... إن الجريمة المنظّمة قد أصبحت وبصفة عامة ـ والجرائم المرتبطة بالمخدرات بصفة خاصة ـ تشكل تحدياً خطيراً للدولة، بل والمجتمع الدولي كله، وتركز منظمات الجريمة المنظمة أنشطتها على مجالات الجرائم التي تتوقع الحصول من ورائها على مكاسب طائلة بصرف النظر عن مدى مشروعيتها، إذن فالقوة الحافزة وراء الجريمة المنظمة هي تحقيق أقصى المكاسب.(24)
وإذا كانت القوانين الوطنية لكل الدول تسعى جاهدة إلى معرفة هذه المكاسب وتمييزها ومصادرتها لحرمان المجرمين من عائدات جرائمهم، وتعجيزهم عن تمويل ارتكاب المزيد من هذه الجرائم، فإنه وتحسباً لذلك يلجأ مجرمو الجريمة المنظمة إلى غسل العائدات التي يحققونها من أنشطتهم الإجرامية غير المشروعة، لطمس المصدر الحقيقي لهذه العائدات وإدخالها من خلال قنوات أخرى إلى الدورة الاقتصادية والمالية المشروعة. (25)، وهم بما يملكون من أموال طائلة قادرون على شراء كل شئ بما في ذلك الذمم والضمائر الإنسانية، فضلاً عن الأموال العينية الأخرى.
وهم يسلكون إلى ذلك مسالك شتى ويستخدمون أدوات متنوعة منها على سبيل المثال: خدمات الأنشطة التجارية والمالية المشروعة التي تنهض بها المؤسسات المالية بكافة قطاعاتها (سوق الأوراق المالية ـ قطاع البنوك ـ قطاع التأمين) .
وقبيل خمس عشرة سنة تقريباً لم تكن الجرائم المرتبطة بغسل الأموال قد عرفت على المستوى العالمي، حيث لم يكن الهيروين والكوكايين والعقاقير الأخرى المخدرة قد أنتجت على المستوى التجاري، وحيث لم تكن منظمات الجريمة المنظمة قد أكملت هياكلها الإدارية والتنظيمية بعد، غير أن الأمر يختلف الآن، وحتماً سيختلف في الغد القريب عما هو عليه الآن، وهو ما يدعو إلى التعاون الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة وما يرتبط بها من جرائم غسل الأموال الناتجة بغسل الأموال و نجد أن في طليعة هذه الأسباب ما يلي:
الفساد الإداري بوجهيه القبيحين وهما:(33/17)
أ- الفساد المتمثل في تقاضي المسؤولين أو الموظفين لمبالغ مالية غير قانونية (رشاوى وإتاوات) وعمولات مقابل منح عملاء منظمات الغسيل الدولية تراخيص معينة في مجالات الاستثمار أو المباني أو الاستيراد أو التصدير
أو تملك العقارات أو إقامة المعارض.(26)
ب- الفساد المتمثل في تمكين المسؤولين في الدولة بعضهم لبعض أو لأفراد ذي صلة من الحصول على قروض بنكية كبيرة بغير ضمانات وتهريبها إلى الخارج بعد غسلها داخلياً.
وجود سلبيات وتشوهات في القيم الدينية والخلقية لدى بعض رجال الأعمال في الدول الجاذبة لغسل المال الحرام، بما يسمح لهم بالقيام بعمليات الغسيل مقابل نصيب وافر منه.
قصور النصوص العقابية القائمة عن ردع مرتكبي جرائم غسل الأموال، إما لأنها كانت موضوعة قبل تفشي هذه الظاهرة أو لأن أساليب ارتكاب جرائم غسل الأموال في تطور دائم ومستمر، بما يقتضي ملاحقتها عقابياً بتطوير أدوات مواجهتها.
قصور التنظيم الاقتصادي والإداري لعمليات الاستثمار والمضاربة في أسواق الأوراق المالية الناشئة، والاكتتاب في السندات لحاملها، والعمليات البنكية (المصرفية) عن مواجهة أو ملاحقة أساليب منظمات غسل الأموال، وذلك يقتضي سرعة التحرك لسد هذه الثغرات.
ويمكن إضافة إلى ما سبق أن نقول :
... إن عوامل عدة في بداية القرن الخامس عشر الهجري ونهاية القرن العشرين الميلادي، قد أدت دورها في تفشي ظاهرة غسل الأموال نذكر منها:
سيطرة النظام الرأسمالي على الفكر الإنساني، فقد غابت أو غُيّبت القيم والأخلاق، وأصبح المعيار هو المادة وقيمة الإنسان دولياً بما يملك، بل أن الدول تقاس بمستواها الاقتصادي الآن وهو ما دفع الدول أحياناً والأفراد أحياناً أخرى إلى الكسب غير المشروع حتى تكون في النهاية ذات ثقل سياسي واقتصادي، إن الرأسمالية لا تعرف الأخلاق ولا القيم وإنما تعرف الدرهم والدينار فقط، وهو ما جرف كثيرين إلى احتراف هذه الظاهرة في الواقع المعاصر.(33/18)
تقدم حركة الاتصال المصرفي بما ييسر تحويل الأموال إلى أي بلد في العالم، ففي الماضي لم يكن النظام المصرفي معروفاً أو متعارفاً عليه، وكل نقل للأموال كان يتطلب قيام شخص بالسفر بهذا المال حتى يضعه حيث أمر به، وفي عصرنا الحاضر يمكن فتح حساب في أي بنك في العالم وإيداع أي مبلغ وفي ثوان محدودة يصل المبلغ إلى الحساب، وقد أكد المشتغلون بالاقتصاد أن أعلى نسبة غسل أموال هي في الدول الأجنبية لإدراكها لقيمة الأموال المودعة بها على اقتصادها المحلي وبخاصة أمريكا، سويسرا، هونج كونج، المملكة المتحدة.
مبدأ سرية الحسابات في البنوك، وله دور رئيسي، فالأصل في المعاملات البنكية عدم سؤال العميل عن مصدر كسبه، بل وسعادة البنك بارتفاع أسهمه، وهو ما دفع كثيرين إلى اعتمادهم على هذا المبدأ لإيداع مبالغ تتجاوز الحد في أقل زمن وبأقصى سرعة.
النشاط الصهيوني الخفي في الاقتصاد العالمي، حيث يقوم خبراء الاقتصاد من اليهود بدور رئيسي في عملية غسل الأموال، وتوحي وسائل الإعلام في زماننا أن كثيراً من البنوك في البلاد العربية والإسلامية تهتم بالدرجة الأولى بعملية غسل الأموال، ويكون تعاملها مع الجمهور صورة مزيفة للاستتار عن أعين الرقباء.
الحرب الاقتصادية غير المعلنة بين الدول وبعضها البعض، فهناك عصابات فردية وعصابات دولية، وهناك مؤسسات تحرسها حكومات إن تعرضت للخطر وبنوك أخرى تتدخل دول أجنبية لإنقاذها إن استشعرت الإفلاس، وهدفها من وراء ذلك أن تبقى هذه البنوك تعمل في ديار الإسلام على وجه الخصوص لتكون مصدراً لتحقيق الأمل المرجو منها في الحرب الاقتصادية غير المعلنة، وما ضرب العملات المحلية في أغلب الدول الإسلامية بخاف عن أحد.(33/19)
ولا شك أن التقدم في تقنيات الاتصال والانتقال لا سيما انتقال المعلومات له أثره البالغ في نمو ظاهرة غسيل الأموال وسرعة انتقالها عبر الدول بحيث أصبحت ظاهرة دولية لا يمكن إهمال عواقبها السلبية الخطيرة فضلاً عن إمكان إفلات القائمين بها من العقاب بسبب وجود ثغرات عديدة في أنظمة بعض الدول بحيث يقتضي الأمر وجوب تبادل المعلومات بين الدول إذا أريد ضبط مشروعية الكسب وانتقال الأموال بين دول العالم العامر.
وفضلاً عن ذلك فهناك مشكلة التكييف القانوني لظاهرة غسيل الأموال فقد تكون عملية غسيل الأموال مهماً تعددت مراحلها فعلاً من أفعال المساهمة الجنائية ، وقد تكون قانوناً صورة من صور إخفاء الأشياء المسروقة أو المتصلة من جريمة ولابد لتوفير الوقاية من عواقب هذه الجريمة وآثارها السلبية في المجتمع من ضبط التكييف القانوني لها وتحديد أركان الجريمة وصلتها بالجريمة السابقة والتي تحصل منها المال الذي يجري غسله عبر بلاد وأجهزة مختلفة. (27)
خامساً: أثار غسل الأموال:
... يتخلف عن جريمة غسل الأموال مجموعة من الآثار غير المرغوبة يمكن تصنيفها إلى:
1 ـ آثار سياسية.
2 ـ آثار اجتماعية.
3 ـ آثار اقتصادية.
4 ـ آثار مالية ومصرفية.
أولاً: الآثار السياسية :
قدمنا في المبحث الرابع أن منظمات الجريمة المنظمة تركز نشاطها الإجرامي على مجالات الجرائم التي تتوقع الحصول من ورائها على مكاسب طائلة، وقدمنا أن من أبرز أنواع هذه الجرائم الاتجار في المخدرات والعقاقير المؤثرة على العقل والاتجار في الرقيق وفي الأعضاء البشرية، فضلاً عن الرشوة والابتزاز وفرض الإتاوات وعمولات بيع السلاح، إضافة إلى عمولات الفساد الإداري في مختلف صوره وأشكاله، وكل هذه الجرائم تعطي عائدات خيالية، وكل هذه الجرائم في الوقت ذاته ترتبط بالفساد الإداري والخروج على النظام والقانون.(33/20)
هذه العائدات الخيالية تمكن منظمات غسل الأموال من شراء كل شئ حتى ذمم الضعفاء (وما أكثرهم) ومقاعد البرلمانات ومن ثم فإنهم يسعون جاهدين إلى اختراق أجهزة الدولة السياسية والإدارية والمصرفية والوصول إلى مراكز اتخاذ القرار والنتيجة حينئذ معلومة، إذ ماذا ننتظر من مجرم غاسل للمال الحرام يتربع على مقعد البرلمان أو يتبوأ مركزاً قيادياً في الحزب الحاكم، يراقب الحكومة، ويطلع على كل أسرار الدولة، ويضع قوانينها ويتخذ مختلف القرارات فيها، وماذا ننتظر من ورائه وهو يمتلك دور النشر الصحفية والقنوات الفضائية ويوجّه الرأي العام ويملك مفاتيح إضعاف الحكومة بل وإسقاطها إن أراد، لا شك أنها آثار سياسية خطيرة.
ثانياً: الآثار الاجتماعية:
... هناك سلسلة متوالية من الآثار الاجتماعية لجرائم غسل الأموال، تبدأ بإحداث خلل في البنيان الاجتماعي، حيث تتيح عمليات الغسيل للقائمين بها الحصول على مكاسب خيالية بما يمكن أن يعيد الترتيب الطبقي في المجتمع لغير صالح الشرفاء ثم تنتهي هذه السلسلة بانحطاط القيم والمثل والثوابت الاجتماعية وما بين حلقة البداية وحلقة النهاية تتآكل الطبقة الوسطى في المجتمع.
... إن " نجاح أصحاب الدخل غير المشروع في الانتفاع بحصيلة الجريمة يمكن أن يؤدي إلى صعود هؤلاء المجرمين إلى قمة الهرم الاجتماعي في الوقت الذي يتراجع فيه مركز العلماء والمكافحين إلى أسفل قاعدة الهرم، إن المال سيصبح هو معيار القيمة للأفراد في المجتمع بصرف النظر عن مصدره مما يؤدي إلى شعور الشباب بالإحباط والركون إلى السلبية وهو ما يعني اهتزاز القيم الاجتماعية المستقرة في المجتمع وتهديد السلام الاجتماعي، كما يؤدي غسل الأموال إلى تشويه المناخ الديمقراطي في المجتمع، حيث يصعد أصحاب الدخول غير المشروعة على مقاعد البرلمان ومجالس الشورى ومجلس الشعب واتحادات التجارة والصناعة وتعلو نجومهم إعلامياً في وسائل الإعلام ".(28)(33/21)
ثالثاً: الآثار الاقتصادية:
... هناك على وجه التحديد ثلاثة آثار اقتصادية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجرائم غسل الأموال وهي:
... 1ـ التضخم. ... 2ـ المضاربة على العقارات والمجوهرات. ... 3ـ الكساد.
... وذلك إن المال الحرام المراد غسله عندما يحل في أسواق دولة ما، فإنه يحدث زيادة بمقدار حجمه في العرض النقدي لهذه الدولة بما يفوق كثيراً مقدار ناتجها القومي من السلع والخدمات، ومن شأن ذلك أن يؤدي حتماً إلى التضخم، وعندما يحين موعد رحيله وتصديره إلى الخارج حيث موطنه الأصلي، فإن ذلك يتسبب في نقص السيولة في الدولة المضيفة له، وهو ما يعني الانكماش ثم الكساد وما بين هاتين الدورتين الاقتصاديتين تتقلب بشدة أسعار صرف عملة الدولة المضيفة للمال المغسول، ولما كان الجهاز الإنتاجي بل والبنيان الاقتصادي للدولة المضيفة غير قادرين على استيعاب المال المغسول عند قدومه، فإن منظمات غسل الأموال تفضل غالباً المضاربة على العقارات والمجوهرات بما يرفع قيمتها السوقية بغير مبرر وبما قد يضر بالغالبية من أبناء هذه الدولة، لقد أظهرت بعض الدراسات الآثار السلبية الاقتصادية بصورة واضحة نذكر هنا فيما يلي:
تؤثر عمليات غسل الأموال على الاقتصاد القومي من خلال دعم الجرائم مثل المخدرات والفساد الإداري والفساد السياسي وغيرها، حيث تؤدي إلى جانب من الدخل القومي المشروع إلى خارج البلاد وهي حصيلة النقود التي يحصل عليها تجار المخدرات مثلاً من المتعاطين أو المدمنين أو الأموال الحكومية
أو العاملة يستولي عليها نتيجة الفساد وهو ما يعني أضعاف الدخل القومي المحلي وما يرتبط به من آثار انكماشية تؤدي إلى تراجع معدل زيادة الدخل القومي سنوياً.
تؤدي عمليات خروج الأموال إلى الخارج في سلسلة حلقات غسل الأموال إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات، وحدوث سيولة في النقد الأجنبي تهدد الاحتياطيات لدى البنك المركزي من العملات الحرة.(33/22)
يترتب على الاستفادة بحصيلة الدخول غير المشروعة نتيجة نجاح أصحابها في غسيلها حدوث تشوه في نمط الإنفاق والاستهلاك، مما يؤدي إلى نقص المدخرات اللازمة للاستثمار وحرمان مجالات النشاط الاقتصادي المهمة من الاستثمار النافع للمجتمع.
أثبتت إحدى الدراسات أن غسل الأموال يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية بنسبة 27% في المتوسط.
يرتبط غسل الأموال بزيادة الإنفاق البذخي وغير الرشيد مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار المحلية وحدوث ضغوط تضخمية في الاقتصاد القومي.
يؤدي غسل الأموال إلى حدوث خلل في توزيع الدخل القومي وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء أو محدودي الدخل في المجتمع، مما يؤدي بدوره إلى عدم وجود استقرار اجتماعي مع إمكانية حدوث صراع طبقي وأعمال عنف.
يمكن أن يؤدي غسل الأموال إلى اضطرار الحكومة إلى فرض ضرائب جديدة أو زيادة معدلات الضرائب الحالية من أجل تغطية الفجوة بين الموارد المتاحة واحتياجات الاستثمار القومي بعد هروب أو تهريب الأموال إلى الخارج، وهو ما يعني زيادة الأعباء على أصحاب الدخول المشروعة في المجتمع.
إذا لم تلجأ الحكومات إلى زيادة الضرائب فإنها يمكن أن تضطر إلى اللجوء للمديونية الداخلية وإلى المديونية الخارجية الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الأعباء على ميزان المدفوعات وعلى الموازنة العامة للدولة وحدوث عجز مزمن فيهما معاً.
يمكن أن يؤدي غسل الأموال إلى انهيار البنوك المتورطة في عمليات الغسيل مثلما حدث في حالة بنك الاعتماد والتجارة الدولي، الذي كان متورطاً في غسل الأموال لتجار المخدرات بواسطة الفرع التابع له الذي كان موجوداً في فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية، مما جعل المملكة المتحدة بالتنسيق مع الولايات المتحدة تخططان للانقضاض على هذا البنك وتصفيته من الوجود تماماً وهو ما حدث بالفعل.(28)(33/23)
يمكن أن يؤدي غسل الأموال إلى انهيار البورصات التي تستقبل الأموال الناتجة عن الجرائم الاقتصادية، حيث يكون اللجوء إلى شراء الأوراق المالية من البورصة ليس بهدف الاستثمار، ولكن من أجل إتمام مرحلة معينة من مراحل غسل الأموال ثم يتم بيع الأوراق المالية بشكل مفاجئ، مما يؤدي إلى حدوث انخفاض حاد في أسعار الأوراق المالية بشكل عام في البورصة، ومن ثم انهيارها بشكل مأساوي.( 29)
إن الحظر الاقتصادي لعملية غسل الأموال ليس قاصراً على دولة بعينها بل على مستوى الاقتصاد العالمي:
" ويتفق هذا التوجه مع قاعدة اقتصادية مهمة مفادها أن كل مال هارب ملطخ بشيء من الشبهة، وأن رؤوس الأموال القلقة الباحثة عن الشرعية لا تبنى اقتصاداً ولا تحقق تنمية اقتصادية حقيقية، حيث لا يهتم غاسلو الأموال بالجدوى الاقتصادية للاستثمار قدر اهتمامهم بالتوظيف الذي يسمح بإعادة تدوير تلك الأموال، وهو
ما يتناقض مع كل القواعد الاقتصادية القائمة على نظرية تعظيم الربح ويشكل بالتالي خطراً كبيراً على مناخ الاستثمار محلياً ودولياً.
... فعلى المستوى الدولي: يمكن أن يؤدي غسل الأموال إلى انتقال رؤوس الأموال من الدول ذات السياسات الاقتصادية الجيدة ومعدلات العائد المرتفع إلى الدول ذات السياسات الاقتصادية الفقيرة ومعدلات العائد المنخفضة بما يضر بمصداقية الأسس الاقتصادية المتعارف عليها، والتي يمكن لصانعي السياسة الاقتصادية الاستناد إليها، كما تؤثر عمليات غسل الأموال بالسلب على استقرار أسواق المال الدولية وتهدد بانهيار الأسواق الرسمية التي تعد حجر الزاوية في بناء اقتصاديات الدول.(33/24)
... وعلى المستوى المحلي: تؤدي حركة الأموال المطلوب غسلها دون مراعاة الاعتبارات الرسمية إلى المنافسة غير المتكافئة مع المستثمر الجاد المحلي والأجنبي باعتبار أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التعامل، لا سيما أن عمليات غسل الأموال يمكن أن تؤثر بالسلب في أغلب المتغيرات الاقتصادية بما قد يعقد من مهمة الدولة في وضع خطط برامج فعالة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ".(30)
... وتؤكد نادية يوسف على خطورة هذه العملية اقتصادياً قائلة: " إن سن تشريع لمكافحة غسل الأموال في مختلف الدول بما فيها الدول النامية هو في المقام الأول يأتي لمصلحة الاقتصاد الوطني، ذلك لأن الاعتماد على هذه الأموال غير المشروعة في الاستثمار يهدد الاقتصاد في أي دولة لا سيما الدول النامية بالانهيار لأن من يحصل على هذه الأموال غير المشروعة ويتخذ من غسل الأموال وسيلة لإخفاء مصدرها وإضفاء الشرعية عليها، ومن هذه الوسائل استثمارها في أنشطة غير مشروعة ومن ثم يكون منافساً خطيراً غير شرعي للأفراد والكيانات الشريفة بما يؤدي إلى استبعادهم من هذه المجالات وانهيار منشآتهم وتهديد التنمية الوطنية ". (31)
رابعاً: الآثار المالية والمصرفية:
... لا شك أن التحويلات المالية المفاجئة سواء تلك التي ترد إلى الدولة أو تخرج منها تحدث تشوهات غير متوقعة على سوق النقد والجهاز المصرفي، وعلى سوق رأس المال (سوق الإقراض المباشر وسوق الأوراق المالية)، وهو ما يؤدي إلى انهيار هذه الأسواق، كما حدث في دول جنوب شرق آسيا منذ سنوات، وذلك بما يهدد استقرار النظام المالي والمصرفي في الدولة المضيفة، بل إن عملية غسل الأموال قد تصيب السياسة المالية والإئتمانية للدولة المضيفة بالتخبط والارتباك.(33/25)
... فقد تدفع وفرة السيولة عند ورود المال إليها واضعي السياسات إلى وضع سياسات مالية وائتمانية معينة، ثم عندما يحدث التحول العكسي المفاجئ في حركة هذه الأموال تفشل هذه السياسات وتتخبط الحكومة في إجراءات وقرارات عشوائية تكون لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية سيئة، وباختصار شديد فإن عمليات غسل الأموال تضع المؤسسات المالية للدولة المضيفة في قبضة عصابات غسل الأموال والمنظمات التي تحترف هذا المجال. (32)
... ويذكر د. محسن الخضيري، كثيراً من الآثار لعملية غسل الأموال على البنوك والمصارف والبورصات واقتصاديات الدول ومما أشار إليه من سلبيات ما يلي:
" تعرض البنوك لخطر الإفلاس والانهيار واشتداد حدة الأزمات نتيجة عدم قدرة العملاء على السداد وضياع أموالهم في مشروعات لا تربح أو تعرضهم لخسائر فادحة نتيجة هروب المقترضين بأموال المودعين وعدم قدرة البنوك على إعادة الأموال الهاربة.
فقد سيولة الاقتصاد سواء من العملات المحلية أو العملات الأجنبية التي تلتهم الاحتياطي الأجنبي الخاص بها مع كل عملية غسيل دولي أو محلي يترتب عليها إجراء تحويلات إلى الخارج عبر البنوك والمصارف... بل إنه كثيراً
ما تلجأ عصابات الجريمة المنظمة إلى الضغط بشدة على موارد البلاد
ما النقد الأجنبي لتحقيق تأثير مزدوج التدمير ".(33)
سادساً: الجهود والقوانين الدولية لمكافحة غسل الأموال:
... إن ظاهرة غسل الأموال ظاهرة عالمية وليست محلية، وأن العصابات التي تمارس هذا النشاط تعمل في سرية تامة، وأن الكشف عن الرؤوس المدبرة غاية في الصعوبة، وإذا كانت بعض المنظمات مجهولة فإن الآثار السلبية لأنشطتها واضحة للعيان.
... إن الإحصاءات المتعلقة بعمليات الغسل والمبالغ التي يتم الغسل فيها تتجاوز المتوقع وأن التقارير الدولية لتؤكد أن نسبة ليست قليلة من الاقتصاد العالمي تجرى فيها عملية الغسل " وتشير تقديرات البنك الدولي عن حجم الفساد أنه بلغ نحو(33/26)
80 بليون يورو في العالم عام 1416هـ 1996م، وهذا الحجم للفساد العالمي يوازي 13.3% ثمن قيمة الأموال الناشئة عن الجريمة والفساد، والتي يجرى تبيضها سنوياً والتي بلغت 600 بليون يورو عام 1416هـ 1996م، وقد أشارت مجموعة التحرك المالي التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن هناك عدداً من الدول تشارك بفاعلية في غسل الأموال الناشئة عن الفساد والجريمة وعلى رأسها دولة اليهود في فلسطين وروسيا والفلبين وفي إحصاءات أخرى بالنسبة لعمليات غسل الأموال على مستوى العالم فإن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أنها تتراوح بين 350 ـ 500 بليون يورو سنوياً من حجم الدخول غير المشروعة عالمياً الذي يتراوح بين 500 ـ 715 بليون يورو سنوياً، وتمثل تجارة المخدرات النشاط الأساسي لأصحاب الدخول التي يجرى عليها عمليات غسل الأموال، حيث تقدر قيمة المدخرات المتداولة عالمياً بنحو
500 بليون يورو منها 350 بليون يورو تخضع لعملية غسل الأموال، وذكرت دراسة الدكتور عادل الكردوسي المقدمة في جامعة الأزهر لمؤتمر "المخدرات مشكلة اقتصادية" أن قيمة ما ضبط من المخدرات في مصر عام 1423هـ ـ 2002م يتجاوز
(12.4) مليار جنيه، وهو ما يساوي (10%) من مجمل هذه التجارة القذرة في مصر وحدها.
... كما تشير التقارير الدولية إلى أن المبيعات الأوروبية من الهيروين للدول الصناعية السبع تبلغ 16 بليون يورو سنوياً يتم غسل 12 بليون يورو منها عبر البنوك والمؤسسات المالية العالمية الأخرى.(33)(33/27)
... يقول د. محسن الخضيري: " لا يستطيع أحد أن يعرف على وجه الدقة مقدار ما يتم غسله من أموال قذرة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي فإن حجم ما يعرف منها ضئيل للغاية، مثلها مثل جبل الثلج أعلى ما فيه قمته وهي ومهما كان حجمهما الظاهر، فهي قمة صغيرة الحجم، فإنها لا تقاس بالحجم الضخم الخفي لجسم جبل الثلج، وهو ما يماثل جريمة غسل الأموال الحجم الأصغر هو المكتشف أما الأكبر فهو خفي دفين.
... ويقدر حجم جريمة غسل الأموال التي تمر عبر بنوك العالم وأجهزته المصرفية بنحو 3 تريليون يورو سنوياً أي ما يقدر بنحو 5% من إجمالي الناتج العالمي، وأن عمليات غسل الأموال في روسيا تقدر بنحو 100 مليار يورو ... في حين تقدر عمليات غسل الأموال التي تتم في الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 100 مليار يورو سنوياً...".(34)
... إن جريمة بهذا الحجم قد أقلقت مضجع النظام العالمي الجديد وهو ما دفع بعض الدول إلى الاتحاد لمواجهة هذه الجريمة، كما تم إنشاء مؤسسات تتبنى هذا الأمر وهو ما نبينه فيما يأتي حسب الترتيب الزمني للأحداث.
... في عام 1408هـ 1988م عولجت هذه الظاهرة بمقتضى اتفاقية فيينا(34) بشأن مكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات، حيث عنيت هذه الاتفاقية بأمور منها:
أ - تحديد صورة غسل الأموال.
ب – دعوة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى وضع نصوص قانونية لمكافحة ظاهرة غسل الأموال ومصادرة الأموال الناتجة عنها.
جـ - دعوة المجتمع الدولي لمواجهة هذه الظاهرة.
ثم توالى الاهتمام العالمي لمكافحة هذه الظاهرة سواء على مستوى الدول أو على مستوى المنظمات والهيئات الدولية وكان من أبرز ذلك: (35)
- إعلان لجنة بازل الذي تم توقيعه من جانب ممثلي البنوك المركزية لإحدى عشرة دولة في 3/5/1409هـ، ديسمبر سنة 1988م، والذي دعا إلى منع استخدام الجهاز المصرفي لأغراض عمليات غسل الأموال.(33/28)
... ومما تجدر الإشارة إليه أن كل الدول العربية قد شاركت ووقعت على الاتفاقيات الدولية لمكافحة غسل الأموال، وفي مقدمتها اتفاقية فيينا لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية المعقودة في جمادى الأولى 1409هـ ديسمبر 1988م.
ـ ... في عام 1410هـ 1989م، صدرت توصيات عن لجنة العمل المالي لغسل الأموال (F.A.T.F) المنبثقة عن قمة الدول الصناعية السبع الكبرى، والتي وسعت ولأول مرة من نطاق جريمة غسل الأموال، حيث لم تقف بها عند حدود عمليات ترويج وبيع المخدرات، وإنما شملت الجرائم ذات الصلة بالعقاقير وطوائف الجرائم الخطيرة أياً كان نوعها مثل جرائم الدعارة والاتجار بالأطفال وبالأعضاء البشرية.
