أثر المقاصد فِي الاجتهاد الشرعي
( د. عبد الله الزبير عبد الرحمن (1)
مدخل:
مما يجب أنْ يقرَّر: أنَّ الاجتهاد الشرعي قام في جوانب كثيرة معتمداً على المقاصد واعتبارها، كما أنَّ التشريع الإسلامي كذلك تأثَّر بشكل ملحوظ برعاية المقاصد وتحقيقها، في أصوله وفي فروعه، في التقعيد وفي التفريع، في الفُتيا، وفي تنْزيل الأحكام على الوقائع، وفي قيام الأحكام الشرعية، تكليفية كانت أو وضعية، وفي الترجيحات الأصولية والفقهية، وغير ذلك من عمليات التشريع والاجتهاد.
غير أنَّا سنخصص هذا المبحث في تأثُّر الاجتهاد بالمقاصد واعتبارها، ونستعرض أثر المقاصد في بناء الاجتهاد من خلال مطلبين:
المطلب الأول: يبيِّن اعتبار المقاصد في أهلية الاجتهاد.
والمطلب الثاني: يبيِّن مسالك الاجتهاد المقاصدي (2) .
المطلب الأول
اعتبار المقاصد فِي أهلية الاجتهاد
المسألة الأولى: أهمية المقاصد في الاجتهاد:
يتبادر إلى ذهن كثير ممن يتكلّم في الفقه والأحكام ويقوم بمهام الفُتيا للناس أنَّ الحكم الشرعي لا بُدَّ له من نصّ لفظيّ ثابت في الكتاب أو مرويّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح، وأن المجتهد هو الذي ينظر في ذاك النصّ لا يتجاوزه ولا يتعدّاه، فإنْ وجد الحكم الشرعي فيه فهو المطلوب؛ وإنْ لم يجده فيه فلا يجوز له أن يطلب الحكم في غير النصّ أبداً.
__________
(1) (() أستاذ مشارك، مدير مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية ـ جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية (السُّودان ـ أم درمان).
(2) الأصل في هذه النسبة أنْ تكون إلى المفرد، فيقال: "المقصدي"، ولكن لما صار "المقاصد" علماً ولقباً أصبح مصطلحاً تصلح النسبة إليه، حيث شاع في مصطلح هذا العلم أنْ يقال: "مقاصدي" كما في "الاجتهاد المقاصدي"، و"النظر المقاصدي" ... إلخ.(1/1)
هذا المنظور المعتقد الذي صار كالمسلّمة الدينية اليوم عند بعضهم، واستجازت تلك الفئات على أساسه عرض أقوال من سبق من علمائنا واجتهادات المعاصرين منهم بتسليم تام واستسلام كامل لما قالوا واجتهدوا، وإيجاب الاحتكام لها؛ فما وافق صحّ! وما خالف بطل ورُدَّ!!.
هذا الأمر في حقيقته يحمل الشعار نفسه الذي نُكِّس من قبل " قفل باب الاجتهاد " لأنّ حصر مجال الاجتهاد والنظر في النصّ وحده ، حصر للاجتهاد فيما سبق من اجتهادات وأقوال ، لأنّ النصّ هو ذات النصّ ودلالته على الحكم كانت قائمة من يوم تنْزيله على الناس ومجيء الوحي به على أقدر الناس على فهمه واستنباط الحكم منه والوقوف على مراده بلا ارتياب أو تردد ـ الصحابة رضوان الله عليهم ـ، وبهذا لم يبق للمتأخرين إلاّ أن يسلّموا لما قد سبق من أحكام، ومن ثّمَّ فلا يجوز لهم أنْ يُنشئوا حكماً ولا قولاً، ومن ثَمَّ لا يستوعَبُ أمرٌ جديدٌ في أحكام الشرع، ولا يحرّم إلاَّ ما حُرِّم من قبل، ولا يُباح إلاّ ما قد أُبيح، لا استنباطاً من النصّ ولا إلحاقاً به ولا قياساً عليه، ولا اجتهاداً فيه.
ومعنى ذلك أنه لا فائدة مما وضعه العلماء ـ بعد استقراء مضنٍ وبحث وتفتيش طويل ـ من قواعد أصولية ولا من قواعد فقهية ، ولا ما تعبوا واجهدوا أنفسهم لتحديد المعتبر من الأدلة الشرعية والمردود منها لاستصدار الأحكام الشرعية منها وبناء الفتاوى عليها، ولا ما ضبطوا به الاجتهاد واشترطوا له الشرائط التي يجب أن تتوفّر فيمن سيقوم بمهمة الاجتهاد الشريفة.
وقد ناقش العلماء هذه المسألة وأبطلوا الدعوى فيها بما لا يلزم في هذا المقام من الإعادة والتفصيل .(1/2)
والذي يهمنا من هذا التقديم : أنّ الاجتهاد لا ينبني فقط على النصّ اللفظي لا يتعدّى البحث فيه ولا يتجاوز النظر في ألفاظه، بل الاجتهاد يتجاوز النصّ إلى الروح.. ويتعدَّى المنطوق إلى المفهوم.. وينظر في حال الناس كما ينظر في أحوال الألفاظ.. ويعالج التعارض بين المصلحة والمفسدة كما يعالج التعارض بين الظاهر والمؤول وبين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين الحقيقة والمجاز، ويدفع تعارض النصّ مع المصلحة بالترجيح أو الجمع كما يدفع أي تعارض وتدافع .
هذه العمليات التي يتطلبها الاجتهاد ممن يقوم به ويتصدّر له لا يكفي وجود النصّ وحده لصحة الاجتهاد والاقتراب من الإصابة فيه، وإنما لا بدّ من مؤهلاتٍ ضروريةٍ وشروطٍ أساسيةٍ فوق شرط التمكّن في النظر النّصّي، فهل يا تُرى من ضرورةٍ لاشتراط الإلمام بمقاصد الشريعة، أو القدرة على التعرّف والوصول إليها ليكتمل التأهّل للاجتهاد والنظر في أدلة الشارع؟. أم الإلمام بمقاصد التشريع والاقتدار على التعرف عليها هو شرطٌ أساسيٌّ ومؤهّل ضروري للمجتهد حتى يتأهّل أساساً للاجتهاد والنظر في الشريعة وأدلتها وأحكامها؟
المسألة الثانية : اشتراط المقاصد في أهلية الاجتهاد :
وعلى ما سبق فلقد اشترط كثيرٌ من المحققين في الفقه والأصول من علمائنا الأفاضل الإلمام بمقاصد الشريعة ومعرفتها في أهلية الاجتهاد ، بحيث أنّ من لم يكن عالماً بالمقاصد فاهماً لها غير قادر على الوصول إليها ولا معرفتها لا يكون أهلاً للاجتهاد، بل يحرُم عليه الاجتهاد ، لأنّ غير المجتهد لا يجوز له أنْ يجتهد، ومن لم يتأهّل للاجتهاد فكيف يتعرّض للاجتهاد؟.
