الولاية على الغير(1)
للدكتور : هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
من عظيم حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بخلقه ، أنّه خلق الإنسان أطوارًا وأركبه طباقًا ، ونقله من حالٍ إلى حال . فهو يخرج من بطن أمه ضعيفًا ، نحيفًا ، وهن القوى ، ثم يشب قليلاً حتى يكون صغيرًا ، ثم حدثًا ، ثم مراهقًا ، ثم شابًا ، كما قال تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوةٍ } [ الروم : 54] .
وكما ابتدأ ضعيفًا فإن الله يصيّره من بعد قوّته ضعيفًا هرمًا ، حتى لا يكاد يدبّر أموره ، ولا يلبي شئونه ، وكما قال أسامة بن منقذ وقد أعياه حمل القلم بعد ما شاخ :
فأعجب لضعف يدي عن حملها قلمًا من بعد حمل القنا في لبّة الأسد
وكذلك فإن الله يبتلي بعض عباده بأنواع من العاهات ، كالجنون ونحوه ، مما يفقد الإنسان تمييزه ، ولا ريب أن هؤلاء ليسوا بأهلٍ للتصرُّف .
فمن رحمة الله تعالى أن اعتبرت الشريعة الإسلامية الولاية على الغير في حال عجزه عن النظر في مصالحه .
ونتناول في هذه الدراسة الولاية الجبريّة على الغير في الأمور الماليّة وذلك من خلال ما سيأتيك تباعًا من تمهيدٍ وفصولٍ ثلاثة . وفق الله الجميع لهداه .
التمهيد : تعريف الولاية :
أولاً : الولاية في اللغة :
الولاية - بكسر الواو - مصدر وَلِي ، ووَلَي(2) - والثانية قليلة الاستعمال(3) - يلي وهي تعني القيام على الغير وتدبيره(4) .
وتكون الولاية بمعنى القرابة والنّصرة ، والمحبة(5) . فتأتي الواو مفتوحة ومكسورة(6) .
__________
(1) القاضي بمحكمة مكة العامة .
(2) شذا العرف في فن الصرف ص ( 69 ) ، وفيه أيضًا أن الولاية من الحرف ؛ لذا كان قياس مصدره فعالة بكسر الفاء .
(3) المصباح المنير ص ( 258 ) ( ولي ) .
(4) لسان العرب ( 15/4070 ) ، معجم مقاييس اللغة ( 6/141 ) ( ولي ) .
(5) المرجعان السابقان .
(6) المصباح المنير ص ( 258 ) ( ولي ).(1/1)
وكلا المعنيين مراعى في الولاية : لأنّها تحتاج من الوليّ إلى التدبير والعمل .. كما تحتاج إلى نصرة المولى عليه ، والنّسب دَعَامَة قويّة من دعائم تحقيق هذه النصرة(1) .
وإن كان الأوّل هو المقصود بهذا البحث .
ثانيًا : الولاية في الاصطلاح :
هي حَقُّ تنفيذ القول على الغير ، شاء الغير أو أبى(2) . فيكون الوليّ من له حق القول على الغير .
وقد انتقد الشيخ مصطفى الزرقا هذا التعريف ، إذ قال : ( وهذا التعريف غير سديد ؛ لأنه يعرف الولاية ببيان حكمها . لا بشرح حقيقتها ) أ.هـ . (3)
واختار أن يكون التعريف هو : قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر في تدبير شئونه الشخصية والمالية(4) .
والحقيقة أن التعريف ببيان الحكم أو اللوازم الخارجية - وهو الذي يسمّيه علماء المنطق بالحد الرسمي(5) - نوع معتبر من أنواع المعرفات ، فلا ضير في استعماله .
الفصل الأول : من تثبت عليه الولاية :
تثبت الولاية الصغير ، والمجنون – ومن في حكمه – والمملوك ، والسفيه ، فهؤلاء تثبت عليهم الولاية . ونفاذ تصرّفاتهم خاضع لعدة اعتبارات . وهناك من لا يولي عليه لكنه يُمنع من التصرف بنوع ، أو أنواع من التصرفات كالمريض مرض الموت ، والمفلس ، وغيرهما ، وهذا القسم الأخير غير داخل في بحثنا إذ أنّه لا يولي عليهم .
وسنستعرض الآن هذه الأصناف الأربعة :
أولاً : الصغير ..
الصغير في اللغة : ضد الكبير(6) .
__________
(1) الولاية على النفس للدكتور حسن علي الشاذلي ص ( 4 ) .
(2) التعريفات للجرجاني ؛ القاموس الفقهي لغة واصطلاحا لسعدي أبو جيب ص ( 390 ) ؛ معجم لة الفقهاء ص ( 510 ) .
(3) المدخل الفقهي العام ( 2/845 ) .
(4) المدخل الفقهي العام ( 2/843 ) .
(5) شرح الأخضري على السلم ، ص ( 28 ) ؛ معايير الفكر د. محمد الفرفور ص ( 54 ) ؛ ضوابط المعرفة للميداني ص ( 58 ) .
(6) لسان العرب لابن منظور ( 4/458 ) ؛ القاموس المحيط ص ( 545 ) ، ( الصغر ) .(1/2)
وهو في عرف الفقهاء : من لم يبلغ من ذكرٍ وأنثى(1) .
والصغير تثبت عليه الولاية باتفاق أهل العلم(2) ؛ لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] .
فلمّا بين أنه لا يجوز دفع المال قبل بلوغ النكاح وإيناس الرشد دلّ ذلك على ثبوت الوليّ لغير البالغ(3) .
ثانيًا : المجنون ...
المجنون في اللغة من أصابه الجنون .
والجنون استتار العقل . واختلاطه ، وفساده(4) .
وهو في عرف الفقهاء : زوال العقل وفساده(5) .
وقد اتفق الفقهاء على إثبات الولاية على المجنون(6) .
وفي حكم المجنون المعتوه ، ومن أصابه الخرف لكبر سنه .
فإنّ العته نوع من الجنون ؛ إذ هو زوال العقل(7) .
إلاّ أنّ الحنفية فرّقوا بينهما فجعلوا العته نوعًا مختلفًا ؛ فهو عندهم من كان قليل الفهم ، مختلط الكلام ، فاسد التدبير ، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون(8) .
__________
(1) العناية شرح الهداية ( 8/201 ) . بداية المجتهد ( 2/211 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/166 ) ؛ كشاف القناع ( 3/442 ) .
(2) المراجع السابقة وانظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 5/29 ) .
(3) النظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 5/28 ) .
(4) القاموس المحيط ص ( 1532 ) ( جنه ) ، المصباح المنير ص ( 43 ) ( جنن ) ؛ تهذيب الأسماء واللغات ( 3/52 ) .
(5) التعريفات للجرجاني ص ( 82 ) ؛ القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب ص ( 69 ) .
(6) تكملة فتح القدير شرح الهداية ( 8/186 ) ؛ التاج والإكليل ( 5/57 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/165 ) ؛ كشاف القناع ( 3/446 ) ؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 5/29 ) .
(7) تهذيب الأسماء واللغات ( 3/190 ) الدر النقي ( 3/619 ) .
(8) حاشية ابن عابدين ( 6/144 ) .(1/3)
إلاّ أنه على هذا الاعتبار أيضًا فإنّ المعتوه تثبت عليه الولاية ؛ إذ أن الحنفية يلحقونه بالصبي المميّز(1) .
ثالثًا المملوك ...
المملوك تثبت عليه الولاية باتفاق(2) ؛ وذلك لعجزه ونقصان رتبته حكمًا ؛ قال تعالى : { ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء } [ النحل : 75 ] .
رابعًا السَّفِيْه ...
يقال سَفِه فلان سَفَاهةً فهو سَفِيه(3) .
والسَّفَه نقص في العقل ، وهو ضد الحلم(4) .
وفي الاصطلاح : خفّةٌ تبعث على العمل في المال بخلاف مقتضى العقل والشرع(5) .
وقد اختلف الفقهاء في السَّفيه هل يحجر عليه - مما يترتب عليه إقامة ولي عليه - على قولين :
القول الأول : لا يحجر على الحر البالغ . وإن كان سفيهًا . وإنّما يوقف تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة ، فإذا بلغها سلم إليه ماله . وإن كان مبذرًا .
وبه قال أبو حنيفة(6) .
القول الثاني : يحجر على السّفيه مطلقًا . وبه قاله أبو يوسف ومحمد بن الحسن(7) ، وهو مذهب المالكية(8) والشافعية(9) والحنابلة(10) .
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول بعدّة أدلة منها ما يلي :
__________
(1) المبسوط ( 25/21 ) ؛ الكفاية شرح الهداية ( 8/187 ) .
(2) العناية شرح الهداية ( 8/186 ) ؛ قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص ( 350 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/165 ) ؛ معونة أولي النهى ( 4/567 ).
(3) المصباح المنير ص ( 106 ) ( سفه ) .
(4) معجم مقاييس اللغة ( 3/79 ) ، ( سفه ) ؛ القاموس المحيط ( 1609 ) ( سفه ) .
(5) التعريفات للجرجاني ص ( 125 ) ؛ القاموس الفقهي ص ( 174 ) .
(6) الهداية ( 8/191 ) ؛ بدائع الصنائع ( 6/172 ) .
(7) الهداية ( 8/191 ) ؛ بدائع الصنائع ( 6/172 ) .
(8) المدونة ( 5/220 ) ؛ التاج والإكليل ( 5/85 ) .
(9) روضة الطالبين ( 3/465 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/170 ) .
(10) المغني لابن قدامة ( 6/609 ) ؛ كشاف القناع ( 3/452 ) .(1/4)
عمومات الأدلة في البيع والهبة والإقرار من نحو قوله تعالى : { وأحل الله البيع } [ القرة : 282 ] . فقد شرع الله هذه التصرفات شرعًا عامًا والحجر على السفيه يناقض هذه الأدلة(1) .
يمكن أن يناقش : بأن عمومات النصوص خص منها المجنون والصغير بالاتفاق ، فليكن السفيه مخصوصًا كذلك بالأدلة الدالة على الحجر عليه .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً ذكر للنبي أنه يخدع في البيع فقال إذا بايعت فقل : لا خلابة(2) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً كان يبايع وكان في عقدته(3) ضعف ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع ، فقال يا رسول الله إنّي لا أصبر عن البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت غير تارك للبيع فقل هاء وهاء ولا خلابة(4)(5) .
ففي الحديثين دليل على أنّه لا يحجر على الكبير ولو تبين سفهه(6) .
__________
(1) بدائع الصنائع ( 6/174 ) .
(2) صحيح البخاري كتاب البيوع ، باب ما يكره من الخداع في البيع رقم ( 2117 ) ، فتح الباري ( 4/395 ) ، صحيح مسلم كتاب البيوع باب من يخدع في البيع رقم ( 1533 ) ( 3/1165 ) .
(3) أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه . لسان العرب ( 3/299 ) ( عقد ) .
(4) بكسر المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة . فتح الباري ( 4/396 ) .
(5) سنن أبي داود كتاب البيوع باب في الرجل يقول لا خلابة رقم ( 3496 ) ، عون المعبود ( 9/278 ) ؛ سنن الترمذي أبواب البيوع باب ما جاء في من يخدع في البيع رقم ( 1268 ) ؛ تحفة الأحوذي ( 4/455 ) ، سنن النسائي الصغرى ، كتاب البيوع باب الخديعة في البيع رقم ( 4485 ) ( 7/252 ) ، سنن ابن ماجة كتاب الأحكام باب الحجر على من يفسد ماله رقم ( 2354 ) ( 2/788 ) . من طريق سعيد عن قتادة عنه به . وقد صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم ( 411 ) ( 1/134 ) .
(6) فتح الباري ( 4/396 ) .(1/5)
نوقش : بأن عدم الحجر عليه لا يدل على منع الحجر على السفيه ، لأنه لو كان الحجر عليه لا يصح لأنكر عليهم طلبهم الحجر عليه(1) .
3- …أن في الحجر عليه سلبٌ لولايته ، وسلبها إهدار لآدميته وإلحاق بالبهائم وهو أشد ضررًا من التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى . فلا يحجر عليه ولو كان مبذرًا منعًا للضرر الأعلى(2) .
يمكن أن يناقش : بأن الحجر عليه لحظ نفسه حفظًا لأمواله ، وإلحاقه بالبهائم منتقضٌ بالعبد والصغير والمجنون فإنهم يحجر عليه مع آدميتهم .
أن منع المال منه يُرادُ منه التأديب ، ومنع المال منه بعد بلوغ خمسٍ وعشرين لا فائدة منه إذ لا يتأدب بعد هذا السن غالبًا ، إذ قد يصير جَدًّا في مثل هذا السن(3) .
نوقش : أنّ ما ذكر من كونه جدًّا مُتَصَوَّرٌ فيمن له دون هذا السن فإن المرأة تكون
جَدّةً لإحدى وعشرين سنَة(4) فظهر بهذا عدم صحة تعليق الحكم بهذا الوصف وهو بلوغ خمس وعشرين سنة .
أن السَّفيه حرٌ بالغ عاقل مُكَلَّف ، فلا يحجر عليه كالرشيد(5) .
نوقش : بأن القياس منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة فإنه بالغ حر عاقل مكلف ويمنع من ماله لسفهه اتفاقًا . وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها (6).
واستدل أصحاب القول الثاني بعدّة أدلة منها ما يلي :
1- …قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 60 ] .
فقد علّق الدفع على شرطين ، والحكم المعلّق على شرطين لا يثبت بدونهما فلا يدفع المال إلا للرشيد البالغ(7) .
قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا } [ النساء : 5 ] .
__________
(1) المرجع السابق .
(2) الهداية ( 8/193 ) .
(3) الهداية ( 8/194 )
(4) المغني لابن قدامة ( 6/596 ) .
(5) الهداية ( 8/193 ) .
(6) المغني لابن قدامة ( 6/596 ) .
(7) المرجع السابق .(1/6)
فقد بين أنّ السفيه لا يجوز دفع ماله إليه(1) ، فدلّ على أن سبب الحجر هو السَّفَه(2) .
نوقش :
بأن المراد بالسفهاء النساء والأولاد الصغار(3) .
كما نوقش بأن المراد لا تؤتوهم مال أنفسكم ؛ لأنّ الله سبحانه أضاف المال إلى المعطي(4) .
وأجيب : بأن القول بأنّ السفهاء النساء غير صحيح ؛ فإنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات(5) .
كما أجيب بأنّ إضافة المال للمخاطبين لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم مع كونها للسفهاء(6) .
قوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يُمِلَّ هو فليملل وليه بالعدل } [ البقرة : 282 ] .
……فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف ، وكان معنى الضعيف راجعًا إلى الصغير ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ ؛ لأن السفه اسم ذمٍّ ولا يذم الإنسان على مالم يكتسبه(7) .
روى عروة بن الزبير أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع بيعًا ، فقال علي رضي الله عنه لآتينَّ عثمان ليحجُر عليك . فأتى عبد الله بن جعفر الزُّبيرَ ، فقال قد ابتعت بيعًا ، وإنّ عليًا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليَّ . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فقال عثمان : كيف أحجُر على رجلٍ شريكه الزبير(8) .
…وهذه قصة يشتهر مثلها ، ولم يخالفها أحدٌ في عصرهم ، فتكون إجماعًا(9) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن ( 5/27 ) .
(2) بداية المجتهد ( 2/210 ) .
(3) بدائع الصنائع ( 6/174 ) .
(4) المرجع السابق .
(5) الجامع لأحكام القرآن ( 5/28 ) .
(6) الجامع لأحكام القرآن ( 5/29 ) .
(7) المغني لابن قدامة ( 6/596 ) .
(8) أخرجه الشافعي في مسنده رقم ( 286 ) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( 6/61 ) .
(9) المغني لابن قدامة ( 6/610 ) .(1/7)
أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير وعدم الرشد الذي يوجد فيهم غالبًا فوجب أن يكون الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرًا(1) .
الترجيح :
بعد تأمُّلِ ما سبق يظهر لي رجحان القول الثاني لشهرة الحجر على السَّفيه عند الصحابة كما في حديث لا خلابة ، وقصة عبد الله بن جعفر ، مع ما ورد على أدلة القول الأوّل من مناقشات ، والله أعلم .
الفصل الثاني : الأحق بالولاية
يُقَسِّم فقهاء المذهب الحنفي الولاية إلى قسمين : ولاية على النفس ، وولاية على المال(2) والولاية على النفس هي الإشراف على شئون القاصر الشخصية من صيانة ، وحفظ ، وتأديب ، وتعليم ، وتزويج ، وتطبيب(3) .
والولاية على المال هي الإشراف على شئون القاصر المالية من حفظ المال ، وإبرام العقود ، وسائر التصرفات المتعلِّقَة بالمال(4) .
أما الجمهور فإنَّ الوليّ على النفس عندهم هو الولي على المال . ويظهر ذلك من خلال تأمل ما يلي :
أنني لم أجد منهم من قَسَّم الولاية إلى قسمين كما فعل فقهاء الحنفية .
أنّ الولي على المال عندهم(5) هو الذي يملك حق الإجبار على التزويج ، كلّ على حسب ما اختاره من ترتيب الأولياء . وهذا يعني أن الوليَّ على النفس هو الولي على المال .
__________
(1) بداية المجتهد ( 2/210 ) .
(2) العناية للبابرتي ( 3/185 ) ، الدر المختار ( 2/295 ) ، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ( 186 ) .
(3) النسب وآثاره لمحمد يوسف موسى ص ( 78 ) ، شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد زيد الأبياني ( 1/59 ) ، المدخل الفقهي العام ( 2/818 ) ، الفقه الإسلامي وأدلته ( 7/746 ، 747 ) .
(4) المراجع السابقة .
(5) الشرح الصغير للدردير ( 3/389 ) ؛ الحواشي على مختصر خليل ( 5/297 ) ؛ المهذب ( 1/328 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/173 ) ؛ المغني لابن قدامة ( 6/612 ) ؛ كشاف القناع ( 3/434 ) .(1/8)
أنّ المالكية قسَّموا الحجر إلى قسمين : حجرٌ بالنسبة للنفس ، وحجر بالنسبة للمال .
وعنوا بالحجر على النفس تدبير نفس الصبيّ وصيانته وجعلوا الوليّ فيهما واحدًا(1) .
وأن الحنابلة جعلوا الولي على المال في باب الحجر هو الولي على النفس ، الذي من حقّه الإذن في الإجراء الطبي للقاصر ، فقد قال ابن قدامة(2) - رحمه الله - : ( وإن قطع طرفًا من إنسان فيه أكلة ، أو سلعة ، بإذنه ، وهو كبير عاقل فلا ضمان عليه ، .. إن كان من قُطِعَت منه صبيًّا أو مجنونًا . وقطعها أجنبيٌّ ، فعليه القصاص ؛ لأنّه لا ولاية له عليه ، وإن قطعها وليّه ، وهو الأب ، أو وصيُّه ، أو الحاكم , أو أمينه المتولي عليه ، فلا ضمان عليه .. ) أ.هـ . (3)
وقد قال قبل ذلك في باب الحجر : ( ولا ينظر في مال الصبي والمجنون ما داما في الحجر ، إلا الأب أو وصيّه بعده ، أو الحاكم عند عدمهما ) أ.هـ(4)
فبناء على ما سبق فقد اختلف الفقهاء في الأحقِّ بالولاية على أربعة أقوال :
القول الأول : أن الولاية تثبت للأب ، ثم لوصيّه ، ثم الحاكم ، وهو مذهب المالكية(5) ، والحنابلة(6) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( 3/293 ) .
(2) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ثم الدمشقي ، ولد سنة ( 541هـ ) أخذ عن عبد القادر الجيلاني وأبي الفتح بن المنى وغيرهم ، شيخ الحنابلة في وقته ، فقيه أصوليّ سلفي – له المغني والكافي والمقنع ولمعة الاعتقاد وروضة الناظر وغيرها ، أخذ عنه ابن أبي عمر المقدسي والمنذي وغيرهم توفي سنة ( 620هـ ) ؛ ذيل طبقات الحنابلة ( 2/133 ) ؛ رفع النقاب عن تراجم الأصحاب ص ( 235 ) .
(3) المغني لابن قدامة ( 12/528 ) .
(4) المغني لابن قدامة ( 6/612 ) .
(5) الخرشي على مختصر خليل ( 5/297 ) ، التاج والإكليل ( 5/69 ) .
(6) المغني ( 6/612 ) ؛ كشاف القناع ( 3/446 ) .(1/9)
القول الثاني : أنها بعد الأب للجد - أب الأب - ثم وصيّ من تأخر موته منهما ، ثم الحاكم ، وهو مذهب الشافعي(1) ، ورواية عن الإمام أحمد(2) .
القول الثالث : أنّ الولاية – على النفس – تكون للأقرب فالأقرب من العصبات بالنفس على ترتيبهم في الإرث ، والولاية على المال تكون للأب ، ثم وصيّه ثم الجد – أب الأب – ثم وصيه ، ثم القاضي . وهو مذهب الحنفية(3) .
القول الرابع : أنّ الولاية تثبت للأم بعد الأب والجد ، ثمّ تكون للأقرب من العصبات بالنفس ، وهو قول أبي سعيد الإصطخري(4)(5) من الشافعية ، ورواية عن أحمد(6) ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(7)(8) .
الأدلة :
استدل الفريق الأول بعدّة أدلة منها :
أنّ الولد موهوب لأبيه ؛ قال تعالى : { ووهبنا له يحيى } [ الأنبياء : 90 ] .
__________
(1) المهذب ( 1/328 ) ؛ روضة الطالبين ( 3/475 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/173 ) .
(2) الإنصاف ( 5/324 ) ؛ معونة أولي النهى ( 4/568 ) .
(3) المبسوط ( 4/219 ) ؛ فتح القدير لابن الهمام ( 3/175 ) ؛ العناية للبابرتي ( 6/258 ) .
(4) هو الحسن بن أحمد بن يزيد ولد سنة ( 244هـ ) أخذ عن سعدان بن نصر وعيسى بن جعفر الورّاق ، وعنه أخذ أبو الحسن الدارقطني وأبو حفص بن شاهين . كان زاهدًا متقلّلاً ولي القضاء . توفي سنة ( 328هـ ) . تهذيب الأسماء واللغات ( 2/519 ) .
(5) المهذب ( 1/328 ) ؛ روضة الطالبين ( 3/475 ) .
(6) الإنصاف ( 5/324 ) ؛ معونة أولي النهى ( 4/568 ) .
(7) الإنصاف ( 5/324 ) ؛ الاختيارات الفقهية ص ( 137 ) .
(8) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرّاني ، تقي الدين أبو العباس ، ولد سنة ( 661هـ ) أخذ عن ابن عبد الدائم وابن الصيرفي وخلق كثير ، صنّف تصانيف كثيرة ، أخذ عنه ابن القيم والمزي وغيرهم فقيه مفسر أصولي محدث سلفي توفي سنة ( 728هـ ) مقلعة دمشق معتقلاً بها . ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ( 2/403 ) .(1/10)
وقال زكريا : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] ، ولا
شك أن الموهوب وليّ على الهبة(1) .
أنّ الأب أكمل نظرًا . وأشد شفقة من غيره . وهذا يستلزم توليته على ولده(2) .
وأمّا تقديم الوصيّ بعد الأب : فلأنه نائب الأب ، فأشبه وكيله في الحياة (3) .
وأمّا الحاكم ؛ فلأنه ولي من لا ولي له(4) ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا : (( السلطان وليُّ من لا ولي له )) (5) .
واستدل الفريق الثاني بما استدل به الفريق الأول .
__________
(1) المغني ( 9/356 ) .
(2) المرجع السابق ؛ كشاف القناع ( 3/446 ) .
(3) الكافي لابن قدامة ( 2/107 ) ؛ كشاف القناع ( 3/447 ) .
(4) المبدع شرح المقنع ( 4/336 ) .
(5) سنن أبي داود كتاب النكاح باب في الولي ( 2/229 ) برقم ( 2083 ) ؛ سنن الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي ( 3/407 ) برقم ( 1107 ) ؛ سنن ابن ماجه كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بوليّ ( 1/605 ) برقم ( 1879 ) ؛ ومسند أحمد ( 6/166 ) برقم ( 25313 ) ؛ المستدرك للحاكم كتاب النكاح ( 2/168 ) ؛ سنن الدارقطني كتاب النكاح ( 3/221 ) ؛ مسند الطيالسي برقم ( 1463 ) ؛ كلهم عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عنها به . وكلهم ثقات من رجال الشيخين إلا سليمان بن موسى فإنه صدوق فيه لين كما في التقريب ص ( 255 ) ، وقد تابعه الحجاج بن أرطأة عن الزهري به كما في سنن ابن ماجه كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بولي ( 1/605 ) برقم ( 1880 ) ؛ ومسند أحمد ( 6/260 ) برقم ( 26225 ) ، والحجاج صدوق كثير الخطأ كما في التقريب ص ( 152 ) . وللحديث شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط كما في مجمع الزوائد ( 4/285 ) . وقد صحح الحديث الألباني في إرواء الغليل ( 6/244 ) .(1/11)
كما استدل على ولاية الجد بأنّه أبٌ في الحقيقة وإن علا ؛ لأن له إيلادًا(1) ؛ قال تعالى : ل{ ملّة أبيكم إبراهيم } [ الحج : 78 ] . وإذا ثبتت الولاية للأب فليكن الجد كذلك لاشتراكهما في الأبوّة .
ونوقش :
بأن الجد لا يدلي بنفسه وإنما يدلي بالأب فهو كالأخ ، والأخ وسائر العصبات لا ولاية لهم(2) .
واستدلوا بأن الجد أشفق من غيره فوجب تقديمه(3) .
ونوقش :
بأنّ الأب لا يوصي لغير الجد إلاّ لسبب اطَّلع عليه(4) .
…واستدل الفريق الثالث بعدة أدلة منها ما يلي :
أن الولاية مبناها على الشفقة ، والعصبة أشفق من غيرهم(5) .
ويمكن أن يناقش :
بأن الأم أكثر شفقةً فتقديمها في الولاية أحق .
وأن الأب لا يوصي لغير الجد مع وجوده – إلا لسبب اطلع عليه(6) .
ويمكن أن يناقش :
بأن الولاية مبناها على الشفقة ، وشفقة الجد على أولاد ابنه أكبر من شفقة الوصيّ غالبًا .
واستدل الفريق الرابع بعدة أدلة منها :
ما استدلوا بأن الأم أحد الأبوين فتثبت لها الولاية كالأب(7) .
ولكمال شفقتها فهي أولى من الوصي الأجنبي(8) .
واستدلوا لولاية العصبة بحجر الابن على أبيه عند خرفه(9) .
الترجيح :
__________
(1) المغني ( 9/67 ) .
(2) المبدع ( 4/336 ) ؛ كشاف القناع ( 3/447 ) .
(3) مغني المحتاج ( 2/173 ) ؛ نهاية المحتاج ( 4/362 ) .
(4) شرح العناية على الهداية ( 7/258 ) .
(5) فتح القدير لابن الهمام ( 3/174 ) .
(6) العناية على الهداية ( 7/258 ) .
(7) المهذب ( 1/328 ) .
(8) مغني المحتاج ( 2/174 ) .
(9) الأنصاف ( 5/324 ) .(1/12)
الراجح من الأقوال السابقة هو القول الرابع ؛ وذلك لقوة أدلته ولمطابقته للحاجة والواقع ؛ إذ أقارب القاصر أشفق عليه ، وأعلم بحاجته من الوصي الأجنبي والحاكم ، ثم إنه لا يحتاج إلى الرفع إلى الحاكم إذا لم يوجد أحدٌ من عصباته ، وأما الأقوال الأخرى فإنّه لا يقام وليّ لمن فقد أباه ، أو أباه وجده ، إلا من قبل الحاكم وفي هذا من المشقة ما فيه .
وجميع ما سبق في الصغير ، ومن بلغ مجنونًا أو سفيهًا ، أما من جُنّ بعد بلوغه أو خَرِف(1) ، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين :
القول الأول : أنّه لا يحجر عليه إلاّ الحاكم ولا تكون ولايته إلاّ للحاكم ، وهو مذهب الشافعية(2) . والحنابلة(3) .
القول الثاني : أن ولايته تعود لمن كان وليًّا عليه في صغره وهو مذهب المالكية(4) ، وقول أبي يحيى البلخي من الشافعية(5) ، وهو قولٌ للحنابلة(6) .
الأدلة :
استدل الفريق الأول بعدّة أدلة منها ما يلي :
أنّ ولاية أوليائه انتهت ببلوغه(7) .
ولأن الحجر عليه يفتقر إلى الحاكم(8) .
واستدل الفريق الثاني بأن أولياءه أشفق(9) .
الترجيح :
__________
(1) قال في المصباح المنير ( خَرِف الرجل فسد عقله لكبره ) أ.هـ . ص ( 64 ) ( خرف ) . وانظر : لسان العرب ( 9/62 ) ؛ القاموي المحيط ص ( 1038 ) ( خرف ) .
(2) المهذب ( 1/332 ) ؛ روضة الطالبين ( 3/469 ) .
(3) المغني ( 6/612 ) ؛ كشاف القناع ( 3/452 ) .
(4) حاشية الدسوقي ( 3/263 ) .
(5) روضة الطالبين ( 3/469 ) .
(6) معونة أولي النهى ( 4/577 ) .
(7) مغني المحتاج ( 2/170 ) .
(8) كشاف القناع ( 3/452 ) ؛ شرح منتهى الإرادات ( 2/294 ) .
(9) مغني المحتاج ( 2/170 ) .(1/13)
عند التأمل في القولين السابقين وما في الأوّل من احتياط ، وما في الثاني من رعاية لمصلحة القاصر ، يظهر لي أن الأولى جعل الحجر بيد الحاكم ، وعليه أن يفوّضه لمن يختاره من أقارب القاصر لكونهم أشفق . وقد أشار إلى ذلك الشافعي(1) رحمه الله تعالى .
مسألة :
لا خلاف بين أهل العلم أنّ الوليّ على العبد سيّده(2) .
الفصل الثالث : انتهاء الولاية
لا خلاف بين أهل العلم أن الولاية على المجنون تنتهي بإفاقته عند الشافعية والحنفية واشترط المالكية والحنابلة الرشد مع الإفاقة(3) .
وأما الصغير فقد اختلف الفقهاء بم تنتهي الولاية عليه ، على قولين :
القول الأول : تنتهي الولاية عليه ببلوغه . وهو قول أبي حنيفة .
القول الثاني : تنتهي بالبلوغ رشيدًا وهو قول الجمهور .
وقد سبق بيان ذلك مستوفى(4) .
كما اختلف الفقهاء هل يحتاج إنهاء الولاية عليه إلى حكم حاكم بذلك أم لا على أقوال ثلاثة :
القول الأول : أنها تنتهي بفك القاضي الحجر عنه وهو قولٌ للشافعية(5) .
القول الثاني : تنتهي بنفس بلوغه رشيدًا وهو قول محمّد بن الحسن(6) ، ومذهب الشافعية(7) والحنابلة(8) .
القول الثالث : التفصيل فإن كان ذا أبٍ فتنتهي الولاية عليه ببلوغه رشيدًا ، وإن كان وليُّه الوصيّ فلا بُدّ مع ذلك من فكَّ الولي للحجر عنه وكل ذلك دون إذن قاض(9) وهو مذهب المالكية .
الأدلة :
__________
(1) المرجع السابق .
(2) العناية شرح الهداية ( 8/186 ) ؛ قوانين الأحكام الشرعية لابن جزيّ ص ( 350 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/165 ) ؛ معونة أولي النهى ( 4/567 ) .
(3) بدائع الصنائع ( 1/178 ) ؛ التاج والإكليل ( 5/57 ) ؛ مغني المحتاج ( 2/166 ) ؛ كشاف القناع ( 3/443 ) .
(4) في الفصل الأول .
(5) مغني المحتاج ( 2/170 ) .
(6) بدائع الصنائع ( 6/178 ) .
(7) مغني المحتاج ( 2/170 ) .
(8) كشاف القناع ( 3/443 ) .
(9) التاج والإكليل ( 5/64 ) .(1/14)
استدل أصحاب القول الأول بأنّ الرُّشد يحتاج إلى نظرٍ واجتهاد(1) .
واستدل أصحاب القول الثاني بعدة أدلة منها ما يلي :
قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] .
فلم تشترط الآية فكّ قاضٍ أو وصيٍّ أو غيرهما فالقول به زيادة على النص(2) .
أنه حجرٌ ثبت بغير حاكم لقم يتوقف زواله على إزالة الحاكم . كحجر المجنون(3) .
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي :
أنّ الأب لمَّا أدخل ولده في ولاية الوصي صار بمنزلة ما لو حجر عليه وهو إذا حجر عليه صار لا ينطلق إلا بإطلاقه(4) .
الترجيح :
الظاهر من الأقوال السابقة هو عدم احتياج إنهاء الولاية إلى حكم حاكم ولا فكّ وصيّ ؛ فإنّ الله تعالى لم يشترط ذلك ، ولأن إقامة الولي عليه كانت بسبب صغره ، فتزول بزوال الصّغر .
سواء في ذلك ولاية الأب أو الوصي والله أعلم .
وأما السفيه فإن من رأى الحجر عليه ، أنهى الولاية عليه برشده ، إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا هل يحتاج ذلك لحكم حاكم أم لا ؟ على أقوال :
القول الأول : أنّ الولاية عليه تنتهي بظهور الرشد دون حكم وهو قول محمد بن الحسن(5) .
القول الثاني : أنه لا بد مع رشده من حكم حاكم بفك الحجر عنه . وهو قول أبي يوسف(6) ، ومذهب الشافعية(7) والمالكية(8) .
القول الثالث : التفصيل ، فإن كان الحجر عليه بعد بلوغه فلا ينفك عنه إلا بحكم القاضي ، وإن استصحب السفه بعد بلوغه فإنه ينفك عنه الحجر برشده . وهو مذهب الحنابلة(9) .
__________
(1) مغني المحتاج ( 2/170 ) .
(2) المغني لابن قدامة ( 6/594 ) .
(3) المرجع السابق .
(4) حاشية الدسوقي ( 3/296 ) .
(5) بدائع الصنائع ( 6/178 ) .
(6) بدائع الصنائع ( 6/178 ) .
(7) مغني المحتاج ( 2/170 ) .
(8) التاج والإكليل ( 5/74 ) .
(9) كشاف القناع ( 3/452 ) .(1/15)
وعند تأمل هذه الأقوال وما وجهت به نجد أن تعليلاتهم تدور حول سبب الحجر عليه فإن كان السفة فإن رشده يرفعه ، وإن كان حكم القاضي فالحكم لا يرتفع إلا بحكم .
والذي يظهر لي رجحان القول الثالث إذ من بلغ غير رشيد فهو مشمول بالآية { فإن آنستم منهم رشدًا } [ النساء : 6 ] . فيكفي رشده لإطلاقه وتسليم ماله له . وأمّا من حجر عليه الحاكم فإن الحكم لا يرتفع إلا بحكم وفي هذا جمع بين الأقوال كما ترى والله أعلم .
... وبعد فهذه الجولة السريعة هي ما تيسر إعداده في هذا الموضوع – على أنه ستتبعه دراسة في آثار الولاية وما تقتضيه – أسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه ، والحمد لله رب العالمين .(1/16)
شرح
دالية أبي الخطاب الكلوذاني
شرح الشيخ الدكتور
هاني بن عبد الله بن جبير
تقدمة وتمهيد
إن الحمد لله نحمده سبحانه، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فهذا شرح للمنظومة الدالية لأبي الخطاب الكِلْوذاني /، وهذه المنظومة في العقيدة نظمها أبو الخطاب /.
- اسم الناظم:
وأبو الخطاب هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكِلْوذاني، ويقال في نسبته: الكَلْوذاني، ويقال: الكلواذي، ويقال: الكلوذي، وهي نسبة إلى كَلواذا وهي ناحية قرب بغداد. قال في معجم البلدان إنها الآن -في زمنه- غير عامرة..
وقال البعض: إن اسمها ليس كَلواذا بفتح الكاف؛ لأن النسبة إليها تكون كَلواذاني أو كَلواذي؛ لأن معنى النسبة أن تضيف إلى آخر الاسم ياء مشددة، فنسبتك إلى محمد: محمدي، فتضيف الياء المشددة في آخر الكلمة، وإذا كان في آخر الكلمة ألف متطرفة فتحذف إن كانت خامسة فأكثر، ففي مثل كَلواذا تحذف الألف من آخره فتصير كلواذ، ثم نضيف الياء المشددة فتصير كلواذي، وتحذف الألف المتوسطة تسهيلاً فتصير: كلوذي، نضيف نوناً قبل الياء فتصير: كلوذاني، وإضافة النون في آخر النسبة من النسبة الشاذة كما يقول ابن هشام في الكلوذاني، ولكنه عرف بهذا الاسم بين علماء الفقه.
والمعروف في نسبته الكَلوذاني -بفتح الكاف- وقيل: إن اسمه: الكِلوذاني -بكسر الكاف- وهذا فرع عن إثبات أن اسم الناحية كِلواذ بكسر الكاف وإسكان اللام، وذكر ياقوت الحموي بيتاً من الشعر يؤيد ذلك وهو قول الشاعر:
كأن أصوات الغبيط الشادي ... زير مهاريق على كِلْواذ
ويقول إن كلواذ هو اسم تابوت موسى، وقيل إنه دفن في تلك الناحية.(2/1)
على كلٍ هو عرف باسم الكَلْوذاني بفتح الكاف، وهكذا عرف بين علماء الحنابلة.
- منزلته بين العلماء:
وهو من أكابر علماء الحنابلة، وعلماء الحنابلة يرجعون إلى القاضي أبي يعلى، وهو من أكابر علماء مذهب الإمام أحمد، ومعلوم أن الإمام أحمد لم يكن يقرر الفقه كمسائل, إنما نقل أصحابه فتاواه، فكانوا يسمعون منه الفتوى في مسألة فيكتبونها أو يحفظونها، وكان ينهى عن تدوين الفقه، ويوصي الناس بالعناية بالحديث والسنة والأثر.
فجاء من بعده فجمع فتاواه على شكل مسائل، ثم هذبها بعد ذلك أصحابه، وكان ممن قعد مذهب الإمام أحمد أصولاً وفروعاً القاضي أبو يعلى، وكان لأبي يعلى تلميذان مشهوران أخذا عنه العلم واشتهرا جداً حتى أن أي مسألة -في الغالب- في مسائل الأصول فيها خلاف تجد أن هذا الخلاف راجع لإختلاف هذين العالمين، الأول هو أبو الخطاب الكلوذاني صاحب هذه المنظومة, الثاني هو ابن عقيل الحنبلي.
- مولده ومشايخه:
وأبو الخطاب / ولد عام (432هـ) وأخذ العلم عن أبي يعلى، وبعد أن برز أبو الخطاب تتلمذ عليه عبد القادر الجيلاني، الزاهد المعروف، الذي نسج حوله الصوفية خزعبلاتهم الكثيرة، وإلا فعبد القادر الجيلاني من علماء الحنابلة، وممن سار على طريقتهم في الغالب، وله كتاب اسمه (الغنية) في مذهب الإمام أحمد، وعبد القادر الجيلاني من شيوخ ابن قدامة المقدسي العالم المعروف صاحب كتاب المغني وغيره.
- مؤلفاته:
ومن مؤلفات أبي الخطاب كتابه: (الهداية) في الفقه وهو مطبوع، وكتاب: (الانتصار في المسائل الكبار)، و(التهذيب في الفرائض) وهو أيضاً مطبوع.
وتوفي / سنة (510هـ).
- التعريف بالمنظومة الدالية ومميزاتها:
في هذه المنظومة يتكلم / عن مسائل الاعتقاد. ومن قرأ هذه المنظومة وجد أنها تمتاز بعدة أمور:
أن أبياتها قصيرة معدودة، يسهل حفظها ودراستها في مدة قصيرة.(2/2)
أنه جمع فيها أهم مسائل الاعتقاد، ولا يذكر المسألة مجردة، بل يذكر المسألة ويشير إلى الدليل أو التعليل فيها، وكلما ذكر مسألة -في الغالب- وذكر ما يعتقده فيها أشار بعد ذلك إشارة لطيفة إلى وجه الدليل الذي يبني عليه رأيه، وهذا فيه فائدة عظيمة، فأنت لا تحفظ القول فقط، بل تحفظ أيضاً الإشارة التي تذكرك بالدليل الموصل إليه.
أنه جعلها على طريقة الحوار، كأن شخصاً يسأله وهو يجيب وكأنها مناظرة، فتجد أن أثر أبياته مبدوءة بقوله: (قالوا) (قالوا: بم عرف المكلف ربه؟).
وفي هذه الطريقة فائدتان:
أن في طريقة الحوار، والأسئلة والأجوبة تقريباً للمعلومة إلى ذهن من يدرس هذه المنظومة، وهذه الطريقة صارت معتبرة كثيراً، وتسمى (طريقة المناقشة)، أن يناقش المدرس من يتلقى عنه، فهو بهذا يستفيد فائدة أكثر وترسخ المعلومة في ذهنه أكثر.
أن استخدام طريقة المناظرة يجعل عند من يقرأ هذه المنظومة يقيناً، لأنه يتخيل هذا المبتدع وهو يناظره، فيعرف كيف يرد عليه ويبين الدليل.
أن عباراتها جزلة، فمن قرأ مطلعها يشعر أنه يقرأ قصيدة من أقوى القصائد الأدبية، وليست كعادة المنظومات العلمية سهلة العبارة وسهلة الوزن، التي تعتني بجمع المسائل العلمية والألفاظ العلمية ولو على حساب قوة العبارة والمعنى.
وهذه المنظومة رواها عن الناظم عدد من الحفاظ، ومن أشهرهم الحافظ محمد بن ناصر السلمي، ورواها عنه ابن الجوزي في المنتظم، وقد نسبها له ابن كثير والذهبي وابن رجب في ذيله؟؟ على طبقات الحنابلة وغيرهم.
والآن بعد أن تكلمنا عن هذه المنظومة فإننا نشرع في قراءتها:
أبيات دالية أبي الخطاب الكلوذاني
يقول الناظم /:
دع عنك تذكار الخليط المنجد
والنوح في أطلال سُعدى إنما
واسمع مقالي إن أردت تخلصاً
واقصِد فإني قد قصدت مُوَفَّقاً
خير البرية بعد صحب محمد
ذي العلم والرأي الأصيل ومن حوى
واعلم بأني قد نظمت مسائلاً
وأجبت عن تِسآلِ كل مهذَّب(2/3)
هجر الرقاد وبات ساهر ليلهُ
قوم طعامهم دراسةُ علمهم
قالوا: بم عرف المكلَّف ربه؟
قالوا: فهل ربُّ الخلائق واحد؟
قالوا: فهل لله عندك مُشْبِهُ؟
قالوا: فهل تصف الإله أبن لنا؟
قالوا:فهل تلك الصفات قديمةٌ
قالوا:فأنت تراه جسماً مثلَنَا؟
قالوا: فهل هو في الأماكن كلها؟
قالوا:فتزعم أنْ على العرش استوى؟
قالوا:فما معنى استواه أبن لنا؟
قالوا:النزول؟ فقلت ناقله لنا
قالوا:فكيف نزوله؟ فأجبتهم:
قالوا: فيُنظر بالعيون؟ أبن لنا:
قالوا: فهل لله علم؟ قلت: ما
قالوا: فيوصف أنه متكلم؟
قالوا: فما القرآن؟ قلت كلامه
قالوا: الذي نتلوه؟ قلت:كلامه
قالوا: فأفعال العباد؟ فقلت:ما
قالوا:فهل فعل القبيح مراده؟
لو لم يُرده لكان ذاك نقيصة
قالوا: فما الإيمان؟قلت مجاوباً
قالوا: فمن بعد النبي خليفةً؟
حاميه في يوم العريش ومن له
خير الصحابة والقرابة كلِّهِم
قالوا:فمن صديق أحمد؟ قلت:من
قالوا:فمن تالي أبي بكر الرضا؟
فاروق أحمد والمهذب بعده
قالوا:فثالثهم؟ فقلت مسارعاً:
صِهرُ النبي على ابنتيه ومن حوى
أعني ابن عفان الشهيد ومن دُعِي
قالوا:فرابعهم؟ فقلت مبادراً
زوجُ البتول وخير من وطئ الحصى
أعني أبا الحسن الإمام ومن له
(ولإبن هندٍ في الفؤاد محبة
ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ
(ولعم سيدنا النبي مناقبٌ
أعني أبا الفضل الذي استسقَى به
ذاك الهُمامُ أبو الخلائف كلهم
صلى عليه الله ما هبت صبا
وأدام دولتهم علينا سرمدا
(فعليهٍمُ وعلى الصحابة كلهم
إني لأرجو أن أفوز بحبهم
قالوا: أبان الكلوذانِيُّ الهُدى ... والشوق نحو الآنسات الخرد
تذكار سُعدى شغل من لم يسعدِ
يوم الحساب وخذ بهديي تهتدي
نهج ابن حنبل الإمام الأوحدِ
والتابعين إمام كل موحدِ
شرفاً علا فوق السُّها والفرقدِ
لم آلُ فيها النصح غير مقلِّدِ
ذي صولةٍ عند الجدال مسوَّدِ
ذي همةٍ لا يُستلذ بمرقدِ
يتسابقون إلى العلا والسؤددِ
فأجبت: بالنظر الصحيح المرشِدِ
قلت: الكمال لربنا المتفردِ(2/4)
قلت: المشبه في الجحيم الموصدِ
قلت: الصفات لذي الجلال السرمدِي
كالذات؟ قلت: كذاك لم تتجددِ
قلت: المجسم عندنا كالملحدِ
فأجبت:بل في العُلْوِ مذهب أحمدِ
قلت:الصواب كذاك أخبر سيدي
فأجبتهم: هذا سؤالُ المعتدِي
قوم تمسكهم بشرع محمدِ
لم ينقل التكييف لي في مسندِ
فأجبت:رؤيته لمن هو مهتدِي
من عالم إلا بعلم مُرتُدِي
قلت:السكوت نقيصةُ المتوحدِ
من غير ما حدثٍ وغير تجددِ
لا ريب فيه عند كل مُسَدَّدِ
من خالق غير الإله الأمجدِ
قلت: الإرادة كلها للسيدِ
سبحانه عن أن يعجزه الردِي
عمل وتصديق بغير تبلدِ
قلت: الموحِّدُ قبل كل موَحِّدِ
في الغار يُسعِدُ يا له من مُسعِدِ
ذاك المؤيِّدُ قبل كل مُؤَيِّدِ
تصديقه بين الورى لم يُجحَدِ
قلت:الإمارةُ في الإمام الأزهدِ
نصر الشريعة باللسان وباليدِ
من بايع المختار عنه باليدِ
فضلين، فضل تلاوة وتهجدِ
في الناس ذا النورين صهر محمدِ
من حاز دونهمُ أخُوَّةِ أحمدِ
بعد الثلاثة والكريم المحتَدِ
بين الأنام فضائلُ لم تُجحَدِ
ومودة فليُرغمنّ مفندِي
الوحي المنزل، ذو التقى والسؤددِ)
لو عُدِّدت لم تنحصر بتعدُّدِ
عمرُ أوان الجدب بين الشُهَّدِ
نسقاً إلى المستظهرِ بن المقتدِي
وعلى بنيه الراكعين السُّجَّدِ
ما حنَّ في الأسحار كل مغردِ)
صلواتُ ربهمُ تروحُ وتغتدِي
وبما اعتقدت من الشريعة في غدِ)
قلت: الذي فوق السماءِ مُؤَيِّدِي
والحمد لله أولاً وآخراً
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
شرح دالية أبي الخطاب الكلوذاني
- شرح مقدمة المنظومة:
يقول الناظم /:
دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشوق نحو الآنسات الخرد(2/5)
دع: أي اترك عنك. تذكار: أي تذكر. الخليط المنجد: هو الركب المتجه والنازل نجداً، يقال: أنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا نزل تهامة، وأحرم إذا نزل الحرم. الخليط: الصحب والقوم الذين أمرهم واحد، ويطلق على النديم الجليس، ويطلق على الواحد والجمع بلفظ واحد، وقد كثر ذكر الخليط في أشعار العرب؛ لأنهم كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم العشائر وقبائل في مكان واحد فيحصل بينهم من الأنس والألفة شيء كثير، ثم بعد ذلك إذا انتهى أوان الكلأ وارتحلوا وتفرقوا تذكروا اجتماعهم ذلك فساءهم التفرق، ولذا يكثر تحسرهم وتأسيهم وتأسفهم على افتراق ذلك الخليط(1).
والشوق: يعني الاشتياق للآنسات. وفي بعض النسخ السوق: ومعناه السير نحوهن، والمشي خلفهن، يعني دع عنك الشوق والاشتياق للنساء والسير خلفهن.
الآنسات: جمع آنسة، وهي الفتاة التي تكون طيبة النفس؛ لأنه مأخوذ من الإنس.
الخرد: جمع خريدة، وهي الفتاة البكر، مأخوذة من اللؤلؤة، فإن اللؤلؤة تسمى خريدة.
فالمعنى: دع عنك تذكر أصحاب مضوا قد التقيت بهم، ودع عنك الاشتياق للفتيات الجميلات اللائى كاللؤلؤ.
والنوح في أطلال سعدى إنما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد
النوح: البكاء. يقال ناح الرجل استناح إذا بكى أو أبكى غيره.
الأطلال: جمع طلل، وهي البقايا التي توجد بعد رحيل القوم، فإنهم إذا نزلوا في موطن ثم رحلوا فإنه يبقى بقايا تدل على هذه الديار تسمى الأطلال.
__________
(1) انظر اللسان مادة الخلط (7/294).(2/6)
فالمعنى: دع عنك النوح، البكاء في الأماكن التي تذكرك بالموطن الذي نزلت فيه سعدى، وهو اسم وهمي يعبر به الناظم عن المعشوقة التي صاحبها، وحق له ألا ينشغل بذكرها ولا يبكي من أجلها، فإنما تذكار سعدى شغل من لم يسعد: أي شغل من لم يذق السعادة الحقيقية، أما من ذاق السعادة الحقيقية فإنه لا يشغل نفسه بتذكر معشوقته، لأن سعادته أنسته كل محبوب، والسعادة الحقيقية هي ما سيتكلم عنه من مسائل العلم وتذكاره، لذا كان الشافعى / يقول:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي ... من وصل غانية وطيب عناق
فسهره ليحصل العلم ألذ له من وصال الغواني: وهن النساء الجميلات اللاتي استغنين بجمالهن عن الزينة.
- النجاة يوم القيامة بالأخذ بما في هذه المنظومة:
قال الناظم /:
واسمع مقالي أن أردت تخلصاً ... يوم الحساب وخذ بهديي تهتدي
تخلصاً: الخلاص النجاة، يقال خلص من كذا إذا نجا منه.
هديي: أي إرشادي لك ودلالتي إياك إلى سبيل الحق.
يوم الحساب: يوم القيامة.(2/7)
يقول: اسمع قولي إن أردت أن تتخلص يوم الحساب وخذ بنصيحتي لك، فالنجاة يوم القيامة والفوز بما سأرشدك إليه وأدلك عليه. وسمي يوم القيامة بيوم الحساب؛ لأنه اليوم الذي يجازى فيه الخلق على أعمالهم إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، ويسميه الله تعالى: يوم الدين قال تعالى: (مالك يوم الدين). يعني مالك يوم الحساب والجزاء، كما قال ـ: (يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق) واليوم عند العرب يطلق على الوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإطلاقه على يوم القيامة المراد به ما بين قيام الساعة إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. يقول: إن أردت تخلصاً فاسمع مقالي وخذ بهديي: يعني خذ بإرشادي ودلالتي، وفي قول الله تعالى: (أولم يهد لهم) يعني: أولم يتبين لهم.خذ بهديي يعني خذ بتبييني وإيضاحي، أنا أوضح لك المسائل الآن فاتبعها وخذ بها تهتدي: يعني ترشد وفي بعض نسخ المنظومة ليست (وخذ بهديي) إنما (خذ بهذا تهتدي) يعني بهذا التقرير من مسائل الاعتقاد الذي سأقوله لك.
ومراد الناظم أنه سيبين لك المسائل العقدية التي يكون بها نجاة العباد يوم القيامة فعليك بها حتى تنال الهداية.
- أقسام الهداية:
والهداية تنقسم إلى قسمين:
(1)…هداية تامة: وهي التي تحصل لمن استكمل الإيمان بالله ـ ولم ينقص شيئاً من واجباته، كما قال تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) يعني: الهداية التامة.
(2)…هداية ناقصة: وهي التي تحصل لمن كان معه أصل الإيمان، لكنه خلطه بالذنوب والمعاصي، فهذه الذنوب تضعف من اهتدائه على قدر ما نقص من إيمانه.
- هذه المنظومة موافقة لعقيدة الإمام أحمد:
قال الناظم /:
واقصد فإني قد قصدت موفقاً ... نهج بن حنبل الإمام الأوحد
في بعض النسخ: (موافقاً).
اقصد: إذا قيل قصد قصده يعني نحا نحوه، أي اتبع طريقته.
نهج: النهج هو المنهج، والمراد به الطريقة.(2/8)
الأوحد: من تفرد دون غيره في أمر ما يقال له واحد عصره، أي: المنفرد فيه.
أي اتبعني وسر على نهجي وطريقتي فقد سلكت طريقاً موفقاً، وفي بعض النسخ (موافقاً) يعني أني وافقت في اجتهادي نهج الإمام أحمد، أما (موفقاً) سلكت فيه منهج إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ومن سلك مسلك هذا الرجل الموفق فقد وفق، فهو رجل مشهود له بسلامة الاعتقاد وحسن السيرة، وقد قام بالمنهج الأوحد الذي تفرد به في زمنه دون غيره، فقال كلمة الحق في مسألة خلق القرآن، فإن الناس في زمنه دعاهم المأمون ومن بعده من الخلفاء إلى القول بخلق القرآن، ومن لم يقل بذلك كانوا يأمرون بسجنه وتعذيبه وربما قتله، وقد قتل من علماء أهل السنة في زمانهم عدد، وسجن عدد، وذلك لأنهم لم يتبعوا ذلك المذهب البدعي الباطل، ولشدة العذاب وصعوبة الموقف فإن بعض العلماء في زمن فتنة خلق القرآن أجاب بالقول بخلق القرآن لما أكرهوا على ذلك، أو ورَّى في ذلك، أما الإمام أحمد بن حنبل فقد صمد كالجبل الشامخ، ووقف لهم وقفة قوية وأنكر عليهم هذا القول، فجلد وسجن وعذب في ذات الله، كل ذلك لأنه تمسك بقول أهل السنة والجماعة في وقت تخفى كثير من أهل العلم بهذا المذهب، ولذا وصفه الناظم بقوله (الإمام الأوحد) في قول كلمة الحق والصدع بها والصبر على ما أصابه من أجلها، وقد قيل: (أيد الله تعالى هذا الدين برجلين: أبي بكر زمن الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة).
ويقول إسحاق بن راهويه: لولا أحمد بن حنبل وبذله نفسه لذهب الإسلام. ولما كان هذا الإمام بهذه الجلالة قال الناظم إنه قد وافق مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولم يقل إنه قلد الإمام أحمد.
- عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة سائل الأئمة:
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن الأمة جميعاً متفقون في أصول الاعتقاد، ولم يختلفوا في أصول الاعتقاد، فمن وافق الإمام أحمد في مذهبه في العقيدة فقد وافق الشافعي ومالك وكذلك وافق أبا حنيفة.(2/9)
ولذا لما ألف شيخ الإسلام ابن تيميه / كتابه العقيدة الواسطية، عقد له مجلس مناظرة، واجتمع عدد من العلماء يناظرونه في هذه العقيدة، ويقررون بينهم هل هذه العقيدة وفق الصواب أو لا؟ فلما طال المجلس قال بعضهم: إنما أنت ألفت اعتقاد الحنابلة، فأنت على مذهب الحنابلة في العقيدة، ونحن شافعية أو مالكية أو حنفية، لنا اعتقادنا الخاص بنا واعتقاد الحنابلة ليس لك أن تجبرنا عليه وتلزمنا الأخذ به.
فقال شيخ الإسلام: ما كتبت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، وقلت: قد أمهلت من خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإذا جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلي أن آتي من نقول جميع الطوائف من القرون الثلاثة ما يوافق ما ذكرته من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم. فموافقة الإمام أحمد في أمور الاعتقاد تتضمن موافقة الشافعي وأبي حنيفة ومالك في الاعتقاد.
- فضائل الإمام أحمد:
قال الناظم /:
خير البرية بعد صحب محمد ... والتابعين إمام كل موحد
قوله: خير البرية: أي أفضل البرية بعد الصحابة والتابعين، والبرية: الخلق. يقصد أنه أفضل البرية في زمنه في مسألة إظهار القول بأن القرآن غير مخلوق، وهذا مقصده، ولو كان مقصده أنه خير البرية مطلقاً وأكثرها ثواباً لكان كلامه مردوداً عليه، لأن القول بأن فلاناً أكثر ثواباً من فلان، هذا يحتاج إلى توقيف، فحتى لو رأينا شخصاً يتعبد أكثر من آخر لا نقول إنه أفضل من غيره؛ لأن العبادات تتفاوت بحسب ما في قلوب أصحابها من إخلاص لله تعالى وإرادة وجهه ومن التقوى، تتفاوت وتتفاضل العبادات كما نبه على ذلك ابن القيم وذكر قول الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويداً وتجيء في الأول(2/10)
فبعض الناس قد يكون قليل العبادة لكنه أفضل من غيره؛ لأنه إذا نام احتسب نومته وإذا قام احتسب قومته، فحياته كلها لله ومع الله، وإذا تعبد فإن عبادته خالصة لله.فهذا وإن كان يظهر للناس أنه قليل التعبد إلا أن قلبه قد استجمع من خشية الله والإخلاص له وإرادة وجهه ما لم يقم بقلب كثير من الناس ممن تعبد بعبادات أكثر منه، وهذا ثمرة العلم بالله تعالى فالمؤلف يقصد أن الإمام أحمد أفضل في زمنه بصدعه للحق وعدم مداهنته في هذا القول مع أنه كان مكرهاً، وكان يمكنه أن يقول بقولهم لأنه مكره، لكنه مع ذلك رغب في بيان الحق فصبر على العزيمة.
إمام كل موحد: أي قدوة كل موحد لله، لأن غير الموحد هو صاحب كفر، وصاحب الكفر لا يقتدي بالإمام أحمد؛ لأن الإمام أحمد قال بأن القرآن منزل غير مخلوق ومن خالفه قال بخلق القرآن ومن قال بخلق القرآن فهو كافر عند هذا العالم.
قال الناظم /:
ذي العلم والرأي الأصيل من حوى ... شرفاً علا فوق السها والفرقد
الإمام أحمد اشتهر بين بقية الأئمة الأربعة بأنه إمام أهل السنة والجماعة وهذا بسبب موقفه في فتنة خلق القرآن، وبسبب هذا الموقف عرف اعتقاد أهل السنة والسلف الصالح، بأنه اعتقاد الإمام أحمد، حتى أن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن قوله وترك قوله قول الكلابية في آخر حياته وألف كتاب الإبانة قال: من سأل عن عقيدتي فإني على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة رغم أنهم يقولون بقوله، فهم متفقون معه، إلا أنه برز في هذا الجانب، وبعض أهل العلم يكون له موقف في أمر ما فينسب إليه ذلك الأمر أو المسألة، فعلم أصول الفقه ينسب إلى الشافعي لأنه أول من ألف فيه تأليفاً مستقلاً في كتاب الرسالة، كذلك موقف الإمام أحمد العظيم يجعل من يتكلم في الاعتقاد على مذهب أهل الأثر والحديث والسنة ينتسب إليه.
- أقسام العلم:
ثم قال: (ذي العلم والرأي الأصيل)، وهذا أيضاً ثناء من الناظم على الإمام أحمد.(2/11)
والعلم: هو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع.
فإذا كان مخالفاً للواقع فهو: الجهل المركب.
وعدم الإدراك بالكلية هو الجهل البسيط.
فمن قال: ربي الله وهو يعتقد اعتقاداً جازماً منه فهو عالم، ومن قال: لا أدري فهو جاهل، وإذا اعتقد أن مع الله آلهة أخرى وجزم بذلك فهو جاهل جهلاً مركباً، لأنه جاهل ولا يدري أنه جاهل.
- أقسام الرأي:
ثم قال: (ذي الرأي الأصيل)، لأن الرأي ينقسم إلى قسمين: -
رأي محمود: وهو الذي أُصل على الكتاب والسنة مثل القياس والاجتهاد المبني على النظر في كتاب الله والسنة، فهذا الرأي المستمد من الكتاب والسنة رأي محمود. والقياس مثل: أن تقيس فرعاً على أصل لعلة استنبطتها من النصوص الشرعية أو تقيس بتنقيح مناط أو تحقيق مناط نص من النصوص.
رأي مذموم: وهو مجرد التخمين والحدس الذي ليس عليه دليل.
فالإمام أحمد صاحب رأي أصيل مستمد من الكتاب والسنة والأدلة الصحيحة التي أجمعت الأمة على قبولها.
ثم قال: (من حوى شرفاً)، الشرف: هو المكانة يقول الناظم: قد حاز الإمام أحمد شرفاً علا فوق السها والفرقد.
السهى: هو كوكب من بنات نعش.
والفرقد: نجم معروف يعرفه المسافرون ويهتدون به. وبهذا يخبرنا الناظم أن الإمام أحمد بلغ شأواً بعيداً أو منزلة رفيعة علت على منزلة النجوم وارتفعت عن مقامها. وفي بعض النسخ (شرفاً علا فوق السماء الفرقد).(2/12)
ولا يخفى أن جميع ما سبق فيه نوع من مبالغة وإطراء باعثه محبة هذا العالم للإمام أحمد وتقديره لموقفه في نصرة السنة، وإن كان المطلوب من الإنسان أن يكون منصفاً، فلا يغلو في حب ولا يغلو في بغض، ولا يمدح إنساناً إلا بالحق ولا يجاوز فيه القول المعتدل؛ لأن الغلو يؤدي بصاحبه إلى غير الصواب؛ لأن الغلو يؤدي إلى متابعة الإنسان في الصواب والخطأ،ومعلوم أن المعصوم هو من عصمه الله ـ، والإمام أحمد وغيره من الأئمة من أهل السنة يخطئون ويصيبون فالثناء عليهم والمبالغة في ذلك قد تودي بالبعض إلى أن يتبعه في الحق والخطأ، وكل إنسان يصيب ويخطئ، وكل يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
- عدم التقليد في أمر العقيدة:
قال الناظم /:
واعلم بأني قد نظمت مسائلاً ... لم آل فيها النصح غير مقلد
قوله: (نظمت) أي جمعت، نقول نظمت العقد أي جمعت حباته، فشبه هذه المنظومة بالعقد الذي جمعت حباته فكمل وحسن منظره.
قوله: (لم آل) أي لم أقصر ومنه قوله تعالى: (لا يألونكم خبالاً) أي لا يقصرون في خذلانكم.
النصح: هو إرادة الخير للمنصوح، والأصل في النصح الإخلاص، فأنا قد جئت لك بكلام واضح ليس فيه إشكال أريد به الخير لك.
قوله: (غير مقلد) أي غير متبع فيه رأي أحد، يعني أن كل المسائل التي أذكرها لك أنا اقتنعت بها وأخذتها عن دليل، واجتهدت في النظر فيها فألفيتها الصواب، ولم أقلد فيها أحداً، وأما الإمام أحمد، فإني قد وافقته في اجتهادي ولم أقلده، إنما اجتهدت فوجدت الصواب ما ذهب إليه، ومن ذلك ما ذكره الرحبي في منظومته، فإنه لما أثنى على زيد بن ثابت في علمه بالفرائض، قال: لاسيما وقد نحاه الشافعي، يعني: أنا اتبعت زيداً في الفرائض لاسيما أن الشافعي نحا نحوه، يعني وافق اجتهاده اجتهاد زيدٍ رضي الله عنه.
- حكم التقليد في العقيدة:
مسألة: هل يصح التقليد في مسائل الاعتقاد؟(2/13)
قول الناظم (غير مقلد) يستدعي الوقوف على حكم التقليد في مسائل الاعتقاد.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: -
القول الأول: أن التقليد في مسائل الاعتقاد حرام: فلا يجوز لأحد أن يقلد أحداً في مسائل الاعتقاد. واحتجوا لقولهم بأن التقليد إنما يفيد الظن، والظن لا يجوز في مسائل الإعتقاد بل لابد من اليقين؛ لأنها من الأمور العلمية الخبرية فلا يكفي فيها الظن، بل لا بد من اليقين والقطع، والتقليد لا يحصل به إلا الظن. هذا ما ذهب إليه أهل القول الأول.
القول الثاني: أن التقليد في مسائل الاعتقاد جائز، واحتجوا بأن النبي ^ كان يقبل من الناس الإيمان ومنهم الذكي والبليد والأعرابي والكبير والصغير والذكر والأنثى فيأتيه فيشهد أن لا إله إلا الله فيحكم بإسلامه دون استدلالات عقلية أو تراكيب منطقية.
القول الثالث: أنه التقليد في مسائل الاعتقاد يجوز للضرورة فلا بد في مسائل الاعتقاد من القطع، لكن لما كان بعض الناس لا يتمكن من ذلك لعدم قدرته والله ـ لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالذي لا يستطيع الوصول إلى المعرفة بنفسه -مع أنه لابد من اليقين وعدم التقليد فيها- فإنه يجوز له أن يقلد عند العجز عن معرفة الحق بنفسه لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
- معنى التقليد في مسائل العقيدة:
وحتى نحرج من هذا الإشكال لابد أن نعرف معنى التقليد في مسائل الاعتقاد:-(2/14)
القول الأول: وهو لأهل الكلام، قال علماؤهم: التقليد هو اتباع الكتاب والسنة من غير نظر عقلي، ومعناه عندهم: قبول قول القائل بلا حجة، فإذا جاءت آية من القرآن أو سمعت حديثاً نبوياً فيه أمر من الأمور العقائدية وليس فيه ذكر الدليل العقلي إذا رأيت هذا الرأي واعتقدت هذه العقيدة بناء على نص من الكتاب والسنة، فأنت مقلد للكتاب والسنة دون دليل. فالتقليد عندهم قبول أدلة الكتاب والسنة، وهذا قول مجانب للصواب، ففي القرآن والسنة من الأدلة العقلية الشيء الكثير، وما يذكرونه هم من أدلة عقلية قد جاء القرآن بخلاصته على أحسن نظام، وهذا ظاهر لمن تتبعه، ثم إن النبي ^ لم يأمر أحداً بالنظر العقلي، وإنما دعاهم إلى الإيمان فآمنوا وبين لهم أن هذا الإيمان:
تدل عليه الفطرة.
تدل عليه الأدلة الكونية الظاهرة في آيات الله ومخلوقاته.
تدل عليه ما في هذا الشرع من حكم وأحكام دالة على أنه من حكيم عليم.
القول الثاني: موافقة المقلد لغيره في مسائل العقيدة، مثلاً: طفل نشأ في بيت مسلم ولم ينظر في الأدلة، ومع ذلك هو يعتقد بوحدانية الله ـ، ويعتقد مسائل الإيمان بناء على تقليده لأهله، وهذا هو المراد بالتقليد، لا ما ذهب إليه أهل الكلام.
- صحة إيمان المقلد:(2/15)
والصحيح أن إيمان المقلد تقليداً جازماً صحيح، وأن التقليد يحصل العلم وليس محصلاً الظن فقط، وأما النظر والاستدلال الذي يذكرونه فهو ليس بواجب على المكلف إلا على من بلغته الدعوة ولم يحصل عنده الاعتقاد الجازم المبني على التقليد، وكان لا يمكنه معرفة الحق إلا بالنظر، فهذا يجب عليه أن ينظر. وإلا فغيره الواجب عليه الجزم. فنقول: الصواب من هذه الأقوال أن الواجب على المكلف الجزم في مسائل الاعتقاد، يعني: عدم الشك، أما التقليد وعدمه فإن إيمان الجازم سواء قلد في مسائل الاعتقاد أو لم يقلد إيمانه صحيح. والنبي × والسلام قبل إيمان الأعراب من دون أن يتأكد هل نظروا في ذلك أم لا، وقد يكون إيمانهم تقليداً ولكن لما كانوا جازمين فيه قبل إيمانهم وجعلهم من المسلمين. يقول النووي /: (من أتى بالشهادتين فهو مؤمن حقاً وإن كان مقلداً على مذهب المحققين من الجماهير من السلف والخلف وقد تظاهرت بهذا الأحاديث الصحاح). وبعد أن عرفنا أن المهم هو الجزم سواء عن طريق التقليد أو عن طريق النظر، أقول: إن سبب مسألة وجوب النظر أن علماء الكلام يقولون: إن أول واجب على المكلف هو النظر العقلي، يعني أن الإنسان أول ما يبلغ إن كان نشأ في بيت مسلم أول واجب عليه أن ينظر النظر العقلي، أي: يتأمل في الأدلة الكلامية والمنطقية ليصل من خلالها إلى المطلوب الخبري العلمي، وهذا القول خطأ، بل الوارد في النصوص أن أول واجب على العباد هو توحيد الله ـ، فلما بعث رسول الله ^ معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله). وأشار إلى هذه المسألة السفاريني في منظومته فقال:
وكل ما يطلب فيه الجزم ... فمنع تقليدٍ بذاك حتم
لأنه لا يُكتفي بالظن ... لذي الحجى في قول أهل الفن
هذا هو القول الأول، أنه يمنع التقليد وأنه لا بد من الدليل والنظر.
ثم قال:(2/16)
وقيل يكفي الجزم إجماعاً بما ... يطلب فيه عند بعض العلماء
يعني أن بعض العلماء قالوا يكفي أن يجزم الإنسان في المطلوبات العلمية الخبرية، ثم قال:
فالجازمون من عوام البشر ... فمسلمون عند أهل الأثر
فمن جزم في عقيدته فهو مسلم عند أهل الأثر. وبناءً على الكلام في التقليد نقول:
- أقسام المسلمين بالنسبة لدخولهم في الإسلام:
إن من أهل العلم من قسم المسلمين إلى قسمين: -
القسم الأول مسلمة الدار: وهم الذين نشأوا وولدوا على الإسلام، فلم يعيشوا في الكفر ثم دخلوا في الإسلام برغبة، وإنما ولد في بيت مسلم ووجد أهله ووالديه على الإسلام فاستمر على ذلك، ولم يعرض عليه شيء من الشكوك.
القسم الثاني مسلمة الاختيار: وهم من اعتنقوا دين الإسلام عن علم وبصيرة، عرفوا الكفر ثم دخلوا في الإسلام على علم وبصيرة، ومثل هؤلاء يكون عندهم في الغالب من قوة الاعتقاد ما هو أكثر من عوام مسلمي الدار، وهؤلاء أبعد من الشبهات والشكوك من أهل القسم الأول.
- المنظومة جواب لأسئلة الأفاضل:
قال الناظم /:
وأجبت عن تسآل كل مهذب ... ذي صولة عند الجدال مسود
هجر الرقاد وبات ساهر ليله ... ذي همة لا يستلذ بمرقد
قوم طعامهم دراسة علمهم ... يتسابقون إلى العلا والسؤدد
يقول الناظم: أجبت في هذه المنظومة عن تساؤل واستفسار كل مهذب، وهو صاحب الأخلاق الحسنة والأدب الجم، ذي صولة وقوة عند الجدال والمناظرة والمحاورة في المسائل، مسودٍ بين قومه لعلمه ودرايته. وفي بعض النسخ: (ذي صولة يوم الجدال).
وفي قوله: (هجر)، أي أنه هجر الرقاد وبات ساهراً ليله كله في طلب العلم، فهو صاحب همة عالية تجعله لا يستلذ بالنوم، والهجر الترك، ومنه قوله تعالى: (والرجز فاهجر) الرجز: الأصنام.. أي: دعها واترك عبادتها. ولذا قال الشاعر:
ءأبيت سهران الدجى وتبيته ... نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي(2/17)
وقوله: (قوم طعامهم دراسة علمهم) أي أصبحت دراسة للعلم والقراءة والاطلاع والبحث والنظر طعامهم الذي يقتاتون به، ويتسابقون ويتنافسون في تحصيل العلا وبلوغه، وتحصيل السيادة والعلم، وهو طريق الرفعة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) فمن أوتي العلم أصبح مطاع الكلمة بأمر الله في قوله تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وأولي الأمر هم العلماء, وهم أهل سيادة وعلا.
- كيف يعرف المكلف ربه؟:
والأبيات من بداية المنظومة إلى هذا البيت هي مقدمة الناظم لهذه المنظومة، وبعدها شرع في شرح مسائل العقيدة.
فقال الناظم /: -
قالوا: بم عرف المكلف ربه؟ ... فأجبت بالنظر الصحيح المرشد
من هذا البيت بدأ الناظم الشروع في لب المنظومة المراد بها، إذ أن الأبيات السابقة كانت بمثابة مقدمة للدخول في المراد من هذه المنظومة، وبهذا البيت بدأ الحوار بين الناظم وسائله، بهذا السؤال المهم الذي يحسن أن يعرف وفيه بيان أسباب وكيفية معرفة المكلف لله تبارك وتعالى؟ فقالوا: ما هي الطريقة وكيف السبيل لمعرفة المكلف -وهو العاقل البالغ- لربه تبارك وتعالى؟ فأجاب الناظم بأن هذه المعرفة تكون بالنظر الصحيح الذي يرشد إلى معرفة الله ـ وذلك بالتأمل والنظر في ملكوت السماء والأرض والتفكر في آيات الله ومخلوقاته، قال تعالى: (أو لم ينظروا في ملكوت السموات الأرض) وهذه آيات كونية دالة على عظمة الله وكبير قدرته، ومنه أيضاً النظر في الآيات الشرعية، فإن فيها من الحكم ما يجعل الإنسان يوقن بأن هذا الدين من رب عليم حكيم بمصالح خلقه، وبالنظر في الآيات الكونية والشرعية يصل المكلف إلى معرفة ربه تبارك وتعالى، وهذا النظر يسمى عند علماء الكلام بالنظر الساذج؛ لأن النظر عندهم على قسمين:-
- أقسام النظر العقلي:(2/18)
نظر ساذج: وهو النظر في ظواهر الحس، والتأمل في ملكوت الله، في السموات والأرض والشمس والقمر والجبال الشجر والدواب وعظيم خلق الله.
نظر متعمق:ويعنون به النظر في البراهين المنطقية العقلية، ويقولون: إن المكلف يعرف ربه بالنظر العقلي، ولذلك يقولون: إن أول واجب على المكلف هو النظر العقلي المتعمق أما النظر الساذج فليس موصلاً عندهم للعلم.
وهذا خلاف ما كان عليه هدي النبي ^، فالنبي ^ كان يدعو الناس أولاً إلى الإيمان بالله والتوحيد، ولا يأمرهم بالنظر، بل إن بعض أهل الكلام يقولون: إن أول واجب على المكلف أن يشك، فإذا شك نظر في الدليل، وهذا كله خلاف ما كان عليه النبي ^، بل أول واجب على المكلف توحيد الله وإفراده بالعبادة، والنظر البسيط هو طريق إلى معرفة الله تعالى كما في الأصول الثلاثة (إذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقات،ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر). ومع ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيميه /: إن النظر يجب على من لا يستطيع الوصول إلى الحق إلا عن طريقه، فإذا كان إنسان غير مسلم ولم ينشأ في بيت مسلم ولم يتوصل إلى العلم عن طريق التقليد ولا يصل إلى الحق إلا بالنظر المتعمق للبراهين، يكون النظر في البراهين العقلية واجباً عليه. وشيخ الإسلام لا يعتبره طريقاً واحداً، ولكنه يجب على من لا يستطيع العلم إلا عن طريقه، وهذا بناء على القاعدة المعروفة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وهذا الأمر الذي ذكره ابن تيميه ليس قاعدة متبعة ثابتة في سبيل معرفة الحق، لكنه حاجة وضرورة تلزم من يحتاج إليها للوصول إلى الحق ومن لم يصل إلى الاعتقاد الجازم لا عن طريق النظر البسيط ولا عن طريق التقليد ولم يجد ذلك في فطرته، ولكن متى كان إيمان المقلد جازماً فإن فيه الكفاية.
- إثبات الكمال لله:
ثم قال الناظم /:
قالوا فهل رب الخلائق واحد؟ ... قلت الكمال لربنا المتفرد(2/19)
هذا هو البيت الثاني من مسائل الاعتقاد، أخبر فيه أن خصومه سألوه: هل رب الخلائق واحد؟ فأجابهم وأخبرهم أن الكمال لربنا المتفرد، وصاحب الكمال المتفرد به هو الخالق لهذا الكون ومن فيه، وهو المالك له. وقوله: (المتفرد)، تسمية لله بما لم يرد في النصوص الشرعية، وليس (المتفرد) اسماً من أسماء الله بل جاءت النصوص بتسمية الله بأنه: (أحد) و(واحد) في قوله تعالى: (قل هو الله أحد)، لكن نجيب عن هذا الإشكال بأن هذا من باب الإخبار وليس من باب الوصف، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات، فقد يخبر عن الله تبارك وتعالى بما ليس من صفاته من باب الخبر وليس من باب الصفة، والفرق بين الصفة والخبر أن الصفة يستعاذ بها ويتوسل بها، أما الخبر فإنه لا يستعاذ به ولا يتوسل به إلى الله، ونظير هذا قولنا عن الله أنه شيء أو أنه موجود وأنه قائم بذاته ونحو ذلك، فكان من باب الإخبار لا من باب الوصف.
وفي قوله: (الكمال لربنا) يصف الله ـ بالكمال، ونحن نؤمن بأن كل صفات الله ـ صفات كمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه كما أن له سبحانه الأسماء الحسنى، قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وكذلك له الصفات العلى صفات الكمال. وفي هذا البيت تقرير للتوحيد في قوله (فهل رب الخلائق واحد؟)... الخ.
- أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة:
والتوحيد عند أهل السنة والجماعة ينقسم إلى قسمين: -
توحيد القصد والطلب: وهو ما يسمى بتوحيد الألوهية أو العبادة.
توحيد المعرفة والإثبات: وهو ما يسمى بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.(2/20)
وفي سؤاله اقتصار على توحيد الربوبية في قوله (رب)، والرب هو المالك المعبود المتصرف، كما فسره ابن عباس ا، وتوحيد الربوبية يدخل تحت توحيد المعرفة والإثبات، ولا ينازع فيه إلا مكابر جاحد، حتى أن المشركين كانوا يؤمنون بأن الله هو المالك المدبر. والعجيب أن المتكلمين عندهم أن المقصود الأعظم من أنواع التوحيد هو توحيد الربوبية وليس توحيد الألوهية، مع أنه هو التوحيد الذي حصل فيه النزاع والخصام بين الأنبياء والرسل مع أقوامهم.
وتوحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، والبعض يقول: هو توحيد الله بأفعاله، وهذا معناه لا خالق ولا رازق ولا متصرف إلا الله، وقد كان المشركون يقرون بهذا كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) فقد كانوا يقرون بأن الله هو الخالق المالك المتصرف الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم يخاصم المشركون الأنبياء في الربوبية؛ لأنه أمر فطري، وكل إنسان يوقن به، أما الذي ينكره فإنه ينكره جحودا، وفي الظاهر فقط كما فال الله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) لا نزاع فيه بين الأقوام وأنبيائهم.
أما توحيد الألوهية: فهو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، وهي العبادة، وهو ما دلت عليه كلمة التوحيد لا إله إلا الله بالمطابقة؛ لأن معنى لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله وهو معنى توحيد الألوهية (أن لا نعبد إلا الله)، وهو الذي يقع فيه النزاع والخصام بين الرسل وأقوامهم، فيقرون بتوحيد الربوبية ويشركون في العبادة بصرفها لله ولغير الله. الأنبياء جاءوا للدعوة إلى إفراد الله بالعبادة (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وهذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأكبر في التوحيد.(2/21)
أما توحيد الأسماء والصفات: فهو إفراد الله بما وصف به وسمى به نفسه وبما سماه ووصفه به رسوله ^ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تكييف.
- توحيد الألوهية أعظم أقسام التوحيد:
ومن العجيب أن أعظم أنواع التوحيد خالف فيه بعض الناس وقالوا: هو توحيد الربوبية، والصحيح أنه توحيد الألوهية؛ لأنه يدل على معنى لا إله إلا الله مطابقة، وهو: لا معبود بحق إلا الله كما تقدم؛ لأن الإله هو المألوه، والمألوه هو المعبود حباً وتعظيماً كما قال الشاعر:
لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي
تأله يعني: تعبد.
و(إله) اسم (لا)، أما خبرها فهو محذوف تقديره (حق) يدل عليه قوله تعالى: (ذلك بأن اله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل). ومعناها: لا تصرف العبادة إلا لله وهو معنى توحيد الألوهية مطابقة، وهذا هو قول أهل السنة. وقال المبتدعة: إن معنى لا إله إلا الله: أي: لا خالق إلا الله، وعندهم أن من قال: لا خالق إلا الله، فهو موحد وإن طاف بالقبور وسجد لغير الله؛ لأن الغاية عندهم توحيد الربوبية.
والفرق بين هؤلاء المبتدعين وبين أهل السنة والجماعة في أمرين:
الفرق الأول:أهل السنة يقولون: توحيد الألوهية هو الغاية أما توحيد الربوبية فهو وسيلة، فإذا علمت أن الله هو الخالق الرازق المالك المدبر أوصلك إلى الغاية العظمى وهي صرف العبادة لله وحده دون من سواه، أما المبتدعة فيقولون: إن توحيد الربوبية هو الأصل، فمن اعتقد أنه لا خالق إلا الله فهو موحد وإن طاف بقبر وصرف عبادة لغير الله ـ، وهذا قول خاطئ.
الفرق الثاني: أهل السنة والجماعة يقولون: توحيد الربوبية شيء فطري، تدل عليه الفطرة، أما المبتدعة فيقولون: إنه نظري، أي أنه لا بد له من أدلة وبراهين تدل عليه.(2/22)
الفرق الثالث: المبتدعة يقولون: توحيد الربوبية هو كل التوحيد، فتقول: لا إله إلا الله، أي: لا خالق إلا الله، ومن قال: لا خالق إلا الله فهو كامل التوحيد وإن أشرك في الألوهية.وأهل السنة والجماعة يقولون: توحيد الربوبية ركن من أركان التوحيد، لأن التوحيد ثلاثة أقسام كما سبق ذكرها، فإذا انخرم ركن آخر كتوحيد الألوهية فإنه لا يكون الإنسان موحداً، فهو ركن من أركان الإيمان وليس هو الإيمان كله، ولا إله إلا الله تدل عليه بالاقتضاء، وتدل على توحيد الألوهية والعبادة بالمطابقة.
- أقسام دلالات الألفاظ:
لأن دلالة الألفاظ على الأشياء على ثلاثة أقسام: -
دلالة المطابقة: وهي دلالة اللفظ على سائر معناه. مثلاً: كلمة بيت تدل على الجدران والسقف والغرف، كل هذا بيت، وهذا كله بالمطابقة.
دلالة التضمن: وهي دلالة اللفظ على جزء من معناه، مثلاً: كلمة بيت تدل على الجدار وحده دلالة تضمن، يعني أن الجدار جزء من البيت.
دلالة التزام: معناها دلالة اللفظ على أمر خارج عنه لازم له، مثل لفظ بيت يدل على وجود الفرش والأثاث؛ لأنك إذا قلت: بيت، يتبادر إلى ذهنك أنه لابد من وجود فرش ولا بد من وجود أثاث في البيت لكن كلمة بيت لا تدل على فراش وأثاث بذاتها.
ومما سبق من دلالات الألفاظ على الأشياء يتضح لنا أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله تدل على توحيد الألوهية والعبادة بدلالة المطابقة؛ لأن معنى لا إله إلا الله هو: لا معبود حق إلا الله، ومعنى توحيد العبادة هو: ألا تصرف عبادة إلا لله، وتدل على النوعين الآخرين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات بدلالة الالتزام؛ لأنه يلزم من عدم صرفنا العبادة إلا لله أن يكون هو الخالق المالك المتصرف المتفرد بالربوبية، ويلزم من عدم صرفنا العبادة إلا لله أن يكون له الأسماء الحسنى الصفات العلى (أي المتفرد بهذه الأسماء والصفات).(2/23)
لأنك لا تعبد إلا من له الكمال في ذاته وأسمائه وصفاته، فعبادتك لله وتحقيق الألوهية يستلزم منه إيمانك بأسماء الله وصفاته وأنه الرب الخالق المالك المتصرف في هذا الكون، فأنت لا تعبد إلا الكامل الذي خلقك ورزقك.
وقول الناظم (رب الخلائق واحد) ساقنا إلى الكلام عن توحيد الربوبية ولو كانت الإشارة إلى توحيد الألوهية لكان أولى؛ لأنه أهم، ولأنه هو الذي حصلت فيه الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم.
- نفي التشبيه وإثبات الصفات لله:
قال الناظم /:
قالوا: فهل لله عندك مشبهُ ... قلت: المشبه في الجحيم الموصد
قالوا:فهل تصف الإله أبن لنا؟ ... قلت: الصفات لذي الجلال السرمدي
قالوا: فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات؟ قلت: كذاك لم تتجدد
قال الناظم /: (قالوا) يعني: سألني هؤلاء (فهل لله عندك مشبه) المشبه يعني الشبيه والمشابه، هل تقول: إن لله شبيهاً؟ قال: (قلت: المشبه في الجحيم الموصد). يعني: الذي يشبه الله بخلقه أو يشبه الخلق بالله فهو في الجحيم الموصد، يعني: النار، و(الموصد) مأخوذة من المؤصد، والمؤصد: المغلق كما في قوله تعالى: (إنها عليهم مؤصدة) يعني: إنها عليهم مغلقة، قد أغلقت عليهم النار.
- الفرق بين التشبيه والتمثيل:
(الشبيه) هو المساوي في أكثر الصفات، فإذا قلت: فلان شبيه فلان، أي: يساويه في أكثر الصفات، ويماثله في أكثر الصفات. أما (المماثل) فهو المساوي في جميع الصفات من كل وجه، فإذا قلت: فلان مثل فلان، أي: أنه مساويه في جميع صفاته ويساويه في جميع خصائصه، ومن هذا نعرف أن الشبيه أقل من المثيل، فالمثيل: هو المساوي في جميع الصفات أو المساوي في كل الوجوه، أما الشبيه: فهو المساوي في بعض الصفات، وإذا قلنا: تمثيل الله تعالى بخلقه أي: إثبات مساوٍ لله تعالى في جميع صفاته، وإذا قلنا: التشبيه لله تعالى فالمعنى إثبات شبيه لله تعالى في بعض الصفات وليس في جميعها.
- الفرق بين التشبيه والتمثيل وبين التكييف:(2/24)
والفرق بين التمثيل والتشبيه وبين التكييف:
الوجه الأول: أننا نؤمن أن لصفات الله كيفية ولكننا لا نعلم هذه الكيفية:
الوجه الثاني: التكييف هو إثبات كيفية صفات معينة سواء كانت مطلقة أو مشابهة لصفات معينة، أي: نقول: كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا سواء كانت مشابهة لصفات المخلوقين أو غير مشابهة لصفات المخلوقين، فإذا أثبتنا كيفية لله تعالى وصفته، فهذا هو التكييف، ويكون تكييفاً يقتضي المشابهة بأن نقول هذه الكيفية مماثلة لكيفية صفات العبد وقد لا تقتضي المشابهة بأن نصفها بشيء ليس كصفات المخلوقين.
الوجه الثالث: أن التكييف يختص بالصفات، فصفات الله لها كيفية ولكنها غير معلومة لنا، فالتكييف يختص بالصفات، أما التشبيه فيكون في القدر وفي الصفة وفي الذات، فقد تشبه ذات الله تعالى بذات المخلوقين، وتشبه صفات الله بصفات المخلوقين، وقد تشبه قدر الله تعالى بقدر بعض المخلوقين، أو بالعكس، فترفع من مكانة المخلوقين حتى تجعلهم مساوين ومشابهين لقدر الله أو لصفاته، والمراد من هذا: أن التكييف أن تحكي كيفية لصفات الله تعالى، أما التشبيه والتمثيل فهو أن تجعل هذه الصفات مشابهة لصفات العباد، فالتكييف قد يكون فيه تشبيه وقد لا يكون فيه تشبيه، فقد تكيف الصفة على هيئة لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، فلا يلزم من وجود التكييف وجود التشبيه، فالكيفية مختصة بالصفات , أما التشبيه فقد يكون في الصفة وقد يكون في القدر وقد يكون في الذات.
- نفي التشبيه من أصول أهل السنة والجماعة:(2/25)
والتشبيه الذي نفاه الناظم في هذا البيت من أصول أهل السنة نفيه، فليس لله سبحانه وتعالى شبيه يقول ـ: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) قال شيخ الإسلام ابن تيميه عن هذه الآية إنها دستور أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات؛ لأن هذه الآية في أولها نفي الشبيه عن الله ـ، وفي آخرها إثبات صفات لله ـ، أولها: (ليس كمثله شيء) وآخرها: (وهو السميع البصير) فأول الآية ينفي مشابهة الله ـ لخلقه , وآخرها يثبت الصفات لله تعالى، والمعنى أن أهل السنة على طريقة الإثبات دون التشبيه، فيثبتون لله تعالى الصفات التي لا تشبه صفات المخلوقين، ومعنى (ليس كمثله شيء) الكاف في هذه الآية اختلف فيها الناس على قولين، والقولان كلاهما لا مانع منه، فليس هذا الاختلاف اختلاف تضاد وإنما هو اختلاف في فهم معنى الكاف.
- الخلاف في الكاف في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء):
فالقول الأول أن هذه الكاف صلة: وإذا قيل هذا الحرف صله فالمعنى أنه حرف زائد لأجل التأكيد، ولكن يعبرون في القرآن بقولهم: صلة، ولا يعبرون بكلمة (زائد) تأدباً مع كتاب الله تعالى, وإذا كان هذا الحرف زيد للتأكيد فالمعنى: ليس مثل الله شيء وليس مثل الله شيء، كأنك تكرر، وهذا معنى التأكيد.
القول الثاني أن الكاف على أصلها: فيكون معنى الآية: ليس مثل مثل الله شيء)، والمعنى من قوله: ليس مثل مثله شيء، أنه إذا انتفى مثيل المثل فانتفاء المثل من باب أولى، فإذا كان ليس مثل مثله شيء فمن باب أولى ليس مثله شيء ـ.
(التشبيه) يقول الناظم: المشبه في الجحيم، يعني: إنني لا أقول بالتشبيه فإن المشبه في الجحيم.
- أقسام التشبيه:
التشبيه ينقسم إلى قسمين:(2/26)
القسم الأول تشبيه الخالق بالمخلوق: وهو الذي يذكر في باب الأسماء والصفات فيقال: إن صفات الله تعالى تشبه صفات المخلوقين أو يقال: إن ذات الله تعالى تشبه ذوات المخلوقين، أو تشبه ما للمخلوقين من صفات وخصائص،فإثبات هذا الشبيه تشبيه للخالق بالمخلوق وهذا منفي عن الله ـ وإنما يقول به المشبهة. ويقال إن أول من قال بذلك هشام بن الحكم الرافضي، فأول من قال بهذا القول هم هؤلاء الفرقة من الرافضة الذين قالوا: إن الله ـ يشبه خلقه في صفاته، وهم أرادوا من ذلك المبالغة في الإثبات فقالوا: إذا قال الله ـ: (وهو السميع البصير) نقول: إن سمعه كسمع خلقه، وبصره يماثل بصر خلقه. وفي قوله: (الرحمن على العرش استوى) استوى كاستواء الخلق على دوابهم أو على الفلك أو غيره, وإذا قال: (إن الله ينزل) فهو نزول كنزول الخلق، وهذا خطأ، ومشابهة الله تعالى لخلقه منفية شرعاً وعقلاً:
منفية شرعاً بهذه الآية (ليس كمثله شيء) فالشرع نفى أن يكون هناك شبه بين الخالق والمخلوق.
ومنفية عقلاً بأننا نؤمن بأن الله ـ هو الخالق الذي أوجد الخلق من العدم، ومن كان كذلك فإنه يمتنع أن يكون مشابهاً لخلقه الضعيف العاجز.
القسم الثاني تشبيه المخلوق بالخالق: وهو أن تشبه العباد بالله سبحنه وتعالى، ومعنى هذا القسم أن تثبت للمخلوق شيئاً من خصائص الله تعالى، وقدمنا أن معنى التوحيد هو إفراد الله تعالى بما يختص به، فإذا أثبت للمخلوق شيئاً مما يختص به الخالق تكون قد شبهت المخلوق بالخالق، فهذا التشبيه منافاة لنوع أو أكثر من أنواع التوحيد، وتشبيه المخلوق بالخالق قد يكون تشبيهاً له في أفعاله، وقد يكون تشبيهاً له في صفاته، وقد يكون تشبيهاً له في حقوقه.(2/27)
فالقسم الأول تشبيه المخلوق بالخالق في أفعاله، وهذا شرك في توحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية كما قدمنا هو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، فمن أثبت خالقاً مع الله أو أثبت مدبراً مع الله تدبيراً كونياً أو تدبيراً شرعياً فإنه في ذلك يكون قد شبه المخلوق بالخالق في أفعاله، والله ـ مختص بالخلق والرزق، ومختص بالإحياء والإماتة، فمن جعل للمخلوق شيئاً من هذه الحقوق فقد شبه المخلوق بالخالق وهذا ينافي توحيد الربوبية.