... ومما يذكر أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية والاتحاد الأوروبي عضوان بارزان في هذه اللجنة في الوقت الراهن.(36)
- ـ في عام 1410هـ 1990م، أبرم مجلس دول الاتحاد الأوروبي اتفاقية بشأن تجريم عمليات غسل الأموال ومصادرة الأموال الناتجة عن هذه العمليات ومنع استخدام النطاق المصرفي لأغراض الغسيل.
... وفي العام نفسه عقد الاجتماع الثامن للأمم المتحدة من أجل منع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا في 20 جمادى الأولى 1411هـ 7 ديسمبر 1990م.
-في يونيو 1411هـ 1991م، أصدر البنك المركزي العماني تعميماً إلى كافة المؤسسات المالية المرخصة في سلطنة عمان يحذر فيه من خطورة المتاجرة في المخدرات وما يتبع ذلك من عمليات غسل الأموال في جميع أنحاء العالم، ويطلب فيه من المؤسسات المعنية تطبيق أحكام توصيات لجنة (F.A.T.F) كل في نطاق اختصاصه.(33/29)
-في جمادى الأولى 1414هـ أكتوبر 1993م، عقدت ندوة الرياض حول الجرائم الاقتصادية بإشراف مؤسسة النقد العربي السعودي بصفتها ممثلاً لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وعضواً في مجموعة العمل المالي الدولي (F.A.T.F) والتي خصصت محورها الأول لجريمة غسل الأموال، من حيث طبيعة الموضوع وأخطاره وسياسات وبرامج مكافحته مع تناول هذه السياسات من جوانبها التنظيمية والقانونية والمعلوماتية.
... ويبلور د. عبدالله علي الملا (37)، في ورقته التي قدمها إلى هذه الندوة باسم الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، والجهود التي قامت بها الدول الست في مجال محاربة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية وعمليات غسل الأموال في :
منع تهريب المخدرات وترويجها ورفع العقوبة على ذلك إلى حد الإعدام.
المبادرة إلى المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة المعقودة في فيينا عام 1408هـ 1988م، بشأن مكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية.
تفعيلاً لتوصيات اللجنة المالية لمكافحة غسل الأموال (F.A.T.F.) والتي شاركت فيها الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بوصفها أحد المراكز المالية من خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للدول السبع الصناعية الكبرى.
ـ في عام 1414هـ 1994م، عقدت مؤتمرات عدة منها:
في تونس صدرت الاتفاقيات العربية لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية.
صدر القانون المالطي في العام نفسه، وقد عني عناية خاصة بتحديد الصور الإجرامية لعمليات غسل الأموال وعقوباتها.
مؤتمر مكافحة الجريمة المنظمة المنعقد في نابولي.(33/30)
- في عام 1415هـ 1995م، صدر القانون النموذجي للأمم المتحدة بشأن مكافحة غسل الأموال، محدداً القواعد التي يمكن أن تهتدي بها الدول الأعضاء في نطاق تشريعاتها الوطنية لمكافحة غسيل الأموال وقد عنى هذا القانون بتحديد مدلول الأموال (القذرة) ونطاق الجرائم المتصلة بعمليات الغسل والعقوبات الأصلية والتكميلية لكل جريمة.
وفي القاهرة من العام نفسه، عقد المؤتمر الدولي التاسع لمنع الجريمة والذي أوصى بالتعاون الدولي لمكافحة غسل الأموال وتسهيل الكشف عن الحسابات السرية.
- في عام 1416هـ 1996م، صدر القانون الأمريكي بشأن مكافحة عملية غسل الأموال والذي عني بتحديد طبيعة النشاط الإجرامي في كل عملية وصوره.
وفي العام نفسه صدر القانون الفرنسي رقم 392 بشأن غسل الأموال، وهو يقسم الجرائم المتعلقة بعمليات الغسيل إلى نوعين:
1ـ بسيطة.
2ـ مشددة.
ويحدد العقوبة المناسبة لكل نوع.(38)
ـ في عام 1422هـ 2002م، صدر القانون المصري الخاص بعمليات غسل الأموال والذي حدد الصور الإجرامية لعمليات غسل الأموال وعقوباتها مع مراعاة سرية الحسابات البنكية الصادر بها قانون رقم 205 لسنة 1990م، وقانون الكسب غير المشروع رقم 62 لسنة 1975م، وقد صدر القانون بعد جدل فقهي واسع حول مدى الحاجة إلى أفراد عمليات غسل الأموال بتجريم مستقل، وقد نوقش المشروع في مجلس الشورى ومجلس الشعب وصدر به قرار جمهوري برقم (568). (39)
إدراج تمويل الإرهاب ضمن غسل الأموال:
... بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر(23جمادى الآخر/1422هـ)، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإدراج النشاط الاقتصادي لما تسميه بالجماعات الإرهابية ضمن عمليات غسل الأموال، وقد أصدرت أوامرها إلى دول العالم عامة والدول العربية والإسلامية بخاصة بمراقبة مصادر تمويل هذه الجماعات من طريق التبرع أو الزكاة أو رؤوس الأموال المودعة في مصارف بديارها أو ما سوى ذلك.(33/31)
... ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل اجتمعت لجنة (F.A.T.F) وأصدرت توصيات خاصة بشأن تمويل الإرهاب تناولوا فيها:
إقرار وتنفيذ وثائق الأمم المتحدة.
إعطاء تمويل الإرهاب وغسل الأموال صفة الجريمة.
تجميد ومصادرة الأصول الإرهابية.
الإبلاغ عن الصفقات المشبوهة بشأن الإرهاب.
التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب.
مراقبة الأساليب البديلة لتمويل الإرهاب.
تحويل الأموال لاسلكياً وسبل الوقاية.
مراقبة المؤسسات والمنظمات غير الساعية للربح، حيث يسهل اختراقها من قبل هذه المنظمات وبخاصة من:
أولاً: المنظمات الإرهابية التي تعرض نفسها كمؤسسات شرعية.
ثانياً: استغلال المؤسسات الشرعية كقنوات لتمويل الإرهاب وبغرض التهرب من تجميد أموالها.
ثالثاً: استخدام هذه المؤسسات لكي تحجب أو تبعد النظر عن سرية تمويل الإرهاب لمنظمات إرهابية تحت ستار أغراض شرعية.
... وإذا كنت قد نقلت ذلك عن لجنة (الفاتيف)، فإن التحفظ على كلمة إرهاب، جماعات إرهابية ومنظمات إرهابية عندي لا يزال قائماً، حيث إنه لم يصدر حتى الآن تعريف دولي للإرهاب، ولم توافق أمريكا على عقد مؤتمر دولي لتحديد مفهوم الإرهاب، وإنما عرفته في ضوء مصالحها الخاصة، وتصورها الذاتي ولو عرف الإرهاب كما ينبغي لكانت القيادة والريادة والإعداد والتخطيط والتنفيذ والأولوية بالإطلاق فيه لأمريكا أولاً واليهود في فلسطين ثانياً، وهذا الذي دفعها إلى رفض عقد مؤتمر دولي لذلك.
حملة الإجراءات المالية ضد عملية غسل الأموال وتوصياتها : (40)
... رأت اللجنة (41) أن بعض الدول لا زالت تغض الطرف عن جريمة الأموال القذرة ولا تؤاخذ فاعليها ولا تعتبر غسل الأموال جريمة، وقد دعت هذه اللجنة إلى وجوب اعتماد اتفاقية فيينا بشكل كامل وأن تشرع في التصديق عليها.
... وقد صدرت هذه الحملة أربعين توصية ليس بالإمكان بيانها في هذه العجالة، ولكني أوجز تلك التوصيات في الآتي:(33/32)
مسؤولية الدول عن النشاط الإجرامي لغسيل الأموال فيها، حيث حملت الدول مسئوليتها بالتعقب والمراقبة والتسليم وأخطار الأنتربول وتبادل المجرمين الدوليين في هذه الظاهرة.
البنوك وهي مسئولة عن الإبلاغ عن كل عملية حسابية فيها ريبة من العميل، وذلك بأخطار جهات الاختصاص من ناحية وتشكيل لجان سرية لمتابعة ذلك من ناحية ثانية، كما طالبت وجرمت كل من يدلي ببيانات إلى غاسلي الأموال عن الأخطار التي تتهددهم من الجهات المختصة أو تحذرهم من دوام التعامل مع البنوك حتى يسهل إيقاعهم في يد العدالة، وتجرم التوصيات كل من يساعد بأي صورة من الصور غاسلي الأموال في استمرار نشاطهم، من حيث تسهيل فتح الحساب أو النقل أو الدلالة أو التحذير أو ما شاكل ذلك.
تقترح عقوبات تفاوتت بحسب حال المجرم، من حيث الابتداء والأصالة والتكرار والثانوية في العصابة وتنص على السجن أحياناً ومصادرة الأموال ثانياً وتتفاوت عقوبة السجن من خمس سنوات إلى سبع إلى عشرين سنة,
طالبت اللجنة بإعادة النظر في العقوبات المقدرة على جريمة غسل الأموال، نظراً لأن غاسلي الأموال يطورون أنفسهم بصفة مستمرة مما يتعذر معه الوقوف عن حد الماضي في وقت تتطور فيه جريمة غسل الأموال، وتطور عصاباتها نشاطها بما يتأتى معه التحايل على القانون القديم.
دعت اللجنة إلى تيسير التقاضي وإجراءات محاكمة مجرمي غسل الأموال، وتيسير نقلهم من دولة إلى أخرى في إطار اتفاقيات عامة لمحاكمة مجرمي غسل الأموال.
سابعاً: دول مجلس التعاون ومكافحة غسل الأموال:
... كتب مصطفى عبدالسلام يقول: يجرى العمل حالياً في دول مجلس التعاون الخليجي لإصدار قانون لمكافحة ظاهرة غسيل الأموال على مستوى المجلس وذلك تطبيقاً لاستراتيجية أمنية اتفق عليها وزراء داخلية دول المجلس الست في وقت سابق.(33/33)
... ويأتي هذه التحرك الخليجي النشط بعد أن تم إدراج بعض الدول الخليجية ضمن الدول الجاذبة لغسل الأموال، بعد أن وصل حجم الأموال التي تم غسلها في العام الماضي عالمياً من بين 400 ـ 500 مليار يورو كان نصيب الدول العربية منها 100مليار يورو.
... كما يأتي هذا التحرك بعد مخاوف خليجية من أن تصبح دول المجلس هدفاً لعصابات غسل الأموال لاعتبارات عديدة منها: الموقع الجغرافي، وامتلاك هذه الدول سواحل بحرية ممتدة لمسافات طويل تغري بالتسلل والتهريب بالإضافة إلى وجود أعداد هائلة من العمالة الوافدة التي يمكن استغلالها في تنفيذ عمليات غسيل الأموال في ظل حرية تحويل وصرف العملة التي تطبق بدول الخليج.
وقد اتخذت دول المجلس خطوات فعالة مؤخراً لمكافحة عملية غسل الأموال منها: التصديق على الاتفاقيات الدولية التي تجرم غسيل الأموال مثل :
- اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات.
- المصادقة على الاتفاقية العربية لمكافحة الاتجار بالمخدرات.
- التوقيع على القانون الصادر عام 1408هـ 1988م، عن لجنة (بازل) الخاص بالإشراف على البنوك وحظر استخدام البنوك في النشاط المتعلق بالجرائم المختلفة، كانت دراسة خليجية قد أكدت أن بعض دول الخليج العربية بدأت تدرج ضمن الدول الجاذبة لغسيل الأموال وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو الأمر الذي نفاه مصرف الإمارات المركزي.(42)
لقد صدر مؤخراً عن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية (الأمانة العامة) النظام (القانون) الاسترشادي الموحد لمكافحة غسل الأموال، والذي احتوى ثماني وعشرين مادة تتعلق بغسل الأموال، وتضمنت هذه المواد ما يلي:
المادة الأولى: تناولت المفاهيم وتحديد المصطلحات الواردة بالقانون.
الفصل الأول : وبه مادتان تضمنتا تعريف غسل الأموال بكل احتمالاته والمراد من غاسل الأموال بكل أبعاد المصطلح مادة
(2 ، 3 ) .(33/34)
الفصل الثاني : وبه ثمان مواد تناولت واجبات المصارف والمؤسسات المالية وغير المالية والمصرفية والجهات الرسمية تجاه ظاهرة غسل الأموال وبه المواد رقم (4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11).
الفصل الثالث: وبه مادتان تضمنتا الإجراءات القانونية واجبة الاتباع في محاكمة ومحاسبة غاسل الأموال والطرق المعتمدة لذلك، مادة (12، 13).
الفصل الرابع: وبه تسع مواد تضمنت عقوبة مرتكب جريمة غاسل الأموال ومن ساعده من مسئولي البنك والشركات والمؤسسات، وقد نصت على مدة السجن ومصادرة الأموال، والحل إذا تعذرت المصادرة ومن يعفى عنه من هؤلاء وذلك في المواد رقم (14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22).
الفصل الخامس: وبه ثلاث مواد وقد نص على وجوب التعاون الدولي من أجل المكافحة وإقامة اتفاقيات للتعاون بين الدول بعضها البعض من أجل القدرة على المواجهة وذلك في المواد رقم
(23، 24، 25).
الفصل السادس: وبه ثلاث مواد نصت الأولى منها على إعفاء المسئولين في الأجهزة المصرفية من الإدانة ما لم يثبت تورطهم في العملية، ونصت الثانية على تحمل الوزير المختص إصدار اللائحة التنفيذية لهذا القانون ونصت الثالثة على وجوب نشر ذلك في اللائحة الرسمة، وذلك في المواد (26، 27، 28).
السعودية ومكافحة غسل الأموال: ...
شكلت المملكة العربية السعودية وحدة لمكافحة غسل الأموال تابعة لوزارة الداخلية في إطار حملة مكافحة الإرهاب، كما اتخذت المصادر السعودية تدابير لتفادي تمويل الإرهاب، وستعمل هذه الوحدة الجديدة بالتعاون الوثيق مع السلطات المالية والنقدية السعودية، كما أمرت وزارة التجارة بفرض رقابة مشددة على الصفقات الضخمة، وطلبت من المؤسسات المالية إبلاغ السلطات عن أي حالات مريبة، وأكد مسئولون سعوديون أن تلك اللوائح التنظيمية تستكمل إجراءات سابقة اتخذها مجلس الوزراء لمكافحة غسل الأموال وغيرها من الأنشطة غير القانونية في مجال الأعمال.(33/35)
من جهته قرر مجلس الوزراء تشكيل لجنة خاصة لمعالجة قضية غسل الأموال، على أن تكون تحت مظلة مؤسسة النقد العربي (ساما)، وتم تكليف اللجنة بإعداد مشروع نظام لمكافحة غسل الأموال، تراعى فيه الأحكام الواردة في أنظمة مجلس التعاون الخليجي، وكانت مؤسسة (ساما) قد اتخذت خلال الشهور الماضية عدة إجراءات لمواجهة عمليات غسل الأموال (43)، كما أن مجلس الشورى ناقش في الشهر الرابع من هذا العام 1424هـ مشروع نظام جديد لمكافحة غسل الأموال، ولعله يصدر قريباً بعد استكمال إجراءاته النظامية.
هيئة كبار العلماء وموقفهم من غسل الأموال:
... صدر قرار هيئة كبار العلماء رقم 91 بتاريخ 22/5/1402هـ، بتجريم التستر واعتبار أن المبلغ الذي يحصل عليه المواطن أو الأجنبي للتستر يعتبر مالاً حراماً، لأنه بلا عوض مباح، قال تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ـ البقرة 188 ـ النساء 29 الآية.
... وتوضح الدراسات التي أجريت على ظاهرة التستر في المملكة العربية السعودية أن عدد القضايا التي يتم التحقيق فيها في هذا الخصوص تتراوح بين 40 ـ 60 قضية يومياً تشمل 19 مدينة تقوم لجان مكافحة التستر بالتحري والتحقيق فيها، وفي حالة ثبوت واقعة التستر يمنع الأجنبي من مغادرة البلاد حتى يقوم برد جميع الأموال المستحقة إلى الحكومة ثم يتم ترحيله إلى خارج البلاد.(44)
... وقد أشار مصطفى عبدالسلام إلى موقف اليمن وقطر والإمارات والكويت من عملية غسل الأموال والتدابير والقوانين التي أصدرتها هذه الدول لمواجهة هذه الجريمة.(45 )
ثامناً: موقف الشريعة الإسلامية من غسل الأموال:
... إذا كان مصطلح "غسل الأموال" لم يرد في الشريعة الإسلامية، فإن الإسلام قد استخدم مصطلحات أوسع دلالة من مصطلح غسل الأموال، وهو مصطلح "المال الحرام" أو "الكسب الحرام" أو "الكسب غير المشروع".(33/36)
... وإذا كان العالم قد أستيقظ على عملية غسل الأموال كناتج سلوكي لمحترفي هذا السلوك مع محاولتهم إكساب المال الحرام صفة الشرعية أو القانونية في القرن العشرين، فإن الإسلام قد أبان عن موقفه من المال عامة والمال الحرام بخاصة، فأحل الحلال ودعا إليه وبين سبله، وحرم الحرام وجرمه وأتخذ لذلك سبلاً عدة للوقاية منه على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدولة، ويمكن بيان ذلك موجزاً في الآتي:
أولاً: نظرة الإسلام إلى المال:
... تقر الشريعة الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها من حب للمال إلى حد الفتنة، وقد صرح الإسلام بذلك، قال تعالى: { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } آية 14 آل عمران.
وقال تعالى: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } آية 46 الكهف، وقد يصل الأمر إلى حد الافتنان بالمال والولد، قال تعالى: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } آية 15 التغابن.
... ولذلك أقر الإسلام تحصيل المال من حلال، وذكر العلماء طرق الحلال وهي:
العمل المشروع وهو الأساس في الكسب وبه يستقيم أمر الفرد والمجتمع
... الإرث بشرط أن لا يتعجل الوارث تحصيله بإزهاق روح مورثه.
الهبات والصدقات والزكاة وما يلحق بها، وقد حث الإسلام على الزهد فيها قدر الاستطاعة، لأنها تؤدي إلى استمراء الدونية وتقتل روح العزة وتحد من عوامل نهوض الأمة ورقي المجتمع.
ومن سمات الإسلام أنه لم يضع حداً للقلة أو الكثرة في التملك من طريق الحلال، ولكنه اشترط ـ كما يرى الفقهاء ـ ثلاثة شروط للتملك وهي:
جمع المال من حلال، وأما الجمع من حرام وإن أكسب الملكية الظاهرة إلا أنه وزر على مالكه.(33/37)
إنفاق المال في الحلال، فالملكية لا تكسب التصرف المطلق للإنسان، أن قيوداً شتى قد وضعت على التصرف، كالتقييد بعدم السرف { وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا } آية 31 الأعراف، وفرض وصاية وحجر على السفهاء { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } آية 5 النساء، وتحريم التجاوز في التصرف حال الولاية والوصاية، { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف}آية 6 النساء.
أداء حق الله فيما بين الكسب والإنفاق، قال تعالى: { والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم } آية24، 25 المعارج.
وبهذا أتاح الإسلام الفرصة لكل شريف عفيف أن يتكسب من الحلال كما يحلو له وإن ملك الكثير والكثير من الأموال ما دامت شروط الكسب من الحلال قد توفرت.
الإسلام والمال الحرام:
... نهى الإسلام الناس عامة والمسلمين بخاصة عن جمع المال من حرام وسلك في الحد من ذلك رغبة في المنع منه سبيلين.
ـ السبيل الأول: نصوص عامة تحرم المال الحرام.
ـ السبيل الثاني: خاص حيث النص على مصادر بعينها للكسب الحرام مع تحريمها(33/38)
والسبيل الأول، أوضح ما يكون في خطاب القرآن الكريم بالتحريم العام لأكل أموال الناس بالباطل، ومن وجوه إعجاز القرآن كشفه النقاب عن المستجدات التي لم تكن موجودة في عصر النبوة أو كانت موجودة ولكنها نادرة وكثرت في عصرنا، قال تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } آية 188 البقرة، فقد نصت الآية على تحريم أكل مال الغير بالباطل، وصرحت بأن بعض الناس يدفعون للمسؤولين رشوة لتيسير سبيل أكل أموال الغير بالباطل، وقد عبر عنهم بالحكام لا على أنهم ولاة الأمر وحدهم بل يندرج في الوصف كل مسئول في موقعه ( مدير مؤسسة، مدير بنك ، مدير شركة، مدير مصرف) وغيرهم من أجل تيسير السبل لهؤلاء ، مع النص على أن من يفعلون ذلك يعلمون حرمته { وأنتم تعلمون } .
كما ورد قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصلية ناراً وكان ذلك على الله يسيرا } آية 29، 30 النساء، ويفهم من النص أن الإسلام قد أغلق باباً وفتح أبواباً شتى، فالباب الذي أغلقه هو أكل أموال الغير بالباطل والأبواب التي فتحها تتعدد بتعدد الأشياء المتاجر فيها والتي لا حصر لها.
وحذر الإسلام من استغلال الدين كسبيل لجمع المال وكنزه أو إدعاء تملكه ولو كان ذلك من رجال العلم الشرعي أنفسهم، وحذر من أناس فعلوا ذلك فيما سبق، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } آية34 التوبة.(33/39)
كما لعن الله اليهود بسبب تصرفاتهم المالية غير المشروعة { وأخذهم الربا وقد نهو وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليما }
آية 161 النساء.
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين لنا أن المال الحرام يبطل عمل صاحبه، ولو كان العمل نوع قربة من حيث الظاهر، وفي الحديث (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وأن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين، فقال: { ياأيها الرسل كلوا من الطيبات } المؤمنون 51, وقال: { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } البقرة 172, ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يقول يا رب. ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له) الحديث .صحيح مسلم 2/703 رقم1015.
وحين سأل سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعو الله له باستجابة الدعوة، قال عليه السلام له: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. المعجم الأوسط 6/311 .
كما وصى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بترك كل ما فيه شبهة اتقاء للوقوع في الشبهة، وفي الحديث (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) البخاري 1/28 ومسلم3/1219 رقم1599 واللفظ له .
وفي الحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) المستدرك 1/116 صحيح
ابن حبان 2/498.(33/40)
إن موقف الإسلام صريح في ردّ كل فعل ظاهره خير ينتج عن المال الحرام، ولو كان عبادة مالية أو بدنية أو هما معاً، فقال رسول الله (لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول) صحيح مسلم 1/204، وفي السنة كذلك بشأن الحج (إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور. وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور) الطبراني في الأوسط 5/251 رقم 5228.
كما ورد قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه …) البخاري 2/511 رقم 1344، وبنحوه أخرجه مسلم
(2/702) ح 1014
ويكفى أن الإسلام قد توعد كل من جمع مالا من حرام وكل من يحيى على المال الحرام بأن مآله إلى جهنم وبئس المهاد، وفي الحديث الشريف( أي لحم نبت من سحت فالنار أولى به) المستدرك 4/141 رقم 7163، صحيح بن حيان12/378 سنن الترمذي 2/512 هذا عن السبيل الأول وهو التحريم بصيغة العموم للكسب الحرام.(33/41)
السبيل الثاني (الخاص) : حيث النص على مصادر بعينها للكسب الحرام مع تحريمها ومن يقف على مصادر الكسب الحرام (غسل الأموال) يدرك أن كثيراً من مصادره مما نص الإسلام على تحريمه صراحة، وليس بالإمكان حصر ذلك، ولكني أشير إلى بعض هذه المصادر مع التركيز على صيغ العموم السابقة في التحريم، والقاعدة العامة في الشريعة الإسلامية أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن كسب المال من الطرق الشرعية مباح مهما تنوعت وسائل هذا الكسب من أعمال الزراعة (عدا النباتات المحرم زراعتها أو استخدامها كالأفيون والقات) وكذلك التجارة وهي في جملتها النشاط الاقتصادي القائم على تبادل السلع والمنتجات بالبيع والشراء والشركة وغيرها من التصرفات والعقود والصناعة وهي إعداد وصنع ما يحتاج إليه الإنسان في جميع شؤون حياته، وقد يشمل النشاط الصناعي الزراعة والتجارة معاً وهناك مصادر أخرى لكسب المال غير ما ذكرنا وهي مباحة في الشرع كالمواريث والوصايا والهبات والصدقات.
وكل هذه الأموال حلال كسبها ونقلها والاستفادة منها وجني ربح من ورائها فالشريعة الإسلامية لا تضيق في طرق كسب المال والانتفاع به ولذلك فلا عذر لأحد في ابتغاء المال الحرام وهذا ما عُني به الشارع فحرمه وعاتب على العديد من صوره وهو ما نشير إليه في تحريم الشارع لبعض أنواع المال ولبعض الأنشطة التي تؤدي إلى الكسب الحرام، ومن ذلك:
أ ـ المسكرات والمخدرات، بكل صورها وأنواعها وألوانها وقليلها وكثيرها، وفي الحديث الشريف: لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخمر عشرة
( عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وأكل ثمنها والمشترى لها والمشتراة له) الترمذي 3/589 رقم 1295 وقال حديث غريب، ابن ماجه2/1122 رقم 3381 .
وبين ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن كل مسكر خمر وكل مسكر حرام. مسلم 3/1587 رقم 2002.
وصرح بأن ما أسكر كثيره فقليله حرام. المستدرك على الصحيحين(33/42)
3/466 رقم 5748، أبو دواد 3/327 رقم 3681 ، صحيح ابن حيان 12/202 سنن ابن ماجه 2/1124 ح 3192 والترمذي 4/292 .
كما حرم الإسلام بيع كل ما تخمر ولو لم يكن بالصنعة وحرم بيعها
أو الاتجار فيها ولو لغير المسلمين، وفي الحديث الشريف (أن الذي حرم شربها حرم ثمنها) صحيح مسلم 3/1206 .
بل إن الصحابي الجليل أبا طلحة رضى الله عنه قال: يا رسول الله إني اشتريت خمراً لأيتام في حجري فقال: أهرق الخمر وكسّر الدنان. سنن الترمذي
3/588 ح 1293 ، سنن الدار قطني 4/265 المعجم الكبير 5/99 .
وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤدب بنفسه كل من يتاجر في الخمر، وذلك بإضاعة رؤوس أموالهم عليهم، عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: (أمرني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن آتيه بمدية ـ وهي الشفرة ـ فأتيته بها فأرسل بها فأهرق بها ثم أعطانيها وقال اغد علىّ بها ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته) مسند أحمد 2/132 رقم 6165 .
ب ـ مهر البغي ـ والتعبير بمهر فيه تجاوز والبغي هي الزانية, والمراد ما يدفع من مال مقابل الزنا وهو ما يسرى على بيوت الدعارة والتجارة في الأعراض الآن، وفي الحديث( نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مهر البغي وحلوان الكاهن) صحيح البخاري 5/2045 ح 5031 في صحيح مسلم 3/1199
ح 1568.
ج ـ السرقة، وقد حرمها الإسلام وقدر عليها عقوبة ردعاً وزجراً ويكفي أن السارق يمكن أن يفقد أطرافه وتصل العقوبة إلى حد الإعدام تعزيراً، إذا استمر في السرقة، قال تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله } آية 38 المائدة .(33/43)
د ـ قطع الطريق، وهو ما يعرف بالحرابة في الإسلام، ويمكن إدراج عصابات المافيا تحت هذا المعنى لأن المحاربين مفسدون في الأرض، وعصابات المافيا كذلك قال تعال: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف
أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } آية 33 المائدة.
هـ ـ الغلول، وهو السرقة من المال العام قبل تقسيمه في الغنائم، ويلحق به الآن السرقة من المال العام اعتماداً على المنصب أو الموقع أو المعارف، وعقوبة ذلك واضحة في الدنيا برد المال والتعزير، وفي الآخرة إن لم يتب فله الخزي يوم الحساب { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } آية 161 آل عمران.
