العلم في صنعاء، وتظهر بالاجتهاد، وعمل بالأدلة، ونفر عن التقليد، وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية. وقال: وبالجملة، فهو من الأئمة المجددين لمعالم الدين. وقال العلامة محمد بن إسحاق المهدي فيه أبياتا، منها:
لله درك يا ابن إسماعيلا ... لم تتركن فتى سواك نبيلا
حزت الفخار قليله وكثيره ... هلا تركت من الفخار قليلا
وسلكت نهج الحق وحدك جاعلا ... نور البصيرة لا سواه حليلا
وصرفت عمرك في العبادة والإ ... فادة والإجادة بكرة وأصيلا
توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- هذا الرجل كان من فحول اليمن، وعاصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتأثر بدعوته ومدحه بقصيدة مشهورة بليغة منها (1) :
سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
لقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد
سرت من أسير ينشد الريح إن سرت ... ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد
يذكرني مسراك نجدا وأهله ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد
قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
__________
(1) القصيدة الدالية (9-11).(8/599)
لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد
وما كل قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الطرد والرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل ياذا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقد
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف لما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
- ومنها (1) :
لقد سرني ماجاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي
وأقبح من كل ابتداع سمعته ... وأنكاه للقلب الموفق للرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها ... يعض بأنياب الأساود والأسد
يصب عليه سوط ذم وغيبة ... ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد
ويعزى إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي
فيرميه أهل النصب بالرفض فرية ... ويرميه أهل الرفض بالنصب والجحد
وليس له ذنب سوى أنه غدا ... يتابع قول الله في الحل والعقد
ويتبع أقوال الرسول محمد ... وهل غيره بالله في الناس من يهدي
وإن عده الجهال ذنبا فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي
علام جعلتم أيها الناس ديننا ... لأربعة لاشك في فضلهم عندي؟
__________
(1) القصيدة الدالية (13-17).(8/600)
هم علماء الدين شرقا ومغربا ... ونور عيون الفضل والحق والزهد
ولكنهم كالناس ليس كلامهم ... دليلا ولا تقليدهم في غد يجدي
ولا زعموا -حاشاهم- أن قولهم ... دليل فيستهدي به كل مستهدي
بلى صرحوا أنا نقابل قولهم ... إذا خالف المنصوص بالقدح والرد
سلامي على أهل الحديث فإنني ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي
هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد
وأعني بهم أسلاف أمة أحمد ... أولئك في بيت القصيد هم قصدي
أولئك أمثال البخاري ومسلم ... وأحمد أهل الجهد في العلم والجد
بحور وحاشاهم عن الجزر إنما ... لهم مدد يأتي من الله بالمد
رووا وارتووا من علم سنة أحمد ... وليس لهم تلك المذاهب من ورد
كفاهم كتاب الله والسنة التي ... كفت قبلهم صحب الرسول ذوي الرشد
أأنتم أهدى أم صحابة أحمد ... وأهل الكسا هيهات ما الشوك كالورد
أولئك أهدى في الطريقة منكم ... فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي
وشتان ما بين المقلد في الهدى ومن ... يقتدي والضد يعرف بالضد
تنبيه:
للصنعاني قصيدة أخرى نقض فيها هذه الأبيات، ورجع عما كان يعتقده في الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقد ذكرنا آنفا أن سبب تراجعه تلبيس الشيخ مربد عليه وسقنا الخبر كاملا في مواقف 1181هـ.(8/601)
وله هنات بعضها في المعتقد ذكرها عبدالله آل بسام في 'علماء نجد'. (1)
ومن مواقفه المشرفة:
- قال في كتابه 'الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف':
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الذي له الملك والملكوت، الحي الجبار الذي لا يموت، الذي لم يتخذ ص(4)ة ولا ولدا إِنْ { كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } (93) (2) ، فليس للعبد تصرف مع مولاه، ولا له تقدم بين يديه ولا شفاعة ولا غيرها إلا بإذنه ورضاه.
والصلاة والسلام على من تركنا على الواضحة البيضاء، ليلها كنهارها، وأشرقت شمس نبوته، فامتلأت الأرض بأنوارها. أخرج ابن ماجه، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر الفقر ونتخوفه، فقال: "آلفقر تخافون، والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا، حتى قال: لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها ونهارها سواء" (3) . وعلى آله الذين بهديه يهتدون، وبه يقتدون.
واعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حذر أمته من الابتداع، لما أعلمه الله أن أمته تأتي
__________
(1) 6/418-419).
(2) مريم الآية (93).
(3) أخرجه ابن ماجه (1/4/5) وصححه الألباني (انظر الصحيحة (688)).(8/602)
بالابتداع بأجناس وأنواع، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1) . وقال: "خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (2) . وقال: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين" (3) . أخرج هذه الأحاديث ابن ماجه وغيره.
قلت: ووجه عظمة الابتداع في الدين أنه كالرد على قول الله تعالى: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ } دِينًا (4) .
فالابتداع بزيادة في الدين أو نقصان منه، فلهذا عظم شأن البدعة التي خرج بها صاحبها من الدين كما تخرج الشعرة من العجين. (5)
- وقال رحمه الله في كتابه 'إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة': ولنقدم قبل المقصود أصلا مهما وهو أن الله تبارك وتعالى قد أخبر عن الكفار بأن نظرهم
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).
(3) أخرجه ابن ماجه (1/19/49) وفيه محمد بن محصن العكاشي. قال عنه البخاري: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "كذاب". وقال الدارقطني: "يضع الحديث". انظر الميزان (3/476) والحديث حكم عليه بالوضع الشيخ الألباني (انظر الضعيفة 1493).
(4) المائدة الآية (3).
(5) الإنصاف (ص.1-2).(8/603)
مقصور على اتباع الآباء في كتابه العزيز في غير آية عايبا عليهم ذلك، مثل: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا } يَهْتَدُونَ (1) ، قَالَ { مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ } مُقْتَدُونَ (2) مَا { يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ } آَبَاؤُهُمْ (3) أي ليس لهم مستند سوى ذلك قَالُوا { بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ } يَفْعَلُونَ (4) قَالُوا { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ } آَبَاءَنَا (5) فهم في جميع الآيات قاصرون نظرهم على اتباع الآباء لحسن الظن بهم، حتى صار ذلك
__________
(1) البقرة الآية (170).
(2) الزخرف الآية (23).
(3) هود الآية (109).
(4) الشعراء الآية (74).
(5) يونس الآية (78).(8/604)
عادة لهم، بل فخرا يعيرون به من خالفهم ويضربون به المثل، حتى سموا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبي كبشة لأنه عبد ما لم يعبد آباؤه كما عبد أبو كبشة الشعرى، وحتى ذكروا بذلك أبا طالب وهو في طريق الموت وقالوا له: أترغب عن ملة عبدالمطلب (1) ، ولذلك خص الأبوان في الإخبار عن تغيير الفطرة وأنهما يهودانه وينصرانه (2) ولذلك مقت الله الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. وفسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذهم بأنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، كما أخرجه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه (3) ، فمن عقل وأنصف، فلينظر إلى جميع بني آدم في القديم والحديث في الملل الكفرية ثم المذاهب الإسلامية بعد إخراجه للأنبياء صلى الله عليهم ومن سار سيرتهم من السابقين والتابعين، وقليل ما هم، بالنظر إلى الخليقة فإنه يجد الناس تبعا لما ألفوه من اتباع الآباء بمجرد تقليد وهوى ومحبة للجمود على دين الآباء. (4)
-وقال رحمه الله: وكذلك أهل المذاهب على مذاهب آبائهم منذ أسس الشيطان بدعة التمذهب، لا يتحنف الشافعي ولا يتشفع الحنفي ولا يتشيع الناصبي والخارجي ولا يقول بالاعتزال الجبري ولا بالجبر المعتزلي، وإن
__________
(1) أخرجه: أحمد (5/433) والبخاري (3/284-285/1360) ومسلم (1/54/24) والنسائي (4/395-396/2034) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن.
(2) أخرجه: أحمد (2/393) والبخاري (3/281/1358) ومسلم (4/2047/2658) والترمذي (4/389-390/2138) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(3) سيأتي تخريجه في مواقف المعصومي سنة (1380هـ).
(4) إيقاظ الفكرة (45-48).(8/605)
وجدت في الألف بل الألوف فردا واحدا فارق ما عليه آباؤه، فلا يخلو عن دسيسة هوى أو غرض دنيوي، وهو الغالب، إذ الأديان صارت تبعا للدنيا. ولقد اتفق لبعض الشافعية أنه تمذهب بمذهب الزيدية، إما عن نظر منه وهو بعيد جدا أو لغرض آخر، فرماه قومه عن قوس واحدة حتى كأنه ارتد عن الدين ولحق بعبدة الأوثان فقال:
إذا ما رأوني من بعيد تغامزوا فوالله ما بعت الهدى بضلالة ... علي وقالوا شافعي تزيدا
ولكنني بعت الضلالة بالهدى
وكذلك اتفق لآخر كان شافعيا فانتقل إلى مذهب ابن حنبل، أو حنفيا أو حنبليا فانتقل إلى أحدهما، فقيل فيه أبيات منها أنه سيصير إلى مالك (1) وقصده التورية فحكم أنه من أهل النار، وكذلك يزداد من يوم إلى يوم الشر، ويوطن كل البلا نفسه على اتباع الآباء. (2)
- وله من الآثار السلفية:
1- 'تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد' وهو مطبوع.
2- 'إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد'.
3- 'حسن الاتباع وقبح الابتداع'.
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: فهذا 'تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد' وجب علي تأليفه، وتعين علي ترصيفه، لما رأيته وعلمته من اتخاذ الأنداد في الأمصار
__________
(1) ذكرناها في مواقف المؤيد أبي البركات محمد التكريتي سنة (599هـ).
(2) إيقاظ الفكرة (52-54).(8/606)
والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجدا، ولا يرى لله راكعا ولا ساجدا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب.
فواجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره. (1)
- وقال أيضا: وكذلك تسمية القبر مشهدا، ومن يعتقدون فيه وليا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام، ويطوفون بهم طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية، من قولهم: على الله وعليك، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها، وكل قوم لهم رجل ينادونه. فأهل العراق والهند يدعون عبدالقادر الجيلي. وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه يقولون: يا زيلعي، يا ابن العجيل، وأهل مكة وأهل الطائف، يا ابن العباس، وأهل مصر: يا رفاعي، يا بدوي والسادة البكرية وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يا ابن علوان. وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادوهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر. وهذا هو بعينه فعل المشركين في الأصنام كما قلنا في الأبيات النجدية:
__________
(1) تطهير الاعتقاد (18-19).(8/607)
أعادوا بها معنى (سواع) ومثله ... (يغوث) و(ود) بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم نحروا في سوحها من نحيرة ... أهلت لغير الله جهلا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبلا ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي
فإن قال: إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه. فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال نعم: فقل: هذا النحر لغير الله، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينا أنك ما أردت ذلك أصلا، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصدا له. ثم كذلك دعاؤهم له.
فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب.
وقد يعتقدون في بعض فسقة الأحياء وينادونه في الشدة والرخاء وهو عاكف على القبائح والفضائح، لا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة ولا يعود مريضا ولا يشيع جنازة، ولا يكتسب حلالا، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس جماعة قد عشش في قلوبهم، وباض فيها وفرخ، يصدقون بهتانه ويعظمون شأنه، ويجعلون هذا ندا لرب العالمين ومثلا، فيا للعقول أين ذهبت؟ ويا للشرائع كيف جهلت؟ إِنَّ { الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ(8/608)
عِبَادٌ } أَمْثَالُكُمْ (1) فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين، كالذين يعتقدون في الأصنام؟
قلت: نعم، قد حصل منهم ما حصل من أولئك، وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد: فلا فرق بينهم.
فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل له ندا، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركا.
قلت: نعم يَقُولُونَ { بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي } قُلُوبِهِمْ (2) ولكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك. فإن تعظيمهم الأولياء، ونحرهم النحائر لهم شرك. والله تعالى يقول: فَصَلِّ { لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (2) (3) أي لا لغيره، كما يفيد تقديم الظرف ويقول تعالى: وَأَنَّ { الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ } أَحَدًا (4) ، وقد عرفت بما قدمناه قريبا أنه - صلى الله عليه وسلم - سمى الرياء شركا، فكيف بما ذكرناه؟.
فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئا؛ لأن فعلهم أكذب
__________
(1) الأعراف الآية (194).
(2) آل عمران الآية (167).
(3) الكوثر الآية (2).
(4) الجن الآية (18).(8/609)
قولهم.
فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه.
قلت: قد خرج الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها. وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة أَلَّا { تَعْبُدُوا إِلَّا } اللَّهَ (1) وإخلاصها له: وَمَا { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ } الدِّينَ (2) الآية. ومن نادى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، وخوفا وطمعا، ثم نادى معه غيره، فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ } عِبَادَتِي (3) بعد قوله: ادْعُونِي { أَسْتَجِبْ } ِ/ن3s9.
موقفه من الصوفية:
- قال في تطهير الاعتقاد: فإن قلت: قد يتفق للأحياء وللأموات
__________
(1) هود الآية (2).
(2) البينة الآية (5).
(3) غافر الآية (60).(8/610)
اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق من الأفعال، يتسمون بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون من تلك الأمور، فإنها مما جلبت القلوب إلى الاعتقاد بها؟.
قلت: أما المتسمون بالمجاذيب الذين يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم، ويقولونها بألسنتهم، ويخرجونها من لفظها العربي، فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حمر الكون الذين ألبستهم الشياطين حلل التلبيس والتزيين، كما أن إطلاق الجلالة مفردا عن إخبار عنها بقولهم: "الله، الله" ليس بكلام ولا توحيد، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي، ثم إخلاؤه عن معنى من المعاني، ولو أن رجلا عظيما صالحا يسمى بزيد، وصار جماعة يقولون: زيد، زيد، لعد ذلك استهزاء وإهانة وسخرية،ولا سيما إذا زاد إلى ذلك تحريف اللفظ.
ثم انظر: هل أتى في لفظة من الكتاب والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؟ إذ الذي فيهما هو طلب الذكر والتوحيد والتسبيح والتهليل. وهذه أذكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده من هو عن الله وعن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمته ودله في مكان سحيق، ثم قد يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى، مثل ابن علوان أحمد بن الحسين، وعبدالقادر، والعيدروس.بل قد ينتهي الحال إلى أنهم يفرون إلى أهل القبور من الظلم والجور، كعلي رومان، وعلي الأحمر، وأشباههما، وقد صان الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكساء وأعيان الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الضلال، فيجمعون أنواعا من الجهل والشرك والكفر.(8/611)
فإن قلت: إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة ويضيفون إليها عمل أهل الخلاعة والبطالة خوارق عادات، وأمورا تظن كرامات كطعن أنفسهم بالآلات الحادة، وحملهم لمثل الحنش والحية والعقرب وأكلهم النار، ومسحهم إياها بالأيدي وتقلبهم فيها بالأجسام.
قلت: هذه أحوال شيطانية، وإنك لملبس عليك إن ظننتها كرامات للأموات، أو حسنات للأحياء، لما هتف هذا الضال بأسمائهم جعلهم أندادا وشركاء لله تعالى في الخلق والأمر، فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء الله تعالى، فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكا له تعالى وندا؟ وإن زعمت ذلك فقد جئت شيئا إدا، وصيرت هؤلاء الأموات مشركين، وأخرجتهم -وحاشاهم عن ذلك- عن دائرة الإسلام والدين، حيث جعلتهم أندادا لله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال المشركين، التابعين لكل باطل، المنغمسين في بحار الرذائل، الذين لا يسجدون لله سجدة، ولا يذكرون الله وحده، فإن زعمت هذا فقد أثبت الكرامات للمشركين الكافرين وللمجانين، وهدمت بذلك ضوابط الإسلام وقواعد الدين المبين، والشرع المتين. وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين، علمت أن هذه أحوال وأفعال طاغوتية، وأعمال إبليسية، يفعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين، معاونة من الفريقين، وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان، وهذا أمر مقطوع بوقوعه، فهم الثعابين التي يشاهدها الإنسان في أيدي المجاذيب. وقد يكون ذلك من باب السحر، وهو أنواع، وتعلمه ليس بالعسير، بل بابه(8/612)
الأعظم: هو الكفر بالله، وإهانة ما عظمه الله من جعل مصحف في كنيف ونحوه.
فلا يفتر من يشاهد ما يعظم في عينيه من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها خوارق، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال، وهكذا الذين يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها.
وقد ملأ سحرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات حتى أوجس في نفسه خيفة موسى عليه السلام، وقد وصف الله بأنه سحر عظيم، والسحر يفعل أعظم من هذا. (1)
- وله رسالة 'الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف'، وهي رسالة جيدة في بابها بين فيها شطط أهل التصوف وغلوهم في باب الكرامات.
موقفه من الجهمية:
قال: إذا عرفت هذا. فقد سمع الصحابة ومن بعدهم هذه الصفات الشريفة مدحوه بها وأجرَوها عليه كما أجراها على نفسه وتمدح بها، ساكتين عن التأويل والمناقشة لم يقولوا: يلزم من إثبات صفة السميع الصماخ، ومن صفات البصير الحدقة وغير ذلك غير سائلين لمن أرسل إليهم ليبين لهم ما أنزل إليهم عن ذلك... (2) ثم استرسل في الرد على المؤولة من كلام أهل العلم.
__________
(1) تطهير الاعتقاد (62-66).
(2) إيقاظ الفكرة (ص.82).(8/613)
موقفه من القدرية:
وقد حكى في كتابه إيقاظ الفكرة (1) ما دار بينه وبين أحد علماء المدينة في القدر، قال: لقد اتفق لشيخنا عبدالرحمن بن أبي الغيث ونحن نأخذ عنه في صحيح مسلم في المدينة النبوية سنة أربع وعشرين ومائة وألف أنه أملى في أول حديث القضاء والقدر منه بعد أن سئل عن الكسب وحقيقته فكأنما نشط من عقال فقال: المعتزلة قالت إنها خالقة لأفعالها والله يقول: اللَّهُ { خَالِقُ كُلِّ } شَيْءٍ (2) فردوا قول الله تعالى، فقلت له: هل القرآن شيء؟ قال: نعم، فقلت: هل هو مخلوق؟ قال: لا، فقلت: قد خصصتم تلك الكلية كما خصصتها المعتزلة فقال: لا سواهم خصصوها بأفراد تعد فقلت: هذا لا يقوله عالم إذ لا فرق بين تخصيصها بفرد واحد أو بأفراد ملء الدنيا. ثم أخذ يفسر الكسب فقال: هو تصميم العبد فقلت له: من أي المقولات التصميم فقال: من مقولات الفعل. قلت: العبد يوجده؟ قال: نعم، وبهذا فارقنا الجهمية. قلت: قد أثبت كون العبد موجدا كما تقوله المعتزلة فما زاد إلا أن قال: اصبر علي احلم عني. فقلت له: لغير هذا جئنا استمر في الإملاء وهذه الأبحاث من البدع ما خاض فيها الصحابة ولا التابعون، فتكدر صفو المقام بعد ذلك، وهذا الرجل من العلماء في المدينة والخطباء وهذا قصارى بحثه. هذا معنى ما دار بيننا وبينه لا لفظه.
__________
(1) ص.257-258).
(2) الزمر الآية (62).(8/614)
أحمد بن مانع بن إبراهيم التميمي (1) (1186 هـ)
الشيخ أحمد بن مانع بن إبراهيم بن مانع بن حمدان الوهيبي التميمي. نشأ في بلدة أشيقر، ثم انتقل إلى الدرعية، فقرأ على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب. وله ردود في الدفاع عن العقيدة. توفي رحمه الله في الدرعية في شهر رمضان سنة ست وثمانين ومائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- له رسالة رد بها على عبدالله المويس النجدي جاء فيها:
من أحمد بن مانع إلى جميع الإخوان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد بلغني أن المويس ثبط جماعتكم عن المحافظة على صلاة الجماعة وهون أمرها، فيا عجبا هل كان المويس أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
إلى أن قال: فإن تثبيط (المويس) من جهة أن الإمام من أتباع ابن عبدالوهاب، فهذا مذهب ابن عبدالوهاب بيناه وأنه يدعو الناس إلى التوحيد والتبرؤ من الشرك وأهله، وإذا كان هذا دين النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يسعنا ويسعكم غيره.
وأما عبدالله المويس وغيره، فلا يصرفكم عن صلاة الجماعة بقوله: هم خوارج يعني أهل العارض، فليس هو بأكثر من صد الناس عن دين نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، وما نقم عليهم إلا أنهم يعلمون الناس دينهم الذي أعظمه شهادة أن لا
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/504-507) وروضة ابن غنام (1/134).(8/615)
إله إلا الله، ويعلمونهم أنواع الشرك، ويأمرون بالمحافظة على الصلاة مع الجماعة، ويأمرون بالزكاة، وينهون عن المنكرات التي أكبرها الشرك بالله، وينهون عن الفواحش، ويقيمون الحد، وينهون عن الظلم، حتى إن الضعيف يأخذ الحق ممن هو أقوى منه، وقد كان الناس قبل هذا الأمر بعكس ذلك، ولم يوجد أحد يعيب عليهم ذلك، فلما بين لهم أمر الدين واشتغلوا بالعلم وتعليمه وبإقامة أمر الله، وحض الناس عليه، قام (المويس) وأمثاله يصيحون ويقولون: أهل شقراء وأهل العارض مرتدون، وأهل العارض خوارج، فإذا قيل له: أهل العارض وأهل شقراء يطلبون منك الدليل على ما قلت إن كنت صادقا، فرد عليهم من كتاب الله أو سنة رسول الله ولو في مسألة واحدة حتى يقبل كلامك. غضب على من قاله. (1)
حسين بن مهدي النُّعْمِي (2) (1187 هـ)
حسين بن مهدي النعمي التهامي ثم الصنعاني، من أهل "صبيا" في تهامة اليمن، تعلم وأقام في صنعاء. وعمل رحمه الله على إحياء السنن في "مسجد القبة"، بعد توليه إماما للصلاة فيه من طرف الإمام المهدي العباسي آنذاك. توفي رحمه الله سنة سبع وثمانين و مائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية: 'معارج الألباب في مناهج الحق والصواب' (3) .
__________
(1) علماء نجد (1/504-506).
(2) الأعلام (2/260).
(3) والكتاب مطبوع وهو من أجود الكتب التي ردت على القبوريين برد علمي رصين وبأسلوب بليغ وهو عبارة عن رد على بعض مخرفي أهل اليمن.(8/616)
- قال فيه: والقصد، أن الله جعل الكتاب والسنة أمرا خالدا على مر الأزمان، ليتعلم الجاهل ويسترشد الضال، ويأمن الخائف، ويتذكر المتذكر، ويعتبر المعتبر، ويستمد المؤمن، ويهتدي الحيران، وليقضي بين الناس بما هنالك، وليكون ملاذا عند الاختلاف، وبيانا عند اللبس، ورسما متبعا في الاعتقاد والتعبد والإفتاء، والحكم والتحكم والتحكيم، والتحليل والتحريم، والأبحاث وغيره من أحكام العليم الحكيم، ومستندا يرجع إليه الأمر كله في التأخير والتقديم.
فتعطيله عن هذه الثمرة، أو منع المجتني لها، وهو المقصود بها، مناقضة ظاهرة وعناد أوفى، ومضادة جلية.
والمحروم الذي أضاف المنع أيضا لمن سواه يقول: مالي في هذه الحياض من مشرب، هي للإمام يروى منه، ويخبر عما وجد، ولا سبيل لغيره إليها، بل يكون في أيدينا الأوصاف بأن في ذلك الحوض كذا، وصفته كذا، وفائدته كذا.
فإذا جاءهم من يقول: بعض هذه الحياض لم يبلغه الإمام، ولا ادعى لنفسه الإحاطة، أو بلغه ولكني وجدت نعته أو فائدته غير ما ذكر لكم، بعد أن باشرت بنفسي مذاقه. فما تقولون؟ وليس لكم على دفعي حجة، ولا إلى مصادرتي سبيل، إلا دعوى مالها مستند. اللهم إلا إذا باشرتم كما باشرت، فاضطررتم إلى إكذابي. فذاك ما أمرتم به. ويصح منكم -والحال هذه-(8/617)
المدافعة والممانعة، وأما مكاذبة في شيء قد أعربتم عن أنفسكم أنكم ما تبوأتم له منزلا، ولا جسستم له عرقا ولا مفصلا، فغريب منكم التوثب على حماه، والساقي يقول: هلموا، فليس الخبر كالعيان، ولم يحط الإمام بما لدينا خبرا، وربما يخطئ الخبر ويخالف، إذ مبناه على مبلغ صاحبه علما وفهما.
ومن علم حال البشر اضطر إلى الحكم بعدم براءتهم من قصور الفهم ونقصان العلم في حالات كثيرة. (1)
- وقال: ولقد جر سوء هذه المقالة -وهي القول بتعذر الاجتهاد- إلى ما أشرنا إليه، من سلب منافع الكتاب، وكونه عدة للدفع والنفع، ومحلا للاهتداء، وميزانا يعرف به الرشاد والفساد. فقد حيل الآن بينه وبين طالب ما فيه من غيوث الرحمة، وصيب النعمة، وكذا ما يتصل به من حوافل تفسيره. والكلام على نكت فرائده، وعجائب فوائده، وبيان إشارته ومقاصده. فكل ذلك عند المقلدين لغو محض، إذ ما لا تصل إليه -وإن زعمت ذلك- قضت عليك الحقيقة بأنك مكذبه بالكذب، فوجوده وعدمه عندك سيان.
وهكذا المؤلفات المشتملة على الأخبار النبوية، وعلومها ووسائلها، ككتب الجرح والتعديل، وطبقات الرواة، وشرح أحوالهم، وعلم غريب الكتاب والسنة وأحكامهما، وكذا المؤلفات في سائر الفنون. كالنحو والتصريف، وأصول الفقه والمعاني، التي يقول مؤلفوها: إن الحكمة من
__________
(1) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب (69-70).(8/618)
تأليفها هي التوصل إلى تصحيح المطالب بالذات، مع أن عقلاء الفضلاء لا زالوا على ممر الأزمان تتجدد لهم التصانيف، أعلى بصيرة ذلك، وللتبصير ما هنالك، أم دأب فيما لا سبيل إلى الغاية المقصودة به؟.
فنقول: أيها الملأ، وإن كان البشر قد علم ضعفه، ونقصه وجهله، فلقد ساءنا أن بلغتم إلى هذه الغاية، وما زدتم على المضادة لله ولرسوله، والتلعب بدينه وبشرائعه وإضاعة مساعي الباحثين والمؤلفين، وأهل التصانيف، وذوي العلم والنظر. فما شأن ما صنعوا؟ وهل للدأب في ذلك الجمع والتأليف، وبيان الصحيح من الفاسد والراجح من الخفيف فائدة وغاية؟ وما بقاء ذلك واستمراره على تعاقب الأحقاب، بل هل لبقاء كتاب الله كثير حاصل؟ إذ مبنى جميع ذلك على فتح باب الاجتهاد، وأن كثيرا من المطالب، أو كلها، أو إلا النادر منها لا طريق إلى تحصيله إلا البحث والنظر. (1)
- وقال وهو يتحدث عن آفة التقليد: ومن ذلك -وهو منهم قياس للغائب على الشاهد- وذلك أنهم لما كانوا لا يعرفون إلا حرفة التقليد. واستقر في فكرهم وفطرهم أن من أفتى أو تكلم أو عمل ما لا يصنع شيئا من ذلك. إلا لأنه قاله المقلَّد فلان، أو الإمام علان. أو محصلو مذهبه -بزعمهم- قالوا: إن قائل تلك المقالة -وهي اتجاه وجوب تخريب المشاهد- قلد ابن تيمية في ذلك. ومن تدبر أصول القوم، وجدهم دلوا على أنهم من جملة العامة. ولا أدري من أين جاء لهم ذلك؟
__________
(1) معارج الألباب (104-105).(8/619)
نعم هو نتيجة من نتائج الحكم بتعذر الاجتهاد.
ومن حق الباحث أن يدلي بما يوافق خصمه على صحته، أو بحجة قاهرة تؤذن أن دفعها مكابرة، وأن التمسك بمعارضها قصور أو ضلال.
وكون من ذكروه قلد ابن تيمية بطلانه معلوم غير موهوم، لما أنه ينهى عن التقليد وينادي بمنعه. ولأن عامة مباحثه مبنية على تحرير المقام بمبلغ نظره، وإن كان لا سبيل إلى رفع الخطأ جملة في كل بحث.
وذلك منه من دون تقليد لابن تيمية ولا غيره، ولا احتجاج بقول أحد قط، أو التدين به من دون استبانته منه حسبما علم. وليس معصوما كغيره أيضا. ولأنه في خصوص هذه المسألة أبرز حجته، وحرر من البرهان ما استطاع.
فأي معنى لقولكم إنه قلد ابن تيمية؟ والحال أنكم لم تأتوا عن أنفسكم ولا فيما نقلتم بشيء يقابل بعض ما أقامه في هذه المسألة من أدلة الكتاب والسنة، التي لا يردها إلا مشاق لله ولرسوله؟ ولأنه قد ناقض ابن تيمية في كثير من المسائل ذهب إليها، لظهور ضعف كلامه عنده. فلو كان واقفا على تقليده -كما وقفتم على رسوم شرح المنهج وغيره- لما فعل. فما باله يسوغ لنفسه تقليد ابن تيمية في هذه المسألة دون غيرها؟ فلقد حكيتم عجبا.
وقد قرأنا عليه وعرفنا مذهبه، وأنتم لا تعرفونه،إنما يبلغكم عنه ما يبلغ، فتأخذون في مضادته بلا بصيرة، ولا وازع لكم عن الرجم بالظنون والأوهام، ولا علم يهدي إلى تمييز الصحيح من ذي السقام.
فالعتب عليكم: أترضون أن يكون من خطاب ما لا يفهم؟(8/620)
وكفى دليلا على تنكبكم الصواب ذكركم الأقوال من فروع المذهب في مقابلة مناهي صريحة صحيحة مشهورة في الصحاح وغيرها، ثم تعرضكم لشيخ من شيوخ الإسلام، وإمام من جلة الأئمة الأعلام -وهو ابن تيمية- بأنه ضال مضل، وما كان -رحمه الله تعالى- أهلا لهذا. والرجل أمره شهير. وأقواله ومذاهبه يتناقلها الجم الغفير. وما مثله يحتاج إلى كشف عن رفيع محله، وقد تعرض له ولتلميذه الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي -هو ابن قيم الجوزية- رحمه الله تعالى بعض القائلين. وهما إمامان جليلان لاحقان بأماثل السلف كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ومؤلفاتهما وتراجمهما، ونقل أهل العلم لأقوالهما ومذاهبهما ونفائس تحقيقهما كافية شافية مقنعة لمن عدل وأنصف. (1)
- وقال رحمه الله: وأما أنتم معشر المغرمين بالمذاهب الراضين بقيود التقليد في أعناقكم وقلوبكم، فقد جعلتم تلك المتون والمختصرات أظهر عبارة، وأوضح معنى وإشارة، وأصح مسلكا وأبين مدركا، لما أنها -بزعمكم- خلاصة تلك المحاسن.
