أحكام التيمم
تأليف أبي عبد الرحمن
يحيى بن علي الحجوري
مقدمة الإمام العلامة
محدث الديار اليمنية
أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي
الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد..
فقد اطلعت على ما كتبه الشيخ الفاضل يحيى بن علي الحجوري في التيمم، فوجدته حفظه الله قد أودع فوائد تشد لها الرحال؛ من كلام على الحديث، وعلى رجال السند، واستنباط مسائل فقهية مما يدل على تبحره في علم الحديث والفقه، ولست أبالغ إذا قلت: إن عمله في هذا الباب يفوق عمل الحافظ رحمه الله في الفتح في هذا الباب من بيان حال كل حديث وبيان درجته، ولست أعني أن الأخ الفاضل يحيى أعلم من الحافظ في علم الحديث، ولكن الأخ يحيى أتقن ما كتبه في هذا الشرح المبارك، أعني شرح منتقى ابن الجارود، والبركة من الله فجزى الله الجميع خيرًا، وأخيرًا فأسأل الله أن يوفق أخانا يحيى لمواصلة المسير في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن ينفع به وبما عمله الإسلام والمسلمين إنه على كل شيء قدير.
أبو عبد الرحمن
مقبل بن هادي الوادعي
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:
فإن مما يسر الله لي إفراده من شرحي على منتقى الإمام ابن الجارود رحمه الله، هذه الرسالة التي بين يديك في أحكام التيمم، وقد قام أحد فاعلي الخير أثابه الله بطبع نحو ألف نسخة منها من ماله الخاص لدى دار الإرشاد بصنعاء وذلك قبل ثمان سنين، فخرجت تلك الطبعة الأولى فيها عدد من الأخطاء في الفهرس وفي غيره من ثنايا الرسالة، وتم بحمد الله تعالى إصلاح تلك الأخطاء مع إضافة شيء مما نراه مناسباً للموضوع في هذه الطبعة الثانية لدى مكتبة الإمام الوادعي .(1/1)
أسأل الله أن ينفع بالرسالة ويسدد صاحب الدار المذكورة لكل خير وبالله التوفيق.
كتبه
أبو عبد الرحمن
يحيى بن علي الحجوري
في منتصف ليلة الاثنين 13/من شهر رجب عام سبع وعشرين وأربعمائة وألف [للهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام].
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله الذي يسر لعباده سبل الهدى، وأكمل لهم دينهم في كتابه العزيز وسنة نبيه أحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بالخلق والملك والتدبير قد تفرد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المخصوص بخمس(1) لم تكن لنبي قبله أبدًا.
أما بعد..
فهذا بحث متواضع في التيمم وأحكامه، أفردته من شرحي لمنتقى ابن الجارود رحمه الله لأهميته، راجيًا من الله سبحانه أن ينفعني به والمسلمين ويجعله ذخرًا لي يوم الدين، وكان ذلك بعد استشارة شيخي الجليل العلامة النبيل مقبل بن هادي الوادعي أطال الله للمسلمين بقاءه، وسدد إلى الرشد والخير خطاه، فجمعت ما يسر الله تعالى من الأحاديث في التيمم، متحريًا ثبوت ما أحتج به منها وأضفت إلى ذلك بعض أقوال العلماء في المسائل مع بيان ما يترجح عندي بذكر دليله، والحمد لله رب العالمين.
وإن كان لي من شكر في هذه الرسالة المختصرة لأحد بعد الله سبحانه، فهو لشيخي الفاضل ولوالِدَيَّ الأخيار، ثم لإخواني الأعزاء وأخص منهم: أبا حسين أحمد بن علي الحجوري الذي لا يزال ناصرًا للسنة بنفسه وماله، أسأل الله العظيم أن يبارك فيه وله، وأن يسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ويدفع عنه كل سوء ومكروه.
كتبه أبو عبد الرحمن
يحيى بن علي الحجوري في 7/شعبان/1419هـ
تعريف التيمم
التيمم لغة: هو القصد. قال ابن الأثير في "النهاية"(5/259):
__________
(1) سيأتي الدليل على ذلك في حديث جابر في فضل خصوصية هذه الأمة بالتيمم.(1/2)
وأصله في اللغة القصد، يقال: يممته وتيممته إذا قصدته، وأصله أيضًا التعمد والتوخي، ويقال فيه: أممته وتأممته، ثم كثر في الاستعمال حتى صار التيمم اسمًا علمًا لمسح الوجه والكفين بالتراب، قال الشاعر:
ولا أدري إذا يممت أرضًا ... أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتليني
انظر "تفسير ابن كثير" (3/565).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
علمي معي حيثما يممت يتبعني ... صدري وعاء له لا بطن صندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوقِ السوق
أما التيمم في الشرع:
فهو القصد والتعمد إلى الصعيد لمسح الوجه والكفين بنية استباحة الصلاة ونحوها.
انظر "فتح الباري" (1/431).
والتيمم عن الحدث الأصغر والأكبر، أما الحدث الأصغر فلا خلاف في ذلك، وأما عن الحدث الأكبر فيجوز عند كافة العلماء، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب، وابن مسعود رضي الله عنهما، وتابعهما على ذلك إبراهيم النخعي رحمه الله(1)، والصحيح أنه عن الحدث الأصغر والأكبر للأدلة الآتية من الكتاب والسنة.
كم آية في التيمم الشرعي؟
ذكر الله تعالى التيمم آمرًا به عند عدم وجود الماء في آيتين من كتابه الكريم، الآية الأولى في سورة النساء رقم (43)، والآية الثانية في سورة المائدة رقم (6).
ما هي آية التيمم؟
اختلف العلماء في أي الآيتين آية التيمم، حتى قال ابن العربي رحمه الله تعالى كما في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر(1/434): هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء، لأنا لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة رضي الله عنها. وقال ابن بطال: هي آية النساء أو آية المائدة. وقال القرطبي: هي آية النساء لأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم.
__________
(1) انظر "المجموع شرح المهذب"(1/240)، و"بداية المجتهد لابن رشد"(1/163).(1/3)
وذهب الواحدي أنها آية النساء اهـ بتصرف ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "الفتح" (1/434) بعد ذكر هذه الأقوال: وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد. اهـ المراد من "الفتح".
قلت: نعم قد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه (8/272) رقم (4608) حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها –نفسها- أنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي ^ ونزل فثنى رأسه في حجري راقدًا، أقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة، وقال: حبستِ الناس في قلادة، قالت: فبي الموت لمكان رسول الله ^، وقد أوجعني، ثم إن النبي ^ استيقظ وحضرت الصبح فالتُمِسَ الماء فلم يوجد، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}[المائدة:6]الآية، فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة لهم.اهـ
وأخرجه مسلم (367)، واللفظ للبخاري.
وهذه آية المائدة، أما آية النساء فهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:43].
ونص آية المائدة:
{(1/4)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المائدة:6].
قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/40): ذكر العلماء أن هذه الآية من أعظم آيات القرآن مسائل، وأكثرها أحكاماً في العبادات وبحق ذلك فإنها شطر الإيمان كما قال النبي ^ (الطهور شطر الإيمان)، ولقد قال بعض العلماء: إن فيها ألف مسألة واجتمع أصحابنا في مدينة السلام فتتبعوها فبلغوها ثمانين مسألة.اهـ
فعلم بحمد الله أن الآية التي نصت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي سبب نزول الآية هي: آية المائدة، وثبت نصها في البخاري، فلا ينبغي أن يختلف في ذلك مع وجود النص القاطع أنها آية المائدة، ولكن كما قال الحافظ رحمه الله: خفي على من قال أنها آية النساء، الحديث المتقدم والله المستعان، وهذا يرشدنا جميعًا أن الحق في مسائل الخلاف لا يتعدد.
وكما قال الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبرًا ... إلا خلاف له وجه من النظر
التيمم خصوصية لمحمد ^ وأمته:
التيمم خصوصية للنبي ^ وأمته، ولم يكن لأحد من الأمم المتقدمة، والدليل على ذلك عدة أحاديث منها:(1/5)
حديث جابر بن عبدالله في "الصحيحين" أن النبي ^ قال: »أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي ومنها: »وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل«، ولا نعلم خلافًا بين العلماء أن التيمم من خصائص هذه الأمة ونبيها، وأن الأمم المتقدمة ما كانت تقبل منهم الصلاة إلا بوضوء بالماء.
قال الإمام النووي رحمه الله في "المجموع" (2/206):
وهو خصيصة وفضيلة اختصت بها هذه الأمة، زادها الله شرفًا لم يشاركها فيها غيرها من الأمم، كما صرحت به الأحاديث المشهورة عن رسول الله ^ (1). اهـ
* * *
فصل
في ذكر جملة من الأحاديث الواردة في التيمم
1- قال الإمام ابن الجارود رحمه الله تعالى في المنتقى رقم (122):
حدثنا عبدالله بن هاشم قال: حدثني يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف قال: حدثنا أبو رجاء قال: حدثنا عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كنا في سفر مع النبي ^ فصلى بالناس، فلما انفتل من الصلاة إذا رجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال: »ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟« فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، فقال رسول الله ^: »عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك«. اهـ
سند الحديث عند ابن الجارود صحيح ورجاله كلهم ثقات، وقد أخرج الحديث البخاري في صحيحه برقم (344)، باب الصعيد وضوء المسلم يكفيه عن الماء، ورقم (348).
وفي باب علامات النبوة في الإسلام من كتاب المناقب رقم (3571)، وفيه أن الذي جعل يكبر حتى استيقظ رسول الله ^ هو أبو بكر رضي الله عنه.
__________
(1) وانظر إن شئت "الأوسط لابن المنذر"(2/11)، و"فتح الباري"(1/436)، و"طرح التثريب للعراقي" (1/111)، و"الإعلام لابن الملقن"(2/112)، و"نيل الأوطار"(1/256)، وكتب التفاسير عند تفسير آية (43) من سورة النساء، وآية (6) من سورة المائدة.(1/6)
قال الحافظ في "الفتح" (1/449): وقد اختلف العلماء هل كان ذلك مرة أو أكثر؟ أعني نومهم عن صلاة الصبح، فجزم الأصيلي بأن القصة واحدة، وتعقبه القاضي عياض بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين، وهو كما قال، فإن قصة أبي قتادة فيها أن أبا بكر وعمر لم يكونا مع النبي ^ لما نام، وقصة عمران فيها أنهما كانا معه عليه الصلاة والسلام، وأيضًا قصة عمران فيها أن أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبي ^ حتى أيقظه عمر بالتكبير، وقصة أبي قتادة فيها أن أول من استيقظ النبي ^، وفي القصتين غير ذلك من وجوه المغايرة، ومع ذلك فالجمع بين الحديثين ممكن بأن يقال بتعدد القصة.اهـ بتصرف يسير.
ورجح الحافظ ابن حجر رحمه الله القول بتعدد القصة فقال: ومما يدل على تعدد القصة اختلاف مواطنها.اهـ
وأخرجه مسلم في صحيحه (ج5/ص190) في المساجد رقم (682)، وأحمد في "المسند" (4/434)، والنسائي في "السنن" (1/171) باب التيمم بالصعيد، وأبو عوانة (1/307)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (271-987)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/156)، وعبد الرزاق في "المصنف" (11/277)، وابن حبان كما في "الإحسان" (4/ رقم 1301)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/400و401)، كل هؤلاء لم يذكروا أن النبي ^ أمر الرجل إذا وجد الماء فليغتسل، وأخرج البغوي في "شرح السنة" (2/111)، والبيهقي في "الكبرى" (1/219و220)، والدارقطني في "السنن" (1/200و201) بزيادة أن النبي ^ لما أمر الرجل أن يتيمم ويصلي، قال له: »فإذا وجدت الماء فاغتسل« وهي زيادة منكرة، وقد استدل بهذه الزيادة المنكرة على أن التيمم ليس رافعًا للحدث، وسيأتي بحث ذلك في فصله إن شاء الله.(1/7)
فالحديث مخرجه عندهم جميعًا أبو رجاء عمران بن ملحان العطاردي، رواه عنه عوف بن أبي جميلة، وسلم بن زرير في الصحيحين وغيرهما بدون هذه الزيادة، وانفرد بها عباد بن منصور عند البغوي والبيهقي والدارقطني كما تقدم، وعوف الأعرابي وسلم بن زرير ثقتان، وعباد بن منصور ضعيف ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والعقيلي وأبو داود والنسائي وابن سعيد وابن المديني والفسوي وغيرهم، فهي زيادة منكرة بلا شك.
2- قال ابن الجارود رحمه الله تعالى رقم (125):
حدثنا عبدالله بن هاشم عن يحيى بن سعيد عن شعبة، قال: حدثنا الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، أن رجلًا أتى عمر رضي الله عنه، فقال: إني أجنبت فلم أجد الماء؟ فقال له عمر: لا تصلي، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فاجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي ^: »إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك« فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به، فقال: بل نولك ما توليت.
إسناد الحديث عند ابن الجارود صحيح رجاله كلهم ثقات، فعبدالله بن هشام هو العبدي ثقة، والحكم هو ابن عتيبة أرفع من ثقة، وذر هو ابن عبدالله المرهبي ثقة عابد، وقد أخرجه البخاري في تسعة مواضع من صحيحه منها برقم (338) باب التيمم هل ينفخ فيهما، ورقم (339) باب التيمم للوجه والكفين، ورقم (340) بلفظ تفل فيهما، ورقم (341 و 342 و343 و345 و 346) باب التيمم ضربة، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض رقم (368) باب التيمم.