…القسم الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق في صفاته، وهذا شرك في توحيد الأسماء والصفات ، وهذا يقع من بعض الغلاة الذين يغلون في النبي عليه الصلاة والسلام فيثبتون له شيئاً من خصائص الله تعالى وصفاته، وقد يقع من بعض الناس تشبيه للمخلوق بالخالق ولو لم يكن هذا المخلوق من العباد الصالحين الزهاد، بل يكفي أن يكون حاكماً أو كبيراً أو مقدماً أو أميراً، ومن ذلك قول المتنبئ يمدح شخصاً فقال:
فكن كما شئت يا من لا شبيه له ... وكيف شئت فما خلقٌ يدانيك
وهذا تشبيه للمخلوق بالخالق في صفاته.
القسم الثالث: تشبيه المخلوق بالخالق في حقوقه، وهذا شرك في توحيد الألوهية، أي في الحقوق التي تثبت للخالق؛ فإن ما هو حق الخالق على الخلق، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وهذا هو توحيد الألوهية، فإذا صرفت شيئاً من أنواع العبادة إلى مخلوق تكون قد شبهت هذا المخلوق بالله ـ في حقوقه، والمشركون الذين يجعلون لأوثانهم حقاً في الألوهية قد ساووا هذه المخلوقات بالله ـ.وشبهوا هذه المخلوقات بالله ـ.(2/28)
يقول المؤلف: (المشبه في الجحيم الموصد)، لأن المشبه من الفرق الضالة، وقد أخبرنا النبي ^: (أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فيشمل هذا الفرق التي تشبه الله تعالى بخلقه وتشبه الخلق بالله ـ، فكلاهما منفي بالآية، لكن هذا التشبيه قد يكون شركاً في الربوبية، وقد يكون شركاً في الألوهية، وقد يكون في الأسماء والصفات، فالقاعدة التي نفهمها من كلام المؤلف أنه ينفي الشبيه والمثيل عن الله ـ
- قواعد في الأسماء والصفات:
وهذه أول قاعدة في باب الأسماء والصفات يذكرها المؤلف نفي الشبيه والمثيل عن الله ـ، فلا نشبه صفات الله تعالى بصفات الخلق، ثم ذكر الناظم في البيت الذي يلي هذا.
- إثبات الصفات لله:
القاعدة الثانية من قواعد الصفات: وهي إثبات الصفات لله ـ.
فأولاً نقول: ليس كمثل الله شيء فننفي الشبيه والمثيل، والقاعدة الثانية إثبات الصفات، والمعنى أننا نثبت الصفات إثباتاً ليس فيه تشبيه، والسبب في أنه قدم الكلام في نفي الشبيه قبل الكلام في إثبات الصفات: أن من أنكر الصفات أو حرف الصفات أو أول الصفات وصرفها عن ظاهرها يستدل على مذهبه وعلى طريقته بأنه يريد من ذلك نفي التشبيه عن الله ـ، أو كما يقولون: نريد تنزيه الله تعالى، فهنا إما أن يكونوا كالغلاة الذين قالوا: لا نثبت لله تعالى الصفات مطلقاً، فنقول: الله حياً بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر، وينفون هذه الصفات لئلا يلزم من ذلك تشبيه الله تعالى بخلقه، أو يكونوا كبعض الفرق التي تثبت بعض الصفات التي دل عليها العقل وتحرف باقي الصفات، وتحريفهم لباقي الصفات لأن هذه الصفات يقتضي إثباتها عندهم تشبيه الله تعالى بخلقه، فلما قدم الناظم الكلام على نفي الشبيه عن الله تعالى بعد ذلك قرر مسألة إثبات الصفات، ليفهم من يقرأ هذه المنظومة أنه إثبات بلا تشبيه.
- الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات:(2/29)
ومن قال: إن إثبات الصفات لله تعالى يقتضي التشبيه، يجاب عليه بالقاعدة التي ذكرناها في شروحنا لغير هذه المنظومة وهي: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فنقول: أنت تثبت لله ـ ذاتاً، ومعلوم أن لكل مخلوق ذاتاً، فهل إثباتك الذات لله ـ يقتضي تشبيه الخالق بالمخلوق؟ فإذا قال: لا، لا يقتضي التشبيه بل أثبت لله تعالى ذاتاً تليق به وأثبت للمخلوق ذاتاً تليق به. فنقول: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أثبت لله ـ ذاتاً تليق به لا تشبه ذوات المخلوقين فأثبت لله تعالى صفات تليق بالله ـ لا تشبه صفات المخلوقين، فلله سمع يليق به لا يشبه سمع المخلوقين، وله بصر لا يشبه بصر المخلوقين، وله نزول يليق به لا يشبه نزول المخلوقين، إلى آخر الصفات.
- إثبات القدر المشترك بين الخالق والمخلوق:
الأمر الآخر أن كل الموجودات لابد من وجود قدر مشترك بينها، فنقول للذي ينفي الصفات أو يحرف الصفات أو يؤولها لغرض نفي التشبيه، كل الموجودين لا بد بينهم من قدر مشترك، فأنت تثبت أن العبد موجود وتثبت أن الله ـ موجود، وإثبات الوجود للخالق وإثباته للمخلوق لا بد فيه من قدر مشترك، فإذا قال: أنا أثبت وجوداً لله يليق به وأثبت وجوداً للمخلوق يليق به، فوجود المخلوق قاصر؛ لأنه مخلوق ولأنه يلحقه الفناء، أما الله ـ فهو الأول قبل كل شيء فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، فنقول: كما أثبت هذه الصفة أثبت باقي الصفات، ثم إن كل موجودين، وكل شيئين في الدنيا لابد بينهم من قدر مشترك، فإذا نفي القدر المشترك بينهما صار هذا الوجود ليس وجوداً حقيقياً؛ لأن الموجودات على قسمين:-
- أقسام الموجودات:
إما موجودات حقيقية: يعني لها وجود في الحقيقة. فهذه الموجودات الحقيقية لا بد من وجود قدر مشترك بينها.
وإما موجودات ذهنية: فهي موجودة في ذهن الإنسان قد يتخيلها، ولا يلزم من تخيلها أن تكون موجودة في الحقيقة(2/30)
فنقول: الموجودات الحقيقية لا بد أن يكون بينها قدر مشترك، والقاعدة في الأسماء ودلالتها على المعاني أن الأسماء على أنواع: -
- أقسام الأسماء باعتبار لفظها ومعناها:
النوع الأول المترادف: وهو ما اتفق معناه واختلف لفظه، مثل: الأسد والليث، اسمان يدلان على حيوان مفترس.
النوع الثاني المتباين: وهو ما اختلف لفظه ومعناه، مثل: السماء والأرض.
النوع الثالث المشترك: وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه، مثل: إطلاق المشتري على البائع وعلى الكوكب، ومثل إطلاق العين على العين الباصرة وعلى عين الماء وعلى الذهب وعلى الجاسوس، هذه كلها نطلق عليها عين.
النوع الرابع المتواطئ: وهو ما اتفق لفظه واتفق معناه وينقسم إلى قسمين:
المتواطئ الكلي: يقتضي المساواة، كيد زيد ويد عمرو، كلاهما إنسان فاليد متساوية، يد الإنسان هذا تساوي يد الإنسان هذا وإن كانت تختلف عنها، فيد عمر ليست يد بكر، ويد زيد ليست يد علي، وهكذا، لكن المعنى فيها واحد، وهو معنى اليد المعروفة بشكلها وأصابعها وما فيها من أظفار وما فيها من جلد، وما فيها من شعر وما فيها من تقاسيم، وهذه المعاني معروفة ومتساوية، ولكن وإن حصل هذا التساوي إلا أنها مختلفة في العين، فيدي ليست يد الآخر. هذا هو المتواطئ الكلي.(2/31)
المتواطئ المشكك: ومعناه: اللفظان المتفقان في اللفظ والمعنى، لكن ليسا متساويين بل بينهما تفاوت في الشدة والقدر، مثل: ضوء الشمس وضوء السراج، فهذه الإضاءة الكهربائية البسيطة تسمى نوراً وتسمى ضوءاً، وكذلك الشمس يسمى ما فيها نوراً ويسمى ضوءاً، فالمعنى واحد، كلاهما نور، لكن ليس هذا هو هذا، ومثل يد الإنسان ويد الذرة، ويد الفيل، فهذه يد حقيقية وهذه يد حقيقية وتلك يد حقيقية، لكنها ليست متساوية ولا متماثلة، والله تعالى خاطب العباد باللغة العربية، كما قال: (بلسان عربي مبين) وقال ـ: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) فالسامع لكلام الله ـ لا بد أن يفسره على مقتضى كلام العرب الذي يفهمونه، وهذه هي حقيقة الإشكال الذي يرد عند هؤلاء الذين يشبهون صفات الله تعالى بخلقه أو الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون يصرف اللفظ عن ظاهره، يحرفون هذه النصوص، يقولون أنها تقتضي التشبيه فنقول: إذا خاطبت أحداً بألفاظ معينة فهذه الألفاظ التي تريد أن تعبر بها عن المعاني التي تريدها لا بد أن يكون فيها قدر مشترك مع ما يفهم المخاطَب، فمن خلاله يفهم المعنى، فالله ـ وصف لنا ما في الجنة، وأن في الجنة الفاكهة، وأن في الجنة الخمر والنساء، وقد قال ابن عباس ا: (ليس شيء مما في الجنة يشبه ما في الدنيا إلا في الاسم) فنؤمن بأن الذي في الجنة نساء حقيقية، ونؤمن بأنها خمر حقيقية، ونؤمن بأنها فاكهة حقيقية، ونؤمن بأنه رمان حقيقي، ونؤمن بأن في الجنة فرشاً حقيقية إلى آخر هذه النصوص، مع أننا نؤمن بأن هذه الأشياء تخالف ما نعرفه في الدنيا، وكذلك نثبت لله تعالى الصفات التي يفهمها العرب من كلامهم وإطلاقاتهم واستخدامهم للفظ الدال على هذه الصفة، وإن كنا لا نعرف الكيفية، ولا نجعل هذه الصفة مشابهة لصفات المخلوقين.
- إثبات الصفات لله تعالى:
يقول الناظم / في إثبات الصفات:
قالوا: فهل تصف الإله أبن لنا؟ ... قلت: الصفات لذي الجلال السرمدي(2/32)
بعد أن سألوه عن التشبيه ونفى التشبيه، (قالوا: فهل تصف الإله؟) يعنى: هل تثبت الصفات لله ـ، وتضيفها له؟
(أبن لنا): يعني: وضح لنا، والتبيين هو: التوضيح. فأجابهم فقال: (قلت الصفات لذي الجلال السرمدي) يعني: أنا أثبت الصفات لله ـ فبين أنه يثبت الصفات بعد أن بين في القاعدة السابقة أنه ينفي الشبيه.
- الإخبار عن الله بالسرمدية:
(لذي الجلال السرمدي) الله ـ هو ذو الجلال والإكرام، وقوله (السرمدي) يعني: هو الدائم في طرفي الزمان. لأن الزمان له طرفان، ماضٍ ومستقبل، فالسرمدي يعني: الذي يدوم في طرفي الزمان، أي: الذي يدوم في الأزل ويدوم في الأبد. لكن تسمية الله تعالى بأنه (السرمدي) أو بأنه (أزلي) هذه التسميات لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وعندنا قاعدة في الأسماء والصفات وهي: أننا لا نثبت لله تعالى اسماً ولا صفة إلا إذا دل عليها الكتاب والسنة، والكتاب والسنة لم يصفا الله ـ بأنه سرمدي إنما وصفاه بأنه الأول والآخر، فنقول: إن هذا ليس من باب وصف الله تعالى، إنما هو من باب الإخبار عن الله، ولا بد في الإخبار عن الله أن يكون ما يخبر به عن الله ـ معناه موافق لما أثبته الله تعالى لنفسه، وهنا أخبر عن الله بأنه هو السرمدي، وهي صفة معناها ثابت في كتاب الله؛ لأن الله تعالى يقول: (هو الأول والآخر) يعني هو الدائم فليس يلحقه فناء وهو الأول لم يسبقه عدم، هذا هو المعنى الذي يريده هنا، لكن ومع ذلك فإن التعبير بالألفاظ الشرعية هو الأولى.
- الجمع بين النفي والإثبات في باب الصفات:(2/33)
ويلاحظ من تركيب هذه الأبيات أنه نفى الشبيه ثم أثبت الصفات جرياً منه على طريقة الآية الكريمة: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فنفى المشابهة ثم أثبت الصفات، وكذلك الناظم أراد أن يقرر ذلك فبدأ بنفي الشبيه ثم بعد ذلك أثبت الصفات لله ـ. كان في السابق هذه الآية مكتوبة على جدار الكعبة (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فبعض الجهمية لما رأوا هذه الآية مكتوبة على جدار الكعبة كره ذلك وود لو أنه كتب: (ليس كمثله شيء) لأن طريقتهم تحريف نصوص الصفات، وعدم إثباتها لله لأنه يلزم منها التشبيه في زعمهم ولو أمعنوا النظر لأثبتوا الصفات لأن إثباتها لا يقتضي التشبيه ولذا كان بعض الفلاسفة والباطنية وبعض من ضل في باب الأسماء والصفات يصف الله بالنفي ولا يصفه بالإثبات، يقول: ليس كذا وليس كذا ويقول: لا تحويه الجهات ولا يدركه شيء، وليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا عن يمين العالم ولا عن يسار العالم، ويجعل الصفات كلها صفات نفي دون إثبات، وقد قال أهل العلم: إن من قال ذلك فقد شبه الله ـ - وهو لا يشعر- بالمعدومات والله تعالى يقول: (ليس كمثله شيء)، فلا يشبه الله تعالى لا بالموجودات ولا بالمعدومات، فهؤلاء شبهوا الله تعالى بالمعدومات لأنهم لا يثبتون له الصفات، فجاءت طائفة -لما قيل هذا القول- أرادوا أن يخرجوا ويتخلصوا من هذا المأزق، لئلا يشبهون الله بالمعدومات، فنفوا عن الله الصفة وضدها، قالوا مثلاً: ليس الله تعالى موجوداً ولا معدوماً، وليس الله تعالى داخل العالم ولا خارجه، وهكذا، وهذا تشبيه منهم لله بالمستحيلات، فهم في جميع ما فعلوه مشبهين لله. والحقيقة أن من أول الأسماء والصفات وحرفها إنما حرفها بسبب أن قلبه قد أشرب التشبيه، فهو لا يتصور في قلبه إثباتاً إلا على مقتضى التشبيه، وإلا لو سلم قلبه من التشبيه لأمكن له أن يتصور إثباتاً.
- أقسام صفات الله عز وجل:
وصفات الله ـ على نوعين:(2/34)
صفات ذاتية: وهي الصفات التي لا تنفك عن الله ـ، مثل الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة.
صفات فعلية: وهي الصفات التي تتعلق بالمشيئة، بمعنى أنه إذا شاء الله تعالى فعلها، مثل: الخلق والنزول والإحياء والبعث والمجئ.
الصفات الفعلية تنقسم إلى قسمين:
أ.…صفات فعلية متعدية: مثل الخلق والرزق، فكون الله ـ يرزق العباد، ويخلق العباد أنه تعالى يخلق السموات والأرض، هذه كلها صفات فعلية متعدية.
ب. صفات فعلية غير متعدية: مثل النزول والمجيء لفصل القضاء، ومثل: الكلام باعتبار آحاده.
- أركان الإيمان بالأسماء والصفات:
إثبات الأسماء والصفات لله ـ يتضمن ثلاثة أركان:
الركن الأول: الإيمان بالاسم: ففي قوله تعالى: (وهو السميع البصير) نثبت ونؤمن أن من أسماء الله السميع، وأن من أسماء الله البصير، وفي قوله: (الحي القيوم)نثبت أن من أسماء الله تعالى الحي، ومن أسماء الله تعالى القيوم، وهكذا.
الركن الثاني أن نثبت لله الصفات التي أثبتها لنفسه: فنثبت لله تعالى المجيء الوارد في قول الله تعالى: (وجاء ربك)ونثبت لله الكلام ونثبت لله تعالى السمع لقوله: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)، ونثبت الصفات التي تضمنتها الأسماء، فإن الصفات منها ما تضمنته الأسماء ومنها ما لم يتضمنه اسم، والذي تضمنه اسم مثل: الحي، يتضمن أن الله تعالى صفته الحياة، والسميع يتضمن أن صفة الله تعالى السمع، والبصير يتضمن أن صفة الله تعالى البصر، والقيوم يتضمن أن صفة الله تعالى القيومية، فهذه الصفات تتضمنها أسماء، فإذا أثبتنا الاسم نثبت الصفة التي يتضمنها هذا الاسم؛ لأن كل اسم فهو متضمن لصفة، وكذلك نثبت الصفات التي لا تتضمنها أسماء مثل: المجيء والنزول والاستواء على العرش، فكل هذه نثبتها لله ـ.(2/35)
الركن الثالث إثبات أثر هذه الصفة: فإيماننا بأن الله ـ هو الخالق يقتضي أن نثبت لله تعالى صفة الخلق، ويقتضي أن نقول: إن كل ما إنما في الكون من حركة وسكون فهو مخلوق لله ـ وهكذا، فنثبت أثر هذه الصفات.
- صفات الله تعالى غير مخلوقة:
قال الناظم /:
قالوا: فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات؟ قلت: كذا لم تتجدد
يقول الناظم / وهو لا يزال يذكر في نظمه هذه الطريقة في المحاورة يقول: (قالوا فهل تلك الصفات قديمة كالذات؟ قلت كذاك لم تتجدد) يشير إلى قاعدة: (الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات). يعني أنهم سألوه: هل صفات الله التي تثبتها له قديمة كالذات؟ لأن ذات الله قديمة؟ قال: إنها لم تتجدد، ومعنى التجدد: أن يحدث الشيء بعد انقطاعه، فإذا انقطع الشيء ثم حدث فهذا يقال له قد تجدد، كما إذا كان الشخص جالساً ثم قام فإن قيامه قد تجدد له بعد القعود، فيقول: إن صفة الله تعالى لم تتحدد بل هي قديمة.
- إطلاق القدم على ذات الله وصفاته:(2/36)
وهنا وصف ذات الله تعالى بالقدم، وعند السلف أن القديم ليس من أسماء الله تعالى، وليس القدم من صفات الله تعالى؛ لأن عندهم قاعدة في الأسماء والصفات وهي: أن الأسماء والصفات توقيفية، فلا نثبت لله تعالى اسماً أو صفة إلا ما جاء في الكتاب والسنة، ولم يرد في الكتاب والسنة وصف الله تعالى بأنه قديم، ولا تسمية الله تعالى بالقديم، ولذا نقول: ليس من أسماء الله تعالى القديم، ونقول: إن القدم ليس من صفات الله تعالى، لكن باب الإخبار عن الله أوسع من باب الصفات، فإذا أخبر إنسان عن الله تعالى بأنه قديم فهذا الإخبار قد يكون مقبولاً؛ لأن المراد بالقدم هو ما دل عليه اسم الله تعالى الأول، فالله تعالى هو الأول، وهم يريدون بقولهم: قديم هذا المعنى وإلا فاللغة لا تطلق القديم على الأول الذي ليس قبله شيء، وإنما يطلق القديم في اللغة على المتقدم على غيره، فإذا كان الشيء تقدم على غيره فإنه يسمى قديماً، ولو لم يكن هو الأول الذي ليس قبله شيء، ففي قوله تعالى: (حتى عاد كالعرجون القديم) وصف العرجون بأنه قديم، ولا يعني هذا أنه أول ليس قبله شيء، بل المعنى أنه متقدم على العرجون الجديد، ولذا فهذه الصفة صفة القديم فيها معنى قاصر عن معنى الأول، وبعض من يصف الله تعالى يذكر أن صفاته قديمة يعني بهذا أنها ليست مخلوقة كذاته، وهنا لعلنا نحمل كلامه على هذا المراد.
- تجدد الصفات الفعلية وحدوثها:(2/37)
قال: (كذاك لم تتجدد) يقصد إنها ليست مخلوقة بل إنها ثابتة لله ـ. وقوله: (لم تتجدد) قد يُفهم منه أن الناظم / يقول بقول من ينفي عن الله ـ الصفات الفعلية، ويقول إن إثبات الصفات الفعلية لله ـ يقتضي حدوثها وتجدد شيء لله لم يكن، وهذا الحدوث لا يحل إلا بحادث، فإذا أثبتنا حلول هذه الحدوث بالله فإننا ننفي عن الله تعالى صفة القدم، ولأجل هذا فبعض المبتدعة ينفي عن الله الصفات الفعلية، والصفات الفعلية هي المتعلقة بالمشيئة مثل: النزول، فيقول: إذا قلنا إن الله تعالى ينزل أثبتنا لله النزول وكذلك إذا قلنا إنه: استوى، وأيضاً إذا قلنا: إنه يجيء، هذه الصفات كلها حادثة، يعني: ليست ملازمة لله ـ، ليست كالعلم والحياة والقدرة، التي هي صفات ملازمة لله، فيقول: إثباتنا لهذه الصفات الفعلية يقتضي أن الله ـ تحل به الحوادث، ويعني بالحوادث: الأفعال الحادثة الطارئة الجديدة، يقول: وهذه الحوادث لا تحل إلا بحادث، والله تعالى ليس بحادث، فننفي عنه الصفات الفعلية، فينفون الصفات الفعلية لأجل أن يمنعوا عنه حلول الحوادث به، ولذا يثبتون الصفات الذاتية ولا يثبتون لله تعالى الصفات الفعلية؛ لأن إثباتها عندهم يقتضي حلول الحوادث بالله، وهذا المعنى يمكن أن يُفهم من كلام الناظم، ولكن نقول: لعل الناظم / إنما أراد بقوله: (لم تتجدد) يعني: أنها غير مخلوقة، وإن كان استعماله للفظ (قديم) لا ينبغي لأنه مع كونه لم يرد، فهو أيضاً مشابهة لقول هؤلاء المبتدعة الذين يقولون: إن صفات الله قديمة، ويقصدون نفي الصفات الفعلية، أما أهل السنة فيثبتون لله تعالى الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة، فلم يزل الله ـ ولا يزال يوجد أفعاله شيئاً فشيئاً، ولا يمكن لأحد أن يتصور أن الله ـ استوى على العرش قبل أن يخلق العرش، والذين يقولون إننا ننفي الصفات الفعلية عن الله تعالى لأجل أن لا نقول بحلول الحوادث في الله، نقول لهم: إن الله تعالى أثبت لنفسه أنه خلق(2/38)
العرش ـ ثم استوى عليه، وإذا قلنا: إن هذه الأفعال ليست حادثة لله بل إنها ملازمة لله ـ في الأزل فمعنى هذا أن نقول: إن الله تعالى استوى على العرش قبل أن يخلق العرش، ولذا فإن أهل السنة يثبتون لله تعالى الصفات الفعلية ويقولون: إن الله ـ لا يزال يوجد أفعاله شيئاً فشيئاً وهذا لا يقتضي حلول الحوادث الذي يذكرونه.
وكلمة (حلول الحوادث) لفظ مجمل، ولم يأتِ في القرآن أو السنة نفي حلول الحوادث عن الله؟ وكذلك لم يأت في القرآن أو السنة إثبات حلول الحوادث لله، فهذا اللفظ لا نطلقه بنفي ولا إثبات، لكن نقول: إن أردتم بحلول الحوادث أن الله تعالى يفعل ما يشاء؟ فنقول: نعم إن الله يفعل ما يشاء، ولا يكون لفظكم المبتدع واستعمالكم لمثل هذه المصطلحات سبباً للعدول بنا عن كتاب ربنا وعن سنة نبينا عليه الصلاة والسلام. وأما إن أردتم بحلول الحوادث حلول المخلوقات فيمكن أن يكون لهذا وجه. لما تطرق المؤلف / للكلام عن الصفات ناسب أن نذكر الفرق بين الاسم والصفة، ويتلخص الفرق بينهما في أربعة أمور:-
- الفرق بين الأسماء والصفات:
الأمر الأول: أن الاسم علم على ذات الله ـ: مثل العلي، والرحمن، والملك، والسلام، والمؤمن، والمهيمن، هذه كلها أسماء وأعلام على ذات الله ـ، أما الصفة فإنها تضاف إلى الله ـ مثل: قدرة الله، وسمع الله، وبصر الله، مثلاً: قدير: اسم، والصفة: قدرة الله ـ، فالاسم: القدير، والصفة: القدرة، فالصفة هي التي تضاف إلى الله أما الاسم فهو العلم على ذات الرب ـ.
الأمر الثاني: أن الاسم تدعو به الله ـ: كما قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) فالإنسان يدعو الله بأسمائه، يقول: يا قدير، يا حي، يا الله، يا رحمن، أما الصفة فإنك لا تدعوها، فلا تقول: يا قدرة الله، يا وجه الله، يا يد الله، يا رحمة الله، بل إن دعاء الصفة حرام، وذكر شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه (الرد على البكري): أن دعاء الصفة كفر.(2/39)
الأمر الثالث: أن الاسم يعبد له: فيسمي الإنسان نفسه أو ابنه: عبد القادر، عبد الملك، عبد السلام، عبد الرحمن، عبد الله، أما الصفة فلا، فلا تقول: عبد القدرة، ولا عبد المشيئة، ولا عبد الإرادة، إنما هذا خاص بالأسماء.
الأمر الرابع: أن كل اسم تؤخذ منه صفة: فتأخذ من اسم الله تعالى: الحي، صفة: الحياة، والقدير، صفة: القدرة، واسم الله تعالى: القيوم، صفة القيومية، وهكذا.
لكن الصفات لا يؤخذ منها أسماء، فالله سبحانه وتعالى من صفاته الاستواء على العرش، لكن لا يسمى الله تعالى المستوي، ومن صفات الله تعالى النزول إلى السماء الدنيا، لكن لا يشتق له اسم هذه الصفة؟ ويوجد عند بعض من أخطأ في هذا الباب تسمية الله تعالى بأسماء مشتقة من صفاته، مثل: الجائي، ومثل: الماكر، وهذه الاشتقاقات التي تشتق من الصفات خطأ. فإن الاسم تؤخذ منه الصفة , أما الصفة فلا يشتق منها اسم لله ـ.
- من الأحكام المتعلقة بالصفات:
دعاء الصفة: ذكرنا أن الصفة لا تدعى، وقلنا: إن دعاء الصفة حرام.
الاستغاثة بالصفة: وأما الاستغاثة بالصفة فإنها جائزة، فيمكن للإنسان أن يقول اللهم برحمتك استغيث أصلح لي شأني كله، وهذا وارد في قول النبي ^: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث)، وهذه استغاثة بالرحمة وهي صفة من صفات الله.
الاستعاذة بالصفة: كذلك يجوز للإنسان أن يستعيذ بالصفة، والاستعاذة بالصفة مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) فهذه استعاذة بالعزة والقدرة، ومثل قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) أخرجه مسلم، فهذه استعاذة بالصفة، فتكون الاستعاذة بالصفة جائزة.
الحلف بالصفة: الحلف بالصفة جائز، مثل وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وكلام الله، وحياة الله، ولكن لا ينبغي التوسع في هذا الباب.(2/40)
التوسل بالصفة: التوسل إلى الله ـ بصفة من صفاته جائز، وهذا من التوسلات المشروعة مثل: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي) فقوله: (اللهم بعلمك الغيب) العلم صفة من صفات الله تعالى، والقدرة من صفات الله، فهو يتوسل إلى الله ويتقرب إلى الله ويزدلف إلى الله بصفات الله.
لا ينبغي نسبة الأفعال إلى الصفات: مثل شاءت الأقدار، فلا تضاف المشيئة وهي صفة من صفات الله إلى القدرة وهي صفة من صفات الله ـ، إنما تقول: شاء الله تعالى. فهذه ست مسائل متعلقة بالصفات منها نوعان محرمان: إضافة الفعل إلى الصفة، ودعاء الصفة. وأربعة منها جائزة، مباحة أو مشروعة: الحلف بالصفة، والتوسل بالصفة، والاستعاذة بالصفة، والاستعاذة بالصفة.
جاءت النصوص أن النبي عليه الصلاة والسلام استغاث بصفات الله، واستعاذ بصفات الله، وتوسل إلى الله بصفاته، ولا شك أن من آداب الدعاء، أن الإنسان يدعو بصفة تليق بالمقام وتناسب المقام، فيقول مثلاً: اللهم يا عليم علمني، يا رحمن ارحمني، هذا من الأشياء المناسبة.
- التماثل والتباين في صفات الله:
من المسائل المتعلقة بالصفات:
هل صفات الله تعالى متماثلة أم أنها غير متماثلة؟
الجواب: أن صفات الله متماثلة من ثلاث حيثيات: -
الأولى: أن الموصوف بها واحد.
الثانية: أن الدليل على إثباتها الكتاب والسنة.
الثالثة: أن إثباتها لا يستلزم التشبيه:
لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
والقول في الصفات فرع عن الكلام في الذات.
فكما أن إثبات ذات الله لا يقتضي تشبيه الله بخلقه ولا يقتضي أن ذات الله تماثل أو تشابه ذوات المخلوقين، فكذلك إثبات الصفات لله تعالى لا يلزم منه تشبيه الله تعالى بخلقه، فهذه الثلاثة أمور تتماثل فيها صفات الله.(2/41)
وصفات الله تتباين من حيث دلالتها على معانٍ مختلفة: فالرحمن يدل على الرحمة، والرحمة تدل على أمر غير ما تدل عليه القدرة، فالقدرة غير الرحمة، لكن القدرة والرحمة كلاهما صفتان لله فالموصوف بها واحد.
- نفي التجسيم عن الله تعالى:
يقول الناظم / في نفي التجسيم:
قالوا: فأنت تراه جسماً مثلنا؟ ... قلت: المجسم عندنا كالملحدِ
وفي بعض النسخ: (قل لنا).
الجسم كل ما له جرم، فكل ما له جرم يسمى جسماً، يقول: فأنت إذا أثبت الصفات لله تعالى فأنت تراه جسماً، فيقول الناظم: (المجسم عندنا كالملحدِ)، يعني المجسم حكمه حكم الملحد، ولعل أن الكاف في قوله: (كالملحد) زائدة، ويكون المعنى أن المجسم ملحد؛ لأن المجسم ألحد في صفات الله وأسمائه.
- معنى الإلحاد:
والإلحاد لغة: هو الميل والانحراف، ومن ذلك يسمى اللحد في القبر لحداً لأنه شق مائل في القبر.
واصطلاحاً: هو الميل عما يجب اعتقاده، فكل من مال عما يجب اعتقاده أو عمله فقد ألحد، ولذا يكون الإلحاد في الاعتقاد ويكون في العمل.
وإذا مال الإنسان عن الواجب في اعتقاده عند أهل السنة فإنه يسمى ملحداً؛ لأنه مال عن اعتقادهم، ويمكن أن يكون الإلحاد في العمل، فإذا مال عما يجب عليه فعله، وترك بعض الواجبات وفعل بعض المعاصي، فإنه يسمى أيضاً ملحداً، ومن ذلك قول الله عز وجل: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) يعني: ميلاً عن الحق وفعل معصية.
- أقسام الإلحاد:
والإلحاد يكون في أسماء الله وصفاته وفي آيات الله:
فالإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته: أن يعدل بأسماء الله تعالى وصفاته عن الواجب فيها، فإذا انحرف في هذا الباب وعدل عما يجب عليه فيه فإنه يكون ملحداً في أسماء الله وصفاته، والله ـ يقول: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذر الذين يلحدون في أسمائه) يلحدون: يعني يميلون عن الواجب عليهم في هذا الباب.
والانحراف في باب الأسماء والصفات يكون بأمور منها:-(2/42)
أن ينكر شيئاً من أسماء الله وصفاته، إما أن ينكر الاسم أو ينكر ما دل عليه الاسم من صفة.
أن يجعل معنى الصفات دالاً على مشابهة الله لخلقه، فيقول: النزول معناه هو الذي يشبه نزول المخلوقين، أو معنى الاستواء هو الاستواء الذي يشبه استواء المخلوقين، أو يقول: يد الله كيد المخلوقين، أو نحو ذلك.
أن يسمى الله بما لم يسم الله به نفسه أو يصف الله تعالى بما لم يصف الله به نفسه، فالنصارى يسمون الله (أب) والله ـ لم يسم نفسه بذلك. والفلاسفة يسمون الله (العلة) فتسمية الله تعالى بذلك إلحاد في أسماء الله وصفاته
أن يشتق من أسماء الله تعالى أسماء للأصنام والأوثان، كما فعل المشركون عندما اشتقوا اسم اللات من الإله، والعزى من العزيز، فهم اشتقوا أسماء لهذه الأوثان من أسماء الله تعالى.
ويكون الإلحاد في آيات الله بأمور منها:
الإلحاد في آيات الله الشرعية وهي القرآن، وذلك:
بتحريف هذه النصوص
وقد يكون أيضاً بتكذيب هذه النصوص، فمن كذب شيئاً من آيات الله تعالى فقد ألحد في كتاب الله.
وقد يكون بعصيان أحكامها؛ لأنه عدل عما يجب عليه أن يفعله، وهو التزام أوامر الله تعالى الواردة في كتابه وعلى لسان نبيه ^.
الإلحاد في آيات الله الكونية وهي المخلوقات مثل: الشمس والقمر، وذلك:
بأن ينسبها لغير الله، فيقول: الذي خلق الكون ليس الله.
أو يجعل لله شريكاً فيها، في الخلق، أو الرزق، أو الملك، أو التدبير.
- إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم:(2/43)
وقد ذكر الناظم هذا البيت بعد أن ذكر إثبات الصفات، والسبب في ذلك أن شُبهة الذين ينفون الصفات عن الله ـ ويؤولون معانيها بالأصح يحرفون المعنى، فيقولون: نزول الله يعني نزول رحمته، شبهتهم في ذلك قالوا: إن إثبات الصفات لله يقتضي أن الله تعالى جسم، فإذا قلنا: إن لله تعالى يداً, وإن لله تعالى وجهاً، وإن له قدماً، إذا قلنا ذلك استلزم أن يكون الله جسماً، وهم يقولون: إن الله تعالى ليس بجسم فهذه شبهتهم، ولذا بعد أن ذكر الصفات خطر له أنهم سيحتجون عليها بأن إثبات الصفات تجسيم لله، والجواب عن ذلك أن نقول: إن لفظ التجسيم من الألفاظ المجملة، فهي من الألفاظ التي لم ترد في كتاب الله ولا في السنة إثباتاً ولا نفياً، فمثل هذه الألفاظ لا نثبتها ولا ننكرها، ولا نقول إن الله جسم ولا نقول: إنه ليس بجسم، والسبب في ذلك أنه لم يرد في الكتاب والسنة لا الإثبات ولا النفي، فهذا اللفظ نتوقف فيه، وأما المعنى الذي يدل عليه، فنستفصل فيه، فإن ذكروا معنى دلت عليه النصوص نقبله، وإذا ذكروا معنى لا تدل عليه النصوص فنحن ننفيه، فإذا قالوا: معنى الجسم هو الشيء المركب الذي يفتقر كل جزء منه للآخر كالإنسان، فالإنسان مركب من يدين ورجلين ورأس، وهذه الأجزاء تفتقر في بعضها إلى بعض، فالإنسان يحتاج إلى يده، واليد تحتاج إلى اليد الأخرى، ويحتاج إلى رجليه ليمشي عليهما، فهذا جسم مركب من أجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، فإذا قالوا: هذا هو معنى الجسم، قلنا: هذا ممتنع عن الله ـ، بل الله سبحانه هو الغني، وإن أرادوا بكلمة جسم أنه هو ما يتصف بالصفات، فنقول: هذا المعنى الذي تذكرونه غير ممتنع، فنحن نثبت إن الله تعالى يتصف بالصفات التي أخبرنا بها وأخبرنا النبي أنه متصف بها ولا ننكر هذه الصفات، ولو سميتم ذلك تجسيماً فتسميتكم هذه باطلة، ودعواكم هذه لا تجعلنا ننكر ما أثبته الله تعالى لنفسه، وألقاب السوء التي يطلقها المبتدعة على أهل السنة ويردون(2/44)
بها إلزامهم على إنكار الصفات لا تدفعنا إلى إنكار ما أثبته الله لنفسه، ونقول أيضاً: إن من أنكر الصفات مثل المعتزلة الذين ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء فيقولون: الله ـ رحمن بلا رحمة، وعليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، مثل ما نقول الآن، وزير بلا وزارة، هم يقولون: ننفي الصفات لأن الصفات تقتضي التجسيم، فإذا أثبتنا أن الله تعالى موصوف بصفات فهذه الصفات إثباتها لله يقتضي التجسيم، فنقول: أيضاً تسميتكم الله بأنه حي وأنه قادر وأنه رحمن وأنه رحيم إثبات هذه الأسماء يقتضي التجسيم؛ لأننا لا نعرف شيئاً موجوداً يسمى حياً ويسمى قديراً ورحيماً إلا الأجسام، وهذا عائد إلى تلك القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام وهي: أن الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر، فللمعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينكرون الصفات نقول: إن كل موجود يسمى حياً وقادراً وعليماً، وإذا كان وجوداً حقيقياً فإننا لا نفهم من هذه التسمية إلا التجسيم، فإن قالوا: لا يلزم التجسيم، بل نقول: إنه حي وقادر وعليم لكنه ليس بجسم، فنقول: نحن أيضاً نثبت لله تعالى الصفات كما أثبتها لنفسه ولا يقتضي هذا أن يكون الله سبحانه وتعالى كما يقولون أجزاءً وأبعاضاً يفتقر بعضها إلى بعض إلى آخر ما يذكرونه. وذكر الناظم لهذه المسألة بعد ذكره للصفات تدرج جميل منه فإنه ذكر إثبات الصفات لله ـ، ثم بعد ذلك بين شبهتهم وهي مسألة التجسيم؛ لأنه ذكر في البيت الذي قبله مسألة التجدد وحلول الحوادث، وتلك غالب ما تذكر في الصفات الفعلية، والتجسيم غالباً ما يذكر في الصفات الذاتية، فلذا ذكر في البيت الأول الصفات الفعلية وشبهتهم فيها، ثم ذكر الصفات الذاتية وشبهتهم فيها، وخلاصة الأقوال في الأسماء والصفات أن المبتدعة منهم من أنكر الأسماء والصفات، ومنهم من أثبت الاسم ونفى الصفة، ومنهم من أثبت بعض الصفات التي دل عليها العقل وأنكر الباقي، فالذين لم يثبتوا الأسماء ولا الصفات هم الفلاسفة(2/45)
والباطنية وأشباههم، الذين لا يصفون الله بأي اسم ولا أي صفة، ينكرون الأسماء والصفات كلها، أما الذين يثبتون الأسماء فهم المعتزلة، يثبتون الأسماء دون الصفات، ويبقى الأشاعرة وهم يثبتون لله الصفات السبع التي دل عليها العقل عنهم، وينكرون ما بقي، وهؤلاء الرد عليهم أيسر لأننا نقول لهم لأنهم فيما أثبتوه: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فكما أثبتم لله تعالى حياة وكلاماً وبصراً وسمعاً وقدرةً فكانت هذه الصفات عندكم لا تقتضي التجسيم، فكذلك القول في بقية الصفات أنها لا تقتضي التجسيم:
- إثبات العلو لله تعالى:
قال الناظم رحمه الله تعالى في إثبات صفة العلو:
قالوا فهل هو في الأماكن كلها؟ ... فأجبت: بل في العلْو مذهب أحمد
قوله: (في العلْو) سكّن اللام، وإلا فالأصل أن يقول في العلُو، ولكن سكن اللام ليستقيم وزن البيت، وأيضاً يقول: (بل في العلو مذهب أحمدِ) وهنا جعل علامة جر (أحمد) الكسرة، ومعلوم أن أحمد ممنوع من الصرف؛ للعلمية ووزن الفعل، والأصل فيها أن يقول: (مذهب أحمدَ)، لكن هذه منه لضرورة الشعر؛ لأن القافية على الدال المكسورة، وقد قال الحريري في منظومته:
وجائز في صنعة الشعر الصلف ... أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف
فمن الضرورات الشعرية أن يصرف الشاعر الكلمات التي لا تنصرف حتى يستقيم البيت.
يقول هنا: إن سألوني هل الله تعالى في كل مكان؟ فإني أجيبهم: إن الله تعالى في العلو، والعلو صفة ذاتية لله ـ يثبتها أهل السنة له ويقولون:
- أقسام علو الله على خلقه:
إن علو الله تعالى يشمل ثلاثة أمور:
علو الذات: فهو ـ مستوٍ على عرشه.
علو القدر: علو قدره ـ.
علو القهر: فهو سبحانه غلب المخلوقات بقهره.(2/46)
هذه الثلاثة أمور كلها مراده، أما من ضل في هذا الباب فإنه ينكر علو الذات، ويقول: معنى العلو علو الصفات وعلو القدر، فقدره عالٍ، وينكر علو ذاته. أما أهل السنة فيثبتون العلو بجميع معانيه، فيثبتون لله علو الذات، فهو مستوٍ على عرشه ـ، ويثبتون له علو القدر، وعلو القهر. يقول الناظم: (بل في العلْو مذهب أحمدِ) يقول: إن إثبات العلو لله ـ هو مذهب الإمام أحمد، والصحيح أن هذا مذهب السلف كلهم، لكنه عبَّر بقوله: أحمد؛ لأنه من أئمة السلف، ولأنه قد قصد نظم المسائل التي اختارها الإمام أحمد في الاعتقاد، وأنه وافقه فيها.
- الأدلة على إثبات العلو لله:(2/47)
والعلو من الصفات الثابتة لله ـ في أدلة كثيرة جداً، قسم أنواعها العلامة ابن القيم إلى واحد وعشرين نوعاً، وفي كل نوعٍ منها عدد ضخم من النصوص، فالنصوص الدالة على علوه بذاته سبحانه فوق خلقه أدلة كثيرة، فمن ذلك قول الله تعالى: (ءأمنتم من في السماء) في السماء، أي: على السماء، فتكون في بمعنى على، وحروف الجر تتناوب، ومن ذلك قول الله ـ: (يتيهون في الأرض أربعين سنة) ففي الأرض أي: على الأرض، فمعنى: (ءأمنتم من في السماء) أي: على السماء، أو نقول إن السماء معناها العلو، فيكون المعنى: (ءأمنتم من في العلو)، لأن لفظ السماء يطلق على كل ما علا على الإنسان، وفي ذلك يقول الله تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء) يعني ليمدد بسبب إلى السقف، والسبب هو الحبل، ليمدد بحبل إلى السقف، هذا معنى قول الله تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء). وكذلك في قول الله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) دليل على إثبات صفة العلو لله ـ، وفي قول النبي ^: (ربنا الذي في السماء تقدس اسمك) في الدعاء الوارد في رقية المريض، وكذلك في سؤال النبي ^ للجارية: (قال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال النبي ^ أعتقها فإنها مؤمنة) أخرجه مسلم، وهذه النصوص تدل على المعنى الذي ذكرته، وقد ذكر ابن القيم في النونية أنواع هذه الأدلة وبينها، من ذلك قوله في النونية:
هذا وخامسها صعود كلامنا ... بالطيبات إليه والإحسان
(صعود كلامنا إليه) فإن الله تعالى أخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب، فصعود الكلم الطيب دليل على أن الله تعالى في العلو، يقول:
هذا وسادسها وسابعها النزول ... كذلك التنزيل للقرانِ(2/48)
فالله تعالى أخبر أنه ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وخبر النبي ^ بذلك دليل على أن الله تعالى متصف بالعلو؛ لأن النزول يكون عن علو، وكذلك إخبار الله تعالى بأنه نزل القرآن (تبارك الذي نزل الفرقان) فالتنزيل يأتي من أعلى إلى اسفل، وهذا دليل على علو الله ـ، ومما يدل على علو الله تعالى: الفطرة الموجودة في قلب الإنسان، وفي هذا قصة مذكورة عن الجويني أنه كان ينكر استواء الله تعالى على عرشه، فقال له الهمداني: (دع عنك ذكر العرش ولكن أخبرني عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة لطلب العلو؟) فلطم الجويني رأسه وقال: (حيرني الهمداني، حيرني الهمداني) لأن هذا دليل فطري، وليس دليلاً عقلياً يمكن أن تأتي له بما ينقضه، وتورد له الاعتراضات والأسئلة، فدليل الفطرة موجود في القلب، فأي إنسان إذا أراد أن يدعو فإنه يتجه مباشرة إلى العلو، ويلتفت إلى العلو، ويرفع رأسه إلى العلو، ويقول: يا الله، وهذا دليل من الفطرة الموجودة في قلب كل إنسان على اتصاف الله بالعلو.
- عدم إحاطة شيء بالله تبارك وتعالى:
في بعض نسخ المنظومة:
قالوا فهل هو في الأماكن كلها ... فأجبت بل في العلو مذهب أحمد
وفي بعض النسخ:
قالوا فهل هو في الأماكن كلها؟ ... قلت الأماكن لا تحيط بسيدي
يعني أنه يجيب بأن الله تعالى أعظم وأجل من أن يحيط به شيء، فقد وسع كرسيه ـ السموات والأرض، والله تعالى يقول: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) لكن إثبات أن الله تعالى في السماء لا يعني أن السماء تحيط به، وبعض الناس يظن أن إثبات علو الله تعالى يقتضي أن السماء تحيط به، فنقول: إن إثبات أن الله في السماء لا يقتضي أنها تحيط به، وكيف تحيط به والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه؟ إنما يرد هذا في قلب من أشرب قلبه التشبيه وتمثيل الله تعالى بخلقه.(2/49)
- إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى:
يقول الناظم بعد ذلك في الاستواء على العرش:-
قالوا فتزعم أن على العرش استوى ... قلت الصواب كذاك أخبر سيدي
قالوا له: تقول: إن الله تعالى استوى على العرش؟ فيقول: الصواب كذاك أخبر سيدي. يعني أن الله تعالى أخبر أنه استوى على العرش، وذلك في آيات في سبعة مواطن من كتاب الله، في قوله: (الرحمن على العرش استوى) (أخبر سيدي) والسيد هنا هو الله. وهل يوصف الله بأنه السيد؟ نعم في قول النبي ^ (السيد الله) وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره، يقول أخبرني الله وأخبرني سيدي أنه مستوٍ على العرش، فنثبت لله تعالى الاستواء؛ لأنه جاءنا عن الله، فنؤمن بالله وبما جاءنا عن الله.
- معنى العرش:
والعرش في اللغة: يطلق على سرير الملك، فالسرير الذي يجلس عليه الملك يسمى العرش، ومن ذلك قول الله تعالى: (ولها عرش عظيم) وفي الشرع: العرش هو أعظم مخلوقات الله تعالى، وهو عرش حقيقي يليق بالله ـ، وصفه الله تعالى بأنه مجيد، وجاء في القرآن أنه يحمله الملائكة: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية).
- معنى استواء الله على عرشه:
واستواء الله تعالى على العرش من الصفات الفعلية التي يثبتها له أهل السنة، ويقولون: إن معنى الاستواء معروف في لغة العرب، ومعاني الاستواء التي تكلم بها السلف أربعة جمعها ابن القيم في قوله:
ولهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعانِ
وهي استقر وقد علا وكذلك ... ارتفع الذي ما فيه من نكران
وكذلك قد صعد الذي هو خامس ... وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن
فاستواء الله تعالى على العرش يطلق على أحد أربعة معاني، بمعنى استوى الذي هو استقر، ومعنى استوى أي علا على العرش، وأيضاً بمعنى صعد على العرش، وبمعنى ارتفع، فهذه هي المعاني التي وردت عن السلف وتكلموا بها عن معنى الاستواء.
- الرد على من فَسَّر الاستواء بالاستيلاء:(2/50)
بعض المبتدعة يحرف معنى الاستواء فيقولون: (الرحمن على العرش استوى) بمعنى استولى، ويقولون: إن العرش استولى الله عليه، ويستدلون على ذلك بقول الشاعر الأخطل النصراني المعروف، فإنه يقول: -
قد استوى بشرٌ على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
ويقولون هذا البيت فيه أن بشراً استوى على العراق، فما معنى الاستواء إذا قلتم: معنى الاستواء ارتفع وصعد فكيف يصعد على العراق؟ فالمعنى إذن استوى على العراق، أي: استولى على العراق، فنقول: معنى استوى في اللغة يعني: استولى، فعلى هذا فمعنى: (الرحمن على العرش استوى)، أي: الرحمن على العرش استولى.
ويبطل أن يكون معنى استواء الله تعالى هو الاستيلاء:
أولاً: أن هذا البيت ليس موجوداً في ديوان الأخطل، وإلى الآن من ذهب يبحث في ديوان الأخطل لم يجد هذا البيت، بل هو مكذوب عليه، فإن الرواة الذين يروون الأشعار لم يذكروا في ديوان الأخطل هذا البيت.
ثانياً: رواية البيت بوجه آخر: فبعض الناس روى هذا البيت بوجه آخر، وهو أنه يقول:
بشراً قد استولى على العراق ... من غير سيف أو دمٍ مهراقِ
فيكون لفظ البيت استولى، وهنا ينتفي استدلالهم لأن البيت أصلاً ليس فيه كلمة استوى.
ثالثاً: أن نقول لا يمنع أن يكون معنى الاستواء: الصعود والعلو الارتفاع، على ما يذكره علماء اللغة، ثم بعد ذلك استعمل مجازاً في غير ما وضع له حقيقةً، أي: أن الأصل أن يستخدم كلمة استوى بمعنى: صعد وارتفع، ثم بعد ذلك استعيرت مجازاً لمعنى آخر، مثل أن كلمة الأسد تطلق على الحيوان المفترس وعلى السبع العادي في الحقيقة، لكن قد تستعار مجازاً في الرجل الشجاع، فيمكن أن تقول: رأيت أسداً تقصد الحيوان، ويمكن أن تقولها تقصد الرجل الشجاع، فنقول: إن استوى بمعنى صعد وارتفع وارتقى، لكن الأخطل استعارها أو استعملها مجازاً في معنى الاستيلاء.(2/51)
رابعاً: أن القائل هو نصراني، وهو الأخطل، والنصارى معروف أنهم أعرضوا وحرفوا وبدلوا في باب الأسماء والصفات، والدليل لذلك: تسميتهم لله تعالى (أب)، وجعلهم لله سبحانه وتعالى الابن.
خامساً: لو قلنا: (الرحمن على العرش استوى) معناه استولى لأدى ذلك إلى أن الله تعالى لم يكن مستولياً على العرش قبل ذلك، وهذا لا يقول به أحد.
سادساً: لو قلنا: (الرحمن على العرش استوى) معناه استولى لصح لنا أن نقول: الرحمن على الجبل استوى، والرحمن على الأرض استوى، والرحمن على السماء استوى وهكذا، فنذكر هذه الألفاظ التي لا يقرون هم بذكرها، لأنه إذا كان المعنى: استولى، فالله ـ مستولٍ على الجبال وعلى السموات والأرض وعلى كل شيء، وهذا كله يبطل أن يكون معنى استواء الله تعالى هو الاستيلاء.
السابع: أن فصحاء العرب وعلماء اللغة كابن الأعرابي والخليل بن أحمد أنكروا أن يكون معنى استوى استولى، وقالوا: هذا لا يعرف في لغة العرب، وأسند عنهم ذلك اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهذا كله يبطل أن يكون معنى استواء الله تعالى هو الاستيلاء.
- جهل البشر بكيفية استواء الله على عرشه:
ثم بعد ذلك يقول الناظم /:
قالوا: فما معنى استواه أبن لنا؟ ... فأجبتهم هذا سؤال المعتدي
يقول: إنهم سألوه عن معنى استواء الله على العرش؟ يقول: فأجبتهم: هذا سؤال المعتدي: والمعتدي الذي يتجاوز الحد. لكن لماذا صار السؤال عن كيفية الاستواء تجاوزاً للحد؟ لأن كيفية صفات الله تعالى مجهولة لنا، ومن سأل عن كيفية صفات الله فإنه يجاب بأحد جوابين -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميه-:(2/52)
الجواب الأول: هو جواب الإمام مالك وربيعة والمروي عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً، أنه سئل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فالاستواء معناه في اللغة معروف وهو الارتفاع على العرش، وأما كيفية هذا الاستواء فمجهولة، والسؤال عن الكيفية بدعة.
الجواب الثاني: أن من سأل عن صفة من صفات الله فيقال مثلاً: كيف استوى؟ نقول له: أنت تؤمن بأن الله تعالى له ذات، فكيف هو ذاته؟ فيقول: أثبت أن لله ذاتاً لكن لا أعرف كيفية هذه الذات، فنقول: أثبت أيضاً أن لله تعالى استواء لا تعرف كيفيته, وإنما لم نعرف كيفية استواء الله تعالى وبقية صفاته، لأن الكيفية تعرف بأحد ثلاثة أمور:
- طرق معرفة الكيفية:
بمشاهدة هذه الكيفية: بأن تشاهد شخصاً وهو يفعل فعلاً معيناً، فتكون مشاهدته معرفة أن كيفية جلوسه هي كذا، وكيفية مشيه هي كذا بالمشاهدة.
معرفة الكيفية بالخبر: كأن يخبرك شخص أن كيفية جلوس فلان كذا، وكيفية قيامه كذا، ومشيه كذا.
أن ترى من يشبهه: فترى من يشبه زيداً، فيقال لك: جلوس فلان كجلوس زيد.
وقد انتفت هذه الأمور الثلاثة في صفات الله تعالى:
1- فإن الله تعالى لا يرى في الدنيا.
2-… والله تعالى لم يخبرنا عن كيفية صفاته.
3-… والله تعالى ليس كمثله شيء.
- هل صفات الله من المحكم أم من المتشابه:
ولذا فإننا نجهل كيفية صفات الله ونؤمن بمعناها، بناءً على هذا نقول: هل صفات الله من المتشابه أو من المحكم؟ فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن في كتابه المتشابه وفيه المحكم في قوله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) فهل صفات الله تعالى من المحكم أم من المتشابه؟ نقول هي محكمة في المعاني، فمعاني صفات الله تعالى محكمة معروفة يعرفها العرب ولا بد من الإيمان بها، أما كيفية صفات الله سبحانه وتعالى فهي من المتشابه الذي نكل علمه إلى الله، ونقول: الله ـ أعلم بكيفية صفاته.(2/53)
- نفي معاني الصفات قول المفوضة:
وقوله: (ما معنى استواه)، يعني: ما كيفية استوائه، هذا هو المعنى، وإنما قلنا ذلك لأجل أن نخرج أبا الخطاب عن أن يكون مفوضاً لمعاني صفات الله ـ، وقد ذكر ذلك الشيخ إسماعيل الأنصاري في تعليقه على هذه المنظومة، ومع ذلك وجد في بعض الحنابلة مفوضة مثل ابن الزاغوني وابن عقيل وأبي يعلى، فهؤلاء عقيدتهم التفويض في الصفات، ومعنى التفويض: أن معاني الصفات غير معلومة لنا، فيثبتون الصفات ويقولون: إن معانيها غير معلومة لنا، فيثبتون أن الله تعالى استوى على العرش، ولكن يقولون: إن معنى الاستواء هذا غير معلوم. ومعنى هذه الكلمة لا ندري ما هو، وقد يكون أبو الخطاب / ممن تأثر بذلك، لكن مع ذلك فإننا نحمل كلامه على الكيفية، أما الذين يقولون: إن معاني صفات الله غير معلومة فهم الذين يسمون المفوضة، والمفوضة يقولون: نؤمن بصفات الله تعالى مع أن صفات الله تعالى غير معلومة المعنى لنا، فكما تؤمن بأن لصفات الله كيفية وتقول: لا أعلم هذه الكيفية، يقولون هم: نحن نؤمن بأن الله تعالى استوى، ولكن لا نعرف ما معنى استوى. وهذا الاعتقاد التفويض يقول به الأشاعرة، ولهم في ذلك نظم يقولون:
وكل نص أوهم التشبيها ... أوِّله أو فوِّض ورُم تنزيهاً(2/54)
يعني: كل نص احتمل في ذهنك أنه يقتضي مشابهة الله لخلقه، لم يقولوا: أثبته على الوجه الذي يليق بالله مع نفي التشبيه، بل قالوا: (أوله) أي: حرفه واصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، (أو فوضه) قل: الله أعلم، لا أعرف معنى هذا الكلام (ورم تنزيهاً)أي: اعتقد بذلك أنك تنزه الله تعالى وصفاته، ومذهب المفوضة هذا أخطر وأسوأ من مذهب من يحرف أسماء الله تعالى وصفاته؛ لأن معنى التفويض: هو تجهيل النبي ^ وأصحابه، ورميهم بأنهم كانوا يقرءون القرآن وهم لا يعلمون معانيه وهذا أيضاً معارض لقول الله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب تبياناً لكل شيء) فإنه إذا كان تبياناً لكل شيء فإن أول ما يبين هو صفات الله ـ وأفعاله، فإذا لم يبين هذا في كتاب الله فهذا معارض لهذه الآية، وأيضاً هذا ينافي أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام علم أمته جميع ما يحتاجون إليه، فنحن نؤمن بأن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا كل ما نحتاج إليه، كما يقول أبو ذر: (مات رسول الله ^، وما طائر يقلب جناحيه إلا وذكر لنا منه علماً). وهذا يبين أن النبي عليه الصلاة والسلام بين للأمة جميع ما يحتاجون إليه في أمور دينهم، والعلم بالله سبحانه وأسمائه وصفاته من أول ما يدخل تحت هذه القاعدة؛ لأنه من أهم ما يحتاجه المسلم، فالقول بأن النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته كانوا يقرءون هذه النصوص ولا يفهمون معانيها تجهيل لهم ولذا يسمى المفوضة: أهل التجهيل.
- إثبات صفة النزول لله تعالى:
يقول الناظم / في صفة النزول:
قالوا: النزول؟ فقلت: ناقله لنا ... قوم تمسكهم بشرع محمدِ
وفي نسخة أخرى: قوم هم نقلوا شريعة أحمد.(2/55)
النزول: يطلق على انتقال الشيء من أعلى إلى أسفل، فإذا انتقل الشيء من أعلى إلى أسفل يقال: نزل. ونزول الله ـ صفة فعلية ثابتة لله ـ كما جاء في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الآخر نزل الله ـ إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟) ,هذا الحديث متفق عليه، وقد نقل ابن تيميه والذهبي والسيوطي أن هذا الحديث متواتر. لذا يقول الناظم:
(قالوا: النزول؟): يعنى: صفة النزول، ما تقول فيها؟ فيقول: (ناقله لنا قوم تمسكهم بشرع محمد)، يعني: نقلت صفة النزول عن طريق العدول أهل العلم الثقات الذين نقلوا لنا هذه الصفة التي هي صفة النزول، وفي النسخة الثانية: (قوم هم نقلوا شريعة أحمد) يعني: الذين نقلوا لنا هذه الصفة هم الذين نقلوا لنا بقية الشرائع، فإذا أنكرنا صفة النزول أفضى ذلك إلى أن ننكر بقية أحكام الدين الواردة في السنة، وهذا إشارة منه إلى أن أخبار الآحاد يعمل بها في العقائد كما يعمل بها في الأمور العملية.
- العمل بخبر الآحاد في العقائد:
وقد دلت السنة من فعل النبي ^، على أنه كان يبعث الرجل من أصحابه فيبلغ الناس أمور الاعتقاد كما يبلغهم أمور الشرائع، لا فرق في ذلك، فأرسل معاذاً إلى اليمن فقال: (إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – وفي رواية إلى أن يوحدوا الله -) وأرسل إلى قيصر وكسرى وإلى غيرهم، وهذا كله إرسال لآحادٍ من أصحابه إلى هؤلاء لتبليغهم أمور الدين، الشرائع والعقائد لا فرق بينهما، فالذين نقلوا لنا الشريعة نقلوا لنا الاعتقاد فكما نقبل منهم الشريعة نقبل منهم الاعتقاد.
- كيفية نزول الله مجهولة:
ثم يقول الناظم /:
قالوا: فكيف نزوله؟ فأجبتهم ... لم ينقل التكييف لي في مسندِ(2/56)
يقول: إنهم سألوه، قالوا: أنت تثبت نزول الله ـ، فكيف هذا النزول؟ فيقول: إني أجبتهم بأن التكييف، يعني: كيفية نزول الله تعالى، لم تنقل لي في مسند، يعني: لم تنقل لي في خبر مسند يرويه لي الثقات كما روي لي النزول، فالثقات نقلوا لي أن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ولم ينقلوا لي كيف ينزل، فأؤمن بأنه ينزل، وأقول: كيفية نزوله الله أعلم بها. وهذا لما قدمناه من أن كيفية الصفة إنما تعرف بمشاهدتها، أو مشاهدة نظيرها، أو بالخبر الصادق عنها، وفي البيت إشارة إلى أنه لم يرد خبر صادق عن كيفية النزول، ولذا فإن الناظم يقول: لم ينقل التكييف لي، فأقول: لا أعلم كيفية نزول الله ـ.
- إثبات رؤية الله في الآخرة:
ثم يقول الناظم / في إثبات رؤية الله تعالى في للآخرة:-
قالوا: فينظر بالعيون؟ أبن لنا ... فأجبت: رؤيته لمن هو مهتدي
(قالوا: فينظر بالعيون؟) يسألونه: هل الله تعالى يُرى في الآخرة؟ (أبن لنا) أي: وضح لنا، والتبيين بمعنى الإيضاح، يقول: (فأجبت رؤيته لمن هو مهتدي)، يعني: أُثبت رؤية الله تعالى لأهل الهداية، وهم أهل الإيمان، فيثبت أن الله تعالى يرى في الآخرة، ولكن يراه أهل الإيمان، وجاء في الحديث المتفق عليه أن النبي ^ قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). وقوله (لمن هو مهتدي) لأن القرآن أخبرنا أن الكفار يُحجبون يوم القيامة عن الله، قال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون)وهذا يدل على أن الرؤية، إنما تكون في الآخرة لأهل الإيمان دون أهل الكفر، بل هم محجوبون عن الله، وفي قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) فسر السلف هذه الزيادة بأنها هي النظر إلى وجه الله الكريم ـ، نسأل الله أن يرزقنا النظر إلى وجهه آمين. ويجمعنا وإياكم في جنات النعيم، آمين.(2/57)
- مناقشة المنكرين لرؤية الله يوم القيامة:
وهذا البيت ليس مذكوراً في بعض النسخ ولا البيت الذي يليه، وهذا الكلام على رؤية الله تعالى وهي مما يثبته أهل السنة لله، ويقولون: إن الله تعالى يرى في الآخرة، يراه أهل الإيمان في الموقف، ويرونه في الجنة ـ، وينكرها من ضل عن منهج أهل السنة في هذا الباب، ويقولون: إن الله تعالى يقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) وإذا قلنا: إن الله تعالى يرى فنكون قد خالفنا هذه الآية، ويقولون أيضاً: إن في قول الله: (لن تراني) دليلاً على أن الله تعالى لا يُرى؛ لأن الله تعالى يقول لموسى: لن تراني، وقد أجاب أهل السنة عن هذين الدليلين بقولهم: إن قول الله تعالى: (لا تدركه الأبصار) نفي للإدراك وليس نفياً للرؤية، وبين الرؤية والإدراك تفاوت، فقد تحصل الرؤية دون الإدراك، ومثلوا لذلك بقول الله تعالى: (فلما تراءى الجمعان) يعني: جمع موسى وفرعون (قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا) فهنا رأى جمعُ موسى جمعَ فرعون، وكل جمع رأى الآخر، فقال أصحاب موسى: (إنا لمدركون) يعني: سيدركنا قوم فرعون، فقال موسى: (كلا)، فموسى أنكر الإدراك مع ثبوت الرؤية. فنقول: إن الله تعالى يُرى لكنه لا يُدرك. فنثبت رؤية الله تعالى في الآخرة وننفي الإدراك، أما في قول الله تعالى: (لن تراني) فأجاب أهل السنة عن ذلك بعدة أجوبة:
أن لن لا تدل على النفي المؤبد: وفي ذلك يقول ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا ... فقوله اردد وسواه فاعضدا
فالذي يرى النفي بلن مؤبداً يقول: رد قوله، بل النفي بلن ليس مؤبداً، ويدل لذلك أن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم: (لن يتمنوه أبداً) يعني: الموت، وأخبر أنهم في النار يقولون: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) فهم تمنوا الموت في الآخرة مع أن الله تعالى قال: (ولن يتمنوه أبداً). وهذا دليل على أن لن ليست مؤبدة وإنما هي مؤقتة.(2/58)
وأيضاً في قول موسى: (أرني كيف أنظر إليك) دليل على أن هذه الرؤية ممكنة، وذلك لأن الله تعالى لم ينكر عليه كما أنكر على نوح، فإن نوحاً قال: (إن ابني من أهلي )، فأجابه الله: (فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) فلما سأله مالا ينبغي أنكر الله تعالى عليه, أما موسى فإن الله تعالى لم ينكر عليه، وهذا يدل على أن هذا السؤال جائز، والمسؤول ممكن.
وأيضاً أن الله تعالى قال: (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) وهذا دليل على أن امتناع الرؤية إنما هو لأجل الضعف البشري في هذه الدنيا، فإذا شاء الله تعالى لهذا العبد أن يرى الله تعالى كما يحصل في الآخرة فإنه يمكنه من الرؤية. هذا مجمل ما أجاب به أهل السنة، وأثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة لأهل الإيمان.
- إثبات صفة العلم لله تعالى:
يقول الناظم / في صفة العلم:
قالوا: فهل لله علم قلت: ما ... من عالم إلا بعلم مُرتُدِي
هذا البيت غير موجود في بعض نسخ المنظومة، وفيه سؤال: أيوصف الله العلم؟ فيقول: (ما من عالمٍ إلا بعلم مرتدي)، أي: متصف بالعلم.
وأهل السنة يثبتون لله صفة العلم، ويقولون: إن من صفات الله العلم، وهي صفة ذاتية دل عليها كتاب الله وسنة نبيه ^، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وقوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) والآيات والأحاديث الواردة في إثبات صفة العلم لله معروفة ومشتهرة.
- نفي المعتزلة لصفة العلم:(2/59)
وذهب المعتزلة إلى أن الله لا يوصف بالعلم مع أنهم يثبتون لله تعالى اسم العليم، وهذا على قاعدة أنهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات، فيقولون عليم بلا علم، ودليلهم على ما ذهبوا إليه أن إثبات الأسماء ونفي الصفات فيه نفي مشابهة الله بخلقه، فيقولون: لا نعرف في الوجود من هو موصوف بالعلم إلا المخلوق المحدث، ويرد عليهم بأن صفة العلم أثبتها الله لنفسه في كتابه، ثم إننا نقول لهم: إننا لا نعرف من هو متسم باسم العليم في الوجود إلا وهو جسم، لأنهم قالوا: لا يوجد من هو متصف بالعلم إلا وهو جسم، فإن نفوا الصفة والاسم كبعض الفلاسفة فنقول لهم: إنكم شبهتم الله ـ بالمعدومات، فالمعدومات لا تسمى ولا توصف، فيقول بعض المبتدعة: ننفي الصفة وننفي ضدها، فنقول: الله ليس بعالم ولا متصفاً بضد العلم، وينفون النفي والإثبات، فنقول: إن هذا تشبيه منكم لله بالمستحيلات.
فكل هؤلاء فروا من التشبيه ووقعوا في التشبيه والشطط.
وفي قوله: (ما من عالم إلا بعلم مرتدي) وفي بعض النسخ: (ما من عالم إلا بعلم معلم). ويقصد بهذا أن علم الإنسان إنما اكتسبه بتعليم الله تعالى له، كما قال تعالى: (علم الإنسان ما لم يعلم). وفيه تسمية الله بأنه معلم، وهذا من باب الإخبار عن الله، وقد مرَّ أن باب الإخبار أوسع من باب الصفات، لكن لا نخبر عن الله إلا بما هو حق، فالله أخبرنا أنه علم الإنسان، فإخبارنا عنه بأنه معلم جائز.
- إثبات صفة الكلام لله تعالى:
قال الناظم / في صفة الكلام:
قالوا: فيوصف أنه متكلم؟ ... قلت: السكوت نقيصة المتوحِّدِ
وفي بعض نسخ المنظومة: (قلت: السكوت نقيصة بالسيدِ).
يقول: سألوني: هل الله متكلم؟ فأجبتهم بأن وصف الله تعالى بالسكوت أي بالبكم نقيصة، وما كان من الصفات فيه نقص فإنه لا يثبت لله.
- عقيدة أهل السنة في صفة الكلام وأدلتهم:(2/60)
أهل السنة يثبتون لله تعالى صفة الكلام ويقولون: إن الله تعالى متكلم بكلام قديم النوع حادث الآحاد، أي أن من صفاته تعالى الكلام، وأنه يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء ـ، وأنه يتكلم بكلام مسموع سمعه موسى، قديم النوع، أي: أنه من صفات الله تعالى التي لا تنفك عنه أنه يتكلم بما شاء، حادث الآحاد، أي: أنه متكلم بما شاء إذا شاء، فصفة الكلام صفة ذاتية فعلية، ذاتية: باعتبار تعلقها بالله ـ واتصاف الله تعالى بها، وفعلية: باعتبار آحاد الكلام، أي أن الله ـ يتكلم بما شاء إذا شاء، فإنه لما سمع الله المجادلة تجادل النبي ^، قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) فهو قال ذلك لما سمعها، ولم يقل هذا في الأزل قبل أن يخلق المجادلة، ولا يقول عاقل: إن الله قال ذلك في الأزل قبل أن تحلق هذه المرأة، ودليل أهل السنة على أن الكلام صفة من صفات الله سبحانه قوله تعالى: (ومن أصدق من الله حديثا). وقوله: (من أصدق من الله قيلا). وقوله: (وكلم الله موسى تكليماُ) وقوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) وهذه جميعاً تثبت صفة الكلام لله تعالى.
ومن الأدلة على أن كلام الله كلام حقيقي بصوت مسموع ما جاء في حديث النبي ^ أنه قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيناديه بصوت فيقول: أخرج بعث النار) هذا الحديث متفق عليه، وفيه أن الله ينادي آدم بصوت، وهو كلام يليق بجلال الله تعالى، ولا يقتضي تشبيه صفة الله بصفات العباد.
وقوله: (إن السكوت نقيصة)، أي: عيب، ومراده: أن الكلام صفة كمال لله يجب أن نثبتها لله ـ ,
- أقسام الصفات من حيث دلالتها على الكمال:
والصفات على ثلاثة أقسام:(2/61)
(1)…صفات كمال من كل وجه أو صفات كمال مطلق لا نقص فيها بوجه من الوجوه، مثل: صفة الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والرحمة، هذه كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهذه الصفات يجب أن نثبتها لله تعالى على الوجه الذي يليق به، ولا ننكر منها شيئاً؛ لأن الله تعالى له الأسماء الحسنى، ونثبت له الصفات العلى،لأننا إذا وصفنا العبد بصفة كمال ونفينا بعض هذه الصفات عن الله لجعلنا صفات بعض المخلوقين أكمل من صفات الخالق، ولا شك أن الخالق أولى بالاتصاف بصفات الكمال من المخلوق؛ لأنه هو الذي خلق هذه الصفات في المخلوق، فكونه يخلقها في المخلوق وهو عارٍ منها هذا لا يقبل في العقل.
(2)…صفات نقص لا كمال فيها بوجه من الوجوه، مثل: الموت، والجهل، والعجز، والعمى، فهذه ممتنعة في حق الله تبارك وتعالى. والله تعالى غضب على من وصفه بالنقص كما قال تعالى في اليهود: (وقالت اليهود يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا)، فمن وصف الله بصفة نقص فإنه متعرض لغضب الله تعالى عليه.
(3)…صفات تكون كمالاً في حال ونقصاً في حال آخر، فلا نقول: إنها جائزة في حق الله تعالى على الإطلاق، ولا نقول: إنها ممتنعة عن الله تعالى على الإطلاق، بل نفصل فيها. فنثبتها حال كونها كمالاً، وننفيها حال كونها نقصاً، مثل وصف الله بالمكر والكيد والخداع، فإن هذه الصفات تكون صفات مدح وكمال إذا كانت في مقابلة من يفعل هذه الأشياء؛ لأنها تدل على أن الله قادر على مقابلة عدوه المسيء بمثل فعله، وتأمل قول الله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله) فأثبت المكر في مقابلة مكر العباد، لكنه لم يثبته إثباتاً مطلقاً، قوله: (إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً) فأثبت الكيد في مقابلة الكيد، وقوله: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) فأثبت الخداع في مقابلة من يفعل الخداع.(2/62)
…أما الصفة التي لا يكون فيها كمال مطلقاً، أي: لا كمال فيها بوجه من ا لوجوه، فإنها لا تثبت لله ولا يوصف بها كقوله تعالى: (وذلك بأنهم خانوا الله فأمكن منهم). فإن الله لم يقل: خانوا الله فخانهم؛ لأن الخيانة لا تكون صفة كمال مطلقاً، لا على سبيل المقابلة ولا على غير سبيل المقابلة، فعليه فلا يوصف الله بالخيانة مطلقاً.
- إطلاق السكوت في حق الله تعالى:
قوله: (السكوت نقيصة)، نقول: إن السكوت يطلق على معنيين:
عدم القدرة على التكلم، أي: البكم أو الخرس.
عدم التكلم مع القدرة عليه.
يقول: السكوت نقيصة بالسيد أو بالمتوحد، قوله: (السكوت) يحتمل أن يريد بالسكوت: السكوت المطلق، وهو العجز عن الكلام، ويحتمل أن يريد بالسكوت: السكوت الذي هو عدم الكلام في حال دون حال، والحقيقة أن من عرف أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله صفة الكلام، وأن صفة الكلام صفة فعلية باعتبار آحاد الكلام، وأنهم يقولون إن الله يتكلم بما شاء إذا شاء فمعنى هذا أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم يعني: سكت، فتكون صفة السكوت ثابتة لله بعدم التكلم إذا شاء؛ لأن الكلام صفة فعلية، والله يتكلم بما شاء متى شاء، وهذا قول أهل السنة أنهم يثبتون لله صفة السكوت على المعنى الثاني، كقول الرسول ^: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها).فهذا إثبات لصفة السكوت بمعنى عدم التكلم مع القدرة عليه.
- هل الكلام صفة ذاتية أو فعلية:(2/63)
وبعض أهل الحديث ممن يثبتون صفة الكلام، يجعلون صفة الكلام صفة ذاتية لا تتعلق بالمشيئة، فلا يقولون: إن الله يتكلم بما شاء إذا شاء، ولكن يقولون: إن من صفات الله الكلام، وهي صفة ذاتية أزلية لا تتعلق بالمشيئة، ويقولون: إن السكوت هو وصف الله بالبكم، ولا يقولون: إنها صفة فعلية يتكلم متى شاء ويسكت متى شاء، ونخشى أن يكون هذا مراد الناظم، فإن شيخ الإسلام في كتابه (شرح العقيدة الاصفهانية) ذكر أن هذا هو قول أبي يعلى، وابن عقيل، وقدمنا أن أبا يعلى هو شيخ الناظم، وأن ابن عقيل من أقران الناظم.
فنقول: إن أهل السنة يثبتون أن الله يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، وأن الكلام والسكوت من صفات الله الفعلية، أما السكوت الذي هو بمعنى امتناع الكلام مطلقا أو العجز عن الكلام أو السكوت الذي ليس بعده كلام فهذه صفة نقص ننفيها عن الله ـ، وأما من جعل صفة الكلام صفة ذاتية لا تعلق بها بالمشيئة فهذا مخطئ، فسورة المجادلة نزلت بعد أن جادلت المرأة الرسول ^ ولذلك قالت عائشة ل: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات والله إنها لتجادل رسول الله ^ وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)، أما على القول بأن صفة الكلام صفة ذاتية فالمعنى أن الله تعالى قد تكلم في الأزل فقال: (قد سمع الله قول التي تجادلك) مع أن هذا مخالف أيضا لقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) أي: كلام حديد ليس بقديم تكلم به ثم سكت فلم يتكلم بعده. وفي هذا إثبات لصفة الكلام على أنها فعلية.
- عقيدة أهل السنة في القرآن:
قال الناظم / في القرآن:
قالوا: فما القرآن؟ قلت:كلامه ... من غير ما حدث وغير تجدد(2/64)
يقول إنه سئل عن القرآن، فأجاب أنه كلام الله من غير ما حدث وغير تجدد. يعني: أن أهل السنة يعتقدون أن القرآن كلام الله تعالى منزل منه ـ وأنه غير مخلوق. ويدل على أنه كلام الله قوله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أي: القرآن، فسمى القرآن كلام الله، وقوله تعالى: (هذا كتاب أنزلناه) دليل على أن القرآن منزل، وقوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) فهذه كلها أدلة على أن القرآن كلام الله، تكلم به ـ.
والقرآن عند أهل السنة هو من كلام الله، وكلام الله عندهم قديم النوع حادث الآحاد، فصفة الكلام لله صفة ذات، أما أفراد الكلام فإنها حادثة ارتبطت بمشيئة الله تعالى وليست أزلية، وقوله: (من غير ما حدث وغير تجدد) إن أراد بقوله: (غير حادث) غير مخلوق؛ فهذا صحيح. لأن أهل السنة يقولون: إنه منزل وليس بمخلوق، إنما تكلم به الله ـ ونزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس بمخلوق كما يقول المعتزلة وكما يلزم من قول الأشاعرة، وإن أراد بقوله: (من غير ما حدث غير تجدد)، أنه لا يتكلم إذا شاء فهذا خلاف قول أهل السنة؛ لأن أهل السنة يثبتون لله الكلام كصفة ذاتية وصفة فعلية. يقول الناظم:
قالوا: الذي نتلوه؟ قلت: كلامه ... لا ريب فيه عند كل مسدد
في بعض النسخ: (قالوا فما نتلوه..).
وفي بعض النسخ: (لا ريب فيه عند كل موحد).
- الفرق بين القراءة والمقروء واللفظ والملفوظ:(2/65)
يقول: إنهم سألوه فقالوا: هذا الذي نقرأه ما هو؟ قال: فقلت هذا هو القرآن، والمعنى أن أهل السنة يقولون: إن قراءة العبد للقرآن لا تخرجه عن كونه كلام الله، فالقرآن كلام الله سواء كتب في المصاحف، أو قرأه العباد لا يخرج بذلك عن كونه كلام الله تعالى. ولذلك يقولون: الصوت صوت القارئ والكلام كلام البارئ، فالكلام الذي يقرؤه القارئ ويقرؤه الأئمة في الصلوات ويقرؤه المتعبدون إنما هو كلام الله ـ، أما الصوت الذي نسمعه فإنه صوت العبد، وهو صفة من صفات العبد فيكون مخلوقاً، فالقرآن الذي يقرؤه ويتكلم به الإنسان هذا هو كلام الله تعالى غير المخلوق، أما نفس التلفظ وعين التلفظ وهو حركة فم الإنسان وخروج الهواء عبر حلقه وحركة لسانه، فهذا الصوت الخارج هو صوت القارئ الذي هو صفة من صفاته، وهو مخلوق؛ لأن العبد مخلوق بذاته وصفاته وأفعاله، وصوته مخلوق، وأما ما يقرؤه فهذا كلام الله كما قال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون). ويدل لذلك قول النبي ^ لأبي بن كعب: (أمرني ربي أن اقرأ عليك القرآن، قال أبي: فسماني لك ربي؟ قال: نعم. قال: فبكى، ثم قرأ عليه النبي ^ قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) , وفي قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) دليل أيضاً على هذا، فالله جعل القرآن آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. الذين حفظوا القرآن، فكونهم حفظوه لم يخرج بحفظهم له عن كونه كلام الله، كذلك بتلاوتهم له لم يخرج عن كونه كلام الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام قرأ على أبي بن كعب القرآن وقال: (أمرني ربي أن أقرأ عليك القرآن)، فقرأ عليه هذا القرآن ولم تكن تلاوته لهذه الآيات مخرجة لها عن كونها كلام الله ـ.
قال الناظم /:
قالوا: فأفعال العباد؟ فقلت: ما ... من خالق غير الإله الأمجد(2/66)
بعد أن تناول الكلام على القرآن ناسب أن يذكر أفعال المكلفين، ومذهب أهل السنة أن أفعال العباد مخلوقة لله ـ لأن الفعل لا يتم إلا بإرادة وقدرة، أي: بإرادة تامة في الفاعل، وقدرة على الفعل، والله تعالى هو الذي خلق في الإنسان الإرادة وهو الذي خلق فيه القدرة، وخالق السبب التام خالق للمسبب، ولذا فإنهم يقولون أفعال العباد مخلوقة لله وهي كسب للعباد، لأنهم فعلوها بإرادة منهم تامة، لم يجبرهم الله تعالى عليها، بل فعلوها بإرادتهم التي هي تابعة لمشيئة الله تعالى، وفعلوها بقدرتهم التي خلقها الله تعالى فيهم، ولذا كانت هذه الأفعال مخلوقة لله ـ، وهي مع ذلك كسب لهم، فبها صاروا مطيعين وبها صاروا عصاة، وبها يجازون وبها يثابون، ويدل لذلك قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الله خالق كل صانع وصنعته)، وفي هذا الكلام رد على المعتزلة القدرية الذين يقولون: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد وإنما العباد هم الذين يوجدون أفعالهم دون أن يخلقها الله تعالى، فأثبتوا خالقين مع الله، وهذا الذي قالوه خطأ محض، مخالف للنصوص الشرعية.
- مراتب القدر عند أهل السنة:
أهل السنة يؤمنون بأن القدر له أربع مراتب: الإيمان بهذه المراتب يتضمن ويؤدي إلى هذا الحق.
العلم: يؤمن العبد بأن الله علم كل شيء جملة وتفصيلاً أزلاً وأبداً.
الكتابة: الإيمان بأن الله تعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
المشيئة: الإيمان بأنه لا يكون شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى.(2/67)
الخلق: بمعنى أن الله خلق جميع الكائنات، خلقها بذواتها وصفاتها وأفعالها، والإيمان بالمرتبة الرابعة: (الخلق) هو معنى أن أفعال العباد مخلوقة، فكل فعل للعباد من طاعة أو معصية خلقه الله فيه، لأنه خلق فيه القدرة والإرادة، وهذا الخلق لفعل العبد لا ينفي أن يكون له إرادة، ولا أنه يثاب على فعله؛ لأنه فعله بإرادة تابعة لمشيئة الله ولو شاء الإنسان أن يستقيم لاستقام كما قال تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم) لكن هذه المشيئة تابعة لمشيئة الله تعالى، والإنسان إذا فعل الطاعة أو فعل المعصية فإنه لا يحس أنه قد أجبر عليها، ولا أنه مكره على فعلها.
- إطلاق (الأمجد) على الله تعالى:
وفي قوله: (ما من خالق غير الإله الأمجد).
وصف الله تعالى بأنه (الأمجد): والأمجد مشتق من صفة المجد وهي صفة ثابتة لله، وهي مأخوذة من النصوص التي سمت الله باسم المجيد، فالله تعالى سمى نفسه المجيد، وسماه به النبي ^ كما في الصلاة الإبراهيمية: (إنك حميد مجيد).وهذا يتضمن أن المجيد اسمه والمجد صفته، إلا أن تسمية الله بالأمجد والماجد لم ترد في النصوص الشرعية، ولذا فقوله: (الأمجد) هو من باب الخبر عن الله، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات، فللعبد أن يخبر عن الله بما هو متضمن في صفاته، دون أن يتعبد لله تعالى بهذا الاسم الذي يخبر به عن الله، ومعنى المجيد أنه عظيم الشأن، عظيم الجلال، عظيم الكرم، فهو اسم جامع لأسماء، جامع لمعنى الكرم، ولمعنى عظم الشأن، ولمعنى عظم الجلال، وعظيم الكرم، فهو اسم جامع لأسماء.
- إرادة الله للخير والشر:
قال الناظم:
قالوا: فهل فعل القبيح مراده؟ ... قلت: الإرادة كلها للسيد(2/68)
بعد أن بين أن أفعال العباد مخلوقة بين اعتراضاً لهم، وهو أنكم إذا قلتم: إن أفعال العباد مخلوقة فمعناه أن الله ـ أراد القبيح؛ لأن من أفعال العباد الحسن ومنها السيئ وإذا قلنا: إن الله خلق أفعال العباد فمعنى ذلك أنه خلق الأعمال السيئة مع خلقه للأعمال الصالحة، والله تعالى لا يحب الفساد، ولا يريد الشر والسوء!!
فهل الله يريد فعل القبيح؟ فأجابهم: بأن الإرادة كلها للسيد.
لو لم يرده لكان ذاك نقيصة ... سبحانه عن أن يُعجَّز في الردي
وفي بعض النسخ: (سبحانه عن أن يعجزه الردي).
وفي بعض النسخ: (لو لم يرده وكان كان نقيصة).
وكان الأولى هنا تامة بمعنى وُجد، لا تحتاج إلى خبر كقولك، كان المطر، أي: وجد المطر. والمعنى: لو لم يرد القبيح وحصل القبيح كان نقيصة، والنقيصة هي: العيب؛ لأن ذلك يدل على أن إرادة الله لا تتعلق بالقبيح وأنه لا يقدر عليه. وقوله: (الإرادة كلها للسيد): يعني أن كل مشيئة للعباد فإنها تابعة لمشيئة الله تعالى كما قال تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) فكل فعل يفعله العباد فإنما يفعلونه بمشيئتهم، ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله، لذلك يقول: (الإرادة كلها للسيد)، فيكون الفعل القبيح الذي فعله العبد إنما وقع بمشيئة الله تعالى. وقوله: (سبحانه من أن يعجزه الردِي) يعني أنزه الله عن أن يكون عاجزاً عن الفعل الردي الذي هو السيئ، والله ـ لا يخلق شيئاً ولا يوجده إلا لحكمة عظيمة يعلمها من يشاء من عباده، وربما خفيت على بعض عباده، لكن لابد أن نؤمن بأن الله حكيم، أي أن أفعاله كلها على مقتضى الحكمة العظيمة.
- الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية:
وهذا الاعتراض الذي ناقشه إنما جاءت شبهته لعدم التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وأهل السنة يجعلون الإرادة الإلهية تنقسم إلى قسمين:(2/69)
إرادة كونية قدرية بمعنى المشيئة، فالمعصية وقعت بإرادة الله الكونية التي هي المشيئة، إذ كل فكل شيء في هذا الكون لا يحصل ولا يكون إلا بمشيئة الله ـ أي: بإرادته الكونية، فإذا قلت إن هذه المعصية وقعت بإرادة الله فهذا الكلام صحيح؛ لأنها وقعت بإرادة الله الكونية، يعني: المشيئة.
إرادة دينية شرعية بمعنى المحبة، والله لا يحب الفساد ولا يحب الكفر ولا يحب المعاصي، لكنها تقع بإرادة كونية منه ـ.
أما المبتدعة الذين يجعلون الإرادة معنى واحداً وهي الإرادة الدينية دون الإرادة الكونية، فيقع عندهم هذا الإشكال، ويقولون: كيف يريد الله تعالى السوء وكيف يريد الشر والله ـ أخبرنا أنه لا يحب الفساد،والله إنما يريد من عباده أن يتوبوا وأن يؤمنوا وأن يتركوا المعاصي؟ والجواب: أن نفرق بين الإرادتين، الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فنقول: إن الله ـ أراد المعاصي كوناً ولم يردها شرعاً، ولذا فالناس منهم من تتعلق به الإرادتان ومنهم من تتعلق به إرادة واحدة، فجميع الخلق إنما هو مرتبط وواقع وخاضع لمشيئة الله تعالى ولإرادته الكونية، لكن الخاضع للإرادة الشرعية هم أهل الإيمان والطاعة، فهم خاضعون للمشيئة الكونية والإرادة الشرعية، أما الكافر والعاصي فإنه خاضع للمشيئة الكونية وليس بخاضع للإرادة الشرعية، فهذا الذي اعترض على الناظم إنما يؤمن بالإرادة الشرعية ولا يقر الإرادة الكونية، وإذا أقر بالإرادتين وفرق بينهما وعرف أن الله له إرادة كونية وإرادة شرعية وأن إرادته الكونية لا يخرج أحد عن مرادها، وأما الإرادة الشرعية فإنها ترادف المحبة وقد يحصل مرادها وقد لا يحصل انزاح عنه هذا الإشكال في باب أفعال العباد وفي باب القدر.
- تعريف الإيمان وبيان حقيقته:
قال الناظم / في حقيقة الإيمان:
قالوا فما الإيمان؟ قلت مجاوباً: ... عملٌ وتصديقً بغير تبلد
وفي نسخة: (عملاً وتصديقاً).(2/70)
فكلمة: (عمل) ممكن أن تكون مفعولاً على أنه مقول القول وممكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: الإيمانُ عملٌ وتصديقٌ، فكلا النسختين صحيحة.
…يخبرنا أنه سئل عن الإيمان، فأخبر أن أهل السنة يقولون الإيمان عمل وتصديق.
- تعريفات السلف للإيمان:
والسلف يعبرون عن الإيمان بعدة تعبيرات:
منهم من يقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد.
ومنهم من يقول: الإيمان قول وعمل.
ومنهم من يقول: الإيمان عمل وتصديق.
- الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح:
وجميع هذه ترجع إلى أن الإيمان يحصل بثلاثة أمور.
قول اللسان.
اعتقاد القلب.
عمل الجوارح.
فمن قال: إن الإيمان عمل وتصديق مثل الناظم فإنه يقصد بالتصديق: الاعتقاد، ويقصد بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح وعمل اللسان، فيشمل النطق، أي: اللفظ. والمقصود أن نعلم أن أهل السنة يجعلون الإيمان عبارة عما وقع في القلب وتلفظ به اللسان وعملته الجوارح، وهذه الثلاثة كلها من الإيمان، ويدل لذلك قول النبي ^: (الإيمان بضع وستون أو سبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله – هذا قول - وأدناها إماطة الأذى عن الطريق – هذا فعل – والحياء شعبة من الإيمان – والحياء عمل قلبي، هو من الإيمان -)وكذلك يدل عليه قول الله تبارك وتعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني صلاتكم، فسمى الله الصلاة إيماناً؛ لأن الصلاة من الأعمال، والعمل جزء من الإيمان.
يقول: (قالوا: فما الإيمان؟ قلت مجاوباً: عمل وتصديق بغير تبلد) وقوله: (بغير تبلُدِ)، يعني أني أجبته بغير تبلد، والتبلد ضد الذكاء والفطنة، أي: فأجبته بذكاء، ومن وفقه الله تعالى وصار من أهل الذكاء والفطنة فإنه لا يجهل أن الإيمان عمل وتصديق وأيضاً لفظ وهو عمل اللسان.
- خلافة أبي بكر الصديق وفضائله:
قال الناظم / في الخلافة:
قالوا: فمن بعد النبي خليفة؟
حاميه في يوم العريش ومن له
خير الصحابة والقرابة كلهم
قالوا: فمن صديق أحمد؟ قلت: من ... قلت: الموحد قبل كل موحد(2/71)
في الغار يُسعد ياله من مُسعِدِ
ذاك المؤيِّدِ قبل كل مؤيِّد
تصديقه بين الورى لم يجحد
هذه الأبيات هي في خلافة أبي بكر الصديق ا للنبي ^، وأهل السنة أجمعوا على أن خليفة رسول الله ^ هو أبو بكر، وأنه أفضل الأمة على التحقيق، وأنه أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله ^، ولم يطعنوا في خلافته، بل أجمعوا على أحقيته للخلافة وعلى أنه أفضل الأمة في ذاته. ولا مطعن في هذه الخلافة، فيقول الناظم إنهم قالوا: أي سألوه: من الخليفة بعد الرسول ^! فأجاب: (الموحد قبل كل موحد) أي من أسلم قبل سائر الناس،فإن أول من أسلم هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج الترمذي عن أبي بكر ا أنه قال: (ألست أول من أسلم؟).
- خصائص أبي بكر الصديق عن بقية الأمة:
ثم أخذ يصف أبا بكر الصديق ا بهذه الأوصاف:
1-…حاميه في يوم العريش: وفي بعض النسخ: (صاحبه في يوم العريش)، ويقصد بيوم العريش غزوة بدر، حيث أقيم للرسول ^ عريش يستظل تحته، فساوى النبي ^ صفوف أهل بدر وحثهم على القتال، ثم آوى إلى عريشه ومعه أبو بكر، فطفق يدعو الله تبارك وتعالى ويتوسل إليه ويستغيث به ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها) وأبو بكر عنده يقول: (يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك) فكان صاحبه في هذا العريش دون بقية أصحابه.
2-…مؤانسه في الغار: (قال: ومن له في الغار يسعد ياله من مسعدٍ) أي: لرسول الله ^ (يسعد) يعني: أنه آنسه وصاحبه فيه، ياله من مسعد للنبي ^ في الغار، وفي هذا الموضع تحققت لأبي بكر معيتان، معية الله ومعية النبي ^، كما قال تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فكان مع النبي ^، وكان معهما الله تبارك وتعالى يكلؤهما ويحفظهما.