وكيف يكون ذلك كذلك؟ وفيها من التباين والتدافع والاختلاف، وخفاء السند والدليل أو ضعفه، أو مصادمة المأثور الصحيح ما لا يخفى على ذي بصيرة صالح السريرة، قد مارس الحقائق وسبر الطرائق، ورضي بالله ربا ومشرعا حكيما عن جميع الخلائق، وحظي بالتمييز بين الخطأ والصواب،
__________
(1) معارج الألباب (119-120).(8/621)
وبالانتفاع بما وهبه الله من عقل وفهم حاذق.
وما اشتبه على الناظر من الأدلة نفسها، أو ظهر عنده تعارض فالقطع عنده بأن مفيضها هو محل القدس والبراءة من كل نقص، فإن علم كيفية العمل في ذلك بتعليم المفيض سبحانه، وإلا وقف لقصوره في نفسه، لا لتطرق أمر في المصدر المذكور، بخلاف غيره، فأمره ما ذكرنا.
والغافل يقول بجمود خاطره: كل ذلك المختلف فيه بين المختلفين، أو بعضه رشد، لا بل الرشد منه ما سلكه سلفي، واتبعتهم فيه.
وقد يكون أيضا كاذبا عليهم أو مفتريا عليهم بذلك ما لا يرضونه له، لجهله ما صدر عنهم، كما جهل الأدلة. وقد صح لنا كل ما ذكرنا وتواتر وروده علينا حتى استيقناه ضرورة، ودان به كل من على وجه الأرض، إلا القلة النادرة. (1)
- وقال أيضا في معرض رده على مقلدة المذاهب، وما هم عليه من الاهتمام بكتب الخلاف الخالية من الأدلة الشرعية: وأين هي من موائد الكتاب والسنة؟ التي مذاقها يبرئ العاهات، ويقدس من السفاهات، ويعرفك قدر ما حرمت منه هذه الجماعات، وسوء ما وقعوا فيه من فساد الأحوال، بسبب هجرانهم المباشرة لما هنالك، وما ضمن من الدلالات والإشارات، وصنوف التأديب والتهذيب والتثقيف والإفادات.
فذاك -بعد استظهار الكون عليه، وتصحيح الطريق إليه وتنقيحه دراية
__________
(1) معارج الألباب (73-74).(8/622)
ورواية- هو الباب الذي إن ولجته للاعتصام به من المخاوف نجوت، وإن سلكته كنت على هدى وبصيرة من أمرك، وإن أردت أن تستمد منه حجة تأثرها، أو طريقة تعبرها، أو برهانا تقيمه، أو هدى تلتمسه، أو تصحيحا لاعتقاد أو عمل، أو دليلا قاهرا لخصمك، هاديا لمسترشدك، وجدته صالحا لجميع ذلك. قائما بأعباء هذه المدارك، ولا يعرف ذوو الألباب، ومن رزق صلابة في دينه ما يستأهل القيام بهذه الأثقال، سوى ذلك الباب، لا الرد إلى شرح المنهج وما ذكروه معه وأشباهها من كتب المقلدين.
ولو كان البناء دائما على ما أشرنا من ذلك الأساس، لكانت ثمرات الكتاب والسنة يستمتع باقتطافها عامة الناس، ولما عفت رسوم الهدى، واندرست معالم الاهتداء، ولكان أمرهما مشهورا مذكورا، مأنوسا منشورا، متداولا بين الناس، حتى تزاحم الأصاغرُ الأكابر، وينال القاصر حظه من مواهب الله، وإن لم يبلغ شأو الماهر. ولم يؤكد الحكم باستحالة التحلي بتلك الرغائب، بؤسا لها من رزية.
ولا يضر في هذا الموضع تفاوت معارف الناس في هذا الباب، ومع ورود الجميع المنهل الراوي متحد. والفاضل يحذو حذو المفضول من عين ذلك الماء المعين، ويتعاورون ذلك فيما بينهم "تسمعون، ويسمع منكم" (1) ،
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/321) وأبو داود (4/68/3659) وابن حبان (الإحسان (1/263/62)) والحاكم (1/95) كلهم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وليس له علة ولم يخرجاه، وفي الباب أيضا عن عبدالله بن مسعود وثابت بن قيس بن شماس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ووافقه الذهبي.(8/623)
"ليبلغ الشاهد منكم الغائب" (1) .اهـ (2)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله في 'معارج الألباب في مسألة البناء على القبور': ...على أنا لا نسلم أيضا أن أحدا من الأربعة رضي الله عنهم، ذهب إلى ما ضمه نقل هذه المختصرات في هذه المسألة، فهاتوا نصوصهم في ذلك، فإنا لم نرهم نقلوا في جواباتهم هذه حرفا واحدا عن أحد من الأربعة في جواز البناء على القبور، بل نقل المالكي عن إمامه مالك -رضي الله عنه-: أنه كره البناء على القبر، وقال: لا خير فيه، فاعجب لها من طريقة طريفة، حيث يعمل أتباعه على خلاف مذهبه، ويفصلون المسألة بما يباين إطلاق الإمام، ويكون قولهم فيها في شق، وقول الإمام في الشق الآخر، واجعلها لك عبرة في غيره من المفتين الثلاثة، ولا تثق بأن ما حصلوه في كتب المذاهب رأي للأئمة.
فإنا لم نسمع عن الإمام الشافعي -رحمه الله- إلا أنه قال: "أدركت الأئمة بمكة يهدمون البناء على القبور" ولا يحضرني الآن محله فأعينه لك، ومثله لا يخفى.
فنحن الآن نطالبهم بنقل صحيح: أن كل واحد من الأئمة الأربعة قائل بما نقلوه عن فروع مذاهبهم، حتى يصححوا دعواهم عليهم فقط، إن كانت أيضا، لا أن يكون ذلك حجة لهم في الباب، فذلك معلوم الانتقاء (3) بلا شك
__________
(1) سيأتي تخريجه في مواقف فالح بن مهدي الدوسري سنة (1392هـ).
(2) معارج الألباب (79-80)
(3) كذا في الأصل ولعل الصواب: الانتفاء.(8/624)
ولا ارتياب.
فإن يأتوا به -ولا نخالهم يجدون له أثرا- وإلا فليعلموا أنهم بعد يقولون ما لا يعلمون، حتى في مذاهب أئمتهم الذين هم من جلة أعلام أئمة المسلمين. وبعد تصحيحه عنهم: فهو اجتهاد في مقابلة نص، ورأي صادم أثرا، فسقوطه معلوم لا يخفى إلا على أغفال المقلدين. (1)
- وقال: ومن ذلك: أنا تصفحنا أوراقهم هذه، فوجدنا لباب تحقيقها: دعاوى تعاقب أخواتها، وبراهينها عيون دعاويها، ثم ترتبون المقاصد على هذا الخطأ المتباعد، حتى جعلتم هدم القباب والمشاهد أذية لأولياء المليك الواحد، وهل يقال لمن أطاع الله ورسوله فيما أمرا به: آذيت ولي الله، وكيف تكون الولاية -وذلك الولي يؤذيه- حكم المولي؟
وليت شعري، كيف يكون أمرهم إذا لم يرعهم إلا نزول الإمام الأطهر وصاحب السبق الأشهر: علي -رضي الله عنه ونضَّر- بساحتهم يقول: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته". (2)
فعلى الذي يشاهد من حالهم: كأنا بهم وقد ثاروا ذلك المثار، وأخذوا لتلك المعاقل بالثأر، وأرجعوا عليا القهقرى، وتركوه زاحفا على الوراء، وقالوا: أذية لأولياء الله، ورأى من درى، فالأمر الآن هو ذاك بعينه، ما الذي ترك الناس سدى، أو نسخ معالم الهدى؟
__________
(1) معارج الألباب (ص 38).
(2) انظر تخريجه في مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة (40هـ).(8/625)
ثم كيف الخطب لديهم في هذه الأبنية على الأموات المعدة للتلاوة والصلوات، المشتملة على المحاريب والفرش والسرج، وسائر الآلات، إذا أتاهم في شأنها رسول صاحب الوحي المنزل، والهدي السوي الأعدل، يقول: بعثني لإزالة ما قد تقدم إليكم بالنهي عنه من اتخاذ القبور مساجد (1) ، ورواه لكم عدد من صحابته الجلة الأماجد، وقد أكد الله عليكم في الإجابة له ولرسوله، فماذا أنتم صانعون؟.
وهذا كله بالنظر إلى نفس البناء على القبر، لا إلى ما ترتب عليه من الوثنية والشرك، وعلى إحياء هذه المشاهد من كلم الإسلام، وفقء عين شريعة المختار عليه الصلاة والسلام، وما يقع في الزيارات من أنواع الشرك بدعاء المقبورين، والطواف بتلك الأنصاب، والعكوف عندها، والنذر والتقرب لها بأنواع القربات، وما ترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات، كترك الصلاة المكتوبة، وما يقولون من أقاويلهم المفتراة المكذوبة، قد حملوا الولي، أو حملها عنه، واختلاط الرجال بالنساء، وأرباب الملاهي، واتخاذ الزينات، والمجاهرات بالبدع والمعاصي، والمخالفات لله، التي لا طمع في حصرها في الرقاع، وكيف وقد امتدت في أقطار البسيطة، على ما فيها من الاتساع فما أكثر ما ترى هنالك من نسيان الله ونبذ لعهوده، ومحادة له ولكتابه وتعدي لحدوده.
ولعمر الله، من رضي بقاء هذه الرسوم، شارك في هذا الخطب
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ).(8/626)
المشؤوم، إلا متبرئ لله من هذه الأحداث، وغائر لله مما حل بدينه من خطوب الأبنية، وزوار الأجداث، الذين أعطوها حق ربنا الذي هو أحق أن يدعى ويستغاث، وانهمكوا في صنوف من أنكر الأعمال، وجسائم الأخباث.
وأنتم معشر المفتين، أترضون لأنفسكم أن تلقوا الله بشيء من إشادة هذا البنيان؟ فاستعدوا للسؤال. فللأعمال ديان.
اللهم فهذه براءة إليك مما تكاد السموات يتفطرن منه. وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أتتنا المناهي عن رسولك في هذا الباب، كما نهى رأي عين في سد ذرائعه، وهدم شرائعه، وطمس رسومه وشنائعه، ثم عمد قوم أضاعوا عهد التحقيق ولم يراعوا مشاعر تأديبك وتعليمك، التي تهدي إلى سواء الطريق. فانتصبوا لرفع رايات سوء، كان ينبغي أن تكون مخفوضة معزولة بحكمك الوثيق، وإلا فكل من آمن بك، وعقل عنك، وتحقق بمعرفة دينك، لا يجهل ما في طيها من عظيم المشاقة لك ولرسولك.
اللهم فمن زعم عليك أنك رفعت شأن القباب والمشاهد، والزيارات المعروفة من هذه الطوائف، ومواطن الأموات، وجعلتها ترياقا لقضاء الحوائج، ومثابة للناس، وأعيادا لهم، وزعم على سلفنا الصالح من أمة نبيك الأكرم أنهم دانوا بذلك، أو بذرة منه. اتباعا لأمرك، ورضاء بحكمك، وصار من غاية سعيه زيادة ازدراع هذه المفاسد، وإيقاد نيرانها. فاحكم بيننا وبينه بالحق، وأنت خير الحاكمين.
فإن القوم قد أبدلوا -وأنت أعلم- رسوم شرعك بسواها، واستولى(8/627)
اللعين على فطرهم، فثناها عن الهدى ولواها، وسول لهم أن يبدلوا الزيارة التي شرعتها للادكار، والاستغفار والاعتبار، بضدها من التضرع عند القبر، والرقص واللهو، وإبداء الفاقة والافتقار، وأنواع الفجور، والهتف، والتملق، والتأدب مع الرمم، والحكم لها بنفع وإضرار.
وكيف لا؟ وقد أصلوا أن لها التصرف والتصريف في البادين والحضار، وصاروا يستمدون من نفحاتهم جسائم الآمال، ويضربون قباب الطلبات بفناء أعتاب قباب الأموات، يا بئس الأعمال.
فمن الذي بوأكم هذه المشارع، وسن لكم هذه الآداب والشرائع؟ ووضع لكم هذه الرسوم التي تبعتم آثارها؟ فائتونا بسلطان مبين. نتبعه ونشكر لكم إن كنتم صادقين، أو فامحوا عنكم -عافاكم الله- عارها، وحاشا بعد أن نقول لكم -إن أتيتم بحجة بينة-: دعونا، فقد صرح الشيخ بخلافها، لأن ذا من الحيف بمكان.
ثم اللهم، إن القوم أبدلوا مناهي رسولك، الذي جعلته العصمة من الضلال، عن البناء على القبور، وتشريفها، وتجصيصها، والكتابة عليها (1) ، وجعلها مساجد (2) ، وما جاء عنه من النهي عن اتخاذ قبره عيدا (3) بأضدادها،
__________
(1) وردت أحاديث كثيرة في هذه المسألة منها حديث جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، أو يزاد عليه، أو يكتب عليه".
أخرجه: أحمد (3/332) ومسلم (2/667/970) وأبو داود (3/552/3226) والترمذي (3/368-369/1052) والنسائي (4/392/2026) وابن ماجه (1/498/1562) بعضهم مطولا وبعضهم مختصرا.
(2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ).
(3) وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى عن جمع من الصحابة، منها: حديث أبي هريرة: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". أخرجه: أحمد (2/367) وأبو داود (2/534/2042). وقال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (111): "وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبدالله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به". وحسن إسناده الألباني، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب. انظر تحذير الساجد (142).(8/628)
فبنوا وشرفوا وجصصوا، وكتبوا، وجعلوها أعيادا ومساجد، كأنه - صلى الله عليه وسلم - أغراهم بذلك الأمر الأسوإ، بل لو كانوا مأمورين بذلك لما حفظوه ورعوه، كما هم الآن، بشهادة المناهي في هذه المسألة، إذ أضيعت، وشهادة غيرها في غير هذا الباب، مما لا يحتاج إلى شرح.
وليتهم اقتصروا على هذه المخالفات، بل جاوزوا مما ينسيها إلى أضعاف مضاعفات، واقتدت العامة بمن تخيلوا عنده علما، وهو في الواقع منهم لا يملك رأيا ولا عقلا للحقائق ولا فهما، فهو معهم غارق في باطل لغوهم، حريص على شهود مجالس إفكهم، وإثمهم ولهوهم، لا يهدي ولا يهتدي، ولا تراه في طلب العلم صدقا يروح ولا يغتدي.
حتى أنا وجدنا في أفعالهم لدى هذه المشاهد ما كان صنيع الجاهلية عند بيوت الأوثان، وزيادة غلو على من ضاد الله ورسوله باتخاذ إلاه ثان. فإنا سمعنا الله يقول في كتابه إذ سجل على أولئك الأقوام وَإِذَا { مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا } إِيَّاهُ (1) أي: هو تعالى ذو الجلال والإكرام.
وطالما شاهدنا عباد أرباب هذه القباب. إذا التطمت عليهم أمواج
__________
(1) الإسراء الآية (67).(8/629)
البحر العباب. سمعت ذكر الزيلعي والحداد، وكل يدعو شيخه عند ذلك الاضطراب، إذ لكل طريقة لا ينتحى سواها في الهتف والانتساب، ولكل من الجيلاني، وابن علوان، والعيدروس،والحداد، وغيرهم من آلهة هذه الطوائف طائفة من العباد، ويذكرون الله في جملة من ذكرنا، كما سمعناهم أيضا، كأنه واحد من تلك الأعداد. وحاشا كل من يؤمن بالله واليوم الآخر -خصوصا صلحاء الأمجاد- أن يرضى شيئا من هذا، وإلا كان شريكا لمن حاد الله ورسوله وضاد. (1)
- وقال: ومن أذيال مصيبة المشاهد -التي أصيب بها الإسلام وشعائره- ما ظهر وانتشر في العامة في جهات كثيرة. كما هو معلوم مشاهد: أن المساجد ربما تكون متروكة مهجورة. وفيها من التراب والعيدان والأوساخ، وزبل الأنعام، وحراق التمباك، وغير ذلك ما يجعلها مزابل، ومشاهد الأموات محترمة مكرمة، مجمرة بالظفر والعطور، مفروشة بالسجاد الفاخر، وعلى القبور ستور الحرير الثمينة، بها الشمعدانات الفضية ما جعلها مرعية مقامة متحاماة. (2)
- وقال: تأمل دين عباد القبور اليوم، خصوصا الغالين منهم فيها، إذا مسهم الضر أنابوا إليها. ويروون -قاتلهم الله أنى يؤفكون- إذا دهمتكم
__________
(1) معارج الألباب (43-47).
(2) معارج الألباب (ص 214).(8/630)
الأمور، فعليكم بأصحاب القبور (1) ، ثم يذوقون الرحمة من الله مع كفرهم هذا. فيقولون: كرامة الشيخ وبرهانه، وإذا أخفق سعيهم يقولون: هو غائب أو ساخط.
وهذه قضية واقعة فاشية في الكثير، أو الأكثر، أو أن السالم من حماها نزر لا يكاد يذكر (2) .
- له أيضا من الآثار السلفية كتاب: 'مدارج العبور على مفاسد القبور'.
أبو العون السَّفَارِينِي (3) (1188 هـ)
محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني، أبو العون، شمس الدين، العلامة، الحافظ. ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، بقرية سفارين (من قرى نابلس)، قرأ القرآن صغيرا وحفظه وأتقنه، ثم رحل إلى دمشق وأخذ عن علمائها منهم الشيخ عبدالقادر التغلبي والشيخ عبدالغني النابلسي والشيخ أحمد المنيني وغيرهم. قال صاحب السحب الوابلة: برع في فنون العلم، وجمع بين الأمانة والفقه والديانة والصيانة، وفنون العلم والصدق، وحسن السمت
__________
(1) ذكره صاحب كشف الخفاء (1/88/213) بلفظ: "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور" وعزاه لابن كمال باشا في الأربعين. كما ذكره محمد بشير الأزهري في تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين، انظر موسوعة الأحاديث الضعيفة (1/1297).
(2) معارج الألباب (ص 239).
(3) الأعلام (6/14) وهدية العارفين (2/340) وتاريخ الجبرتي (1/468-470) والسحب الوابلة (2/839-846) ومعجم المؤلفين (8/262) وفهرس الفهارس (2/1002-1005).(8/631)
والخلق والتعبد وطول الصمت عما لا يعني، وكان محمود السيرة، نافذ الكلمة، رفيع المنزلة عند الخاص والعام. وكان رحمه الله ناصرا للسنة، قامعا للبدعة، قوالا بالحق مقبلا على شأنه، توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين ومائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- له المنظومة المشهورة المسماة: 'الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية'، وقد شرحها المؤلف بشرح مطول، نقل معظمه من بحوث ابن تيمية وابن القيم في كتبهما.
وهذا مما يزين الشرح ويجعله ذا قيمة علمية. والكتاب مطبوع متداول.
- قال فيها (1) :
اعلم هديت أنه جاء الخبر ... عن النبي المقتفى خير البشر
بأنّ ذي الأمة سوف تفترق ... "بضعا وسبعين" اعتقادا والمحق
ما كان في نهج "النبي" المصطفى ... و"صحبه" من غير زيغ وجفا
وليس هذا النص جزما يعتبر ... في فرقة إلا على "أهل الأثر"
- وقال (2) :
والحمد لله على التوفيق ... لمنهج الحق على التحقيق
مسلما لمقتضى الحديث ... والنص في القديم والحديث
لا أعتني بغير "قول السلف" ... موافقا أئمتي وسلفي
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (ص.63).
(2) شرح العقيدة السفارينية (ص.78-79).(8/632)
ولست في قولي بذا مقلدا ... إلا النبي المصطفى مبدي الهدى
صلى عليه الله ما قطر نزل ... وما تعانى ذكره من الأزل
وما انجلى بهديه الديجور ... وراقت الأوقات والدهور
وآله وصحبه أهل الوفا ... معادن التقوى وينبوع الصفا
وتابع وتابع للتابع ... خير الورى حقا بنص الشارع
ورحمة الله مع الرضوان ... والبر والتكريم والإحسان
تهدى مع التبجيل والإنعام ... مني لمثوى عصمة الإسلام
أئمة الدين هداة الأمة ... أهل التقى من سائر الأئمة
لا سيما "أحمد" و"النعمان" ... و"مالك" "محمد" الصنوان
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله في كتابه 'لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية':
قد أكثر السلف رضي الله عنهم في ذم الكلام والخوض فيه والتقصي عن دقائقه والتدقيق فيما يزعمون أنه قضايا برهانية وحجج قطعية يقينية، وقد شحنوا ذلك بالقضايا المنطقية والمدارك الفلسفية والتخيلات الكشفية والمباحث القرمطية، وكان أئمة الدين مثل الإمام مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي يبالغون في ذم الكلام وفي ذم بشر المريسي وتضليله. (1)
__________
(1) لوائح الأنوار (1/184-185).(8/633)
- وقال: وقد أجمع أئمة الهدى على ذم الفرقة المريسية وأكثرهم كفروهم وضللوهم وذموا الكلام وأهله بعبارات رادعة وكلمات جامعة. (1)
- وقال: وفي قوله: مُنَزَّلٌ { مِنْ } رَبِّكَ (2) دلالة على أمور:
منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة، كما هو قول الجهميين الذين قالوا بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم. فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات، وقال إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة جهميا. فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه وإن كان الجعد بن درهم سبقه إلى بعض ذلك. (3)
موقفه من الخوارج:
- قال في منظومته 'الدرة المضية':
فصل في الكلام على الذنوب:
__________
(1) لوائح الأنوار (1/187).
(2) الأنعام الآية (114).
(3) لوائح الأنوار (1/219-220).(8/634)
ويفسق المذنب بـ (الكبيره) ... كذا إذا أصر بـ (الصغيره)
لا يخرج المرء من (الإيمان) ... بـ (موبقات الذنب) و(العصيان)
وواجب عليه أن يتوبا ... من كل ما جر عليه حوبا
ويقبل المولى بمحض الفضل ... من غير عبد كافر منفصل
ما لم يتب من (كفره) بضده ... فيرتجع عن (شركه) وصده
ومن يمت ولم يتب من الخطا ... فأمره مفوض لذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم ... وإن يشأ أعطى وأجزل النعم (1)
- وقال فيها أيضا: الباب السادس في ذكر الإمامة:
ولا غنى لأمة الإسلام ... في كل عصر كان عن (إمام)
يذب عنها كل ذي جحود ... ويعتني ب (الغزو) و(الحدود)
و(فعل معروف) و(ترك نكر) ... و(نصر مظلوم) وقمع كفر
و(أخذ مال الفيء) و(الخراج) ... ونحوه والصرف في منهاج
ونصبه ب (النص) و(الإجماع) ... و(قهره) فحل عن الخداع
وشرطه (الإسلام) و(الحريه) ... (عدالة) (سمع) مع (الدرية)
وأن يكون من (قريش) (عالما) ... (مكلفا) ذا (خبرة) و(حاكما)
وكن مطيعا أمره فيما أمر ... ما لم يكن ب (منكر) فيحتذر (2)
موقفه من المرجئة:
- قال في منظومته الدرة المضية: (فصل في الكلام على الإيمان...)
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (68).
(2) شرح العقيدة السفارينية (77).(8/635)
إيماننا قول وقصد وعمل ونحن في إيماننا نستثني نتابع الأخيار من أهل الأثر ... تزيده التقوى وينقص بالزلل
من غير شك فاستمع واستبن
ونقتفي الآثار لا أهل الأشر (1)
- وقال في لوائح الأنوار: تنبيه: هل القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان مختص بمذهب السلف ومن تبعهم -ممن يدخل الأعمال فيه من الخلف- كالقلانسي وغيره من الأشاعرة، أو يعم مذهب من قال إنه التصديق فقط؟
الحق كما قاله الإمام النووي وغيره، وجماعة من مُحَقِّقي علماء الكلام؛ أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان، ولو قيل إنه التصديق والإذعان، لأن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح البرهان، وعدم ذلك، وما اعترض على هذا القول -من أنه متى قبل ذلك كان شكا- مدفوع بأن مراتب اليقين متفاوتة، مع أنها لا شك معها. وفي القرآن العظيم ما حكى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم: `إ3"s9ur { £`ح³yJôـuٹدj9 } سة<ù=s(8/636)
بإخبار الله تعالى، مع جزمه وتيقنه صدق الخبر، ووقوع المخبر عنه بخبر من لا يبقى في القلب أدنى شك ولا ريبة، وبالله التوفيق.
تتمة: مذهب السلف ومن وافقهم من الأشعرية جواز الاستثناء في الإيمان، يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، خلافا لمن يمنعه كالجهمية والمرجئة. وخلافا لمن يوجبه كابن كلاب ومن وافقه.
والقول بجواز الاستثناء مذهب أصحاب الحديث كالثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء البصرة، وهو مذهب الإمام أحمد، وغيره من علماء السنة، فإنهم يستثنون في الإيمان. وهذا متواتر عنهم، لأن الإيمان عندهم يتضمن فعل جميع الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى من غير شك في إيمانهم كما هو منصوص الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين. (1)
موقفه من القدرية:
- ذكر رحمه الله في الدرة المضية مسائل القدر فقال: (الباب الثاني في الأفعال المخلوقة):
وسائر الأشياء غير الذات ... وغير ما الأسماء والصفات
مخلوقة لربنا من العدم ... وضل من أثنى عليها بالقدم
وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار
__________
(1) لوائح الأنوار السنية (2/343-345).(8/637)
لكنه لا يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى
أفعالنا مخلوقة لله ... لكنها كسب لنا يا لاهي
وكل ما يفعله العباد ... من طاعة أو ضدها مراد
لربنا من غير ما اضطرار ... منه لنا فافهم ولا تمار
وجاز للمولى يعذب الورى ... من غير ما ذنب ولا جرم جرى
فكل ما منه تعالى يجمل ... لأنه عن فعله لا يسأل
فإن يثب فإنه من فضله ... وإن يعذب فبمحض عدله
فلم يجب عليه فعل الأصلح ... ولا الصلاح ويح من لم يفلح
فكل من شاء هداه يهتدي ... وإن يرد ضلال عبد يعتدي (1)
- وقال: (فصل في الكلام على القضاء والقدر):
وكل ما قدر أو قضاه ... فواقع حتما كما قضاه
وليس واجبا على العبد الرضا ... بكل مقضي ولكن بالقضا
لأنه من فعله تعالى ... وذاك من فعل الذي تقالى (2)
حسين العُشَارِي (3) (1194 هـ)
حسين بن علي بن حسن بن محمد العشاري، نجم الدين، أبو عبدالله البغدادي الشافعي. ولد سنة خمسين ومائة وألف للهجرة ببغداد، وتعلم فيها، وغلب عليه الفقه حتى كان يسمى الشافعي الصغير. وبعث رحمه الله إلى
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (ص66).
(2) شرح العقيدة السفارينية (ص68).
(3) هدية العارفين (1/328) والأعلام (2/248) ومعجم المؤلفين (4/28).(8/638)
البصرة للقضاء والتدريس فيها، فتوفي في تلك السنة (أي سنة أربع وتسعين ومائة وألف).
موقفه من الرافضة:
- له: 'الأبحاث الرفيعة في الرد على الشيعة'، ذكره في هدية العارفين. (1)
محمد بن عبدالعزيز بن سلطان (2) (من القرن الثاني عشر)
الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن سلطان ولد في بلدة البير. قرأ على علماء الدرعية آنذاك، وعلى رأسهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وعينه الإمام محمد ابن سعود قاضيا لبلدان المحمل والشعيب، ثم انتقل إلى قضاء الدرعية. توفي رحمه الله في بلدته البير.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في علماء نجد: ولما قامت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كان المترجم -أي محمد بن عبدالعزيز بن سلطان- من الشباب الراغبين في العلم، فانتقل إلى الدرعية، فدرس فيها على الشيخ محمد وعلى عدد من علماء الدرعية المقيمين فيها والواردين إليها، فلما أدرك عَيَّنه الإمام محمد بن سعود بمشورة الشيخ محمد بن عبدالوهاب قاضيا لبلدان المحمل والشعيب. (3)
__________
(1) 1/328).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/71).
(3) علماء نجد (6/71).(8/639)
صفي الدين محمد بن أحمد البخاري (1) (1200 هـ)
محمد بن أحمد بن محمد بن خير الله البخاري الأصل المحدث الأثري نزيل نابلس، أبو الفضل صفي الدين. ولد سنة أربع وخمسين ومائة وألف. قال الزبيدي في معجمه: يعرف فن الحديث معرفة جيدة لا نعلم في هذا العصر من يدانيه فيها مع ما عنده من قوة الحافظة والفهم السريع وإدراك المعاني الغريبة. وقال الشمس ابن عابدين: كان في حفظ متون الأحاديث والرجال عديم المثيل، كاد أن يشبه بصاحب الصحيح لو كان أباه إسماعيل. وقال الزركلي: (فاضل من أعلم أهل الشام بالحديث في عصره). وقال الجبرتي: (وكان إنسانا حسنا مجموع الفضائل رأسا في فن الحديث) توفي سحر ليلة الأحد سابع وعشرين رمضان سنة مائتين وألف.
موقفه من المبتدعة:
- له: 'القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي'؛ والكتاب مطبوع بهامش جلاء العينين.
- وله: 'الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة المتزندقة'؛ مطبوع متداول.
- قال في 'الصاعقة المحرقة': واعلم أن المعصية إذا عملها صاحبها مع اعتقاد أنها معصية يسمى فاسقا ولا يسمى مبتدعا، فإن اعتقد مع ذلك كونها مشروعة في الدين جوازا أو ندبا أو وجوبا فهو مبتدع.
__________
(1) فهرست الفهارس (1/214-215) وتاريخ الجبرتي (1/652-653) والأعلام (6/15) ومعجم المؤلفين (9/5).(8/640)
فالفسق: أعم من البدعة، فكل بدعة فسق ولا عكس، فيكون هؤلاء بفعلهم هذا فساقا مبتدعين لعملهم المعصية معتقدين أنها طاعة، كذا في الرهص والرقص. (1)
- وقال: فصل: وإذا تقرر كراهة رفع الصوت بالذكر مع الجنازة في مذاهب الأئمة الأربعة. ففي نحو الذكر قدام العروس بالطريق الأولى.