3- قال ابن الجارود رحمه الله تعالى في "المنتقى" رقم (127):(1/8)
حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو صالح عن الليث قال: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبدالله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي ^ حتى دخلنا على أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه: أقبل رسول الله ^ من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي ^ حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه.اهـ
سند الحديث عند ابن الجارود ضعيف، علته أبو صالح عبدالله بن صالح كاتب الليث الراجح ضعفه، لكن الحديث ثابت بسند أعلى من هذا عند البخاري رقم(337)، وأخرجه مسلم رقم (369) تعليقاً، والنسائي (1/165)، وأبو داود رقم (339)، وأبو عوانة (1/307)، وابن خزيمة (1/139) كلهم من طريق الأعرج عن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه، وعبدالله بن يسار عن أبي الجهيم، ووقع عند مسلم عبد الرحمن بن يسار قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ووقع عند مسلم في هذا الحديث عبد الرحمن بن يسار وهو وهم. اهـ، وقال النووي في شرح مسلم: هكذا هو في أصول صحيح مسلم، قال أبو علي الغساني وجميع المتكلمين على أسانيد مسلم: قوله عبد الرحمن خطأ صر يح، وصوابه عبدالله بن يسار ـ إلى أن قال ـ وهم أربعة أخوة: عبدالله وعبد الرحمن وعبد الملك وعطاء.اهـ
قلت: وبقي إسحاق وموسى وسليمان بن يسار ذكره المزي في "تهذيب الكمال" عند ترجمة أخيه عبد الملك وهو أحد الفقهاء السبعة، وانظر الأخوة والأخوات لابن المديني (ص67)، ولأبي داود (ص198-199).
سبب نزول آية التيمم
4- قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (1/رقم 336):(1/9)
حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا عبدالله بن نمير قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله ^ رجلًا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا، فشكوا ذلك إلى رسول الله ^ فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرًا.
أخرجه في أحد عشر موضعًا غير هذا من صحيحه، وأخرجه مسلم رقم (367)(1).
5- قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (1/335):
حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا سيار قال: حدثنا يزيد بن صهيب الفقير قال: أخبرنا جابر بن عبدالله أن النبي ^ قال: »أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة«، وأخرجه مسلم رقم (521)(2).
__________
(1) قال النووي عند هذا الرقم في هذا الحديث فوائد: منها: جواز العارية وجواز عارية الحلي، وجواز المسافرة بالعارية إذا كان بإذن المعير، وجواز اتخاذ النساء القلائد ، وفي الاعتناء بحفظ حقوق المسلمين وأموالهم، وإن قلّت، ولهذا أقام النبي ^ على التماسه وجواز الإقامة في موضع لا ماء فيه وإن احتاج إلى التيمم.
(2) قال النووي عند هذا الرقم قوله (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ) قال العلماء: كانت غنائم من قبلنا يجمعونها ثم تأتي نار من السماء فتأكلها كما جاء مبيناً في الصحيحين من رواية أبي هريرة في حديث النبي الذي غزا وحبس الله له الشمس.
قلت: هو يوشع بن نون فلم تحبس الشمس إلا له كما في مسند أحمد رقم(8315)، بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ^: »إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس«. اهـ
قال: وقوله: (وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً) وفي الرواية الأخرى: (وجعلت لي تربتها لنا طهوراًً...) احتج به الشافعي وأحمد وغيرهما ممن لا يُجوِّز التيمم إلا بالتراب خاصة.
قلت: هذا هو الصحيح كما سيأتي بيانه في بابه.
قال: وقوله: (ومسجداً) معناه: أن من كان قبلنا إنما أبيح لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس. اهـ(1/10)
6- قال الإمام ابن الجارود رحمه الله تعالى (**):
حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: محمد يعني ابن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ^: »جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا«، الحديث سنده عند المؤلف حسن من أجل محمد بن عمرو بن علقمة حسن الحديث وباقي رجاله ثقات، وقد أخرجه مسلم في صحيحه رقم (523) في كتاب المساجد.
7- قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى رقم (522):
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي عن حذيفة، قال: قال رسول الله ^: »فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء«، وقال: أخبرني أبو كريب محمد بن العلاء قال: أخبرنا ابن أبي زائدة عن سعد بن طارق عن ربعي بن حراش عن حذيفة، قال: قال رسول الله ^ بمثله.
فمحمد بن فضيل حسن الحديث، ومع ذلك قد تابعه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة متقن، فمخرج الحديث هو أبو مالك الأشجعي، ورواه عنه جماعة وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل ذكرته في الكلام على الصعيد.
8- قال الإمام ابن الجارود رحمه الله تعالى (124):
حدثنا محمد قال: حدثنا حجاج الأنماطي قال: حدثنا حماد عن ثابت وحميد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ^ قال: »جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا« الحديث عند ابن الجارود صحيح، محمد هو الذهلي، وحجاج هو ابن منهال، وحماد هو ابن سلمة فكل رجال السند ثقات.
9- قال أبو داود رحمه الله تعالى (334):(1/11)
حدثنا ابن المثنى، قال: أخبرنا وهب بن جرير، قال: أخبرنا أبي، قال: سمعت يحيى ابن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إنِ اغتسلت أن أَهْلِك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي ^، فقال: »يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟« فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النساء:29]، فضحك رسول الله ^ ولم يقل شيئًا.
قال أبو داود: عبد الرحمن بن جبير مصري مولى خارجة بن حذافة وليس هو ابن جبير بن نفير. اهـ
وقد أخرج الحديث أيضًا الدارقطني في "السنن" (1/178)، والحاكم (1/177)، والبيهقي في "الكبرى" (1/225)، وابن حبان كما في "الإحسان" (4 رقم 1315)، وعلقه البخاري في صحيحه (ج1 /ص454)، وأخرجه البغوي في "شرح السنة" (2/121)، وهو عند هؤلاء كلهم عدا البخاري والبغوي من طريق يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس القرشي المصري، عن عبد الرحمن بن جبير مولى خارجة بن حذافة، فهذا السند رجاله كلهم ثقات غير يحيى بن أيوب الغافقي المصري، وحديثه يقبل التحسين إن شاء الله لا سيما وقد وثقه ابن معين والفسوي والحربي والدارقطني وأبو داود، وقال النسائي وأحمد بن صالح: لا بأس به. وقال البخاري: صدوق. وقال ابن عدي: هو من فقهاء مصر وعلمائهم، ولا أرى في حديثه إذا روى عنه ثقة أو يروي هو عن ثقة حديثًا منكرًا فأذكره، وهو عندي صدوق لا بأس به، واستشهد به البخاري واحتج به الباقون.
انظر "مقدمة الفتح" ص(451).
وضعفه ابن سعد والعقيلي وأبو زرعة، وقال أحمد: كان سيء الحفظ. وقال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به. وتوسط الحافظ ابن حجر رحمه الله فيه، فقال: صدوق ربما أخطأ. اهـ(1/12)
قلت: ومثل هذا حديثه يحسن إلا إذا نص إمام أن هذا الحديث من أخطائه ولم أجد ذلك، لكن علة هذه الطريق الانقطاع، فعبد الرحمن بن جبير هذا لم يسمع من عمرو بن العاص، قيل بينهما أبو قيس مولى عمرو بن العاص، وقد أخرجه أبو داود رقم (335) من طريق ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص، وفيه أن عمرو بن العاص غسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم.
ومن هذه الطريق أخرجه الحاكم (1/177)، والبيهقي (1/126)، والدارقطني (1/179)، قال أبو داود بعد أن أخرج هذه الطريق: وروى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية قال فيه: فتيمم.اهـ
وهو منقطع، فحسان بن عطية ثقة لكنه لم يسمع من عمرو بن العاص، فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: حسان بن عطية هل سمع من عمرو بن العاص فقال: لا.
كما في "جامع التحصيل".
فالظاهر أن الحديث روي على الوجهين، رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عند أحمد في مسنده (4/203) برواية التيمم، وعند أبي داود (335) عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث أن عمرًا توضأ وغسل مغابنه، فتكون رواية التيمم رواها ابن لهيعة ويحيى بن أيوب الغافقي منقطعة، وطريق الوضوء رواها ابن لهيعة وعمرو بن الحارث بذكر الواسطة بين عبد الرحمن بن جبير وعمرو بن العاص وهو أبو قيس، فهذه الطريق صحيحة بلفظ أن عمرًا توضأ وغسل مغابنه وقد رجحها ابن القيم في زاد المعاد (3/388)، فقال بعد ذكر الروايتين، وكأن هذا أقوى من رواية التيمم.(1/13)
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والذي عندي أنهما عللاه بحديث جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب، وفيه فتيممت وحديث جرير بن حازم هذا لا يعلل حديث عمرو بن الحارث الذي وصله بذكر أبي قيس، فإن أهل مصر أعرف لحديثهم من أهل البصرة. اهـ يعني أن حديث الوضوء رواه عمرو بن الحارث وهو مصري عن يحيى بن أيوب وهو مصري، والمصريون أعلم بحديثهم، أما حديث التيمم فرواه جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب، وجرير بصري ويحيى مصري، فالحاكم يجنح إلى أن رواية التيمم معلة بينما الزيلعي في نصب الراية (1/157)، والحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/454) يحتجان برواية التيمم.
والبيهقي في "الكبرى" (1/226)، والنووي في "المجموع" (1/328) طبعة التراث يجمعان بين القصتين بأن عمرًا غسل مغابنه وما أمكن من داخله، ثم تيمم للباقي، مما يدل أنهما يحتجان بالطريقين وهو كذلك، وقد رواه عمرو بن الحارث وابن لهيعة على الوجهين، وتابع عمرو بن الحارث على رواية التيمم جرير بن حازم كما تقدم، ورواية عمرو له بلفظ التيمم أخرجها ابن المنذر في "الأوسط" (2/27)، وكذلك ابن لهيعة كما عند أحمد في "المسند" (4/203)، وعند أبي داود رقم (335)، فعلم أن الحديث روي على الوجهين، وثبت عن عمرو باللفظين، وأن جمع البيهقي والنووي صواب في أن عمرًا غسل مغابنه، والمغابن قال ابن الأثير في "النهاية": هي بواطن الأفخاذ عند الحوالب.اهـ
فيكون عمرو رضي الله عنه غسل ما ظن أن المني وقع فيه، وما استطاع من جسمه وتيمم لما عدا ذلك، والله أعلم.
10- حديث الصعيد الطيب وضوء المسلم إن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته.(1/14)
من حديث أبي ذر وأبي هريرة، أما حديث أبي ذر فأخرجه أبو داود في سننه رقم (332) قال: حدثنا عمرو بن عون قال: حدثنا خالد الواسطي ح وحدثنا مسدد، قال: أخبرنا خالد يعني بن عبدالله الطحان الواسطي قال: حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ^، فذكر الحديث ورجال إسناده كلهم ثقات إلا عمرو بن بجدان الراوي عن أبي ذر فمجهول، روى عنه أبو قلابة ووثقه ابن حبان والعجلي، وهما متساهلان في توثيق المجاهيل كما هو معلوم.
والحديث يدور عليه، فقد أخرجه أيضًا النسائي في المجتبى (1/171)، وأحمد في "المسند" (5/146 و180)، والترمذي رقم (124)، والطيالسي في "المسند" رقم (484)، وأبو داود رقم (333)، والحاكم في "المستدرك" (1/176)، وعبد الرزاق في المصنف رقم (782)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/156-157)، والدارقطني في "السنن" (1/187)، وابن حبان رقم (1312) من "الإحسان"، والبيهقي في "الكبرى" (1/220)، وفي بعضها عن رجل من بني عامر عن أبي ذر، وهذا المبهم هو عمرو بن بجدان المتقدم أنه مجهول، بين ذلك البخاري في التاريخ الكبير (6/2059)، والبيهقي في الخلافيات (2/457) بتحقيق الأخ مشهور، وابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام.
فعلم أن حديث أبي ذر ضعيف علته عمرو بن بجدان مجهول.
أما حديث أبي هريرة فأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (1/157) رقم (193) قال: حدثنا مقدم بن محمد، قال: حدثنا عمي القاسم بن يحيى، قال: حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة فذكر الحديث باللفظ المتقدم.
وهذا سند صحيح، فشيخ البزار مقدم بن محمد وثقه البزار والدارقطني، وروى عنه البخاري حديثين في صحيحه كما في "مقدمة الفتح" (445)، وعمه القاسم بن يحيى بن عطاء وثقه الدارقطني وابن حبان، وروى له البخاري في صحيحه، وهشام بن حسان ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين، وابن سيرين إمام معروف ثقة ثبت كبير القدر.(1/15)
والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/266) طبعة المعارف، أن أبا هريرة قال: كان أبو ذر في غنيمة له بالربذة فأجنب، فلما جاء قال له النبي ^: »يجزئك الصعيد، ولو لم تجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك«، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح.
قلت: نعم، الحديث على شرط البخاري كما تقدم، وصحح إسناده ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام"(5/566)، فقال: إسناده صحيح وهو غريب من حديث أبي هريرة وله علة والمشهور حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي وغيره. اهـ
هكذا نقله الزيلعي في "نصب الراية"(1/150) وهو كما قال، ونقل الشوكاني في "النيل" (1/304)، والحافظ في "بلوغ المرام" عن الدارقطني أنه رجح إرساله.