من هؤلاء: إمام الحرمين الجويني (478هـ)، والغزالي (505هـ)، وموفق الدين ابن قدامة (620هـ)، وابن تيمية (728هـ)، والسبكي (756هـ)، والشاطبي(790هـ) وابن عاشور، وكثير من المعاصرين ـ رحمهم الله تعالى ـ.(1/3)
[1] فالإمام الجويني رحمه الله يرى أن التبصّر في وضع الشريعة يتطلب التفطّن للمقاصد الشرعية ، حيث يقول في "البرهان": "من لم يتفطّن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي ، فليس على بصيرة في وضع الشريعة" (1) .
ونفي كونه بصيراً في وضع الشريعة نفي لكونه مجتهداً ، لأنه لا يمكن أن يكون مجتهداً في الشريعة وهو ليس ببصير في وضعها؟ والبصير في الشيء الذي يكون على بصر يبصر به الحق والصواب ، ومن ليس على بصيرة فلا يملك ما يبصر به الحق والصواب ، ومطلوب من المجتهد حتى يكون مجتهداً أن يكون ذا بصيرة .
وهذا ظاهر في أنَّ الجويني ـ رحمه الله تعالى ـ يرى اشتراط معرفة المقاصد ومواقعها في الأوامر والنواهي ـ وهي صياغات الشرع الدالة على الأحكام ـ ليكون مريد الاجتهاد مؤهّلاً للاجتهاد.
[2] والإمام الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ ينصّ ضمن ما يرى من شروط الاجتهاد ؛ أنْ يكون طالب الاجتهاد مدركاً للمقاصد في الخطاب من الكتاب والسنّة ، بل مدركاً لدقائق المقاصد فيه. وقد ذكر جملة من الأمور التي يحتاج إليها المجتهد في عملياته الاجتهادية من معرفة النحو واللُّغة ، وما يميّز به بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامّه وخاصّه، ومحكمه ومتشابهه ، ومطلقه ومقيّده ، ونصّه وفحواه ، ولحنه ومفهومه، ثمّ ذكر ما يلزمه من مقدار المعرفة فيها فقال : "والتخفيف فيه أنّه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللُّغة ويتعمّق في النحو ، بل القدر الذي يتعلّق بالكتاب والسُّنَّة ، ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه" اهـ (2) .
__________
(1) البرهان: للجويني، فقرة 205، 1/295.
(2) المستصفى: للغزالي، 2/172.(1/4)
[3] ويبدو أنَّ ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ تابَعَ الغزالي في اشتراط إدراك المقاصد للمجتهد ضمن ما يرى من شروط الاجتهاد ؛ وأن يكون طالب الاجتهاد مدركاً للمقاصد في الخطاب من الكتاب والسُّنَّة ، بل مدركاً لدقائق المقاصد فيه ، وقد ذكر جملة من الأمور التي يحتاج إليها المجتهد في عملياته الاجتهادية من معرفة الأدلة وشروطها ومعرفة النَّحو واللُّغة ، وما يميّز به بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصّه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيّده، ونصّه وفحواه ، ولحنه ومفهومه، ـ وهذه الأمور شبيهة جداً بالأمور التي ذكرها الغزالي مما يحتاج المجتهد لمعرفته ـ كما أنَّ كلامه الذي ألزم فيه المجتهد بدرك دقائق المقاصد في الخطاب يشبه بشكل ملحوظ عبارة الغزالي ونصّ كلامه : "ولا يلزمه من ذلك إلاّ القدر الذي يتعلّق به الكتاب والسُّنَّة ، ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك دقائق المقاصد فيه" اهـ (1) .
إِذَاً: مما يلزم المجتهد ـ في رأي الغزالي وابن قدامة ـ درك حقائق ودقائق المقاصد في الخطاب الشرعي حتى يكون مجتهداً .
[4] وشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ يحصر الفقه في الدين في معرفة مقاصد الشريعة وحكمها وقد نصّ على ذلك فقال: "الفقه في الدّين هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها" (2) .
وإنْ كان الفقه محصوراً في معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ؛ فكيف يكون فقيهاً ، بلْهَ مجتهداً من لم يكن عارفاً بحكمة الشريعة ومقاصدها؟ كيف يجهل مقاصد الشريعة ثم يجتهد؟ وهل يفقه من لم يحقّق الفقه، ومعناه محصورٌ في معرفة المقاصد؟
فيتضح أنَّ ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ يرى اشتراط معرفة المقاصد في التفقه أصلاً ، ومن باب أوْلَى في الاجتهاد في الفقه .
__________
(1) روضة الناظر وجنة المناظر: لابن قدامة، بشرح نزهة الخاطر لابن بدران الدومي، 2/ 405- 406.
(2) مجموع الفتاوى: لابن تيمية، 11/354.(1/5)
[5] والإمام السُّبكي ـ رحمه الله تعالى ـ يصرّح تصريحاً أنَّ كمال رتبة الاجتهاد لا يدرك إلاّ بأمور ثلاثة ، ثالثها معرفة المقاصد ، وهذه الأمور الثلاثة هي الأشياء التي تمثّل شروط الاجتهاد عنده ، لأنّه وتحت عنوان: "شروط المجتهد" ذكرها:
فالشيء الأول: التأليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن ، كالعربية وأصول الفقه وما يحتاج إليها من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ في فهم دلالات الألفاظ وتحرير صحيح الأدلة من فاسدها.
والثاني: الإحاطة بمعظم قواعد الشريعة حتى يعرف ما يوافقها من دليل وما يخالفها.
والثالث: الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ليكون قادراً على فهم مراد الشرع وما يناسب الحكم.
ويبرر اشتراطه الممارسة والتتبع للمقاصد بقوله : "الثالث : أنْ يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك ، وما يناسب أن يكون حكماً له في ذلك المحل وإنْ لم يصرّح به ، كما أنّ من عاشر ملكاً ومارس أحواله وخبر أموره إذا سئل عن رأيه في القضية الفلانية يغلب على ظنه ما يقوله فيها ، وإنْ لم يصرّح له به، لكن بمعرفته بأخلاقه وما يناسبها من تلك القضية .. ثمّ قال : فإذا حصل الشخص إلى هذه الرتبة وحصل على الأشياء الثلاثة فقد حاز رتبة الكاملين في الاجتهاد "اهـ (1) .
[6] والإمام الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ لا يرى حصول درجة الاجتهاد إلا "لمن اتصف بوصفين:
الوصف الأول: فهم مقاصد الشريعة على كمالها . لأن الإنسان إذا بلغ مبلغاً فهم عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كل باب من أبوابها ؛ فقد حصل له وصف ينَزّله منزلة الخليفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم والفُتيا والحكم بما أراه الله .