وبالجملة، فالذكر بالصوت الشديد في الطرقات بدعة، لكونه غير معهود في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في القرون المشهود بخيريتها، ولا له سند ظاهر ولا خفي، ولا يجوز قياسه على التلبية والتكبير في طريق يوم العيد لعدم شرط القياس.
على أن التلبية لم يشرع الجهر بها إلا لكل فرد بنفسه لا بهيئة الاجتماع والاتفاق في الصوت بالرفع والخفض ومراعاة الأنغام والزيادة والنقص والتمطيط والإبدال في الحروف، لأجل ذلك، فإن ذلك كله حرام في الذكر كما يحرم في قراءة القرآن، كذا في الرهص والرقص. (2)
- وقال: فالجهر المذكور يدافع السنة الثابتة بالحديث المتقدم ذكره الذي أخرجه البيهقي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنازة وعند القتال وعند الذكر.
وإذا استقرئت البدع التي في العبادات المحضة فلا بد أن يوجد فيها مزاحمة لسنة، ولو لم تكن تلك السنة إلا متابعة الصحابة لكان فيها كفاية
__________
(1) الصاعقة المحرقة (ص.62).
(2) الصاعقة المحرقة (ص.66-67).(8/641)
لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم بخلاف غير العبادات المحضة فإنها قد تكون لسبب تجدد بعدهم أو كان تركهم لها المانع ثم زال على ما تقدم. الكل في الرهص والرقص. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله في مقدمة 'الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة المتزندقة'- وهو كتاب جيد في بابه، ملأه صاحبه بالنقول عن أصحاب المذاهب، وخصوصا المذهب الحنفي... وقد طبع الكتاب ولله الحمد-: إني أردت أن أكتب أوراقا في شرح أحوال المتصوفة في هذه الأيام مشتملا على فصول للاهتمام. وسميتها: الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة.
وذلك أن طائفة ممن يدعي التصوف وهو فيه دعي بالتصلف قد اتخذوا الرقص واللعب ديدنا واعتقدوه تدينا، وخلطوا العبادة باللعب، وافتروا على الله الكذب، يأخذ بعضهم بيد بعض ويتحلقون حلقة، ويدورون محركين أيديهم إلى وراء وقدام، ورءوسهم بالتصعيد والتسفيل والتلوي كالهيئة التي يفعلها بعض النصارى في لعب لهم (يسمونهم) بركض الديك. ألا ساء ما يصنعون. (2)
__________
(1) الصاعقة المحرقة (ص.71).
(2) الصاعقة المحرقة (ص.17).(8/642)
السلطان محمد بن عبدالله (1) (1204 هـ)
محمد (المتوكل على الله، المعتصم بالله) بن عبدالله بن إسماعيل بن الشريف الحسني، المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا. ويعتبر الأمير من ملوك الدولة السجلماسية العلوية بالمغرب، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة وألف، وبويع رحمه الله بعد وفاة أبيه سنة إحدى وسبعين ومائة وألف للهجرة.
قال صاحب 'الاستقصا': كان السلطان محمد بن عبدالله رحمه الله محبا للعلماء وأهل الخير مقربا لهم، لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات. ثم قال: وجلب من بلاد المشرق كتبا نفسية من كتب الحديث لم تكن بالمغرب، مثل مسند الإمام أحمد، ومسند أبي حنيفة وغيرهما. وقال: ولما ولاه الله أمر المسلمين بعد وفاة والده زهد في التاريخ والأدب بعد التضلع منهما وأقبل على سرد كتب الحديث والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها.
وقال صاحب 'نشر المثاني': وهو نصره الله وأيده في العلم بحر لا يجارى، وفي التحقيق والمعارف لا يمارى، وقد جمع من دراية العلم ما تقف العلماء دونه، وتود زواهر الأفق أن تكونه، فكملت بذلك سنة الله على العباد، وأحيا به الله الدين في كل الأرض والبلاد، مع فرط الكرم والجود. وكان رحمه الله له هيبة عظيمة في مشوره وموكبه، وهابته ملوك الإفرنج، ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف، وقام بمجموعة من الإصلاحات الداخلية كبناء المدن والمساجد والمدارس. توفي رحمه الله سنة أربع ومائتين وألف، بالقرب من رباط الفتح.
__________
(1) الفكر السامي (2/293-294) والاستقصا (8/3-72) والأعلام (6/241-242) وهدية العارفين (2/347) والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (6/109-133).(8/643)
وقال صاحب 'الفكر السامي': عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة، جال بنفسه في المغرب، وتقرى قبائله، وعرف دخائله، وأيقن أن الدين قد كان أن يذهب من أهله باستيلاء الجهل على بطونه وقبائله، فألف لهم تأليفا على نسق رسالة ابن أبي زيد تسهيلا على العوام، ليصلوا من ضروريات دينهم إلى المرام.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيار ملوك العلويين بالمغرب؛ اعتنى بالعلم حتى وصل إلى درجة التأليف، وكان سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات.
- جاء في الفكر السامي:
وقال: إنه أول من أدخل المسانيد الأربعة للمغرب من الحرم الشريف يعني ما عدا الموطأ، وافتتحه -أي كتاب 'الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية'- بعقيدة رسالة ابن أبي زيد ... وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة كما صرح بذلك في تآليفه ... ومن مآثره أنه كان يحض على قراءة كتب المتقدمين وينهى عن المختصرات، ويرى الرجوع للكتاب والسنة؛ ولو عملوا برأيه لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال. (1)
" التعليق:
افتتاحه رحمه الله كتابه مما يؤكد سلفيته في الأسماء والصفات، فرحمة
__________
(1) 2/293-294).(8/644)
الله عليه وجعل الباقي على نهجه.
- وفي الاستقصا: وكان السلطان سيدي محمد بن عبدالله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا، يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين، وله في ذلك أخبار. (1)
- وفيه: ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك غاية. ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما. ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك، حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل، وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما، حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبدالله الغربي وأبو عبدالله المير وغيرهما من أهل مجلسه.
ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر، ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة،
__________
(1) 8/68).(8/645)
والكل مأجور على نيته وقصده. (1)
" التعليق:
قال صاحب الاستقصا: إنا نقول: الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله، وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي، والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي، والعلامة الواعية أبي زيد عبدالرحمن بن خلدون وغيرهم، أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم، وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني، الواضحة الأدلة، التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة، ولعمري لا يعلم هذا يقينا إلا من جربه وذاقه.اهـ (2)
قلت: وأما الناس اليوم، فأقبلوا عما نهى عنه هذا السلطان الصالح محمد ابن عبدالله؛ إذ المتمسك منهم الذي سلم من الإلحاد الشيوعي والاشتراكي، لا يعرف غير هذه المختصرات؛ فـ'مختصر خليل' هو قرآنهم، و'السنوسية' و'أم البراهين' و'مقدمة ابن عاشر' هي معتقدهم. والله المستعان.
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله في آخر 'الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية' (3) : فصل في بيان قولي في الترجمة: المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا، والأيمة رضي
__________
(1) 8/67).
(2) الاستقصا (8/67).
(3) مخطوط بخزانة القرويين بفاس (ص.320-322).(8/646)
الله عنهم اعتقادهم واحد، فأردت أن أشرح قولي: المالكي مذهباً الحنبلي اعتقاداً؛ وأبين المقصود بذلك والمراد، ليلا يفهمه بعض الناس على غير وجهه؛ وذلك أن الإمام أحمد -ثبت الله المسلمين بثبوته- سد طريق الخوض في علم الكلام، وقال: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا ترى أحدا ينظر في علم الكلام إلا وفي قلبه مرض وهجر أبا عبدالله الحارث بن أسد البصري المحاسبي وكان ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن وذلك لتصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال له ويحك ألست تحكي بدعتهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة كلام أهل البدعة والتكلم فيه فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث فاختفى المحاسبي فلما مات لم يصل عليه إلا أربعة، وإلى ذلك ذهب الشافعي ومالك وسفيان وأهل الحديث قاطبة، حتى قال الشافعي رضي الله عنه لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام فلزم الناس السكوت عن الخوض في علم الكلام إلى أن نبغ الإمام الأشعري فاشتغل يرد على المعتزلة أقوالهم الفاسدة ويجيب عن آرائهم الواهية فاتبعه المالكية على ذلك وسموه ناصر السنة وهو ومن ابتعه على صواب موافقين في اعتقادهم للسنة والكتاب لا في الخوض مع الخائضين والتصدي لذكر شبه المبطلين وتخليدها في الأوراق إلى يوم الدين.
وأما الحنابلة فأنكروا ذلك عليه، وفوقوا سهام الانتقاد إليه، وقالوا له كان ينبغي لك أن تسكت كما سكت الأيمة قبلك من السلف الصالح المهتدين الذين يرون أن الخوض في علم الكلام من البدع المحدثة في الدين، أما لك فيهم إسوة أفلا وسعك ما وسعهم من السكوت عن تلك الهفوة. فطريق(8/647)
الحنابلة في الاعتقاد سهلة المرام، منزهة عن التخيلات والأوهام، موافقة لاعتقاد الأيمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام أعاشنا الله على ما عاشوا عليه وأماتنا على ما ماتوا عليه.
قال عبدالحفيظ الفاسي في 'الآيات البينات' (1) : ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن إسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث عشر بنصرة هذا المذهب (2) وصرح في أول كتابه الفتوحات الكبرى (3) بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة (4) لكونها على مذهب السلف وعقد في آخره بابا بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره ولم يزل معلنا بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية. وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوما حديث النزول، فنزل عن كرسيه وقال كنزولي هذا، ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية.
- أصدر مرسوما ملكيا سنة ثلاث ومائتين وألف للهجرة في إصلاح المنهج التعليمي بالمغرب، وألزم العلماء والوعاظ به، وتوعد بالعقوبة كل من
__________
(1) ص.301).
(2) أي مذهب السلف.
(3) هو الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية.
(4) رسالة ابن أبي زيد القيرواني.(8/648)
خالفه، ومما قال فيه: "ومن أراد علم الكلام فعقيدة ابن أبي زيد رضي الله عنه كافية شافية يستغني بها جميع المسلمين". ثم قال: "ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلاسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص؛ فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون، ومن تعاطى ما ذركنا في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه، وهؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها؛ ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة، وأن يضلوا طلبة البادية، فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه في الدين وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها؛ يظنون أنهم يحصلون على فائدة بها، فيتركون مجالس التفقه في الدين واستماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإصلاح ألسنتهم بالعربية، فيكون ذلك سببا في ضلالهم". (1)
__________
(1) نقلا عن النبوغ المغربي لعبد الله كنون (ص.277).(8/649)
المجلد التاسع ...
محمد بن عبدالوهاب (1) (1206 هـ)
لقد بزغت شمس الهداية في القرن الثاني عشر الهجري، الذي وصل فيه العالم الإسلامي إلى حالة أجمع المؤرخون على وصفها؛ بأنها حالة ظلام دامس، لقد غطته القبورية والقبوريون. وأصبحت الأرض والسماء تشتكيان من رفع أصوات القبوريين بالاستغاثة بالأموات والأشجار والأحجار. وكذلك انزعجت السماوات بزعقات المتصوفين وصراخهم، وارتجت الأرض من شطحهم ورقصهم، وكادت أن تنشق وتتزلزل من فعلهم ومنكرهم، أما طغيان المعاصي الأخرى فلا تسأل عن وصفها والحالة التي بلغتها. أما السنة وكتبها فقد سفت عليها الرمال، وأصبح طلبة العلم لا يعرفون إلا قول فلان وعلان. وأما عقائد الأشعرية والماتوريدية فأصبحت هي الغيم والمطر في قلوب علماء ذلك الزمان، وبها حياتهم.
فلكل ما ذكرنا يمكن الجزم بأن شمس الهداية قد بزغت من جديد على يد هذا الإمام بهضاب نجد، وفي الدرعية بالضبط. فانتشر نورها في تلك البقعة، وطهرها من كل الظلمات التي كانت حالكة فيها منذ سنين. ثم تابعت مسيرتها إلى آخر نقطة من الشرق ثم إلى آخر نقطة من الغرب. فوجدت حواجز كثيرة من جبال للشرك والدجل، وغيوم مختلفة من ألوان من الضلال، ولكن لقوة نورها وعدم تكدرها لم تتأثر بأي حاجز يحجزها، وما تزال والحمد لله مشرقة صافية يستضيء بها أهل المشرق والمغرب. وكيف
__________
(1) روضة ابن غنام (1/75-84) والأعلام (6/257) وعلماء نجد (1/25) وأبجد العلوم (3/158-160).(9/1)
لا وهي شعاع من شمس النبوة التي وعد الله بحفظها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإليك نبذة عن شخصيته، فهو الشيخ الإمام، شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التميمي. ولد سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية في العيينة (بنجد). حفظ القرآن قبل العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقاد الذهن، سريع الحفظ، فصيحا فطنا. نشأ الشيخ في أحضان بيت علم كبير توارثوه أبا عن جد. أخذ عن أبيه وعن الشيخ المحدث محمد حياة السندي والشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سيف بن عبدالله الشمري وغيرهم. رحل طالبا للعلم إلى الحجاز ثم إلى البصرة، لكنه أوذي فيها، وعاد إلى نجد، فسكن "حريملا" مع أبيه يقرأ عليه إلى أن توفي أبوه سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف للهجرة. وكان له اهتمام خاص بمطالعة كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم. وبدأ الشيخ رحمه الله بإظهار دعوته منكرا لجميع مظاهر الشرك والبدع، مجددا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وناهجا منهج السلف الصالح في الدعوة إلى التوحيد الخالص. وكان من المساندين له أمير العيينة عثمان بن حمد بن معمر، فناصره وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره، فهدمت قبور ومشاهد وقطعت أشجار، وعلت كلمة الحق. لكن سرعان ما تخلى الأمير عن الشيخ وخذله، وأمره بالخروج من العيينة، فتلقاه أمير "الدرعية" محمد بن سعود بالإكرام، وقبل دعوته، وتعاهدا على إعلاء كلمة الله وسنة رسوله، فأيدهما الله سبحانه وتعالى بنصره، فملكوا مكة والمدينة وقبائل الحجاز وأمصارا أخرى. وقد تخرج على يده وأخذ عنه علماء أجلاء(9/2)
منهم: أبناؤه علي وحسين وإبراهيم وعبدالله، والشيخ أحمد بن راشد العريني والشيخ حمد بن إبراهيم والشيخ أحمد بن ناصر بن عثمان بن معمر وغيرهم.
قال حسين بن غنام: كان رحمه الله يحيي غالب الليل قائما، يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن، وكان من دأبه التأني والتثبت في تنفيذ الأحكام، لا يميله الهوى عن الشرع، ولا تصده عداوة عن الحق، بل يحكم بما ترجح له وجه الصواب فيه، فإن وجد نصا في كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التزمه ولم يعدل عنه، وإلا رجع إلى كتب الأئمة الأربعة، وأخذ نفسه بدقة المراجعة والتحقيق للنص، وشدة البحث والكشف والتنقيب. من مؤلفاته: 'كتاب التوحيد' و'مختصر زاد المعاد' و'مسائل الجاهلية' و'الكبائر' و'كشف الشبهات' وغيرها.
توفي رحمه الله سنة ست بعد المائتين والألف، وله اثنتان وتسعون سنة.
ولكثرة ما لهذا الإمام من الآثار في العقيدة السلفية سأقتصر على بعض المسائل التي نشرف بحثنا بها.
موقفه من المبتدعة:
- رسالة الشيخ إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي(9/3)
عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال: سُبْحَانَ { رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ } الْعَالَمِينَ (1) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو
__________
(1) الصافات الآيات (180-182).(9/4)
منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد فَمَنْ { ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } (103) (1) وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وأومن بحوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم. وأومن بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعالى: وَلَا { يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ } ارْتَضَى (2) وقال تعالى: مَنْ { ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا } بِإِذْنِهِ (3) وقال تعالى: وَكَمْ { مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ
__________
(1) الأعراف الآيتان (102 و103).
(2) الأنبياء الآية (28).
(3) البقرة الآية (255).(9/5)
وَيَرْضَى } (26) (1) وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: فَمَا { تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (48) (2) وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا تفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته. وأومن بأن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ { جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (10) (3) وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من
__________
(1) النجم الآية (26).
(2) المدثر الآية (48).
(3) الحشر الآية (10).(9/6)
كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة. وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل. ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي. فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي(9/7)
الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد، وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم. وقبله من بهت محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور. قال تعالى: إِنَّمَا { يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ } اللَّهِ (1) الآية، بهتوه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار. فأنزل الله في ذلك: إِنَّ { الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } (101) (2) وأما المسائل الأخر، وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق وأنا قائل بها.
__________
(1) النحل الآية (105).
(2) الأنبياء الآية (101).(9/8)
ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا } بِجَهَالَةٍ (1) الآية. (2)
موقفه من المشركين:
- محنة الشيخ بسبب عقيدته السلفية:
جاء في روضة ابن غنام: وكان في أثناء مقامه في البصرة ينكر ما يرى ويسمع من الشرك والبدع، ويحث على طريق الهدى والاستقامة، وينشر أعلام التوحيد، ويعلن للناس أن الدعوة كلها لله يكفر من صرف شيئا منها إلى سواه. وإذا ذكر أحد بمجلسه شارات الطواغيت والصالحين الذين كانوا يعبدونهم مع الله نهاه عن ذلك وزجره، وبين له الصواب وقال له: إن محبة الأولياء والصالحين إنما هي باتباع هديهم وآثارهم. وليست باتخاذهم آلهة من دون الله، وكان كثير من أهل البصرة يأتون إليه بشبهات يلقونها عليه، فيجيبهم بما يزيل اللبس، ويوضح الحق، ويكرر عليهم دائما أن العبادة كلها لا تصلح إلا لله، وكان بعض الناس يستغربون منه ذلك، ويعجبون لما يظهر لهم من شدة إنكاره لعبادة الصالحين والأولياء، والتوسل بهم عند قبورهم
__________
(1) الحجرات الآية (6).
(2) مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (6/8-13).(9/9)
ومشاهدهم. وكانوا يقولون: إن كان ما يقوله هذا الإنسان حقا فالناس ليسوا على شيء.
فلما تكرر منه ذلك، آذاه بعض أهل البصرة أشد الأذى وأخرجوه منها وقت الهجيرة، فاتجه إلى الشام، ولكن نفقته التي كانت معه ضاعت منه في الطريق، فانثنى عائدا إلى نجد، ومر في طريقه إليها بالأحساء، ونزل فيها على الشيخ العالم عبدالله بن محمد بن عبداللطيف الشافعي الأحسائي، ثم اتجه منها إلى بلدة حريملا، وكان أبوه عبدالوهاب قد انتقل إليها من العيينة، سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، بعد أن توفي حاكمها عبدالله بن معمر وتولى بعده ابن ابنه محمد بن حمد الملقب خرفاش، فعزل الشيخ عبدالوهاب عن قضاء العيينة لنزاع بينهما.
فأقام الشيخ محمد في حريملا مع أبيه يقرأ عليه سنين، إلى أن توفي أبوه سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف.
فأعلن دعوته واشتد في إنكاره مظاهر الشرك والبدع وجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصح للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام وجدد سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يخش في الحق لومة لائم، وحذر الناس والعلماء منهم خاصة تحقق وعيد الله في قوله تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ(9/10)
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159) (1) .
فذاع ذكره في جميع بلدان العارض: في حريملا والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة، وأتى إليه ناس كثيرون وانتظم حوله جماعة اقتدوا به واتبعوا طريقه ولازموه وقرأوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير. وصنف في تلك السنين كتاب التوحيد.
وانقسم الناس فيه فريقين: فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه، وفريق عاداه وحاربه وأنكر ذلك عليه وهم الأكثر.
وكان رؤساء أهل حريملا قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكان كل فريق يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يزع الجميع. وكان في البلد عبيد لأحد القبيلتين، كثر تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن يمنعهم عن الفساد وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه سرا بالليل، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا.
فانتقل الشيخ من حريملا إلى العيينة، ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر فأكرمه وتزوج فيها الجوهرة بنت عبدالله بن معمر. ولما عرض على عثمان دعوته اتبعه وناصره وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره. وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء والأشجار التي يعظمونها ويتبركون بها: كقبة قبر زيد بن
__________
(1) البقرة الآية (159).(9/11)
الخطاب في الجبيلة وكشجرة قريوة وأبي دجانة والذئب.
فخرج الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى تلك الأماكن بالمعاول، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور وعدلوها على السنة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذئب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود، ومشارى بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم.
وهكذا لم يبق وثن في البلاد التي تحت حكم عثمان وعلت كلمة الحق، وأحييت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلما شاع ذلك واشتهر وتحدثت به الركبان أنكرته قلوب الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وقالوا مثل ما قال الأولون: أَجَعَلَ { الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } (5) (1) . فتجمعوا على رده والإنكار عليه، ومخاصمته ومحاربته، فكتبوا إلى علماء الأحساء والبصرة والحرمين يؤلبونهم عليه، فناصرهم في ذلك أهل الباطل والضلال من علماء تلك البلاد، وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع والسنة وجهله وغوايته، وأغروا به الخاصة والعامة، خصوصا السلاطين والحكام، وادعوا أن ليس للشيخ وأصحابه عهد ولا ذمام لرفضه سنة الرسول وتغييره أحكام الدين وخوفوا الحكام والولاة منه، وزعموا أنه يملأ قلوب الجهال والطِّغام بكلامه ويغويهم بطريقته فيخرجون على حكامهم وولاتهم ويعلنون العصيان.
__________
(1) ص الآية (5).(9/12)
والشيخ -رحمه الله- صابر على ما يقولون، محتسب أجره عند الله، يتعزى بما قاساه قبله الموحدون، وما لقيه المؤمنون من أنواع البلاء، وما سعى لهم به أهل الشرك والضلال. وهذه سنة الله تعالى في عباده جارية في جميع الأزمان، يختبر بها المؤمنين ويمتحن بها الصابرين، فقد قال تعالى: الم { (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } (2) (1) وقال تعالى: وَلَقَدْ { فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } (3) (2) .اهـ (3)
- ومن رسائله رحمه الله إلى أهل الآفاق قال:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من محمد بن عبدالوهاب إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيى بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير، مثل عبادة غير الله وتوابع ذلك من تعظيم
__________
(1) العنكبوت الآيتان (1و2).
(2) العنكبوت الآية (3).
(3) روضة ابن غنام (1/76-79).(9/13)
المشاهد، وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد، وغير ذلك مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة وقطع العذرة، ولكن الأمر كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" (1) فلما عظم العوام قطع عاداتهم وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم وهو من أبعد الناس عنه -إذِ العالم من يخشى الله- فأرضى الناس بسخط الله، وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم وصدهم عن إخلاص الدين لله، وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين، وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب، ليس له من الأمر شيء، قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا هؤلاء لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره المشركون. وها أنا أذكر مستندي في ذلك من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. فأما كلام الحنابلة فقال الشيخ تقي
__________
(1) مسلم (1/130/145) وابن ماجه (2/1319-1320/3986) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وابن مسعود وغيرهما.(9/14)
الدين رحمه الله لما ذكر حديث الخوارج (1) : فإذا كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضا، وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى، كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله أرسل الرسل ليعبد وحده لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة أو المسيح أو العزير أو الصالحين أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هَؤُلَاءِ { شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2) فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.اهـ
- وقال في الاقتناع في أول باب حكم المرتد أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فهو كافر إجماعا. وأما كلام الحنفية فقال الشيخ قاسم في شرح درر البحار: النذر: الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض
__________
(1) أحمد (1/404) والترمذي (4/417-418/2188) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/59/168) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) يونس الآية (18).(9/15)
الصلحاء قائلا: يا سيدي إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا وكذا باطل إجماعا، بوجوه منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر؛ إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي، وقال الإمام البزازي في فتاويه: إذا رأى رفض صوفية زماننا هذا في المساجد مختلطا بهم جهال العوام، الذين لا يعرفون القرآن والحلال والحرام، بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، فويل للقضاة والحكام حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم. وأما كلام الشافعية فقال الإمام محدث الشام أبو شامة وهو في زمن الشارح وابن حمدان في كتاب 'الباعث على إنكار البدع والحوادث': لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من مؤاخاة النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم، وأطال رحمه الله الكلام -إلى أن قال-: وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح، ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر وهي ما بين عيون وشجر وحائط، وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة، ثم ذكر رحمه الله الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال له بعض(9/16)
من معه: اجعل لنا ذات أنواط قال: "الله أكبر؛ قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" (1) . انتهى كلامه رحمه الله، وقال في 'اقتضاء الصراط المستقيم': إذا كان هذا كلامه - صلى الله عليه وسلم - في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه بالقبور ونحوها؟ وأما كلام المالكية فقال أبو بكر الطرطوشي في كتاب 'الحوادث والبدع' لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط: فانظروا رحمكم الله، أين ما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (2) قال: في البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي ... فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك
__________
(1) أخرجه أحمد (5/218) والترمذي (4/412-413/2180) وقال: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (15/94/6702).
(2) أحمد (4/126) وأبو داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/16/43) والحاكم (1/95-96) وقال: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي.(9/17)
الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة، فما ظنك بزمانك هذا والله المستعان. وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين:
الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي، ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى، وعيسى عليه السلام بريء منهم.
والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (1)
موازنة بين دعوة التوحيد ودعوة الشرك:
- جاء في تاريخ عجائب الآثار: ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وما تجدد بها من الحوادث فكان ابتداء المحرم بالرؤية يوم الخميس في عاشره، وصل كثير من كبار العسكر الذين تخلفوا بالمويلح، فحضر منهم حسين بك دالي باشا وغيره، فوصلوا إلى قبة النصر جهة العادلية، ودخلت عساكرهم المدينة شيئا فشيئا وهم في أسوأ حال من الجوع وتغير الألوان وكآبة المنظر والسحن، ودوابهم وجمالهم في غاية العي، ويدخلون إلى المدينة
__________
(1) مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (6/175-180).(9/18)
في كل يوم، ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم وقد سخط عليهم الباشا ومنع أن لا يأتيه منهم أحد ولا يراه، وكأنهم كانوا قادرين على النصرة والغلبة، وفرطوا في ذلك، ويلومهم على الانهزام والرجوع. وطفقوا يتهم بعضهم البعض في الانهزام، فتقول الخيالة: سبب هزيمتنا القرابة، وتقول القرابة بالعكس. ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر، وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم، ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد، بخشوع وخضوع. وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن، وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات. وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر، فوجدوهم غلفا غير مختونين، ولما وصلوا بدرا واستولوا عليه وعلى القرى والخيوف وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء، نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم، ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون: هؤلاء الكفار(9/19)
الخوارج، حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته، فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد. (1)
" التعليق:
هذا النص الذي نقله هذا المؤرخ، فيه عبرة لمن اعتبر، فاعتبروا يا من يريدون تحرير المقدسات الإسلامية، مثل فلسطين وغيرها من البلاد المغصوبة، أو البلاد التي في طريقها إلى الغصب. يحلم كثير من الناس، فيستلذ بحلمه الذي هو عبارة عن المؤتمرات والمنظمات التي تعقد وقرار اللجان والاقتراحات، وإذا سمعت الإذاعات أو قرأت الجرائد العالمية أو المحلية تظن أن الأمر قد انتهى، ويمكن في الأسبوع القادم أو الشهر الآتي على الأكثر، أن تحرر المقدسات وتقوم الخلافة الإسلامية التي تعقد راية الجهاد تحتها.
فلا تحرير ولا جهاد، ويبقى الناس هكذا حتى يراجعوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله من هذا التردي أولا، الذي هم فيه، أما الاستخفاف بالشعوب والتلاعب بعقولهم، فما أكثر من يحسنه. والله المستعان.
مقارنة بين الدعوة الشركية ودعوة التوحيد الخالص وآفات الأولى وبركة الثانية:
- جاء في تاريخ الجبرتي:
وفي هذه الأيام أيضا، وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين، وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة
__________
(1) تاريخ الجبرتي (3/341-342).(9/20)
وقطع الجالب عنهم من كل ناحية، حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمس مائة ريال، والأردب من البر ثلاثمائة وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك. فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها، وشرب الأراجل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة بالملازمة على الصلوات في الجماعة ودفع الزكاة وترك لبس الحرير والمقصبات وإبطال المكوس والمظالم، وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك، حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسه وعشرة بحسب حاله. وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه، فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم. فيكون الشخص من سائر الناس جالسا بداره، فما يشعر على حين غفلة منه. إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون إن سيد الجميع محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر، فعاهده على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور(9/21)
والتصاوير والزخاريف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها، ليكون الدين كله لله. فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة، لأنها من الأمور المحدثة، التي لم تكن في عهده بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية، وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة، وإذعانهم لذلك. فعند ذلك أمنت السبل. وسلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار، وكثر وجود المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال، حتى بيع الأردب من الحنطة بأربع ريالات، واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون وأنا آخذ من المشركين لا من الموحدين (1) .
" التعليق:
يستفاد من هذا النص الذي ساقه هذا المؤرخ الأمور الآتية:
1- تصوير الحالة التي كانت عليها الحجاز قبل تشرفها بدعوة التوحيد الخالصة. وهي ما نعت هذا المؤرخ أصحابها بالوهابيين.
2- وجود مماثلة لها الآن في العالم الإسلامي إلا من شاء الله، فكل تلك
__________
(1) تاريخ الجبرتي (3/116-117).(9/22)
الأوصاف السلبية قلما يخلو منها مكان.
3- عاقبة المشركين والمفسدين الذين أشركوا بالله فاستحلوا محارمه، فجزاهم الله بما سطره هذا المؤرخ.
4- بركة دعوة التوحيد الخالصة.
5- منقبة للشريف الذي عرف الحق واقتنع به. وطبقه في رعيته، وما أقل أمثاله في زماننا هذا. والله المستعان.
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: إن مفيدهم ابن المعلم قال في كتابه 'روضة الواعظين': إن الله أنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد توجهه إلى المدينة في الطريق في حجة الوداع فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: انصب عليا للإمامة ونبه أمتك على خلافته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يا أخي جبريل، إن الله بغض أصحابي لعلي، إني أخاف منهم أن يجتمعوا على إضراري، فاستعف لي ربي". فصعد جبريل وعرض جوابه على الله تعالى فأنزله الله تعالى مرة أخرى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلما قال أولا، فاستعفى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المرة الأولى، ثم صعد جبريل فكرر جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره الله بتكرير نزوله معاتبا له مشددا عليه بقوله: يَا أَيُّهَا { الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ } رِسَالَتَهُ (1) فجمع أصحابه وقال: "يا أيها الناس إن
__________
(1) المائدة الآية (67).(9/23)
عليا أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، ليس لأحد أن يكون خليفة بعدي سواه، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"اهـ.