11- حديث أبي سعيد أن رجلين خرجا في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله ^ فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: »أصبت السنة وأجزأتك صلاتك«، وقال للذي أعاد: »لك الأجر مرتين«. اهـ
الحديث أخرجه أبو داود رقم (338)، والنسائي (1/213) رقم (433)، والدارمي (1/207) رقم (744)، والحاكم (1/187) و(189)، والدارقطني (1/188 و189)، والبيهقي في "الكبرى" (1/231)، كلهم من طريق عبدالله بن نافع عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: خرج رجلان فذكر الحديث، قال أبو داود وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن النبي ^.
قال أبو داود: وذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ وهو مرسل.اهـ
وقال النسائي: أخبرنا سويد بن نصر قال: أخبرنا عبدالله يعني ابن المبارك عن الليث بن سعد، قال: حدثني عميرة وغيره عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار أن رجلين، وساق الحديث. اهـ(1/16)
وقال الحاكم بعد أن أخرج هذا الحديث: عبدالله بن نافع ثقة، وقد وصل هذا الإسناد عن الليث، وقد أرسله غيره.
وقال الدارقطني: إخراج الحديث موصولًا تفرد به عبدالله بن نافع عن الليث متصلًا، وخالفه ابن المبارك وغيره اهـ، ثم ذكر المرسل بعده، وقال البيهقي في "السنن الكبرى" نحو ذلك.
وأقول: عبدالله بن نافع راوي الحديث عن الليث متصلًا لم يتفرد به، فقد تابعه على الوصل أبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك، عن أبي علي بن السكن، كما في "بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (2/432)، و"التلخيص الحبير" (1/273)، وعبدالله بن نافع هو المخزومي الصائغ أبو محمد المدني صدوق، والحافظ في التقريب يقول: ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين.
وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، قال الحافظ في التقريب: ثقة ثبت.
وقال في "التهذيب": حافظ إمام حجة، ولقبه الإمام أحمد بشيخ الإسلام.
وقال: ما أقدم عليه اليوم أحدًا من المحدثين. وقال أبو زرعة: كان إمامًا في زمانه جليلًا عند الناس. وقال أبو حاتم نحوه، وقال ابن سعد: ثقة ثبت حجة.اهـ
وقد روى عن الليث في الصحيحين وغيرهما.
قلت: فمثل هذا بمفرده ليس من السهل أن يحكم على حديثه بالشذوذ إذا خالفه ابن المبارك أو غيره، كيف وقد تابعه على الوصل عبدالله بن نافع، فالذي تطمئن إليه النفس أن الحديث روي على الوجهين متصلًا ومرسلًا.
وقد ذكر الحافظ في "التلخيص" له شاهدًا فقال: قال إسحاق بن راهويه في المسند: أخبرنا زيد بن أبي الزرقاء، قال: حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن حنش، عن ابن عباس، أن النبي ^ بال ثم تيمم فقيل له: إن الماء قريب منك، فقال: »لعلي لا أبلغه«.
سنده زيد بن أبي الزرقاء صدوق كما في "الميزان" وحنش ثقة، وعبدالله بن هبيرة أيضًا ثقة، وعلة الحديث هو ابن لهيعة فقط، لكنه يصلح في الشواهد، والشاهد فيه أن النبي ^ تيمم بقرب الماء كما أن الرجلين تيمما بقرب الماء ولم يعيدا، وأيضًا لم يبحثا عن الماء.(1/17)
12- قال الإمام ابن الجارود رحمه الله تعالى رقم (128):
حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي قال: أنباني الوليد بن عبيدالله بن أبي رباح أن عطاء حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلًا أجنب في شتاء فسأل فأمر بالغسل فاغتسل فمات، فذكروا ذلك للنبي ^، فقال: »قتلوه قتلهم الله –ثلاثًا- قد جعل الله الصعيد أو التيمم طهوراً«، شك ابن عباس ثم أثبته بعد.اهـ
سند الحديث رجاله كلهم ثقات إلا الوليد بن عبيدالله بن أبي رباح ترجمته في "الميزان"، روى عن عمه عطاء بن أبي رباح وضعفه الدارقطني، فالحديث ضعيف من أجله، ومن هذه الطريق أخرجه الحاكم (1/165)، وابن حبان كما في "الإحسان" (4/1311)، وتابع الوليدَ بْنَ عبدالله: الأوزاعيُّ فرواه عن عطاء عن ابن عباس، أخرجه من هذه الطريق الإمام أحمد في "المسند" (1/380)، وابن خزيمة (1/138)، والدارقطني (1/190-191) من "السنن"، والحاكم (1/178) وغيرهم، لكن الأوزاعي لم يسمعه من عطاء بن أبي رباح، إنما سمعه من إسماعيل بن مسلم وهو المكي، قال النسائي وغيره: متروك كما في "الميزان".
وفي "سنن أبي داود" رقم (337)، قال الأوزاعي: بلغني عن عطاء.
فهذا يدل أن الأوزاعي ما سمعه من عطاء كما قال الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم.
واختلف الأوزاعي والزبير بن خريق عن عطاء، فرواه أبو داود رقم (336)، والدارقطني (1/189و190)، والبيهقي في "الكبرى" (1/227)، والبغوي (2/120) عن الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر بن عبدالله، وقال الدارقطني وابن أبي داود: تفرد به الزبير بن خريق وليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب. اهـ
وانظر "التلخيص الحبير"(1/147).(1/18)
قلت: الزبير بن خريق، قال الحافظ في "التقريب": لين اهـ. فلا شك أن الأوزاعي أرجح منه، فعلم أن الحديث حديث ابن عباس، وقد رأيتَ أنه عن ابن عباس ضعيف، فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو متروك، أما ما عند الحاكم أن الأوزاعي قال: حدثني عطاء فالتصريح بالتحديث عند الحاكم وهم، فقد نص الحافظ على عدم سماع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء، وأن الواسطة إسماعيل بن مسلم المكي وكفى بذلك دليلًا على عدم سماعه لهذا الحديث من عطاء.
والحاصل أن الحديث جاء عن جابر وعن ابن عباس، فهو عن جابر شذ به الزبير ابن خريق، والصحيح أنه من حديث ابن عباس، وحديث ابن عباس ضعيف جاء من طريقين: الأولى فيها الوليد بن عبيدالله بن أبي رباح ضعيف، والثانية فيها انقطاع بين الأوزاعي وعطاء، والواسطة هو إسماعيل بن مسلم المكي متروك، فالحديث ضعيف كما تقدم.
13- قال الإمام ابن الجارود رحمه الله تعالى رقم (129):
حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[النساء:43]، قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب، فيخاف إنِ اغتسل أن يموت فليتيمم. اهـ
وسنده كما يلي:
محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة الحافظ النيسابوري أبو بكر، قال الذهبي في "السير"(14/365): شيخ الإسلام عني بالحديث والفقه حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان، حدث عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين، وقال: ما كتبت سوداء على بيضاء إلا وأنا أعرفه، وقال ابن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحفظ صناعة السنن وألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كأن السنن بين عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط.(1/19)
وقال الدارقطني: كان إمامًا ثبتًا معدوم النظير، وقال أبو العباس بن سريج: كان يستخرج النكت من حديث رسول الله ^ بالمنقاش، وكان يقول: ليس لأحد مع رسول الله ^ قول إذا صح الخبر اهـ. ومنتقى ابن الجارود كمستخرج على صحيح ابن خزيمة.
وشيخه يوسف بن موسى هو ابن راشد القطان، أبو يعقوب الكوفي حسن الحديث.
وجرير هو ابن عبد الحميد الضبي ثقة، وعطاء بن السائب صدوق اختلط بآخره، وجرير بن عبد الحميد ممن روى عنه بعد الاختلاط كما في "تهذيب التهذيب".
قال ابن الجارود: حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عنه جيد، وحديث جرير ابن عبد الحميد وأشباه جرير ليس بذاك، وقال يعقوب بن سفيان: رواية جرير وابن فضيل وطبقتهم عنه ضعيفة. انظر "التهذيب" عند ترجمة عطاء بن السائب.
وسعيد بن جبير إمام معروف، وابن عباس صحابي جليل، فالحديث ضعيف من أجل أن جريرًا روى عن عطاء بن السائب بعد الاختلاط، وانظر "التلخيص الحبير" (1/199)، وعلل ابن أبي حاتم(1/25) رقم (40) قال: وسألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : »أن النبي ^ في المجدور والمريض إذا خاف على نفسه تيمم« قال أبو زرعة: رواه جرير أيضاً فقال: عن عطاء بن السائب، عن ابن عباس ورفعه، قال أبي: هذا خطأ أخطأ فيه علي بن عاصم، ورواه أبو عوانة وورقاء وغيرهما، عن عطاء بن السائب، عن سعيد، عن ابن عباس موقوف وهو الصحيح. اهـ
قلت: وهو وإن كان موقوفاً على الصحيح إلا أن عموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16] يدل على جواز التيمم لمن لم يستطع استعمال الماء، ويؤيد ذلك قول النبي ^: » ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم«.
14- قال الإمام عبد الرزاق في "المصنف"(1/510-511):(1/20)
عن ابن التيمي عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ^: »إذا كان الرجل بأرض فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد الماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه«.
وبهذا السند أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/147)، والنسائي في "الكبرى" (2/20) رقم (966)، والبيهقي في "الكبرى"(1/405 و406) كلهم من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه به.
وهذا سند صحيح كل رجاله ثقات، وأبو عثمان النهدي هو عبد الرحمن بن مل قد سمع من سلمان، وروى في الصحيحين وغيرهما، وذكرناه هنا من أجل لفظة: »فإن لم يجد الماء فليتيمم«. وهذا الحديث من باب قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6].
15- عن عائشة رضي الله عنها قالت: »كان رسول الله ^ إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم«.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (181) طبعة الباز من طريق عثام بن علي وهو ثقة، عن هشام عن أبيه موقوفًا على عائشة صحيح، وقد تصحف عنده عثام إلى غنام والصواب ما أثبتناه، وأخرجه البيهقي (1/200) رقم (968) من طريق أبي العباس بن يعقوب قال: حدثنا أبو أسامة الكلبي قال: حدثنا الحسن بن الربيع قال: حدثنا عثام –يعني ابن علي- عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله ^: » إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم«، وهذا إسناد صحيح.
أبو العباس إمام، -وأبو أسامة: هو عبد الله بن أسامة الكلبي-، قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (5/10): ثقة صدوق.
والحسن بن الربيع هو البجلي ثقة، وعثام بن علي: ثقة كما في "التهذيب"، وله متابع عند الطبراني في الأوسط من طريق الوليد بن مسلم، عن إسماعيل بن عياش عن هشام عن أبيه به، والوليد مدلس وقد عنعن، وإسماعيل بن عياش روايته عن غير الشاميين ضعيفة وهذا منها، ولفظه عنده »كان إذا واقع أهله فكسل أن يقوم ضرب بيده على الحائط فتيمم«. اهـ(1/21)
وهو ضعيف كما ترى لكنه في الشواهد، وحسنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/394)، والحديث في الصحيحين بدون زيادة »أو تيمم«، قال الحافظ: يحتمل أن يكون التيمم عند عسر وجود الماء.اهـ
قلت: نعم، لأن الله تعالى قال: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً }[النساء:43]، والأدلة كلها مقيدة بعدم وجود الماء، قيبقى الحديث مع ثبوته كما قال الحافظ عند عسر وجود الماء أو عند مشقة استعماله.
فصل
متى شرع التيمم
اختلف العلماء رحمهم الله، في أي غزوة، وفي أي سنة شرع التيمم؟
فذهب الشافعي إلى أن قصة شرعية التيمم كانت في غزوة بني المصطلق(1)، وقال: حدثني بذلك عدة من قريش من أهل العلم بالمغازي وغيرهم.اهـ
__________
(1) بطن من خزاعة يقال لها: غزوة المريسيع، وهو ماء لبني خزاعة بينه وبين الفرع مسيرة يوم، والفرع من نواحي المدينة النبوية انظر "الفتح" (7/430).(1/22)
وجزم به ابن سعد في كتابه "سنن النبي ^ وأيامه" (1/338)، وابن عبد البر في "الاستذكار" (3/141)، وابن حبان في "الثقات" (1/264)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (4/160)، والذهبي في "تاريخ الإسلام" حوادث سنة خمس من جزء المغازي (ص258 و269)، وابن رجب في "فتح الباري" (2/10)، وابن القيم في "زاد المعاد" (3/258) وغيرهم، واستدلوا بما أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (3/241)، فقال: حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن معمر قالا: حدثنا عمر بن خليفة البكراوي قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: »كان رسول الله ^ إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق« وذكر حديث الإفك وسنده ظاهره الحسن، رجاله ثقات إلا محمد بن عمرو فحسن الحديث، وعمر بن خليفة قد روى ابن المثنى عن عمر بن خليفة العبدي أبي حفص البصري، وعمر هذا أيضًا قد روى عن محمد بن عمرو بن علقمة، فإن كان هو ـ وهو الظاهرـ فقد وثقه عمرو بن علي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. فيكون الحديث حسنًا، وإن كان غيره فلم أجده.
وذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بالرقم السابق حديث الإفك بسند صحيح، وذكر فيه أن عائشة رضي الله عنها قالت: »فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع رسول الله ^ بين نسائه« والحديث في الصحيحين بدون زيادة (فلما كانت غزوة بني المصطلق) وذكر الحافظ في "الفتح" (8/458) ما يدل على أنها مدرجة في حديث عائشة، فقال: وفي رواية بكر بن وائل عند أبي عوانة ما يشعر بأن تسمية الغزوة في حديث عائشة مدرجة في الخبر.اهـ(1/23)
وأيضًا قالوا: لم يثبت أن عائشة رضي الله عنها خرجت مع رسول الله ^ في غزوة غيرها، أما ما ذكر الطبراني في معجمه من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ولما كان من أمر عقدي ما كان قال أهل الإفك ما قالوا، فخرجت مع رسول الله ^ في غزوة أخرى فسقط عقدي، فحبس الناس على التماسه، فأنزل الله الرخصة في التيمم).
