهون، هل ينهى أهله أن لا يدهنوه، فقال: أرى أن ينهوا عن دهن التين بالزيت... فإن نهي ثم دهنه بعد ذلك،فأرى أن يتصدق بالتين على المساكين أدبا له.. وكذلك اللبن إذا مزج بالماء.. وكذلك الخبز إذا نقص.. ويقام من السوق.ص:10-11.
د-: وجوب البيان ومشروعية كتابة لائحة مواد صناعة الغذاء
__________
(1) - ومن أجل رفع الضرر منع الإسلام تلقي السلع خارج الأسواق. قال مالك: لا تتلقى السلع لتشترى، وإن لم يرد التجارة حتى يهبط بها إلى سوقها.. انظر ( النوادر..) 6/443. وقد قيد بعض الأئمة النهي عن تلقي السلع بقرب المسافة، أما إذا كانت بعيدة –ستة أميال مثلا وتقدر الآن بما يساوي:1609 متر - فلا. ( حاشية الدسوقي ) 3/70. وقال آخرون: لا يجوز بعد أو قرب. هذا ما فهمه الأبي من كلام شيخه ابن عرفة، وهو قول الباجي والمازري وقال: إنه معقول المعنى.(1/5)
وذكر أن مالكا سئل عن لبن البقر والغنم يخلطان جميعا، وأن يضرب كل واحد منهما على حدة، وإن ضربا جميعا؟ قال..أرى عليه إذا باع أن يبين ذلك للمبتاع فيخبره أن ذلك لبن بقر وغنم. وتساهل في خلط زبدهما لتقاربهما في الجودة..(1)[6] ثم قال: وأحب إلي أن لا يخلط. وهذا الحكم يجري –على الجملة - في خلط الشيء بعضه ببعض. قال يحيى بن عمر: سئل ابن القاسم عن الجزار يكون عنده اللحم السمين واللحم الهزيل فيخلطهما، ويبيعهما بوزن واحد مختلطين، والمشتري يرى ما فيه من المهزول والسمين، غير أنه لا يعرف وزن هذا من هذا. قال: أما إن كان الأرطال اليسيرة...فلا أرى بذلك بأسا. وإن كثرت الأرطال.. فلا خير في ذلك حتى يعرف وزن كل واحد منهما، لأن ذلك من الغرر(2)[7]..وأرى أن يمنع الجزارون من مثل ذلك.. ومثل ذلك خلط الفؤاد والكرش والدوارة مع اللحم .. ص-21-و-46
هـ-:مراقبة الجودة ومنع ما يضر الناس سواء في أموالهم أو في أبدانهم .
__________
(1) - قال الشيخ ابن أبي زيد: ...قال مالك -في لبن البقر والغنم يخلطان فيخرج زبدهما معا ثم يباع لبنهما، -:" أحب إلي أن يعرف كل واحد على حدته، فإن لم يفعل، فليبين ذلك في بيعه للبن والزبد". انظر ( النوادر والزيادات ) 6/271.
(2) - قارن بـ ( النوادر والزيادات ) لابن أبي زيد. 6/272.(1/6)
سئل عن إخلاء السوق لرجل يبيع فيه وحده لحاجة اقتضت ذلك.. فقال: إذا أخلى أهل السوق السوق لهذا الرجل كما ذكرت وكان مضرة على العامة نهوا عن ذلك. وإن لم يكن على العامة فيه ضرر فذلك لهم.(1)[8] وسأل صاحبُ السوق مالكاً عن الرطب الذي يباع في السوق وقد غمره؟ فأمره أن يتقدم إليهم أن لا يبيعوه مغمراً، فإن ذلك يضر بالبطون .. وأن يضرب الذي استعمله .. وكذلك البطيخ الذي يقضب ويجلب إلى السوق للسعر، وغيره من الفواكه، فإنه لا يحل قطعه حتى ينتهي نضجه. ص-24-(2)[9] .
- جواز بيع ما أعيد تصنيعه أو استعماله كالثياب المستعملة –مثلا-بشرط البيان. قال مالك:" وكذلك الثياب تلبس ثم تقصر ثم تباع.فلا أرى ببيعها بأسا إذا بين أنها لبست ثم قصرت.قال: وأراه عيبا فيها إذا لم يبين.قال: وأرى أن يبين لمن يشتري الرطب المخلل والثياب المقصرة، لأنه عيب وغش،..قيل ليحيى بن عمر: أتقول بهذا كله؟ قال: لا أرى أن يباع مثل الرطب المخلل وإن بينه، لأنه لعل مشتريه لا يعلم أنه يؤذيه إذا أكله، والثياب أسهل. ص-25-(3)[10]
__________
(1) - يمكن أن يعتبر هذا مظهرا من مظاهر حرية السوق. قال في ( النوادر.. لا بأس أن يقول المبتاع لرجل حاضر كف عني، لا تزد علي في هذه السلعة. وأما الأمر العام فلا..
(2) - جاء في كتاب ( النوادر والزيادات ) للشيخ أبي محمد: " ولا يحل بيع السم ولا تملكه بحال، والناس مجتمعون على تحريمه ". 6/186.
(3) 10] -قصر الثياب: تدقيقها وتبييضها. وإذا اشتريت الثياب القديمة من السوق فلا بد من غسلها قبل الصلاة فيها. قال الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد –رحمه الله-:".. ومن ابتاع ثوبا من ذمي، أو ممن لا يتحفظ من المسلمين من البول والنجاسة والخمر.. فليغسله قبل أن يصلي فيه ". انظر النوادر..) 1/211.
ومما حفظناه من شيوخنا في هذا المعنى قول القائل:
وقال مالك: ثياب السوق ... تغسل بالماء على الإطلاق
إلا إذا اشتريتها جديدة ... من مسلم أو كافر يهودة(1/7)
و-: يمنع بيع المحظور شرعا وكذا ما أدى إلى المحظور.
سئل يحيى بن عمر عن الدوامات والصور وبيعها من الصبيان؟ فقال: ... قال مالك: لا خير في الصور. وقلت- أي راوي الكتاب- لأبي زكريا يحيى بن عمر: إن بعض قضاة عبد الله بن أحمد بن طالب كتب إليه: إن القدور التي تقايس قدور النحاس، إنما اتخذت لعمل النبيذ، وقالوا لا تصلح لغيره، وهي تكرى لعمل النبيذ... فكتب عليه بخط يده: إذا لم تكن لها منفعة غير عمل النبيذ، فغير حالها، واكسرها وصيرها نحاسا ورده عليهم، كما يفعل بالبوق إذا كسر. وامنع من يعملها ومن يشتريها. وسئل يحيى بن عمر عن الخف يعمله الخرازون مثل النعل الصرار، هل ينهون أن يعملوا الخفاف الصرارة؟ فإن النساء يشترينها فيلبسنها، فيصير في أرجلهن الصرار الشديد، فيشققن بها الأسواق ومجامع طرق الناس فربما يكون الرجل غافلا في عمله فيسمع صرير ذلك الخف فيرفع رأسه، هل ينهى الخرازون عن عمل ذلك الخف....؟قال: أرى أن ينهى الخرازون عن عمل الأخفاف الصرارة، فإن عملوها بعد النهي رأيت أن عليهم العقوبة.. ص –30- و-33-(1)[
__________
(1) 11] - وفي كتاب ( النوادر والزيادات ) قال سحنون: قال ابن القاسم: " من باع بوقا أو كبرا –بفتحتين: الطبل- فليفسخ بيعه، ويؤدب أهله".قال ابن القاسم في الذي يعمل الدوامات يبيعها من الصبيان. قال:" أكره ذلك". قال أشهب عن مالك: " سئل عن التجارة في عظام على قدر التمر، يجعل لها وجوه يتخذها الجواري بنات، قال: لا خير في الصور، وليس هذا من تجارة الناس ".ج:6ص: 184-186. قال القاضي عبد الوهاب: " إذا جمعت الصفقة حلالا وحراما فهي كلها باطلة. إذا كان أحدهما حراما لحق الله –تعالى- مثل بيع حر وعبد.أو سلعة وخمر أو خنزير في صفقة.هذا قول مالك في الظاهر. وذكر ابن القاسم –رحمه الله- في موضع آخر: أن من اشترى عشرة شياه مذكاة صفقة واحدة، فوجد فيها شاة ميتة، أنه يردها بقسطها وينفذ البيع في الباقي..وهذا خلاف قول مالك –رحمه الله- انظر ( عيون المجالس ) 3/1478.(1/8)
11].
ز-: حماية السوق مما يؤذي المارة .
وسئل بن القاسم عن الرجل يرش بين يدي حانوته، فتزلق الدابة فتكسر، فقال: إن كان رشا خفيفا لم يكن عليه شيء، وإن كان كثيرا لا يشبه الرش، خشيت أن يضمن. وسئل يحيى بن عمر عن الطين إذا كثر في الأسواق، هل يجب على أرباب الحوانيت كنسه وهو مما أضر بالمارة وبالحمولة؟ فقال: لا يجب عليهم كنسه لأنه من غير فعلهم. فقيل له: فإن أصحاب الحوانيت كنسوه وجمعوه وتركوه في وسط السوق أكداسا، فربما أضر بالمارة وبالحمولة؟ فقال: يجب عليهم كنسه.ص –34- 35-
- مسألة في بيع الأعمى.. سئل يحيى بن عمر عن الضرير يبيع الزيت والخل والمائع كله هل يمنع من ذلك؟ قال: نعم. قيل له: فلو كان له غنم هل يبيع من لبنها وجبنها أو يبيع بيض دجاج له؟ قال: يمنع من ذلك ويرد عليه إذا بيع منه. ص-36-(1)[12]
حـ -: الاحتكار والتلاعب بالأسعار.
__________
(1) 12] - قارن هذا القول هنا مع قول القاضي عبد الوهاب : " يجوز بيع الأعمى وشراؤه ". انظر ( عيون المجالس ) 3/ 1498. والمشهور في مذهب مالك: جواز بيع الأعمى وشرائه. (مواهب الجليل في شرح مختصر خليل )للحطاب. 5/118.ويمكن أن يحمل قول يحيى بن عمر على بيع الجزاف –وهو ما جهل قدره أو وزنه أو كيله أو عدده- قال الشيخ العدوي: ".. ولذا يجب أن يكون كل من البائع والمشتري بصيرا، فلا يجوز بيع الأعمى جزافا وشراؤه، لاشتراط رؤية المعقود عليه..".انظر حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد) 2/240. و( الفواكه الدواني...) للنفراوي.2/150. الناشر دار المعرفة. بيروت. ويحمل قول القاضي عبد الوهاب . على ما إذا لم يجد الأعمى من يصف له المبيع وصفا تاما.. قال ابن عبد البر:" وجائز عند مالك بيع الأعمى وشراؤه في السلم وغيره. إذا وصف له الشيء صفة معلومة، أو كان معه من يراه له ممن يرضى ذلك منه ". انظر ( الكافي في فقه أهل المدينة المالكي) 1/360. .(1/9)
قال: .. في هؤلاء المحتكرين إذا احتكروا الطعام وكان ذلك مضرا بالسوق: أرى أن يباع عليهم، فيكون لهم رأس أموالهم، والربح يؤخذ منهم، يتصدق به أدبا لهم، وينهوا عن ذلك، فإن عادوا كان الضرب والطواف والسجن لهم. وقال: وأرى هؤلاء البدويين إذا أتوا بالطعام ليبيعوه في سوق المسلمين، وأنزلوه في الفنادق والدور، فأرى على صاحب السوق أن يأمرهم أن لا يبيعوه إلا في أسواق المسلمين، حيث يدركه الضعيف والقوي والشيخ الكبير والعجوز.ص-43-(1)[13].