فانظر يا أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على اختلاقه ركاكة ألفاظه وبطلان أغراضه، ولا يصح منه إلا: "من كنت مولاه" (1) ، ومن اعتقد منهم صحة هذا فقد هلك، إذ فيه اتهام المعصوم قطعا من المخالفة بعدم امتثال أمر ربه ابتداء، وهو نقص، ونقص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفر، وأن الله تعالى اختار لصحبته من يبغض أجل أهل بيته، وفي ذلك ازدراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة لما مدح الله به رسوله وأصحابه من أجل المدح، قال الله تعالى: ‰£Jpt'C { رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
__________
(1) تقدم في مواقف الحسن بن الحسن بن علي سنة (145هـ).(9/24)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (29) (1) واعتقاد ما يخالف كتاب الله والحديث المتواتر كفر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خاف إضرار الناس، وقد قال الله تعالى: وَاللَّهُ { يَعْصِمُكَ مِنَ } النَّاسِ (2) قبل ذلك كما هو معلوم بديهة، واعتقاد عدم توكله على ربه فيما وعده نقص، ونقصه كفر. وإن فيه كذبا على الله تعالى: وَمَنْ { أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ } كَذِبًا (3) وكذبا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن استحل ذلك فقد كفر، ومن لم يستحل ذلك فقد تفسق، وليس في قوله: "من كنت مولاه" أن النص على خلافته متصلة، ولو كان نصا لادعاها علي رضي الله عنه لأنه أعلم بالمراد، ودعوى ادعائها باطل ضرورة، ودعوى علمه يكون نصا على خلافته، وترك ادعائها تقية أبطل من أن يبطل.
ما أقبح ملة قوم يرمون إمامهم بالجبن والخور والضعف في الدين مع أنه من أشجع الناس وأقواهم. (4)
- وقال: ومنها أنه روى الكشي منهم -وهو عندهم أعرفهم بحال الرجال وأوثقهم في رجاله- وغيره عن الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - وحاشاه
__________
(1) الفتح الآية (29).
(2) المائدة الآية (67).
(3) الأنعام الآية (21).
(4) 'رسالة في الرد على الرافضة'، مطبوعة ضمن مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/5-7).(9/25)
من ذلك- أنه قال: لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - : ارتد الصحابة كلهم إلا أربعة؛ المقداد وحذيفة وسلمان وأبو ذر - رضي الله عنهم - فقيل له: كيف حال عمار بن ياسر قال: حاص حيصة ثم رجع.
هذا العموم المؤكد يقتضي ارتداد علي وأهل البيت وهم لا يقولون بذلك. وهذا هدم لأساس الدين لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث، نعوذ بالله من اعتقاد يوجب هدم الدين، وقد اتخذ الملاحدة كلام هؤلاء الرافضة حجة لهم فقالوا: كيف يقول الله تعالى: كُنْتُمْ { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ } لِلنَّاسِ (1) وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم إلا نحو خمسة أو ستة أنفس منهم لامتناعهم من تقديم أبي بكر على علي وهو الموصى به، فانظر إلى كلام هذا الملحد تجده من كلام الرافضة. فهؤلاء أشد ضررا على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه:
فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه.
وتجوز كتمان ما عورض به القرآن.
وتجوز تغيير القرآن وتخالف قوله تعالى: رَضِيَ { اللَّهُ عَنِ } الْمُؤْمِنِينَ (2) ، وقوله تعالى: سإج' { اللَّهُ عَنْهُمْ
__________
(1) آل عمران الآية (110).
(2) الفتح الآية (18).(9/26)
وَرَضُوا } عَنْهُ (1) وقوله فيمن آمن قبل الفتح وبعده: وَكُلًّا { وَعَدَ اللَّهُ } الْحُسْنَى (2) .اهـ (3)
- وقال: ومنها إيجابهم سب الصحابة لاسيما الخلفاء الثلاثة نعوذ بالله، رووا في كتبهم المعتبرة عندهم عن رجل من أتباع هشام الأحول أنه قال: كنت يوما عند أبي عبدالله جعفر بن محمد، فجاءه رجل خياط من شيعته وبيده قميصان فقال: يا ابن رسول الله خطت أحدهما وبكل غرزة إبرة وحدت الله الأكبر، وخطت الآخر وبكل غرزة إبرة لعن الأبعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم نذرت لك ما أحببته لك منهما، فما تحبه خذه وما لا تحبه رده. فقال الصادق: أحب ما تم بلعن أبي بكر وعمر، واردد إليك الذي خيط بذكر الله الأكبر. فانظر إلى هؤلاء الكذبة الفسقة، ماذا ينسبون إلى أهل البيت من القبائح حاشاهم، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى } النَّاسِ (4) فإذا لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطا فمن يكون غيرهم. (5)
- وقال: ومنها أنهم جعلوا مخالفة أهل السنة والجماعة، الذين هم على
__________
(1) المائدة الآية (119).
(2) النساء الآية (95).
(3) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/12-13).
(4) البقرة الآية (143).
(5) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/15-16).(9/27)
ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصلا للنجاة، فصاروا كلما فعل أهل السنة تركوه وإن تركوا شيئا فعلوه، فخرجوا بذلك عن الدين رأسا، فإن الشيطان سول لهم وأملى لهم، وادعوا بأن هذه المخالفة علامة أنهم الفرقة الناجية. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "الفرقة الناجية هي السواد الأعظم" (1) و"ما أنا عليه وأصحابي" (2) . فلينظر إلى الفرق ومعتقداتهم وأعمالهم، فما وافقت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هي الفرقة الناجية، وأهل السنة هم المتبعون لآثاره - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه كما لا يخفى على منصف ينظر بعين الحق، فهم أحق أن يكونوا الفرقة الناجية، وآثار النجاة الظاهرة فيهم لاستقامتهم على الدين من غير تحريف، وظهور مذهبهم وشوكتهم في غالب البلاد، ووجود العلماء المحققين والمحدثين والأولياء والصالحين فيهم، وقد نزع الولاية عن الرافضة، فما سمع فيهم ولي قط. (3)
موقفه من الخوارج:
- قال: وأما الكذب والبهتان؛ فقولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس الذي دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على
__________
(1) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/34/68)، الطبراني في الكبير (8/268/8035) وفي الأوسط (8/98/7198) البيهقي (8/188) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - وذكره الهيثمي في المجمع (7/258) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير".
(2) أخرجه الترمذي (5/26/2641) والحاكم (1/128-129) من طريق عبدالرحمن بن زياد عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو مرفوعا. وفيه عبدالرحمن بن زياد الأفريقي. وقال فيه الحافظ: "ضعيف في حفظه"، ولكن للحديث شواهد، كشاهد أبي هريرة ومعاوية وأنس وعوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنهم - .
(3) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (11/30-31).(9/28)
عبدالقادر، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال: وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإيمان: فهو التصديق، وأنه يزيد بالأعمال الصالحة وينقص بضدها، قال الله تعالى: وَيَزْدَادَ { الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (2) وقوله: فَأَمَّا { الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (124) (3) وقوله تعالى: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ } إِيمَانًا (4) وغير ذلك من الآيات.
قال الشيباني رحمه الله:
وإيماننا قول وفعل ونية ... ويزداد بالتقوى وينقص بالردى
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله
__________
(1) الدرر السنية (1/66) وعقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1/337). نقلا عن مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/133).
(2) المدثر الآية (31).
(3) التوبة الآية (124).
(4) الأنفال الآية (2).(9/29)
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (1) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (2) . وقوله تعالى: وَمَنْ { يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (25) (3) وَإِذْ { بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ڑْüدےح !$©ـ=د9 ڑْüدJح !$s)ّ9$#ur وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (26) (4) فقال الطواغيت الذي (5) قال الله فيهم: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ } اللَّهِ (6) : إن فساق مكة حشو الجنة مع أن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف الحسنات، فانقلبت القضية بالعكس حتى آل الأمر إلى الهتيميات المعروفات بالزنا والمصريات يأتون وفودا يوم الحج الأكبر، كل من الأشراف معروفة بغيته منهن جهارا، وأن أهل اللواط وأهل
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(2) أحمد (3/10،20،49،50) ومسلم (1/69/49) وأبو داود (1/677-378/1140) والترمذي (4/407-408/2172) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/485-486/5023) وابن ماجه (1/406/1275) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) الحج الآية (25).
(4) الحج الآية (26).
(5) كذا بالأصل والصواب (الذين).
(6) التوبة الآية (31).(9/30)
الشرك والرفضة، وجميع الطوائف من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه ممنوع من دخولها ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات يجيرون من استجار بهم، سبحانك هذا بهتان عظيم وَمَا { كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا } يَعْلَمُونَ (1) .اهـ (2)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: وأومن بأن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. (3)
- له كتاب التوحيد ضمنه باب: ما جاء في منكري القدر.
حامد بن محمد بن حسن بن محسن من علماء (أول القرن الثالث عشر)
موقفه من القدرية:
- له شرح جيد لكتاب التوحيد، قال في شرحه لـ (باب ماجاء في
__________
(1) الأنفال الآية (34).
(2) مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (6/96-98).
(3) مؤلفات محمد بن عبدالوهاب (6/9).(9/31)
منكري القدر): باب ما جاء في بيان أن منكري القدر قد خالفوا الكتاب والسنة واتبعوا أهواءهم، وأنهم في ضلال مبين وما لهم على الله إلا مجرد دعوة الشيطان، كما قال تعالى عنه لعنه الله أنه يقول يوم القيامة: وَمَا { كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } (1) فقد بين الله تعالى أنه يخاطبهم بأنهم تبعوه بلا سلطان، بل أن دعاهم إلى الباطل فاستجابوا له إما بمخالفتهم الكتاب، فقوله تعالى: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } (2) أي نخلقها، وقوله تعالى: مَا { فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (3) . قال البغوي: أي في اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: وَكُلُّ { صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } (53) (4) . وقوله تعالى: يَمْحُوا { اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
__________
(1) إبراهيم الآية (22).
(2) الحديد الآية (22).
(3) الأنعام الآية (38).
(4) القمر الآية (53).(9/32)
} (39) (1) . روي عن عمر أنه كان يطوف ويبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، ومعلوم بالضرورة أن المحو لم يكن إلا بعد الكتابة، والقرينة عليه قوله تعالى: وَعِنْدَهُ { أُمُّ الْكِتَابِ } (39) فإنه ورد في الحديث الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" (2) .اهـ (3)
- وقال بعد ذكره النصوص التي ساقها ابن عبدالوهاب في الأصل:
قلت: وهذه السنة نطقت صريحا بالقدر، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولكنهم كما قال تعالى: بَلِ { اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (4) . قال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: إن الناس في الأمر الشرعي الديني والقضاء المقدور الكوني انقسموا أربعة أقسام، فمنهم يرى الأمر المقدر الكوني وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ولكن لا يفرق بين المؤمنين وبين الفجار الكافرين،
__________
(1) الرعد الآية (39).
(2) تقدم تخريجه في مواقف عبادة بن الصامت رضي الله عنه سنة (34هـ).
(3) فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد (ص.451).
(4) الروم الآية (29).(9/33)
فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن من الناس من يفرق بين المؤمن والكافر ولايفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق في آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان، بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى والفارق بحسب ما فرق بين أوليائه وأعدائه. ومنهم من أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وذاك من القدرية والمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وكان معترضا على ربه في أحكامه فهو كإبليس الذي اعترض على ربه وخاصمه. ومنهم من أقر الأمر الكوني المقدور والأمر الشرعي المأمور فيفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على ما يصيبه من المقدور، وهؤلاء هم أهل إياك نعبد وإياك نستعين، وإذا أذنب استغفر وتاب ولا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ويؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" (1) . فيقر بنعمة الله في الحسنات ويعلم أنه هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما ذكر عن بعضهم: أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك والحمد لك فأسألك بوجوب
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/122) والبخاري (11/117/6306) والترمذي (5/436/3393) والنسائي (8/674-675/5537) كلهم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.(9/34)
حجتك علي وانقطاع حجتي إلا غفرت لي، وفي الحديث الصحيح الإلهي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (1) . والقسم الرابع: شر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية ولما مع القدرية. (2)
محمد بن علي بن غريب (3) (1208 هـ)
الشيخ محمد بن علي بن غريب النجدي. تزوج بنت الشيخ محمد بن عبدالوهاب بعدما مات عنها زوجها حمد بن إبراهيم بن مشرف قاضي بلد "مرات". أخذ عنه الشيخ سليمان بن عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب والشيخ عبدالعزيز بن حمد بن مشرف والشيخ عبدالعزيز بن حمد ابن معمر وغيرهم.
قال ابن حميد: ورد على مخالفيهم -يعني المخالفين للدعوة السلفية- وأجاب عن عدة فنون أرسلت إليهم من بغداد، فكان عندهم مقبولا عظيما.
وفي سنة ثمان ومائتين وألف قتل الشيخ محمد بن غريب في الدرعية، لأجل أمور قيلت عنه.
موقفه من المشركين:
__________
(1) أحمد (5/154) ومسلم (4/1994-1995/2577) والترمذي (4/566-567/2495) وابن ماجه (2/1422/4257) كلهم من حديث أبي ذر الطويل: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي...".
(2) فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد (ص.453-454).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/312-316) وانظر هامش السحب الوابلة (2/690-692).(9/35)
- له: 'التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق' وهو رد على شبه أرسلها عبدالله أفندي البغدادي إلى علماء الدرعية يتحداهم بها. إلا أن المؤلف -عفا الله عنه- أورد فيه مسائل ليست على مذهب السلف في العقيدة. (1)
فائز بن يوشع بن عبدالله آل رحمة (2) (1215 هـ تقريبا)
الشيخ فائز بن يوشع بن عبدالله بن محمد بن حسين آل رحمة الناصري التميمي. ولد في بلدة الغاط، وذلك في حدود سنة عشر ومائة وألف للهجرة، ثم انتقلت أسرته إلى بلدة الفرعة من بلدان الوشم. عاصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، واستجاب لدعوته. لم يل منصبا لتعففه وإقباله على العلم.
توفي رحمه الله سنة خمس عشرة ومائتين وألف للهجرة تقريبا، وقد تجاوز المائة من عمره.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في علماء نجد: ولما أخذت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تمتد، ووصلت إلى الوشم، وحاصر الإمام عبدالعزيز بن محمد الفرعة عام 1175هـ، وكان الشيخ فائز من الذين استجابوا للدعوة، بينما امتنعت بلدته، فانتقل إلى بلدة شقراء، وأخذ يدعو جماعته إلى الطاعة والانقياد للدعوة، إلا أنهم بقيادة أميرهم منصور بن حمد آل فائز رفضوا ذلك.
__________
(1) علماء نجد (6/313).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/356-357).(9/36)
ولكن بفضل من الله تعالى، ثم بإلحاح من هذا الداعية الحكيم الرشيد الشيخ فائز، هداهم الله تعالى، فكونوا وفدا، ووفدوا على الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الدرعية، فبايعوا على السمع والطاعة والمتابعة. (1)
موقف السلف من محمد بن عبدالله بن محمد بن فيروز (1216 هـ)
عداؤه للدعوة السلفية:
هذا الرجل النجدي الأصل وأتباعه من الذين قاوموا وحاربوا دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية، فتصدوا لها بكل الوسائل، من تحريض السلاطين وتأليف القصائد والرسائل.
- جاء في علماء نجد: وقال قصيدة يذم فيها أهل نجد والدعوة السلفية ومطلعها:
سلام فراق لا سلام تحية ... على ساكني نجد وأرض اليمامة
إلى أن قال:
ومن أين هذا العلم جاء إليكم ... أمن أرض نجد أم من رأس خيمتي
فرد عليها الشريف الشيخ عبدالله بن محمود من أهل نجد وقد جاء إلى الشارقة في حدود عام 1318هـ بقصيدة مطلعها:
سلام ثقيل قد أتى بالمسرة ... علينا من نفحات رب البرية
__________
(1) علماء نجد (5/356-357).(9/37)
إلى أن قال:
على قدم لاعظم الله أمرها ... سعت يومها جاءت لمحو الشريعة (1)
- وقال محرضا لباشا بغداد عندما أراد الإغارة على نجد أولها:
أنامل كف السعد قد أثبتت خطا ... بأقلام أحكام لنا حررت ضبطا
فنقضها عليه الشيخ حسين بن غنام الأحسائي بقصيدة قال فيها:
على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا ... عروس هوى ممقوتة زارت الشطا
تخطت فأخطت في المساعي مَرامَها ... ومرسلها عن نيل مقصودها أخطا
وثارت لنار الشرك تُذْكي ضِرامَها ... وسارت فبارت والإله لها قطا
لقد شوهت ما زخرفته بزورها ... كما أنها بالْمَيْن قد أحكمت ربطا
لقد جاء منشيها بزور ومنكر ... وفحش وبهتان يَغُطُّ به غَطَّا
وحاد به داعي العناد لِمَهْيَعٍ ... تنكب عن سبل الهداية واشتطا
عبدالعزيز بن محمد بن سعود (2) (1218 هـ)
الخليفة الراشد والإمام المجاهد عبدالعزيز بن محمد بن سعود، ولد سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين بعد المائة والألف للهجرة. تولى بعد وفاة أبيه محمد ابن سعود سنة تسع وسبعين ومائة وألف للهجرة، فأسقط جميع المظالم والمغارم، وارتفع عمود الحق، وأقبلت الدنيا على رعيته، وسارت بفتوحه الركبان، وطارت قلوب أهل الضلال فزعا. وكان رحمه الله مغوارا شديد
__________
(1) 6/244).
(2) الأعلام (4/27) روضة ابن غنام (1/125) والتاج المكلل (ص.301-304) والدرر السنية (12/30-36).(9/38)
البأس، لا يمل الحروب، يباشرها بنفسه ولا يخاف في الله لومة لائم. قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي اليمني:
وقام فاروق الزمان المؤتمن ... عبدالعزيز من ومن ومن
فسار في الناس كسيرة الأشج ... ودوخ البر وخاض للثبج
يسوس بالآثار والقرآن ... على طريق العدل والإحسان
يدعو إلى الله بحزب غالب ... مجاهد بالأربع المراتب
ونفسه لله والنفيس ... والصدق للقلوب مغناطيس
وقال الشيخ حسين بن غنام: كان الإمام عبدالعزيز رحمه الله كثير الخوف من الله والذكر له، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، كثير الرأفة والرحمة بالرعية.
قتله رافضي من أهل العمادية في جامع الدرعية سنة ثمان عشرة بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى.
موقفه من المشركين:
تربى منذ ولادته إلى إمارته تحت رعاية سلفية؛ أب سلفي، وأم سلفية صالحة، وأستاذ ومعلم أحيى الله به الأرض بعد موتها. فكان نتيجة ذلك كله إماما عالما سلفيا، يطمح لنشر هذه العقيدة المباركة في أرجاء المعمورة. لقد ذكر من أرخ لهذا الإمام ونقل عنه رسائل متعددة أرسلها إلى مجموعة من القرى والبلدان، يبين لهم فيها العقيدة السلفية والحالة المحزنة التي هم عليها من الشرك والخرافات. ومن أهم هذه الرسائل رسالة أرسلها إلى الحرمين ومصر والشام ... ونذكر نموذجا من رسائله كشاهد، ومن شاء التقصي فعليه(9/39)
بتواريخ نجد والدرر السنية.
- رسالة أرسلها إلى أهل المخلاف السليماني مع الشيخ أحمد الفلقي، الذي زار الدرعية وتعلم العقيدة السلفية، فطلب من الأمير أن يبعثه داعية إلى أهل المخلاف، فاستجاب له، وكتب معه الرسالة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من عبدالعزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، خصوصا الأمراء أبناء حمد بن أحمد، وحمود وناصر ويحيى وسائر إخوانهم وآل النعمي وكافة أهل تهامة، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية، أما بعد، فالموجب لهذه الرسالة أن أحمد بن حسين الفلقي قدم إلينا، فرأى ما نحن عليه وتحقق صحة ذلك، فالتمس منا أن نكتب لكم ما يزول به الاشتباه، لتعرفوا دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فاعلموا رحمكم الله، أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل بالدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته: إخلاص العبادة لله تعالى لا شريك له والنهي عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله الخلق لأجله ودل الكتاب على فضله كما قال تعالى: وَلَقَدْ { بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا } الطَّاغُوتَ (1) . وقال تعالى: وَمَا {
__________
(1) النحل الآية (36).(9/40)
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ } الدِّينَ (1) وإخلاص الدين هو صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، وذلك بأن لا يدعى إلا الله ولا يستغاث إلا بالله ولا يذبح إلا لله ولا يخشى إلا الله ولا يرجى سواه ولا يرهب ولا يرغب إلا في ما لديه، ولا يتوكل في جميع الأمور إلا عليه.
وأن كل ما كان لله تعالى لا يصلح شيء منه لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وهذا بعينه توحيد الألوهية الذي أسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم دون الكافر، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
فلما من الله علينا بمعرفة ذلك وعلمنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن كنا قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم، والتقرب بالذبح لهم وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات وارتكاب المحرمات وترك الصلوات وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد اندثاره على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب أحسن الله له في آخرته المآب. فأبرز لنا جهة الحق ووجهة الصواب من كتاب الله المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فبين لنا أن الذي نحن عليه وهو دين غالب الناس من الاعتقاد
__________
(1) البينة الآية (5).(9/41)
في الصالحين وغيرهم ودعوتهم والتقرب إليهم والنذر لهم والاستغاثة بهم في الشدائد وطلب الحاجات منهم، أنه الشرك الأكبر الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه، قال تعالى: إِنَّ { اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ } يَشَاءُ (1) . وقال تعالى: إِنَّهُ { مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ } النَّارُ (2) وقال تعالى: وَالَّذِينَ { تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } (14) (3) فحين كشف الله لنا الإسلام، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك والكفر بالنصوص القاطعة والأدلة الساطعة من كتاب الله وسنة رسوله وكلام أئمة الأعلام، الذين أجمعت الأمة على درايتهم، عرفنا ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولا أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر، وأن الله
__________
(1) النساء الآية (48).
(2) المائدة الآية (72).
(3) فاطر الآيتان (13 و14).(9/42)
أول ما أخبرنا به أن ندعوه وحده، وذلك كما قال تعالى: وَأَنَّ { الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (18) (1) . وقال تعالى: وَمَنْ { أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ َOخgح !(9/43)
والآخرة، ونعم الحظ دين الإسلام، ومن أبى غير ذلك واستكبر فلم يقبل هدى الله لما تبين له نوره وسناه، نهيناه عن ذلك وقاتلناه، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ { حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ } لِلَّهِ (1) .
وقصدنا بهذه، النصيحة إليكم والقيام بواجب الدعوة، قال الله تعالى: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (2) وصلى الله على محمد.
وصل الفلقي بالكتاب وكان يحمل معه مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبعد ذلك استوطن أسفل وادي بيش عند قبائل الجعافرة وقام بالوعظ والإرشاد، فالتف الناس حوله واجتمعت القلوب عليه وفشت الدعوة بين المجاورين لتلك القبيلة. (3)
" التعليق:
لله درك من أمير أجدت وأفدت. بينت لنا البيان الكافي. صورت الحالة التي كانت تعيشها نجد خاصة والعالم الإسلامي عامة. أسندت الفضل لأهله
__________
(1) الأنفال الآية (39).
(2) يوسف الآية (108).
(3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/146-148) بتصرف.(9/44)
ولم تدعه لنفسك، يشهد الله أنك ذكرتنا منهاج الصحابة رضوان الله عليهم، في دعوتهم وتواضعهم أمام الناس وبيانهم لدعوتهم السلفية. وذكرتنا حادثتك على يد الأشقى الرافضي قتله الله بحادث عمر مع المجوسي، فتلك كانت مع مجوسي القرن الأول، وهذه مع مجوسي القرن الثالث عشر.
فرحمة الله عليك الرحمة الواسعة.
صالح بن محمد الفُلاَّنِي (1) (1218 هـ)
الإمام الأثري الشيخ صالح بن محمد بن نوح بن عبدالله بن عمر العمري، المالكي، المشهور بالفلاني. و"فلان أو فلانة" نسبة إلى قبيلة بالسودان. ولد سنة ست وستين ومائة وألف من الهجرة في بلد أسلافه (نُس) من إقليم (فوت جلوا)، ونشأ بها. طلب العلم وعمره إذ ذاك نحو اثني عشر عاما، فرحل إلى مراكش، وتونس، ومصر، والحجاز، آخذا عن علمائها وأعلامها كالشيخ أبي عبدالله محمد بن سنة الفلاني وأبي الحسن علي الصعيدي والسيد مرتضى الزبيدي وغيرهم.
قال تلميذه عبدالرحمن بن أحمد الشنقيطي: شيخنا الفقيه المحدث النحوي البياني، العالم بجميع فنون المعقول والمنقول. وقال الشيخ عابد السندي: الإمام الذي لا يجارى، والفهامة الذي لا يمارى، ملحق الأصاغر بالأكابر. وذكره محدث الشام الوجيه الكزبري فقال: ومن سادات أشياخي الشيخ الإمام العلامة المتفنن الهمام المشهور بالإسناد العالي، ذو الذهن الوقاد
__________
(1) الأعلام (3/195) ومعجم المؤلفين (5/12) وهدية العارفين (1/424-425) وفهرس الفهارس (2/901-906) وأبجد العلوم (3/139-140).(9/45)
المتلالي، علم الدين الشيخ صالح بن محمد الفلاني.
توفي رحمه الله سنة ثماني عشرة بعد المائتين والألف.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية:
'إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار وتحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار' والكتاب مطبوع متداول، وهو من خيرة الكتب في الرد على المقلدة. وعنوانه دال على ذلك.
- قال في مقدمته: حمدا لمن جعل أهل الحديث حراس الدين وصرف عنهم كيد المعاندين، وشكرا لمن ألهمهم التمسك بالشرع المبين، وهداهم لاقتفاء آثار الصحابة والتابعين، وصلاة وسلاما على من ببعثته كل منكر متروك وموضوع، وكل معروف موصول غير مقطوع ولا ممنوع، المنزل عليه أحسن الحديث والمبجل بين الورى في القديم والحديث، ورحمة موصولة بطرائق الإكرام من الملك العلام، مكفولة لأنصار السنة المطهرة وحماتها وإبطال الكفاح عنها وكماتها الرامين بشبه التحقيق الثاقبة شبهة التحريف والانتحال، المحرقين بصواعق الحجج البالغة بدع أهل الزيغ والضلال، الذين جعلهم الله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة. (1)
__________
(1) إيقاظ الهمم (ص.2).(9/46)
إبراهيم بن عبدالقادر (1) (1223 هـ)
العلامة الحافظ إبراهيم بن عبدالقادر بن أحمد صارم الدين الكوكباني الأصل الصنعاني المولد والوفاة. مولده بصنعاء في ثامن عشر رمضان سنة تسع وستين ومائة وألف ونشأ بكوكبان، وتخرج بوالده في عدة علوم وما زال مكبا على القراءة، ثم انتقل مع والده إلى صنعاء وعكف على التدريس بها. أخذ عنه عدة مشايخ منهم إبراهيم الحوتي والقاضي عبدالرحمن البهكلي التهامي، والوزير الحسن بن علي حنش. له مؤلفات منها: 'فتح المنان في بيان حكم الختان' و'إنباه الأنباه في حكم الطلاق المعلق بإن شاء الله' و'فتح المتعال بجوابات صاحب رجال'.
قال عنه الشوكاني: وبعد موت والده، قصده الطلبة إلى منزله وقرأوا عليه في فنون متعددة، وله رسائل ومسائل مفيدة، مع تواضع وحسن أخلاق وكرم وعفاف وشهامة نفس، وصلابة دين، وحسن محاضرة، وقوة عارضة وفصاحة ورجاحة وقدرة على النظم والنثر.
توفي رحمه الله تعالى بصنعاء في يوم الأربعاء سنة ثالث عشر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف.
موقفه من المبتدعة:
- قال عنه الشوكاني في 'البدر الطالع': والمترجم له عافاه الله لا يتقيد بمذهب ولا يقلد في شيء من أمور دينه، بل يعمل بنصوص الكتاب والسنة
__________
(1) البدر الطالع (1/17-18) ونيل الوطر لزبارة (1/61-67) والأعلام (1/48).(9/47)
ويجتهد رأيه وهو أهل لذلك. (1)
حمد بن ناصر (2) (1225 هـ)
الشيخ العلامة الفقيه حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي. ولد في العيينة موطن أسرته عام ستين ومائة وألف من الهجرة وقت إمارة جده عثمان بن حمد على العيينة، وبها نشأ، وانتقل إلى الدرعية. ولازم شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وأخذ عنه وعن غيره من العلماء، كالشيخ سليمان بن عبدالوهاب والشيخ حسين بن غنام والشيخ حمد بن مانع وغيرهم. عينه الإمام سعود في قضاء الدرعية، ثم رئيسا لقضاة مكة المكرمة. تصدى للتدريس والقضاء والإفتاء، فصار مرجعا لطلاب العلم، تضرب إليه أكباد الإبل، فتخرج على يديه علماء أجلاء كالشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ وابنه الشيخ عبدالعزيز بن حمد والشيخ إبراهيم بن سيف الدوسري والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين وغيرهم كثير. وكان رحمه الله نظارا شجاعا، لا يخاف في الله لومة لائم. مكث في القضاء حتى توفي سنة خمس وعشرين بعد المائتين والألف، وصلى عليه الإمام سعود في البياضية ودفن فيها رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في تاريخ علماء نجد: ولما كان في سنة ألف ومائتين وإحدى
__________
(1) البدر الطالع (1/18).
(2) علماء نجد (1/239-243) والأعلام (2/273-274).(9/48)
عشرة هجرية، طلب الشريف غالب بن مساعد أمير مكة من الإمام عبدالعزيز بن محمد آل سعود أن يبعث إليه عالما ليناظر علماء مكة المكرمة في شيء من أمور الدين، فبعث إليه الإمام عبدالعزيز المترجم له الشيخ حمد بن ناصر على رأس ركب من العلماء، فلما وصلوا مكة أناخوا رواحلهم أمام قصر الشريف غالب. فاستقبلهم وأكرمهم وأنزلهم المنزل اللائق بهم. فلما فرغوا من عمرتهم واستراحوا من وعثاء السفر وعنائه، جمع الشريف بينهم وبين علماء الحرم الشريف من أرباب المذاهب الأربعة ما عدا المذهب الحنبلي، والمقدم فيهم مفتي الأحناف الشيخ عبدالملك بن عبدالمنعم القلعي، فصار بينهم وبين الشيخ حمد بن ناصر ورفاقه مناظرة عظيمة هامة عقد لها عدة مجالس بحضرة والي مكة الشريف غالب، وبمشهد كبير من أهل مكة. وذلك في شهر رجب من ذلك العام المذكور، فظهر عليهم الشيخ حمد بن ناصر بحجته وأسكتهم بأدلته وبراهينه، فسلموا له وأذعنوا لأقواله ودلائله (1) .