فضعيف ذكره الحافظ في "الفتح" (1/435)، وقال: في سنده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال. اهـ
قلت: بل هو كذاب كما في ترجمته من "الميزان"، كذبه جماعة ومنهم أبو زرعة.
وذكره ابن القيم في "زاد المعاد" (3/258) من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وفيه عنعنة ابن إسحاق، بالإضافة إلى محمد بن حميد الرازي، لأن الحديث واحد، فمثل هذا الحديث لا يعارض ما تقدم، فعلم من حديث أبي هريرة مع اللفظه المدرجة في حديث عائشة مع شهرة القصة، وكثرة من قال بها من العلماء أن عقد عائشة فُقِدَ في غزوة بني المصطلق التي يقال لها: غزوة المريسيع، وفي هذه الغزوة نفسها حصلت حادثة الإفك لأنه لم يثبت دليل على تكرر سفر عائشة مع رسول الله ^ في غزوتين.(1/24)
وأيضًا ففي "البخاري" رقم (4750)( 8/452): أن عائشة قالت: (فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله ^ بعدما نزل الحجاب) وقد أخرج الجورقي والبيهقي في الدلائل من طريق حماد بن زيد عن النعمان بن راشد، ومعمر عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها، فذكر قصة الإفك في غزوة المريسيع، والزهري وإن كان روى القصة عن عائشة بواسطة جماعة، لكن بما أنه راوي القصة عن عائشة، فيكون عنده علم بذلك، وجاء في رقم (334) من "صحيح البخاري" أنها قالت: (حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي) وأخرجه برقم (4583) في كتاب التفسير، فيه قالت عائشة: (هلكت قلادة لأسماء) ويجمع بينها لفظ حديثها برقم (336) من كتاب التيمم أنها استعارت قلادة لأسماء من أسماء فهلكت، فأصل القلادة لأسماء، ولما استعارتها منها قالت: (هلكت قلادة لي) أي أنها تحملها هي في ذلك الوقت، وذكر هذا شيخنا رحمه الله في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص96).
وجزم بأن حادثة الإفك كانت في غزوة بني المصطلق ابن إسحاق، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والذهبي، وابن حجر في "فتح الباري" (1/432) و(7/429 و430)، ونقله عن غير واحد من أهل المغازي.
فإذا تقرر أن التيمم شرع في غزوة بني المصطلق، يبقى تحرير الخلاف.
متى كانت هذه الغزوة؟ فنقل عن ابن إسحاق أنه قال: كانت في سنة ست من الهجرة في شعبان، وبه جزم خليفة والطبري، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. نقله البخاري في صحيحه، وتعقبه الحافظ في "الفتح" (7/430)، فقال: كذا ذكره البخاري وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع، والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري، والبيهقي في "الدلائل" وغيرهم سنة خمس، ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب:
ثم قاتل رسول الله ^ بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس وقال الحاكم في "الإكليل": قول عروة وغيره أنها كانت سنة خمس اهـ.(1/25)
وجزم بذلك الحافظ في "الفتح" (7/430)، وابن القيم في "الزاد" (3/256)، والذهبي في "تاريخ الإسلام" حوادث سنة خمس، وابن حبان في "الثقات" (1/264) وغيرهم، فالظاهر أن غزوة المريسيع كانت في سنة خمس كما هو قول جمهور العلماء، فيكون التيمم شرع في غزوة المريسيع التي هي لبني المصطلق، وكانت هذه الغزوة في السنة الخامسة والله أعلم.
* * *
فصل
ما هو الصعيد الذي أمر الله بالتيمم منه
اختلف العلماء في ذلك، فقال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن:
الصعيد يقال لوجه الأرض، وقال بعضهم: الصعيد يقال للغبار الذي يصعد من الصعيد، ولهذا لا بد للمتيمم أن يصعد بيده غبار. اهـ
وقال الفيروز آبادي في "القاموس": الصعيد التراب أو وجه الأرض اهـ.
وقال آبادي كما في "مختار الصحاح": هو التراب، وقال ثعلب: هو وجه الأرض.اهـ
وقال ابن كثير في تفسير آية (43) من النساء: هو كل ما صعد على وجه الأرض، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والنبات وهو قول مالك، وقيل: ما كان من جنس التراب كالرمل والرنج والنورة، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقيل: هو التراب فقط، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، واستدلوا بقوله تعالى: { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}[الكهف:40]، أي ترابًا أملس.(1/26)
واستدلوا بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما في مسلم رقم (522): أن رسول الله ^ قال: »فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها(1) لنا طهورًا إذا لم نجد الماء«، وفي رواية: »وجعل ترابها لنا طهورًا«، قالوا: فخص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه. اهـ المراد من "تفسير ابن كثير".
وقال ابن رشد في "بداية المجتهد": اتفقوا على الطهارة بتراب الحرث الطيب، واختلفوا في جواز فعلها فيما عدا التراب، ومنهم من شرط التراب على وجه الأرض وهم الجمهور. اهـ
وقال البيهقي في "الخلافيات" (2/467) تحقيق الأخ مشهور بن حسن: والتيمم عندنا لا يجوز بما لا يعلق باليد منه غبار، واستدل بحديث حذيفة المتقدم، وبحديث عمران المتقدم أن النبي ^ قال للرجل الجنب الذي لم يجد الماء: »عليك بالصعيد فإنه يكفيك«. اهـ
قلت: لم يحرر مواطن النزاع فهم مختلفون في الصعيد، هل هو التراب؟ أم التراب وغيره مما على وجه الأرض؟
وأقول: الراجح في المسألة أنه لا يجوز التيمم إلا بتراب سواء كان التراب من تراب الحرث، أو مما ذرته الرياح على الحجارة، أو على الرمال، أو على الأشجار أو غيرها من الأشياء الطاهرة، أما أن يتيمم على حجر مغسول أو شجر أو رمل أو بلاط أو زجاج، أو نحو ذلك، وليس عليها تراب فلا يصح تيممه، والدليل على ذلك حديث حذيفة المتقدم: »وجعلت تربتها لنا طهوراً«.
__________
(1) تنبيه: لفظة (وتربتها) في "صحيح مسلم" كما رأيت، وهي أيضًا في "صحيح أبي عوانة" (1/303)، و"صحيح ابن خزيمة" (1/123)، ولم ينقدها الحافظ فيما أعلم، ولها شواهد انظرها في "التلخيص الحبير" (1/263)، وانظر كلام ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (2/640).(1/27)
وحديث علي رضي الله عنه عند أحمد في "المسند" (1/98 و158) من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل وفيه: »وجعل التراب لي طهورًا«، فهذه الأحاديث تخصص عموم لفظ حديث جابر وغيره: »وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا«، وأن المراد بالأرض في الحديث، وبالصعيد الطيب في الآية هو التراب، وليس كل ما على وجه الأرض يسمى صعيدًا على الإطلاق، وإلا لزم أن الإنسان والحيوان يطلق عليهما صعيدًا، وأن الإنسان يكفيه عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله أن يضرب على فخذه، أو على شيء من جسده ويصلي لأنه صعيد، ولأنه طيب ولا نعلم أحدًا قال بهذا، ومما يرجح قول الجمهور أن لفظة منه في الآية: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ }[المائدة:6]، تدل على أن المراد بالصعيد التراب، ولو أن أحدًا ضرب بيده على حجر أملس أو خشبة أو جدار أو زجاج أو رمل لا غبار عليها، فهل سيبقى على كفيه شيء منه؟ لا شك أن الجواب لا، لأن (مِنْ) في الآية للتبعيض، أي امسحوا بوجوهكم وأيديكم من بعض التراب الذي يعلق بالكفين، والنبي ^ أمر عمارًا رضي الله عنه حين علمه التيمم أن يضرب بيديه الأرض، ولم يأمره أن يضرب الحجر ولا الشجر ونحوهما.
ومن الأدلة على قول الجمهور أن النبي ^ حين علم عمارًا التيمم، (ضرب بيديه الأرض ونفخهما). وفي رواية: (ونفضهما)، فإذا لم يعلق بيديه تراب، فهل سيحتاج إلى نفخهما أو نفضهما؟ ثم إن إطلاق لفظة الأرض لا تنصب أولاً إلا على التراب، هذا هو الأصل، وإن كانت قد تطلق على الأرض وكل من عليها بقرينة.(1/28)
والدليل على ذلك حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي ^ قال: »إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب«، أخرجه أبو داود في كتاب "السنة من سننه" رقم (4693)، والترمذي (6/621) مع التحفة، وسنده صحيح وهو في أول مسند أبي موسى من "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" لشيخنا مقبل حفظه الله.
ولو قال أحد إن الله خلق آدم من الأحجار والرمل والأشجار لسخر منه عوام الناس فضلًا عن علمائهم، لأن الله عزوجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}[الحج:5]، فعلم بهذا الحديث الصحيح وما ذكرناه نحوه أن الأصل في لفظة الأرض هي التراب، وأن حديث جابر وغيره: »وجعلت لي الأرض مسجدًا« عام مخصوص بحديث حذيفة وعلي المتقدمين في هذا الباب، وأن قول الجمهور أن التيمم لا يكون إلا بتراب هو الراجح.
وقد رجحه الإمام النووي في "شرح مسلم" (4/57)، والشيرازي في "المهذب" (1/32-33)، وابن رجب في "فتح الباري" (2/335)، والخرقي وابن قدامة.
انظر "المغني" (1/248)، وابن عبد البر في "الاستذكار" (3/159-160)، وشمس الحق العظيم آبادي في "غاية المقصود" (3/307)، والشوكاني في "نيل الأوطار" (1/305-306)، وهو فهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
انظر "مصنف ابن أبي شيبة" (1/184)، و"مصنف عبد الرزاق" (1/211-212)، وانظر إن شئت "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" رحمه الله (21/364/366).
* * *
فصل
صفة التيمم وأعضاء التيمم
اختلف العلماء: هل يجزي في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين؟ أم لا بد من ضربة للوجه وضربة للكفين؟(1/29)
فذهب جمهور العلماء ومنهم أهل الحديث أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين(1) فقط، لا يتجاوز الكفين، وذهب مالك وأبو حنيفة وهو قول الشافعي والشعبي والثوري وأصحاب الرأي، وقبلهم علي بن أبي طالب وابن عمر وسالم بن عبدالله والحسن البصري أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين كما في "شرح صحيح مسلم" للنووي(4/56)، و"فتح الباري لابن رجب"(2/58)، وإليك أدلة الفريقين:
استدل الجمهور ومنهم أهل الحديث بحديث عمار في الصحيحين، وقد تقدم أن النبي ^ لما علم عمارًا صفة التيمم قال له: »إنما كان يكفيك هكذا«، وضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة، ومسح بهما وجهه وكفيه، وفي بعض الروايات في الصحيحين: (ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه)، وفي بعض الروايات فيهما أيضًا تقدم تخريجها: (ونفضهما ومسح بهما وجهه وكفيه)، وبوب البخاري رحمه الله في صحيحه: باب التيمم للوجه والكفين، قال الحافظ في الفتح: ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين: كون عمار كان يفتي بعد النبي ^ بذلك، وراوي الحديث أعرف به من غيره. اهـ
واستدل الآخرون بما أخرجه أبو داود رقم (328)، والدارقطني في "السنن" رقم (24)، والبيهقي في "الكبرى" (1/210)، من حديث عمار بن ياسر أن النبي ^ حين علمه التيمم علمه أن يمسح إلى المرفقين، وسنده ضعيف فيه رجل مبهم، قال قتادة: حدثني محدث عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار.
وجاء من حديث ابن عمر أن النبي ^ قال: »التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين«، أخرجه الدارقطني في "السنن" (1/180)، والحاكم في "المستدرك" (1/179).
وقال: لا أعلم أحدًا أسنده غير علي بن ظبيان وهو صدوق، وقد أوقفه يحيى بن سعيد وهشيم وغيرهما.اهـ
__________
(1) قال النووي رحمه الله في كتاب التيمم من شرح مسلم : وأجمعت الأمة على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها.(1/30)
قال الدارقطني: وهو الصواب اهـ.
وعلي بن ظبيان مترجم في "الميزان"، قال أبو حاتم: متروك. وقال ابن معين: كذاب خبيث. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال ابن حبان: يسقط الاحتجاج بأخباره.اهـ
فكيف يقول الحاكم رحمه الله إنه صدوق، وقال ابن عدي: رفعه علي بن ظبيان، والثقات كالثوري ويحيى بن سعيد وقفوه اهـ. وضعف علي بن ظبيان ونقل تضعيفه عن ابن معين وتركه النسائي، وله طرق أخرى عند الدارقطني (1/181)، والحاكم فيها سليمان بن داود الحراني، وأخرى فيها سليمان بن أرقم والحراني، قال الذهبي في "الميزان": ضعفه أبو حاتم.
وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحتج به، وسليمان بن أرقم قال البخاري والدارقطني: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث. ومن أحاديثه: »من سره أن يجد حلاوة الإيمان فليلبس الصوف«.
وجاء عن جابر بن عبدالله عند الدارقطني (1/182)، والحاكم (1/180)، وفيه عثمان بن محمد الأنماطي، قال عنه إبراهيم الحربي وابن الجوزي في التحقيق: متكلم فيه. وأيضًا رواه عن جابرٍ أبو الزبير بالعنعنة، وهو مدلس لا يقبل ما عنعن فيه، إلا إذا روى عنه الليث أو كان الحديث في مسلم.