__________
(1) 13] - الأصل أن يبيع المرء سلعته متى شاء، فإن نزلت بالناس حاجة.. ولم يوجد عند غيره طعام .. أجبر على البيع بسعر الوقت لرفع الضرر عن الناس..قاله عياض والقرطبي. انظر (شرح الزرقاني على الموطأ) 3/381. قال مالك: وينهى عن الاحتكار، عند قلة تلك السلعة وعند الخوف عليها. قال: وذلك في الطعام وغيره من السلع . ومن سماع ابن القاسم قيل لمالك: أفيحتكر الرجل ما عدا القمح والشعير؟ قال: لا بأس بذلك. ولعل القاعدة في ذلك. النظر إلى ما يترتب على احتكار السلع من ضرر. سواء كانت طعاما أو غيره. " وأما العروض فيراعى فيها احتكارها في وقت بضر بالناس ذلك.، فيمنع منه، ويكون سبيله مثل ما ذكرنا في الطعام، ولا يمنع من احتكارها في وقت لا يضر.انظر في هذا والذي قبله ( النوادر والزيادات ) لأبي محمد ابن أبي زيد –رحمه الله تعالى- 6/ 452-453.(1/10)
ط-: الغبن: .. سئل سحنون عن الرجل الغريب يدخل السوق وهو جاهل بالسعر، فيقول للبائع: أعطني زيتا بدرهم، أو قمحا، ولا يسمي له سعر ما يشتري منه، هل يصح أو تراه من الغرر؟ فقال: بيع الزيت والقمح معروف ليس فيه خطر. قال يحيى بن عمر: غبن المسترسل حرام. وكان يذهب على أنه يرجع عليه فيأخذ منه ما بقي من سعر السوق.(1)[
__________
(1) 14] - الغبن بفتح الغين وسكون الباء، معناه في اللغة: النقص. وهو في الاصطلاح: عبارة عن بيع السلعة بأكثر مما جرت العادة أن الناس لا يتغابنون بمثله، أو اشتراها كذلك. وللفقهاء في جوازه ومنعه والرد به ومقداره كلام طويل راجع لتعارض الظواهر.
قال القرطبي: " والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك، جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك... واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك. فقال قوم: عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان حرا رشيداًَ بالغاً. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا. وقاله ابن وهب عن مالك –رحمه الله- والأول أصح.. انظر ( الجامع لأحكام القرآن ) 5/152 وقال الزرقاني –تعليقا على حديث: بعوها ولو بضفير-:" وفيه جواز بيع الغبن، وأن المالك الصحيح الملك، يجوز له بيع ماله الكثير بالتافه اليسير، ولا خلاف فيه إذا عرف قدره، فإن لم يعرف فخلاف. وحجة من أطلق قوله –صلى الله عليه وسلم- ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ) ( لا يبع حاضر لباد ) انظر ( شرح الزرقاني على الموطأ ) 4/183.ورجح ابن العربي القول بلزوم الرد فيما زاد على الثلث من غير قيد فقال: " استدل علماؤنا بقوله –تعالى- { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُن }(التغابن: من الآية9)) أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية.. فكل من يتحقق على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون...". انظر (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي.18/138.
وحكى ابن القصار: " أن مذهب مالك: للمغبون الرد إذا كان فاحشا، وهذا إذا كان المغبون جاهلا بالقيم..". انظر (التاج والإكليل في شرح مختصر خليل) للمواق: 4/468. وفرق آخرون بين بيع المكايسة وبيع الاسترسال، فاعتبروا الغبن في الثاني لا في الأول. " إذا وقع البيع على وجه المكايسة فلا رد بالغبن، أما إذا وقع على وجه الاستسلام بأن أخبره بجهله أو استأمنه فإنه يرد للرجوع للغش والخديعة". ( حاشية الدسوقي ) 3/ 141. وفي شرح الحطاب على مختصر خليل:" وأما الجهل بقيمة المبيع، فلا يعذر واحد من المتبايعين، إذ لا غبن في بيع المكايسة... هذا هو ظاهر المذهب، وقد حكى بعض البغداديين عن المذهب أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث..". انظر ( مواهب الجليل..) 4/467. قال ابن رشد: " لا يعذر أحد المتبايعين فيه إن كان بيع مكايسة. هذا ظاهر المذهب". وقال أبو عمر: " الغبن في بيع المستسلم المستنصح يوجب للمغبون الخيار فيه". وقال الإمام المازري:" والصلح في هذا أمثل". قال ابن عاصم في التحفة:
ومن يغبن في مبيع قاما ... فشرطه ألا يجوز العاما
وأن يكون جاهلا بما صنع ... والغبن بالثلث فما زاد وقع
انظر تفصيل ما ذكر هنا في ( التاج والإكليل..) 4/468.
وقد جمع العلامة ابن جزي أطراف المسألة وحصرها فقال:" الغبن ثلاثة أنواع:
الأول: غبن لا يقام به، وهو إذا زاد المشتري في ثمن السلعة على قيمتها لغرض له..
الثاني: غبن يقام به قل أو كثر، وهو الغبن في بيع الاسترسال واستسلام البائع للمشتري..
الثالث: اختلف فيه، وهو ما عدا ذلك، وعلى القول بالقيام به، فيقوم المغبون سواء كان بائعا أو مشتريا إذا كان مقدار الثلث فأكثر، وقيل لا حد له، وإنما يرجع فيه إلى العوائد، فما علم أنه غبن فللمغبون الخيار..". انظر ( القوانين الفقهية ) ص:177.(1/11)
14]
يـ -: ضمان بائع العملات
( الصراف) عن ابن القاسم عن مالك: في رجل دفع إلى صراف دينارا على دراهم فنقره فضاع، إنه ضامن. وقال أصبغ: لأنه وجه بيع وشراء فهو ضامن. قال يحيى بن عمر: فنقره يعني طار من يده.ص:49.
ك -: الرجوع إلى أهل الخبرة وتحكيم الأعراف..
سئل يحيى بن عمر عن رجل تعدى على دينار فكسره، فقال: يغرم مثله في وزنه وسكته. فقال السائل: إنه لا يوجد مثله في سكته لرداءته ونقصه..فقال: يمضي به إلى أهل المعرفة بالدنانير..وقيل له: لو أن رجلا مر بدينار إلى رجل ليريه إياه، فأخذه الرجل فجعله بين أسنانه لينظر ذهب الدينار: لينا أو يابسا؟ فكسره-لأن سنة الدنانير إذا وزنت أن تجعل بين الأسنان لتختبر-...(1)[15] فلا ضمان عليه.ص: 50-51.
ل -: الضريبة على المبيعات.
__________
(1) 15] - قال مالك: " لا يجوز البيع إلى أجل مجهول..-ثم قال-: ولا بأس ببيع أهل الأسواق على التقاضي وقد عرفوا قدر ذلك، قدر الشهر أو ما عرفوه بينهم ". يريد: مما جرى بينهم... انظر ( النوادر..) 6/154.(1/12)
قال الشيخ: " واختلف العلماء فيما يأخذون –أي أصحاب السوق – من الباعة، هل هو حلال أو حرام أو مكروه؟ فمنهم من قال: إنه حرام، ومنهم من قال: إنه مكروه، ومنهم من قال: إنه حلال. والمشهور من المذهب أنه إذا كان مستغنيا عن الأخذ فالحرمة، وأما إن كان محتاجا غاية الاحتياج فلا بأس أن يأخذ،لكن على شرط أن لا يركن إليهم وليراع المصلحة والمعروف لجميع الناس.ص:52-53.(1)[16]
- خاتمة في وجوب حماية المجتمع من الفساد والإفساد ..
لخصه وعلق عليه: عبد ربه، وأسير كسبه:
محمد العمراوي السجلماسي
ليدن الثلاثاء,04 ربيع الثاني, 1422 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) 16] - تسمى هذه الضريبة في كثير من كتب الفقهاء بالمكس بفتح فسكون. وهو مأخوذ من النقص والظلم كما ذكر صاحب القاموس. وقال الإمام الحطاب:" وأصل المكس: النقص والظلم. ويقال له –أي للمكاس وهو صاحب المكس-: العشار، لأنه يأخذ العشور في كثير من البلاد ". انظر ( مواهب الجليل ) 2/494. وعرفوه في الفقه بأنه " أخذ الضرائب من الناس بغير حق". وقد شرحه ابن الأثير في ( النهاية ) بأنه الضريبة التي يأخذها الماكس. قال في ( عون المعبود شرح سنن أبي داود )8/111: " والمكس دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية ". والحكم في ذلك اليوم: أنه إن أخذ لمصلحة التجار، فاستعمل في تنظيم السوق وترتيب أمورها، فليس ذلك بممنوع ولا محظور. أما إن أخذ بغير حق ولا وجه مصلحة، فهو من الكبائر العظام. فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال –في المرأة التي رجمت من الزنا-: ( إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ) . قال النووي: " وفيه أن المكس من المعاصي والذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وتكرر ذلك منه وانتهاكه للناس، وأخذ أموالهم بغير حقها وصرفها في غير وجوهها". انظر ( المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ) 11/203 .(1/13)
مقدمة المعتني بالكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن صحابته المنتخبين .. أما بعد ..
فأقدم لكم إخواني الكرام هذا الكتاب النفيس الجليل، من تآليف أحد كبار أئمة الفقه المالكي، الفقيه الجليل أبي زكرياء يحيى بن عمر الكناني .. الذي لم تُبقِ لنا صوارف الدهر والأيام من كتبه سوى هذا الكتاب وقطع من كتب أخرى ..
وهذا الكتاب كان قد طبع قديماً بتحقيق الشيخ حسن حسني عبد الوهاب .. لكن تلك الطبعة نادرة الوجود ..
وقد طبع أيضاً جزء من الكتاب ضمن مجلة الدراسات الأندلسية نقلاً عن معيار الونشريسي الذي حفظ لنا الكثير من الكتب والنصوص .
وقد اعتنى الشيخ حسن حسني بالجانب الاجتماعي للكتاب، واهتم ببيان أوجه الحياة الاقتصادية في تلك المرحلة ..
أما أنا فعملي هو ضبط النص عن تلك المطبوعة، مخرجاً له كما أراده المصنف رحمه الله على طريقة الاعتناء بالنص وليس طريقة التحقيق التي يسلكها الكثير من الناس هذه الأيام !!
راجياً المولى سبحانه أن يتقبل هذا العمل .. فإن أكن قد أحسنت فذلك بفضل الله وتوفيقه وإن أكن قد أسأت فذلك مني فأستغفر الله تعالى ..
وهذا الكتاب سيصدر إن شاء الله تعالى ضمن سلسلة خزانة الفقه المالكي تحت رقم 12 ، والتي تصدر عن دار البشائر الإسلامية ..
والله الموفق ..
وكتب: جلال علي عامر
ليدن – هولندا
فاتح ربيع الثاني 1422هـ
ترجمة المؤلف
باختصار من الديباج المذهب لابن فرحون
اسمه ونسبه:
هو الإمام الفقيه الثقة الأصولي أبو زكرياء يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني، وقيل البلوي، وهو مولى بني أمية أندلسي من أهل جيان، وعداده في الأفريقيين .
مولده ونشأته وشيوخه:
مولده بالأندلس سنة ثلاث عشرة ومائتين، نشأ بقرطبة وطلب العلم لدى ابن حبيب وغيره
سمع بأفريقية من سحنون وعون وأبي زكرياء الحضرمي .(1/14)
وسمع بمصر من ابن بكير وابن رمح وحرملة وهارون بن سعيد الايلي والحارث بن مسكين وأبي زيد بن أبي الغمر وأبي اسحق البرقي والدمياطي وغيرهم من أصحاب ابن وهب وابن القاسم وأشهب .
وسمع أيضا بالحجاز وغيره من أبي مصعب الزهري ونصر بن مرزوق وابن محاسب وأحمد بن عمران الأخفش وإبراهيم ابن مرزوق وسليمان بن داود وزهير بن عباد وغيرهم .
سكن القيروان واستوطن سوسة أخيراً وبها قبره كنيته أبو زكرياء
سمع منه الناس وتفقه عليه خلق منهم يتحقق محمد وأبو بكر بن اللباد وأبو العرب وعمر بن يوسف وأبو العباس الأبياني وأحمد بن خالد الأندلسي
وإليه كانت الرحلة في وقته
منزلته وعلمه وثناء الناس عليه:
كان فقيهاً حافظاً للرأي ثقة ضابطاً لكتبه متقدماً في الحفظ إماما في الفقه ثبتا ثقة فقيه البدن كثير الكتب في التفقه والآثار ضابطاً لما روي عالما بكتبه متقنا وعداده في كبراء أصحاب سحنون .
وكانت له منزلة شريفة لدى الخاصة والعامة والسلطان وسكن القيروان ورحل إليه الناس ولا يررون المدونة والموطأ إلا عنه
وكان يجلس في جامع القيروان ويجلس القاريء على كرسي يسمع من بعد من الناس لكثرة من يحضره
وكان من أهل الوقار والسكينة على ما يجب لمثله تأدب في ذلك بآداب مالك .
وكان لا يفتح على نفسه باب المناظرة وإذا ألحف عليه سائل وأتى بالمسائل العويصة ربما طرده . وكان من أهل الصيام والقيام مجاب الدعوة له براهين .
قال الحسن بن نصر: ما رأيت أهيب منه، قيل له: فابن طالب ؟ قال: كانت له هيبة القضاء !!
وسمع عليه خلق عظيم من أهل القيروان في الجامع بها .