__________
(1) الإبهاج في شرح المنهاج: لعلي بن عبد الكافي السبكي، 1/ 8– 9.(1/6)
والوصف الثاني: التمكّن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها ، بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً، وفي استنباط الأحكام ثانياً" (1) .
هكذا حصر الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ شروط التأهّل للاجتهاد في الاتّصاف بفهم المقاصد والقدرة على الاستنباط بناءً على ذلك الفهم ، وذلك في كل أبواب الشريعة ومسائلها ، فالمجتهد مفتقرٌ إلى فهم المقاصد والتمكّن على الاستنباط بناءً على فهمه فيها في كل مواقع الاجتهاد والنظر ، إلاّ إذا تعلّق اجتهاده بتحقيق المناط ، فلا يفتقر إلى العلم بالمقاصد، "لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه" (2) .
[7] والإمام الشوكاني ـ رحمه الله تعالى ـ يرى أنَّ من أراد أنْ يمشي في رياض الاجتهاد ، ويقتطف من طيب ثمراته ، ويستنشق من عابق رياحينه ، ممن كان معتقلاً في سجن التقليد مكبّلاً بالقيل والقال، مكتوفاً بآراء الرجال؛ عليه أنْ يعلم أنَّ الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد (3) .
__________
(1) الموافقات: للشاطبي، تعليق محمد حسنين مخلوف، دار الفكر، د. ت، 4/ 56.
(2) الموافقات: المصدر السابق نفسه، 4/92.
(3) انظر: أدب الطلب: لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق ونشر مركز الدراسات والبحوث اليمنية، صنعاء،
ص 145–151.(1/7)
[8] والشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ يرى أنَّ المجتهد محتاجٌ إلى معرفة المقاصد وفهمها في كل الأنحاء التي يقع بها تصرفهم في الشريعة ، سواءٌ في فهم أقوال الشريعة واستفادة مدلولات تلك الأقوال بحسب الوضع اللُّغوي والاستعمال الشرعي ، أو في البحث عمّا يعارض الأدلة فيما يلوح للمجتهد وقد استكمل نظره في استفادة مدلولاتها ليستيقن سلامة تلك الأدلة مما يبطل دلالتها ، أو عند قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه على ضوء العلل، أو عند تلقّي الأحكام التعبُّدية التي لا يعرف عللها ولا حكمة الشارع فيها متهماً نفسه بالقصور عن إدراك الحكمة فيها ، وغير ذلك مما يتصرّف المجتهد بفقهه في الشريعة (1) .
ويؤكّد ـ رحمه الله تعالى ـ أنَّ المجتهد لا غَناءَ له عن معرفة مقاصد الشريعة وفهمها ، لأنّه لو اكتفى بأدلة الشريعة اللفظية فسيقصر فهمه وتفقهه ـ كما قصر فهم من التزم النصّ الظاهر واللفظ واقتصر عليه ـ لأنّ أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني بحال عن معرفة المقاصد الشرعية (2) .
__________
(1) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية: لابن عاشور، ص 15– 17.
(2) المرجع السابق نفسه، ص 27.(1/8)
[9] ومن المعاصرين كثيرون نصّوا على اشتراط معرفة المقاصد وفهمها في أهلية الاجتهاد أو في صحته ، وهؤلاء هم : عبد الوهاب خلاف، ومحمد الخضري بك ، وعلي حسب الله ، ومحمد أبو زهرة ، ود. يوسف القرضاوي ، وشيخنا د. عبد الكريم زيدان ، وغيرهم (1) .
المطلب الثاني
مسالك الاجتهاد المقاصدي
سلك أهل العلم والنظر في الدليل الشرعي طرائق كثيرة، واتخذوا مسالك عديدة للوصول إلى الحكم الشرعي ـ استنباطاً وتنزيلاً ـ بناءً على المقاصد ، وفي هذا المطلب نبرز بعض هذه المسالك للاجتهاد والاستدلال المقاصدي كما يلي:
المسلك الأول العدول عن القياس الكلّيّ إلى مصلحة جزئية:
فالأصل ألا يحيد المجتهد الناظر مواضع القياس الجاري ، لأن القياس إذا جرى واستمرّ صار موضعه قاعدة من القواعد الكلية ، ولكنه ربما يلاحظ أنَّ إقرار حكم معيّن من الأحكام القائمة على القياس الكليّ يؤدي إلى حرج شديد أو ضيق ومشقة يجلب الشارع عند بلوغها التيسير، فيعدل بذلك الحكم عن مقتضى القياس إما جلباً للتيسير عند المشقة أو دفعاً للضرر أو رعاية للمصلحة الجزئية .
__________
(1) راجع لهم: علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، ص 217، وأصول الفقه: لمحمد الخضري ، ص 369، أصول التشريع الإسلامي: علي حسب الله، ص 95، أصول الفقه: لأبي زهرة، فقرة 370، ص 362، الوجيز في أصول الفقه: د. عبد الكريم زيدان، ص 405، الاجتهاد في الشريعة الاسلامية: د. القرضاوي، ص 43-47، كيف نتعامل مع السُّنَّة النبوية.. معالم وضوابط: د. القرضاوي، ص 125 وما بعدها، الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه: د. شعبان محمد إسماعيل، ص 43، الاجتهاد في الإسلام: د. نادية شريف العمري،
ص 96– 99.(1/9)
ومن اجتهد بهذا المسلك لم يرجع إلى مجرد الهوى والتشهّي ـ كما يقول الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "وإنما رجع إلى ما عُلِم من قصد الشارع في الجملة ... كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمراً ، إلاّ أن ذلك الأمر لو أجري القياس فيه يؤدي إلى فوْت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك ، فيكون إجراء القياس مطلقاً فيه ـ وإنْ كان ضرورياً أو حاجياً ـ يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده ، فيستثنى موضع الحرج" (1) .
وهذا هو المراد بالاستحسان عند المالكية .
ومن أمثلة الاجتهاد المقاصدي بالعدول عن مقتضى القياس الجاري إلى مصلحة جزئية :
[1] ما حكم به العزّ بن عبد السلام من وجوب إبقاء الثمرة التي بدا صلاحها وقد بيعت إلى أوان جذاذها . مع أنه لا إلزام بالإبقاء على ما ورد في نصّ الحديث حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا) (2) .
قال البخاري رحمه الله : "فَلَمْ يَحْظُرِ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلاحِ عَلَى أَحَدٍ" (3) .