و ـ ... الربا، وهو من مصادر الكسب الحرام، ونصوص التحريم فيه واضحة في القرآن والسنة والخروج من ذنبه واضح كذلك، قال تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } آية 275 البقرة.
... ولعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. مسلم 3/1218 رقم 1597، 1598.
ز ـ ... الاختلاس، والرسول ـ صلى الله عليه سلم ـ قد نفى الإيمان عن فاعله، وفي الحديث ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) مسلم 1/76 رقم 57. والنهبة هي الاختلاس لكثير المال الذي إن سمع الناس به انبهروا .(33/44)
ح ـ ... الاحتكار، وهو ما يعرف بالسوق السوداء الآن، وهو أمر تعارف عليه التجار عبر التاريخ ولا يزال حتى يومنا هذا مصدراً للكسب، حيث الاعتماد على شراء السلع وتخزينها حتى تندر أو تنقطع من السوق فتباع بأسعار مضاعفة، ويلحق بذلك تجارة الدواء والسلاح وعصابات تهريب الممنوعات، وقد نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك في أحاديث شتى منها، قوله عليه السلام (المحتكر ملعون) المستدرك 2/14 رقم 216 .
... ( لا يحتكر إلا خاطئ) مسلم 3/1228 رقم 1605 .
... ( من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلبه عليهم فإن حقاً على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة) مسند أحمد ح 20413
ط ـ ... الرشوة، وهي من أهم مصادر غسل الأموال الذائعة والشائعة، وقد نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، وفي الحديث (لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الراشي والمرتشي) صحيح ابن حيان 11/467 سنن أبي دواد 3/300 سنن ابن ماجه 2/775 .
الخلاصة :
... إن عمليات غسل الأموال بلغة العصر والكسب الحرام بلغة الشرع فيه خروج عن قيم الإسلام ومبادئه، بل فيه مصادمة للشرع من حيث انتهاك حرمة الضرورات الست (46) وبيان ذلك ـ مختصراً ـ كما يلي:
تعد عمليات غسل الأموال مخالفة للدين في حلاله وحرامه، حيث تحليل الحرام وتحريم الحلال لاعتبارات يرونها دون سند دين أو قانون، فضلاً عن كون هذا التصرف ضاراً بدين المتصرف نفسه، حيث أنه لا يراقب ربه ولا يخشى غده.
كثيراً ما تؤدي عمليات غسل الأموال من حيث المصدر إلى قتل النفس التي أمر الله بحفظها، وليس أدل على هذا من أن ظاهرة الاتجار في الأعضاء البشرية قد نمت في الغرب وقطع الغيار الإنساني متوفرة في مستشفيات الغرب عن طريق العصابات وتجار قطع الغيار البشري.(33/45)
ظهرت في الآونة الأخيرة التجارة في الرقيق الأبيض مع التركيز على الأطفال بالدرجة الأولى، وقد ذكرت التقارير أن الأطفال المختطفين من يوغسلافيا السابقة بلغوا حداً في الكثرة يبعث الشعور بالمرارة والحزن ، ومثل ذلك أطفال أفريقيا ولبنان وغيرهما وهو ما يعد إضراراً برجال المستقبل، وهناك ظواهر بيع الأبناء في بعض الدول الفقيرة لهذه العصابات، مثل كمبوديا ولأوس.
تضر عمليات غسل الأموال بالعقل لأن منشأها كان الاتجار بالمخدرات، ولا يخفى ما للمخدرات من آثار على العقل.
كما أن ضررها على المال العام والخاص لا يخفى على أحد، إن عمليات غسل الأموال قد هزت اقتصاد بعض الدول، كما حدث في جنوب شرق آسيا كما أغلقت البنوك بسبب هذه العمليات، وأعلنت إفلاسها ـ بنك الاعتماد والتجارة الدولي ـ وكم أعلنت شركات إفلاسها بعد المضاربة في البورصات التي اخترقتها عصابات غسل الأموال.
إن تحريم وتجريم هذا السلوك لم يعد يفتقر إلى دليل بعد ما ورد إثباته من آيات قرآنية وأحاديث نبوية.
الخروج من المال الحرام:
... جمهور الفقهاء على أن التكاليف الشرعية لا تقع ولا تقبل من مالكي الحرام إذا كان له دخل في العبادة كالزكاة والصدقة والحج ويبقى السؤال:
لو أراد غاسل الأموال أن ينجي نفسه ويطهر ماله فماذا يفعل؟ إنه لا سبيل للنجاة إلا برد الأموال إلى أصحابها إذا كانت مسروقة أو مغصوبة أو مختلسة من أشخاص، وأما المال الحرام مجهول المصدر أو من التجارة الحرام أو السرقة من المال العام
أو الرشوة، فكل ذلك يرد إلى المال العام بالتبرع للمستشفيات والمدارس والمعاهد والجامعات لا على أنه زكاة أو صدقة أو هبة بل مال يرغب صاحبه في التخلص منه، ولا يجوز إتلافه حتى لا يأثم به فاعله، ولا يجوز تركه للورثة لأنه حرام وملكيته فيها شبهة فوجب التخلص منه، وسنورد بعض التوصيات التي قد تفيد في هذا المجال على المستوى الفردي والاجتماعي .
توصيات مقترحة :(33/46)
لقد دلت جميع الأبحاث التي تقدم في المؤتمرات التي تعقد لمواجهة ظاهرة غسيل الأموال على أنه كلما انفتحت أبواب الكسب الحرام زادت حركة غسيل الأموال انتشارا وأصبحت الآن تتخطى الحدود من بلد إلى أخر تبعاً لانتشار المعاملات الدولية وسهولة انتقال الأموال ولذلك فإن مواجهة أي ظاهرة إجرامية تضر بأمن المجتمع أو اقتصاده يبدأ من الوقاية وسد الطريق أمامها فإذا أفلتت حالات معينة لم تصبح المشكلة ظاهرة ومنتشرة كما هي الآن تستدعي تدخل الدول بالتشريع أو الاتفاقات الدولية.
ويقتضي الأمر في مواجهة هذه الظاهرة التي تحاول إخفاء جريمة بجريمة أخرى هي غسيل المال الذي نتج عن الأولى ـ أن تتخذ الدول المعنية إجراءات معينة بعضها يدخل في باب الوقاية والآخر من قبيل العلاج.
أولاً: على الدول أن تبذل جهداً أكبر في إصلاح أجهزتها الإدارية والمالية والمصرفية ذلك أن المال الحرام يكتسب كثيراً عن طريق الفساد الإداري والمالي فغسيل الأموال يتصل اتصالا وثيقاً بجرائم معروفة وتمارس منذ القدم مثل الرشوة والاختلاس والتزوير والاستيلاء على المال العام وجرائم الاتجار في المخدرات والمسكرات وغيرها مما هو محرم شرعاً وقانوناً ويساعد فساد الجهاز الأمني والإداري في الحصول على أموال طائلة من جراء هذه الأنشطة الإجرامية ولذلك فإن إغلاق هذه الأبواب وسد الطرق أمام التكسب منها يقي من انتشار ظاهرة غسيل الأموال.
كما ينبغي أن تكون مراقبة المؤسسات المالية (المصارف والبيوت المالية ومؤسسات نقل وتحويل الأموال) بطريقة فعالة ولا يصح أن نتمسك بمبدأ سرية الحسابات تمسكاً شديداً إزاء مبالغ طائلة لا يعرف لها مصدر أو يكون مصدرها مشكوكاً فيه وقد بدأت البلاد الغربية وحتى في أمريكا بعد أحداث 23جمادى الآخرة 1422هـ 11سبتمبر2001م، في مراقبة حسابات بعض من يشتبه فيهم في جرائم الإرهاب ولا شك أن حماية المجتمع أولى من التمسك بسرية حسابات أفراد قلائل يعيشون فيه.(33/47)
ثانياً: لا ريب أن النظم السياسية تتخذ مواقف معينة ومحددة إزاء النشاط الاقتصادي الخاص تبعاً لما يسود هذه الدول من أفكار ونظريات سياسية واقتصادية ومع أننا لا ننادي بأن تحتكر الدول أو تسيطر على النشاط الاقتصادي إلا أننا مع إشراف الدولة على مجمل النشاط الخاص التجاري والصناعي والزراعي بحيث تحفظ مصالح المجموع فلا يواجه المجتمع الاستغلال في التجارة أو الاحتكار
أو الزيادة في نشاط لا يفيد مجموع الناس ويكون وسيلة لكسب المال الحرام (مثل كل وسائل وأنشطة الترفيه غير المشروعة أو غير الأخلاقية فهذه الأنشطة أقرب إلى تحصيل الحرام أصلاً وهي من بين الجهات التي تضطر لإخفاء مكاسبها الفاحشة أو غير المشروعة عن طريق غسيل الأموال ولا يعد ذلك تدخلاً سافراً أو غير مبرر في النشاط الاقتصادي الخاص ولكنه في الحقيقة حماية للناس والمجتمع من تضخم أنشطة غير مفيدة وفتح لأبواب الكسب المبالغ فيه لأفراد قلائل.
ثالثاً: أن تضع الدول باتفاقات فيما بينها ضوابط وشروط لتحويل الأموال
أو تغيير النشاط إذا كان الأمر يتعلق بمبالغ طائلة تنتقل بين المؤسسات المالية.
رابعاً: أن تكون المصادرة هي العقوبة الأولى لكل المبالغ التي يشتبه في أنها مبالغ هاربة من مصدرها غير المشروع حتى في غير البلد الذي تدخله هذه الأموال ودونت بعد سماع صاحب المال الحقيقي وراء عمليات غسيل الأموال.
خامساً: أن تهتم الأجهزة الأمنية في كل دولة بأنواع من الجرائم عرف الآن على وجه التأكيد أنها مصدر لكسب أموال طائلة من ورائها ومن هذه الجرائم كما دلت الأبحاث ـ جرائم لاتجار المخدرات والاتجار في الرقيق الأبيض وكل الأعمال المشينة وبذلك يمكن الحد من جرائم غسيل الأموال التي تأتي بعدها كوسيلة للهروب بهذه المكاسب من دولة المنشأ إلى دولة أخرى.(33/48)
... وبعد فإن الضرورة قد فرضت الاكتفاء بهذه العجالة، وإن كان في فكر وفقه المسلمين الشيء الكثير، ولكني أكتفي بهذا القدر سائلاً الله أن ينفع به كل من قرأه وسمعه والله ولي التوفيق والحمد الله رب العالمين.
الهوامش
صلاح الدين السيسي: قضايا اقتصادية معاصرة، توزيع مؤسسة الاتحاد الوطني 1998م.
د. هدى قشقوش: جريمة غسيل الأموال في نطاق التعاون الدولي، دار النهضة،
ص9ـ 17 .
د. أشرف شمس الدين : تجريم غسيل الأموال في التشريعات المقارنة،
دار النهضة، ط 2001م.
دراسة عن عمليات غسل الأموال، مقدمة من شبكة مكافحة الجرائم المالية بوزارة الخزانة الأمريكية إلى ندوة الرياض عن الجرائم الاقتصادية (غسيل الأموال تزييف العملات ، الاحتيال المصرفي) تنظيم مؤسسة النقد ومؤسسة التعاون ومجموعة العمل المالي الدول، الناشر: المعهد المصرفي بالرياض، أكتوبر 1993م.
جون كاسار: عمليات غسيل الأموال الدولية، بحث مقدم إلى ندوة الرياض.
د.يحيى الدين عوض: تحديد الأموال القذرة ومدلول غسيلها وصور عملياته، ص7 .
المرجع السابق ص8 .
غسيل الأموال.
المرجع السابق ص140 .
د.صلاح جودة: غسيل الأموال، ص25 .
د.عبدالرزاق الزهراني، مجلة البحوث الأمنية، العدد23 مجلد11، ص21 .
المرجع السابق ص22 بتصرف.
أوراق لم تنشر عن غسل الأموال / لواء عصام الترساوي ، مكتبة الإدارة العامة.
د. محسن الخضيري: غسيل الأموال، مجموعة النيل العربية، ط 1، ص5.
د. صلاح جودة: غسيل الأموال، ص31 ـ 36 بتصرف.
مصطفى طاهر: مراحل غسيل الأموال، من كتاب المواجهة التشريعية لظاهرة غسل الأموال، ط 1 سنة2002م.
(*) لعل الأنسب استخدام كلمة "الطرق" بدلاً عن كلمة "المراحل.
غسيل الأموال، ص27.
محيى الدين علم الدين: مجلة الأهرام الاقتصادية، العدد 1753 بتصرف .
دراسة عن عمليات غسيل الأموال، مقدمة من شبكة مكافحة الجرائم المالية بوزارة الخزانة الأمريكية، ندوة الرياض1993م.(33/49)
جون كاسارا ـ عمليات غسل الأموال الدولية، ندوة الرياض.
د.هدى قشقوش، مرجع سابق، ص54.
بحث للدكتور نائل عبدالرحمن صالح ، ندوة الجريمة المنظمة عبر الحدود العربية القاهرة نوفمبر 1998م.
الإجرام المنظم وغسيل الأموال ، لواء عمر حسن عدس ، مجلة بحوث الشرطة، العدد التاسع يناير 1996م.
سيدريك وود هول ـ وحدة الاستخبارات المالية بالمملكة المتحدة ـ من بحثه "أساليب التعامل مع أنشطة غسل الأموال في المملكة المتحدة، ندوة الرياض 1993م.
كرستيان أيدلمان ـ الرئيس المساعد لإدارة البنوك بوزارة المالية الألمانية، من ورقة عمل بعنوان: إجراءات مكافحة غسيل الأموال في ألمانيا، ندوة الرياض.
د.حمدي عبدالعظيم ـ عميد أكاديمية العلوم الإدارية بطنطا ـ جريمة غسيل الأموال في مصر والعالم، القاهرة 1997م.
من تقرير عن المشروع المصري لقانون غسيل الأموال.
عبدالحليم المحجوب: إشكالية التعريف للإرهاب والجريمة المنظمة والأمن القومي ـ القاهرة ، في كراسات استراتيجية جليجية " الإرهاب وعلاقته بالجريمة المنظمة والمخدرات وانعكاساتها على الأمن القومي" مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية ـ 8/4/1997م، ص 5 ـ نقلاً عن د. عادل عبدالجواد الكردوس، دراسة غير منشورة بعنوان: حجم غسل أموال المخدرات في المجتمع المصري، مؤتمر المخدرات مشكلة اقتصادية، جامعة الأزهر ـ 6 ، 7مايو2003م.
صلاح جودة، مرجع سابق، ص165ـ 166 .
المرجع السابق، ص163 ـ 165 .
الأهرام الاقتصادي ، العدد 42166 بتاريخ 18/5/2002م، الجريدة.
نادية يوسف ـ الأهرام، العدد 42345 بتاريخ 13/11/2002م.
دراسة من عمليات غسيل الأموال: شبكة مكافحة الجرائم المالية بوزارة الخزانة الأمريكية، ندوة الرياض.
وانظر: ريتشارد سول: حملة مكافحة غسل الأموال والجرائم الاقتصادية، ندوة الرياض.
وراجع:د.أشرف شمس الدين: تجريم غسيل الأموال في التشريعات المقارنة،
ط دارة النهضة العربية، مصر 2001م.(33/50)
د.محسن الخضيري ـ غسيل الأموال، ص69 ـ 71 .
أحمد بن صالح العثيم: مقال في السياسة الكويتية، عدد 11913 بتاريخ
25/1/2002م.
غسيل الأموال، ص76 بتصرف.
د.هدى قشقوش ـ جريمة غسيل الأموال في نطاق التعاون الدولي، دار النهضة العربية، القاهرة 2002م.
أقرأ تفاصيل بنود اتفاقية فيينا في غسيل الأموال. محسن خضير،
ص181 ـ 189 .
يمكن قراءته كاملاً في البحث القيم للدكتور محسن أحمد خضير بعنوان: غسيل الأموال، (الظاهرة ـ الأسباب ـ العلاج)، من صفحة 194
إلى 202(37) ، ومجلة العالم اليوم، مقال كتبه مصطفى عبدالسلام عدد رقم 91 بتاريخ 10/3/2002م غسيل الأموال، ونشير أيضاً في هذا الصدد إلى القانون رقم (80) لعام 2002م، في الموضوع ذاته.
جون إيليس ـ مدير قسم السياسة البنكية، بنك أوف أنجلاند، نظام تقييم التقدم في تنفيذ توصيات مجموعة العمل المالي الدوليةFATF، ندوة الرياض 1993م.
د. عبدالله الملا ـ ورقة عمل مقدمة باسم الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي إلى ندوة الرياض عن الجرائم الاقتصادية 1993م.
مشيل كوبر.مدير التحقيقات بجهاز (تراكفين) بوزارة المالية الفرنسية ـ سياسة فرنسا وتطبيقاتها إزاء عملية غسيل الأموال، ندوة الرياض 1993م .
مجلة الحوادث، عدد 2364 بتاريخ 22/2/2002م، ومجلة الأهرام الاقتصادي، العدد 1741 بتاريخ20/5/2002م مقال كتبه.عبدالعزيز محمود.
هي لجنة الفيتاف انعقدت في أبريل عام 1990م، وأصدرت تقريرها الأول الذي ضم أربعين توصية، يمكن على ضوئها اتخاذ الإجراءات المضادة لعملية غسل الأموال ، مجلة البحوث الأمنية، ص45 .
حفظ الدين ، حفظ النفس ، حفظ العرض ، حفظ النسل ، حفظ العقل ، حفظ المال.
راجع: التوصيات الأربعون لحملة غسل الأموال.
مصطفى عبدالسلام. العالم اليوم، مقال بالعدد 91 بتاريخ 10/3/2002م، مكتبة الأهرام للبحث العلمي.
المرجع السابق.
د.صلاح جودة، ص113 ـ 114 .(33/51)
مصطفى عبدالسلام. العالم اليوم، مقال بالعدد 91 بتاريخ 10/3/2002م. مكتبة الأهرام للبحث العلمي من 77 ـ 81 .
... ...(33/52)
غسل الأموال
دكتور / محمد نبيل غنايم
أستاذ ورئيس قسم الشريعة الاسلامية
بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة – مصر
)طبعة تمهيدية)
ملخص البحث
هذا البحث عن "غسل الأموال" وهو أحد موضوعات المحور الثانى من محاور المؤتمر العالمى الثالث للاقتصاد الإسلامي الذى تنظمه كلية الشريعة والدراسات الاسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة خلال شهر المحرم 1424هـ .
ويقع البحث في خمسة مباحث، تناول المبحث الأول بيان معانى الألفاظ : غسل– أموال – غسل الأموال . وانتهى الى أن المصطلح الحديث الشائع اليوم في مجال الاقتصاد لا يمت إلى المعنى الحقيقى للغسل، بل إنه جريمة مركبة ذات أبعاد وآثار اقتصادية واجتماعية خطيرة جعلت العالم كله يسعى الى مكافحتها والقضاء عليها .
أما المبحث الثانى فيتحدث عن الأموال الحلال وطرق الكسب المشروعة ويتحدث المبحث الثالث عن الأموال الحرام وطرق الكسب غير المشروعة ويتحدث المبحث الرابع عن الغسل الشرعى للاموال بنوعيها وذلك ببيان كيفية التطهير المطلوب في المال الحلال عن طريق إخراج الزكاة والنفقة الواجبة والكفارة وغير ذلك، وكيفية التطهير المطلوب في المال الحرام إما بالتخلص منه كلية او من الجزء المحرم فيه، أو برد الحقوق الى أصحابها … وهكذا، أما المبحث الخامس فعن الغسل غير الشرعى للأموال الحرام وهو بيت القصيد وجوهر هذا البحث لأنه تصدى لهذه الظاهرة وبين خطورتها وحجم انتشارها وما نشأ عنها من فساد، ثم تحدث عن الجهود المحلية والعالمية لمكافحتها والقضاء عليها وأخذ من جهود مصر وما سنته من قانون لذلك نموذجا ومثالا، ولم يغفل الجهود الدولية الأخرى في هذا الصدد.(34/1)
وانتهى البحث الى ان مصطلح " غسل الأموال " حق يراد به باطل وأنه لا يعنى الغسل الشرعى الصحيح والواجب بل يعنى جريمة مركبة من عدة جرائم لا تمت الى الغسل بصلة بل تقوم على قذارة واضحة، وناشد البحث أولياء الامر أن يصادروا تلك الأموال ويعزروا أصحابها بما يستحقون من العقاب.
مقدمة :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد،،،
فيسعدنى أن أتقدم بهذا البحث في موضوع "غسل الأموال" للمشاركة في أعمال المؤتمر العالمى الثالث للاقتصاد الإسلامي الذى تنظمه كلية الشريعة والدراسات الاسلامية بجامعة أم القرى خلال شهر المحرم 1424هـ- مارس 2003م.
ويتكون هذا البحث من خمسة مباحث :
المبحث الأول : في تحديد المصطلحات : غسل، أموال، غسل الأموال.
المبحث الثانى : الأموال الحلال وأنواعها.
المبحث الثالث : الأموال الحرام وأنواعها.
المبحث الرابع : غسل الأموال الشرعى.
المبحث الخامس : غسل الأموال غير الشرعى.
ثم الهوامش، وفهرس المراجع.
ونظرا لحداثة الموضوع وقلة مصادره كان لا بد من إلقاء الضوء على جميع الجوانب من خلال المراجع العامة والدوريات اليومية.(34/2)
تناولت في المبحث الأول تعريف الغسل وتعريف الأموال، وتعريف المركب "غسل الأموال" من خلال المعاجم وكتب التفسير والفقه، وغسل الأموال كمصطلح حديث له معنى مجازى . وفى المبحث الثانى بينت الأموال المشروعة وأسباب التملك والعمل المشروع من خلال كتب التفسير والفقه، أما المبحث الثالث فتناولت فيه الأموال الحرام وأنواعها وأسباب تحريمها وما يتفرع عنها وأفدنا في ذلك من بعض المراجع الحديثة مع المراجع القديمة، وفى المبحث الرابع تحدثنا عن الغسل الشرعى للاموال بنوعيها الحلال والحرام وكيف يكون ذلك في كل منهما، أما المبحث الأخير الخامس فتناولت فيه الغسل غير الشرعى للاموال الحرام وهو المراد هذه الأيام وهو الجريمة الاقتصادية التي نحن بصددها وقد بينت في هذا المبحث مدى خطورة وحجم هذه الجريمة والجهود الدولية والمحلية لتجريمها ومكافحتها وفيه اعتمدت على الدوريات .
أرجو أن أكون قد وفقت والله من وراء القصد.
- - -
المبحث الأول
تحديد المصطلحات : الغسل – الأموال – غسل الأموال
يعتبر مصطلح " غسل الأموال " من المصطلحات الاقتصادية حيث لم يعرف ولم يتداول ولم يتنبه له الا منذ سنوات معدودة حيث بدأت إجراءات المراقبة والتجريم والمصادرة وتكوين إدارات خاصة بتتبع ذلك وهكذا .(34/3)
يقول الدكتور محمد عبد الحليم عمر : وفى هذه الأيام زادت ظاهرة الكسب والصرف غير المشروعين سواء من حيث عدم المشروعية الدينية او عدم المشروعية القانونية، وظهر ما يعرف في المجال الاقتصادى بالاقتصاد الخفى او الاقتصاديات السوداء او اقتصاديات الظل والتي تنطوى في جزء كبير منها على كسب الأموال من مصادر غير مشروعة تضر بالاقتصاد القومى وبحقوق الآخرين، ونظرا لخوف هذه الفئة التي تكسب أموالا غير مشروعة من المساءلة القانونية، وخشيتهم من الناس ارتبط بظاهرة الاقتصاد غير المشروع عملية "غسل الأموال " والتي يعنى بها اجمالا العمل على محاولة الاخفاء والتعتيم على المصادر غير المشروعة للاموال باساليب عديدة ومتنوعة لتضليل الجهات الأمنية والرقابية وادخال هذه الأموال في دورة عمليات مشروعة ويظل يستفيد بها . (1)
ولما كان الامر بهذه الحداثة رأيت أن أبدأ بتأصيل المصطلحات لننطلق منها الى ما نحن بصدد بحثه وحتى يكون التحديد واضحا نعرف كل لفظ على حدة ثم نأخذ من ذلك المصطلح المركب ومعناه.(34/4)
وكلمة "غسل" وردت في القرآن الكريم ثلاث مرات هى قوله تعالى في الوضوء { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق … } (2) وقوله في الطهارة من الجنابة { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا } (3) وقوله تعالى لأيوب عليه السلام { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } (4) فهي تعنى الطهارة بالماء من الحدث الأصغر والأكبر كما تعنى إزالة النجاسة وتطهير الموضع الذى أصابته بالماء، ولذلك يعبر عن الغسل بالتطهير كقوله تعالى { وإن كنتم جنبا فاطهروا } (5) أي اغتسلوا، وقوله { وثيابك فطهر } (6) أي اغسله ونظفه من النجاسة، وقوله { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فآتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } (7) إلى غير ذلك من الآيات وهى كثيرة فكلمة "غسل" مصدر يدل على النظافة والطهارة .
تقول المعاجم : غسل الشيء يغسل غسلا : أزال عنه الوسخ ونظفه بالماء، ويقال : غسل الله حوبته : طهره من إثمه .. وغسل الأعضاء : بالغ في غسلها والميت: طهره ونقاه، واغتسل بالماء : غسل بدنه به، والغسل : تمام غسل الجسد كله، والمغتسل : مكان الاغتسال والماء الذى يغتسل به.."(8)
والأموال جمع مال، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم ستا وثمانين مرة مفردة وجمعا ومضافة فمن ذلك قوله تعالى { وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين } (9) وقوله { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال } (10) وقوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } (1) وقوله { شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا } (12) وقوله { والذين في أموالهم حق للسائل والمحروم } (13) إلى غير ذلك من الآيات وهى في جميع المواضع تعنى ما يمتلكه الإنسان ويتموله ويتبادله مع غيره عينا أو نقدا او منفعة .(34/5)
قالت المعاجم : مال يمول مولا ومؤولا : كثر ماله فهو مال، وهى ماله وفلانا اعطاه المال، موله : اتخذه قنية، والمال : كل ما يملكه الفرد او تملكه الجماعة من متاع او عروض تجارة او عقار او نقود او حيوان والجمع أموال، وقد أطلق في الجاهلية على الإبل، ويقال : رجل مال : ذو مال (14)، وليست المعانى الشرعية للغسل والمال بعيدة عن هذه المعانى اللغوية بل تكاد تتفق معها فالغسل في الشرع هو تعميم البدن والشعر بالماء مع النية كما جاء في قول ابن قدامة في الكافى والمغنى (15) وقول القرطبى على المغسول ولذلك فرقت العرب بين قولهم : غسلت الثوب وبين قولهم أفضت عليه الماء وغمسته في الماء، اذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء او ينغمس فيه ولا يتدلك فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه حتى يتدلك وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء : يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه اذا اسبغ وعم وان لم يتدلك (16) والاختلاف في الجنب لا يعنينا في هذا المقام إنما أردنا بيان حقيقة الغسل عند جمهور العلماء وهى الصحيحة المتفقة مع اللغة والنصوص الشرعية.