قال أبو الحسن اللواتي كان عندنا يحيى بن عمر بسوسة يسمع الناس في المسجد فيمتلىء وما حوله فسئل عن سماعهم فقال يجزئهم
وذكر أنه رجع من القيروان إلى قرطبة بسبب دانق كان عليه لبقال فخوطب في ذلك فقال: رد دانق على أهله أفضل من عبادة سبعين سنة .
مصنفاته وآثاره:(1/15)
وله أوضاع كثيرة منها كتاب الرد على الشافعي وكتابا اختصار المستخرجة المسمى بالمنتخبة وكتبه في أصول السنن ككتاب الميزان وكتاب الرؤية وكتاب الوسوسة وكتاب أحمية الحصون وكتاب فضل الوضوء والصلاة وكتاب النساء وكتاب الرد على الشكوكية وكتاب الرد على المرجئة وكتاب فضائل المنستير والرباط وكتاب اختلاف ابن القاسم وأشهب .
قال ابن أبي خالد في تعريفه: له من المصنفات نحو أربعين جزأ وكان لا يتصرف تصرف غيره من الحذاق والنظار في معرفة المعاني والأعراب
قال القصري: كنت أسأله عن الشيء من المسائل فيجيبني ثم أسأله بعد ذلك بزمان عنها فلا يختلف قوله علي وكان غيره يختلف قوله علي .
وقال الكانشي: ما رأيت مثل يحيى بن عمر ولا أحفظ منه كأنما كانت الدواوين في صدره .
قال: واجتمعت بأربعين عالما فما رأيت أهيب لله من يحيى بن عمرو .
وأنفق يحيى في طلب العلم ستة آلاف دينار
وفاته وقبره:
وتوفي بسوسة في ذي الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين وسنه ست وسبعون سنة
وكان يقال: إنه يرى على قبره نور عظيم .
بسم الله الرحمن الرحيم
القولُ فيما ينبغي النظر فيه من الأسواق
حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن قال: سمعت يحي بن عمر يقول:
ينبغي للوالي الذي يتحرّى العدلَ أن ينظر في أسواق رعيته، ويأمر أوثقَ من يعرف ببلده أن يتعاهد السوق، ويعيِّر على أهله صِنجَاتهم وموازينهم ومكاييلهم كلها: فمن وجده قد غير من ذلك شيئاً عاقبه على قدر ما يرى من بدعته وافتياته على الوالي، ثم أخرجه من السوق حتى تظهر منه التوبة والإنابة إلى الخير، فإذا فعل هذا رجوت له أن يخلص من الإثم وتصلح أمور رعيته إن شاء الله .(1/16)
ولا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة أو مخلوطة بالنحاس، وأن يشدد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر به إن كان واحداً أو جماعة أن ينالهم بشدة النكال والعقوبة، ويأمر أن يطاف بهم في الأسواق، ويشرد بهم من خلفهم، لعلهم يتقون عظيم ما نزل بهم من العقوبة، ثم يحبسهم على قدر ما يراه، ويأمر من يثق به أن يتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم وتحرز نقودهم، فإن هذا أفضل ما يحوط به رعيته، ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم، ويرجى له ذلك زلفى عند ربه وقربة إليه إن شاء الله .
المكيال والميزان والأمداد والأقفزة والأرطال والأواقي
قال [ أحمد بن محمد بن عبد الرحمن ]:
سمعت يحيى بن عمر يقول - إذ سئل عن القمح والشعير يباع بمكاييل أحدثها أهل الحوانيت، وليست مما أحدث السلطان، ولا يعرف لها أصل، فعند هذا صغيرةٌ وعند هذا كبيرةٌ، فهي مختلفة ويسلم الناس فيما بينهم بهذه المعايير، فانظر رضي الله عنك ما يجوز من ذلك، فأفتنا به وأوضح لنا تفسير ما فضلك الله به، وأوضح لنا أمر القيمة التي تقام على الجزارين ونحوهم من أهل الحوانيت الذين يبيعون السمن والعسل والزيت والشحم، فإن تركوا بغير قيمة أهلكوا العامة لخفة السلطان عندهم، وإن تركوا على أن يبيعوا بالقيمة فهل ترى ذلك جائزاً لهم وللعامة ؟ فإذا كان جائزاً فما يصنع بهم إن خالفوا ما يأمر به السلطان، فقد يأمر بصنجة واضحة وأمر بين، وقد بدا أمر ما كتبنا به إليك، فإنا ما كتبنا إلا بما عمنا وخفي عنا، فأوضحه لنا إيضاحاً شافياً، نفعك الله بعلمك -:
قال يحيى بن عمر:
أما قولك: إن القمح والشعير يباع عندكم بمكاييل مختلفة أحدثها أهل الحوانيت وليست مما أحدث السلطان، فليس يعرف له أصل، فعند هذا كبيرة وعند هذا صغيرة، فهي مختلفة ويعمل الناس بهذه المعايير فيما بينهم في القمح والشعير، فلا ينبغي لحواضر المسلمين في أسواقهم أن تكون بهذه الحال التي وصفت .(1/17)
فإن كان عليهم وال فليتق الله ربه فيما استرعاه الله، ويحوطهم في موازينهم ومكاييلهم، حتى تكون موازينهم ومكاييلهم معروفة كلها، وقناطيرهم وأرطالها، وكذلك ويباتهم وأقفزتهم .
ويكون أصل ما توضع عليه أرطالهم على الأوزان التي أوجب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم زكاة العين من الذهب والفضة بها، إذ قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، وليس فيها دون عشرين ديناراً زكاة )) .
والأوقية أربعون درهماً بدراهم الكيل، ووزن الدنانير كل عشرة دراهم كيلاً سبعة دنانير مثاقيل .
فيضع الوالي المتحري العدل أرطال رعيته وقناطيرهم على هذا، ويتقدم إلى رعيته أن لا يغيروها .
فمن فعل أو غير منها شيئاً استوجب العقوبة وأخرجه من السوق، حتى تظهر منه توبة .
وإن جعل الأواق كل أوقية عشرة دراهم كيلاً أو اثني عشر درهماً وزناً فجائز أيضاً .
ويضع مكاييل رعيته من الويبات والأقفزة على الكيل الذي فرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زكاة الحبوب به، إذ يقول صلوات الله عليه: (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) .
والوسق الواحد ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
يجعل الوالي الذي يتحرى العدل مكاييل رعيته صلاحاً، بإدخال الرفق عليهم وطرح المضرة عنهم، وسائر مكاييلهم على ما أحكم من الويبة .
ويتقدم إلى رعيته أن لا يغيروا شيئاً من تلك المكاييل، فمن عمل منها بعد ذلك شيئاً استوجب العقوبة وأخرجه من السوق حتى تظهر منه توبته .
وإن كان [ المسلمون ] في موضع ضيع الوالي هذا من رعيته، أو لم يكن معهم والٍ، فليجتمع خيارهم وأهل الفضل والصلاح منهم حتى يجعلوا لأهل موضعهم من موازينهم ومكاييلهم شيئاً مثل ما وصفنا .(1/18)
فإذا فعلوا ذلك أظهروه للناس، وأعلموهم بما في موازينهم وقناطيرهم من الوزن، وبأن لا يغيرها أحد بزيادة ولا بنقصان، فمن ظهر عليه أنه غير وزناً أو كيلاً عاقبوه وأخرجوه من السوق، حتى تظهر توبته، كما كان يفعل الوالي العدل به .
الحكم في القيم والتسعير
وأما قولُك أن أكتب في أمر القيمة التي تقام على الجزارين والخبازين وأهل الأسواق مما يحتاج إليه العامة إن كانت جائزةً أو ليست بجائزة، وزعمتَ إن تركوا بغير قيمة أهلكوا العامة:
قال يحيى بن عمر:
الواجب على جميع المسلمين الاعتصام بالسنة، واتباع أوامر نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا هم فعلوا ذلك ووفقوا إليه جاءهم من ربهم الكريم كل ما يحبون .
وقد أبان ذلك لنا ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه في محكم كتابه، إذ يقول تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً: (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )) .
وقال جل ذكره: (( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )) .
يريد - والله أعلم - لو أنهم عملوا بما أنزل في التوراة والإنجيل وهذا القرآن لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يعني - والله أعلم - لأسبغ عليهم الدنيا إسباغاً .
قال يحيى بن عمر:
وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل ما سألتموني عنه، حدثنا مشائخنا سحنون بن سعيد والحارث بن مسكين وأبو الطاهر، عن عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن سليمان بن موسى، أن ثابت البناني حدثه عن أنس بن مالك:
أن أناساً أتوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: يا رسول الله سعر لنا أسعارنا، فقال:
(( يا أيها الناس إن غلاء أسعاركم ورخصها بيد الله سبحانه، وأنا أرجو الله أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة من مال ولا من دم )) .(1/19)
قال ابن وهب: وأخبرني غيره من أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم غضب يومئذ حتى عرف فيه ذلك وقال: (( السوق بيد الله يخفضها ويرفعها، ولكن مرهم فليخرجوا متاعهم في البراني، وليبيعوا كيف أحبوا، ولا يسألني الله عن سنة أحدثها فيكم، ولكن اسألوا الله من فضله )) .
وكذلك حدثني من سميت لك من مشايخي، عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لا يسعر على أحد من أهل السوق، فإن ذلك ظلم، ولكن إن كان في السوق عشرة أصوع فحط هذا صاعاً يخرج من السوق .
قال يحيى بن عمر:
هذا الذي آخذ به وأختاره لنفسي، لا يسعر على أحد، وكل من حط من السعر الذي في السوق يخرج، وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال لرجل يبيع زبيباً: إما أن تزيد في السعر وإما أن تخرج من سوقنا .
وقد بلغني عن بعض أهل المدينة أنه قال: من فعل هذا من الولاة مثلَ ما فعل عمر بهذا الرجل فقد أصاب، ومن أقام علىالناس بما في أيديهم من السلع جهل السنة وأثم في القيامة، وأطعم المشتري ما لا يصلح له، وإنما السعر لله يخفضه ويرفعه وليس للناس من ذلك شيء .
قال يحيى بن عمر:
ولو أن أهل السوق اجتمعوا أن لا يبيعوا إلا بما يريدون مما قد تراضوا عليه مما فيه المضرة على الناس وأفسدوا السوق كان إخراجهم من السوق حقاً على الوالي، وينظر للمسلمين فيما يصلحهم ويعمهم نفعه ويدخل السوق غيرهم، فإنه إن فعل ذلك معهم رجعوا عما طمحت إليه أنفسهم من كثرة الربح ورضوا من الربح بما يقابلهم نفعه ولا يدخلون به المضرة على عامة الناس .(1/20)
وكذلك أرى أن يفعل بمن نقص من السعر الذي عليه أهل السوق، في قمحه أو شعيره أو زيته أو سمنه، وما يباع في السوق ولم يرض أن يبيع كغيره من أهل السوق، أن يقال له: إما أن تبيع كما يبيع أهل السوق وتكون كأحدهم، وإلا فاخرج من السوق لئلا تتطاول أنفس الذين يبيعون مثل سلعته بأكثر سعر منه إذا رأوه يبيع بأغلى منهم، لأن السوق يدخله ضروب الناس، فمنهم من لا يعرف السعر فيقف بهذا الذي قد أغلى فيسأله، فإذا قال له، ظَنَّ أن سعر السوق كله كما قال له، فيشتري منه، ويقف به من لا يسأله عن السعر ولا يعرفه فيشتري منه، وأشباه ذلك لهؤلاء كثيرة.
فإذا رأي أهل السوق ذلك نقصوا مما كانوا يبيعون عليه، ولعلهم كانوا يحبسون على ما كانوا يبيعون فتشح أنفسهم أن يبيعوا مثل بيعه ويحبسوا أيديهم على مثل سعره، فإذا لم يجد من يريد الشراء إلا بذلك السعر اشتراه لحاجته، غالياً كان أو رخيصاً، فيدخلون بذلك الفساد والغلاء على عامة الناس بترك ذلك الرجل الواحد الذي نقص السعر ولم يرض أن يبيع بالسعر الذي كان أهل سلعته يبيعون به .
ولهذا عندي قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للذي كان يبيع الزبيب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا، لأنه كان نقص من السعر الذي كان يباع به الزبيب مثل سعلته، وخاف أن يخرج من السوق كما أخرج الذي نقص من السعر عن سعر الناس، ورجع الذي أخرج من السوق إلى سعر سلعته في السوق ورضي أن يبيع بسعر ما يباع مثل سلعته في السوق .
فعلى هذا ينبغي للوالي أو القاضي أو الناظر في أسواق المسلمين المتحري العدل أن يعملوا في الأسواق، وبالله التوفيق .