(خير الصحابة والقرابة كلهم ذاك المؤيد قبل كل مؤيد): هذا البيت لم يذكر في بعض النسخ، ولعل عدم ذكره أنسب وأليق، وذلك لأنه بعده قال: (فمن صديق أحمد).(2/72)
على كل يقول: (خير الصحابة والقرابة كلهم) وهذا بإجماع أهل السنة أن أبا بكر هو خير الصحابة، وهو أفضل الناس بعد النبي ^، بلى أفضل الناس بعد الأنبياء. يقول: (خير الصحابة والقرابة) يعني أنه أفضل من الصحابة وأفضل من القرابة -قرابة النبي عليه الصلاة والسلام- يشير بذلك إلى ما تزعمه الرافضة من أن علياً رضي الله تعالى عنه أفضل من أبي بكر فيقول: إن أبا بكر أفضل من الصحابة والقرابة كلهم، وقرابة أبي بكر للنبي ^ ليست قريبة، لأنه يجتمع مع النبي ^ في مرة بن لؤي بن غالب بن فهر - وفهر هو قريش -. وقرابته للنبي بعيدة، وعلي أقرب منه لا شك؛ لأنه ابن عم النبي ^، لكن أبا بكر خير الصحابة. وقوله: (ذاك المؤيد قبل كل مؤيد)، أي الذي نصره الله تعالى وأيده بأن وفقه للإسلام قبل كل من وفقه الله للدين لأنه أول من أسلم من الصحابة.
(قالوا: فمن صديق أحمد؟ قلت: من تصديقه بين الورى لم يجحد): هذا البيت أيضاً لم يذكر في بعض النسخ، وسمى أبا بكر بأنه صديق أحمد وهذا منصوص في كتاب الله في قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به)
وقوله: (تصديقه بين الورى لم يجحد): يعني أن وصف أبي بكر بأنه الصديق أمر لم يجحده الورى، يعني: لم يجحده الناس، بل هو متواتر، قال السيوطي /: أجمعت الأمة على تسمية أبي بكر بالصديق لأنه بادر إلى تصديق الرسول ^، ولم يجحد ذلك أحد من أهل السنة. , وإنما طعن في ذلك من رفض أبا بكر وعمر، وهم الرافضة، مع أن علياً ا كان يقول وهو على المنبر: من زعم أني أفضل من أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري. وقد روى البخاري عن ابن عمر ا قال: كنا نخير في زمن رسول الله ^ بين الناس فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نترك بقية الناس لا نخير بينهم.
- خلافة عمر بن الخطاب وفضائله:
قال الناظم في عمر بن الخطاب وفضائله:
قالوا: فمن تالي أبي بكر الرضا؟ ... قلت: الإمارة في الإمام الأزهد
فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليد(2/73)
سألوه: فمن أحق الناس بالخلافة ومن أفضل الناس بعد أبي بكر؟ فأجاب: (الإمارة في الإمام الأزهد) أي: عمر بن الخطاب، وقوله: (أبي بكر الرضا) يعني المرضي، لأن أبي بكر هو المرضي عنه، ووصف عمر بأنه الأزهد أي: الأكثر زهداً، والزهد عرفه العلماء بأنه: ترك ما لا ينفع في الآخرة. أما الورع: فهو ترك ما يضره في الآخرة. وقوله: (الإمارة في الإمام الأزهد) لأن أول من سمي بأمير المؤمنين هو عمر بن الخطاب ا. وقد أجمعت الأمة على إمامته وزهده وأنه أحق الناس بالخلافة بعد أبى بكر وأنه أفضل الناس بعد أبي بكر، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة. يقول واصفا عمر ا:
- إطلاق لقب الفاروق على عمر:
فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليد)
وفي نسخة: (سند الشريعة).
وصفه بأنه فاروق أحمد، وقد سمي عمر ا بالفاروق، فقد روى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عمر بن الخطاب: لأي شيء سميت الفاروق؟ (فذكر لي قصة إسلامه , أنه بعد أن أسلم خرج الناس فطافوا حول البيت وصلوا وجاهروا بصلاتهم ودينهم فسماني الرسول ^ الفاروق)، لأن الله أظهر به الإسلام وفرق به بين الحق والباطل. قال: (نصر الشريعة) لأنه أول من جهر بالإسلام، فإنه خرج بعد إسلامه فقال: أي الناس أنقل للكلام؟ قالوا: جميل. وهو رجل من أهل مكة، فذهب إليه وطرق عليه وقال له: إني أسلمت. فخرج هذا الرجل مبادراً يجول في مكة ويقول: قد صبأ عمر. فاجتمع عليه قوم من المشركين وطفق يدافعهم عن نفسه حتى تعالى النهار. قال صهيب: لما أسلم عمر أظهرنا الإسلام ودعونا إلى الله تعالى علانية، وطفنا بالبيت، وصلينا حوله، وجلسنا حلقاً. ولم يكن يفعلون ذلك قبل إسلام عمر، فأعز الله دينه بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقوله: (المهذب بعده)، يعني: الذي كان يهذب الناس ويعتني بإرشادهم بعد أبي بكر، وقد عرف عن عمر أنه كان يسير ومعه الدرة يضرب بها ويهذب بها من رآه على منكر أو على معصية.(2/74)
- خلافة عثمان بن عفان وفضائله:
قال الناظم / في عثمان بن عفان وفضائله:
قالوا: فثالثهم؟ فقلت: مسارعاً ... من بايع المختار عنه باليد
صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فضل تلاوة وتهجد
أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي ... في الناس ذا النورين صهر محمد
بعد أن سألوه عن أبي بكر وعمر سألوه عن ثالث هؤلاء في الفضل والخلافة قال: (فقلت: مسارعاً)، وفي نسخة: (مجاوباً) وفي نسخة: (مبادراً) والمعنى متقارب. فثالث الخلفاء بإجماع المسلمين من أهل السنة الجماعة بعد أبي بكر وعمر هو عثمان وأنه من طعن في خلافة عثمان فهو أضل من حمار أهله. وقوله: (مبادراً) أي: مسارعاً؛ لأن الأمر معلوم وهو محل إجماع لا يشك فيه العاقل ولا يتردد. وقوله: (من بايع المختار عنه باليد) وعن أنس ا قال: لما أمر رسول الله ^ ببيعة الرضوان كان عثمان رسول رسول الله إلى أهل مكة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام بعث عثمان ليفاوض أهل مكة في دخول النبي عليه الصلاة والسلام سنة الحديبية ليعتمر مع أصحابه، فلما لم يكن موجوداً قال النبي ^: إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب بإحدى يديه على يده الأخرى، فكانت يد رسول الله ^ لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم) أخرجه الترمذي، ولذا قال: (من بايع المختار عنه باليد). والمختار يعني به المصطفى عليه الصلاة والسلام، فكانت يد النبي نائبة عن يد عثمان في البيعة.
- أشهر مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه:
ثم أخذ يتحدث عن مناقب عثمان فقال:
صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فصل تلاوة وتهجد(2/75)
لأنه تزوج ابنتي النبي عليه الصلاة والسلام، فتزوج رقية، ثم توفيت فتزوج أم كلثوم. وقد كان علماء السلف يقولون: إنه لم يغلق أحد بابه على ابنتين لنبي من الأنبياء إلا عثمان، ولذا سمي ذا النورين. يقول: (من حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد). هذا مما اشتهر عن عثمان ا فإنه اشتهر بمصحفه وتهجده. وكثرة تلاوته للقرآن، حتى أنه قتل ا شهيداً وهو يقرأ القرآن، واشتهر بقيامه لليل، كما أنه اشتهر بصفة ثالثة وهي الحياء كما قال النبي عليه الصلاة السلام: (ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) فهذه الصفات الثلاث قد اشتهرت عن عثمان ا.
ثم يقول: (أعني ابن عفان الشهيد) فقد استشهد ا سنة (35) للهجرة في أيام التشريق وهو يتلو كتاب الله تعالى.
- خلافة علي وفضائله:
قال الناظم رحمه لله في على بن أبي طالب:
قالوا: فرابعهم؟ فقلت مبادراً: ... من حاز دونهم أخوة أحمد
زوج البتول خير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد
أعني أبا الحسن الإمام ومن له ... بين الأنام فضائل لم تجحد
ثم سألوه عن رابع الخلفاء الراشدين؟ فأجاب أنه علي بن أبي طالب، وقد أجمع أهل السنة على ترتيب الخلفاء في الخلافة كما وقع، أي أن أحقهم بالخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، أما في الفضل فقد حصل اختلاف بين السلف هل علي أفضل أم عثمان؟ أهل الكوفة يرون أن علياً أفضل من عثمان، وجمهور السلف يرون أن عثمان أفضل، ثم استقر قول أهل السنة على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فأفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على.(2/76)
(قالوا فرابعهم؟ فقلت مبادراً) وفي نسخة (مجاوباً)..(من حاز) يعني: حصل، (له دونهم) أي: من بين الخلفاء الأربعة، (على أخوة أحمد)، وأحمد هو النبي ^، وهو يشير بهذا إلى ما يتناقله المؤرخون ويذكرونه من أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد هجرته إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان يقول إنه آخى بينه وبين علي بن أبي طالب، وهذا كذب وافتراء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يثبت أنه آخى بين مهاجرين اثنين، ولا أنه آخى أحذاً من المهاجرين. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ونقله عنه الذهبي في المنتقى من منهاج الاعتدال.
- إطلاق البتول على فاطمة:
ثم قال واصفاً لعلي ا:
زوج البتول وخير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد
(زوج البتول) البتول: لقب يطلق على فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام ل, وسميت البتول؛ لأن البتول يطلق على أحد أمور ثلاثة كلها اجتمعت فيها:
من انقطع عن غيره لعلوه وفضله ومكانته، ولا شك أن فاطمة كانت كذلك، وهي خير هذه الأمة نسباً، فهي ابنة نبينا عليه الصلاة والسلام.
يطلق على من تبتل لعبادة الله تعالى: وقد كانت كذلك ل.
يطلق على من فاق الناس في جماله وحسنه: وكذلك هي، وكيف لا تكون كذلك؟ وهي ابنة رسول الله ^.
وقوله: (خير من وطئ الحصى) يعني خير من داس على الأرض بعد هؤلاء الخلفاء، وبعد النبي عليه الصلاة والسلام الذي وصفه بأنه: (كريم المحتد)، المحتد: الأصل، أي كريم الأصل، وهو النبي محمد عليه الصلاة والسلام فهو كريم الأصل، وأوسط الناس نسباً.(2/77)
قال: (أعني أبا الحسن الإمام)، وهي كنية على ا. وقال: (ومن له بين الأنام فضائل لم تجحد). حتى قال الإمام أحمد: لم يرد في أحد من الصحابة ما ورد في على من الفضائل. فإنه قد جاءت النصوص وتكاثرت في فضائله ا، وصار الناس فيه بين مبغض يكفره كما تفعل الخوارج، وبين محب يغلو فيه ويؤلهه، أو يعطيه من حقوق الربوبية والألوهية كما غلت الرافضة ومن نحا نحوهم.
- موقف أهل السنة من معاوية وسائر الصحابة:
ثم قال الناظم / مبيناً موقف السلف من معاوية بن أبي سفيان وبقية الصحابة رضي الله تعالى عنهم:
ولإبن هند في الفؤاد محبة ... ومودة فليرغمن مفندي
ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ... ـوحي المنزل ذو التقى والسؤدد
بعد أن ذكر الخلفاء الأربعة وفضائلهم وذكر مناقبهم وترتيبهم في الفضل والخلافة، شرع في الكلام على صحابيين وهما معاوية بن أبي سفيان، والعباس عم النبي عليه الصلاة والسلام.
وإنما ذكر معاوية للرد على الرافضة الذين يبغضونه، ويعتقدون فيه ما ليس فيه ا. وأهل السنة يعتقدون في الصحابة وجوب المحبة وحرمة ذكر المساوئ، وأنه يجب أن تذكر محاسنهم , وأن يدعى لهم؛ لما لهم من السوابق والفضائل. وقد قال النبي ^: (لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)يعني ما بلغ المد مما أنفق هؤلاء الصحابة ولا نصف المد، وهذا لما لهم من السابقة، ولما لهم من فضيلة الصحبة، وقد قال الله ـ (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) هكذا يكون حال أهل الإيمان، يدعون لمن سبقهم إلى الإيمان، ويسألون الله تعالى ألا يكون في قلوبهم غل، وهذا يكون بالكف عن مساوئ الصحابة وذكر محاسنهم
- الموقف من أخطاء الصحابة رضي الله عنهم:(2/78)
ولابد أن يعرف المسلم أن ما نقل عن بعضهم من الأمور التي فعلوها أنهم فيها مجتهدون فهم إما أن يكونوا قد أصابوا فحصلوا أجرين وإما قد أخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لأنهم مجتهدون، ولهم أجر على هذا الاجتهاد.
وما وقعوا فيه من المعاصي فإنها تجوز عليهم؛ لأنهم من جملة البشر، والبشر تجوز عليهم الصغائر والكبائر، وتجوز عليهم الذنوب، لكن لابد أن تعرف أنهم:
إما أن يكون خطؤهم مغفوراً؛ لأن لهم من السوابق والفضائل والصحبة ما ليس لغيرهم.
ولأن لهم من الأعمال الصالحة ما يكفر هذه المعاصي
أو لأنهم تابوا عنها.
ثم بعد ذلك كله نعرف أنهم أحق الناس بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام فهم أصحابه ي.
يقول الناظم /: (ولإبن هند) أي، معاوية، فإنه ابن هند، وأبوه أبو سفيان، وقوله: (في الفؤاد محبة) أي إني أحبه وأوده. وقوله: (فليرغمن)، أي يصيبه الرغام، وهو: التراب، والمعنى أنه يدعو عليه أن يكون ذليلاً يتمرغ في التراب. (مفندي) أي المكذب، والفند هو التكذيب.
والمعنى: من كذبني على أن معاوية مستحق للمحبة لأنه من جملة الصحابة فأنا أدعو عليه أن يصيبه الذل والرغام.
- فضل معاوية رضي الله عنه:
وقوله:
ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ... ـوحي المنزل ذو التقى والسؤدد
يصف معاوية بأنه (أمين مجتبى) قد اختاره النبي ^ لكتابة الوحي، ومعلوم أنه ليس كل الصحابة كتاباً للنبي عليه الصلاة والسلام وإنما اختار جملة من الصحابة ومن ضمنهم معاوية، واختيار النبي عليه الصلاة والسلام له دليل على فضله، وقوله: (ذو التقى والسؤدد) أي أنه صاحب تقى، وأما سؤدده فقد قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا ملكت فأحسن، إذا ملكت فأحسن) وهذه نبوءة من النبي عليه الصلاة والسلام بأنه سيملك ويحكم الناس.
- فضل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:
ثم بعد ذلك ذكر العباس بن عبد المطلب ا عم النبي عليه الصلاة والسلام فقال:(2/79)
ولعم سيدنا النبي مناقب ... لو عددت لم تنحصر بتعدد
أعني أبا الفضل الذي استسقى به ... عمر أوان الجدب بين الشهُّد
(أ عني أبا الفضل): أي العباس؛ لأنه أبو الفضل ابن عباس، وهو صحابي معروف، فيخبر أن له مناقب لا تنحصر بتعدادها، ومنها: أن عمر استسقى به (أوان الجدب) يعني: زمن الجدب، وهو: عدم المطر. قوله:(بين الشهد) أي: الناس الشاهدون الذين حضروا هذا الموقف.وقد روى البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب لما استسقى قال: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا عليه الصلاة والسلام، وإننا الآن نستسقي بعم نبينا، قم يا عباس فأدع الله تعالى، فقام العباس ودعا الله تعالى أن يسقيهم. فمراده أن عمر استسقى به أي أن عمر توسل إلى الله تعالى بدعاء العباس، والتوسل إلى الله تعالى منه ما يكون توسلاً شرعياً جائزاً ومنه التوسل المحرم الباطل.
فالتوسل الجائز مثل أن يتوسل الإنسان ويتقرب إلى الله بدعاء الرجل الصالح له، كما وقع من عمر أنه طلب من العباس أن يدعو الله.
وأما التوسل الباطل فهو أن يتوسل الإنسان إلى الله بذوات المخلوقين فيقول: اللهم إني أسألك بفلان أو التوسل إلى الله بحق المخلوقين أو جاههم، مثل أن يقول: اللهم إني أسألك بجاه محمد.
- ذكر الخلافة العباسية:
هذان البيتان في عم النبي عليه الصلاة والسلام، والثلاثة الأبيات التي بعدها أبيات لم تذكر في أكثر النسخ، والظاهر عليها أنها مدخلة في المنظومة، فإنها مدح وثناء للدولة العباسية وحكامها، وهذا لا يتفق مع ما أراده الناظم من جمع مسائل الإعتقاد؛ فإن الثناء على أمة أو طائفة ممن حكمت أمة الإسلام ليس من جملة الاعتقادات التي يذكرها العلماء على عاداتهم في كتبهم ومصنفاتهم، وهذا يقوي أن تكون هذه الأبيات مدخلة في المنظومة، ومع ذلك فإننا نشرح ألفاظها يقول الناظم /:
ذاك الهمام أبو الخلائف كلهم ... نسقاً إلى المستظهر بن المقتدي
صلى عليه الله ما هبت صبا ... وعلى بنيه الراكعين السجد(2/80)
وأدام دولتهم علينا سرمداً ... ما حن في الأسحار كل مغرد
يقول: (ذاك الهمام) أي: صاحب الهمة العظيمة. (أبو الخلائف كلهم): إذ ينتسب إليه خلفاء الدولة العباسية. (نسقاً إلى المستظهر بن المقتدي) أي: جميعهم إلى المستظهر بن المقتدي، وهو من خلفاء الدولة العباسية.(صلى عليه الله) أي العباس. (ما هبت صبا) الصبا نوع من الريح. (وعلى بنيه الراكعين السجد) أي وعلى بنيه صلى الله، المتصفون منهم بالركوع والسجود.
وفي قوله: (صلى عليه الله) صلاة منه على غير الأنبياء، ومعلوم أن الأنبياء يصلى عليهم، أما غير الأنبياء فإنه تجوز الصلاة عليهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على آل أبي أوفي، اللهم صل على آل أبي أوفي) لكن تخصيصهم بالصلاة ليس جيداً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل إلا على طوائف مخصوصة، صلى على آل أبي أوفي وهكذا، أما تخصيصهم بالصلاة فإن ذلك خلاف كتاب، الله ففي القرآن الترضي عن الصحابة، كما قال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)، ففي هذا الترضي عليهم وليس فيه الصلاة عليهم، ولو أبدل الصلاة بالترضي لكان أولى، وإن كانت الصلاة بغير تخصيص لأحد منهم، وإن كان ذلك جائزا ولكن استعمال اللفظ الذي جاء في القرآن أولى وأحرى.. قوله: (وأدام دولتهم علينا سرمدا) يعني: دائماً لا تنقطع. قوله: (ما حن في الأسحار صوت مغرد) يعني ما دمنا نسمع صوت الطيور، والمعنى: أنه يسأل الله أن تبقى هذه الدولة إلى قيام الساعة، وقد سقطت هذه الدولة في غزو المغول سنة 656هـ وانقضت هذه الخلافة، وإن كان حاول إعادتها بعضهم في مصر فبقي منهم بقية سنوات معدودة ثم تلاشت الخلافة العباسية وعقبها ما عقبها من دول، وهذه الدولة العباسية لم تكن مستحوذة على كامل بلاد الإسلام، فقد انفصلت الأندلس عنها وحكمها بقايا من بني أمية
- المفاضلة بين الدولة الأموية والدولة العباسية:(2/81)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الخلافة الأموية أفضل بالجملة من الخلافة العباسية، وذلك:
لأن الدولة الأموية كانت في القرون المفضلة، وكان فيهم الصحابة، وأما الدولة العباسية فلم تكن في القرون المفضلة، ولم يكن في زمانهم أحد من الصحابة.
الخلفاء في الدولة الأموية كانوا هم غالبا من يقوم بإمامة الناس في الصلاة، وكان فيهم الفقهاء، وأما في عهد الدولة العباسية فقد انقضى فيهم هذا الأمر.
كما أنه ظهرت في وقت الدولة العباسية كثير من البدع التي كفر أصحابها، كالجهمية، والجبر، والإرجاء، وغير ذلك وانتشرت، وألزم بعض خلفائهم الناس بهذا القول.
- خاتمة المنظومة:
يقول الناظم /:
فعليهم وعلى الصحابة كلهم ... صلوات ربهم تروح وتغتدي
يقول: عليهم صلوات ربي تذهب وتجئ، والمراد أنها صلاة عليهم مستمرة دائماً لا تنقطع، وصلاته عليهم ترجمه وترضيه، فإن الصلاة تطلق على الترحم كما قال تعالى: (ولا تصل على أحدٍ مات منهم) وكقوله: (صل عليهم إن صلاتك سكن لهم)، فالصلاة تطلق على الدعاء، بمعنى أنه يدعو لهم، وقلنا: الأولى بالصحابة الترضي عليهم، لما جاء في الكتاب الله، ولأنه ما درج عليه أهل السنة، وأما الصلاة فإنها تجوز أن كانت على غير سبيل التخصيص لأحدٍ منهم معين.
قال الناظم /:
وإني لأرجو أن أفوز بحبهم ... وبما اعتقدت من الشريعة في غد
يقول: إني أرجو أن أفوز يوم القيامة بأمرين:
ما اعتقدته من عقيدة سلفية.
حبي لهؤلاء الصحابة.
والمعنى: أن حبه لهؤلاء الصحابة عمل صالح يرجو أن يثيبه الله عليه، ولا شك أن من الأعمال الصالحة محبة الصحابة ي، ومحبة المؤمنين وموالاتهم، بل قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).
قالوا: أبان الكلوذاني الهدى ... قلت: الذي فوق السماء مؤيدي
أي: شرحت اعتقادك وأبنت لنا الهدى، وأبنت لنا الرشاد، وهادوا إلى قوله واقتنعوا بمذهبه وما يدعوهم إليه.(2/82)
وقوله: (قلت: الذي فوق السماء مؤيدي):
المراد أن الله تعالى هو الذي نصرني، وهو الذي دلني إلى هذا الهدى، فكان بذلك مرشداً لي وهادياً لي وموفقاً وناصراً، وفي قوله: (إن الذي فوق السماء مؤيدي) يقصد أن الله هو الذي أيده ونصره ,وقد جاء في النصوص أن الله تعالى من صفاته أنه العلي -أنه فوق السماء- ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تغضب امرأة زوجها إلا كان الذي فوق السماء غاضب عليها حتى يرضى عنها زوجها) وقد قدمنا النصوص الدالة على علو الله ـ، وأن الله في السماء بمعنى على السماء. والمؤيد: هو الناصر الموفق.
وبذلك ينتهي هذا البيت الأخير من هذه المنظومة، وفيه رجوع هؤلاء إلى الرشاد، وإلى منهج الصواب، وبهذا نكون قد أكملنا ما يستحق من هذه المنظومة الشرح والإيضاح، وما يستحق منها التعليق والتنبيه على بعض ما تضمنت.
والحمد لله أولاً وآخراً
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فهرس المحتويات
تقدمة وتمهيد…3
- اسم الناظم:…3
- منزلته بين العلماء:…4
- مولده ومشايخه:…5
- مؤلفاته:…5
- التعريف بالمنظومة الدالية ومميزاتها:…5
أبيات دالية أبي الخطاب الكلوذاني…7
شرح دالية أبي الخطاب الكلوذاني…11
- شرح مقدمة المنظومة:…11
- النجاة يوم القيامة بالأخذ بما في هذه المنظومة:…12
- أقسام الهداية:…13
- هذه المنظومة موافقة لعقيدة الإمام أحمد:…14
- عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة سائل الأئمة:…15
- فضائل الإمام أحمد:…16
- أقسام العلم:…18
- أقسام الرأي:…18
- عدم التقليد في أمر العقيدة:…19
- حكم التقليد في العقيدة:…20
- معنى التقليد في مسائل العقيدة:…21
- صحة إيمان المقلد:…22
- أقسام المسلمين بالنسبة لدخولهم في الإسلام:…23
- المنظومة جواب لأسئلة الأفاضل:…24
- كيف يعرف المكلف ربه؟:…25
- أقسام النظر العقلي:…26
- إثبات الكمال لله:…27(2/83)
- أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة:…28
- توحيد الألوهية أعظم أقسام التوحيد:…29
- أقسام دلالات الألفاظ:…31
- نفي التشبيه وإثبات الصفات لله:…32
- الفرق بين التشبيه والتمثيل:…32
- الفرق بين التشبيه والتمثيل وبين التكييف:…33
- نفي التشبيه من أصول أهل السنة والجماعة:…34
- الخلاف في الكاف في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء):…34
- أقسام التشبيه:…35
- قواعد في الأسماء والصفات:…37
- إثبات الصفات لله:…37
- الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات:…38
- إثبات القدر المشترك بين الخالق والمخلوق:…39
- أقسام الموجودات:…39
- أقسام الأسماء باعتبار لفظها ومعناها:…39
- إثبات الصفات لله تعالى:…41
- الإخبار عن الله بالسرمدية:…42
- الجمع بين النفي والإثبات في باب الصفات:…42
- أقسام صفات الله عز وجل:…43
- أركان الإيمان بالأسماء والصفات:…44
- صفات الله تعالى غير مخلوقة:…45
- إطلاق القدم على ذات الله وصفاته:…45
- تجدد الصفات الفعلية وحدوثها:…46
- الفرق بين الأسماء والصفات:…48
- من الأحكام المتعلقة بالصفات:…49
- التماثل والتباين في صفات الله:…50
- نفي التجسيم عن الله تعالى:…51
- معنى الإلحاد:…52
- أقسام الإلحاد:…52
- إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم:…54
- إثبات العلو لله تعالى:…56
- أقسام علو الله على خلقه:…57
- الأدلة على إثبات العلو لله:…57
- عدم إحاطة شيء بالله تبارك وتعالى:…59
- إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى:…60
- معنى العرش:…60
- معنى استواء الله على عرشه:…60
- الرد على من فَسَّر الاستواء بالاستيلاء:…61
- جهل البشر بكيفية استواء الله على عرشه:…63
- طرق معرفة الكيفية:…64
- هل صفات الله من المحكم أم من المتشابه:…64
- نفي معاني الصفات قول المفوضة:…65
- إثبات صفة النزول لله تعالى:…66
- العمل بخبر الآحاد في العقائد:…67
- كيفية نزول الله مجهولة:…67
- إثبات رؤية الله في الآخرة:…68(2/84)
- مناقشة المنكرين لرؤية الله يوم القيامة:…69
- إثبات صفة العلم لله تعالى:…70
- نفي المعتزلة لصفة العلم:…71
- إثبات صفة الكلام لله تعالى:…72
- عقيدة أهل السنة في صفة الكلام وأدلتهم:…72
- أقسام الصفات من حيث دلالتها على الكمال:…73
- إطلاق السكوت في حق الله تعالى:…74
- هل الكلام صفة ذاتية أو فعلية:…75
- عقيدة أهل السنة في القرآن:…76
- الفرق بين القراءة والمقروء واللفظ والملفوظ:…77
- مراتب القدر عند أهل السنة:…79
- إطلاق (الأمجد) على الله تعالى:…80
- إرادة الله للخير والشر:…80
- الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية:…81
- تعريف الإيمان وبيان حقيقته:…82
- تعريفات السلف للإيمان:…83
- الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح:…83
- خلافة أبي بكر الصديق وفضائله:…84
- خصائص أبي بكر الصديق عن بقية الأمة:…85
- خلافة عمر بن الخطاب وفضائله:…86
- إطلاق لقب الفاروق على عمر:…87
- خلافة عثمان بن عفان وفضائله:…88
- أشهر مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه:…89
- خلافة علي وفضائله:…89
- إطلاق البتول على فاطمة:…90
- موقف أهل السنة من معاوية وسائر الصحابة:…91
- الموقف من أخطاء الصحابة رضي الله عنهم:…92
- فضل معاوية رضي الله عنه:…93
- فضل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:…94
- ذكر الخلافة العباسية:…95
- المفاضلة بين الدولة الأموية والدولة العباسية:…96
- خاتمة المنظومة:…97
فهرس المحتويات…100(2/85)
شرح فضيلة الشيخ هاني بن عبد الله بن جبير
القاضي المحكمة الكبرى
شرح كتاب التوحيد
حق العباد على العبيد
إن الحمد لله سبحانه نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً.
أما بعد
…فهذه الدروس شرح لمتن كتاب التوحيد الذي ألفه الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب ين سليمان التميمي رحمه الله تعالى المولود عام 1115هـ و المتوفى سنة 1206 من الهجرة النبوية . و هذا الكتاب ألفه الشيخ رحمه الله تعالى بعد ما رأى ما كان عليه الناس في زمنه فإنه قد انتشر بينهم الشرك و عبادة غير الله تعالى و كثرت بينهم المخالفات الشرعية حتى صار خالهم كحال المشركين الذين كانوا في الزمن الأول من الطواف حول القبور و اعتقاد النفع و الضر فيها ، و صرف العبادة لها ، و لما ألف الشيخ رحمه الله هذا الكتاب أقبل عليه طلابه فحفظوه و درسوه عليه ، ثم بعد وفاته رحمه الله إعتنى به طلابه من بعده فشرحوه بعدة شروح و كان أول شرح لهذا الكتاب هو كتاب تيسير العزيز الحميد و لكن مؤلفه رحمه الله الشيخ سليمان بن عبد الله توفى قبل أن يكمل الكتاب ، ثم جاء الشيخ عبد الرحمن بن حسن فألف فتح المجيد ، و توالت بعد ذلك الشروح و كان من أجمع الشروح شرح الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم المتوفى سنه 1393هـ المسمى بحاشية كتاب التوحيد ، حيث جمع كل الشروح السابقة و أضاف إليها تعليقات الشيخ محمد بن إبراهيم على كتاب التوحيد . و في هذه الدروس بإذن الله سنتناول شرح كتاب التوحيد شرحاً موجزاَ فنبين أبرز ما يشكل من معاني النصوص التي أوردها المؤلف, ثم بعد ذلك نذكر فوائد الباب أو الغرض الذي من أجله ساق المؤلف الباب .(3/1)
يتميز كتاب التوحيد بأن طريقته كطريقة الحافظ البخاري في صحيحه ، و قد كان بعض من يعارض دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب و ينكر عليه و يعاديه ، كان كثيراً ما يذم هذا الشيخ فجاء بعض الموفقين من طلابه و أعطاه كتاب التوحيد بعد ما نزع غلاف الكتاب ، و قال : أريد أن تقرأ هذا الكتاب حتى تعطيني فيه رأيك ، فلما قرأ الكتاب قال : هذا الكتاب كتاب عجيب و فيه من نفس الإمام البخاري في صحيحه ، ففي كل ترجمة يذكر بعدها آيات و أحاديث ، كما كان البخاري في صحيحه يصنع ، فأخبره أن هذا الكتاب ألفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، و بنى دعوته إلى تجديد الدين و إزالة ما علق فيه من الشوائب على هذا المنهج ، فعند ذلك أقر له بالفضل و ترك ما كان ما كان يذمه فيه سابقاً . هذا الكتاب بدأ فيه المؤلف رحمه الله تعالى بقوله كتاب التوحيد و لم يذكر له مقدمه لأن الغرض من الكتاب معروف و هو بيان التوحيد و حكمه و فضله ثم بعض ما يخالفه.
كتاب التوحيد
الباب الأول
…قال الله تعالى : (و ما خلقت و الجن و الإنس إلا ليعبدون) الآية.
و قوله تعالى : ( و لقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت)
و قوله تعالى : (و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا).الآية
و قوله تعالى : ( و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً ) الآية.
و قوله تعالى : (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئاً ) الآيات.
قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه و سلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً ) إلى قوله تعالى : ( و أن هذا صراطي مستقيماً ) الآية.(3/2)
و عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ( كنت رديف النبي صلى الله عليه و سلم على حمارٍ فقال لي : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد و ما حق العباد على الله ؟ قلت : الله و رسوله أعلم قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، و حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً . قلت : يا رسول الله ، أفلا أبشر الناس ؟ قال : لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجاه في الصحيحين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أول الكتاب يقول المؤلف كتاب التوحيد ، و التوحيد مصدر أوحد يوحد توحيداً.
و التوحيد في اللغة : جعل المتعدد واحداً ، أو جعل الشيء واحداً ، و هذا لا يتم إلا بنفي و إثبات . تنفي الحكم عن ما سوى الموحَد و تثبته للموحَد، لأن الإثبات المحض ليس فيه توحيد ، فلا ينفي الحكم عن ما سواه ، فإذا قلت مثلا : زيدً قائمً ، أثبت القيام لزيد ، و لكن لا تنفي القيام عن ما سوى زيد ، و إذا قلت : ما قام أحدً ، فأنت تنفي القيام عن الجميع ، أما إذا قلت : ما قام إلا زيدُ.نفي و إثبات ، فأنت تنفي القيام عن ما سوى زيد و تثبته لزيد. و هذا هو التوحيد ، فلا بد في التوحيد من نفي و إثبات .
التوحيد في الاصطلاح : هو إفراد الله تعالى بما يختص به. و ينقسم عند أهل العلم أقسام و هذا التقسيم تقسيم اصطلاحي فيمكن أن تقسم التوحيد إلى أقسام غير ما نذكره ، لكن أكثر من كتب في التوحيد قسم التوحيد إمَّا إلى قسمين أو إلى ثلاثة أقسام ، فابن تيميه و ابن القيم و شارخ الطحاوية ابن أبي العز الحنفي قسموا التوحيد إلى قسمين :
توحيد المعرفة و الإثبات و يقصدون به توحيد الربوبية و توحيد الأسماء والصفات.
توحيد القصد و الطلب ،و يقصدون به توحيد الألوهية ،( الإلهية) .
و أكثر المتأخرين يقسمون التوحيد إلى ثلاثة أقسام :
توحيد الربوبية .
توحيد الألوهية.
توحيد الأسماء والصفات.(3/3)
(1)…فأما توحيد الربوبية : و هو القسم الأول فمعناه إفراد الله بالخلق و الملك و التدبير.و بعضهم يعبر عنه فيقول : إفراد الله تعالى بأفعاله. و معنى ذلك أن نفرد الله تعالى بأفعاله كالخلق و الرزق و الملك و التدبير. فنقول لا خالق إلا الله و لا رازق غيره سبحانه و تعالى و إذا قلنا لا خالق إلا الله ، فإن هذا لا يعكر عليه ما جاء في ا لنصوص من أن عيسى عليه السلام يخلق . كما قال تعالى : (و أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) و ما جاء في النصوص النبوية أنه يقال للمصورين يوم القيامة : أحيوا ما خلقتم ، فإن هذا الخلق الذي نسب إلى غير الله تعالى معناه الخلق الناقص ، الذي هو تغيير الشيء من صورة إلى صورة ، أما الخلق التام الكامل الذي هو إيجاد الشيء من العدم فهذا خاص بالله تعالى ، لا يوصف غير الله تعالى به.و كذلك التدبير فإننا نقر بأن الله تعالى هو المدبر وحده لا شريك له . و التدبير ينقسم إلى قسمين:
تدبير شرعي :
تدبير كوني :
فالتدبير الكوني معناه أنه يدبر الأمر سبحانه و تعالى ،فيحيي و يميت ، و يغني و يفقر و يغني و يقني سبحانه و تعالى.
و التدبير الشرعي : معناه لا يحلل و لا يحرم و لا يوجب على العباد غيره سبحانه وتعالى ، فمن خالف شيئاً من ذلك فقد نقض توحيد الربوبية.
(2)…و أما توحيد الإلهية : و هو القسم الثاني، هذا القسم هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء و بين أقوامهم. و معناه إفراد الله تعالى بالعبادة ، أو إفراد الله تعالى بأفعال المخلوقين ، فلا نصرف العبادة إلا لله سبحانه و تعالى.
(3)…و أما توحيد الأسماء و الصفات: وهو القسم الثالث ، و معناه أن نفرد الله تعالى بما سمى ووصف به نفسه و بما سماه ووصفه به رسول الله صلى الله عليه و سلم . هذا هو القسم الأخير من أقسام التوحيد.(3/4)
يقول المؤلف رحمه الله تعالى : كتاب التوحيد و قول الله تعالى : ( و ما خلقت و الجن والإنس إلا ليعبدون ) يعني أن الله تعالى يبين الحكمة التي من أجلها خلق الجن و الإنس و عبادة الله تعالى وحده. و العبادة فسرها ابن عباد بأنها التوحيد يعني و حلقت الجن و الإنس إلا ليوحدون ، و هذا تفسير من ابن عباس إلى فرد من أفراد المعنى و هذه هي طرقة السلف في التفسير فإنهم يفسرون اللفظ بأحد معانيه فيقولون يعبدون يعني يوحدون، و إلا فالعبادة أسم أعم من ذلك ، و معناه طاعة الله تعالى التي من ضمنها توحيد الله تعالى و صرف العبادة له وحدة .
و العبادة في اللغة : مأخوذة من عَبَدَ يعني تذلل ، يقال طريق معبَّد ، يعني مذلل وطئته الأقدام.
و العبادة في الاصطلاح :فسرت بعدة تفسيرات ، فمن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :أن العبادة إسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه من الأقوال و الأفعال الظاهرة و الباطنة . و يقول الفقهاء من الحنابلة : أن العبادة هي كل ما أُمر به شرعاً من غير اقتضاء عقلي و لا اضطرار عرفي. و معنى كلامهم أن العبادة كل ما جاء في الشرع الأمر به من غير أن يكون له اقتضاء عقلي و لا اضطرار عرفي ، يعني ليست العبادة ما جرى عليه عرف الناس أو اقتضته عقولهم. إنما العبادة هي ما أُمر به في الشرع ، فكل نص أوجب على العباد شيئاً أو أمرهم بشيء فإننا نستفيد منه أنه عبادة.. و عرفها فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى بأنها التذلل لله محبةً و تعظيماً بفعل أوامره و اجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه ، فمن تذلل لله ، فعل الأوامر و اجتنب النواهي فهذه هي العبادة و إنما ذكر التذلل و المحبة و التعظيم لأن هذه هي أركان العبادة . كما قال ابن القيم :
…و عبادة الرحمن غاية حبه …مع ذل عابده هما ركنان(3/5)
فركنا العبادة : التذلل و المحبة. هذا هو تفسير محمد بن غث يمين رحمه الله تعالى للعبادة.و على كل حال فإننا نعرف العبادة : بأنها كل ما جاء في الشرع الثناء على فاعله فهي عبادة من العبادات فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد أشرك مع الله تعالى غيره.
و قوله تعالى : ( و لقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت ) ، هذا هو النص الثاني فقد ذكر المؤلف في هذا الباب عدة نصوص تفيد الغرض الذي من أجله ساق الباب، (اعبدوا الله ) على تفسير ابن عباس يعني وحدوا الله . ( و اجتنبوا الطاغوت) : الطاغوت إسم جامع لكل ما طغى و تجاوز . و فسره ابن القيم بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
و قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا) يعني أمر تعالى ألا تعبدوا سواه,
و في قوله تعالى: (و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً ) أمر بعبادة الله وحده و نهى عن صرف العبادة لغيره.
و قوله تعالى : (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً ). بيان أن الله تعالى حرم على العباد أن يشركوا به سبحانه و تعالى.
و في قول ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه و سلم التي عليها خاتمه ). يعنى من أراد أن ينظر إلى وصية النبي عليه الصلاة و السلام و التي وقع عليها_يعني ـ التي مات و هو يأمر المسلمين بها ، فليقرأ هذه الآيات، هذا الأثر أخرجه الترمذي و أخرجه أيضاً الطبراني عي معجمه ، سكن في إسناده يزيد ين عبد الله الأوذي وهو ضعيف، و على كل فحتى لو كان الحديث ضعيف فإن العبرة بالآيات التي وردت في آخر سورة الأنعام و هي دليل على أن الله تعالى حرم على عباده الشرك.(3/6)
و في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه ، كان رديف النبي عليه الصلاة و السلام معناه أنه رديف للنبي عليه الصلاة والسلام : أي أنه راكب خلفه على هذا الحمار ، و هذا يدل على تواضع المصطفى عليه الصلاة والسلام في ركوبه و إرداف شخص خلفه.وفي قوله:( أتدري ما حق الله على العباد؟ ) يبين أن الله تعالى أوجب على العباد أن يعبدوه سبحانه و لا يعبدوا سواه ، و كافأهم على ذلك بأن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. و هذا كله يدل على ما أراد المؤلف الوصول إليه و هو أن : التوحيد فرض عين على كل مكلف ـ و هو أول واجب على العبد ـ .
و في قوله : في آخر الحديث ( لا تبشرهم فيتكلوا ) قد يشكل على بعض الناس بأنه كتمان للعلم ، و معلوم أن كتمان العلم منهي عنه لآن الله تعالى أخذ العهد على الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس و لا يكتمونه, و الجواب على ذلك أن كتمان العلم على نوعين :
كتمان تام : يعني كتمان مطلق بأن يكتم العلم و لا يبلغه لأحد ، لغير مصلحة ، و هذا هو المنهي عنه ، وهو الذي يأثم فاعله.
كتمان لمصلحة و مقصد : فهنا قال : (لا تبشرهم فيتكلوا) ، فلا يبلغ الناس لئلا يُحدث هذا عندهم إتكالاً على هذا التوحيد و ربما فهماً ناقصاً له فيتركوا من ذلك العبادة. نظير ذلك ما جاء عن أبن عباس رصي الله تعالى عنه : أن رجلاً أتاه فسأله : هل للقاتل توبة ؟ فقال : (لا) . فلما انصرف تعجب أصحابه من ذلك ، فقال رأيت في عينيه الشر فخشيت إن أخبرته أن للقاتل توبة : أن يقتل شخصاً .بزعم أنه سيتوب بعد ذلك. فهذا الكتمان لمصلحة و مقصد فلا ينهى عنه..
والغرض الذي ساق المؤلف من أجله هذا الباب هو بيان حكم ا لتوحيد ، و حكم التوحيد فرض عين على كل إنسان على الجن و الإنس ، فيجب على كل إنسان أن يوحد الله تعالى . و هو أول واجب على العبد أن يوحد الله تعالى ، و أن يخصه بالعبادة و يفرده بها و هذا الواجب لا يسقط عن العبد إلا في خالتين ذكرهما أهل العلم:(3/7)
الحالة الأولى حالة الإكراه : فإنه من أكره و قلبه مطمئن للإيمان فإنه يعذر في تركه للتوحيد ، هكذا يذكر بعض أهل العلم ، و فيما ذكروه نظر ، لآن الإنسان المكره إنما يعذر في ترك التوحيد ظاهراً، و لا يعذر في تركه في الباطن ، فلا بد أن يكون باطنه مصدقاً موقناً بحقيقة التوحيد و الإيمان ، لكن في الظاهر له أن يعامل الناس بما يظهر منه أنه غير مسلم ولا موحد ، و يشترط في هذا الإكراه ، , أن يكون إكراهاً مرجئاً يعني إكراه بقتل أو عقاب شديد يخشى منه على نفسه الضرر ، فعند ذلك يجوز له أن يظهر الشرك و يكون مع ذلك معفياً عنه.
الحالة الثانية حالة الجهل : يعذر في حالة الجهل بترك التوحيد ، و في هذه المسألة خلاف و نزاع بين الناس و نبين ذلك بأن نقول إن من نشأ في بادية بعيدة أو كان حديث عهد بإسلام فإنه يعذر في ما ترك من واجبات الدين حتى و لو كانت من أمور التوحيد والعقيدة ، لأنه معذور بذلك ، ففي الحديث (كنا حدثاء عهد بكفر) أو (كنا حدثاء عهد بجاهلية ) فحديث العهد الإسلام ، و كذلك الذي نشأ في بادية بعيدة ، يعذر في ما فعل، أما من لم يكن كذلك فقد اختلف فيه الناس على قولين:
القول الأول : أنه إن كان جاهلاً فإنه يعذر و لا يحكم عليه بالكفر ، و يعذر فيما ترك من توحيد و فيما فعل من شرك ، و هذا القول ، قول منتشر في هذا الزمن ، و يستدلون بذلك بقوله تعالى : (و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).(3/8)
و القول القاني : و هو الذي عليه أئمة الدعوة السلفية في نجد من عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب و تلامذته ، و هو الذي يفتي به سماحته شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ، وعليه فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء : أن الإنسان لا يعذر بالجهل ، ما دام قد بلغه القرآن ، و هلا عن شيء يعذر به في الفهم ، كأن يكون إنسانا غير عربي و لا يمكنه أن بفهم اللسان العربي ، أما من كان بفهم القرآن فإن بلوغ القرآن له يكفي في إقامة الحجة عليه ، و يقتضي أنه لا يعذر بعد ذلك فيما فعل من شركيات ، و يستدلون لذلك بقول النبي صلى الله عليه و سلم كما في صحيحه ، في صحيح مسلم (و الذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودياً و لا نصرانياً ثم لا يؤمنوا بالذي أرسلت به إلا دخل النار) ، و كذلك بقوله تعالى : ( و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) فإن من بلغه القرآن فقد أنذر، و من أنذر فقد وجب عليه أن يعمل و إلا عوقب على ترك العمل، و هذا هو القول الأقرب للصواب و إن كان القول الأول فيه تخفيف على الناس ، و لكن الظاهر من حال السلف أن القول الثاني هو الأصح والأرجح ، و النبي عليه الصلاة السلام لا شك أنه لما بعث إلى المشركين كان فيهم من لم بفهم التوحيد ، فقد أخبر الله تعالى عن حالهم بأنهم الأنعام بل هم أضل ، و مع ذلك فقد كفرهم المصطفى عليه الصلاة و السلام ، و عاملهم جميعاً بمقتضى أنهم قد فهموا كتاب الله لأنهم فهموا اللسان العربي و فهموا دعوته عليه الصلاة و السلام ، هذا مجمل الكلام في هذا الباب و نكتفي بهذا القدر و نصلي و نسلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
…بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه ومن والاه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله.
أما بعد : -(3/9)
…فقد سبق في اللقاء الماضي أن تناولنا أول كتاب التوحيد بالتعليق عليه، وقلنا إن المؤلف وضع أول باب لبيان حكم التوحيد، و أنه فرض عين على كل مكلف و هو أول واجب على العبيد .
و الباب الثاني من هذا الكتاب هو:
باب فضل التوحيد و ما يكفر من الذنوب
و قول الله تعالى :( و الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون ).
عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من شهد أن لا إله إلا الله و حده لا شرك له , و أن محمداً عبده و رسوله و أن عيسى عبد الله و رسوله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه ، و الجنة حق ، و النار حق أدخله الله الجنة على كان من العمل) أخرجاه.
و لهما من حديث عتبان : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).
و عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( قال موسى : يا رب علمني شيئاً أذكرك و أدعوك به ، قال : قل يا موسى ، لا إله إلا الله ، قال يا رب كل عبادك يقولون هذا ؟ قال : يا موسى ، لو أن السموات السبع و عامرهن غيري و ألأرضين السبع في كفة ، و لا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله ) رواه ابن حبان و الحاكم و صححه .
و للترمذي – و حسنه – عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول (قال الله تعالى : يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)
ــــــــــــــــــــــــــ(3/10)
…هذا الباب الثاني عقده المؤلف رحمه الله تعالى بياناًَ لفضل التوحيد و قوله( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب )، هذا من باب عطف الخاص على العام فإن للتوحيد فضائل كثيرة ، ذكر المؤلف في هذا الباب خمسة فضائل و من ضمن هذه الفضائل أنه يكفر الذنوب . فقوله( وما يكفر من الذنوب) يعني عطف لهذا الخاص الذي هو نوع من أنواع الفضائل على العام ، فإن الحسنة كلما كانت أعظم ، كان تكفيرها للذنوب أكبر و تعلمون أن الحسنات تكفر السيئات.كما قال تعالى : (إن الحسنات يذهبن السيئات) و كما فال النبي صلى الله عليه و سلم (و اتبع السيئة الحسنة تمحها ) فكلما كانت الحسنة أعظم كان تكفيرها للذنوب أكثر و لذا عطف المؤلف بهذا الخاص ، و هو تكفير الذنوب لأنه يبين فضل التوحيد يقيناً.
قال : و قوله تعالى :( و الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون ). يلبسوا يعني يخلطوا . معنى الآية : الذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم فلهم الأمن و الإهتداء،
هذا الظلم على ثلاثة أنواع :
النوع الأول الشرك : هو أعظم الظلم ، الشرك بالله تعالى ، فإن الله تعالى مستحق للعبادة فصرف العبادة لغير الله تعالى أعظم الظلم,
النوع الثاني ظلم النفس : هو ظلم الإنسان لنفسه بفعله للمعاصي و ارتكابه لها .
النوع الثالث ظلم الغير : فهو ظلم الإنسان لغيره باعتدائه عليه أو سلب حقه.(3/11)
و قد سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزلت هذه الآية كما روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه : أن الصحابة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال بهم النبي صلى الله عليه و سلم ليس الذي تذهبون ، ألم تسمع إلى قول لقمان لابنه وهو يعظه : إن الشرك لظلم عظيم، هذا الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه يدل على أن النوع الأول من أنواع الظلم و هو الشرك بالله إذا حصل فإنه يمنع عن الإنسان الأمن و الاهتداء مطلقاً ، فمن وقع في الشرك فليس له نصيب من الأمن و لا الاهتداء فليس مهتدياً لأنه خالف أصل الإسلام و ليس آمناً لأنه في النار، كما قال تعالى : (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار ) و كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . أما أنواع الظلم الأخرى فإنها لا تمنع الاهتداء تماماً ، ولا تمنع الأمن تماماً و لكن كلما وجد منها نصيب عند الإنسان منعت من الاهتداء و الأمن بقدر وجودها عند الإنسان ، فمن كانت معاصيه أكثر و ظلمه للناس أكثر ، كان حظه من الأمن و الهداية أقل و من كانت معاصيه أقل و ظلمه للناس أقل ، فإن حظه من الأمن و الهداية أكبر ، و أما من وجد عنده الشرك فليس له أم و لا هداية.
الأمن : هو الأمن في الدنيا ، وهي الطمأنينة النفسية كما قال تعالى: ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، و هو في الآخرة الأمن من دخول النار فمن لم يشرك و لم يظلم نفسه بالمعاصي الكبائر أو الإصرار على الصغائر ، و لم يظلم إخوانه ، فإنه يدخل الجنة ابتداءً و يأمن من دخول النار مطلقاً و سيأتي بيان ذلك في الباب الذي يلي هذا.(3/12)
و يقول عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (من شهد أن لا إله إلا الله) ( من شهد ) الشهادة هي الإعتقاد الجازم المعبر عنه باللسان كأن من شدة يقينه بمعناها يشاهدها و ينظر إليها. يقول : (من شهد أن لا إله إلا الله) : هذه الكلمة العظيمة لا بد أن نقف معها، فمعنى لا إله إلا الله : لا : نافية للجنس. إله : إسم مبني على الفتح في محل نصب إسم لا . و معنى إله يعني مألوه ، و المألوه هو المعبود فإن تأله هو التعبد. كما قال الشاعر :
……لله در الغانيات المدَّه …سبحن و استرجعن من تألهي
سعني من تعبدي ، فالتأله هو التعبد. و الإله هو المعبود.
فمعنى لا إله : يعني لا معبود لأن الإله هو المعبود ، هذا هو معناه في اللغة ، لا إله . إله هذا أسم لا يعني لا معبود . لا تحتاج إلى إسم و خبر فاسمها إله و الخبر : الحبر محذوف و قد حصل ف تقدير هذا الخبر المحذوف خلاف بين الناس ، فأما أهل السنة الذين اتبعوا منهج سلف هذه الأمة و عرفوا الحق بدليله ، فإنهم لا يشكون أن الخبر المحذوف تقديره (حق) يعني لا إله حق إلا الله و يقولون إن معنى ذلك أنه توجد معبودات أخرى غير الله تعالى ، لكنها غير حق. كمال قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل) و كما قال تعالى : (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعو من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك).و هذا هو الحق كما قدمنا ،بدلالة الآية : (ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل) فيكون معنى لا إله إلا الله يعني لا معبود حق إلا الله ، فهناك معبود لكنه معبود بغير حق ، أما المعبود بحق فليس إلا الله سبحانه و تعالى ، هذا هو معنى لا إله إلا الله عند أهل السنة أما غيرهم فقد خالفوا في أمرين :(3/13)
الأمر الأول : خال فوا في معنى إله ، فأهل السنة يقولون : لا إله يعني لا معبود . أما هم فيقولون : الإله مأخوذ من الألهى ؟؟؟؟ و هو الصانع ، فمعناها عندهم : لا خالق إلا الله ، و هذا المعنى غير صحيح ، و ذلك لآن النبي صلى الله عليه و سلم لما أرسله الله تعالى إلى المشركين ، و قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله تهتدوا )، ماذا قالوا ؟ ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً ) هم كانوا مقرون بأنه لا خالق إلا الله و ليس عندهم في ذلك إشكال ، إنما الذي كانوا يخالفون فيه هو هل يعبد مع الله غيره أو لا؟ فلما قال لهم : قولوا لا إله إلا الله تهتدوا ، قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ، فكان الخلاف فينهم في معنى العبادة فقط ، فكانوا بذلك أفهم ممن يقول : أن لا إله يعني لا خالق ، إنما معنا كما قدمنا ، لا إله يعني لا معبود بحق.(3/14)
الأمر الآخر : الذي خالفوا فيه : خالفوا في تقدير الخبر المحذوف ، فلنا الخبر المحذوف في لا إله إلا الله ما هو ؟ ( حق ) يعني لا إله حق . أما عندهم فماذا قالوا ؟ قالوا لا إله موجود و قدروا الخبر محذوف تقديره (موجود) يعني أنه لا معبود موجود إلا الله ، و هذا خطأ بلا ريب ، فإنه لا شك أنه توجد معبودات كثيرة غير الله ، و أكبر دليل لذلك ، حال المشركين الذين بعث الله تعالى إليهم نبينا محمد صلى الله عليه و سلم .و كانوا في زمنه ، فإنهم كانوا يعبدون مع الله غيره ، و يصرفون العبادة لغير الله تعالى ، و هذا كافٍ في إبطال ما فهموه ، و هذه المسألة التي نقد نظن أنها من أوضح ما تكون ، و قد وقع في الخطأ فيها علماء كبار، فإن من كتب العقيدة ، بل بعضها قد يعتمد في الجامعات أو المدارس الشرعية ، تقول لا إله إلا الله يعني لا معبود موجود إلا الله و هذا خطأ ظاهر بل المعنى لا معبود حق ، أما الموجود فيوجد ، يوجد معبودات غير الله ، كما قال تعالى: ( فما أغنت عنهم آلهتهم ) يعني معبود اتهم التي كانوا يصرفون إليها العبادة ، و هذا هو معنى لا إله إلا الله .
يقول النبي صلى الله عليه و سلم (من شهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له )تبين لنا من معنى لا إله إلا الله أن لها ركنان ، فبهذه الكلمة ركنين : الأول النبي ، و الثاني الإثبات :
النفي قوله: لا إله
الإثبات قوله : إلا الله(3/15)
(لا إله) تنفي العبودية عن كل ما سوى الله ، و (إلا الله ) تثبت العبادة لله و حده لا شريك له ، فكما أنه وحده الخالق الرازق سبحانه فهو و حده المستحق للعبادة ، و قدمنا هذا في كلامنا عن معنى التوحيد ، قلنا إن التوحيد لا يحصل إلا بنفي و إثبات ، و إلا لم يحصل إفراد له بالحكم ، لا إله إلا الله : هذه لا تنفع صاحبها إلا بتحقيق شروط فيها، و هذه الشروط : شروط سبعة ذكرها أهل العلم و قد نظمها أهل العلم تسهيلا لحفظها ، فإن النظم يسهل الحفظ كما فال السفا ريني . فإنه يسهل الحفظ ، فالنظم لا شك يسهل الحفظ ، و لذا نظم هذه الشروط ، الشيخ حافظ حكمي بقوله في سلم الأصول هذه الشروط لا بد من حفظها يقول :
……العلم و اليقين والقبول…و الإنقياد فادري ما أقول
……و الصدق و الإخلاص و المحبة …وفقك الله لما أحبه
و قد نظمها قبله بعضهم فقال :
……علم يقين و إخلاص و صدقك …مع محبة وانقياد و القبول لها
هذه الشروط واضحة المعنى ،
العلم : يعني العلم بمعناها ، و معنا قلنا لا معبود حق إلا الله .
اليقين بمدلولها : بأن لا يشك الإنسان ، كما قال تعالى : ( ثم لم يرتابوا).
والقبول بمعناها : و القبول يكون باطناً يقبل بقلبه معناها .
و الإنقياد : يعني الإنقياد لما دلت عليه بجوارحه الظاهرة.
و الصدق : بأن لا يكذب في قولها.
و الإخلاص :بأن لا يكون في قولها مرائياً.
و المحبة : لما دلت عليه و لهذه الكلمة ولائها ؟؟؟؟ و هذا من معاني الولاء للمؤمنين.
يقول النبي صلى الله عليه و سلم : (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أن محمداً عبده و رسوله ) : معنى أن محمداً عبده و رسوله ، يعني الإعتقاد الجازم بأن محمد بن عبد الله أرسله الله تعالى بشيراً و نذيراً و مقتضى هذه الشهادة خمسة أمور : إذا أراد الإنسان أن يكون محققاً لمعنى شهادة أن محمداً رسول الله ، فلا بد من إتيانه بخمسة أمور:
الأول : طاعة النبي صلى الله عليه و سلم .(3/16)
الثاني : تصديقه فيما أخبر به.
الثالث : إجتناب ما نهى عنه.
الرابع : ألا تتعبد الله إلا بما شرعه لك صلى الله عليه و سلم .
الخامس : ألا تصرف له شيئاً من العبادة.
فهو نبي لا يكذب ، و عبد لا يعبد، إنما هو عليه الصلاة و السلام رسول كريم مبلغ عن الله تعلى أمره و شرعه.
بقية حديث عبادة بن الصامت يقول (و أن عيسى عبد الله و رسوله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه) ، عيسى بن مريم : عبد الله و رسوله ، ففي هذا رد على اليهود و النصارى ، فأما اليهود فإنهم ينكرون رسالته ، و أما النصارى فإنهم يعتقدون فيه معنى الألوهية ، و يقول:( وكلمته) ما معنى أن عيسى كلمة الله ؟ معناه : أن الله خلقه بكلمة كن ، فمعنى أنه الكلمة : يعني أنه كان بالكلمة و أُوجد بالكلمة و ليس المعنى أنه هو نفس الكلمة ،إنما المعنى أن الله خلقه بكلمته ، قال له كن فكان . (و روح منه ) يعني روح ابتدأت من الله تعالى ، خلقها الله تعالى و ما أُصيف إلى الله تعالى ، يذكر أهل العلم له قاعدة ، فيقولون :
ما أُضيف إلى الله تعالى من عين قائمة بنفسها: مثل ماذا ؟ مثل ( أن عيسى روح من الله ) كما قال تعالى : ( و سحر لكم ما في السموات و الأرض جميعاً منه ) يعني من الله ، و مثل( ناقة الله و سقياها) فهذه تضاف لله ، فما معنى هذه الإضافة؟ يقول أهل العلم إن كان هذا الشيء المضاف إلى الله عين قائمة بنفسها مستقلة فتكون من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، فمعنى روح منه: روح مخلوقة من الله، و معنى ( و سحر لكم ما في السموات و الأرض جميعاً منه ) يعني جميعاً من خلق الله ، و معنى (ناقة الله) : يعني الناقة التي خلقها الله . و معنى (أن عيسى روح من الله ) : أي أنه مخلوق لله تعالى ، هذه معاني الإضافة كما إذا قلنا :بيت الله يعني البيت الذي أوجده الله فهذه إضافة المخلوق للخالق.(3/17)
أما إذا كان المضاف إلى الله تعالى معنىً يقوم بغيره متصلاً به :فهذا أيضاً من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، من مثل ماذا ؟ مثل ما أضفنا إلى الله تعلى روح أو علم ، نبي من أنبياء الله ، كما في هذا الحديث ، و روح منه ، فهذه الروح لا تقوم بنفسها إنما تقوم بمن ؟ بعيسى فتكون من باب أيضاً إضافة المخلوق إلى الخالق.
الثالثة أن نضيف إلى الله تعالى صفةً لا تقوم بنفسها : مثل : كلام الله ،و وجه الله ،و قدرة الله ، و عزة الله ، فهذه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، فتكون من صفات الله تعالى .
يقول ( و الجنة حق و النار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ) هذا هو الثواب ، فإن فضل التوحيد قلنا أن المؤلف ذكر خمسة فضائل . الأول:ى حصول الأمن و الإهتداء . والثانية : دخول الجنة كما في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم .. ما معنى قوله صلى الله عليه و سلم (على ما كان من العمل؟ . معنى (على ما كان من العمل ) اختلف فيه أهل العلم على قولين :
القول الأول : يعني على ما كان من عمله سواءً عمل صالحاً أو طيباً ما دام أتى بهذه الأمور فهو يدخل الجنة ، فمهما فعل من المعاصي و الذنوب فإنه يدخل الجنة ، هذا هو المعنى الأول ، على ما كان من العمل يعني مهما عمل من السيئات ، فإنه يستحق دخول الجنة لتوحيده و شهادته و إيمانه بما سبق .
المعنى الثاني : أن قوله صلى الله عليه و سلم (على ما كان من العمل ) أي أن دخوله للجنة حاصل إلا أنه إن كان عمله الصالح كثيراً دخل أعلى الجنة ، و إن كان قليلاً فكان دون ذلك. ما معنى على ما كان من العمل عندهم ؟ يعنى على حسب عمله ، فالعمل الصالح يستحق عليه أعلى الجنان ، و العمل الأقل يستحق عليه دون ذلك.
يقول (أخرجاه ) يعني البخاري و مسلم في صحيحيهما .(3/18)
يقول ( و لهما ) يعني البخاري و مسلم. في حديث عتبان (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله. : و هذه الفضيلة الثالثة من فضائل التوحيد ، أن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله و عمل بمعناها ، من أين أخذنا أنه عمل بمعناها ؟ أن العرب يقولون : قال بمعنى فعل و ذلك مثل قول عمار بن ياسر كما في الصحيحين لما وصف تيمم النبي صلى الله عليه و سلم قال : (ثم قال بيديه هكذا ، و ضرب بيده الأرض ). فالقول عندهم يطلق على العمل ، فمعنى من قال لا إله إلا الله ، يعني من قاله و عمل بها ، فالقول يطلق على قول اللسان و عمل اللسان و القلب و الجوارح ، فالقول : إذا قلنا قول اللسان هذا كلام التلفظ ، و إذا قلنا : قول القلب ،فهذا الإيمان ، و إذا قلنا قول الجوارح فهذا هو الفعل ، فإذا وجدت هذه الأمور القول و العمل ، القول الذي هو التلفظ و العمل و الإيمان ، تحقق فيه هذا الشرط . و (حرمه الله على النار )، القول نقول ينطبق على تلفظ اللسان و عمل الجوارح و إيمان القلب . و استشهدنا بذلك بقول عمار حيث قال : (ثم قال بيديه هكذا ) يعنى فعل.
يقول: وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن موسى قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك و أدعوك به ، قال : يا موسى قل لا إله إلا الله قال : يا رب كل عبادك يقولون هذا ، قال : يا موسى لو أن السموات السبع و عامرهن يعني من يقيم فيها و يسكنها ، غيري فإن الله تعالى هو الذي تعبدنا بهذه الكلمة و ألأرضين السع في كفة و لا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله ).(3/19)
هذه الفضيلة الرابعة ، و هي أن لا إله إلا الله ترجح بميزان قائلها ، هذا الحديث يقول المؤلف أخرجه ابن حبان و الحاكم صححه ، و الحقيقة أن في إسناده دراج ، رواه عن أبي الهيثم ، دراج بن سمعان أبو السمح ، و هو ضعيف و لقد رواه عن أبي الهيثم و هو أيضاً إذا روه عنه كان في روايته ضعفاً أشد ، فهذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف ، و لكن يدل على معناه عدة أحاديث منها الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، عن أبي ذر ، أن نواحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة جمع بنيه و أوصاهم أن يقولوا لا إله إلا الله ، قال : فإنها لو وزنت بالسماوات و الأرض لرجحت بهن ، إلا أن فيه الصقعب ، و هو أيضاً ضعيف ،و لكن معنى رجحان حسنة لا إله إلا الله معنى صحيح، . فقد روى الترمذي و الحاكم و صححه ، و وافقه الذهبي ، أن رجلاً يأتي يوم القيامة ينشر له تسعة و تسعون سجلاً كلها سيئات ، فينظر إليها كل سجل مد البصر ، فيقول له الله : أظلمك كتبتي ؟ فيقول : لا . فيقول : ألك حسنة ؟ قال فيهاب و يقول : لا فيقال : بلى إنك لا تظلم ، فيؤتى ببطاقة قد كتبت عليه لا إله إلا الله فيقول : و ما تفعل هذه البطاقة مع هذه السجلات ، فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع في كفة الميزان الأخرى فترجح بهن و هذا الحديث يسمى حديث البطاقة و هو حديث صحصح. و على كلٍ نعلم أن من فضائل التوحيد أنه يرجح ميزان صاحبه.(3/20)
الحديث الأخير و للترمذي و حسنه و هو كما قال المؤلف حديث حسن و للترمذي و حسنه عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( قال الله تعالى : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض ( يقال قُراب – و قِراب ) بالضم و الكسر و المعنى ملئ الأرض أو قرابة ملئها ، يعنى إذا أتيتني بملئ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة. و هذا يدل على الفضيلة الخامسة من فضائل التوحيد ، و هو أنه يكفر الذنوب و المعاصي ، و هذا يأتي له مزيد بيان في الباب الذي يلي هذا ، وهو باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
و قولا لله تعالى ( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً و لم يك من المشركين ) .
و قول الله تعالى ( و الذين هم بربهم لا يشركون ) .(3/21)
عن حصين بن عبد الرحمن قال : ( كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت : أن ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاةٍ و لكني لدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : و ما حدثكم؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الخُصيب أنه قال : لا رقية إلا من عينٍ أو حُمَةٍ .قال : قد احسن من انتهى إلى ما سمع ، و لكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : عرضت على الأمم فرأيت النبي و معه الرهط و النبي و معه الرجل و الرجلان و النبي و ليس معه أحد ، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم فظننت أنهم أُمتي فقيل لي : هذا موسى و قومه ، فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ ، فقيل لي : هذه أمتك و معهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب و لا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً ، و ذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه ، فقال هو الذين لا يسترقون و لا يكتوون ولا يتطيرون و على ربهم يتوكلون . فقام عكَّاشة بن مِحْصَن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : أنت منهم .ثم قال رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال : سبقك بها عُكَّاشة . أخرجاه في الصحيحين.
ـــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب يقول باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب و معنى حقق التوحيد يعني خلصه و نقاه ، و معنى تحقيق التوحيد ، معناه تصفية عقيدة الإنسان و توحيده ، و يتم ذلك بترك الشرك الأكبر و الشرك الأصغر ، و البدع ، والمعاصي، و هذا هو التحقيق الواجب، فإن تحقيق التوحيد على قسمين :
تحقيق واجب .
تحقيق مستحب.
التحقيق الواجب : هو أن يترك الإنسان الشرك بقسميه الأكبر و الأصغر و يترك البدع و يترك المعاصي و الكبائر.(3/22)
أما التحقيق المستحب : فهو أن يصفي الإنسان قلبه و يرتفع به عن التعلق بالمخلوقين أو المذلة لهم ، أو طلب شئ منهم و هذا معنى أعظم فمن حقق هذا التوحيد بعنني أنه لا يكون في قلبه إلا الله سبحانه و تعالى ، ف ليس عنده أولاً شرك و هو صرف للعبادة لغير الله ، و لا بدع و لا معاصي ، ثم أيضاً ارتفع عن التذلل للمخلوقين و سؤالهم و طلب شئ منهم ، فهذا حقق التوحيد بنوعيه الواجب و المستحب. وهذا يدخل الجنة بغير حساب و لا عذاب. فنعرف من هذا أنه ليس معنى تحقيق التوحيد ، انه مجرد ترك الشرك و ألا نعبد إلا الله ، أو لا يصرف العبادة إلا الله ، إنما المعنى أكبر من ذلك , لذا كان للتوحيد فضل ، و تكفير للذنوب و لكن تحقيقه أسمى , أكبر و أعظم .
يقول من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب و قول الله تعالى (إن إبراهيم كان أمة ) أمة يعني قدوة ، إمام يقتدى به، قانتا : يعني مداوماً على الطاعة ، فالقنوت هو طول العبادة. حنيفاً : الحنيف هو المائل ، يعني مائلاً عن الشرك مبتعداً عنه. و إنما ذكرت هذه الآية لبيان أن إبراهيم عليه السلام و قد أمرنا الله بالإقتداء به ، كما قال تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) و كما قال تعالى : (قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم ) و قد كان إبراهيم مداوماً للعبادة ، قدوة في ذلك ، و ليس عنه شرك بل كان مائلاً عن الشرك و هذا هو معنى تحقيق التوحيد.
و قول الله تعالى : (و الذين هم بربهم لا يشركون) و هذا ثناء على من لا يقع في الشرك ، فإن الآيات في سورة المؤمنين ذكرت في بيان فضائل منها :( أنهم بربهم لا يشركون).(3/23)
و في حديث حصين بن عبد الرحمن : حصين تابعي و سعيد بن جبير أيضاً تابعي ، حصين بن عبد الرحمن يقول كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأي الكوكب الذي انقض البارحة ( يعني سقط)؟ فقلت : ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ، إنما ذكر هذا ليبعد عن نفسه الرياء لأجل أن لا يظن أنه كان يصلي أو كان في عبادة ، ثم قال : و لكني لدغت : يعني لدغني شئ من ذوات السموم فقال له : فما صنعت ؟ قال : ارتقيت ، يعني طلبت من يرقيني و يقرأ عليَّ الرقية – سيأتي باب مستقل في الرقى و التمائم – قال : فما حملك على ذلك ؟ يعني ما دليلك ؟قال : حديث حدثناه الشعبي ، قال و ما حدثكم ؟ قال : حدثنا عن بريدة بن الحصيب – و هو صحابي - لا رقية إلا من عين – يعني الحسد - أو حمة : الحم هي إصابة ذوات السم ، يعني اللدغة إذا لدغ من ذات السم .فإنه يقول بريدة : لا رقية إلا منها معنى لا رقية لا رقية إلا منها يعنى أكثر ما تنفع الرقى في العين و في إصابات ذوات السموم في اللدغات ، أكثر ما تنفع الرقية و القراءة على المريض في هذين الأمرين هذا معنى قول بريدة. .
قال : و لكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (عرضت على الأمم) ابن حجر يقول إن هذا للعرض كال في حال المنام ، يعني رآها في منامه.(3/24)
( و لكن حدثني ابن عباس ‘ن النبي صلى الله عليه و سلم قال : عرضت على الأمم ، فرأيت النبي و معه الرهط و النبي و معه الرجل و الرجلان 000 إلى أن قال : و معهم سبعون ألفاً – هؤلاء السبعون ألف جاء في بعض الروايات مع كل ألفٍ سبعون ألفاً و في رواية أخرى مع كل واحدٍ سبعون ألفاً . و في قول الصحابة فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أو لعلهم الذين ولدوا في الإسلام يدل على أن الصحابة كانوا يعتقدون أنه لا تحصل فضيلة إلا بعمل ، فلا تحصل فضيلة هكذا من غير عمل بل لا بد من العمل حتى تحصل الفضائل ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن هذا الفضل للذين (لا يسترقون )– يغني لا يطلبون من الناس أن يقرءوا عليهم لأنهم من شدة توكلهم على الله تعالى لن تتعلق قلوبهم بغير الله ، فطلب الرقية من الناس ليس عندهم لا يقل لأحدٍ اقرأ علي أو أرقني، (لا يسترقون و لا يكتوون ): يعني لا يطلبون من أحدٍ أن يكويهم : يستعمل معهم الكي ،و الكي كما تعلمون نوع من أنواع العلاج ،( ولا يتطيرون )يعني لا يتشاءمون ، قد كانت الطيرة والتشاؤم منتشرة في الجاهلية ، سيأتي لها باب مستقل إن شاء الله .
يقول ( على ربهم يتوكلون ) ، فإنهم لما حققوا التوكل على الله تعالى تمام التحقيق حصل لهم أنهم لا يطلبون من الناس الرقية و لا يطلبوا منهم أن يكتووا ، أو أن يكووهم كما أنهم لا يتطيرون و لا يتشاءمون ، بل إذا رأوا ما يتشاءم به الناس توكلوا على الله و مضوا ، و سيأتي للتوكل و الرقية و الطيرة أبواب مستقلة. و كن المراد إن هؤلاء إنما حصل لهم ذلك من شدة تعلقهم بالله ، أما لو رقي رجلٌ رجلاً آخر فإنه لا يشمله هذا المعنى. فإن النبي صلى الله عليه و سلم رقته عائشة ، و رقاه جبريل عليه السلام و قرأ عليه ، فإذا قُرِئَ على إنسان من غير طلب فإنه لا يكون مخلاً لهذا الحديث.(3/25)
قال : (فقام عكاشة بن محصن الأسدي صحابي – قام فقال للنبي عليه الصلاة و السلام أدعو الله أن يجعلني منهم ، فقال أنت منهم) فقد صدقت دعوة النبي صلى الله عليه و سلم و حصلت فإنه بقي على إسلامه و قاتل المرتدين و قتل شهيداً ، قتله طلحة بن خويلد الأسدي . (فقام رجل آخر فقال: أدعو الله أن يجعلني منهم ، قال سبقك بها عكاشة. سداً للباب : قيل إنه كان منافق هذا الرجل و قيل سداً للباب لأن لا يقوم منافق فيطلب من النبي صلى الله عليه و سلم الدعاء له، هذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم .
و قلنا يدل على أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ، و تحقيق التوحيد معناً زائد على العضل الذي ذكر في الباب الذي قبله، فإن معنى تحقيق التوحيد هو : أن يكون عند الإنسان من زيادة التعلق بالله تعالى و عدم المذلة لغيره ،ما هو أبلغ من مجرد حصول التوحيد الذي هو عدم صرف العبادة لغير الله تعالى ، هذا المزيد تحقيق له . هذا مجمل الكلام على هذين البابين الذين ذكرهما المؤلف بيان فضل التوحيد و جزاء أصحابه. و نختتم بذلك درسنا و نصلى و نسلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه ومن والاه ، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله.
أما بعد : -
قال المؤلف رحمه الله
باب الخوف من الشرك
و قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ).
و قال الخليل عليه السلام : ( و اجنبني و بنيَّ أن تعبد الأصنام).
و في الحديث (أخوف ما أخاف عليكم الشرك ا لأصغر فسئل عنه ؟ قال: الرياء) .
و عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) رواه البخاري.(3/26)
و لمسلم عن جابر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( من لقي الله لا يشرك به شيئاُ دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)
ــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لبيان خطر الشرك ، و ذكر فيه أموراً توضح هذا ، قال باب الخوف من الشرك، الشرك عند أهل العلم : هو مساواة عير الله بالله فيما هو من خصائص الله . و بعضهم يقول : الشرك أن تجعل لله نداً في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه و صفاته. و المعنى قريب لكن المعنى الأول أوضح ، مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله. و الشرك يكون في الربوبية و يكون في الألوهية و يكون في الأسماء و لصفات. و قد سبق أن التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية و توحيد الإلهية و توحيد الأسماء والصفات . و الشرك كذلك يقع في هذه الثلاثة.(3/27)
فأما الربوبية : فيكون الشرك فيها بان يعتقد العبد أن غير الله يخلق أو يرزق ، أو يشفي المرضى ، أو يدبر الأمور فإذا اعتقد أن غير الله تعالى بفعل شيئاً من الأشياء المختصة بالله تعالى في ربوبيته ، فهو مشرك في الربوبية، و هذا الشرك في الربوبية لم يقع من المشركين في الزمن الأول ، و إنما اختص به المشركون في الزمن الأخير ، فيوجد في العصور المتأخرة من يعتقد أن بعض الأولياء و الموتى و أصحاب القبور يستطيعون أن يغيثوا الملهوف و ينجدوا المستنجد ، و يشفوا المرضى ، و يرزقوا من لا يلد الولد، و يرزقوا الفقير فيغنوه إلى غير ذلك من الإعتقادات ،و هذه كلها من خصائص الله ، و المشركون لم يكونوا يعتقدون هذا في أصنامهم ، ما كانوا يعتقدون أنه الأصنام و الأوثان التي يعبدونها ،ما كانوا يعتقدون أنها ترزق و لا تخلق و لا تنجد.و لذا قال الله تعالى وصفاً لحالهم : ( فإذا ركبوا في الفلك ) يعني في السفن في البحر ( دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) أي لما وصلوا إلى البر و اطمأنوا أشركوا مع الله غيره ،و لما كانوا في الفلك علموا أن لا ينجيهم إلا الله ، و النبي صلى الله عليه و سلم قال لحصين : يا حصين كم تعبد؟ قال : سبعة ، ستة في الأرض و واحد في السماء. قال:فمن تجعل لرغبك و رهبك ؟ إذا أردت شيء أو حقت من شيء من تدعوا؟ قال : الذي في السماء . قال : يا حصين أسلم ، فأسلم رضي الله تعالى عنه . فحتى المشركون كانوا يعلمون أنه لا ينجي و لا ينفع و لا يضر إلا الله ، لكنهم كانوا يصرفون شيء من العبادة لغير الله ، يطوفون أو ينذرون أو يذبحون لغير الله فقط ، أما في هذا الزمن فإذا قرأت تراجم الصوفية تجد أنهم يقولون : كان يحيي الموتى ، و كان يرزق المرأة التي لا تلد بالولد ، و إلى آخر هذه الخزعبلات التي لا يصدقها عقل ، و هي أقبح من شرك المشركين الأولين.(3/28)
و قد يكون الشرك في الألوهية بأن يصرف العبد شيئاً من أنواع العبادة لغير الله ، كما قد يكون الشرك في الأسماء و الصفات، و ذلك بأن يسمي غير الله بإسم هو من خصائص الله أو يصف غير الله بصفة من الصفات الخاصة بالله عز و جل.
و الشرك ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول هو الشرك الأكبر : و الشرك الأكبر يسميه بعض العلماء الشرك الظاهر ، بعضهم يسميه الشرك الجلي ، و المعنى واحد لكن المهم للطالب أن يعرف تنوع الأسماء للمسمى الواحد، فإذا قرأ في كتب أهل العلم لا يستغرب ، فالشرك الأكبر سماه ابن القيم الشرك الظاهر ، و يسميه بعضهم الشرك الجلي ، و تعريف هذا القسم و هو الشرك الأكبر : أنه ما جاء في النصوص تسميته شركاً و كان متضمناً لخروج الإنسان عن دينه . و كل ما جاء في النصوص أنه شرك و تضمن خروج الإنسان عن دينه فهو الشرك الأكبر. و مثال ذلك صرف العبادات لغير الله فمن نذر لغير الله أو سجد لغير الله أو طاف على شئ بقصد العبادة فهو واقع في الشرك الأكبر، و ربما لن يستطيع الطالب أن يحيط بمعناه و يدركه إدراكاً تاماً إلا بدراسة هذا الكتاب ، فإذا درس الكتاب كله وجد عنده تمييز للفرق بين النوعين .(3/29)
القسم الثاني هو الشرك الأصغر : قال بعض أهل العلم في تفسيره و شرحه و تعريفه : هو ما جاء في النصوص تسميته شركاً و لم يبلغ حد العبادة ، لم يبلغ أن يصل أن يصل إلى حد العبادة. مثل قول النبي عليه الصلاة و السلام : (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فإن في هذا الحديث تسمية من حلف بغير الله بأنه مشرك ، و الحلف بغير الله مجرد الحلف ليس عبادة ، فهذا يكون من باب الشرك الأصغر ،و قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره للشرك الأصغر قال : هو كل عمل قولي أو فعلي وسيلة إلى الشرك الأكبر . فكل عمل وسيلة إلى الشرك الأكبر فهو شرك أصغر، فمن وسائل الشرك الأكبر ماذا؟ الرياء من وسائل الشرك الأكبر ، تعظيم المقبورين و الغلو في الصالحين، فإن الغلو فيهم و تعظيمهم وسيلة إلى الشرك الأكبر. اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عرفت الشرك الأصغر بتعريف يجمع التعريفين السابقين فقالت في تعريفه : هو كل فعل نهى الله تعالى عنه و كان وسيلة إلى الشرك الأكبر و جاء في النصوص تسميته شركاً. فجمعوا بين أنهه سمي في النصوص بالشرك و بين أنه وسيلة و ذريعة إلى الشرك الأكبر ، هذا هو تعريف اللجنة الدائمة للإفتاء ، على كلٍ إذا درس الإنسان هذا الكتاب فسيتبين له العرق الدقيق بين النوعين.(3/30)
القسم الثالث و هو الشرك الخفي : يذكره بعض أهل العلم و هو الشرك الخفي فيجعلونه قسماً ثالثاً و يجعلون الشرك ثلاثة أقسام (1) شرك أكبر (2) شرك أصغر (3) شرك خفي. مع أن ابن القيم رحمه الله تعالى جعل الشرك الأصغر يسمى بالشرك الخفي ، فجعل الشرك الأصغر هو الخفي. و الحقيقة أن هذا القول تؤيده الأدلة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كما في الحديث الذي بين أيدينا قال : (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، فسئل عنه ؟ قال : الرياء )، فالرياء سماه ماذا ؟ شرك أصغر مع أنه ورد أيضاً في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه ) و هذا ما هو ؟ هذا الرياء . فيدل على أن الرياء شرك أصغر و شرك خفي و أن ا لمعنى واحد ، لكن الشرك سمي خفياً باعتبار أن الشرك الأكبر أظهر منه ، و سمي أصغراً باعتبار أن الشرك الذي هو صرف العبادة لغير الله أكبر منه. أم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، فيرى أن الشرك الخفي يحصل في الشرك الأكبر و الأصغر، و كلامه رائع جميل : فإن الشرك الأكبر منه ما هو خفي و منه ما هو ظاهر ، الشرك الأكبر قد يكون ظاهراً مثل صرف العبادة لغير الله مثل صرف الطواف و السجود لغير الله ، هذا ظاهر، و قد يكون الشرك الأكبر خفي مثل شرك المنافقين ، فالمنافقون مشركون ، لكن شركهم خفي .و قد يكون الشرك الأصغر طاراً مثل الخلف بغير الله فالحلف بغير الله شرك أصغر ظاهر، و قد يكون الشرك الأصغر خفي مثل ماذا ؟ مثل الرياء. هذا الكلام مجمل و إلا أن تفصيله يحتاج إلى تدقيق و وقفات ، فالرياء قد يكون شرك أكبر و حلف بغير الله قد يكون شرك أكبر و كلن هذا من حيث الجملة.
الشرك الأكبر له أنواع :
النوع الأول شرك الدعاء : ما معنى شرك الدعاء ؟ يعني صرف الدعاء لغير الله مثل من ندعو غير الله .(3/31)
النوع الثاني شرك القصد و الإرادة و النية : و ذلك بأن يقصد غير الله تعالى ؟؟؟؟؟؟ قلنا الشرك الأكبر له أنواع و ذكرنا منها شرك النية ، مع أنا قلنا أن الرياء يكون شرك أصغر و قد يكون شرك أكبر ، كيف ؟ يكون شرك أكبر إذا كان الرياء في أصل الإيمان ، إنسان ما أسلم و ما دخل في الإسلام إلا رياءً ، و قد يكون أيضاً شركاً أكبر إذا كان في جميع الأعمال الصالحة التي بفعلها الإنسان يفعلها وهو مرائي.هذا شرك أكبر ، و قد يكون أصغر إذا وقع في العمل المعين أو في بعض الأعمال فإذا وقع فيها الرياء كان هذا الرياء شرك أصغر
النوع الثالث شرك الطاعة : و قد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب باباً في هذا الكتاب ، فقال : باب من أطاع الأمراء و العلماء في معصية الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله و له تفصيل سيأتي.
النوع الرابع شرك المحبة : كما قال تعالى : (و من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله و الذين آمنوا أشد حباً لله.. الآية). فهذا يصرف المحبة لغير الله و كل هذا سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى . هذه الأنواع جمعها الناظم في بيتين من الشعر ، و قلنا أن الشر يسهل الحفظ ، يقول الناظم : و منه – يعني الشرك الأكبر ـ
و منه شرك دعوةٍ و قصدِ……كذاك طاعةٌ لظلمِ الْعبد
و مثله الإفراط في المحبة……فأربعٌ ترديك للمذمة
يعني أن هذه الأربعة هي أنواع الشرك الأكبر .
و ابن القيم سمى الشرك الأكبر بالشرك الظاهر و لذلك قال في نونيته :
……فالشٍّرك فاحْذره فشركٌ ظاهرً…ذا القسم ليس بقابل الغفران
……وهو اتخاذ الند للرحمن ايا كان…من حجر من إنسان
……يدعوه أو يرجوه ثم يخافه…و يحيه كمحبة الديان(3/32)
يقول المؤلف رحمه الله : باب الخوف من الشرك : و قوله تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ). هذه الآية تدل على أن المشرك لا يغفر الله تعالى له ، و شيخ الإسلام ابن تيميه اختار أن هذا الشرك يدخل فيه الشرك الأكبر و الأصغر ـ فصاحب الشرك الأكبر و الشرك الأصغر لا يغفر الله تعالى له شركه و يغفر ما دون الشرك.
أم ابن القيم فكما قدمنا في النونية يقول هذه الآية خاصة بالشرك الأكبر ، الذي هو صرف العبادة ـ كما أسلفنا ـ لغير الله ، أما الشرك الأصغر فعنده أنه من جملة الذنوب التي يغفرها الله تعالى أن شاء لعبده. و على كل حال فهذا يدلنا على خطر الشرك و يوجب الخوف منه و هو مراد المؤلف ، المؤلف أراد أن يبين لنا خطر الشرك لنخاف منه.
قال المؤلف : و قال الخليل من هو الخليل ؟ الخليل إبراهيم عليه السلام قال : ( و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام) . أجنبني : يعني أبعدني و حنبني و بنيَّ : يعني و ذريتي ، أن نعبد الأصنام.فإذا كان إبراهيم عليه السلام الذي كسر الأصنام و حطمها خاف على نفسه و ذريته من الأصنام و دعا الله تعالى أن يجنبه الأصنام فنحن مع ضعف إيماننا أحق بأن نخاف ليس من الشرك الأصغر بل حتى من الشرك الأكبر. و قوله تعالى: (و اجنبني و بنيَّ أن نعبد الأصنام) الأصنام : كل ما عبد من دون الله مما كان له صورة ، فإذا صور شخص إنساناً أو طيراً - جعله على صورة – و عبده من دون الله فهذا صنم. أما الوثن: فهذا ما عبد من دون الله و ليس على صور. و لذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لعدي بن حاتم الطائي لما رآه معلقاً صليباً – كان يعلق صليباً لأنه كان نصراني- قال : (ألق عنك هذا الوثن ) فسمى الصليب وثناً لأنه يعظم و يعبد من دون الله و ليس على صورة.(3/33)
قال : و في الحديث : هذا الحديث لم يخرجه المؤلف و هو حديث حسن أخرجه الإمام أحمد و الطبراني و غيرهما من حديث محمود بن لبيد وهو صحابي أدرك النبي صلى الله عليه و سلم وهو صغير ، هذا الحديث حديث حسن ، حسنه الحافظ بن حجر و قال الهيثمي عنه رجاله رجال الصحيح و صححه الألباني رحمه الله.
يقول : (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) و في هذا الحديث شاهد للباب ، و هو أن النبي عليه الصلاة و السلام خاف على أمته من الشرك الأصغر ولما سئل عن الشرك الأصغر ؟ قال: الرياء,
والرياء هو : أ، يفعل العبد عملاً يقصد منه أن يراه الناس و هذا هو الرياء. أما التسميع : فهو أن يعمل عملاً يقصد أن يسمع به الناس، فيسمى الأول رياءً و يسمى الثاني سمعة . نسأل الله تعالى أن يلطف بنا و يجنبنا الرياء و السمعة و أن يخلص أعمالنا لله. و الرياء خافه النبي صلى الله عليه و سلم على أمته لنه يفسد الأعمال و يحبطها. فقد قال اله عز و جل في الحديث القدسي : (أنا أغنى الشركان عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته و شركه) ، و الرياء سيأتي له باب مستقل في هذا الكتاب.
يقول : و عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( من مات و هو يدعو من دون لله نداً دخل النار ) هذا الحديث أخرجه البخاري و هو يدل على خطر الشرك ، فإن صاحبه متوعد بالنار..
يقول : و لمسلم عن جابر : أ، النبي صلى الله عليه و سلم قال : (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة من لقيه يشرك به شيئاً دخل ا لنار). طبعاً دخول النار في الحديثين إن كان دعاؤه الند و إشراكه بالله شرك أكبر فهذا دخول خلود ، و إن كان شركه شراً أصغر و دعاؤه الند من قبيل الشرك الأصغر فدخوله ليس دخول خلود إنما دخول تعذيب.
بقي علينا أن نعرف الفرق بين الشرك الأكبر و الأصغر:
الشرك الأكبر يوجب الخلود في النار ، بخلاف الأصغر.(3/34)
الشرك الأكبر يخرج الإنسان من الإسلام. فإذا رأيت هذا الرجل الذي يدعو غير الله نعلم أنه قد خرج من الإسلام. و سبق معنا في الدرس الأول الحالات التي يعذر فيها الإنسان بترك التوحيد ، وهي الجهل و ذكرنا شروطه ، و متى ينتفي ، تقوم عليه الحجة ، و ذكرنا أيضاً الإكراه ، فإن المكره معفياً عنه لآية سورة النحل و قد سبق هذا.
أن الشرك الأكبر فيه صرف عبادة لغير الله أما الشرك الأصغر فليس فيه صرف عبادة لغير الله
أن الشرك الأصغر أقل من الشرك الأكبر ، الشرك الأكبر أعظم من الأصغر.
هذا مجمل ما في الباب ، قد مر في الباب أربعة أمور تحذر و تخيف من الشرك ، وهو مراد المؤلف.
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
و قوله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة 00) الآية.
و عن ابن عباس رصي الله عنهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – و في رواية : إلى أن يوحدوا الله – فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم و ليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض لعيهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك و كرائم أموالهم ، و اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب ) أخرجاه.(3/35)
و لهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم خيبر : لأعطين الراية عداً رجلاً يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله ، يفتح الله على يديه ، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبحوا عدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه فأتي به ، فبصق في عينيه و دعا له ، فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال : أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، و أخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النعم).
ـــــــــــــــــــــــــــ
هذا ما ذكره المؤلف في هذا الباب ، و في هذا الباب ترتيبه مع الأبواب السابقة غية في الإتقان فإنه ذكر في الأبواب الأولى حكم التوحيد و أنه واجب ، و فضله ، و فضل من حقق التوحيد ثم ذكر بعد ذلك خطر الشرك و الخوف منه ، ثم بعد ذلك بين وجوب الدعوة إليه ، و هذا هو سبيل المؤمنين، كما قال تعالى في سورة العصر : )و العصر إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر.). فوصفهم الله تعالى ، جعل الله تعالى كل إنسان في خسارة ، كل إنسان خاسر ، إلا من آمن و عمل صالحاً و دعا غيره إلى الحق.(3/36)
…يقول المؤلف باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، يبين في هذا الباب حكم الدعوة إلى التوحيد، و حكم الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله و حكم ذلك أنه واجب ، فيجب على الإنسان أن يدعو إلى التوحيد ، و يحذر من الشرك ، و هذا هو أعظم مقصود في دعوة الأنبياء و الرسل ، فإنهم بعثوا لتحذير أممهم من الشرك و لأمرهم بتوحيد الله تعالى و الإخلاص له ، إلا في حالة واحدة تكون فيه الدعوة إلى التوحيد مندوبه غير واجبة يذكرها أهل العلم و هذه الحالة هي إذا ما غزا المسلمون الكفار و قد كان الكفار بلغتهم الدعوة ، الآن لو حصل قتال بين المسلمين و الكفار و كان الكفار قد بلغتهم الدعوة إلى الإسلام ، و غرفوا أن المسلون يريدون منهم الإسلام فهل يجب عليهم قبل القتال أن يدعوهم إلى التوحيد؟ لا يجب عليهم لكنه يستحب. و دليل ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم أغار على بين المصطلق وهم غارون (يعني و هم غافلون ) ، ما نبههم ، ما قال بهم أنا سأغزوكم ، أسلموا لماذا ؟ لأنه قد بلغتهم الدعوة إلى الإسلام ، قلا يجب على الإمام أن يدعوهم إلى التوحيد قبل غزوهم ، أما في غير هذه الحالة فيجب على المسلم أن يدعو إلى التوحيد.
يقول المؤلف رحمه الله : و قول الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني ) في هذه الكلمة قولان للمفسرين :
القول الأول : أنا أدعو إلى الله و أتباعي و من تبعني يدعو إلى الله ، و هذا يدل على أن الدعوة هي طريقة الأنبياء و طريقة من تبعهم.
القول الآخر : أن المعنى أنا ومن اتبعني على بصيرة فيكون المراد فيها البصيرة المذكورة فيل.(3/37)
ثم ذكر المؤلف بعد هذه الآية حديث ابن عباس و فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذاً إلى اليمن . و النبي عليه الصلاة و السلام بعث معاذاً و أبا موسى الأشعري ، فبعث معاذاً إلى صنعاء و ما حولها ، و بعث أبا موسى إلى حضرموت و ما حولها ، و اختلف في صفة إرسال معاذ ، قيل أرسله قاضياً و قيل والياً و قيل داعياً المهم من ذلك أن النبي عليه الصلاة و السلام لما أرسله قال له (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ) يعني ستأتي إلى قوم ليسوا من المشركين إنما من أهل الكتاب ، و أهل الكتاب هم اليهود و النصارى ، فإذا أتيت لهم فاستعد للمناظرة و الدعوة ، فإن عندهم كتاب يرون أنهم على أثارة من علم، و ليسوا مثل المشركين الذين لم يكن عندهم كتاب و حجة ، وهذا يبين أهمية استعداد الداعية قبل الدعوة إلى الله .