ومع ذلك فقد أوجب العزّ إبقاء الثمرة بعد أن بدا صلاحها معللاً ذلك بأنه مصلحة حاجية فقال : "إذا باع ثمرة قد بدا صلاحها ، فإنه يجب إبقاؤها إلى أوان جذاذها والتمكّن من سقيها بمائها .. قال: لأن الحاجة ماسّة إليه وحاملة عليه، فكان من المستثنيات عن القواعد تحصيلاً لمصالح هذا العقد"اهـ (4) .
[2] اجتهاد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين منع أبا هريرة - رضي الله عنه - من تبشير الناس بما بشّره به النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يبشر بالجنة من لقيه يشهد أن لا إله إلاَّ الله مستيقناً بها قلبه .
__________
(1) انظر: الموافقات: للشاطبي، تحقيق مخلوف، 4/116.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب من باع ثماره.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/281.(1/10)
وهذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب الامتثال ، وهو علم شرعي القياس يقتضي إبلاغه ونشره للناس حتى يكونوا على علم به ، ولكن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى أن في تبشيرهم به مفسدة من جهة أخرى حيث إنَّهم سيعتمدون على هذه البشارة؛ فيتكلون عليها ولا يعملون شيئاً .
فعن أَبُي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا فَلَمْ أَجِدْ ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ ـ وَرَّبِيع: جَدْوَل ـ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ ! فَقُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : مَا شَأْنُكَ ؟ قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مِنْ فَزِعَ فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ وَهَؤُلاءِ النَّاسُ وَرَائِي . فَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ـ وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ ـ قَالَ : ( اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ).(1/11)
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ فَقُلْتُ : هَاتَانِ نَعْلا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ. فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لاسْتِي فَقَالَ : ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً وَرَكِبَنِي عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قُلْتُ : لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لاسْتِي قَالَ ارْجِعْ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : يَا عُمَرُ ! مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبي أَنْتَ وَأُمِّي ! أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَخَلِّهِمْ) (1) .
قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في شرح الحديث : "وفيه جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة أو خوف المفسدة" اهـ (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، برقم 46.
(2) شرح النووي لصحيح مسلم، 1/185.(1/12)
ومثله ما فعله أحد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لمَّا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبشّر الناس بأمر اعترض عليه مخافة أن يتكلوا . فعن تَمِيمِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى بَنِي زَمْعَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ! ثِنْتَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ . قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تُخْبِرْنَا مَا هُمَا . ثُمَّ قَالَ : اثْنَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الثَّالِثَةُ أَجْلَسَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : تَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ يُبَشِّرُنَا فَتَمْنَعُهُ! فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ . فَقَالَ : ثِنْتَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ) (1) .
ولعل قارئاً يقول : أَمَا منعه الصحابة رضوان الله عليهم من الاعتراض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!.
والجواب : أنّ الصحابة لمَّا منعوه من الاعتراض عليه - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم الحامل له على الاعتراض بقوله :" إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ " سكتوا عنه إقراراً له.
فثبت أنه قد يُترك كثير مما يحسن إبلاغه من العلم إذا رأى المجتهد أنّه يؤدي إلى مفسدة من جهة أخرى أو يفوّت مصلحة كذلك ، مع أن القياس هو نشر العلم وبسطه وإبلاغه .
المسلك الثاني: تحقيق الأقرب إلى المقصود وإنْ كان على خلاف الظاهر:
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، برقم 21987.(1/13)
وهو أنَّ المجتهد يقف على مقصود الشرع من الأمر أو النهي ، ثم يجد أن حمل الحكم على الظاهر لا يحقّق المقصود في كثير من أحواله ، فيرى تقديم الأقرب إلى المقصود وإنْ خالف الظاهر .
مثاله: القيمة والعين في زكاة الفطر :
فالظاهر أنْ تكون صدقة الفطر عيناً من غالب طعام الناس، كما في حديث ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ" (1) .
والتزم المسلمون بظاهر الفرض فكان الصحابة رضوان الله عليهم يخرجون زكاة الفطر من غالب قوت الناس عيناً لا قيمة كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - قَالَ : "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ" (2) .
فرأى عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وسفيان الثوري والأحناف (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، برقم 1407.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، برقم 1410.
(3) راجع: المغني: لابن قدامة، 3/ 65، والمحلَّى بالآثار: لابن حزم، 6/130– 136، ومصنّف ابن أبي شيبة:
4/37–38، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: للكاساني، 2/72– 73، وفقه الزكاة: للقرضاوي، 2/ 948–949.(1/14)
أنَّ التزام الظاهر في كثير من الأحوال قد لا يحقق المقصود الشرعي من زكاة الفطر إذ مقصود الشارع منها : سدّ خلة الفقير وإغناؤهم من المسألة في هذا اليوم لما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) (1) . "والإغناء كما يتحقق بالطعام يتحقق بالقيمة وربما كانت القيمة أفضل ، لأن كثرة الطعام عند الفقير تحوّجه إلى بيعها ، والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والألبسة وسائر الحاجات" (2) .
قال أبو يوسف ـ رحمه الله تعالى ـ: "الدراهم أحبّ إليّ من الدقيق والحنطة، لأنّ ذلك أقرب إلى دفع حاجة الفقير" (3) .
فرأى الأحناف ومن وافقوهم أنَّ إخراج القيمة في زكاة الفطر تحقيق للأقرب إلى المقصود الشرعي وهو دفع حاجة الفقير وسدّ خلته ، وإنْ كان ظاهر النصّ على خلاف ذلك.
ويرى أبو زيد الدبوسي والحنفية ـ رحمهم الله تعالى ـ أنَّ استبدال العين الواجبة في الزكاة بالقيمة أو القيمة الواجبة بالعين جائز بحسب حاجة الفقير والمسكين تحقيقاً لمقصد الشارع من فرض الزكاة الذي هو دفع حاجتهم وسدّ خلّتهم ، فقد قال ـ رحمه الله تعالى ـ: "قال أصحابنا: إذا وجبت الزكاة في الدراهم ، فأدَّى بدلها حنطة أو غيرها ، جاز عندنا ، لأنّ مراد النصّ سدّ خُلَّة الفقير ودفع حاجته، وقد حصل.."اهـ (4) .
المسلك الثالث: تحصيل المقصود بنظيره أو بما هو أوْلَى:
ومن ذلك ما مثّل به ابن القيم رحمه الله بنصّ الشارع من الأعيان التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه أو يكون أوْلَى منها.
ومثاله:
__________
(1) أخرجه الدارقطني، 2/152، والحاكم في معرفة علوم الحديث، بلفظ (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم)، منشورات دار الآفاق، طبعة 1979م، ص 131.
(2) فقه الزكاة: د. القرضاوي، 2/948-949.
(3) بدائع الصنائع: للكاساني، 2/72.