في حكم الأسواق القريبة من البلدان
سألتُ يحيى بن عمر، عن أسواق القصر: هل هي تبع لأسواق القيروان في أسعارها من جميع الأطعمة والأمتعة وجميع ما يباع في أسواقها مما يؤكل ويشرب ومما لا يؤكل ولا يشرب ؟
فقال يحيى بن عمر: لا أحفظ فيها شيئاً، وما أرى أسواق القصر إلا خلاف سوق القيروان .(1/21)
وقال أبو العباس عبد الله بن طالب مثله .
قال محمد بن عبدوس: هي تبع لأسواق القيروان .
في حكم الحناطين
سألت يحيى بن عمر، عن الحناطين: هل يجب عليهم أن لا يبيعوا القمح والشعير والفول والعدس والحمص وجميع القطاني حتى يغربلوها ؟
فقال لي يحيى بن عمر:
قال مالك: لا يبيعوا كل ما ذكرت إلا بعد أن يغربلوها .
أخبرني بذلك الحارث بن مسكين قال: أخبرني عبد الله بن وهب، عن مالك .
قال يحيى بن عمر:
فأرى أن يلزموا بذلك .
في حكم التين المدهون بالزيت واللبن المخلوط بالماء
وسألت يحيى بن عمر عن التين المدهون: هل ينهى عنه أهله أن لا يدهنوه ؟
قال لي يحيى:
أرى أن ينهوا عن دهن التين بالزيت .
قلتُ: فإن دهنوا التين بالزيت وباعوه في السوق، ما يعمل بذلك التين: أيرد على صاحبه البائع ويفسخ ذلك البيع ؟
وكيف إن نهي البائع عن دهنه وبيعه فدهنه وباعه، هل يؤدب ؟
وما يصنع بالمشتري إذا اشتراه وهو مدهون، علم بذلك وعلى ذلك اشتراه ؟
فقال يحيى بن عمر:
أرى أن ينهى عن ذلك وغيره، فإن نهي ثم دهنه بعد ذلك فأرى أن يتصدق بالتين على المساكين، أدباً له .
قال يحيى: وكذلك اللبن إذا مزج بالماء يتصدق به على المساكين ولا يطرح في الأرض .
وكذلك الخبز إذا نقص وتقدم إليه فلم ينته، يتصدق به ويقام من السوق .
في حكم الفواكه تباع في السوق قبل أن يطيب جلها
وسألت يحيى بن عمر، عن التين والتفاح والعنب وجميع الفواكه، تباع في السوق قبل أن يطيب جله، فيدخلونه السوق وقد جذوه من شجره .
فقال يحيى:
أما ما سميت من الفواكه تباع قبل أن تطيب، فإن كان كثيراً في بلده فلا بأس، وإن كان قليلاً فلينه عن ذلك وعن قطعه حصرماً، فإنه يضر بالعامة، ويطلبونه إذا طلب فلا يوجد ويقل ويغلو، فلأجل ذلك كره قطعه حصرماً .
وسألت يحيى بن عمر، عن الرجل يشتري سلال تين شتوي أو صيفي، فإذا فرغ السل وجد فيه ما ليس يطيب: هل يفسخ البيع أو هو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه ؟(1/22)
فقال يحيى بن عمر:
إذا ابتاعه ليلته فهو كذلك كما ذكرت، فإن شاء أخذه وإن شاء تركه.
قلتُ: فإن اشتراه أهل السوق فوجد عندهم لم يطب أو هو مدهون: هل ينهى ألا يعود يشتري مثل هذا في أسواق المسلمين ؟ فإذا نهيته أي شيء يصنع بذلك الذي لم يطب ؟ أيتصدق به عليه أم ينهاه ألا يبيعه أصلاً في أسواق المسلمين ؟ فإن عاد واشترى شيئاً مثل ما نهيته عنه أيحبس أم ماذا يصنع به ؟
فقال يحيى: إذا اشتراه أهل الأسواق كما ذكرت فليردوه على بائعه، ولا يباع بأسواق المسلمين، فإن كان مما نهي عن بيعه يتصدق به أدباً له .
في حكم الخبز يوجد فيه حجارة
وسألت يحيى بن عمر عن رجل اشترى خبزة وأكل منها لقمة أو لقمتين، فأصاب فيها حجارة: هل يردها كلها على البائع ؟ وهل على المشتري أن يغرم ما أكل أم لا غرم عليه ؟ وهل للبائع أن يرد على صاحب الفرن الذي باعه هذه الخبزة ؟
قال يحيى بن عمر:
يرد ما بقي منها، ويكون عليه قدر ما أكل منها على أن فيها حجارة، ويرجع على من باعه بالثمن الذي اشتراها به، ويرجع بائعها على صاحب الفرن بما اشتراها به، ويكون عليه قيمتها على أن فيها حجراً، وينهى صاحب الفرن عن ذلك .
قلت ليحيى بن عمر: وهل يؤمر صاحب الفرن الذي يبيع الخبز من أصحاب الحوانيت أن لا يطحن القمح الذي يعمل منه الخبز حتى يغربله وينقيه من الحجارة والغلث الذي فيه ؟
قال يحيى بن عمر:
أرى أن يؤمر كما ذكرتَ، ولا يرخص له في ذلك .
وسألتُ يحيى، عن صاحب الفرن الذي يبيع الخبز لأصحاب الحوانيت ويجد في خبزه حجارة: هل ينهى عن بيع مثل هذا الخبز ؟
وأي شيء يصنع بذلك الخبز، أيبيعه للناس، أم يمنع من ذلك ويتصدق به على المساكين أدباً له ؟
وما تقول إن كان عاد ثانيةً وباع مثله ولم ينته ؟ فهل يتصدق به ويؤدبه ويحبسه ؟
قال: أرى أن يتقدّم إليهم أن لا يبيعوا الخبز فيه حجارة من الرحى، فإن ركب النهي يتصدق به أدباً له، ويمنع أن يعمل الخبز ويبيعه في السوق على تلك الحالة .(1/23)
في حكم الخبز الناقص
وسألت يحيى بن عمر: إن باع صاحب الفرن خبزاً، فأصيب عند أصحاب الحوانيت ناقصاً، فهل يؤدب صاحب الحانوت الذي باعه ناقصاً ويكسر عليه أو لا أدب عليه ؟
فإن كسر الخبز هل يرجع المشتري صاحب الحانوت الثمن كله علىصاحب الفرن البائع أو لا ؟
فإن رجع عليه هل يؤدب صاحب الفرن الذي علمه ناقصاً ويرجع عليه بثمن ما باع من صاحب الحانوت ؟
قال يحيى: أرى أن يؤدب على الخبز الناقص ويخرج من سوق المسلمين، لأنه قد فجر فيه، ولا حجة له في نقصانه .
[ وسئل صاحب السوق فقال: سئل ابن مروان وهو إذّاك قاض وأنا حاضر، عن الخبز إذا وجد عجيناً لم ينضج، وقد باعه صاحب الفرن من أصحاب الحوانيت، فأصيب عند أصحاب الحوانيت ؟
فقال: إذا علم صاحب الحانوت أنه عجين لزمه البيع ووجب الأدب عليهما جميعاً، وأمر صاحب الحانوت ألا يبيعه في أسواق المسلمين ] .
قلت ليحيى بن عمر: من يؤدب صاحب الفرن أو صاحب الحانوت ؟
فقال يحيى: إذا عرف صاحب الحانوت بنقصانه أو بتغييره قبل بيعه، فالأدب عليهما جميعاً .
في حكم القمح الطيب يخلط مع القمح الدنيء
وسألت يحيى بن عمر عن صاحب الفرن، هل يجب عليه ألا يخلط القمح الطيب والقمح الدون النازل إذا أراد أن يعمل الخبز الدون ليبيعه من أهل الأسواق ؟
وإن نهي عن ذلك فلم ينته وعثر عليه وقد خلط ؟
قال يحيى: إذا نهي أول مرة أن لا يخلط الدون بالجيد فركب النهي وخلطه وجب أدبه وإخراجه من السوق .
الحكم في صاحب الفرن يطحن في المطحنة بإثر نقشها
وسألت يحيى بن عمر: هل يطحن صاحب الفرن في المطحنة التي نقش بإثر نقشها ؟ وكيف إن طحن للناس فيها بأجرة، هل يقوم القمح أو مثله ؟(1/24)
قال يحيى: أرى أن يؤدب ويغرم قمحاً مثله، وقد أخبرنا عبد الله بن معاوية عن أصبغ بن الفرج قال: سمعتُ أشهب بن عبد العزيز وقد سئل عن ذلك فقال: يضمن له مثل قمحه، وقال أصبغ: وإن كان قد علم صاحب القمح بصب قمحه بإثر نقش الحجر ورضي به فلا يلزم صاحب الفرن غرمه.
فيمن دلس في مكيال أو طعام أو غير ذلك
أخبرنا يحيى بن عمر قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت مالك بن أنس وسئل عن رجل جعل في مكياله زفتاً ليرفع به الكيل، ولم يكن في مكياله إلا قليلاً، قال: أرى أن يعاقب ويخرج من السوق، وإخراجه من السوق أمر عليه من الضرب، ولا يضر به .
أخبرنا يحيى بن عمر قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: وسمعت مالكاً غير مرة يكره من يغش البسر ليرطب بالتمر ويباع في الأسواق ليبادر به الغلاء .
قال لي يحيى بن عمر: وكذلك التين المدهون بالزيت، ما أرى يجوز أن يدهن .
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت مالكاً سئل عن الرجل يخلط في الطعام غير صنفه، قال: لا أحب أن يخلط في ذلك الصنف شيئاً غيره مخالفاً له، والثمن مثل ذلك .
قال ابن وهب: وسئل مالك عن الرجل يخلط مع الطعام الطيب طعاماً دونه وهو مما يجوز به بيعه، قال مالك: [ وإنما ] يجعله لينفقه بهذا الطيب، قال مالك: بهذا أفسده، قال الله تبارك وتعالى: (( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ))، وظن هذا أنه يربح وإنما يهلك دينه .
قال مالك: وينبغي أن يعاقبه أهل ذلك حتى لا يخلط، لأنه غش، ولكن يبيعه وحده .
قلت ليحيى: مثل أي شيء هذا الطعام الذي لا يجوز أن يخلط بعضه مع بعض، أرأيت إن خلطه ثم باعه، أيفسخ ويعاقب ؟
قال: لا يبيع جيداً يخلطه بطعام رديء، فإذا تقدم إليه ألا يفعل ولم ينته وعاد إلى فعله فأرى أن يخرج من السوق ولا يترك أن يبيع فيه حتى تتبين توبته .(1/25)
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت مالك بن أنس يسأل عمن يغش اللبن بالماء، أترى أن يهرق عليه ؟
قال: إن الناس ليهرقونه، وأنا أرى أن يعطى للمساكين .
قيل له: بغير ثمن ؟
قال: نعم، إذا كان هو الذي غش اللبن .
قال يحيى: وهو أحب إلي من رواية أشهب عن مالك .
قيل لمالك: فالزعفران أو المسك إذا غش أتراه مثل اللبن المغشوش ؟
فقال: ما أشبهه إلا بذلك إذا كان صاحبه هو الذي غشه، وأما إذا كان اشتراه مغشوشاً فلا أرى ذلك عليه، لأنه تذهب في ذلك أموال الناس، وأما إن كان هو الذي غشه فأراه مثل اللبن .
قلت ليحيى: هل تأخذ بهذا كله ؟
قال: نعم .
في لبن البقر والغنم يخلطان جميعاً
وأخبرني يحيى بن عمر، قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا أشهب بن عبد العزيز، قال: سألت مالكاً عن لبن البقر والغنم يخلطان جميعاً، وأن يضرب كل واحد منهما على حدة، وإن ضُربا جميعاً ؟
[ قال مالك: ] أرى عليه إذا باع أن يبيِّن ذلك للمبتاع، فيخبره أن ذلك لبنَ بقر وغنم .
قلتُ لمالك: أرأيت إن باع الزبد الذي خرج منهما جميعاً، أترى عليه أن يبين ذلك للمبتاع ؟
قال: ما أرى ذلك عليه، لأنه ليس في الزبد والسمن نقص بينهما شيئاً، بل أظنه مثله لا أحسن من زبد الغنم وسمنها، ولا أطيب ولا أجود، ولا أرى أن يبين ذلك إن باع، وأحبُّ إليّ أن لا يخلط .
قلت ليحيى بن عمر: أيؤخذ بهذا كله ؟
قال: نعم .
[ وقلت له: ] أرأيت إن خلط زبد البقر بزبد الغنم أو لبن الغنم بلبن البقر ثم باع ولم يبين، أيفسخ البيع ويتصدق به ويؤدب إن عاد ثانية ؟
قال يحيى: نعم، لأنه قد غش وركب النهي، فليتصدق به على المساكين أدباً له .