قال : (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) و هذا يدل على حكم مهم و هو مسألة من أعظم مسائل الخلاف في أمور الإعتقاد ، و خب مسألة أول واجب على المكلف ، فما هو أول واجب على المكلف ؟ أول واجب على الإنسان ما هو؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، أن يوحد الله هذا أول واجب على المكل ف ، و هذا واضح من هذا الحديث ، هذا هو قول أهل السنة و هو قول المصطفى عليه الصلاة و السلام ، و هو قول معاذ و صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أما عيرهم فيقولون أول واجب النظر ، ما معنى النظر؟ يعني التفكير و التأمل في الأدلة، و بعضهم يقول أول واجب الشك ، و بعضهم يقول أول واجب معرفة الإله ، و معرفة الإله إذا أريد بها التوحيد فلا شك أن هذا هو المقصود و لكنهم يقصدون شيئاً آخر.(3/38)
في هذا الحديث يقول: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله و في رواية : أن يوحدوا الله ) و هذا كاف في المقصود على أن أول واجب على البعد هو توحيد الله تعالى ، ثم بعد ذلك أمره بأن يبلغهم بالصلاة و الزكاة ، و لم يذكر في هذا الحديث صيام رمضان و لا الحج ، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم متى أرسل معاذ ؟ أرسله في آخر حياته بعد أن فرض الصيام و الحج ، فلماذا لم تذكر في هذا الحديث؟ يقول بعض أهل العلم أنها لم تذكر في الحديث لأنها اختصرها الراوي ، الراوي و هو يذكر الحديث اختصر و ذكر الصلاة و الزكاة و ترك الباقي ، و قال بعضهم: إنما ذكر هذه لأن هذه من إلتزمها فهو ملتزم لغيرها من باب أولى. و الصيام أهل من الصلاة التي تتكرر في اليوم خمس مرات ، و أسهل من بذل المال و الإنفاق فيه. على كل نعرف أن وجوب الصيام و الحج ثابت بلا ريب بأدلة كثيرة و هو من المعلوم من الدين بالضرورة ، و لكنها لم تذكر هنا إما إختصاراً أو كما قيل إن من إلتزم بهذه فهو مستعد أن يلتزم بغيرها ، أو لأنه لما أرسله قبل أن يحج النبي عليه الصلاة و السلام و لم يكن الوقت الذي جاء فيه وقت صيام و لا وقت حج ، و لا يلزمهم أن يعرفوا حكم الصيام الحج حتى يأتي وقته.
قال: (و إياك و كرائم أموالهم ) يعني : إذا أخذت الزكاة فلا تأخذها من أفضل المال إنما تأخذ من الأوسط.
ثم قال : ( و اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب) و هذا تحذير أن يتقي دعوة المظلوم فإن المظلوم يجيب الله تعالى دعاءه ، هذا الحديث متفق عليه.
و في الحديث الآخر و هو متفق عليه أيضاً ، من حديث سهل بن سعد و فيه وقفات جميلة.(3/39)
يقول : (أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله ) هذه فضيلة عظيمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه تحقق فيه هذا الأمر محبة اله و رسوله له و محبته هو لله و لرسوله، و فيه أيضاً دليل على أن الله تعالى من صفاته أنه يحب خلافاً لمن ينكر هذه الصفة من الجهمية و من تابعهم ، و الجهمية إسم يطلق على كل من ينكر الصفات أو يؤولها ، فيطلق الجهمية على الجهمية و المعتزلة و الأشاعرة و الماتريدية و غيرهم.
قال : (فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها )يعني : يخوضون و يفكرون أيهم يعطاها ، وفي هذا دليل على أن الصحابة كانوا يتنافسون في أعمال الخير . قال : (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم كلهم يرجوا أن يعطاها ) كل واحد منهم يتمنى يكون هو الذي يأخذ الراية (فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أين علي بن أبي طالب ؟ )في هذا سر عظيم ، وهو أن الذي لا يحرص على الأمر من الولايات و لو كان فيها أجر فهو مؤهل لها أكثر من غيره، و لذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : (إنا لا نولي أحداً سأل الولاية ) فالذي يقول : أنا استحق الولاية ، و أنا أهل و قادر فإنه لا يولى ، و ن ذلك مثلاً القضاء ، فإن من ذهب و قال أنا مستحق أن أكون قاضياً فإنه لا يولى ، كما ذكر ذلك الفقهاء ، و في هذا الحديث دليل على ذلك ، فتأمل كلهم كانوا يتمنون أن يعطوها فوقع اختيار النبي صلى الله عليه و سلم على علي الذي لم يكن حاضراً بل كان مريضاً لا يأمل أن يعطى هذه الراية ، و في بصاق النبي عليه الصلاة و السلام و هو البصق و إخراج الريق من الفم بصاق النبي صلى الله عليه و سلم على عين على بن أبي طالب آية من آيات نبوته لبركة النبي عليه الصلاة والسلام,(3/40)
قال : (أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم ) و هذا هو المراد أن النبي عليه الصلاة و السلام أمره بالدعوة و هو الشاهد في هذا الباب .
قال : (و أخبرهم بما يجب عليه من حق الله تعالى فيه ، و الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) حمر : يعني الإبل الحمر ، حمر جمع أحمر ، و النعم هي الإبل فحمر النعم هي الإبل الحمر و أنفس الإبل عند العرب ، فيقول : هذه الإبل الحمر الغالية الثمينة أن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير منها. و قي قوله (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ) دليل على أن الهداية من الله و إنما العبد يدعو و يرشد و يبين , أما الهادي فهو الله سبحانه و تعالى إذا كتب للعبد الهداية هداه و إذا لم يقدر الله تعالى له الهداية بقي على ضلالة. هذا أبرز ما في هذا الباب من فوائد، نسأل الله أن ينفعنا بما نقول و نسمع و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و سلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً .
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
باب تفسير التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله
و قول الله تعالى : (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) الآية
و قوله: (و إذ قال إبراهيم لأبيه و قومه إنني راءٌ مما تعبدون ، إلا الذي فطرني ) الآية.
و قوله : (اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله ) الآية .
وقوله : ( و من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ) الآية .
و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال (من قال لا إله إلا الله و كفر بما يعبد من دون الله حرم ماله و دمه و حسابه على الله عز و جل ).
ــــــــــــــــــــــــــــ(3/41)
بعد أن ذكر المؤلف حكم التوحيد و فضله و ما يكفر من الذنوب و الدعاء إليه و الدعوة إليه ذكر في مسائل الباب أن شرح هذا الباب هو ما يليه من أبواب كتاب التوحيد فكل ما بقي من أبواب كتاب التوحيد شرح و توضيح لمعنى التوحيد و ما ينافيه.
قال : (باب تفسير التوحيد) التفسير :هو الشرح و الكشف و الإيضاح. و التوحيد تقدم معناه في الدرس الأول معناه في اللغة و في اصطلاح أهل العلم . (وشهادة أن لا إله إلا الله ) تقدمت معناً أيضاً. ذكر المؤلف آيات و حديثاً واحداً.
الآية الأولى قوله تعالى : ( أولئك الذين يدعون) أولئك : إشارة للبعد. الذين يدعون : يعني يعبدونهم من دون الله. فهو يقول تعالى : إن الذين يعبدونهم من دون الله ، من يعبدهم المشركون من دون الله عن أنفسهم يتنافسون في طاعة الله و يبتغون القربى إلى الله ( أولئك الذين يدعون ) يعني أولئك الذين يعبدون ، (يبتغون إلى ربيهم الوسيلة ) يعني يبتغون الوسيلة إلى الله : يعني القرب له سبحانه و تعالى فإذا كان من تعبده من دون الله هو نفسه يتقرب إلى الله ، فأنت أولى أن تتقرب بنفسك إلى الله تعالى. هذا هو مراد الآية ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربيهم الوسيلة أيهم أقرب)
الآية الثانية: قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه و قومه إنني براء مما تعبدون ) يعني إنني برئ أي أبرأُ مما تعبدون من دون الله ، إلا الله سبحانه و تعالى فهو إلهي لأنه فطرني فكما أنه ربي فإني أوحده بالربوبية فكذلك أوحده بالألوهية ( الإلهية ).(3/42)
الآية الثالثة : قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله ) الأحبار : هم العلماء ، و الرهبان : هم العباد . عباد النصارى و علماؤهم اتخذوهم أرباباً من دون الله لماذا اتخذوهم أرباباً؟ لأنهم كانوا يحللون لهم الحرام و يحرمون علهم الحلال فيطيعونهم . و قلنا أن التدبير الشرعي نوع من أنواع توحيد الربوبية ، فمن صرف هذا التدبير لغير الله فقد أشرك ف ي الربوبية ، و هذا الذي وقع منهم فلما أطاعوهم في تحريم الحلال و تحليل الحرام اتخذوهم أرباباً من دون الله .
ثم ذكر الآية الأخيرة في هذا الباب و هي قوله تعالى : ( و من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ) و في هذا بيان حال المشركين إنهم يصرفون الحب ـ و هو عبادة لله ـ يصرفونها لغير الله أكثر من الله سبحانه و تعالى ، و في هذا بيان لحال أهل الشرك و هو توضيح لحال أهل التوحيد كما قيل و بضدها تتبين الأشياء.
ثم ذكر حديث يقول:و (في الصحيح) و المؤلف إذا قال كلمة في الصحيح فإنه يريد أحد ثلاثة أمور:
إما في الصحيح يعني : في صحيح البخاري .
أو في الصحيح يعني : في صحيح مسلم .
أو يقصد في الصحيح يعني : في الصحيحين .
أو أنه يقصد في الصحيح يعني : في الحديث الصحيح.
و في هذا الكتاب تجدونه أحياناً يقول في الصحيح و يكون في البخاري، و أحياناً يقولون في الصحيح و يكون في مسلم ، و أحياناً يكون في الصحيحين ، و ربما يقولون في الصحيح و لا يكون في البخاري و لا في مسلم و لكن يقصد أنه حديث صحيح.
هذا الحديث أخرجه مسلم ، وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم يقول (من قال لا إله إلا الله ) قلنا قول لا إله إلا الله يقتضي قولها باللسان لفظاً ، و قولها بالقلب اعتقاداً ، و قولها بالجوارح أفعالاً.(3/43)
فمعنى من قال لا إله إلا الله ، يعني تلفظ بها و اعتقدها في قلبه و عمل بمدلولها. و أضاف لقول لا إله إلا الله ركناً آخر و هو (و كفر بما يعبد من دون الله). فلا بد من أمرين :-
الأول : قول لا إله إلا الله و قلنا هذا يشمل قول اللسان و قول القلب و قول الجوارح.
و الثاني: أن يكفر بما يعبد من دون الله.
فالكفر بما يعبد من دون الله يكون أيضاً على ثلاثة أنواع كلها واجبة في الكفر بما يعبد من دون الله و هو الذي يسمى الكفر بالطاغوت ، كما قال تعالى : (فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) الكفر بما يعبد من دون الله بثلاثة أشياء :
الكفر بالقلب :يعني يبغض ما يعبد من دون الله ، بغض الكفر و أهل الكفر ، و هذا واجب على كل مكلف لا يسقط عن أحد.
الكفر باللسان: بأن يصرح بالعداوة لأهل الكفر و يصرح بتكفيرهم و يصرح ببغضه لهم ، يصرح بأنه لا يعبد هذه الآلهة و أنه يكفر من يعبدها ، و هذا واجب على كل مكلف لكنه يسقط بالإكراه.
البغض بالأفعال : فأنت تكفر بما يعبدون من دون الله بالأفعال و ذلك بأن تجاهد أهل الكفر وتحاربهم وهذا يتبع فيه المصلحة كما يذكره أهل العلم في كتاب الجهاد.
و المقصود من هذا الباب بيان تفسير التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله و تفسير التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله باءً على ما ذكره المؤلف من أدلة يعني إفراد الله تعالى بالعبادة و البراءة من كل ما يعبد سوى الله و هذا هو المقصود بهذا الباب و هذا الباب تمهيد لجميع أبواب الكتاب المقبلة.
باب من الشرك لبس الحلقة و الخيط و نحوهم
لرفع البلاء أو دفعه
و قول الله تعالى : ( قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هنَّ كاشفات ضره) الآية .(3/44)
و عن عمران بن حصين رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر ، فقال : ما هذه ؟ قال : من الواهنة ، فقال : أنزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً ، فإنك لو مت و هي عليك ما أفلحت أبداً ) رواه أحمد بسند لا بأس به ..
و له عن عقبة بن عامر مرفوعاً : ( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، و من تعلق ودعة فلا ودع الله له) و في رواية (من تعلق تميمة فقد أشرك ) .
و لإبن أبي حاتم عن حذيفة ( أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه ، و تلا قوله : ( و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) .
ـــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب يقول: (باب من الشرك لبس الحلقة و الخيط و نحوهما لرفع البلاء أو دفعه) تعبير المؤلف إذ قال : ( من الشرك ) يعني أن هذا الباب من أنواع الشرك ، قد يكون شركاً أكبر و قد يكون الشرك فيه شركاً أصغر. أما إذا قال : ( باب ما جاء في كذا ) فلا يدل على أنه من أنواع الشرك و إنما قد يكون من أنواع البدع المذمومة أو الغلو المذموم الموصل إلى الشرك.
يقول : (من الشرك لبس الحلقة و الخيط و نحوهما لرفع البلاء أو دفعه ) و الفرق بين الرفع و الدفع ، أن الرفع يكون بعد وقوع البلاء ، مثل إنسان أصابه مرض أو أصابته عين ، فلبس حلقة وضعها في بدنه ليرفع هذا المرض ، هذا اسمه رفع ، أما دفع البلاء فهو قبل الوقوع ، مثل ما لو إنسان وضع على نفسه حلقة أو خيط أو شئ من هذا القبيل لأجل ألا يقع فيه البلاء، يعلق على نفسه مثلاً ورقة أو يعلق على نفسه وتراً أو يعلق على نفسه شئ لأجل ألا يصيبه البلاء ، العين أو السحر أو المرض هذا هو الفرق بين رفع البلاء و دفعه.(3/45)
ذكر المؤلف آية واحدة في هذا الباب ، قوله تعالى : ( قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفا ضره ) يعني أنه لا يكشف الضر إلا الله فهؤلاء الذين تدعون مع الله وتشركون بهم مع الله لا يكشفون الضر عنكم ، بل إنما يكشف الضر سبحانه و تعالى وحده لا أحد سواه . و في هذا إشارة إلى أنه لا يدفع الضر إلا الله فلا ينبغي للإنسان أن يعلق قلبه إلا بالله تعالى.
ثم ذكر حديث عمران بن حصين ، و هذا الحديث فيه ضعف لأنه من رواية عزرة المعافري عن الحسن عن عمران بن الحصين و عزرة روايته عن الحسن مرسلة هذا أولاً، ثانياً أن الحسن اختلف أهل العلم هل لقي عمران بن حصين أو لا ؟ و الذي اختاره جمع من المحققين أنه لم يلق عمران و قد روي من حديث سعيد عن الحسن عن عمران ، و سعيد عن الحسن هذا متصل إن شاء الله ، لكنه يبقى فيه الإشكال في لقي الحسن لعمران فإن في لقائه إشكال ، و على كل فهذا المعنى الذي ذكره في حديث عمران يدل عليه حديث عقبة بن عامر الذي يذكره بعده.
حديث عمران يقول : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلاً في يده خلقة من صفر ) . حلقة: يعني حديدة محنية دائرية هذه هي الحلقة .
و الصفر : هو النحاس يعني حلقة أسورة مثلاً من النحاس و ضعها في يده.
و في رواية أخرى الذي كان يضعها هو عمران نفسه , أنها وضعها في عضده. فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن ينزعها ، وقال : ( فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً ) ، لأنك تكون قد وقعت في هذا العمل و هو من الشرك ، و هذا يدل على أن الشرك سواء كان أصغر أو أكبر فهو أكبر من الكبائر و أخطر منها.(3/46)
أما (الواهنة) الواردة في الحديث فهي نوع مرض يأخذ بالعضد يصيب اليد ، مرض يصيب اليد، مثل هذه الحديدة التي علقها هذا الصحابي ، مثلها ما يفعله بعض الناس من وضع حديدة تستورد و توضع في اليد لدفع مرض الرومتزم مثلاً ، هناك حدائد تباع في بعض الأماكن يقول من يبيعها إذا و ضعتها على يدك اليسرى أو اليمنى في موضع معين فإنك يزول عنك مرض الرومتزم ، مثلها أيضاً ما لو اعتقد الإنسان أن الدبلة ال تي يقدمها الرجل لإمرأته إذا تزوجها فإنها تسبب لهم السعادة الزوجية أو الرفاه بينهما و الراحة ، فهذا أيضاً من هذا القبيل ، أما لو كان يفعلها لغير هذا القصد فلا تكون من الشرك. ومثل ذلك أيضاً ما لو كان الإنسان يعلق على سيارته مثلاً شيئاً معيناً يعتقد أنه يدفع البلاء، مثل بعض الناس يعلق رأس حيوان على السيارة ، أو يضع عليها قربة قديمة أو خرقة بالية أو نحو ذلك يقصد من ذلك أنه لا يصيبها البلاء . هذه كلها أمثلة معاصرة لما فعله هذا الصحابي و أنكر عليه النبي عليه الصلاة و السلام.(3/47)
يقول : (و له ، عن عقبة بن عامر ) يعني لأحمد و هذا الحديث رواه أحمد و أبو داود و غيرهما و إسناده صحيح إن شاء الله .( و له ، عن عقبة بن عامر مرفوعاً : من تعلق تميمةً) التميمة معروفة : التمائم معروفة و سيأتي بيانها في مزيد إيضاح في الدرس الذي بعد هذا ، أو في الباب الذي بعد هذا. يقول : (من تعلق تميمةً) علقها على نفسه و تعلق قلبه بها قد تكون التميمة يضعها في فراشه أو يعلقها في سيارته مثلاً . يقول النبي صلى الله عليه و سلم : (من تعلق تميمة فلا أتم الله له و من تعلق ودعة فلا ودع الله له ) الودع : مثل الصدف يخرج من البحر و يعلقه بعض الناس من أجل دفع البلاء عن النفس هذا الودع الذي يشبه الصدف و يخرج من البحر. يقول النبي صلى الله عليه و سلم ( و من تعلق ودعة فلا ودع الله له ) ما معنى ( فلا ودع الله له ) ؟ يعني لا تركه في دعة و راحة .بل دعاء من النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون تعليقه للودع سببا لعدم الراحة عنده ، و سبباً لحصول كثير من البلاء له .
يقول : ( وفي رواية ) هذه الرواية أخرجها أحمد أيضاً في مسنده و إسنادها صحيح (من تعلق تميمة فقد أشرك) و هذا يدل على أن تعليق التمائم شرك ، سيأتي تفصيل نوع الشرك فيها.
يقول ( و لابن أبي حاتم ) هذا الحديث ضعيف، يقول ( و لابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً ف يده خيط من الحمى ) يعني في حمى أصابته و الحمى هي ارتفاع الحرارة فوضع في يده خيط(3/48)
أي ربط يده بخيط ، يعتقد أنه يدفع هذا المرض ، فقطعه حذيفة عنه، و تلا قوله تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون ) معنى هذه الآية : أن كثير من الناس لا يؤمن بالله إلا و هو مشرك ، فهو مؤمن بالله توحيد الربوبية و مع ذلك يشرك مع الله في الألوهية ، فهو في الربوبية يعتقد أن الله تعالى هو الخالق الرازق ، أما إذا جئنا في الألوهية فهو يصرف العبادة لغير الله سبحانه و تعالى . هذا الحديث قدمنا فيه ضعف، لكن حديث عقبة بن عامر الذي قبله يكفي في الدلالة على هذا الأمر ، لكن في هذا الحديث فائدة ، و هو أن حذيفة استعمل هذه الآية التي وردت أصلاً في الشرك الأكبر ، استعملها في ماذا ؟ في الشرك الأصغر ، و هنا بعض الناس ممن يخالف أهل السنة إذا ذكرنا فه الأدلة الواردة في الشرك ، قال هذه الآيات أنزلها الله تعالى في المشركين الشرك الأكبر ، في المشركين السابقين ، و لا يقصد الله تعالى بها الشرك في أمة محمد ، فنقول إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم استعملوا هذه النصوص في الشرك الواقع في الأمة كما فعل حذيفة و غيره.(3/49)
هذا الباب الفائدة منه أن تعليق الحلقات و الخيوط و نحوها من الأشياء التي ليست فيها قرآن – يعني غير التمائم – هذه الأشياء تعليقها لا يجوز ، و هل يكون شركاً أكبر أو أصغر ؟ نقول : لا يخلو من علق خيط أو حلقة ، أو وضع تعليقاً لحدوة حصان مثلاً أو صليباً أو لعلامة من العلامات يقصد بها رفع البلاء أو دفعه ، لا يخلو إما يعتقد أن هذا الشيء الذي علقه ، الخيط أو رأس الحيوان أو مثل بعض الناس يأخذ جلد ذئب أو عين ذئب أو ذيل ذئب أو رأس حيوان آخر ، هذا يقع في كثير من المجتمعات و يقع عند كثير ممن يزعم أنه يقرأ على الناس و هو مشعوذ ، بعض الناس يقول ذيل الذئب يطرد الجن و بعضهم يأخذ ناب للذئب و يضعها عنده يقول هذا يطرد الجن لأن الذئب يأكل الجن و الجن يخاف من الذئب، و مثل هذا الكلام نقول : من تعلق شيئاً من هذا فإنه لا يخلو :
إما أن يعتقد أن هذا الأمر الذي علقه ينفع و يضر بنفسه، يعتقد أن الناب أو العين أو الودع أو الخيط يضر بنفسه ، وهذا ما حكمه ؟ مشرك شرك أكبر ، في أي شئ ؟ في الربوبية ، مشرك شرك أكبر في الربوبية، و أيضاً لا يخلو من شرك أكبر في الألوهية لأنه إذا اعتقد هذا الإعتقاد فإنه سيعلق قلبه و رجاءه و توكله بهذا الشيء ، فيكون صارفاً للتوكل و الرجاء – توكل العبادة و رجاء العبادة – لغير الله فيكون قد أشرك في الربوبية و الألوهية .
(2)…أما لو اعتقد أن هذا الذي علقه لا ينفع و لا يضر بنفسه ـ و هو أظنه حال أكثر الناس ـ يقول إني أعرف أن هذا الناب و الودع و الخرز و غيره لا ينفع و لا يضر بنفسه بل الله تعالى هو النافع الضار ، و لكه هذه سبب للشفاء ، و سبب لرفع البلاء ، فهذا حكمه أنه مشرك شركاً أصغر ليس بأكبر ، لا يخرج من الإسلام ، و لكنه وقع في أمر هو أعظم من الكبائر ـ كبائر الذنوب_
و السبب في ذلك لتفهم هذا، يجب أن تفهم قاعدة الأسباب التي يذكرها أهل العلم :(3/50)
أن كل من أتخذ سبباً و هو ليس بسبب في الشرع و لا في القدر فقد أشرك شركاً أصغر.
من اعتقد أن غير الله ينفع و يضر فهذا مشرك شرك أكبر.
لكن من اعتقد أن شيئاً من الأشياء سبباً و هو ليس بسبب قدراً و لا شرعاً فهذا مشرك شرك أصغر ، فالأسباب التي الله تعالى لدفع الضر لا تدخل في هذا الباب ، فعندنا الآن إنسان اعتقد في شئ أنه سبب للعافية ، نقول : لا يخلو إما أن يكون هذا سبباً فعلاً في القدر أو في الشرع ، مثل ماذا ؟ إنسان يعتقد أن العسل فيه شفاء ،هل العسل سبب للشفاء ؟ نعم بدليل الشرع لأن الله تعالى قال فيه شفاء، لو أن أنساناً اعتقد أن حجامة فيها شفاء و قال أنا أحتجم لأن الحجامة سبب للشفاء ، هل فِعل هذا شرك؟ ليس بشرك لأن هذا سبب و ثبت أنه سبب بالشرع، لأن النبي صلى الله عليه و سلم إحتجم ، و كذلك الكي ، وال نبي عليه الصلاة و السلام كوى سعد بن معاذ فإذا إنسان استعمل الكي لأنه اعتقد أنه سبب للشفاء فهذا ليس من الشرك لأن الكي ثابت بالشرع أنه سبب و قد يثبت أنه سبب لا بشرع و لكن بالقدر يعني جرى القدر على أن هذا الأمر سبب للشفاء ، مثل ما لو إنسان أصابه صداع فاستعمل الدواء المسكن ـ حبوب الأدوية المسكنة المعروفة ـ ، أو كان في بطنه شيء فاستعمل دواء يسهل البطن هذه الأدوية تعرف في القدر، جرى القد بأنها سبب لتسكن الألم و سبب لإطلاق البطن ، و غير ذلك ، مثل الأدوية التي يستعملها الأطباء ، هذه الأدوية ثبت عندنا أنها سبب للشفاء ، لكن هل ثبت بطرق الشرع؟ ليس بطرق الشرع ، بطرق ماذا ؟ بطرق القدر فهذه من اعتقد أنها سبب لا يكون واقعاً في الشرك ، فإن اعتقد شيئاً أنه سبب و هو ليس بسبب في الشرع و لا في القدر فهذا هو الشرك الأصغر. و لكن بالنسبة للسبب القدري لا بد فيه من شرط : هو أن يكون أثره و علاقته ظاهرة . لآن بعض الناس يقول : يا أخي أنا إذا وضعت خيط أو صليب أو حدوة حصان و علقتها على صدري أو على بيتي الاحظ في نفسي(3/51)
إطمئنان و راحة و سكون و هدوء بال . و هذا أثر لماذا لا تقول إن هذا أثر من آثار القدر ؟ أثبت القدر أن هذا سبب للراحة ؟ نقول : أن هذا الأمر ليس بأمر ظاهر ، بخلاف الدواء الذي نعرف كيف يعمل ، و إنه يقاتل الجراثيم ، أو أنه يسكن موضع الإحساس بالألم ، فتأثير هذا السبب لا بد أن يكون طاهراَ. فمثلا بعض المشعوذين يجعل في بيته ذئب و يقول أن الذئب يأكل الجن و يقول هذا سبب في القدر ثبت عندنا أننا إذا أحضرنا الشخص المريض و رأي الذئب يخرج منه الجني ، هكذا يقول ، هذا الكلام الذي يقوله لا نقره عليه ، لماذا ؟ لأننا لا نرى الجن ، فلا نعرف هل فعلاً يأكل الذئب الجن أو لا ؟ فتعلقها بهذا تعلق بأمر غير ظاهر ، و التعلق بأمر غير ظاهر ينفي كون هذا الشيء سبب .
لا بد لأجل أن نعتبر هذا سبباً أن يكون أمراً ظاهراً يمكن إدراكه ، على كل نعرف من هذا أنه إذا اعتقد الإنسان أن شيئاً من الأشياء سبباً لحصول المقصود و لم يثبت أنه السبب لا في الشرع و لا في القدر ، فقد وقع في شرك أصغر ، أما إذا اعتقد أن هذا الشيء ينفع و يضر بنفسه فهو شرك أكبر في الربوبية ، هذا هو مجمل هذا الباب ، و إذا فهمت هذا ستفهم الباب الذي يليه بإذن الله.
يقول المؤلف رحمه الله :
باب ما جاء في الرقى و التمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه : (أنه كان مع رسول الله في بعض أسفاره ، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بغيرٍ قلادة من وفر ، أو قلادة إلا قطعت)
و عن ابن مسعود رضي الله عنه ،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (إن الرقى و التمائم و التولة شرك ) رواه أحمد و أبو داود .
و عن عبد الله بن عكيم مرفوعاً : ( من تعلق شيئاً وكل إليه ) رواه أحمد و الترمذي .(3/52)
(التمائم ) : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين ، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف ، و بعضهم لم يرخص فيه ، و يجعله من المنهي عنه ، منهم ابن مسعود رضي الله عنه .
(والرقى) : هي التي تسمى العزائم ، و خص منها الدليل ما خلا من الشرك ، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم من العين و الحمة .
(و التولة ) : هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها و الرجل إلى امرأته .
و روى أحمد عن رويفع ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( يا رويفع لعل الحياة تطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته ، أو تقلد و تراً ، أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمداً بريء منه )
عن سعيد بن جبير قال : ( من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة ) رواه وكيع و له عن إبراهيم ، قال : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن و عير القرآن .
ــــــــــــــــــــــــــــ
المؤلف يقول : (باب ما جاء في الرقى و التمائم ) و لم يقل : من الشرك مثل الباب الذي قبله .
الرقى : معروفة ، الرقية ، وهي القراءة على المريض ، إذا قرأ الإنسان على المريض ، و قد يقرأ على غير المريض لأجل أن لا يصيبه بلاء ، فقد كان النبي عليه الصلاة و السلام كل ليلة قبل أن ينام ، ينفث في يده و يمسح على بدنه .
و التمائم : هي التي تعلق على الأولاد يقول المؤلف : (شيء يعلقونه على الأولاد ) ، يعني أوراق يكتب فيها كتابات معينة و تعلق على الأولاد و غيرهم لأجل اتقاء العين أو رفع بلاء.(3/53)
ذكر فيه المؤلف حديث أبي بشير الأنصاري ، يقول : (في الصحيح ) هذا الحديث أخرجه البخاري و مسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم في تعض غزواته ، أرسل رسولاً ينادي في الناس : ألا تبقى في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت . الوتر جاء هو مفرد أوتار ، و هي التي تربط في القوس ليرمى بها السهم ، كان الوتر إذا صار بالياً و لم يعد ينفع في رمي السهام بالقوس يأخذونه و يعلقونه على البعير ، أو على الدواب لأجل ألا تصيبها العين ، فإنها – يقولون – إذا نظر الإنسان إلى هذا الوتر البالي ذهبت عينه فيه ، كما أن البعض إذا أراد أ، يشرب الماء أو يأكل من الطعام أخذ جزءً و ألقاه ، في بعض المجتمعات ـ ربما يكون في بعضها غير موجود ـ إذا فتح علبة للماء أو أخذ طعاماً جديداً ، يأخذ بعضاً منه و يصبه فيقول أن العين تذهب في هذا ، و بعضهم يأخذ الوتر أو الشيء القديم و يعلقه على سيارته ، أو على بيته ، لأجل إذا رأى الناس هذا الشيء القبيح تنصرف العين عنه ، فهذا اعتقاد منهم بأن الشيء سبب ، و قلنا إنه يحتاج إثبات السبب إلى أن يثبت إما بالشرع أو بالقدر ، و هذا لم يثبت بالشرع أنه يزيل العين ، بل إزالة العين تكون بالتعوذات النبوية و بالقراءة الشرعية ، و لذا فإن تعليق الأوتار و نحوها على الدواب و على البيوت و تعليق الإنسان ذلك على نفسه هذا من الشرك الأصغر متى ؟ إذا لم يعتقد أنها تنفع و تضر ، أما إذا اعتقد أنها تنفع و تضر فهذا شرك أكبر.(3/54)
ذكر بعده حديث عبد الله بن مسعود : ( إن الرقى و التمائم و التولة شرك) . هذا الحديث صحيح يقول فيه النبي عليه الصلاة و السلام : الرقى : يعني القراءة على المريض ، و التمائم : التى تعلق ، و التولة ، و شرحها المؤلف ، كلها شرك و هذا الحديث يخص منه ما سيأتي الكلام عنه في آخر الباب عند الكلام على أحكام هذا الباب، و لكن الحديث يدل على أن كل هذه الأشياء من أنواع الشرك ، ثم ذكر حديث عبد الله بن عكيم ، وهو حديث صحيح أيضاً (أن من تعلق شيئاً ) : يعني تعلق قلبه به ، أو علقه على رقبته ، ( وكل إليه ) فترك نفعه و ضره إليه ، و هو معلو أن النفع و ضر بيد الله تعالى . يقول المؤلف بعد ذلك ، ذكر تفصيلاً لأنواع التمائم مقتضى كلامه رحمه الله ، أن التمائم لا تخلو إما أن تكون من القرآن ، أو من غير القرآن ، فإن كانت من غير القرآن يعني إنسان يكتب أباطيل أو حروف يجمعه أو يكتب مثلثات أو مربعات ، و يجعل فيها أرقام و حروف ، أو نحو ذلك ، هذه الأشياء التي يكتبها إذا لم تكن من القرآن فحكمها ما قدمناه في الباب الذي قبله ، إن اعقد فيها النفع و الضر فهي ماذا ؟ شرك أكبر ، و إن اعتقد أنها سبب فهو شرك أصغر ، أما إذا كانت هذه التمائم مكتوب فيها آيات من القرآن ، إذا كتب فيها آيات من القرآن ، فهذه فيها خلاف بين السلف ، فذهب عبد الله بن عمرو بن العاص إلى أنها مباحة ، فإنه كان يعلق على أولاده إذا ناموا قول النبي صلى الله عليه و سلم ( أعوذ بعزة الله و قدرته ) لأحل أن يدفع عنهم السوء حال نومهم ، أما ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فكان يحرم تعليق التمائم سواءً من القرآن أو من غير القرآن ، و جمهور الفقهاء ذهبوا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص ، و يرون أن المعلق إذا كان من القرآن فهو مباح ، أما أئمة الدعوة الذين منهم السيخ محمد بن عبد الوهاب و تلامذته بعده _ وهو الذي عليه الفتوى الآن – يأخذون بقول إبن مسعود رضي الله تعالى عنه. و(3/55)
ذلك لثلاثة أمور:
الأمر الأول : أن حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عه عام ، إن التمائم شرك ، فكل التمائم شرك ، فتخصيص التمائم من القرآن من بينها يحتاج إلى دليل ، و إذا لم يوجد دليل فيبقى على عمومه .
الأمر الثاني : أن المنع من جميع التمائم يسد الباب على كل من أراد أن يلبس على الناس ، فيدخل عليهم التمائم التي فيها الشعوذة و الشرك في هذه التمائم بدعوى أنها من القرآن ، فيقولون نمنعها سداً لذريعة الشرك.
الأمر الثالث : أن تعليق القرآن يفضي إلى امتهان كتاب الله ، فإنه لا يؤمن أن تعلق على صبي و تصيبه النجاسة أو يدخل بها إلى الخلاء ، أو يستعملها في غير شيء طاهر و هذا امتهان لكتاب الله ، فحفظاً له يمنع من تعليق هذه التمائم. هذا هو حكم التمائم .
أما الرقى : فهي القراءة على المريض و تسمى عزيمة ، و العزائم . جمع عزيمة : عزائم ، هذه الرقية على المريض تحتاج إلى ثلاثة شروط إذا و جدت في هذه الرقية جازت و إلا تكره الرقية أو محرمة. فحديث ابن مسعود يقول ( إن الرقى التمائم و التولة شرك ) ، هذا الحديث عام و لكن خصصه الحديث الذي قدمناه عن بريدة بن الحصيب أنه قال : ( لا رقية إلا من عين أو حمة ) و هذا يدل على استعمال الرقية أحياناً ، فهذا يدل على أن في المسألة تفصيل ، و التفصيل أن الرقية إذا و جد فيها ثلاثة شروط فهي مباحة :
الشرط الأول : أن لا يكون فيها شرك أو مخالفة شرعية ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم فما في صحيح مسلم : ( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً ) ، فإذا كان في الرقية شرك أو مخالفة شرعية فإنها لا تجوز
الشرط الثاني : أن لا يعتقد الإنسان أنها تنفع و تضر بنفسها ، بل يعتقد أن النافع والضار هو الله تعالى ، و إنما هي سبب محض قد يحصل الشفاء و قد لا يحصل.(3/56)
الشرط الثالث : أن تكون بلسان عربي ، و بألفاظ معلومة سواءً كانت الرقية بما ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم أو بما جاء في كتاب الله بأن يقرأ الإنسان آيات أو يقول الأدعية التي وردت عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو :
(الهم رب الناس أذهب البأس ، أشف أنت الشافي ) و نحوها أو كانت بشيء لم يرد عن النبي صلى الله عليه و سلم ، مثل إذا قال الشخص : بسم الله الشافي ، بسم الله المعافي الله يشفيك ، الله يعافيك ، وقرأها على المريض ، هذه الألفاظ لم ترد عن النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن ما دامت معروفة المعنى و ليس فيها شرك فلا بأس بها.
هذه الثلاثة شروط إذا وجدت في الرقى كانت الرقية شرعية و إذا انتفى أحد هذه الشروط تكون الرقية غير جائزة ، لحديث ابن مسعود.
التولة : هي التي يسميها بعض الناس الصرف أو يسموها العطف أو يسمونها السخرة أو يسمونها يغير هذا الاسم ، التولة شيء تصنعه المرأة عند ساحر لأجل أن يحبها زوجها أكثر ، أو يصنعه الرجل ليحبب المرأة إليه ، و هذا ما دام عمل السحرة فإنه كفر كما قال تعالى : (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) و السحر كله كفر .
ثم ذكر المؤلف حديث الإمام أحمد ‘ن رويفع : ( قال يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته ) معنى عقد اللحية فيها أقوال عند أهل العلم :
قيل عقد اللحية معناه عقدها بمعنى أن تنتفش بعد عقدها فيفعل ذلك تكبراً على الناس.
قيل لأجل أن يجعدها بهذا العقد فيكون من فعل أهل التأنُّث(3/57)
و الأقرب أن المراد بعقد اللحية أن بعض الناس كانوا في الجاهلية إذا كانت لحيته جميلة يعقدا لأجل إذا رآها الناس لا يحسدونه على حسن لحيته، و هذا يقع عند بعض الناس ، أن يقبح ثيابه و يجعل ملابسه سيئة لأجل لا يصيبها العين ، يعض الناس إذا كان عنده ولد جميل و خشي عله من العين يلبسه ملابس سيئة أو يجعله غير مرتب الهيئة لأجل لا تصيبه العين . و هذا من هذا القبيل.
لكن حاء حديث ذكره ابن القيم في زاد المعاد أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، رأى طفلاً حسن الوجه فقال لأهله : ( دسموا نونته ) ، النونة : هي هذه التي تكون في اللحية النغزة ؟؟؟ التي تكون في اللحى – لحى الإنسان – قال : (دسموا نونته ) يعني اجعلوا فيها السواد لأجل أن من رآها لا يشعر أنها من الحسن و إنما يطن أنها أثر إصابة أو ضربة ، و لكن هذا الحديث يحتاج إلى نظر في ثبوته ، و على كل فالحديث الذي معنا يقول فيه النبي صلى الله عليه و سلم (من عقد لحيته فإن محمداً بريء منه ). قال : 0(من عقد لحيته أو تقلد وتراً ) : يعني علق الوتر نفسه و قلنا إن هذا إن علقه بقصد أنه ينفع و يضر فهذا من الشرك الأكبر و إلا فهو من الشرك الأصغر. قال : ( أو عقد لحيته أو استنجى برجيع دابة ) : رجيع الدابة هو روث الدابة قال : ( أو عظم فإن محمداً بريء منه ) لأن رجيع الدواب هو طعام بهائم الجن و العظام هي طعام الجن. و قول النبي عليه الصلاة والسلام (فإن محمداً بريء منه ) يدل على أن هذا الفعل من الكبائر .(3/58)
قال بعدة الأثر الذي قاله سعيد بن جبير و رواه وكيع : ( من قطع من إنسان تميمة كان كعدل رقبة) : يعني في الأجر ، و هذا سعيد بن جبير ليس صحابي إنما هو تابعي ، فقوله لا يكون حديثاً متصلاً صحيحاً بل هو مجرد مرسل إن كان له حكم الرفع ، و الصحيح أنه ليس له حكم الرفع ، فإن قول التابعي إذا قال ولم يكن من محل الإجتهاد فإنه لا يحمل على أنه سمعه غن النبي صلى الله عليه و سلم كالحال في الصحابي ، و إن كان هذا فيه خلاف ، و الذي ذكرته هو قول الجمهور خالفهم المالكية ، لكن على كل حال هذا القول من سعيد بن جبير يدل على فقهه لأن الإنسان إذا قطعت منه هذه التميمة فأنت حررته من الشرك و حررته من النار.
و روى وكيع أيضاً عن إبراهيم النخعي أنه قال : ( كانوا يكرهون ) من هم الذين كانوا يكرهون ؟ هم أصحاب عبد الله بن مسعود فكانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن و غير القرآن ، فأصحاب عبد الله بن مسعود كانوا يكرهون التمائم كلها ، أما عبد الله بن عمرو بن العاص فقد ورد عنه أنه استعمل التمائم من القرآن مطلقاً ، للأسباب التي ذكرناها نحتاج هنا أن نذكر مسألة مهمة ، قلنا أنه لا يجوز للإنسان أن يستعمل سبباً إلا إذا ثبت أنه سبب في الشرع أو ف ي القدر ، فهل هذه المسألة واضحة ؟ هذا الضابط واضح ، أنه لا بد أن يكون السبب سبباً فعلاً بالشرع أو بالقدر هذا واضح ، نقول إن الأسباب لا بد فيها من ثلاثة أمور :
الأمر الأول :أن يثبت كونها سبباً في الشرع أو في القدر ، و قدمنا الكلام عليه و هذه أهم مسألة ، و من فهمها فهم كثيراً من مسائل الإعتقاد.
الأمر الثاني : لا بد أن يعتقد أن السبب لا ينفع ولا يضر بنفسه إنما ينفع و يضر بإذن الله تعالى ، فالله تعالى هو النافع و حده و هذه أسباب محضة لوصول الإنسان إلى مقصوده…؟؟(3/59)
الأمر الثالث : أ، لا يستعملها وهو متوكل عليها بل يعتمد على الله تعالى ، بعض الناس يفعل الأسباب و هو يتوكل و يعتمد عليها اعتماد افتقار إليها ، فيرى أنه لو لم يستخدم هذا السبب فإنه ينقطع عن الوصول إلى مقصوده ، مثل البعض يعتقد أن الوظيفة التي هو يعمل فيها هذه هي سبب رزقه ، و لا شك أنها سبب للرزق لكن لو كان يعتمد عليها اعتماد افتقار ، ويرى أنه لو فصل منها فإنه لن يجد رزقاً فهذا محذور في باب الأسباب ، بل الواجب عليه أن يعتقد أنها طريق موصل ، و أن الله تعالى قيضها له ، فإذا منعت منه فإن الله تعالى سيقيض له رزقاً من باب آخر ، فكما كتب الله له هذا الباب يكتب له باباً آخر فهذه ثلاثة أمور : لا بد في السبب من أن يثبت أنه سبب ، هذا الأول ، الثاني لا بد أن يعتقد الإنسان أنه سبب محض و أن الله هو النافع و الضار. و الثالث أن لا يعتمد عليها الإنسان اعتماد افتقار ، بل يعتقد أنها مجرد سبب و الاعتماد كله يكون على الله سبحانه و تعالى .
هذه هي قاعدة الأسباب و هذه شروط الرقية و شروط تعليق التمائم عند من قال بجوازها ، و هو يجمل هذه الأبواب الثلاثة ، نكتفي بهذا القدر من شرح الكتاب و نصلي و نسلم على نبينا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين .
بسم الله و الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله و على آله و صحبه و من ولاه ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله.
أما بعد : -
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
باب من بشجرةٍ أو حجرٍ و نحوهما
و قوله تعالى : (أفرأيتم اللات و العزى ) الآيات .(3/60)
عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين و نحن حدثاء عهدٍ بكفر ، للمشركين سدرة يعكفون عندها و ينوطون بها أسلحتهم ، يقال بها ذات أنواط ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما بهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر إنها السنن قلتم و الذي نفسي كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، قال إنكم قوم تجهلون ) لتركبن سنن من كان قبلكم ) رواه الترمذي و صححه.
ــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب سماه المؤلف رحمه الله ، (باب من تبرك بشجرة أو حجر و نحوهما )
التبرك : طلب البركة
و البركة : في اللغة : هي كثرة الخير و ثبوته ، و من ذلك بركة الماء ، فإن بركة الماء تخالف الماء الجاري في أمرين : (1) كثرة الماء فيها . (2) ثبوته فيها. فالماء فيها كثير ثابت أما الماء الجاري في السواق ؟؟؟؟ فإنه قليل و ليس بثابت بل هو ماء جاري ، فالبركة ، طلب الخير و ثبوت الخير و كثرته ، و قد ذكر المؤلف في هذا الباب آية و حديثاً أما الآية فذكر قوله تعالى : ( أفرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى ) : (اللات) : رجل كان يلت لهم السويق يعجن السويق للحاج ، فلما مات صوروا صورة على قبره ليذكروه بها فلما مر الزمن عبدوا هذه الصورة ، و هي حجر نحت على شكله . و (العزى ) : كذلك صنم كان بين مكة والطائف . و( مناة) : مأخوذ من منى لكثرة ما يمنى ليه من الدماء لأنهم كانوا يذهبون إلى هذه الأصنام فيريقون عندها الدماء ، يذبحون عندها الذبائح ، المقصون أن هذه أسماء أصنام و أوثان كان المشركون يعبدونها و يصرفون العبادة لها و ذلك لتعطيهم البركة ، يطلبون البركة بصرف العبادة لها ، فلذلك أوردها المؤلف في هذا الباب.(3/61)
ثم أورد المؤلف رحمه الله حديث أبي واقد الليثي و فيه : أنه خرج مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى حنين ، و حنين : غزوة وقعت بعد فتح مكة ، و قد خرج فيها مع النبي صلى الله عليه و سلم من أسلم من أهل مكة و ما حولها بعد الفتح ، فإنه خرج صلى الله عليه و سلم فيها و معه اثنا عشر ألفاً من المسلمين ، منهم عشرة آلاف جاءوا معه من المدينة و ألفان ممن أسلم من أهل مكة ، ف لما خرج الصحابة معه ، مروا بسدرة ، و السدرة : سجرة النبق ، السدر معروف ، فلما مروا بهذه الشجرة تذكروا ما كانوا يفعلون ، فقد كان من عادات المشركين كما ذكر إبن إسحاق ، أنهم يذهبون الشجرة يختارونها ، فيعلقون عليها الأسلحة ، يعلقون السيوف و الأسلحة على شجرة من الأشجار، و يقولون إنها إذا علقت على هذه الشجرة تكون السيوف أقوى و أمضى ، تأتيها من بركة السدر ما يجعلها قوية ماضية تقطع بشدة و تنفع عند الجلاد، فقالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : (اجعل لنا ذات أنواط ) ما معنى ذات أنواط ؟ يعني شجرة ، ال شجرة هذه من السدر يعلق عليها السيوف يسمونها ذات أنواط. قالوا : (اجعل لنا سدرة ننوط ) يعني نعلق ، ينوطون يعني يعلقون، نعلق بها أسلحتنا حتى تكون أمضى و أقوى ، فهم طلبوا من النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها ففال النبي صلى الله عليه و سلم : ( الله أكبر) و هذا التكبير منه صلى الله عليه و سلم عند التعجب ، و هذا من السنة إذا تعجب الإنسان من شيء أو أكبر شيئاً أن يكبر ، ثم قال : (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) شبه الشرك الواقع في طلب التبرك بالشرك الحاصل لبني إسرائيل ثم قال صلى الله عليه و سلم هذه القاعدة : (لتركبن سنن من كان قبلكم ) السنن : هي الطريقة ، يعني لتتبعن طرقة من كان قبلكم ، معنى هذا إخبار من النبي صلى الله عليه و سلم بأن هذه الأمة ستقلد الأمم الماضية ، و سيكون عندها(3/62)
تشبه بالأمم السالفة ، هذا الحديث حديث صحيح ، و من مسائل التبرك نقول:
المسألة الأولى : قواعد التبرك :
القاعد الأولى : أن لا تثبت البركة في شيء إلا بدليل : ، لا يثبتها أحد في شيء إلا بدليل ، فإذا لم يد دليل على ثبوت البركة في شيء فإننا لا نعتقد فيه البركة . فإذا اعتقد الإنسان في شيء أن فيه بركة و ليس عليه دليل فقد خالف هذه القاعدة .
القاعدة الثانية : إن التماس البركة فيما ثبتت فيه البركة يكون بالطرق المشروع : التماس البركة فيما ثبتت فيه هذه البركة شرعاً لا بد أن يكون بالطرق المشروعة .
يعني معنى الأمر الأول أن لا نثبت أن هذا الأمر فيه بركة إلا بدليل ، مجرد كونه بركة لا نثبته إلا بدليل ، مثل ماذا ؟ هل نعتقد أن المسجد الحرام فه بركة ؟ المسجد الحرام فيه بركة ولا لا ؟ لا شك أن فيه بركة لآن الصلاة فيه بكم ؟ بمائة ألف صلاة ، فالخير فيه أثر و الخير فيه ثابت و هذا هو البركة لكن مع ذلك كيف نلتمس البركة ؟ نحن أثبتنا فيها البركة ، التماسنا للبركة في هذا الأمر لا بد أن يكون الطرق المشروعة ف تبركنا بالمسجد الحرام بالصلاة فيه، أما لو ذهب شخص يتمسح بجدران المسجد فقد طلب البركة و التمسها بطريق غير مشروع . فلا بد من أمرين (1) لا نثبت البركة إلا بدليل (2) ثم لا نلتمسها فيه هذا الذي أثبتنا فيه البركة إلا بطريق شرعي . هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية : أن التبرك ، طلب البركة ينقسم إلى :
(1) تبرك شركي (2) تبرك بدعي (3) تبرك شرعي .(3/63)
التبرك الشركي : هو صرف العبادة لغير الله طلباً للبركة ، كما يفعل المشركين في اللات و العزى و مناة فإنهم يصرفون لها العبادة طلباً للبركة. لو شخص ذبح ، ذهب إلى قبر رجل صالح و ذبح لهذا القبر لتأتيه البركة ، فهو صرف عبادة الذبح لغير الله طلباً لحصول البركة له ، هذا هو التبرك الشركي ، و هذا صرف عبادة لغير الله فيكون من الشرك الأكبر المناقض للتوحيد ، و مثل ذلك ما لو طاف إنسان على قبر و قصد ه من هذا الطواف أن تناله البركة فهنا صرف عبادة لغير الله لتحصيل البركة ، و هذا هو التبرك الشركي الذي يخرج الإنسان من الإسلام لأنه صرف عبادة لغير الله و العبادة لا تصرف إلا لله سبحانه و تعالى .(3/64)
التبرك البدعي : و هو تبرك مبتدع في الدين ، لكنه لا يخرج فاعله عن الإسلام ، وهو اعتقاد البركة فيما لم تثبت فيه بدليل أو أن نلتمس البركة بغير الطرق الشرعية مثل ماذا ؟ مثل من يستلم جدران الحرم ، أو يتمسح بمقام إبراهيم عليه السلام ، فهذا الذي يتمسح بها طلباً للبركة يمسحها و يضعها على بدنه لتعمه البركة ، هذا تلمس البركة بطريق غير شرعي فأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يفعل ذلك ، لا هو و لا أصحابه ، و معلوم أن كل عبادة لم بفعلها المصطفى عليه الصلاة و السلام ففعل الإنسان لها بدعة ، مثل ذلك أيضاً تقبيل المصحف طلباً للبركة فيه ، لو أن إنسان أخذ مصحف و قبله يطلب البركة ، هذا من التبرك المبتدع ، أما لو قبل المصحف تعظيماً للقرآن فهذا ليس من التبرك المذموم ، هذه مسألة خلافية ، أما تقبيله طلباً للبركة لأجل أن يأخذ البركة منه فهذا من التبرك المبتدع . و مثل ذلك الحجر الأسود ل, إنسان ذهب إلى الحجر الأسود و استلم الحجر الأسود بقصد التبرك بالحجر الأسود ، فهذا تبرك مبتدع ، طيب كيف نستلمه نخن ؟ نحن نستلمه عبادة لله ، لا نقصد أن تأتينا البركة من لمسنا للحجر ، إنما بقصد العبادة فقط ، لذلك بعض الناس إذا استلم الحجر الأسود يمسح على ماذا ؟ يمسح على بدنه ، يظن أن البركة تحل على بدنه نمسح الحجر الأسود و الحجر الأسود إنما نستلمه طاعة لله و تقرباً إلى الله ، عبادة نفعلها ، فالتبرك بمعنى حصول البركة بالمسجد و لمس الحجر هذا تبرك مبتدع.
التبرك الشرعي : وهو الذي تحققت فيه القاعدتان السالفتان : أن يثبت أن الشيء فيه بركة ، و أن نتلمسها بالطرق الشرعية.
والتبرك الشرعي يكون في أشياء : أنواع التبرك الشرعي الجائز المشروع:-(3/65)
الأول التبرك بالذات : و هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن من خصائص نبينا صلى الله عليه و سلم أن ذاته مباركة ، و أنه يجوز لنا تلمس البركة بأبعاضه عليه الصلاة و السلام، يعني نأخذ من ريق النبي صلى الله عليه و سلم ، و من شعره ، ومن دمه ، نأخذ منه صلى الله عليه و سلم و نتبرك به ، و هذا خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم ، فإنه بعد موته لم يفعل ذلك الصحابة في خير هذه الأمة بعد نبيها و هو أبو بكر الصديق ، فغيره أبعد عن ذلك ، هذا هو التبرك الأول و هو التبرك بالذات و لا يكون إلا للنبي صلى الله عليه و سلم ، هذا الأمر انتهى الآن لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد مات ، و آثاره انقطعت و فنيت ، و إلا لو وجدت لكنا نتبرك بها ، لكنها الآن قد انقطعت غير موجودة ، و كل ما يدعى من آثار النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضرب أوهام ، فإن إثبات ذلك غير ممكن ، و إذا لم يثبت إن هذا من لآثار المصطفى ، لم يجز لنا أن نتبرك به .
الثاني التبرك ببعض الأمكنة : مثل ماذا ؟ مثل المسجد الحرام ، فإن الصلاة فيه تضاعف مائة ألف صلاة ، و المسجد النبوي ، فإن الصلاة فيه تضاعف بألف صلاة ، و المسجد الأقصى، فإن الصلاة فيه مضاعفة ،و يشرع فيه شد الرحل، وكل مسجد كذلك فإن الصلاة فيه مضاعفة عن الصلاة في البيت بخمس و عشرين ضعف. هذا الأمكنة مباركة بالشرع.
الثالث التبرك ببعض الأزمنة : فإن الشرع جاء ببركة بعض الأزمنة ، فرمضان مثلاً تضاعف فيه العمرة ، فالعمرة فيه تعدل حجة ، و شرع فيه نية الصيام والقيام و تكفير الذنوب ، و من ذلك عشرة من ذي الحجة ، فإنها أيام مباركة العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى منها فيما سواه من الأيام.(3/66)
الرابع التبرك ببعض الأطعمة : من التبرك الشرعي التبرك ببعض الأطعمة فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا عن ماء زمزم ، و أنها مباركة و أنها طعام طعم و شفاء سقم ، و العسل كذلك فيه شفاء و هذا من بركة العسل ، و كذلك زيت الزيتون ، فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( كلوا من الزيتون و ادهنوا به فإنه من شجرة مباركة). و الله تعالى يقول : (شجرة مباركة زيتونة ) ، و مثل اللبن فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا شرب اللبن ، قال : ( في بيتنا بركة ).
الخامس التبرك ببعض الأفعال : من التبرك المشروع التبرك ببعض الأفعال، فإن في بعض الأفعال بركة ، مثل ماذا ؟ مثل طلب العلم ، طلب العلم فيه بركة لآن الإنسان يحصل به أجراً عظيماً بطلبه للعلم ، فطلب العلم أفضل من نوافل العبادات ، و مثل الجهاد فإن في الجهاد فضلاً عظيماً و بركة كبيرةً ، و مثل قيام الليل فإن فيه بركة ، و يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بقيام الله فإنه دأب الصالحين قبلكم و مطردة للداء عن الجسد ) .
السادس التبرك ببعض الهيئات : فإن الشرع اعتبر بعض الهيئات مباركة، مثل الاجتماع على الطعام فأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( اجتمعوا على طعامكم ، و اذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه ) ، و كذلك الأكل من جوانب الصجفة ، من جوانب الإناء و أن لا يأكل من أعلى أو وسل الإناء إنما يأكل من كرفه. فالنبي صلى الله عليه و سلم يقول : ( كلوا من جانب الصحفة فإن البركة تنزل في أعلاها ) .
هذه أمثلة لأنواع التبرك المشروع و فيها غنى بإذن الله تعالى عن غيرها من أنواع التبرك .
المهم في هذا الباب أن نعرف هذه القاعدة : (1) ألا نثبت البركة في شيء إلا بدليل أيضاً ، (2) و أن لا نلتمس هذه البركة إلا بدليل أيضاً .(3/67)
و في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه رضي الله عنه كما ذكر ابن سعد في الطبقات ،: كان بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بايع عندها النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه بيعة الرضوان ، فكان يلتمس الصلاة عندها ، فقام عمر رضي الله عنه فتوعد الناس و قطعها ، قطع هذه الشجرة و هذا لمنع التعلق بهذه الشجرة و طلب البركة منها ، و هذا لأنه لم يشرع عن النبي صلى الله عليه و سلم ، لم يرد عن المصطفى عليه الصلاة و السلام أنه التمس البركة بالصلاة عندها ).
باب ما جاء الذبح لغيرٍ الله
و قول الله تعالى :(قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له)
و قوله : فصل لربك و انحر)
وعن على رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه و سلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثاً ، لعن الله من غير منار الأرض ) رواه مسلم
و عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( دخل الجنة رجل في ذباب و دخل النار رجل في ذباب ، قالوا :كيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحج حتى يقرب له شيئاً ، فقالوا لأحدهما : قرب ، قال : ليس عندي شيء أقرب ، قالوا : قرب و لو ذباباً ، فقرب ذباباً فخلوا سبيله ، فدخل النار . و قالوا للآخر: قرب فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز و جل ، فضربوا عنقه فدخل الجنة ) رواه أحمد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله تعالى في بيان أن الذبح لله تعلى عبادة ، و صرفها لغير الله شرك ، و ذكر المؤلف فيها آيتين و حديثين الآية(3/68)
قوله تعالى : (قل إن صلاتي و نسكي ) ، النسك : يطلق على الذبيحة ، يعني ذبح . و يطلق أيضاً على العبادة ، عموماً فالتنسك هو التعبد. و معنى الآية :أن الصلاة و العبادة و الذبح و الحياة كلها لله و كذلك يموت على الإيمان بالله تعالى ، يحيى و يموت على الإيمان بالله ، هذا هو المعنى.
و في قوله (فصل لربك و انحر ) ، صلِّ : يعني أدعو ، أو صلي الصلاة المعروفة التي هي الأقوال و الأفعال المعقودة . و انحر : يعني و اذبح لله . و الأمر بها يدل على أنها عبادة ، فإن كل ما أمر الله تعالى به فهو عبادة ، لأنه يدل على أنه مرضي لله و محبوب له و العبادة أسم لكل ما يحبه الله تعالى.
و في حديث على رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه مسلم ، قال : ( حدثني رسول الله صلى الله عليه و سلم بأربع كلمات) الكلمة في اللغة تطلق على الجملة ، و كذلك يقول ابن مالك في الألفية: (وكلمة بها كلام قد يؤم)؟؟ يعني الكلمة تطلق لا يراد بها اللفظ المفرد ، إنما يراد بها الجملة الكاملة.
هذه الكلمات الأربع التي حدثه بها النبي صلى الله عليه و سلم :
الأولى : (لعن الله من ذبح لغير الله ) لأن الذبح لغير الله شرك أكبر ينافي التوحيد .
الثانية : ( لعن الله من لعن والديه ) ، سواءً لعنهما مباشرةً ، أو لعن والدي شخصاً آخر فهذا الشخص الآخر لعن والديه. كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قالوا : و كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، و يسب أمه فيسب أمه) .
الثالثة : (لعن الله من آوى محدثاً ) ، يعني تستر عليه و أخفاه عنده ، و أيده و نصره.
الرابعة :( لعن الله من غير منار الأرض ) منار الأرض : هي العلامان و تكون في موضعين:
الأولى : تكون علامة لحفظ أو لتبيين حد أرض رجل لرجل آخر، تكون لرجلين أرض و بينهما يحددان علامات حتى لا يدخل أحدهما إلى الآخر ، و لا يعتدي أحدهما على أملاك الآخر .(3/69)
الثاني :و تستعمل العلامات هذه أيضاً المنار لإيضاح الطرق للمسافرين ، و بيان مواضع المياه و مواضع الراحة و نحو ذلك ،
و هذا بيان الكبائر من الذنوب . لعن المصطفى عليه الصلاة و السلام من فعلها و اللعن هو الطرد و الإبعاد من رحمة الله . و ينقسم اللعن إلى قسمين : لعن تام و لعن ناقص .
اللعن تام : هو خاص بأهل الشرك و معناه إبعادهم عن رحمة الله مطلقاً فهم خالدون في النار، و هذه بالنسبة لهذا الحديث خاص بالجملة الأولى ، و هي لعن الله من ذبح لغير الله .
اللعن الناقص :و قد يكون اللعن ناقضاً ، بمعنى الطرد و الإبعاد عن رحمة الله حتى يعذب و يعاقب ، ثم تشمله الرحمة بعد ذلك ، و هذا يكون في كبائر الذنوب التي دون الشرك.(3/70)
ذكر بعد ذلك حديث طارق بن شهاب ، و المؤلف أما وهٍمَ أو نقل هذا الحديث على بعض أهل العلم خطاءً ، فإن هذا الحديث أخرجه أحمد في كتاب ا لزهد من حديث طارق بن شهاب ، عن سلمان رضي الله تعالى عنه، و لم يخرجه من حديث طارق مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و سلم . فليس هذا الحديث من قول النبي صلى الله عليه و سلم ، إنما هو من قول سلمان الصحابي موقوف عليه ،و الحديث الموقوف هو الذي من قول الصحابي لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث إسناده إن شاء الله صحيح ، لكنه موقوف على سلمان ، و ليس بمرفوع بل هو من قول سلمان من نفسه و ليس مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ،كما أنه من مسند سلمان و ليس من مسند طارق بن شهاب رضي الله عنه ، إنما رواه عن سلمان . حديث طارق بن شهاب الذي قلنا أن صوابه حديث سلمان يقول ( دخل الجنة رجل في ذباب و دخل النار رجل في ذباب ) و الذباب شيء يسير فاستغرب الصحابة من ذلك ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن سبب ذلك أن أحدهما قرب لغير الله ذباباً فلما قرب لغير الله ذباباً صار صارفاً العبادة لغير الله فصار مشركاً ، فدخل النار ، الآخر امتنع أ، يقرب شيئاً لغير الله تعالى ، و قال : القرابين لا تقدم إلا لله تعالى ، فلما قتلوه دخل الجنة لأنه موحد ، هذا معنى الحديث . و في الذبح لغير الله مسائل و فوائد:
المسألة الأولى : أن الذبح عموماً ينقسم إلى قسمين : (1) ذبح عادة (2) ذبح عبادة .
ذبح العادة : هو ذبح البهائم بقصد الانتفاع بلحمها ، أكلاً أو بيعاً أو نحو ذلك ، كما لو جاء أنساناً صيف أو أراد أن يأكل هو و أولاده أو نحو ذلك .
(2)…ذبح العبادة : يقصد به التقرب إلى الله تعالى بالذبح في الأضاحي و الهدي و نحو ذلك.(3/71)
المسألة الثانية مسألة فقهية : ثم الذبح إما أن يراد به التمتع و الانتفاع باللحم المذبوح ، اللحم من الحيوان المذبوح ، و هذه مسألة فقهية ، قد يكون مستحباً , قد يكون مكروهاً للإسراف ، و قد يكون مستحباً عند إكرام الضيف ، و قد يكون مباحاً ، وقد يقع الذبح لا يقصد به الانتفاع من اللحم إنما التقرب والتعظيم للمذبوح له بنفس الذبح و هذا هو العبادة التي لا تصرف إلا لله تعالى فإن الله تعالى تتقرب إليه بنفس الذبح و هي عبادة لا تصرف إلا لله و من صرفها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر، و الذبح ليكون فيه شرك أصغر أبداً بل هو شرك أكبر ، إما أن تذبح لله أو أن تذبح لغير الله و لا يرد فيه الشرك الأصغر لأنه عبادة ، و قلنا أن العبادة صرفها لغير الله شرك أكبر.
و من أمثلة الذبح لغير الله : ما يقع من بعض الناس يذبح إذا بنى بيتاً جديداً أو سكن في بيت جديد ، يذبح ذبيحة بقصد أن يتخلق من الجن ، يقول : إذا ذبحت ذبيحة للجن امتنعوا عن إيذائي و إضراري فهذا ذبح و قصده تعظيم الجن. و مثل من يذبح و يقدم الذبح قرباناً لبعض القبور ، و منه مثلا الذبح عند طلعة الولي ، أو الحاكم ، أو السلطان ، إذا مر هذا الشخص المعظم إما أن يكون حاكماً أو سلطاناً أو أميراً أو مثلاً ولياً أو رجلاً صالحاً إذا مر بقوم ذبحوا الذبائح عند مرورهم يقصدون بهذا أن يكرموه و يعظموه بنفس الذبح لأنه لن يأكل عندهم و هذا من الشرك الأكبر كما قرره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في واقعة تجدونها في فتواه رحمه الله هذا مجمل الكلام في الذبح.(3/72)
بقيت هنا مسألة ثالثة : في حديث طارق بن شهاب ، و هي أنن قدمنا سابقاً في الدرس الأول ، أ، الإكراه عذر لإظهار الشرك ، فلو أن إنساناً أكره و قيل له أما أن تسجد لغير الله أو نقتلك ، فإنه يجوز له أن يظهر الشرك ، يسجد لغير الله و قلبه مطمئن بالإيمان . ليدفع عن نفسه القتل ، سبق هذا معنا ، و مع ذلك فهنا في هذا الحديث ، أنهم قالوا : قرب و إلا قتلناك ، فلما قرب دخل النار و هذا دليل على أنه لم يعذر بالإكراه ، و الجواب عن ذلك عن هذا الإشكال ، أن العذر بالإكراه من خصائص ديننا ، أما الأمم السابقة ،فكان عندهم المكره لا يعذر ، يدل لذلك حادثة أصحاب الكهف ، فإن أصحاب الكهف قالوا : ( إنهم إن يطهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذاً أبدا ) إذا لماذا أصحاب الكهف ما ذهبوا إلى قومهم و قالوا نحن معكم بألسنتهم و أخفوا الأيمان في قلوبهم ، يها يجوز للمسلم عند الخوف ، لكن أصحاب الكهف ما فعلوا ذلك لأنه في شرعهم إذا أظهر الإنسان الكفر فإنه كافر و لا يعذر الإكراه ، و يشهد لهذا دليل الخطاب في قول النبي صلى الله عليه و سلم ، (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه ) فالله تجاوز عن من الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه ؟ عن الأمة هذي ، و هذا من جملة الإصر الذي رفعه الله تعالى عن هذه الأمة ، فمن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أنه وضع عنها الإصر و الأغلال. كما قال تعالى : (و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم ) فالأمم السابقة كانت عليهم أغلال من نحو هذا و من رحمة الله تعالى بهذه الأمة المحمدية الخاتمة لجميع الرسالات أنه تجاوز عن المكره فعذره و رفع عنه المؤاخذة .(3/73)
لكن الشاهد في هذا الحديث أن الذبح و التقرب لغير الله شرك ، و هذا مشترك في هذه الأمة و في الأمم السابقة ، فإن قضايا أصول العقيدة ليس فيها خلاف بين جميع رسالات الأنبياء ، لكن هذه الأمة اختصت بأنه يعذر المكره و الأمم السابقة لم يكن المكره معذوراً فيها و يشهد أيضا لهذا المعنى قول الله تعالى عن آدم : (و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) مع أن الله تعالى أخبر أن آدم عصى و هذا يدل على أن النسيان _ جنس النسيان – لم يكن مرفوعاً عن الأمم السابقة ، و يشهد لهذا أيضاً أن الله تعالى قال في آخر سورة البقرة ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال تعالى : (قد فعلت ) و هذا دليل على أن جنس الدعاء بمثل هذا الأمر سائر و وارد .
على كل المراد أن الذبح لغير الله شرك و من صرف الذبح لغير الله بقصد التقرب والتعظيم للمذبوح له فقد وقع في الشرك الأكبر .
و ذكر المؤلف باباً نختم به درسنا اليوم ، و هو قوله :-
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغيرٍ الله
و قوله تعالى : ( لا تقم فيه أبداً ) الآية .
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : ( نذر رجل أ، ينحر إبلاً ببوانه ، فسأل النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا: لا . قال : فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم ؟ قالوا : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم .رواه أبو داود ، و إسناده على شرطهما.
ــــــــــــــــــــــــــ
بعد أن ذكر المؤلف أنه لا يذبح لغير الله ، و أن الذبح لغير الله شرك أكبر ، أتبعه بهذا الباب فلا تذبح لله بمكان يذبح فيه غيرك لغير الله .
و ذكر قوله تعالى : (لا تقم فيه أبداً ) الآية .
فإن هذه الآية نزلت في مسجد الضرار ، فإن المنافقين بنوا مسجداً ليضاروا به المسلمين :
أولاً : يجتمع فيه المنافقون ، و يكون مرصداً للتخطيط لأعمالهم السيئة.(3/74)
ثانياً :ليضاروا به مسجد قباء ،فيقل المصلون في مسجد قباء لوجود هذا المسجد فأمر الله تعالى نبيه ألا يقوم فيه أبداً، وهكذا كل موضع جعل لمعصية ولمضارة فإنه لا يشرع للمسلم أن يقوم فيه بعبادة .
ثم ذكر بعد ذلك حديث ثابت بن الضحاك ، أن رجلاً أن سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال إنه نذر أن يذبح إبلاً في موضع يقال له بوانة ، و هذا الموضع فيل أنه قرب ينبع ،و قيل بأسفل مكة ، على كل حال نذرأن يذبح في ذلك المكان إبلاً ، فسأل النبي صلى الله عليه و سلم ، سأل النبي عن أمرين : قال (هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد ؟ ) لأن الأوثان كان المشركون يذبحون عندها لهذه الأوثان ،و هذا السؤال محل الشاهد من الحديث ، فإنه لو كان فيها وثن لما أذن له النبي صلى الله عليه و سلم أن يذبح قال : لا قال : (هل كان فيها عيدُ من أعيادهم ؟ ) قالوا : لا قال : (أوف بنذرك ) . فلو لم يكن هذان الشرطان موجودان لما أذن له النبي صلى الله عليه و سلم بالوفاء بنذره . هذا الحديث صحيح ، وقول المؤلف إسناده على شرطهما يعني إسناده على شرط البخاري و مسلم ، و معنى قول أهل العلم على شرط البخاري و مسلم يعني أن يكون الحديث مروياً عن طريق رجال الكتابين مع مراعاة الكيفية التي إلتزمها الشيخان في الرواية عنه ، الرجال الذين في إسناد الحديث هم نفس الرجال الذين يروي عنهم البخاري ، و الكيفية التي يروون بها هي نفس الكيفية التي يلتزمها الشيخان في كتابيهما الصحيحين. هنا مسائل :
المسألة الأولى : العيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل هذا الرجل هل كان في بوانة عيد من أعياد الجاهلية ، و العيد : إسم لما يتكرر من الاجتماع المعتاد فعيد الفطر لأنه يتكرر كل سنة على وجه العادة والأضحى عيد كذلك ، فهذه الأعياد تنقسم إلى قسمين :-
أعياد زمانية :
وأعياد مكانية :
أعياد زمانية تنقسم أيضاً إلى قسمين :
أعياد زمانية شرعية .
أعياد زمانية بدعية.(3/75)
الأعياد الزمانية الشرعية هي :
عيد الفطر.
عيد الأضحى.
الجمعة.
الأعياد الزمانية البدعية :
نحو الاجتماع لإقامة مولد للنبي صلى الله عليه و سلم ، فإنه لم يشرع ، و لم يكن من أعمال المصطفى عليه الصلاة و السلام.
و مثل إقامة احتفال متكرر لشيء معين كولادة ولي أو رجل صالح أو أسبوع لذكرى أحد العباد الصالحين أو نحو ذلك .
أما الأعياد المكانية : فهي المكان الذي يعتاد الاجتماع فيه وهو ينقسم أيضاً إلى :-
أعياد مكانية شرعية .
أعياد مكانية بدعية .
الأعياد المكانية الشرعية :هي عرفات ومزدلفة ومنى فإنها مكان يحصل فيه الاجتماع المتكرر المعتاد ، و قد جاء الشرع بها فلذلك صارت اجتماعات مكانية و أعياد مكانية شرعية .
أما الأعياد المكانية البدعية : فمثل ماذا ؟مثل اعتياد زيارة قبر النبي صلى الله عليه و سلم مثلاً كل أسبوع ، لو الإنسان جعل من عادته أن يزور القبر النبوي كل أسبوع ، هذا عيد مكاني بدعي لم يكن من هي الصحابة أنهم يزورون قبر النبي صلى لله عليه و سلم كل أسبوع ، لكن لو إنسان ذهب إلى مسجد قباء في كل أسبوع فها هذا عيد مكاني بدعي ؟ لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور و يصلي في قباء و يزور البقيع كذلك ، زيارة البقيع كانت متكررة منه صلى الله عليه و سلم .
والباب خلاصته أنه لا يجوز للإنسان أ، يتشبه بالمشركين ، فيتعبد الله بمكان يتعبدون فيه لغير الله،ولا يذبح لله بمكان يذبحون فيه لغير الله .لأن هذا يدعو إلى الشرك هذا أولا التزامه بدعة و يخشى أن يكون ذريعة إلى الشرك ، فإن من اعتاد مشابهة المشركين وقع فيما يقعون فيه.
هذا الباب الثالث و به نختم الكلام على هذه الأبواب الثلاثة و نكمل ما تبقى بإذن الله في الدروس القادمة و نصلي و نسلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .(3/76)
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و لسلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى :-
باب من الشرك النذر لغيرٍ الله
و قول الله تعالى : ( يوفون بالنذر )
و قوله تعالى : ( و ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه و ما للظالمين من أنصار ).
و في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من نذر أن يطيع الله فليطعه و من نذر أن يعص الله فلا يعصه ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب أورده المؤلف رحمه الله تعالى في سياق أبوابه في بيان جملة من أنواع الشرك .
قال : (من الشرك النذر لغير الله ) معناه أن من أنواع الشرك الأكبر النذر لغير الله
و النذر : في اللغة الإلزام ، و قد جاء الشرع بجعل النذر بمعنى : إلزام المكلف نفسه طاعة غير واجبة تعظيماً للمنذور له ، فيلتزم المكلف بطاعة معينة تعظيماً للمنذور له .
و هذا النذر لله عبادة ، و يدل لذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب فإنه أورد الآية : وهي قوله تعالى :( يوفون بالنذر )وهذه الآية جاءت في سياق مدح والثناء على من يوف بالنذر و إذا أثنى الله تعالى على من يوف بالنذر دل ذلك على أنه محبوب له، وكل شيء محبوب لله فهو عبادة.
و كذلك الآية الأخرى و هي فوله تعالى ( و ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه و ما للظالمين من أنصار ) فإن قوله ( فإن الله يعلمه ) يعني فيجازيكم يه ، فإذا كان الله تعالى قرن النذر الإنفاق ، و بين أن الله تعالى يجازي العبد على نذره دل على أن النذر عبادة ، و إذا كان عبادة فإنها لا تصرف إلا لله تعالى ، لأنه لا معبود سواه ، و صرفها لغير الله شرك أكبر ، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها ، قال و في الصحيح و سبق بعنا أن المؤلف رحمه الله إذا قال في الصحيح فهو يقصد أحذ ثلاثة أمور :-(3/77)
إما أن البخاري أخرجه في صحيحه.
أو إما أن مسلماُ أخرجه في صحيحه .
أو أنه من الأحاديث الصحيحة ، إذا قال في الصحيح يعني في الحديث الصحيح، فلا يلزم من كلمة في الصحيح عند المؤلف أن يكون قد أخرجه البخاري الو مسلم . أما غالب المصنفين فإنهم إذا قالوا في الصحيح فهم يقصدون البخاري و مسلم .أما المؤلف هنا فإنه قد يذكر هذه الكلمة و يعني بها الحديث الصحيح.
هذا الحديث أخرجه البخاري فقوله في الصحيح يعني في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، و من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) . و أمره صلى الله عليه و سلم بالطاعة للمنذور ة ، بأداء الطاعة المنذورة دليل على أن هذا النذر عبادة يجازى فاعلها ، و هذا يكفي في إثبات كونها عبادة ، و إذا ثبت أن النذر عبادة ، فإنها لا تصرف إلا لله تعالى ، و صرفها لغير الله شرك أكبر ، و طريقة صرفها لغير الله أن يقول مثلاً شخص إن شفي مريضي فللقبر الفلاني شاة أذبحها عنده ، أو إن شفي مريضي فللولي الفلاني زيت ، أو يقول إن شفي أو إن نحج ابني أو إن نجحت أو نحو ذلك ، فالوثن الذي يعظم بالشيء الفلاني ، هذا النذر لهؤلاء صرف النذر لغير الله فيكون شركاً أكبر محرجاً من الإسلام ، و هذا ما كان عله حال الشركين في الزمن الأول فإنهم ينذرون لأصحاب القبور ، وفي هذا الزمن يوجد النذر لغير الله في كثير من المجتمعات المشركة ، فيوجد من ينذر لأصحاب القبور كالبدوي في مصر مثلاً ، و ابن عربي في سوريا في بلاد الشام ، أو علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العراق ، أو غيرها من القبور التي تعظم عند أهل الجهل والشرك ، ويصرف النذر لها ، وصرف النذر لها شرك أكر مخرجاً من الإسلام .(3/78)
هذا هو مجمل ما في ا لباب ، بيان أن النذر عبادة و صرفها لغير الله شرك أكبر مخرج من الإسلام ، و ليس في صرف النذر شرك أصغر ، بل كله شرك أكبر لأن صرف عبادة لغير الله شرك أكبر فقط و لا يكون فيه أصغر.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى :
باب من الشرك الإستعاذة بغيرٍ الله
و قوله تعالى : ( و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ).
عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك ) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
يقول المؤلف ( باب من الشرك الإستعاذة بغير الله )
الإستعاذة : معناه طلب الإعاذة ، فإن الألف و السين والتاء تدل على الطلب فإذا دخلت على الكلمة دلت على الطلب ، استعاذة يعني طلب الإعاذة الإستغاثة يعني طلب الإغاثة ، و هكذا الإستفهام طلب الإفهام ، الألف و السين والتاء تدل على الطلب .
يقول المؤلف ( باب من الشرك الإستعاذة بغير الله ) يعني طلب الإعاذة ، و الإعاذة معناها الحماية من المكروه ، فمعنى الإستعاذة : طلب الحماية من المكروه ، فإذا استعذت بشيء ، طلبت من شيء أن يحميك من مكروه ، قد استعذت به ، و هذه الإستعاذه فيها تفصيل سنذكره بعد تلاوتنا للباب.(3/79)
ذكر المؤلف آية و حديثاً فذكر قوله تعالى ( و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً ) هذه الآية من جملة ما ذكر في سورة الجن عن الأعمال التي كانت تقع من الإنس و الجن ، قال : ( و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ) يعني يطلبون من الجن أن يحموهم من المكروه ، و قد كان من عادة الناس في الجاهلية إذا نزلوا الأودية و خافوا من تسلط الجن عليهم قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . فهم يخاطبون الجن مع كون الجن لم يخاطبوهم أصلاً ، و يطلبون منهم أن يحموهم من المكروه ، يقولون نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يعني يعوذون بسيد و زعيم الجن من سفهاء أتباعه الذين يخيفون الإنس, قال تعالى ( فزادوهم رهقا ). قيل معنى زادوهم رقها : زاد الإنس الجن رهقا، فيكون الواو ضمير عائد على الإنس و الهاء ضمير عائد على الجن، يغني زاد الإنس الجن رهقاً فلما استعاذ الإنس بالجن تكبر الجن و استعظموا لأنهم رأوا الإنس يعوذون بهم . و قال بعض السلف : بل المعنى زاد الجن الإنس رهقاً فيكون الواو ضمير عائد على الجن , الهاء ضمير عائد على الإنس ، و يكون المعنى أن الدن لما رأوا الإنس يخافون منهم و يعوذون بهم زادوا في إيذائهم و التسلط عليهم ، و أكثر المفسرين على المعنى الأول ، على كل هذه الآية بيان لما كان عليه المشركون أنهم كانوا يعوذون الجن و مع ذلك هذه الإستعاذة مضرة لهم غير نافعة.
ثم ذكر المؤلف حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها ، و فيه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يترك منزله ذلك .)(3/80)
(أعوذ) : يعني التجئ و أحتمي و اعتصم . .( كلمات الله التامات) : يعني الكاملات ،( من شر ما خلق ) إذا قالها الإنسان لم يضره شيء حتى يرحل من ذلك المنزل ، و سواء كان نزوله نزولا دائما كمن يسكن في بيت مثلا ، أو كان النزول مؤقتا طارئاً ، كمن يركب طائرة مثلاً هذا نزول طارئ مؤقت لأن حديث النبي صلى الله عليه و سلم عام . (من نزل منزلاً ) من أداة شرط ، منزلاً نكرة ، و النكرة في سياق الشرط تفيد العموم ، فيدل على أن من نزل أي منزل فقال هذا الدعاء فإنه لا يضره شيء. و قد ذكر القرطبي رحمه الله تعالى ، أن هذا الحديث مع كونه صحيحاً فإنه مجرب قال : فإني منذ سمعته ما تركت هذا الذكر في كل منزل أنزله ، حتى لدغتني في ليلة من الليالي عقرب ، فتفكرت في حالي فإذا أنا قد نسيت هذا الدعاء ، و هذا من بركات هذا الدعاء النبوي الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
مضمون هذا الباب أن الإستعاذة و هي طلب الحماية من المكروه ، لها أقسام :
القسم الأول الإستعاذة بالله تعالى : و هي عبادة من العبادات التي يؤجر فاعلها و يثاب عليها ، و قد أمر الله تعالى نبيه بها ، قال تعالى : (قل أعوذ برب الفلق) . و قال :( قل أعوذ برب الناس ) ، فقد أمره أن يستعيذ بالله تعالى والذي هو رب الناس و رب الفلق .(3/81)
النوع الثاني الإستعاذة بصفة من صفات الله تعالى : أن يطلب الإنسان من صفة من صفات الله تعالى أن تحميه يقول : ( أعوذ بكلمات الله التامات ) فلا يدعو الصفة لأن دعاء الصفة شرك إنما يستعيذ بهذه الصفة ، يقول : ( أعوذ بكلمات الله التامات ) كما جاء في هذا الحديث و نحو : (أعوذ بعزة الله و قدرته من شر ما أجد و أحاذر ) و مثل ( أعوذ بنور وجهك ) هذه كلها نصوص جاءت في الإستعاذة بصفة من صفات الله تعالى ، فالإستعاذة بالصفة لا مانع منها ، و من صفات الله تعالى الكلام و الكلام صفة من صفات الله فيجوز للمسلم أن يستعيذ بها و نص هذا الحديث الذي بين أيدينا.(3/82)
القسم الثالث الإستعاذة بالحي الحاضر القادر : هذه ثلاثة شروط ، الإستعاذة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه ، يكون حي و حاضر ، و يقدر على الإعاذة فإذا اجتمعت هذه الشروط ، فإنه يجوز للمسلم أن يستعيذ بالحي ، ألحي أن لا يكون ميتاً ، الحاضر أن لا يكون غائباً ، إذا كان الإنسان غير موجود ، و ذهبت تناديه تقول : أعذني يا فلان ، و فلان هذا في مكة و أنت في جدة ، ليس حاضراً عندك ، و لا يسمع صوتك ، هذا ما دام ليس بحاضر عندك فلا تستعيذ به ، كذلك القادر ، لا بد أن يكون قادراً مثل إنسان يستعيذ بطفل من أسد هجم عليه ، أو سبع فيستعيذ بطفل عنده ، الطفل هذا لا يقدر أن يحمي نفسه حتى يعيذ غيره ، أو يكون إنساناً يغرق فيستعيذ بشخص معاق ، لا يستطيع السباحة ، هذا غير قادر لا يستعاذ به ، إنما يستعاذ بالحي الحاضر القادر ، جائزة لا مانع منها ، و قد يستعيذ الإنسان بمكان يعيذه ، و لا مانع منه أيضاً ، مثل من خشي السيل من المطر فذهب إلى مكان مرتفع ، و قد جاء في الحديث ( يعوذ عائذ بالحرم )، يعني يحتمي رجل الحرم ، و جاء في حديث الفتن في آخر الزمن (من استشرف لها استشرفت له ، و من وجد معاذاً فليعذ به ) يعني من وجد حماية عن الفتن فليحتمي عنها ، و جاء في حديث المخزومية التي سرقت و ذهبت إلى أم سلمة فاستعاذت بها ، ذهبت ألى أم سلمة و قالت أعوذ بك من قطع يدي.(3/83)
القسم الرابع الإستعاذة الأموات : أو بالأحياء غير القادرين أو غير الحاضرين ، و هذه شرك أكبر مخرج من الإسلام ، لأنها صرف للعبادة لغير الله تعالى ، فإذا استعاذ إنسان بميت ، صاحب قبر ، قال : أعوذ بك من فلان الظالم ، بهذه الكلمة يخرج من الإسلام ، لأنه صرف العبادة لغير الله ، أو استعاذ بحي غير حاضر و غير قادر ، مثل إنسان يقيم في هذه البلاد فقال : أعوذ بالولي الفلاني الساكن في الرياض أو في مكة أو في المدينة ، هذا الشخص لا يسمعه ، و ليس حاضراً عنده ، هذا أيضاً من الشرك الأكبر المخرج من الإسلام ، لأن الإستعاذة عبادة أمر الله تعالى بها ، و أمر بها النبي صلى الله عليه و سلم ، و دل عليها فضلها في مثل قول الله تعالى : ( قل أعوذ ) فالله أمر بها ، و إذا أمر بها فهو عبادة و العبادة لا تصرف إلا لله ، قلنا إلا الإستعاذة بالحي القادر الحاضر ، فهذه وردت من مثل استعاذة المخزومية بأم سلمة فتجوز و يبقى ما عداها لا يصرف إلا لله تعالى . هذا مجمل الكلام على هذا الباب من أبواب كتاب التوحيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
باب من الشرك أن يستغيث بغيرٍ الله أو يدعو غيره
و قول الله تعالى : ( و لا تدع من دون الله ما ينفعك و لا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين ، و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) الآية .
و قوله : ( فابتغوا عند الله الرزق و اعبدوه ) الآية .
و قوله: (و من أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة )الآيتان.
و قوله : (أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء ).
و روى الطبراني بإسناده : ( أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه و سلم مناف يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنه لا يستغاث بي ، و إنما يستغاث بالله ).
ــــــــــــــــــــــــــــ(3/84)
يقول المؤلف رحمه الله تعالى : (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره),
الإستغاثة : هي طلب الغوث قلنا إن الألف و السين و التاء تدل على الطلب ، فالإستغاثة طلب الغوث : وهو الإنجاء من الشدة و الهلاك ، فمعنى طلب الغوث ، معنى الإستغاثة ، طلب الإنجاء من الشدة و الهلاك. ذكر المؤلف أيضاً (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره) .
الدعاء : هو الطلب و النداء ، و الدعاء أنواع و من أنواعه الإستغاثة ، فإنك تدعو الله تعالى في حال الشدة و في حال الرخاء ، فإذا دعوته في حال الشدة تطلب أن ينجدك و ينجيك من الهلاك كان استغاثة ، و إذا كان في غير هذا فهو دعاء ، فالإستغاثة جزء من الدعاء و لذا فتبويب المؤلف هنا عطف العام على الخاص العام هو الدعاء والخاص هو الإستغاثة .
و معنى الباب : باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره) ذكر المؤلف آيات الآية الأولى : قوله تعالى : (و لا تدع من دون الله ما لا ينفعك و لا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين ) معنى الظالمين يعني المشركين لأن الشرك ظلم عظيم ، كما تقدم .
ثم ذكر المؤلف كلام إبراهيم عليه السلام لما قال لقومه (فابتغوا عند الله الرزق و اعبدوه ) .و ابتغاء الرزق معناه دعاء الله و دعاء الله إذا كان مأموراً به فهو عبادة فلا تصرف إلا لله .(3/85)
ثم ذكر المؤلف الآية الثالثة قوله : ( و من أضل ) يعني لا أحد أضل ، أشد الناس ضلالاً هو هذا. (و من أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة ) فإن هؤلاء الذين يدعون الأصنام و الأوثان , أصحاب القبور لا يستجيبون لهم ، لا يجيبونهم ، لا يسمعونهم و لا يحققون لهم ما طلبوا . ( و هم عن دعائهم غافلون ) لا يعلمون أصلاً أن هؤلاء يدعونهم و يسألونهم و يستنجدون بهم ، ثم يوم القيامة (إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء ) صار هؤلاء الذين يستغيثون بهم و يسألونهم و يدعونهم ينكرون أنهم سمعوهم و ينكرون عبادتهم ، و يقولون نحن نبرأ إلى الله منكم كما قال تعالى : ( و إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب).
و لآخر آية ذكرها المؤلف هي قوله تعالى : (أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء ) يعني لا أحد يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء إلا الله سبحانه و تعالى ، و هذا دليل على تفرده سبحانه و تعالى بذلك . و من استغاث بغير الله ، إن كان استغاثته لإعتقاده أن من يستغيث به قادر على التصرف في الكون فقد أشرك في الربوبية ، و قال بما لم يقله حتى المشركون الأوائل .
ذكر المؤلف بعد ذلك حديث عبادة الذي أخرجه الطبراني بسنده هذا الحديث أخرجه الطبراني و أحمد في مسنده و غيرهما ، لقد أخرجه الإمام أحمد قال حدثني أبي قال حدثني موسى بن داود عن ابن لهيعة و ابن لهيعة ضعيف في حفظه فقد اختلف فيه المحدثون على ثلاثة أقوال :
القول الأول : روايته ضعيفة مطلقاً .
القول الثاني : روايته ضعيفة إلا إن رواها العبادلة الثلاثة و هم :-
عبد الله بن المبارك.
و عبد الله بن يزيد المقرئ .
و عبد الله بن وهب.
القول الثالث : أن روايته من قبيل الحديث الحسن .(3/86)
و الصحيح من هذه ، أن أبن لهيعة لا تقبل روايته إلا إن كانت من رواية العبادلة الثلاثة عنه ، أما غير هذه الرواية فإنها ضعيفة ، لأن هؤلاء رووا عنه قبل الاختلاط ، فإن بن لهيعة لولى القضاء ، و ضاعت كتبه فاختلط ، فصارت روايته ضعيفة ، هذا الحديث من رواية موسى بن داود عنه فليست من رواية العبادلة الثلاثة ، و عليه فتكون هذه الرواية ضعيفة ، كان أن في الإسناد عند الإمام أحمد رجل مجهول يقول : ( حدثني رجل عن عبادة بن الصامت ) ، و جهالة هذا الرجل تفيد ضعف الحديث ، فإنه مجهول العين و الحال ، و المجهول روايته ضعيفة ، الحديث هذا في مسند الإمام أحمد ، أن عبد الله بن أبي بن سلول جاء إلى المسجد فاتكأ – و كان أبو بكر يقرأ القرآن – فقال للصحابة : إن كل نبي كانت له آية فقولوا لمحمد عليه الصلاة و السلام قال قولوا له أن يحضر آية ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه ثم قال : (قوموا بنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم نستغيث به من هذا المنافق) ، فلما قالوا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام قال : ( إنه لا يستغاث بي ، و إنما يستغاث بالله عز و جل) ، قلنا إن هذا الحديث ضعيف و يغني عن هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه النعمان بن البشير رشي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( الدعاء هو العبادة ) أخرجه أحمد و الترمذي ، و قال الترمذي حديث حسن صحيح ، و إسناده صحيح ،
من هذه الآيات و حديث النعمان بن البشير نستفيد أن الدعاء عبادة ، و إذا كان عبادة فإنه لا يجوز صرفها لغير الله تعالى .
أما من استغاث بغير الله فإذا أردنا أن نفصل حكم الإستغاثة فنقول : الإستغاثة :-(3/87)
النوع الأول أن يستغث بالله تعالى : أن يطلب الإنسان من الله تعالى أن ينقذه من الشدة و الهلاك و هذا دأب الصالحين و سيما المؤمنين ، و عليه عمل الأنبياء و المرسلين صلوات ربي و سلامه عليهم فإنهم كانوا يستغيثون بالله تعالى عند الكربات . قال تعالى ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ).
النوع الثاني أن يستغيث بالإنسان الحي الحاضر القادر : يستغيث ، يطلب من إنسان حي قادر حاضر أن يغيثه و ينقذه من الهلاك ، يغيثه من أسد يغيثه من ظالم ، يغيثه من الغرق يغيثه من أي شدة . مثلاً إنسان لا يعرف السباحة ، فينادي شخص آخر فيقول : أغثني ، فيقوم هذا فينقذه من الغرق . أو شخص تعرض لسرقة أو ضرب أو أذى من آخر فيقول لشخص قوي أغثني ، و هذا جائز ، كما قال تعالى : ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه ) فهنا أثبت الله تعالى أن هذا استغاث بموسى و كانت هذه الإستغاثة ليست بشرك ، لأنه استغاث بحي حاضر قادر على إغاثته ، فإنه كان قويا عليه الصلاة و السلام ، و كان حاضراً ، فلم تكن في استغاثته مانع.