وكذلك المال قال القرطبى : ذهب بعض العرب وهم دوس الى ان المال الثياب والمتاع والعروض، ولا تسمى العين مالا، وقد جاء هذا المعنى في السنة الثابتة، من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلى عن أبى الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبى هريرة قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا الا الأموال الثياب والمتاع ..، وذهب غيرهم الى ان المال الصامت من الذهب والفضة وقيل : الإبل خاصة، ومنه قولهم : المال الإبل، وقيل جميع الماشية، وذكر ابن الانبارى عن احمد بن يحيى ثعلب النحوى قال : ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال وأنشد :
والله ما بلغت لى قط ماشية ... حد الزكاة ولا إبل ولا مال(34/6)
قال أبو عمر : والمعروف من كلام العرب ان كل ما تمول وتملك هو مال لقوله - صلى الله عليه وسلم - " يقول ابن آدم مالى مالى، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى او لبس فأبلى أو تصدق فأمضى" وقال أبو قتادة : فأعطانى الدرع فابتعت به مخرفا – بضع نخلات – في بنى سلمة، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام، فمن حلف بصدقة ماله كله فذلك على كل نوع من ماله سواء كان مما تجب فيه الزكاة أو لم يكن الا ان ينوى شيئا بعينه فيكون على ما نواه، وقد قيل : إن ذلك على أموال الزكاة، والعلم محيط واللسان شاهد بأن ما تملك يسمى مالا والله أعلم (17) وهذا الذى قاله القرطبى في النهاية هو الصحيح فالمال هو كل ما يتملكه الإنسان من ذهب أو فضه او زروع او حيوان او منافع او عروض تجارة الى غير ذلك من الأنواع.(34/7)
نأتي بعد هذين التعريفين لكل من : الغسل، والأموال للتعريف باللفظ المركب منهما فيكون غسل الأموال هو تطهيرها من كل قذارة ونجاسة، وتلك هى الطهارة الحسية، وتكون بإزالة النجاسات كالروث والدم ونحوها من الممتلكات كالثياب والمكان ونحوها، كما يتم تطهيرها حسيا باستبعاد ما هو محرم منها كفوائد البنوك والرشوة والغصب والسرقة ونحو ذلك من الميتة والخنزير ويتم تطهيرها معنويا وحسيا باخراج نصيب الفقراء والمساكين منها بأداء الزكاة المفروضة وما سواها من حقوق، فان كان المراد بغسل الأموال تلك الطهارات الحسية والمعنوية فهي إرادة صحيحة لأنها مطلوبة شرعا أما إن كان المراد بها تحويل الأموال القذرة من الكسب غير المشروع بأي وسيلة محرمة تبدو في ظاهرها مشروعة كالمصانع والعقارات والاراضى الزراعية لايهام الناس والمسئولين أنها مصادر شرعية وكسب مشروع واخفاء حقيقتها القذرة ومصادرها الخبيثة من مخدرات وغيرها فذلك كذب وبهتان وزور ونفاق يبقى على حقيقته كسبا خبيثا ويضيف الى ذلك تلك الإجراءات الكاذبة والتمويهات الباطلة من عمليات التحويل والبيع والشراء فتضيف الى القذارة قذارة والى الأموال النجسة عمليات وإجراءات لا تقل عنها نجاسة، فأين يكون الغسل والتطهير حينئذ ؟! إنه أبعد ما يكون عن ذلك وهذا المعنى الثانى وللأسف الشديد هو المعنى المراد في هذه الأيام في نظر الاقتصاديين فمصطلح "غسل الأموال" يطلق الان على ما يسمى بالاقتصاد الخفى والاقتصاديات السوداء او اقتصاديات الظل التي تنطوى في جزء كبير منها على كسب الأموال من مصادر غير مشروعة، ولخوف أصحابها من المساءلة القانونية وخشيتهم من الناس فانهم يلجأون بعد كسبها في غفلة من القانون او تواطؤ من القائمين عليه او في بلد اخر الى تحويل هذه الثروة غير المشروعة الى ثروة تبدو في ظاهرها مشروعة كشراء أراض زراعية او بناء عقارات او إنشاء مصانع او ايداعات في البنوك او مشاركة الآخرين، وفى(34/8)
ذلك قال الدكتور محمد عبد الحليم عمر " ارتبط بظاهرة الاقتصاد غير المشروع عملية غسل الأموال والتي يعنى بها اجمالا العمل على محاولة إخفاء والتعتيم على المصادر غير المشروعة للأموال بأساليب عديدة ومتنوعة لتضليل الجهات الأمنية والرقابية ‘ وإدخال هذه الأموال في دورة عمليات مشروعة ويظل يستفيد بها " (18) ومن هذا يتبين ان مصطلح غسل الأموال " مصطلح مجازى" تم فيه تشبيه الأموال القذرة بالجنب او الشئ النجس ثم حذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو الغسل بالماء بقصد الطهارة والتطهير، وهذا المجاز في غير محله لأنه اذا صح في حال رد الحقوق الى أصحابها وأداء الزكاة وإزالة النجاسات فانه لا يصح في عمليات النصب والكذب والخداع التي ظاهرها الغسل والتطهير وحقيقتها المزيد من القذارة والنجاسة بالكذب والخداع وإجراء العمليات المشروعة ظاهرا.
بهذا يكون قد تبين لنا حقيقة مصطلح " غسل الأموال " والمراد منه في الاقتصاد وهذا يقتضى أن نقوم ببيان الأموال المشروعة بإيجاز والأموال غير المشروعة وكيفية تطهير كل منهما بالصورة الشرعية لنحكم بعد ذلك على عملية غسل الأموال الحديثة الحكم الشرعى الصحيح . وهذا ما يتبين في المباحث التالية.
- - -
المبحث الثاني
الأموال المشروعة (الحلال) وأنواعها(34/9)
فطر الله تعالى الإنسان على حب المال وجعله سبحانه وتعالى زينة الحياة الدنيا وأمر الله تعالى بالمحافظة عليه وجعل ذلك من الكليات والضروريات الخمسة قال تعالى { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } (19) وقال { وتحبون المال حبا جما } (20) وقال { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } (21) وجعل المال أساسا وقياما للحياة لا يجوز العبث به او إتلافه أو اعطاؤه للسفهاء فقال { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا } (22) وأمر سبحانه من يعتدى على مال الغير بالاتلاف أن يضمن ما أتلفه وبالقطع على من يسرق قال تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزءا بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم } (23) والنصوص كثيرة في بيان قيمة المال وأهميته وحرمته والاعتدال في انفاقه بلا إسراف ولا تقتير كما قال تعالى(34/10)
{ ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا … ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } (24) إلى غير ذلك . ولما كان الإنسان مفطورا على حب المال فقد يسر الله تعالى له أسباب كسبه ونبهه إليها، وحثه على السعى فيها وعدم تجاوزها وحذره من غيرها وحرمها عليه وتوعده على تحصيلها بالعقاب في الدنيا والاخرة قال تعالى { هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } (25) فالاسلام يأمر الإنسان بكسب المال عن طريق السعى في الأرض والعمل الجالب للكسب، ويبيح له بالتالى تملك المال والاستمتاع به، على أن يكون ذلك كله بالطرق المشروعة التي ترضى الله، وتكسب الإنسان ثواب الدنيا والاخرة (26). وحتى يتحقق ذلك ربط الله تعالى بين عبادته وكسب المال فقال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } (27) وقد يسر الله تعالى للإنسان أسباب الكسب الحلال والتملك المشروع وبسطها بين يديه وهى تحقق للإنسان الاكتفاء والغنى فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :(34/11)
1- جميع الاعمال الزراعية ما عدا النباتات المحرمة كالأفيون أو البانجو أو القات أو الدخان، وقد حث الإسلام على ذلك النشاط ورغب فيه وامتن الله على عباده بتيسيره فقال سبحانه { وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا } (28) وقال { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم } (29) وقال { وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } (30) وقال { وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } (31) وقال { وهو الذى مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفى الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } (32) ويقول سبحانه { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون } (33) إلى غير ذلك من الآيات وهى كثيرة ومن الأحاديث قول النبى - صلى الله عليه وسلم - " إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها " (34) وقوله " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو حيوان أو طير أو بهيمة إلا كان له به أجر" (34) إلى غير ذلك من الأحاديث التي ترغب في هذا العمل وتحث عليه لما فيه من تحقيق الاكتفاء والتعرف على آيات الله وقدرته ثم شكره وعبادته، وقد عرفت(34/12)
الزراعة منذ نشأة الخليقة فكان النبات أولا ثم كان الحيوان كما استنبط ذلك بعض العلماء من قوله تعالى { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة } (35) وتعتبر الزراعة أساسا لجميع الموارد الاقتصادية الأخرى من تجارة وصناعة وحرف ولذلك قال الله تعالى { ولقد مكانكم في الأرض وجعلناكم فيها معايش قليلا ما تشكرون } (36) قال القرطبى : أى جعلناها لكم قرارا ومهادا، وهيأنا لكم فيها أسباب المعيشة، والمعايش جمع معيشة أي ما يتعيش به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة، يقال عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا ومعيشة وعيشة، وقال الزجاج : المعيشة ما يتوصل به إلى العيش" (37) .(34/13)
2- التجارة وهى النشاط الاقتصادى القائم على تبادل السلع والمنتجات والاثمان بالبيع والشراء والشركة والاجارة والحوالة والرهن وغير ذلك من المناشط، ويجب ان تقوم على التراضى بين الأطراف المتبادلة وألا يدخلها غش او غبن او اكراه قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (38) وقال { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } (39) وقال { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } (40) قال القرطبى : والتجارة هى البيع والشراء، … والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الأجر الذى يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن الاعمال الصالحة التي هى بعض من فعله، قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } (41) وقال تعالى { يرجون تجارة لن تبور } (42) وقال { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } (43) فسمى ذلك كله بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الاشرية والبياعات التي تحصل بها الأغراض، وهى نوعان: تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه اولو الأقدار، وزهد فيه ذوو الأخطار والثانى : تقلب المال بالاسفار ونقله الى الأمصار، فهذا اليق بأهل المروءة وأعم جدوى ومنفعة غير أنه أكثر خطرا وأعم غررا، وقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن المسافر وماله لعلى قلت – هلاك – إلا ما وقى الله يعنى على خطر، قال القرطبى قال الطبرى : ففى هذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول المتصوفة المنكرين طلب الاقوات بالتجارات والصناعات .. وقيل في التوراة : يا ابن آدم أحدث سفرا أحدث لك رزقا " ثم قال : اعلم أن(34/14)
كل معاوضة تجارة على أى وجه كان العوض إلا أن قوله " بالباطل " أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك، وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب، وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها، فهذان طرفان متفق عليهما .. (44) وفى فضل التجارة والحث عليها روى الدار قطنى عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة " وقال الرازى : التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضرا او في الذمة لطلب الربح يقال : تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر، واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة تجارة حاضرة فقوله تعالى { إلا أن تكون تجارة حاضرة } لا يمكن حمله على ظاهرة بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الأبدال، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يدا يبد"(45).(34/15)
3- الصناعة وهى وسيلة من وسائل الاقتصاد وكسب المال وتقوم على الزراعة والتجارة، فهي من جهة تحول المحاصيل الزراعية الى صناعات كثيرة وبخاصة القطن والكتان والذرة والمعلبات الغذائية والعصائر وغير ذلك كما تقوم على المعادن صناعات كثيرة، ثم يتم بيع هذه المنتجات تصديرا او استيرادا وتبادلا مما يحقق دخلا كبيرا وثروة عظيمة بل إن كثيرا من البلاد الفقيرة زراعيا استطاعت بالصناعة والتجارة ان تسبق كثيرا من البلاد الزراعية، كما أن كثيرا من البلاد غير الزراعية وغير الصناعية استطاعت بالوساطة التجارية أن تحقق عوائد كثيرة، والصناعة نشاط شرعى ذكره الله تعالى عن بعض الأمم السابقة والأنبياء فقد كان سيدنا نوح نجارا وقام بصناعة السفينة قال تعالى { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى في الذين ظلموا إنهم مغرقون. ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } (46) وقال عن قوم هود { أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } (47) وقال عن داود عليه السلام { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون } (48) وقال عنه أيضا { وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إنى بما تعملون بصير } (49) وقال عن سليمان { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهرا وأسلنا عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه عذاب السعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدروا راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادى الشكور } (50)(34/16)
4- وهناك مصادر أخرى للمال غير تلك المصادر العامة كالهبات والوصايا والميراث والدية وأروش الجنايات والصدقات والمهر والفئ والغنيمة يقول الرازى : واعلم أنه كما يحل المال المستفاد من التجارة، فقد يحل أيضا المال المستفاد من الهبة والوصية والإرث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات فإن أسباب الملك كثيرة سوى التجارة " (51)، وما دام المال حلالا حيث تم اكتسابه بالأساليب الشرعية فإنه يحقق الملكية لصاحبه تلك الملكية التي تعنى الاختصاص به والقدرة او حق التصرف فيه وعن هذا المعنى يقول الدكتور محمد بلتاجى : " شرع الإسلام الملكية الفردية – بشروطها – فأباح لكل فرد أن يتملك – بالأسباب المشروعة – ما يشاء من المنقولات والعقارات وأباح له استثمارها والانتفاع بها في نطاق الحدود التي رسمها وخوله حق الدفاع عنها كالدفاع عن النفس والعرض ولو بقتل الصائل عليها، وقد اعتبر الشارع المال من الكليات الخمس التي تقوم بها حياة الناس وشرع الحدود والعقوبات والزواجر للحفاظ عليها، ومن ثم جاء حد السرقة وحد الحرابة وجاءت النصوص المتعددة التي تنهى عن تعدى حدود الله، ومشروعية الملكية الفردية " بدهية لا تحتاج الى استدلال "(52) ثم قال عن أسباب هذه الملكية : يرى المرحوم الشيخ أحمد ابراهيم ان الإنسان يستفيد الملك وتثبت له حقوقه بالأسباب الآتية :
وضع اليد على الشئ المباح الذى لا مالك له.
العقود الناقلة للملك من مالك إلى آخر كالبيع والهبة والوصية.
الميراث ...
الشفعة وهى حلول الشريك أو الجار محل المشترى في ملكية العقار المبيع اذا طلب أحدهما ذلك، لكننا في هذا نلاحظ أن حصر أسباب الملكية الفردية في الأسباب السابقة يغفل أسبابا اخرى من أسباب الملك في الإسلام وهى العمل، والقتال، والجناية " (53) .(34/17)
وهو بهذا يشير الى ما سبق أن بيناه من النشاط الزراعى والتجارى والصناعى ثم ما ذكره الرازى من الهبة والوصية والميراث والدية وأرش الجناية والصدقة والمهر وما أضفناه من الفئ والغنيمة والسلب ووضع اليد على الشئ المباح كإحياء الموات والصيد . وهذا يقودنا إلى معرفة المقابل وهو المال الحرام وذلك في المبحث التالى.
المبحث الثالث
الأموال الحرام وأنواعها
وهى الأموال التي تكتسب او تحاز بطرق غير مشروعة وهى التي ورد النهى عنها، او ورد الحد على ارتكابها، او ورد وعيد شديد على حيازتها او سماها الله تعالى باطلا ويشمل جميع ما سبق فمما ورد النهى عنه دون الحد الربا، ومما ورد فيه الحد السرقة والحرابة، ومما ورد فيه الوعيد الشديد أكل أموال اليتامى ظلما وبيع الحر وأكل ثمنه وهكذا، ويمكن حصر هذه الأموال المحرمة في أصلين هما " أكل أموال الناس بالباطل " و " تعدى حدود الله في التصرفات المالية " أما الأول فقد أشار الرازى إليه اجمالا بقوله : " ذكروا في تفسير الباطل في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وجهتين : الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق … الثانى : ما روى عن ابن عباس والحسن رضى اله عنهم أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض … ويدخل تحته أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل .. أما أكل مال نفسه بالباطل فهو انفاقه في معاصى الله، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه .. " (54)(34/18)
وقال القرطبى في تفسير قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } (55) الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغى وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك … وقال قوم : المراد بالآية { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي في الملاهى والقيان والشرب والبطالة، ومن أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضى القاضى لك وأنت تعلم أنك مبطل فالحرام لا يصير حلا لا بقضاء القاضى لأنه إنما يقضى بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال .. ثم قال: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها .. قال ابن عطية : وهذا القول يترجح لأن الحكام فطنة الرشاء الا من عصم وهو الأقل …. وقد اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه " (56) وقد علق الدكتور محمد بلتاجى على ذلك بقوله : فالباطل إذن هو ما جاء بخلاف قواعد الشرع، وقد نبهت آية البقرة إلى حرمة الاستعانة على ذلك برشوة الحكام { وتدلوا بها إلى الحكام } أما آية النساء فقد استثنت من أكل المال بالباطل ما كان { تجارة عن تراض منكم } لكن التراضى على ما حرمته الشريعة لا يغير وصف الباطل عن المعاملة لمجموع ما سبق، وإذن فالتراضى المعتبر المقصود في هذه الآية إنما هو التراضى في نطاق ما أذن فيه الشرع كما يقول ابن رشد : تجارة لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار ولا حرمة، إذ إن التراضى بما فيه ذلك " لا يحل ولا يجوز " (57) ولا يعطيه المشروعية إذ لا مشروعية إلا من قبل المشرع، ويستدل الإمام الشافعى لذلك بقوله :(34/19)
قلما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع تراضى بها المتبايعان استدللنا على أن الله عز وجل أراد بما أحل من البيوع ما لم يدل على تحريمه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - دون ما حرم على لسانه، فأصل البيوع كلها مباح اذا كانت برضا المتبايعين الجائزى الامرى فيما تبايعا الا ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرم بأنه داخل في المعنى المنهى عنه، وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى " (58) ثم قال (59) : لقد نهت الشريعة عن ثمانية أمور رئيسية استتبع النهى عنها النهى عن أمور كثيرة تفصيلية تتصل بها وتؤدى إليها، أما الأمور الثمانية فهي : الربا، والغرر، والمقامرة، والغش، والغصب، والاحتكار، والرشوة، والتجارة في المواد المحرمة والضارة كالخمور والخنزير والميتة والأغذية الفاسدة، وثمن الكلب، ومهر البغى، ثمن الحر.. الخ، وأما الأمور التفصيلية المتصلة بها والمؤدية إليها فهي مثل : النهى عن التصرية (60)، وتلقى الركبان، والتناجش (61)، وبيع حاضر لباد، والبيع على بيع من سبقه، والمزابنة (62)، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع التمر بالثمر – مع الترخيص في العرايا (63)– والمنابذة (64)، والملامسة (65) وبيع الحصاة (66)، وبيع كالئ بكالئ (67) فجميع هذه المعاملات محرمة ومنهى عنها أصولا وفروعا أو إجمالا وتفصيلا وليس هذا محل عرضها بالتفصيل وبيان أسباب تحريمها وأدلته لذا نكتفى بالقاء الضوء عليها جملة . ولما كان الربا معروفا ننتقل إلى غيره . .(34/20)
فالغرر : ... ما فيه جهالة أو خديعة أو مخاطرة ويتدرج فيه بيع الملامسة، وبيع حبل الحبلة (68)، وبيع الحصاة، وعسب الفحل (69)، والمعاومة (70)، وبيع السنين، وبيع العربون (71) ونحو ذلك مما فيه غرر كبيعتين في بيعة، وبيع وشرط وبيع وسلف وعن بيع السنبل حتى يبيض، والعنب حتى يسود، وعن المضامين والملاقيح، وكل ذلك ورد النص بالنهى عنه فهو حرام، والمسائل المسكوت عنها مختلف فيها بين الفقهاء، قال النووى : النهى عن بيوع الغرر يشمل مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع المعدوم، والمجهول وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع والحمل في البطن، وثوب من أثواب، وشاه مبهمة من شياه " (72) .
والمقامرة : هى الميسر المنهى عنه بنص القرآن، وقد كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل أي يقامره على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه – أى غلبه ذهب بماله وأهله فنزلت أية النهى (73)، فكل معاملة يتحقق فيها معنى المقامرة أو المراهنة فهي حرام.
والغش : في كل صور المعاملات والتصرفات حرام فيدخل فيه كل محاولات إخفاء العيوب في المصنوعات والبضائع، كما يدخل فيه كل صور تزيينها واظهارها في وضع افضل من حقيقتها بالتدليس والخداع، وكل ما ينتج عن ذلك من أموال فهي حرام.
والغصب : استيلاء على مال الغير بغير حق، ففيه ظلم وقهر وتعد، وهو محرم بالكتاب والسنة والاجماع لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل.
والاحتكار : حبس ما يحتاجه الناس لإغلائه عليهم اضرارا بهم واستغلالا لحاجتهم واضطرارهم ففيه ظلم وسوء معاملة وشح وكل ذلك حرام وما ينتج عنه من مال ومكاسب فهو حرام وعلى ولى الأمر مقاومة ذلك ومصادرة هذه الأموال.(34/21)
والرشوة : قصد لأكل أموال الناس بالإثم كما جاء في الآية الكريمة، ولكنها تشمل أيضا الحصول على ما ليس بحق مالا أو غيره لعموم أحاديث النهى عنها دفعا وأخذا وتوسطا بينهما، فكل ما يتم بذلك أو ينتج عنه فهو حرام.
والتجارة في المواد المحرمة والضارة كالخمر والميتة والخنزير والاصنام، ومن ذلك سائر المخدرات الحديثة، وتجارة السلاح وتهريبه، وتجارة الأطفال والنساء والبغاء والسهرات الحمراء والرقص والتمثيل والغناء والموسيقى غالبا، والاشرطة المخلة بالاداب، ومحال عرضها، وبيع الأشياء المباحة لمن يعلم أنه يستخدمها في الحرام، ومما يلحق بالمخدرات الأدخنة والقات، فكل هذه المعاملات وما يشبهها يدخل في الأموال المحرمة التي لا يجوز اكتسابها . أما الأصل الثانى الذى يرجع إليه تحريم بعض الأموال فهو تعدى حدود الله في الإنفاق بالإسراف والتبذير أو البخل والتقتير، وتمييز بعض الأبناء بعطية دون الآخرين بلا سبب شرعى، والتحايل على أحكام الله في الميراث بالوصية أو المواضعة على إظهار بيع أو دين صورى لأجنبى، او التهرب من إخراج الزكاة ببيعها قبل الحول ثم شرائها وهكذا .
- - -
المبحث الرابع
غسل الأموال الشرعى(34/22)
عرفنا في المبحث الأول معنى الغسل وتبين لنا أنه في الأصل والحقيقة يعنى التطهير فاذا أضيف الى الأموال كان معناه تطهيرها من النجاسة الحقيقية كالميتة والخنزير والدم والخمر أو النجاسة المعنوية كحقوق الفقراء ونحوها في أموال الأغنياء، وهذا المعنى الأصيل أو الحقيقى هو ما نبين كيفيته في هذا المبحث في كل ما سبق بيانه من الأموال الحلال والحرام في المبحثين السابقين وهذا هو الغسل الشرعى المطلوب، أما غسل الأموال بالمعنى الخبيث والمصطلح الحديث الذى ظهر أخيرا بقصد تزييف الحقائق وإخفائها وإضفاء الشرعية على الأموال المحرمة بعدة إجراءات هروبا من القانون وخشية للناس فهذا سنتناوله في المبحث القادم إن شاء الله فلنبين الان الغسل الشرعى على النحو الآتي :
أولا : غسل الأموال الحلال:
... ويتم ذلك باخراج الحقوق الشرعية الواجبة فيها في مواعيدها الشرعية ومقاديرها الشرعية كما فرضها الله تعالى وبينها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحقوق تتمثل فيما يلى :
أ- ... زكاة المال حسب أنواع المال ونصاب كل نوع والمقدار الواجب كل عام او عند الحصاد او الحصول على الركاز كما هو مقرر في السنة النبوية ، واخراج ذلك المقدار الواجب الى المصارف الشرعية المعروفة.
ب- ... زكاة الفطر المفروضة كل عام بمناسبة الانتهاء من صيام رمضان وبدء هلال شوال وعيد الفطر طهرة للصائمين وطعمة للمساكين.
ج- ... المقادير والوظائف التي يفرضها ولى الامر فوق الزكاة التي لم تتسع لحاجة الفقراء فيفرض على الأغنياء ما يسع الفقراء.
د- ... الكفارات الواجبة ككفارة اليمين والظهار والجماع في نهار رمضان، والفدية (74) .
هـ- الديات وأروش الجنايات كدية المقتول خطأ أو المقتول عمدا مع العفو عن القصاص أو ديات الأعضاء أو أروش الجروح.
و- النذور التي يفرضها المسلم على نفسه لله تعالى فإنها واجبة الوفاء.(34/23)
ز- صدقة التطوع وأمثالها من الأوقاف والهبات والوصايا في وجوه الخير، وحقوق الجار، وحقوق الضيف.
ح- النفقات الواجبة شرعا للزوجة والأبناء والوالدين والخدم والبهائم والرقيق وأجور العمال ونحو ذلك من نفقة العدة والمتعة والحضانة والرضاعة، والمهر .
ط- الضرائب العامة التي يفرضها ولى الامر لمصلحة المجتمع : فهذه الأبواب كلها غسيل لا بد منه للأموال الحلال حتى تبقى على طهارتها ونقائها وحتى يبارك الله تعالى فيها وينميها، وإهمال هذه الحقوق او بعضها او التقصير في آدائها يشكل ذنبا عظيما عند الله، ويجب على ولى الامر مقاومته ومقاتلته، وينجس المال ويتلفه وينزع البركة منه، والآيات والأحاديث في وجوب تلك الأبواب والحث عليها وبيان فضلها، والتحذير من التقصير فيها والوعيد على إهمالها كثيرة ومجال تفصيلها في أبواب الفقه وكتبه وكتب التفسير والحديث .
ثانيا : غسل الأموال الحرام :(34/24)
... ويكون ذلك بالتخلص منها بالكلية، او بالجزء المحرم منها، وذلك عن طريق اعادة الأموال إلى أصحابها، او تعويضهم عما دخل في أموالهم من الغش والخداع والنقص، واصلاح البيوع الفاسدة وتصحيح المعاملات السيئة، وأساس ذلك كله التوبة النصوح، وهى كما نعلم لا تتحقق ولا تكون نصوحا حتى يقلع العاصى عن معصيته، ويندم على ارتكابها، ويعزم ويعاهد الله على ألا يعود إليها، ويرد الحقوق الى أصحابها، وتطبيق ذلك على الأموال الحرام التي سبق بيانها يكون بغسلها وتطهيرها إن كان خالطها حرام كالربا مثلا فقد قال تعالى { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } أما ما زاد عن رأس المال بالمعاملة الربوية فهو حرام يجب التخلص منه وغسل رأس المال منه وذلك التصدق به على إحدى الجهات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية، ومن أكل أموال الناس بالباطل غصبا أو رشوة أو غشا أو غررا عليه اعادة ذلك لاصحابه، ومن تاجر في المحرمات من مخدرات ورقيق وأغذية فاسدة ونحو ذلك لا بد ان يتجرد من كل ما دخله منها هذا فيما بينه وبين الله اذا أراد غسل ماله والتوبة النصوح ولا سبيل غير ذلك، وإن علم ولى الامر بسلوكه وعدم توبته قام بمصادرة أمواله وتعزيره التعزير المناسب على أكل الحرام وكسب الحرام . وفى ذلك يقول الدكتور محمد بلتاجى : لولى الامر ان يتلف بعض الملكيات الخاصة حماية للناس مما يمكن ان تسببه لهم من ضرر، ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن القيم من تحريق الكتب المضللة وإتلافها (74) ويقاس على ذلك المطبوعات الضارة من صور وكتابة وغيرهما مما يمكن ان يتداول بين الناس فيؤدى الى الإضرار بهم، ومثل ذلك المواد الضارة كالأطعمة الفاسدة او المسممة ونحوها، وبداهة فان هذا لا يمنع من ايقاع عقاب تعزيرى آخر بمالك هذا او مقتنيه فقد عاقب عمر - رضى الله عنه – بإراقة اللبن الذى شابته صاحبته بالماء (75)، وذلك ان من أصول النظام الاقتصادى الإسلامي التزام الدولة الاسلامية(34/25)
بالإشراف على تطبيق المقررات الاسلامية في المال وحمل الناس على ان تكون معاملاتهم في نطاق ما هو مشروع (76) " وقال القرطبى في تفسير قوله تعالى { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } فردهم تعالى مع التوبة إلى رءوس أموالهم وقال لهم لا تظلمون في أخذ الربا ولا تظلمون في أن يتمسك بشيء من رءوس أموالكم فتذهب أموالكم، .. وفى الآية تأكيد لابطال ما لم يقبض منه – الربا – وأخذ رأس المال الذى لا ربا فيه، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد … وذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال اذا خالطه حرام حتى لم يتميز، ثم خرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن ان يكون الذى أخرج هو الحلال والذى بقى هو الحرام، قال ابن العربى : وهذا غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه، والاختلاط إتلاف لتمييزه، كما أن الإهلاك اتلاف لعينه، والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسابين معنى، والله أعلم، قلت : قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الامر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذى أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه ذلك ما لا يطيق أداءه أبدا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما الى المساكين، وإما الى ما فيه صلاح المسلمين حتى لا يبقى في يده الا اقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته الى ركبته، وقوت يومه، لأنه(34/26)
الذى يجب له أن يأخذه من مال غيره اذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه، وفارق ها هنا المفلس في قول أكثر العلماء لأن المفلس لم يصر إليه أموال الناس باعتداء، بل هم الذين صيروها إليه فيترك له ما يواريه، وما هو هيئة لباسه (77) .