في خلط العسل الطيب بالرديء
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: حدثنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت مالكاً سئل عن الرجل يخلط العسل الطيب بالرديء ثم يبيعه ؟
فقال: هذا من الغش إذا خلط بأدنى منه .(1/26)
قال مالك: وكذلك السمن والزيت، إلا أن يخلطه ليأكله .
قيل لمالك: فإن خلطه ليأكله ثم احتاج إلى بيعه بعد ذلك ؟
فقال: لا يبيعه بعد خلطه .
قلت ليحيى بن عمر: تقول بهذا كله ؟
قال: نعم .
في خلط الزيت القديم بالجديد
قلت ليحيى بن عمر: فإن بعض أهل الأسواق يخلط الزيت القديم بالجديد، فيبيعه في السوق، أيجوز له بيعه ويبين، والزيت مثل الزيت في الطيب، إلا أن الناس أرغب في الجديد منهم في القديم، فهل ينهاه عن ذلك ؟
فإن أمره ألا يخلطه فاطلع عليه أو أقر أنه أخلطه، فهل يرد بيعه لأنه غش ويتصدق به، مثل اللبن والزعفران والمسك إذا غشه صاحبه، أو يكون المشتري بالخيار إن شاء أن يأخذ أخذ وإن شاء أن يرد رد ؟
وهل ينهاه إن فعل ذلك في أول مرة إذا قال: جهلتُ، وكيف الأمر في ذلك ؟
قال يحيى: إذا كان طيِّب الزيت الجديد مثل طيب الزيت القديم فخلطهما سهل، وأرى أن يبين ذلك للمشتري، فإن باع ولم يبين ذلك للمشتري فهو بالخيار، إن أحب تمسك به، وإن أحب رده .
وأما إن خلط زيتاً ليس بطيب بجديد أو قديم طيب، فقد غش وفعل ما لا يحل له .
فإن عذر بجهالة مثل البدوي فليتقدم إليه بالنهي أن لا يبيع مثل هذا في سوق المسلمين، فإن عاد نكل وتصدق به على المساكين، فهذا رأيي، وبالله التوفيق .
في حكم خلط الشيء بعضه ببعض،
وما يفعل بالجزارين إذا فعلوا ذلك ومثله
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا عبد الله بن معاوية، عن أصبغ بن الفرج، قال: سألت ابن القاسم عن الجزار يكون عنده اللحم السمين واللحم الهزيل فيخلطهما ويبيعهما بوزن واحد مختلطين، والمشتري يرى ما فيه من المهزول والسمين، غير أنه لا يعرف وزن هذا من هذا ؟
قال ابن القاسم: أما إن كان الأرطال اليسيرة كالخمسة والستة، مثل ما يشتري الناس على المجازر بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك فلا أرى بذلك بأساً.(1/27)
وإن كثرت الأرطال مثل العشرين والثلاثين وما أشبه ذلك فلا خير في ذلك، حتى يعرف وزن كل واحد منهما لأن ذلك من الغرر، فيصير إلى الخطار، فلا خير فيه .
قال ابن القاسم: وأرى أن يمنع الجزارون من مثل ذلك: أن يخلطوا السمين والمهزول، وأراه من الغش، ولا يحل لهم ذلك .
قال أصبغ: وسألته عن الرجل يخلط الزيت الدون بالجيد، والسمن الجيد بالدون، والقمح الدون بالجيد، فهل يحل شيء من ذلك ؟
قال: لا يحل ذلك، ولا خير فيه، ولا أدري كيف سألته عن هذا، قد قال لي مالك مرة في شيء سألته عنه: أنت حتى الساعة تسأل عن هذا ؟
قلت ليحيى بن عمر: أتقول بهذا كله ؟
قال: نعم .
قلت ليحيى بن عمر: فإن خلط هذا كل الذي ذكره أصبغ عن ابن القاسم، فاشتراه رجل وهو لا يعلم ثم علم ذلك، هل يفسخ بيعه ويرد إليه ؟ وهل عليه أدب قبل أن ينهاه وهو في أول ما يطلع عليه ؟
وهل يتصدق به كله لما غشه صاحبه أول مرة اطلع عليه ؟
قال يحيى: إذا اشتراه رجل وهو لا يعلم، فله رده على البائع، ويأخذ منه الثمن الذي دفعه إليه .
ثم يتقدم إلى البائع ألا يبيع مثل هذا، فإن نهي ثم باع أخرج من السوق ونهي أن يبيع فيه، وهو أشد عليه من الضرب .
فإن عاد ثانية أدبته وطرحته في السوق، ويطاف به السوق ويخرج من السوق بعد ذلك، فإذا فعل به ذلك خاف غيره أن يعمل مثل ما عمل غيره، فينزل به مثل ما نزل بمن خلط وغش، وينهاه أن لا يبيع غيره، وأن لا يبيع هذه الأشياء في سوق المسلمين أصلاً .
وسألت يحيى بن عمر: عن الجزار: أي شيء يصنع به ؟ وهل ينهاه أن يشرح اللحم وينفخه ؟
فإن نفخ وشرح هل ينهى أول مرة ؟
فإن عاد ثانية لركوب النهي أي شيء يصنع به: هل يؤدب بالحبس أو غيره ؟
وهل يؤمر بإخراجه من السوق إذا فعل ذلك مرة بعد مرة ؟
وهل يجوز له أن يخلط لحم الضأن بلحم المعز إذا أراد أن يبيعه ويبينه أم لا يجوز له أن يبيعه ؟(1/28)
قال يحيى: أما النفخ في اللحم فهو مكروه عند أهل العلم، فلينه عنه أشد النهي، فإن عاد أخرج من السوق، وأما جمع لحم الضأن ولحم المعز فأرى أن يجعل كل واحد على حدته، ويبيع هذا بسعره وهذا بسعره، وهذا الذي أرى، وبالله التوفيق .
أخبرني يحيى بن عمر، قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا ابن وهب [ قال: سمعت مالكاً وسئل ] عن الرجل ينفخ في اللحم كما ينفخ الجزارون ؟
قال: إني كرهت ذلك، وأرى أن يمنعوا من ذلك .
في الجزارين والبقالين وغيرهم
يخلون السوق لواحد منهم يبيع فيه اللحم
وسألت يحيى بن عمر عن الجزارين والبقالين يخلون السوق لواحد منهم يبيع فيه اللحم وحده يوماً أو يومين، ولا يبيع باقي أهل السوق في ذلك اليوم الذي أخلوه لذلك الرجل وحده، وإنما صنعوا ذلك رفقاً بذلك الرجل إذ أفنى ما في يده أو أراد أن يتزوج فيقوى بذلك الربح الذي أمسك هؤلاء عنه ؟ هل ترى ذلك جائزاً لهم ولذلك الرجل أو لا إذا لم ينقص من السعر شيئاً ؟ أو لا يجوز ذلك له ولا لهم لأنهم إذا أخلوه لذلك الرجل فباع ذلك الرجل وحده بقي السوق خالياً من اللحم والبقل إلا ما عنده، واحتاج [ أهل ] السوق إلى شراء اللحم أو البقل فلم يجدوه ؟
قال: إذا أخلى أهل السوق السوق لهذا الرجل كما ذكرت وكان مضرة على العامة نهوا عن ذلك، وإن لم ينقص من السعر شيئاً، وإن لم يكن على العامة فيه ضرر فذلك لهم .
في الرطب يغمر وفي البسر يرطب ويباع كل واحد منهما في السوق
أخبرنا يحيى، قال: أخبرنا الحارث، عن ابن وهب، قال: سمعت مالكاً يكلمه صاحب السوق في الرطب الذي يباع في السوق وقد غمره ؟
فأمره مالك أن يتقدم إليهم أن لا يبيعوه مغمراً، فإن ذلك يضر بالبطون إذا أكل، وأن يضرب الذي استعمله .
وكذلك البطيخ الذي يقضب ويجلب إلى السوق للسعر وغيره من الفواكه، فإنه لا يحل قطعه حتى ينتهي نضجه .(1/29)
فالناظر على الأسواق له أن ينهاهم عن ذلك، فإن لم ينتهوا عاقبهم بقدر ما يرى من فعلهم، ويباع كل واحد منهما في السوق .
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك: والبسر الذي يرطب ويغمر بالخل ويعمل حتى يرطب، قال: لا أرى ببيعه بأساً إذا بين .
قال يحيى: وأنا أعرف لمالك غير هذا وقال: إنه يؤذي من أكله، وهو عندي خلاف الثياب التي احتج بها، لأن الثياب ليس تؤذي من لبسها .
في الثياب تلبس ثم تقصر ثم تباع
قال مالك: وكذلك الثياب تلبس ثم تقصر ثم تباع، فلا أرى ببيعها بأساً إذا بين أنها لبست ثم قصرت .
قال: وأراه عيباً فيها إذا لم يبين .
قال: وأرى أن يبين لمن يشتري الرطب المخلل والثياب المقصرة، لأنه عيب وغش، ولعله لا يعطي بهذا الثمن مثل ما يعطى باللبس .
قيل ليحيى بن عمر: أتقول بهذا كله ؟
قال: [ لا ] أرى أن يباع مثل الرطب المخلل وإن بينه، لأنه لعل مشتريه لا يعلم أنه يؤذيه إذا أكله، والثياب أسهل .
قلت ليحيى: أرأيت إن باع ولم يبين، أيفسخ بيعه ويعاقب إذا دلس بإخراجه من السوق إذا فعل ذلك مرة بعد مرة ؟
قال: نعم .
قلت ليحيى بن عمر: إن بعض قضاة عبد الله بن أحمد بن طالب كتب إليه عن الجزار يخلط اللحم المهزول بالسمين أو الضأن بالمعزة فيطلع عليه فيهرب ويدع اللحم، أو الخباز يبيع الخبز الناقص فيطلع عليه فيهرب ويدع حانوته، هل ترى أن يؤمر بإغلاق حانوته وعضل لحمه أو خبزه ما لم يخف عليه الفساد ؟
فإذا خيف عليه الفساد أمرت ببيعه له وهو هارب، أم كيف ترى ذلك؟
فكتب إليه: والجزار الذي هرب والخباز نعم يعضل عليه، فإذا خفت فبع عليه وأوقف الثمن .
قلت لأبي زكريا يحيى بن عمر: هل يعجبك هذا من قوله وهل تقول به ؟
فقال يحيى: نعم، به نقول .
ما جاء في الوليمة وما يكره من السماع فيها(1/30)
سألت يحيى بن عمر عن الرجل يدعى إلى العرس، وهي الوليمة أو الختان أو إلى صنيع، فيسمع فيه صوت بوق أو ضرب كَبَر أو ضرب مزهر أو ضرب عود أو طنبور، أو يعلم أن فيه شراباً مسكراً، هل ترى له أن يجيب إذا دعي ؟
قال يحيى: ليس على الناس أن يجيبوا إلا إلى الوليمة، وفيها جاء الحديث.
فإن جاء إلى الوليمة وكان فيها ما ذكرت: فأما الكبر والمزهر المدور فقد سهل فيه في العرس، ولا بأس أن يجيب إليها .
وأما غير هذا مما ذكرت مثل البوق والطنبور والعود فلا يجيب .
وسألته عمن استرعاه الله رعية إذا سمع في هذا العرس اللهو مثل البوق والكبر والمزهر، أو يسمعه في دار غير دار العرس والاختان، هل يغيره أيضاً ؟
وهل ترى العود والطنبور مثله ؟
قال يحيى: أرى أن ينهى عن ذلك كله إلا أن يكون في عرس فقد بينته قبل هذا فيما ينهى عنه، وما سهل فيه أهل العلم لإظهار العرس .
وما تقول في هذا الرواية التي أخبرك بها عبيد الله بن معاوية التي في سماع أصبغ بن الفرج، قال [ أصبغ ]: سمعت ابن القاسم يقول: وسئل عن الرجل يدعى إلى صنيع فيجد فيه لعباً أيدخل ؟ - قال: إن كان الشيء الخفيف والدف والكبر والشيء الذي يلعب به النساء فلا أرى به بأساً .
وذكر عن مالك في الدف والكبر أنه لا بأس بهما، قال أصبغ بن الفرج: يعني في العرس خاصة للنساء وإظهار العرس به، وقد أخبرني عيسى بن يونس، عن خالد بن إلياس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أظهروا النكاح واضربوا عليه بالغربال )) يعني الدف المدور .(1/31)
وقال أصبغ: ولا يعجبني المزهر وهو الدف المركن، وأحب إليّ أن لا يكون مع الدف غيره، وهو الذي مضت به الرخصة في الزمان الأول في العرس، وإن ضرب معه بالكبر فلا بأس به، ولا يجوز معهما غيرهما، ولا يجوز الغناء على حال فيه ولا في غيره، وقد أخبرنا ابن وهب، عن الليث بن سعد: حدثه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى البلدان أن يقطع اللهو كله إلا الدف وحده في العرس .