(4) أسيس النظر: للدبوسي، ص 54. وانظر: نظرية المقاصد للريسوني، ص 336.(1/15)
[أ] نصّ الشارع على الأحجار في الاستجمار ، فالحكم بجواز استعمال الخرق والقطن والصوف بدلاً عن الأحجار أوْلَى بالجواز منها، لأنه يحصل مقصود الشارع بها على أتم الوجوه .
[ب] نصّ الشارع على التراب في الغسل من ولوغ الكلب، والفتوى باستعمال الأشنان (1) أوْلَى من التراب ، لأن تحصيل المقصود به أتمّ (2) .
المسلك الرابع: إدارة الحكم مع علته المقصودة وجوداً وعدماً :
الأصل أنَّ الحكم المرتبط بعلة يدور مع علته وجوداً وعدماً ، لأنَّ الشارع ربطه بتلك العلة فلا ينفك عنها ما دامت باقية ، فإذا انتفت العلة انتفى الحكم وتبدّل ، وهذا معروف لدى الأصوليين والفقهاء .
هذا الأصل يطبّقه المجتهد في حالات يرى فيها أن حكماً شرعياً قد ارتبط بعلة من العلل التي هي في حقيقتها مصلحة ظاهرة جعلها الله تعالى حكمة ما أمر به أو نهى عنه ، فيجد الفقيه المجتهد أن الحكمة في الأمر نفسه قد وُجدت معكوسة في مناط آخر وحالة أخرى ، فيقيم عكس الحكم في ذلك المناط وتلك الحالة .
__________
(1) الأشنان بضم الهمر وبكسرها من الحمض معروف الذي يغسل به الأيدي. لسان العرب، 13/ 18.
(2) إعلام الموقعين: لابن القيم، 3/ 14. وقيل في هذا العصر إنَّه ثبت علمياً أنَّ التراب أقوى في التنظيف من كل المنظفات خاصة في ولوغ الكلب، والله تعالى أعلم.(1/16)
هذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ مع التتار، فقد مرّ عليهم في يوم من الأيام وهم يشربون الخمر ، فلم ينكر عليهم ، بل أنكر على من أنكر عليهم ، مع أنّ شرب الخمر حرام باتفاق يجب الإنكار عليه وإقامة الحدّ فيه ، ولكنه مع ذلك أنكر على المنكر ولم ينكر على المتعدّي حدود الله، وهذا من فقهه العميق ونظره الدقيق ، وتمكّنه من الغوص في أسرار التشريع وحِكَمِ الشريعة ومقاصدها ، لأنَّ شرب الخمر حُرّم من أجل إفساده على الشارب عقله وصدّه عن ذكر الله وعن الصلاة، فإذا كان في شرب الخمر إشغالٌ للشارب عن التعدّي على الآخرين، والإتيان على بقية المقاصد الخمسة: الدين، والنَّفس، والعقل، والنَّسل، والمال؛ فالسكوت على الشارب يكون أقرب إلى مقصود الشارع من الإنكار عليه.
وهذا ما فعله بتدبّر وحكمة شيخُ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ؛ قال ابن القيم : "سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونوّر ضريحه ـ يقول : مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ، فأنكر عليهم من كان معي ، فأنكرت عليه، وقلت له : إنما حرّم الله الخمر لأنها تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم" (1) .
وهذا الموقف لا يوفّق له إلاّ من كان ريان من فقه الشريعة وفهم مقاصدها في الخطاب والأحكام ـ رحمه الله تعالى ـ.
المسلك الخامس: تقديم الأنفع والأصلح بالموازنة والمقارنة بين المصالح الدينية والدنيوية:
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين: لابن القيم، المصدر السابق نفسه، 3/ 5.(1/17)
ومن ذلك ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه البخاري عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلا يَرِثُنِي إِلا ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لا . فَقُلْتُ : بِالشَّطْرِ ؟ فَقَالَ : لا . ثُمَّ قَالَ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ ـ أَوْ كَثِيرٌ ـ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي . قَالَ : إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى) (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، برقم 1213.(1/18)
فوازن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الإنفاق الذي فيه خير المنفق المتصدق في الآخرة أجراً ومثوبة من الله وجنة ، وبين الضرر الذي سيلحق أبناءه إذا تركهم بلا مال يتعولون عليه فقال (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) (1) ، مع أنه أبان له أن كل إنفاق له ابتغاء وجه الله لا يعادله خير إلاّ هذه المعادلة والموازنة حين قال بعد ذلك (وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ) (2) .
ووجه آخر من الموازنة ، وهو أنّه حين يترك الثلثين من ماله لأبنائه سيكون قد جمع بين خيرين عظيمين:
أول الخيريْن: أنه لن يترك أولاده عالة يتكفّفون الناس ، بل يتركهم أغنياء.
والخيْر الآخر: أنه مأجورٌ أيضاً بنفقته على أبنائه وعياله وزوجته ولذلك نبّهه بقوله (حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ).
__________
(1) أخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - : البخاري في كتاب الوصايا برقم 2537، ومسلم في كتاب الوصية برقم 3076.
(2) أخرجه الشيخان: البخاري في باب رثى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة، برقم 1233، 1/435، ومسلم باب الوصية بالثلث، برقم 1628، 3/1250.(1/19)
ومن هذا الباب فعله - صلى الله عليه وسلم - مع كعب بن مالك كما في البخاري وقد ترجم له ببَاب : لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ : عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَالَ له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ) (1) .
واهتداءً بهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أقام المجتهدون هذا المعيار للتفاضل بين المصالح والمنافع ، فما كان يعمّ الكثيرين جعلوه أولى بالتقديم مما لا يعمّ إلا فئة مخصوصة .
المسلك السادس : النظر في المآلات :
ومن هذا النوع من الاجتهاد المقاصدي ؛ ما فعله أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - ، حيث أوقف أرض السواد على كل المسلمين.
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - لَوْلا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ) (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلاَّ عن ظهر غنى.
(2) أخرجه البخاري كتاب فرض الخُمُس، برقم 2893، وفي كتاب المزارعة برقم 2166، وأبو داود في الخراج والإمارة والفيء برقم 2625، وأحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، برقم 271.(1/20)
كان رأيه ألاّ تقسّم أرض السواد مما فتحها الله على المسلمين ، وقال : كيف بمن يأتي من المسلمين يجد الأرض قد قُسمت وورثت عن الآباء ، ما هذا برأي، واستشهد بقوله تعالى فيمن يأخذ من الفيء: ... الآيات (1) .
فقالوا له : استشر . فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا ، فقال
عبد الرحمن بن عوف : تُقسم وما الأرض والعلوج الذين بها إلاّ مما أفاء الله على المسلمين ، أي أنها داخلة في مفهوم قوله تعالى ... الآية (2) .
وقال عثمان وعليّ وطلحة وابن عمر : توقَف .