وجاء عن عائشة، وفيه حريش بن الخريت البصري قال البخاري: فيه نظر. وقال أبو زرعة: واهٍ. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. اهـ من "الميزان".
وهذا الذي ذكرته لك من بعضها مثال على ما بقي من تلك الأحاديث الساقطة التي استدلوا بها على الضربتين إلى المرفقين، التي جزم الحفاظ أنها لم يثبت منها شيء، قال ابن حزم في "المحلى" (1/148): كلها ساقطة لا يجوز الاحتجاج بشيء منها اهـ.
وقال ابن حجر في "الفتح"(1/444) عند تبويب البخاري: التيمم للوجه والكفين قال: أتى بذلك بصيغة الجزم مع شهرة الخلاف فيه لقوة دليله، فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار اهـ.(1/31)
وذكرهما وهما في الصحيحين، وتقدم تخريجهما وليس فيهما أكثر من التيمم للوجه والكفين بضربة واحدة، وقال ابن عبد البر في "الاستذكار"(3/165): أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة للوجه والكفين، وما روي من ضربتين فكلها مضطربة اهـ. وقال الخطابي في "معالم السنن"(1/202): ذهب جماعة من أهل العلم أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهذا المذهب أصح في الرواية اهـ.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد"(1/199): كان ^ يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين، ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ولا إلى المرفقين، وقال الإمام أحمد رحمه الله: من قال أن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده. اهـ من "الزاد".
وقال ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام"(1/112): ورد في حديث التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة، ولا يعارض مثله بمثله اهـ. يعني الحديث المتفق عليه عن عمار في صفة التيمم.
وبعد حكم هؤلاء الأئمة الحفاظ على أحاديث الضربتين إلى المرفقين أنها كلها لا يصح منها شيء كما رأيت، فلا حاجة لنا بتسطير تلك الطرق الواهية التي تقدم ذكر بعضها، فقد كفونا المؤنة رحمهم الله تعالى.
وأما من قال بقياس التيمم على الوضوء إلى المرفقين، فهذا قياس على القول بالاحتجاج به من أصله، إلا أنه هنا قياس فاسد لمصادمة النص، فإذا صادم نصًا فهو غير معتبر عند جمهور العلماء القائلين بالقياس كما هو مقرر في كتب الأصول.
انظر من ذلك "مذكرة الشنقيطي رحمه الله على الروضة" لابن قدامة (ص285-286)، قال صاحب مراقي السعود:
والخلف للنص أو إجماع دعا ... فساد الاعتبار كل من وعا
والقياس هنا قد تعارض مع حديث عمار في صفة تعليم النبي ^ له ولا قياس بين الوضوء والتيمم أصلًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد ذكر أقوال من قاس التيمم على الوضوء، قال: وقد بين النبي ^ فساد هذا القياس. اهـ(1/32)
ثم ذكر وجه الخلاف بين الوضوء والتيمم، فقال: إن التيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق بخلاف الوضوء، والتيمم لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث بخلاف الوضوء، والتيمم يفارق صفة الوضوء من وجوه. اهـ من "مجموع الفتاوى" (21/354-355) جمع ابن قاسم النجدي.
قلت أيضًا: وليس في التيمم مسح الرأس ولا الأذنين ولا القدمين، ولا تخليل اللحية ولا إدخال التراب بين الأصابع، كل ذلك لا يصح عليه دليل في التيمم، فهذه من الفوارق بين الوضوء والتيمم فلا يصح القياس بينهما من أصله كما تقدم، وبعد هذا فالراجح الذي لا شك فيه عندي هو قول جمهور أهل الحديث أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.
وهناك قول ثالث: أن التيمم ضربتان للوجه واليدين إلى المنكبين من أعلى اليد، وإلى الآباط من أسفلها، وهذا مروي عن الزهري ومحمد بن سلمة من المالكية، ولهم دليل ضعيف من حديث عمار (أن عائشة لما انقطع عقدها، ونزلت آية التيمم قام المسلمون مع رسول الله ^ فضربوا بأيديهم الأرض ثم رفعوها ولم يقبضوا من التراب شيئًا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط) وهو حديث مضطرب جدًا قد بين اضطرابه أبو داود برقم (320)، وأخرجه أيضًا ابن الجارود رقم (121)، والنسائي (1/167)، وأحمد (4/264 و320)، وضعفه ابن حزم في "المحلى" مسألة (250)، وأعله أبو حاتم وأبو زرعة.
انظر "العلل لابن أبي حاتم" (1/61)، وقال ابن رجب في "فتح الباري" (2/56): وهذا الحديث منكر جدًا لا يزال العلماء ينكرونه.
وقد أنكره الزهري راويه وقال: هو لا يعتد به الناس، وامتنع بعد ذلك أن يحدث به، وقال: ليس العمل عليه، وسئل عنه الإمام أحمد فقال: ليس بشيء، وقد اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه، وقال: ما أرى العمل به. اهـ
ولهذا قال ابن رشد عن هذا المذهب: هو مذهب شاذ.(1/33)
قلت: لا ينبغي أن يعزى هذا المذهب للزهري، مع ما علمت من ثبوت تراجعه فيما نقله أبو داود في سننه بالرقم السابق، ونقله ابن رجب فليس هذا بمذهب ولا دليل يصح عليه.
وهناك قول رابع ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/310): عن سعيد بن المسيب وابن سيرين أن صفة التيمم ثلاث ضربات: ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين، قال الشوكاني: لم أقف لهذا القول على دليل، ونقل عن الإمام يحيى أنه لا دليل على التثليث في التيمم. اهـ
قلت: والأمر كما قال أنه لا دليل على هذا القول، وينبغي أن ينظر في ثبوته إلى هذين الإمامين، فإنه قول بعيد لا يليق بمثلهما.
* * *
فصل
النية في التيمم
وهي شرط من شروط صحته، قال ابن قدامة في "المغني" (1/251): لا نعلم خلافًا في أن التيمم لا يصح إلا بنية، غير ما حكي عن الأوزاعي والحسن بن صالح أنه يصح بغير نية، وسائر أهل العلم على إيجاب النية فيه. اهـ المراد من المغني.
وقال النووي في "المجموع شرح المهذب": النية في التيمم واجبة عندنا بلا خلاف.اهـ
والظاهر أنهم يعنون به هنا واجب ركني لا يصح العمل بدونه، والدليل على ذلك حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين البخاري رقم (1)، ومسلم رقم (1907) كتاب الإمارة أن النبي ^ قال: »إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى«. اهـ
ولا يلزم في نية التيمم أن ينوي فرضًا أو نفلًا أو صلاة جنازة أو غيرها، فإذا تيمم الجنب المعذور ناويًا به الصلاة صلى به ما شاء من فرض أو نفل، فرضًا واحدًا أو أكثر حتى تنتقض طهارته، وكل هذه المسائل فيها خلاف، والراجح فيها ما قررناه للأدلة الآتية:
1- منها قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}[المائدة:6]، بعد ذكر التيمم فسماه الله تعالى طهارة.
2- وحديث [الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين]، صحيح من حديث أبي هريرة، وتقدم تخريجه برقم (10).(1/34)
3- ومنها حديث عبدالله بن عمر في "صحيح مسلم" مرفوعًا: »لا تقبل صلاة بغير طهور« برقم (224)، والتيمم عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله طهور تصح به الصلاة بغير تحديد فرضًا أو نفلًا صلاة أو أكثر.
4- ومنها حديث عمار المتقدم تخريجه برقم (2) وحديث عمران المتقدم برقم (1) أن النبي ^ قال لعمار وللرجل الجنب، ولم يجد الماء قال لكل واحد منهما: »عليك بالصعيد فإنه يكفيك«، ولم يقل يكفيك لصلاة أو صلاتين أو لفرض أو نفل، فلا تُعارَض هذه الثوابت بمثل حديث ابن عباس عند الدارقطني (1/185)، والبيهقي (1/221 و222) من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه أنه قال: من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة. فالحسن بن عمارة متروك لأنه كذاب، وتركه جماعة وكذبه شعبة وعلي بن المديني كما في الميزان، وجاء عن علي مرفوعًا وفيه الحارث الأعور كذاب أيضًا، وحجاج بن أرطأة ضعيف، وجاء عن عمرو بن العاص وهو مرسل كما في "التلخيص الحبير" (1/155)، قال الحافظ: فيه إرسال شديد بين قتادة وعمرو. اهـ
قلت: نعم فقتادة لم يسمع من الصحابة غير أنس بن مالك وعبدالله بن سرجس، وأبي الطفيل حسب ما ذكر في "تحفة التحصيل" لأبي زرعة العراقي.
أما سماعه من عبدالله بن سرجس، فأثبته أبو زرعة ونفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي، وانطر "التلخيص" (1/155)، و"نصب الراية" للزيلعي (1/159)، و"سبل السلام" (1/163).
وقد رجح ما قلناه الإمام أبو محمد بن حزم في المحلى عند مسألة (236 جـ2).
وشيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/353) و(427) جمع ابن القاسم بعد أن ذكر أن المشهور في مذهب مالك والشافعي وأحمد، التيمم لكل صلاة، وما رجحناه ورجحه ابن حزم وشيخ الإسلام والصنعاني هو مذهب أبي حنيفة والثوري والليث بن سعد وداود الظاهري، وهو الذي تدعمه الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة(1).
__________
(1) فعلم أنه لم يصح في وجوب التيمم لكل صلاة حديث عن النبي ^ فاعلم هذا.(1/35)
* * *
فصل
في التسمية قبل التيمم
التسمية قبل التيمم مستحبة، لأن التيمم لفاقد الماء وضوء كما تقدم في حديث أبي هريرة: »الصعيد الطيب وضوء المسلم إن لم يجد الماء عشر سنين«، ويستدل بهذا الحديث أيضًا على شرعية الذكر بعد التيمم بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وقد قال النبي ^: »ما منكم من أحد يتوضأ ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء« أخرجه مسلم (1/210) برقم (234)، والترمذي رقم (55)، والله أعلم.
* * *
فصل
التيمم مبيح وليس رافعًا للحدث
ثبت من حديث أبي هريرة وتقدم تخريجه برقم (10) أن النبي ^ قال: »الصعيد الطيب وضوء المسلم إن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته«.
أما تلك الزيادة في حديث عمران بن حصين عند البغوي في "شرح السنة" (2/111)، والدارقطني (1/201)، والبيهقي في "الكبرى" (1/220) أن النبي ^ أمر رجلًا كان جنبًا أن يتيمم ويصلي (فإذا وجد الماء فليغتسل) فهذه الزيادة لو صحت لكان فيها شاهد ودليل لما نحن بصدده، ولكنها زيادة منكرة تفرد بها عباد بن منصور وهو ضعيف، وخالف الثقات.
وروى الحديث عن أبي رجاء العطاردي عمرانَ بنِ ملحان: مسلمُ بن زرير وعوفُ الأعرابي، ولم يزيداها كما تقدم بيان ذلك في حديث رقم (1)، لكن الدليل على المسألة حديث أبي هريرة المذكور آنفًا(1)
__________
(1) ومن الأدلة على أن التيمم مبيح وليس رافعًا للحدث حديث عمرو بن العاص لما أجنب في غزوة ذات السلاسل وتيمم وصلى بأصحابه وهو جنب لأن البرد كان شديدًا وخاف على نفسه من الضرر، والشاهد منه قول النبي ^ لما أخبره بذلك: »يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب«، فسماه النبي ^ جنبًا، وضحك من فعل عمرو مقرًا له على ذلك.
انظر تمام الحديث برقم (9) مع ما مر من تخريجه وبيان حاله، وهذا الاستنباط لبعض أهل العلم ذكره ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"(3/342)، فيما حصل في غزوة ذات السلاسل.(1/36)
وبه أخذ العلماء، قال ابن عبد البر النمري في "الاستذكار": أجمع العلماء على أن طهارة التيمم لا ترفع الحدث إذا وجد الماء، بل متى وجد أعاد الطهارة جنبًا كان أو محدثًا اهـ.
قلت: أما الإجماع فلا إجماع في المسألة، لكن هذا قول الجمهور وهو الراجح، ورجحه ابن قدامة في "المغني" (1/252)، والصنعاني في سبل السلام (1/157)، وقال النووي في "شرح مسلم" (4/57): وأما حكم التيمم فمذهبنا ومذهب الأكثرين أنه لا يرفع الحدث، بل يبيح الصلاة، فيستبيح به الفريضة وما شاء من النوافل. اهـ المراد.