- وقال مؤلف تاريخ علماء نجد: حدثني وجيه الحجاز الشيخ السلفي محمد بن حسين بن عمر بن عبدالله نصيف قال: حدثني رجل ثقة من آل عطية من أهل جده عن أبيه قال: جمعنا في مسجد عكاشة حينما قدم حمد ابن ناصر بكتاب الصلح بين سعود وغالب، فصعد المنبر وخطب خطبة بليغة تدور حول تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة ثم حذر من ترك الصلوات، وأمر بأدائها في المساجد، وعن شرب الدخان وعدم بيعه وتعاطيه بحال من
__________
(1) 1/241-242).(9/49)
الأحوال، كما أمر بهدم القباب التي على القبور، وأمر بالحضور إلى المساجد لسماع رسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فامتثل الناس هذا كله، فصرت لا ترى الدخان، لا استعمالا ولا بيعا، وصارت المساجد تزدحم بالمصلين، وهدمت القباب التي على القبور وصار الناس يحضرون لسماع الدرس. (1)
" التعليق:
ما تقدم يدل على:
1- إخلاص هذا الشيخ لعقيدته السلفية وقوة علمه وذكائه رضي الله عنه. وأن الخرافيين دائما حججهم كبيت العنكبوت تذهب بأقل شيء، فكيف تثبت أمام نور السنة النبوية.
2- ما كان عليه الناس من اقتداء بالعلماء في ذلك الزمان، فلو قام عالم الآن بمثل ما قام به الشيخ حمد، لا أظن الناس يمتثلون بهذه السرعة التي تحققت للشيخ. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على إخلاصهم.
- وله من الآثار: 'الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب'. وهو مطبوع.
حسين بن غنام (2) (1225 هـ)
الشيخ حسين بن أبي بكر آل غنام، من قبيلة بني تميم. ولد في بلدة
__________
(1) 1/242-243).
(2) الأعلام (2/251) ومعجم المؤلفين (3/317) وهدية العارفين (1/328) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (2/56-58).(9/50)
المبرز، ونشأ في الأحساء، وقرأ على علمائها وأعلامها، ثم انتقل إلى الدرعية، فاتصل بالشيخ محمد بن عبدالوهاب، فدرس عليه وعلى أبنائه، حتى أدرك وصار في عداد علماء عصره.
قال ابن بشر: كانت له اليد الطولى في العلم ومتونه، وله معرفة في الشعر والنثر، وصنف المصنفات. ألف تاريخ نجد المسمى بـ'روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام' وهو عبارة عن تاريخ الدعوة السلفية وأعلامها.
توفي رحمه الله في شهر ذي الحجة سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيرة تلامذة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وأفضل من جمع أخبار الشيخ في كتابه: روضة الأفكار. وله في العقيدة السلفية:
'العقد الثمين في شرح أصول الدين' ويوجد مخطوطا في المكتبة السعودية بالرياض. وقد سجل رسالة علمية في جامعة الإمام.
وله مواقف طيبة:
- منها قوله: ومعنى ظهور الإسلام غريبا أن الخلق -قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - كانوا على ضلالة، فدعا إلى الإسلام فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة. وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى ويشرد ويعذب ويقتل، فيهربون إلى البلاد النائية كالحبشة، ثم إلى المدينة بعد الهجرة.(9/51)
فصار الداخلون في الإسلام قبل الهجرة غرباء. ثم أتم الله تعالى نعمته على المسلمين، وأكمل لهم دينهم، فلما قبض سيد المرسلين استمروا على الاستقامة والتعاضد والنصرة في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أعمل الشيطان مكايده على المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، فأضل أكثر المسلمين بهما معا أو بإحداهما. فكان ذلك كما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي صحيح البخاري: عن عمرو بن عوف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم" (1) .
وفي صحيح مسلم: عن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم؟ أي قوم أنتم؟" قال عبدالرحمن ابن عوف: نقول كما أمر الله تعالى. قال: "أو غير ذلك؛ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون" (2) .
وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضا. (3)
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/137) والبخاري (11/292-293/6425) ومسلم (4/2273-2274/2961) والترمذي (4/552-553/2462) وابن ماجه (2/1324-1325/3997).
(2) أخرجه مسلم (4/2274/2962) وابن ماجه (2/1324/3996).
(3) ولفظ الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم. وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض -أو مفاتيح الأرض- وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها". أخرجه: أحمد (4/149) والبخاري (11/293/6426) ومسلم (4/1795/2296) وأبو داود (3/551/3223) مختصرا دون ذكر محل الشاهد والنسائي (4/363/1953).(9/52)
ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى وقال: (إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل بأسهم بينهم) أو كما قال.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى على أمته هاتين الفتنتين، كما في مسند الإمام أحمد، عن أبي برزة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن". وفي رواية: "ومضلات الهوى" (1) .
فلما عمت فتنة الشهوات وأصبح هم الخلق منصرفا إلى الدنيا وزينتها، ارتكبوا المعاصي والكبائر، وأصبحوا متباغضين متدابرين، بعد أن كانوا إخوانا متناصرين.
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة، فسببها تفرق المسلمين، فصاروا شيعا وفرقا وأحزابا: يعمهون في الضلال، ويفتحون أبواب البدع والغي، فتحاسدوا وتباعدوا وتقاطعوا، بعد أن كانوا على قلب رجل واحد. ولم ينج منهم إلا الفرقة الناجية، وهم المذكورون في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (2) .
وهم الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل.
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/420و423) والبزار (الكشف (1/82/132)) والطبراني في الصغير (2/204/502) وذكره الهيثمي في المجمع (1/188) وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح".
(2) انظر تخريجه في مواقف عبدالله بن المبارك سنة (181هـ).(9/53)
وخرج الطبراني من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشراط الساعة قال: "وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أقل من النقد" (1) . أي صغار الغنم.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجل من أصحابه: "يوشك إن طالت بكم حياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأعاده وأبدأه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، ونزل عند منازله، ما يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار".
ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: (سيأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة).
وإنما ذل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد والضلال، ومباينته لهم في قصدهم، ومخالفته طريقهم.
قال أحمد بن أبي عاصم -وكان من كبار العارفين في زمن أبي سليمان الداراني-: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا، وعاد وصف الحق غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا يحب التعظيم والرياسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته، مخدوعا، صريع عدوه إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجات العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها.. إلى آخره. خرجه أبو نعيم في 'الحلية'.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده إلى الحسن قال: لو أن رجلا من
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (5/440-442/4858) وقال الهيثمي في المجمع (7/322-323) رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه يوسف بن مسكين وهو ضعيف.(9/54)
الصدر الأول بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لئن عاش على هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، وصاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله تعالى وقلبه يحن إلى ذكر السلف، فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبليهم؛ كان له أجر عظيم.
ولقد مدح كثير من السلف السنة، ووصفها بالغربة، ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول لأصحابه: يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس.
وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء.
والمراد بالسنة عند هؤلاء الأئمة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، وهي التي ورد أن للمتمسك بها والعامل أجر خمسين ممن قبلهم، والمتمسك بدينه كالقابض على الجمر (1) .
ثم صارت السنة في عرف كثير من العلماء المتأخرين هي السالمة من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة.
وصنفوا في هذا الباب تصانيف سموها 'كتب السنة'. وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا جرف. (2)
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(2) تاريخ نجد (1/28-31).(9/55)
التجاني وضلاله (1230 هـ)
من قرأ هذه الطامات الكبرى العقدية يتعجب من حال القائل والمقول له، والكاتب والمكتوب له، والأمة التي تلقى فيها هذه العظائم والموبقات العقدية، فهل هي عاقلة ومستيقظة ومنتبهة، أم هي أمة حمقاء لا تميّز بين لون ولون، ولا بين ذات وذات، أو هي نائمة تعيش في أحلام لا حصر لها، أو هي مؤامرة كبرى على أهل الإسلام خطط لها اليهود والنصارى والمجوس وكلّ عدوّ لله ولرسوله ولكتابه ولسنته. ولله درّ الإمام البخاري رحمه الله إذ قال في كلام الجهمية: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوماً أضلّ في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم" (1) . وقال رحمه الله في خلق أفعال العباد: "ما أبالي صلّيت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم" (2) .
فكيف إذا رأى الإمام البخاري رحمه الله هذه الطامات؟ ماذا سيقول؟ وقد قيل: "شر البلايا ما يضحك!" فالسكوت على هذه العظائم يغني عن التعليق عليها، والله المستعان.
وإليك هذه المصائب والطامات، وارجع إلى مصادرها لتقف على صفحاتها وأجزائها ولعلك تكون ممن ابتلي بالاعتذار لهؤلاء المنافقين الزنادقة الذين ملؤوا الأمة كفراً وضلالاً لمصلحة مادية أو رئاسة منشودة أو تمرير
__________
(1) خلق أفعال العباد (ص.13) وشرح السنة للبغوي (1/228) والفتاوى الكبرى (5/47).
(2) خلق أفعال العباد (ص.16).(9/56)
باطل تقصده، أو غير ذلك مما ابتلي به أهل الزندقة والإلحاد الذين فتحوا باب التأويل حتى أنكروا الحساب والمعاد، وجعلوا ذلك رموز خير وشر لا أقلّ ولا أكثر، واستباحوا المحرمات القطعية، وجعلوها مجرد حجب وحرمان لعموم الأمة، وأما خواصها فألذ ما يتمتع به الواحد منهم قريبته التي هي من صلبه، وأخته التي شاركته في رحم أمه، وأما أمه وجدته فالرجوع إلى الأصل أصل. وما عبد الإنسان إلا نفسه، فهنيئاً لعبّاد الأصنام، وهنيئاً لفرعون وهامان وقارون الذين كانوا على أكمل الإيمان، إلى آخر ما سطره أهل الوحدة والاتحاد.
فرحم الله الإمام الذهبي إذ يقول في ترجمة ابن العربي الطائي: فوالله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن يصلي بها الصلوات ويؤمن بالله واليوم الآخر خير له بكثير من هذا العرفان وهذه الحقائق، ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة. (1)
- ادعاؤه إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له في تلقين الخلق:
"قال في جواهر المعاني: ...ثم رجع إلى قرية أبي سمغون وأقام بها واستوطن، وفيها وقع له الفتح، وأذن له - صلى الله عليه وسلم - في تلقين الخلق، وعين له الورد الذي يلقنه في سنة 1196هـ، وعين له - صلى الله عليه وسلم - الاستغفار والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الورد في تلك المدة إلى رأس المائة، كمل الورد - صلى الله عليه وسلم - بكلمة الإخلاص...". (2)
__________
(1) ميزان الاعتدال (3/660).
(2) 'التجانية' لعليّ بن محمد آل دخيل الله (ص.64).(9/57)
- زعمهم أن صلاة الفاتح وحي:
"يقول صاحب الجواهر: صلاة الفاتح لما أغلق، لم تكن من تأليف البكري، ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات... فأتاه الملك بهذه الصلاة مكتوبة في صحيفة من النور". (1)
- فضل صلاة الفاتح:
"من ذلك قول التجاني: واعلم أن كل ما تذكره من الأذكار والصلوات على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأدعية، لو توجهت بجميعها مائة ألف عام كل يوم تذكرها مائة ألف مرة، وجميع ثواب ذلك كله ما بلغ مرة واحدة من 'صلاة الفاتح لما أغلق' فإن كنت تريد نفع نفسك للآخرة فاشتغل بها على قدر جهدك، فإنها كنز الله الأعظم.
..وتحدث التجاني أيضاً عن فضل هذه الصلاة فقال: "كنت مشتغلاً بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو: أن المرة الواحدة منها بستمائة ألف صلاة... إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون، فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من 'دلائل الخيرات' تركت 'الفاتح لما أغلق' واشتغلت بها... ثم أمرني صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى صلاة الفاتح لما أغلق... فأخبرني أولاً بأن المرة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن
__________
(1) 'تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي' لمحمد أحمد لوح (1/291).(9/58)
المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة.
وقال أيضاً: من صلى بها -أي: بالفاتح لما أغلق- مرة واحدة حصل له ثواب ما إذا صلى بكل صلاة وقعت في العالم من كل جن وإنس وملك ستمائة ألف صلاة، من أول العالم إلى وقت تلفظ الذاكر بها.
وقال أيضاً: فلو قدرت مائة ألف أمة في كل أمة مائة ألف قبيلة في كل قبيلة مائة ألف رجل وعاش كل واحد منهم مائة ألف عام يذكر كل واحد منهم كل يوم ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير صلاة الفاتح لما أغلق، وجميع ثواب هذه الأمم كلها في مدة هذه السنين كلها في هذه الأذكار كلها ما لحقوا كلهم ثواب مرة واحدة من صلاة الفاتح". (1)
"ولما سئل التجاني عن تفضيله لورده على القرآن أجاب عن هذه المعارضة قائلاً: لا معارضة بين هذا وبين ما ورد من فضل القرآن والكلمة الشريفة؛ لأن فضل القرآن والكلمة الشريفة عام أريد به العموم وهذا خاص، ولا معارضة بينهما؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يلقي الأحكام للعامة في حياته، يعني إذا حرم شيئاً حرمه على الجميع وإذا افترض شيئاً افترضه على الجميع، وهكذا سائر الأحكام الشرعية الظاهرة، ومع ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يلقي الأحكام الخاصة للخاصة.. فلما انتقل إلى الدار الآخرة -وهو كحياته - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا سواء- صار يوحي إلى أمته الأمر الخاص للخاص، ولا مدخل للأمر العام؛ فإنه
__________
(1) تقديس الأشخاص (1/292-293).(9/59)
انقطع بموته - صلى الله عليه وسلم - ...إلخ". (1)
- جوهرة الكمال من إملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"يقول الشيخ الرباطي: وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسيدنا الشيخ... يقظة لا مناماً". (2)
- فضائلها وأحكامها:
"من فضائلها:
1- أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات.
2- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها، ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها.
3- أن من قرأها اثنتي عشرة مرة وقال: هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء والصالحين من أول الوجود إلى وقته.
4- أن من نزلت به شدة أو ضيق وقرأها خمساً وستين مرة فرج الله عنه في الحين.
5- إذا داوم على ذكرها صار وليّاً من أولياء الله.
وفي بعض هذه الفضائل يقول صاحب 'منية المريد':
ومن تلا جوهرة الكمال ... سبعاً يكون سيد الأرسال
والخلفاء الراشدون الأربعة ... ما دام ذاكراً لها بعد معه
__________
(1) التجانية (ص.113).
(2) تقديس الأشخاص (1/296).(9/60)
وذاك بالأرواح والذوات ... وليس للمنكر من نجاة
من أحكامها:
1- أن لا تقرأ إلا بالطهارة المائية.
2- إذا لم يكن الذاكر متوضئاً يبدلها بعشرين من صلاة الفاتح لما أغلق ولا تقرأ بالتيمم في الوظيفة ولا خارجها.
3- يجوز للمسافر أن يقرأ أوراده على ظهر الدابة فإذا وصل إلى جوهرة الكمال نزل عن الدابة وذكر ماشياً فإذا وصل إلى السابعة جلس حتى يتمّ الوظيفة إلا لضرورة فادحة فإنه يذكرها ماشياً على رجليه، بشرط أن لا يطأ نجاسة.
4- يستحب لذاكر الجوهرة نشر ثوب طاهر محقق الطهارة وإن كانت البقعة طاهرة حكماً.
وفي المنية:
ونشرنا للثوب ليس يجب ... على الذي يذكرها بل يندب
وشيخنا فعل ذا بمحضره ... فدع مقالة جهول منكره" (1)
- الهيللة:
"يقول الشيخ التجاني -مثلاً-: من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة، وإن كان له إخوان في البلد فلا بد من جمعهم وذكرهم جماعة، وهذا شرط في الطريقة". (2)
__________
(1) تقديس الأشخاص (1/296-297).
(2) تقديس الأشخاص (1/336).(9/61)
- قول التجاني بوحدة الوجود:
"قال في جواهر المعاني: ...وإبطال ما قاله أهل الظاهر من إحالة الوحدة وبطلان ما ألزموه لِمن قال بها، قال رضي الله عنه: بيانها من وجهين:
الوجه الأول: أن العالم الكبير كذات الإنسان في التمثيل، فإنك إذا نظرت إليها وجدتها متحدة مع اختلاف ما تركبت منه في الصورة والخاصية من شعر وجلد ولحم وعظم وعصب ومخ، وكذلك اختلاف جوارحه وطبائعه التي ركبت فيه وبها قيام بنيانه. فإذا فهمت هذا ظهر لك بطلان ما ألزموه من نفي الوحدة؛ لاستلزام تساوي الشريف والوضيع واجتماع المتنافيين والضدين إلى آخر ما قالوه. قلنا: لا يلزم ما ذكره هنا؛ لأنه وإن كانت الخواص متباعدة فالأصل الجامع لهذا ذات واحدة كذات الإنسان سواء بسواء.
الوجه الثاني: اتحاد ذات العالم في كونه مخلوقاً كله للخالق الواحد سبحانه وتعالى وأثراً لأسمائه، فلا يخرج فرد من أفراد العالم عن هذا الحكم وإن اختلفت أنواعه، فالأصل الذي برز منه واحد. فبهذا النظر هو متساوٍ فيلزم اتحاده وإن اختلفت أجزاؤه، كما ذكر في ذات الإنسان وأنها تختلف نسبه بحسب ما فصلته مشيئة الحق فيه من بين شريف ووضيع، وعالٍ وسافل، وذليل وعزيز، وعظيم الشأن وحقيره، إلى آخر النسب فيه، ولم تخرجه تفرقة النسب عن وحدة ذاتيته، كما أن ذات الإنسان واحدة، ووحدتها لا تنافي اختلاف نسب أجزائها واختصاص كل جزء بخاصية، فإن(9/62)
خاصية اليد غير خاصية الرجل، وخاصيتها غير خاصية العين، وهكذا سائر خواص الأعضاء والأجزاء، وإن ارتفاع وجهه في غاية الشرف، وانخفاض محله في غاية الضعة والإهانة، ولم يخرجه عن كون ذاته واحدة مع اختلاف الخواص مثل ما قلنا في ذات الإنسان..
ثم قال رضي الله عنه: وهناك وجه ثالث في إيضاحه وهو اتحاد وجوده من حيث فيضان الوجود عليه من حضرة الحق فيضاً متحداً، ثم مثاله في الشاهد مثال المداد، فإن الحروف المتفرقة في المداد والكلمات المتنوعة والمعاني المختلفة التي دلت عليها صوره لم تخرجه عن وحدة مداديته، فإنه ما ثم إلا المداد تصور في أشكاله الدالة على المعاني المختلفة والحروف المتفرقة والخواص المتنوعة غير المؤتلفة ولا المتماثلة، فإنك إذا نظرت إلى عين تلك الصور التي اختلفت حروفها وكلماتها لم تر إلا المداد تجلى في أشكالها بما هو عين المداد فتتحد بالمدادية وتختلف بالصور والأشكال والكلمات والمعاني، فكما أن المداد في تلك الحروف عين تلك الحروف، والحروف في ذلك المداد عين ذلك المداد، وهي مختلفة الأشكال والأسرار والخواصّ والمعاني، كذلك نهاية الوجود في ذوات الوجود عين تلك الذوات، وتلك الذوات في ذلك الوجود عين ذلك الوجود، لم تخرجها عن اختلاف أشكالها وأسرارها ومعانيها وخواصها، ولا افتراقها في هذه الأمور لم يخرجها عن اتحادها في ذلك المداد. ثم قال قدس الله سره العزيز: وقد اتضح الحق لمن فهم، والله يقول الحق وهو(9/63)
يهدي السبيل". (1)
- معنى الشيخ الواصل عندهم:
"قال في جواهر المعاني: اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: وأما ما هو حقيقة الشيخ الواصل، فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً، فإن الأمر أوله محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب ولكن مع خصوصية، ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عيناً وأثراً، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق.
فلم يبق إلا الله لا شيء غيره ... فلا ثَمَّ موصول ولا ثَمَّ واصل" (2)
- من كمالات الشيخ التجاني:
"قال في الجواهر: ..ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية وفراسته النوارنية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب، وفي غيرها من إظهار مضمرات، وإخبار بمغيبات، وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات". (3)
__________
(1) التجانية (ص.91).
(2) التجانية (ص.97).
(3) التجانية (ص.103).(9/64)
- ادعاؤه رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقيه عنه وسؤاله عن نسبه وعن روايات الحديث:
"قال في جواهر المعاني: قال رضي الله عنه: أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناماً قال لي: أنت من الآمنين، ومن رآك من الآمنين إن مات على الإيمان.. إلخ". (1)
"قال مؤلف جواهر المعاني عن الصلاة المسماة بياقوتة الحقائق: هي من إملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا مناماً". (2)
"وقال أيضاً: ..سأل سيد الوجود، وعلم الشهود - صلى الله عليه وسلم - في كل نفس مشهود، عن نسبه وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: 'أنت ولدي حقاً' كررها ثلاثاً - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: نسبك إلى الحسن بن علي صحيح، وهذا السؤال من سيدنا رضي الله عنه لسيد الوجود يقظة لا مناماً، وبشره - صلى الله عليه وسلم - بأمور عظام جسام - صلى الله عليه وسلم - وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم". (3)
"وقال أيضاً فيما يرويه عن شيخه التجاني: قال: رأيته مرة - صلى الله عليه وسلم - ، وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى عليه السلام، قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان، واحدة قلت فيها يمكث بعد نزوله أربعين، وقلت في الأخرى سبعاً.. ما الصحيحة منها؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : رواية السبع". (4)
__________
(1) التجانية (ص.121).
(2) التجانية (ص.136).
(3) التجانية (ص.136).
(4) التجانية (ص.137).(9/65)
- إخباره بالمغيبات:
"قال في بغية المستفيد: وأما مكاشفته رضي الله عنه، بمعنى إخباره بالأمر قبل وقوعه فيقع وفق ما أخبر به، فلا يكاد ينحصر ما حدث به الثقات عنه رضي الله عنه.. ومن إخباره بالغيب عن طريق كشفه رضي الله عنه إخباره بأمور لم تقع إلا بعد وفاته إما بالتصريح أو بالتلويح". (1)
- اتهامه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتمان بعض الأمر ومن ذلك صلاة الفاتح:
"قال مؤلف جواهر المعاني: وسألته رضي الله عنه: هل خبر سيد الوجود بعد موته كحياته سواء؟ فأجاب رضي الله عنه بما نصه: الأمر العام الذي كان يأتيه عاماً للأمة طوي بساط ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم - ، وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص فإن ذلك في حياته وبعد مماته دائماً لا ينقطع". (2)
"وقال مؤلف الجيش الكفيل: وسئل: هل كان - صلى الله عليه وسلم - عالماً بفضل صلاة الفاتح لما أغلق؟ فقال: نعم، كان عالماً به. قالوا: ولِمَ لم يذكره لأصحابه؟ قال: لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بتأخير وقته وعدم وجود من يظهره الله على يديه في ذلك الوقت". (3)
- ادعاؤه بأن روحه تمد الأقطاب والعارفين والأولياء:
"نقل مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم عن التجاني قوله: إن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - وروحي هكذا -وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها- فروحه تمد
__________
(1) التجانية (ص.103).
(2) التجانية (ص.141).
(3) التجانية (ص.141).(9/66)
الأنبياء وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء". (1)
- ادعاؤه تلقي الفيوض من ذوات الأنبياء وتفريقها على جميع الخلائق:
"قال مؤلف بغية المستفيد: قال رضي الله عنه: إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور.. وقال: لا يتلقى ولي فيضاً من الله تعالى إلا بوساطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر به، ومدده الخاص به إنما يتلقاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ". (2)
- كلامه عن حقيقة الولاية:
"قال مؤلف جواهر المعاني: ..وسألته رضي الله عنه عن حقيقة الولاية، فأجاب رضي الله عنه بما نصه، قال: الولاية خاصة وعامة، فالعامة: هي من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، والخاصة: هي من سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - إلى الختم، والمراد بالخاصة هي من اتصف صاحبها بأخلاق الحق الثلاثمائة على الكمال ولم ينقص منها واحد، إن لله تعالى ثلاثمائة خلق من اتصف بواحد منها دخل الجنة، وهذا خاص بسيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - ومن ورثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة إلى الختم.. هكذا قال، ونسبه للحاتمي رضي الله عنه. ثم قال سيدنا رضي الله عنه: لا يلزم من هذه الخصوصية التي هي الاتصاف بالأخلاق على الكمال أن يكونوا كلهم أعلى من غيرهم في كل وجه، بل قد يكون من لم يتصف بها أعلى من غيره في المقام، وأظنه يشير إلى نفسه
__________
(1) التجانية (ص.164).
(2) التجانية (ص.164-165).(9/67)
رضي الله عنه وبعض الأكابر، لأنه أخبره سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - بأن مقامه أعلى من جميع المقامات... انتهى من إملائه علينا رضي الله عنه". (1)
- ادعاؤه أنه الخاتم المحمدي:
"قال مؤلف بغية المستفيد: فقد ثبت عنه من طريق الثقات الأثبات من ملازميه وخاصته، أنه أخبر تصريحاً على الوجه الذي لا يحتمل التأويل أن سيد الوجود أخبره يقظة بأنه هو الخاتم المحمدي المعروف عند جميع الأقطاب والصديقين، وبأن مقامه لا مقام فوقه في بساط المعرفة بالله". (2)
"..ومعنى كونه خاتماً لمنصب الولاية المحمدية ألا يظهر أحد في ذلك المنصب بمثل الظهور الذي ظهر به فيه، فهو خاتم لكمال الظهور في ذلك المنصب لا لنفس الظهور". (3)
- ضمانه الجنة بغير حساب ولا عقاب لأتباعه وذويهم ولو عملوا من الذنوب والمعاصي ما عملوا:
"قال مؤلف الجواهر: اطلعت على ما رسمه وخطه، ونصه: ..أسأل من فضل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث.. وكل من
__________
(1) التجانية (ص.175).
(2) التجانية (ص.176).
(3) التجانية (ص.176).(9/68)
أحسن إليّ بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر.. وكل من لم يعادني من جميع هؤلاء، أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخاً أو أخذ عني ذكراً، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة.. وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم.. يضمن لي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولجميع هؤلاء أن نموت وكل حي منهم على الإيمان والإسلام.. ثم قال: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبداً إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين، وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضماناَ لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام.. ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا مناماً". (1)
"ونقل مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم عن التجاني قوله: ..وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي، ووراء ذلك ما ذكر لي فيهم وضمنه لهم - صلى الله عليه وسلم - أمر لا يحل ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة". (2)
"وقال مؤلف بغية المستفيد: إن من جملة ما ذكره سيدنا رضي الله عنه من فضل هذا الورد العظيم عن نبينا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، أن كل من أخذه عن الشيخ أو عمن عنده الإذن الصحيح في التلقين، يكون مقامه ومستقره من فضل الله تعالى في أعلى عليين بجوار سيد
__________
(1) التجانية (ص.196).
(2) التجانية (ص.196).(9/69)
المرسلين وإمام المتقين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين، ويغفر الله له تعالى بفضله من ذنوبه الكبائر والصغائر، وتؤدى عنه التبعات من خزائن الرب المجيد القادر، ولذلك كان آمناً من أن يروعه هول المحشر، أو يؤلمه ضنك القبر، وأزواجه وأولاده المنفصلون عنه دنية، وكذا أبواه داخلون معه في هذا الخير الجزيل، بشرط ألا يصدر بغض من الجميع في هذا الشيخ الجليل وجانبه الأعز المنيع". (1)
"وقال في الجيش الكفيل بأخذ الثأر: وسألته - صلى الله عليه وسلم - لكل من أخذ عني ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، وأن تودى عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته... وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : ضمنت لك هذا ضماناً لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين". (2)
- ضمانه الجنة لمن نظر إليه يوم الجمعة والاثنين ولمن رأى حلته:
"ذكر مؤلف جواهر المعاني عن التجاني أنه قال: ..من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الاثنين يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب، إن لم يصدر منه سب في جانبنا ولا بغض ولا إذاية، ومن حصل له النظر في هذين اليومين فهو من الآمنين إن مات على الإيمان، وإن سبق أنه يحصل له العذاب في
__________
(1) التجانية (ص.197).
(2) التجانية (ص.197).(9/70)
الآخرة فلا يموت إلا كافراً فهذا ما يمكن إعلامكم به في هذا الوقت، وفي وقت آخر يفعل الله ما يشاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". (1)
"قال مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم: ..رأيت شيخنا التجاني رضي الله عنه وأرضاه -وعنّا به- في واقعة من الوقائع وبيده حلة من نور وقال لي رضي الله عنه وأرضاه -وعنّا به-: من رأى هذه الحلة دخل الجنة. ثم ألبسني إياها رضي الله عنه". (2)
"وقال مؤلف بغية المستفيد: وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الاثنين والجمعة، فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، بإخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه بعزة ربي: يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون -يعني الأملاك السبعة- اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة وأنا شاهد على ذلك، ولتكثر من الصلاة عليّ في هذين اليومين فكل صلاة تصليها عليّ نسمعك ونرد عليك، وكذلك جميع أعمالك تعرض عليّ والسلام". (3)
__________
(1) التجانية (ص.210).
(2) التجانية (ص.210).
(3) التجانية (ص.210-211).(9/71)
سليمان بن عبدالله آل الشيخ (1) (1233 هـ)
سليمان بن عبدالله بن الإمام محمد بن عبدالوهاب النجدي، العلامة، المجاهد. ولد في الدرعية سنة مائتين وألف من الهجرة، واشتغل بالعلم بحثا ومراجعة على مجموعة من الشيوخ منهم والده الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد والشيخ حمد بن معمر والشيخ عبدالله الغريب والشيخ حسين بن غنام والشيخ محمد بن علي الشوكاني وغيرهم. جعله الإمام سعود قاضيا في مكة المكرمة مع حداثة سنه وطراوة شبابه، ثم رجع إلى الدرعية وصار قاضيا أيضا واختاره الإمام سعود مدرسا في قصره. قال عنه ابن بشر: فيا له من عالم قدير وحافظ متقن خبير إذا شرع يتكلم على الأسانيد والرجال والأحاديث وطرقها وروايتها فكأنه لا يعرف غيرها في إتقانه وحفظه. أخذ عنه العلم عدد كثير من أهل الدرعية وغيرهم منهم الشيخ محمد بن سلطان وغيره.