فأرسل إلى عشرة من الأنصار ، خمسة من الأوس ، وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم ، وأخبرهم الأمر ، وما تمخّض من آراء ، فقالوا جميعاً : الرأي رأيك فنعم ما قلت وما رأيت .
فقال : قد بان لي الأمر ، وقرر إبقاء الأرض بأيدي أهلها وضرب الخراج عليهم (3) .
يقول البيهقي ـ رحمه الله تعالى ـ في ذلك : "وفي كل ذلك دلالة على أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يرى من المصلحة إقرار الأراضي ، وكان يطلب استطابة قلوب الغانمين ، وإذا لم يرضوا بتركها ؛ فالحجة في قسمتها قائمة بما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قسمته خيبر" (4) .
المسلك السابع : المعاملة بنقيض القصد :
والفقيه قد يحكم على الفعل أو التصرف أو يفتي بناءً على النظر المقاصدي في المكلّف ، بمعنى : أنه يجتهد في التفتيش عن مقصود المكلّف في تصرّفه وفعله ، فإنّ المكلّف قد يلجأ إلى فعلٍ يتوسّل به إلى مقصوده ، ولأجل ذلك يرتكب المحرّم ويتخذ ما لم يشرعه الله من وسائل وأسباب ليحقق مقصوده الفاسد .
فمثل هذا يجب أن يعامل بنقيض قصده ، إذا ظهر للمجتهد أو المفتي قصده الفاسد .
والذي يعامل بنقيض القصد من المكلّفين على نوعين:
__________
(1) سورة الحشر، الآيات (8-10).
(2) سورة الأنفال، الآية (41).
(3) راجع: الفكر السامي، للحجوي، 2/ 293–294. والجامع لأحكام القرآن: القرطبي، 18/22– 23.
(4) السنن الكبرى للبيهقي، 6/318.(1/21)
النوع الأول: مَنْ يتخذ وسيلة مباحة يتسبب بها إلى مقصود محرّم. فتحرّم عليه الوسيلة ويحظر عليه هذا التسبّب ، كمن يعقد النكاح وهو يقصد به التحليل ، أو يعقد البيع وهو يقصد الرّبا ، أو يخالع قاصداً به الحنث ، ونحو ذلك (1) .
فهذا يحرّم عليه كل ذلك معاملة له بنقيض قصده .
والنوع الثاني: مَنْ يتسبّب بفعل محرّم أو وسيلة غير مشروعة يقصد به ما يترتّب على السبب مما يعود عليه بالمصلحة ضمناً ، فهذا يمنع من توابع السبب معاملة بنقيض قصده ، ومن ذلك :
[1] لو قتل وارث مورّثه ليحصل له الميراث ، فإنه يحرم من الميراث، معاملة بنقيض قصده .
[2] ولو قتل الموصَىَ له الموصِي ليحصل له ما وصَّى به ، فإنه يحرم من الوصية ، معاملة بنقيض القصد .
[3] وإذا أخّر المكاتب الذي له قدرة على الأداء ليدوم له النظر إلى سيّدته ،لم يجز له ذلك ، لأنه منع واجباً عليه ليبقى له ما يحرم عليه إذا أداه (2) .
[4] والفار من الميراث فطلّق امرأته في مرض موته ليحرمها من ميراثه ، فإنه يردّ عليه قصده ، ما ظهر هذا القصد السيئ ، معاملة بنقيض قصده ، فتورَّث ما دامت في العدة (3) .
وقد روي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه ورّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف حين بتّ في طلاقها في مرضه الذي مات فيه ، وقال : "ما اتهمته ، ولكن أردت السنة" (4) .
__________
(1) انظر: أعلام الموقعين، لابن القيم، مصدر سابق، 3/136.
(2) انظر: الموافقات: للشاطبي، 1/232ـ233، والوجيز في قواعد الفقه الكلية: د. محمد صدقي البورنو، ص 278، وأشباه السيوطي، ص 152ـ153.
(3) انظر: حاشية ابن عابدين، 2/520، الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي، 7/453، ومحاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء: علي الخفيف، ص 231.
(4) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص 255، وفقه السنة: للسيد سابق، 2/238، ومحاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، الموضع السابق، والفقه الإسلامي وأدلته الموضع السابق.(1/22)
وروي أنَّ عثمان - رضي الله عنه - طلّق امرأته أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري وهو محاصر في داره ، فلما قُتل جاءت إلى عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأخبرته بذلك، فقضى لها عليٌّ بميراثها منه (1) .
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سئل في الذي يطلّق امرأته وهو مريض ، فقال : "ترثه في العدة ويرثها" (2) .
[5] ومن هذا الباب أيضاً نكاح المريض في مرض موته ، فقد رأى المالكية أنه يفسخ قبل الدخول وبعده ، ما ظهر قصد إدخال وارث إلى نسائه ، لأنّ في ذلك إضراراً بالورثة (3) .
والجمهور على صحة هذا النكاح (4) .
__________
(1) راجع: فقه السُّنَّة الموضع السابق.
(2) مسند الفاروق، لابن كثير، 1/415ـ416.
(3) يراجع: الشرح الصغير للدردير، 2/426ـ427.
(4) يراجع: الهداية، 7/ 403، الأم: للشافعي، 4/103، والمغني: لابن قدامة، 6/150، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد: لابن رشد، 3/ 84.(1/23)
ويقول في ذلك ابن رشد ـ رحمه الله تعالى ـ كلاماً ينمّ عن فقه مقاصدي عميق، ونظر مصلحي دقيق ، فيقول ـ رحمه الله تعالى ـ بعد عرض الأقوال وسبب خلاف الفقهاء : "ردّ جواز النكاح بإدخال وارث قياس مصلحي ، لا يجوز عند أكثر الفقهاء ، وكونه يوجب مصالح لم يعتبرها الشرع إلاّ في جنس بعيد من الجنس الذي يرام فيه إثبات الحكم بالمصلحة ، حتى إنّ قوماً رأوا أن القول بهذا القول شرع زائد ، وإعمال هذا القياس يوهن ما في الشرع من التوقيف ، وأنه لا تجوز الزيادة فيه ، كما لا يجوز النقصان، والتوقف أيضاً عن اعتبار المصالح تطرق للناس أن يتسرعوا لعدم السنن التي في ذلك الجنس إلى الظلم ، فلنفوّض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها ، وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقاً إلى الظلم، ووجه عمل الفاضل العالم في ذلك أن ينظر إلى شواهد الحال، فإن دلّت الدلائل على أنه قصد بالنكاح خيراً، لا يمنع النكاح، وإنْ دلّت على أنه قصد الإضرار بورثته؛ منع من ذلك ... " اهـ المطلوب من كلامه (1) .