قال يحيى: هذا رأيي وبه آخذ .
وقد سمعت أنت من سحنون وسئل عن طعام الوليمة يدعى له الرجل أيجيب ؟
قال سحنون: أما إذا كان فيها اللهو والدف فلا أرى ذلك، وإن لم يكن فيها لهو فلا بأس بذلك، فقد جاء في ذلك من الأحاديث ما جاء .
قلت ليحيى: أي شيء معنى ( قد جاء فيه من الأحاديث ما جاء ) ؟
قال: معناه أنه قد أمر أن يجيب إذا دعي .
قال سحنون: وسئل مالك عن الرجل يمر على الطريق يجد فيها اللهو واللعب أيمر أم يرجع إن لم يخف أن يشتهي ذلك ؟
قال: فليمش، وإن خاف فليرجع .
قلت ليحيى: وقد أخبرتنا عن الحارث بن مسكين عن أشهب، قال: سألت مالك بن أنس عمن يدعى إلى الوليمة وفيها إنسان يمشي على الحبل وآخر يجعل على جبهته خشبة كبيرة يركبها إنسان وهو على جبهته ؟
قال: قال مالك: لا أرى أن تؤتى، وأرى أن لا يكون معهم .
قيل له: أرأيت إن دخل ثم علم بهذا أترى له أن يخرج ؟
فقال: نعم، لقول الله سبحانه: (( فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذن مثلهم )) .
قال يحيى بن عمر: ولا يجيب إذا علم أن فيها مسكراً .(1/32)
قلت لأبي زكرياء يحيى بن عمر: فبأي قولة تقول هذا ؟ وما تختار لنفسك ولنا ولعامة المسلمين أن يعملوا به، وقد جاء في موطأ ابن وهب قال: حدثنا سمرة بن نمير الأموي، عن حسين بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر هو وأصحابه ببني زريق فسمعو غناء ولعباً، فقال: ما هذا ؟ قالوا: نكاح فلان يا رسول الله، فقال رسول الله: (( كمل دينه، هذا النكاح لا السفاح، ولا نكاح حتى يسمع دف أو يرى دخان )) .
وقال ابن وهب: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى أيوب بن شرحبيل: أن مر قومك فليضربوا عند النكاح الدفاف، فإنها تفرق بين النكاح والسفاح، وامنع الذين يضربون بالبرابيط .
قال أبو الطاهر: يعني العيدان والطنابر .
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: إظهار العرس باللعب واللهو من الأمر الذي يتبع .
قلت ليحيى بن عمر: ما معنى ( فسمعوا غناء ولعباً ) ؟ وتفسير قول ربيعة ( وإظهار العرس باللعب واللهو )
وهل يصح عندكم حديث سمرة بن نمير وقد علمتَ أن الحارث بن مسكين كان لا يقرأ حديثه ؟
قال يحيى: بهذا الحديث آخذ، وقد رواه أهل العلم عن سمرة بن نمير عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، وسمرة بن نمير ثقة، وإنما كان يوقف الحارث حديثه، وأما إذا حدثه سمرة بن نمير عن غير حسين بن عبد الله بن ضميرة كان يقرؤه ولا يوقفه .
مسألة في بيع الدوامات والصور
وسئل يحيى بن عمر: عن الدوامات والصور وبيعها من الصبيان ؟
قال يحيى: سئل مالك عن التجارة في العظام تتخذ قدر الشبر، فيجعل منها صور تلعب بها الجواري، فقال: لا خير في الصور .
الحكم في القدور تتخذ لعمل النبيذ(1/33)
قلتُ لأبي زكرياء يحيى بن عمر: إن بعض قضاة عبد الله بن أحمد بن طالب كتب إليه: إن القدور التي تقايس قدور النحاس إنما اتخذت لعمل النبيذ، وقالوا: لا تصلح لغيره، وهي تُكْرَى لعمل النبيذ، إن أردتَ قطع النبيذ والتضييق على أهله، فاقطع هذه القدور، فأمرت بجمعها، فجمعت لي من عند أهلها وجعلتها في موضع الثقة، وأوقفتها لأمرك وكتبت إليك معلماً .
فكتب غليه بخط يده: إذا لم يكن لها منفعة غير عمل النبيذ فغَيِّرْ حالها واكسرها وصيرها نحاساً ورده عليهم، كما يفعل بالبوق إذا كسر، وامنع من يعلمها ومن يشتريها .
قلت ليحيى بن عمر: هل يوافقك قوله في هذا ؟
قال: نعم، وبه أقول .
في دخول النساء الحمام من غير مرض ولا نفاس
وسألت يحيى بن عمر عن صاحب الحمام إذا أدخل النساء من غير مرض ولا نفاس، ثم علم بهن في أول مرة، هل ينهى عن دخولهن ولا يؤدبه، وكيف إن نهاه وعاد إلى فعله أي شيء يصنع به ؟ هل يؤدبه ويسجنه ؟ فإن سجنه هل يطول سجنه ؟
قال يحيى: لا شيء عليه حتى يتقدم إليه، فإن عاد نكل [ به ] وعوقب على قدر ما يراه الإمام .
قال يحيى بن عمر: رأيت بعض قضاة عبد الله بن أحمد بن طالب كتب إليه يسأله عن دخول النساء الحمام من غير مرض ولا نفاس فرأيك في ذلك؟
فكتب إليه: أن أحضر إليك متقبل الحمام، ومره ألا يدخل إلا مريضة أو نفساء، وكذلك الرجل أن لا يدخل إلا بمئزر، فإن ركب نهيك فاعضل الحمام وصير المتقبل في السجن، وعاقب الرجل الذي دخل من غير مئزر، وتطرح شهادته حتى تظهر توبته وتعرف .
في بكاء أهل الميت على الميت
وسألت يحيى بن عمر: عن الميت إذا مات فبكى عليه أهله قبل أن يدفن، واجتمع النساء خلفه بالبكاء هل ينهين عن ذلك ؟
فإن نهيتهن ولم ينتهين هل تطبع عليه ديارهن وتخلع عليهن أبوابها ؟ أو لا يعرض لهن ما لم يتبن، سواء كان الميت دفن أو لم يدفن ؟(1/34)
وإن اجتمع النساء يبكين من غير صياح ولا شيء يكره من فعلهن، فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قيل في أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه: إن هاهنا نسوة قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد، فقال عمر رضي الله عنه: دعهن يهرقن من دموعهن على أبي سليمان .
قال يحيى: أما الصراخ العالي والاجتماع عليه فهو مكروه، والنهي فيه قائم، كان فيه نواح أو لم يكن، كان بعد موته أو قبله .
وأما بكاءٌ ليس فيه شيء يكره فلا نهي عنه، وهو عندي قول عمر رضي الله عنه، ألا ترى إلى قوله: دعهن يهرقن من دموعهن على أبي سليمان، فإنما هي عندي دموع تخرج بلا شيء يكره معه، والله أعلم .
قلت ليحيى ين عمر: فإن أتبع النساء الميت قيام بالصياح العالي ولطم الخدود ؟
قال يحيى: إذا نهين عن ذلك ولم ينتهين عوقبن على ذلك على استباحتهن ما لا يحل لهن فعله .
في خروج النساء إلى المقابر
وسألت يحيى بن عمر: عن الرجل يموت وتخرج أمه وأخته وامرأته، ويخرج معهن نساء من جيرانهن، إلى المقبرة ؟
وكذا سألته عن المرأة يموت زوجها أو ولدها أو بعض قرابتها فتعاهد قبره كل جمعة وغيره، فربما بكت بصياح وربما اجتمع إليها نساء يبكين بالصراخ العالي، فهل ترى أن يطردن وينهين عن الخروج أم ما ترى ؟
قال يحيى: لا أرى للنساء أن يخرجن للمقبرة للترحم على الأزواج والأولاد أصلاً .
في النهي عن الخف والنعل الصرار
وسألت يحيى: عن الخف يعمله الخرازون مثل النعل الصرار، هل ينهون أن يعملوا الخفاف الصرارة ؟ فإن النساء يشترينها فيلبسنها فيصير في أرجلهن الصرار الشديد، فيشققن بها الأسواق ومجامع طروق الناس، فربما يكون الرجل غافلاً في عمله فيسمع صرير ذلك الخف فيرفع رأسه، هل ينهى الخرازون عن عمل ذلك الخف ؟
وإن نهوا فلم ينتهوا أي شيء يصنع بهم ؟(1/35)
وهل ينهى النساء عن لبس مثل ذلك، فإن النساء يستعملن ذلك تعمداً، فإن نهيتهن فلم ينتهين هل تشق خرازة الخف الصرار ويخلع من أرجلهن في موضع خال، وهل عليهن أدب ؟
قال يحيى بن عمر: أرى أن ينهى الخرازون عن عمل الأخفاف الصرارة، فإن عملوها بعد النهي رأيت أن عليهم العقوبة .
وأرى أن يمنع النساء عن لبس هذه الأخفاف، فإن لبسنها بعد ذلك تشق خرازة الخف ويدفع إليهن، وأرى عليهن الأدب بعد النهي .
في إهراق الماء أمام الدور والحوانيت
[ وسألته ] في الرجل يرمي ماء قدام داره وحانوته فيزلق فيه فيصاب .
وفي طين المطر إذا كان في الطريق والأسواق هل يجب على الناس [ كنسه ] ؟
قال يحيى بن عمر: أخبرنا محمد بن أبي رجاء، قال: أخبرني محمد بن سعيد، عن أحمد بن أخي أبي زيد، عن أبي زيد بن أبي الغمر، قال: سئل ابن القاسم عن الرجل يرش بين يدي حانوته فتزلق في الدابة فتكسر، فقال:
إن كان رشَّاً خفيفاً لم يكن عليه شيء، وإن كان كثيراً لا يشبه الرش خشيت أن يضمن .
في كنس الطين من الأسواق
سمعت يحيى بن عمر سئل عن الطين إذا كثر في الأسواق، هل يجب على أرباب الحوانيت كنسه وهو مما أضر بالمارة وبالحمولة ؟
فقال يحيى بن عمر: لا يجب عليهم كنسه، لأنه من غير فعلهم .
فقيل ليحيى بن عمر: فإن أصحاب الحوانيت كنسوه وجمعوه وتركوه في وسط السوق أكداساً فربما أضر بالمارة وبالحمولة ؟
فقال يحيى: يجب عليهم كنسه .
في طعام اليهود والنصارى
أخبرني يحيى أنه كتب إليه صاحب سوق القيروان يسأله عن اليهودي والنصراني يوجد وقد تشبه بالمسلمين، وليس عليه رقاع ولا زنار، وهو يحمل ما يعصر به الخمر، ما ترى من عقوبته على ذلك ؟
فكتب إليه ابن عمر: أرى أن يعاقب بالضرب والسجن، ويطاف في موضع اليهود والنصارى ليكون ما حل من العقوبة والضرب والسجن تحذيراً لمن رآه منهم وزجراً لهم .(1/36)
قلت ليحيى بن عمر: إن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن طالب كتب إلى قضاته في اليهود والنصارى أن تكون الزنانير عريضة مغيرة في وجه ثوبه، ليعرف بها، فمن وجدته ركب نهيك فاضربه عشرين سوطاً مجرداً، ثم صيره إلى الحبس، فإن عاد فاضربه ضرباً وجيعاً بالغ فيه وأطل سجنه .
فهل يعجبك هذا وهل تقول به ؟
قال لي: نعم .
في حكم أبواب الدور
وسألت يحيى بن عمر: عن الذي يحدث باباً لداره في زقاق غير نافذ ؟
فقال: إذا كان في الزقاق جيران فليس له أن يحدث باباً في الزقاق، ولا أن يحوله من مكانه، وله ذلك في النافذ ما لم يضر بغيره .
في أهل الضرر من أهل البلايا
( هل ينهى عن بيع المائع )
وسئل يحيى بن عمر وأنا أسمع، سأله صاحب سوق سوسة: عن الضرير يبيع الزيت والخل والمائع كله هل يمنع من ذلك ؟
قال: نعم .
قال له: فلو كان له غنم هل يبيع من لبنها وجبنها أو يبيع بيض دجاج له ؟
فقال له يحيى: يمنع من ذلك ويرد عليه إذا بيع منه .
قال يحيى: وإذا اشترى منه رجل وهو عالم بذلك فهو جائز، ولا يجوز للمشتري أن يبيع ذلك للمسلمين .