توفي سنة ثلاث وثلاثين بعد المائتين والألف قتله إبراهيم باشا غدرا بعد أمان الدرعية، فرحمة الله عليه.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
'تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد'، والكتاب مطبوع متداول وهو من أحسن الشروح وأطولها -فيما نعلم- جمع فيه المؤلف آثارا وأحاديث كثيرة، وقد يسر الله بعض إخواننا من أهل الكويت، فاعتنى
__________
(1) علماء نجد (1/293-298) ومعجم المؤلفين (4/268) والأعلام (3/129) وهدية العارفين (1/408) والدرر السنية (12/48).(9/72)
بالكتاب، فخرج أحاديثه تخريجا جيدا مع فتح المجيد في كتاب سماه: 'النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد'.
'الدلائل في عدم موالاة أهل الشرك' ذكره في علماء نجد.
- مقتل الشيخ سليمان في سبيل عقيدته السلفية:
"لم يزل على حاله الحميدة من الانقطاع للعلم والإقبال عليه والإعراض عن الدنيا والعبادة والصلاح والتقى حتى أصيبت الدرعية بجيش الدولة العثمانية بقيادة إبراهيم باشا، الذي انتهى بالاستيلاء على المدينة بالصلح وتأمين الأنفس والأموال، إلا أن رجلا بغداديا في جيش الباشا، وشى بالشيخ سليمان وبأفراد معه، فغدر بهم الباشا وقتلهم". (1)
من مواقفه رحمه الله:
- قال في التيسير: كرر الله تعالى الأمر بمتابعة الكتاب والسنة في مواضع كثيرة من القرآن، وضرب الأمثال لذلك، وأكده وتوعد على الإعراض عنه، وما ذاك إلا لشدة الحاجة، بل الضرورة إلى ذلك فوق كل ضرورة، فإنه لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بذلك، ومتى لم يحصل ذلك للعبد فهو ميت.
كما قال تعالى: أَوَمَنْ { كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
__________
(1) علماء نجد (1/298).(9/73)
مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (122) (1) .
فسمى سبحانه وتعالى الخالي عن هذا الهدى والنور ميتا، وسمى من حصل له ذلك حيا، وذلك أنه لا مقصود به في حياة الدنيا إلا توحيد الله تعالى، ومعرفته وخدمته، والإخلاص له، والاستلذاذ بذكره، والتذلل لعظمته، والانقياد لأوامره، والإنابة إليه، والإسلام له، فإذا حصل هذا للعبد، فهو الحي، بل قد حصلت له الحياة الطيبة في الدارين.
كما قال تعالى: مَنْ { عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا } يَعْمَلُونَ (2) فإذا فاته هذا المقصود فهو ميت، بل شر من الميت.
قال الله تعالى: اتَّبِعُوا { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (3) (3) ،
__________
(1) الأنعام الآية (122).
(2) النحل الآية (97).
(3) الأعراف الآية (3).(9/74)
وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (153) (1) ، وقال تعالى: قَدْ { جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (16) (2) . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } (174) (3) . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا
__________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) المائدة الآيتان (15و16).
(3) النساء الآية (174).(9/75)
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ } تَأْوِيلًا (1) . وَمَا { أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا } رَحِيمًا (2) . فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (3) . وقال تعالى: وَنَزَّلْنَا { عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) النساء الآية (64).
(3) النساء الآية (65).(9/76)
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (89) (1) . وقال تعالى: وَقَدْ { آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا } (101) (2) . وقال تعالى: فَإِمَّا { يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (124) (3) قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
__________
(1) النحل الآية (89).
(2) طه الآيات (99 -101).
(3) طه الآيتان (123 و124).(9/77)
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (52) (1) .
فيا عجبا ممن يزعم أن الهداية والسعادة لا تحصل بالقرآن ولا بالسنة، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يهتد إلا بذلك. كما قال تعالى: قُلْ { إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } (50) (2) ثم بعد ذلك يحيلها على قول فلان وفلان. وقال تعالى: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } فَانْتَهُوا (3) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فوجب على كل من عقل عن الله أن يكون على بصيرة ويقين في دينه. كما قال تعالى: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (4) .
__________
(1) الشورى الآية (52).
(2) سبأ الآية (50).
(3) الحشر الآية (7).
(4) يوسف الآية (108).(9/78)
ومحال أن يحصل اليقين والبصيرة إلا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف ينال الهدى والإيمان من زعم أن ذلك لا يحصل من القرآن، إنما يحصل من الآراء الفاسدة التي هي زبالة الأذهان. تالله لقد مسخت عقول. هذا غاية ما عندها من التحقيق والعرفان.
وهذه المتابعة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي حقيقة دين الإسلام، الذي افترضه الله على الخاص والعام، وهو حقيقة الشهادتين الفارقتين بين المؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، إذ معنى الإله: هو المعبود المطاع، وذلك هو دين الله الذي ارتضاه لنفسه وملائكته ورسله وأنبيائه. فبه اهتدى المهتدون، وإليه دعا المرسلون.
!$tBur { أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } brك‰ç7ôم$$sù (1) أَفَغَيْرَ { دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (83) (2) فلا يتقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين. (3)
__________
(1) الأنبياء الآية (25).
(2) آل عمران الآية (83).
(3) تيسير العزيز الحميد (ص.18-21).(9/79)
موقفه من الرافضة:
- جاء في تيسير العزيز الحميد: قوله: "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" (1) . فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له بذلك، ولكن ليس هذا من خصائصه. قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرءون منه ولا يتولونه، بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا. (2)
الحسن بن خالد الحَازِمِي (3) (1234 هـ)
العلامة الحسن بن خالد بن عز الدين بن محسن بن عز الدين، الحازمي التهامي. مولده في هجرة "ضمد" سنة ثمان وثمانين ومائة وألف من الهجرة. أخذ العلم عن القاضي أحمد بن عبدالله الضمدي، وكان وزيرا للشريف
__________
(1) أحمد (4/52) والبخاري (6/137-138/2942) ومسلم (4/1872/2406) وأبو داود (4/69/3661) والنسائي في الكبرى (5/46/8149).
(2) تيسير العزيز الحميد (ص.125).
(3) الأعلام (2/189) ومعجم المؤلفين (3/221) ونيل الوطر (1/462).(9/80)
حمود بن محمد، وشهد ما ينيف على عشرين وقعة.
قال القاضي حسن عاكش: إن صاحب الترجمة أربى في تحقيقه على الأقران، وسارت بذكره الركبان، وبرع في علمي التفسير والحديث، وإليه الغاية في معرفة الفقه والعلوم الآلية، وآخر أمره جعل همه الاشتغال بعلمي الكتاب والسنة والعمل بما قاد إليه الدليل، والميل عما اختاره العلماء من الأقاويل، وجزم بتحريم التقليد.
توفي رحمه الله في معركته مع الأتراك بعد انهزام هذه الأخيرة، برصاصة أزهقت روحه، فسقط على إثرها ميتا، سنة أربع وثلاثين بعد المائتين والألف.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية:
1- رسالة جيدة وجهها إلى الأمير عبدالله بن سعود، ذكرها صاحب تاريخ المخلاف السليماني (1) .
2- نثر الدرر على منظومة الشيخ محمد سعيد سفر في عدم التعصب والابتداع. ذكره في نيل الوطر (2) .
3- 'وجوب هدم المشاهد والأضرحة والقباب'.
4- 'قوت القلوب بمنفعة توحيد علام الغيوب'.
ذكرهما صاحب 'أثر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب'. (3)
__________
(1) ص.478).
(2) 1/323).
(3) ص.141و142).(9/81)
علي بن محمد السُّوَيْدِي (1) (1237 هـ)
العلامة المحدث أبو المعالي علي بن أبي السعود محمد سعيد بن عبدالله ابن الحسين السويدي العباسي البغدادي. ولد في بغداد، وأقام بدمشق. أخذ عن أبيه أبي عبدالله محمد سعيد وعمه عبدالرحمن، وبه تخرج، والشيخ محمد الكزبري والشيخ مرتضى الزبيدي ومفتي بغداد محمود الآلوسي وغيرهم.
قال عنه صاحب جلاء العينين: أمير المؤمنين في الحديث. وقال أبو الثناء الآلوسي: كان لأهل السنة برهانا، وللعلماء المحدثين سلطانا، ما رأيت أكثر منه حفظا، ولا أعذب منه لفظا، ولا أحسن منه وعظا، ولا أفصح منه لسانا، ولا أوضح منه بيانا، ولا أكمل منه وقارا، ولا آمن منه جارا، ولا أكثر منه حلما، ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علما.
توفي رحمه الله في دمشق سنة سبع وثلاثين بعد المائتين والألف.
موقفه من المبتدعة:
الشيخ علي السويدي، من أكابر علماء العراق في وقته، اشتهر بالمعقول والمنقول.
- له من الآثار السلفية:
- 'العقد الثمين في بيان أصول الدين'، والكتاب مطبوع وتوجد منه نسخة مخطوطة ومطبوعة في المكتبة السعودية. وقد مدحه الشيخ محمد خليل الدمشقي بقصيدة طويلة جيدة منها:
__________
(1) الأعلام (5/17) ومعجم المؤلفين (7/200) وهدية العارفين (1/773) وجلاء العينين (42-43) وفهرس الفهارس (2/1008-1010).(9/82)
عقائد هي عين الحق هادية ... إلى صراط سوي جل عن دغل
من سنة المصطفى والآي قد نسجت ... تلك البرود فكانت أشرف الحلل
وطرزت بدراري العقل ساطعة ... منها البراهين تمحو غيهب الزلل
قد أظهرت بدعا صارت ترى سننا ... لدى الآلي سكروا عن شرعة الرسل
قوم هم نهجوا سبل الغواية إذ ... زاغوا فعندهم إبليس خير ولي
قال صاحب غاية الأماني: وكان هذا الفاضل رحمه الله تعالى، من أعيان دمشق، علماء دمشق الشام، وكان سلفي العقيدة. وكم له من قصائد غراء منع فيها الاستغاثة والالتجاء بغير الله تعالى، وكان سيفا في أعناق الغلاة المبتدعة عبدة القبور. (1)
عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد الحُصَيِّن (2) (1237 هـ)
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد الحصين الناصري العمري التميمي. ولد في قرية الوقف من قرى الوشم سنة أربع وخمسين ومائة وألف. وأخذ الفقه منذ صغره عن الشيخ إبراهيم بن محمد بن إسماعيل، ثم أخذ العلم عن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وابنه الشيخ عبدالله والشيخ حسين والشيخ حمد بن ناصر بن معمر وغيرهم. كان رحمه الله عالما عاملا زاهدا ورعا، مهيبا فقيها، واسع الاطلاع، وأوقاته كلها معمورة بالعبادة والتعليم، وجعل الله في علمه البركة وانتفع به خلق كثير، وله مواقف
__________
(1) غاية الأماني (2/321).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/454-464) والدرر السنية (12/49-50) والأعلام (4/22).(9/83)
مشرفة مع الملوك والأمراء.
قال ابن بشر: وكان يحب طالب العلم محبة عظيمة كأنه ولده، بالتودد إليه وتعليمه وإدخال السرور عليه، والقيام بما ينوبه من بيت المال، وكانت كلمته مسموعة، وقوله نافذا عند الرؤساء ومن دونهم. ولي القضاء في الوشم في ولاية الإمام عبدالعزيز بن محمد والإمام سعود بن عبدالعزيز وعبدالله بن سعود. وأخذ عنه عدة من العلماء منهم الشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ إبراهيم بن سيف والشيخ محمد بن نشوان والشيخ محمد بن عبدالله الحصين وغيرهم.
توفي رحمه الله في بلدة شقراء في رجب سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
- جاء في علماء نجد: وكان موضع الثقة عند ملوك آل سعود وعند أئمة الدعوة، ولذا أرسله الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب سنة 1185هـ إلى والي مكة المكرمة آنذاك الشريف أحمد بن سعيد لمناظرة علماء مكة، وأرسل معه الشيخ محمد رسالة إلى الشريف المذكور، فقدم مكة ونزل عند الشريف الملقب -الفعر- واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي وعبدالوهاب بن حسن التركي -مفتي السلطان- وعبد الغني بن هلال، وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقت المناظرة فيها.
الأولى: ما ينسب إلى أهل نجد من التكفير بالعموم.
الثانية: هدم القباب التي على القبور.
الثالثة: إنكار دعوة الصالحين لطلب الشفاعة منهم.(9/84)
وبعد البحث أذعنوا بأن الصواب في المسألة الثانية والثالثة هو هدم القباب، ومنع طلب الشفاعة إلا من الله تعالى، وأنه مذهب الإمامين أبي حنيفة وأحمد. كما بين لهم الشيخ الحصين أن نسبة تكفير عموم المسلمين إلى أهل نجد كذب وبهتان، فرجع منهم ظافرا مكرما.
ولما كانت سنة أربع ومئتين وألف من الهجرة أرسل الشريف غالب بن مساعد أمير مكة كتابا إلى الإمام عبدالعزيز بن محمد ذكر له فيه أن يبعث إليه رجلا عارفا من أهل الدين يعرفه حقيقة أمر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فأرسل إليه المترجم -أي الشيخ عبدالعزيز الحصين-، وكتب معه الشيخ محمد بن عبدالوهاب رسالة إلى علماء مكة المكرمة بين لهم فيها دعوته، ونفى ما يشاع عنه وعن دعوته من الأكاذيب.
فقدم الشيخ عبدالعزيز الحصين مكة، فأكرمه الأمير غالب واجتمع معه مرات، وعرض عليه رسالة الشيخ، فعرف ما بها من الحق والهدى، فأذعن لذلك وأقر به، ولكنه بعد زمن أبى وتمسك بقديم سنته، فطلب منه الشيخ عبدالعزيز الحصين أن يحضر العلماء ليقف على كلامهم ويناظرهم في أصول التوحيد، فأبوا الحضور، وقالوا للشريف: هؤلاء الجماعة ليس عندهم بضاعة إلا إزالة نهج آبائك وأجدادك ورفع يدك عما يصل إليك من خير بلادك، فطار لبه حين سمع هذا الكلام، وأصر على ما كان عليه، فمنها ثار الخلاف بين الإمام عبدالعزيز بن محمد آل سعود والشريف غالب، ثم تطور إلى(9/85)
القتال، وانتهى باستيلاء الحكومة السعودية على الحجاز. (1)
السلطان المولى سليمان (2) (1238 هـ)
سليمان بن محمد بن عبدالله العلوي، أبو الربيع، سلطان المغرب الأقصى، بويع بفاس سنة ست ومائتين وألف من الهجرة، بعد وفاة أخيه يزيد ابن محمد إثر معركته مع أخيه هشام.
قال الكتاني: كان من نوادر ملوك البيت العلوي في الاشتغال بالعلم وإيثار أهله بالاعتبار. وقال صاحب الاستقصا: وأما الدين والتقوى، فذلك شعاره الذي يمتاز به، ومذهبه الذي يدين الله به، من أداء الفريضة لوقتها المختار حضرا وسفرا، وقيام رمضان وإحياء لياليه. وقال أيضا: وكانت القبائل في دولته قد تمولت ونمت مواشيها وكثرت الخيرات لديها من عدله وحسن سيرته. وكان رحمه الله في أواخر أيامه قد سئم الحياة ومل العيش، وأراد أن يترك أمور البلاد لابن أخيه المولى عبدالرحمن بن هشام، وأن يتجرد لعبادة ربه حتى يأتيه اليقين. وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف، مرض السلطان مرضا أدى إلى وفاته بعد أن عهد كتابة بالإمارة للمولى عبدالرحمن، ودفن رحمه الله بباب آيلان من مراكش.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) علماء نجد (3/459-461).
(2) الاستقصا (8/119-123) والفكر السامي (2/297) وشجرة النور الزكية (1/380) والأعلام (3/133-134) ومعجم المؤلفين (4/275) وفهرس الفهارس (2/980-984).(9/86)
كان هذا الملك من أعقل ملوك أهل زمانه، وأذكاهم وأعلمهم وأفضلهم. حيث إن الملوك الآخرين لما وصلتهم خطابات أمير الرياض والحرمين الشريفين، تسرعوا في الرد عليه، والهجوم بألسنة علمائهم وكتابهم، في وصفه بالمروق والخروج عن الدين، ولكن هذا الملك الفاضل أرسل ابنه الأمير إبراهيم إلى الحج لمشاهدة الحال، فجهزه وأرسل معه مجموعة من العلماء والعقلاء، فذهب الأمير والمرافقون فوجدوا من الخير والحق، ما كان مصورا خلافه في أذهانهم، فرجعوا مقتنعين بالدعوة السلفية بعد المناظرات التي جرت في الحجاز والاستفسارات التي كانت نتيجتها معرفة الحق الواضح.
- قال صاحب الاستقصا (1) : وفي هذه المدة أيضا، وصل كتاب عبدالله بن سعود الوهابي النابع من جزيرة العرب المتغلب على الحرمين الشريفين. المظهر لمذهبه بهما إلى فاس المحروسة.
- وقال (2) : ولما استولى ابن سعود على الحرمين الشريفين، بعث كتبه إلى الآفاق كالعراق والشام ومصر والمغرب، يدعو الناس إلى اتباع مذهبه والتمسك بدعوته، ولما وصل كتابه إلى تونس بعث مفتيها نسخة منه إلى علماء فاس، فتصدى للجواب عنه الشيخ العلامة الأديب أبو الفيض حمدون ابن الحاج.
قال صاحب الجيش العرمرم: كان تصدى الشيخ أبو الفيض لذلك
__________
(1) 8/119).
(2) 8/120).(9/87)
الجواب بأمر السلطان وعلى لسانه، وذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم بن سليمان حين سافر للحج.
قال صاحب الاستقصا: وهذا يقتضي أن كتاب ابن سعود ورد على السلطان المولى سليمان بالقصد الأول، لا أن نسخة منه وردت بواسطة علماء تونس والله تعالى أعلم.
- وجاء في الفكر السامي: ومن خطبه، خطبته في ردع رعيته عن بدع المواسم التي تجعل للصالحين، نقلتها بلفظها في كتاب برهان الحق. وكان شديد الإنكار لمثل هذه البدع واقفا مع السنة شديد التحري. (1)
- قال عبدالحفيظ الفاسي: وأمر بقطع المواسم التي هي كعبة المبتدعة والفاسقين، وكتب رسالته المشهورة، وأمر سائر خطباء إيالته بالخطبة بها على سائر المنابر إرشادا للناس لاتباع السنن ومجانبة البدع، ولولا مقاومة مشايخ الزوايا من أهل عصره له؛ وبَثهم الفتنة في كافة المغرب وتعضيد من خرج عليه من قرابته وغيرهم؛ واشتغاله بمقاتلتهم وإنكاره أمامهم، لولا كل ذلك لعمت دعوته الإصلاحية كافة المغرب، ولكن بوجودهم ذهبت مساعيه أدراج الرياح، فذهبت فكرة الإصلاح ونصرة مذهب السلف بموته. (2)
- وفي الاستقصا: بعد كلامه على حج الأمير إبراهيم بن سليمان وبيان ما شاهدوه من الأمير ابن سعود وأتباعه من اتباعهم للسنة المحمدية قال: إن السلطان المولى سليمان رحمه الله، كان يرى شيئا من ذلك، ولأجله
__________
(1) 2/297).
(2) الآيات البينات (ص.301).(9/88)
كتب رسالته المشهورة التي تكلم فيها على حال متفقرة الوقت وحذر فيها رضي الله عنه من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة. (1)
ونص الخطبة قد نشره عبدالسلام السرغيني في رسالته 'المسامرة'، وعبدالله كنون في 'النبوغ المغربي'، وإبراهيم الكتاني، ثم محمد تقي الدين الهلالي في رسالة صغيرة مطبوعة مستقلة، وقبلهم أبو القاسم الزياني في 'الترجمانة الكبرى' وهو مطبوع متدوال.
وهذا نصها: (الحمد لله الذي تعبدنا بالسمع والطاعة. وأمرنا بالمحافظة على السنة والجماعة. وحفظ ملة نبيه الكريم، وصفيه الرؤوف الرحيم من الإضاعة إلى قيام الساعة، وجعل التأسي به أنفع الوسائل النافعة، أحمده حمدا ينتج اعتماد العبد على ربه وانقطاعه، وأشكره شكرا يقصر عنه لسان البراعة، وأستمد معونته بلسان المذلة والضراعة. وأصلي على محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة، على العموم والإشاعة، والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة.
أما بعد:
أيها الناس، شرح الله لقبول النصيحة صدوركم، وأصلح بعنايته أموركم، واستعمل فيما يرضيه آمركم ومأموركم. فإن الله قد استرعانا جماعتكم، وأوجب لنا طاعتكم. وحذرنا إضاعتكم. يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
__________
(1) 8/123).(9/89)
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ } مِنْكُمْ (1) ، سيما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرم بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية الَّذِينَ { إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } (2) . ولهذا نرثي لغفلتكم أو عدم إحساسكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسكم، فألقوا لأمر الله آذانكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم. وطهروا من دنس البدع إيمانكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانكم.
واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرق السنة لتسلكوها. وصرح بذم اللهو والشهوات لتملكوها. وكلفكم لينظر عملكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرفوا فضله عليكم وعوه، واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون، والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون. وافترقوا أوزاعا، وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا، فيما هو حرام كتابا وسنة وإجماعا، وتسموا فقراء، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا، قُلْ { هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) الحج الآية (41).(9/90)
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (1) . وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة، وسبة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة، وتلبيس وضلال، وتدليس شيطاني وخبال، زينه الشيطان لأوليائه، فوقتوا له أوقاتا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأقواتا، وتصدى له أهل البدع من عيساوة وجلالة وغيرهم، من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة، وصاروا يترقبون للهوهم الساعات، وتتزاحم على حبال الشيطان وعصيه منهم الجماعات، وكل ذلك حرام ممنوع، والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع.
فأنشدكم الله عباد الله هل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه سيد الشهداء موسما؟ وهل فعل سيد هذه الأمة أبو بكر لسيد الأرسال - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى جميع الصحابة والآل موسما؟ وهل تصدى لذلك أحد من التابعين رضي الله عنهم أجمعين؟ ثم أنشدكم الله، هل زخرفت على عهد رسول الله المساجد؟ أو زوقت أضرحة الصحابة والتابعين الأماجد؟ كأني بكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفة أضرحة الصالحين، وغير ذلك من أنواع الابتداع حسبنا الاقتداء والاتباع، إِنَّا { وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ
__________
(1) الكهف الآيتان (103و104).(9/91)
مُقْتَدُونَ } (23) (1) وهذه المقالة قالها الجاحدون، هيهات هيهات لما توعدون. وقد رد الله مقالهم ووبخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين وأهل الصلاح والدين، "خير القرون قرني" (2) الحديث. وبالضرورة أنه لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها. فقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقد الدين قد سجل، ووعد الله بإكماله قد عجل، الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (3) . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم: (أيها الناس قد سنت لكم السنن، وفرضت الفرائض، وتركتم على الجادة؛ فلا تميلوا بالناس يمينا ولا شمالا). فليس في دين الله ولا في ما شرع نبي الله أن يتقرب بغناء ولا شطح. والذكر الذي أمر الله به وحث عليه ومدح الذاكرين به، هو على الوجه الذي كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف وطريقة صالح الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يستمع، ومن سلك غير سبيلهم فلا يتبع، وَمَنْ {
__________
(1) الزخرف الآية (23).
(2) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الحلية (4/172) من طريق إسحاق بن إبراهيم صاحب البان قال ثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر بن الخطاب به. قال أبو نعيم عقبه: غريب من حديث الأعمش لم يروه عنه إلا إسحاق. وهو في الصحيحين بلفظ: "خير الناس قرني...".
(3) المائدة الآية (3).(9/92)
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (115) (1) . قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (2) . فما لكم يا عباد الله ولهذه البدع؟ أأمنا من مكر الله؟ أم تلبيسا على عباد الله؟ أم منابذة لمن النواصي بيده؟ أم غرورا لمن الرجوع بعد إليه؟ فتوبوا واعتبروا وغيروا المناكر واستغفروا، فقد أخذ الله بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور لما أغضوا عن المنكر عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى الجميع. ما بين العاصي والمداهن المطيع، أفيزين لكم الشيطان وكتاب الله بأيديكم؟ أم كيف يضلكم وسنة نبيكم تناديكم؟ فتوبوا إلى رب الأرباب، وَأَنِيبُوا { إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ
__________
(1) النساء الآية (105).
(2) يوسف الآية (108).(9/93)
لَا تُنْصَرُونَ } (54) (1) . ومن أراد منكم التقرب بصدقة أو وفق لمعروف أو إطعام أو نفقة، فعلى من ذكر الله في كتابه ووعدكم فيهم بجزيل ثوابه، كذوي الضرورة الغير الخافية، والمرضى الذين لستم بأولى منهم بالعافية، ففي مثل هذا تسد الذرائع وفيه تمتثل أوامر الشرائع. إِنَّمَا { الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ } اللَّهِ (2) ، ولا يتقرب إلى مالك النواصي بالبدع والمعاصي، بل بما يتقرب به الأولياء والصالحون والأتقياء المفلحون، أكل الحلال وقيام الليالي ومجاهدة النفس في حفظ الأحوال بالأقوال والأفعال، البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآيات تتلى، وسلوك الطريقة المثلى، وحج وجهاد، ورعاية السنة في المواسم والأعياد، ونصيحة تهتدى، وأمانة تُؤدى، وخُلُق على خُلُق القرآن يحذى، وصلاة وصيام، واجتناب مواقع الآثام، وبيع النفس والمال من الله. * { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) الزمر الآية (54).
(2) التوبة الآية (60).(9/94)
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (1) الآية. وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (2) الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات، وحضور النساء والأحداث، وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والأحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص. أَفَمَنْ { زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا } (3) عن المقدام ابن معدي كرب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة وبين يديه راية يحملها، وأناس يتبعونها فيسأل عنهم ويسألون عنه" (4) إِذْ { تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
__________
(1) التوبة الآية (111).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) فاطر الآية (8).
(4) أخرجه بلفظ: "لا يكون رجل على قوم إلا جاء يوم القيامة يقدمهم وهم يتبعونه يسأل عنهم ويسألون عنه" ابن أبي عاصم في السنة (2/523/1099) والطبراني في الكبير (20/275-276) من حديث المقدام بن معدي كرب. وقال الهيثمي في المجمع (5/208): "رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف". بل هو في الكبير.(9/95)
الْأَسْبَابُ } (166) (1) فيجب على من ولاه الله من أمر المسلمين شيئا من السلطان والخلائف، أن يمنعوا هؤلاء الطوائف، من الحضور في المساجد وغيرها. ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، أو يعينهم على باطلهم. فإياكم ثم إياكم والبدع فإنها تترك مراسم الدين خالية خاوية، والسكوت عن المناكر يحيل رياض الشرائع ذابلة ذاوية، فمن المنقول عن الملل والمشهور في الأواخر والأول أن المناكر والبدع إذا فشت في قوم، أحاط بهم سوء كسبهم، وأظلم ما بينهم وبين ربهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثلات، وشحت السماء، وحلت النقماء وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفت الضروع، ونقعت بركة الزروع، لأن سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق الفوائد.
والأدب مع الله ثلاثة:
حفظ الحرمة بالاستسلام والاتباع، ورعاية السنة من غير إخلال ولا ابتداع، ومراعاتها في الضيق والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكل ذلك كذب على الله وافتراء. قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (2) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه
__________
(1) البقرة الآية (166).
(2) آل عمران الآية (31).(9/96)
قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لمن ولي عليكم، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1) .
وها نحن عباد الله أرشدناكم وحذرناكم وأنذرناكم. فمن ذهب بعد لهذه المواسم، أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسه، وجر الوبال عليه، وعلى أبناء جنسه، وتله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (2) .
" التعليق:
يستفاد من هذا النص المبارك:
1- مدى تأثر هذا السلطان بالعقيدة السلفية.
2- قوة علمه وإدراكه في الاستدلال بالكتاب والسنة.
3- بيان الحالة التي كان عليها أهل ذلك الزمان من ترد في الخرافات
__________
(1) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) النور الآية (63).(9/97)
والشركيات والطرق الصوفية.
4- اعتماده في الاستدلال على فعل السلف وفي مقدمتهم الصحابة.
عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (1) (1242 هـ)
عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، ولد في مدينة الدرعية سنة خمس وستين ومائة وألف من الهجرة، وتفقه على أبيه وغيره. وبعد وفاة أبيه وشيخه، تصدى لنشر الدعوة السلفية والرد على المخالفين بالحجة والبرهان. كان ذا فهم جيد وحافظة قوية وذهن سيال وقريحة وقادة، وكان رحمه الله يعتبر المرجع الأساسي في الأعمال الدينية والشؤون الشرعية في المملكة السعودية في عهد ثلاثة أئمة من حكام آل سعود هم: الإمام عبدالعزيز بن محمد وابنه سعود وحفيده عبدالله بن سعود.
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: أدرك في الأصول والفنون أعلاها، وتفنن في علوم الإسلام حتى بلغ علاها، كان عارفا بالتفسير لا يجارى، وبأصول الدين، وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية. وقال أيضا: كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول قيام، ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله، والانكسار والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم ير في معناه مثله. أخذ عنه العلم علماء أجلاء منهم بنوه سليمان
__________
(1) علماء نجد (1/48-55) والأعلام (4/131) والدرر السنية (12/43-45).(9/98)
وعلي وعبدالرحمن والشيخ عبدالرحمن بن حسن والشيخ عبداللطيف والشيخ أبا بطين والشيخ محمد بن مقرن وغيرهم. اعتقل رحمه الله عند دخول إبراهيم باشا للدرعية، وأرسل إلى مصر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة، واستقر بالقاهرة إلى أن توفي بها سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف.
موقفه من الرافضة:
- له من الآثار السلفية:
- 'جواب أهل السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والزيدية'، وقد طبع بحمد الله.
عبدالعزيز بن حمد آل معمر (1) (1244 هـ)
الشيخ الإمام عبدالعزيز بن حمد بن ناصر بن معمر، ولد في مدينة الدرعية سنة ثلاث ومائتين وألف من الهجرة، وأخذ عن علمائها منهم والده رحمه الله والشيخ عبدالله بن محمد وحسين بن محمد وعلي بن محمد، أبناء شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب والشيخ حسين بن غنام وغيرهم. شغل جميع وقته في تحصيل العلم وطلبه، فصار عالما مجتهدا له اليد الطولى في التفسير والحديث والنحو والفقه. عينه الإمام سعود في جملة قضاة الدرعية.