وهكذا يبين لنا القرطبى كيفية التوبة من الربا وأمثاله من كل مال حرام، وذلك بإعادة المال الحرام إلى أصحابه فإن لم يتيسر فليتصدق به، فإن كان مضطرا لم يستبق من ذلك الا ما هو ضرورى لحفظ النفس وستر العورة . وبمثل ذلك قال في توبة المحارب في تفسير قوله تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } (78) حيث قال : استثنى جل وعز التائبين قبل ان يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله { فاعلموا أن الله غفور رحيم } أما القصاص وحقوق الآدميين – الأموال – فلا تسقط، ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية ان التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم، وللشافعى قول أنه يسقط كل حد بالتوبة والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمى قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه (76) ويفرق الدكتور محمد عبد الحليم عمر بين الغسل بمعنى تطهير المال الحرام والتوبة منه برد المظالم الى أصحابها، وبين الغسل كمصطلح حديث يقوم على الخداع واخفاء الجريمة وإظهار المشروعية فيقول : إن مصطلح غسيل الأموال الذى ظهر على الساحة الاقتصادية الان يعنى القيام بتصرفات مالية مشروعة لمال اكتسب بطرق غير مشروعة عن طريق استخدامه ولمرات عديدة وفى جهات مختلفة وبأساليب عدة وفى وقت قصير في الاستثمار في أعمال مشروعة مثل الإيداع في بنوك خارجية، وإدخاله بطريقة مشروعة الى البلاد، أو محاولة إخراجه من البلاد بطريقة مشروعة عن طريق التحويلات الخارجية او تدويره في شراء عقارات ثم رهنها والاقتراض بضمانها، أو تداول المال في البورصات المحلية والعالمية أو إنشاء شركات وهمية وإُثبات معاملات مزورة(34/27)
باسمها بهذا المال، وذلك كله من أجل محاولة إخفاء المصدر غير المشروع للأموال وتضليل الاجهزة الرقابية والأمنية للإفلات من العقوبات المقررة عن الجرائم الاقتصادية التي ارتكبها، أما مصطلح التوبة من المال الحرام فإنها تعنى بداية التوقف عن الكسب الحرام، ثم حصر وتحديد ما سبق ان كسبه، والتصرف فيه برد المظالم إلى أصحابها، فاستخدام مصطلح غسيل الأموال استخدام مضلل يضيف جريمة اخرى الى جرائم كسب المال بينما التوبة مصطلح شرعى يهدى الى الطهارة الحقيقية من الكسب الخبيث، وعملية غسل الأموال تزيد الجرائم الاقتصادية وتتوسع فيها بينما التوبة من المال الحرام تؤدى إلى تقليل ذلك وتحد منه، وغاسل الأموال المحرمة يخشى الناس أما التائب فيخشى الله، وغسل الأموال سلوك سيئ مجرم قانونا بينما التوبة سلوك حميد مطلوب شرعا (80) ثم قام الدكتور عمر بتقديم جداول للمال الحرام ومصادره وأنواعه (81) لا تخرج عما سبق بيانه، وجداول لكيفية التخلص من المال الحرام (82) تتفق مع ما سبق ذكره عن القرطبى وغيره.
المبحث الخامس
غسل الأموال غير الشرعى(34/28)
عرفنا مما سبق أن الغسل الحقيقى يعنى النظافة والتطهير، وأن ذلك ينطبق على الأموال الحلال بإخراج الحقوق الواجبة منها في مواقيتها الشرعية ومقاديرها الشرعية، كما ينطبق على الأموال الحرام بالتخلص منها إن كانت كلها حراما أو بالبعض المحرم منها إن اختلط الحلال بالحرام، وبإعادتها لأصحابها إن كان أصحابها معروفين فإن لم يكونوا معروفين فبالتصدق منها في جهات الخير، ومع ذلك يكون الاستغفار والتوبة والندم على تحصيل المال الحرام ومعاهدة الله تعالى على عدم العودة الى ذلك أبدا كما أن على ولى الأمر إذا عرف بهذا المال الحرام أن يصادره وأن يعزر من يكتسبه بما يناسب أما إن تاب وأناب وأعاد الحقوق إلى أصحابها وتخلص من الحرام قبل أن يكتشفه الإمام فيعفو عنه ولا يعزره لقوله تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } (83) .
أما غسل الأموال بالمصطلح الحديث الشائع الآن الذى يعنى تزييف الحقائق وتحويل الأموال المحرمة إلى أموال مشروعة في الظاهر وإخفاء حقيقة كسبها والتهرب من القوانين والخشية من الناس فهذا غسل غير مشروع لأنه ليس نظافة ولا تطهيرا بل إنه كذب وخداع ونفاق وتضليل وأكل لأموال الناس بالباطل وكسب خبيث حرام وتهرب من القانون، فهو جريمة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وهو يضيف إلى وزر الكسب الخبيث الحرام وزر الكذب والغش والنفاق وكل الجرائم المترتبة على عملية الغسل أو كما يسمونها تبييض الأموال، ومن هنا تضافرت الجهود المحلية والإقليمية والدولية لمكافحة هذه الجريمة وإظهار خطورتها ومضارها على الجميع، وفى هذا المبحث نحاول بيان ذلك حتى نقف على هول هذه الجريمة وأساليب مكافحتها.
أ- خطورتها وحجمها :(34/29)
تعتبر عملية غسل الأموال المحرمة وتبييضها بالصورة غير المشروعة التي بيناها عدة جرائم مركبة لا جريمة واحدة فهي أولا أموال محرمة لا يصح تملكها او اكتسابها وهى ثانيا تتحول بإجراءات معينة في الظاهر الى أموال مشروعة ظاهرا والحقيقة أنها غير مشروعة، وهى ثالثا محاولة للتهرب من القانون والمسئولية عن كسب هذه الأموال وحيازتها، وهى رابعا كذب وغش وخداع للناس، وتنعكس هذه الجرائم المركبة آثارا ضارة على المجتمع والاقتصاد، مما حدا بالمسئولين والخبراء الى بيان هذه الخطورة وحجمها وسن القوانين والعقوبات المناسبة لمكافحتها فمن ذلك دعوة الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير جريدة الأهرام المصرية حيث يقول : "الرشوة والفساد وتهريب الأموال والتهرب الضريبى والتلاعب في المال العام، وغسل الأموال والتجسس الاقتصادى، كل تلك المفردات هى التي تشكل اليوم تهديدا حقيقيا للأمن القومى في مصر، فتحديات الأمن القومى لم تعد مقصورة في عالم اليوم على الصراعات العسكرية أو على مواجهة الجرائم السياسية والارهابية، بل اتسعت لتشمل قضايا الأمن الاقتصادى، خاصة بعد أن اصبح الاقتصاد ميدان المنافسة الأول بين بلدان العالم (84).
ويقول الدكتور سعيد اللاوندى تحت عنوان : الإرهاب وغسل الأموال : رؤية أوربية " اكتشفت أوربا يا للهول أن عواصمها الكبرى مثل لندن وباريس وجنيف وبروكسل ومدريد تتم فيها عمليات غسل الأموال عيانا جهارا، وكأنها عمليات بيع وشراء عادية لا يكاد يكترث بها أحد الا المعنيون بحركة التجارة ربحا وخسارة، كما اكتشفت أيضا أنها تحولت الى قاعدة خلفية للارهاب بعد ان استضافت طوال السنوات العشر الماضية كل المعارضين والمتطرفين، ولم تستيقظ لذلك الا بعد أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن …" (85).(34/30)
وتحت عنوان " رؤية تحليلية لظاهرة غسل الأموال " يقول الدكتور محمود شريف أستاذ القانون الجنائى الدولى بجامعة دى بول بشيكاغو : شهدت الاونة الأخيرة اهتماما عالميا بظاهرة غسل الأموال نظرا لما تمثله من خطورة بالغة على صعيد المجتمع الدولى، خاصة فيما يتعلق بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وهو الامر الذى حدا بالعديد من الدول الى سن التشريعات الوطنية وابرام الاتفاقيات الدولية فيما بينها لمجابهة تلك الظاهرة، وتشير التقديرات العالمية الى ان الدخل العام لتجارة المخدرات دوليا يبلغ حوالى خمسمائة مليار دولار سنويا، ويضاف إليها مبالغ اخرى لا يمكن تقديرها من ناتج جرائم اخرى بما في ذلك الأموال غير الشرعية الناتجة من صور الفساد والكسب غير المشروع، ومن ثم فإن هناك مليارات الدولارات يتم غسلها سنويا في دول مختلفة بهدف إضفاء صفة الشرعية عليها لاعادة استخدام جزء منها في تجارة المخدرات وأعمال إجرامية اخرى، أما عن الطريقة التي تتم بها فيستخدم غسل الأموال بعض البنوك والشركات المصرفية والاستثمارية في الدول التي يسمح المناخ الاقتصادى والسياسى فيها بهذا النوع من المعاملات المالية، وقد تتم أغلب هذه المعاملات في ظل سرية الحسابات البنكية والحسابات المرقمة والشركات ذات الأسهم المحمولة .(34/31)
إن إضفاء صفة الشرعية على الأموال الناجمة عن جرائم وأعمال غير شرعية لا يعنى بالطبع ان القائمين على تلك العملية سوف يستخدمونها في أعمال شرعية عقب غسلها، بل إن الجزء الأكبر منها قد يعاد استخدامه في أعمال غير شرعية بالإضافة الى استخدامها في أعمال فساد مثل رشوة السياسيين والموظفين العموميين في الدول التي يرغب أصحاب تلك الأموال في زيادة أنشطتهم وكسبهم غير المشروع بها ثم يقول: أما بالنسبة للوضع في مصر فهناك نوعان من الأموال تستهدف السوق المصرية بقصد غسلها، أولهما رءوس أموال مصرية مصدرها داخلى ناتجة عن أعمال فساد وعمليات إجرامية يتم غسلها في الداخل، والثانى هو رءوس أموال تأتى من الخارج متخذة من الشكل التقليدى لتمويل اجنبى لمشروعات خاصة ستارا لها " (86) .
وفى ندوة عقدها الأهرام الاقتصادى حول غسل الأموال قال الدكتور نبيل حشاد الخبير المصرفى : إن ظاهرة غسيل الأموال أخذت في الانتشار عالميا خلال السنوات الأخيرة خاصة عبر المصارف من دولة الى اخرى حيث يتم تبييضها وتأخذ صفة الشرعية كأنها آتية من مصدر مشروع، وقدرت المنظمة الدولية لمكافحة غسيل الأموال "الكومنست" الأموال القذرة المغسولة بنحو ما بين 500 مليار إلى 1.5 تريليون دولار طبقا لإحصائيات عام 2000 وهو ما يتراوح بين 5% إلى 1.5% من الناتج العالمى، ويلاحظ تفاوت بين الحدين الأعلى والادنى نظرا لصعوبة التقدير الواقعى لغسيل الأموال .." (87)
وفى الندوة نفسها يشير الدكتور حسن أبو زيد عميد كلية التجارة بجامعة القاهرة إلى أن عمليات غسيل الأموال تتم الان باستخدام احدث سبل التكنولوجيا والاتصالات الحديثة في نقل الأموال من بنك لآخر والإنترنت خير شاهد على هذا " (88)(34/32)
وفى الندوة نفسها يقول الدكتور حمدى عبد العظيم مدير مركز الدراسات والبحوث بأكاديمية السادات ان المخدرات وحالات الفساد الإداري والرشاوى والاختلاسات والمناقصات والمزايدات مع شركات عالمية هى أساس عمليات غسيل الأموال، وطبقا للتقديرات التي ساقها البنك الدولى فقد ارتفع حجم غسيل الأموال الى 283 مليار دولار في الولايات المتحدة و 55 مليار دولار في إيطاليا و 24.6 مليار في ألمانيا و 24.2 مليار في اليابان و 23.3 مليار دولار في كندا و22 مليار دولار في فرنسا، وحذر من خطورة مواقع الإنترنت التي تعلن أرقاما غير دقيقة عن الظاهرة(88) ومن هذه الأقوال وأمثالها كثير يتبين أننا امام جريمة كبرى تتألف من عدة جرائم لا تهدد الأمن المحلى لأى بلد فقط بل تهدد الأمن الإقليمي والعالمى في عنصريه الحيويين الاقتصاد والاجتماع . وقد قدم الدكتور محمد عبد الحليم عمر (89) جدولا إحصائيا بعدد الجرائم الاقتصادية في بعض المجالات في عام واحد سنة 1996م في مصر يكشف عن مدى خطورة هذه الجرائم وتزايدها كما يلى :
نوع الجرائم ... عدد القضايا ... المبلغ
الرشوة والاستغلال
جرائم النقد
جرائم الاختلاس
جرائم التزييف والتزوير
جرائم التموين والتجارة
جرائم البيئة والمسطحات المائية
جرائم السياحة والآثار
جرائم التهرب من الضرائب
التهرب الجمركى
التهرب من ضريبة المبيعات
جرائم الاعتداء على ممتلكات الدولة
جرائم سرقة الكهرباء ... 453
298
780
3272
84274
46237
5401
10107
942
413
605
256975 ... 52229520
ــ
2505544636
ــ
13939745 طنا من السلع
ــ
ــ
10281562597
95533835
5153499632
96844390
43324666
الإجمالي ... 300680 ... 1822853929
وهذا الجدول على قدمه وعدم شموله لكل أنشطة الأموال القذرة ومصادرها فإنه مؤشر خطير في جملته على كثرة أنواع الأموال القذرة وحجم خطورتها فكيف لو تم حصر هذه المصادر بدقة هذا العام او العام السابق ؟(34/33)
من هنا كان لا بد للمسئولين أن يقوموا بمكافحة هذه الجرائم وسن القوانين الصارمة لمكافحتها والتعاون مع سائر الدول في كشفها وتعقب أصحابها وقد تم ذلك وما زال بين سائر الدول كما يتبين من التقارير التالية .
ب- مكافحتها : بدأت مكافحة هذا النشاط القذر في أمريكا وأوربا ثم انتقل الى مصر والوطن العربى كما يتبين في هذا العرض :
تحت عنوان " قراءة في مشروع قانون غسل الأموال " ذكر الأهرام هذه الفقرة " تزايد أخيرا الاتجاه الدولى نحو مكافحة عمليات غسيل الأموال من خلال جهود دولية ووطنية متكاملة استهدفت الحد من تلك الظاهرة والحيلولة دون نموها لما لذلك من اثار بالغة على الاستقرار الاقتصادى على مستوى العالم، فعلى المستوى الدولى يمكن ان يؤدى غسل الأموال الى انتقال رءوس الأموال من الدول ذات السياسات الاقتصادية الجيدة ومعدلات العائد المرتفعة الى الاقتصاديات الفقيرة وذات العائد المنخفض بما يضر بمصداقية الأسس الاقتصادية المتعارف عليها كما تؤثر عمليات غسل الأموال بالسلب على استقرار أسواق المال الدولية وتهدد بانهيار الأسواق الرسمية التي تعد حجر الزاوية في بناء اقتصادات الدول، وفى ظل تدويل الاقتصاد العالمى، ونمو فعالية أسواق المال الدولية اصبح من اليسير انتقال رءوس الأموال عبر الحدود، وقد أدى ذلك الى تزايد الجريمة الاقتصادية المنظمة وتزايد حركة تداول أموال المنظمات الإجرامية على المستويين المحلى والدولى بهدف تغيير صفة الأموال التي تم الحصول عليها بطرق غير مشروعة واعادة تدويرها في مجالات وقنوات استثمار شرعية تبدو كما لو كانت قد تولدت من مصدر مشروع (90)(34/34)
وتحت عنوان : الإرهاب وغسل الأموال : رؤية أوربية ذكر الدكتور اللاوندى : بعد أحداث 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن لم تتوقف الاجتماعات الاستثنائية لقادة اجتماعات اتحاد أوربا ووزراء العدل والداخلية والمالية فيها وكأنها في حالة انعقاد مستمر فالحدث جلل والوقت اصبح أقصر من أن يتحمل تسويفا أو تأجيلا، وكان لا بد من فتح جميع الملفات والخوض في كل المحاذير دون استثناء لأن الرهان هو مستقبل أوربا ولا شئ اخر غير ذلك كما أكد رئيس وزراء بلجيكا .. أما المطلب الملح الذى تحقق حوله إجماع الدول الـ 15 ومجموعة الدول الثمانى الكبرى أيضا فهو القضاء على شبكات تمويل الإرهاب في أسرع وقت ممكن، وهو ما يفرض بالضرورة سن جملة من القوانين الجديدة لوقف جميع أشكال غسل الأموال القذرة الخاصة بتجارة المخدرات والجريمة المنظمة والأعمال الإرهابية، وفى هذا الاطار تقرر تحطيم السرية المفروضة على الحسابات كما بات لزاما على أصحاب الكازينوهات وشركات المقاولات الكبرى وخبراء المحاسبة والمحامين أن يقوموا بالتبليغ عن أي شخص يتعامل معهم ويشكون في أن منابع أرصدته تتصل بشيكات المافيا أو دوائر غسل الأموال داخل أوربا أو خارجها باعتبار ان عمليات غسل الأموال تجرى على هامش الحياة الاجتماعية وتدور في الخفاء وتضر بقاعدة التضامن التي تفخر الديمقراطية الغربية بأنها أسستها. (91)(34/35)
وقد انتقلت هذه الجهود الدولية وذلك النشاط المكثف إلى الوطن العربى لمواجهة مخاطر غسل الأموال القذرة فعقدت مؤتمرات وندوات أسفرت عن الضرورة الماسة لسن القوانين والعقوبات لمكافحة هذه الجرائم فمن ذلك ما نشره الأهرام الاقتصادى تحت عنوان " المصارف والمؤسسات المالية العربية تواجه مخاطر غسيل الأموال وتمويل الإرهاب حيث قال : تواجه المصارف والمؤسسات المالية العربية تحديات صعبة في المرحلة الحالية ومن أهمها عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهى التحديات التي تحوز اهتمام المجتمع الدولى، وقد اتخذت المؤسسات المالية والمصارف العربية جميع التدابير الممكنة والفعالة في مواجهة هذه الظاهرة، وهذا ما أكده جوزيف طربية رئيس اتحاد المصارف العربية والدكتور فؤاد شاكر الأمين العام للاتحاد خلال مداخلتين لهما في مؤتمر مكافحة تبييض الأموال الذى عقده الاتحاد في بيروت حيث أكدا أن أحداث 11 سبتمبر تبعها إجماع دولى على مكافحة الإرهاب من خلال منعه من استخدام تقنيات النظام المالى في تنفيذ أهدافه، وشدد شاكر وطربية على أهمية اعتماد المصارف والسلطات النقدية لمعايير تحقيق في أنظمة الدفع والتحويلات الإلكترونية، وشددا على أن المصلحة العربية العامة تقتضى حفظ القطاع المصرفى العربى من العمليات غير المشروعة لأن اقتصاد الجريمة لا يمكن الاعتماد عليه كبديل للاقتصاد الشرعى، فالجميع داخل الاقتصادات والقطاعات المصرفية العربية متفقون على أهمية السعى لجذب الأموال المحلية والأجنبية للاستثمار وداخل الدول العربية، ولكن مع الحذر والتنبيه لمنع تسرب الأموال القذرة لما يلحقه هذا الامر من أضرار كبيرة بسمعة المنطقة العربية وتنميتها المالية وخططها التنموية، وطالب رئيس اتحاد المصارف العربية بإنشاء آلية عربية للتنسيق في المكافحة الجماعية لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب " (92)(34/36)
وكان لمصر جهود كبيرة في مضمار مكافحة هذه الجرائم حيث قامت بسن قانون ينص في مواده على تجريم وعقاب من يقوم بالمشاركة في هذه الجرائم وقامت وزارة العدل والمالية بالتعاون في صياغة هذا القانون ومواده وعرضه ومناقشته أمام مجلس الشورى والشعب لاقراره يقول الأهرام تحت عنوان وزير العدل أمام مجلس الشورى : مشروع قانون مكافحة غسيل الأموال يحصن الاقتصاد المصرى من الهزات المالية " جاء فيه : أكد المستشار فاروق سيف النصر وزير العدل أن الشواهد والدراسات تثبت أن حجم الأموال التي يتم غسلها داخل الاقتصاد المصرى تمثل حوالى 30% من الحجم الكلى للاموال، وقال إن عمليات غسل الأموال تؤثر بالسلب على استقرار أسواق المال الدولية، وتهدد بانهيار الأسواق الرسمية التي تعد حجر الزاوية في بناء اقتصاديات الدول، جاء ذلك أمام لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس الشورى في اجتماعها أمس 8 مايو 2002 برئاسة المستشار عبد الرحمن فرج محسن لمناقشة مشروع قانون مكافحة غسيل الأموال .. وقال : إن قانون غسيل الأموال يحصن الاقتصاد المصرى من عدة أضرار بعدما أصبحت تلك العمليات تمثل ظاهرة عالمية تساعد المنظمات الإجرامية الدولية على اختراق وافساد الهياكل الاقتصادية والمؤسسات التجارية والمالية المشروعة والمجتمع بمختلف مستوياته مما يؤثر الى اهتزاز بنيانه المالى .. وقال : إن التشريع الجديد حريص على تجريم استقبال وارسال الأموال الناشئة عن جرائم تعاقب عليها القوانين … وأوضح ان مشروع القانون يتضمن عشرين مادة جاءت محددة للإطار العام بجريمة غسيل الأموال ووسائل مكافحتها وتطبيق تلك الوسائل على المؤسسات المالية الخاضعة لاحكام مشروع القانون بالإضافة الى وضع العقوبات المناسبة لمجابهة هذا السلوك . وأشار وزير العدل الى ان حجم الأموال التي يتم غسيلها سنويا تمثل 20% من حجم الناتج القومى الإجمالي في الولايات المتحدة أي ما يعادل 1.5 تريليون دولار(34/37)
مما يتطلب إجراءات فعالة لمكافحة غسيل الأموال، وأشار الى ان هناك تشريعا بهذا الخصوص (غسيل الأموال) سوف يناقشه وزراء العدل العرب والداخلية العرب داخل الجامعة العربية حيث إن هذا الموضوع أصبح ظاهرة عالمية تقف أمامه جميع دول العالم، وقد وأفقت اللجنة التشريعية على القانون حيث ستتم مناقشته أمام المجلس خلال جلساته المقبلة (93) . وحول مشروع هذا القانون المصرى صدرت عدة تعليقات وتحليلات منها ما يمدحه ويشجعه ومنها ما ينتقده لعدم قوته وصراحته في مقاومة هذه الجريمة خوفا على تأثر جذب الأموال للاستثمار في مصر فمن ذلك قول محمود عبد السلام عمر رئيس اتحاد بنوك مصر إنه على الرغم من ان التشريع المصرى لم يتضمن النص صراحة في قانون على تجريم عمليات غسيل الأموال فإن المشرع قد أدرك مبكرا الدور الخطير الذى يمكن ان يلعبه راس المال في تسهيل واستمرار تصاعد جرائم الكسب غير المشروع سواء من خلال الاتجار غير المشروع بالمخدرات أو تلك المرتبطة بالفساد الإداري ومن ثم فقد حرص المشرع على توفير أطر تشريعية لمواجهة مثل هذه العمليات سواء من خلال تضمين القوانين الموجودة عددا من المواد التي تجرم مثل هذه الأفعال او بإدخال تعديلات تالية على تلك المواد بعدما أظهرت التجربة ان العقوبات المقررة بها لم تعد كافية للحد من تلك الأنشطة" (94) ويقول الدكتور محمود شريف : أما عن الجهود المصرية لمكافحة هذه الظاهرة والحد من مخاطرها – اذا ما استثنينا دور الاجهزة الرقابية في مكافحة الجرائم الاقتصادية بوجه عام – فلم تتجاوز مبادرة وزارة العدل بإعداد مشروع قانون لمكافحة غسل الأموال بيد أنه ما زال في طور الإعداد دون اتخاذ خطوات أكثر إيجابية سبق وأن اتخذتها بالفعل العديد من الدول، ومن بينها النامية، الامر الذى يتعين معه على الحكومة تقديم المشروع وبصفة عاجلة الى مجلس الشعب لكى يصبح لدينا قانون وطنى خاص لمكافحة تلك الظاهرة أسوة بما هو قائم(34/38)
بمختلف دول العالم حتى يتسنى لنا مواكبة المجتمع الدولى في هذا الشأن وإلا فان مصر ستتعرض لحرج بالغ في المحافل الدولية " (95) ويرى الدكتور نبيل حشاد أن قرار محافظ البنك المركزى - بوضع الضوابط– إجراء سليم وليس بدعة، بل مطبق في قوانين عدة دول، وليس هناك تعارض بين سرية الحسابات وهذه الإجراءات في ظل تأثير غسيل الأموال سلبا على الاقتصاد المصرى دوليا … وفيما يتعلق بالأثر البعيد على البنوك من إصدار قانون لمكافحة غسيل الأموال يرى ان سمعة الدولة ومكانتها في مجال المكافحة يؤثر سلبا او إيجابا على النظرة العالمية في الأوساط المصرفية على مصارفها، ويمكن وضع مصارفها ضمن المصارف التي تقوم بغسيل الأموال حتى وإن لم تقم بذلك .. ومع وضع واقرار قانون مكافحة غسيل الأموال في مصر تزداد صورة البنوك المصرية قوة، وسيكفل لها الحماية ويبعدها عن التصنيف السئ " (96)
ويرجع الدكتور حسين عمران رئيس قطاع البحوث بوزارة الاقتصاد جهود مصر لمكافحة غسيل الأموال الى عام 1988 حين وقعت على اتفاقية الأمم المتحدة في فيينا، واشتراكها في المؤتمر العربى الثامن في تونس 1994 لرؤساء أجهزة مكافحة المخدرات ومنع غسيل الأموال، والمؤتمر الدولى التاسع لمنع الجريمة بالقاهرة 1995 والقانون رقم 4 لسنة 1971 بتنظيم فرص الحراسة وتأمين سلامة الشعب وقانون الكسب غير المشروع رقم 62 لسنة 1975، وقانون سرية الحسابات والمادة 44 مكرر من قانون العقوبات المصرى، ويؤكد ان مصر لم تقف مكتوفة الأيدي في مواجهته او التعاون في مكافحة الظاهرة العالمية مشيرا الى ان وجود مناطق معينة ومحددة معروفة بغسيل الأموال هى قارة أوربا وتحديدا في سويسرا او لوكسمبورج وموناكو وجبل طارق، ومناطق البحر الكاريبى في أمريكا اللاتينية خاصة في جزر البهاما والبرامودا وجاميكا وبنما، وفى آسيا تتركز في هونج كونج وسنغافورة وتايوان وتايلاند (97) .(34/39)
وتؤكد الدكتورة فوزية عبد الستار أستاذ القانون التشريعى والدستورى وعضو لجنة وزارة العدل لاعداد مشروع قانون مكافحة غسيل الأموال وجود اكثر من اتجاه يتبنى تجريم غسيل الأموال في صور معينة ومحددة، ويتم بناء عليه تحديد العقوبة سجنا او غرامة او مصادرة الأموال، وترى أنه ليس من المصلحة العامة تجريم الأموال في الوقت الحاضر حتى لا تهرب وتفقد مصر استثمارات هامة، وتقترح الاكتفاء بالرقابة المصرفية على رءوس الأموال المتدفقة للبنوك بشكل سرى لا يستشعر معه صاحب المال أي رقابة .. ولا بد من التجريم للاموال الملوثة ومواجهتها سواء في المصارف او أي مكان آخر فاذا ثبت أنها غير مشروعة تجرم ولا يتم الاكتفاء بالمصادرة " (98) وكما قام البنك المركزى بوضع ضوابط مكافحة غسل الأموال فقد قامت الهيئة العامة لسوق المال بعدة إجراءات صارمة لمنع غسيل الأموال بالبورصة وفى مقال في الأهرام الاقتصادى بيان لذلك جاء فيه " أصدرت الهيئة العامة لسوق المال تعليمات لشركات السمسرة يتم من خلالها تطبيق قانون مكافحة غسل الأموال والذى ألقى على الجهات العاملة في مجال الأوراق المالية بعدة التزامات لا بد من مراعاتها بكل دقة لأنها ستمنع بكل قوة غسل الأموال في البورصة المصرية وتمنع دخول أموال مشبوهة داخل السوق المصرى، وهو مطلب هام جدا تؤيده كل الأطراف الحكومية وغير الحكومية. (99) .(34/40)
وأخيرا صدر القانون المصرى رقم 80 في 22/5/2002 لمكافحة غسل الأموال وأنشئت لذلك إدارات خاصة تقوم بمتابعة تطبيق القانون وتنفيذه، وقد جاء في تعليق لجنة الشئون الاقتصادية والمالية والخطة في الحزب الوطنى بعد دراسته ما يلى : يعد مشروع قانون مكافحة غسل الأموال من اهم القوانين والتشريعات الاقتصادية التي اعدتها الحكومة في الفترة الأخيرة خاصة بعد إدراج مصر على قائمة البلدان غير المتعاونة في مجال مكافحة غسل الأموال على المستوى الدولى، وما أن انتهت الحكومة من إعداد مشروع القانون حتى بادر العديد من المؤسسات الحكومية وغيرها الى مناقشة مواده وفلسفته وأهميته بالنسبة لمصر، وعلى الرغم من الجدل الذى اثارته بعض مواد القانون، فان هناك ارتياحا لدى الأوساط المصرفية والاقتصادية لاصدار هذا القانون وبخاصة أنه راعى في مواده قوانين الأمم المتحدة والمنظمات العالمية كما يراعى القوانين المصرية السابقة في الأموال غير المشروعة . كما ترى اللجنة ان القانون جاء محققا للتوازن في المعادلة الاقتصادية ومن مواد هذا القانون ما يلى :
المادة الأولى : ... كل فعل ينطوى على اكتساب مال او حيازته او التصرف فيه أو إدارته أو حفظه أو استبداله أو إيداعه أو ضمانه أو استثماره أو نقله أو تحويله إذا كان متحصلا من جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة (2) متى كان القصد من هذا الفعل إخفاء مصدر المال أو تغيير حقيقته أو الحيلولة دون اكتشاف ذلك أو عرقلة التوصل إلى شخص من ارتكب الجريمة المتحصل عليها من المال يعد جريمة .(34/41)
المادة الثانية : يحظر غسل الأموال المتحصلة من جرائم زراعة وتصنيع المخدرات والمؤثرات العقلية وجلبها وتصديرها والاتجار فيها، وجرائم اختطاف وسائل النقل وخطف واحتجاز الأشخاص والإرهاب وتهريب الأسلحة والذخائر والمفرقعات أو الاتجار فيها دون ترخيص والجرائم المنصوص عليها في البابين الثالث والرابع من قانون العقوبات – كالسرقة وخيانة الأمانة والنصب والدعارة – والجرائم الواقعة على الآثار وكذلك الجرائم المنظمة – التي ينص عليها في الاتفاقيات الدولية التي تكون مصر طرفا فيها وذلك سواء وقعت هذه الجرائم في الداخل او الخارج متى كانت معاقبا عليها في القانون المصرى "
ومن مواد هذا القانون المادة التالية " تنشأ وحدة في وزارة العدل لمكافحة غسل الأموال ويرأسها أحد رجال القضاء أو النيابة العامة من درجة رئيس محكمة استئناف او ما يعادلها وتضم في تشكيلها ممثلين عن وزارات العدل والداخلية والمالية وغيرها من الوزارات والبنك المركزى المصرى والجهات المعنية. (100) الى غير ذلك من المواد العشرين.(34/42)
وعلى الصعيد العالمى أقر صندوق النقد الدولى رسميا مشروعا جديدا لمحاربة عمليات غسيل الأموال في إطار المساعى الدولية لتجفيف منابع تمويل الإرهاب وتجريد القوى المتطرفة من مصادر قوتها وأوضح بيان الصندوق الذى صدر أمس الأول 22/11/2002 أن العمل بموجب هذا المشروع قد بدأ بالفعل الأسبوع الماضى 15/11/2002 وسوف يستمر العمل به على مدى عام كامل، وسيقوم كل من صندوق النقد والبنك الدوليين بمراقبة السياسات المالية والأنظمة داخل البنوك المركزية في الدول الأعضاء بالمؤسستين وسوف تستمر عمليات المراقبة هذه بشكل يومى ومنتظم بما يسمح بالتدخل السريع في حالة اكتشاف عمليات لغسل الأموال او مؤامرات لتمويل مخططات إرهابية ونقلت الجزيرة عن خبراء في براغ انهم أكدوا في مؤتمر لغسيل الأموال ان الدول الاوربية تناضل من أجل سد الثغرات التي تتيح لمجرمين منهم جماعات إرهابية فرصة نقل كميات طائلة من الأموال القذرة، وذلك عبر بلادهم او في أنحاء العالم، وأوضح مايكل أوليم وهو محقق بريطانى سابق يعمل لحساب شركة حسابات في بولندا مخاطبا حوالى مائة خبير مالى يحضرون مؤتمر براج في جلسته مساء الخميس أنها معركة ربما لا نكسبها أبدا "(102)
ونقلت الأهرام عن شبكة بى بى .سى أن رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكونى قد مثل أمام القضاء الإيطالي أمس الأول في محاكمة لأحد المقربين منه متهم بغسل أموال لصالح المافيا الا انه رفض الإجابة عن أية أسئلة مستخدما حقه بمقتضى القانون الإيطالي.(34/43)
وتعتبر الولايات المتحدة أكثر الدول خبرة في التشريع على المستوى القومى للحد من عمليات غسل الأموال نظرا لخبرتها الطويلة في مجال ممارسة هذه الجريمة إذ تقدر الإحصائيات أن ثلث عمليات غسل الأموال يحدث في الولايات المتحدة، ولذلك قامت بوضع أشمل وأكمل مجموعة من القوانين واللوائح للقضاء على هذه الجريمة وترجع أولى التشريعات الى عام 1986م، ثم توالت القوانين بعد ذلك . وعلى المستوى الدولى كانت أولى خطوات التعاون لمواجهة هذه الظاهرة اتفاقية بازل سنة 1993م وقد وقع عليها 147 دولة، كما تبنى الاتحاد الأوربي سنة 1991 توجهات تستهدف القضاء على هذه الجريمة وقد تكونت مجموعة عمل للرقابة المالية وأصبحت تضم 24 عضوا من منظمة التنمية والتعاون الأوربي بالإضافة الى هونج كونج وسنغافورة ولجنة الجماعة الاوربية ومجلس التعاون الخليجى ثم زيدت الى ثمانية وعشرين عضوا سنة 1991 (103) .