النوع الثالث أن يستغيث بالأموات أو الأحياء غير الحاضرين غير القادرين: و هذا من الشرك ، و هو الذي كان يفعله المشركون يستغيثون بغير الله تعالى يستغيثون بالأموات ، أو بالحي غير الحاضر ، إنسان مثلاً يغرق فيقول : يا بدوي أنقذني ، أو يقول : يا ابن عربي أنجدني ، أو يا مولانا فلان ساعدني ، هذه الإستغاثة شرك أكبر مخرج من الإسلام لأنها صرف عبادة لغير الله و العبادة لا تصرف إلا لله .
و معنى لا إله إلا الله : يعني لا نعبد ، لا نصرف العبادة إلا لله فمن خالف هذا المعنى لم يكن مؤمناً بهذه الكلمة . فإذا استغاث إنسان بغير الله ، استغاث بميت ، أو بشخص غير حاضر أو غير قادر ، فقد وقع في الشرك الأكبر .(3/88)
نسأل الله أن يعصمنا و إياكم منه أن يثبتنا على الحق ، هذا هو مجمل هذا الباب ، و أصلى و أسلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ،(3/89)
طلاق المكره والغضبان (1)
: هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }(2) .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1) }(3) .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدًا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيما (71) }(4) .
…أما بعد :
…فمن أدرى بصلاح النفس من بارئها ، ومن أعرف بحالها من خالقها { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)} (5) إن الذي سوَّى النفس فألهمها فجورها وتقواها لهو أعلم بما يصلحها ويسلك بها سبيل التقوى ، أفترى هؤلاء اللاهثين وراء سراب التقدم والحرية أعلم بالبرية من بارئها ؟ لا والله { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا (27)} (6) إن في الإسلام لمنهجًا في الحياة فريدًا ، ومسلكًا للسعادة وحيدًا ، فيه سعادة البشرية جمعاء وفيه الحل لجميع مشكلاتها ومعضلاتها .
__________
(1) نُشر هذا البحث في مجلة البحوث الإسلامية - ذو القعدة - ذو الحجة - 1417هـ ، محرم - صفر 1418هـ ، العدد ( 50 ) .
(2) سورة آل عمران ، الآية 102 .
(3) سورة النساء ، الآية 1 .
(4) سورة الأحزاب ، الآيتان 70 ، 71 .
(5) سورة الملك ، الآية 14 .
(6) سورة النساء ، الآية 27 .(4/1)
وهنا في هذه الورقات سنستعرض آراء جمع من فقهاء الإسلام المبنيَّة على نصوص الوحيين ، في مسألتين مهمتين من مسائل كتاب الطلاق ، وهما طلاق المكره , وطلاق العضبان ، حيث سنستعرض أقوالهم وأدلتهم ، وما نوقشت به ، مستخرجين الرأي الراجح من اجتهاداتهم ، والحقُّ أنني قد توقفت كثيرًا عندما نظرت في أدلة كل قول خاصَّة في المسألة الثانية عندما تتكافأ الأدلة وتتوارد المناقشات على كل قول حتى اطلعت على عبارة من العبارات الفذة التي سطَّرتها يراع العلامة النحرير ، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله ، في ( الختيارات الفقهية ) حيث قال : ( وأكثر من تميَّز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما ، لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل أنَّ عنده لا يعرف جوابه فالجواب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى للاجتهاد ... إلى آخر ما قاله رحمه الله ) (1) .
فعملت بقاعدته ، واتبعت مسيرته ، فرجحت ما ظهر لي رجحانه .
أما البحث فقد جعلته في تمهيد وفصلين وخاتمة .
فتناولت في التمهيد ثلاث مباحث :
المبحث الأول : في تعريف الطلاق .
وفيه مطلبان :
الأول : في تعريف الطلاق لغة .
والثاني : في تعريفه شرعًا .
…المبحث الثاني : في أدلة مشروعية الطلاق .
…المبحث الثالث : في الحكمة من مشروعيته .
أما الفصل الأول : فقد قسمته إلى مبحثين بعد التمهيد .
فالتمهيد : في تعريف الإكراه لغةً وشرعًا .
المبحث الأول : أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه .
المبحث الثاني : طلاق المكره ، والأقوال والأدلة والترجيح .
أما الفصل الثاني : فقد قسمته إلى تمهيد ومبحث واحد .
فالتمهيد : في تعريف الغضب وحالاته .
والمبحث في حكم طلاقه ، الأقوال والأدلة والترجيح .
أما الخاتمة فعرضت فيها أبرز النتائج التي استخلصتها من البحث .
__________
(1) الاختيارات نقلاً عن طريق الوصول لابن سعدي ص 125 .(4/2)
…هذا ولتعلم أيها القارئ في هذا البحث والناظر فيه أني لم آل جهدًا في تحرير مباحثه واستيفاء مسائله ، ولكني أرى عملي قاصرًا لقصور كاتبه ، وناقصًا لنقص راقمه ، وفاترًا لفتور مقيده .
…وهذا جهد المقل فإن أصبت فمن الله وحده ، وفَّق وألهم ، وسهَّل ويسّر ، وإن أخطأت فمني الخطأ وأستغفر الله { ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة وإنك أنت الوهاب (8) }(1).
تمهيد
…
المبحث الأول تعريف الطلاق :
المطلب الأول : تعريف الطلاق لغةً :
الطلاق : مصدر طَلَقَت المرأة وطَلُقَت(2) تطلُق طلاقًا فهي طالق . ويدل على الترك والتخلية ، يقال طلَّق البلاد أي تركها ، وأطلق الأسير أي خلاًّه .
ويستعمل في معان أخر فيطلق على الصفو الطيب الحلال فيقال هو لك طلق أي حلال ، ويطلق على البعد يقال طلق فلان إذا تباعد ، ويطلق على الخروج يقال أنت طِلْقٌ من هذا الأمر أي خارج من(3) .
وهذه المعاني المذكورة إذا أمعنا النظر فيها وجدنا بينها وبين مقصود الطلاق ترابطًا واضحًا فالمطلق تارك لزوجته وهو أيضًا قد أحلها لغيره ، وقد باعدها بفراقه لها وقد خرج أيضًا عن العقد الذي كان يربطهما ، فالطلاق قد اجتمعت فيه هذه المعاني جميعًا(4) .
المطلب الثاني : تعريف الطلاق شرعًا :
__________
(1) سورة آل عمران ، الآية 8 .
(2) بفتح اللام وضمها كما قال ثعلب من أهل اللغة ( اللسان 4/2696 ) وهو ما ذكره صاحب المطلع ( 333 ) .
(3) اللسان ( 4/2696 ) ؛ مجمل اللغة ( 3/330 ) ؛ ومعجم مقاييس اللغة ( 3/420 ) وما بعدها ، مادة ( طلق ) .
(4) قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 9/258 ) عن الطلاق في الشرع : ( وهو موافق لبعض مدلوله اللغوي ) وفيما ذكرته تعقيب عليه ، قال البعلي في المطلع ص ( 333 ) عن الطلاق في الشرع : ( وهو عائد إلى معناه لغة ) أهـ وتجد مثله في الدر النقي ( 3/671 ) .(4/3)
تنوعت عبارات الفقهاء ، وتعددت تعريفاتهم للطلاق في العرف الشرعي ، وقد حرصت على اختيار التعريف الجامع المانع منها وهو : ( حلُّ قيد النكاح ( أو بعضه ) في الحال أو المآل بلفظ مخصوص ) .
وهو الذي عرَّفه به في الدر المختار(1) ، ومعناه متفق عليه بين أهل العلم ، وقد أضفت لتعريفه قيدًا وهو ( أو بعضه ) وفائدته إدخال الطلاق الرجعي(2) .
المبحث الثاني : أدلة مشروعية الطلاق :
دلَّ على مشروعية الطلاق الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }(3)، وقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهمن لعدتهن }(4) .
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين عليه ( 2/414 ) .
(2) انظر : حاشية الروض المربع لابن قاسم ( 6/482 ) ؛ وانظر : أمثلة لتعريفات الطلاق في فتح القدير ؛ وشرح العناية ( 3/325 ) ؛ البهجة في شرح التحفة ( 1/336 ) ؛ وانظر أيضًا : التعريفات ص ( 141 ) ؛ ومعجم لغة الفقهاء ص ( 291 ) .
(3) سورة البقرة ، الآية 229 .
(4) سورة الطلاق ، الآية 1 .(4/4)
وأما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الطلاق لمن أخذ بالساق )) (1) ، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها(2) .
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا(3) .
أما الإجماع : فقد أجمع العلماء على جوازه وهو واقع منذ الصدر الأول في الإسلام إلى هذا الزمان لا ينكره أحد(4) .
والمعقول يؤيد جوازه كما سيأتي في الحكمة من مشروعيته .
__________
(1) رواه ابن ماجة في سننه كتاب ( الطلاق ) باب طلاق العبد ، برقم ( 2081 ) ، والدار قطني في سننه كتاب ( الطلاق والخلع والإيلاء ) ( 4/37 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه الدارقطني مرسلاً عن عكرمة وعن عصمة ابن مالك ، وفي إسناد المرفوع عند الدارقطني أحمد بن الفرج مختلف فيه . انظر : لسان الميزان ( 1/266 ) ، والكامل لابن عدي ( 1/190 ) وفي إسناده عند ابن ماجة ابن لهيعة وهو ضعيف ، وللحديث طرق يقوي بها ، انظر : التعليق المغني ( 4/37 ) وزوائد ابن ماجة بحاشية السنن ، وقد حسن الحديث الألباني في الإرواء ( 2041 ) ، وصحيح سنن ابن ماجة ( 1/355 ) .
(2) رواه أبو داود في سننه كتاب ( الطلاق ) باب في المراجعة رقم ( 2280 ) وابن ماجة في سننه كتاب ( الطلاق ) باب حديثا سويد بن سعيد رقم ( 2016 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإسناده صحيح ، وأخرجه النسائي في سننه كتاب ( الطلاق ) باب الرجعة رقم ( 3560 ) من حديث ابن عمر وإسناده صحيح ، وفي الباب عن أنس وعمار . انظر إن شئت مجمع الزوائد ( 9/244 ) ، وإرواء الغليل رقم ( 2077 ) ، والسلسلة الصحيحة ( 2007 ) ، وانظر : قصة طلاقها في سير أعلام النبلاء ( 2/227 ) , الإصابة ( 4/52 ) .
(3) انظر : نيل الأوطار ( 6/247 ) ، وجمع الفوائد ( 1/671 ) .
(4) ممن نقل الإجماع على مشروعيته ابن قدامة في المغني ( 10/323 ) ، وانظر : ( حاشية الروض المربع ) لابن قاسم ( 6/482 ) .(4/5)
المبحث الثالث : الحكمة من مشروعية الطلاق :
شرع الله الزواج ليكون دائمًا مؤبدًا إذ به تتحقق المنافع والمصالح المرادة منه ، ولا بد لتحقيق أهداف النكاح العظيمة من وجود المودة والتفاهم بين الزوجين فإذا حصل ما يقطع هذه المودة ويفسد هذا التفاهم مما هو واقع وكثير ، لأسباب مشاهدة ، كأن تفسد أخلاق أحد الزوجين فيندفع في تيار الفسق والفجور ويعجز المصلحون عن ردة إلى سواء الصراط ، أو يحدث بين الزوجين تنافر في الطباع وتخالف في العادات أو يلقى في نفس أحدهما كراهية الآخر والسَّأم منه والتبرم من أفعاله وقد يكون الزوج عقيمًا أو قد يصيبه مرض معد خطير أو قد يغيب غيبة لا يعلم فيها حاله ، ولا حياته من موتِهِ ، وقد يصاب بضيق ذلك اليد فلا يستطيع الإنفاق على زوجته وليست بخليه فتنكح غيره .
وهذه الأمثلة وليست من الخيال في شيء تفسد على البيت نظامه وتعكر عليه صفوه ، فينحرف الزوجان في البحث على لذة بديلة أو سكن غير ما يجدانه في نكاحهما ، وينحرف الأولاد حيث لا كافل لهم ولا راعي لشؤونهم ولا قائم بحقوقهم وينشأ الأطفال نشأة يملؤها التشاؤم ، ويغلب عليها الحزن والانطواء في مجتمع أسري كهذا .
لهذه الأمور وغيرها كثير ؛ أباح الله الطلاق ليكون علاجًا لهذا الوضع الرديء ، والحال المفجع ، والخطب الأليم ، الذي أصاب الأسرة التي هي اللَّبنة الأولى لبناء المجتمع .(4/6)
ولأن الإسلام دين رب العالمين الذي هو أعلم بمصالح العباد من أنفسهم ، ولأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان ، فقد حرص على وقاية المجتمعات من كل داهية تفتك به وكل فجيعة تلم به ، وكل نكبة تصيبه ، فقد شرع الطلاق ليتخلص به الزوجان من حياة مقلقة ، وصلة موجعة ، وارتباط مؤلم ، ومن ثم ينقب كل منهما عمّن هو خير من سابقه ، وأجدر بالارتباط به ، قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعا حكيماً }(1)(2) .
الفصل الأول : طلاق المكره :
تمهيد : تعريف الإكراه :
الإكراه : لغة : هو مصدر أكره يكره إكراهًا ، إذا غصبته وحملته على أمر هو له كاره . فأصل الكلمة يدل على خلاف الرضا والمحبة . قال الفرَّاء : ( يقال أقامني على كره – بالفتح – إذا أكرهك عليه إلى أن قال : فيصير الكره بالفتح فعل المضطر(3) .
تعريف الإكراه شرعًا :
هو حمل إنسان على عمل – أو ترك – بغير رضاه ، ولو تُرك بدون إكراه لما قام به .
__________
(1) سورة النساء ، الآية 130 .
(2) انظر : في هذا المبحث : ( حجة الله البالغة ) ( 2/138 ) ؛ تفسير آيات الأحكام للصابوني ( 1/343 ) وما بعدها ؛ الأحوال الشخصية ص ( 327 ) ؛ تنظيم الأسرة ص ( 76 ) ؛ تنظيم الإسلام المجتمع ص 89 ، كلها لمحمد أبو زهرة . ومن محاسن الدين الإسلامي ص سعدي ص ( 23 ، 24 ) ؛ الفقه الإسلامي وأدلته ( 7/358 ) ؛ الزواج والطلاق وآثارهما للدكتور عبد الودود السريتي ص ( 5 ، 6 ) .
وانظر : في تاريخ الطلاق وأحكامه عند المسلمين وغيرهم ، دائرة المعارف ، للمعلم بطرس البناني ( 11/327 ، 328 ) ؛ دائرة معارف القرن العشرين ، لفريد وجدي ( 5/773 ) وما بعدها .
(3) اللسان ( 5/3865 ) مادة ( كرهَ ) . وانظر : مختار الصحيح ص 237 ؛ معجم مقاييس اللغة ( 5/172 ) ؛ أنيس الفقهاء ص 264 ؛ الدر النقي ( 3/675 ) . انظر : النظم المستعذب في شرح غريب المهذب في حاشية المهذب ( 2/78 ) .(4/7)
وقال بعضهم فعل يفعله إنسان لغيره(1) .. إلخ والمعنى متقارب .
المبحث الأول : أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه :
للإكراه أنواع متعددة باعتبارات مختلفة ؛ فيكون في الأفعال ، ويكون في الأقوال ، والإكراه في الأفعال نوعان ملجئ وغير ملجئ .
فأما الملجئ وهو الكامل ، فلا يكون للفاعل إرادة البتة كمن حلف لا يدخل دار زيد مثلاً فقهره من هو أهوى منه وكبَّله وحمله حتى أدخله فيها فهذا غير مكلف إجماعًا ولا إثم عليه ؛ ولا يحنث عند الجمهور(2) .
وأما غير الملجئ وهو الناقص فهو كمن أكره بضرب أو هذا المكره يستطيع الفعل والترك فهو مختار للفعل ولكن ليس غرضه نفس الفعل وإنما مراده دفع الضرر عن نفسه . وليس هذا مرادنا فأرجع فيه لمضانه(3)
__________
(1) معجم لغة الفقهاء ص ( 85 ) ؛ الطلاق في الشريعة الإسلامية ، للدكتور : أحمد غندور ؛ أصول الفقه ، للشيخ الخضري ص ( 106 ) . وانظر : تكملة فتح القدير ؛ والعناية والكفاية مطبوعان في حاشيته ( 8/166 ) ؛ حاشية ابن عابدين ( 6/128 ) .
(2) المستصفى للغزالي ( 1/91 ) ، شرح مختصر الروضة ( 1/194 ) ؛ وانظر : المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ص ( 58 ) ؛ مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص ( 32 ) ؛ المنتقى من فرائد الفوائد ص ( 148 ) لابن عثيمين ؛ انظر : جامع العلوم والحكم ص ( 375 ) .
(3) روضة الناظر وشرحها ( 1/142 ) ؛ جامع العلوم والحكم ص ( 375 ) ؛ منظومة القواعد الفقهية وشرحها لابن سعدي ص ( 33 ) ؛ والمراجع في الفقرة السابعة وممن تكلم عن المسألة وبحثها العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ( 2/149 ) وما بعدها . وابن القيم في زاد المعاد ( 5/205 ) ؛ والإعلام ( 3/108 ) ؛ أصول الفقه للخضري ( 106 ) وما بعدها ؛ الموسوعة الفقهية ، إصدار وزارة الأوقاف الكويتية ( 6/98-112 ) . مباحث في النية للعليوي ص ( 35 ) وما بعدها .
……وأنبه هنا إلى أنّ مرادنا الإلجاء الذي تناوله الأصوليون لا ما قرره فقهاء الأحناف ، فإنهم يجعلون الملجئ هو التهديد بإتلاف النفس أو عضو منها وغير الملجئ الذي يكون بما لا يفوت النفس أو بعض الأعضاء كالحبس ونحوه ، هذا على أنهم لم يفرقوا بين هذين النوعين في باب الطلاق . وانظر : تكملة فتح القدير ( 8/167 ) ؛ اللباب شرح الكتاب ( 4/107 ) .(4/8)
.
وأما الإكراه في الأقوال :
فقد اتفق العلماء على صحته وأن من أكره على قول محرم إكراهاً معتبرًا أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه ، والإكراه متصور في سائر الأقوال فمتى أكره على قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام وكان لغوًا (1) .
وذهب الأحناف إلى التفريق بين ما يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة فيفسخ وما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق والنكاح فهو لازم ، فمن أكره على البيع ففعل فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع بخلاف ما لا يحتمل الفسخ(2).
وعدم التفريق أنسب وألبق بأصول الشريعة وأدلتها قال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }(3) قال الشافعي(4) في تقرير الاستدلال بهذه الآية : ( أن الله سبحانه وتعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه أسقط عنه أحكام الكفر ، كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط ما هو دونه من باب أولى ) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص ( 376 ) بتصرف واختصار . وانظر : زاد المعاد ( 5/205 ) ؛ مذكرة أصول =
= الفقه ص ( 33 ) ؛ المنتقى من الفوائد ص ( 148 ) ؛ القواعد الفقهية لابن سعدي ص ( 32 ) .
(2) تكملة فتح القدير ، والعناية والكفاية ( 8/166 ) .
…فائدة : نظم ابن كمال الهمام ما يثبت مع الإكراه فقال :
يصح مع الإكراه عتقٌ ورجعةٌ - نكاحٌ وإيلاءٌ طلاقٌ مفارقي
وفيءٌ ظهارٌ واليمين ونذره - وعفوٌ لقتلٍ شابَ عَنهُ مفارقي
انظر : فتح القدير ( 3/344 ) ؛ وانظر في ذلك : الدر المختار ( 2/421 ) ؛ وحاشيته ( 2/423 ) وتجد نظمًا آخر .
(3) سورة النحل ، الآية 106 .
(4) الأم ) له . ونقله عنه المزني في مختصره ، وهو أيضًا في أحكام القرآن له ونقله الصنعاني في سبله ( 3/370 ) .(4/9)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) (1) .
قال ابن القيم : ( ... وعلى هذا فكلام المكره كله لغو لا عبرة به ، وقد دل القرآن على أن من أكره على التكلم بكلمة الكفر على أن الله سبحانه تجازو عن المكره فلم يؤاخذه بما أكره عليه وهذا يراد به كلامه قطعًا وأما أفعاله ففيها تفصيل ... إلى أن قال ... الفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه ، أن الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتها ، بل مفسدتها معها بخلاف الأقوال ، فإنها يمكن إلغاؤها وجعلها بمنزلة أقوال النائم والمجنون ، فمفسدة الفعل الذي لا يباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول ، فإنها تثبت إذا كان قائلة عالمًا به مختارًا له ) (2) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني ( 497 ) ؛ وابن حبان ( 360 ) ؛ والحاكم ( 2/198 ) وصححه ووافقه الذهبي ؛ وأخرجه ابن ماجة كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي برقم ( 2045 ) لكن سنده منقطع وفي الباب عن ابن عمر وعقبة بن عامر وثوبان كما في نصب الراية ( 2/65 ) ؛ وجامع العلوم والحكم ص ( 371 ) والغالب فيها الضعف لكنها تتقوى بطرقها قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص ( 230 ): ( ومجموع هذه الطرق يظهر أنّ للحديث أصلاً ) اهـ . وقال الشنقيطي في مذكرته ص ( 33 ) : ( وقد تلقاه العلماء بالقبول ، وله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة ) اهـ . وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل ( 82 ) . وفي صحيح سنن ابن ماجة ( 1/348 ) برقم ( 1664 ) .
(2) زاد المعاد ( 5/205 ، 206 ) ؛ وقد أطال ابن حزم في المحلى ( 10/202 ) في الرد عليهم فارجع إليه .(4/10)
إذا تقرر هذا فاعلم أن الإكراه يكون بحق وبغير حق ، فأما الإكراه بغير حق - اعتداءً وتسلطًا - فهو ما سبق فيه البحث ، وأما ما كان بحق فنحو إكراه الحاكم لشخص ببيع مالِه ليوفي دينه ، أو إكراهه موليًا على الطلاق إن أبى الفيئة . فهذا الإكراه غير مانع من لزوم ما أكره عليه(1) .
مسألة شروط الإكراه :
ذكر أهل العلم شروطًا للإكراه منها :
أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب .
أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به ، والعجز عن دفعه والهرب منه .
أن يكون مما يلحق الضرر به . (2)
وهذه الشروط اتفق على اعتبارها المالكية والشافعية والحنابلة ، وزاد بعضهم شروطًا أخرى ، والذي يظهر أن تحديد الإكراه عائد لما يراه الحاكم ، والمفتي ، فما رأى أنه إكراه أبطله لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس(3) .
المبحث الثاني : طلاق المكره :
والمراد بالبحث الإكراه على الطلاق بغير حق هل هو واقع أم لا ؟
فذهب مالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري أن طلاقه غير واقع وقال بهذا القول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن الزبير وابن عباس ، وجماعة كثيرون .
__________
(1) انظر : جامع العلوم والحكم ص ( 377 ) ؛ فتح القدير ( 3/344 ) ؛ الشرح الكبير للدردير ( 2/367 ) ؛ المهذب ( 1/78 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ المغني ( 10/351 ) .
(2) الشرح الكبير ( 2/367 ) ؛ بداية المجتهد ( 2/61 ) ؛ المهذب ( 1/78 ) ؛ مغني المحتاج ( 3/279 ) ؛ المغني ( 10/353 ) ؛ الكشاف ( 5/236 ) .
(3) انظر : الكفاية ( 8/168 ) ؛ والمغني ( 10/353 ) ؛ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة ( 33/110 ) ؛ والقواعد لابن رجب ( 323 ) القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة . والقواعد والأصول الجامعة لابن سعدي ص ( 109 ) . وقد نبه على هذا ابن القيم في إعلامه ( 3/108 ) .(4/11)
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى إيقاع هذا الطلاق وقال به الشعبي والنخعي والثوري(1).
وسبب خلافهم هو هل المكره مختارٌ أم لا ؟ فإن المطلق غير مريدٍ لإيقاع الطلاق وهو في الوقت ذاته قد اختار أهون الشرين من الطلاق أو حصول ما أكره به(2) .
استدل الأحناف ومن وافقهم لمذهبهم بما يلي :
ما روي أن رجلاً كان نائمًا فقامت امرأته فأخذت سكينًا فجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه فقالت لتطلقني ثلاثًا أو لأذبحنك فناشدها الله فأبت ، فطلقها ثلاثًا ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : (( لا قيلولة في الطلاق )) (3) .
حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( ثلاثٌ جدهن جد ، وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة )) (4)
__________
(1) فتح القدير . الكفاية والعناية ( 3/344 ) ؛ الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين ( 2/421 ) ؛ اللباب شرح الكتاب ( 3/45 ) ، ( 4/112 ) ؛ والشرح الكبير مع حاشيته للدسوقي ( 2/367 ) ؛ بداية المجتهد ( 2/61 ) ؛ المهذب ( 2/78 ) ؛ مغني المحتاج ( 3/289 ) زاد المحتاج للكوهجي ( 3/357 ) ؛ المغني ( 10/350 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ المحلى ( 10/202 ) ؛ والفقه الإسلامي وأدلته للرحيلي ( 7/367 ) . الإمام داود وأثره لعارف أبو عبيد ص ( 651 ) . الأحكام الفقهية في المذاهب الأربعة لعساف ( 2/356 ) .
(2) بداية المجتهد ( 2/61 ) ؛ فتح القدير ( 3/344 ) ؛ جامع العلوم والحكم ص ( 375 ) .
(3) أخرجه العقيلي كما في نصب الراية ( 3/222 ) ؛ وابن حزم في المحلى ( 10/203 ) متصلاً وفي سنده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن ، وروي مرسلاً وليس فيه بقية وفي المتصل والمرسل الغازي بن جبلة قال البخاري : حديثه منكر في طلاق المكره وكذا قال أبو حاتم : انظر لسان الميزان ( 4/479 ) ؛ الكامل لابن عدي ( 6/9 ) نصب الراية ( 3/222 ) .
(4) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطلاق باب الطلاق على الهزل رقم ( 2194 ) ؛ والترمذي في =
= جامعه كتاب الطلاق باب ما جاء في الجد والهزل رقم ( 1184 ) ؛ وابن ماجة في سننه كتاب الطلاق باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا رقم ( 2039 ) ؛ والحاكم في مستدركه كتاب الطلاق ( 4/18 ) وفي سنده عبد الرحمن بن حبيب قال عنه النسائي منكر الحديث . ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحاكم من ثقات المدنيين التهذيب ( 6/144، 145 ) ؛ الكاشف ( 2/143 ) وقال عنه ابن حجر لين الحديث ؛ التقريب ( 1/476 ) وفي الباب عن فضالة بن عبيد وعبادة بن الصامت وأبي ذر . انظر : تلخيص الحبير ( 3/236 ) ؛ مختصر البدر المنير ص ( 213 ) ؛ التعليق المغني ( 4/19 ) وغالبها ضعاف لكنها تتقوى بطرقها وحسن الحديث الترمذي وابن حجر والألباني في إرواء الغليل ( 1826 ) وصحيح سنن ابن ماجة برقم ( 1658 ) .(4/12)
.
ووجه الاستدلال :
أن الهازل لم يقصد إيقاع الطلاق وإنما قصد اللفظ فقط وقد أوقع طلاقه فدل على أن الطلاق يعتبر فيه مجرد التلفظ به فيقاس المكره على الهازل لأنهما قصدا النطق ولم يردا المعنى(1) .
ما روي عن عمر مرفوعًا : أربع مبهمات مقفولات ليس فيهن رد : النكاح والطلاق ، والعتاق الصدقة ) (2) .
حديث حذيفة وأبيه حين حلفهما المشركون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم )) (3) .
وجه الاستدلال :
أن اليمين حال الطواعية وحال الإكراه سواء فعلم أنه لا تأثير للإكراه في نفي الحكم المتعلق بمجرد اللفظ كالطلاق(4) .
استدلوا بأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره(5) .
المناقشة :
أما حديث (( لا قيلولة في الطلاقى )) فضعيف كما ذكرت في تخريجه . قال عنه ابن حزم : ( هذا خبر في غاية السقوط ) (6) فيسقط الاستدلال به .
__________
(1) فتح القدير ( 3/344 ) ؛ والعناية بحاشيته ؛ بدائع الصنائع ( 3/99 ) .
(2) ذكره ابن كمال الهمام في فتح القدير ( 3/344 ) ولم أجد له سندًا فيما وقفت عليه من كتب أهل العلم والله تعالى أعلم .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب الوفاء بالعهد برقم ( 1787 ) .
(4) فتح القدير ( 3/344 ) .
(5) الهداية ( 3/344 ) ؛ والعناية وحاشية سعدي جلبي ( بحاشية الهداية ) ؛ وانظر : المغني ( 10/350 ) .
(6) المحلى ( 10/204 ) .(4/13)
وأما استدلالهم بحديث : (( ثلاث جدهن جد ... )) الحديث . وقياسهم المكره على الهازل فهو قياس فاسد فإن المكره غير قاصد للقول ولا لموجبه ، وإنما حمل عليه وأكره على التكلم به ولم يكره على القصد ، وأما الهازل فإنه تكلم باللفظ اختيارًا وقصد به غير موجبه وهذا ليس إليه بل إلى الشارع فإن من باشر سبب ذلك باختياره لزمه مسببه ومقتضاه وإن لم يرده ، وأما المكره فإنه لم يرد هذا ولا هذا فقياسه على الهازل غير صحيح(1) .
وأما أثر عمر فإنا لم نعلم سنده ولم نقف على مخرجه حتى نعلم ثبوته وعلى اعتبار صحته فإنه محمول على أن من أوقع الطلاق فإن لا يمكنه أن يعود فيه ، أما المكره فإنه لم يوقع الطلاق وإنما تلفظ به تخلصًا من مكرهه . هم إن الصحيح عن عمر رضي الله عنه إلغاء طلاق المكره(2) . وأما ما روي أن امرأة استلت سيفًا فوضعته على بطن زوجها وقالت والله لأنفذنك أو لتطلقني فطلقها ثلاثًا فرفع ذلك إلى عمر فأمضى طلاقها . فهذا ضعيف لا يثبت عنه رضي الله عنه(3) .
__________
(1) تهذيب السنن لابن القيم ( 6/188 ) بحاشية عون المعبود باختصار . وانظر : إعلام الموقعين ( 3/108 )؛ زاد المعاد ( 5/204 ) ؛ وإغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( 50-61 ) .
(2) زاد المعاد ( 5/206-209 ) ؛ المحلى ( 10/202 ، 203 ) ؛ وانظر : نصب الراية ( 3/223 ، 224 ) .
(3) أخرجه سعيد بن منصور كما في زاد المعاد ( 5/ 208 ) وفي إسناده فرج بن فضالة ضعفه الدارقطني وقال ابن حبان يقلب الأسانيد ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة لا يحل الاحتجاج به . الكاشف ( 2/326 ) ؛ والتهذيب ( 8/234 ، 235 ) .(4/14)
وأما خبر حذيفة وأبيه رضي الله عنهما ، وقياس الطلاق على اليمين باعتبارهما متعلقين بمجرد اللفظ فإن الجواب أن هذا القياس غير صحيح ، فليس الاعتبار في الطلاق خاصًا باللفظ بل لا بد معه من إرادة التكلم بالصيغة والعلم بمدلولها ، ألا ترى أن الشارع لم يمض طلاق النائم والناسي وزائل العقل(1) ، وبهذا يظهر الفرق بينهما ولا قياس مع وجود الفارق .
وأما قولهم هو طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره ، فنقول هذا الدليل أشبه ما يكون بالمصادرة ، فإنه إقرار لتكليف المكره ، ثم إنّ قياسكم المكره على غيره هو في غاية الغرابة يرده ما سنشير إليه من أدلة القول الثاني .
واستدل الجمهور لقولهم بما يلي :
__________
(1) زاد المعاد ( 5/204 ، 205 ) ؛ حكم طلاق الغضبان ص ( 46 ، 61 ، 67 ) ؛ وانظر : المحلى ( 10/205 ) .(4/15)
عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق )) (1) . ومن الإغلاق الإكراه لأن المكره مغلق عليه أمره وتصرفه(2)
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ( 6/276 ) ؛ وأبو داود في سننه كتاب الطلاق باب في الطلاق على غضب رقم ( 2193 ) ، وابن ماجة في سننه كتاب الطلاق باب طلاق المكره رقم ( 2046 ) ؛ والحاكم في مستدركه كتاب الطلاق باب لا طلاق في إغلاق ( 2/198 ) ؛ والدارقطني في سننه ( 4/36 ) وفي سنده محمد بن عبيد بن أبي صالح ، وقد وقع في سنن ابن ماجة عبيد بن أبي صالح وهو خطأ كما نبه عليه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 7/63 ) وتقريبه ( 1/543 ) ومحمد هذا ضعيف ، وقد تابعه زكريا بن إسحاق ومحمد بن عثمان كما عند الدارقطني والبيهقي والحاكم إلا أن الراوي عنهم قزعة بن سويد وهو ضعيف كما في التقريب ( 2/126 ) والتهذيب ( 8/336 ) وفي الحديث ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن ، انظر : مراتب الموصوفين بالتدليس ص ( 132 ) وتابعه عبد الله بن سعيد الأموي كما عند الحاكم وهو ثقة من رجال الشيخين كما في التقريب ( 1/420 ) . فالحديث حسن إن شاء الله تعالى وقد رمز السيوطي لحسنه كما في الجامع الصغير رقم ( 9905 ) . وحسنه المحدث الألباني في إروائه ( 2047 ) وفي صحيح سنن ابن ماجة ( 1665 ) .
(2) الإغلاق في أصل اللغة بمعنى الحبس والإقفال يقال غَلَق الباب وغلَّقه .
قال تعالى : { وغلَّقت الأبواب } والتضييق أيضًا قال أبو الأسود الدُّؤلي :
ولا أقول لقدر قد غَلِيت ولا أقول لباب الدار مغلوق
…والتعسّر يقال استغلق الباب أي عَسُرَ فتحه . وهذه المعاني المرادة في الحديث ، فالمراد انسداد باب العلم والقصد فيضيق صدره ويتعسر عليه تفكيره ويقفل عنه باب الإرادة وهي المرادة في اللغة كما =
=…فسرها به صاحب اللسان . وأيد ذلك أهل الغريب فقال القاضي عياض في شرح الحديث : ( .. هو الإكراه وهو من أغلقت الباب .. وقيل الإغلاق الغضب وإليه ذهب أهل العراق .. ) اهـ .
…فيدخل في الإغلاق : المعتوه والمجنون والسكران والمكره والغضبان الذي لا يعقل ما يقول والمدهوش ونحوهم .
…وإليك درة من روائع كلام ابن القيم في إعلام الموقعين ( 3/94 ) :
…( أما الإغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي ، فكل من أغلق عليه باب قصده وعمله كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الإغلاق . ومن فسره بالجنون أو السكران أو بالغضب أو بالإكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص ولو قدر أن اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدى بتعديها وانتفى بانتفائها ) .
…مراجع مختارة :
الفائق في غريب الحديث للزمخشري ( 3/72 ) .
مجمع بحار الأنوار لمحمد طاهر الصديقي ( 4/54-55 ) .
مشارق الأنوار للقاضي عياض ( 1/134 ) .
ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث ( 3/379-380 ) .
تهذيب السنن لابن القيم ( 6/187 ) حاشية عون المعبود .
إعلام الموقعين له ( 3/94 ) .
فيض القدير ( 6/433 ) للمناوي .
لسان العرب ( 5/3283 ) لابن منظور .
عون المعبود ( 6/187 ) للعظيم آبادي .(4/16)
.
حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه موقوفًا : ( كل طلاق جائز إلاَّ طلاق المعتوه والمكره ) (1) .
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما موقوفًا : ( ليس لمستكره ولا لمجنون طلاق ) (2) .
عن ثابت بن الأحنف أنه تزوج أم ولد لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال : فدعاني عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب فجئته فدخلت عليه فإذا سياط موضوعة وإذا قيدان من حديد وعبدان له قد أجلسهما وقال لي : تزوجت أم ولد أبي بغير رضاي ، فأنا لا أزال أضربك حتى تموت ثم قال : طلقها وإلا فعلت ، فقلت هي طالق ألفًا ، فلما خرجت من عنده أتيت عبد الله بن عمر فأخبرته فقال : ليس هذا بطلاق ، إرجع إلى أهلك ، فأتيت عبد الله بن الزبير فقال مثل ذلك(3) .
ولأنه قول حمل عليه بغير حق ، فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أُكره عليها(4) .
هذا وقد قدمنا الأدلة العامة التي استدل بها الجمهور على إلغاء طلاق المكره فراجعها .
الترجيح :
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا مجزومًا به في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران ، قال الحافظ في الفتح ( 9/305 ) وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة أن عليًا قال .. فذكره ، وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه ، وصرح في بعضها بسماع عابس بن ربيعة من علي .اهـ .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا مجزومًا به ، في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران ، قال الحافظ في الفتح ( 9/303 ) وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعًا عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المزني عن عكرمة عن ابن عباس .اهـ .
(3) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الطلاق باب جامع الطلاق ص ( 376 ) برقم ( 1245 ) وإسناده صحيح .
(4) المغني ( 10/351 ) ؛ زاد المعاد ( 5/204 ) .(4/17)
يتبين مما مضى أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من إلغاء طلاق المكره وعدم اعتباره وذلك لأمور :
قوة أدلة الجمهور .
ضعف أدلة الأحناف لما ورد عليها من مناقشة .
أنه الألبق بأصول الشريعة وقواعدها كما مر معنا . وفيه دفع لمفاسد عظيمة ، وإليك ما قاله الشيخ أحمد الدهلوي رحمه الله :
( .. ثانيهما : أنه لو اعتبر طلاقه – أي المكره – طلاقًا لكان ذلك فتحًا لباب الإكراه فعسى أن يختطف الجبار الضعيف من حيث لا يعلم الناس ويخيفه بالسيف ويكرهه على الطلاق إذا رغب في امرأته فلو خيبنا رجاءه وقلبنا عليه مراده كان ذلك سببًا لترك مظالم الناس فيما بينهم بالإكراه .. ) (1) اهـ .
هذا وقد اختار هذا القول جمع من المحققين كابن تيمية(2) ، وابن القيم(3) ، والشوكاني(4) ، وصديق بن حسن القنوجي البخاري(5) ، وغيرهم رحمهم الله .
الفصل الثاني : طلاق الغضبان :
تمهيد : تعريف الغضب وحالاته :
الغضب : مصدر غضب يغضب عضبًا ويقال رجل غضبان وامرأة غضبى وهو نقيض الرضا(6) . ويطلق في العرف على الغيض والانفعال . قال الجرجاني : ( الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر ) (7) .
حالات الغضب ( تحرير محل النزاع فيه ) :
للغضب ثلاثة أقسام :
__________
(1) حجة الله البالغة ( 2/138 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 33/110 ) ، ومختصر الفتاوى المصرية ص ( 437 ) .
(3) زاد المعاد ( 5/204 ) ؛ وإعلام الموقعين ( 3/108 ) ؛ تهذيب السنن ( 6/187 ) .
(4) نيل الأوطار ( 6/265 ) .
(5) الروضة الندية ( 2/46 ) . لسان العرب ( 5/3262 ) ؛ مختار الصحاح ص ( 199 ) ؛ المصباح المنير ص ( 170 ) .
(6) زاد المعاد ( 5/204 ، 205 ) ؛ حكم طلاق الغضبان ص ( 46 ، 61 ، 67 ) ؛ وانظر : المحلى ( 10/205 ) .
(7) التعريفات ص ( 162 ) ، وانظر : معجم لغة الفقهاء ص ( 332 ) .(4/18)
الأول : أن يحصل للإنسان مبادئ الغضب وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ويعلم ما يقول فهذا يقع طلاقه بلا إشكال فإنه مكلف عالم بأقواله ومريد للتكلم بها(1) .
الثاني : أن يبلغ به الغضب نهايته فيزيل عقله فلا يعلم ما يقول ، وهذا لا يقع طلاقه ، قال ابن القيم ( بلا نزاع ) (2) وذلك أنه لم يعلم صدور الطلاق منه فهو أشبه ما يكون بالنائم والمجنون ونحوهم(3) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص ( 148 ) ؛ إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( 39 ) ؛ زاد المعاد ( 5/215 ) ؛ والفقه الإسلامي وأدلته للرحيلي ( 7/365 ) ؛ وانظر : حاشية ابن عابدين ( 2/427 ) ؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( 2/366 ) ؛ ولم أجد للشافعية فيما وقفت عليه شيئاً إلا أن =
=…إيقاعهم طلاق المكلف ينتظم هذه الصورة أيضًا ، انظر : مغني المحتاج ( 3/279-287 ) ؛ زاد المحتاج للكوهجي ( 3/357 ) ؛ حاشية بحيرمي على الخطيب ( 3/416 ) ؛ المهذب ( 2/77 ) .
(2) زاد المعاد ( 5/215 ) .
(3) إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( ( 39 ) ؛ وانظر : حاشية ابن عابدين ( 2/427 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ الروض المربع وحاشيته ( 6/490 ) .
……هذا وقد نص أصحاب أرباب المذاهب الفقهية على أن زائل العقل بغير سكر لا يقع طلاقه ، وهذا الغضبان قد زال عقله بالغضب فتخرج هذه المسألة على أصلهم المذكور . انظر : فتح القدير والكفاية ( 3/343 ) ؛ اللباب - شرح الكتاب - ( 3/40 ) ؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( 2/365 ) ؛ بداية المجتهد ( 2/58 ) ؛ المهذب ( 2/77 ) ؛ مغني المحتاج ( 3/287 ) ؛ المغني ( 10/245 ) .(4/19)
الثالث : أن يستحكم الغضب بصاحبه ويشتد به فهو قد تعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره ، فهذا موضع الخلاف محل النظر(1) .
المبحث الأول : حكم طلاق الغضبان :
اختلف العلماء في طلاق الغضبان على التفصيل السابق على قولين :
فذهب الأحناف وبعض الحنابلة أن طلاق الغضبان لَغْوٌ لا غبرة به(2) .
وذهب المالكية والحنابلة أن طلاق الغضبان واقع معتبر(3)
__________
(1) هذا التقسيم لأنواع الغضب هو تقسيم ابن القيم له كما في إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( 39 ) ؛ زاد المعاد ( 5/215 ) ؛ وقد نقله الرحيباني في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى ( 5/322 ) ؛ وابن عابدين في حاشيته ( 2/427 ) ؛ وقد قارن بينه وبين رأي الأحناف ، ونقله أيضًا الجزيري في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ( 3/294 ) .
(2) حاشية ابن عابدين ( 2/427 ) ؛ وانظر : الفقه الإسلامي وأدلته ( 7/365 ) ؛ وطلاق الغضبان ص ( 32 ) ؛ الفروع لابن المفلح ( 6/340 ) .
(3) حاشية الشرح الكبير ( 2/366 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ شرح منتهى الإرادات ( 3/120 ) ؛=
= …مطالب أولي النهى ( 5/352 ) ؛ الروض المربع وحاشيته ( 6/490 ) ، وقد نسبت هذا القول للحنابلة لاتفاق الإقناع والمنتهى عليه وما اتفقا عليه فهو المذهب .
……أما الشافعية فإني قد خرجت على مذهبهم إلغاء طلاق العضبان إذ لم أجد لهم نصًا كما أشرت من قبل . وخرجت على اشتراطهم القصد في الطلاق ، مغني المحتاج ( 3/287 ) ، وهذا الغضبان قد حال غضبه بينه وبين نيته ، وكذا على اشتراطهم في المطلق الاختيار وإلغائهم طلاق زائل العقل ، المهذب ( 2/77 ) .
……وكذا أن الشافعي لا يوقع الطلاق بالكناية في حال الغضب بلا نيته كما ذكره صاحب المغني ( 10/361 ) ، هذا ويشكل عليه أمران :
…الأول : أنهم أوقعوا الطلاق بصريح لفظه بلا نية ، مغني المحتاج ( 3/279 ) .
…والثاني : أن إيقاع طلاق الغضبان هو الذي يفهم من كلام ابن حجر ونقله في الفتح ( 9/301 ) . ولله الأمر من قبل ومن بعد .(4/20)
.
الأدلة :
استدل الأحناف ومن وافقهم بعدة أدلة :
إن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق )) (1) . والإغلاق يتناول الغضبان فإنه قد انغلق عليه رأيه(2) .
قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } قال ابن عباس : ( لغوا اليمين أن تحلف وأنت غضبان ) (3) فلما رفع الله المؤاخذة عن الغضبان فيما تلفظ به علمنا إلغاءه لكلامه ومنه طلاقه(4) .
قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } وما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق ونحوه هو من نزغات الشيطان فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارًا فلا يترتب عليه حكمه(5) .
ويدل عليه حديث عطية السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الغضب من الشيطان )) (6) .
حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا نذر في غضب وكفَّارته كفارة يمين )) (7) .
__________
(1) سبق تخريجه وهو حديث حسن .
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض ( 1/134 ) وقد سبقت الإشارة إليه .
(3) أخرجه ابن جرير في تفسيره والبيهقي في سننه وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير ( 1/268 ) وفي سنده من لم أعرفهم .
(4) طلاق الغضبان ص ( 32 ) .
(5) طلاق العضبان ص ( 35 ) .
(6) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الآداب باب ما يقال عند الغضب برقم ( 3774 ) ؛ وأحمد في مسنده ( 4/226 ) .
(7) أخرجه النسائي في سننه كتاب الأيمان والنذور باب كفارة النذر برقم ( 3841 ) وما بعده ؛ وأحمد في مسنده ( 4/433 ، 440 ) وغيرها . والحاكم في مستدركه ( 4/305 ) ؛ والبيهقي في سننه ( 10/70 ) ومداره على محمد بن الزبير وهو متروك ، التقريب ( 2/161 ) ؛ التهذيب ( 9/167 ) . فهو حديث ضعيف جدًا ، وضعفه الألباني في الإرواء ( 8/211 ) .(4/21)
فإذا كان النذر الذي أثنى الله على من أوفى به قد أثر الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده فالطلاق أولى وأحرى(1) .
حديث أبي بكرة مرفوعًا : (( لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان )) (2) . ولو لا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينه عن الحكم حال الغضب فدل على نفي القصد فيبطل قوله ومنه طلاقه(3) .
أن السكران بسبب مباح طلاقه غير واقع لأنه غير قاصد للطلاق ومعلوم أن الغضبان كثيرًا ما يكون أسوأ حالاً من السكران(4) .
المناقشة :
1- …أما حديث عائشة رضي الله عنها في الإغلاق فإنه خارج محل المنزاع إذ هو في الإغلاق ،
والإغلاق ليس هو محض الغضب . قال ابن القيم : ( قال شيخنا : الإغلاق إنسداد باب العلم والقصد عليه ) (5) وهذا طلاقه غير واقع بالاتفاق وهو الحالة الثانية من تقسيم الطلاق .
2- …أما تفسير ابن عباس فغير صحيح . قال ابن رجب : ( لا يصح إسناده ) (6) ، هذا وقد نقل عنه في تفسير الآية غير ذلك فقد أخرج ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير ( 1/268 ) عن سعيد بن جبير عنه أن لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك قال ابن رجب : ( صح عن غير واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة ) (7) .
__________
(1) طلاق الغضبان ص ( 41 ) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب هل يقضي القاضي وهو غضبان برقم ( 7158 ) ؛ ومسلم في صحيحه كتاب الأقضية باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان ( 1717 ) ؛ والترمذي في جامعه كتاب الأحكام باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان رقم ( 1324 ) ؛ وأحمد في مسنده ( 5/52 – 182 )
(3) طلاق الغضبان ص ( 43 ) .
(4) طلاق الغضبان ص ( 45 ) .
(5) تهذيب السنن ( 6/187 ) .
(6) جامع العلوم والحكم ص ( 149 ) .
(7) المصدر السابق ص ( 149 ) ؛ وانظر : تفسير ابن كثير ( 1/268 ) ؛ وعون المعبود ( 9/116 ) حيث ذكرا عددا من الروايات فيه تؤيد ما قاله .(4/22)
3- …أما القول بأن ما يتكلم به الغضبان هو من نزغات الشيطان فلا يترتب عليه حكمه ، فهذا غير صحيح فإن معناه أن ما كان أثرًا لنزغات الشيطان فلا حكم له وهذا ظاهر البطلاق فإن غالب معاصي ابن آدم وسيئاتهم إنما هي من نزغات الشيطان ووساوسه أعاذنا الله وأياكم منها .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال فلو لا أنه مكلف مؤاخذ لما أمر بذلك والله تعالى أعلم(1) .
وأما حديث عمران فهو ضعيف كما سبق .
وأما حديث أبي بكرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلف الحاكم حال غضبه فدل على عدم خروجه عن التكليف ؛ ثم إن الحكم يرتبط بحق الغير وليس كالطلاق فإنه مختص باللافظ فقط .
وأما قياسه على السكران فهو صالح للمرتبة الثانية دون ما نحن بصدده وذلك لأن السكران غير عالم بما يقول . قال تعالى : { يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ، وتقدم أن صاحب المرتبة الثانية هو من بلغ به الغضب نهايته فأزال عقله حتى لا يعلم ما يقوله والله تعالى أعلم .
وقد استدل المالكية والحنابلة لقولهم بما يلي :
__________
(1) من ذلك حديث (( إذا غضب أحدكم فليتوضأ )) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب ما يقال عند الغضب برقم ( 4774 ) ؛ وأحمد في مسنده ( 4/226 ) عن عطية بن سعد .(4/23)
عن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها فغضب فظاهر منها وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه وضجر ، وإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تشكوا إليه ما تلقى من سوء خلقه فأنزل الله آية الظهار وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفارة في قصة طويلة(1) . فهذا الرجل ظاهر في غضبه فألزم بالكفارة ولم يلغه لكونه غضبانًا والظهار كالطلاق(2) .
عن أبي العالية أن خولة غضب زوجها فظاهر منها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته . قالت إنه لم يرد الطلاق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه وذكر القصة وفي آخرها قال فحول الله الطلاق فجعله ظهارًا(3) .
قال ابن رجب في جامعه ص ( 149 ) : ( فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى حينئذ أن الظهار طلاق وقد قال إنها حرمت عليه بذلك يعنى لزمه الطلاق فلما جعله الله ظهارًا مكفرًا ألزمه بالكفارة ولم يلغه ) (4) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه كتاب الطلاق باب الظهار رقم ( 2063 ) ؛ والحاكم في مستدركه ( 2/481 ) ؛ والبيهقي في سننه ( 7/382 ) ورجاله ثقات . وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أحمد في مسنده ( 6/46 ) ؛ وابن جرير في تفسيره ( 28/5 ) وغيرهم .
(2) انظر : جامع العلوم والحكم ص ( 149 ) ؛ وزاد المعاد ( 5/325 ) .
(3) أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير ( 4/321 ) ، ابن حجر ( 28/5 ) ، والبيهقي ( 7/392 ) . وله شاهد عن ابن عباس عند البيهقي أيضًا .
(4) قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الظهار طلاقًا نص عليه في رواية ابن أبي حاتم ، وفيه : ( وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يطلق امرأته قال أنت علي كظهر أمي .. ) الحديث ، وذكر ذلك ابن حجر في الفتح ( 9/342 ) ، وابن القيم في زاد المعاد ( 5/325 ) ، وقال إن أوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق وذكره ابن كثير في تفسيره ( 4/321 ) .(4/24)
وقد يرد على الحديثين اعتراض بأن المراد به الحالة الأولى حيث يكون الغضب في مبادئه فأقول قد ورد الحديث بذكر الغضب مطلقًا عامًا إذ إنه لم يستفصل وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، فتدخل الحالات الثلاث فيه ويكون كل من طلق في غضب ألزم بطلاقه ، وخص الإجماع الحالة الثانية حين يبلغ الغضب أشده فتخرج ، وتبقى الحالتان الأخريات مرادتين بهذا الحديث .
ما روي عن مجاهد عن ابن عباس أن رجلا قال له إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان فقال ابن عباس لا أستطيع أن أحل لك ما حرم الله عليك عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك(1) .
قول الحسن : ( طلاق السنة يطلقها واحدة طاهرًا من غير جماع وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض ، فإن بدا له يراجعها كان أملك بذلك ، فإن كان غضبان ففي ثلاث حيض أو ثلاثة أشهرٍ إن كانت لا تحيض ، ما يذهب غضبه ) (2) .
أن القاعدة الفقهية تقول : ( دلالة الأحوال تختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يوافقها ورد ما يخالفها وتترتب عليها الأحكام بمجردها ) (3) .
قال ابن رجب في قواعده : ( يتخرج على القاعدة مسائل منها : كنايات الطلاق في حالة الغضب والخصومة لا تقبل دعوى إرادة غير الطلاق بها ) اهـ .
وفيما ذكره خلاف ذكره صاحب المغني ( 10/360 ) وهذا في كنايات الطلاق ففي صريحه أولى وأحرى ، قال في المغني : ( والغضب هاهنا يدل على قصد الطلاق فيقوم مقامه ) اهـ .
الترجيح :
يتبين مما مضى أن الراجح هو ما ذهب إليه المالكية والحنابلة ومن وافقهم من إيقاع الطلاق على الغضبان على التفصيل المذكور وذلك لأمور :
قوة أدلتهم .
__________
(1) أخرجه الدارقطني في كتاب الطلاق ( 4/13 ) ، والجوزجاني وإسناده صحيح وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 9/275 ) .
(2) أخرجه القاضي إسماعيل كما في جامع العلوم والحكم ص ( 149 ) .
(3) القواعد لابن رجب ص ( 322 ) ، القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة .(4/25)
صراحتها وقوة صلتها بالمسألة .
ضعف أدلة المخالفين لما ورد عليها من المناقشة .
أن القاعدة الشرعية أن الأصل في الأبضاع التحريم فالواجب التثبيت في أمرها والتنبّه لها(1) .
وقد اختار هذا القول من المحققين ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى والله أعلم .
الخاتمة :
بعد هذه الجولة الماتعة في كتب أهل العلم من فقهاء ومحدثين ومفسرين وأصوليين نخلص هنا إلى أمور :
وقوع طلاق المكره بحق دون المكره بغير حق .
الغضبان الذي لم يغم عليه فطلاقه واقع .
وهنا أنبه إلى أن الطلاق إنما شرع لحل قيد الزوجية عند تعذر إتمام الزواج والبقاء عليه فلا ينبغي أن يجعل وسيلة لأمور أخرى كما يفعله بعض الجهلة كأسلوب تهديد ، أو وسيلة تأديب أو طريقة تربية ، أو يمينًا يحلف عليها في كل حال فإن هذا كله من اتخاذ آيات الله هزوًا والله المستعان .
والحمد لله أولاً وآخرًا ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
__________
(1) ممن ذكر هذه القاعدة السيوطي في الأشباه والنظائر ص ( 135 ) ؛ وابن سعدي في رسالته في القواعد الفقهية ص ( 32 ) .(4/26)
من أحكام الأسهم
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد :
فإن دين الإسلام هو الدين الذي ختم الله تعالى به الأديان ، وهو الدين الذي لا يقبل الله تعالى من أحد أن يتديّن بغيره ؛ قال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }(1)، فلمّا كان الإسلام بهذه المثابة كان صالحًا لكل زمان ومكان ، ولذا فهو يجمع بين التطور والثبات ، القواعد التي قررها الله تعالى في كتابة وقررها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في سنته وأجمع عليها أئمة الإسلام قواعد ثابتة لا تتغير ولا تتبدل يستضيء بها المجتهد في كل نازلة ومسألة تلم بالمسلمين ، ومهما حصل للمسلمين من قضايا ونوازل حديثة أو قديمة سواء كانت تتعلق بنفس الإنسان أو تجارته أو طريقة تنقله أو بعلاجه وتطبيبه ودوائه فإنّه سيجد في قواعد الشريعة الثابتة بيانًا لحكم هذه المسألة ، ولذا كانت هذه الشريعة متطورة مع ما فيها من الثبات ؛ لأنها وضَعَت القواعد التي يمكن للإنسان أن يعرف من خلالها حكم كل واقعة ، وبذلك يصبح للمجتهد القدرة على أن ينظر في كل نازلة تقع ويبيّن حكمها الشرعي . وهذه الشريعة لم تترك تصرفًا من تصرفات الإنسان إلا وبينت فيه حكمًا يمنّ الله به على من يشاء من عباده ؛ فإنّ الفقه في الدين منة من الله تعالى لعبادة لا يعطيها كل أحد ؛ قال صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين )(2).
__________
(1) سورة آل عمران آية 85 .
(2) صحيح البخاري ( 71 ) ؛ صحيح مسلم ( 1037 ) .(5/1)
وبحمد الله فإنَّ هذه الشريعة لا تأتي بشيء يعارض الفطرة، ولذا حث الشرع على تحصيل المال كما قال تعالى: { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }(1) وليس جمع المال محظورًا ، إنما المحظور أن يجمع المال من الحرام ومن الحلال.
عن أبي برزة الأسلمي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسمه فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ) (2) .
فالإنسان مسئول في هذا المال عن طريقة الإنفاق وطريقة الكسب . ولذا فإنَّ معرفة طرق الكسب المباحة وطرق الكسب المحرمة من أهم ما ينبغي لمن أراد أن يدخل في أي تجارة من أنواع التجارات .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقّه في الدين ) (3) .
…وفيما يلي عرض موجز لطريقة اكتساب معاصرة نلقى الضوء عليها بما أرجو أن يكون نافعاً والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.
تمهيد
…نشهد هذا العصر تطورات اقتصاديّة كثيرة تحتّم أن تتم الأعمال عن طريق تكاتف أعداد كبيرة من المساهمين لتجميع مبالغ ضخمة يمكن من خلالها إنشاء المشاريع الكبيرة التي لا يكفي في إنشائها رؤوس أموال بسيطة .
…كما توجه كثير من الناس إلى البحث عن طرق يتمكنون بها من استثمار مدخراتهم القليلة، والتي لا يمكنهم من خلالها إنشاء مشاريع مستقلة، وذلك عن طريق اجتماع عدد منهم لتحصيل رأس المال المطلوب.
…وتزايدت هذه الحاجة مع تزايد الرغبة في تنويع وتكثير مصادر الدخل لوجود الإكباب على الدنيا والحرص على التزيّد منها ، ولوجود الضغوط الحياتية المعاصرة .
__________
(1) سورة العنكبوت آية 17 .
(2) سنن الترمذي ( 2417 ) وقال حديث حسن صحيح .
(3) سنن الترمذي ( 487 ) وقال هذا حديث حسن غريب .(5/2)
…كما أن وجود الشراكات في المنشآت التجارية يحقق لها الاستقرار والاستمرار ؛ لأنها بذلك لا تتأثر بحياة ما لكيها وهذا يدعم النهضة الاقتصادية .
…ومن هنا وجدت الحاجة إلى وجود الشركات بأنواعها خاصّة المساهمة منها.
…وأصل مبدأ الشراكة موجود في العصور الماضية ، حتى وجدت بعض القواعد المتعلّقة به في مدونات الرومان ، ولذا تناولها الفقهاء في باب مستقل وهو باب الشركة ، وبينوا جملة من أحكامها ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمال لخديجة رضي الله عنها ليتاجر به (1) وهذه شراكة بينهما ، ومضاربة بمالها .
…ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وقسمها بين أصحابه ، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمار مقابل عملهم (2) ، وهذا نوع من أنواع المشاركات التي تعتمد على بذل المال من أحد الطرفين ، والقيام بالعمل من الطرف الآخر وهو الذي يسمى : ( شركة المضاربة ) المعروفة في الفقه الإسلامي .
…وفي هذا العصر وجدت للشركات تسميات جديدة ، واستحدث لها أساليب جديدة .
…ومن هذه الشركات: الشركات المساهمة.
…والشركة المساهمة: هي الشركة التي ينقسم رأس مالها إلى أسهم متساوية قابلة للتداول، ويكون الشريك مسئولاً عن ديون الشركة بقدر حصّته. (3)
…وهي شركة تعتمد على جمع أموال المكتتبين على قدر طاقتهم لتحقيق رأس المال المطلوب لها.
…وأغراضها متعددة، فقد تكون تجاريّة، أو صناعية، أو زراعية.
__________
(1) المستدرك للحاكم ( 3/182 ) وصححه وأقره الذهبي ؛ مصنف عبد الرزاق ( 5/319 ) وهو مشهور في كتب السيرة وإن كانت أسانيده ضعيفة .
(2) صحيح البخاري ( 2285 ) ؛ صحيح مسلم ( 1551 ) .
(3) الشركات التجارية في النظام السعودي ، الغرفة التجارية الصناعية بالرياض ص 42 .(5/3)
…وهذه الشركة نوع جديد من المعاملات ينطبق عليها وصف شركة المضاربة، أو شركة العنان والمضاربة، ولكن مع زيادة شروط لم تكن في الشركات السابقة، وهذه الشروط الأصل فيها الإباحة إلا إذا دل دليل على التحريم. لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلمون على شروطهم ، إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا ) (1) .
…قال ابن القيم: " جمهور الفقهاء على أنّ الأصل في العقود والشروط الصحّة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح؛ فإنّ الحكم ببطلانها حكمٌ بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنّه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله " (2) .
…
حقيقة السهم وقيمته :
السهم نصيب معلوم من رأس مال مشترك لمجموعة من المشتركين ، وكل منهم يمثّل جزءًا من أجزاء متساوية ، وهو عبارة عن حصّة مشاعة من كامل حجم الشركة ومالكه يملك جزءًا من الشركة . (3)
وقيمته لها أنواع :(4)
قيمة اسميّة وهي التي يعلن عنها في الاكتتاب، وينص عليها في وثيقة الاكتتاب. وهي القيمة التي يدفعها المكتتب .
قيمة دفتريّة ( حقيقيَّة ) وهي النصيب الذي يستحقّه صاحب السهم في صافي أموال الشركة بعد حسم ديونها ويتم تحديده بعد معرفة موجوداتها وممتلكاتها .
القيمة السوقية وهي قيمة السهم في السوق عند التداول بالبيع والشراء.
__________
(1) أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به في كتاب الإجارة باب أجرة السمسرة ، سنن الترمذي ( 1352 ) ؛ سنن أبي داوود ( 3594 ) ؛ سنن ابن ماجة ( 2353 ) ؛ مسند أحمد ( 366/2 ) وسنده حسن .
(2) إعلام الموقعين ( 1/344 ) . وانظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ( 29/346 ) .
(3) فقه الزكاة ، د. يوسف القرضاوي ( 1/521 ) .
(4) الشركات في النظام السعودي ، عبد العزيز الخياط ( 2/95 ) ؛ الأسهم والسندات وأحكامها ، أحمد الخليل ص 61 .(5/4)
فإذا حُلّت الشركة وانتهت نقدر قيمة السهم بالقيمة الحقيقية فقط والمفترض أن تكون قيمة السهم السوقيّة مماثلة لقيمته الحقيقيّة ، لكن بعض الظروف قد تؤثر على قيمة السهم السوقية .
عوامل تفاوت قيمة الأسهم السوقية :
القيمة السوقية يتحكم فيه:
العرض والطلب.
الأمل المعقود على الشركة في نوعية إنتاجها والحصول على أرباح منها .
ما تدفعه من أرباح للمساهمين .
الأوضاع والظروف السياسية للدولة، فالدول المستقرة ترتفع فيها قيمة الأسهم والدول غير المستقرة سياسيًا تنخفض قيمة الأسهم فيها.
مكان تداول الأسهم: (1)
يتم تداول الأسهم في سوق أسهم قد يسمّى: ( بورصة الأسهم ). والبورصة سوق منظّم تنظيمًا خاصًّا، تتم العمليات فيه بواسطة وسطاء.
وأسواق الأسهم قد تكون أسواقًا أوليَّة، وهي التي يتم فيها إصدار الأسهم، أما الأسواق الثانويّة فهي التي تتم فيها تداول الأسهم.
والآن في المملكة العربيّة السعوديّة يتم إصدار الأسهم وتداولها عبر البنوك؛ لأنّه لا توجد أسواق خاصّة بالأسهم.
المسألة الأولى: هل يجوز بيع الأسهم وشراؤها ؟
…استقر رأي جماهير الفقهاء المعاصرين على جواز تداول الأسهم المباحة، وبعض الفقهاء يحرم تداولها ومن أدلّتهم:
أنَّ السهم جزء مجهول من رأس مال الشركة لا يعلم تحديده وبيع المجهول لا يجوز؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر(2) .
أن جزءًا من السهم أموال نقديّة ، أو ديون فبيع السهم مع اشتماله على ذلك دون تحديد مقداره تمامًا يكون مبادلة مال ربوي بمثله مع الجهل بالتماثل ، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
ويمكن أن يجاب عن ذلك:
__________
(1) انظر : أحكام السوق في الإسلام ، أحمد الدريويش ص 49 فما بعدها .
(2) صحيح مسلم ( 1513 ) .(5/5)
بأنه يمكن تحديد مقدار السهم ومكوناته من خلال دراسة القوائم المالية للشركة ، ولو بقي بعد ذلك جهالة يسيرة فإنها تكون مغتفرة للقاعدة المعلومة من اغتفار اليسير ، خاصّةً وأن تتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقّة ومن القواعد المقررة أن المشقّة تجلب التيسير .
وأمّا النقود والديون في الشركة فإنّها تابعة غير مقصودة ، وبذلك لا يكون لها حكم مستقل بل تكون تابعة لغيرها والقاعدة المتقررة في الفقه أنه يجوز تبعًا مالا يجوز استقلالاً .
ويدل على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ابتاع عبدًا فماله للذي باعه. إلاّ أن يشترطه المبتاع ) (1) .
فصح دخول المال في هذه المعاوضة لكونه تابعًا ، وسواء كان مال العبد موجودًا أو في ذمم الناس .
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : الأمرُ المجتمع عليه عندنا أنَّ المبتاع إن اشترط مال العبد فهو له ، نقدًا كان أو دينًا أو عرضًا ، يُعْلم أو لا يُعْلم ، وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشترى به ، كان ثمنه نقدًا أو دينًا أو عرضًا . (2)
وبما سبق يظهر جواز بيع الأسهم والله أعلم(3) .
المسألة الثانية: شروط إباحة تداول الأسهم المباحة:
…ما سبق من أنّ الصواب إباحة تداول الأسهم مشروط بشروط، وليست الإباحة مطلقة وهذه الشروط و الضوابط هي:
أن يكون موضوع نشاط الشركة مباحًا وسيأتي تفصيل لهذا الضابط .
__________
(1) صحيح البخاري ( 2379 ) ؛ صحيح مسلم ( 3905 ) ( 1543 ) .
(2) الموطأ ص 394 ، كتاب البيوع ، باب ما جاء في مال المملوك .
(3) انظر فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ( 7/42 ، 43 ) ؛ الشركات للشيخ علي الخفيف ص 96 ، 97 ؛ المعاملات المالية المعاصرة لعثمان شبّير ص 167 ، 168.(5/6)
أن يكون تداول الأسهم بعد أن تبدأ الشركة في نشاطها الفعلي وذلك بأن تتملك بعض الأصول أو تشرع في بعض أعمالها أمّا قبل بدئها في نشاطها الفعلي فإنّه لا يجوز بيع الأسهم إلا بالقيمة الاسمية لها فقط.
والسبب أنَّ السهم قبل بدء الشركة في نشاطها الفعلي عبارة عن نقود فقط فإذا باع الإنسان سهمه فيكون قد باع نقدًا بنقدٍ فهنا لابد من التقابض والتماثل . أما إذا شرعت الشركة في نشاطها وتحولت أموالها - أو بعضها - إلى سلع وخدمات فهنا تخرج عن مسألة الصرف ويكون النقد تابعًا كما سبق.
من أهل العلم من يشترط لجواز شراء الأسهم أن يكون المقصود اقتناء وتملك الأسهم، أما اتخاذ الأسهم سلعة تباع وتشترى بقصد كسب فرق السّعر المتغيّر دون أن يكون له غرض في أسهم الشركة ولا يريد تملك أسهمها فهذا محرم عنده. (1)
ومع وجاهة هذا القول إلا أنّه يخالف المعلوم من إباحة البيع والشراء سواء كانت رغبة المشتري تملك الشيء أو بيعه بعد رواجه.
المسألة الثالثة: أقسام الشركات من حيث حكم نشاطها:
تنقسم الشركات إلى ثلاثة أقسام :
شركات محرمة محظورة وهي التي أُنشئت أصلاً للمتاجرة في المحرمات مثل شركة أُنشئت لبيع الخمور أو أُنشئت للعقود المحرمة مثل شركات التأمين التجاري والمصارف الربويّة فهذه لا يجوز للإنسان أن يساهم فيها ولا أن يكتتب فيها ولا يجوز إنشاؤها ولا التصرف فيها بيعًا وشراءً .
شركات أصل نشاطها مباح لكن دخل عليها بعض الاستثمارات المحرمة مثل التمويلات والاستثمارات المحرمة كقروض ربوية أو بعض العقود الفاسدة وهذه يسميها المعاصرون : ( شركات مختلطة ) .
شركات أصل نشاطها مباح ولم تتعاطَ العقود المحرمة والاستثمارات غير المباحة ويسميها المعاصرون: ( شركات نقية ) وهذا التقسيم إجمالي.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع ( 1/270 ، 576 ).(5/7)
…ولابد عند إرادة الحكم على الشركة أن يراعى هل تتعامل بعقود محرمة أو لها استثمارات محرمة سواء في الربا أو غيره من المعاملات وسواء في ذلك القوائم الأخيرة أو ما قبلها ، وأن لا يكتفى بآخر القوائم المالية ، حتى يتحقق من وجود المال المحرم من عدمه .
المسألة الرابعة: حكم تداول أسهم الشركات حسب نشاطها:
أولاً : لا شك أن كل من يرضى بإجراء العقود المحرمة والاستثمارات المحرمة أنه آثم ومعرض نفسه للوعيد الشديد الذي بينه الله تعالى في كتابه وبينه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته والإنسان أيضًا لا يجوز له عند أي من فقهاء الإسلام أن يأكل جزء من المال المحرم بل لابد أن يخرج الحرام من ماله .
كذلك كل من يستطيع أن يمنع الشركة من تعاطي العقود المحرمة بأن كان عضوًا في الجمعية العمومية للشركة أو عضوًا في مجلس الإدارة ويستطيع أن يمنع شيئًا من المحرمات فإنه لابد أن يمنعه وإذا لم يمنع هذا العقد المحرم فهو آثم .
والشركة التي أصل نشاطها غير مباح لا يجوز للإنسان أن يساهم فيها والله تعالى يقول : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين {278} فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون }(1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء ) (2) .
و السبب في هذا أن الشريك موكّل للعامل في المال، ولا يجوز للإنسان أن يوكل شخصًا أن يأخذ له ربا، أو يجري له عقدًا محرّمًا.
__________
(1) سورة البقرة ( 278، 279 ) .
(2) صحيح مسلم ( 1598 ) .(5/8)
قال ابن القيم رحمه الله: " المضارب ( يعني العامل الذي يأخذ الأموال ويتاجر فيها ) أمين وأجير ووكيل وشريك فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرّف فيه، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح "(1)
كما لا يجوز لشخص أن يوكّل أحد أن يعمل له عملاً محرّمًا أو يجري له عقدًا فاسدًا أو يستثمر له استثمارًا محظورًا ، فكذلك لا يجوز للإنسان أن يشترك مع إنسان آخر ليجري له عقودًا محرمة بحكم الشراكة .
ومن هنا نعلم أن التعامل بأسهم سلة شركات مساهمة لا يعرف حقيقة نشاط تلك الشركات ولا يلتزم القائمون عليها كونها مباحة النشاط؛ لا ينبغي لجهالة حالها.
ثانيًا: الشركات النقية إذا تحقق فعلاً أنها نقية فإنه لا حرج في تداول أسهمها وتملكها والمشاركة فيها سواء بالاكتتاب أو المضاربة.
ثالثًا : الشركات المختلطة هذه لا إشكال أن مجلس الإدارة فيها يأثم لتعاطيه العقود الفاسدة ، ولا إشكال أيضًا أن الإنسان إذا حصّل ربحًا من شركة مختلطة أنه لابد أن يخرج الجزء الذي يقابل نسبة الحرام في الشركة .
وقد اختلف فقهاء العصر في حكم تداول أسهم هذه الشركات والمشاركة معها والمساهمة فيها على أقوال:
وهي التحريم مطلقًا والإباحة مطلقًا والتفريق بين ما تكون نسبة الحرام فيها قليلةً وبين ما تكون نسبته فيها كثيرةً على تفاوت بينهم في تحديد النسبة المذكورة.
والمختار من هذه الأقوال هو تحريم الاكتتاب في الشركات المختلطة وبيعها وشراؤها.
وهو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته السابعة(2) .
واختارته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية(3) .
__________
(1) بواسطة حاشية الروض المربع للشيخ عبد الرحمن بن قاسم ( 5/253 ) .
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي ( 7/1/712 ) .
(3) فتاوى اللجنة ( 13/407 ) .(5/9)
وسبب التحريم: أن يد الشريك هي نفس يد الآخر في الحكم، وكما لا يجوز للإنسان أن يباشر الحرام بنفسه فإنه يحرم عليه أن يباشره بواسطة وكيله، وتقدم أن الشريك وكيل. قال ابن القيم رحمه الله: " وما باعوه – أي أهل الذِّمة – من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه، وثمنه حلال لاعتقادهم حله، وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسد؛ فإن الشريك وكيل، والعقد يقع للموكّل "(1) .
وقد ذكر السيوطي قاعدة في الأشباه والنظائر(2) فقال : من صحّت منه مباشرة الشيء صح توكيله فيه غيره ، وتوكله فيه عن غيره ، وإلا فلا .
كما أن المال الحرام يشيع في مال الشركة وإخراج النسبة المحرمة من سهمه فقط قد تطهر المال ؛ لأنه ستبقى فيه حصّة شائعة من الحرام عند بعض أهل العلم قال ابن رشد : " لا يجوز له أن يأكل منه شيئًا - أي من ماله الذي خالطه الربا - حتى يرد ما فيه من الربا ؛ لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعًا فيه "(3) .
كما أن في هذه المساهمة تعاونًا على الإثم وقد نهى الله عنه بقوله تعالى: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }(4) .
وفيه استمراء للربا، وتعطيل للسعي لتحويل الاستثمارات إلى استثمارات شرعيّة خالصة.
المسألة الخامسة : كيفية التخلص من الأرباح الحاصلة عن التعامل بالأسهم المحرمة :
من المهم بداية أن نقرّر أن من تعامل معاملة يعتقد أنها صحيحة بناء على اجتهاد أو فتوى وحصل التقابض فيها ثم تبيّن له ترجيح أنّها غير مباحة وأنه أخطأ فأخذه وتصرفه بهذا المال الحاصل من المعاملة المذكورة لا حرج فيه ، وإنما عليه أن يمتنع في المستقبل عنها .
__________
(1) أحكام أهل الذمة ( 1/274 ) .
(2) ص 261 .
(3) البيان والتحصيل ( 18/195 ) .
(4) سورة المائدة آية 2 .(5/10)
قال ابن تيمية : " وهكذا كل عقدٍ اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقرير ... فإنّ هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة ، لم تنقض بعد ذلك ، لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد .
أمّا إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل القبض أو استفتياه ، إذا تبيّن لهما الخطأ فرجع عن الرأي الأوّل فما كان قد قبض بالاعتقاد الأوّل أُمضي ، وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربويّة اسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأوّل " .(1)
…أمّا إذا كان إقدامه على المعاملة دون استفتاء أو اجتهاد فإن الواجب عليه أن يخرج من ماله ما كان فيه من حرام لأنه لا عذر له.
…عليه فمن أراد التخلص من المال المحرم الذي دخله بمثل هذه العقود فإنه لا يخلو من أحد ثلاث حالات:
…الحالة الأولى: أن يقبض ربحًا من عائد أسهمه، فهذا عليه أن يخرج نسبة العقود المحرمة والاستثمارات غير المباحة من الربح.
الحالة الثانية: أن يحصّل ربحًا نتيجة ارتفاع سعر السهم والمضاربة به فهذا عليه أن يخرج النسبة المحرمة من قيمة السهم كاملة؛ لأنّه قد باع حلالاً وحرامًا فصح في الحلال دون الحرام كمسائل تفريق الصفقة.
فإن علم مقدار الحرام وإلا تحرى وأخرج ما تطمئن إليه نفسه أن به يطيب ماله .
الحالة الثالثة : أن يحصّل ربحًا من بيع أسهم محرمة ( غير مختلطة ) فهنا يكون قد باع حرامًا لا شبهة فيه فعليه أن يخرج كامل القيمة التي حصلها ، فإنّ ما حرم شراؤه حرم بيعه(2)
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 29/412 ، 413 ) .
(2) هذه المسألة وهي طريقة التخلص من الأرباح لم أقف على تفصيل واف فيها . والذي اخترته ورصدته بعاليه هو ما تطمئن إليه النفس ولولا طبيعة المحاضرات لاحتاج الأمر إلى زيادة بسط في تقريره .
وقد وقفت على قول من يجيز بيع الأسهم المحرمة على أن يسترد البائع رأس ماله فقط ويتصدّق بالباقي ، ويرد عليه أنّه بيع للحرام والحرام غير مملوك ، ورأيت من يجيز أخذ الأرباح كاملة في عمليات مضاربة الأسهم المختلطة بالحرام ويجعل الأسهم عروضًا غير مرتبطةٍ برأس مال الشركة ، وهذا لا أدري كيف يوصف عوائد الأسهم للمستثمرين فيها مادامت ليست جزءًا من رأس المال .(5/11)
.
والمراد بإخراج القيمة أو النسبة أن ينفقها في وجوه البر، بقصد التخلّص من المال الحرام، وليس بنيّة الصدقة؛ لأنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيبًا.
المسألة السادسة: بيع الاسم لأجل الاكتتاب به من غير صاحبه ( بيع حق الاكتتاب ):
والمقصود أن يمكّن شخصٌ غيره من أخذ أوراقه الثبوتية المتضمنة لاسمه وأسماء أفراد عائلته ليكتتب في إحدى الشركات بأسمائهم ويعطيه في مقابل ذلك مبلغًا ماليًا .
وسبب ذلك أن بعض الشركات قد توزع نسبةً من الأسهم لكل مكتتب بمقدار متساوٍ عند كثرة المكتتبين فإذا اكتتب بأسماء كثيرة حصَّل نسبةً أكثر من الأسهم.
وهذا العمل لا يجوز أخذ العوض عليه ؛ لأنّ المعقود عليه وهو الاسم الشخصي ليس ملكًا لصاحبه وليس مالاً يقبل المعاوضة ، كما لا يمكن اعتباره حقًا معنويًا كالاسم التجاري ؛ لأن الاسم التجاري يجذب العملاء ويميّز السلعة أما استعمال الاسم الشخصي فليس له فائدة إلا أخذ نصيب الغير .
ولابد أن يفرّق الإنسان بين ملك المنفعة وملك الانتفاع.
وقد أوضحه القرافي فقال : " تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط ، وتمليك المنفعة أعم وأشمل ، فيباشر بنفسه ، ويمكّن غيره من الانتفاع بعوض وبغير عوض .
مثال الأوّل: سكنى المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق، فله أن ينتفع بنفسه فقط. ولو حاول أن يؤجر أو يعاوض عليه امتنع ذلك ..
وأمّا مالك المنفعة فكمن استأجر دارًا أو استعارها فله أن يؤجرها من غيره .." (1)
كما أن بيع الاسم الشخصيّ في حقيقته تحايل على الشركة المكتتب فيها، وعلى النظام العام الذي يقصد توزيع الأسهم بالتعادل بين المكتتبين لتنتفع أكبر شريحة من الناس. ففيه غش وتغرير وهما حرام.(2)
المسألة السابعة: مخالفات شرعيّة في تداول الأسهم:
__________
(1) الفروق ( 1/187 ) .
(2) انظر في المعاوضة على الاسم الشخصي : فتاوى اللجنة الدائمة ( 15/106 ) .(5/12)
ومن هذه المخالفات : البيع الآجل ، والبيع على المكشوف ، والشراء بالهامش ( المارجن ) ، وأعمال النجش والتجمعات القاصدة للتحكم بسوق الأسهم بما يضر المتعاملين به .
فالبيع الآجل : بيع يتم فيه عقد صفقات لبيع أسهم لكن يشترط فيها أن يكون الدفع والتسليم بعد فترة محددة . (1)
والبيع على المكشوف : أن يستقرض المستثمر عددًا من أسهم شركة يتوقع انخفاض قيمتها ، ثم يبيعها مباشرة ويسلّم قيمتها لمن اقترضها منه رهنًا .
فإن حصل ما توقعه من انخفاض قيمة السهم فإنه يشتري مثل تلك الأسهم التي اقترضها ويعيدها لمن اقترضها منه، وبذلك يكسب الفرق بين سعر الشراء والبيع(2).
والشراء بالهامش: أن يشتري العميل أسهمًا بمبلغ لا يملكه كاملاً، فيدفع جزءًا من القيمة والباقي يقترضه من المشتري بفائدة، ويبقى السهم مرهونًا للبائع ضمانًا لحقوقه(3).
فالبيع الآجل نوع من بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ (4) وانعقد الإجماع على معنى الحديث .(5)
__________
(1) أسواق الأوراق المالية ، سمير رضوان ص 332 .
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس ( 2/1602 ).
(3) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس ( 2/1601 ).
(4) المستدرك للحاكم ( 2/57 ) ؛ سنن الدارقطني ( 3/71 ) ؛ سنن البيهقي ( 5/290 ) وهو حديث ضعيف قال الإمام أحمد : ليس في هذا حديث يصح ، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين . التلخيص الحبير ( 3/26) ، ومعنى الكالئ بالكالئ أي : الدين بالدين .
(5) الإجماع لابن المنذر ص 104 ؛ مجموع فتاوى ابن تيمية ( 20/512 ) .(5/13)
قال ابن تيمية : " النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ، وهو المؤخّر بالمؤخّر ، .. فالعقود وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد، كما أنَّ السلع هي المقصودة بالأثمان، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل.. لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنيّة ومقصود العقود "(1).
والشراء بالهامش فيه اقتراض بالربا المحرّم .
والمعاملات الثلاث لا يكون المقصود فيها البيع والشراء الحقيقيّ بل المراد المراهنة والقمار على ارتفاع أو انخفاض الأسعار ، فهي معاملات تقوم على المخاطرة ، بلا إرادة للتملك ولذا لا يحصل فيها - في العادة - تسليم أوراق مالية بل يعطى أحدهما للآخر فرق السّعر فقط .
والميسر هو كل معاملة لا يخلو الداخل فيها من أن يغرم أو يغنم بناء على المخاطرة فقط. (2)
ولذا قال جمع من السلف: الميسر كل شيء فيه خطر. (3)
ولا شك أن نسبة المخاطرة في أسواق الأسهم مرتفعة جدًا، ولا نلبث أن نسمع عن أضرار كبيرة لحقت بالمضاربين جراء ما في هذه الأسواق من مخاطرة. وهذه الأضرار تكفي للمنع من هذه الصور مع ما فيها من محاذير.
وكذلك فإن النجش ، والاتفاق على التلاعب بالأسعار لأجل الكسب على حساب مستثمرين آخرين محرم ، فإن الشرع لا يبيح اكتساب المال عن طريق خداع الناس ، والإضرار حرام سواء كان بقصد الكسب أو غيره .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من غَشّ فليس منا )(4).
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 29/472 ) .
(2) شرح المحلي على المنهاج ( 4/226 ) ؛ مجموع فتاوى ابن تيميّة ( 32/242 ) ؛ تفسير القرطبي ( 3/53 ) .
(3) الكشاف للزمخشري ( 1/262 ) ؛ مجموع فتاوى ابن تيمية ( 29/46 ) .
(4) صحيح مسلم ( 101 ) .(5/14)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضرر ولا ضرار )(1) .
وكل كسب حصل للإنسان بسبب ظلمه لغيره أو خداعه له أو تغريره بالإشاعات، والأعمال الموهمة؛ فهو كسب محرم لا يحل له.
…المسألة الثامنة: حكم علاوة الإصدار:
…تعمد بعض الشركات عند طرح أسهمها للاكتتاب أن تضيف إلى قيمة السهم مبلغًا يسمى : رسم إصدار ، أو علاوة إصدار ، يقصد منه أن يغطي تكاليف إجراءات إصدار الأسهم وهذا لا حرج فيه بشرط أن تقدّر تقديرًا مناسبًا يكون ممثلاً فعلاً لما يكلفه إصدار السهم أما لو زادت على ذلك فتكون من أكل أموال المساهمين بالباطل(2).
المسألة التاسعة: زكاة الأسهم:
اختلف أهل العلم في كيفيّة زكاة الأسهم على أقوال لعل الراجح منها هو ما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي وخلاصته أن تعامل شركات الأسهم كما يعامل الأفراد بأن تخرج الشركة زكاة أسهمها كما يخرج الإنسان الواحد زكاة أمواله بالنظر لمقدار المال ونصابه ونوعه .
فإن لم تزك الشركة أموالها فإنّ المساهم من خلال حسابات الشركة يحسب مقدار الزكاة الواجبة على أسهمه بمعرفته لمقدار الزكاة الواجبة على الشركة إجمالاً ثم يخرج ما يخص أسهمه من الزكاة بنفس الاعتبار السابق.
وإن لم يتمكن من معرفة ذلك فإن كان قد ساهم بقصد الاستفادة من ريع السهم السنوي فتجب الزكاة في الرّيع ربع العشر بعد مضي الحول عليه .
وإن كان قد تملك الأسهم بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكّاها زكاة عروض تجارة بأن يخرج ربع العشر من القيمة والربح. (3)
__________
(1) سنن ابن ماجة ( 2341 ) ؛ سنن الدارقطني ( 4/228 ) وذكره النووي في الأربعين وقال عنه : حديث حسن ، وله طرق يقوي بعضها بعضًا .
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع ( 1/713 ) .
(3) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الرابع ( 1/881 ) وفيه عدة أبحاث في هذه المسألة .(5/15)
وعليه فإنَّ المساهم الذي يقصد الاستفادة من ريع السهم يخرج الزكاة بحساب القيمة الحقيقية للسهم. وأما المضارب الذي يقصد بيعها عند ارتفاع قيمتها فيحسب زكاته على أساس قيمتها السوقية؛ لأنها كعروض التجارة.
***********
وبعد فهذا ما تيسّر إيراده من أحكام في هذه العجالة. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، واغننا بفضلك عمن سواك .
اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنّعنا به، واخلف علينا كل غائبة بخير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ملحق بعض الفتاوى والقرارات في الأسهم
قرار بشأن حكم شراء أسهم الشركات
والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا(1)
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الرابعة عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت يوم السبت 20من شعبان 1415هـ، الموافق 21/1/1995م، قد نظر في هذا الموضوع وقرر ما يلي:
بما أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة أمر جائز شرعًا.
لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو تصنيع المحرمات أو المتاجرة فيها.
لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاته ربا، وكان المشتري عالمًا بذلك.
إذا اشترى شخص وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا، ثم علم، فالواجب عليه الخروج منها.
__________
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة ص 299 .(5/16)
والتحريم في ذلك واضح ، لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا ؛ ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المشتري بذلك ، يعني اشتراك المشتري نفسه في تعامل بالربا ؛ لأن السهم يمثل جزءًا شائعًا من رأس مال الشركة ، والمساهم يملك حصة شائعة في موجودات الشركة ، فكل مال تقرضه الشركة بفائدة ، أو تقترضه بفائدة ، فللمساهم نصيب منه ؛ لأن الذين بياشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابة عنه ، والتوكيل بعمل المحرم لا يجوز .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
قرار بشأن الأسواق المالية(1)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربيّة السعوديّة من 7-12 ذو القعدة 1412هـ ، الموافق 9-14 أيار ( مايو ) 1992م .
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع : (( الأسواق المالية : الأسهم ، الاختيارات ، السلع ، بطاقة الائتمان )) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ،
قرر ما يلي :
أولاً: الأسهم:
الإسهام في الشركات :
بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات ، كالربا ونحوه ، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .
ضمان الإصدار ( UNDER WRITING ):
__________
(1) مجلة المجمع ، العدد السادس ، ج 2 ، ص 1273 ، والعدد السابع ، ج1 ، ص 73 ، والعدد التاسع ، ج 2 ، ص 5 . القرار رقم 13 .(5/17)
ضمان الإصدار : هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم ، أو جزء من ذلك الإصدار ، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره ، وهذا لا مانع منه شرعًا ، إذا كان تعهد الملتزم بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد ، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه - غير الضمان - مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم .
تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب :
لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه ، وتأجيل سداد بقية الأقساط ؛ لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه ، والتواعد على زيادة رأس المال ، ولا يترتب على ذلك محذور ؛ لأن هذا يشمل جميع الأسهم ، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير ؛ لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة .
السهم لحامله :
بما أن المبيع في ( السهم لحامله ) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها .
محل العقد في بيع السهم :
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
الأسهم الممتازة:
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة ، لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية ، أو عند توزيع الأرباح .
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
التعامل في الأسهم بطرق ربوية :
لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم ، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده .(5/18)
لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم ؛ لأنه من بيع ما لا يملك البائع ، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض .
بيع السهم أو رهنه :
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة ، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقًا أو مشروطًا بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء ، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة .
إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعًا ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديرًا مناسبًا.
إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم ( خصم ) إصدار:
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة - حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة - أو بالقيمة السوقية.
تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة :
لا مانع شرعًا من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها ؛ لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة .
كما لا مانع شرعًا من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام . وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية .
حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقهم:
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلاَّ بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل؛ لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية ؛ لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة .(5/19)
قرار بشأن زكاة الأسهم في الشركات(1)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربيّة السعوديّة من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ ، الموافق 6-11 شباط ( فبراير ) 1988م .
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع زكاة أسهم الشركات ،
قرر ما يلي :
أولاً : تجب زكاة الأسهم على أصحابها ، وتخريجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك ، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية ، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة ، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه .
ثانيًا : تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما تخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله ، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة ، ومن حيث النصاب ، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي ، وذلك أخذًا بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء جميع الأموال .
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.
ثالثًا : إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب ، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم ، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة ، لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه ، زكى أسهمه على هذا الاعتبار ، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم .
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:
__________
(1) مجلة المجمع ( العدد الرابع ، ج 1 ، ص 705 ) القرار رقم 28 .(5/20)
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي ، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات ، وتمشيًا مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية ، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم ، وإنما تجب الزكاة في الريع ، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع .
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.رابعًا:ك القيمة ومن الربح ، إذا كان للأسهم ربح .
رابعًا : إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله زكاه معه عندما يجيء حول زكاته . أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق.
والله أعلم
فهرس المحتويات
الموضوعات ... الصفحة
المقدمة ... 1
التمهيد ... 3
الشركات المساهمة. ... 4
حقيقة السهم وقيمته . ... 4
عوامل تفاوت قيمة الأسهم السوقية . ... 5
مكان تداول الأسهم. ... 5
المسألة الأولى: هل يجوز بيع الأسهم وشراؤها ؟ ... 6
المسألة الثانية: شروط تداول الأسهم المباحة. ... 7
المسألة الثالثة: أقسام الشركات من حيث حكم نشاطها. ... 7
المسألة الرابعة: حكم تداول أسهم الشركات حسب نشاطها. ... 8
الشركات النقية. ... 9
الشركات المختلطة. ... 9
أقوال فقهاء العصر في حكم تداول أسهم الشركات المختلطة والمشاركة معها والمساهمة فيها. ... 9
المسألة الخامسة : كيفية التخلص من الأرباح الحاصلة عن التعامل بالأسهم المحرمة . ... 11
المسألة السادسة: بيع حق الاكتتاب ( أو بيع الاسم ). ... 12
المسألة السابعة: مخالفات شرعية في تداول الأسهم. ... 13
المسألة الثامنة: حكم علاوة الإصدار. ... 15(5/21)
المسألة التاسعة: زكاة الأسهم. ... 15
ملحق بعض الفتاوى والقرارات في الأسهم . ... 17
قرار بشأن حكم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا. ... 17
قرار بشأن الأسواق المالية. ... 18
قرار بشأن زكاة الأسهم في الشركات. ... 22
فهرس المحتويات ... 24(5/22)
أسرار المرضى
هاني بن عبدالله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فالفقه الإسلامي بأدلته العامة وقواعده وضوابطه يتسع ليشمل حياة المكلفين بجميع جوانبها ومهما حدث من مسائل ونوازل ومستجدات فسيجد الباحث المتأمل فيه توصفياً شرعياً لها يمن الله به على من شاء من عباده.
وفي هذه الأوراق نظرات عاجلة لجملة فروع يشملها كلها أنها إجراءات وأحكام في قضية من القضايا الطبيّة المعاصرة هي سريّة المعلومات المتعلقة بالمرضى، ولقد كانت دعوة كريمة من مستشفى الملك خالد للحرس الوطني بجدة بإقامة المؤتمر العالمي عن أخلاقيات مهنة الطب من منظور إسلامي، وكان من توفيق الله تعالى أن كلفت بإعداد ورقة علمية لهذا المؤتمر في هذا الموضوع، أسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه صواباً إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كتبه: هاني بن عبدالله بن محمد الجبير
قاضي بالمحكمة العامة بمكة المكرمة، وعملت سابقاً في القضاء في مدن أخرى.