قال ابن بشر: كان فقيها أديبا ومتواضعا، حسن البحث والسيرة، ذا شهرة في العلوم والديانة، وله أشعار رائعة لا سيما في أهل الدرعية. وقال
__________
(1) علماء نجد (2/445) والأعلام (4/17) والدرر السنية (12/50-52) ومقدمة كتاب منحة القريب المجيب للمترجم (ص.3-8).(9/99)
الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: كان أديبا بارعا، وعالما محققا، وفقيها مدققا، حاضر البديهة، قوي العارضة، فصيح اللسان، بليغ القول، مشاركا في شتى العلوم الأصولية والفروعية، ورعا زاهدا، متقللا من الدنيا، بعيدا عن مفاتنها وزخارفها، له اليد الطولى والباع الواسع في التصنيف والتأليف، ونشر العلم، وتخريج الكثير من الطلاب، والرد على المعارضين، وإفحام المخاصمين.
توفي رحمه الله في البحرين سنة أربع وأربعين ومائتين وألف. ورثاه كثير من الأدباء والعلماء منهم الشيخ أحمد بن علي آل مشرف رحمه الله في أبيات منها:
لقد صار في الإسلام ثلم بموته وقد كان للإسلام حصنا ومفزعا فأصبح مقصودا لمن طلب الهدى لقد فقد العلم العزيز ونشره هو البحر إن رمت العلوم وبحثها ... وكلم فمن ذا بالعلاج يحاول
إذا نزلت بالمسلمين النوازل
وكل لنيل المعالي وسائل
لدن فقدت عبدالعزيز المحافل
سوى أنه للبحر يوجد ساحل
موقفه من المشركين:
- له من الآثار: 'منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب' رد فيه على كتاب 'مفتاح الخزائن ومصباح الدفائن' لقسيس إنجليزي.
- ومما جاء فيه: ولما كان الله تعالى قد أمر رسوله بإقامة الحجة على الكافرين بطريق الجدال، وشرع ذلك في السور المكية والمدنية حتى بعد فرض القتال، كما قال تعالى: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ(9/100)
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (125) (1) وقال تعالى: وَلَا { تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (46) (2) وأمره بعد إقامة الحجة على النصارى بالمجادلة أن يدعوهم إلى الملاعنة والمباهلة، فقال تعالى: فَمَنْ { حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
__________
(1) النحل الآية (125).
(2) العنكبوت الآية (46).(9/101)
الْكَاذِبِينَ } (61) (1) .
فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - في جدال الكفار على اختلاف مللهم، وتباين نحلهم إلى حين وفاته، وكذلك أصحابه من بعده، ومن تبعهم من أئمة الدين وحماته، وبهذا الأمر قام الدين، واتضح منهاجه للعابدين، وإنما جعل السيف ناصرا للحجة والبرهان، مسهلا طريق البلاغ إلى المكلفين بالسنة والقرآن، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباعه، الذين بذلوا نفوسهم لله ابتغاء مرضاته. (2)
- وقال: والمقصود أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - موافقة لدين المسيح في التوحيد، وأصول الديانات، وإن خالفته في بعض ما دون ذلك من الشرائع، لكنها مخالفة لما ابتدعه ضلال النصارى، واخترعوه من قبل أنفسهم، وبدلوا به دين المسيح من الغلو في المخلوق حتى أنزلوه منزلة الخالق وادعوا أنه الله، وأنه ابن الله، تعالى الله وتقدس، وتنزه عن قولهم علوا كبيرا، وكذا ما بدلوه من فروع دين المسيح عليه السلام، كاستحلال الميتة والخنزير، وإحداث البدع في العبادات، مما نسخوا به دين المسيح عليه السلام، فبعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى متابعة عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم، وتصديقه في بشارته بخاتم الرسل وسيدهم في الدنيا والآخرة الذي هو أولى الناس به، كما ثبت عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: "أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي،
__________
(1) آل عمران الآية (61).
(2) ص.14).(9/102)
والأنبياء إخوة أبناء علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد" أخرجه البخاري ومسلم (1) ، وإخوة العلات: أبناء أمهات شتى من رجل واحد. (2)
- وقال: والمقصود أن القرآن نقل بالتواتر عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من أول الأمر حتى لا يتطرق الشك إلى حرف واحد منه أنه من القرآن، ولم يقيض لمن قبلنا من حفظ الكتب وضبطها ما يقارب ذلك، فإنا قد دللنا على وقوع التحريف والتصحيف في كتب النصارى بما لا يمكنهم دفعه، فضلا عما اعترفوا به من الشك في بعضها من أصله، وأما كتابنا فإن أحدا لو حاول أن يغير حرفا أو نقطة منه لقال له أهل الدنيا: هذا كذاب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب العزيز الذي صانه الله عن التحريف، وحفظه عن التغيير والتصحيف، مع أن دواعي الملحدة، واليهود والنصارى متوافرة على إفساده وإبطاله، وانقضى الآن ما ينيف على ألف ومائتين وأربعين سنة من أول نزوله، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ. (3)
محمد بن علي الشوكاني (4) (1250 هـ)
__________
(1) أخرجه: أحمد (2/437) والبخاري (6/590-591/3442-3443) ومسلم (4/1837/2365) وأبو داود (5/55/4675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) ص.48-49).
(3) ص.68-69).
(4) البدر الطالع (2/214-225) والأعلام (6/298) ومعجم المؤلفين (11/53) ونيل الوطر (2/344-350) والتاج المكلل (ص.443-458) وفهرس الفهارس (ص.1082-1088).(9/103)
الإمام العلامة المحدث محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني ثم الصنعاني. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، بهجرة "شوكان" من بلاد "خولان"، ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها سنة تسع وعشرين ومائتين وألف من الهجرة. قرأ على أبيه والقاضي الحسن المغربي والقاسم بن يحيى الخولاني والسيد عبدالرحمن بن قاسم المداني وغيرهم. وأخذ عنه القاضي محمد بن حسن الشجني وأحمد بن عبدالله الضمدي ومحمد بن أحمد السودي وغيرهم.
قال عنه تلميذه لطف الله بن أحمد جحاف: له مصنفات تدلك على قوة الساعد وسعة الاطلاع، ورزق السعادة في تصانيفه مع القضاء، وتناقلها من يلوذ به وذكروها في دروسهم، وله رغبة ومحبة في العلم، وما رأيت أنشط منه في التدريس. وقال عبدالرحمن بن سليمان الأهدل: ولقد منح رب العالمين سبحانه من بحر فضل كرمه الواسع هذا القاضي الإمام بثلاثة أمور، لا أعلم أنها في هذا الزمان الأخير جمعت لغيره: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها، وسعة التلاميذ المحققين والنبلاء المدققين أولي الأفهام الخارقة... وسعة التصانيف المحررة والرسائل والجوابات المحبرة التي تسامي في كثرتها الجهابذة الفحول. وقال عبدالرحمن البهكلي: وعلى الجملة فما رأى مثل نفسه ولا رأى من رأى مثله علما وقياما بالحق، بقوة جنان وسلاطة لسان.
توفي رحمه الله بصنعاء سنة خمسين ومائتين وألف من الهجرة عن ست وسبعين سنة وسبعة أشهر، ودفن بمقبرة خزيمة.
موقفه من المبتدعة:(9/104)
هذا الإمام الكبير، كانت له صولة وجولة في بلاد اليمن، عاصر الأحداث التي كانت بين العثمانيين ودعوة التوحيد الخالصة. وقد ذكر في البدر الطالع في بعض تراجم آل سعود ثناء جيدا عليهم وعلى دعوتهم، وله قصيدة في رثاء الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهي قصيدة طويلة توجد مطبوعة منشورة في عدة رسائل من رسائل الدعوة، وقد ذكرها الشيخ صالح العبود في رسالته في ترجمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1) . وعلى كل حال، فقد استفاد من العقيدة السلفية، عن طريق كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب. غير أنه في باب الأسماء والصفات من نظر في تفسيره: 'فتح القدير' يجد الرجل على طريق المؤولة كما بينت ذلك في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (2) . ومن نظر في كتابه 'التحف' يجده يمدح مذهب السلف، لكن كأنني به يعني مذهب المفوضة والله أعلم.
- قال رحمه الله في القول المفيد في حكم التقليد: فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحد علماء الاجتهاد الموجودين يخالفه في مسألة من المسائل، كان هذا المخالف قد ارتكب أمرا شنيعا، وخالف عندهم شيئا قطعيا، وأخطأ خطئا لا يكفره شيء، وإن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولم يرفع لما جاء به رأسا كائنا من كان، ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع
__________
(1) 1/240-243).
(2) 3/1272-1290).(9/105)
المشهورة كالخوارج والروافض، ويبغضونه بغضا شديدا فوق ما يبغضون أهل الذمة من اليهود والنصارى. ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء.
وبالجملة فهو عندهم ضال مضل، ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قول كل عالم كائنا من كان. (1)
- وفيه: وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب الأربعة على تقديم النص على آرائهم، عرفت أن العالم الذي عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب، والمقلد الذي قدم أقوال أهل المذاهب على النص هو المخالف لله ولرسوله ولإمام مذهبه ولغيره من سائر علماء الإسلام.
ولعمري إن القلم مبري بهذه النقول على وجل من الله وحياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيا لله العجب -أيحتاج المسلم في تقديم قول الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قول أحد من علماء أمته إلى أن يعتضد بهذه النقول. يا لله العجب، أي مسلم يلتبس عليه مثل هذا حتى يحتاج إلى نقل هؤلاء العلماء رحمهم الله في أن أقوال الله وأقوال رسوله - صلى الله عليه وسلم - مقدمة على أقوالهم، فإن الترجيح فرع التعارض، ومن ذاك الذي يعارض قوله قول الله أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى نرجع إلى الترجيح والتقديم. سبحانك هذا بهتان عظيم.
فلا حيا الله هؤلاء المقلدة الذين ألجأوا الأئمة الأربعة إلى التصريح بتقديم أقوال الله ورسوله على أقوالهم لما شاهدوهم عليه من الغلو المشابه لغلو
__________
(1) القول المفيد (ص.53).(9/106)
اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم.
وهؤلاء الذين ألجؤونا إلى نقل هذه الكلمات، وإلا فالأمر واضح لا يلتبس على أحد، ولو فرضنا والعياذ بالله أن عالما من علماء الإسلام يجعل قوله كقول الله أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكان كافرا مرتدا، فضلا عن أن يجعل قوله أقدم من قول الله ورسوله -فإنا لله وإنا إليه راجعون- ما صنعت هذه المذاهب بأهلها؟ وإلى أي موضع أخرجتهم؟ وليت هؤلاء المقلدة الجناة الأجلاف نظروا بعين العقل إذ حرموا النظر بعين العلم، ووازنوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أئمة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهل يخطر ببال من بقيت فيه بقية من عقل هؤلاء المقلدين أن هؤلاء الأئمة المتبوعين عند وقوفهم المعروض بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا يردون عليه قوله أو يخالفونه بأقوالهم؟ كلا والله بل هم أتقى لله وأخشى له. فقد كان أكابر الصحابة يتركون سؤاله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الحوادث هيبة وتعظيما. وكان يعجبهم الرجل العاقل من أهل البادية إذا وصل يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستفيدوا بسؤاله كما ثبت في الصحيح (1) ، وكانوا يقفون بين يديه كأن على رؤوسهم الطير يرمون بأبصارهم إلى ما بين أيديهم ولا يرفعونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتشاما وتكريما. وكانوا أحقر وأقل عند أنفسهم من أن يعارضوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآرائهم، وكان التابعون يتأدبون مع الصحابة بقريب من هذا الأدب، وكذلك تابعو التابعين كانوا يتأدبون بقريب من آداب التابعين مع
__________
(1) أخرجه: مسلم (1/41-42/12) والترمذي (3/14-15/619) والنسائي (4/427/2090) من حديث أنس بن مالك.(9/107)
الصحابة. فما ظنك أيها المقلد لو حضر إمامك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فإذا فاتك يا مسكين الاهتداء بهدى العلم فلا يفوتنك الاهتداء بهدى العقل، فإنك إذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إلى نور الحق. فإذا عرفت ما نقلناه عن أئمة المذاهب الأربعة من تقديم النص على آرائهم، فقد قدمنا لك أيضا حكاية الإجماع على منعهم التقليد، وحكينا لك ما قاله الإمام أبو حنيفة وما قاله إمام دار الهجرة مالك بن أنس من ذلك، أو لاح لك مما نقلناه قريبا ما يقوله الإمام محمد بن إدريس الشافعي من منع التقليد.
وقد قال المزني في أول مختصره ما نصه (اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقرأه على من أراده مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه) اهـ. فانظر ما نقله هذا الإمام الذي هو من أعلم الناس بمذهب الشافعي رحمه الله من تصريحه بمنع تقليده وتقليد غيره.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرة. قال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي أتبع أم مالك، فقال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به. وقال أبو داود سمعته -يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم من هو من التابعين بخير. اهـ
فانظر كيف فرق بين التقليد والاتباع. وقال لي أحمد: لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا. وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. قال ابن القيم: ولأجل هذا لم يؤلف(9/108)
الإمام أحمد كتابا في الفقه، وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك.
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل... ثم أطال الكلام في ذلك.
وبالجملة فنصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع من التقليد وفي تقديم النص على آرائهم وآراء غيرهم لا تخفى على عارف من أتباعهم وغيرهم. وأما نصوص سائر الأئمة المتبوعين على ذلك الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في كتبهم، معروفة قد نقلها العارفون بمذاهبهم عنهم. ومن أحب النظر في ذلك فليطالع مؤلفاتهم، وقد جمع منها السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفاته مايشفي ويكفي لا سيما في كتابه المعروف بالقواعد، فإنه نقل الإجماع عنهم وعن سائر علماء المسلمين على تحريم تقليد الأموات، وأطال في ذلك وأطاب، وناهيك بالإمام الهادي يحيى ابن الحسين فإنه الإمام الذي صار أهل الديار اليمنية مقلدين له، متبعين لمذهبه من عصره وهو آخر المائة الثالثة -إلى الآن مع أنه قد اشتهر عند أتباعه والمطلعين على مذهبه- أنه صرح تصريحا لا يبقى عنده شك ولا شبهة بمنع التقليد له، وهذه مقالة مشهورة في الديار اليمنية يعلمها مقلدوه فضلا عن غيرهم، ولكنهم قلدوه شاء أم أبى. (1)
- وله من الآثار:
__________
(1) القول المفيد (ص.57- 62).(9/109)
1- 'البغية في الرؤية'، توجد منه نسخة في الجامعة الإسلامية.
2- 'الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد'. مطبوع
3- 'شرح الصدور في عدم جواز رفع القبور'. مطبوع
4- 'التحف في مذاهب السلف'. مطبوع
5- 'القول المفيد في حكم التقليد'. مطبوع
موقفه من الخوارج:
- قال: (قوله: وعليها قضاء الصيام لا الصلاة). أقول: هذا معلوم الأدلة الصحيحة، وعليه كان العمل في عصر (النبوة) وما بعده، وأجمع عليه سلف الأمة وخلفها، سابقها ولاحقها، ولم يسمع عن أحد من علماء الإسلام في ذلك خلاف. وأما الخوارج الذين هم كلاب النار، فليس هم ممن يستحق أن يذكر خلافهم في مقابلة قول المسلمين أجمعين، ولا هم ممن يخرج المسائل الإجماعية عن كونها إجماعية بخلافهم، وما هذه بأول مخالفة منهم لقطعيات الشريعة، والعجب ممن ينصب نفسه من أهل العلم للاستدلال لباطلهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع. (1)
موقفه من القدرية:
- سئل الشيخ: ما الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال، حسنها وقبيحها...الخ، فهذه مسألة قد تكلم العلماء وكثر الخلاف فيها قديما وحديثا، وكثر الحجاج بين الطرفين، والواجب الرجوع إلى ما عليه
__________
(1) السيل الجرار (1/148).(9/110)
الصالحون من سلف الأمة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الرد على الرافضة: "وأما قوله أنه عدل حكيم لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، وإلا لزم الجهل والحاجة -تعالى الله عنهما-، فيقال له: هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا، ولا يظلم أحدا، ولكن النزاع في تفسير ذلك، فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد، هل يقال: إنه ما هو قبيح منه وظلم، أم لا؟ فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون: ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا، والقدرية يقولون: لو كان خالقا لأفعال العبادكان ظالما فاعلا ما هو قبيح منه، وأما كون الفعل قبيحا من فاعله لا يقتضي أن يكون كذلك لخالقه، لأن الخالق خلقه في غيره، لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل، لا من خلقه في غيره، كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما، كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون، والريح، والحركة، والقدرة، والعلم، فهو المتحرك بتلك الحركة، والمتلون بذلك اللون، والعالم بذلك العلم، والقادر بتلك القدرة، فكذلك إذا خلق في غيره كلاما، أو صلاة، أو صياما، أو طوافا، كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام، وهو المصلي، وهو الصائم، وهو الطائف، ولكن من قال إن الفعل هو المفعول يقول: إن أفعال العباد هي فعل الله، فإن قال: وهو أيضا فعل لهم لزم أن يكون الفعل الواحد لفاعلين، كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني، وإن لم يقل هو فعل لهم لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله الأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، الذين يقولون: إن الخلق هو المخلوق، وإن أفعال العباد خلق الله، فتكون هي فعل(9/111)
الله، وهي مفعول الله، فكما أنها خلقه فهي مخلوقة، وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، ولكنهم مكتسبون لها، وإذا طولبوا بالفرق بين الكسب والفعل لم يذكروا فرقا معقولا، ولهذا كان يقال: عجائب الكلام ثلاثة: أحوال أبي هاشم، وطفرة النظام، وكسب الأشعري.
وهذا الذي ينكره جمهور العقلاء، ويقولون: إنه مكابرة للحس، ومخالفة للشرع والعقل.
وأما جمهور أهل السنة فيقولون: إن فعل العبد له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله لايقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول. انتهى كلامه.
وأهل القول الثاني من السؤال لا يلزم ما يقولون في خلاف قولهم أنه إجبار وإبطال للشرائع، وإلزام الحجة على الشارع، بل -سبحانه- يَخْلُقُ { مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } (1) وںw { يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (23) (2) ، وكل ما فعله فهو فضل أو عدل، فلا يعترض على فضله وعدله، ومن جعل العقل ميزانا للشرائع فقد ضل وأضل، والله يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا. (3)
__________
(1) القصص الآية (68).
(2) الأنبياء الآية (23).
(3) الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (1/148-152).(9/112)
عثمان بن محمد بن أحمد بن سند (1250 هـ)
موقفه من الرافضة:
هذا الرجل النجدي الأصل، عرف بعداوته وانحرافه عن الدعوة السلفية وأعلامها، إلا أن له موقفا طيبا يشكر عليه، عندما رد على الشاعر الشيعي الخبيث دِعْبِل الخزاعي الذي طعن في سادات الصحابة الكرام أبي بكر وعمر وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، فألف قصيدة تضمنت أكثر من ألفي بيت سماها 'الصارم القرضاب في نحر من سب أكارم الأصحاب'. (1)
الحسن بن علي القَنُّوجِي (2) (1253 هـ)
حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، ابن الأمير نواب أولاد علي خان بهادر أنور جنك. ولد سنة عشر ومائتين وألف للهجرة، وهو والد العلامة صديق حسن خان. أخذ عن الشيخ عبدالباسط القنوجي، ثم سافر إلى لكهنؤ فأخذ عن الشيخ محمد نور وغيره، ثم رحل إلى دهلي فتتلمذ على الشيخ عبدالعزيز والشيخ رفيع الدين ابني الشيخ ولي الله الدهلوي، ثم عاد إلى وطنه وبلده قنوج.
قال فيه ابنه السيد صديق بن حسن: وكان في التقوى والديانة واتباع الحق واقتداء الدليل ورد الشرك والبدع آية باهرة، وقدرة كاملة، ونعمة ظاهرة من الله سبحانه وتعالى. توفي رحمه الله سنة ثلاث وخمسين ومائتين
__________
(1) علماء نجد (5/148).
(2) هدية العارفين (1/301) والأعلام (2/206) ومعجم المؤلفين (3/259) وأبجد العلوم (3/212-213).(9/113)
وألف.
موقفه من المشركين:
له: 'تقوية اليقين في الرد على عقائد المشركين' ذكره في هدية العارفين (1) .
__________
(1) 1/301).(9/114)
أحمد الهندي (1) (1255 هـ)
أحمد بن عبدالرحيم الهندي الحكيم الحنفي. توفي رحمه الله سنة خمس وخمسين ومائتين وألف.
موقفه من الرافضة:
له: 'نزهة الاثني عشرية في الرد على الروافض' ذكره في هدية العارفين (2) .
أحمد بن علي بن أحمد بن دعيج (3) (1268 هـ)
الشيخ أحمد بن علي بن أحمد بن سليمان بن دعيج الكثيري نسبا، المَرَائي بلدا. ولد في بلدة مرات، إحدى بلدان الوشم سنة تسعين ومائة وألف. وعاصر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وله نظم جيد في المحنة التي وقعت في نجد على يد إبراهيم باشا وزير مصر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، وله نظم آخر في العقيدة. عين المترجم قاضيا في بلدته خلال استيلاء الدولة العثمانية على نجد، ثم خلال إمامة تركي ثم الإمام فيصل. وما زال في عمله مجدا إلى أن توفي رحمه الله سنة ثمان وستين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من الجهمية:
له نظم سماه 'كتاب الدر الثمين عقيدة الموحدين' (4) . قال: وسبب تأليفه
__________
(1) هدية العارفين (2/370) ومعجم المؤلفين (1/272).
(2) 2/370).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/497-501).
(4) علماء نجد (1/500).(9/115)
أنه ورد عليَّ جواب من بعض الإخوان سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين وألف يريد أن أعرض عليه ما نحن عليه من الاعتقاد وأخبار الصفات، فأجبته ولله الحمد، وهي معروضة على علماء المسلمين لتبيين الصحيح والتنبيه على الخطأ حتى نرجع عنه -إن شاء الله- إلى الصواب. ومطلع النظم هو:
باسمه أبدا كل امرئ تبركا وثنيت قبل النظم لله حامدا ... وحفظاً له لا يعتريه جذامها
مصل على المبعوث أحمد مقامها
إلى أن قال:
واقبل أخبار الصفات كما أتى ... بها النص لا ينفك عنك مرامها
محمد بن إبراهيم بن محمد السناني (1) (1269 هـ)
الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم السِّنَاني. ولد في بلدة عنيزة، ونشأ فيها، وقرأ على قاضي عنيزة الشيخ عبدالله أبا بطين، ولازمه ملازمة تامة. ولي القضاء بإشارة من شيخه أبا بطين لأعيان أهل عنيزة. وكان ورعا عفيفا، صاحب معتقد طيب، إلا أنه كان معرضا عن كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب لتحذير الناس منها، ثم قرأها بعد، فأولع بها، وأصبح من الداعين إليها.
توفي رحمه الله في بلدة عنيزة سنة تسع وستين ومائتين وألف للهجرة.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/472-474).(9/116)
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله مدافعا عن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وعن مؤلفاته بعدما كان معرضا عنها، ومستهزءا بها: كنت في أول أمري مع أناس نسمي (كشف الشبه) بـ (جمع الشبه)، ولم أرها ولم أطالع فيها تقليدا لمن غروني، فلما سافرت إلى بعض الآفاق ورأيت كثرة من أعرض عن الهدى، دعوت الله أن يهديني لما اختلف فيه إلى الحق، فأزال الله عني الهوى والتعصب، وأبدله بالإنصاف، وصار عندي الحق أحق أن يتبع، فَعَنَّ لي أن أطالع (كشف الشبه) فوجدتها كاسمها، مشتملة على أجل المطالب وأوجب الواجبات، فكانت جديرة أن تكتب بماء الذهب، ثم قلت نظما:
لقد ضل قوم سموا الكشف بالجمع ... وقالوا مقالا واجب الدفع والرد
فجمع الشبه ما لفقوه ببغيهم ... وتضليلهم من هد ما شيد من ند
وقام بنصر الدين لله وحده ... وتجريده التوحيد للواحد الفرد
وجاهد فيما قام فيه لربه ... بماله والأهلين حقا وباليد
إلى أن قال:
فيا طالب الإنصاف بالعلم والهدى ... ألا تنظر كشف الشبه درة العقد
فقد حل فيها كشف ما كان مشكلا ... بأوضح تبيان ينوف على العد
فجازاه رب الخلق خير جزائه ... لما قام في التوحيد يهدي ويهتدي (1)
__________
(1) علماء نجد (5/473-474).(9/117)
عبدالرحمن بن عبدالله آل الشيخ (1) (1274 هـ)
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، ولد في الدرعية سنة تسع عشرة ومائتين وألف من الهجرة ونشأ بها، وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة نقل مع أبيه وغيره من أعيان نجد إلى مصر، فأقام بها، وتعلم في الجامع الأزهر، ثم صار مدرسا فيه برواق الحنابلة.
قال الشيخ عبدالرزاق البيطار: الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالوهاب النجدي العالم المشهور والهمام الذي فضله مأثور... التفت إلى الطلب والتعلم والتعليم والاستفادة والإفادة، إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة، وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهد والعبادة. وقال الحلواني: وكان عالما فقيها ذا سمة حسنة، يظهر عليه التقى والصلاح.
وبقي فيها إلى أن توفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى.
موقفه من المشركين:
جاء في تاريخ علماء نجد: وبلغني أن جماعة السبكية، لم يعتنقوا المذهب الحنبلي، ولم يكونوا محققين لتوحيد العبادة إلا عن طريقه. (2)
__________
(1) علماء نجد (2/393-395).
(2) تاريخ علماء نجد (2/394).(9/118)
عبدالله بن عبدالرحمن أبا بُطَيْن (1) (1282 هـ)
الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن، الملقب كأسلافه (أبا بطين)، ولد في الروضة من قرى سدير سنة أربع وتسعين ومائة وألف من الهجرة، ونشأ بها، وقرأ على عالمها الشيخ محمد بن طراد الدوسري ولازمه ملازمة تامة، ثم ارتحل إلى شقراء، ثم إلى عنيزة وولي قضاءها وقضاء جميع بلدان القصيم.
قال عنه الشيخ إبراهيم بن عيسى: الإمام والحبر الهمام العالم العلامة والقدوة الفهامة الشيخ عبدالله أبا بطين، مهر في الفقه وفاق أهل عصره في إبان شبيبته. وقال تلميذه ابن حميد (صاحب السحب الوابلة): وأما اطلاعه على خلاف الأئمة الأربعة بل على غيرهم من السلف والروايات والأقوال المذهبية، فأمر عجيب، ما أعلم أني رأيت من يضاهيه بل ولا من يقاربه. أخذ عنه كبار علماء نجد منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم السناني والشيخ علي بن محمد آل راشد والشيخ عثمان بن بشر وغيرهم.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- له:
1- 'تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن جرجيس'، والكتاب مطبوع.
2- 'تعقبات نفيسة على لوامع الأنوار'، تدل على سعة علمه، وعمق
__________
(1) علماء نجد (2/567-575) والأعلام (4/97) ومعجم المؤلفين (6/72-73) والسحب الوابلة (2/626-633) والدرر السنية (12/75-77).(9/119)
فهمه للعقيدة السلفية.
عثمان بن عبدالعزيز بن منصور (1) (1282 هـ)
الشيخ عثمان بن عبدالعزيز بن منصور بن حمد الحسيني الناصري العمري التميمي. ولد في أول القرن الثالث عشر في بلدة الفرعة، وقرأ على الشيخ عبدالعزيز الحصين الناصري والشيخ عبدالرحمن بن حسن من علماء سدير، ثم سافر إلى العراق، فقرأ على داود بن جرجيس ومحمد بن سلوم.
قال فيه ابن بشر: الشيخ النبيه والعالم العلامة الفقيه، الذي حوى فنون العلوم، وكشف عنها الستور، وتلألأت بمعاني بيانه السطور، شيخنا عثمان ابن منصور. وقال الشيخ علي الهندي: للشيخ عثمان بن منصور مجموع فتاوى مخطوطة، وكان ذا فهم حاد، بارعا في فنون من العلم. ألف قصيدة في مدح شيخه ابن جرجيس، فرد عليه علماء السنة بقصائد داحضة. ولاه الإمام تركي قضاء بلدة جلاجل، ثم ولاه الإمام فيصل قضاء مدينة حائل، ثم سدير. كان على خلاف مع شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وألف كتاب 'أسرار المعارج في أخبار الخوارج' يُعَرِّض به للدعوة السلفية. وقد حكى مجموعة من الشيوخ تراجع الشيخ ابن منصور عن عقيدته ولزومه العقيدة السلفية.
توفي رحمه الله في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف في
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/89-106) والأعلام (4/208).(9/120)
حوطة سدير.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية:
1- 'فتح الحميد شرح كتاب التوحيد'.
2- 'الرد الدافع على من اعتقد أن شيخ الإسلام زائغ'، وهو رد على عثمان بن سند البصري النجدي، وهو عبارة عن قصيدة بين فيها غيرته على العقيدة السلفية.