* * *
فصل
من لم يجد الماء ولا التراب وجب عليه أن يصلي إذا حضر الوقت
ولا إعادة عليه
والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (336)، ومسلم برقم (367)، وقد خرجناه فيما مضى من حديث عائشة رضي الله عنها، وبوب البخاري باب إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا. وذكر أن أصحاب رسول الله ^ حين أدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إلى رسول الله ^، فأنزل الله عزوجل آية التيمم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فيه دليل على وجوب الصلاة على فاقد الطهورين ولو كانت الصلاة ممنوعة لأنكر عليهم النبي ^، وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور المحدثين وأكثر أصحاب مالك. اهـ المراد من "الفتح" (1/440).(1/37)
قلت: وليس في الحديث أنهم لم يكن عندهم تراب، لكن قال الحافظ ابن حجر وابن رشد في "بداية المجتهد"، والشيرازي في "المهذب"، والنووي في "المجموع" (2/278-279)، والشوكاني في "النيل" (1/313)، وابن رجب في "فتح الباري" (2/29) فما بعدها، وغير هؤلاء ممن يرى رأي أهل الحديث في هذه المسألة قالوا: إن عدم الماء عند أصحاب رسول الله ^ قبل نزول آية التيمم ولم يكن رخص لهم بعد في التيمم بالتراب، وصلوا على غير طهارة فكانوا في معنى من لم يجد ماءً ولا ترابًا يجوز له أن يصلي على غير طهارة لعدم إنكار النبي ^ عليهم، إذا علمت أن هذا القول هو الصحيح، وأن دليله قريب من الصريح، فاعلم أن هناك أقوالًا مرجوحة وبعضها أبعد من بعض، وهي غير ما تقدم ثلاثة أقوال ذكرها ابن رجب في "فتح الباري" (2/29)، وغيره أو مع ما تقدم تكون أربعة نذكرها لبيان ضعفها:
القول الأول: أنه يصلي بحسب حاله ولا قضاء عليه، وهذا الذي رجحناه بدليله السابق.
القول الثاني: أنه يصلي وإذا وجد الماء يعيد، وهذه رواية عن أحمد والشافعي ومالك، ولا دليل على الإعادة، ولم يأمر النبي ^ أصحابه بعد نزول آية التيمم أن يتيمموا ويعيدوا، والآية نزلت عليهم في وقتهم ذلك بدليل قوله في الحديث (فنزلت) بالفاء التي تقتضي الترتيب بغير تراخي.
القول الثالث: أنه لا يصلي فإذا وجد الماء أو التراب يصلي، هذا قول الثوري والأوزاعي والشافعي في القديم، واستدلوا بحديث عبدالله بن عمر: »لا تقبل صلاة بغير طهور«، أخرجه مسلم برقم (224)، وحديث أبي هريرة في الصحيحين: »لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ«، والتيمم يسمى عند عدم الماء وضوء لحديث أبي هريرة: »الصعيد الطيب وضوء المسلم«، قالوا: فعادم الماء والتراب لا يصلي استدلالًا بهذه الأدلة أنها لا تقبل صلاته إلا بأحد الطهورين ففاقدهما لا يصلي.(1/38)
ورد عليهم أهل العلم ومنهم ابن رجب في فتح الباري (2/30) أن ذلك في حق من وجد الطهورين أو أحدهما وصلى مع القدرة بغير طهور فصلاته باطلة، أما من لم يجد ذلك فحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها دليل ثابت في وجوب الصلاة على فاقد الطهورين ودليل على صحة صلاته ودليل على عدم الإعادة عليه.
القول الرابع: أنه لا صلاة عليه ولا إعادة، وهذا قول بعض الظاهرية، ورواية عن مالك وأبي ثور، قال ابن رجب: وهو أردأ الأقوال وأضعفها اهـ، ويرده قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن:16]، وقول النبي ^: »ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم«، أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (2/1337) باب فرض الحج مرة في العمر.
* * *
فصل
يجوز التيمم بعد دخول وقت الصلاة أو قبل دخول وقتها
الدليل على ذلك حديث جابر في الصحيحين أن النبي ^ قال: »أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي.... « ومنها: »فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده طهوره ومسجده«، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده »فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت«، وهذه الأدلة وإن استدل بها من قال باشتراط دخول الوقت وهم الشافعية ومالك وأحمد وداود الظاهري لكنها أيضًا تصلح دليلًا على عدم شرطية دخوله، قال ابن حزم في "المحلى" (ج2/ مسألة237): والتيمم جائز قبل الوقت، وفي الوقت إذا أراد أن يصلي به، فكل مريد صلاة عليه أن يتطهر لها بالغسل إن كان جنبًا، وبالوضوء أو التيمم إن كان محدثًا، فإذا كان كذلك فلا بد لمريد الصلاة أن يكون بين تطهره وصلاته مهلة من الزمان ومن حد في تلك المهلة حدًا فهو مبطل لأنه يقول من ذلك: ما لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب فلا ينقض الطهارة بالوضوء ولا بالتيمم طول تلك المهلة ولا قصرها، وهذا في غاية البيان. اهـ(1/39)
فعلم أن هذه الأحاديث إذا لم يكن فيها تحديد زمن التيمم في وقت الصلاة فيكون مفهومها أن التيمم جائز قبل وقتها، ثم أيضاً التيمم لعادم الماء أو لمن لا يقدر على استعماله يعتبر بدلًا عن الوضوء، والوضوء يصح في الوقت وقبله، ورجح هذا القول ابن حزم في "المحلى" كما تقدم، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (21/436 و377) جمع ابن قاسم فقال: بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقًا يستبيح به كما يستباح بالماء ويتيمم قبل الوقت، كما يتوضأ قبل الوقت، ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده، وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة، كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة، وهذا قول كثير من أهل العلم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية، قال: وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة اهـ ثم ساق الأدلة من القرآن والسنة أن التيمم مطهر كما أن الوضوء مطهر، واستدل بأدلة منها حديث جابر الذي استدل به من قال بأنه لا يصح التيمم إلا بعد دخول الوقت، فراجع البحث إن شئت.
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/306): وقد استدلوا بقوله: »فتيمموا« فالتيمم إنما يكون للقيام للصلاة (إلى أن قال): وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجزىء قبل الوقت كالوضوء وهذا هو الظاهر، ولم يرد ما يدل على عدم الإجزاء، والمراد بقوله تعالى: {ا إِذَا قُمْتُمْ }[المائدة:6]، أي إذا أردتم القيام، وإرادة القيام للصلاة تكون في الوقت وتكون قبله، فلم يرد دليل على اشتراط الوقت. اهـ
قلت: فعلم بحمد الله أن الراجح صحة التيمم قبل دخول وقت الصلاة.
* * *
فصل
المتيمم ينفخ في كفيه أو ينفضهما إن احتاج لذلك
روى البخاري في تسعة مواضع من صحيحه منها رقم (338) ومسلم رقم (368) من حديث عمار أن النبي ^ حين علمه التيمم قال له: »إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض هكذا ثم تنفخ فيهما« ومسح بهما وجهه وكفيه.(1/40)
وفي "صحيح البخاري" باب التيمم ضربة رقم (347) ومسلم (4/61 النووي)، أن النبي ^ حين علم عمارًا صفة التيمم ضرب بكفيه الأرض، ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
قال ابن قدامة في "المغني" (1/324): فإذا علا على يديه تراب كثير لم يكره نفخه، وقال الإمام أحمد: لا يضره فعل أو لم يفعل اهـ، وبنحوه قال الشافعي في الأم (1/50): وقال القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (2/227): ونفخ فيهما ليقل التراب الذي حصل في كفيه لأن المقصود إنما التطهير لا التغبير الموجب للتنفير. اهـ
وقد خفي حديث النفض على الإمام أبي بكر بن المنذر رحمه الله تعالى، فقال في "الأوسط" (2/55) بعد أن ذكر حديث النفخ، ولم يذكر حديث النفض: قال: كما قال أحمد: أقول غير أن النفخ أحب إلي، لأن النبي ^ نفخ فيهما. اهـ
قلت: وأيضًا النبي ^ قد نفضهما كما تقدم في الصحيحين، فيشرع الأمران النفخ فيهما ونفضهما لتقليل التراب الذي عليهما، هذا هو الصحيح ويدعمه النص الصريح والحمد لله.
فصل
يجوز التيمم في الحضر والسفر لمن لم يجد الماء
ثبت في البخاري ومسلم من حديث أبي الجهيم، وهو مذكور في فصل الأحاديث السابق ذكرها في التيمم، أن النبي ^ أقبل من بئر جمل، فلقيه رجل فسلم علىه فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام.
قال النووي في "شرح مسلم" (4/64): وهذا الحديث محمول على أنه ^ كان عادمًا للماء حال التيمم اهـ.
وقال الحافظ في "الفتح" (1/443): وهو مقتضى صنيع البخاري. اهـ(1/41)
قلت: نعم، لأن البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث فقال: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، وذكره فعلم أن هذا قوله في المسألة، ففقه البخاري رحمه الله في تبويباته، وقال ابن قدامة في "المغني" (1/234): فإن عدم الماء في الحضر بأن انقطع الماء عنهم، أو حبس في مصر فعليه التيمم والصلاة، وهذا قول مالك والثوري والأوزاعي والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يصلي لأن الله تعالى شرط السفر لجواز التيمم، فلا يجوز لغيره ولنا (أن الصعيد طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين) فيدخل تحت عموم محل النزاع.
والآية تحتمل أن ذكر السفر فيها خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الماء إنما يعدم في السفر، ودليل الآية مفهوم والحديث منطوق والمنطوق مقدم. اهـ بتصرف.
ورجحه ابن رجب في "فتح الباري" ببحث نفيس، ومما استدل به حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين صليا بتيمم ثم وجدا الماء ولم يعيدا، وابن عمر أقبل من أرضه بالجرف، فحضرت الصلاة بمربد النعم فتيمم وصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة ولم يعد، علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم مع أن إسناده ضعيف.(1/42)
ومن الأدلة على ذلك أن عمارًا لما قال: أجنبت ولا ماء، قال له النبي ^ : » إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا« وضرب بكفيه الأرض، وهكذا الرجل الذي أجنب ولم يجد الماء، ولم يصل مع القوم كما في حديث عمران المتفق عليه، قال النبي ^: »عليك بالصعيد إنه يكفيك«، وهكذا عمرو بن العاص لما صلى بأصحابه في غزوة ذات السلاسل وكان البرد شديدًا، فتيمم وصلى بأصحابه ولم ينكر عليه النبي ^، وقبل ذلك كله عموم الآية: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء:43]، فعلم بحمد الله من هذه الأدلة أن من عدم الماء أو لم تكن له قدرة على استعماله جاز له التيمم سواء في الحضر أو السفر، والآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[النساء:43]، خرجت مخرج الغالب كما قرره جمهور العلماء، انظر ذلك في "فتح الباري" لابن رجب (2/32)، وأنه لا يشترط لصحة التيمم السفر أو المرض.
* * *
فصل
ما هو المرض الذي يبيح التيمم
تقدم أن ذكرنا ما يتعلق بهذه المسألة، ونزيد هنا بيانًا مهمًا: وهو أنه لا دليل يصح على اعتبار وتقدير المرض الذي يبيح التيمم، فمن خاف على نفسه الضرر بالبرد، أو حدوث علة أو داومها، أو خاف على نفسه العطش إن استعمل الماء الذي عنده فإنه يتيمم ويصلي ولا يعيد.
قال سفيان الثوري رحمه الله: أجمعوا أن الرجل إذا كان في أرض باردة فأجنب فخشي على نفسه الموت تيمم. انظر "مصنف عبد الرزاق" (1/226).
قال ابن المنذر في "الأوسط"(2/26): وبقول مالك وسفيان والثوري أقول وذلك لثلاث حجج.
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النساء:29].
والثانية: خبر عمرو بن العاص حين خشي البرد فتيمم، وصلى بأصحابه وأخبر النبي ^ بذلك فضحك وأقره.(1/43)
والثالثة: أنهم أجمعوا أن من كان في سفر ومعه من الماء ما يغتسل به وخاف على نفسه إن اغتسل بالماء، أجمعوا أنه يتيمم ولا يعرض نفسه للتلف ولا فرق بين الخائف على نفسه من البرد أو من العطش، فإن كليهما خائف على نفسه أن يهلك. اهـ المراد من "الأوسط" (2/26).
وقال ابن رسلان: لا يتيمم لشدة البرد من أمكن أن يسخن الماء على وجه يأمن معه الضرر، وإن لم يقدر تيمم وصلى في قول أكثر العلماء، ونقل عن الحسن وعطاء أنهما قالا: يغتسل ولو مات، لأن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6].
وقال ابن مسعود كما في "صحيح البخاري" رقم (347): لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء تيمموا الصعيد.
قلت: ومذهب الثوري ومالك هو الراجح عند العلماء، رجحه ابن قدامة في "المغني" (1/430)، والحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/454)، وابن رجب في "فتح الباري" (2/80)، وابن حزم في "المحلى" مسألة رقم (224)، وابن عبد البر في "الاستذكار" والطبراني عند آية (43) من سورة النساء، والشوكاني في نيل الأوطار (1/257)، وابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (21/465-466) وزاد: وإذا خشي على نفسه أن يرمى بما هو منه بريء إذا اغتسل وكان معه رفقة يخشى أن يتهم فله أن يتيمم.اهـ
ومن أهل العلم من اشترط لجواز التيمم من البرد إذا خشي على نفسه الموت، والصحيح أنه إذا خشي على نفسه مجرد الضرر ولم يجد ما يسخن به جاز له التيمم، لقول الله عزوجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}[المائدة:6]، فشرع الله التيمم لرفع الحرج عن الأمة.(1/44)
وقال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة:185]، وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، وقد ثبت في البخاري رقم (6126)، ومسلم رقم (2327): عن عائشة رضي الله عنها قالت: »ما خير رسول الله ^ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه«، وثبت بمجموع طرقه وشواهده أن النبي ^ قال: »لا ضرر ولا ضرار«، فبهذا تعلم أن من خشي على نفسه الضرر جاز له التيمم.
* * *
فصل
حكم طلب الماء وما حد ذلك
قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/26): إن دل على ماء قريب من حيث تحضره الصلاة، فإن كان يخاف على رحله إذا طلب الماء أن تؤخذ، أو يخاف فوات رفقته، أو يخاف الطريق في طلب الماء، أو يخاف فوات الصلاة في أثناء مجيئه إلى الماء جاز له التيمم، فإن أمن كل ذلك وجب عليه البحث قبل التيمم. اهـ بتصرف.