شاركت في عدد من الندوات العلمية خارج المملكة وداخلها.
صدرت لي مجموعة من الكتب والأبحاث.
لي مسيرة أكاديمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
h-j-30@naseej.com
ص.ب 14028
مكة المكرمة-العوالي
فاكس 5283305/02
أولاً: معنى السر ومفهومه:
السر في اللغة اسم لما يُسر به الإنسان أي: يكتمه، وأصل الكلمة يدل على إخفاء الشيء وعدم إظهاره. (1)
فالإسرار خلاف الإعلان(2)، قال تعالى:{يعلم ما يسرون وما يعلنون}(سورة البقرة:77).
والسرّ ينقسم إلى أنواع: (3)
__________
(1) …معجم مقاييس اللغة (3/67)، لسان العرب مادة [سرد].
(2) …المفردات للراغب، ص 228.
(3) …أنظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 297، غذاء الألباب اللسفاريني (1/116)، إحياء علوم الدين (3/132)، الموسوعة الفقهية (5/292).(6/1)
ما يبلغ الإنسان من الأمور التي يطلب صاحبها كتمانها عليه سواء طلب ذلك صراحة، أو بدلالة الحال بأن يتعمد الحديث عنها حال الإنفراد مثلاً.
مايريد الإنسان عمله مما تدعو المصلحة إلى كتمانه.
ما أمر الشرع بكتمانه وعدم إذاعته.
ما كن الأصل إخفاءه واطلع عليه شخص بسبب مهنته.
وموضع ما يعنينا في هذا المقام هو الرابع منها أصالة، وبقية الأنواع معنيّة تبعاً.
ثانياً: الأصل في حكم إفشاء السر:
إنّ ما أمر الشرع بكتمانه فحكمه ظاهر باعتبار فهم دلالة الخطاب الشرعي، ومن ذلك: ما يجري بين الرجل وامرأته حال المعاشرة من أمور الاستمتاع.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنّ من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها). (1)
قال النووي -676هـ-: في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمر الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل.
أما مجرد ذكر الجماع فهو مكروه؛ لأنه خلاف المروءة، إلا إن كان لحاجة كأن تذكر عجزه عن الجماع، أو إعراضه ، أو لبيان حكم شرعي فهنا يباح. (2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رجلاً سأل رسول الله صلى لله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة ، فقال رسول الله عليه وسلم: (إني لأفعل ذلك أنا وهذه ، ثم نغتسل). (3)
__________
(1) …صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، برقم 1437.
(2) …شرح مسلم ، ص 899 باختصار، وانظر: المغني لابن قدامة (10/232).
(3) …صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء، برقم 350، والاكسال: الجماع بدون إنزال. قال النووي: وإنما قال صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة ليكون أوقع في نفسه. شرح صحيح مسلم، ص 320.(6/2)
أما كتمان الإنسان عملاً يريد القيام به فهذا من الحزم مع النفس، لكن لا يرتبط به حكم تكليفي، فللإنسان أن يتحدث عن مشاريع مستقبلية يعتزم القيام بها، وليس عليه في ذلك حرج.
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان). (1)
أما ما يطلب الإنسان كتمانه مما يبلّغ به غيره، فإنه إذا كان إفشاء السر يتضمن ضرراً فإفشاء السر حرام، باتفاق الفقهاء (2)، والضرر عام في كل ما يؤذي الإنسان.
وأما إذا لم يتضمن ضرراً فالمختار عدم جواز إفشائه متى ما طلب منه الكتمان، أو دّل الحال على ذلك، أوكان مما يُكتم في العادة. (3)
وكل هذا حال الحياة أما بعد موت صاحب السر فذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفشائه إذا لم يتضمن غضاضة على الميت. (4)
والظاهر أن إفشاء السر لا يجوز سواء حال الموت أو الحياة، وسواء تضمن ضرراً أو لا. لأن هذا من قبيل حفظ العهد وهو كالوديعة التي يجب حفظها.
قال تعالى: {يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (سورة الانفال: 27).
عن أنس رضي الله عنه قال: مرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الصبيان فسلّم علينا ثم دعاني فبعثني إلى حاجة له، فجئت وقد أبطأت عن أمي، فقالت:
__________
(1) …المعجم الكبير للطبراني (20/94)، المعجم الصغير له (2/149). قال في كشف الخفاء (1/123): رواه الطبراني وابو نعيم بسند ضعيف وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (943).
(2) …نقل الاتفاق ابن بطال، أنظر: فتح الباري (11/85)، الإنصاف للهوداوي (21/420)، غذاء الألباب (1/115)، إحياء علوم الدين (3/132).
(3) …وهو مذهب الإمام أحمد وغيره انظر: الإنصاف (21/420)، الآداب الشرعية لابن مفلح (2/257).
(4) …أنظر: فتح الباري (11/85).(6/3)
ما حسبك؟ أين كنت؟ فقلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاجة، فقالت: أي نبي وما هي؟ فقلت: إنها سر، قالت: لا تحدث بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. (1)
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم السر أمانة، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة). (2)
وأما من قال بأن حفظ السر لا يجب إلا إذا تضمن ضرراً فإن دليله على ذلك حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما قالت:انطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب فمرّ علينا بلال فقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري، وقلنا : لا تخبر بنا، فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب، قال أي الزيانب؟ قال: امرأة عبدالله، قال: نعم ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة. (3)
فالظاهر عندهم أن بلالاً كشف السر بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن اسم السائلة، قال القرطبي -656هـ- : ليس إخبار بلال باسم المرأتين بعد أن استكتماه بإذاعة سر ولا كشف أمانة لوجهين:
الأول: …أنهمالم تلزماه بذلك وإنما علم أنهما رأتا أن لا ضرورة تحوج إلى كتمانها.
__________
(1) …صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب حفظ السر، برقم 6289، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس بن مالك برقم 2482.
(2) …سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في نقل الحديث برقم 4868، سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء أن المجالس بالأمانة، برقم 1959، وقال حديث حسن مسند الإمام أحمد (3/324)، السنن الكبرى للبيهقي (10/247)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (486).
(3) …صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، برقم 1466، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، برقم 1000 .(6/4)
الثاني: …أنه أخبر بذلك جواباً لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لكون إجابته أوجب من التمسّك بما أمرتاه به من الكتمان(1).
أما ما اطلع عليه صاحبه بمقتضى مهنته فهذا كالمفتى والطبيب الذي يكشف له المستفتى أو المريض بعضاً من أسراره، أو يطلّع عليها أثناء علاجه، وهو محور اهتمام هذا البحث.
ولبيان حكم هذا لا بد من الإتيان بمقدمات تمهد لهذا الحكم كما يلي:
تحريم الغيبة:
والغيبة محرمة بقول الله تعالى:{ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} (سورة الحجرات:12)
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ضابطها في قوله: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال : أفرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه. (2)
فذكر الإنسان لغيره بشيء يكرهه – ولو كان فيه – هو الغيبة.
وهذه تفيدنا قاعدة أنّ الكلام بما يكرهه المتحدث عنه حرام، وهذا يشمل عيوب الإنسان البدنية، أوالخلقية. (3)
تحريم نشر السر:
وهو ما يطلب المخبر به كتمانه، أو ما تدل القرينة على سريته مثل أن يخبر به حال الانفراد أو خفض الصوت، أو ما كان من شأنه الكتمان كالمعايب عموماً ، أو ما كان فيه مضرة به.
تحريم النميمة:
__________
(1) …المفهم في شرح اختصار صحيح مسلم (3/46).
(2) …صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الغيبة، برقم 2589.
(3) …غذاء الألباب (1/103)، قال الغزالي: اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكره بنقص في دينه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته. أنظر: احياء علوم الدين (3/129).(6/5)
وهي: نقل الكلام على وجه التحريش، أو الإفساد بين الناس(1)، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنّة قتّات). (2) والقتّات هو النمام.
فبناء على ما تقدم نخلص إلى أمرين:
السر : هو الذي يفضي به إنسان إلى غيره، أو يطلع عليه بحكم معاشرته أو مهنته ويستكتم عليه أو دلّت القرائن على طلب الكتمان، أو كان من شأنه في العادة أن يُكتم، أو تضمن ضرراً، أو عيباً يكره اطلاع الناس عليه، أو تضمن إفشاؤه الإفساد بينه وبين غيره.
إفشاء السر محرم في الأصل، ويزداد التحريم إن تضمن إفساداً أو ذكراً لعيب فيه.
وينبه هنا إلى أمور:
أ – أن الطبيب ومن في حكمه يتأكد في حقه كتمان السر، ومن حق المريض عليه أن لايبوح بأي معلومات عنه وذلك أن ثقة المريض في طبيبه هي أساس التعامل بينهما، والمريض إنما أفشى بأسراره وما يعانيه للطبيب لأجل الوصول إلى التشخيص الصحيح. (3)
وحفظ أسرار المريض من حفظ الأمانة وقد قال تعالى:{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} (سورة المؤمنون: 8).
قال ابن الحاجّ -737هـ- : ينبغي أن يكون – يعني الطبيب – أميناً على أسرار المريض، فلا يطلع أحداً على ما ذكره المريض؛ إذ إنه لم يأذن له في إطلاع غيره على ذلك. (4)
__________
(1) …غذاء الالباب (1/110)، وقيل: النميمة ليست مختصة بذلك بل تتناول كشف ما يكره كشفه فحقيقة النميمة على هذا: إفشاء السر قال ذلك الغزالي إحياء علوم الدين (3/139)، وهذا ينضاف لما سبق من خطورة إفشاء السر.
(2) …صحيح البخاري،كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، رقم 6056، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة، رقم 105، وأخرجه مسلم في الموضع السابق أيضاً بلفظ: لا يدخل الجنة نمام.
(3) …أنظر: رؤية إسلامية لبعض القضايا الطبية، د. عبدالله حسين باسلامه ، ص 95.
(4) …المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات (4/143).(6/6)
وقال ابن مفلح -763هـ- : كما يحرم تحدّثه – يعني غاسل الميت – وتحدّث طبيب وغيرهما بعيب(1). ولذا رتب الشرع على هذا الكتمان الأجر الجزيل.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة، ولم يُفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). (2)
ب – أن المجهول الذي لا يذكر اسمه ولا وصف له يميزه عن غيره لا يكون الكلام عنه غيبة، فمن أخبر أنه رأى شخصاً ولم يعينه، فإنه لا يكون مفشياً لسر. لأن المجهول ليس له غيبة لعدم حصول الضرر عليه بالإخبار عنه. (3)
ج – إذا اذن المريض بإفشاء شيء يخصّه فإنه يجوز إفشاؤه لأن الحق له وقد تنازل عنه، إلا إذا كان إفشاؤه يتضمن التعرض لحق الله تعالى أو لحق إنسان آخر.
أما حق الله تعالى فكما لو تضمن رميه ببعض الفواحش أو الدعوة إلى الفساد والرذائل. وأما حق الإنسان فكما لو تعلق الأمر بشخص ثالث فإن له حقاً في كتمان السر أيضاً. (4)
ثالثاً: استثناءات تبيح كشف السر (متى يباح إفشاء السر):
تقدم معنا أن العلماء وجّهوا إخبار بلال باسم امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهم بأن ذلك كان جواباً لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم الذي إجابته أوجب من الكتمان.
وهذا يمهد لبيان أن واجب الستر فيما تقدم قد يترك لما هو أوجب منه، وذلك (لأن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجّح خير الخيرين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما). (5)
__________
(1) …الفروع (2/217).
(2) …مسند الإمام أحمد (6/119)، المستدرك للحاكم (1/354)، وقال صحيح على شرط مسلم، وله شواهد ، أنظر: مجمع الزوائد (3/21).
(3) …أنظر: الأذكار للنووي، ص 486.
(4) …انظر: الإذن في إجراء العمليات الطبية، أحكامه واثره ص 89، لكاتب هذا البحث.
(5) …تضمين من مجموع فتاوى ابن تيمية (20/48).(6/7)
فالله تعالى نهى عن سب آلهة المشركين ، وإن كان ذلك حقاً واجباً، لأنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين .
قال تعالى:{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم} (سورة الأنعام: 108).
قال ابن القيم -751هـ- : النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبّه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وابغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله(1)
وقد جاء الشرع بالعناية بالمصالح العامة وتقديمها على المصالح الخاصة، كما اهتم برفع المفاسد العامة وإن تضمن ذلك مفسدة خاصة.
فالعناية بالأغلب والأعم هو المقدم.
كما أن حق الإنسان في حفظ سره يجب أن لا يتضمن ضرراً على فرد آخر، فإن حفظ حق أحدهما ليس أولى من حفظ حق الآخر.
وكل هذا فرع عن تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد.
والتطبيق العملي لهذه القاعدة في مسألة سر المريض أن تنصب العناية بمقاصد الشريعة من حفظ المال والنفس والعقل والنسل والدين ولو انخرمت مصلحة المريض بإفشاء سره.
فيفشى سره إذا تضمن درء مفسدة عامة، أو جلب مصلحة عامة.
ويقع الترجيح بحسب الاجتهاد المصلحي في مسألة درء المفسدة عن الفرد.
قال العز بن عبدالسلام -660هـ- : الستر على الناس شيمة الأولياء، ويجوز إفشاء السر إذا تضمن مصلحة أو دفع ضرر، وقد كشف يوسف عليه السلام سر المرأة التي راودته فقال: {هي راودتني عن نفسي} (سورة يوسف: 26) ليدفع عن نفسه ما قد يتعرض له من قتل أو عقوبة. (2)
ولدينا شاهد مختص بموضوعنا ينطق بما نريده.
__________
(1) …إعلام الموقعين (3/4).
(2) …شجرة المعارف والأحوال، ص 389، بتصرف واختصار.(6/8)
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس:سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق). (1)
فالمعنى أن ما يدور في المجالس أمانة يجب حفظها وعدم إفشائها إلا إن أدت إلى سفك دم أو استحلال فرج أو مال بغير حق فتنتفي الأمانة هنا ولا يجب حفظ السر.
وفي حديث معاذ رضي الله عنه شاهد لإفشاء ما أمر بكتمانه لأجل المصلحة فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً فقال: أفلا أبشر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا. (2) وأخبر بذلك في آخر حياته خوفاً من كتم العلم ووصولاً لمصلحة نشره.
ولعل من أوضح أمثلة هذا الباب ما طبقه علماء الحديث من الكشف عن أحوال الرواة من أحوال تبين فسق الراوي أو قلة دينه أو ضعف حفظه، وهذا لدفع مفسدة نسبة حديث للنبي صلى الله عليه وسلم لم يقله.
فبناء على ما تقدم فإنه يباح إفشاء السر فيما يلي:
إذا أذن صاحب السر – وكان الحق يختص به – وقد تقدم بيانه.
إذا كان عدم الإفشاء يتضمن ضرراً يلحق المجتمع، أو يضر بفرد منه ضرراً أكبر من ضرر صاحب السر.
وطريق تقدير المفسدة والضرر هو الظن والاجتهاد، لأنه لا يمكن تحديد مقدارها بدقة.
قال العز بن عبدالسلام: أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنما تعرف تقريباً لعزة الوقوف على تحديدها. (3)
وبناء على ما تقدم تتضح لنا الأمثلة الآتية:
__________
(1) …سنن أبي داود ، كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، برقم 4869، مسند الإمام أحمد (2/342)، السنن الكبرى للبيهقي (10/247). وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (6678).
(2) …صحيح البخاري ، كتاب اللباس، باب ارداف الرجل خلف الرجل، برقم (5968)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة برقم 30.
(3) …القواعد الصغرى، ص 100.(6/9)
أ – …إذا كان أحد الزوجين مصاباً بمرض جنسي معد(ينتقل بالمباشرة) فإنه يجب إبلاغ الطرف الآخر.
ب – …إذا كان المريض غير لائق بعمل معين كالمصاب بالاضطرابات العصبية أوضعف الرؤية الشديد فلا بد من إبلاغ جهة عمله – فيما لو كان سائقاً مثلاً.
ج – …إذا علم بوشوك حدوث جريمة فتبلغ الجهة المختصة.
د – …إذا علم بوجود مرض معد سارٍ.
هـ …عند الكشف الطبي قبل الزواج، إذا تبين عدم توافق أحد الزوجين مع الآخر فلا بد من إبلاغه.
و – …إذا اعتقد أن وفاة قد حصلت نتيجة جريمة.
ز - …إذا دعى للشهادة في المحكمة لقوله تعالى:{ ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (سورة البقرة: 283).
ح - …إذا علم بإصابة الزوج بمرض غير معد، ولا تعلم به الزوجة مثلاً فإنه لايجوز له إخبارها لعدم الموجب.
ط - …إذا حملت زوجة شخص تبين بالفحص أنه عقيم فلا يلزمه سوى اخبار الزوج بالعقم وأنه في الحالات المعتادة لا يتأتى الإنجاب لمثله.
وهذا وإن تضمن نوع ضرر بالزوجة، لكن لابد من إطلاع الزوج على حالته الصحية، دون أن يتضمن اتهاماً بالزنا، أو تشكيكاً في نسب الولد.
وهنا لابد من التنبّه إلى استعمال أحسن الألفاظ في التعبير ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة إذ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، فيتلفظ أو يكتب الطبيب العبارة المؤدية للغرض.
فكلمة غير لائق تكفي في الإخبار عن حالة المتقدم لعمل مثلاً دون ذكر تفاصيل المرض، وكذلك أن المريض مصاب بمرض ينتقل بالاتصال الجنسي يكفي عن تسمية المرض، وعدم التوافق بين الزوجين كذلك يؤدي الغرض دون الحاجة لذكر اسم الداء.
وقد بدأت المستشفيات بذكر التصنيف العالمي لأي مرض عوضاً عن ذكر اسمه وهذا واحد من أمثلة ما أقصده.(6/10)
ولما تناول العلماء جواز بيان حال الرواة ومن أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وجواز الرد عليهم استثنوا من ذلك إذا كان يفحش في الكلام ويسيء الأدب في العبادة فينكر عليه إفحاشه وإساءته دون أصل رده. (1)
وضابط ما سبق أن الضرورة تقدر بقدرها. وكذلك تقدر بقدرها في الذي يخبر بسر المريض فلا يخبر إلا من لا يتم المطلوب بإخباره فقط.
رابعاً: الفئات المنوط بها حفظ السرية:
إن من مزايا الشريعة الإسلامية أنها دين يطالب الإنسان فيه مع التزام الاحكام امتثال الأوامر فليست قانوناً أو تشريعاً يجرّم حدوداً معينة ويدع ما سواها بل هو منهج حياة متكامل، لم يدع جانباً من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف ففي الوقت الذي تحتاج القوانين الى تحديد ماهيّة السر الطبي والمنوط به نجد الشرع يأمر بحفظ السر وينهى عن إفشائه سواء كان من اطلع عليه طبيب ، أو صيدلي، أو موظفاً بالسجلات الطبية أو من أفراد الهيئة التمريضية أو الأغذية أو المختبرات والأشعة أو كان فرداً من غيرهم ويرتب المسئولية على إفشاء السر على أي واحد منهم.
إذ حفظ السر من الأمانة الواجب حفظها. والإخلال بها من علامات النفاق.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اوتمن خان). (2) وقد تقدم هذا.
ومع ذلك فإن العاملين في المجال الصحي يتوجب نحوهم من المؤاخذة أكثر من غيرهم، إذ أصل عملهم هو تخفيف معاناة المريض، والسعي لراحته، وأي عمل يخالف هذا المقصد يضاعف المؤاخذة، إذ من قواعد الشرع أن من عظمت النعمة عليه زادت المؤاخذة كذلك عليه.
خامساً: مشاكل تحتاج حلولاً:
__________
(1) …غذاء الالباب (1/108).
(2) …صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، برقم 33، صحيح مسلم، كتاب الإيمان ، باب بيان خصال المنافق، رقم 59.(6/11)
ومن هذه المشاكل مشكلة الحمل السفاحي – غير الشرعي – ومشكلة استغلال الأطفال جنسياً فهل إفشاء هذه يعتبر من إفشاء السر؟
ولبيان الحكم فإني أقدم بمقدمات..
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلماً سرته الله يوم القيامة). (1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول، ولكن كان يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. (2)
وهذا سواء فيه الحدود وغيرها، فللمسلم أن يشهد عليها إن رآها، ولكن سترها أولى به وافضل إن كانت حقاً لله فقط كشرب الخمر مثلاً، أو الزنا الحاصل بالتراضي مع امرأة غير متزوجة.
أما لو كان في الحد حق لآدمي مالي أو غيره كمن شاهد من يأخذ مال غيره فعليه إعلامه والشهادة معه إن طلب.
المعروف بالفجور والمعتاد عليه الأولى الإبلاغ عنه.
قال القرطبي: من اشتهر بالمعاصي ولم يبال بفعلها ولم ينته عما نهى عنه فواجب رفعه للإمام وتنكيله، وإشهاده للأنام ليرتدع بذلك أمثاله. (3)
تحريم القذف بغير بيّنة:
فلا يجوز للإنسان أن ينسب غيره إلى الزنا ونحوه إلا وقد شهد عليه أربعة، وإلا فإنه قاذف له مستحق للعقاب.
قال تعالى:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} (سورة النور: 4) ولكن له أن يخبر بما رآه أو دلت عليه قرائن الكشف أو الحال دون ذكر فعل الفاحشة فمثلاً تمزق البكارة والإصابات الشرجية وإصابات عضلات الآلية ونحوها أو الخلوة الممنوعة يمكن تناولها ولا تعد قذفاً لاحتمال حصولها بغير ممارسة جنسية في ضوء السرية التي تناولناهما سابقاً.
__________
(1) …صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، برقم 2442، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم 2580.
(2) …سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في حسن العشرة رقم 4788، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 2064.
(3) …المفهم (6/558).(6/12)
وبناء على ما سبق إذا وقف الطبيب على حصول حمل غير شرعي فإن توصيفه للحالة بأنها حمل لا كشف فيه للسرية لأنها من جنس الإخبار بالمرض ونحوه ولكن يختص هذا بالحامل دون غيرها.
وإذا كانت متزوجة وأخبرته بأن حملها من سفاح أو توصل إلى ذلك فإنه لا يجوز له الإبلاغ عن ذلك لكونه قذفاً إلا إذا طلب منه ذلك لكشف دعوى قضائية.
وإذا اطلع على أن طفلاً قد استغل فإن عليه إبلاغ وليه بحالته الإصابية لأن سر المريض غير كامل الأهلية يتولاه وليه.
وفي جميع ما تقدم يجب على الطبيب كغيره مناصحة من علم منه المنكر وتوجيهه وتذكيره بالله فهذا واجب شرعي سواء ابلغ بعد ذلك أو لا.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم
هذا وأسأل الله تعالى أن يمن علينا بالفقه في الدين وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
ملحق قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن السر في المهن الطبية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجوان، بروناي دار السلام من 1-7 محرم 1414هـ الموافق 21-27 (يونيو) 1993م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة في المجمع بخصوص موضوع السر في المهن الطبية، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:
أولاً: السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ثانياً: السر أمانة لدى من استودع حفظه، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل.(6/13)
ثالثاً: الأصل حظر إفشاء السر وإفشاءه بدون مقتضٍ معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً.
رابعاً: يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.
خامساً: تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين:
أ – حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه.
وهذه الحالات نوعان:
ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
وما فيه درء مفسدة عن الفرد.
ب – حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه :
جلب مصلحة للمجتمع.
أو درء مفسدة عامة.
وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
سادساً: الاستنثاءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
ويوصي بما يلي:
دعوة نقابات المهن الطبية ووزارة الصحة وكليات العلوم الصحية بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والاهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع، ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع.
والله الموفق(6/14)
الإذن في إجراء العمليات الطبيّة
أحكامه وأثره
تأليف :
هاني بن عبدالله بن محمد بن جبير
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضلّ له , ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أمّا بعد :-
فإنَّ أحسن الحديث كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرّ الأمور محدثاتها, وكل محدثةٍ بدعة , وكل بدعةٍ ضلالة , وكل ضلالة في النَّار .
وإن ديننا الإسلامي أتى بعلاج كل المشكلات بالعلاج الأمثل مهما كان شأنها . وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين , وآية من آيات عمومه وخلوده , وصلاحيته لكل زمانٍ ومكان.
فهو لم يدع جانباً من جوانب الحياة الإنسانيّة , إلاّ كان له فيه موقف . ولم يدع طوراً من أطوار حياة الإنسان إلا ورسم له فيه المنهج الأمثل .
ومن جملة ما رسم منهاجه , وحدّد قيوده , الإجراءات العلاجيّة , والعمليّات الطبيّة.
وكان من ذلك إيضاح حق المريض في الإجراء الطبي عليه وحد الطبيب في ما يمكنه إجراؤه وما لا يمكنه والمسئولية المترتبة على العمل الطبي إذا توافر الإذن به, وإذا لم يتوافر. ومن هنا جاء هذا الموضوع :-
( الإذن في إجراء العمليّات الطبيّة , أحكامه وأثره ) .
موضحاً هذه الجوانب , بما يعطي نظرة متكاملة حولها .
تمهيد :
المبحث الأول : التعريف بمفردات العنوان .
الإذن في اللغة مصدر أَذِنَ يَأْذَنُ .
والأصل في استعماله أن يكون بمعنى العلم والإعلام . تقول العرب : قد أذنت بهذا الأمر أي: علمت .
كما يكون الإذن بمعنى إباحة الشيء , وإجازته , والرُّخصة فيه .(7/1)
يقال أذن له في الشيء إذناً : أباحه له , واستأذنه طلب منه الإذن(1). قال تعالى : {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }(التوبة: من الآية45) .
ويتناول الفقهاء معنى الإذن ومدلوله – أحياناً – في باب مستقل يسمّونه باب المأذون(2) .
ومرادهم بالمأذون : المحجور إذا أُذِنَ له بالتصرّف .
و يتناولونه أيضاً بمعنى إباحة تصرّف شخص ما في أَمْرٍ ما بعد أن كان ممنوعاً منه , فلا تقتصر مسائله على باب الحجر , بل يكون في سائر أبواب الفقه . فيعرّف بأنّه إباحة التصرّف(3), أو الإعلام بإجازة الشيء والرخصة فيه(4).
ولعل التعريف المناسب للإذن بهذا الاعتبار هو : إباحة التصرّف للشخص فيما كان ممنوعاً منه(5) .
والعمليات : جمع عمليّة .
والعمليّة : كلمةٌ محدثةٌ , تُطلَق على جملةِ أعمال تُحدثُ أثراً خاصاً . يقال: عمليّة جراحيّة , أو حربيّة , أو مالية(6) .
وأمّا الطب فيُطلق على علاج الجسم والنفس(7) .
وعرّفه جالينوس وابن سينا بأنّه : علم بأحوال بدن الإنسان , يحفظ به حاصل الصّحة , ويستردّ زائلها (8) .
__________
(1) المفردات للأصفهاني ص 14 , لسان العرب (13/10) ؛ القاموس المحيط ص 1516 . (أذن) .
(2) تكملة فتح القدير (8/211) ؛ المعونة للقاضي عبد الوهّاب (2/1188) ؛ مغنى المحتاج للخطيب الشربيني (2/99) , الكافي لابن قدامة (2/161) .
(3) معجم لغة الفقهاء . وضع أ.د. محمد روّاس قلعه جي , د. حامد صادق قنيبي . ص 52 .
(4) المعجم الوسيط (1/12) .
(5) هذا التعريف مركبٌ من عددٍ من التعاريف فانظر : التعريفات للجرجاني ص 15 , معجم لغة الفقهاء ص 52 , أحكام إذن الإنسان (1/37) لمحمد عبد الرحيم سلطان العلماء .
(6) المعجم الوسيط (2/628) . (عمل) .
(7) لسان العرب (1/554) , القاموس المحيط ص 139 , المعجم الوسيط (2/549) . (طب) .
(8) المرجع السابق , القانون في الطب لابن سينا (1/3) .(7/2)
وعليه فالمراد بالعمليّات الطبيّة : جملة الأعمال التي يقوم بها العالم بعلاج الأمراض لأجل حفظ الصحّة , أو استردادها .
فتشمل سائر التطبيبات , من إجراء الكشف , والتحاليل , ووصف الدواء , وأنواع الجراحات .
وهذا التعريف هو مرادي بالعمليات الطبيّة .
فيكون تعريف الإذن في إجراء العمليات الطبيّة أنّه : رضى الشخص وقبوله بأن يجرى له – أو لمن هو ولي عليه – جملة الأعمال التي يراد منها حفظ الصحّة أو استردادها .
المبحث الثاني : حكم الإذن الطبي :
حكم إذن المريض بإجراء العمل الطبي عليه راجع لنوع هذا العمل , فإذا كان الإجراء مباحاً فإنَّ الإذن به مباح , وإن كان الإجراء محرماً فالإذن به محرم .
وقد اختلف أهل العلم في حكم التداوي على أقوال أشهرها ما يلي :
القول الأوّل : أن التداوي مباح وهو قول جمهور أهل العلم(1) من الحنفيَّة(2)والمالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة(5) . وإن اختلفوا هل الأولى فعله أو تركه .
القول الثاني : أنه واجب وهو قولٌ لبعض الحنابلة (6). وحصره بعض أهل العلم فيما إذا علم تحقق الشفاء (7).
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول على إباحة التداوي بأدلّة منها :
النصوص الشرعيّة المتكاثرة الدالة على عدم المنع من التداوي :
كقوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}(النحل: من الآية69) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/269) .
(2) العناية شرح الهداية (8/500) .
(3) الثمر الداني في تقريب المعاني ص 534 .
(4) مغنى المحتاج (1/357) .
(5) الروض المربع 172 .
(6) الآداب الشرعية (2/361) , الإنصاف (6/10) . دار هجر .
(7) الإنصاف (6/10) دار هجر , الفتاوى الهندية (5/355) .(7/3)
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) (1).
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن فعل التداوي غير محظور ولا ممنوع (2).
واستدلوا على عدم الوجوب بعدة أدلة منها :
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت إني أصرع وإني أتكشف , فادع الله لي . قال : إن شئتِ صبرت ولك الجنة , وإن شئت دعوت الله أن يعافيك . فقالت : أصبر . فقالت إني أتكشف , فادع الله لي أن لا أتكشّف , فدعا لها (3). ولو كان دفع المرض واجباً لم يكن للتخيير موضع (4).
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها , وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها) (5).
ولو كان التداوي واجباً لم ينه - صلى الله عليه وسلم - عن الفرار من الطاعون .
وأما القول الثاني فاستدل أصحابه بأدلة منها :
أن ترك التداوي إلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو منهي عنه , فيكون نظير ترك الطعام والشراب المفضي للموت. وقد قال تعالى : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(البقرة: من الآية195).
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الطب باب الحمى من فيح جهنم (4/40) برقم (5725) ؛ صحيح مسلم كتاب السلام (4/1732) برقم 2210 .
(2) انظر : زاد المعاد (4/10) .
(3) صحيح البخاري كتاب المرضى باب فضل من يصرع بالريح (10/119) برقم 5652 ؛ صحيح مسلم كتاب البر والصلة (4/1994) برقم 2576 .
(4) فتح الباري (10/120) .
(5) صحيح البخاري كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون (10/189) برقم 5728 ؛ صحيح مسلم كتاب السلام (4/1738) برقم 2218 واللفظ للبخاري .(7/4)
عن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(إذا سمعتم بالطاعون في أرضٍ فلا تدخلوها, وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا منها)(1)
ففي الحديث دليل على أنه ينبغي على المسلم أن يتعاطى الأسباب الموجبة لنجاته من الهلاك, والتداوي والإذن به منها (2).
ويمكن مناقشة الدليلين بما يلي :
أولاً : أن النصوص الشرعيّة دلت على أن الشفاء يحصل بغير التداوي المعتاد قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }(الاسراء: من الآية82). فليس الدواء هو المتعين لرفع المرض وعليه فلا يكون تركه إلقاء بالنفس للتهلكة وهو بهذا يفارق الطعام والشراب .
ثانياً : أنّ الحديث لم يعمّ جميع الأمراض وإنما خصّ الطاعون , كما أنّه يأمرُ باجتناب الأسباب التي قد تفضي إلى المرض , وحديثنا عمّن وقع في المرض . فلا يشمله الحديث .
بل وأبلغ من ذلك أنّ آخر الحديث ينهى عن الفرار من الطاعون , ولو صَحّ استدلالهم بالحديث لأمرهم بالخروج من هذه الأرض , ولم يأمرهم بالبقاء .
الترجيح ..
بتأمل ما سبق فإنه يظهر لي رجحان القول الأول ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتداوي دليل على أصل الإباحة .
وتخيير النبي للمرأة التي كانت تصرع دليل على عدم الوجوب , كيف وقد اعتضد هذا بفعل جملة من السلف تركوا التداوي .
وقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي بأن التداوي يختلف حكمه باختلاف الأحوال والأشخاص . فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره كالأمراض المعدية .
ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى .
ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أحكام الجراحة الطبيّة ص 259 .(7/5)
ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها (1).
وهذا التقسيم يعارضه حديث المرأة التي كانت تصرع ووعدها النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة على صبرها وهذا دليل تفضيل الصبر على المرض على رفعه . ويعارضه ما رواه سعيد الخدري رضي الله عنه أن أبي بن كعب قال : يا رسول الله ما جزاء الحمى قال : تجري الحسنات على صاحبها , فقال : اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجاً في سبيلك فلم يمس أبي قط إلا وبه الحمى (2).
قال الذهبي : "ملازمه الحمى له حَرَّفت خلقه يسيراً ومن ثم يقول زر بن حبيش كان أُبيٌ فيه شراسة" (3). فأبي لم يترك التداوي بل استجلب المرض لنفسه بدعائه . وكأن مرضه سبب حدته وشراسته وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله كما هو الظاهر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ولست أعلم سالفاً أوجب التداوي , وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضّلاً واختياراً لما اختار الله ورضى به وتسليماً له .." (4).
ثم إن ترك الكي لاشك أنّه أولى لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب : ( هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) (5).
__________
(1) قرار المجمع رقم 69/5/7 . مجلة مجمع الفقه الإسلامي ( العدد السابع (3/731) .
(2) مسند الإمام أحمد (3/23) ؛ صحيح ابن حبان 692 . وانظر مجمع الزوائد (2/302) .
(3) سير أعلام النبلاء (1/392) .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة (21/564) .
(5) صحيح البخاري كتاب الطب باب من اكتوى أو كوى برقم (5705) , صحيح مسلم كتاب الإيمان برقم (220) . عن ابن عباس رضي الله عنهما .(7/6)
ولقوله : ( من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكّل ) (1).
ومعلوم أن الكي قد يتفرد طريقاً لعلاج مرض متلف وذلك كمن أصيب بقطع في عرق من عروقه (2).
وقد رمى سعد بن معاذ في أكحله فحسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده (3).
ورمي أبي يوم الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
فمن ترك الكي- والحال ما ذكر- أيكون تاركاً لواجب يأثم به أم فاعلاً لفضيلة يؤجر عليها ؟.
مع أن الذهبي –رحمه الله– قد نقل الإجماع على عدم وجوب التداوي (5).
هذا ما ظهر لي في حكم أصل التداوي . وبه يعرف أن الأصل في الإذن بالتداوي أنّه مباح .ولكن قد يعتري التداوي ما يخرج عن كونه مباحاً كما إذا تناول إجراءً محرماً كعمليات تغيير الجنس أو قطع الأطراف لغير غرض مشروع , فيكون الإذن بهذا الإجراء محرماً .
المبحث الثالث : متى يجرى الإذن الطبي .
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الطب باب ما جاء في كراهية الرقية برقم (2055) وقال حسن صحيح , سنن ابن ماجه كتاب الطب باب الكي برقم (3489) , مسند الإمام أحمد (4/249) , السنن الكبرى للبيهقي (9/341) المستدرك للحاكم (4/415) , صحيح ابن حبان برقم (6078) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال ابن مفلح اسناده ثقات الآداب (2/333) .
(2) ذكر الدكتور محمد علي البار أن الكي لا يزال مستخدماً في الطب الحديث بطرق مختلفة عن الكي التقليدي وذكر من استخداماتها إيقاف النزيف . تعليقه على كتاب الطب النبوي لعبد الملك بن حبيب ص 147 .
(3) صحيح مسلم كتاب السلام (2208) .
(4) صحيح مسلم كتاب الدم 2208 .
(5) الطب النبوي ص 227 .(7/7)
لابدَّ أن يكون الإذن بإجراء العمليات الطبية , قبل وقوعها , وإلاّ لم يكن إذناً , وصار إجازة وإمضاءً ؛ فإن الإذن والإجازة كلاهما يدل على الموافقة على الفعل إلا أنَّ الإذن يكون قبل الفعل , والإجازة تكون بعد وقوعه (1).
والحاجة داعية إلى تقدم الإذن عن العمل الطبّي , وذلك من وجهين :
الأول: أنَّه لا يحقُّ لأي إنسان أن يتصرّف في جسم إنسانٍ آخر بغير إذنه ؛ فإنّه اعتداء عليه.
وقد قرّر الفقهاء أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يتصرّف في ملك الغير أو حقه بلا إذن (2),
ومنافع الإنسان وأطرافه حق له .
الثاني : أنّه قد يحصل أثناء هذه العملية تلف لنفسٍ , أو عضوٍ , أو منفعةٍ , أو تحصل سراية , فإن لم يكن مأذوناً له ضمن , كما سيأتي مفصلاً –إن شاء الله تعالى- .
وعَمَلُ الأطباء الآن على أنَّ الإذن قد يكون كتابياً , وقد يكون شفوياً , حسب العمل المتخذ ؛ فالإذن الكتابي يجرى في حالات لعلّ الجامع لها هو وجود الخطورة , أو خشية حصول آثار جانبية للمريض . أمّا ما كان الإجراء فيه عادياً فيكتفى فيه بالإذن الشفوي .
المبحث الرابع : أنواع الإذن الطبي
للإذن الطبّي أنواعٌ متعددة باعتبارات مختلفة , فهو من حيث دلالته يتنوّع إلى صريح وغير صريح , وباعتبار موضوعه إلى مطلق ومقيّد , ويتنوّع باعتبار طريق التعبير عنه إلى إذن لفظي وإذن بالإشارة , كما يتنوّع باعتبار كتابته إلى كتابي وشفوي . وقد تناولت كل نوع منها في أصل هذا البحث .
وإذا كان المقصود من الإذن وجود الرضا والموافقة من المريض على الإجراء الطبّي, فكل ما يدل على الرضا والموافقة فهو كافٍ في حصول الإذن .
__________
(1) حاشية ابن عابدين (3/167) , وانظر : القاموس المحيط ص 651 , أحكام إذن الإنسان (1/35) .
(2) شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص 461,الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكليّة للدكتور محمد البورنو 390 .(7/8)
ومعلوم أن التعبير عن الإرادة يكون بعدة طرق (1). والنطق باللسان ليس طريقاً حتمياً لظهور الإرادة بصورة جازمة في النظر الفقهي , بل النطق هو الأصل في البيان , ولكن قد تقوم مقامه كل وسيلة أخرى , مما يمكن أن تعبّر عن الإرادة الجازمة تعبيراً كافياً مفيداً (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "إن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرّف بطريق الوكالة , كالإذن اللفظي , فكل واحدٍ من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قولٍ وفعل, والعلم برضى المستحق يقوم مقام إظهاره للرضى" أ.هـ (3).
وعليه فلا مانع من اعتبار الأنواع السابقة, ما دامت دالّةً على الإذن دلالةً واضحة.
ويدلّ على اعتبار الإشارة طريقاً من طرق التعبير عن الإذن الطبّي ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( لددنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار أن لا تلدوني , فقلنا : كراهية المريض للدواء , فلمّا أفاق , قال : ألم أنهكم أن لا تلدوني , لا يبقى منكم أحدٌ إلاّ لُدَّ ) (4).
فإن في هذا الحديث أن الإشارة المفهمة كصريح العبارة في هذه المسألة (5).
__________
(1) انظر : مثلاً للتعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي . وحيد الدين سوار ص 206 . فما بعدها .
والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/326) .
(2) المدخل الفقهي العام (1/326) .
(3) مجموع الفتاوى (29/20) .
(4) صحيح البخاري . كتاب الطب باب اللدود (10/175) برقم 5712 , صحيح مسلم كتاب السلام باب كراهية التداوي باللدود (4/1733) برقم 2213 . واللَّدود بفتح اللام هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض . فتح الباري (10/176) . لسان العرب (3/390) . (لدد) .
(5) شرح صحيح مسلم للنووي (14/199) .(7/9)
وأمّا السكوت فالأصل أنّه لا يعتبر إذناً ؛ وذلك لقاعدة : لا ينسب لساكت قول (1). فلو سكت المالك حين يرى الغير يبيع ملكه . لم يكن هذا السكوت إذناً بالبيع , وهذا محل اتفاق (2).
الفصل الأول :من له الحق في الإذن الطبّي ..
المبحث الأول : إذن المريض .
تبين مما سبق في التمهيد أنَّ الإجراء الطبّي يحتاج قبل الشروع فيه إلى إذنٍ وموافقةٍ من المريض , ويزداد هذا وضوحاً بما يلي :-
لا يخلو المريض من إحدى حالتين :
أن يكون أهلاً للإذن بالإجراء الطبّي .
أن لا تتحقّق فيه هذه الأهليّة .
فأمّا الحالة الثانية فمحلّ الكلام عنها هو المبحث الثاني من هذا الفصل .
وأمّا الأولى : فإنّ المريض متى كان قادراً على التعبير عن إرادته , فإنّ الإذن في الإجراء الطبّي حقٌ متمحّض له , لا يجوز لأحدٍ أن يفتات عليه فيه , فليس لأحدٍ أن يجبره على الإذن , ولا أن يأذن نيابةً عنه , كما أنّه ليس لأحدٍ أن يعترض على إذنه بهذا الإجراء , ما لم يكن هناك مبرر شرعي لذلك .
وذلك لأمور :-
أنَّ التداوي غير واجب كما هو قول جمهور أهل العلم وقد سبق ذلك .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( لددنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني , فقلنا كراهية المريض للدواء , فلمّا أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ . لا يبقى أحدٌ في البيت إلاّ لُدَّ ) (3).
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 178 , الأشباه والنظائر للسيوطي ص 266 . شرح القواعد الفقهيّة للزرقا ص 337.
(2) الموسوعة الفقهيّة (2/386) , والمراجع السابقة .
(3) سبق تخريجه .(7/10)
فقد عاقب - صلى الله عليه وسلم - من داواه بعد نهيه عن ذلك , والعقوبة لا تكون إلا بسبب تعدٍ , وهذا يوضّح أنّ إذن المريض ضروريّ لإجراء التداوي , فإذا رفض التداوي فله الحق في ذلك , ويكون إجباره على التداوي تعدّياً (1).
أنّ إذن ولي المريض , أو امتناعه عن الإذن , في حال أهليّة المريض , لاغٍ كإذن الأجنبيّ وامتناعه , بجامع كون كلٍ منهما فاقداً للصّفة الشرعيّة التي ينبغي عليها إذنه وامتناعه(2).
ويتَّضح من جميع ما تقدم أنّ حَقّ الإذن في إجراء العمليات الطبية خاصٌّ بالمريض – إذا كان أهلاً لذلك – ومن ثمَّ فلا اعتبار لإذن أي شخص لم يعتبر الشرع إذنه , ومثال ذلك إذا أذن أخ المريض بإجراء عمليّة طبيةٍ لأخيه , حال أهليّة المريض وعدم موافقته , فإنَّ إذنه يعتبر ساقطاً؛ لكونه غير مستندٍ على أصلٍ شرعي , فالحق في هذه الحالة مختصّ بالمريض وحده (3).
ومتى انعدمت الأهليّة , فإن الإذن لا يكون من حقّ المريض .
ومنع الطبيب من إجراء العمل الطبي دون إذن لا يمنع الحجر على المريض الذي يخشى انتشار مرضه فهذا أمر آخر غير العلاج .
كما أنه لا ينافي القول بوجوب التداوي في حالة الضرورة لأن معنى الوجوب إثم التارك . والله أعلم .
المبحث الثاني : إذن وليّ المريض ..
من رحمة الله تعالى أن اعتبرت الشريعةُ الإسلاميّة الولاية على الغير في حال عجز ذلك الغير عن النظر في مصالحه , ولم يأذن الله بإعطائهم أموالهم حتى يؤنس منهم الرشد, قال تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(النساء: من الآية6).
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (4/199) , المسئوليّة الطبية وأخلاقيات الطبيب ص 75 .
(2) أحكام الجراحة الطبية ص 245 .
(3) أحكام الجراحة الطبية ص 252 .(7/11)
وكما أن على الولي حفظ المال , فكذلك عليه حفظ البدن (1).
وامتداداً لهذه القاعدة فقد اشترط الفقهاء لإباحة العمل الطبّي أن يأذن ولي المريض متى كان المريض غير أهلٍ للإذن .
فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى : "ولو جاء رجلٌ بصبي ليس بابنه , ولا مملوكه , وليس له بولي , إلى ختانٍ أو طبيب , فقال : اختن هذا , أو بُطّ(2) هذا الجرح له , أو اقطع هذا الطرف له من قرحة به , فتلف , كان على عاقلة الطبيب , والختان ديته , وعليه رقبةٌ .." أ.هـ (3).
فنجد أنّه –رحمه الله- ضمن الطبيب والختان , إذ لم يكن الإذن من الولي .
وقال ابن قدامة –رحمه الله- : "وإن ختن صبياً بغير إذن وليّه , أو قطع سِلْعَةً(4) من إنسانٍ بغير إذنه , أو من صبي بغير إذن وليّه , فَسَرَت جِنَايتُه , ضمن , لأنّه قطعٌ غير مأذونٍ فيه , وإن فعل ذلك الحاكم , أو من له ولايةٌ عليه , أو فعله من أذنا له , لم يضمن , لأنّه مأذون فيه شرعاً" أ.هـ (5).
وقال ابن القيم –رحمه الله- في سرايةِ الخِتَان : "فإن أذن له أن يختنه ... فإن كان بالغاً عاقلاً , لم يضمنه ؛ لأنه أسقط حقه بالإذن فيه , وإن كان صغيراً ضمنه ؛ لأنه لا يعتبر إذنه شرعاً" أ.هـ (6).
فتحصّل أنه متى كان المريض غير أهلٍ للإذن , فإنّه لا يحل الإقدام على الإجراء الطبي , إلاّ بعد إذن وليّه .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/45) .
(2) قال في اللسان (7/261) : ( بَطَّ الجرح وغيره يَبُطّه بَطاًّ إذا شقّه ) . مادة بطط , وانظر القاموس المحيط ص 851 . مادة بَطَّ , المصباح المنير ص 20 . مادة بط .
(3) الأم (6/65) .
(4) السّلعة بكسر السين زيادةُ تحدث في الجسد مثلُ الغدّة , وبالفتح شَقّ يكون في الجلد . لسان العرب (8/160) , القاموس المحيط ص 942 . مادة سلع , المصباح المنير ص 108 مادّة سلع .
(5) المغني (8/117) .
(6) تحفة المودود بأحكام المولود ص 157 .(7/12)
ولا خلاف بين الفقهاء أن الوليّ إنما يتصرف بما فيه الغبطة والمصلحة لموليه (1), وذلك لقوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }(الاسراء: من الآية34). والمجنون في معنى الصغير (2).
وعن معقل بن يسار – رضي الله عنه – مرفوعاً : ( ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيّة يموت يوم يموت وهو غاش لرعيّته إلا حرَّم الله عليه الجنَّة ) (3).
وللقاعدة المعروفة : التصرف على الرعيَّة منوط بالمصلحة (4). فنفاذ تصرّف الولي معلَّق على المنفعة في تصرّفه , فإن تضمّن منفعةً ما , وجب تنفيذه , وإلا رُدّ ؛ لأن الولي ناظر وتصرّفه حينئذٍ متردد بين الضرر والعبث , وكلاهما ليس من النظر في شيء (5).
وعليه فمتى امتنع الوليّ عن الإذن بالإجراء الطبّي لموليه على خلاف مقتضى الحظ والغبطة , فإنّ امتناعه ساقط لا عبرة به (6).
ومثال ذلك حالة الحاجة الماسّة لنقل الدم إلى مصاب في حادثةٍ أو غيرها , بينما يرفض وليّه إعطاءه الدم (7).
__________
(1) بدائع الصنائع (4/350) , التاج والإكليل (5/71) , مواهب الجليل (5/69) , المهذب (1/328) , روضة الطالبين (3/476) , المبدع (4/337) , كشاف القناع (3/447) .
(2) معونة أولي النهى (4/568) .
(3) صحيح البخاري كتاب الأحكام باب من استرعى رعية فلم ينصح (13/136) برقم 7151 , صحيح مسلم كتاب الإيمان باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار (1/125) برقم 142 .
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 137 , الأشباه والنظائر للسيوطي ص 121 , شرح المجلّة لسليم رستم باز ص 42 , شرح القواعد الفقهيّة للزرقا ص 309 , الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للبورنو ص 347 .
(5) شرح القواعد الفقهية للزرقا ص 309 بتصرّف واختصار .
(6) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 69/5/7 في 12/11/1412هـ .
(7) المسئولية الطبية وأخلاقيات الطبيب للبار ص 80 .(7/13)
وكذلك متى أذن الوليّ بإجراء طبّي لموليه على خلاف مقتضى الحظّ والغبطة , أو بما تمحّض الضرر فيه , فإنه لا عبرة بإذنه .
ومثال ذلك إذن الولي باستقطاع عضوٍ من أعضاء موليه , أو التبرع به , فإن إذنه لا قيمة له ؛ لأنَّ الوليّ إنما يقوم على رعاية مصالح موليه ونقل العضو منه لا ينطوى على أدنى مصلحةٍ له , فيخرج عن حدود الولاية (1).
وكذلك فإن إذن الولي يسقط في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة موليه للخطر(2) كما سيأتي بيانه – إن شاء الله - .
ومما يمنع اعتبار إذن الولي انعدام أهليته ؛ فإنه إذا تقرر أنَّ المريض لا يعتد بإذنه في حال عدم أهليته , فإنه ينبني على ذلك عدم اعتبار إذن الولي الفاقد للأهليّة ؛ لأنه بَدَلٌ عنه(3).
وسأستعرض ذلك في شروط الإذن في الفصل القادم .
الفصل الثاني :شروط الإذن الطبّي
المبحث الأول : أن يصدر ممن له الحق .
وأوّل هذه الشروط أن يكون الإذنُ صادراً ممن له الحق في الإذن بالإجراء الطبي وهو المريض نفسه , أو وليّه .
والمراد هنا أنّ الإذن ليكون معتبراً فإنه لابُدَّ من صدوره ممن له الحق . وعليه فإنّه لا يعتبر إذن من سوى المريض , أو وليّه .
وكذلك فإن الوليّ لا يعتبر إذنه حال أهليّة المريض (4).
المبحث الثاني : أن تتحقق أهلية الآذن.
الأهليّة للأمر الصلاحيّة له , يقال هو أهلٌ لكذا أي مستحقٌّ له (5).
__________
(1) الانتفاع بأجزاء الآدمي في الفقه الإسلامي لعصمت الله عناية الله محمد ص 109 .
(2) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 69/5/7 في 12/11/1412هـ .
(3) أحكام الجراحة الطبيّة ص 251 .
(4) انظر في الحق : المدخل الفقهي العام للزرقا (3/11) ؛ الأهليّة , ونظرية الحق للدكتور عبدالله العجلان .
(5) لسان العرب (11/30) مادّة أهل , القاموس المحيط ص 1245 مادّة أهل , المصباح المنير ص 11 , المعجم الوسيط (1/32) .(7/14)
وتستعمل الأهليّة في الاصطلاح للدلالة على صلاحيّة الإنسان لأن يكون فعله وتصرّفاته معتبرة شرعاً (1).
ولابد في الشخص الذي يأذن بالإجراء الطبّي من أن تتوفّر فيه أهليّة الإذن به , حتى يحكم باعتبار إذنه , ويستوي في ذلك المريض نفسه , أو وليّه (2).
ويُشترط لتحقق هذه الأهليّة شرطان : هما البلوغ , والعقل , وهما شرطا التكليف وسأتناولهما فيما يلي :
أولاً : العقل :
ففاقده معدوم الأهليّة ؛ وذلك لأنه لا يعرف مصلحته من ضدها , ولا يمكنه أن يكون على بيّنةٍ من أمره حين يأذن بالإجراء الطبي لعدم وجود القصد عنده .
__________
(1) معجم لغة الفقهاء ص 96 , القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب ص 29 .
هذا ويقسّم فقهاء الحنفيّة الأهليّة إلى قسمين : أهليّة أداء وهي التي عرفتها بما ذكر أعلاه , وأهليّة وجوب وهي صلاحيّة الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه . وأهليّة الأداء تكون قاصرةً وكاملةً , فالقاصرة ترجع إلى العقل القاصر وهو محدود بسن التمييز , وتعتمد الكاملة على العقل الكامل وهو محدد بسن البلوغ .
ولا شك أن المراد بهذا المبحث أهليّة الأداء الكاملة . انظر : فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت لعبد العلي الأنصاري (1/156) , التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة البخاري (2/161) , مختصر المنار لزين الدين الحلبي ص 30 .
(2) أحكام الجراحة الطبيّة ص 250 بتصرّف يسير .(7/15)
وقد بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رفع التكليف عنه بقوله : ( رُفِعَ القلم عن ثلاثةٍ , عن النائم حتى يستيقظ , وعن الصغير حتى يكبر , وعن المجنون حتى يفيق ) (1).
وقد نصّ أهل العلم على أنَّ الجنون يسلب الولايات واعتبار الأقوال (2).
والمجنون إذا كان لإفاقته وقتٌ معلومٌ ولجنونه وقتٌ معلومٌ فما قاله في حال إفاقته فهو معتبر وما قال في حال جنونه لم يعتبر (3)؛ لأنه حال إفاقته ليس مجنوناً بدليل الحديث السابق .
ثانياً البلوغ :
لأنَّ الصبيَّ لا قصد له , ولا فهم كما تقدَّم . وهذا يشمل الصبيّ المميّز وغير المميّز, لأنّ المميّز مع كونه يفهم لكن فهمه لم يكمل .
__________
(1) سنن أبي داود 4387 , وفيه عن المبتلى حتى يبرأ بدل المجنون , سنن النسائي 3432 , سنن ابن ماجه 2041 , مسند أحمد (6/117 , 164) برقم 24694 , 25105 وفيه عن الصبي حتى يعقل , المستدرك للحاكم (2/59) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . كلهم من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة به ورجال الحديث كلهم ثقات من رجال مسلم . وقد ورد عن علي وابن عباس . انظر : فتح الباري (12/122) , مجمع الزوائد (6/251) , نصب الراية (4/164) . وصحّحه الألباني في إرواء الغليل (2/4) برقم 297 .
(2) التلويح على التوضيح للتفتازاني (2/167) , عوارض الأهليّة عند الأصوليين للدكتور حسين خلف الجبوري ص 169 .
(3) جُمَل الأحكام للناطفي ص 252 .(7/16)
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله - : ".. بل قد تُسْقِط الشريعةُ التكليف عمّن لم تَكْمُل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفاً عنه ؛ وضبطاً لمناط التكليف , وإن كان تكليفه ممكناً, كما رفع القلم عن الصبيَّ حتى يحتلم وإن كان له فهم وتمييز , لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه , ولأنّ العقل يظهر في الناس شيئاً فشيئاً , وهم يختلفون فيه , فلمّا كانت الحكمة خفيّة ومنتشرةً قُيّدت بالبلوغ" أ.هـ (1).
فبناء على ذلك فإنّه لا يعتد بإذن من لم يكن بالغاً عاقلاً , وأوضح ذلك ابن القيم بقوله : "... فإن كان بالغاً عاقلاً لم يضمنه ؛ لأنه أسقط حَقّه بالإذن فيه , وإن كان صغيراً ضمنه ؛ لأنّه لا يعتبر إذنه شرعاً .." أ.هـ (2).
فأشار – رحمه الله – إلى أهليّة الآذن بذكر شرطيها : العقل , والبلوغ . ثمَّ فرغ على ذلك سقوط إذن الصبي وعدم اعتباره شرعاً . وهنا ينتقل حق الإذن إلى الولي , وقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء : "أنّه لا يجوز إجراء عمليّة جراحيّة إلاّ بإذن المريض البالغ العاقل سواءً كان رجلاً أم امرأة , فإن لم يكن بالغاً عاقلاً فبإذن وليّه" أ.هـ (3).
المبحث الثالث : أن يكون المأذون به مشروعاً :
من شروط الإذن الطبّي أن يكون المأذون به مشروعاً , فإن كان محرّماً , فإنّه لا يُعتبر هذا الإذن , ولا يُعتَدُّ به .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة (10/345) .
(2) تحفة المودود بأحكام المولود ص 157 .
(3) قرار رقم 119 وتاريخ 26/5/1404هـ . في الدورة الثالثة والعشرين والمنعقدة بالرياض .(7/17)
وذلك لأنَّ الشريعة إنّما أباحت للطبيب أن يُباشر جسم المريض , ويعالجه لأجل جلب المصالح , ودفعاً للمفاسد المتوقّع حصولها . أمّا حين يكون تحقيق هذه المصالح مُفضياً إلى مفاسد عظيمةٍ , فإنَّ علّة إباحة عمل الطبيب تنتفي (1).
وكذلك فإنّه ليس للمريض الحق في أن يأذن لأحدٍ بأن يُباشر عليه شيئاً ممّا حرَّمه الله. وذلك لأن جسد الإنسان إنما هو ملك لله تعالى ؛ كما قال تعالى : {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:120) . ولا يحقّ لأحدٍ أن يتصرّف في ملكٍ بما يحرّمه مالكه .
قال ابن حزم – رحمه الله - : "فحرام على كل من أُمِر بمعصيةٍ أن يأتمر بها , فإن فعل فهو فاسق عاصٍ لله تعالى , وليس له بذلك عذر , وكذلك الآمر في نفسه بما لم يبح الله تعالى له , فهو عاصٍ لله تعالى , فاسق"(2) أ.هـ .
وبناء على ذلك قرّر الفقهاء أنَّ الإذن بالإجراء الطبّي لا يعتدّ به متى كان الإجراء غير مشروعٍ .
قال ابن القيم – رحمه الله - : "فإنه لا يجوز الإقدام على قطع عضوٍ لم يأمر الله ورسوله بقطعه , ولا أوجب قطعه, كما لو أذن له في قطع أذنه , أو أصبعه, فإنه لايجوز له ذلك , ولا يسقط الإثم عنه بالإذن .." (3) أ.هـ .
المبحث الرابع : أن يكون الإذن محدداً :
من شروط الإذن الطبّي أن يكون الإذن محدداً , كأن يقول المريض للطبيب : أذنت لك بعلاج كذا .
__________
(1) التداوي والمسئولية الطبيّة ص 237 . بتصرّف . وانظر : الأحكام الشرعيّة للأعمال الطبيّة ص 42 , أحكام الجراحة الطبيّة ص 104 , 254 .
(2) المحلّى (10/471) .
(3) تحفة المودود بأحكام المولود ص 136 .(7/18)
فإن لم يكن الإذن محدداً بل كان مطلقاً , بأن قال المريض للطبيب أذنت لك بفعل ما شئت لعلاجي . فهذا الإذن قد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أنّه إذن معتبر شرعاً ؛ لأنَّه لا فرق في الإذن على وجه الإطلاق أو على وجه التقييد ما دام أن المأذون به جائز شرعاً(1).
وقيد ذلك بعضهم بالعرف .
والذي يظهر لي هو تخريج هذه المسألة على الوكالة العامّة فإنَّ المريض لما أذن للطبيب فكأنّه وكله في علاجه (2).
وقد اختلف الفقهاء في الوكالة العامّة على قولين :
القول الأول : أن الوكالة العامة صحيحة . وقال به الحنفيّة(3) والمالكيّة(4) وهو قول عند الحنابلة (5).
القول الثاني : أنَّ الوكالة العامة غير صحيحة . وقال به الشافعيّة (6),
وهو المذهب عند الحنابلة (7).
الأدلّة :
استدلَّ أصحاب القول الأوّل وهم من صحّح الوكالة العامّة بعدّة أدلّةٍ منها:
أنَّ لفظ الوكالة العامّة لفظ عام , فصحَّ فيما يتناوله , كما لو قال بع مالي كله(8).
واستدلَّ أصحاب القول الثاني وهم من قرّر أنَّ الوكالة العامّة غير صحيحة بعدّة أدلّة منها :
__________
(1) أحكام الجراحة الطبيّة ص 242 , 243 .
(2) قال في مغني المحتاج عن الإذن : ( هو توكيل من جهة الآذن ) . أ.هـ (2/218) . وقال في الروض المربع : ( والوكالة عقد جائز , لأنها من جهة الموكل إذن ... ) أ.هـ . ص 394 .
(3) تكملة رد المحتار (7/357) .
(4) بداية المجتهد لابن رشد (2/226 , 227) . التاج والإكليل للمواق (5/190) .
(5) الفروع لابن مفلح (4/366) .
(6) الأم (3/237) , المهذب للشيرازي (1/350) , روضة الطالبين (4/22) .
(7) المغني لابن قدامة (7/205) , الكافي (2/138) , شرح منتهى الإرادات (2/303) .
(8) المغني (7/205) .(7/19)
أنَّ في هذه الوكالة غرراً عظيماً , وخطراً كبيراً ؛ لأنّه تدخل فيه هبة ماله وطلاق نساءه فيعظم الضرر (1).
نوقش :
بأنَّ الموكّل اختار الوكيل اختياراً مطلقاً , وأنابه مناب نفسه , فهو كما لو عدد أنواع التصرفات (2).
الترجيح :
الظاهر رجحان القول الأوّل :
لأن في تصحيح الوكالة العامّة مصلحة كبيرة كما لو أراد الموكّل السفر لمدّة قد تطول , فإن في مثل هذه الوكالة حفظاً لما يخشى فواته أو تأخيره .
أنَّ الموكّل لم يوكّل هذا إلا لكمال ثقته به .
وما سبق يمكن تطبيقه على الإذن الطبّي فإنَّ المريض لم يكن ليأذن للطبيب بالإذن العام إلا لكمال ثقته في إتقانه , ونصحه له . فلا يظهر مانع من اعتبار الإذن المطلق.
المبحث الخامس : أن يكون الإذن بلفظ صريح أو شبهه :
من شروط الإذن شرطٌ يرجع إلى دلالة الإذن ، فإنَّ الإذن الطبي ينقسم من حيث دلالته إلى قسمين :
أ – …الإذن الصريح : كأن يقول المريض للطبيب أذنت لك بالفحص , أو إجراء عمليّة جراحية ونحو ذلك .
ب – …الإذن غير الصريح : كأن يظن الطبيب أن المريض يعاني من التهاب الزائدة الدوديّة، فيأذن له المريض باستئصالها ، فإذا شرع في الجراحة يجد أن ما يعاني منه المريض وجود ورم مثلاً، وأما الزائدة فهي سليمة، فهل للطبيب استئصاله أخذاً بأنَّ المريض أذن له باستئصالها على أنها هي سبب المرض، فإذا ظهر سبب المرض غيره، فإن المريض قد أذن له باستئصاله ؟ (3) .
هذا هو الظاهر لي وذلك لأمور :
أنّ الغالب في المرضى عدم معرفتهم بتفاصيل الأمراض، واختلاف أعراضها، وإنما هم مطمئنون إلى تشخيص الطبيب وما يقرره .
__________
(1) المغني لابن قدامة (7/205) , المهذب (1/350) , مغني المحتاج (2/221) .
(2) المختارات الجلية ص 54 .
(3) …أنظر : أحكام الجراحة الطبية للدكتور محمد الشنقيطي ، ص 254 ، التداوي والمسئولية الطبية لقيس آل مبارك ، ص 206 .(7/20)
أن المريض لم يأذن بإجراء العلاج أو الجراحة ، إلا لأجل طلب السلامة، وحفظ نفسه من التلف والهلاك، فإذنه بالعمل المعيّن ينبئ بإذنه في كل ما يحصل له به السلامة والحفظ (1) .
أنّه محسن والله تعالى يقول : {ما على المحسنين من سبيلٍ} [سورة التوبة: 91]. وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن (2) .
أن الطبيب بين أمرين ، إما أن يجري ما ظهر له ، اعتماداً على ذلك الإذن ، أو يترك مريضه حتى يفيق من تخديره ثم يستأذنه ، ولا شك أن الأوّل أولى، فهو أدفع للمشقة عن الطبيب والمريض.
وقد اعتبر الفقهاء مثل هذا الإذن وعملوا به، وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية، لما سئل عن راعٍ خشي موت شيء مما يرعاه فذبحه، بقوله: " لا يلزم الراعي شيء إذا لم يكن منه تفريطٌ ولا عدوان.. فإنهم قد أحسنوا فيما فعلوا، فإن ذبحها خير من تركها حتى تموت.. وهو نظير خرق صاحب موسى السفينة لينتفع بها أهل مرقوعة فإن ذلك خير لهم من ذهابها بالكلية ..... " أ.هـ (3) . وقال ابن القيم –رحمه الله-: " لو استأجر غلاماً ، فوقعت الأكلة في طرفه ، فتيقن أنّه إذا لم يقطعه سرى إلى نفسه فمات، جاز له قطعها ولا ظمان " أ.هـ (4) .
__________
(1) …أنظر التداوي والمسئولية الطبية ص 206 .
(2) …الجامع لأحام القرآن للقرطبي (8/277) .
(3) …مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [30/253-254] .
(4) …إعلام الموقعين لابن القيم [2/413] .(7/21)
فأنت ترى أنهم أجازوا الإقدام على مثل هذا الإتلاف، ورفعوا الضمان عن فاعله لما في هذا العمل من مصلحة ظاهرة، يظهر منها إذن صاحب الحق فيه، وأوضح من ذلك كله حديث عروة بن الجعد البارقي (( أن النبي صلى الله عليه وسصلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحيّة أو شاة ، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار ، فأتاه بشاةٍ ودينار)) (1) . فقد باع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي (2) .
أن المقصود من تحريم التصرّف في ملك الغير ما فيه من الإضرار به ، وهذا التصرف ليس فيه إضرار بالغير ، بل تركه هو الإضرار (3) .
ولكن مع كل ما سبق فإنّ هذا الجواز لا بد من تقييده بما يحفظ حق المريض، ولو قيد ذلك بإشهاد طبيبٍ أو أكثر من الأطباء المتخصصين ، وأخذ موافقتهم أثناء العمليّة ، فهو أولى وأبعد عن التهمة ، وأدفع لحصول التقصير من الأطباء .
المبحث السادس : أن يستمر الإذن حتى ينتهي الإجراء الطبي :
إذا أذن المريض للطبيب بعلاجه فإنه لا يخلو إما أن يرجع في إذنه، ويمتنع عن الإجراء الطبي، أو يستمر على الإذن. فإن استمرت الموافقة منه على الإجراء الطبي حتى نهايته فلا إشكال في عمل الطبيب. أما لو رجع في إذنه وامتنع عن الإجراء الطبي فإنه لا يسوغ إجباره وإكراهه بدعوى الإذن السابق.
قال محمد بن أحمد الرملي – رحمه الله - : " فإن منعه من قلعها (4) – يعني الضرس – ولم تبرأ .. لم يجبر عليه " أ.هـ (5) .
__________
(1) …صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب بعد باب سؤال المشركين أن يُريهم النبي آية [6/731] برقم 3642 .
(2) …إعلام الموقعين [2/413] .
(3) …انظر : إعلام الموقعين [2/413] .
(4) …كذا عبّر بضمير المؤنث، قال في مختار الصحاح : [الضرس السن وهو مذكر ما دام له هذا الاسم ، لأن الأسنان كلها إناث إلا الأضراس ، وألانياب ] أ.هـ ، ص 379 مادة ضرس .
(5) …نهاية المحتاج [5/271] .(7/22)
وقال منصور البهوتي – رحمه الله - : " ويصح أن يستأجر من يقلع له ضرسه .. وإن لم يبرأ الضرس ، ولكن امتنع المستأجر عن قلعه لم يجبر على قلعه ، لأنه إتلاف جزء من الآدمي محرّم في الأصل، وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضرراً . وذلك مفوّض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلاً لذلك، وصاحب الضرس أعلم بمضرته ، ونفعه ، وقدر ألمه " أ.هـ (1).
فبناء عليه فإنه يُشترط للإجراء الطبي أن تستمر موافقة المريض عليه حتى نهايته ، فإن عاد وامتنع فإنه لا يجوز إجباره .
الفصل الثالث :حالات تعذر وجود الإذن الطبي
المبحث الأول : عدم وجود من له حق الإذن :
سبق أنه متى كان الشخص قادراً على التعبير عن إرادته ، أهلاً للإذن بالإجراء الطبي، فإن الإذن بالإجراء الطبي حق له ، لا يجوز لأحد أن يفتات عليه فيه ، وإلا انتقل الحق إلى وليه ، ولكن قد لا يكون للمريض ولي مع كونه غير أهل للإذن بالإجراء الطبي، ولبيان الحكم في مثل هذه الحالة فإنني أحتاج لتفصيل هذه المسألة إلى فرعين :
الفرع الأول :
أن يكون المريض مهدداً بالموت أو تلف عضوٍ من أعضائه إذا لم يتم إسعافه وعلاجه ، وحالته لا تسمح بالتأخير . وسأتناول هذه المسألة في المبحث الثاني من هذا الفصل .
الفرع الثاني :
أن لا يكون المريض في حالة خطرة ، بل تسمح حالته بالتأخير ، فهذا لا تخلو حالته إما أن يكون في مكان فيه حاكم شرعي يمكنه أن يقوم بالولاية عليه ، أو يقيم نائباً عنه يتولى هذا المريض ، وهنا لا بد من الرفع إلى الحاكم ليأذن بالإجراء الطبي لهذا إذ هو وليّ من لا ولي له، أو يقيم ولياً على المريض نائباً عنه إذ هذا من عمله كما سبق .
__________
(1) …كشاف القناع [4/14] ، وانظر : المغني [8/122] .(7/23)
فإن كان بمكان ليس فيه حاكم شرعي ، فهنا على من علم حاله من المسلمين القيام على هذا المريض بما يجب نحوه ، وذلك لأن هذا من التعاون على البر والتقوى ، الذي جاء الشرع بالامر به قال تعالى : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة : 2]
لأنه تخليص آدمي له حرمة فكان فرضاً ، كبذل الطعام للمضطر (1) . قال ابن مفلح : " فإن لم يوجد – يعني الحاكم – فأمين يقوم به اختاره الشيخ تقي الدين " أ.هـ (2) .
المبحث الثاني : غياب من له حق الإذن :
سبق في المبحث الأول أن لا يكون للمريض ولي يمكنه أن يأذن عن المريض. وهنا أتناول ما لو كان له وليّ لكنه غائب . وأحتاج إذ تعرّضت لهذه المسألة إلى أن أفرّع الكلام فيها إلى فرعين كما يلي :
الفرع الأول :
إذا لم يكن المريض في حالة خطرة بل تسمح حالته بالتأخير لحين قدوم وليّه، وهنا لا بد من انتظار الولي، لأنه أمكن تحقيق الواجب بدون ضرر فلزم المصير إليه . ولأنّ هذا التصرف في حق الغير بغير ضرورة فلا يجوز بغير إذنه (2) .
الفرع الثاني :
أن يكون المريض مهدداً بالموت أو تلف عضوٍ من أعضائه إذا لم يتم علاجه وإسعافه ، ومن أمثلته : المصابون في الحوادث المرورية ، والتهاب الزائدة الدودية إذا بلغ إلى درجة الخوف من انفجار الزائدة (3) . فهنا يجب على الطبيب مباشرة الإجراء الطبي دون استئذان لإنقاذ المريض، ويدلّ لذلك ما يلي :
__________
(1) …المهذب [1/434] . (2) المبدع شرح المقنع [4/336] .
(2) …منار السبيل [1/442] .
(3) …انظر أحكام الجراحة الطبية ص 262 .(7/24)
عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) .
ففي الحديث نهى عن الضرر، وترك تطبيب من يخشى عليه التلف، يؤدي إلى هلاكه، وهذا من الضرر، فيكون منهياً عنه (2) .
أن القاعدة الفقهية تنص على أن الضرورات تبيح المحظورات، (3) والخوف على النفس أو الطرف ضرورة تبيح للطبيب ترك الاستئذان .
أن الطبيب – ومن في حكمه – بين خيارين ، فهو إما أن يقدم على الإجراء الطبي دون أخذ الإذن ، إنقاذاً للمريض. وإما أن ينتظر مجيء الولي و حصول الإذن، والخيار الثاني يتعذر الأخذ به، لغلبة الظن بهلاكه في حالة التأخر، فلم يبق إلا الخيار الأول وهو المتفق مع أصول الشرع التي جاءت بحفظ الأنفس والحفاظ عليها (4) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " من قدر على إنجاء شخص بإطعام، أو سقي، فلم يفعل فمات ، ضمنه " أ.هـ (5) .
__________
(1) …سنن ابن ماجة ، كتاب الأحكام ، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره [2/784] برقم 2341 ، مسند الإمام أحمد [1/313] برقم 2865 من طرق عن عكرمة عنه به ، وقد ذكره الزيلعي في نصب الراية [4/384] وسكت عنه ، وقد روى أيضاً من حديث جماعة من الصحابة كأبي سعيد الخدري ، المستدرك للحاكم [2/58] كتاب البيوع ،= =وعبادة بن الصامت ، سنن ابن ماجة ، كتاب الأحكام ، باب من بني في حقه ما يضر بجاره [2/784] برقم 2340، مسند أحمد[5/326] برقم 22774 وغيرهم . قال النووي : " حديث حسن وله طرق يقوّي بعضها بعضاً] أ.هـ ، جامع العلوم والحكم ص 301 -302 ، وصححه الألباني في إرواء الغليل [3/408] برقم 896 .
(2) …أنظر : جامع العلوم والحكم ، ص 302 ، أحكام إذن الإنسان [2/595] .
(3) …الأشباه والنظائر لابن نجم ، ص 85 ، الأشباه والنظائر للسيوطي ، ص 173 .
(4) …الموافقات للشاطبي [2/14] ، مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور، ص 79 .
(5) …الإختيارات الفقهية ، ص 301 .(7/25)
وقال ابن رجب في معرض كلامه عن التصرفات للغير دون إذن : " .. أن تدعو الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه ، ويتعذر استئذانه ، إما للجهل بعينه ، أو لغيبته ، ومشقة انتظاره ، فهذا التصرف مباح جائز .. " أ. هـ (1) .
المبحث الثالث : امتناع من له حق الإذن من الإذن :
سبق أن تناولت الرأي المختار في التداوي أنه غير واجب، وعليه فإن المريض متى امتنع عن الإذن لعلاجه في غير الضرورة فإن ذلك من حقه، ولا يجبر على التداوي والذي يظهر لي هو أن الفقهاء الذين لم يوجبوا التداوي لم يفرقوا بين حالة الضرورة وغيرها في الإذن بالإجراء الطبي، فالحكم عندهم واحد.
قال الشيخ منصور البهوتي : " ويكره قطع الباسور ... ومع خوف تلف بتركه بلا قطع يُباح قطعه لأنه تداوٍ ولا يحب التداوي في مرض ، ولو ظن نفعه إذ النافع في الحقيقة والضار هو الله تعالى والدواء لا ينجح بذاته " أ.هـ (2) .
فأنت ترى أنّه أباح قطع الباسور مع وجود خوف التلف إذا تُرك ، فدل على عدم وجوب التداوي ولو مع خوف التلف.
وقال الشيخ محمد الخطيب الشربيني " ويسن للمريض التداوي ... فإن قيل هلاّ وجب كأكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالخمر أجيب بأنّا لا نقطع بإفادته بخلافهما " أ.هـ (3)
فتأمل كيف لم يوجب التداوي لعدم القطع بإفادته مع اضطراره كما يظهر من المثال.
وعليه فإن المريض لا يأثم لو امتنع عن التداوي حتى مات، ولا يكون قاتلاً لنفسه، لأن ترك التداوي غير محرم ، ولأن التداوي ليس مقطوعاً بنفعه، ولا هو السبب الوحيد للشفاء، وعلى ذلك نص الفقهاء .
قال ابن عابدين : " فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى ، لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة ، وأنه منهي عنه في محكم التنزيل ، بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات، إذ لا يتيقن بأنه يشفيه " أ.هـ (4) .
__________
(1) …القواعد ، ص 419 .
(2) …شرح منتهى الإرادات [1/320] .
(3) …مغني المحتاج [1/357] .
(4) …حاشية ابن عابدين [5/296] .(7/26)
فقد فرق بين ترك الطعام والشراب المفضي إلى الموت ، وترك التداوي المفضي إليه بأن الطعام والشراب مقطوع بنفعهما في مستقر العادة ، بخلاف التداوي .
وهذا إذا امتنع عن علاج نفسه ، أما الولي فإنه لا يسوغ له أن يمتنع عن معالجة موليه إذ الولاية تتضمن فعل الأصلح وعدم العلاج ضرر محض فلا يكون من حق الولي .
الفصل الرابع :
الإذن لغير مصلحة الآذن
وفيه مباحث :
المبحث الأول : الإذن لإجراء التجارب .
المبحث الثاني : الإذن في حالة النشر .
المبحث الثالث : الإذن بقطع عضو للتبرّع به .
المبحث الرابع : الإذن بقطع عضو لغير التبرّع به .
وتفصيلها في أصل بحثنا ويمكن مراجعته هناك.
الفصل الخامس :
أثر الإذن الطبي في الضَّمان
وفيه مباحث :
المبحث الأول : الطبيب الذي لم يؤذن له
المبحث الثاني : الطبيب المأذون له
وفيه مطالب :
المطلب الأول : إذا تعمّد الجناية.
المطلب الثاني : إذا أخطأ أو قصّر .
المطلب الثالث : إذا تولّد من فعله المطابق للأصول العلميّة تلف نفسٍِ أو عضو.
المطلب الرابع : إذا لم يقصد بالإجراء الطبي تحقيق مصلحة مشروعة.
المبحث الثالث : المتطبب الجاهل .
المبحث الرابع : الطبيب غير النظامي (الشّعبي)
وتفصيلها في أصل بحثنا ويمكن مراجعته هناك.
وبهذا ننتهي مما أردناه من عرض موجز لهذا الموضوع , وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه .(7/27)
جريمة الردّة
د/ هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه .
أمّا بعد :
…
فإن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليدل الناس على الإسلام الذي هو أكمل الشرائع ، وأمره ( أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله . ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق من بطونهم ، بل يُجرى عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ، ويجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم ، فأحكام الدنيا على الإسلام ، وأحكام الآخرة على الإيمان .
ولهذا قبل إسلام الأعراب ، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، وقبل إسلام المنافقين ظاهرًا ، وأخبر أنّه لا ينفعهم يوم القيامة شيئًا ، وأنّهم في الدرك الأسفل من النار .
فأحكام الله تعالى جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه )(1) .
فانقسم الناس تجاه دعوته إلى المؤمنين الصادقين ، والكفار الظاهرين ، والمنافقين المستترين ، فعامل كلاً بما أظهر ، ثم إن أهل الإيمان انقسموا بحسب تفاوت درجاتهم في الإيمان والعمل الصالح إلى درجات كما قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } ( سورة فاطر آية 32 ) .
__________
(1) تضمين من إعلام الموقعين لابن القيم ( 2/126 ) .(8/1)
وحكم على من أظهر كفره من المنافقين ، أو كفر من المسلمين بالقتل كفًّا لشرهم درعًا لغيرهم فإنّ محاربتهم للإسلام بألسنتهم أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان ، وفتنة هذا في القلوب والإيمان ، وهذا بخلاف الكافر الأصلي ؛ فإن أمره كان معلومًا ، وكان مظهرًا لكفره غير كاتم له ، والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه ، وجاهروه بالعداوة والمحاربة ، ولو ترك ذلك الزنديق لكان تسليطًا له على المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبّة الله ورسوله وأيضًا فإن من سب الله ورسوله وكفر بهما فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا فجزاؤه القتل حَدًّا ولا ريب أن محاربة الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادًا فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على عشرة دراهم ولا تأتي بقتل من صال على كتاب الله وسنة نبيّه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد . (1)
وبين يديك - أخي القارئ الكريم - ورقات قليلة في جريمة الردّة تعرض جانبًا من نظرة الإسلام إليها وإلي عقوبتها سائلاً الله تعالى أن ينفع بها .
…
تعريف الردّة :
…
…الردّة في اللغة : الرجوع عن الشيء والتحول عنه ، سواء تحوّل عنه إلى ما كان عليه قَبْل ، أو لأمرٍ جديد .
…ويقال : ارتدّ عنه ارتدادًا ، أي : تحوّل .
…ويقال : ارتد فلانٌ عن دينه إذا كفر بعد إسلامه . (2)
…وتدل في الاصطلاح الشرعي : على كفر المسلم بقول أو فعل أو اعتقاد . (3)
وقوع الردَّة وحصولها :
…
__________
(1) منقول بتصرف واختصار من إعلام الموقعين ( 3/130 ).
(2) معجم مقاييس اللغة ( 2/386 ) . لسان العرب ( 3/172 ) .
(3) الروض المربع مع الحاشية ( 7/399 ) .(8/2)
…الردّة عن الإسلام والتحوّل عنه – أعاذنا الله منها وثبتنا على دينه – أمر ممكن الحصول فقد ذكرها الله تعالى في كتابه محذرًا منها ، ومبينًا عاقبتها ؛ قال تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ( سورة البقرة آية 217 ) .
…وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ( سورة المائدة آية 54 ) .
…وقال تعالى : { من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } ( سورة النحل آية 109 ) .
…في آيات كثيرة تبين هذه المعنى .
…كما أخبر تعالى عن وقوع الكفر من طائفة من الناس بعد إيمانهم .
قال تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى الشيطان سَوّل لهم وأملى لهم } ( سورة محمد آية 25 ) .
…وقال : { ولئن سألتهم ليقولُن إنما كنا نخوص ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ( سورة التوبة آية 65 ، 66 ) .
…وقال : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } ( سورة التوبة آية 74 ) .
…وقال : { إنّ الذين آمنوا ثم كفروا ثم أمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } ( سورة النساء آية 137 ) .
…كما وقعت الردة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف نذكر منها : قصّة عبيد الله بن جحش فإنّه كان قد أسلم وهاجر مع زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة فرارًا بدينه .(8/3)
…قالت أم الحبيبة : رأيت في النوم عبيد الله زوجي بأسوأ صورةٍ وأشوهها ، ففزعت وقلت : تغيّرت والله حالُهُ ! . فإذا هو يقول حيث أصبح : إنّي نظرت في الدين ، فلم أر دينًا خيرًا من النصرانية ، وكُنت قد دنت بها ، ثم دخلت في دين محمد ، وقد رجعتُ ، فأخبرتُهُ بالرؤيا ، فلم يحفِل بها ، وأكبَّ على الخمر .. حتى مات . (1)
…ومنها ما حصل عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .
…قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسِّير أنّه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا ، وكان يجرى ذلك لأسباب : منها أمر القبلة لما حوّلت ارتدّ عن الإيمان لأجل ذلك طائفة ، وكانت محنة امتحن الله بها الناس . قال تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } ( سورة البقرة آية 143 ) "(2)
…ومنها ما حصل في غزوة تبوك أن قال رجل في غزوة تبوك : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا ، وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . فقال { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . (3)
…وقريب من هذا ما حصل لهشام بن العاص رضي الله عنه فإنّه أسلم وتواعد على الهجرة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم إنّه حبس عنه وفتن فافتتن .
__________
(1) سير أعلام النبلاء ( 2/221 ) . طبقات ابن سعد ( 8/97 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 7/278 ) .
(3) تفسير ابن كثير ( 7/227 ) . السيرة لابن هشام ( 2/542 ) . تفسير الطبري ( 14/333 ) .(8/4)
…قال ابن إسحاق وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حديثه قال : فكنا نقول : ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفًا ولا عدلاً ولا توبة ، قومٌ عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم ! .
…قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنّه هو الغفور الرحيم } ( سورة الزمر آية 53 ) .
…فقدم المدينة بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . (1)
…وسيأتي في ثنايا المقال مواقف ونصوص أخرى تدل على حصول الردة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها لم ترتبط بعداوة الإسلام وحربه ولكنها كانت مع ذلك ردّة موجبة للخروج عن الإسلام وموجبة لتجريم فاعلها ولو لزم داره .
…بل إن المنافقين في الصدر الأول كان منهم من آمن ثم نافق بعد إيمانه ، وهذه ردّة أيضًا .
…قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " وكذلك لما انهزم المسلمون يوم أحد وشجّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته ، ارتد طائفةٌ نافقوا .. قال تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } ( سورة آل عمران آية 166 ، 167 ) . فإن ابن أبيّ لما انخزل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد انخزل معه ثلث الناس ، قيل : كانوا ثلاثمائة ، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن ؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق ...
…وفي الجملة : ففي الأخبار عمّن نافق بعد إيمانه ويطول ذكره "(2) .
…
عظم جريمة الردّة :
…
__________
(1) السيرة لابن هشام باختصار ( 1/476 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 7/279 ) .(8/5)
…إنّ أهم مقصد جاء الإسلام بتحقيقه في الناس هو تحقيق توحيد الله والإيمان به ونفي الشرك والكفر والتحذير منهما ، وقد جاءت أيضًا بحفظه في نفوس من اعتنقه وذلك أن العالَم لا يستقيم بدونها ، فضياعها مهلك للبشر ، وإذا تأمل الإنسان حال البشريّة عند بعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام فسيجد أنّه بعث على فترةٍ من الرسل في زمن تخبطت فيه البشريّة كما وصفوا في الحديث القدسي : ( إنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم(1) عن دينهم ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانًا وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب .. ) (2) .
… وهؤلاء البقايا مات أكثرهم قبل مبعثه(3) ، فصار الناس في جاهليّة جهلاء من مقالات مبدّلة أو منسوخة أو فاسدة قد اشتبهت عليهم الأمور مع كثرة الاختلاف والاضطراب .
…( فهدى الله الناس ببركة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البينات والهدى ، هدايةً جلّت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين ، حتى حصل لأمته المؤمنين عمومًا ولأولي العلم منهم خصوصًا ، من العلم النافع والعلم الصالح ، والأخلاق العظيمة ، والسنن المستقيمة ، ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علماً وعملاً إلى الحكمة التي بُعث بها لتفاوتا تفاوتًا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى ) . (4)
__________
(1) اجتالتهم : أي استخوهم فذهبوا بهم ، وأزالوهم عما كانوا عليه . شرح النووي ص 1666 .
(2) صحيح مسلم ( 2765 ) .
(3) انظر : اقتضاء الصراط المستقيم ص 53 .
(4) المرجع السابق ص 54 .(8/6)
…ولذا صار الشرك بالله تعالى أعظم الذنوب . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ) قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) قلت : ثم أيّ ؟ قال : ( أن تزاني حليلة جارك ) (1) .
…وعند تأمل حال أمة ليس فيها سلطان للدين ولا رقيب منه وكيف يتسلط بعضهم على بعض عند ذلك ، لأن أهواء الناس تتفاوت وتختلف وكل شخص سيفعل ما يراه مصلحةً له بحسب هواه ، وإن منعه وازع من السلطان في العلن ، فلن يتحفظ في السرّ ، وعند ضعف الوازع السلطاني ؛ عن الاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض ، فترى النفوس تغتال والأموال تختلس والأعراض تنتهك ، والشاهد الجلي لهذا حال الدول غير المسلمة إذا ضعفت فيه السلطة فتحصل الاغتيالات وانتهاب الأموال وانتهاك الأعراض . (2)
…ولذا كانت البيعة التي يأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء تتضمن أن لا يشركوا ولا يزنوا ولا يقتلوا كما في سورة الممتحنة وكتب الحديث . (3)
…بل ( ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعةً : الشرك والزنا وقتل النفس ، ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة ! الجريمة الأولى قتل للفطرة ، والثانية جريمة قتل للجماعة , والثالثة جريمة قتل للنفس المودة ، إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد : فطرة ميتة .. ومن ثَمّ يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسم العقوبات ؛ لأنّه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار .. ) (4) .
__________
(1) صحيح البخاري ( 4477 ) . صحيح مسلم ( 141 ) .
(2) انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة لمحمد سعد اليوبي ص 183 ، 210 .
(3) صحيح البخاري ( 3892 ) . صحيح مسلم ( 1709 ) .
(4) في ظلال القرآن ( 3/1231 ) .(8/7)
…والتساهل في هذه العقوبة يؤدي إلى زعزعة النظام الاجتماعي القائم على الدين ، فكان لابد من تشديد العقوبة لاستئصال المجرم من المجتمع ومنعًا للجريمة وزجرًا عنها وشدة العقوبة تولّد في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها ، ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال . (1)
…ومن المعلوم أن العقوبات تتناسب مع الجرائم فكلما ازدادت بشاعة الجريمة استلزمت عقابًا موازيًا لها في الشدة . (2) ومن المبادئ المتفق عليها لدى التشريعات الجنائية مبدأ مقارنة جسامة الجريمة بجسامة العقوبة ، وكلما زادت العقوبة في جسامتها دل على ارتفاع جسامة الوصف القانوني للجريمة .
…ويطلق على هذا المبدأ : مبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة .
أسباب الردّة :
…
عند تأمل التأريخ والواقع نجد جملة أسباب ودوافع أدت إلى حصول حوادث الردّة ، وهي إن كانت على مرّ التأريخ حوادث جزئية وقليلة إلا أننا يمكن من خلال تأملها استلهام جملة من الأسباب الدافعة أو المساعدة على حصول الردة .
…ومن هذه الأسباب :
كيد الكفار بالمسلمين :
__________
(1) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة ( 1/662 ) .
(2) عقوبة الإعدام عقوبة مقررة في الشرائع السابقة وفي القوانين الوضعية المعاصرة وقد أيدها عدد من المفكرين منهم روسو وفولتير ومونتسيكو وغيرهم بل بعض الدول الغربيّة التي ألغت عقوبة الإعدام عادت فأقرتها مثل إيطاليا ، والاتحاد السوفيتي بحجّة أن من ارتكب جرمًا خطيرًا أو شديد الضرر فعليه أن يدفع حياته ثمنًا لإثمه الكبير ، وكونها عقوبة ضرورية لتخليص المجتمع من الأشخاص الخطرين ، وأنها تصرف عن الإقدام على الجريمة .
انظر : علم الإجرام والعقاب للدكتور عبّود السرّاج ص 407 – 417 ؛ أساسيات علم الإجرام والعقاب للدكتور فتوح الشاذلي ص 106 – 119 ؛ النظريّة العامة لقانون العقوبات د. سليمان عبد المنعم ص 729 فما بعدها .(8/8)
فمن مكر الكفار وكيدهم القديم أن يدخل طائفة منهم في الإسلام - ظاهرًا - حتى إذا سكن إليهم المسلمون ، عادوا فارتدوا معلنين السَّخَط على الدين وعدم الرضى به ، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويصدونهم عن سبيله .
وقد ذكر الله تعالى هذه المكيدة منهم في كتابه قال تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } ( سورة آل عمران آية 72 ) .
قال قتادة : قال بعضهم لبعض : أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار واكفروا آخره ، فإنّه أجدر أن يصدقوكم ، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون ، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم . (1)
قال السُّدي : كان أحبار قرى عربيّة أثني عشر حبرًا ، فقالوا لبعضهم : ادخلوا في دين محمد أوّلَ النهار وقولوا : نشهد أن محمد حق صادق ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا : إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم ، فحدثونا أن محمدًا كاذب ، وأنكم لستم على شيء وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم ، لعلهم يشكّون ، يقولون هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار ، فما بالهم ؟
فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك . (2)
ضعف الإيمان فلا يثبت عند المحن :
فمن خالط الإيمان قلبه فإنّه لا يتزحزح عنه لأي طارئ ، وقد سأل هرقل أبا سفيان ابن حرب قبل أن يسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة يستكشف بها حقيقة حاله فكان مما سأله هل يرتدّ أحد منهم – أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فقال أبو سفيان : لا . فقال هرقل : وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . (3)
وفي رواية زاد : لا يسخطه أحد ، وفي رواية : وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبًا فتخرج منه . (4)
__________
(1) تفسير الطبري ( 5/496 ) .
(2) المرجع السابق .
(3) صحيح البخاري ( 7 ) .
(4) انظر : فتح الباري لابن حجر ( 1/49 ) .(8/9)
ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميّة من اتخذل من المسلمين يوم أحد مع عبد الله بن أبي قال : " أولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان .. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه ، ولم يكونوا من المؤمنين حقًّا الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان ، ولا من المنافقين حقًّا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة ، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم ، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرًا وينافق أكثرهم أو كثير منهم . ومنهم من يظهر الردّة . إذا كان العدوّ غالبًا ؛ وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة .
وإذا كانت العافية ، أو كان المسلمون ظاهرين على عددهم كانوا مسلمين ..) (1) .
ولهذا كانت فائدة المحنة والابتلاء أن يظهر الصادق من الكاذب .