ما جاء في المكيال والميزان والقضاء فيه
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا الحارث بن مسكين، عن أشهب بن عبد العزيز قال: سئل مالك عما يجب على الكيال في الكيل، أيطفف المكيال أم يصب عليه ويجلب ؟
فقال: يكيَّل ولا يطفف ولا يجلب، لأن الله جل اسمه يقول: (( ويل للمطففين ))، فلا خير في التطفيف، ولكن يصب عليه حتى يُجَنبِذَه، فإذا جنبذه أرسل يده ولم يمسك .
قيل لمالك: من اشترى وزناً من الزعفران أو غير ذلك واللحم، ما حد ذلك ؟ أيميل ذلك أم لا حتى يستوي لسان الميزان ؟
فقال: حد ذلك حتى يستوي لسان الميزان معتدلاً، ولا يميله، وإن سأله أن يميله لم أر ذلك من وجه المسألة .
قال يحيى: عن مالك: وأرى للسلطان أن يضرب الناس على الوفاء .(1/37)
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا الحارث، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال مالك: الوفاء عندنا إذا أملا رأس الميزان، وأما الردم والزلزلة فلا أراه من الوفاء، ورأيت كأنه يكره ذلك .
وسمعت مالكاً يسأل عن تطفيف المكيال في الويبات، وقال له صاحب السوق: إنهم يستوفون في الحوائط ويكتالون للناس هاهنا بكيل دون ذلك، فرأيت أن مسح رأس الويبة لا يبخس فيه أحد .
قال مالك: عليك أن تأمر الناس بالوفاء هنالك وهاهنا، فمن ظلم فنفسه ظلم .
وكره مالك مسح رأس الويبة ورآه تطفيفاً وكرهه كراهة شديدة، وقال: أكره التطفيف، وقرأ هذه الآية مرتين: (( ويل للمطففين )) .
في الجبر ببيع التسعير
قال ابن وهب: وسمعت مالكاً يُسْأل عن صاحب السوق، وأن يسعر في السوق، فيقول: إما بعتم بكذا وكذا، بأسعار يسميها لهم، وإما خرجتم من السوق .
فقال مالك: لا خير في هذا .
فقيل له: وإن الرجل يأتي بطعام وليس بجيد، وقد سعره بأرخص من الطيب، فيقول [ صاحب السوق ] للغير: إما بعتم مثله وإما خرجتم من السوق .
[ فقال مالك ]: ولا خير في ذلك، ولو أن رجلاً أراد بذلك فساداً في السوق فحطَّ من السعر رأيت أن يقال له: إما أن تلحق بالناس وإما أن تخرج من السوق، فأما أن يقال للناس كلهم: إما أن تبيعوا بكذا، وإما أن تخرجوا، فليس بصواب .
ثم ذكر حديثاً عن عمر رضي الله عنه حين حط سعر الأيلة: أن خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله .
التطفيف في الكيل(1/38)
وسألت يحيى بن عمر: عن تفسير التطفيف ؟ وعن مسح رأس الويبة ؟ وعن الردم والزلزلة أن المشتري الحناط يشتري من الرجل القمح بالدنانير والدراهم فيأتي معه بمكيال وربما كان لنفسه، فيضع الويبة يردمها حتى يلصقها بالأرض، ويرد فيها القمح بيده وهي لاصقة بالأرض، فإذا صار فيها مقدار ثلثها أو نصفها أقامها بهز وزلزلة يردم القمح فيها فيفعل بهذا كذل في كل ويبة يكيل بها، فيزداد له في الدنانير من الكيل الثمن أو الربع، فإذا جاء المشتري يشتري منه لم يمكنه الحناط أن يكيل له مثلما اكتال لنفسه هذا الكيل .
والكيالون والحمالون معروفون أنهم يفعلون هذا الفعل، هل ترى أن ينهوا عن مثل هذا الكيل ؟
وكيف صفة الكيل ؟ أهو أن يجعل الويبة قاعدة ثم يصب فيها بقفة أو غيرها ولا يمسك ولا يجلب بيده ؟
فسر لنا رضي الله عنك، وكيف إن نهيتم عن مثل هذا الكيل ( أعني الحناطين ) إن ظهر عليهم هذا الكيل بالفساد كما ذكرنا ما يصنع بهم ؟ وكيف الأمر في ذلك ؟
[ أخبرنا ] القاضي يوسف ين يحيى، قال: حدثنا عبد الملك بن حبيب، قال: أخبرنا ابن الماجشون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم أمر بنصب الكيل وأن يتبايع عليه، وقال: إن البركة في رأسها ونهي عن الطفاف .
قال: وحدثني ابن الماجشون: أن كيل فرعون – لعنه الله – إنما كان على الطفاف مسحاً بالحديدة .
قال عبد الملك: وسمعت مطرفاً وابن الماجشون يقولان: كان مالك يأمر أن يكون كيل السوق على التصبير، وكان ينهى على الطفاف، وكان يكره ردم الكيل وتحريكه .
قيل لمالك رضي الله عنه: فكيف يكتال ؟
فقال: يملأ الصاع، فذلك الوفاء من غير ردم ولا تحريك، ويسرح الكيال الطعام بيده على رأس الويبة والصاع، فذلك الوفاء .
في حكم من غش أو نقص من الوزن
قال ابن حبيب: وسمعت ابن الماجشون يقول: ينبغي للسلطان أن يتفقد المكيال والميزان في كل حين، وأن يضرب الناس على الوفاء .
وكذلك كان مالك يقول، ويأمر به ولاة السوق بالمدينة .(1/39)
وأخبرنا يوسف بن يحيى القاضي، قال: أخبرنا عبد الملك بن حبيب، قال: قلتُ لمطرف وابن الماجشون: ما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن ؟
فقالا: وجه الصواب عندنا في ذلك أن يعاقبه الإمام بالضرب والسجن أو الإخراج من السوق إن كان قد عرف الغش والفجور من عمله، ولا أرى أن ينهب متاعه ولا يفرق، إلا ما خف قدره من اللبن إن شابه بالماء، أو الخبز إذا نقص من وزنه، فلا أرى بأساً أن يفرقه على المساكين تأديباً له مع الذي يؤدبه من ضربه أو سجنه أو إخراجه من السوق إذا كان معتاداً للفجور فيه والغش، وأما ما كثر من اللبن والخبز أو ما غش من المسك والزعفران، فلا أرى أن يفرق وينهب .
قال عبد الملك: وينبغي للإمام أن لا يرد إليه ما غش من المسك والزعفران وغيره مما عظم قدره، ولكن يأمر ببيع ذلك عليه من أهل عمل [ الطيب ]، فمن يؤمن أن لا يغش به أحداً ببيعه، ولكن ممن يصرفه في وجه مصارفه من الطيب، لأنه إن أسلم إلى الذي غشه أو بيع من مثله من أهل استحلال الغش فقد أبيح لهم [ العمل ] به .
وما كثر من اللبن إذا غش بالماء، أو السمن إذا غش بالشحم، أو العسل إذا غش بالماء، وما كثر من الخبز إذا نقص من وزنه، فلا أرى أن يهبه للمساكين، ولكن يكسر الخبز ثم يسلمه إلى صاحبه، ويباع عليه السمن والعسل واللبن إذا كثر وعظم قدره على تبيان ما فيه من الغش ممن يأكله ويتأدم به، ممن يؤمن ألا يبيعه مغشوشاً، ولا يسلم إلى الذي غشه ولا يباع عليه من مثله، فيباح لهم أن يغشوا به المسلمين .
وهكذا العمل في كل من غش في تجارات السوق أو فجر فيها .
وهذا الذي أوضح لي من استوضحته ذلك من أهل العلم من أصحاب مالك وغيره .
ما جاء في تسعير الطعام(1/40)
وأخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا وليد بن معاوية، عن عبد الرحمن بن أبي جعفر الدمياطي، قال: سئل ابن القاسم عن قول مالك: ينبغي للإمام إذا غلا السعر واحتاج الناس إلى أن يبيعوا على الناس ما عندهم من فضل طعامهم إذا أريد بذلك الطعام التجار الذين خزنوا للبيع لا من طعام الناس إذا كان فضل عن قوت [ عيالهم ] أو جميع طعام الناس إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك، ولم يقل مالك: يباع عليهم، ولكن قال: يؤمر بإخراجه وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما كان عندهم من فضل قوت عيالهم كيف أحبوا، ولا يسعر عليهم .
قيل: وكيف إن سألوا الناس ما لا يحتمل من الثمن أو ما لم يبع به الناس ؟
قال: هو مالهم يفعلون فيه ما أحبوا، ولا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم، هم أحق بأموالهم، وما أرى أن يسعر عليهم، ولكن ما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون من الغلاء أن لا يبيعوا، وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أحب العدل .
قال يحيى بن عمر: قوت عيالهم يعني قوت سنة، كانوا تجاراً أو خزنوا لأنفسهم وحرثوا، فإنه يترك لهم قوتهم سنة، ويؤمر ببيع ما بقي عندهم .
ما جاء في الحُكْرَة وما يجوز فيها
وسمعت يحيى بن عمر يقول في هؤلاء المحتكرين إذا احتكروا الطعام وكان ذلك مضراً بالسوق:
أرى أن يباع عليهم، فيكون لهم رأس أموالهم، والربح يؤخذ منهم، يتصدق به أدباً لهم، وينهوا عن ذلك، فإن عادوا كان الضرب والطواف والسجن لهم .
قال يحيى بن عمر: وأرى هؤلاء البدويين إذا أتوا بالطعام ليبيعوه في سوق المسلمين وأنزلوه في الفنادق والدور، فأرى على صاحب السوق أن يأمرهم ألا يبيعوه إلا في أسواق المسلمين، حيث يدركه الضعيف والقوي والشيخ الكبير والعجوز .
قلتُ ليحيى بن عمر: فإن قال البدوي: تدخل عليَّ مضرة ممن يشتري مني بنصف دينار أو ثلث دينار، فمتى أرجع إلى بلدي وأنا ما أقدر أقعد أكثر من يوم أو يومين، وما معي إلا زاد يوم أو يومين ؟(1/41)
قال يحيى: يقال له: [ حط من ] السعر نصف الثمن أو الثمن، فتخفف على نفسك وترجع مسرعاً سريعاً إلى بيتك .
وأما ما ذكرت من المقام والمضرة فأنت تريد بيع نافق الثمن، وتريد أن ترجع إلى بلدك سريعاً، فلا تمكَّن من ذلك، لأن ذلك ضرر على المسلمين، أو تصبر فتبيع في السوق بنافق الثمن، فلا مضرة على المسلمين .
قلت ليحيى بن عمر: فإن أراد الرجل الذي ليس يعرف يبيع القمح ولا بالاحتكار، وإنما يشتري لقوته سنة، فأراد أن يشتري قوت سنة في هذا الغلاء، أترى أن يمكَّن من ذلك ؟
فقال: لا يمكَّن من ذلك .
وقال يحيى بن عمر لصاحب السوق: من أراد أن يبيع قمحاً من بيته جلبه من منزله إلى بيته، ثم احتاج إلى بيعه وثمنه، فأراد أن يبيعه، فعرض منه قليلاً في يده في السوق، ثم اشتراه منه الحناطون، هل ترى أن يمكن الحناطون أن يكتالوه في دار البائع وينقلوه إلى حوانيتهم ؟
فقال يحيى: أرى أن لا يمكن البائع أن يبيع في داره، وأرى أن ينقله إلى السوق بين المسلمين .
قيل ليحيى: فإن [ أهل ] القصر عندنا ليس لهم سوق يصب فيها الطعام.
فقال: أرى أن يكون بحوانيتهم ويبرزوه للناس في السوق، ويمنع الحناطون أن يشتروا في الدور إذا كان السعر غالياً مضراً بالأسواق، وإذا كان السعر رخيصاً ولا يضر بالسوق خلي بين الناس وبين السوق أن يشتروا ويدخروا ويشتروا في الفنادق وفي الدور وحيث ما أحبوا .
قيل ليحيى بن عمر: في رجل جهل فأنزل قمحه في رحبة الطعام وليس يعرف ممن يحتكرون وإنما جاء به ليأكله .
فقال: إذا صح هذا خلَّيتُ بينه وبين قمحه ينقله إلى داره .
وسألت يحيى بن عمر: عن صاحب الحمام يدخل غير نفساء ولا مريضة ثم اطلع عليه، هل يجب على أحد من المسلمين أن يتهجم عليهن فيخرجهن من الحمام ؟
فقال يحيى بن عمر: لا يهجم عليهم، ولكن يأمرهن بلبس ثيابهن ويستترن بما يخرجن به، ويقول لهن: قد علمتن النهي وكراهة العلماء لذلك، ويؤدبهن قدر ما يرى .