ومما سبق نعلم أننا أمام جريمة كبرى مركبة من عدة جرائم، وأن العالم كله قد تعاون، وما زال يتعاون في مكافحتها، والقضاء عليها لما لها من آثار مدمرة على الاقتصاد العالمى، والاقتصاد القومى لكل دولة، وجريمة كجريمة غسل الأموال المركبة التي جرمتها جميع القوانين غير الاسلامية، جديرة أن تكون غير موجودة في العالم الإسلامي، ولا يقوم بها مسلمون، لأنها كما ظهر من كبائر الإثم والفواحش لما تشمله من جرائم كثيرة ثم بيانها في المباحث السابقة، نسأل الله العفو والعافية والمعاناة في الدنيا والآخرة .
والله ولى التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
- - -
الهوامش
التوبة من المال الحرام، ورقة عمل مقدمة الى الحلقة النقاشية الثانية عشرة بمركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر د. محمد عبد الحليم عمر ص1.(34/44)
قائمة المراجع (1)
الأم – الشافعى، مطبعة الشعب بالقاهرة.
الأهرام جريدة مصرية يومية – القاهرة – عدة أعداد.
الأهرام الاقتصادى – جريدة مصرية أسبوعية – القاهرة – عدة أعداد.
الإنسان والمال في الإسلام د. عبد النعيم حسنين . دار الوفاء – المنصورة- مصر.
تبصرة الحكام في أصول الاقضية ومناهج الأحكام لابن فرحون – المطبعة البهيئة بالقاهرة.
التفسير الكبير – الرازى – دار الغد العربى – مصر.
التوبة من المال الحرام د. محمد عبد الحليم عمر . مركز صالح كامل - جامعة الأزهر – مصر.
جامع البيان عن تأويل آى القرآن للطبرى – مكتبة الحلبى بمصر.
الجامع لأحكام القرآن – القرطبى – دار الكتب المصرية – مصر.
الجزيرة جريدة يومية سعودية.
شرح صحيح مسلم للنووى – مطبعة الشعب – مصر.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم – مطبعة المدنى بالقاهرة.
الكافى في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل لابن قدامة – المكتب الإسلامي – بيروت.
المعجم الوسيط – مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم – محمد فؤاد عبد الباقى – مطبعة الشعب- مصر.
المغنى لابن قدامة.
المقدمات الممهدات لابن رشد – مطبعة السعادة – مصر.
الملكية الفردية د. محمد بلتاجى – مكتبة الشباب – مصر.
__________
(1) نظرا لحداثة الموضوع واعتماده على الدوريات بصورة كبرى جعلتها في ترتيب المراجع الأساسية.(34/45)
بحوث في
غسيل الأموال وبيان حكمه
في الفقه الإسلامي والنظم المعاصرة
مقدم للمؤتمر العالمي الثالث للاقتصاد الإسلامي
الذي سيعقد خلال شهر محرم 1424هـ- مارس2003م
بجامعة أم القرى- مكة المكرمة
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
مستشار سابق بمحكمتي التمييز والدستورية بدولة الكويت
(طبعة تمهيدية)
مقدمة ومدخل:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
تلقيت دعوة كريمة من عمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ورئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثالث للاقتصاد الإسلامي الذي سيعقد بإذن الله تعالى بجامعة أم القرى بمكة المكرمة خلال شهر محرم 1424هـ- مارس2003م للمشاركة في هذا المؤتمر، وقد رأيت الاستجابة لهذه الدعوة والمشاركة عن طريق الكتابة في إحدى الموضوعات التي بينتها المحاول، ورأيت موضوع "غسيل الأموال" من الموضوعات التي تستحق أن يُعنى بها عناية خاصة لأنها من الموضوعات التي تتصل بالاقتصاد الإسلامي وبالتالي تهم البنوك الإسلامية أيضاً.
ويهتم العالم اليوم به عناية كبيرة إدراكاً من المجتمع الدولي لآثارها السلبية على الاستقرار الاقتصادي وبخاصة على مناخ الاستثمار المحلي والدولي، ولذلك زاد الاهتمام بطرق مواجهتها من قبل العديد من الدول والمنظمات الدولية والمراكز الدولية الكبرى، حيث تهدد هذه الظاهرة الاقتصاد العالمي بل اقتصاديات العالم النامي ومن بينها البلاد العربية والإسلامية، ومن ثم تشكلت مجموعة الدول السبع(1) بل الثمان بعد انضمام روسيا إليها لبحثه، وقد أصدرت تقريرها وملاحقها في إبريل 1990 بعد دراسة استمرت سبعة أشهر وتضمن التقرير 40 نقطة في برنامج يتعامل مع موضوع غسيل الأموال على مستوى عالمي، وسيأتي بيانها خلال البحث.
__________
(1) لهوامش
(1) هي الولايات المتحدة الأمريكية- بريطانيا- اليابان- ألمانيا- إيطاليا- فرنسا- كندا ثم انضمت إليها روسيا فصارت تعرف بمجموعة الثمان.(35/1)
وإذا ما بحثنا عناصر هذا الموضوع على عجل يظهر لنا أن مفهوم غسيل الأموال أو الجريمة البيضاء أو الاقتصاد الخفي كما يُطلق عليه فريق من الباحثين ويقصد منه إضفاء صفة المشروعية على أموال متحصلة من طرق غير مشروعة، ويحدد البعض الأعمال غير المشروعة في صور منها:
1- التجارة في المخدرات، وأنشطة البغاء والدعارة.
2- الأموال المتحصلة بسبب الرشوة أو الفساد الإداري والاختلاس.
3- الأموال المتحصلة عن التهرب من الضرائب.
4- الأموال المتحصلة مقابل صفقات الأسلحة.
5- الأموال المتحصلة مقابل أعمال التجسس الدولي.
6- الأموال المتحصلة عن تزييف النقد والشيكات المصرفية، وتزوير الاعتمادات السندية، وغيرها كما سيأتي خلال البحث.
كل هذه الدخول التي تتحقق من الأنشطة السابقة غير مسجلة في الحسابات القومية للدول، وتتدرج تحت مسمى الاقتصاد الخفي التي لا تسجل ضمن حسابات الناتج القومي إما بسبب التهرب من التزامات قانونية أو بسبب أن هذه الأنشطة تعد مخالفة للقانون.
وإذا دققنا النظر في هذه الأموال ومصادرها ثم في طرق الالتواء التي يسلكها أصحابها لإخفائها أو إظهارها بمظهر الكسب المشروع نجد أن الفقه الإسلامي قد عنى عناية كبيرة في دراستها أو التحذير من مغبتها ديناً ودنيا على مات سنذكره في الفصول التالية.
وسنتناول فيما يأتي المكاسب وبيان الحلال والحرام منها، ثم بيان الدور الرقابي الذي قرره الفقه الإسلامي عن طريق تفعيل دور المحتسب في المجتمع، ثم الطرق التي سنها الإسلام في التخلص من المال الحرام في المباحث التالية:
المبحث الأول: في بيان طرق الكسب المشروعة في الإسلام.
المبحث الثاني: في الكسب غير المشروع (الحرام والشبهة).
المبحث الثالث: في إجراء مقارنة بين الأموال المعدنية لدى القائلين بغسل الأموال وفي الفقه الإسلامي.
المبحث الرابع: في طرق مواجهة الكسب غير المشروع في الشريعة الإسلامية والنظم المعاصرة.
- - -
المبحث الأول(35/2)
في بيان طرق الكسب المشروعة
في هذا المبحث نتناول مسألة الكسب المشروع من خلال ثلاثة مؤلفات لثلاثة من كبار الأئمة هم: الإمام محمد حسن الشيباني، والإمام أبي الحسن الماوردي، والإمام أبي حامد الغزالي.
كتب الإمام محمد بن الحسن من أئمة الحنفية في المكاسب وشرحه الإمام
أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي في المبسوط، وقد عُرّف الاكتساب بأنه تحصيل المال بما حلَّ من الأسباب، وقال: إن الكسب يُستعمل في كل باب، وقد قال تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } (1) وقال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } (2)، أي بجنايتكم على أنفسكم وقد سمَّى جناية المرء على نفسه كسبا.
وقال جل وعلا في آية السرقة "جزاءً بما كسبا"(3)، أي باشر بارتكاب المحظور، فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب ولكن عند الإطلاق منه اكتساب المال، واستفتح الإمام محمد بن الحسن كتابه ببعض الآثار، ومن ذلك قول الإمام عمر بن الخطاب وكان يُقدم درجة من الكسب على درجة الجهاد فيقول (لأن أموت بين شعبتي جبل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إليّ من أن أُقتل مجاهداً في سبيل الله، لأن الله تعالى قدَّم الذين يضربون في الأرض ليبتغوا من فضله على المجاهدين بقوله تعالى { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } الآية(4).
__________
(1) سورة البقرة آية (267).
(2) سورة الشورى آية (30).
(3) سورة المائدة آية (38).
(4) سورة المزمل آية (20) وجاء في كنز العمال ج4/123 هذا الأثر بصيغة أخرى قال: عن عمر قال: ما جاءني أجلي في مكان ما عدا الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأن بين شعبتي رحلي أطلب من فضل الله وتلا { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله }
] كتاب البيوع باب في الكسب[.(35/3)
ثم ذكر الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه فإذا يداه قد اكتبتا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أضرب بالمر والمسحاة لأنفق على عيالي، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: " كفان يحبهما الله تعالى"(1).
وفي هذا بين أن المرء باكتساب ما لا بد منه ينال من الدرجات أعلاها، وإنما ينال ذلك بإقامة الفريضة ولأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فحينئذ كان فرضاً بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة.
ثم قال وبيان ذلك من وجوه:
أحدها- أنه لا يمكنه من أداء الفرائض إلا بقوة بدنه وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة، ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب بالانتهاب، والانتهاب يستوجب العقاب، وفي التغالب فساد، والله لا يحب الفساد، فعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت.
وكذلك لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة، وإنما يكون ذلك بثوب ولا يحصل له ذلك إلا بالاكتساب عادة، ومالا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضاً(2).
وللإمام الماوردي فلسفة متكاملة عن نظرية الكسب ويربطها بصلاح أمر الدنيا التي صلاحها من وجهين:
أحدهما ما ينتظم به أمور الناس جميعاً، والآخر ما يصلح به حال كل واحد من أهلها، ويقول: هما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه، وبيَّن أن صلاح الدنيا
__________
(1) انظر الإصابة في تمييز الصحابة ج3/86 (رقم 3207ز) قال: روى الخطيب في المتفق بإسناد واه وأبو موسى في الذيل بإسناد مجهول عن الحسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من تبوك استقبله سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: ما هذا الذي أراك بيدك؟ قال: من أثر المر والمسحاة أضرب وأنفق على عيالي، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال: هذه يد لا تمسها النار.
(2) المبسوط ج30/244 وما بعدها لإلى آخر الكتاب.(35/4)
لا يتحقق إلا بستة قواعد، هي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح، ويسترسل في بيان وتوضيح هذه الأمور الستة ومدى ارتباطها وشدة علاقتها بصلاح أمر الدنيا وأهلها لو تتبعناها لخرج بنا عنا المقصود، ولكن نكتفي بذكر شيء مما له صلة بموضوعنا وهي القاعدة الثالثة وهي المادة الكافية، ويقول في توضيح هذه القاعدة لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر، قال الله تعالى { وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين } (1) فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة ولم يستقم دين، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه لأن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله ويختل باختلاله.
ويتناول سد حاجات الناس من وجهين: بمادة وكسب، فأما المادة فهي حادثة عن اقتناء أصول نامية بذواتها، وهي شيئان: نبت نام، وحيوان متناسل، قال تعالى (وأنه هو أغنى وأقنى)(2) أي: أغنى بالمال وأقنى: جعل لهم قِنية وهي أصول الأموال.
وأما الكسب فيكون بالأفعال الموصلة إلى المادة والتصرف المؤدي إلى الحاجة وذلك من وجهين:
أحدهما: تقلبٌ في تجارة، والثاني: تصرفٌ في صناعة.
وهذان هما فرع لوجهي المادة فصارت أسباب المواد المألوفة وجهات المكاسب المعروفة من أربعة أوجه: نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة.
وحُكي عن المأمون أنه قال: معايش الناس على أربعة أقسام: زراعة، وصناعة، وتجارة، وإمارة، فمن خرج عنها كان كلاًّ عليها(3).
__________
(1) سورة الأنبياء آية (8).
(2) سورة النجم آية (48).
(3) 10) كتاب أدب الدنيا والدين، ينظر الباب الرابع في أدب الدنيا.(35/5)
ولا يسمح المقام بتتبع ما جادت به قريحة الإمام وكلامه الممتع وقلمه السيّال في توضيح جوانب هذه المواد الأربع، ولكن انظر دقة كلامه وحصافة رأيه وهو يتكلم عن الصناعة أنها تنقسم إلى صناعة فكر وصناعة عمل وصناعة مشتركة بين فكر وعمل، وأن أشرف الصناعات صناعة الفكر، وهذه تنقسم إلى قسمين:
أحدهم ما وقف على التدبيرات الصادرة عن نتائج الآراء الصحيحة كسياسة الناس وتدبير البلاد.
والثاني ما أدت إلى المعلومات الحادثة عن الأفكار النظرية.
ويُقّسم صناعة العمل إلى مرتبتين أيضاً: أعلاه رتبة العمل الصناعي وهو الذي يحتاج إلى معاطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره وإلى عمل يدوي وكد كنقل الأحجار وحمل الأثقال وهو دون الأول في الرتبة(1).
وإذا تأمل العاقل فيما كتبه هذا الحبر وما وضع من منهج في كتابه "أدب الدنيا والدين" لو وضعه السامعون موضع التنفيذ لكانوا رواداً في عالم الصناعة.
ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن العمل المشروع والكسب الحلال أن نُعرج على ما كتبه الإمام الغزالي في كتاب "الإحياء " في مباحث آداب الكسب والمعاش، فقد قسَّم الناس إلى ثلاثة أقسام: رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين، ورجل شغله معاده عن معاشه فهو من الفائزين، والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده فهو من المقتصدين، ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السراء ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة.
ويذكر آداب التجارة والصناعات وضروب الاكتساب وسننها ويشرحها في خمسة أبواب كالآتي:
الباب الأول: في فضل الكسب والحث عليه.
الباب الثاني: في علم صحيح البيع والشراء والمعاملات.
الباب الثالث: في بيان العدل في المعاملة.
الباب الرابع: في بيان الإحسان فيها.
__________
(1) 11) المصدر السابق.(35/6)
الباب الخامس: في شفقة التاجر على نفسه ودينه(1).
وتناول في الباب الثاني الكلام على جملة من الأبواب المعاملات، فقال: الباب الثاني في علم الكسب بطريق البيع والربا والسلم والإجارة والقراض والشركة وبيان شروط الشرع في صحة هذه التصرفات التي هي مدار الكسب في الشرع.
ويحث على تحصيل علم هذا الباب وانه واجب على كل مسلم مكتسب، لأن طلب العلم فريضة على كل مكتسب والمكتسب يحتاج إلى علم الكسب وأنه بتحصيله علم هذا الباب يقف على مفسدات المعاملة فيتقيها وما شدَّ عنه من فروع المشكلة فيقع على سبب إشكالها فيتوقف فيها إلى أن يسأل فإنه إذا لم يعلم أسباب الفساد بعلم إجمالي فلا يدري متى يجب عليه التوقف والسؤال، فلا بد من هذا القدر من علم التجارة ليتميز له المباح من المحظور وموضع الإشكال عن موضع الوضوح.
وخصَّ هذه العقود الستة لأن المكاسب لا تنفك عنها وهي: البيع والربا والسلم والإجارة والشركة والقراض.
وأحكامها مفصلة في كتب الفقه على المذاهب وكذلك في مكتب التفسير والأحاديث المتعلقة بالأحكام، ولهذا نتجاوزها ونخص بعض ما جاء في كتاب الإحياء لأنه غالباً لا يبحثها الفقهاء.
فمثلاً عندما يتكلم على عقد الربا يؤكد أن الله تعالى حرَّمه وشدد الأمر فيه وينبه على وجوب الاحتراز فيه على الصيارفة المتعاملين على النقدين وعلى المتعاملين على الأطعمة، إذ لا ربا إلا في نقد أوفي طعام، وعلى الصيرفي أن يحترز من النسيئة والفضل، أما النسيئة بأن لا يبيع شيئاً من جواهر النقدين إلا يداً بيد وهو أن يجري التقابض في المجلس وهذا احتراز من النسيئة، وتسليم الصيارفة الذهب إلى دار الضرب وشراء الدنانير المضروبة حرام من حيث النساء ومن حيث إن الغالب أن يجري فيه تفاضل إذ لا يرد المضروب بمثل وزنه.
__________
(1) 12) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، كتاب آداب الكسب والمعاش.(35/7)
وأما الفضائل فيحترز في ثلاثة أمور: في بيع المسكر بالصحيح فلا تجوز المعاملة فيهما إلا مع المماثلة، وفي بيع الجيد بالردئ فلا ينبغي أن يشتري رديئاً بجيد دونه في الوزن، أو يبيع رديئاً بجيد فوقه في الوزن أعني إذا باع الذهب بالذهب والفضة بالفضة فإن اختلف الجنسان فلا حرج في الفضل، والثالث في المركبات من الذهب والفضة كالدنانير المخلوطة من الذهب والفضة إن كان مقدار الذهب مجهولاً لم تصح المعاملة عليها أصلاً إلا إذا كان ذلك نقداً جارياً في البلد فإنا نرخص في المعاملة عليه إذا لم يقابل بالنقد وكذا الدراهم المغشوشة بالنحاس إن لم تكن رائجة في البلد لم تصح المعاملة عليها لأن المقصود منها النقرة وهي مجهولة، وإن كان نقداً رائجاً في البلد رخصنا المعاملة لأجل الحاجة(1).
وتحدث في الباب الثالث عن العدل واجتناب الظلم في المعاملة، وينّبه في هذا الباب على أمر جد خطير فيذكر أن المعاملة قد تجري على وجه يحكم المفتي بصحتها وانعقادها ولكن تشتمل على ظلم يتعرض به المعامل لسخط الله تعالى إذ ليس كل نهي يقتضي فساد العقد، وهذا الظلم يعني به ما استضرَّ به الغير وهو منقسم إلى ما يعمّ ضرره وإلى ما يخص المعامل.
ويذكر فيما يعمّ ضرره أنواعاً منها:
1- الاحتكار، فبائع الطعام ينتظر به غلاء الأسعار وهو ظلم عام وصاحبه مذموم في الشرع، وذُكر عن بعض أهل العلم في قوله تعالى "ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلم نذقه منع عذاب أليم"(2).إن الاحتكار من الظلم وداخل تحته في الوعيد.
2- ترويج الزيف من الدراهم في أثناء النقد، فهو ظلم إذ يستضرّ به المعامل إن لم يعرف وإن عرف فسيروجه على غيره فكذلك الثالث والرابع ولا يزال يتردد في الأيدي ويعم الضرر ويتسع الفساد ويكون وزر الكل وباله راجعاً إليه فإنه هو الذي فتح هذا الباب.
وذكر أن في الزيف خمسة أمور:
__________
(1) 13) إحياء علوم الدين ج2/70.
(2) 14) سورة الحج آية (25).(35/8)
الأول: أنه إذا رُدّ عليه شيء منه فينبغي أن يطرحه في بئر بحيث لا تمتد إليه اليد وإياه أن يروجه في بيع آخر، وإن أفسده بحيث لا يمكن التعامل به جاز.
الثاني: أنه يجب على التاجر تعلم النقد لا ليستقصي لنفسه ولكن لئلا يسلم إلى مسلم زيفاً وهو لا يدري فيكون آثماً بتقصيره في تعلم ذلك العلم.