قال تعالى : { أحسب الناس أن يتركوا أ، يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين } ( سورة العنكبوت آية 2 ، 3 ) .
وقال تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم } ( سورة محمد آية 31 ) .
الافتتان بما لدى الكفار :
وهذا الافتتان يتخذ صورًا عديدة يجمعها ويربط بينها ضعف الشخصية الإيمانية والاقتناع التام بصدق المبدأ .
فمن ذلك الفتنة بما قد يمكّن للشخص من شهوات ، ولما حاصر النصارى عكا سنة ست وثمانين وخمسمائة استمرت أمداد الفرنج تقدم عليهم من البحر كل وقت حتى أنَّ النساء ليخرجن بنيّة راحة الغرباء في الغربة ؟! ، فقدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة حسناء بهذه النيّة ، حتى إنّ كثيرًا من فسقة المسلمين تحيّزوا إليهم لأجل هذه النسوة . (2)
__________
(1) في ظلال القرآن ( 3/1231 ) .
(2) البداية والنهاية ( 16/612 ) .(8/10)
وذكر ابن كثير(1) أيضًا قصة مجاهد يدعى : عبده بن عبد الرحيم وأنّه في بعض الغزوات نظر إلى امرأة من نساء الروم فهويها وتنصّر من أجلها فاغتمّ المسلمون بسبب ذلك فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو معها فقالوا : يا فلان ما فعل قرآنك ؟ فقال : اعلموا أنّي نسيت القرآن كله إلا قوله : { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } ( سورة الحجر آية 2 ، 3 ) .
ومنها : الافتتان بما لديهم من إتقان لأعمال الحياة الدنيا ، ومهارتهم فيها ، مع عجز المسلمين عن ذلك ، ( فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنّه على الحق ، وأنّ من عجز عنها متخلّف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ... فقد أوضح جل وعلا في قوله تعالى : { يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } ( سورة الروم آية 7 ) .
أن أكثر الناس لا يعلمون ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيويّة دخولاً أوليًا ؛ لأنهم لا يعلمون شيئاً عمن خلقهم .. ورزقهم ، ولم يعلموا شيئًا عمن مصيرهم الأخير ، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من يعلم .. بل علمهم في غاية الحقارة بالنسبة لما فاتهم ) (2) لأنه لا يجاوز ظاهر الحياة الدنيا .
سعي اليهود والنصارى :
وهذا السبب أوضح من استشهد عليه أو أقرره فقد بيّنه الله تعالى أتم بيان بقوله : { ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم } ( سورة البقرة آية 120 ) .
وقال عن الكفار : { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } ( سورة البقرة آية 217 ) .
قال : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } ( سورة آل عمران آية 100 ) .
وقال : { ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد أيمانكم كفارًا } ( سورة البقرة 109 ) .
__________
(1) البداية والنهاية ( 14/640 ) .
(2) أضواء البيان في أيضاح القرآن بالقرآن ( 6/478 ) .(8/11)
ويظهر هذا بجلاء في المساعي التنصريّة التي لا تزال تمارس نشاطاتها في العالم الإسلامي بصورة مباشرة حينًا ، وبدعم التوجيهات غير الدينيّة من داخل بلاد الإسلام أحيانًا أخرى .
وهي مساعٍ عظيمة جدًا ينفق عليها بسخاء كبير . (1)
واستعملوا لتحقيقها عدة طرق : من التطبيب ، والتعليم ، ونشر الفتن والحروب ، والأعمال الاجتماعية وغيرها .
ويتأكد هذا الأمر عندما نعلم مدى تأثير الدين في الحياة الأمريكية حتى يمتزج بجميع نواحي الحياة ، وحتى يصبح من أقوى العوامل في نجاح المرشح في الانتخابات وفي فشله أيضًا . (2)
عقوبة المرتد :
المسلم باعتناقه للإسلام يعصم دمه وماله في الدنيا ، وأما قبل إسلامه فإنّ الأصل أنه مباح الدم إلا إذا طرأ له عهد أو ذمة أو أمان أو مانع يمنع من قتله .
فكل شخص لم يعتنق الإسلام فالأصل أنّه مباح الدم إلا لعارض .
__________
(1) فالرسائل التي كتبها ( المبشرون ) من سوريا والشرق الأدنى بين عامي 1830م بلغت ثمانية وثلاثين مجلدًا ، ولما اجتمع مؤتمر التبشير العالمي عام 1910م أصدر تقريرًا عن النواحي التي يجب أن يهتم لها المبشرون ثم طبعه في عشر مجلدات ، أما مؤتمر التبشير في القدس عام 1928م الذي اجتمع لمدة أسبوعين فقط فقد وضع تقريرًا في ثمانية مجلدات ومؤتمر كلورادو عام 1978م قدمت فيه أربعون دراسة ورصد للتبشير فيه ألف مليون دولار .
……أما المجلات التي صدرت في بلدان مختلفة وبلغات مختلفة لغرض التنصير فأكثر من أن تحصى وكذلك الإذاعات والقنوات .====
وأحيل القارئ الكريم إلى : كتاب الغارة على العالم الإسلامي الذي تولى نشره محب الدين الخطيب ، وكتاب التبشير في البلاد العربيّة لمصطفى خالدي وعمر فرّوخ ، وكتاب الغارة الجديدة على الإسلام لمحمد عمارة وهو يتضمن الترجمة الكاملة لتقرير مؤتمر كولورادو ، وكتاب أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للميداني .
(2) البعد الديني في السياسة الأمريكية للدكتور يوسف الحسن ص 67 ، 83 .(8/12)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى ) (1) .
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وصلّوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ) (2) .
فقوله : عصموا مني دماءهم ، وقوله : حرمت علينا دماؤهم ، يدل ( على أنه كان مأمورًا بقتل من أبى الإسلام ..فإذا نطق بالشهادتين عُصم دمه وصار مسلمًا فإذا دخل في الإسلام فإن أقام الصلاة وآتي الزكاة وقام بشرائع الإسلام فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ) (3)
ويدل لذلك قوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } ( سورة البقرة آية 193 ) . وقوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ( سورة التوبة آية 5 ) .
فالإسلام ه والعاصم عن إباحة دم الإنسان في الأصل وأما غيره من الأسباب التي تمنع من قتل غير المسلم فهي أسباب طارئة تنتهي بانتهاء غايتها .
والمسلم نفسه متى ترك الإسلام عاد للحال التي كان عليها من حل الدم والمال بل هو أشد ؛ لأن ضرره أعظم ، ولأنه قد قامت عليه من الحجّة ما هو أبلغ من غيره .
__________
(1) صحيح البخاري ( 25 ) ؛ صحيح مسلم ( 22 ) .
(2) صحيح البخاري ( 391 ) .
(3) انظر : جامع العلوم والحكم ( 1/230 ) .(8/13)
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر بعض أسباب القتل وكان منها : الكفر وبيّن أن من الفقهاء من جعل نفس الكفر مبيحًا للدم ، ومنهم من جعله وجود الضرر منه أو عدم النفع فيه ، قال بعد ذلك : ( أما المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان ، وهو نوع خاصٌّ من الكفر ، فإنّه لو لم يقتل لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين واللدين ، فإنّ ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه ، بخلاف من لم يدخل فيه ، فإنّه إن كان كتابيًا فقد وجد إحدى غايتي القتل في حقّه وإن كان وثنيًا .. ولم يمكن استرقاقه ولا أخذ الجزية منه بقي كافرًا لا منفعة في حياته لنفسه ؛ لأنه بزداد إثماً ، ولا للمؤمنين ؛ فيكون قتله خيرًا من إبقائه ) (1) .
إذا تقررت هذه القاعدة من أن أكبر عاصم لمال الإنسان ودمه هو الإسلام فإننا نعلم أن خروج الإنسان عن الإسلام بعده رافع لهذه العصمة ، ولذا جاء الشرع في نصوص كثيرة جدًا تبيّن حد المرتد وأنّه القتل .
فمنها قوله تعالى : { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم وإن يتولوا يعذبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } ( سورة التوبة آية 74 ) فبين تعالى أن من كفر بعد إسلامه إن تاب وإلا يعذّب عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة .
وعذابه في الدنيا هو الحد .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( .. ولكونهم أظهروا الكفر والردة ، لهذا دعاهم إلى التوبة فقال : { فإن يك خيرًا لهم وإن يتولوا } عن التوبة { يعذبهم عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة } وهذا لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة ) (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 20/102 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 7/273 ) .(8/14)
وقال ابن الجوزي : ( قوله تعالى : { وإن يتولوا } أي يعرضوا عن الإيمان { يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا } بالقتل وفي الآخرة بالنار ) (1) .
وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في نصوص نبويّة كثيرة ..
فمنها : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من بَدّل دينه فاقتلوه ) (2) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا إذ دخل رجلان وافدين من عند مسيلمة فقال لهما رسول الله : ( أتشهدان أني رسول الله ؟ ) فقالا له : أتشهد أنت مسيلمة رسول الله ؟ فقال : ( آمنت بالله ورسله لو كنت قائلاً وافدًا لقتلتكما ) (3) .
وجاء من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي : أما والله لو لا أنّ الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما . (4)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ارتدت امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام وإلاّ قتلت فعرضوا عليها الإسلام فأبت إلا أن تقتل ، فقُتلت . (5)
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل وقد كان مسلمًا ثم ارتد مشركًا . (6)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) (7) .
__________
(1) زاد المسير ص 596 ؛ ومثله في الكشاف للزمخشري ص 442 ؛ والشوكاني في فتح القدير ( 2/545 ) .
(2) صحيح البخاري ( 3017 ) .
(3) الدارمي ( 2545 ) وصححه ابن حبان ( 4879 ) .
(4) سنن أبي داود ( 2762 ) وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 5328 ) .
(5) سنن البيهقي ( 17337 ) ؛ والدارقطني ( 3/118 ) ؛ وانظر : تلخيص الحبير ( 4/49 ) .
(6) صحيح البخاري ( 1846 ) ؛ صحيح مسلم ( 1357 ) .
(7) صحيح البخاري ( 6878 ) ؛ صحيح مسلم ( 1676 ) .(8/15)
وروت عائشة رضي الله عنها مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم .(1)
وعن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفسًا بغير نفس )(2).
وفي رواية : ( أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل )(3) .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية ، فقالت : إلى أين ؟ فقال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه أن أقتله ، أو أضرب عنقه . (4) وزاد في رواية : وآخذ ماله ، أو : أصفي ماله ، أو : أخمّس ماله .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " إنّ تخميس ماله دَلَّ على أنّه كان كافرًا إلا فاسقًا ، وكفره بأنّه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله "(5) لأنه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربّه ، وجحود لآية من القرآن .
وفي السنة من النصوص الواردة في قتل الساحر ما ينضم إلى ما تقدَّم أيضًا .
وثبت القتل للمرتد من فعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .ورضي عنهم .
فقد أُتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم بالنار . (6)
وورد ذلك عن ابن عمر وعثمان وأبي بكر رضي الله عنهم . (7)
__________
(1) صحيح مسلم ( 1676 ) .
(2) سنن الترمذي ( 2158 ) وحسنّه ؛ والنسائي ( 7/91 ) ؛ وابن ماجة ( 2533 ) .
(3) سنن النسائي ( 7/103 ) .
(4) مسند أحمد ( 4/295 ) ؛ سنن أبي داود ( 4457 ) ؛ الترمذي ( 1362 ) ، ابن ماجة ( 2607 ) وصححه ابن حبان ( 4112 ) ؛ والحاكم ( 2/191 ) ووافقه الذهبي . وصححه الألباني في إرواء الغليل ( 8/18 ) وفيه روايات الحديث .
(5) مجموع الفتاوى ( 20/92 ) . ولابد أن تعلم أن هذا ليس مجرد فاعل معصية بل فعل ذلك مستحلاً للحرام فصار كافرًا .
(6) صحيح البخاري ( 3017 ) .
(7) سنن البيهقي ( 12/400 ) فما بعدها .(8/16)
ولما قدم معاذ بن جبل على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما إذا رجل عنده موثق ، قال : ما هذا ؟ قال : كان يهوديًا فأسلم ، ثم تهوّد ، قال : أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، فأمر به فقتل . (1)
والحكم بقتل المرتد محل إجماع من المسلمين (2)، فلم يقع في أصله خلاف ، وإن حصل اختلاف في فروعه كالاستتابة ومدتها وأنواع المكفرات .
ولكن هذا القتل لا يكون إلا بأمر حاكم ، لأن مرجع تنفيذ الأحكام إليه ، عند جمهور أهل العلم ، كما لا يقبل حتى يستتاب ويصرّ على ردّته ، ولابد من تحقق الردّة بثبوت موجبها وتحقق شروطها وانتفاء موانعها من الخطأ والإكراه ونحو ذلك . (3)
ومعنى ما سبق أن إثبات الحد الشرعي شيء ، وتطبيقه في الواقع شيء آخر ، فإن تنزيل الأحكام على الوقائع مختص بأهله .
شبهات حول حد الردّة :
يظهر مما سبق أن الحكم بقتل المرتد حدًا حد شرعيٌّ ثابت بالنص النبوي قولاً وفعلاً وبإجماع المسلمين ودَلّ عليه كتاب الله تعالى : - تفقهًا - وعمل الصدر الأول من الأمّة .
وهو متّسق مع قاعدةٍ كلية وهي إباحة دم الكافر إلا بطروء ما يعصمه .
وكل ما سبق مثبتٌ - بلا شك - أن القتل للمرتد واجب من واجبات الدين .
__________
(1) صحيح البخاري ( 6923 ) .
(2) الإجماع لابن المنذر ص 123 .
(3) انظر : حاشية الروض المربع ( 7/399 ) فما بعدها ؛ مغني المحتاج ( 4/142 ) ؛ حاشية ابن عابدين ( 4/668 ) ؛ الموسوعة الفقهيّة الكويتية ( 22/194 ) ؛ التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة ( 2/706 ) .(8/17)
إلا أن هذا العصر لما شهد إعراض بعض الأمم عن تطبيق هذا الحد ، أخذ بعضهم يبحث عن وسائل يجعل هذا الحد محل تردد وأورد لذلك شبهات وتوصّل بعد ذلك إلى تحريم الردّة ولكن جعل عقوبتها تعزيريّة عائدة لرأي الإمام إما بالقتل أو بالسجن أو بغيرهما . (1)
وآخر بحث مثله عن شبهات وتوصل بعد عرضها والكلام حولها إلى أنّه لا عقوبة على الردة ! (2)
ومجمل الشبهات التي أوردها هؤلاء هي :
أن عقوبة الردة وردت في أحاديث آحاد ، والحدود لا يثبت بحديث آحاد .
وقد تبيّن مما سبق أن حد الردة محل إجماع ، والإجماع يرفع الحكم إلى القطعيات ، كما أنّه ورد بعدة طرق وأخرجه صاحب الصحيح مما يجعله محفوفًا بالقرائن التي ترفعه إلى إفادة العلم كما قرره الحافظ ابن حجر في نزهة النظر(3) . وقد نقل أيضًا في نفس الموضع الإجماع على وجوب العمل بما في الصحيح .
ثم إن أحاديث الآحاد لم يتوقف علماء الصدر الأول من الإسلام عن الأخذ بها سواء في العلميات أو العمليات ، ولم يقسّم الحديث إلى آحاد ومتواتر إلا الجهميّة في القرن الثالث الهجري . (4)
__________
(1) انظر : موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر ( 3/439 ) ؛ موقع إسلام أون لاين : الإسلام وقضايا العصر مقال بعنوان : عقوبة الردة تعزير لا حدّ لمحمد سليم العوّا .
(2) موقع إسلام أون لاين ، ملف : قضيّة الردة هل تجاوزتها المتغيرات ، مقال لجمال البنا بعنوان : لا عقوبة لردة ؛ كتاب حرية الفكر في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي .
(3) نزهة النظر ص 228 .
(4) انظر : المنهج المقترح لفهم المصطلح للشريف حاتم العوني ص 100 فما بعدها .(8/18)
ولذا قال ابن حبان رحمه الله : " فأما الأخبار فإنّها كلها أخبار آحاد ؛ لأنّه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين ، وكل واحد منهما عن عدلين ، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما استحال هذا ، وبطل ، ثبت أنَّ الأخبار كلها أخبار آحاد . وأن من تنكّب عن قبول خبر الآحاد فقد عمد إلى ترك السُّنن كلها لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد "(1) .
كما أنّ حد الزاني المحصن وشارب الخمر وتفصيلات حدود السرقة وزنا البكر كلها إنّما ثبتت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآحاديّة .
ومع كل ذلك فإنَّ لدينا على هذا الحد دليل من القرآن تقدم ، وإجماع مَرّ معنا .
ونظير هذه الشبهة : أن هذا الحكم لم يذكر في القرآن .
وهو مع الإشارة إليه في القرآن ، ومع اعتقادنا أنَّ السنة مصدر التشريع فإني ذاكر حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذ لعن الواشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله . فقالت امرأة قرأت القرآن يقال لها أم يعقوب : ما هذا ؟ فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُهُ . قال : والله لو قرأتيه لقد وجدتيه { وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا } ( سورة الحشر آية 7 ) . (2)
ولاشك عند كل مسلم سليم الاعتقاد أنَّ الحديث حجة بنفسه فهو عليه الصلاة والسلام { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحيٌ يوحى } ( سورة النجم آية 3-4 ) .
ومن الشبهات أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب أحدًا من المرتدين بقتله .
__________
(1) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ( 1/156 ) ؛ وانظر : كتاب الفقيه والمتفقه ( 1/286 ) .
(2) صحيح البخاري ( 5939 ) .(8/19)
وقد تبين مما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من ارتد وعاقب بذلك . (1)
بل عاقب به من لم يحارب المسلمين ولم يقاتلهم .
الردّة وحريَّة الاعتقاد :
لا شك أنّ كل مسلم يعلم أنّ الإسلام هو الدين الحقّ وأنّ ما عداه باطل { ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }( سورة آل عمران آية 85 ) .
لذا فإن على كل عاقل أن يسلم لله رب العالمين ، فإن لم يسلم فقد تنكّب الصراط المستقيم وخالف مقتضى العقل ، وداعي الفطرة .
ولا يعني هذا منع الإنسان من التفكير ، بل هو بتفكيره السليم منقادٌ للإيمان بالله تعالى .
وعلى هذا فليس للإنسان حريّة في الاعتقاد ، بل مطلوب منه الإيمان ، ولكن لا يُكره عليه ، فإن أُكره فإنّ إيمانه لا ينفقه ؛ لأنّه لم يكن عن قناعةٍ واطمئنان قلب .
قال تعالى : { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا }( سورة غافر آية 84 ، 85 ) .
أي : أنهم ما عاينوا وقوع العذاب بهم وحدوا الله وكفروا بالطاغوت ، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة .
__________
(1) وقد حاول هؤلاء جمع نصوص فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل بعض من كفر بعد إسلامه .
ومما ذكروه قصة الأعرابي الذي بايع النبي صلى الله عليه وسلم فلما استوخم المدينة قال : يا محمد أقلني بيعتي . فأبى فخرج الأعرابي ، وهذا بيّن الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 4/116 ) ، ( 13/212 ) أنه استقال من الهجرة الواجبة وليس من الإسلام وإلا لكان قتله على الردة ، ولو كان مرتدًا لما احتاج أن يستأذن النبي !! .
وذكروا قصة الرجل النصراني الذي كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد نصرانيًا فلما مات ودفن لفظته الأرض وهذا خرج كما في صحيح مسلم فارًا حتى لحق بأهل الكتاب . فتح الباري ( 6/723 ) .(8/20)
إنَّ الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب لبيان الحق ودلالة الخلق وإقامة البراهين والآيات والمعجزات التي تدل كل صاحب تفكير سليم إلى الإيمان { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا الله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } ( سورة سبأ آية 46 ) .
وهذا فيه حريّة ظاهرة إذ لا إكراه على اعتناق الإسلام مع أنّه المخلص للبشريّة من ضلالاتها ، وسائر مشكلاتها ، { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ( سورة البقرة آية 256 ) .
وشاهد هذا حال أهل الذمة الذين أقرهم المسلمون على دينهم دون أن يعرض أحد لهم ، وإباحة الشرع للمسلم أن يتزوج كتابيّة ولو بقيت على دينها دون أن يجبرها على التخلي عنه .
أما من دخل في الإسلام فإنّه قد التزم أحكام الإسلام وعقيدة الإسلام والتي منها أن من ارتدّ عنه قتل ، فهو بدخوله في الإسلام التزم بأحكامه التي منها عقوبته عند الإخلال به .
وإذا كانت الإنسان مخيرًا في دخول أي بلد ، فإذا ما دخلها لزمه الانقياد لأنظمتها وإلا استحق العقوبة على إخلاله ، وليس له أن يحتج بأنّه كان مخيرًا قبل دخوله لها .
مع أن المرتدّ بردته ارتكب عدة جرائم ؛ جريمة في حق نفسه إذ أضلها ، وجريمة باستخفافه بعقيدة أمته ونظامها الذي يرتكز على الإسلام ، وجريمة بتشكيكه لضعاف العقيدة في عقيدتهم ، وهذا كله مؤدٍّ إلى اضطراب المجتمع واهتزازه كما أنّه أعلن وجاهر بجريمته ولم يسرّ بها ؛ لأنه لو أسرّ ردته صار منافقًا ، وما أعلنها صار مرتدًا مجاهرًا . (1)
__________
(1) انظر : مجموعة بحوث فقهيّة لعبد الكريم زيدان ص 416 ؛ تلبيس مردود في قضايا حية لصالح بن حميد ص 33 ؛ حقوق الإنسان في الإسلام لسليمان الحقيل ص 155 .(8/21)
وكل هذه الجرائم جرائم متناهية في البشاعة ، فاستحق العقوبة الشرعيّة على جرائمه تلك . إن القوانين الوضعيّة تقتل الخائن لها والمحطّم لنظمها دون أن تتذرع بأنّه يمارس حريته الشخصيّة فكيف بمن يجرم في حق نفسه ومجتمعه وعقيدة أمته ؟!
وبعد فقد كان من المناسب بيان أصول المكفرات وشروط الحكم بالكفر على من وقع فيه فلعل أحدًا من المختصين أن ينبري لبيانها أو بيان شيء من المهم منها والله الموفق والهادي لا إله إلا هو .(8/22)
الضوابط الشرعيّة للعمليات التجميليّة
ورقة علميّة مقدمة لندوة
( العمليات التجميليّة بين الشرع والطب )
أعدها
د/ هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فإن من روائع الإعجاز في ديننا الإسلامي ، ومن آيات عمومه وخلوده أنّه لم يدع جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية إلاّ كان له فيه موقف .
وإن من جملة ما حدد قيوده ، وبيّن موقفه منه ، ما يتعلّق بالزينة والتجمّل ، استطبابًا وعلاجًا ، حرصًا منه على مصلحة البشر ، وتحقيق التوازن لديهم ، لئلا تنطلق غرائزهم على خلاف مقتضى المصلحة .
ولقد كانت دعوة كريمة أن أكتب ورقة علمية بعنوان : ( الضوابط الشرعيّة للعمليات التجميليّة ) لتقدّم في الندوة المعنونة بـ ( العمليات التجميليّة بين الشرع والطب ) . فجزى الله القائمين عليها خيرًا .
وقد جاءت هذه الورقة في خمس فقرات أساسية ، كانت خاتمتها عرض لثمانية ضوابط لهذه العمليات .
أسأل الله تعالى أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
أوّلاً : مفهوم العمليات التجميليّة :
العمليات : جمع عمليّة .
والعمليّة لفظ مشتق من العمل ، وهو عام في كل فعل يفعل . (1)
والعمليّة كلمة محدثة تطلق على جملة أعمال تحدث أثرًا خاصًّا ، يقال : عملية جراحية ، أو حربيّة . (2)
والتجميل : هو التحسين . (3)
وقد عرفت العمليات التجميليّة بأنها : مجموعة العمليات التي تتعلّق بالشكل والتي يكون الغرض منها علاج عيوب طبيعيّة أو مكتسبة في ظاهر الجسم البشري . (4)
__________
(1) …معجم مقاييس اللغة ( 4/145 ) ؛ لسان العرب ( 11/475 ) .
(2) …المعجم الوسيط ( 2/628 ) .
(3) …مختار الصحاح ص 47 .
(4) …فقه القضايا الطبية المعاصرة . أ.د. علي المحمدي ص 530 .(9/1)
وعرفت جراحة التجميل بأنها : جراحة تجرى لتحسين منظر جزء من أجزاء الجسم الظاهرة ، أو وظيفته إذا طرأ عليه نقص أو تلف أو تشويه . (1)
وعرف بأنها : فن من فنون الجراحة يرمى إلى تصحيح التشوّهات الخلقيّة ، أو الناجمة عن الحوادث المختلفة . (2)
وعرفت بإصلاح أو إعادة تشكيل أجزاء معطوبة من الجسم . (3)
والتعريفات السابقة متقاربة المدلول ظاهرة المعنى وهي تدل على أن العمليات التجميليّة مجموعة أعمال يقوم بها طبيب مختص تتعلق بتحسين الشكل سواء كان يرافقه إصلاح خلل في وظيفة العضو أو لا ، وسواء كان التحسين لتشوّه خلقي أو ناتج عن حادث ، أو لتغيير المنظر ، أو استعادة مظهر الشباب .
وعلى هذا فإنّ الأعمال التي لا يقوم بها الأطباء من أنواع الزينة لا تدخل في هذا البحث .
كما لا يدخل في بحثنا الأعمال الطبيّة المنصبة على استعادة الصحّة أو حفظها دون مراعاة تحسين الشكل .
ولا فرق في العمليات التجميليّة بين أن تتم بالجراحة أو بدونها .
ويطلق على هذا النوع من العمليات : العمليات التقويميّة وإعادة البناء والترميم ؛ لأنها تتضمّن إصلاح وإعادة تشكيل أجزاء من الجسم .
ثانيًا : أنواع العمليات التجميليّة :
تنقسم العمليات التجميليّة عند المتخصصين إلى نوعان(4) :
__________
(1) …الموسوعة الطبيّة الحديثة . مجموعة من الأطباء ( 3/454 ) .
(2) …الموسوعة الطبيّة الفقهيّة . د. أحمد كنعان ص 237 .
(3) …الموسوعة العربيّة العالمية ( 8/251 ) .
(4) …انظر في تقسيم العمليات : نقل وزراعة الأعضاء الآدمية . عبد السلام السُّكري ص 23 ؛ أحكام الجراحة الطبية . محمد المختار الشنقيطي ص 183 ؛ الموسوعة الطبيّة الحديثة ( 3/455 ) ؛ فقه القضايا الطبيّة المعاصرة ص 530 . وقد اخترت هذه التعبيرات لكي لا تتداخل مع التعبيرات الفقهيّة ذات المدلول الخاص .(9/2)
1) عمليات لابد من إجرائها ، لوجود الداعي لذلك إما لإزالة عيب يؤثر على الصحّة ، أو على استفادته من العضو المعيب أو لوجود تشوّه غير معتاد في خلقة الإنسان المعهودة .
ومن أمثلة هذه العمليات : العمليات التي تجرى لإزالة العيوب التالية :
الشفة الأرنبيّة ( الشق الشفي ) ، والشق الحلقي .
التصاق أصابع اليد أو الرجل .
انسداد فتحة الشرج .
المبال التحتاني .
إزالة الوشم والوحمات والندبات .
إزالة شعر الشارب واللحية عن النساء .
إعادة تشكيل الأذن .
شفط الدهون إذا رافقها إصابة أو مرض يستدعيه .
تصغير الثدي إذا رافقه مرض يستدعيه ( كأمراض الظهر مثلاً ) .
زراعة الثدي لمن استؤصل منها .
تصحيح الحاجز الأنفي أو الأنف المصاب بتشوه .
تشوه الجلد بسبب الحروق أو الآلات القاطعة أو الطلقات الناريّة .
تصحيح كسور الوجه ( بسبب الحوادث مثلاً ) .
وغيرها من أنواع العيوب التي يجمعها ويضبطها أن لها دافعًا صحيًّا أو أنها لإصلاح تشوّه حادث أو عيب يخالف أصل خلقة الإنسان أو صورته المعهودة .
2) عمليات اختياريّة ، لا داعي لإجرائها سوى رغبة المريض ، فهي عمليات تهدف لتحسين المظهر ، لا لوجود عيب أو تشوّه ، بل لتحقيق منظر أحسن وأجمل ، أو تهدف لتجديد الشباب وإزالة مظاهر الشيخوخة .
ومن أمثلة هذه العمليات :
إزالة الشعر وزرعه .
تقشير البشرة .
شد الجبين ورفع الحاجبين .
شد الوجه والرقبة .
حقن الدهون ( غير ما سبق ) .
شفط الدهون ( غير ما سبق ) .
تجميل الأنف تصغيرًا أو تكبيرًا .
تجميل الذقن .
تجميل الثديين تكبيرًا أو تصغيرًا .
وغيرها من أنواع العمليات التي يجمعها أنها لا دافع لها سوى إنزعاج المريض من مظهره ورغبته في إصلاحه إلى مستوى مقبول لديه .
3) عمليات اختياريّة تتضمن شكل الإنسان وهيئته الخارجية ليشبه بعض الحيوانات أو غيرها مما هو تشويه للشكل مثل شق اللسان ، وتركيب الأنياب الضخمة وغيرها .
ثالثًا : مقدمات وقواعد أساسيّة :(9/3)
خلق الله تعالى الإنسان على صورة حسنة ، وإن تفاوت الحسن بين الناس كما قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . [ سورة التين : 4 ] قال ابن كثير : ( هذا هو المقسم عليه - أي في السورة - وهو أنّه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سويّ الأعضاء حسنها ) (1).
فكل إنسان فهو مخلوق خلقة حسنة ، ما دام على الخلقة المعهودة للآدميّ ، وهذا لا يمنع تفاوت البشر في الحسن فمنهم من أوتي من الجمال والحسن أكثر مما أوتي غيره فقد حكى الله تعالى لنا قصّة يوسف عليه السلام وأن النسوة لما رأينه { أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم } . [ سورة يوسف : 31 ] .
أي قلن لها : ما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبًا منه ، فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء .(2)
وهذا التفاوت الموجود بين بني البشر تخضع المفاضلة فيه بين أفراده أيهم أكثر جمالاً إلى أذواق الناس المتفاوتة ، فمن كان جميلاً مستملحًا عند أحد فإنه قد يكون قبيحًا مستسمجًا عند غيره ، فليس ميزان الجمال واحدًا بين الناس ومن هنا تفاوتت تعاريفهم للجمال .
وهذا أمر مستقر في النفوس لا يحتاج إلى دليل .
وذلك أن الجمال يدرك بالبداهة بغير تفكير ، وإذا كانت البديهة هي الموكلة بالجمال - لا الذهن - فمن العسير أن توضع له القواعد الحاسمة وترسم له الحدود القاطعة كالقضايا الذهنية . (3)
وكذلك فإن جمال الجسد وحُسن المظهر البدني لا يشغل عن سمات الجمال الأخرى ومظاهره المغايرة ، فحين يأخذ التذوّق لجمال الجسد والعناية به مساحة أكبر مما ينبغي أثر ذلك على بقيّة أهداف الحياة وألوان الجمال فيها .
__________
(1) …تفسير القرآن العظيم ( 14/395 ) .
(2) …تفسير القرآن العظيم ( 8/36 ) .
(3) …منهج الفن الإسلامي . محمد قطب ص 85 .(9/4)
ولذا حَضّ النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار جميلة الروح ولو على حساب نصيبها من الجمال الجسدي فقال : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) . (1)
وبين أنّ العبرة به عند الله سبحانه فقال : ( إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ) . (2)
أخبر الله تعالى أن الشيطان توعّد أن يضل بني آدم بحملهم على أمور منها تغيير خلق الله تعالى كما في قوله : { ولآمرنهم فليغيرنّ خلق الله } . [ سورة النساء : 119 ] .
ولاشك أن في هذا ذمًّا لتغيير خلق الله تعالى .
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير هذا التغيير على أقوال :
الأول : أنه تغيير دين الله الذي خلق الناس وفطرهم عليه .
الثاني : أنّ المراد به الخصاء .
الثالث : أنّه الوشم .
الرابع : أنّه عبادة الشمس والقمر والحجارة التي خلقها الله تعالى للاعتبار والانتفاع بها فعيرها الكفار وجعلوها معبودة . (3)
وليس بين هذه الأقوال تضارب ولا اختلاف ، فإنّ من طريقة السلف في التفسير : التعبير عن المراد بالآية بذكر أحد أفراد المعنى ، دون إرادة حصر المعنى فيه .
وفي هذا يقول ابن تيمية : ( .. يقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا ، فيحكيها أقوالاً ، وليس كذلك ، فإنّ منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو نظيره ، ومنهم من ينص على الشيء بعينه ، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك ) . (4)
__________
(1) …صحيح البخاري ( 5090 ) ؛ صحيح مسلم ( 1466 ) .
(2) …صحيح مسلم ( 6542 ) .
(3) …انظر : زاد المسير في التفسير لابن الجوزي ص 327 ؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 5/391 ) ؛ تفسير الطبري ( 9/222 ) .
(4) …مقدمة التفسير ص 97 .(9/5)
ولذا اختار الطبري المعنى الأول للآية إذ يقول : ( وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال معناه دين الله وذلك لدلالة الآية الأخرى على أنّ ذلك معناه وهي قوله : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم } . [ سورة الروم : 30 ] وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووشم ما نهي عن وشمه ، ووشره ، وغير ذلك من المعاصي ودخل فيه ترك كل ما أمر الله به ، لأن الشيطان لا شَكّ أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته ) . (1)
فيكون معنى الآية : أنَّ الشيطان يأمرهم بالكفر ، وتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم الله عليها وأن معنى قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } أي لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر . (2)
وبيانه أكثر يتضح بمعرفتنا لمعنى الخلق ، ومعنى التغيير .
فالخلق قد يراد به مخلوق الله كما في قوله تعالى : { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } [ سورة الملك : 3 ] أي : هو مستوٍ لا اختلاف فيه ولا نقص ولا عيب .
وكقوله تعالى : { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } . [ سورة لقمان : 11 ] .
ويأتي الخلق بمعنى التقدير كما في قوله تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث } . [ سورة الزمر : 6 ] أي : قدّركم في بطون أمهاتكم .
ويأتي الخلق بمعنى الفطرة التي خلق الله تعالى عليها عبادة كقوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } . [ سورة الروم : 30 ] .
__________
(1) …تفسير الطبري ( 9/222 ) .
(2) …أضواء البيان للشنقيطي ( 1/366 ) .(9/6)
قال ابن كثير : ( أي : فسدّد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك .. وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنّه لا إله غيره ، وفي الحديث : (( إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم )) .
وقوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها فيكون خبرًا بمعنى الطلب وهو معنى حسن صحيح ، وقال آخرون : هو خبر على بابه ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة ، لا يولد أحد إلا على ذلك .. ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله : { لا تبديل لخلق الله } أي لدين الله قال وقال البخاري : قوله : { لا تبديل لخلق الله } لدين الله ، خلق الأولين : دين الأولين ، الدين والفطرة والإسلام ) أ.هـ (1)
وهذا التفسير وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الفطرة : ما من مولود يولد إلا على الفطرة ثم قرأ الآية . متفق عليه .
وقال الراغب ( الخلق : أصله التقدير ، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل .. ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء .. وقوله : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } قيل : إشارة إلى ما يشوهونه من الخلقة بالخصاء ونتف اللحية وما يجري مجراه ، وقيل : معناه يغيرون حكمه ) . (2)
وأمّا التغيير فيطلق على تحوّل الشيء عن صفته حتى يكون كأنه شيء آخر ، ويطلق على الإزالة .
قال في لسان العرب : ( تغيير الشيب يعني : نتفه ، فإنّ تغيير لونه قد أَمَر به . ) (3) .
__________
(1) …تفسير القرآن العظيم ص 1029 .
(2) …المفردات في غريب القرآن ص 157 .
(3) …لسان العرب ( 6/344 ) ؛ وانظر : النهاية في غريب الحديث ص 685 .(9/7)
وعلى هذا فليس في الآية دليل على تحريم مجرد تغيير خلق الله تعالى ، بل فيها بيان أن جميع ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه فالشيطان يأمر به .
وبذلك لا يستدل بالآية على تحريم عملٍ ، إلا بعد ثبوت أنّه محرم ، ولا تتفرّد دليلاً على التحريم باستقلال .
ويدل على ذلك أن الشرع ورد بالأمر ، أو الإذن بجملة من الأعمال التي فيها تغيير لخلق الله تعالى كالختان ، وقطع يد السارق ، وثقب أذن الأنثى ، واتخاذ أنف بديل لما قطع ، بل إن الكحل والخضاب بالحناء كلها من تغيير خلق الله تعالى وهذا كله يصب في تقوية ما أختاره الطبري - رحمه الله - ويمنع عموم الاستدلال بالآية حتى يثبت تحريم الفعل أوّلاً ليندرج بعد ذلك في مدلوله .
وكثير من أهل العلم يفرّق بين التغيير الباقي والتغيير الذي لا يزول فيحرم الأول ويبيح الثاني ، إذ الذي يزول ورد الإذن به في الخضاب والممنوع في النصوص كله مما لا يزول فجعل ذلك علة للمنع في مثل قوله صلى الله عليه وسلم : (( لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله )) متفق عليه .
وفي جعله الدوام علة للمنع نظر ، بيانه أن الشرع جاء بتغيير لا يزول كقطع يد السارق ويد ورجل المحارب ونحوها من أنواع التغيير الدائم .
كما أن ما جاء الشرع بالنهي عنه ليس كله من ما يدوم ، فالنمص لا يدوم أثره ، بل يعود الشّعر للنبات مرة أخرى ، وهذا يدل على أنّ المعوّل ليس هو الدوام .
ولذا يضيف بعض أهل العلم علة أخرى ليكون مناط التحريم علة مكونة من وصفين هما الدوام وإرادة التحسين به واستشهد لذلك بما جاء في الحديث المتقدّم ( المتفلجات للحسن ) .
والحقيقة أن جعل التحسين مناطًا للتحريم والمنع غير مناسب ؛ لأنّا نشهد من الشرع إباحة التزين والأمر به ، فلا يسوغ جعله علة للمنع والتحريم ، وثقب إذن الأنثى مباح مع أنّه تزيين دائم .(9/8)
وكل ذلك إنما هو محاولة لتعدية الحكم ، مع أن الإمام أحمد رحمه الله يبيح حلق الحاجب ويمنع نتفه(1) ولا يجعل إزالة الشعر من الحاجب بقصد التحسين ، ولا استوائهما في الأثر سببًا للتحريم وهذا يدل على عدم فهم تعدية حكم المنصوص لما عداه .
وقال ابن حجر في شرحه للفظ المغيرات خلق الله : ( هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والتفليج ) (2) .
ولذا فإنّ ما ورد في الشرع النهي عنه فيوقف عنده ولا يتجاوز إلا بدليل واضح ظاهر .
جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان إما أن يريد بها حفظ الضروريات أو مراعاة الحاجيات أو التحسينيات . وبين هذه المراتب فرقًا .
فالضرورة شدة وضيق في المرتبة القصوى بحيث يبلغ حدًا يخشى فيه على نفسه الهلاك أو مقاربة الهلاك ، بضياع مصالحة الضروريّة . وإذا وجدت الضرورة فإن التحريم يرتفع قال تعالى : { وقد فَصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } [ سورة الأنعام : 119 ] . وهذا النص يقتضي وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت فيها . (3)
أمّا الحاجة فإنها مرتبة متوسطة في المشقّة ولذا فإنّه لا يستباح بها ما يستباح بالضرورة ، إلا أنّ الحاجة إذا كانت عامّة تتناول أكثر الخلق فإنها تنزّل منزلة الضرورة في حق الشخص الواحد (4). وأما التحسينات فهي دون ذلك .
ولما تناول الشاطبي أنّ مقاصد الشريعة في الخلق لا تعد وأن تكون ضروريّة أو حاجيّة عرّفها فقال : " فأمّا الضرورية فمعناها أنّها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ..
__________
(1) …الشرح الكبير ( 1/263 ) .
(2) …فتح الباري ( 10/385 ) .
(3) …أحكام القرآن للجصاص ( 1/147 ) .
(4) …شفاء الغليل للغزالي ص 246 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص97 .(9/9)
وأمّا الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقّة ، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامّة " (1).
وبناء على هذا فلا بد أن نميّز بين أنواع التصرفات والإجراءات العلاجيّة ، وما تهدف إليه ؛ إذ منها الضروريّ ، والحاجيّ ، ومنها ما هو دون ذلك ، فيراعى التخفيف في أمور الضروريات والحاجيات العامّة ما لا يراعى في غيرها .
4 ) جَسَد الإنسان ملك لله تعالى كما قال تعالى : { ولله ملك السماوات والأرض وما فيهّن وهو على كل شي قدير } . [ المائدة :120 ] . وعليه فإنّه لا يحق لأحدٍ أن يتصرّف في ملك بما يحرمه مالكه.
وبناء على ذلك فلا يحل للطبيب أن يباشر جسم المريض إلا إذا كان سيعمل عملاً أذن به الشرع ولا يكفي إذن المريض ورضاه . قال ابن القيم : " فإنّه لا يجوز الإقدام على قطع عضو لم يأمر الله ورسوله بقطعه ، ولا أوجب قطعه ، كما لو أذن له في قطع أذنه أو أصبعه ، فإنّه لا يجوز له ذلك ، ولا يسقط الإثم عنه بالإذن " . (2)
وقال ابن حزم : " واتفقوا أنّه لا يحل لأحدٍ أن يقتل نفسه ، ولا يقطع عضوًا من أعضائه ، ولا أن يؤلم نفسه ، في غير التداوي بقطع العضو الألم خاصّةً ".(3)
__________
(1) …الموافقات ( 2/8-11 ) .
(2) …تحفة المودود بأحكام المولود ص 136 .
(3) …مراتب الإجماع ص 157 .(9/10)
وبناء على ما تقدم فإنّا نقول : إن مجرد تضرّر الإنسان النفسي بنظرته الدونية لنفسه في أمور الجمال وأوصافه لا يكفي لاستباحة أي فعل محرم عليه لكن بعد ثبوت كونه محرمًا ، ولذا فقد يذكرُ بعض الباحثين حديث عرفجة بن أسعد أنّه قُطع أنفه يوم الكُلاب ، فاتخذ أنفًا من وَرِق فأنتن عليه ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفًا من ذهب . (1)
فعرفجة لم يتخذ أنفًا من ذهب لحاجته للشم أو التنفس ؛ لأنهما حاصلات بدون وجود البروز ، وإنما اتخذه لتحسين المنظر وهذا يدل على مراعاة الحالة النفسيّة .
وهذا غير صحيح ، لأنّ عرفجة لم يرتكب محرمًا لوجود الضرر النفسي ، بل فعله مباح أصلاً ، وهذا الحديث يدل على جواز إصلاح العيوب بالعمليات التجميليّة ، ولا يدل على أن الضرر النفسي هو المعيار في الإباحة .
مع أن ضرر عرفجة رضي الله عنه غير ثابت أصلاً ، فمن أين أخذ أنه أصابه ضرر نفسي سعى لإزالته بهذا الأنف ؟ .
فإن الضرر النفسي والحزن والهم وإن كانت معتبرة في زيادة ثواب الإنسان وتكفير سيئاته كما ورد في الحديث المرفوع : ( ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . (2)
ومع أن الشرع راعاه بمنع تسبب الإنسان في إيذاء أخيه ما يحزنه ، لكنه غير معتبر في الشرع في تخفيف التكليف عن العبد ، وغير معتبر في استباحة ما حرم الله سبحانه وتعالى .
سئل ابن تيمية عن رجل له مملوك هرب منه ثم رجع أخفى سكينة وقتل نفسه .
__________
(1) …سنن أبي داود ( 4232 ) ، سنن الترمذي ( 1691 ) ، والنسائي ( 8/163 ) ، وأحمد في المسند ( 5/25 ) .
(2) …صحيح البخاري ( 5641 ) ؛ صحيح مسلم ( 2573 ) .(9/11)
فأجاب : " لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه ، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرّج الله ، فإن كان سيّده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتّر عليه في النفقة أو يعتدى عليه في الاستعمال أو يضربه بغير حق فإن على سيّده من الوزر بقدر ما نسب إليه في المعصية ".(1)
فالتكليف مناطه الاستطاعة فمن قدر على امتثال الأوامر والنواهي لزمته ، ولو كان فيها ما يكرهه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) . (2)
كما أن الضرر النفسي والحزن من الأمور التي لا تنضبط فما يحزن أحدًا قد لا يحزن غيره ، ومقدار الحزن ووقت تحققه وطريقة زواله متفاوتة بين الناس ومثل هذه الأمور غير المنضبطة لا يعلّق الشرع عليها أحكامًا .
فإنها ( ما دامت خفيّة مضطربة مختلفة باختلاف الصُّوَر والأشخاص والأزمان والأحوال فإنه لا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم إلا بالبحث الشديد ..ونحن نعلم بالاستقراء من ذات الشارع رد الناس في مثل هذا إلى المظان الظاهرة الجليّة دفعاً للتخبيط , وإزالة للتغليط ونفياً للحرج والمشقة والعسر والضرر , ألا ترى أنّ المشقّة لما لم تنضبط ويختلف الناس فيها باختلاف الأشخاص والأحوال رد الشارع في وجوب القصر والفطر بسببها إلى مظنتها في الغالب وهو السَّفَر ). (3)
ونبينا عليه الصلاة والسلام تشهد سيرته بمواقف شَدّد فيها على التزام التكاليف الشرعية رغم ما يشوبها من ضرر نفسي ..
__________
(1) …مجموع الفتاوى ( 31/384 ) .
(2) …صحيح البخاري ( 7288 ) ؛ صحيح مسلم ( 1337 ) .
(3) …نهاية الوصول لصفي الدين الهندي ( 8/3496 ) .(9/12)
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ لي ابنةً عُرّيسًا أصابتها حصبة فتمرّق شعرها ، أفأصله ؟ فقال : لعن الله الواصلة والمستوصلة ). (1)
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنّ ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها ، أفتكتحلُها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا مرتين أو ثلاثًا ). (2)
رابعًا : حكم العمليات التجميليّة :
تقدّم أن العمليات التجميليّة منها عمليات لا بد من إجرائها ومنها عمليات اختياريّة فالعمليات التجميليّة التي لابد منها لتضمنها علاجًا لمرض ما ، أو للحاجة إليها ؛ فإنَّ الباحثين المعاصرين يجيزون إجراءها ومنهم من قيدها بشروط تشمل كل أنواع العمليات الجراحيّة . (3)
ويستدل على جوازها بأنّها نوع من التداوي ، فهي إما علاج لمرض أو إصلاح لعيب محسوس والتداوي مشروع ، كما أن هذه العمليات لا يقصد بها التجميل قصدًا أوليًا بل جاء التجميل تابعًا لإزالة الضرر ومعلوم أن التابع لا يفرد بحكم .(4) وأما العمليات العبثيّة المشوهة للإنسان فهي ليست تجميلاً بل عبث وتشويه وهو محرم لما فيه من المثلة وطلب الشهرة .
أمّا العمليات التجميليّة الاختيارية ، والتي يطلق عليها : جراحة التجميل التحسينيّة فقد اختلف المعاصرون فيها على اتجاهين :
__________
(1) …صحيح البخاري ( 5941 ) ؛ صحيح مسلم ( 2122 ) .
(2) …صحيح البخاري ( 5336 ) ؛ صحيح مسلم ( 1488 ) .
(3) …انظر : أحكام الجراحة الطبيّة ص 173 ؛ نقل وزراعة الأعضاء ص 234 ؛ المسائل المستجدة د. محمد النتشة ( 2/260 ) .
(4) …انظر في هذه القاعدة : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 130 ؛ ولابن نجيم ص 120 ؛ قواعد الزركشي ( 1/234 ) .(9/13)
الاتجاه الأول : يرى المنع منها وتحريمها ؛ لأنّ فيها تغييراً لخلق الله تعالى ؛ ولأنه قد وردت نصوص تدل على منع الوشم والنمص والتفليج والوصل وذلك لما فيها من تغيير طلبًا للتحسين وهذا المعنى موجود في هذه العمليات ، ولما فيها من غش وتدليس وأضرار ومضاعفات إلى غير ذلك من الأدلة .(1)
الاتجاه الثاني : يرى أن تبحث كل عملية تجميليّة لوحدها ، إذ من هذه العمليات ما دل الشرع على تحريمه والمنع منه ، ومنه ما يمكن قياسه عليها ، ومنها ما بحثه الفقهاء سابقًا أو يمكن تخريجه على أقوالهم فلا تجعل العمليات من هذا النوع كلها في مرتبة واحدة .(2)
ولا شك أن التفصيل أسعد بالقبول وأرجح ، وسبب ذلك أن الشرع مع نهيه عن الوشم والنمص والوصل جاء بالإذن بأنواع من الزينة والتحسين كصبغ الشعر مثلاً وهذا يدل على أن تعميم العلة بمنع التحسين غير مقبول ، والعلّة متى فُقد اطرادها دَلّ على إبطال عليتّها .(3)
والتعليل بقصد التحسين لا يصلح علةً للتحريم - أيضًا - لأنا نشهد من الشارع اعتبار قصد التحسين والتجميل لا المنع منه كما تقدَّم .(4)
ثم إنّ أهل العلم اختلفوا في المعنى الممنوع في النمص والوصل ونحوها ، فقيل : مُنع الوصل لأنّ فيه استعمالاً لجزء آدمي(5) ، وقيل لأجل ما فيه من تدليس وخداع .(6)
__________
(1) …أحكام الجراحة الطبيّة ص 183 ؛ نقل وزراعة الأعضاء ص 242 .
(2) …أحكام جراحة التجميل د. محمد عثمان شبير ضمن دراسات فقهية في قضايا طبيّة معاصرة ( 2/524 ) ؛ فقه القضايا الطبيّة المعاصرة ص 532 .
(3) …انظر : إرشاد الفحول ص 207 .
(4) …انظر : المرجع السابق ص 218 .
(5) …الفتاوى الهندية ( 5/358 ) .
(6) …مغني المحتاج ( 1/191 ) ؛ كشاف القناع ( 1/81 ) .(9/14)
وقيل في النمص المحرم أن المراد به هو التبرج والتزين للأجانب(1)، أو ما كان بدون إذن الزوج(2)، أو للتدليس ، أو للتشبّه بالفاجرات . (3)
ومادام أن أهل العلم قد اختلفوا في العلة التي من أجلها ورد النهي ،لم يَسُغ بعد ذلك توحيد علة المنع ، مع ما تقدَّم من المراد بتغيير خلق الله تعالى .
وكذلك فإن الأضرار والمضاعفات والغش والتدليس التي من أجلها حرّم بعض المعاصرين العمليات التحسينيّة بإطلاق ليست قاعدة مطردة في كل العمليات التحسينيّة بل قد تقع في هذه العمليات أحيانًا وقد لا تقع ، وهي مع ذلك أمور خارجة عن نفس العمليات فيكون التحريم لها لا لنفس الجراحة ، إلا إذا رافقتها .
ومن جميع ما تقدَّم فإني أرى أنّ الاتجاه الثاني الذي يجعل لكل نوع من العمليات التحسينيّة حكمًا يناسبه حسبما تدل عليه الأدلّة ويبقى الباقي على أصل الإباحة ، أولى من تعميم الأحكام على صور مختلفة .
ويشهد لهذه النتيجة ما ورد أنّ المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - كان عظيم البطن وكان له غلام روميّ ، فقال له : أشق بطنك فأخرج من شحمه حتى تلطف ، فشقّ بطنه ثم خاطه ، فمات المقداد وهرب الغلام .(4)
وهذا نوع من العمليات التجميليّة التحسينيّة . والله أعلم .
خامسًا : ضوابط العمليات التجميليّة :
الضوابط التي أتناولها الآن شروط وقواعد تضبط العمليات التجميليّة عن الانحراف بارتكاب المحظور ، فهي متى روعيت عند إجراء العملية حفظتها عن الوقوع في المحظور الشرعي .
__________
(1) …البحر الرائق ( 8/233 ) .
(2) …مغني المحتاج ( 1/191 ) .
(3) …الإنصاف ( 1/126 ) .
(4) …نقله في الإصابة ( 6/161 ) وقال : أخرجه يعقوب بن سفيان وابن شاهين من طريقه بسنده إلى كريمة زوج المقداد ، به . ولم أجده في كتاب المعرفة والتاريخ وإن كان محققه قد ذكره من النصوص المنسوبة إلى الكتاب والتي لم يجدها في مخطوطته وأمّا كتاب ابن شاهين فلم أقف عليه .(9/15)
الضابط الأول : ألا تكون العمليّة محل نهي شرعي خاص .
والنهي يستفاد بطريق النهي الصريح أو بما يدل على إثم فاعله ، أو وعيده .
وقد جاء الشرع بالنهي عن عدة إجراءات تجميليّة ، منها :
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة . (1)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لعن الله الواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ) . (2)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئًا . (3)
فهذه الأحاديث تدل على تحريم الوصل ، وأنّه من المعاصي الكبيرة . (4)
…ومنها :
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع . فقيل لنافع : وما القزع ؟ قال : يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه . (5)
وهذا يدل على كراهة القزع للرجال والنساء . (6)
ومنها :
-… عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تنتفوا الشيب ) . (7)
…ومنها :
عن عبد الله بن مسعود قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله . (8)
فهذا يدل على تحريم الوشم وتفليج الأسنان والنمص .
ومنها :
__________
(1) …تقدم تخريجه .
(2) …صحيح البخاري ( 5937 ) ؛ صحيح مسلم ( 2124 ) .
(3) …صحيح مسلم ( 2125 ) .
(4) …فتح الباري ( 10/377 ) ؛ نيل الأوطار ( 6/216 ) .
(5) …صحيح مسلم ( 1213 ) .
(6) …انظر : تحفة المودود بأحكام المولود ص 59 .
(7) …سنن أبي داود ( 4/85 ) ؛ مسند أحمد ( 2/207 ) .
(8) …صحيح البخاري ( 5939 ) ؛ صحيح مسلم ( 2125 ) .(9/16)
-… عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن القاشرة والمقشورة . (1)
وعنها أنها كانت تقول : يا معشر النساء إياكن وقشر الوجه . (2)
وهذه تدل على منع قشر الوجه - لو صح الحديثان -
الضابط الثاني : ألاّ تكون العملية محل نهي شرعيًّ عام .
وأقصد بهذا الضابط أن جواز العمليّة الجراحية يستدعي السلامة من عدة محاذير نهي الشرع عنها أدخلها كلها في هذا الضابط .
فمنها : أن تشبّه الرجال بالنساء ، وتشبّه النساء بالرجال محذور .
فلا يجوز للرجل أن يجري عملية تجميل تحرفه ليكون مشبهًا للنساء في خلقتهن وكذلك العكس ، ومعلوم أن لكل من الذكر والأنثى خصائص جسديّة تميّزه عن الآخر .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال . (3)
وليس من هذا عمليات تصبح الجنس بحيث يعود التوافق بين ظاهر الشخص وتركيبه الكرموسومي وأعضائه التناسلية ، بل المراد بهذا العمليات الهادفة إلى تغيير ظاهر الشخص ليشبه غير جنسه وملامحه .
ومما وجدت بعض الباحثين يذكره ممّا يصلح أن يكون ضابطًا وهو : ألاّ تتضمّن العمليّة غشًا وتدليسًا .
ولا شك أن الغش ممنوع في الشرع ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من غشنا فليس منا ) . (4)
ولكن إعمال هذا الضابط إنما يكون في الموضع الذي يمنع فيه الغش والتدليس مثل من يجرى جراحة للتنكّر والفرار من العدالة .
__________
(1) …مسند الإمام أحمد ( 6/250 ) برقم ( 26128 ) ؛ قال الهيتمي : فيه من لم أعرفه . مجمع الزوائد ( 5/169 ) .
(2) …مسند الإمام أحمد ( 6/210 ) وسندهما ضعيف لجهالة آمنة بنت عبد الله وأم نهار حيث لم يوثقهما أحد . للحديث شاهد أوجه الطبراني في الدعاء ( 2159 ) من طريق هشام بن سلمان المجاشعي عن امرأته غفيلة عنها به وغفيلة غير معروفة .
(3) …صحيح البخاري ( 5885 ) .
(4) …صحيح مسلم ( 1/99 ) .(9/17)
أو مثل الرجل أو المرأة قبل الخطبة إذا أجريت لهم عملية توقيعيّة غير دائمة ، أما لو كانت آثار الجراحة دائمة فإنّه لا تدليس هنا .
وكذلك فلا تدليس لو أجرت امرأة متزوجة عملية تجميليّة ، فإنّها لن تغش أحدًا بذلك ، بل غاية عملها هو التجمّل في نفسها وهو غير ممنوع .
وذلك أن إخفاء الحقيقة إنما تمنع إذا ارتبط بها حَقٌّ للغير ، وأما إذا لم يرتبط بها حق للغير فلا وجه لتحريم إخفاء الحقيقة ؛ لأنه يعود أمرًا شخصيًا .
ومع ظهور هذا ، فإنه يمكن تأكيده بما يذكره أهل العلم عند تعليلهم لمنع بعض الأعمال لما فيها من التدليس قال خطابي : ( الواصلات هن للواتي يصلن شعور غيرهن من النساء يردن بذلك طول الشّعر ... فيكون ذلك زورًا وكذبًا فنهي عنه ، أمّا القرامل فقد رخّص فيها أهل العلم ، وذلك أنّ الغرور لا يقع بها ؛ لأنّ من نظر إليها لم يشك في أنّ ذلك مستعار ). (1)
وقال ابن جزي : ( ويكره نتف الشيب ، وإن قَصَد به التلبيس على النساء فهو أشد في المنع ). (2)
ولا أرى جعل منع التدليس والغش ضابطًا ، لندرة حصوله ، ولا يسوغ إن يجعل التحرز من الصور النادرة ضابطًا لعدد كبير من الإجراءات العلاجيّة .
ومما وقفت عليه مما يُذكر ضابطًا ألاّ يكون بقصد التشبّه بالكافرين أو أهل الشر والفجور .
ولا إشكال أن التشبّه بالكفار مذموم في الشرع . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من تشبّه بقومٍ فهو منهم ) . (3)
وهذا ضابط صحيح ، لكني لا أعلم عمليّة تجميليّة يمكن أن تجعل المسلم شبيهًا بالكافر ، وذلك لأن كل عرق وجنس بشري فيه المسلم والكافر وأمّا قصد التشبّه من المريض بكافر معين ، فهذا يعود للمريض دون الطبيب .
وعليه فإنّه لا يسوغ عمل تجميلي يقصد به المسلم التشبّه بالكافر .
__________
(1) …معالم السنن ( 4/209 ) .
(2) …القوانين الفقهيّة ص 383 .
(3) …سنن أبي داود ( 5312 ) ؛ مسند أحمد ( 2/50 ) بإسناد جيّد .(9/18)
الضابط الثالث : أن تكون خاضعةً للتصوّر الإسلامي للجمال .
فهذا التصوّر الإسلامي يؤمن بأن الله تعالى خلق الإنسان خلقة حسنة كما قال تعالى : ( وصوّركم فأحسن صوركم ) [ غافر : 64 ] .
ويؤمن كذلك أن الجمال وإن تفاوت لكنه ليس كل شيء ، فلا يعطى أكبر من قدره كما سبق .
وهذا يحتم على الطبيب أن يكون له ذوقه في مسألة الجمال ، ومدى ما فات منها ، وحالة الإنسان ، وهل شعوره بالنقص نتيجة لضعف في تركيبته النفسية ، أو لمرض نفسي لديه وَلّد عنده عدم الرضا بما قدّر الله عليه ، أو هو حقيقة تستحق العلاج .
ويمكنني أشير إلى أمور يمكن للطبيب من خلال ترجيح إجراء العمل الطبي من عدمه .
فمنها :
هل للشكوى المراد إزالتها بالعمليّة أثر على صحة الإنسان مثل : ألم الظهر ، أو آثار السمنة .
هل هي ناتجة عن حادث استدعى علاجًا .
هل المراد تغييره يخالف الخلقة المعهودة في الإنسان .
هل يزول تضرر المريض وشكواه بمجرد العمليّة .
مدى الحاجة لها - مثل عمليات شد البطن أو شفط الدهون عند وجود الترهل الشديد - .
عمر المريض وجنسه .
هل للشكل المراد تغييره آثار سلبيّة على حياة المريض أم لا .
هل يمكن إزالة شكوى المريض بغير الجراحة .
وعند تأمل مثل هذه الجوانب يتبيّن للطبيب هل يجري الجراحة أم أن طلب المريض إنما هو محاولة لإشباع نزعة غرور تعتريه بالتطلّع إلى تحسين جسديّ مبالغ فيه ، أو نتيجة ضعف في الشخصيّة فهذه لا ينبغي إجراء العمل لهم لأن شكواهم لن تزول بزوال العيب الظاهر ، بل هم بحاجة للعلاج الإيماني والنفسي .
الضابط الرابع : أن يتحقق فيها ضوابط الأعمال الطبيّة عمومًا وهي الضوابط الآتية :
1- أن يغلب على الظن نجاحها .
وذلك أن كل إجراء طبي يشترط فيه أن تكون نسبة النجاح أكبر من نسبة عدم النجاح ، وإلا صار العمل عبثًا ، وكل عاقل فإنّه لا يقدم على عمل إلا بعد أن يغلب على ظنّه نجاحه وحصول النفع به .(9/19)
وقد تقدم أن جسد الإنسان ملك لله تعالى ، فلا يحق لأحد أن يقدم تصرف فيه إلا بما يغلب على الظن حصول المقصود منه ، وإلا صار جسد الإنسان محلاً للتجارب ، وموضعًا للعبث .
وكل إجراء لا يغلب على الظن نجاحه فهو عبث وإفساد وإضاعة وقت ومال .
قال العز بن عبد السلام : " الاعتماد في جلب مصالح الدارين ، ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون ، .. وكذلك أهل الدنيا إنّما يتصرّفون بناء على حسن الظنون ، وإنما اعتمد عليها لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها ، فإنّ التجار يسافرون على ظَنّ أنّهم يربحون .. والمرضى يتداوون لعلهم يُشفون ويبرؤون " . (1)
2- أن يأذن بها المريض .
لا يحق لأي إنسان أن يتصرّف في جسم إنسان آخر بغير إذنه ؛ فإنّه اعتداء عليه ؛ قال تعالى : { ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين }. [ البقرة : 190 ] .
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى : ( إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) .(2)
وقد قرر الفقهاء أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يتصرّف في ملك الغير بلا إذن ، ومنافع الإنسان وأطرافه حق له .(3)
ويدل على ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : ( لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني ، فقلتا : كراهية المريض للدواء ، فلّما أفاق قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؛ لا يبقى أحدٌ في البيت إلاّ لُدَّ ) .(4)
__________
(1) …قواعد الأحكام في مصالح الأنام ( 1/6 ) .
(2) …صحيح البخاري ( 1740 ) ؛ صحيح مسلم ( 1679 ) .
(3) …شرح القواعد الفقهيّة للشيخ أحمد الزرقا ص 463 .
(4) …صحيح البخاري (5712 ) ؛ صحيح مسلم ( 2213 ) ؛ واللدود : دواء يُصَبّ في أحد جانبي فم المريض .(9/20)
فقد عاقب صلى الله عليه وسلم من داوه بعد نهيه عن ذلك ، والعقوبة لا تكون إلا بسبب تعدٍّ(1) ، وهذا يوضّح أنّ إذن المريض ضروريّ لإجراء التداوي فإذا رفض التداوي فله الحق في ذلك ، ويكون إجباره على التداوي تعديًا .(2)
3- أن يكون الطبيب مؤهّلاً .
قال ابن القيم : ( إذا تعاطي علم الطب وعمله ، ولم يتقدم له به معرفة ، فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس ، وأقدم بالتهوّر على ما لم يعلمه .. قال الخَطّابي : لا أعلم خلافًا في أن المعالج إذا اعتدى ، فتلف المريض كان ضامنًا ، والمتعاطي علمًا وعملاً لا يعرفه متعدٍّ ). (3)
وقال ابن مفلح عن الطبيب : ( لا تحلّ له المباشرة مع جهلة ولو أُذن له )(4).
والمتطبب الجاهل يشمل من لم يحسن الطب ولم يمارس العلاج أصلاً ، ومن عنده إلمام بسيط يعلم الطب لا يؤهله لممارسته ، ومن لديه معرفة بفن من فنون الطب ثم يقدم على الممارسة في تخصّص غيره .
ففي كل هذه الحالات يكون المعالج متطببًّا جاهلاً .
وهؤلاء لا يحل لهم أن يباشروا أي إجراء علاجي على أبدان المرضى ، لفقدهم شرط الجواز وهو المعرفة بالطب .
4- ألاّ يترتب عليها ضرر أكبر .
مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح ودرء المفاسد .
وإذا تعارضت المصالح والمفاسد : فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فهو المطلوب ، وإن لم يمكن تحصيل المصلحة إلا بارتكاب مفسدة فينظر في الغالب منهما .
فالله تعالى حرّم الخمر والميسر مع أن فيهما منفعة ، لأن مفسدتهما أكبر قال تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } [ سورة البقرة : 219 ].
__________
(1) …شرح النووي على صحيح مسلم ( 4/199 ) .
(2) …انظر تفصيل الإذن وأحكامه في بحثنا الإذن في إجراء العمليات الطبيّة أحكامه وأثره .
(3) …زاد المعاد ( 4/139 ) .
(4) …الآداب الشرعية والمنح المرعيّة ( 2/474 ) .(9/21)
فلابد للطبيب قبل إجراء عمل تجميلي أن يقارن بين الآثار السلبيّة المترتبة على عمله وبين الأضرار المترتبة على عدم التدخل العلاجي ، والمصلحة المترتبة عليه .
وللأضرار أنواع فمنها : شلل الوجه وتلف عصب الوجه في عمليات شد الجبين ، أو التواء الذكر في عمليات إصلاح المبال التحتاني .
ومنها الضرر النفسي والاكتئاب المصاحب لعدم اقتناعه بنتيجة العمليّة وأثرها .
5- مراعاة أحكام كشف العودة .
العودة هي ما أوجب الله تعالى ستره من جسد الإنسان ، ويحرم النظر إليه . (1)
وقد قرر أهل العلم - استباطًا من نصوص الشرع وقواعده ، واستلهامًا من مقاصده وعوائده - أنّه يسوغ كشف العورات عند جملة من أنواع الضرورات ، ومنها المداواة .
وذلك لأنّ كل محرم يباح عند الاضطرار كما قال تعالى : { وقد فَصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه }. [ الأنعام : 119 ] . والحاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة . (2)
قال في الشرح الكبير : ( وللطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى نظره إليه من بدنها من العورة وغيرها ، لأنّه موضع حاجة ). (3)
ولكن قاعدة إباحة المحرم بعلّة الاضطرار مقيدة بقاعدة أخرى وهي أنّ الضرورة تقدَّر بقدرها ،(4) فلا يتوسّع في المحظور ، وإنمّا يترخّص بقدر ما تندفع الضرورة وتنتهي الحاجة .
وعليه فإني لا أرى أن للطبيب إجراء عمليات تجميل تتضمن كشف عورة مغلظة إلا إذا كانت من العمليات المحتاج لها دون العمليات التحسينية المحضة .
إن جميع ما سبق إنما هو عرض لبعض العلامات والمنارات التي يمكن للطبيب الاستفادة منها في تقويم مدى مشروعيّة إجراء الأعمال التجميليّة بشكل عام .
__________
(1) …حواشي الإقناع ( 1/174 ) ؛ مغني المحتاج ( 1/185 ) . وانظر في تفصيل ما يتعلق بهده المسألة بحثنا : حفظ العورات كواجب على العاملين في القطاع الصحّي .
(2) …الأشباه والنظائر للسيوطي 84 ، ولا بنّ نجيم 85 .
(3) …( 20/44 ) .
(4) …الأشباه والنظائر للسيوطي ص 84 .(9/22)
وإن فيما سبق عن عرض دليل على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان كيف لا وهي دين رب العالمين .
وفيه دليل على عناية الإسلام بالجمال الذي هو من سمات ما خلق الله في الكون ( فالله جميل يحب الجمال ). (1)
__________
(1) …صحيح مسلم ( 91 ) .(9/23)
المسؤولية عن الحيوان
في الفقه الإسلامي
جنايته وإتلافه(1)
للشيخ : هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
فإن في كتب الفقه كنوزًا دفينة ، وثرواة مخبوئة ، ودررًا لمن التمسها ، وطلب الوصول إليها . فلا تجد حاجة ، ولا مطلبًا ، ولا تصرفًا إلا وفيها جوابه وحُكْمُه ؛ إذ الفقه معرفة الأحكام الشرعية ، والأحكام الشرعية تدور عليها الحياة بمختلف صورها ، ومظاهرها .
…وفي هذه الورقات يتناول الباحث موضوع المسئولية عن جناية الحيوان وإتلافه ، ليبين فيه آراء الفقهاء واجتهاداتهم ، في ضوء النصوص الشرعية ، والقواعد الفقهية . وإنما واقع اختيار الباحث لهذا البحث دون غيره ؛ لما وجده من الحاجة الماسة لتقعيد المسئولية عن الحيوان ؛ ولارتباطها الوثيق بالدوائر الشرعية ، ولوقائعها المتكررة فيها . ولذا فقد عني الباحث أن يقسم البحث ويكتبه بشكل مغاير لما كتبه به الفقهاء الأولون - أسلوبًا ومنهجًا ، لا فكرة وموضوعًا - فكتبه مقسمًا مسبورًا ، ليتضح لكل من قرأه ، ويستطيع التوصل إلى ما يريده ، ولا أجد في هذه الطريقة غضاضةً ؛ إذ لكل زمان أسلوب الكتابة الملائم لطبيعته وحاجاته . هذا وقد قسّمت البحث إلى بابين رئيسين الأول في المسئولية عن الحيوان إذا كان بيد أحد ، وتناولت فيه ما إذا خرج عن تحكم صاحبه ، وما لو تسبب في جنايته أو تعمدها ، وما لو لم يتسبب فيها ، فجعلت كل مسألة منها فصلاً مستقلاً .
…وأما الباب الثاني فهو في المسئولية عن الحيوان إذا لم يكن بيد أحد ، وتناولت فيه ما إذا تعدى مالك الحيوان ، وما لو فَرّط ، فجعلتهما فصلين ، ثم تناولت إفساد الزروع بالبحث .
__________
(1) نُشر هذا البحث في مجلة الحكمة ، العدد السادس عشر ، جماد الثاني 1419هـ .(10/1)
…واعتمدت في هذا البحث ألاّ أطيل المناقشة ، ولا أجر ذيولها ، إلا في المسائل الهامة الرئيسة ، التي كان لكل فريق أدلته التي يقوى بها جانبه ، أما المسائل التي لم أجد لها ما لغيرها من أدلة ، فإنني لا أطيل الكلام عنها ، بل اقتصر على القدر الذي يحصل به المقصود من إيرادها .
…وقد اعتمدت في البحث أن أجعل ما نقلته نصًا بحروفه بين معكوفتين تمييزًا له عن غيره ، وأداءً للأمانة العلمية ، وأما ما أخذت فكرته وتصرفت في أسلوبه أو حذفت منه ، فإنني أشير إليه في الهامش ، وأما ما استمددت الفكرة العامة منه ، وكان ما أكتبه من إنشاء الخاطر فإنني أَسْمُهُ عن غيره بقولي في الهامش انظر ..
…وقد خَرّجت الأحاديث مكتفيًا بما يظهر به قبولها من ردها ، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما ، اكتفيت بعزوه إليهما ، وإلا خرجته ثم نقلت عن أهل العلم بالحديث الحكم عليه ؛ إذ هم فرسان هذا الميدان والعالمين بأسراره .
…وأما الأعلام فإنني قد أغفلت الترجمة للمشهورين منهم كالأئمة المتبوعين والصحابة المشهورين ، وأئمة التابعين ، إذ تراجمهم مما يعرفه صغار الطلبة والترجمة لهم مما ينتقد على الباحث ، ثم ترجمت لمن عداهم ، ولكنني لما رأيت الترجمة لهم في حواشي البحث مما يثقله ، ويشوش صفحاته ، ويذهب هيبته ، جعلت تراجمهم في آخر البحث في ملحق خاص بهم ، بعد أن رتبتهم على حروف المعجم .
…هذا وليعلم الناظر في هذا البحث أنه جهد مُقِلّ ، وعمل مقصّر ، فما كان فيه من صواب فمن الله ، وما كان في من خطأ فمن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه .
…وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد .
…تمهيد
…يحتاج الباحث قبل أن يشرع في بحثه أن يحمل تصورًا تامًا لما سيتناوله في بحثه ، ليكون بحثه مركزًا موضوعيًا ، وهذا ما سيقدمه الباحث في تمهيده هذا .(10/2)
المسئولية(1) :
المسئولية في اللغة من سأل يسأل سؤالاً ومسألة فهو مسئول والاسم المسئولية(2) .
والمراد بها هنا إلزم شخص بضمان الضرر الواقع بالغير ، نتيجة لتصرف قام به(3).
وعند القانونيين للمسئولية قسمان(4) :
المسئولية التعاقدية : وهي ضمان الضرر الناشئ عن الإخلال بعقد .
المسئولية التقصيرية : وهي ضمان الضرر الناشئ عن الفعل الضار(5) .
فنطاق بحثنا منحصرٌ – عند القانونيين – في المسئولية التقصيرية .
صاحب اليد :
__________
(1) القاعدة : أن كل همزة مضمومة وليها حرف مد كصورتها ، تحذف صورتها ، أي ترسم مفردة إلا إذا أمكن وصل ما بعدها بما قبلها نحو فئوس ، وفيه مذهب آخر أنها ترسم بواوين – رؤوس ، ومذهب ثالث أن ترسم على الواو الثانية بعد حذف الأولى فؤس ، رؤس – فتحصل أن في هذه الكلمة ثلاثة مذاهب – في الرسم – وهي : المسئولية ، المسؤولية ، المسؤلية والوجه الأول هو المشهور . انظر : خلاصة فن الإملاء للسيد محمد هاشم مجاهد ص 6 الطبعة الأولى سنة 1356هـ . وقواعد الإملاء لعبد السلام هارون ص 16 مكتبة الأنجلو 1985م .
(2) مختار الصحاح ص ( 281 ) مادة س أ ل ، دار الجيل ، بيروت 1407هـ .
(3) معجم لغة الفقهاء لقلعه جي ص ( 425 ) ، دار النفائس ، الطبعة الأولى 1405هـ .
(4) المصدر السابق ؛ وانظر القانون المدني المصري المواد ( 176 ، 177 ، 178 ) ، والتشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة ( 1/392 ) الطبعة الثالثة 1383هـ .
(5) للاستزادة انظر : الوسيط في شرح القانون المدني للسنهوري ( 1/1052 ) طبع سنة 1952م .(10/3)
يتكرر في هذا البحث قول الباحث : إن كان مع الحيوان صاحب اليد ، أو لم يكن معه ، ومراده بصاحب اليد : المصاحب للحيوان ، الذي الحيوان تحت يده ، فهو أولى من التعبير بصاحب الحيوان(1) ، ليشمل المالك والأجير ، والمستأجر ، والمودع ، والمستعير ، والموصى إليه بالمنفعة(2) .
وأما الغاصب فهو وإن كان صاحب اليد ، إلاّ أن إرساله موجب للضمان سواءً تعدّى أولا ، وسواءً كان ليلاً أو نهارًا هذا المذهب عند الحنابلة .
وفيه رواية أخرى : أنه إن لم تكن يدٌ له ظاهرة عليه ، وإلاّ فلا ضمان(3) .
وكون الغاصب في هذا كغيره قريب لظاهر الخبر كما سيأتي .
الإتلاف :
هو مصدر أتلف يتلف إتلافًا ، وهو الهلاك(4) .
والمراد به بإخراج الشيء من أن يكون منتفعًا به منفعةً مطلوبةً منه عادة(5) .
والإتلاف سبب موجب للضمان ، لأنه اعتداء ، والله تعالى يقول : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] . وإذا وجب الضمان بالغضب فبالإتلاف أولى ، لأنه اعتداء وإضرار محض(6) .
وقد يعبر البعض بالإفساد وهو مرادف للإتلاف .
والجناية مثلهما ، إلا أن الغالب استعمالها فيما كان فيه تعدٍ على الأبدان(7) .
الباب الأول
المسئولية عن إتلاف الحيوان
إذا كان بيد أحدٍ
__________
(1) انظر : حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب ( 2/446 ) طبعة البابي الحلبي سنة 1360هـ .
(2) الإنصاف ( 6/ 239 ) مطبعة أنصار السنة الطبعة الأولى .
(3) الإنصاف ( 6/160، 161 ، 242 ) ؛ القواعد لابن رجب ص ( 204 ) القاعدة السابعة والثمانون أسباب الضمان . مكتبة الرياض الحديثة .
(4) مختار الصحاح ص ( 78 ) مادة ت ل ف .
(5) الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي ( 5/740 ) دار الفكر الطبعة الثالثة 1409هـ .
(6) المصدر السابق ، القواعد الكلية لابن عبد الهادي ص ( 98 ، 102 ) دار البشائر الإسلامية بيروت الطبعة الأولى سنة 1415هـ .
(7) التشريع الجنائي الإسلامي ( 2/ 4 ، 5 ) .(10/4)
تمهيد
الفصل الأول :أن ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان .
الفصل الثاني : ألاّ ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان . مع تسببه في جنايته .
المبحث الأول : أن يتعمد جنايتها ( أي الدابة ) .
المبحث الثاني : ألاّ يتعمد جنايتها .
الفصل الثالث : ألاّ يتسبب في جنايتها مع تحكمه بها .
المبحث الأول : الخلاف والأدلة .
المبحث الثاني : المناقشة والترجيح .
تمهيد
الحيوان عند حصول الإتلاف أو الجناية منه ، فإنه لا يخلو إما أن يكون بيد أحد أو لا على ما سبق بيانه .
فإن كان بيد أحد فلا يخلو من أحد حالات ثلاث :
الحالة الأولى : أن ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان ، فلا يستطيع السيطرة عليه ، ولا التحكم به .
الحالة الثانية : ألاّ ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان مع تسببه في إتلافه أو جنايته ، وهذه الحالة لها صورتان :
الصورة الأولى : أن يتعمد جنايتها ويقصد الإتلاف بها .
الصورة الثانية : ألاّ يتعمد جنايتها ، لكنه متسبب فيها كمن نخس حيوانه أو جبذه بلجامه فوق ما اعتاد ، فتسبب في الجناية أو الإتلاف .
الحالة الثالثة : ألا يتسبب في الجناية ولا يتعمد وقوعها ، إلاّ أنها وقعت حال كون يده على الحيوان ، مع أنه قادر على التحكم بالحيوان .
هذه إجمالاً هي حالات الإتلاف التي تقع من حيوان بيد أحد ، وفي كل حالة منها خلاف في تحميل المسئولية تفاوت فيه أنظار الفقهاء نستعرضه في الفصول القادمة ..
الفصل الأول
أن ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان
إذا انعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان ، فانفلت ولم يعد في طوع صاحب اليد ، فإن الفقهاء اختلفوا فيما لو أتلف شيئًا في مثل هذه الحالة ، على من تكون مسئوليته ، ومن يتحمل ضمانه على قولين :
القول الأول : تضمين صاحب اليد ، وهو قول للشافعية(1) .
واستدلوا بأنه مفرّط بترك ترويض دابته(2) .
__________
(1) مغني المحتاج للشربيني ( 4/205 ) دار الفكر ؛ المجموع شرح المهذب للمطيعي ( 18/41 ) الطبعة الأولى .
(2) المصدران السابقان .(10/5)
القول الثاني : سقوط الضمان ، وإهدار الجناية أو الإتلاف ، وهو مذهب الجمهور(1) .
والصواب الثاني ؛ وذلك لأن العاجز عن التصرف وجوده كعدمه ، وهو غير مسيّر لها ، فلا يضاف سيرها إليه(2) .
ولأن الأصل في إتلاف الحيوان وجنايته : أنه هدر إذا لم يكن بيد أحد وصاحب اليد هنا عاجزٌ فوجوده كعدمه .
إلاّ أن هذا مشروط بأن لا يظهر صاحب اليد بمظهر المفرط ، وذلك بأن يفعل ما يمكنه لمنع الحيوان على الإتلاف ، وأن ينبّه من حوله إلى الحذر منه .
وأما قولهم : إنه مفرط بترك ترويض دابته ، فممنوع بأنّ الدابة المروّضة قد تركب رأسها كما هو معلوم .
وهذا القول بالتضمين معارض لقواعد الشريعة الكلية من عدم التكليف بما لا يطاق ، وهو أيضًا مخالف لمنصوص الشافعي - رحمه الله - إذ قال في كتابه اختلاف الحديث(3) : ( ويضمن القائد والراكب والسائق ؛ لأن عليهم حفظها في تلك الحال ، ولا يضمنون لو أنفلتت ) أ.هـ.
الفصل الثاني
ألاّ ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان مع تسببه في جنايته وإتلافه
المبحث الأول : أن يتعمد جنايته الحيوان .
المبحث الثاني : أن لا يتعمد جنايته الحيوان .
المبحث الأول :
المسئولية إذا تعمد صاحب اليد جناية الحيوان
إذا تعمد صاحب اليد جناية الحيوان ، كما لو أرسل حيوانه العقور إلى أحدٍ ليقتله ، أو ألقى عليه أفعى أو نحوها مما يفضي إلى القتل غالبًا ، فعليه الضمان بلا نزاع .
__________
(1) الرد المختار وحاشيته ( 5/390 ) طبعة بولاق ؛ بدائع الصنائع ( 7/273 ) الطبعة الأولى بمطبعة الجمالية ؛ الكافي لابن عبد البر ( 2/1125 ) مكتبة الرياض الحديثة ؛ الإنصاف ( 6/236 ) مطبعة السنة المحمدية الطبعة الأولى ؛ كشاف القناع ( 4/126 ) دار عالم الكتب .
(2) بدائع الصنائع ( 7/273 ) ؛ كشاف القناع ( 4/126 ) .
(3) ص ( 302 ) .(10/6)
وقد جعله الجمهور من ضمان العمد ، لإفضائه إلى الموت غالبًا(1) ، أما أبو حنيفة فليس بعمد عنده ؛ لأن العمد عنده ما كان بسلاح ، أو ما أجري مجراه(2) .
المبحث الثاني :
المسئولية عن الحيوان إذا لم يتعمد صاحب اليد الجناية مع تسببه فيها
إذا تسبب صاحب اليد في جناية الحيوان ، دون قصدٍ منه لجنايته ، إلاّ أن فعله تسبب في فعلها لهذه الجناية ، كما لو ضرب وجهها ، أو جذبها بلجامها فوق ما اعتادت ، فهنا يضمن ما أتلفت لتعديه(3) .
أما لو لم يفعل ( إلاّ ما يعتاده النّاس في ذلك ، فلا ضمان عليه ؛ لأنه فعل في ملكه ما أباحه له الشرع ) (4) .
فإن كان السبب من غيره فإن المتسبب يضمن مطلقًا ، فإن أتلف الحيوان ناخسه فهدر ، وإن أتلف صاحب اليد فالضمان على الناخس(5) .
واستثنى الحنفية ما لو أمره صاحب اليد بالنخس ، والتنفير فعندهم يكون الضمان عليهما . وهو قول له حظ من النظر ، لاشتراطهما في سبب الإتلاف(6) .
مسألة : - لو أتلف الحيوان المنخوس أجنبيًا – وصاحب اليد معه ، ولم يأمره بالنخس أو التنفير – فمن يتحمل المسئولية ؟
اختلف الفقهاء في هذا على قولين :
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( 4/243 ) دار أحياء الكتب العربية ؛ مغني المحتاج ( 4/209 ) ؛ المقنع وحاشيته ( 3/333 ) مكتبة الرياض الحديثة .
(2) تكملة فتح القدير ( 9/138 ) دار إحياء التراث العربي بيروت 1406هـ .
(3) الرد المختار ( 5/387 ) ؛ الكافي لابن عبد البر ( 2/1124 ) ؛ مغني المحتاج ( 4/204 ) ؛ الإنصاف ( 6/237 ) .
(4) السيل الجرار ( 4/424 ) دار الكتب العلمية الطبعة الأولى .
(5) الكافي لابن عبد البر ( 2/1124 ) ؛ وانظر : حاشية الدسوقي ( 4/243 ) ؛ مغني المحتاج ( 4/204 ) ؛ وانظر : الإنصاف ( 6/238 ) .
(6) الرد المختار ( 5/387 ) .(10/7)
القول الأول : أن المتسبب يضمن . وهو ما ذهب إليه الجمهور(1) .
القول الثاني : قول أبي يوسف بأن الضمان على المتسبب وصاحب اليد نصفان(2) .
وقد استدل بأن الإتلاف حصل بثقل الراكب ، وفعل الناخس ، وكلاهما سبب لوجوب الضمان(3) .
أما الجمهور فاستدلوا بعدة أدلة :
ما ورد أن ابن مسعود ضَمَّن الناخس دون الراكب . فعن القاسم بن عبد الرحمن قال : ( أقبل رجل بجارية من القادسية ، فمَّر على رجل واقف على دابة ، فنخس رجل الدابة ، فرفعت رجلها ، فلم يُخْطِ عين الجارية ، فرفع إلى سلمان بن ربيعة الباهلي فضمّن الراكب ، فبلغ ذلك ابن مسعود ، فقال : إنما يضمن الناخس ) (4) .أ.هـ.
الإجماع السكوتي ؛ وذلك أن فعل ابن مسعود السابق وما حكم به ، كان بمحضر من الصحابة ، ولم يعرف الإنكار من أحدٍ فيكون إجماعًا(5) .
أن الناخس هو المتسبب في الحقيقة فيختص الضمان به ، وأما الراكب فلا عمل له .
وأما ما استدل به أبو يوسف فيناقش : بأن المتسبب لو لم ينخس الحيوان لما وقع الإتلاف ، وهذا يدل على أنه السبب في الإتلاف ، فيتحمل الضمان .
وبالنظر في الأدلة يظهر رجحان مذهب الجمهور ؛ لقوة ما استدلوا به .
الفصل الثالث
ألاّ يتسبب في جناية الحيوان – مع تحكمه به
المبحث الأول : الخلاف والأدلة .
المبحث الثاني : المناقشة والترجيح .
مدخل :
__________
(1) الدر المختار ( 5/390 ) ؛ الكافي لابن عبد البر ( 2/1124 ) ؛ مغني المحتاج ( 4/204 ) ؛ المجموع ( 18/41 ) ؛ الإنصاف ( 6/238 ) ؛ كشاف القناع ( 4/126 ) .
(2) الدر المختار وحاشيته ( 5/390 ) ؛ بدائع الصنائع ( 7/272 ) .
(3) المصدران السابقان .
(4) أخرجه عبد الرزاق ؛ وابن أبي شيبة في مصنفيهما من طريق عبد الرحمن المسعودي عن القاسم به ، وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن شريح والشعبي نصب الراية ( 4/388 ) الطبعة الأولى .
(5) بدائع الصنائع ( 7/272 ) .(10/8)
إذا أتلف دابة وذو اليد معها ، وهو قادر على التحكم بها ، إلاّ أنه لم يتسبب في جنايتها ، بل وقعت الجناية ، أو الإتلاف من الحيوان فقط ، ولا دخل لصاحب اليد فيها فهل يتحمل المسئولية أم لا ؟ هذا ما يستعرضه الباحث في هذا الفصل ...
المبحث الأول : الخلاف والأدلة .
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة أقوال :
القول الأول : لا ضمان مطلقًا . وقال به الظاهرية(1) ، وهو منقول عن مالك(2) .
القول الثاني : وجوب الضمان مطلقًا . وقال به الشافعي(3) وهو رواية عن مالك ، واستثنى ما لو رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئًا ترمح بسببه(4) .
القول الثالث : يضمن صاحب اليد ما أصابت بمقدمتها كيدها وفمها ، دون رجلها .
وهو المذهب عند الحنابلة(5) ، وقول مالك(6) وأصحابه ، وهو رأيٌ للحنفية(7) .
القول الرابع : يضمن ما عدا النفحة . وهو قول الحنفية(8) ، وقول عند الحنابلة(9) ، إلا أن الحنفية خصوه بما إذا كان سائرًا في طريق عام ، فإن كان سيره في ملكه ، أو مأذون له فيه فلا ضمان ، إلا في الوطء وهو راكبها ، فإن كانت واقفة ضمن النفحة أيضًا .
سبب الخلاف :
للخلاف في هذه المسألة حسب ما ظهر للباحث سببان :
__________
(1) المحلى لابن حزم ( 8/180 ) ، تصحيح محمد خليل هراس .
(2) ذكره عنه ابن قدامة في المغني ( 12/543 ) .
(3) المغني المحتاج ( 4/204 ؛ المجموع ( 18/39 ) .
(4) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزيّ ص ( 361 ) ، دار العلم للملايين ؛ فتح الباري ( 12/269 ) .
(5) المغني ( 12/543 ، 544 ) ؛ الإنصاف ( 6/236 ) .
(6) الكافي لابن عبد البر ( 2/1124 ) .
(7) نسبه إليهم ابن حجر في ( فتح الباري ( 12/268 ) ، وابن قدامة في المغني ( 12/543 ، 544 ) .
(8) الدر المختار ( 5/386 ، 387 ) ؛ تكملة فتح القدير وحواشيه ( 9/257 ، 258 ) .
(9) الإنصاف ( 6/237 ) ؛ كشاف القناع ( 4/126 ) .(10/9)
الأول منهما هو ما يظهر من تعارض الأحاديث ، فإنه ورد عن الشارع إهدار حناية الحيوان ، وورد عنه التضمين ، فعملت طائفة بالإهدار مطلقًا ، وأخرى بالتضمين مطلقًا ، وفصّل غيرهم ، وكلٌ كان له وِجْهةٌ في التفصيل .
والثاني من أسباب الخلاف : ملاحظة التفريط ، والقدرة على منع الجناية من صاحب اليد ، فمن رأى أن صاحب اليد هو الذي يستطيع تسيير الدابة مطلقًا ضمّنه ، ومن جعله قادرًا في حالٍ دون حالٍ فَصَّل .
الأدلة :
استدل الفريق الأول النافين للضمان مطلقًا بما يلي :
قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( العجماء جبار ) (1) . والجبار الهدر الذي لا شيء فيه(2) . وهذا نص في المطلوب(3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الديات ، باب المعدن جبار والبئر جبار برقم ( 6912 ) وفي مواضع أخرى ، ومسلم في صحيحه كتاب الحدود باب جرح العجماء برقم ( 1710 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) الجبار : بوزن الغبار : الهدر ، وبناء ج ب ر ، يأتي للرفع والإهدار ومعنى الرفع : أنه ارتفع عن أن يؤخذ به أحد . والهدر هو الباطل يقال : هدر دمه ، أي بطل ؛ فتح الباري ( 12/266 ) ؛ مختار الصحاح ص ( 91 ) مادة ج ب ر ؛ المصباح المنير ص ( 35 ) مكتبة لبنان .
(3) المغني ( 12/544 ) ؛ المحلى ( 8/170 ) .(10/10)
ما نقل عن مكاتب لبني أسد أنه أتى بنقدٍ - أي صغار الغنم - من السواد إلى الكوفة ، فلما انتهى إلى جسر الكوفة ، جاء مولى لبكر بن وائل ، فتخلل النقد على الجسر ، فنفرت منها نقده ، فقطرت الرجل - أي ألقته على أحد قطرية ، أي : شقيه في الفرات ، فغرق ، فأخذت فجاء مواليه إلى مواليَّ ، فعرض مواليَّ عليهم ألفى درهم ولا يرفعونه إلى علي ، فأبوا ، فأتينا علي بن أبي طالب ، فقال لهم : إن عرفتم النقدة بعينها فخذوها ، وأن اختلطت عليكم فشرواها - أي مثلها - من الغنم(1) .
فهنا لم يضمّن عليّ رضي الله عنه صاحب اليد .
أنها جناية بهيمة فلم يضمنها ، كما لو لم تكن يده عليها(2) .
واستدل الفريق الثاني الموجبون للضمان مطلقًا بما يلي :
أن الحيوان في يده ، وعليه تعهده وحفظه ، فالجناية منه دليل تفريطه(3) .
أنه إذا كان مع الحيوان كان فعل الحيوان منسوبًا إليه(4) ، والحيوان كالآلة في يده(5) .
وستدل الفريق الثالث بما يلي :
__________
(1) أخرجه ابن حزم في المحلى ( 8/170 ) ، وعنه معجم السلف للكتاني ( 5/42 ) مطابع الصفا عام 1405هـ من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري ، نا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي قال : أخبرني مكاتب لبني أسد به . والمكاتب مجهول : فيكون الحديث معلولاً بهذا والله أعلم .
(2) المغني ( 12/544 ) .
(3) مغني المحتاج ( 4/204 )
(4) مغني المحتاج ( 4/204 )
(5) فتح الباري ( 12/269 ) .(10/11)
قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الرِجّل جُبار ) (1). وتخصيص الرجل بكونه جبارًا دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها(2) .
ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها ، أو يده عليها ، بخلاف من لا يد له عليها(3) .
واستدل الفريق الرابع بما يلي :
أن المرور في طرق المسلمين مأذونٌ فيه بشرط سلامة العاقبة ، فإذا لم تسلم العاقبة لم يكن مأذونًا له فيه ، والمتولد منه يكون مضمونًا ، إلا مالا يمكن التحرز منه ، والنفخ مما لا يمكن التحرز منه ، فسقط اعتباره ، والتحقق بالعدم(4) .