ونقله الجزيري في المذاهب الأربعة (1/153)، وابن قدامة في "المغني" (1/236)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/35) وغيرهم.
وقال ابن جرير في تفسير الآية {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}[النساء:43]، قال: أي إذا طلبتم الماء فلم تجدوه بثمن(1) ولا غيره. اهـ
فعلم أنه لا بد من البحث عن الماء إذا انتفت الموانع السابقة، لأن الله يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء:43]، والحصول على الماء وإيجاده لا يكون إلا ببحث.
وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه رقم (169): باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة، وذكر حديث أنس قال: »رأيت رسول الله ^ وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوا، فأتي رسول الله ^ بوضوء، فوضع رسول الله ^ في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه« وأخرجه مسلم برقم (2279).
__________
(1) لا بد من قيد هو أن يكون الثمن مقدورًا عليه.(1/45)
أما حد طلب الماء فلا دليل عليه، وإليك بعض الأحاديث التي استدلوا بها على عدم طلب الماء:
منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: »خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، فقال النبي ^ للذي لم يعد: »أصبت السنة وأجزأتك صلاتك«، وقال للذي أعاد: »لك الأجر مرتين« الحديث سبق الكلام عليه برقم (11): أنه ثابت مرسلًا ومتصلًا وهذه علة غير قادحة وله شاهد من حديث ابن عباس أن النبي ^ بال ثم تيمم فقيل له: الماء منك قريب، فقال: »لعلي لا أبلغه«، رواه إسحاق بن راهويه في مسنده، ونقله الحافظ في "التلخيص" (1/156)، والزيلعي في "نصب الراية" (1/160) بسنده، وعلته ابن لهيعة فقط وبقية رجاله محتج بهم، وابن لهيعة يصلح في الشواهد.
قال الشوكاني رحمه الله: وأما إيجاب الطلب إلى آخر الوقت فلم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا إجماع صحيح اهـ. من السيل الجرار (1/128)، وقال نحوه صديق حسن خان في "الروضة" (1/183). وقال النبي ^ لعمار حين قال له: أجنبت ولا ماء، قال: »إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا«. فكل هذه الأدلة تبين عدم تحديد البحث، وإنما قلنا أنه يجب عليه البحث قبل التيمم ما لم يشق عليه، أخذاً بالآية المتقدمة وبحديث: »ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم« متفق عليه، فهو مأمور باستعمال الماء ولا يجنح إلى التيمم إلا عند عدمه، فيبذل ما استطاع في البحث عن الماء وجوبًا للحديث المتقدم.
فصل
حكم حمل التراب في السفر
حمل التراب في السفر للتيمم به عند عدم الماء غير مشروع.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في "فتح الباري" (2/31): وقد استحب الثوري وأحمد حمل التراب للمسافر كما يستحب له حمل الماء للطهارة، ومن المتأخرين من أنكره وقال: هو بدعة.اهـ(1/46)
وقال ابن القيم في "الزاد" (1/200): ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة، ولم يرووا عنه أنه حمل معه التراب، ولا أمر به ولا فعله أحد من أصحابه. اهـ المراد
فعلم أن الصواب خلاف ما قاله الثوري وأحمد رحمهما الله إن ثبت هذا عنهما لحديث: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.
* * *
فصل
حكم التيمم بالتراب إذا لم يكن طاهراً
لو كان التراب غير طاهر فلا يجوز التيمم به.
لأن الله عزوجل يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء:43]، والطيب هو الطاهر، ونقل الإجماع على ذلك النووي كما في "المجموع شرح المهذب" (2/216)، وبه قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/40).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (21/348) في بيان قول الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[المائدة:6]، قال: والطيب هو الطاهر والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع وفيما سواه نزاع اهـ.
* * *
فصل
عادم الماء له أن يأتي أهله
عادم الماء يجوز له أن يجامع زوجته لحديث أبي هريرة المخرج برقم (10) وهو صحيح، أن أبا هريرة أجنب لما كان بالربذة، فقال له رسول الله ^: »الصعيد الطيب وضوء المسلم إن لم يجد الماء عشر سنين«، وفي الحديث أن أبا ذر كان يعزب بماشيته وتصيبه الجنابة، فأخبر النبي ^ فقال له: »الصعيد الطيب وضوء المسلم«.
قال النووي في "شرح مسلم" (4/57)، و"المجموع" (1/241) (1/241): الشافعي في "الأم" والأصحاب يجوزون للمسافر المعزب أن يجامع زوجته، قال: واتفق أصحابنا على جواز ذلك من غير كراهة.اهـ
وقال شيخ الإسلام: دلت الآية على أن المسافر يجامع أهله وإن لم يجد الماء ولا يكره له ذلك كما قال الله في الآية، وكما دلت عليه الأحاديث منها حديث أبي ذر وغيره. اهـ من "مجموع الفتاوى" (21/402)، وانظر إن شئت "المغني" لابن قدامة (1/276).(1/47)
وبه قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/304) في باب الرخصة في الجماع لعادم الماء، وذكر حديث أبي ذر المتقدم ذكره في هذه المسألة.
قلت وأيضًا: إذا عدم الماء في الحضر فحكمه كما تقدم لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}[المائدة:6]، وقوله: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، وبقية الأدلة في الباب.
* * *
فصل
المتيمم يصلي بالمتوضئين
ثبت من حديث عمرو بن العاص أنه في غزوة ذات السلاسل خاف البرد، فتيمم وصلى بأصحابه وأنكروا عليه، فأخبروا النبي ^ بذلك، فقال: »يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟« قال: يا رسول الله ذكرت قول الله عزوجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النساء:29]، فضحك النبي ^ ولم ينكر عليه، وهو مخرج –فيما تقدم- برقم (9)، وأيضًا فإن النبي ^ قال: »يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة« رواه مسلم برقم (673) من حديث أبي مسعود البدري، فهذا عام في صلاة المتيمم بالمتوضئين، والعكس فهو يعتبر ميزانًا في بابه، ويستثنى من ذلك المرأة، فلا يجوز أن تؤم الرجل ولو كانت أقرأ للقرآن منه، لحديث أبي بكرة في البخاري، أن النبي ^ قال: »لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة« برقم (4420).
وقال عليه الصلاة والسلام: »خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها« أخرجه مسلم برقم (440) عن أبي هريرة مرفوعًا.
وحديث: »المرأة كلها عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان« عن ابن مسعود، وهو صحيح مخرج في "الصحيح المسند" لشيخنا (1/36).
وحديث أنس رضي الله عنه: (صليت أنا ورسول الله ^ والعجوز خلفنا) أخرجه البخاري رقم (380)، ومسلم رقم (658).(1/48)
قال الشوكاني رحمه الله في "السيل الجرار" (1/253): وأما ناقض الطهارة فلا دليل على المنع أصلًا فيصح أن يؤم المتيمم متوضئًا، ومن ترك غسل بعض أعضاء وضوئه لعذر يصلي بغيره، ولا يحتاج إلى الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب، فإن الدليل على المانع. اهـ
وهذا الصحيح، فإن المتيمم كامل الطهارة ولا دليل على تسميته بناقض الطهارة، لأن الله عزوجل يقول بعد ذكر التيمم: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}[المائدة:6]، فسمى التيمم طهارة، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم: »الصعيد الطيب وضوء المسلم«، وفي رواية: »طهور المسلم إن لم يجد الماء عشر سنين«.
* * *
فصل
حكم الترتيب في أعضاء التيمم
الأفضل أن يقدم مسح وجهه قبل كفيه والعكس جائز، وذهب جمهور العلماء إلى وجوب الترتيب في التيمم، قال النووي رحمه الله في "المجموع" (2/424): يجب الترتيب في التيمم للجنابة كما يجب للتيمم للحدث الأصغر مسح وجهه ثم يديه. اهـ
والراجح أن الترتيب ليس بواجب، ففي البخاري رقم (339): (أن النبي ^ لما علم عماراً التيمم ضرب بيديه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفيه)، وأخرجه مسلم برقم (368)، وفي رواية له وهي في البخاري برقم (347) (أن النبي ^ حين علم عماراً التيمم مسح كفيه ووجهه)، وفي رواية: (أنه مسح كفيه ثم مسح وجهه) بذكر (ثم) المقتضية للترتيب وتقديم مسح الكفين قبل الوجه، فإن ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (1/113) قال: قدم في اللفظ مسح اليدين على مسح الوجه، لكن الواو لا تقتضي الترتيب. اهـ
قلت: قد ذكرنا أن الرواية قد جاءت بلفظ: (مسح كفيه ثم مسح وجهه) كما تقدم، فأنت ترى أن الروايتين كلتيهما في الصحيحين عن عمار، رواية تقديم مسح الوجه قبل مسح الكفين، ورواية مسح الكفين قبل مسح الوجه مما يدل على جواز الأمرين.(1/49)
قال الصنعاني رحمه الله في "سبل السلام" (1/155): ومن ذلك اختلافهم في الترتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمار كما عرفت قاضي بأنه لا يجب، وإليه ذهب كل من قال: تكفي ضربة واحدة، قالوا: والواو في الآية لا تنافي ذلك، وذهب من قال بالضربتين إلى أنه لا بد من الترتيب بتقديم الوجه على الكفين وتقديم اليمنى على اليسرى. اهـ
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند حديث عمار رقم (347): وفيه أن الترتيب غير مشترط في التيمم. اهـ
وتقدم الراجح، وإنما قلنا أن تقديم الوجه على الكفين هو الأفضل لأمرين:
الأول: رواية تقديم مسح الوجه على الكفين أقوى من رواية تقديم مسح الكفين على الوجه، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله فيما نقل عنه ابن رجب في "فتح الباري" (2/90): رواية أبي معاوية عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط.اهـ
كذا قال! وهي في الصحيحين.
الثاني: لأنه ظاهر القرآن في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}[النساء:43]، فقدم الله تعالى مسح الوجه قبل الأيدي، وفي حديث جابر عند مسلم برقم (1218) »أبدأ بما بدأ الله به«، وعند النسائي (5/236) بلفظ: »ابدأوا بما بدأ الله به« بصيغة الأمر وهو وإن كان في السعي بين الصفا والمروة قال هذا الحديث، وتلا الآية: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}[البقرة:158]، يدل على البدء بما بدأ الله به في كتابه.
* * *
فصل
لا يلزم تعميم جميع بشرة الوجه بالتراب
لا يلزم تعميم جميع بشرة الوجه بالتراب، لأن الباء في الآية: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}[النساء:43] للتبعيض، وأيضًا الفم والأنف من الوجه، والنبي ^ لما علم عمارًا التيمم لم يجعل شيئًا من التراب في أنفه ولا في فمه، فالظاهر عدم وجوب استيعاب جميع بشرة الوجه.(1/50)
مثال ذلك قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة:6]، فقد ثبت أن النبي ^ كان يمسح بيديه على رأسه يقبل بهما ويدبر، بل ثبت عنه أنه مسح على الناصية والعمامة لأن الباء في الآية: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة:6] للتبعيض، قال ابن رجب رحمه الله في "فتح الباري" (2/50): فأما الوجه فمذهب مالك والشافعي وأحمد، وجمهور العلماء أنه يجب استيعاب بشرته بالمسح بالتراب، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه هذا هو الصحيح، وفي مذهبنا ومذهب الشافعي وجه آخر أنه يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور، وحكى ابن المنذر عن سليمان بن داود الهاشمي أن مسح الوجه في التيمم حكمه حكم الرأس في الوضوء يجزىء فيه البعض.
وسئل الإمام أحمد عن ترك مسح بعض وجهه في التيمم، قال: يعيد الصلاة.
وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: المسح في التيمم كما يمسح الرأس لا يتعمد لترك شيء من ذلك، فإن بقي شيء منه لم يعد، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء.
وقال الجوزجاني نحوه، وقال إسحاق: تضرب بكفيك الأرض ثم تمسح بهما وجهك، أصاب ما أصاب وأخطأ ما أخطأ.
وقال محمد بن مسلمة من المالكية: أنه لا يجب أن يتبع الوجه بالتراب كما يتبع بالماء اهـ.
فهذا عدد كثير وجمٌّ غفير، هم سلفنا في هذه المسألة والحمد لله.
* * *
فصل
صاحب الجبيرة يغسل ما استطاع ويتيمم للباقي
للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
الجمهور أنه يتوضأ للصلاة أو يغتسل للجنابة إن كان جنبًا، ويمسح بالماء على الجبيرة التي لم يصلها ماء الغسل.
وذهب آخرون أنه يغتسل للجنابة وإن لم يكن جنبًا توضأ للصلاة، ثم يكتفي بالتيمم للعضو الذي لم يغسل، ولا يمسح على الجبيرة.(1/51)
وذهب ابن حزم وجميع الظاهرية والشعبي كما في المحلى (2/74): أنه لا يلزمه المسح على الموضع الذي عليه العصابة ولا التيمم له، واستدلوا بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، وقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، وقول النبي ^: »ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم«، قال: فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء وكان التعويض منه شرعًا، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة، ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر، فسقط القول بذلك.
فإن قيل: فإنه روي من طريق زيد عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله أمسح على الجبائر؟ قال: »نعم امسح عليها«.