فهو ـ رحمه الله تعالى ـ يفوّض أمثال هذه الوقائع والأحداث إلى العلماء بحكمة الشرائع ـ وهي المقاصد ـ ، على أن ينظروا إلى شواهد الأحوال ، فما ظهر القصد السيّئ عاملوا بنقيضه ، وما ظهر خلاف ذلك أمضوا العقود . وهذا من كمال الفقه وصواب النظر ، والله أعلم .
المسلك الثامن : تعدية الاستنباط بالنظر المقصدي :
فلعل فقيهاً بتوفيق الله عز وجل ينظر في نصّ شرعي فيقف على مقصود الخطاب منه ، فيقتدر على تعدّي المقصود مواضع النصّ ، فيلحق به ما كان شبهه ، وما كان أولى منه ، وما ذلك إلاّ بالنظر المقصدي للخطاب.
__________
(1) بداية المجتهد، 3/84ـ85.(1/24)
فالذي قرأ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهنّ) (1) يعرف أن مقصود الشارع من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها أن يكون ذلك سبباً يؤدّي إلى قطع الأرحام ، "فيتعدّى استنباطه ـ بهذا النظر ـ إلى تحريم كل ما يوقع القطيعة والوحشة بين المسلمين وإفساد ما بينهم، مثل السعي على بعضهم في مناصب بعض ووظيفته، من غير موجب شرعي" (2) .
المسلك التاسع : الترجيح بالمقاصد :
كثير من إجراءات الفقهاء في الترجيح بين المتعارضين ، سواء في النصوص التي يظهر التعارض بينها ، أو في الأقيسة التي تتعارض ، أو الاستدلالات ؛ يراعي العلماء في ترجيحاتهم موافقة المقصود الشرعي في المسألة التي وقع التعارض في شأنها ، وهذا الاتجاه يظهر جلياً ويتبيّن بوضوح حين نستعرض بعض حالات الترجيح ومذاهب العلماء فيها، فيما يلي ـ بإذن الله تعالى ـ.
الحالة الأولى : إذا تعارض دليلان ، أحدهما يقتضي التحريم ، والآخر يقتضي الإباحة ، فإن العلماء كانوا في دفع هذا التعارض على ثلاثة مذاهب :
الأول: ترجيح مقتضي التحريم مطلقاً ، وهو مذهب الجمهور .
والثاني: ترجيح مقتضي الإباحة مطلقاً، وهو اختيار القاضي عبد الوهاب وأبي الفرج من المالكية ، ورجّحه الآمدي من وجه .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، برقم 5108 و5109، ومسلم في النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، 9/193ـ196 بشرح النووي، من غير الزيادة الأخيرة: (فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهنَّ) وقد ذكر هذه الزيادة الزركشي في: البحر المحيط، 6/ 233.
(2) انظر: البحر المحيط: للزركشي، 6/233.(1/25)
والثالث: أنه بتعارضهما يتساوى الحاظر والمبيح ، فيتساقطان، وهو قول القاضي الباقلاني والغزالي وعيسى بن أبان وأبي هاشم (1) .
ووجه تقديم الحاظر على المبيح ، أن في ارتكاب المحظور جلباً للمفاسد على النفس ، وليس في ترك المبيح إثمٌ يجلب المفسدة . وهذا نظر مقصدي .
ووجه ترجيح المبيح على الحاظر ما ذكره ابن الحاجب والآمدي
ـ رحمهما الله تعالى ـ أنه يلزم من تقديم الحظر فوات مقصود الإباحة، بخلاف ترجيح المبيح ، فإنه لا يلزم فوات مقصود التحريم ، لأن الإباحة تقتضي الترك والفعل ، فقد يترك المباح فلا يكون في ذلك فوات لمقصود التحريم إلى الترك (2) .
وكما قال الآمدي: "إنَّا لو عملنا بما مقتضاه الإباحة ؛ فقد لا يلزم منه فوات مقصود الحظر ، لأن الغالب أنه إذا كان حراماً ؛ فلا بُدَّ أن تكون المفسدة ظاهرة ، وعند ذلك ؛ فالغالب أن المكلّف يكون عالماً بها ، وقادراً على دفعها ، لعلمه بعدم لزوم المحظور من ترك المباح ، ولأن المباح مستفاد من التخيير قطعاً ، بخلاف استفادة الحرمة من النهي ، لتردد النهي بين الحرمة والكراهة ، فكان مقتضى الإباحة أوْلَى" (3) .
وهذا أيضاً نظر مقصدي ، فكلا المذهبين رجّح باعتبار المقصد الشرعي .
غير أنَّ رأياً بالتفصيل في هذه الحالة نراه أوْلَى وأصحّ ، وهو أنْ يرجّح مقتضى التحريم في غير العاديّات ـ من العبادات والعقائد والأبضاع ـ لأن التحريم فيه أكثر اعتناءً للشارع ، وأكثر اعتباراً له ، وبناء الأصول على التحريم فيها ، فيُعلم أن قصد الشارع فيها هو تقديم المحرّم والحاظر على المبيح .
__________
(1) راجع المذاهب في: الإحكام: للآمدي، 3/478ـ 479، نهاية السول: للإسنوي، 4/502، منتهى الوصول والأمل: لابن الحاجب، ص 225، والبحر المحيط: للزركشي، 6/170ـ171، إحكام الفصول: للباجي، 2/672، وتنقيح الفصول،
ص 407.
(2) منتهى الوصول والأمل: لابن الحاجب، ص 225، والإحكام: للآمدي، 3/ 479.
(3) الإحكام، 3/ 479.(1/26)
أما في العاديات والأشياء ؛ فالأولى ترجيح مقتضى الإباحة ، لأن اعتناء الشارع في إباحتها كان أكثر ، والاستقراء دلّ على أن الشرع يقصد التوسعة على المكلّفين في أمور العادات والأشياء ، من غير العبادات والعقائد والأبضاع ، إذ الأصل أنه تعالى خلق الأشياء للانتفاع بها والاستمتاع ، كما قال تعالى (1) . ولأنه عزّ وجلّ أنكر على من يبتغي تحريم الأشياء والعاديّات، فقال جلّ وعلا
(2) . وغير ذلك من مواضع إظهار أن الكثير المطلق هو إباحة الأشياء والعادات.
لذلك إذا تعارض دليلان في الأبضاع ـ مثلاً ـ أحدهما يقتضي الإباحة ، والآخر يقتضي التحريم ، فالترجيح لمقتضي التحريم ، لأنه الموافق لمقصود الشارع في التحوّط لحفظ الأعراض ، ومنع كل ما يؤدي إلى انتهاكها ، ولذلك قال الفقهاء : "الأصل في الأبضاع التحريم" (3) .
ومن ذلك تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله رجل: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال: (لتشدّ عليها إزارها ، ثمّ لك بأعلاها) (4) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : (اصنعوا كل شيء إلاّ النكاح) (5) .