الثالث: إنه إن سلم وعرف العامل أنه زيف لم يخرج عن الإثم لأنه ليس يأخذه إلا ليروجه على غيره ولا ليخبره ولو لم يعزم على ذلك لكان لا يرغب في أخذه أصلاً، فإنما يتخلص من إثم الضرر الذي يخص معاملة فقط.
الرابع: أن يأخذ الزيف ليعمل بقوله صلى الله عليه وسلم" رحم الله امرءا سهل البيع سهل الشراء سهل القضاء سهل الاقتضاء"(1)، فهو داخل في بركة هذا الدعاء إن عزم على طرحه في بئر، وإن كان عازماً على روجه فهذا شر روّجه الشيطان عليه.
الخامس: وهو خاص بالنقود المزيفة.
أما ما يخص ضرره العامل فهو كل ما يستضرّ به العامل وإنما العدل أن لا يضر بأخيه المسلم، والضابط الكلي أن لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه فكل ما لو عومل به شقّ عليه وثقل على قلبه فينبغي أن لا يُعامل غيره به(2).
هذا وليس مقصودنا في هذا المبحث استقصاء أبواب المعاملات فإن ذلك يخرج بنا عن المقصود وقد تكفلت كتبه الفقه بيان ذلك.
المبحث الثاني
في الكسب غير المشروع
]الحرام والشبهة[
فصَّل الإمام الغزالي الكلام على الحلال والحرام في الكتاب الرابع من ريع العائدات من كتاب "إحياء علوم الدين"، ونحن نجتزئ منه ما يتصل ببحثنا وقد أحلنا على كتب الفقه ما يتصل بطلب الحلال، أما المال الحرام فقد قال: إن المال الحرام إنما يحرم إما لمعنى في عينه أو خلل في جهة اكتسابه.
__________
(1) 15) رواه البخاري من حديث جابر كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبع، النظر الفتح ج5/210.
(2) 16)الإحياء ج2/74- 76.(35/9)
أما الحرام لصفة في عينه كالخمر والخنزير وغيرهما وتفصيله أن الأعيان المأكولة على وجه الأرض لا تعدو على ثلاثة أقسام: فإنها إما أن تكون من المعادن كالملح والطين وغيرهما أو من النبات أو من الحيوانات.
أما المعادن فهي أجزاء الأرض وجميع ما يخرج منها فلا يحرم أكله إلا من حيث أنه يضر بالآكل وفي بعضها ما يجري مجرى السم، والخبز لو كان مضرّاً لحرم أكله، وأما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل العقل أو يزيل الحياة فمزيل العقل البنج والخمر وسائر المسكرات ومزيل الحياة السموم ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها.
وأما الحيوانات فتنقسم إلة ما يؤكل وإلى ما يؤكل وتفصيله في كتاب الأطعمة.
والقسم الثاني ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه.
ويقول: وفيه يتسع النظر، لأن أخذ المال إما أن يكون باختيار المال أو بغير اختياره كالذي يكون بغير اختياره كالإرث، والذي يكون باختياره إما أن لا يكون من مال كالمعادن أو يكون مالك، والذي أخذ من مالك فإما أن يؤخذ قهراً أو يؤخذ تراضياً، والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكاة الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم، والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ كالبيع والصداق والأجرة وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل ستة أقسام.
ثم يتكلم عن درجات الحلال والحرام فيقول: الحرام كله خبيث لكن بعضه أخبث من بعض، والحلال كله طيب لكن بعضه أطيب من بعض.
إلى أن يقول: الورع عن الحرام على أربع درجات:
الأول: ورع العدول وهو الذي يجب الفسق باقتحامه وتسقط العدالة به ويثبت اسم العصيان والتعرض للنار بسببه، وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء.
الثاني: ورع الصالحين وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر، فهو من مواقع الشبهة على الجملة والتحرج منه من ورع الصالحين.(35/10)
الثالث: ما لا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حله ولكن يخاف من أداؤه إلى محرم وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس وهذا ورع المتقين.
الرابع: ما لا بأس به أصلاً ولا يخاف منه أن يؤدي إلى ما به بأس، ولكنه يتناول لغير الله وعلى غير نية التقوى به على عبادة التقوى به على عبادة الله والامتناع منه وهذا ورع الصديقين فهذه درجات الحلال جملة.
وأما الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى وهو الذي يشترط التورع عنه في العدالة وإطراح سمة الفسق فهو أيضاً على درجات في الخبث، فالمأخوذ بعقد فاسد كالمعاطاة مثلاً فيما يجوز فيه المعاطاة حرام ولكنه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر بل المغصوب أغلظ إذ فيه ترك طريق الشرع في الاكتساب وإيذاء الغير، وليس في المعاطاة إيذاء وإنما فيه ترك طريق التعبد فقط، ثم ترك طريق التعبد بالمعاطاة أهون من تركه الربا، وهذا التفاوت يدرك بتشديد الشرع وعيده، والمأخوذ ظلماً من فقير أو صالح أو من يتيم أخبث وأعظم من المأخوذ من قوي أو غني أو فاسق لأن درجات الإيذاء تختلف باختلاف درجات المؤذى، فهذه دقائق في تفاصيل الخبائث لا ينبغي أن يذهل عنها فلولا اختلاف درجات العصا لما اختلفت دركات النار(1).
ثم يضرب الأمثال للدرجات الأربع في الورع وشواهدها، فيقول: أما الدرجة الأولى وهي ورع العدول فكل ما اقتضى الفتوى تحريمه مما يدخل في المداخل الستة التي ذكرناها من مداخل الحرام لفقد شرط من الشروط فهو الحرام المطلق الذي ينسب مقتحمه إلى الفسق والمعصية وهو الذي نريده بالحرام المطلق ولا يحتاج إلى أمثلة وشواهد.
__________
(1) 17) الإحياء ج2/94، 95.(35/11)
وأما الدرجة الثانية فأمثلتها كل شبهة لا توجب اجتنابها ولكن يستحب اجتنابها كما سيأتي في باب الشبهات، أما ما يجب اجتنابها فتلحق بالحرام ومنها ما يكره اجتنابها كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت، ومنها ما يستحب اجتنابها ولا يجب وهو الذي ينزل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (1)ونحمله على نهي التنزيه.
ثم يتناول مراتب الشبهات ومثاراتها وتمييزها عنا الحلال والحرام، ويستشهد بحديث النعمان ابن بشير المتفق عليه "الحلال بيِِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه"(2).
قال هذا الحديث نص في إثبات الأقسام الثلاثة والمشكل منها المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو الشبهة، ثم يتكلم عن الحلال المطلق ويُعرفه بأنه الذي خلا عن ذاته الصفات الموجبة للتحريم في عينه وانحل عن أسبابه ما تطرق إليه تحريم أو كراهية ويضرب له كماء المطر الذي يجمعه الإنسان مباشرة.
والحرام المحض هو ما فيه محرمة لا شك فيها كالشدّة المطربة في الخمر، والنجاسة في البول، أو حصل بسبب منهي عنه قطعاً كالمحصل من الظلم والربا ونظائره، فهذان طرفان ظاهران ويلتحق بالطرفين ما تحقق أمره ولكنه احتمل تغيره ولم يكن كذلك الاحتمال سبب يدل عليه.
__________
(1) 18) قال: قال زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء رواه النسائي والترمذي والحاكم وصححاه من حديث الحسن بن علي. وانظر كشف الخفاء ومزيل الألباس، قال: رواه أبو داود والطيالس وأحمد وأبو يعلى في مسانيدهم والدارمي والترمذي وآخرون عن الحسن بن علي رقم عنده (1307) حرف الدال ج1/489.
(2) 19) الحديث: قال في تيسي الوصول ج4/166- أخرجه الخمسة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.(35/12)
ثم تكلم عن الشبهة ويُعنى بها ما اشتبه أمره بأن تعارض فيه اعتقادان صدرا عن سببين مقتضيين للاعتقادين.
ويذكر مثارات الشبهة وهي خمسة، ونذكرها باختصار:
المثار الأول: الشك في السبب المحل والمحرم.
وذلك لا يخلو إما أن يكون متعادلاً أو غلب أحد الاحتمالين، فأن تعادل الاحتمالين كان الحكم لما عرف قبله فيستصحب ولا يترك بالشك، وإن غلب أحد الاحتمالين بأن صدر عن دلالة معتبرة كان الحكم للغالب وهو على أربعة أقسام:
الأول: أن يكون التحريم معلوماً من قبل ثم يقع الشك في المحلل، فهذه الشبهة يجب اجتنابها ويحرم الإقدام عليها.
الثاني: أن يعرف الحل ويشك في المحرم فالأصل الحل وله الحكم.
الثالث: أن يكون الأصل والتحريم ولكن طرأ ما أوجب تحليله بطن غالب فهو مشكوك فيه والغالب حله.
الرابع: أن يكون الحل معلوماً ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعاً فيرفع الاستصحاب ويقضي بالتحريم إذ إن الاستصحاب ضعيف ولا يبقى له حكم مع غالب الظن.
وانتهى إلى القول بأن كل ما حكمنا في هذه الأقسام الأربعة بحله فهو حلال في الدرجة الأولى والاحتياط تركه، فالمقدم عليه لا يكون من زمرة المتقين الصالحين بل من زمرة العدول الذين لا يقضى في فتوى الشرع بفسقهم وعصيانهم واستحقاقهم للعقوبة.
المثار الثاني: للشبهة شك منشئه الاختلاط.
وذلك بان يختلط الحرام بالحلال ويشتبه الأمر ولا يتميز، وتحته ثلاثة أقسام لأن الخلط لا يخلو إما أن يقع بعدد لا يحصر من الجانبين أو من أحدهما أو بعدد محصور، فإن اختلط بمحصور فلا يخلو إما أن يكون اختلاط امتزاج بحيث لا يتميز كاختلاط المائعات أو يكون اختلاط استبهام مع التميز للأعيان كاختلاط الدور والأفراس، والذي يختلط بالاستبهام فلا يخلو إما أن يكون مما يقصد عينه كالعروض أو لا يقصد كالنقود، ويأتي لكل نوع من هذه الأنواع بالأمثلة ومزيد بيان.(35/13)
المثار الثالث: للشبهة أن يتصل السبب المحلل معصية كالبيع قفي وقت النداء يوم الجمعة والبيع على بيع الغير والسوم على سومه، فكل نهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد فإن الامتناع من جميع ذلك ورع وإن لم يكن المستفاد بهذه الأسباب محكوماً بتحريمه، وتسمية هذا النمط شبهة فيه تسامح لأن الشبهة في غالب الأمر تطلق لإرادة الاشتباه والجهل ولا اشتباه هاهنا بل العصيان، وتناول الحاصل من هذه الأمور مكروه والكراهة تشبه التحريم فإن أُريد بالشبهة هذا فتسمية هذا شبهة له وجود و إلا فينبغي أن يُسمى هذا كراهة لا شبهة.
وقسم الكراهة إلى ثلاث درجات:
الأولى: منها تقرب من الحرام والورع عنه مهم، والأخيرة تنتهي إلى نوع من المبالغة وبينهما أوساط نازعة إلى الطرفين.
المثار الرابع: للشبهة: الاختلاف في الأدلة، فإن ذلك كالاختلاف في السبب لأن السبب سبب لحكم الحل والحرمة والدليل سبب لمعرفة الحل والحرمة فهو سبب في حق المعرفة،وما لم يثبت في معرفة الغير فلا فائدة لثبوته في نفسه وإن جرى سببه في علم الله وهو إما أن يكون لتعارض أدلة الشرع أو لتعارض العلامات الدالة أو لتعارض التشابه.
القسم الأول: أن تتعارض أدلة الشرع، مثل تعارض عمومين من القرآن أو السنة، أو تعارض قياسين، أو تعارض قياس وعموم، وكل ذلك يورث الشك ويرجع فيه إلى الاستصحاب أو الأصل المعلوم قبله إن لم يكن ترجيح، فإن ظهر ترجيح جانب الحظر وجب الأخذ به، وإن ظهر في جانب الحل جاز الأخذ به ولكن الورع تركه واتقاء مواضع الخلاف مهم في الورع في حق المفتي والمقلد وإن كان المقلد يجوز له أن يأخذ بما أفتى له المفتي الذي يظن أنه أفضل العلماء.
القسم الثاني: تعارض العلامات الدالة على الحل والحرمة، كأن يرى عند رجل صالح مالاً منهوباً فيدل صلاحه على أنه حلال ويدل نوع المال المنهوب على أنه حرام، فيتعارض الأمران وكذلك يخبر عدل على أنه حرام وآخر على أنه حلال.(35/14)
القسم الثالث: تعارض الأشياء في الصفات التي تُناط بها الأحكام(1).
المبحث الثالث
مقارنة بين الأموال المعنية عند القائلين
بغسل الأموال وبين الأموال عند الفقهاء
هذه المقارنة ضرورية سيما على المستوى الاقتصادي والدولي والبنوك الإسلامية التي تعنيها الأمر، فقد يفرض عليها بتشريعات وقوانين بضرورة اتخاذ موقف قبل الأموال المودعة لديها في ظل الخطوات التي تمارسها الدول الآن على المستوى العالمي، وقد تفرض على متلف الدول الخضوع لها والتقيد بأحكامها.
كما حدث لنيجيريا حيث اضطرت لإصدار قانون لمكافحة غسيل الأموال وذلك قبل يوم واحد لانتهاء المهلة التي حددتها لها الدول الصناعية الكبرى لتفادي العقوبات الدولية وقد هددتها أمريكا بفرض عقوبات ما لم تُصدر نيجيريا قوانينها بحلول 15 من ديسمبر الجاري (الأنباء الكويتية عدد 9561 بتاريخ 17/12/2002م).
وهذا عرض موجز للأموال التي يطالها مفهوم غسيل الأموال والإجراءات التي تتجه الدول إلى اتخاذها أو اتخذتها بالفعل.
__________
(1) 20) الإحياء ج2/99- 117.(35/15)
أما الأموال في عرف المهتمين بقضية غسيل الأموال فهي إضافة إلى ما ذكرنا في مقدمة البحث تعني كما بحثها الدكتور حمدي عبد العظيم أستاذ الاقتصاد وعميد أكاديمية السادات للعلوم الإدارية في كتابه غسيل الأموال في مصر والعالم (الجريمة البيضاء أبعادها وآثارها كيفية مكافحتها) وتضمن الكتاب خمسة فصول، بحث في الفصل الأول العلاقة بين غسيل الأموال والاقتصاد الخفي، وفي الفصل الثاني غسيل الأموال على مستوى العالم، وفي الفصل الثالث غسيل الأموال في مصر، وفي الفصل الرابع الآثار الاقتصادية لعملية غسيل الأموال، وفي الفصل الخامس تحدث عن الجهود الدولية لمواجهة غسيل الأموال، وهو كما يظهر دراسة شاملة لغسيل الأموال مصدرها وآثارها وكيفية مكافحتها، وبينَّ في مقدمة كتابه أن تعبير غسيل الأموال أو الجريمة البيضاء يعتبر من التعبيرات التي تداولت مؤخراً في كافة المحافل المحلية والدولية المهتمة بالجرائم الاقتصادية والأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي باعتبار أن عمليات غسيل الأموال ترتبط إلى حد كبير بأنشطة غير مشروعة عادة ما تكون هاربة خارج حدود سريان القوانين المناهضة للفساد المالي ثم تحاول العودة مرة أخرى بصفة شرعية معترف بها من قبل نفس القوانين التي كانت تُجرمها داخل الحدود الإقليمية التي تسري عليها هذه القوانين.
عادة الأموال أو الدخول الناتجة عن أحد أو كل الأنشطة التالية:
أنشطة الاتجار في السلع أو الخدمات غير المشروعة وفقاً لقوانين أو تشريعات الدولة، مثل المتاجرة في المخدرات بأنواعها المختلفة وأنشطة البغاء والدعارة أو شبكات الرقيق الأبيض.
أنشطة التهريب عبر الحدود للسلع والمنتجات المستوردة دون دفع الرسوم أو الضرائب الجمركية المقررة، مثل تهريب السلع من المناطق الحرة وتهريب السجائر والسلع المعمرة والسلاح وغيرها.(35/16)
أنشطة السوق السوداء والتي يتحقق منها دخولاً طائلة للمتعاملين فيها بالمخالفة لقوانين الدولة، مثل الاتجار في العملات الأجنبية في الدول التي تفرض رقابة صارمة على التعامل في النقد الأجنبي.
وكذلك الاتجار في السلع التي تعاني البلاد من نقص المعروض منها، حيث يتجه التجار إلى رفع أسعار بيعها بشكل كبير وبالمخالفة لضوابط التسعير التي تحددها السلطات المحلية.
أنشطة الرشوة والفساد الإداري والتربح من الوظائف العامة، وذلك من خلال الحصول على دخول غير مشروعة مقابل التراخيص أو الموافقات الحكومية أو ترسي العطاءات في المعاملات المحلية والخارجية بالمخالفة لأهم نصوص اللوائح والقوانين.
الدخول الناتجة عن التهرب الضريبي من خلال التلاعب في الحسابات أو إخفاء مصدر الدخل وعدم سداد الضرائب المستحقة على النشاط إلى خزانة الدولة أو تحويل الأموال إلى خارج البلاد بإيداعها هناك في البنوك الأجنبية.
العمولات التي يحصل عليها بعض الأفراد مقابل عقد صفقات الأسلحة والسلع الرأسمالية أو الاستثمارية أو الحصول على التكنولوجيا المتقدمة أو أية صفقات تجارية كبيرة القيمة.
الدخول الناتجة عن الأنشطة السياسية غير المشروعة مثل أنشطة الجاسوسية الدولي، الدخول الناتجة عن السرقات أو الاختلاسات من الأموال العامة.
الاقتراض من البنوك المحلية بدون ضمانات كافية وتحويلها إلى الخارج وعدم سداد المستحقات للبنوك المحلية، وهروب الأشخاص المقترضين مع أموالهم خارج البلاد لفترات إلى أن تسقط عنهم الجرائم والأحكام بالتقادم.
جمع أموال المودعين وتهريبها إلى الخارج وإيداعها في البنوك الأجنبية دون وجود ضمانات كافية لأصحاب الأموال، مع قيام الأشخاص الذين يجمعون هذه الأموال إلى عقارات أو محلات تجارية أو غيرها ثم بيعها إلى ذويهم تمهيداً لعودتها إلى البلاد مرة أخرى في صورة غير مشروعة.(35/17)
الدخول الناتجة عن النصب والاحتيال المهربة إلى الخارج مثل الاحتيال على الراغبين في العمل في الخارج لقاء مبالغ مقابل الحصول على شهادات أو جوازات مزورة.
الدخول الناتجة عن الغش التجاري أو الاتجار في السلع الفاسدة أو تقليد الماركات العالمية أو المحلية ذات الجودة والشهرة الفائقة، أو تزوير الكتب والمصنفات الفنية الخ.... الدخول الناتجة عن تزييف النقد.
الدخول الناتجة عن تزوير الشيكات المصرفية وسحب المبالغ من البنوك المحلية بشيكات أو حوالات مزورة، أو من خلال تزوير الاعتمادات المستندية المعززة بموافقة البنوك.
الدخول الناتجة عن المضاربة غير المشروعة في الأوراق المالية والتي تعتمد على خداع المتعاملين في البورصات العالمية.
ثم قال: إن كافة الدخول التي تتحقق من الأنشطة السابق ذكرها تعتبر غير مسجلة في الحسابات القومية، ومن ثم يصعب الوصول إلى أرقام حقيقية عن حجمها أو مقاديرها باعتبارها أنشطة تدرج ضمن أنشطة الاقتصاد الخفي أو الاقتصاد السفلي وتمثل الجانب غير المشروع(1).
وبينَّ المستشار عبد الفتاح مراد المقصود بعبارة غسيل الأموال في القانون رقم
80/2002 بشأن مكافحة غسل الأموال في مصر طبقاً لما نصت عليها المادة الأولى فقرة (ب) بأنها كل سلوك ينطوي على اكتساب أموال أو حيازتها أو التصرف فيها
__________
(1) 21) كتاب غسيل الأموال في مصر والعالم ص 5،7.(35/18)
أو إدارتها أوحفظها أو استبدالها أو إيداعها أو ضمانها أو استثمارها أو نقلها أو تحويلها أو التلاعب في قيمتها إذا كانت متحصلة من جريمة من جرائم زراعة وتصنيع النباتات والجواهر والمواد المخدرة وجلبها وتصديرها والتجار فيها وجرائم اختطاف وسائل النقل واحتجاز الأشخاص والجرائم التي يكون الإرهاب بالتعريف الوارد في المادة (86) من قانون العقوبات، وجرائم استيراد الأسلحة والذخائر والمفرقعات والاتجار فيها وصنعها بغير ترخيص، والجرائم المنصوص عليها في الأبواب الأول والثاني والثالث والرابع والخمس عشر والسادس عشر من الكتاب الثاني من العقوبات، وجرائم سرقة الأموال أو اغتصابها، وجرائم الفجور والدعارة، والجرائم الواقعة على الآثار، والجرائم البيئية المتعلقة بالمواد والنفايات الخطيرة، والجرائم المنظمة التي يُشار إليها في الاتفاقات الدولية التي تكون مصر طرفاً فيها- سواء وقعت جريمة غسل الأموال في الداخل أو الخارج بشرط أن يكون معاقباً عليها في كلا القانونين المصري والأجنبي- متى كان القصد من هذا السلوك إخفاء المال أو تمويه طبيعته أو مصدره أو مكانه أو صاحبه أ, صاحب الحق فيه أو تغيير حقيقته أ, الحيلولة دون اكتشاف ذلك أو عرقلة التوصل إلى شخص من ارتكب الجريمة المتحصل منها المال(1).
وقد عقدت كلية الحقوق- جامعة الكويت- حلقة نقاشية يوم الأحد الموافق
__________
(1) 22) الأهرام عدد رقم 42375، الجمعة 9 شوال 1423هـ- 13 ديسمبر 2002م.
(23) مجلة الحقوق، السنة الثانية والعشرون، العدد الثالث، جمادى الآخرة 1419هـ- سبتمبر 1998م.(35/19)
10/5/1998م حول ظاهرة غسيل الأموال وأثرها على الاقتصاد الوطني، شارك فيها عدد من الأساتذة من بينهم عدد حضروا عن البنوك، كما حضر مندوب عن البنك المركزي وتناولوا كل ما يتصل بعملية غسل الأموال وكيفية تحويل الكميات الضخمة من النقد إلى إيداعات أو تحويلها إلى أدوات مالية عاملة أو إلى رؤوس أموال أخرى تدور في الاقتصاد أو أنها تمر بمراحل ثلاث هي الإحلال والتعتيم والتغطية والدمج.
أولاً- الإحلال: ويقصد بالإحلال تقديم المال في صورة تجارة مشروعة عن طريق خلق نسيج جديد للصفقات النقدية بإيداعات نقدية بنكية أو شراء أوراق مالية.
وهناك إحلال عن طريق استخدام مؤسسات غير تقليدية مثل بيوت الصيرفة سماسرة الائتمان وتجار المعادن النفيسة والكازينوهات وأماكن اللهو بصفة عامة، كذلك من وسائل الإحلال شراء السيارات والمركب والطائرات والعقارات وهي وسيلة تقليدية لغسيل الأموال، ومفضلة لأنها تحول النقد إلى رأس مال ذي قيمة عالية يستخدم مستقبلاً من خلال عمليات إعادة البيع في عمليات أخرى.
كذلك عمليات تهريب العملة من بلد الأصل من خلال شركات البرق والبريد الجوي السريع والشركات الجوية الخاصة وعمليات شحن البضائع.
ومن أبرز إجراءات هذه المرحلة اختيار موقع التنفيذ، وهناك أسواق معروفة تقدم تسهيلات وتأمينات لهذا العملية مثل هونج كونج وبنما وجزر الكاريبي.
ثانيا- التعتيم والتغطية: وهي مرحلة تالية للمرحلة السابقة فإذا نجح التاجر في أن يضع أمواله في إطار النظام المالي الدائر ينتقل بعد ذلك إلى الخطوة الثانية وهي المعروفة بالتعتيم وهي مرحلة يتم فيها فصل الدخل عن أصله بخلق طبقات معقدة من صفقات مالية تهدف إلى إخفاء معالم مصدر المال أو إبعاده قدر الإمكان عن إمكانية تتبع الحركة الحسابية له.(35/20)
ومن أمثلة التعتيم استخدام أوراق مالية من خلال مؤسسات مالية من السهل تحويلها مثل الشيكات السياحية وخطاب الضمان وأوامر الدفع وشيكات الصرف والأسهم والسندات، وهذه الوسائل تسمح للدخل أن يتحول مرة أخرى أو يودع في مؤسسة وطنية أخرى دون أن يُكشف، وإن رأس المال الذي تم الحصول عليه في المرحلة الأولى يمكن أن يُعاد بيعه أو يصدر والمقابل يأخذ صورة دفع نقدي وهو ما يجعل شخص المشتري أقل وضوحاً ورأس المال أكثر مرونة في الحركة.
ثالثاً- الدمج: وهذه المرحلة تكفل الغطاء النهائي للمظهر الشرعي للثروة ذات المصدر غير المشروع، وبهذه العملية توضع الأموال المغسولة مرة أخرى في الاقتصاد بطريقة يبدو معها أنه تشغيل عادي لما من مصدر نظيف، ومن أمثلة إجراءات الدمج:
ا) بيع وشراء العقارات بواسطة شركة غطاء تشتري ثم تبيع.
ب) القروض الصورية أو الوهمية، وعادة يلجأ التجار إلى شراء بضائع بأسعار تضخمية والغاسل لا يهمه أن يدفع السعر التضخمي طالما أنه يحصل على بضائع أصلية مطهرة يمكن بصورة مباشرة أن يبيعها.
ج) مشاركات البنوك الأجنبية في عمليات الغسيل.
د) يعرقل مهمة الكشف نظام السرية عمل البنوك مما يحقق تسهيلات لحركة التداول.
ه) تشهد هذه المرحلة صدور أذونات أو تراخيص الاستيراد والتصدير المزيفة
أو الوهمية، وهي تتمم وثائق إيداع الدخول في النهاية في البنوك(1).
مقارنة وتنظير:
__________
(1) 24) سورة النساء آية (29).(35/21)
وإذا ما أجريت مقارنة سريعة بشأن الأموال غير النظيفة أو غير المشروعة سالفة البيان وبين الأموال التي بحثها وبينّها الإمام الغزالي في الإحياء يتبين أن كثيراً من هذه الأموال ينطبق عليها الأحكام الشرعية وأنها تدخل في مفهوم المال الحرام، وبخاصة ما كان مصدره الاتجار في المواد المحرمة كالخمر والمخدرات أو البغاء أو الرشوة أو الاختلاس وتزييف النقد والتزوير والتدليس والغش بكافة أنواعه، وأنها لا شبهة في حرمتها وأنها مال خبيث تركها من ورع العدول وأنه لو أخذه كان فاسقاً باقتحامه وتسقط عدالته ويثبت له اسم العصيان والتعرض للنار.
ويُدخل ابن حجر الهيثمي أكل المال بالبيوعات الفاسدة وسائر وجوه الأكساب المحرمة في عداد الكبائر، ويستشهد بقول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } (1).
قال: اختلفوا في المراد به، فقيل الربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال بالثيمين الكاذبة.
ونقل عن ابن عباس: هو ما يُؤخذ عن الإنسان بغير عوض، وعليه قيل: لما نزلت الآية تحرجوا من أن يأكلوا عند أحد شيئاً حتى نزلت آية النور { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم } (2) إلى آخرها، وقيل: هو العقود الفاسدة.
قال: والجه قول ابن مسعود أنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وذلك لأن الأكل بالباطل يشمل كل مأخوذ بغير حق سواءً كان على جهة الظلم كالغصب والخيانة والسرقة أو الهزؤ واللعب كالمأخوذ بالقمار والملاهي أو على وجه المكر والخديعة كالمأخوذة بعقد فاسد.