قلنا: هذا خبر لا تحل روايته إلّا لبيان سقوطه، لأنه تفرد به أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، وهو مذكور بالكذب. اهـ
وقال النووي في "المجموع" (1/368): اتفق الحفاظ على ضعف هذا الحديث وتوهينه اهـ. وقال البيهقي في أحاديث مسح الجبيرة: لم يصح منها شيء اهـ. وقد أبان العلامة الألباني حفظه الله في "تمام المنة" (ص133-135)، ورجح قول الظاهرية وقول الشعبي ومن معهما.(1/52)
قلت: إذا لم يصح دليل في المسح على الجبيرة، فيبقى أنه يغتسل من الجنابة ما استطاع غسله أو يتوضأ للصلاة لما استطاع من الأعضاء السليمة، ويتيمم لما به جرح معصوب عليه أو مكسور، الدليل على ذلك حديث: »ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم«، ولا شك أنه إذا لم يستطع أن يأتي بالمأمور الأول كاملًا، أتى بالمأمور الثاني لما لم يستطع غسله في الوضوء، أو الغسل اللازم وهو التيمم، والله عزوجل يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، وهذا القول أرجح ودليله أصح، وهذا قول الشافعي وأحمد نقله عنهما شيخ الإسلام في "الفتاوى" (21/453) جمع ابن قاسم النجدي(1).
* * *
فصل
نواقض التيمم هي نواقض الوضوء ووجود الماء والقدرة على استعماله ناقض للتيمم
نواقض التيمم هي نواقض الوضوء بلا خلاف، وزيادة على ذلك أن وجود الماء والقدرة على استعماله ناقض أيضًا للتيمم.
انظر "المحلى" (2/122)، وسواء كان المتيمم في الصلاة أو خارجها فإنه إذا رأى الماء انتقض تيممه بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرج برقم (10) أن النبي ^ قال: »الصعيد الطيب وضوء المسلم إن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته«.
وحديث حذيفة في "صحيح مسلم" برقم (522): أن النبي ^ قال: »وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا، إذا لم نجد الماء«.
__________
(1) تنبيه: لا دليل على تقديم الوضوء قبل التيمم ولا العكس، فله أن يتيمم ثم يتوضأ، وله أن يتوضأ ثم يتيمم، والأول أحب إلينا والله أعلم.(1/53)
وفي حديث عمار وحديث عمران أن النبي ^ أمر بالتيمم لمن لم يجد الماء، وقال: »عليك بالصعيد فإنه يكفيك«، وهذا قول الجمهور، ورجحه الخرقي وابن قدامة في "المغني" (1/268)، والشوكاني في "نيل الأوطار" (1/312)، وابن رشد في "بداية المجتهد" (1/184) وغيرهم، وهذا هو الصحيح لقيام الأدلة الثابتة على ذلك، وقال بعضهم: لا يخرج من الصلاة ويستمر حتى يكملها، وهذا قول أدلته إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة مثل حديث أبي سعيد: »لا يقطع الصلاة شيء«. فإن مداره على مجالد بن سعيد وهو ضعيف، وانظر »العلل المتناهية« لابن الجوزي (762)، وأعله ابن حزم في »المحلى«، ومثل حديث أبي هريرة أن النبي ^ شكا إليه الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة، فقال: »لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا« أخرجه البخاري برقم (137)، ومسلم برقم (361)، قالوا: فلا ينبغي لأحد أن يخرج من الصلاة إلا لهذين الأمرين وهذه غفلة؛ فإن صدر الحديث فيه السؤال عن شيء بعينه، فأجابهم عليه بعينه، أنه لا يخرج بمجرد الوساوس حتى يتأكد من الحدث، أما وجود الماء للتيمم فشيء خارج عن الحديث، وناقض زائد على نواقض الوضوء شملته أدلة أخرى.
وقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]، وقد ذكر أهل التفسير أن معنى الآية: ولا تبطلوا أعمالكم بالرياء، وهذا المعنى تؤيده أدلة أخرى منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }[الزمر:65].(1/54)
وقوله تعالى بعد ذكر حشد من الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:88]، وقوله تعالى في الحديث القدسي: »أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه« أخرجه مسلم برقم (2985) من حديث أبي هريرة عن النبي ^ فيما يرويه عن ربه عزوجل، ولا شك أن الرياء شرك مبطل للعمل، وأن سياق الآية يعني ذلك من قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33].
أما المتيمم إذا خرج من الصلاة عند وجود الماء فلم يبطل عمله، وإنما بطل وضوءه على الصحيح، أما صلاته التي صلاها على طهارة التيمم فلا دليل على بطلانها، بل الدليل على صحتها، فحديث أبي سعيد في الذين صليا بتيمم ثم وجدا الماء في الوقت وأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، قال النبي ^ للذي لم يعد: »أصبت السنة وأجزأتك صلاتك«، فدل الحديث أن لا إعادة على من صلى بتيمم صحيح، وكثير من أهل العلم متفقون على ذلك، ومن الأدلة على عدم إعادة الصلاة حديث عمار وعمران وغيرها من الأحاديث الدالة أن التيمم طهور يستباح به ما يستباح بالغسل والوضوء عند عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله.
قال ابن المنذر في "الأوسط"(2/66): ولا يجوز نقض طهارة قد مضى وقتها، وإبطال ما صلى من الصلاة كما فرض عليه، وأمر به إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع.اهـ(1/55)
وبهذا نقول لمن قال ببطلان صلاة من خرج من صلاته لوجود الماء: أليس من الأولى إذا صحت كلها أن يصح بعضها، وأنه بعد خروجه من الصلاة ووضوئه يبني على ما صلى، وأن حاله كمن انتقض وضوءه في الصلاة بحدث، وقد رأيت للإمام النووي كلامًا في "المجموع"(2/318) فيه تعصب وتعسف وجمود على المذهب بغير دليل، فبعد أن نقل عدم خلافهم أن من خرج من الصلاة لوجود الماء أنه يعيد الصلاة ولا يبني على ما صلى، قال: كما لا تجوز عدة واحدة بأقراء وأشهر ولا كفارة، بعضها عتق وبعضها صوم.
قلت: وهذا قياس بارد، لأن العدة في كتاب الله تختلف من امرأة إلى أخرى، فالله سبحانه يقول في حق اليائسة من المحيض والصغيرة التي لم تبلغ الحلم والحامل، قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4]، وقال عن التي لا تزال تحيض: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة:228]، والقرء هو الحيض على الصحيح استدلالًا بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ^ قال لها: »دعي الصلاة أيام قرئك«.(1/56)
فعلم بالقرآن أن عدة المطلقة الحائض ثلاثة قروء أي حيضات، سواء كانت الحيضة شهراً أو أكثر أو أقل، وأن عدة اليائسة والصغيرة ثلاثة أشهر، وأن عدة الحامل بوضع الحمل، فهل يجوز أن تنتقل إحداهما إلى عدة الأخرى وتتعدى حدود الله التي حدها لها في كتابه، وكذا أيضًا الكفارات، قد قال الله في كفارة القتيل خطأ والظهار واليمين: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ}[المجادلة:4]، وفي كفارة من أتى امرأته في نهار رمضان، قال النبي ^ لذلك الرجل: »هل تجد أن تعتق رقبة؟« قال: لا، قال: »هل تستطيع أن تصوم؟«، فهل بعد هذا يجوز لأحد أن يذهب إلى الصيام مع وجود الرقبة، وقدرته على العتق، فقد نصت الأدلة على عدم الانتقال من واحدة إلى أخرى إلا بعد العجز من الأولى، فأين الدليل المانع من صحة صلاةٍ بعضها بتيمم وبعضها بوضوء؟ ولقد سألت شيخي مقبلاً حفظه الله، فأفتى بما قررته هنا والحمد لله.
فصل
الجنب إذا كسل عن الوضوء هل يتيمم
رأيت البيهقي في "الكبرى"(1/200) بوب على ذلك، وذكر حديثًا من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب عن أبي أسامة عبدالله بن أسامة، عن الحسن بن الربيع البجلي، عن عثام بن علي عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ^ إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم.اهـ
وهذا سند صحيح كل رجاله ثقات، فأبو العباس أرفع من ثقة، وعبدالله بن أسامة أبو أسامة الكلبي ثقة، قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(5/10): كتبت عنه مع أبي وهو ثقة صدوق.اهـ
والحسن بن الربيع البجلي قال أبو حاتم: من أوثق أصحاب ابن إدريس.اهـ
ووثقه ابن خراش وابن شاهين وابن حبان، وعثام بن علي وثقه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: صدوق. وأثنى عليه أبو داود، وقال النسائي: لا بأس به. وقال ابن سعد والدارقطني وعثمان بن شيبة وابن شاهين والبزار: ثقة. أما هشام وأبوه فمعروفان من الصحيحين وغيرهما.(1/57)
فعلم أن الحديث ظاهره الصحة، وقد تقدم تخريج الحديث رقم(15)، ويحمل على عادم الماء أو من عز عليه وجوده.
قال هذا الحافظ في "الفتح" (1/394): والحديث أخرجه البخاري رقم(288)، ومسلم رقم (305) بدون زيادة (أو تيمم) فعلى ثبوته يحمل على ما قاله الحافظ، لأن الله عزوجل يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء:43]، فشرط للتيمم عدم وجود الماء.
* * *
فصل
من وجد ماء يكفي بعض طهارته أيستعمله ويتيمم للباقي أم يكتفي ولا يتوضأ لما يستطيع؟
اختلف العلماء في ذلك، فاتفق الشافعية ونقله النووي عن أحمد والشيرازي وداود وعطاء والحسن بن صالح ومعمر أنه يتوضأ لما يستطيع ويتيمم للباقي، وبوب عليه المجد ابن تيمية فقال: (باب من وجد ما يكفي بعض طهارته يستعمله). وذهب إليه الشوكاني في »النيل«(1/307)]، قال النووي في "المجموع"(1/309): واتفق الأصحاب عليه وهو أحد الروايتين عن أحمد وداود، وحكاه عن عطاء والحسن بن صالح ومعمر، وذهب مالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي والمزني وابن المنذر، قال البغوي: وهو قول أكثر العلماء أنه يكتفي بالتيمم، قال النووي والمختار: الوجوب ودليله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء:43]، وهذا واجد للماء فالتيمم لا ينوب إلا في موضع الضرورة. اهـ بتصرف.
زاد النووي حديث أبي هريرة: »ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم« متفق عليه، وبهاء الدين المقدسي في "العدة" (ص50)، وابن ضويان في "منار السبيل" (1/46)، وابن قدامة في "المغني" (1/258)، وهو الراجح إن شاء الله تعالى.
فصل
من نسي الماء في رحله ولم يبحث عنه وتيمم وصلى(1/58)
وجب عليه أن يعيد لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء:43]، وللأدلة الكثيرة التي تقدم ذكرها في ذلك، وكما أنه لو نسي عضوًا من أعضائه فلم يغسله وجب عليه أن يعيد، وهذا في رواية عن الشافعي وهو مذهب أحمد وهو الصحيح، لأدلة من القرآن والسنة، وبه قال الشيرازي في "المهذب"، والنووي في "المجموع" (1/204) وغيرهم.
فهارس الموضوعات
مقدمة الإمام العلامة محدث الديار اليمنية أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي ... 5
مقدمة الطبعة الثانية ... 6
مقدمة الطبعة الأولى ... 6
تعريف التيمم ... 6
أما التيمم في الشرع: ... 6
كم آية في التيمم الشرعي؟ ... 6
ما هي آية التيمم؟ ... 6
التيمم خصوصية لمحمد ^ وأمته: ... 6
فصل في ذكر جملة من الأحاديث الواردة في التيمم ... 6
سبب نزول آية التيمم ... 6
فصل متى شرع التيمم ... 6
فصل ما هو الصعيد الذي أمر الله بالتيمم منه ... 6
فصل صفة التيمم وأعضاء التيمم ... 6
فصل النية في التيمم ... 6
فصل في التسمية قبل التيمم ... 6
فصل التيمم مبيح وليس رافعًا للحدث ... 6
فصل من لم يجد الماء ولا التراب وجب عليه أن يصلي إذا حضر الوقت ... 6
ولا إعادة عليه ... 6
فصل يجوز التيمم بعد دخول وقت الصلاة أو قبل دخول وقتها ... 6
فصل المتيمم ينفخ في كفيه أو ينفضهما إن احتاج لذلك ... 6
فصل يجوز التيمم في الحضر والسفر لمن لم يجد الماء ... 6
فصل ما هو المرض الذي يبيح التيمم ... 6
فصل حكم طلب الماء وما حد ذلك ... 6
فصل حكم حمل التراب في السفر ... 6
فصل حكم التيمم بالتراب إذا لم يكن طاهراً ... 6
فصل عادم الماء له أن يأتي أهله ... 6
فصل المتيمم يصلي بالمتوضئين ... 6
فصل حكم الترتيب في أعضاء التيمم ... 6
فصل لا يلزم تعميم جميع بشرة الوجه بالتراب ... 6
فصل صاحب الجبيرة يغسل ما استطاع ويتيمم للباقي ... 6
فصل نواقض التيمم هي نواقض الوضوء ووجود الماء والقدرة على استعماله ناقض للتيمم ... 6
فصل الجنب إذا كسل عن الوضوء هل يتيمم ... 6(1/59)
فصل من وجد ماء يكفي بعض طهارته أيستعمله ويتيمم للباقي أم يكتفي ولا يتوضأ لما يستطيع؟ ... 6
فصل من نسي الماء في رحله ولم يبحث عنه وتيمم وصلى ... 6
فهارس الموضوعات ... 6
التنسيق والإخراج الفني
الحوكمي
للطباعة والإعلان والتوكيلات التجارية
صنعاء (77181970)(1/60)