حديث ( الرجل جبار ) فيجب الضمان في جناية غيره ، وخُصّص عدم الضمان بالنفح دون الوطء ، لأن من بيده الحيوان يمكنه أن يجنبه وطء ما لا يريد أن يطأه بتصرفه فيه ، بخلاف النفح(5) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الديات ، باب في الدابة تنفح برجلها برقم ( 4578 ) ؛ والدارقطني في سننه كتاب الحدود برقم ( 391 ) ( 3/213 ) ، ( 178 ، 179 ) ، والبيهقي في سننه ( 8/343 ) ، من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد المسيت عن أبي هريرة به مرفوعًا . قال الدارقطني : ( لم يروه غير سفيان بن حسين ، وخالفه الحفاظ عن الزهري ، منهم مالك وابن عيينة و ... كلهم رووه عن الزهري فقالوا : ( العجماء جبار ) ، ولم يذكروا الرجل ، وهو الصواب ) أ.هـ . انظر : نصب الراية ( 4/387 ) ؛ وقد ضعّف الحديث الألباني في إرواء الغليل ( 5/361 ) .
(2) المغني ( 12/544 ) .
(3) المغني ( 12/544 ) .
(4) بدائع الصنائع ( 7/272 ) .
(5) كشاف القناع ( 4/126 ) .(10/12)
قول ابن سيرين : ( كانوا لا يضمنون من النفحة ، ويضمنون من ردِّ العنان )(1) أ.هـ وهو حكاية عن عمل من قبله ولم يعرف له مخالف .
المبحث الثاني : المناقشة والترجيح
مناقشة أدلة الفريق الأول :
يناقش أول أدلتهم بأن المراد بالعجماء في الحديث الدابة المنفلتة ، التي لا يكون معها أحد(2) ، ويدل لذلك ( ما وقع في رواية جابر عند أحمد والبزار بلفظ : السائمة جبار (3). وفيه إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى لا كل بهيمة ، لكن المراد بالسائمة هنا التي ليس معها أحد ؛ لأنه الغالب على السائمة ) (4).
فيكون الدليل خارجًا عن محل النزاع .
أما الثاني من أدلتهم ، فليس في محل النزاع أيضًا ، وذلك أن راعي الغنم قد انعدم تحكمه بها ، فلا ضمان ، كما مر .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به كتاب الديات ، باب العجماء جبار ، فتح ( 12/267 ) قال الحافظ : ( وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن هشيم حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين ، وهذا إسناد صحيح ، وأسنده ابن أبي شيبة من وجهٍ آخر عن ابن سيرين نحوه ) أ.هـ . فتح الباري ( 12/268 ) .
(2) نصب الراية ( 4/387 ) .
(3) رواه أحمد في المسند ( 3/335 ) برقم ( 14576 ) ؛ والبزار في مسنده كشف الأستار ( 1/423 ) برقم ( 894 ) ؛ والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد ( 3/77 ) من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر ، قال الثيمي : ( رجاله موثقون ) .
(4) المغني ( 12/544 ) .(10/13)
أما الثالث ، فإن جناية البهيمة قد تضمن ؛ ويدل لذلك حديث البراء(1) ، وغيره وأما قياس هذه الحالة على ما لو لم تكن بيد أحد فليس بصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العجماء جبار ) وورد عنه أنه قضى بالضمان فيما أفسدت(2) العجماء ، فدل ذلك على أن ما أصابت العجماء في حال جبار وفي حال غير جبار(3) فالإطلاق غير صحيح .
مناقشة أدلة الفريق الثاني :
يناقش أول أدلتهم بأن الجناية ليست دائمًا دليلاً على تفريط صاحب اليد، وذلك كما لو انفلت منه ، أو كما لو وطئت دون علمه .
ويناقش الثاني بأن الفعل ينسب إليه إذا تسبب فيه . أو استطاع منعها منه وفرّط ، أما في هذه الحالة ، فإن نسبة الفعل إليه بعيدة .
مناقشة أدلة الفريق الثالث :
يناقش أول أدلتهم بأنه حديث ضعيف ( ولو صح فاليد أيضًا جبار قياسًا على الرجل ، ويحتمل أن يقال : حديث الرجل جبار ، مختصر من حديث العجماء جبار ، لأنها فرد من أفراد العجماء ) (4) .
ولا يمكن أن يقال إن الرجل جبار مخصص لحديث العجماء جبار لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام ؛ لا يصح(5) .
مناقشة أدلة الفريق الرابع :
يناقش أن قول ابن سيرين لم يبين فيه هل المراد به الدابة ومعها أحد ، أم لا ؟
الترجيح :
الذي يظهر للباحث أن القول بتضمين ما سوى النفحة ؛ قول قريب وجيه ؛ لأن صاحب اليد لا يمكنه منعها منه ..
__________
(1) سيأتي مستوفىً في الباب الثاني من البحث إن شاء الله .
(2) سيأتي مستوفىً في الباب الثاني من البحث إن شاء الله .
(3) انظر : اختلاف الحديث للشافعي ص ( 302 ) .
(4) فتح الباري ( 12/268 ) .
(5) انظر : تحقيق الوصول المراد شكري ص ( 76 ) دار الحسن الطبعة الأولى 1413هـ .(10/14)
إلا أنه مما ينبغي العناية به ملاحظة التقصير من عدمه ، والقدرة على منع الجناية من عدمها ؛ فإن كل حيوان بحسبه وكل زمان ومكان له ظروفه ، فعلى الحاكم والمفتي التحري في ذلك ، والاجتهاد ، حتى يظهر له من قرائن الأحوال ، ودلائل الموقف ، ما يعرف بالتقصير من عدمه ، والله الموفق .
الباب الثاني
المسئولية عن إتلاف الحيوان إذا لم يكن بيد أحد .
الفصل الأول : تعدي صاحب اليد .
الفصل الثاني : تفريط صاحب اليد .
المسألة الأولى : إذا أفسدت الماشية زرعًا.
المسألة الثانية : هل التعويل في المسألة الأولى في وجوب الضمان الليل ، أو العادة ؟
المسألة الثالثة : هل الزرع وغيره سواء في وجوب الضمان ؟
تمهيد ..
إذا لم يكن الحيوان بيد أحد فالأصل فيه ؛ أنه لا ضمان ، لحديث ( العجماء جبار ) ، والمراد بها السائمة التي لا يد لأحد عليها ، كما تقدم(1) . ولأن الفعل غير مضاف إلى صاحب اليد لعدم ما يوجب النسبة إليه(2) .
إلاّ أن هذا مشروط بشرطين :
ألاّ يظهر صاحب اليد – المالك – بمظهر المتعدي .
ألاّ يفرط في حفظها .
وتضمن الشرطان السابقان مسائل نستعرضها في الفصلين القادمين .
الفصل الأول
تعدي صاحب اليد
إذا كان مالك الحيوان متعديًا ، فإنه يضمن إتلاف الحيوان ، وإفساده وإن لم يكن بيده(3) ، وذلك كأن يكون حيوانه عقورًا ، أو ضاريًا ، ويطلقه على الناس في مجامعهم وطرقهم ، وكما لو أرسله بقرب ما يتلفه عادة ، كالسيارات ونحوها ، فإنه هنا متعدٍ في فعله ملزم بالضمان(4) .
__________
(1) في الباب الأول ، الفصل الثالث ، المبحث الثاني منه .
(2) تكملة فتح القدير ( 9/265 ) .
(3) مجمع الضمانات لابن غانم ص ( 185 ) الطبعة الأولى سنة 1408هـ ؛ الشرح الكبير للدردير ( 4/243 ) ؛ مغني المحتاج ( 4/208 ) ؛ غاية المنتهى للكرمي ( 2/254 ) المكتب الإسلامي .
(4) انظر : القواعد الجامعية لابن سعدي ص ( 48 ) .(10/15)
وضابط العدوان : أن يفعل ما ليس له فعله ، أما من أبيح له فعل شيء ، أو تركه فإنه لا يترتب عليه شيء(1) .
إلاّ ابن حزم له رأي يخالف ما تقدم ، وذلك أنه يقول : ( لا ضمان على صاحب البهيمة فيما جنته في مال أو دم ، ليلاً أو نهارًا ، لكن يؤمر صاحب بضبطه ، فإن ضبطه فذاك ، وإن عاد ولم يضبطه بيع عليه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( العجماء جرحها جبار )) (2)أ.هـ . وظاهر نفي الضمان ، سواءً كان المالك متعديًا أم لا ، وهذا ليس بسديد ؛ إذ قواعد الشريعة جاءت بإلزام المتعدي بضمان ما تلف بسبب تعديه . وحديث (( العجماء جبار )) مخصوص مما نحن بصدده بدليل حديث ناقة البراء كما سيأتي في الفصل القادم .
الفصل الثاني
تفريط صاحب اليد
متى فرط مالك الحيوان ، وجب عليه الضمان .
والمرجع في معرفة التفريط من عدمه : العادة ، فمن فعل ماله فعله عادة ، فليس بمفرط ، وتحت هذا الأصل مسائل ..
المسألة الأولى : إذا أفسدت الماشية زرعًا .
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : سقوط الضمان مطلقًا ، وقال به الحنفية(3) والظاهرية(4) .
القول الثاني : وجوب الضمان مطلقًا بأقل الأمرين من قيمتها . أو قدر ما أتلفته – وقال به الليث(5) .
القول الثالث : التفصيل فإن وقع الإتلاف نهارًا فلا ضمان ، وإن وقع ليلاً وجب فيه الضمان . وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم(6) .
__________
(1) القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام القاعد ( 155 ) مطبعة أنصار السنة . سنة 1375هـ .
(2) المحلى ( 8/170 ) .
(3) تكملة فتح القدير ( 9/265 ) ؛ الدر المختار وحاشيته ( 5/387 ) .
(4) المحلى ( 8/170 ) .
(5) بداية المجتهد ( 2/242) ؛ المغني ( 12/541 ) .
(6) الكافي لابن عبد البر ( 2/850 ) ؛ بداية المجتهد ( 2/242 ) ؛ المهذب للشيرازي ( 2/226 ) ؛ مغني المحتاج ( 4/204 ) ؛ المغني ( 12/541 ) ؛ الإنصاف ( 6/241 ) .(10/16)
سبب الخلاف : سبب الخلاف في هذا الباب معارضة الأصل للسماع ، ومعارضه السماع بعضه لبعض ، فالأصل أن على المتعدي الضمان ، والمرسل للحيوان متعدٍ بإرساله فوجب عليه الضمان . وهذا معارض بحديث (( العجماء جبار )) ويعارض التفرقة التي في حديث البراء . وكذلك التفرقة التي في حديث البراء تعارض حديث العجماء جبار(1) .
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول بما يلي :
حديث (( العجماء جبار )) . فالمنفلتة جنايتها هدر ، وهذا نص في المسألة(2) .
لأنها أفسدت وليست يده عليها فلم يلزمه الضمان ، كما لو كان نهارًا(3) .
استدل أصحاب القول الثاني بما يلي :
أن المرسل للدابة بإرسالها ، والأصول أن على المتعدي الضمان(4) .
قوله تعالى : { وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا أتينا حكما وعلما ... الآية } [ الأنبياء : 78 ، 79 ] . قال شريح والزهري وقتادة : النَفْشُ لا يكون إلاّ بالليل زاد قتادة والهَمَل بالنهار(5) .
وقال في مختار الصحاح(6) : ( ونفشت الإبل والغنم أي رعت ليلاً بلا راعٍ ، من باب جلس ، ونفشت تَنفُش بالضم نفشًا ... ومنه قوله تعالى : { إذ نفشت فيه غنم القوم } وأنفشها غيرها تركها ترعى ليلاً بلا راع ولا يكون النَّفْشُ إلا بالليل ، والهَمَل يكون ليللا ونهارًا ) أ. هـ .
__________
(1) بداية المجتهد ( 2/243 ) ؛ وعنه إرشاد المسترشد للأنصاري ( 4/208 ) الطبعة الأولى .
(2) تكملة فتح القدير ( 9/265 ) .
(3) المغني ( 12/541 ) .
(4) بداية المجتهد ( 2/242 ) .
(5) تفسير ابن كثير ( 3/187 ) دار المنار .
(6) ص ( 673 ) مادة ن ف ش .(10/17)
والآية واردة في غنم لقوم رعت حرثًا لآخرين ليلاً فحكم فيها بالضمان(1) . فهذا نص في وجوب الضمان ليلاً فيخصص به عموم (( العجماء جبار )) .
حديث حرام بن محيصة (( أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال بالنهار ، وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم )) (2) .
أن ( العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي ، وحفظها ليلاً . وعادة أهل الحوائط حفظها نهارًا ، دون الليل . فإذا ذهبت ليلاً كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ ، وإن أتلفت نهارًا كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم ) (3) .
مناقشة أدلة الفريق الأول :
أن حديثكم عام يخصصه حديث البراء ، فالخاص يقضي على العام ، أما الدليل الثاني : فهو فاسد الاعتبار(4) ، إذ يعارض حديث ناقة البراء ، وناقة البراء لم تكن بيد أحدٍ ، وكان إتلافها ليلاً .
مناقشة أدلة الفريق الثاني :
__________
(1) انظر : تفصيل ذلك وما ورد فيه من روايات ، في تفسير ابن كثير ( 3/187 ) ؛ وإعلام الموقعين ( 1/326 ) دار الجيل بيروت طبعة ( 1973 ) .
(2) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الأقضية باب القضاء في الضواري والحرية برقم ( 1467 ) ؛ وأبو داود في سننه كتاب الأجازة من البيوع . باب المواشي تفسد زرع قوم برقم ( 3564 ، 3565 ) ؛ وابن ماجة في سننه كتاب الأحكام باب الحكم فيما أفسدت المواشي برقم ( 2332 ) ؛ وأحمد في المسند ( 5/435 ، 436 ) ؛ وغيرهم انظر تلخيص الحبير ( 4/97 ) مكتبة الكليات سنة 1399هـ ، ومختصر البدر المنير ص ( 257 ) الطبعة الأولى مؤسسة الكتب الثقافية . وقد اختلف في الحديث بين واصله وإرساله ، والراجح أن الحديث موصول وقد صححه جمع من أهل العلم كالحافظ ابن حجر في الفتح ( 12/270 ) ؛ والألباني في الإرواء ( 5/362 ) وغيرهما .
(3) المغني ( 12/542 ) .
(4) انظر : اختلاف الحديث للشافعي ص ( 302 ) .(10/18)
أن المرسل للدابة متعدٍ ليلاً ، غير متعدٍ نهارًا ، وذلك لأن العادة أن ترسل الدواب نهارًا ، والعادة محكمة(1) .
مناقشة أدلة الفريق الثالث :
أن حادثة النفش من شرع من قبلنا ، وهو محل خلاف .
أن حديث ناقة البراء منسوخ بحديث (( العجماء جبار )) (2) .
ويجاب عنه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ(3) .
الترجيح :
الذي يظهر للباحث أن القول الثالث هو أرجح الأقوال ، وأولاها بالصواب ، لقوة أدلته ولما ورد على أدلة الأقوال الأخرى من مناقشة .
وقد اختاره جمع من المحققين كابن القيم(4) ، والشوكاني(5) ، وغيرهم .
المسالة الثانية : هل التعويل في المسألة السابقة في وجوب الضمان الليل أو العادة ؟ .
والمعنى أنه لو تعود أهل بلد إرسال البهائم وحفظ الزرع ليلاً دون النهار ، فهل ينعكس الحكم . فيجب الضمان نهارًا لا ليلاً أم لا ؟ .
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأول : أن المعول عليه العادة ، إتباعًا لمعنى الخبر ، والعادة ، وهو قول الشافعية(6) .
القول الثاني : أن المعول عليه كونه ليلاً ، لأن هذا العرف نادر . فلا يعتبر به في تخصيص الحديث السابق ، وهذا قول الحنابلة(7) .
سبب الخلاف :
الذي يلوح لي أن سبب الخلاف هو هل الحديث وارد لتقرير واقع معين ، يبيّن فيه من المفرّط في ذلك الواقع وعليه يتحمل الضمان ، أم هو حكم يبيّن فيه من يتحمّل الضمان ، ومتى ؟ .
__________
(1) انظر : في هذه القاعدة : الأشباه والنظائر للسيوطي إذ أعاد هذا الفرع القاعدة ص ( 183 ) الطبعة الأولى 1407هـ دار الكتاب العربي .
(2) نقله في فتح الباري ( 12/270 ) عن الطحاوي .
(3) فتح الباري ( 12/270 ) .
(4) إعلام الموقعين ( 1/326 ) .
(5) نيل الأوطار ( 5/325 ) طبعة دار الحديث ؛ والسيل الجرار ( 4/423 ) .
(6) مغني المحتاج ( 4/204 )
(7) الإنصاف ( 6/242 ) ؛ مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني ( 4/90 ) طبع المكتب الإسلامي .(10/19)
والظاهر أن الراجح الأول ، وأن الحديث خارج مخرج الفتوى لمن كان حاله كحالة هؤلاء ، في إرسال المواشي وحفظها ، بدليل المعنى ، وتحكيم العادة .
ونظير هذه المسألة القسم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلاً ، ويأوي إلى أهله نهارًا ، لا نعكس الحكم في حقه ، مع أنّ عماد القسم الليل(1) .
المسألة الثالثة : هل الزرع وغيره سواء في وجوب الضمان ؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا يضمن إلا الزرع والحرث . وهو المشهور عن مالك(2) ، ورواية عن أحمد اختارها الموفق(3) .
القول الثاني : تُضْمَن الأموال دون الدّماء ، وهو مروي عن مالك(4) ، وقول في مذهب أحمد(5) .
القول الثالث : يضمن الجميع من الأموال والدماء . وهو قول الشافعية(6) . وبرواية عن أحمد هي الصحيح من مذهبه(7) .
الأدلة :
استدل الفريق الأول : بأن الأصل في إتلافات البهائم ، أنه لا شيء فيها وخص الدليل النفش وهو الرعي ليلاً . فيبقى ما عداه على الأصل في كونه هدرًا(8) .
أما الفريق الثاني فلم أقف لهم على دليل ، ولعل مأخذهم أن الأصل هو كون شأن الأموال واحد ، سواء كان زرعًا أو غيره .
واستدل الفريق الثالث بحديث ناقة البراء ، وفيه (( أن ما أفسدت المواشي بالليل فهو مضمون عليهم )) فكل ما أفسدته بالليل فمضمون(9) بنص الحديث ، وذلك لأن ما تفيد العموم المستغرق لكل ما دخلت عليه(10) .
__________
(1) فتح الباري ( 12/270 ) .
(2) الكافي ( 2/851 ) ، قوانين الأحكام لابن جزي ص ( 361 ) .
(3) المغني ( 12/542 ) ؛ الإنصاف ( 6/240 ) .
(4) الكافي ( 2/851 ) .
(5) الإنصاف ( 6/241 ) .
(6) مغني المحتاج ( 4/204 ) .
(7) الإنصاف ( 6/241 ) ، ونص على أنه الصحيح . الروض المربع وحاشيته ( 5/418 ) .
(8) المغني ( 12/543 ) .
(9) انظر : السيل الجرار ( 4/423 ) .
(10) انظر : رسالة القواعد الفقهية لابن سعدي ص ( 42 ) ، المؤسسة السعيدية بالرياض .(10/20)
المناقشة :
يناقش دليل الفريق الأول بأن المخصوص ليس هو النفش ؛ لأن من شرع من قبلنا ، فهو غير متفق على التخصيص به ، ولكن المخصوص هو إفساد الليل لحديث البراء .
أما الفريق الثاني فيناقش ما يمكن أن يستدلوا به : بأنه كما أن الشأن في الأموال واحد فالشأن في الإفساد واحد .
الترجيح :
الذي يظهر للباحث أن الرأي الثالث أقرب الآراء إلى الصواب ، لقوة دليله وعمومه . وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة(1) رحمه الله .
الخاتمة :
استعرض الباحث في بحثه عددًا من المسائل :
فتناول المسئولية عن الحيوان إذا كان بيد أحد ، وأن الأصل في هذا الباب الضمان ، إلا إن خرج الحيوان عن تحكمه .
وتناول المسئولية عنه إذا لم يكن بيد أحد ، وأن الأصل فيه أنه هدر ، إلا إذا وجد تعدٍ أو تفريط من مالك الحيوان .
وبيّن الباحث حدّ التّعدي والتفريط ، وحكم إتلاف الزرع .
وقد ظهر للباحث بعد عرضه لهذه المسائل أن اختلاف الفقهاء لم ينشأ عن فراغ ، وإنما كان لكل مذهب حظه من الأثر والنظر . وأن من أهم أسباب اختلاف الفقهاء ما يظهر من تعارض النصوص واختلافها ، وهذا الاختلاف والتعارض إنما هو في نظر المجتهد وليس هو في الواقع ونفس الأمر ... { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ النساء : 82 ] ، وقد بين أهل العلم كيف يتعامل مع ما يظهر من تعارض النصوص في أصول الفقه ، ومصطلح الحديث .
ومما ظهر للباحث أنه يستحق البحث قاعدة المباشرة والسبب في الإتلاف والجناية وأثرهما في الضمان .
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به كاتبه ، وقارئه ، وإنه ولي ذلك والقادر عليه . وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وآله وصحبه أجمعين .
ملحق تراجم الأعلام
حرام بن محيصة :
__________
(1) قاله ابن قاسم في حاشية الروض المربع ( 5/418 ) .(10/21)
هو حرام بن سعد أو ساعده بن محيصة بن مسعود الأنصاري ، وقد ينسب إلى جَدِّه ، يكنى بأبي سعد ويقال أبو سعيد ، روى عن جده محيصة وعن البراء ، وروى عنه الزهري ، توفي بالمدينة سنة ( 113هـ ) وهو ابن سبعين سنة وثقه الحافظ ابن حجر .
تهذيب التهذيب ( 2/196 ) دار الفكر .
سلمان بن ربيعة الباهلي :
هو سلمان بن ربيعة بن يزيد بن عمرو بن سهم الباهلي ، أبو عبد الله ، سلمان الخيل ، يقال له صحبه ، ولاه عمر قضاء الكوفة ، غزا أرمينية في زمن عثمان ، فاستشهد بها .
تقريب التهذيب ( 1/3140 ) دار المعرفة .
شريح :
هو أبو أمية ، شريح بن الحارث بن قيس الكندي ، من أشهر القضاة والفقهاء ، استقضاه عمر على الكوفة ، فأقام قاضيًا بها خمسًا وسبعين سنة . توفي سنة ( 78، أو 79 ، أو 80 ، أو 81 ، أو 82 ) .
شذرات الذهب ( 1/85 ) ؛ الوفيات لابن قنفذ ص ( 98 ) ، دار الآفاق الجديدة . بيروة الطبعة الرابعة .
القاسم بن عبد الرحمن :
هو القاسم بن عبد الرحمن الكوفي ، من العُبّاد ، مات سنة ( 120 ) أو بعدها قال عنه الحافظ بن حجر : ( ثقة ) .
تقريب التهذيب ( 2/118 ) .
الليث :
هو أبو الحارث ، الليث بن سعد ، إمام أهل مصر في الفقه والحديث ، ولد سنة ( 94 ) بقلقشندة قرب القاهرة ، روى عن نافع والزهري وطبقتهما ، روى عنه ابن المبارك وغيره ، توفي سنة ( 175هـ ) .
شذرات الذهب ( 1/285 ) ؛ الوفيات ص ( 139 ) .
…(10/22)
الإشراف القضائي على النظار
ورقة علمية مقدمة لندوة الوقف والقضاء
التي تعقدها وزارة الشئون الإسلامية
والأوقاف والدعوة والإرشاد
إعداد
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
القاضي بالمحكمة العامة بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:-
فقد جاءت الشريعة الإسلامية بتنظيم الإنسان وترتيب شئونه ، وأرشدته إلى طرق استثمار أمواله وكيفيّة إنفاقها ، ووجهت إلى ما يحصل به جزيل الثواب بعدم انقطاع العمل في أنواع الصدقات الجارية ، التي يمتد ثوابها إلى ما بعد حياة الإنسان .
كما اهتم أهل العلم بتطبيق ضوابط الشرع العامة ، وكلياته الثابتة ومقاصده ، على أنواع من المسائل الفقهية أنيط فقهها لأهل العلم والذكر: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم } (النساء: من الآية83). وكل ذلك شاهد من شواهد خلود هذه الشريعة الربانية ، ومثال لحفظ الله تعالى لذكره وكتابه.
ومن أنواع ما تناوله الشرع حثاً وطلباً ، وشهد الواقع والتاريخ بنفعه وأثره ، واهتم أهل العلم ببيان مسائله ، وضبط فروعه ، وإحسان تطبيقه ، طلبا للمصلحة التي جاء الشرع بتحصيلها وتكميلها : الوقف.
ولقد كانت دعوة كريمة موجهة من وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بإقامة ندوات متعددة تهدف للتعريف بالوقف فقهاً وتعميق مكانته واقعاً ، وتأصيله في الحياة الاجتماعية وبحث وسائل إصلاحه وتطويره . ولقد كان من توفيق الله تعالى أن كلفت بإعداد ورقة علمية تقدم في مؤتمر يتناول بحث قضايا الوقف والقضاء .
ويسر الله تعالى لي الكتابة في الإشراف القضائي على النظار. فكانت هذه الأكتوبة الموجزة والتي جعلتها في تمهيد ومبحثين على النحو الآتي:
التمهيد ويشتمل على مطلبين:
…المطلب الأول:- مشروعية الإشراف على الناظر.(11/1)
…المطلب الثاني:- الجهات التي يحق لها مساءلة الناظر .
المبحث الأول : الإشراف القضائي على النظار فقهاً . وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول :- إقامة القاضي للناّظر.
المطلب الثاني :- تقدير القاضي لأجرة الناظر.
المطلب الثالث:- نصب القاضي من يقوم بمصلحة الوقف إذا امتنع الناظر.
المطلب الرابع:- ضم القاضي أميناً للناظر.
المطلب الخامس:- الإذن بمخالفة شرط الواقف .
المطلب السادس:- الاعتراض على الناظر في فعل ما لا يسوغ .
المطلب السابع:- محاسبة الناظر .
المطلب الثامن:- الإذن للناظر بالتصرف في الوقف .
المطلب التاسع:- عزل الناظر.
المبحث الثاني:- نظرة في واقع الإشراف القضائي على النظار.
وجعلت آخره خاتمة تتضمن خلاصة لما سبق والتوصيات التي أنتهي إليها مع فهرس للمراجع التي استفدت منها .
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه
هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
القاضي بالمحكمة العامة بمكة المكرمة
التمهيد
المطلب الأول:- مشروعية الإشراف على الناظر.
ناظر الوقف هو الذي يتولى إدارته وترتيب شئونه(1) ، وهو إنما يتولى ذلك نيابة عن غيره ، وليس تصرّفه كتصرف الإنسان في ملكه .
__________
(1) المعجم الوسيط ص 932 . ورمز له (مو) ويعنى به المولد ، وهو: اللفظ الذي استعمله الناس قديماً بعد عصر الرواية . وقال في معجم مقاييس اللغة [5/444]: [النون والظاء والراء أصل صحيح يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمّل الشيء ومعاينته ، ثم يستعار ويتسع فيه ].
…وكلام الفقهاء يتضمن المعنى الذي ذكرته انظر مثلاً: الدر النقى [3/619]؛ تهذيب الأسماء واللغات (3/343) . وهو ظاهر من تقريرهم لوظيفة الناظر .(11/2)
…وكل متصرف في شيء عن غيره فهو مطالب بتحري المصلحة ، وصيانة الحقوق ، ولا يكون تصرفه تشهياً محضاً غير مبنى على مقتضى الأصلح في التدبير ؛ قال تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (الأنعام: من الآية152). فحجر الله تعالى على الأوصياء التصرف فيما هو ليس بأحسن مع قلة الفائت من المصلحة في ولايتهم بالنسبة لولايات أخرى(1) .
…وعن معقل بن يسار -رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسترعية الله رعية فلم يحطها بنصحة ؛ لم يجد رائحة الجنة) (2)
…وهذه النصوص وما شابهها من الأدلة الآمرة بأداء الأمانات مثل قوله تعالى { إنَّ اللهَ يأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } ( النساء : 58) تقتضى أن يكون كل ذي ولاية معزولاً عن التصرف المتضمن للمفسدة الراجحة ، والمصلحة المرجوحة ، والمساوية ، ومالا مفسدة فيه ولا مصلحة ؛ لأن هذه الأقسام الأربعة ليست من باب ما هو أحسن(3) .
…ولذا قرر أهل العلم قاعدة ترسم حدود التصرفات النافذة لكل متولٍ على غيره ، فقالوا: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) (4) . وعبر عنها السبكي بلفظ مناسب لمقامنا إذ قال: " كل متصرف عن الغير ، فعليه أن يتصرف بالمصلحة "(5) .
…قال العز بن عبد السلام: " يتصرف الولاة ونوابهم بما هو أصلح للمولى عليه درءاً للضرر والفساد ، وجلباً للنفع والرشاد ، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم مثل أن يبيعوا درهماً بدرهم ، أو مكيلة زبيب بمثلها"(6) .
__________
(1) انظر: الفروق للقرافي (4/41) الفرق الثالث والعشرون والمائتان .
(2) صحيح البخاري . 7150 ؛ صحيح مسلم 142 .
(3) الفروق (4/41) .
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 134 ؛ وابن نجيم ص 124 ؛ شرح المجلة (م58) .
(5) الأشباه والنظائر (1/310) .
(6) قواعد الأحكام (2/158) .(11/3)
…وإذا تقرر أن المتصرف عن الغير مطالب بفعل ما هو مقتضى المصلحة، فإن ناظر الوقف فرد من أفراد هذه القاعدة العامة ولذا فهو مطالب بالتصرف على حسب المصلحة الشرعية وليس له التصرف بحسب هواه .
…قال ابن تيمية: ( الناظر ليس له أن يفعل شيئاً في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية ، وعليه أن يفعل الأصلح ، فالأصلح . وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء ، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه ، فليس للذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه ، أو ما يكون فيه اتباع الظن وما تهوى الأنفس ؛ بل الذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذي هو خير ما يكون إرضاء لله ورسوله . وهذا في كل من تصرف لغيره بحكم الولاية كالإمام ، والحاكم ، والواقف ، وناظر الوقف ، وغيرهم: إذا قيل هو مخير بين كذا وكذا ، أو يفعل ما يشاء ، وما رأى ، فإنما ذاك تخيير مصلحة ، لا تخيير شهوة ) (1) .
وإذا تقرر أن الناظر لا يتصرّف إلا بمقتضى المصلحة والغبطة ، وأنه ممنوع من التصرّف بخلاف ذلك ؛ ساغ الإشراف عليه ومحاسبته والرقابة عليه لئلا يخل بمقتضى المصلحة التي أنيطت تصرفاته بها.
المطلب الثاني:- الجهات التي يحق لها مساءلة الناظر.
…باستقراء كلام الفقهاء يظهر أن الجهات التي يحق لها مساءلة الناظر ثلاث جهات:
الأولى : السلطان .
فإن السلطان تثبت له الولاية العامة على مصالح المسلمين ، ويقوم برعاية الأمور وتصفح الأحوال ، ومن واجباته فصل الخصومات والقيام على المشرفين على الضياع بأسباب الصون والإبقاء ومن أنواع ذلك إشرافه على الأوقاف والنظار .
…ومعلوم أنه ليس من الممكن أن يتعاطى الإمام كل مهمات المسلمين مع اتساع الأكناف، وانتشار الأطراف ، بل لابد من أن يستنيب في أحكامها(2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (31/67) .
(2) انظر: الأحكام السلطانية للماوردى ص 50 ؛ غياث الأمم في التياث الظلم للجوينى ص 131 .(11/4)
…وقد ذكر الفقهاء نائبين عن الإمام في الرقابة على الناظر وهما القاضي، والديوان .
1- فأما القاضي فهو مستفيد لرقابته تلك من تقرير السلطان له ، وفى حاشية ابن عابدين(1): (قال في الخيرية: وهو صريح في أن نائب القاضي لا يملك إبطال الوقف ، وإنما ذلك خاص بالأصل الذي ذكره له السلطان في منشوره نصب الولاة والأوصياء ، وفوّض له أمور الأوقاف) .
ولما عدّد الفقهاء ما يستفيده القاضي إذا ثبتت ولايته ذكروا منها: النظر في الوقوف في عمله ، وعللوه بأن العادة من القضاة توليها فعند إطلاق تولية القضاء تنصرف إلى ولاية ما جرت العادة بولايته لها(2) .
2- وأما الديوان(3) فالمراد به أن ينصب السلطان من يتولى الإشراف على الأوقاف ومحاسبة النّظار مختصاً بذلك ، وإذا كان السلطان هو الذي يقرر ولاية القضاة فلا مانع من أن يقرر الولاية لغيرهم فيكون لهم من الصلاحيات ما للقضاة – عدا فض النزاعات - .
…سئل ابن تيمية عن أوقاف ببلد بعضها له ناظر خاص وبعضها له ناظر من جهة ولي الأمر وقد أقام ولي الأمر على كل صنف ديواناً يحفظون أوقافه ويصرفون ريعه في مصارفه وينظر في تصرفات النظار والمباشرين ويحقق عليهم ما يجب تحقيقه من الأموال المصروفة فهل لولى الأمر أن يفعل ذلك إذا رأى فيه المصلحة أم لا ؟.
__________
(1) 6/636]
(2) الشرح الكبير على المقنع لابن أبي عمر [28/276] ؛ روضة الطالبين [8/115] ؛ تبصرة الحكام [1/16] .
(3) لفظة معربة تطلق على الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء ، كما يطلق على مجمع هذه الدفاتر الذي يجتمع فيه الكتبة . انظر: القاموس المحيط (دون) ؛ المعجم الوسيط ص 305 .(11/5)
فأجاب: نعم ، لولى الأمر أن ينصب ديواناً مستوفياً لحساب الأموال الموقوفة عند المصلحة كما له أن ينصب الدواوين مستوفياً لحساب الأموال السلطانية كالفىء وغيره ، وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله من كل مال يعمل فيه بقدر ذلك المال ، واستيفاء الحساب وضبط مقبوض المال ومصروفه من العمل الذي له أصل لقوله تعالى: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } (التوبة: من الآية60) وفى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على الصدقة فلما رجع حاسبه(1) ، وهذا أصل في محاسبة العمال المتفرقين . والمستوفى الجامع نائب الإمام في محاسبتهم، ولابد عند كثرة الأموال ومحاسبتهم من ديوان جامع .
…ولهذا لما كثرت الأموال على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – وضع الدواوين ... وكذلك الأموال الموقوفة على ولاة الأمر إجراؤها على الشروط الصحيحة الموافقة لكتاب الله وإقامة العمال على ما ليس عليه عامل من جهة الناظر . والعامل في عرف الشرع يدخل فيه الذي يسمى ناظراً ، ويدخل فيه غير الناظر) (2) .
الثانية:- الواقف .
…للواقف ولاية إشرافية على الناظر في جملة أمور فهو الذي ينصب الناظر ، وله عزله وله تحديد أجرته ، وإنما يعمل الناظر بشرط الواقف(3).
الثالثة:- الموقوف عليهم(4) :-
__________
(1) صحيح البخاري 6979 ؛ صحيح مسلم 1882
(2) مجموع الفتاوى [31/85] ؛ ونقله مختصراً في كشاف القناع (4/277) .
(3) في بعض هذه المسائل خلاف فانظر تيسير الوقوف على غوامض أحكام الوقوف للمناوى (1/133- 142) ؛حاشية ابن عابدين [6/633 ، 669] ؛ مواهب الجليل (6/39 ، 40) ؛ مغني المحتاج (2/394) ؛ كشاف القناع (4/271) ؛ الإنصاف [16/440] .
(4) حاشية ابن عابدين [6 / 669] ؛ مواهب الجليل (6/40) ؛ مغني المحتاج (2/394) ؛ كشاف القناع
(4/277) .(11/6)
فإن للموقوف عليهم المستحقين من غلة الوقف مطالبة الناظر بالمحاسبة على المستخرج والمصروف . ولهم مساءلته عما يحتاجون إلى علمه من أمور وقفهم ، ولهم مطالبته بانتساخ كتاب الوقف لتكون نسخته في أيديهم . هذه هي الجهات التي لها أن تسائل الناظر أو تراقبه أو لها ولاية إشراف عليه .
المبحث الأول
الإشراف القضائي على النُّظّار فقهاً
المطلب الأول:- إقامة القاضي للنّاظر
…لا يخلو الواقف إما أن يشترط ناظراً للوقف أولا فإن اشترط له ناظراً فقد اتفقت كلمة الفقهاء ، في استحقاقه للنظارة متى كان أهلاً(1) .
…وعليه فإن القاضي لا تكون له ولاية على الوقف في خصوص إقامته الناظر إذا اشترطه الواقف وهذا ظاهر من فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – فإنه جعل وقفه إلى حفصة - رضي الله عنها - تليه ما عاشت(2). ولولا أنه شرط معتبر لما اشترطه .
وكذلك لأن مصرف الوقف يتبع فيه شرط الواقف فكذلك النظر(3) .
فإن لم يشترط الواقف ناظراً أو شرطه فمات أو عزل، فقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين رئيسين:
الأول:- أنه يرجع للقاضي وتكون ولايته إليه . وقال به الحنفية وهو المذهب عند الشافعية وقول عند الحنابلة(4) .
الثاني:- التفريق بين ما إذا كان الموقوف عليهم معينين فيكون النظر إليهم أو غير معينين ولا محصورين فالنظر للقاضي وقال به المالكية وهو المذهب عند الحنابلة وقول للشافعية(5) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين [6 / 636]؛ مواهب الجليل (6/25) ؛ مغني المحتاج (2/393) ؛ الإنصاف (16/440) .
(2) سنن أبي داود (2879)؛ السنن الكبرى للبيهقى (6/161) بإسناد صحيح .
(3) الشرح الكبير على المقنع (16/456) .
(4) حاشية ابن عابدين [6 / 633]؛ مواهب 3 مغني المحتاج (2/393) ؛ الإنصاف (16/456) .
(5) مواهب الجليل (6/37) ؛ الإنصاف (16/456) ؛ مغني المحتاج (2/393) .(11/7)
…ويمكن أن يكون سبب الخلاف في هذه المسألة مبنياً على الملك في الوقف هل ينتقل إلى الموقف عليه أو إلى الله تعالى .
…فإن قيل: هو للموقوف عليه فالنظر له فيه لأنّه يملك عينه ونفعه .
…وإن قيل: هو لله تعالى ، فالحاكم يتولاه ، ويصرفه إلى مصارفه ؛ لأنه مال الله فالنظر فيه إلى حاكم المسلمين(1) .
والراجح أن عين الموقوف ينتقل بعد وقفه إلى الله سبحانه وتعالى ولا يكون له مالك من الآدميين ؛ إذ الوقف لا سلطان لأحد على إراثه أو هبته وهذا يدل على أنه لا ملك لأحد عليه .
…وقد جاء في صدقة عمر -رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (تصدّق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق من ثمره) (2) .
وهذا نظير العتق فكلاهما إزالة للملك عن العين على وجه القربة ، وقد انتقل إلى الله تعالى فليكن الوقف مثله(3) .
وكذلك في الواقع العملي يثبت تعذر كون المستحقين نظاراً ؛ إذ هذا مدعاة لتوسعة دائرة الخلاف بين المستحقين ومؤدٍ إلى تعطيل الوقف .
وكذلك يكون القاضي متولياً للوقف إذا شرط الواقف أنَّ النظر إليه .
…ومتى آلت ولاية الوقف للقاضي فقد اتفق الفقهاء على أن له أن يستنيب فيه من يراه ؛ لأنه لا يمكنه تولي النظر بنفسه لكثرة الأعمال والمهام المناطة به في العادة(4) .
…وعليه فإنه يمكن إجمال الحالات التي يرجع فيها نظر الوقف للقاضي فيما يلي:-
1-إذا لم يشترط الواقف ناظراً – على تفصيل سبق - .
2- إذا مات الناظر المشترط أو عزل .
3- إذا أسند الواقف النظر للقاضي .
ففى هذه الحالات يرجع النظر للقاضي فيسنده لمن يراه صالحاً .
إلا أن الحنفية استحسنوا من القاضي أن ينصب من الموقوف عليهم ناظراً إن كان فيهم من يصلح(5) .
__________
(1) المغنى (8/237) .
(2) صحيح البخاري (2737) بهذا اللفظ ؛ وأخرجه مسلم (1632) أيضاً .
(3) المغنى (8/188) .
(4) الشرح الكبير على المقنع (16/457) ؛ والمراجع السابقة .
(5) حاشية ابن عابدين (6/637) .(11/8)
وعلى هذا جرى العمل القضائي الآن(1) .
المطلب الثاني:- تقرير القاضي لأُجْرةِ النَّاظِر .
…إذا تجاوزنا فتوى المشاور المالكى ومن وافقه ممن يجعل نظارة الأوقاف من العبادات التي يجب أن تكون تبرُّعاً وليس لمن قام بها إلا الرزق من بيت المال إن أخذه وإلا فأجره على الله(2) .
…إذا تجاوزنا هذه الفتوى المضعفة لدى علماء مذهبه(3) ، فإنه بقية الفقهاء – فيما وقفت عليه - متفقون على جواز أخذ الناظر أجرة على نظارته من ريع الوقف(4)، وفي وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (أنه لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف) (5) .
ولا يخلو إما أن يقدر الواقف أجرته أولاً .
__________
(1) في تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية – الملغي بنظام المرافعات - المادة الواحدة والثمانون : إذا وجد من المستحقين من فيه الكفاءة يقدم على غيره .
(2) مواهب الجليل (6/40) ودليلهم أن فيه تغييراً للوصايا ولأن من شروط الإجارة كون المنفعة المستوفاة معلومة ، وعمل الناظر ليس كذلك ؛ لأنه يقل ويكثر ، ولأن من شروط الإجارة كون المنفعة غير واجبة وعمل الناظر من فروض الكفاية .
…وقد أجيب عن قولهم: بأنه لو سد باب الأخذ من الأوقاف مع تعذر الأخذ من بيت المال لهلكت الأوقاف . وبهذا جري العرف منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم .
(3) قال الدسوقي عنه: (إفتاء ضعيف) حاشيته على الشرح الكبير (4/88) . وقال أبو العباس بن زاغو ( إنه كلام لا عمل عليه ولا قضاء به ودليله غير ناهض) حاشية الرهونى على الزرقاني (7/154) .
(4) مغني المحتاج (2/394) ؛ كشاف القناع (4/271) . والمصادر السابقة .
(5) صحيح البخاري (2737) ؛ صحيح مسلم (1632) .(11/9)
…فإن قدر له الواقف أجرته ، استحقها الناظر ، لو كانت أكثر من أجرة المثل ؛ لأنه لو جعل ذلك من غير أن يشترط عليه القيام بأمر الوقف جاز فأولى أن يجوز مع الشرط(1). ما دام قد طيبها له .
وإما إن كانت أقل من أجرة المثل فإنه يرجع للقاضي للنظر في زيادته .
قال ابن عابدين : ( وأما الناظر بشرط الواقف فله ما عينه له الواقف ولو أكثر من أجر المثل ، ولو وعين له أقلّ فللقاضي أن يكمل له أجر المثل بطلبه ) (2).
وكذلك إن لم يقدر الواقف أجرة للناظر فيرجع للقاضي النظر أيضاً .
فهاتان حالتان يرجع تقدير أجرة الناظر فيهما للقاضي .
…وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يستحق الناظر أخذ شيء من غلة الوقف لينفقه إلا بإذن القاضي في هاتين الحالتين(3) .
…واختلفوا في قدر ما يفرضه القاضي للناظر على ثلاثة أقوال:-
القول الأول:- أنه يفرض أجرة المثل وقال به الحنفية والمالكية وهو قياس المذهب عند الحنابلة وقول عند الشافعية(4) .
القول الثاني:- يفرض الأقل من أجرة المثل أو مقدار الكفاية وهو قول للشافعية وتخريج عند الحنابلة(5) .
القول الثالث:- يفرض قدر الكفاية وهو قول للشافعية اختاره الرافعي(6) .
ومن تأمل ما علل به أصحاب كل قول وجد مردها إلى أحد أمور :-
1- ابتناء ذلك على العرف المعهود ، والمعهود كالمشروط ، وهذا بلا شك متغير.
__________
(1) الإسعاف ص 45 ؛ مغني المحتاج (2/394) ؛ كشاف القناع (4/271) .
(2) حاشيته (6/653) .
(3) أفتى ابن الصباغ أن للمتولى على الوقف أن ياخذ قدر عمله من ريع الوقف دون إذن القاضي ووجهه الشرواني بأنه في حالة فقد الحاكم بذلك المحل أو تعذر الرفع اليه . تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني (2/290).
(4) حاشية ابن عابدين (6/653) ؛ مواهب الجليل(6/40)؛ كشاف القناع (4/271) ؛ نهاية المحتاج (4/291) .
(5) نهاية المحتاج (5/401) ؛ الفروع (4/324) .
(6) نهاية المحتاج (5/401) .(11/10)
2- مراعاة الاحتياط للوقف ببذل الاقل من ريعه للناظر.
3- قياس ناظر الوقف على وصى اليتيم الذى أذن الله له بالأكل مع فقره بقوله: { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } (النساء: من الآية6) .
فقد اختلف العلماء في هذا المعروف هل هو قدر كفايته أو أجرة عمله في أقوال أخرى(1).
أو قياسه على العامل على الصدقة الذي جَوَّز الله تعالى له الأخذ منها مع الغنى عنها بقوله: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } (التوبة: من الآية60) ، مع أنه من فروض الكفايات .
…ولا شك أن إعطاء ناظر الوقف أجرة مثله هو الأرجح ووجه ذلك : أن إعطاء الناظر دونه يفضى لتعطل الأوقاف ، إذ قد يقلّ المحتسبون مع ما لبعض الأوقاف من الكلفة في إدارتها .
وأمّا الاحتياط للوقف فلا يكون ببذل الأقل بل ما يندفع به الفساد عنه وقد جاءت الشريعة باحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما .
…يضاف إلى هذا كونه هو المعهود في العمل القضائي(2) .
وإذا أريد تحديد مقدار أجرة المثل فإن القاضي يجتهد في هذا المقدار في كل واقعة بحسبها لوجود عدة عوامل تؤثر في مقدار هذه الأجرة.
…قال ابن تيمية: (وهذا المعنى ... يعتبر في ثمن المثل وأجرة المثل وبحسب العوض فقد يرخص فيه إذا كان بنقد رائج مالا يرخص فيه إذا كان بنقد آخر دونه في الرواج... والمبيع قد يكون حاضراً وقد يكون غائباً فسعر الحاضر أكثر من سعر الغائب ، وكذلك المشترى قد يكون قادراً في الحال على الأداء لأن معه مالاً وقد لا يكون معه ، لكنه يريد أن يقترض فالثمن مع الأول أخف, وكذلك المؤجر قد يكون قادراً على تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بحيث يستوفيها المستأجر بلا كلفة وقد لا يتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة إلا بكلفة ) (3) .
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (5/42) .
(2) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم (9/93) .
(3) مجموع الفتاوى (29/520) .(11/11)
…فالقاضي ينظر إلى كلفة الناظر في إدارته للوقف ، والوقت الذي يبذله، والنفع الذي يلحق الوقف من نظره .
ولذا فلا يمكن تحديد أجرة الناظر بنسبة ثابتة دائماً كالعشر مثلاً(1).
ويتحقق القاضي من مقدار الأجرة عن طريق الاستعانة بأهل الخبرة(2).
المطلب الثالث:- نصب القاضي من يقوم بمصلحة الوقف إذا امتنع الناظر.
لا شك أن الناظر مطالب بعمل كل ما يحتاجه الوقف ومن ذلك التقرير في وظائف الوقف(3) ، وهو في ذلك صاحب ولاية أقوي من ولاية القاضي ؛ إذ الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة(4) .
ومن فروع هذه القاعدة:- أن القاضي لا يملك التصرف في الوقف مع وجود متولٍ عليه(5) .
فإذا امتنع الناظر من نصب من يقوم بمصلحة الوقف مما هو من وظائفه كالأذان والإمامة والتدريس ونحو ذلك فإن للقاضي أن ينصب من يقوم بها قال في كشاف القناع(6): ( يقرر حاكم في وظيفة خلت لما فيه من القيام بلفظ الواقف في المباشرة ودوام نفعه) . يعنى في غيبة الناظر.
__________
(1) هذه المسألة مما يشكل على بعض الباحثين فيظن أن نص بعض الفقهاء على أن للناظر العشر حق مقرر له وهذا غلط ؛ بل المراد أن له أجرة المثل كما قال ابن عابدين : "الصواب أن المراد من العشر : أجر المثل , حتى لو زاد على أجر مثله رد الزائد كما هو مقرر معلوم , وفي إجابة السائل ومعنى قول القاضي للقيّم عشر غلة الوقف : أي التي هي أجر مثله , لا ما توهمه أرباب الأغراض الفاسدة" . (6/653) .
(2) انظر في كيفية تقدير أهل الخبرة لأجرة المثل : درر الحكام [1/446] المادة 414 .
(3) تيسير الوقوف (2/445) .
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 186 ؛ وابن نجيم ص 186 والمجلّة المادة (59) .
(5) شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاص 313.
(6) 4/273) .(11/12)
وقد نقل المناوي عن بعض الفقهاء أن الناظر ليس له أن يولى أحداً في وظائف الوقف وإن ذلك للحاكم وبّين أن السبكي أبطل ذلك وبين أنه عائد للناظر ولا دخل للحاكم فيه قال: (لكن الاعتراض إن ولى الناظر غير أهل ، أو عزله مشهوراً ، فيجبر على ولاية من ظهر له تعين توليته ، فإن امتنع تعاطاها ، فإن ولى بغير هذا السبب مع وجود الناظر الخاص لم يصح) (1) . وقال في كشاف القناع(2): ( ومتى امتنع عن نصب من يجب نصبه ، نصبه الحاكم ، كما في عضل الولي في النكاح ) .
وهذا فرد من نظر الرعاية المتوجهة نحو الناظر من قبل القاضى.
المطلب الرابع :ضم القاضي أميناً للناظر
جمهور الفقهاء يشترطون في الناظر العدالة مطلقاً .
ولا إشكال أن الناظر الذي نصبه القاضي يعزل بالفسق ، وأما من عينه الواقف فقد اختار بعض الحنفية(3) وعند الحنابلة في المقدَّم في المذهب(4) أن القاضي يضم إليه ناظراً أميناً . وعللوا ذلك بأن فيه مراعاةً لحق المستحقين ، وحفظاً للمال الموقوف من الضياع من جهة ، وتنفيذاً لشرط الواقف من جهة أخرى(5).
وهذا القول وسط بين اتجاهين فقهيين الأول منهما : يعزل الناظر مطلقاً عند تخلف شرط العدالة فيه (6)، والثاني : يمنع عزل الناظر المنصوب من قبل الواقف(7) .
وأنت ترى أن الثاني يقدم شرط الواقف على حفظ عين الوقف ومراعاة مستحقيه . والأول بعكسه .
وفيما اختاره الحنابلة جمع بينهما .
__________
(1) تيسير الوقوف [2/445 ، 446] . ولابن نجيم رسالة في هذه المسألة عنوانها القول النقي في الرد على المفتري مطبوعة ضمن رسائله ص 26 – 35 .
(2) 4/269) .
(3) حاشية ابن عابدين (6/682) .
(4) الشرح الكبير (16/459) ؛ كشاف القناع (4/270).
(5) الشرح الكبير (16/459) .
(6) نهاية المحتاج (4/290) .
(7) مواهب الجليل (6/37) .(11/13)
فإذا ضم الأمين للناظر لم يمكن الناظر من التصرف إلا باتفاقهما فيتصرفان جميعاً في جميع المنظور فيه(1).
المطلب الخامس : الإذن بمخالفة شرط الواقف .
الأصل أن الناظر مطالب بتنفيذ شرط الواقف ، وهذا هو صميم عمله . إلا أن جمعاً من الفقهاء جوَّزَ للناظر أن يخالف شرط الواقف إذا قامت مصلحة تقتضي مخالفة شرطه(2).
…في المعيار المعرب أن أبا عبد الله القوري سئل عن مسألة مفادها أن إمام الجامع الأعظم كان يأخذ راتبه من الجزية فانقطعت فهل يجري المرتب من وفر الأحباس الذي يفضل عن جميع مصالحها ؟ ، فأجاب : أن المسألة ذات خلاف في القديم والحديث والذي به الفتيا إباحة ذلك وجوازه وتسويغه وحليته لآخذه(3).
…وسئل البلقيني عن ناظر تحت يده وقف مستغن عن العمارة ووقف يحتاجها ولا متحصّل له فهل له أن يستقرض من المستغنى للمحتاج ؟ . فأجاب : له ذلك ، إن تعين طريقاً لعمارة المحتاج إليها وما وقع في قول بعض المصنفين أنه ليس له ذلك فلنا فيه كلام ليس هذا محل بسطه وما ذكرناه هو المعتمد(4).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية فتاوى موافقة لهذا(5) .
ومن شروط الواقف التي تغير الشروط المخالفة لكتاب الله, قال ابن القيم : (الصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره : عرض شرط الواقفين على كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى شرطه فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح ، وما خالفه كان شرطاً باطلاً مردوداً ولو كان مائة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله) (6).
…وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية الأعمال المشروطة في الوقف إلى ثلاثة أقسام :
__________
(1) حاشية ابن عابدين (6/683) ؛ مجموع الفتاوى لابن تيمية (31/66).
(2) جمع ابن عابدين في حاشيته المسائل التي يجوز فيها مخالفة شرط الواقف (6/587) .
(3) 7/187) وفيه فتاوى أخرى موافقة .
(4) تيسير الوقوف (2/323) .
(5) مجموع الفتاوى (31/18 ، 206) .
(6) اعلام الموقعين (1/315) .(11/14)
…الأول : العمل الذي يتقرب به إلى الله فهذا يجب الوفاء به .
…الثاني : عمل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فاشتراط مثل هذا العمل باطل ، وكذلك إذا كان مستلزماً وجود ما نهى عنه الشارع .
…الثالث: عمل مباح فهذا قيل بوجوب الوفاء به والجمهور على أنه شرط باطل ، لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله ، إلا لما له فيه منفعة في الدين أو الدنيا . فما دام حياً فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة ، أما الميت فإنه لا ينتفع إلا بالعمل الصالح(1).
…فهنا إذا أراد الناظر مخالفة شرط الواقف فقد اشترط فقهاء المذهب الحنفي لجواز مخالفته لشرطه ، أن يرفع إلى القاضي ليأذن له بالمخالفة(2).
…ولا شك أن هذا تقرير رائق ؛ إذ أن ترك المجال للنظَّار يفضي إلى عدم انضباط النظار ، إذ النظر للمصالح متفاوت ، والناس في الترجيح مختلفون ولابد من رافع للخلاف وهو الحاكم .
وعليه العمل القضائي حالاً .
المطلب السادس :الاعتراض على الناظر في فعل ما لا يسوغ .
__________
(1) مجموع الفتاوى (31/43 – 46) ، والقول بلزوم وصحة الشروط المباحة هو قول الجمهور . انظر : المبسوط (12/46) ؛ مغني المحتاج (2/386) ؛ المهذب (1/443) ؛ حاشية الدسوقي (4/90) ؛ كشاف القناع (4/261) ، وقد أفتى شيخ الإسلام رحمه الله بإجازة الوقف على الصوفية – المتصفين بجملة صفات , ولم يكن عندهم إحداث لا أصل له في السنة - . مجموع الفتاوى (31/54) ، وللشاطبي تقرير في أن ما اعتبر قربة فإنه لا يلتفت في الشروط فيه إلا إلى ما كان ملائماً له . الموافقات (1/284) .
(2) الإسعاف ص 53 ، ولم أجد هذا الشرط لغيره ، وإن كان هذا قد يخرج على مسألة استبدال الوقف فإن الفقهاء اشترطوا إذن القاضي . حاشية ابن عابدين (6/586) ؛ التاج والإكليل (6/42) ؛ الفروع (4/626) .(11/15)
…من صور الإشراف الذي أسنده الفقهاء للقاضي على الناظر أن له أن يعترض عليه إذا فعل ما لا يسوغ له فعله ، من مخالفة لشرط الواقف ، أو إضرار بالوقف ، أو غير ذلك .
قال المناوي : ( له – يعني القاضي – الاعتراض على نظارها في اختيار ما لا يليق) (1)، وقال البهوتي : (للحاكم النظر العام ، فيعترض عليه أي على الناظر الخاص إن فعل الخاص ما لا يسوغ له فعله ، لعموم ولايته) (2).
وقال ابن تيمية : (ليس للحاكم أن يولي ولا يتصرَّف في الوقف بدون أمر الناظر الشرعي الخاص , إلا أن يكون الناظر الشرعي قد تعدى فيما يفعله , فللحاكم أن يعترض عليه إذا خرج عما يجب عليه) (3).
ومعنى اعتراض القاضي أن يمنعه من التصرف ، ويلغي أثر تصرفه , أو يضمن الناظر ما فوَّته ، ولابن تيمية رأي في تصرف الناظر بخلاف ما يسوغ يقول فيه : (لو قُدِّرَ أن ناظر الوقف ، ووصى القيم والمضارب والشريك ، خانوا ثم تصرَّفوا مع ذلك ، فلابد من تصحيح تصرفهم في حق المشتري منهم، وحق رب المال ، وإلا فلو أبطل ذلك فسد عامة أموال الناس التي يتصرف فيها بحكم الولاية أو الوكالة ، لغلبة الخيانة على الأولياء والوكلاء ، لاسيما ويدخل في ذلك من تصرفات ولاة الأمور ما لا يمكن إبطاله – والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها – فلا يجوز لأحد رعاية حق مجهول في عين حصل عنها بدل خير له منها : أن يحرم عليه وعلى المشترين أموالهم فإن هذا بمنزلة من يهدم مصراً ويبني قصراً) (4).
وفيما ذكره إعمال لمبدأ المصلحة فيما يصححه القاضي من التصرف الواقع من الناظر بين إبطال التصرف وإلغاء أثره ، أو تضمين الناظر ، متحرياً في ذلك ما يكون الصلاح فيه حاصلاً بليغاً ، والمفسدة به معطلة أو قليلة .
المطلب السابع :محاسبة ناظر الوقف .
__________
(1) تيسير الوقوف (2/445) .
(2) كشاف القناع (4/273) .
(3) مجموع الفتاوى (31/65) .
(4) مجموع الفتاوى (29/250 ، 251) .(11/16)
اتفق الفقهاء على أن للقاضي أن يحاسب الناظر إذا رأى ذلك ، سواء كان ذلك لوجود طعن في أمانة الناظر أو كفايته .
واتفقوا على أنَّ يده على مال الوقف يد أمانة ، فلا يتحمل تبعة هلاك ما تحت يده مالم يتعد أو يفرط في المحافظة عليه(1).
ولا يلزم الناظر أن يقدم بياناً تفصيلياًً للقاضي ، بل يكتفي بالإجمال – إلا عند الدعوى المستلزمة للمحاسبة أو إذا كان متهماً.
قال في الدر المختار : (لا تلزم المحاسبة في كل عام ويكتفي القاضي منه بالإجمال لو معروفاً بالأمانة ، ولو متهماً يجبره القاضي على التعيين شيئاً فشيئاً، ولا يحبسه بل يهدده ، ولو اتهمه يحلفه . قلت : وقدمنا في الشركة أن الشريك والمضارب والوصي والمتولى لا يُلزم بالتفصيل : وأن غرض قضاتنا ليس إلا الوصول لسحت المحصول) (2).
قال المناوي : ( يصدق الناظر بيمينه في إنفاق محتمل فيما يرجع للعمارة وأجرة الصناع ونحوهما ، وفي الصرف لجهة عامة كالفقراء بلا يمين فإن اتهمه القاضي حلَّفه ) إلى أن قال : (وهل للإمام محاسبته إذا كان لجهة عامة وجهان . قال الأذرعي : أقربهما نعم ، وعليه عمل الحكام ، ويحتمل تقييده بظهور ريبة أو تهمة ) (3).
فإن ادعى عليه ودفع بصرف ريع الوقف في جهات معينة فقد اختلف أهل العلم هل تلزمه بينة أو لا على أقوال :
القول الأول : أن الأمين يقبل قوله بيمينه ، وغير الأمين لا يقبل قوله إلا ببينة ، وهو قول الحنفية(4).
القول الثاني : أن الوقف إذا كان على معينين فلا يقبل إلا ببينة ، وإذا كان على جهة عامة فيصدق بيمينه ، وهو قول الشافعية(5).
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 73 ؛ مغني المحتاج (2/396) ؛ الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص 141 ؛ معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص 361 .
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (6/682) .
(3) تيسير الوقوف (1/147) .
(4) حاشية ابن عابدين (6/670) .
(5) مغني المحتاج (2/394) .(11/17)
القول الثالث : أنه إذا اشترط عليه الإشهاد فلا يقبل قوله إلا ببينة ، وإن لم يشترط عليه الإشهاد عند الصرف فيقبل قوله بيمينه ، وهو قول المالكية(1).
القول الرابع : أن الناظر المتبرع يقبل قوله بيمينه ، وغير المتبرع لا يقبل قوله إلا ببينة، وهو قول الحنابلة(2).
وجميع الأقوال السابقة اجتهادية محضة مبناها النظر المصلحي والتخريج على الوصي والوكيل ونحوه من المتصرفين على الغير .
ولذا أفتى بعض المتأخرين بعدم قبول قول الناظر إذا كان مستنداً لدفاتره فقط ما لم يكن له بينة عليه ، قال في كشاف القناع : (لا يعمل بالدفتر الممضى منه المعروف في زمننا بالمحاسبات في منع مستحق ونحوه إذا كان بمجرد إملاء الناظر والكاتب على ما اعتبر في هذه الأزمنة . وقد أفتى به غير واحد في عصرنا) (3).
ووصفت كيفية إجراء المحاسبة في حاشية الرهوني(4): (بأن يجلس الناظر والقابض والشهود وتنسخ الحوالة كلها من أول رجوع الناظر إلى آخر المحاسبة ، وتقابل وتحقق ، ويرفع كل مشاهرة ، أو مسانهة أو كراء أو صيف أو خريف وجميع مستفادات الحبس حتى يصير ذلك كله نقطة واحدة ، ثم يقسم على المواضع لكل حقه ، ويعتبر كل المرتبات وما قبض ومن تخلص ومن لا وينظر في المصير ولا يقبل في ذلك إلا جميع شهود الأحباس وكذلك جميع الإجارات ويطلب كل واحد بخطته) .
__________
(1) مواهب الجليل (6/40) .
(2) كشاف القناع (4/277) .
(3) الكشاف (4/277) .
(4) 7/154) .(11/18)
ولا شك أنه يحدث للناس من القضاء بقدر ما يحدثون من الفساد، مع أن التنظير التام بين الوصي على اليتيم وناظر الوقف غير ممكن ، إذ ناظر الوقف يتصرف بما يؤثر على طبقات وبطون والأصل أن تبقى بعده ، أما الوصي فتصرفه محدود بمال وصيه المؤقت ببلوغه رشيداً . ولذا قال بعض الفقهاء : يضيق في الناظر ما لا يضيق في الولي(1). مع أن الوصي على اليتيم ليس محل اتفاق أن القول قوله بلا بينة كما سيأتي .
ولذا فإني أرى أن الناظر لا يقبل قوله في الصرف على شئون الوقف أو المستحقين إلا ببينة أو سند إلا اليسير الذي تجري العادة بالمسامحة فيه ، أو ما يصعب أخذ السند فيه .
وهذا أخذ بقول الحنفية في الناظر غير الأمين والحنابلة في الناظر بأجرة .
ومن أسباب اختيار هذا :
أن مطالبة منكر الصرف على المستحقين بالبينة تحميل للنافي عبء الإثبات وهذا خلاف الأصل القضائي .
ولأن اليمين إنما تشرع في الأصل للإبقاء على ما كان ، لا لإثبات خلاف الظاهر – كصرف لمستحق ولذا كان من قواعد المجلة : البينة لإثبات خلاف الظاهر واليمين لإبقاء الأصل(2).
والله تعالى أمر بالإشهاد عند دفع المال للأيتام فقال : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } (النساء: من الآية6) . فمن ترك الإشهاد فقد فرط ولا شك أن المفرط يلزمه الضمان(3) وهذا في الولي والناظر أولى . وقد قوى في الإنصاف أن لا يقبل قول الولي في دفع المال إليه بعد رشده إلا ببينة(4).
زد على ذلك ما في هذا الأمر من تحقيق مصلحة للوقف من ضبط لمصروفات الناظر إذ يستشعر الرقابة عليه .
__________
(1) هو الشهاب بن حجر كما في تيسير الوقوف (6/682) .
(2) المادة (77) .
(3) الشرح الكبير على المقنع (13/407) .
(4) 13/407) .(11/19)
وإذا أورد أحد على هذا بأن مطالبة الناظر بالإشهاد عند كل مبلغ ينفقه تعنيت له وهو سبب للنفور عن تولي الأوقاف . فإن الجواب أن المراد بالبينة التي على الناظر إبداؤها ما يبين الحق ويظهره(1) ، سواء كان سنداً أو فواتير صرف أو غيرها مما يسهل التعامل به في العادة ويكون وثيقة يمكن المحاسبة على ضوئها ، والله أعلم .
المطلب الثامن : الإذن للناظر بالتصرف في الوقف .
تتضمن وظيفة الناظر عدداً من التصرفات في الوقف وريعه ، ومعلوم أن توليه للوقف إذنٌ له بكل تصرف يحتاجه لمصلحة الوقف .
فإذا أراد تصرفاً ينقل الملك في عين الوقف كالنقل والاستبدال ، أو يعلق به حقاً نحو الاستدانة والرهن مما يحتاج لنظر تام واجتهاد بليغ ، فهل يسوغ له إجراء ما يراه أم هو مطالب بالاستئذان من القاضي ، فلا ينفذ تصرفه إلا بعد إذن القاضي له ؟.
…هذا من موارد الخلاف الفقهي عند من جوز تلك التصرفات أصلاً ، فبحثنا هنا تفريع على القول بالجواز ، وأما من منع تلك المسائل فإنه لا ينيط بإذن القاضي جوازها كما هو ظاهر .
…وقد اختلف الفقهاء فيمن له ولاية استبدال الأوقاف على قولين :
…القول الأول : أن ولاية استبدال الوقف للقاضي . وبه قال الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة(2).
…القول الثاني : أن ولاية استبدال الوقف للناظر الخاص عليه . وهو قول بعض الحنابلة(3).
كما اختلفوا في اشتراط الاستئذان من القاضي للاستدانة من الوقف على قولين :
القول الأول : أن الناظر لا يملك الاستدانة على الوقف إلا بإذن القاضي وهو قول لبعض الحنفية والشافعية(4).
__________
(1) الطرق الحكيمة لابن القيم ص 32.
(2) الإسعاف ص 36 ؛ التاج والإكليل (6/42) ؛ الفروع (4/626) .
(3) الفروع وتصحيحه (4/626) .
(4) فتح القدير لابن كمال الهمام (6/240) ؛ مغني المحتاج (2/396) .(11/20)
القول الثاني : إن الناظر يملك الاستدانة على الوقف بدون إذن القاضي، وقال به المالكية وبعض الشافعية . وهو قول الحنابلة(1).
…ويرجع استدلال من اشترط إذن القاضي في الاستبدال والاستدانة إلى أنها تصرف على غائب فالدين يتعلق بسائر البطون ، والبيع كذلك على غائبين من البطون المستحقة بعد انقراض الموجودين . والناظر ليس له النظر إلا مدة حياته وولايته فقط . ولذا أنيط الإذن بمن له النظر العام على جميع البطون وهو القاضي(2).
…ثم إن هذا التصرف مختلف فيه فيكون محل نظر واجتهاد وهما من وظيفة القاضي دون الناظر(3). …كما أن في إناطته بإذن القاضي مزيد ضبط ورعاية للوقف .
…ولا يخفى وجاهة هذا القول ودليله وما فيه من عناية بالأقاف ورعاية لها . وعلى هذا جرى العمل القضائي الآن(4).
…
وأما رهن عين الوقف فإن الأصل المتفق عليه بين الفقهاء ، أن ما جاز بيعه جاز رهنه(5). ولذا فإن جمهور الفقهاء يرون عدم جواز رهن عين الوقف، إذ لا يجوز بيعه ولا الرجوع عنه(6) خلافاً لرواية عن أبي حنيفة يجوز فيها الرجوع في الوقف وبيعه(7).
والظاهر عدم جواز الرهن للوقف إذ بيعه غير ممكن لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : (تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث)(8).
__________
(1) حاشية الدسوقي (4/89) ؛ تيسير الوقوف (1/137) ؛ الفروع (4/600) .
(2) المبدع (5/271) .
(3) المرجع السابق .
(4) انظر : قرار مجلس القضاء الأعلى رقم 8 في 3/1/1396هـ المتضمن ضرورة إذن القاضي الذي يقع الوقف في بلده عند الاقتراض لعمارته وبموجبه صدر قرار مجلس الوزراء رقم 1834 في 8/11/1396هـ .
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم 288 ؛ المهذب (1/315) ؛ المغني (6/455).
(6) الإسعاف 61 ؛ جواهر الإكليل (2/78) ؛ مغني المحتاج (2/122) ؛ شرح منتهى الإرادات (2/230) .
(7) الأشباه والنظائر لابن نجيم 288 .
(8) سبق تخريجه وهو متفق عليه .(11/21)
والمقصود من الرهن هو استيفاء الثمن من المرهون عند تعذر الوفاء ممن الدين عليه ، وهذا يتعذر الاستيفاء منه لعدم إمكان بيعه . كما أن رهن الموقوف يفضي إلى تعطيله بحبسه عند المرتهن وهذا خلاف المقصود من الوقف(1).
ولما كانت الأوقاف قد يتقادم بنيانها وتحتاج لتعمير ، ولا يكون لدى ناظر الوقف من فاضل الريع ما يمكنه من تعمير الوقف ، فيحتاج للاستدانة على الوقف ، ويحتاج لما يضمن به المقرض حقه ، أو يستقرض من صندوق التنمية العقاري الذي لا يقرض إلا برهن ، فقد قرر مجلس القضاء الأعلى بقراره رقم 9 في 15/7/1396 هـ جواز رهن ما أقيم على أرض الوقف من أنقاض بعد إكمال العمارة دون الأرض نفسها . ونص القرار:
__________
(1) المغني (6/455) .(11/22)
(الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد ، فقد اطلع مجلس القضاء الأعلى المنعقد بهيئته الدائمة على خطاب معالي وزير العدل رقم 401 وتاريخ 5/4/96 هـ ومشفوعة خطاب مدير صندوق التنمية العقاري رقم 448 في 15/2/96 هـ بشأن إقراض المواطنين على أراضي الوقف والحكر وأن الأمر يستلزم رهن المنشآت المذكورة التي ستقام على هذه الأراضي وطلب إبلاغ رؤساء المحاكم وكتاب العدل بإكمال إجراءات رهن المنشآت المذكورة ، وبدراسة ما ذكر وتأمل ما قرره أهل العلم في هذا ولأن الرهن شرع للتوثقة فهو توثقة دين بعين ما يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه ما عدا ما استثني ، ونظراً لأن الموقوف لا يصح رهنه كما قرر ذلك العلماء – رحمهم الله – كما لا يجوز بيعه إلا في حالات خاصة، ولأن للناظر أن يستدين أو يقترض للموقوف من أجل إصلاحه ، ولكون الاقتراض من بنك التنمية العقاري إنما هو لمصلحة الموقوف وتنمية موارده ولكون رهن الوقف غير جائز كما تقدم فإن مجلس القضاء الأعلى المنعقد بهيئته الدائمة رغبةً منه في حفظ عين الوقف من ناحيه ورغبته في العمل على إصلاح الأوقاف وتنمية مواردها من ناحية أخرى يقرر ما يلي :
1/ جواز الاقتراض من بنك التنمية العقاري لعمارة الوقف بعد إذن القاضي وإصدار صك بذلك يتضمن الإذن بالاقتراض للوقوف بقدر ما تحتاجه عمارته والإذن برهن الأنقاض المنشأة على أرض الوقف بعد تحقيق إنفاق كامل المبلغ المقترض في عمارته الوقف .
2/ جواز رهن ما أقيم على أرض الوقف من أنقاض بعد إكمال العمارة وبعد تعميد المحكمة رجالاً من أهل الخبرة يقفون على عين الوقف لبيان ما إذا كان البناء موافقاً لما تضمنته المواصفات التي صدر الإذن من القاضي بموجبها وإن نفقة البناء بقدر المبلغ المقترض من البنك .(11/23)
3/ بعد ذلك يصدر إذن خطي من القاضي موجه لكاتب العدل لتسجيل إقرار الناظر برهن الأنقاض للبنك على وفق ما يتضمنه صك الإذن .
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم) .
المطلب التاسع : عزل الناظر .
…من عموم ولاية القاضي أن له عزل الناظر سواء كان منصوباً من قبل الواقف أو الموقوف عليهم أو من قبله وذلك في حال خيانة الناظر .
…وإذا لم يكن الناظر خائناً ولا فاسقاً فلا يخلو إما أن يكون منصوباً من الواقف أو الموقوف عليهم ، أو يكون منصوباً من القاضي .
…فأما منصوب الواقف ومستحقي الوقف فليس للقاضي عزله إلا بثبوت موجبه . وسبق بحث مسألة ضم الأمين إليه .
في حاشية ابن عابدين : (لا يجوز للقاضي عزل الناظر المشروط له النظر بلا خيانة ولو عزله لا يصير الثاني متولياً ) (1).
…فأما منصوب القاضي فقد اختلف أهل العلم هل للقاضي عزله بدون خيانة على قولين :
…القول الأول : أن للقاضي عزل من ولاه ولو بدون خيانة ، لأن منصوبه وكيل عنه وللموكل عزل وكيله متى شاء .
…القول الثاني : أن القاضي لا يعزل من ولاه إلا بظهور ما يوجب العزل .
…في حاشية ابن عابدين : (يصح عزل الناظر بلا خيانة لو منصوب القاضي . أي لا الواقف ...وهو منقول عن القنية ومن جامع الفصولين : إذا كان للوقف متول من جهة الواقف أو من جهة غيره من القضاة لا يملك القاضي نصب متول آخر بلا سبب موجب لذلك وهو ظهور خيانة الأول أو أي شيء آخر ، قال : هذا مقدم على ما في القنية .. وذكر في البحر كلاماً عن الخانية ثم قال عقبة : وفيه دليل على أن للقاضي عزل منصوب قاض آخر بغير خيانة إذا رأى المصلحة ) (2).
وفي كشاف القناع : ( ولناظر بالأصالة والحاكم نصب ناظر وعزله قال ابن نصر الله : أي نصب وكيل عنه وعزله ، لأصالة ولايته ، أشبه المتصرّف في مال نفسه ) (3).
__________
(1) 6/580) .
(2) 6/580)
(3) 4/272)(11/24)
وقال المناوي : ( لو ولى حاكم إنساناً بشرطه ، لم يجز لحاكم آخر نقضه بلا سبب، إقامة للتفويض مقام حكم الحاكم قبله ) (1).
والظاهر أن القاضي لا يعزل من ولاه إلا بظهور ما يوجب العزل ، وكذلك لا يعزل القاضي منصوب آخر إلا لموجب .
وذلك لأن تصرف القاضي إنما هو منوط بالمصلحة كما تقدم ، وهو نائب للشرع والشرع إنما يتحرى المصلحة ، وعزله بلا موجب تصرف بغير المصلحة وهو مؤدٍ إلى ضياع الأوقاف باختلاف أيدي النظار عليها .
كما أن لتولية القاضي للناظر شبهاً بالحكم ، ولا يسوغ إجراء بخلافه بغير موجب .
ولا يسوغ قياس منصوب القاضي على الوكيل ؛ لأنه لو كان وكيلاً لانعزل بموت موليه وعزله .
وأما موجبات العزل فهي : ثبوت الخيانة ولو في غير الوقف ، إذ الخيانة وصفٌ لا يتجزأ ، ومن ثبتت خيانته ، انتفت أمانته .
والعجز عن التصرف : بالمرض والجنون .
وبالتصرف المخالف لمصلحة الوقف ببيع الوقف أو تأجيره بدون أجرة المثل ، وكالامتناع عن تعمير الوقف والمطالبة بحقوقه .
وبالفسق عند بعض الفقهاء (2).
مسألة : إذا عزل الناظر المشترط نفسه فجمهور الفقهاء على أن انعزاله صحيح .
قال ابن تيمية : ( من شرط النظر لرجل ثم لغيره إن مات ، فعزل نفسه أو فسق فكموته ) (3). وقرر مثله ابن عابدين(4) .
وأفتى السبكي بأنه لا ينعزل بل يعد معرضاً ويولي القاضي غيره مدة إعراضه ، وخالفه بعض الشافعية(5) . وأما الناظر المنصوب من القاضي فلا إشكال في انعزاله بعزله نفسه.
وعلى كل سواء قيل بانعزاله أو اعتباره معرضاً فهل ينعزل أو يبرأ قبل إعلام القاضي ؟ .
__________
(1) تيسير الوقوف (1/144)
(2) انظر في موجبات العزل : حاشية ابن عابدين(6/580)؛ الاختيارات للبعلي 174؛ كشاف القناع (4/272).
(3) الاختيارات (173).
(4) حاشيته (6/581).
(5) تيسير الوقوف (1/145).(11/25)
لم أجد في هذه المسألة نقلاً سوى ما ذكره ابن عابدين في حاشيته أنه لا ينعزل بعزل نفسه حتى يبلغ القاضي سواء عزل نفسه أو تنازل لغيره(1).
وذلك أن عدم إعلام القاضي إضرار بالوقف إذ يبقى الوقف معطلاً عن النظارة وهذا ظاهر الوجاهة . والله أعلم .
المبحث الثاني :نظرة في واقع الإشراف القضائي على النّظار وكيفيّة تطويره.
من خلال ممارسة العمل القضائي والإطلاع على المجريات فيه فإنه يظهر بكل وضوح أن الإشراف القضائي على النظار محصور واقعاً بحالة التقدم للمحكمة في الدعاوى والإنهاءات ، ولا يقوم قاضٍ بمحاسبة أو إجراء آخر تجاه ناظر إلا بطلب يقدم إليه ، أو لكشف دعوى أو معاملة تتطلب ذلك .
بل ربما يتقدم من يطلب إقامته ناظراً للوقف بدلاً عن ناظر متوفي ، فتقيمه المحكمة ناظراً و تعطيه إعلاماً بذلك ، دون أن يسأل عن مصروفات الوقف السابقة وتسجيلاتها وما استلم وما لم يستلم .
كما أن قيمة الأوقاف المبيعة إما لنقلها واستبدالها ، أو لنزع ملكيتها للمصلحة العامّة ، تحفظ لدى بيت المال بالمحاكم ، وقد تبقى مجمدة لديها مدداً طويلة دون أن يشتري بها بدل أو يعمر بها ، سواء كان ذلك إهمالاً من الناظر أو لضعف المبلغ ، ولا يكون ذلك مدعاة لمساءلة الناظر .
ويمكن أن نحصر سبب ذلك في أمور أربعة :
__________
(1) 6/581)(11/26)
أولها : أن عمل المحاكم مبني على سبق قضائي متبع وهو لا يجعل للقاضي محاسبة الناظر إلا عند الدعوى (1).
الثاني : تعدد القضاة في البلد الواحد ، وكل قاضي لا ينظر من المعاملات إلا ما أحيل إليه ، باعتبار القضاء ولاية ذات اختصاص ، ولذا فلا يمكن للقاضي أن يتولى متابعة الأوقاف ما لم تحل إليه .
الثالث : أن الأوقاف الأهلية والخيرية لا يمكن حصرها لكثرتها ، وكل حين يتقدم إلى المحاكم من يوقف وقفاً بشرط معين ، ومتابعة كل هذه الأوقاف ونظارها غير ممكنة خاصة في المناطق التي يكثر فيها الوقف .
الرابع : أن القضاء ليس له السلطان التام حيال إقامة الناظر على الأوقاف الخيرية واستبدال الأوقاف . أو إجراء أي مبايعة عليها . بل لابد من إشعار إدارة الأوقاف وأخذ رأيها . كما تضمن ذلك نظام مجلس الأوقاف الأعلى وتعاميم وزارة العدل (2).
وصارت بذلك مهام القاضي الإشرافية موزعة بينه وبين مجلس الأوقاف الذي أيضاً أنيط به حصر الأوقاف وتسجيلها ووضع قواعد تحصيل واردات الأوقاف (3).
__________
(1) الظاهر من كلام الفقهاء أن للقاضي محاسبة الناظر ولو دون دعوى , ولا أعلم نصاً يشترط الدعوى لمحاسبة الناظر , كما أنه لا شيء يمنع من المحاسبة والعزل دون دعوى في النظام وقد نصت المادة 32/10 من نظام المرافعات ولائحته التنفيذيّة على أن (للقاضي عزل النظار حال عجزهم أو فقد الأهلية المعتبرة شرعاً) . ونص قرار مجلس القضاء الأعلى رقم 85/5 في 5/5/1405هـ على أن للقاضي الولاية العامة على الأوقاف , فإذا وجد من الناظر على الأوقاف التواءً أو اتهاماً في بعض التصرّفات , فإن للقاضي عزله ومحاسبته . وهذا يُفهم منه عدم اشتراط إقامة الدعوى لأجل المحاسبة والعزل , ويبقى تنزيل هذا واقعاً وجعله عملاً متبعاً والله المستعان .
(2) التعميم رقم 142/3 في 25/10/1390هـ .
(3) المادة الثالثة من نظام مجلس الأوقاف الأعلى .(11/27)
وإذا أريد تقديم اقتراح أو توصية لتطوير الوضع المذكور فإني أبين ما يلي :
الوقف عبادة معقولة المعنى ، مصلحية الغرض(1) ، ولذا فإن المصلحة معتبرة في التعامل مع أحكامه غير المنصوصة ، وهذا ظاهر بجلاء في كثير من الأحكام التي تناولناها فيما سبق فإن الفقهاء عللوا كل مأخذ بتعليل مصلحي في الغالب .
ولذا فإن ذلك يفتح الباب للمصلحة لتكون مراعاتها هي المناط المهم في كيفيّة الإشراف على النظار وأطر المحافظة والمحاسبة (2).
…ولذا فإن اقتراح ترتيب جديد للإشراف على النظار لن يكون إحداثاً ممنوعاً ما دام محققاً للمصلحة .
وأول خطوة هي إعداد قاعدة معلومات عامة من واقع سجلات المحاكم ومدوناتها ، ومن خلال الرصد الواقعي(3) لجميع الأوقاف الخيرية والأهلية . ويكون هذا بإشراف لجنة أو أمانة مختصة بالرقابة على الأوقاف ونظارها . تتبع إدارة الأوقاف أو الجهات القضائية.
…وبعد ذلك يتم إلزام كل ناظر بتقديم حساب سنوي وإمساك مستندات الصرف ومراجعتها ، وهذا لابد فيه من تعاون بين جهات المتابعة وجهات التنفيذ والإلزام .
__________
(1) صنفه ضمن المصلحيات العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (1/26) ؛ وانظر بحثاً بعنوان أثر المصلحة في الوقف للشيخ عبد الله بن المحفوظ بن بيّة منشور بمجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد السابع والأربعون .
(2) ولا يعني هذا تغييب آراء الفقهاء واجتهادا تهم والدور الذي قاموا به عبر عصور متتالية ، وإنما المقصود اعتبار المصلحة مناطاً توزن به الاجتهادات المحضة دون تغييب للاستدلالات الفقهية .
(3) ويذكر في هذا المجال كأنموذج : الجهد المبذول لباحثين مكلفين من قبل جامعة الملك عبد العزيز بجدة لرصد الأوقاف ميدانياً واللقاء بالنظار ، بهدف جمع مادة تعرف بدور الوقف الاجتماعي .(11/28)
…ويتم بالتنسيق مع المحاكم إلا يقام ناظر مطلقاً , أو يقام مؤقتاً فلا تجدد نظارته إلا بعد إبراز ما يدل على أدائه للمحاسبة وعدم وجود العجز لديه .
…ومن امتنع عن المحاسبة أو ثبت لديه العجز فإن هذه تهمة تستدعي إحالته للقضاء للنظر في عزله أو ضم أمين إليه .وإذا تم إلزام النظار بإيداع ريع الأوقاف لدى حساب بنكي باسم الوقف الذي يتولى نظارته سهلت محاسبته بعد ذلك .
وما ذكرته سواء فيه الأوقاف الأهلية والخيرية .
وهو تطبيق لما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من إنشاء ديوان لحساب الأوقاف ، وتبقى للمحاكم مهام فصل الخصومات وقطع النزاعات ، ويكون الإشراف لهذا الديوان، إذ تقرر سابقاً أن ولاية القاضي الإشرافية مستفادة من تولية الإمام الأعظم له ، ولذا فإن له جعلها لديوان أو أمانة أو لجنة مستقلة .
وهذا اقتراح جملي يمكن تفصيله ، كما يمكن الاجتزاء منه ببعضه والله الموفق.
خاتمة
من خلال العرض السابق الموجز لمسألة الإشراف القضائي على النظّار . فإن من أهم النتائج التي سبق ذكرها :-
ناظر الوقف : هو متولى الوقف الذي يقوم بإدارته وترتيب شئونه . وهو مطالب في كل تصرفاته بتحري المصلحة . ولذا تسوغ الرقابة عليه .
ذكر الفقهاء جهات لها مساءلة الناظر وهي الواقف , والموقوف عليهم , والسلطان بما له من ولاية عامة وهو يقوم بذلك أو يسنده للقاضي أو لديوان خاص .
للقاضي ولاية إشرافية على النظار تتضمن ما يلي :-
إقامة الناظر فيما لم يشترط له الواقف ناظراً أو شرطه فمات أو عزل .
تقدير أجرة الناظر التي لم يقدرها الواقف , أو قدرها له وكانت دون أجرة المثل , فيفرض له تمامها . ولتحديد أجرة المثل بالنظر لكافة الجوانب المؤثرة وذلك بالاستعانة بأهل الخبرة .
ج- ينصب القاضي من يقوم بمصلحة الواقف إذا امتنع الناظر .
د- إذا فسق الناظر المشترط من قبل الواقف فإنه يضم له أمين , فلا يتصرف إلا بموافقته .(11/29)
هـ- لا يخالف الناظر شرط الواقف إلا بعد استئذان القاضي .
و- للقاضي الاعتراض على الناظر في فعل ما لا يسوغ , وله إلغاء تصرفه أو تضمينه .
ز- يحاسب القاضي الناظر حساباً إجمالياً , وله الحساب التفصيلي عند وجود الدعوى . وإذا ادعى صرفه فيما شرطه الواقف فلا يقبل إلا ببينة .
ح- لا يستبدل الناظر الوقف ولا يستدين عليه إلا بإذن القاضي .
ط- للقاضي عزل الناظر إذا خان أو لم يكن قادراً أو تصرّف بخلاف مصلحة الوقف . وبدون ذلك لا يعزله سواء كان مشترطاً من الواقف أو نصبه القاضي .
4- الوقف عبادة مصلحية , ولذا فإن كثيراً من أحكامه تبنى على الاجتهاد المصلحي وواقع الإشراف القضائي على النظار مرتبط بحصول دعاوى أو إنهاءات لدى المحاكم لظروف شرحت في البحث .
5- إنشاء لجنة خاصة تشرف على النظار وتنسق مع المحاكم لتوكل إليها فض النزاعات توصية تقدم لتحصيل المصلحة المرادة على تفصيل سبق في البحث .
وختاماً فإني أسأل الله تعالى أن ينفع بما كتب , ويجعله صواباً , والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه .
المراجع
أثر المصلحة في الوقف : عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه . منشور بمجلة البحوث الفقهية المعاصرة . العدد السابع والأربعون .
الأحكام السلطانية : أبي الحسن علي بن محمد الماوردي . تعليق خالد العلمي . نشر دار الكتاب العربي .
الاختيارات الفقهيَّة لابن تيميّة : علاء الدين بن محمد البعلي . دار الفكر .
الإرشاد إلى معرفة الأحكام : عبد الرحمن بن سعدى . مكتبة المعارف 1400هـ .
الإسعاف في أحكام الأوقاف : برهان الدين إبراهيم الطرابلسي . المطبعة الكبرى 1292هـ .
الأشباه والنظائر : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي . تحقيق المعتصم بالله البغدادي . دار الكتاب العربي 1407هـ .
الأشباه والنظائر : زين الدين بن إبراهيم بن نجيم . تحقيق محمد مطيع الحافظ . دار الفكر 1403هـ .(11/30)
إعلام الموقعين عن رب العالمين : محمد بن قيم الجوزية . تحقيق طه عبد الرؤوف سعد . دار الجيل 1973م .
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف : علي بن سليمان المرداوي . تحقيق عبد الله التركي . دار هجر 1415هـ .
التاج والإكليل لمختصر خليل : محمد بن يوسف المواق . مطبوع بهامش مواهب الجليل .
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام : برهان الدين إبراهيم بن فرحون . تحقيق جمال مرعشلي . دار الكتب العلمية . 1416هـ .
تحفة المحتاج بشرح المنهاج : أحمد بن حجر الهيتمي . مطبعة مصطفى محمد .
تهذيب الأسماء واللغات : محيي الدين النووي . دار الفكر 1416هـ .
تيسير الوقوف على غوامض أحكام الوقوف : محمد عبد الرؤوف المناوى . مكتبة نزار الباز .
الجامع لأحكام القرآن : محمد بن أحمد القرطبي . دار الفكر .
جواهر الإكليل على مختصر خليل : محمد بن عبد السميع الآبي . دار الفكر .
حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار) : محمد أمين بن عمر ابن عابدين . دار عالم الكتب .
حاشية الرهوني على شرح الزرقاني : محمد بن أحمد الرهوني . المطبعة الأميرية 1306هـ .
الدر النقي في حل ألفاظ الخرقي : يوسف بن عبد الهادي . مكتبة المجتمع .
درر الحكام شرح مجلة الأحكام : علي حيدر . دار عالم الكتب .
رسائل ابن نجيم : زين الدين ابن نجيم . مكتبة الهلال . تحقيق خليل الميس , 1400هـ .
روضة الطالبين : أبو زكريا يحيى بن شرف النووي . تحقيق عادل عبد الموجود , وعلي محمد معوّض . دار عالم الكتب .
سنن أبي داود : سليمان بن الأشعث . دار السلام .
السنن الكبرى : أحمد بن الحسين البيهقي . مطبعة دائرة المعارف العثمانية . حيدر أباد .
شرح القواعد الفقهية : أحمد الزرقا . تحقيق ابنه مصطفى . دار القلم .
الشرح الكبير على المقنع : عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن قدامة . مطبوع مع الإنصاف .(11/31)
الشرح الكبير لأحمد الدردير ومعه حاشيته لمحمد بن عرفة الدسوقي : مطبعة محمد علي صبيح . 1353هـ .
شرح منتهى الإرادات : منصور بن يونس البهوتي . عالم الكتب .
صحيح البخاري : محمد بن إسماعيل . دار السلام .
صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج . دار السلام .
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية : محمد بن قيم الجوزية . دار إحياء العلوم .
غياث الأمم في التياث الظلم : أبو المعالي عبد الملك الجويني . تحقيق خليل المنصور . دار الكتب العلمية . 1417هـ .
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : جمع محمد بن قاسم . مطبعة الحكومة . 1399هـ .
فتح القدير شرح الهداية لابن كمال الهمام : دار إحياء التراث العربي .
الفروع : محمد بن مفلح المقدسي . مراجعة عبد الستار أحمد فراج . عالم الكتب 1404هـ .
الفروق : شهاب الدين القرافي . تحقيق عبد الحميد هنداوي . المكتبة العصرية 1423هـ .
قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام : تحقيق نزيه حماد , وعثمان ضميريه . دار القلم 1421هـ .
القاموس المحيط : محمد بن يعقوب الفيروز آبادي . مؤسسة الرسالة .
كشاف القناع عن متن الإقناع : منصور بن يونس البهوتي . دار عالم الكتب .
المبدع شرح المقنع : برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح . دار عالم الكتب .
المبسوط : أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي . مطبعة السعادة .
مجلة الأحكام العدلية .
مجموع فتاوى ابن تيمية : جمع عبد الرحمن بن قاسم . دار عالم الكتب .
معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء : نزيه حماد . المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1415هـ .
المعجم الوسيط : إبراهيم مصطفى ورفقاه . المكتبة الإسلامية . تركيا .
معجم مقاييس اللغة : أحمد بن فارس بن زكريا . تحقيق عبد السلام هارون . دار الجيل .
المغني على مختصر الخرقي : أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه . تحقيق عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو . دار هجر .(11/32)
مغني المحتاج شرح المنهاج : محمد الشربيني الخطيب . دار الفكر .
المهذب : أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي . مطبعة عيسى البابي الحلبي .
الموافقات في أصول الشريعة : أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي . تحقيق عبد الله دراز . مكتبة الرياض الحديثة .
مواهب الجليل شرح مختصر خليل : محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب . مطبعة السعادة 1329هـ .
نهاية المحتاج شرح المنهاج : محمد بن أحمد الرملي . المطبعة العامرة الكبرى بمصر . 1292هـ .(11/33)