__________
(1) سورة البقرة، الآية (29).
(2) سورة الأعراف، الآية (32).
(3) أشباه السيوطي، ص 61، وأشباه ابن نجيم، ص 67.
(4) أخرجه الدارمي في الطهارة، باب مباشرة الحائض، برقم 1022، 1/255. ويشهد له ما أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب مباشرة الرجل الحائض فوق الإزار، برقم 677_ 679 عن ميمونة قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار، وهنَّ حُيَّض).
(5) أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب في قوله [البقرة: 222]، برقم 692،
3/202ـ 203، بشرح النووي.(1/27)
فالحديث الأول يقتضي تحريم ما بين السرّة والركبة ، والحديث الثاني يبيح ما بين السرّة والركبة إلاّ الوطء ، فهنا الأوْلَى تحريم ما بين السرّة والركبة، لموافقته الأصل في تحريم الأبضاع ، وهو الذي عليه الجمهور من الفقهاء على أصلهم في تقديم الحاظر على المبيح (1) .
الحالة الثانية: إذا تعارض ما يكون حكم أحدهما أخفّ من الآخر، فهل يقدّم ما يقتضي التخفيف على ما يقتضي خلافه ، أمّ يقدّم الأثقل على الأخف ؟ . ذهب العلماء إلى القولين.
ووجه من قدّم الأخف على الأثقل : أن الشريعة مبناها على التخفيف على ما قال الله تعالى (2) وعلى ما قال سبحانه : (3) وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنّة (4) .
وهذا على ما ترى ترجيح بنظر مقصدي .
أما وجه من قدّم الأثقل على الأخفّ فوجهه : أن الأحكام الشرعية إنما يُقصَدُ بها مصالح المكلّفين ، والمصلحة في الفعل الأشقّ أعظم منها في الفعل الأخفّ ، ولأنّ الغالب على الظنّ إنما هو تأخّر الأثقل عن الأخف ، نظراً إلى المألوف من أحوال العقلاء ، فإنّ من قَصَدَ تحصيل مقصود بفعل من الأفعال ؛ ولم يحصل به ؛ لا يقصد تحصيله بما هو أخف منه ، بل يقصد تحصيله بما هو أعلى منه ، وزيادة ثقله تدلّ على تأكّد المقصود منه على مقصود الأخفّ (5) .
وهذا أيضاً ترجيح باعتبار المقاصد .
__________
(1) وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم، وذهب الثوري وداود الظاهري إلى أنَّه يجوز له مباشرتها فيما بين السرة والركبة إلاّ الوطء. راجع المذاهب في: مغني المحتاج، 1/110، وشرح النووي لصحيح مسلم،
3/195ـ196، وبداية المجتهد، 1/148ـ149.
(2) سورة البقرة، الآية (185).
(3) سورة الحج، الآية (78).
(4) انظر: الإحكام للآمدي، 3/482.
(5) انظر: الإحكام للآمدي نفسه.(1/28)
الحالة الثالثة: أن يتعارض دليلان يكون أحدهما قد قُصد به بيان الحكم المختلف فيه ، والآخر لم يظهر فيه قصد بيان الحكم ، فيقدّم الذي قُصِد به البيان للحكم، لأنه كما قال الآمدي: "يكون أمسّ بالمقصود" (1) .
ومن ذلك : التعارض بين قوله تعالى (2) وقوله عزّ وجلّ (3) . فالآية الأولى قُصِدَ بها بيان تحريم الجمع بين الأختين في الوطء ، فتقدّم على الثانية حيث لم يُقصد بها بيان الجمع (4) .
ولا يخفى أن الترجيح هنا باعتبار المقصد .
الحالة الرابعة: في الترجيح بين الأقيسة بالنظر إلى عللها ووجه تعليلها ، وهذه الوجوه على ما يلي (5) :
الوجه الأول: أن تكون علّة أحد القياسين مناسبة ، وعلة الآخر شبهية، فما علته مناسبة أوْلَى ، لزيادة مصلحتها وبعدها عن الخلاف .
الوجه الثانِي: أن يكون المقصود من إحدى العلّتين من المقاصد الضرورية ، والمقصود من العلة الأخرى غير ضروريّ ، فما مقصوده من الضرورية أوْلَى ، لزيادة مصلحته وغلبة الظن به ، ولقطعيته وعمومه .
الوجه الثالث: أن يكون مقصود إحدى العلّتين من الحاجيات ، ومقصود الأخرى من التحسينيات والتزيينيات ، فما مقصوده من باب الحاجيات أوْلَى لتعلّق الحاجة به دون مقابله .
الوجه الرابع: أن يكون مقصود إحدى العلّتين من مكمِّلات المصالح الضرورية ، ومقصود الأخرى من أصول الحاجيات ، فما مقصوده من مكمّلات الضروريات ، وإنْ كان تابعاً لها ومقابله أصلٌ في نفسه ؛ يكون أوْلَى .
__________
(1) الإحكام نفسه، 3/485.
(2) سورة النساء، الآية (23).
(3) سورة النساء، الآية (3).
(4) الإحكام للآمدي، 3/485.
(5) راجع في ذلك: الإحكام: للآمدي، 3/493ـ494، الإبهاج في شرح المنهاج: للسبكي، 3/241ـ242، أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها: د. بدران أبو العينين، ص 260ـ264، التعارض والترجيح: د. محمد إبراهيم الحفناوي، ص 388ـ 389.(1/29)
الوجه الخامس: أن يكون مقصود إحدى العلّتين حفظ أصل الدين، ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية ، فما كان مقصوده حفظ أصل الدين أوْلَى.
وهكذا يمكن لمن طلب الاجتهاد بناءً على اعتبار المقاصد وبرعايتها إذا سلك هذه المسالك الواضحة والمناهج الراجحة ، يقيس عليها غيرها من المسالك ويستنبط باستقراء مسالك الاجتهاد وأدوات الاستنباط لدى سادتنا الفقهاء خلالَ جهادهم العلمي الطويل يستظلّ تحت شجر أصولهم وقواعدهم المثمر الظليل ، يمتّع ناظريه في بساتين فتاواهم التي اخضرّت بها الحياة الإسلامية ، وأينعت بكل خيْرٍ ونفع وصلاح للأُمَّة ـ رحمهم الله تعالى وألحقنا بالصالحين منهم ـ.
وخاتمة القول:
إنّه لا بُدَّ من استصحاب المقاصد والنظر المقاصدي على الدوام عند محاولات الاجتهاد النظري الاستنباطي أو العملي التطبيقي حين تنزيل الأحكام في محالها، وإلاّ فلا تُضْمن إصابة الاستنباط ولا سلامة التنزيل في محل الحكم. ولله الحمد والمنّة.(1/30)