__________
(1) 25) سورة النور آية (61).
(2) 26) الزواجر عن اقتراف الكبائر ج1/230- 232.(35/22)
قال: وقوله تعالى { إلا أن تكون تجارة } استثناء منقطع لأن التجارة ليس من جنس الباطل بأي معنى أُريد به. والتجارة وإن اختصت بعقود المعاوضات إلا أن نحو القرض والهبة ملحق بها بأدلة أخرى، وقوله تعالى { عن تراضٍ منكم } أي طيب نفس على الوجه المشروع، وتخصيص الأكل فيها بالذكر ليس للتقييد به بل لكونه أغلب وجوه الانتفاعات.
قال: عدّ هذا كبيرة هو صريح ما في الأحاديث وهو ظاهر لأنه من أكل أموال الناس بالباطل.
ونقل عن علماء قولهم: ويدخل في هذا الباب المكاس والخائن والسارق وآكل الربا وموله وآكل مال اليتيم وشاهد الزور ومن استعار شيئاً فجحده وآكل الرشوة ومنتقص الكيل والوزن ومن باع شيئاً فيه عيب فغطَّاه والمقامر والساحر والمنجم والمصور والزانية والنائحة والدلال إذا أخذ أجرته بغير إذن البائع ومخبر المشتري بالزائد ومن باع حراً فأكل ثمنه.
قال: وهذه يؤيد ما قدمته في تفسير الآية من أن الباطل فيها يعم هذه الأشياء كلها وما في معناها من كل شيء أُخذ بغير وجهه الشرعي(1).
وأدخل في الكبائر الاحتكار وبيع العنب والزبيب ونحوهما ممن علم أنه يعصره خمرا، ولأمة ممن يحملها على البغاء، والخشب ونحوه ممن يتخذه آلة لهو، والسلاح للحربيين ليستعينوا به على قتالنا، والخمر ممن يعلم أنه يشربها، ونحو الحشيشة ممن يعلم أنه يستعملها، قال: وعدّ هذه السبع من الكبائر، لم أره ولكنه غير بعيد لعظم ضررها مع قاعدة أن للوسائل حكم المقاصد، والمقاصد في هذه كلها كبائر فلتكن وسائلها كذلك.
قال: والظن في ذلك كالعلم ولكن بالنسبة للتحريم، وأما الكبيرة فيتردد النظر فيه، وكذلك يتردد النظر فيما لو باع السلاح لبغاة ليستعينوا به على قتالنا، وفي ذلك بيع الديك لمن يُهارش به والثور لمن يناطح به، فهذه كلها يتردد النظر في كونها كبائر وبعضها أقرب إلى الكبيرة من بعض.
__________
(1) 27) الزواجر عن اقتراف الكبائر ج1/238- 243.(35/23)
وعدّ من الكبائر أيضاً النجش والبيع والشراء على شرائه والغش في البيع وغيره كالتصرية.
وأجاب وقد سُئل عن اعتياد بعض التجار يشتري الفلفل في ظرف خفيف جداً كالخصف ثم يجعله في ظرف ثقيل نحو خمسة أضعاف الخصف ثم يباع ذلك الظرف وما فيه ويوزن جملة الكل ويكون الثمن مقابلاً للظرف والمظروف، فهل هذا الفعل جائز أو غش محرم يعزز فاعله بما يراه الإمام من ضرب وصفع وطواف به في الأسواق وحبس وأخذ مال إن كان ذلك مذهب الحاكم ذلك؟ وهل البيع صحيح أو باطل، وإن كان باطلاً فهل هو من أكل أموال الناس بالباطل أو لا؟ وهل يجب على ولي الأمر أن يزجر التجار ويمنعهم من ذلك ويعزز من فعل ذلك منهم؟
وقد تضمن السؤال كثيراً من وجوه الغش والتدليس الذي اعتاده التجار إلى أن قال: ولو فتشت الصناعات والحرف والتجارات والبيوعات والعطارات والصياغات والمصارف وغيرها لوجدت عندهم من صور الغش والتدليس والخيانة والمكر والتحايل بالحيل الكاذبة ما تنفر عنه الطباع وتمجه الأسماع، لأننا نجدهم في معاملاتهم كرجلين معهما سيفان متقابلان فمتى قدر أحدهما على الآخر قتله لوقته، كذلك التجار والمتبايعون الآن.(35/24)
قال: هذا حاصل السؤال وحاصل الجواب أن مسألة بيع الظرف مع ما فيه فاتفق الشافعية على أنه من جهل وزن الظرف على انفراده، فبيع مع مفروقه كل رطل من الجملة بكذا كان البيع باطلاً أنه حينئذ من حيز الغرر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وكذا لو جهل وزن المظروف وحده أو لم يكن للظرف قيمة لاشتراط العقد على بذل مال في مقابلة ما ليس بمال، إلى أن قال: هذا حاصل ما يتعلق بالمسألة الأولى أعني بيع الظرف والمظروف بثمن واحد، وأما ما ذكره السائل في صور الغش الكثيرة من تلك الأمور العجيبة التي لا يُحكى نظيرها عن الكفار فضلاً عن المؤمنين فذلك أعني ما حكى من صور ذلك الغش التي يفعلها التجار والعطارون والبزازون والصواغون والصيارفة والحياكون وسائر أرباب البضائع والمتاجر والحرف والصنائع كلها حرام شديد التحريم موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش خائن يأكل أموال الناس بالباطل ويُخادع الله ورسوله وما يخدع إلا نفسه لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه.
والجواب طويل استغرق ثلاث صفحات وفيه من الوعيد وإحباط العمل واستحقاق العذاب ما فيه إلى أن قال في آخر الجواب: وإنما بسطنا الكلام عليه رجاء أن يسمعه من في قلبه إيمان ومن يخشى عقاب الله وسطوته ومن له دين ومروءة ومن يخشى على ذريته بعد موته فيتقي الله ويرجع عن سائر صور الغش المذكور في هذا السؤال وغيرها(1).
وقال القرطبي في قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } (2).
الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى:
__________
(1) 28) سورة البقرة آية (181).
(2) 29) تفسير القرطبي ج2/ 338.(35/25)
لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرّمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحُلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك(1).
قال: من أخذ مال غيره لا على وجه أذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل فالحرام لا يصير حلالاً بقضاء القاضي أنه إنما يقضي بالظاهر وهذا إجماع في الأموال(2).
هذا عرض سريع لوجوه التشابه في الأموال غير المشروعة في الشريعة الإسلامية، وما تضمنته التشريعات الحديثة في ما يُطلق عليه غسيل الأموال أو الاقتصاد الخفي، وسيأتي في المبحث التالي ما ينبغي اتخاذه في شأن هذه الأموال في الشريعة والنظم المعاصرة.
- - -
المبحث الرابع
في طرق مواجهة الكسب غير المشروع (غسيل الموال)
في شريعة الإسلام والنظم المعاصرة
اتخذ أسلوب مواجهة طرق الكسب غير المشروع (أو غسيل الموال) في الفقه الإسلامي عدّة مظاهر أساسية كفيلة للقضاء عليها، وهي:
المظهر الأول: المظهر التربوي والأخلاقي، فالإسلام ربّى في نفوس معتنقيه أدب الالتزام بتعاليمه والرقابة التي يشعر المسلم من خلالها أن الله مُطّلع عليه لا تخفى عليه خافية ولا يغفل عنه طرفة عين مما يستلزم الخشية منه تعالى والخوف من عقابه، فيعصمه ذلك عن مخالفة شرعه والتزام أوامره، ولكن ليس كل المكلفين على حال واحدة من فعل الطاعة وترك لمعصية بل الناس في ذلك أصناف، فمنهم من يستجيب إلى فعل الطاعة ويكف عن ارتكاب المعاصي وهذا أكمل أحوال الدين وأفضل صفات المتدينين، ومنهم من يمتنع عن فعل الطاعات ويقدم على ارتكاب المعاصي والمخالفات، و منهم من يمتنع عن فعل الطاعات ويكف عن ارتكاب المعاصي.
__________
(1) 30) المصدر السابق.
(2) 31) أدب الدنيا والدين، ص110، طبعة الحلبي الرابعة، وانظر كتابه الأحكام السلطانية الباب الذي عقده في الحسبة.(35/26)
فإلى مثل هؤلاء شرع الإسلام الرقابة الثانية وهي الرقابة الخارجية وهي المظهر الثاني من مظاهر المواجهة، وتشمل جميع المخالفات سواء ما كان منها متعلقاً بالكسب أو غيره ولكن مواجهة الكسب غير المشروع اتخذ في الإسلام مظهراً أكر وضوحاً وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد شاع استعمال السبة في هذا الجانب، والحسبة هي الأمر بالمعروف إذا طهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، قال الإمام الماوردي "ثم أكدَّ الله زواجره بإنكار المنكرين بها فأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون الأمر بالمعروف تأكيداً لأوامره والنهي عن المنكر تأييداً لزواجره، لأن النفوس الأشرة قد ألهتها عن إتباع الأوامر وأذهلتها الشهوات عن تذكار الزواجر فكان إنكار المجالس أزجر لها وتوبيخ المخالطين أبلغ فيها(1).
واتخذت الحسبة مظهر الولاية والجهاز الإداري الفعَّال في الدولة نيطت بها مراقبة الأسواق والأخذ على أيدي المتلاعبين فيه بعقوبات صارمة، وقد تكفلت الكتب التي وضعت في الحسبة قديماً وحديثاً ببيان هذه العقوبات، ويلخص ابن تيمية وظائف المحتسب بقوله: ويأمر المحتسب بالجمعة والجماعات ويصدق الحديث وأداء الأمانات وينهى عن المنكرات من الكذب والخيانة وما يدخل في ذلك من تطفيف المكيال والميزان والغش في الصناعات والبيعات ونحو ذلك.
ثم يأخذ في تعداد بعض الأمور مثل قوله: والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع، ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات أو يصنعون الملبوسات أو يصنعون غير ذلك من الصناعات فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان، ومن هؤلاء الكيماوية الذين يغشون النقود والجواهر والطر وغير ذلك(2).
__________
(1) 32) كتاب الحسبة، ص11- 12.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند ج5/2، وأبو داود في كتاب الزكاة ج1/ 363، والنسائي في كتاب الزكاة، باب عقوبة (33) الزكاة ج5/ 15-17.(35/27)
وعل كلً فإن كتب الحسبة مثل معالم القربة لابن الأخوة، ونهاية الرتبة
في طلب الحسبة للشيزري وابن بسام وغيرهم بينّت اختصاصات المحتسب، ولنا رسالة في ولاية الحسبة استوعبنا فيها جميع مسائلها.
ومتن العقوبات التي لولي الحسبة إيقاعها العقوبات المالية، وقد وردت آثار بذلك في بعض الجرائم التعزيرية، فمنها:
ما رواه ابن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"في كل أربعين من الإبل السائمة لبون من أعطاها مؤتجر أقله أجرها ومن منعها فانا آخذها وشطرها ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد فيها شيء"(1).
ورُوي أن عمر رضي الله عنه أراق لبناً مغشوشاً.
وأن علياً رضي الله عنه أحرق طعاماً محتكراً بالنار،.وبهذا أخذ أبو يوسف والإمام مالك والإمام أحمد.
وقال الغزالي: إن للوالي أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه(2)، وقال: إذا رأى الوالي باجتهاده مثل تلك الحاجة جاز له مثل ذلك، فإن كان هذا منوطاً بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية.
وقد أخذ به الإمام الشافعي في القديم وأوجب على من وطئ زوجته الحائض إقبال الدم دينارًا وفي إدباره نصف دينار(3).
وذهب فريق آخر إلى القول بعدم الجواز وادّعى نسخ العقوبة المالية.
وقد ردَّ ابن القيم قول هؤلاء، وقال: من قال إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلاً واستدلالاً، فأكثر هذه المسائل شائع في مذهب أحمد وغيره وكثير منها سائغ عند مالك، إلى أن قال: والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم(4).
__________
(1) 34) إحياء علوم الدين ج2/424.
(2) 35) إحياء علوم الدين ج2/423
(3) 36) الطرق الحكمية ص 67- أعلا الموقعين ج2/220- المغني ج2/78،80- تبصرة الحكام ج2/261- نهاية المحتاج ج8/20- معين الأحكام ص190.
(4) 37) تحفة الناظر ص 121، وانظر لنا ولاية الحسبة ص 552.(35/28)
وذكر أبو عبد الله التلمساني في كتابه" تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر" صوراً من العقوبات المالية بعد أن سرد أقوال العلماء، قال: قلت فتحصل من جميع ما تقدم من الخلاف في حكم من اطّلع على غشه فيما عرضه للبيع في أسواق المسلمين إن في إخراج الغاش من السوق غير المعتاد فيه قولان، وإذا أخرج فهل يُضاف إلى ذلك عقوبة في البدن قولان، وهل يتصدق بما غش به وإن كثر أو يباع ما لا يتصدق بعينه ويتصدق بثمنه أو يبقى ذلك كله له أو يتصدق بالقليل دون الكثير
أو يتحرى ما يكون أخذ عوض الغش فيه ممن جهلت عينه فيتصدق بذلك القدر أربعة أقوال(1).
المظهر الثالث: مقاطعة من يكون كسبه مالاً حراماً وعدم التعامل معه، ولهذا يتفق الفقهاء على أن مستغرق الذمة الذي كل ماله حرام فهذا تُمنع معاملته ومداينته بل يُمنع من التصرف المالي.
يقول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: إن من أكثر ماله حلال وأقله حرام المعتمد جواز معاملته والأكل من ماله كما قال ابن القاسم خلافاً لأصبغ القائل بحرمة ذلك، وأما من أكثر ماله حرام والقليل منه حلال فمذهب ابن القاسم كراهة معاملته ومداينته والأكل من ماله خلافاً فالأصبغ المحرم لذلك(2).
وقال العز بن عبد السلام معاملة من أقرّ بأن أكثر ما في يده حرام، قلنا: إن غلب عليه بحيث يقدر الخلاص منه لم تجز معاملته مثل أن يقرّ إنسان أن في يده ألف دينار كلها حرام إلا ديناراً واحداً فهذا لا يجوز معاملته لندرة الوقوع في الحلال، وإن غلب الحلال بأن اختلط درهم حرام بألف درهم حلال جازت المعاملة لندرة الوقوع في الحرام، وبين هاتين الرتبتين من قلة الحرام وكثرته مراتب محرمة ومكروهة ومباحة، وضابطها أن الكراهة تشتهر بكثرة الحرام وتخف بكثرة الحلال(3).
__________
(1) 38) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج3/ 277.
(2) 39) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1/ 84، 85.
(3) 40) سورة النساء آية (17).(35/29)
المظهر الرابع: التوبة، وهي مظهر من مظاهر التخلص من التبعات سيما عن المال الحرام، قال القرطبي في قوله تعال "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة"(الآية)(1)، السوء في هذه الآية والأنعام { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } (2) يعم الكفر والمعاصي، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته.
قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً. وقاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدى.
وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة يريد بها الخارجة عن طاعة الله.
وقال الزجاج: يعني قوله "بجهالة" اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية(3).
وقال: إن التوبة من مظالم العباد لا تصح إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه عيناً أو غيره إن كان قادراً عليه، وإن لم يكن قادراً فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه، وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه(4).
__________
(1) 41) سورة الأنعام آية (54).
(2) 42) تفسير القرطبي ج5/92.
(3) 43) تفسير القرطبي ج18/200.
(4) 44) تفسير القرطبي ج3/366، 367.(35/30)
وذكر عن أهل العلم أن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك، وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر ولم يدرك كم من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه ردّه حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف من ظلمه أو أربى عليه، فإن أيس من وجوده تصدّق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه واجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبته وقوت يومه لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه(1).
ويقول الإمام الغزالي في كيفية خروج التائب عن المظالم المالية أن من تاب وفي يده مختلط فعليه وظيفة في تمييز الحرام أو إخراجه ووظيفة أخرى في مصرف المخرج فلينظر فيهما.
__________
(1) 45) إحياء علوم الدين ج2/ 162، 163.(35/31)
وان كل من تاب وفي يده ما هو حرام معلوم العين من غصب أو وديعة أو غيره فأمر سهل فعليه تمييز الحرام، وإن كان ملتبساً مختلطاً فلا يخلو إما أن يكون في مال هو من ذوات المثال كالحبوب والنقود والأدهان، وإما أن يكون في أعيان متمايزة كالدور والثياب، فإن كان من المتماثلات أو كان شائعاً في كله كمن اكتسب المال بتجارة يعلم أنه قد كذب في بعضها في المرابحة وصدق في بعضها أو من غصب دهناً وخلطه بدهن نفسه أو فعل ذلك في الحبوب أو الدراهم أو الدنانير، فلا يخلو ذلك إما أن يكون معلوم القدر أو مجهولاً، فإن كان معلوم القدر مثل أن يعلم أن قدر النصف من جملة ماله حرام فعليه تمييز النصف، وإن أشكل فله طريقان أحدهما الأخذ باليقين والآخر الأخذ بغالب الظن، وكلاهما قد قال به العلماء(1).
أما عن المصرف فقال: إذا أخرج الحرام فله ثلاثة أحوال: إما أن يكون له مالك معين، فيجب الصدق إليه أو إلى وارثه، وإن كان غائباً فلينتظر حضوره أو الإيصال إليه، وإن كانت له زيادة ومنفعة فلتجمع فوائده إلى وقت حضوره.وغما أن يكون المالك غير معين وقع اليأس من الوقوف على عينه ولا يدري أنه مات عن وارث أم لا، فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك ويوقف حتى يتضح الأمر فيه وربما لا يمكن الرد لكثرة الملاك، كغلول الغنيمة فإنها بعد تفرق الغزاة لا يقدر على جمعهم، وإما من مال الفئ والأموال المرصدة لمصالح المسلمين كافة فيصرف ذلك إلى القناطر والمساجد والرباطات ومصانع طريق مكة وأمثال هذه الأمور التي يشترك في الانتفاع بها كل من يمر بها من المسلمين ليكون عاماً للمسلمين.
وحكم القسم الأول لا شبهة فيه، أما التصدق وبناء القناطير فينبغي أن يتولاه القاضي فيسلم إليه المال إن وجد قاضياً متديناً(2).
__________
(1) 46)إحياء علوم الدين ج2/ 161، ويراجع أيضاً الموسوعة الفقهية ج38/ 144 مصطلح مظالم.
(2) 47) يراجع كتابنا أضواء على القضاء في الفقه الإسلامي ص121.(35/32)
هذه أربعة طرق لمواجهة الكسب غير المشروع أو غسيل المال كما هو التعبير المصطلح عليه أو الاقتصاد الخفي في الشريعة الإسلامية.
ومعلوم أن الطريق الأول والثالث هما وازع ديني يرجع إلى الشخص ذاته، وأما الطريق الرابع فهو رقابة أساسه المجتمع كله، وأما الطريق الثاني فهو الذي يرجع إلى ولي الأمر والسلطات المعنية بوضع تشريعات ملائمة لمواجهة هذه الظاهرة والتغلب عليها، ولهذا نصّ الفقهاء على أن للإمام أن يأمر محتسباً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن كلمته أنفذ حتى أنه إذا أمر بسنة صار واجباً كما إذا أمر بصلاة العيد، وإن قلنا أنها سنة فتكون واجبة إذا أمر(1) بإقامتها(2)
__________
(1) 48) الزواجر ج2/ 168.
(2)
المراجع:
1- أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (أبو العباس)- الحسبة، تحقيق عبد العزيز رباح- مكتبة دار البيان 1387هـ- 1967م.
2- أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني (أبو الفضل) شهاب الدين، فتح الباري شرح صحيح البخاري ط الحلبي 1378هـ- 1955م.
3- إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر في الأحاديث على ألسنة الناس، تصحيح وتعليق أحمد القلاس، نشر مكتبة التراث الإسلامي- حلب.
4- برهان الدين بن علي بن فرحون، تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك العليش، الطبعة الأخيرة 1378هـ- 1958م- مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
5- حمدي عبد العظيم، غسيل الأموال في مصر والعالم، الطبعة الأولى 1417هـ- 1997م.
6- عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع الشيباني، تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول، دار الثقافة- لبنان.
7- عبد الرحمن بن نصر الشيزري، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، تحقيق الدكتور السيد الباز العريني، دار الثقافة- لبنان.
8- عبد العزيز عبد السلام السلمي (أبي محمد عز الدين)، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق طه عبد الرؤف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية.
9- عبد الله محمد عبد الله:
- أضواء على القضاء في الفقه الإسلامي.
- ولاية الحسبة في الإسلام، الطبعة الأولى- مكتبة الزهراء 1417هـ- 1996م- مصر.
10- عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، المغني، مطبعة نشر الثقافة الإسلامية- تصحيح الدكتور محمد خليل هراس.
11- علي بن محمد بن حبيب الماوردي:
- الحكام السلطانية، طبعة دار الكتب العلمية 1398هـ- 1987م.
- أدب الدنيا والدين، الطبعة الرابعة 1393هـ- 1973م، طبعة الحلبي- تحقيق مصطفى السقا.
12- علاء الدين أبي الحسن بن علي بن خليل الطرابلسي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، الطبعة الأولى، المطبعة الميرية ببولاق 1300هـ- مصر.
13- علاء الدين بن حسام الدين الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، طبعة بيروت 1399هـ- 1979م.
14- محمد بن أبي بكر (أبو عبد الله) شمس الدين المعروف بابن القيم الجوزية، أعلام الموقعين عن رب العالمين، الطبعة الأولى 1374هـ- 1955م- مطبعة السعادة بمصر.
15- محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (أبو عبد الله ) تفسير القرطبي المسمى الجامع لأحكام القرآن، طبعة دار الكتب المكصرية 1372هـ- 1952م.
16- محمد بن لأحمد بن بسام المصري، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، تحقيق حسام الدين السامرائي، مطبعة المعارف 1968م- بغداد.
17- محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد (أبو عبد الله العقباني)، تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر.
18- محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الأخوة، معالم القربة في أحكام الحسبة، مطبعة دار الفنون بكيمبردج 1973هـ- تصحيح ونقل روبن ليوي.
19- محمد بن عثمان الذهبي (شمس الدين)، الكبائر، طبعة دار الكتاب- جمهورية مصر العربية.
20- محمد عرفة الدسوقي (شمس الدين)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى الحلبي- دار إجلاء الكتب المصرية.
21- محمد المبارك، الدولة ونظام الحسبة عند لابن تيمية، طبعة أولى 1387هـ- 1967م.
22- محمد بن محمد الغزالي (أبو حامد)، إحياء علوم الدين، طبعة الحلبي 1387هـ- 1937م.
23- محمد بن مفلح الحنبلي ( أبو عبد الله) شمس الدين، الآداب الشرعية والمنح المرعية.
24- الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت.
الدوريات:
1- الأنباء الكويتية، عدد رقم 9561بتاريخ17/12/2002م.
2- الأهرام، عدد رقم 573249 من شوال 1423هـ الموافق 13 من ديسمبر 2002م.
3- السياسة الدولية، السنة السابعة والثلاثون، العدد (143) يناير 2001م.
4- مجلة الحقوق، السنة الثانية والعشرون، العدد الثالث،جمادى الآخرة 1419هـ- سبتمبر 1998م.(35/33)
، وهكذا في كل أمر جائز إذا أمر به ولي الأمر صار واجباً.
وقد اهتمت الدول والمنظمات العالمية في قضية غسيل الأموال اهتماماً بالغاً، وجاء في الندوة التي نظمها مركز الخليج للدارسات الاستراتيجية في موسمه الثقافي والفكري في 30 أكتوبر 2000م "احتل قضية غسيل الأموال أهمية كبيرة على الساحة الاقتصادية العالمية خلال الفترة الأخيرة إدراكاً من المجتمع الدولي لآثارها السلبية على الاستقرار الاقتصادي وخاصة على مناخ الاستثمار المحلي والدولي، ولذلك تزايد الاهتمام بها وبسبل مواجهتها من قبل العديد من الدول والمنظمات الدولية والمراكز العالمية الكبرى، حيث تهدد هذه الظاهرة الاقتصاد العالمي وخاصة العالم النامي ومن بينها الاقتصاديات العربية، وقد تناول عدد من المدعوين قضية غسيل الأموال من حيث انعكاساتها المنية والاقتصادية وطرق التصدي لها وأرجع بعضهم استفحال مشكلة غسيل الأموال في السنوات الأخيرة على عدد من العوامل هي:
1- بروز ظاهرة العولمة والتي تمثل مناخاً خصباً لعمليات غسيل الأموال.
2- غياب الشفافية في معظم التعاملات التجارية الدولية.
3- اتساع نطاق الدول التي يتم فيها غسيل الأموال أو المرشحة لتكون سوقاً رائجة لذلك في المستقبل.
4- زيادة حجم الاقتصاد الحقي والموازي في هذه البلدان عن نصف الناتج القومي.
5- السياسات التي تتخذها بعض الدول في سبيل تشجيع الاستثمار أو الحصول على الضرائب.
6- استخدام الوسائل التكنولوجية في عمليات غسيل الأموال.
أما المظاهر الناجمة عن عمليات غسيل الأموال فأرجعوها إلى:
ا) تغلغل الجريمة المنظمة بشكل واسع وسريع في الأعمال التجارية.
ب) صعوبة كشف وتتبع الأموال المغسولة نتيجة التطور التكنولوجي وانتشار المعلوماتية.
أما عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية الضارة فقالوا أهمها:
1- الإضرار بسعر صرف العملة الوطنية وإضعاف قوتها الشرائية.(35/34)
2- السيطرة على السوق المحلي في يد فئة قليلة من أصحاب المشروعات الوهمية.
3- التأثير سلباً على ميزان المدفوعات والميزان التجاري في الدولة.
4- التأثير سلباً على الدخل القومي.
5- انتشار البطالة.
6- التفاوت الاجتماعي بين الطبقات ومن ثم الصراع الطبقي في المجتمع.
وخلص الباحثون على ضرورة اتخاذ الدول العربية الإجراءات الكفيلة بالوقوف في وجه هذا التخل من جانب المنظمات الغربية من خلال العمل على سدّ الثغرات الموجودة في التشريعات القائمة والمنظمة لحركة الاستثمار، بالإضافة إلى أخذ تقارير المنظمات الدولية مأخذ الجد واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالرد عليها ومحاولة الوجود الفعلي في هذا المنظمات لعرض وجهات النظر العربية وإظهار خصوصية الاقتصاديات العربية وطبيعة الحوافز الاستثمارية الممنوحة وحدودها.
ويقول الباحث الدكتور حمدي عبد العظيم فيما انتهى إليه في دراسته بالتوصية باتخاذ مجموعة من الإجراءات الضرورية لمكافحة غسيل الأموال في الدول العربية بصفة عامة ودول الخليج بصفة خاصة وهي:
1- أن يحذو مجلس التعاون الخليجي حذو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في دراسة بعض المعايير التي يمكن تطبيقها للتعرف على أنشطة غسيل الأموال من خلال المؤسسات المالية أو المصرفية الخليجية.
2- تطبيق التوصيات التي وضعتها المنظمة فيما يختص بالتعامل مع الدول التي تعتبر ضمن أماكن التهرب الضريبي.
3- تطبيق التوصيات الواردة في اتفاقيات الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات خاصة فيما يتعلق بمكافحة غسيل الموال تمهيداً لإصدار قوانين وطنية تحرم هذه العملية.
4- تعاون الانتربول في الدول العربية مع الانتربول الدولي في مجال تسليم المجرمين ومصادرة الأموال غير المشروعة.
هذا ما تيسر لنا جمعه في هذا الموضوع الجديد القديم من ثمرة جهود علمائنا الأقدمين والمعاصرين جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.(35/35)