في البيع من المسترسل(1/42)
وخلط اللحم مع الفؤادات والبطون
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: سئل سحنون عن الرجل الغريب يدخل السوق وهو جاهل بالسعر، فيقول للبائع: أعطني زيتاً بدرهم أو قمحاً، ولا يسمي له سعر ما يشتري منه، هل يصح أو تراه من الغرر ؟
فقال سحنون: وبيع الزيت والقمح معروف ليس [ فيه ] خطر .
فقال لنا يحيى بن عمر: غبن المسترسل حرام .
ورأيت يحيى يذهب على أنه يرجع عليه فيأخذ منه ما بقي من سعر السوق .
في بيع اللحم مع الفؤادات والبطون
قلت ليحيى بن عمر: كتب بعض قضاة عبد الله بن أحمد بن طالب إليه يقول: قد نهيت الجزارين أن يخلطوا الفؤاد مع اللحم، فما تقول في البطون مثل المصران والكرش وشحم البطون والدوارة هل ترى أن يمنعوا من خلطه باللحم ويزنوه مع اللحم ؟
فكتب إليه ابن طالب بخط يده: أما اللحم لا يبيعوا معه فؤاداً ولا بطناً ولا شيئاً سوى اللحم خاصة ولا يسعر عليهم .
[ قلت ]: هل يعجبك هذا من قوله، وهل تقول به ؟
فقال: نعم .
وقال يحيى: إن بعضهم يبيع اللحم على حدة والبطون على حدة، فيبيع اللحم رطلين بدرهم، والبطون ستة أرطال بدرهم، فلذلك لا يجوز أن يباع اللحم مع البطون، وإنما يباع اللحم خاصة وحده .
في بيع أزيار الصير والأحمال القائمة(1/43)
حدثنا سعيد بن إسحاق عن شجرة بن عيسى أنه كتب إلى سحنون بن سعيد يسأله: أن التين عندهم والصير يباع في أزيار ومحاويس يجعل فيها التين ويرزم ويحشى حشواً شديداً، ويوضع الصير الصغير والكبير في الأزيار والمحاويس، فيشتري الرجل الأزيار والمحاويس جملة من التين أو من الصير، ويأخذ منه ما في العتق، وينظر إلى ما في فم الزير من الصير، فيشتريه على ما رأى منه، فيبين به ويغيب عليه، فمن المشترين من يبيعه كما اشتراه في أزياره وفي ظروفه جملة أو أفراداً، ومنهم من يبيعه على يديه بالوزن، ويبيع الصير بالكيل، فيأتي المشتري فيدعي أنه وجد ما هو داخل الزير من التين أو الصير خلاف ما رأى منه،وذلك بعد أن يغيب عليه ويقيم الأيام الكثيرة أو القليلة، وربما طال ذلك أو قل، فيقول المشتري: دلست عليَّ ووجدت في داخل الظرف خلاف ما وجدت في أعلاه وما رأيت منه، ويقول البائع: ما بعت منه إلا صنفاً واحداً وما كان في داخل الظرف والزير إلا مثلما رأيت في أعلاهما .
وكذلك أيضاً أحمال العنب، يؤتى بالحمل المنضود في القفاف والسلال فيشتريه المشتري على رؤية الأعلى من الظاهر، فيمر به إلى حانوته في سلاله أو قفافه على حاله ولا يفرغه، وكذلك يباع عندنا، ثم يذهب البائع ويغيب ويرجع إلى منزله، ويأخذ المشتري في بيع ما اشتري جملة في قفافه أو سلاله فيبيعه بالأرطال، ثم يقوم على البائغ فيقول: كل ما في أسفل القفاف أو أسفل السلال أردأ من الذي كان على الوجه الظاهر الموجود، ولعل ذلك أن يكون من يومه أو من ساعته إلا أن المشتري قد غاب عليه وزال عن البائع، فيقوم عليه ويأتي بعنب ردئ عفن، فيقول: هذا أصبته في أسفلها في أعلاها طيب، فيقول البائع: ما بعته إلا نوعاً واحداً وعنباً طيباً .(1/44)
وربما اختلفا كذلك في الرمان والبطيخ، وإنما يشتري عندنا كما يؤتى به في قفافه أو سلاله مملوءة لا ينزع منها شيء ولا يفرغ حتى يأخذ المشتري في بيعه شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى أسفله فيأتي فيدعي ما أعلمتك به، فما تقول في ذلك ؟
وكيف الحكم فيه بينهما وقد اخترق وزال بعضهما على بعض ؟
فكتب إليه سحنون: إذا اشترى بما رأى من أوله – وكذلك تشترى هذه الأشياء – ويقبضونها على ذلك ويغيبون بها، فإذا غابوا عليها وادعوا الخلاف فهم مدعون، فعليهم البينة أنهم من حين أخذوها لم تفارقهم البتة حتى ظهر هذا الخلاف، وإلا حلف البائع ما باع الأعلى إلا مثل الأسفل والأسفل مثل الأعلى، والله أعلم .
في الرماد الذي يبيض به الغزل حكم الغش فيه
وسألنا يحيى بن عمر أيضاً: عن امرأة اشترت رماداً من رجل، فقال لها البائع: إنه جيد، فبيضت به غزلها، فخرج غزلها كما علمته ولم يبيض .
فقال لنا يحيى: يختبر الرماد بشيء إن كان بقي من الرماد شيء يبيض به، فإن كان الذي بيض به خرج جيداً فلا شيء على البائع، وإن كان خرج رديئاً رجعت عليه بالثمن، وإن كان لم يبق شيء عنده من الرماد حلف بالله أنه ما باع إلا جيداً وبرئ، إلا أن تقيم المرأة البينة أنها بيضت غزلها في الرماد الذي اشترت من هذا البائع، فإن أقامت البينة رجعت عليه بالثمن، وإن نكل البائع عن اليمين رجعت اليمين عليها فحلفت ورجعت بالثمن .
الحكم في الصيارفة
في رجل اشترى من صيرفي دراهم مسماة، فأراه المشتري الدينار فنقره بائع الدراهم، فتلف الدينار أيضمن أم لا ؟
والرجل يشتري من الرجل الدينار فينقره فيتلف، أيضمن أم لا ؟
أخبرنا يحيى بن عمر، قال: أخبرنا عبيد، عن أصبغ بن الفرج، قال: قال لي ابن القاسم عن مالك: في رجل دفع إلي صراف ديناراً على دراهم فنقره فضاع إنه ضامن، وقال أصبغ: لأنه وجه بيع وشراء فهو ضامن .
قال لنا يحيى بن عمر: فنقره يعني طار من يده .(1/45)
قال ابن القاسم في الدينار يعطيه الرجل للصراف على دراهم فينقره فيذهب: إنه ضامن، قال أصبغ: وهذا أصوب، [ لأنه ] قد صار منه حين قبضه ليصرف، فهو بيع وشراء بمقبوض .
قال أصبغ: وكذلك لو غصبه الصراف أو اختلس منه، وسواء في هذا عندي نقره نقراً يتلف من مثله أو خفيفاً لا عطب من مثله إلا بالقضاء والقدر، إلا أن يؤذن له في نقره فينقره نقراً لا يعطب من مثله، فطار في ذلك فلا شيء عليه وإن خرق ضمن .
قال أصبغ: وإنما الذي لا يضمن من الخفيف في النقر الذي يشتري ولا يشترى منه دراهم .
وسمعت يحيى بن عمر وقد سئل عن رجل تعدى على دينار فكسره، فقال له يحيى: يغرم مثله في وزنه وسكته .
قال له السائل: إنه ليس يوجد مثله في وزنه وسكته، لرداءته ونقصه، إذ ينقص ستة قراريط .
فقال له يحيى: يمضي به إلى أهل المعرفة بالدنانير فيقال [ لهم ]: ما يساوي هذا الدينار بنقصه وهو صحيح من الدراهم ؟
فإن قالوا: يساوي كذا وكذا قال يحيى: فيعطى من الدراهم ما يسوى به .
قلت ليحيى بن عمر: فلو أن رجلاً مر بدينار إلى رجل ليريه إياه، فأخذه الرجل فجعله بين أسنانه لينظر ذهب الدينار ليناً أو يابساً [ فكسره ] – لأن سنة الدنانير إذا وزنت أن تجعل بين الأسنان لتختبر – فإن كان الذهب ليِّنا علم أنه جيد وإن كان الذهب يابساً علم أنه رديء، فلا ضمان عليه .
ما جاء في التين يشترى أو الفول أو المغالي
فيدعى ورقه والمغالي يدعى حب القطن وغباره
قلت ليحيى بن عمر: الذي يشتري الفول الأخضر وهو قائم في أصوله فيبيع ثمرته ويريد أخذ قصبه، فيقول البائع: ليس لك القصب، ولكن هو لي .
فقال لي يحيى بن عمر: إذا كان لأهل البلد ذلك سنة حملوا عليها، وإلا فالقصب للمشتري .
قلت ليحيى: في التين تشترى ثمرته من الشجر فيريد المشتري أخذ الورق .
قال يحيى: ليس له ذلك والورق للبائع .
قلت: فما يصلح به السلال من الورق ؟(1/46)
فقال: ذلك شيء جرى الناس عليه ولا بد لهم منه، وللمشتري أن يأخذ ما يصلح به سلاله حتى يفرغ من بيع ثمرته، وليس له ما سوى ذلك .
قلت ليحيى: فإن اشترى الفول الأخضر والمقاثي والبطيخ من البحائر وفيها الحشيش فيقول المشتري هو لي، ويقول البائع هو لي ؟
قال يحيى: الحشيش للبائع إلا أن يشترطه المشتري في شرائه .
قلت ليحيى بن عمر: فالقطن المحبب يدفع إلى العامل يحله أو يندفه، فلمن الحب والغبار الذي يقع منه ؟
قال يحيى: لصاحب القطن، ولا يكون للعامل منه شيء .
قلت ليحيى: فإن اشترطه العامل مع إجارته ؟
قال: فإن الإجارة فاسدة، لأنه اشترط مجهولاً .
قلت: فإن وقعت بيده الإجارة بحال ما وصفت لك ؟
قال يحيى: يعطى العامل إجارة مثله، ويكون الغبار والحب لصاحب القطن .
قلت ليحيى: وكذلك الطحان يطحن القمح فتكون منه النخالة ؟
قال لي يحيى: نعم، هي لصاحب القمح على ما ذكرته لك في القطن .
قلت: وكذلك الخرطات التي تقع من السراويلات، والتقصيص من الثياب عند الخياطين ؟
قال: نعم هي لصاحب الثياب، وهو كما وصفتُ لك، وكذلك كل ما أشبه ذلك مما يستعمل عند العمالي .
فيما يأخذه صاحب السوق من الباعة
واختلف العلماء فيما يأخذون من الباعة، هل هو حلال أو حرام أو مكروه ؟
فمنهم من قال: إنه حرام، ومنهم من قال: إنه مكروه، ومنهم من قال: إنه حلال .
والمشهور من المذهب أنه إذا كان مستغنياً عن الأخذ فالحرمة، وأما إن كان محتاجاً غاية الاحتياج فلا بأس أن يأخذ، لكن على شرط أن لا يركن إليهم، وليراع المصلحة والمعروف لجميع الناس .
قال بعضهم: لا بأس بالأخذ من الباعة، لكن بالمعروف، وأن لا يركن إليهم أصلاً على كل حال، ولو أعطوه لا يميل إليهم بل ينظر بالمعروف، والأولى أن يتقي الله جهده .
في دور الأذى والفجور
سمعت حمديس بن محمد القطان يقول: أوتي إلى سحنون بامرأة يقال لها: حكيمة، كانت تجمع بين الرجال والنساء، فضربت وحبست .(1/47)
وسمعت حمديس القطان يقول: أمر سحنون بالمرأة التي يقال لها: حكيمة، وكانت تجمع بين الرجال والنساء، واستفاض عليها الخبر، فأمر بها سحنون فنحيت من دارها، وطُيِّن باب دارها بالطين والطوب، وكانت خلاسية طوالة، وأمر أن تجعل بين قوم صالحين، فنقلت إلى ذلك الموضع .
وقد كان ضربها بالسوط وأجلسها في القفة، وامرأة أيضاً يقال لها غبارة وغيرها .
وقال أبو القاسم محمد بن يزيد بن خالد الطرزي لحمديس القطان وأنا أسمع حاضر: أخذنا غلمانا مرداً بطالين يفسدون بالدراهم، فوضعت في أرجلهم القيد، فقال حمديس: احبسهم عند آبائهم ولا تحبسهم في السجن .
وصوب له حمديس القطان القيد، وتركه مقيداً عند أبيه .
تم كتاب النظر والأحكام في جميع أحوال السوق
والحمد لله أولا ًوآخراً
---(1/48)