جاء فيها: قال العبد الفقير، المقر بالذنب والتقصير، عثمان بن عبدالعزيز بن منصور الناصري العمري التميمي الحنبلي، ستر الله عيوبه وغفر له ذنوبه، ردا على عثمان بن سند الفيلكي ثم البصري -قتله الله تعالى- لما سب شيخ الإسلام، وقدوة الأعلام أحمد بن تيمية، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ونسبه مع ذلك للتجسيم والتضليل، في محاورة صدرت بيني وبينه، فأتى به فيها معترضا بسبه، وأنا أسمع بحضرة تلميذ له يقال له: محمد بن تريك، فأبذى في الكلام بذلك السب وأقذع، وسب مع ذلك نجدا وأهلها، فحينئذ لم أتمالك عند سب شيخ الإسلام المذكور أن قلت منشدا ما يأتي منتصرا له ولسلفه الصالح من أهل السنة والجماعة، ومبينا لعقيدته...إلى أن قال:
فنعلم أن الله فوق عباده ... كما جاء في الفرقان للخلق يسمع
علا خلقه الرحمن ربي مسافة ... وبالعلم أدنى من وريد وأسرع
وتنكر ذا تبا لك اليوم منكرا ... كذبت لأنت بالغواية توضع(9/121)
وإن إله الخلق عال لعرشه ... عليه استوى الرحمن بالنص أقطع
وإن كلام الله يتلى حقيقة ... على ذاك أهل الخوف لله أجمع
وفي قولنا الإيمان قول ونية ... وفعل به الأركان لله تخشع
يدور على بضع وسبعين شعبة ... ومنكر هذا القول بالنص يقمع
يزيد على الطاعات فينا كقولنا ... ينقص من العصيان والحق مقطع
وفي منزل الأبرار ينظر وجهه ... ويحجب عنه الملحدون ويمنعوا
نقر بأن الله جل جلاله ... عليم قدير كامل الوصف يسمع
بصير يرى مخ البعوض بعضوها ... ويحصي حساب الخلق علما ويجمع
فهذا اعتقادي والذي قلت إنه ... يرى مذهب التجسيم هل أنت تسمع
وقولك في عرض المذمة شيخكم ... يضل الورى جهلا وفيكم تنطع
أبن لي ضلال الشيخ حتى أجيبكم ... أفي هدمه الأوثان فالحق يتبع
أبن لي أبن لي لا أبا لك وانتبه ... أفي سده طرق الضلالات مشنع
أبن لي أبن لي ما الضلالات عندكم ... أكف دعاة السوء فينا فنسمع
كففناهم عن ديننا ودمائنا ... وأنت لسعد آخر الليل تضبع (1)
أحمد بن علي بن حسين آل مشرف (2) (1285 هـ)
الشيخ الشاعر أحمد بن علي بن حسين آل مشرف. ولد في مدينة الزبالة، وتعلم بها، وقرأ على علماء الأحساء وأغلبهم مالكي المذهب حتى
__________
(1) علماء نجد (5/98و103-105).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/502-503) والأعلام (1/182-183).(9/122)
صار من أعيان الفقهاء الكبار، وعين قاضيا بها. وكان كفيف البصر منذ طفولته، وأولع بالشعر والأدب فأصبح يقول القصائد والمراثي الجياد. وعرف رحمه الله بالدفاع عن العقيدة السلفية وله في ذلك مصنفات، جمعت في مجلد باسم 'ديوان ابن مشرف' وله مختصر صحيح مسلم.
توفي رحمه الله في الأحساء سنة خمس وثمانين ومائتين وألف للهجرة.
موقفه من الجهمية:
- له من الآثار السلفية:
1- 'قصيدة نظم فيها عقيدة ابن أبي زيد القيرواني المالكي في رسالته'.
2- 'جوهرة التوحيد'. وهي نظم عذب على عقيدة السلف.
3- 'الشهب المرمية على المعطلة والجهمية' (1) :
قال فيها:
نفيتم صفات الله، فالله أكمل ... وسبحانه عما يقول المعطل
زعمتم بأن الله ليس بمستوٍ ... على عرشه، والاستوا ليس يُجهل
فقد جاء في الأخبار في غير موضع ... بلفظ "استوى" لا غير يا مُتَأوِّل
وقد جاء في إثباته عن نبينا ... من الخبر المأثور ما ليس يُشْكِل
فصرح أن الله جل جلاله ... على عرشه منه المَلائك تنزل
يخافونه من فوقهم وعُروجُهم ... إليه وهذا في الكتاب مفصل
وتعرج حقا روح من مات مؤمنا ... إليه فتحظى بالمُنى ثم ترسل
__________
(1) علماء نجد (1/503).(9/123)
وبالمصطفى أسرى إلى الله، فارتقى ... على هذه السبع السموات في العلو
ومنه دنا الجبار حقا، فكان قا ... ب قوسين أو أدنى كما هو منزل
وفي ذا حديث في صحيح محمد ... صحيح صريح ظاهر لا يؤول
وقد رفع الله المسيح ابن مريم ... إليه ولكن بعد ذا سوف ينزل
فيكسر صُلْبان النصارى بكفه ... وما دام حيا للخنازير يقتل
وليس له شرع سوى شرع أحمد ... فيقضي به بين الأنام ويعدل
وزينب زوج المصطفى افتخرت على ... بقية أزواج النبي بلا غلو
فقالت: تولى الله عقدي بنفسه ... فزوجني من فوق سبع من العلو
وإن سفيري روحه وكفى بها ... لزينب فخرا شامخا فهو أطول
ولما قضى سعد الرضى في قريظة ... بأن يُسْتَرَقّوا والرجال تقتل
وأمضى رسول الله في القوم حكمه ... لقد قال ما معناه إذ يتأمل
ألا إن سعدا قد قضى فيهم بما ... قضى الله من فوق السموات فافعلوا
وقد صح أن الله في كل ليلة ... إذا ما بقي ثلث من الليل ينزل
إلى ذي السما الدنيا ينادي عباده ... إلى أن يكون الفجر في الأفق يشعل
يناديهم: هل تائب من ذنوبه؟ ... فإني لغفار لها مُتقبِّل
وهل منكم داع؟ وهل سائل لنا؟ ... فإني أجيب السائلين وأجزل
وقد فطر الله العظيم عباده ... على أنه من فوقهم فلهم سلوا
لهذا تراهم يرفعون أكفهم ... إذا اجتهدوا عند الدعاء إلى العلو
أقروا بهذا الاعتقاد جِبِلّة ... ودانوا به ما لم يصدوا ويخذلوا
على ذا مضى الهادي النبي(9/124)
وصحبه ... وأتباعهم خير القرون وأفضل
فأخلف قوم آخرون فحرفوا ... نصوص كتاب الله جهلا وأولوا
فجاءوا بقول سيء سره، وما ... بدا منه يزهو باللآلي مكلل
هم عطلوا وصف الإله وأظهروا ... بذلك تنزيها له وهو أكمل
ومن نزه الباري بنفي صفاته ... فما هو إلا جاحد ومعطل
فيا أيها النافي لأوصاف ربه ... لقد فاتك النهج الذي هو أمثل
تحيد عن الذكر الحكيم ونصه ... وتزور عن قول النبي وتعدل
و تنفي صفات الله بعد ثبوتها ... بنص من الوحيين ما فيه مجمل
إذا جاء نص محكم في صفاته ... جحدت له، أو قلت: هذا مؤول
ألا تقتفي آثار صحب محمد؟ ... فمنهاجهم أهدى وأنجى وأفضل
فما مذهب الأخلاف أعلم بالهدى ... من القوم لو أنصفت أوكنت تعقل
ولكنه من بعض ما أحدث الورى ... ومن يبتدع في الدين فهو مضلل
وقال رحمه الله في فصل في اعتقاد السلف الصالح رضوان الله عليهم (1) :
ولكننا والحمد لله لم نزل ... على قول أصحاب الرسول نعول
نقر بأن الله فوق عباده ... على عرشه، لكنما الكيف نجهل
وكل مكان فهو فيه بعلمه ... شهيد على كل الورى ليس يغفل
وما أثبت الباري تعالى لنفسه ... من الوصف أو إبداء من هو مرسل
فنثبته لله جل جلاله ... كما جاء، لا ننفي ولا نتأول
__________
(1) انظر آخر رسالة 'الجوهرة الفريدة' للحكمي (ص.61-65).(9/125)
هو الواحد الحي القديم له البقا ... مليك يولي من يشاء ويعزل
سميع بصير قادر متكلم ... عليم مريد آخر هو أول
تنزه عن ند وولد ووالد ... وصاحبة فالله أعلى وأكمل
وليس كمثل الله شيء وماله ... شبيه ولا ند بربك يعدل
وإن كتاب الله من كلماته ... ومن وصفه الأعلى حكيم منزل
فليس بمخلوق، ولا وصف حادث ... فيفنى، ولكن محكم لا يبدل
هو الذكر متلو بألسنة الورى ... وفي الصدر محفوظ وفي الصحف يسجل
فألفاظه ليست بمخلوقة، ولا ... معانيه، فاترك قول من هو مبطل
وقد أسمع الرحمن موسى كلامه ... على طور سينا، والإله يفصل
وللطور مولانا تجلى بنوره ... فصار لخوف الله دكا يزلزل
وإن علينا حافظين ملائكا ... كراما بسكان البسيطة وكلوا
فيحصون أقوال ابن آدم كلها ... وأفعاله طرا، فلا شيء يهمل
ولا حي غير الله يبقى، وكل من ... سواه له حوض المنية منهل
وإن نفوس العالمين بقبضها ... رسول من الله العظيم موكل
ولا نفس تفنى قبل إكمال ... ولكن إذا تم الكتاب المؤجل
وسيان منهم من ودى حتف أنفه ... ومن بالظبى والسمهرية يقتل
وإن سؤال الفاتنين محقق ... لكل صريع في الثرى حين يجعل
يقولان ماذا كنت تعبد؟ ما الذي ... تدين؟ ومن هذا الذي هو مرسل؟
فيا رب ثبتنا على الحق واهدنا ... إليه، وأنطقنا به حين نسأل
وإن عذاب القبر حق وروح من ... ودى في نعيم أو عذاب يعجل(9/126)
فأرواح أصحاب السعادة نعمت ... بروح وريحان وما هو أفضل
وتسرح في الجنات تجني ثمارها ... وتشرب من تلك المياه وتأكل
ولكن شهيد الحرب حي منعم ... فتنعيمه للروح والجسم يحصل
وأرواح أصحاب الشقاء مهانة ... معذبة للحشر، والله يعدل
وأن معاد الروح والجسم واقع ... فينهض من قد مات حيا يهرول
وصيح بكل العالمين فأحضروا ... وقيل: قفوهم للحساب ليسألوا
فذلك يوم لا تحد كروبه ... بوصف فإن الأمر أدهى وأهول
يحاسب فيه المرء عن كل سعيه ... وكل يجازى بالذي كان يعمل
وتوزن أعمال العباد جميعها ... وقد فاز من ميزان تقواه يثقل
وفي الحسنات الأجر يلقى مضاعفا ... وبالمثل تجزى السيئات وتعدل
ولا يدرك الغفران من مات مشركا ... وأعماله مردودة ليس تقبل
ويغفر غير الشرك ربي لمن يشا ... وحسن الرجا والظن في الله أجمل
وإن جنان الخلد تبقى ومن بها ... مقيما على طول المدى ليس يرحل
أعدت لمن يخشى الإله ويتقي ... ومات على التوحيد فهو مهلل
وينظر من فيها إلى وجه ربه ... بذا نطق الوحي المبين المنزل
وإن عذاب النار حق وإنها ... أعدت لأهل الكفر مثوى ومنزل
يقيمون فيها خالدين على المدى ... إذا نضجت تلك الجلود تبدل
ولم يبق بالإجماع فيها موحد ... ولو كان ذا ظلم يصول ويقتل
وإن لخير الأنبياء شفاعة ... لدى الله في فصل القضاء فيفصل
ويشفع للعاصين من أهل دينه ... فيخرجهم من ناره وهي تشعل(9/127)
فيلقون في نهر الحياة فينبتوا ... كما في حميل السيل ينبت سنبل
وإن له حوضا هنيئا شرابه ... من الشَّهْدِ أحلى فهو أبيض سلسل
يُقَدر شهرا في المسافة عرضه ... كأَيْلَة من صنعا وفي الطول أطول
وكيزانه مثل النجوم كثيرة ... ووارده كل أَغَرّ مُحَجَّل
من الأمة المستمسكين بدينه ... وعنه ينحى محدِثٌ ومبدِّل
فيا رب هب لي شربة من زُلالِه ... بفضلك يا من لم يزل يتفضَّل
موقفه من المرجئة:
- قال:
وإنا نرى الإيمان قولا ونية وينقص بنقصان طاعة ... وفعلا إذا ما وافق الشرع يقبل
ويزداد إن زادت فينمو ويكمل (1)
- وقال في نظمه لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني:
وأول الفرد إيمان الفؤاد كذا ... نطق اللسان بما في الذكر قد سطرا
إلى أن قال (2) :
وأن إيماننا شرعا حقيقته وأن معصية الرحمن تنقصه ... قصد وقول وفعل للذي أمرا
كما يزيد بطاعة الذي شكرا
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله (3) :
__________
(1) الجوهرة الفريدة (ص.66).
(2) الجوهرة الفريدة (ص.52و56).
(3) الجوهرة الفريدة (ص.66). (الشهب المرمية).(9/128)
وبالقدر الإيمان حتم وبالقضا ... فما عنهما للمرء في الدين معدل
قضى ربنا الأشياء من قبل كونها ... وكل لديه في الكتاب مسجل
فما كان من خير وشر فكله ... من الله والرحمن ما شاء يفعل
فبالفضل يهدي من يشاء من الورى ... وبالعدل يردي من يشاء ويخذل
وما العبد مجبور وليس مخيرا ... ولكن له كسب وما الأمر مشكل
عبدالرحمن بن حسن (1) (حفيد الشيخ) (1285 هـ)
الشيخ الإمام عبدالرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب مفيد الطالبين وقامع المبتدعين، ولد في الدرعية سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف للهجرة. وقرأ على جده كتاب التوحيد وغيره، ولازم دروسه، وأخذ عن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وعلى عمه الشيخ عبدالله والشيخ حسين بن غنام وغيرهم. نقله إبراهيم باشا إلى مصر فمكث فيها ثمان سنين، ثم عاد إلى نجد، وتولى قضاء الرياض.
قال الشيخ عثمان بن بشر: هو العالم النحرير، والبحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين وافتخار العلماء الراسخين، ومرجع الفقهاء والمتكلمين، المحفوظ بعناية رب العالمين، عمدة السلف وبقية الخلف، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية والآثار السلفية، مفتي فرق الأنام، ومؤيد شريعة سيد الأنام. وقال الشيخ إبراهيم بن عيسى: هو الإمام
__________
(1) علماء نجد (1/56) والأعلام (3/304) ومعجم المؤلفين (5/135) والدرر السنية (12/60-66).(9/129)
العالم الفاضل القدوة، رئيس الموحدين قامع الملحدين، كان إماما بارعا محدثا فقيها، ورعا تقيا نقيا صالحا، له اليد الطولى في جميع العلوم الدينية، وكان ملازما للتدريس، مرغبا في العلم، معينا عليه، كثير الإحسان للطلبة، لين الجانب، كريما سخيا، ساكنا وقورا، كثير العبادة. وقال فيه الشيخ أحمد بن مشرف بعد ثنائه على الشيخ محمد:
كذا عابد الرحمن أعني حفيده ينافح عن دين الهدى كل مبطل ... بنور الهدى يهدي فمن ذا يعادله
فيبطل تمويهاته ويناضله
أخذ عنه الشيخ عبداللطيف والشيخ حسين بن حمد آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن بن حسين آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن بن محمد بن مانع والشيخ حمد بن عتيق وغيرهم.
توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة العود في الرياض.
موقفه من المبتدعة:
- له:
1- 'فتح المجيد شرح كتاب التوحيد' وقد نفع الله به أهل المشرق والمغرب.
2- 'القول الفصل النفيس في الرد على ابن جرجيس'.
3- 'المحجة بالرد على اللجة' رد على صاحب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة.
4-'قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين' وهو عبارة عن تعليق على كتاب التوحيد، وقد طبع والحمد لله.
5- 'بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري'.(9/130)
6- 'المقامات' وهو رد على عثمان بن عبدالعزيز بن منصور الناصري، تعرض فيه للحروب الواقعة بين الدعوة السلفية، والدولة العثمانية المصرية، فهو كتاب رد وتاريخ.
موقفه من القدرية:
- تكلم في فتح المجيد عن القدر في صدد شرحه للنصوص التي أوردها جده في كتاب التوحيد، قال رحمه الله بعد حديث ابن عمر الطويل (1) : ففي هذا الحديث: أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، فقد ترك أصلا من أصول الدين وجحده، فشبه من قال الله فيهم: أَفَتُؤْمِنُونَ { بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (2) .اهـ (3)
- وقال بعد حديث عبادة (4) : وفي هذا الحديث ونحوه: بيان شمول علم الله تعالى، وإحاطته بما كان وما يكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: اللَّهُ { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف يحيى بن يعمر سنة (89هـ).
(2) البقرة الآية (85).
(3) فتح المجيد (ص.598-599).
(4) تقدم تخريجه في مواقف عبادة بن الصامت رضي الله عنه سنة (34هـ).(9/131)
عِلْمًا } (12) (1) . وقد قال الإمام أحمد رحمه الله، لما سئل عن القدر، قال: (القدر قدرة الرحمن) واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله.
والمعنى: أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء. ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى، فضلوا عن سواء السبيل. وقد قال بعض السلف: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا كفروا. (2)
وقال في خاتمة الباب: وكل هذه الأحاديث، وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم. ومن مذهبهم: تخليد أهل المعاصي في النار. وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر، وأعظم المعاصي.
وفي الحقيقة: إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر، فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا. وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار. (3)
__________
(1) الطلاق الآية (12).
(2) فتح المجيد (ص.600).
(3) فتح المجيد (ص.602).(9/132)
عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ (1) (1293 هـ)
الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الدرعية سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة، أخذ عن أبيه وخاله الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن محمد وجده لأمه الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيرهم. سافر إلى مصر مع أبيه المنقول، فمكث فيها إحدى وثلاثين سنة قضاها في طلب العلم حتى صار إماما من أئمته، يقصده الطلاب من أدنى البلاد وأقصاها. وفي عام أربع وستين ومائتين وألف من الهجرة قدم الشيخ إلى الرياض، فبدأ بنشر الدعوة السلفية القائمة على توحيد العبادة وخلوصها من أنواع الشرك، كما دعت إليها الرسل عليهم السلام.
قال صاحب الدرر السنية: أدرك مقام الأئمة الكبار، وناسب قيامه من بعض الأمور مقام الصديقين، وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نصرة دينه والتقاء أعباء الأمر بنفسه. وقال فيه الشيخ سليمان بن سحمان:
فعبداللطيف الحبر أوحد عصره ... إمام هدى قد كان لله داعيا
لقد كان فخرا للأنام وحجة ... وثقلا على الأعداء عضبا يمانيا
إماما سما مجدا إلى المجد وارتقى ... وحل رواق المجد إذ كان عاليا
تصدى لرد المنكرات وهد ما ... بنته عداة الدين من كان طاغيا
__________
(1) علماء نجد (1/63-71) ومعجم المؤلفين (6/10-11) والدرر السنية (12/66-75).(9/133)
أخذ عنه ابنه الشيخ عبدالله والشيخ إسحاق والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ وغيرهم.
توفي رحمه الله في مدينة الرياض سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف.
موقفه من المبتدعة:
عاش رحمه الله فترة تغلب الدولة العثمانية على ديار نجد، فكان هذا الإمام في مصر مدة طويلة قضاها كلها في طلب العلم والدعوة إلى العقيدة السلفية، فلم يذب في عقائد المصريين الباطلة، بل كان الداعية إلى عقيدة السلف، وله مواقف مشرفة سجلها المؤرخون له في كتبهم، وستبقى له ذخرا عند الله يوم القيامة.
- جاء في تاريخ علماء نجد: ولما استولى الإمام فيصل على الأحساء، وكان فيها خليط من العقائد والآراء، فالرافضة لهم شوكة، وعلماء الشافعية والمالكية أشاعرة، وعلماء الأحناف ماتوريدية. وتشترك هذه الطوائف كلها في وسائل الشرك، من نحو تعظيم القبور والغلو في الصالحين، والبدع من نحو الموالد، ومراسم الموت والجنائز، فكان الشيخ عبداللطيف هو المختار لمقابلة مثل هؤلاء، ومحاربة أمثال هذه الأمور، فبعثه الإمام إليهم، فناقش هؤلاء العلماء بلسان فصيح، وعلم صحيح، وصدر فسيح، وقابل الحجة بأقوى منها، ورد الشبهة بأوضح منها، فأذعنوا له وسلموا، فزال ما في نفوسهم من رواسب الشبه، وباطل التأويل، فتقرر لديهم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الأسلم والأعلم والأحكم، وأن الدعوة السلفية التي نادى بها الشيخ محمد ابن عبدالوهاب هي العودة إلى صفاء العقيدة، وخلوص العبادة، كما دعت(9/134)
إليها الرسل ونزلت بها الكتب، وبعد أن صارت العقيدة واحدة والطريقة متحدة، عاد الشيخ عبداللطيف إلى الرياض. (1)
" التعليق:
نجد في هذا النص المبارك: أن العقيدة السلفية كانت تقوم على الإقناع والحجة والبرهان، ولم تكن تقوم على الغلبة.
وفيه منقبة لهذا الشيخ، ومن أرسله للدفاع عن العقيدة السلفية.
- آثاره السلفية:
1- 'البراهين الإسلامية في الرد على الشبه الفارسية'.
2- 'شرح بعض نونية ابن القيم'.
3- 'منهاج التأسيس في كشف شبهات ابن جرجيس'.
4- 'الإتحاف في الرد على الصحاف'.
ذكرها صاحب هدية العارفين (2) .
حمد بن علي بن عَتِيق (3) (1301 هـ)
الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق، ولد سنة سبع وعشرين ومائتين وألف من الهجرة في بلدة الزلفي. أخذ عن الشيخ عبداللطيف والشيخ علي ابن حسين والشيخ عبدالرحمن بن عدوان وغيرهم. وممن قرأ عليه واستفاد
__________
(1) 1/65-66).
(2) 1/619).
(3) علماء نجد (1/228-232) والأعلام (2/272) والدرر السنية (12/77-79).(9/135)
منه ابنه الشيخ سعد بن حمد وابنه الثاني الشيخ عبدالعزيز وابنه الثالث الشيخ عبداللطيف والشيخ عبدالله بن عبداللطيف وغيرهم. قال فيه الشيخ سليمان ابن سحمان رحمه الله:
يعز علينا أن نرى اليوم مثله ... لحل عويص المشكلات البوادر
وللشبهات المعضلات وردها ... إذا ما تبدت من كفور مقامر
فلله من حبر تصعد للعلا ... فحل على هام النجوم الزواهر
ولله من حبر إمام وبلتع ... يعوم بتيار من العلم زاخر
ولي قضاء الحلوة ثم قضاء الأفلاج، إلى أن توفي فيها سنة إحدى وثلاثمائة وألف، رحمه الله تعالى. ولما مات أسف عليه المسلمون وبكاه المواطنون، لما هو عليه من سعة العلم وتحقيق العقيدة والصراحة في الحق.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في تاريخ علماء نجد: وكان الشيخ حمد معاصرا للعالم المشهور: الشيخ صديق بن حسن، صاحب المؤلفات، وكان بينهما مراسلة. ومن تلك الرسائل المتبادلة بينهما رسالة مطولة، أثنى الشيخ حمد فيها على الشيخ صديق، وعلى تمسكه بالسنة المحمدية، ونبذ الخرافات، والبدع الناشئة في غالب أرجاء العالم الإسلامي. ومدح مؤلفاته، ولكنه بين له بعض الأخطاء في تفسيره، ودله فيها على مذهب السلف الصالح.
وقد جاء فيها ما يلي:
من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم: محمد صديق، زاده الله من التحقيق. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالواجب إبلاغ(9/136)
السلام، شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام.
اعلم وفقك الله أنه كان بلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق، ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة، يقال له صديق فنفرح بذلك، ونسر لغرابة الزمان، وقلة الإخوان، وكثرة أهل البدع، ثم وصل إلينا كتاب التحرير، فازددنا فرحا وحمدنا الله، فبينما نحن كذلك، إذ وصل إلينا التفسير بكماله، فرأينا أمرا عجبا نظن أن الزمان لم يسمح بمثله، وما قرب منه من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريق الاستقامة، وحمل كلام الله على غير مراد الله، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشئه، وسلامة عقيدته لعلمنا أن ذلك من فضل الله: وَعَلَّمْنَاهُ { مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } ادخب، فالحمد لله رب العالمين، فزاد الاشتياق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة، فمن العوائق تباعد الديار، وطول المسافات، فإن مقرنا -في فلج اليمامة- ومنها خطر الطريق، وتسلط الحرامية، ونهب الأموال، واستباحة الدماء، وإخافة السبل.
ولما رأينا ما من الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا شركتكم من الآلات، وكانت -نونية ابن القيم- بين أيدينا، ولنا بها عناية، ولكن أفهامنا قاصرة، وبضاعتنا مزجاة من أبواب جملة، وفيها موضوعات محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدا تصدى لشرحها، فإن غلب على الظن أنك تقدر على ذلك فافعل، وهي واصلة إليك، فاجعل قراءتها شرحها. ولنا مقصد آخر، وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع(9/137)
وتسعين ومائتين وألف، فنظرت فيه، ولم أتمكن إلا من بعضه، ومع ذلك وقعت على موضوعات تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين: أحدهما أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في الكتاب بعد إتمامه. والثاني: أن الظاهر أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضا بلفظه وبعضا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك، وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره.
وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحا لله ورسوله، ورجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان، وأنا أنتظر منك الجواب، ثم إني لما رأيت ترجمتك، وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بلاد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم؛ كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفرى، وألتمس من جنابك أن تتفضل علينا بكتاب 'السول في أقضية الرسول' و'الروضة الندية' و'نيل المرام'.
فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك ، وابعث بها إلينا على يد الأخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة، واكتب لنا تعريفا بأحوالكم.
ولعل أحدا يتلقى هذا العلم ويحفظ عنك، واحرص على ذلك طمعا أن يجمع الله لك شرف الدنيا والآخرة. واعلم أنى قد بلغت السبعين، وأنا في معترك الأعمار، ولا آمن هجوم المنية، ولي من الأولاد ثمانية، منهم ثلاثة يطلبون العلم كبيرهم سعد ويليه عبدالعزيز وتحته عبداللطيف وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب.(9/138)
ولا تنسنا من دعائك الصالح كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. (1)
" التعليق:
هذه الرسالة القيمة لهذا العالم تدل على الأمور الآتية:
- اهتمام الشيخ بالعقيدة السلفية.
- الطريقة المثلى في التنبيه على الخطأ، بحيث لم يعنف، ولم يقرع، ولكن اللطف والثناء.
- تواضع الشيخ الكامل في مدح الصديق والاعتراف بالتقصير.
- طيب نفسه، يشم ذلك من عباراته في رسالته حيث ذكرنا بالسلف الأول.
- خطورة التأويل الذي في تفسير الصديق، وقد بينت ذلك في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (2) .
- بيان تأثر الصديق بعلم الكلام، وهذا تراجع عنه كما أثبت الشيخ الفاضل والزميل الطيب عاصم بن عبدالله القريوتي، في مقدمة كتاب 'قطف الثمر' للصديق.
- بيان ما كانت عليه الحال في ذلك الزمان، من قلة كتب ومراجع، هي الآن عندنا مبذولة، والحمد لله على نعمه وإحسانه.
- تعيين الوقت الذي كتبت فيه هذه الرسالة.
__________
(1) 1/229-231).
(2) 2/625-646).(9/139)
آثاره السلفية:
1- 'الفرق المبين بين السلف وابن سبعين'.
2- 'الدفاع عن أهل السنة والأتباع'.
3- 'إبطال التنديد شرح كتاب التوحيد' وهو مطبوع.
وكلها مذكورة في علماء نجد (1) .
4- الرسالة المذكورة آنفا.
__________
(1) 1/229).(9/140)
محمد بن المدني المستاري (1) (1302 هـ)
محمد بن المدني بن علي جنون، أبو عبدالله المستاري المغربي. كان من علماء القرن الثالث عشر في بلاد المغرب، مفتيا محدثا لغويا، نزيها، دؤوبا على نشر العلم، قوالا للحق، شديدا على أهل البدع، وأوذي بسبب ذلك وسجن.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وثلاثمائة وألف.
موقفه من الصوفية:
جاء في الفكر السامي: هذا الشيخ من أكبر المتضلعين في العلوم الشرعية الورعين، المعلنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... قوالا للحق مطبوعا على ذلك غير هياب ولا وجل، نزيها مقداما مهيبا، عالي الهمة، دؤوبا على نشر العلم، والإرشاد، والنهي عن المناكر والبدع، التي تكاثرت في أيامه، لا يخشى في الحق لومة لائم، يحضر مجلسه الولاة والأمراء أبناء الملوك وغيرهم، وهو يصرح بإنكار أحوالهم وما هم عليه، مبينا لهناتهم غير متشدق ولا متصنع، بل تعتريه حال ربانية، ولكلامه تأثير على سلطان النفوس، رزق في ذلك القبول والهيبة، على نحولة جسمه، ووصلته بذلك إذاية وسجن، لكن بمجرد سجنه اعتصب الطلبة وقامت قيامة العامة، فأطلق سبيله لذلك. فهو أحق من يقال في حقه مجدد لكثرة المنافع به، وانتشار العلم عنه وعن تلاميذه، وقيامه بالنهي عن مناكر وقته وكان شديدا على أهل الطرق ومالهم من البدع التي شوهت جمال الدين، والمتصوفة أصحاب
__________
(1) الفكر السامي (4/361-363) وشجرة النور الزكية (1/429) والأعلام (7/94) ومعجم المؤلفين (12/10).(9/141)
الدعاوى التي تكذبها الأحوال، وما كان أحد يقدر على الرد عليه مع شدة إغلاظه عليهم وعلى غيرهم، وسلوكه في ذلك مسلك التشديد، بل التطرف في بعض المسائل، ومع ذلك هابه علماء وقته ولم يجرؤوا على انتقاده ... وله تآليف كثيرة في مواضع متنوعة، وكثيرا ما ألف في البدع (1) .
" التعليق:
نأخذ من هذه النصوص استئناسا بهؤلاء، لعلهم كانوا يوافقون السلف في بعض مواقفهم، وإلا من قرأ تراجمهم المفصلة، يجد عندهم بعض ما يخرج عن منهاج السلف، لكن وقوفه ضد المتصوفة، يُعْتَبَر موقفا سلفيا، وما ذكر المترجم من محاربته للبدع، فأرجو أن يكون عاما في جميع البدع.
سليمان بن علي بن مقبل (2) (1304 هـ)
الشيخ سليمان بن علي بن مقبل، ولد في قرية المنسى التابعة لمدينة بريدة، في حدود سنة عشرين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ فيها، وقرأ على علمائها. وأكثر أخذه عن الشيخ قرناس بن عبدالرحمن، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبدالرحمن بن حسن، ثم رحل إلى دمشق، فلازم الشيخ حسن بن عمر الشطي واستفاد منه. ثم عاد إلى وطنه، فاتصل بالشيخ عبدالله أبا بطين قاضي عنيزة فقرأ عليه وأخذ عنه. عين قاضيا في مدينة بريدة سنة ست وخمسين ومائتين وألف للهجرة.
__________
(1) الفكر السامي (4/362-363).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/373-380).(9/142)
قال فيه الشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان: كان فقيها ذا وقار، مسددا في أحكامه، وطالت مدته في القضاء، فعزل نفسه لكبر سنه، وحج وجاور في مكة، وحج من قابل، ورجع إلى وطنه، فسكن "خب البصر" إلى أن مات فيه عام أربع وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
جاء في علماء نجد: ويذكر أنه لما عين قاضيا في بريدة، شك علماء الرياض في صحة تحقيقه التوحيد، وخافوا أنه ممن يجيز التوسل بذوات الصالحين أو ممن يجيز شد الرحال إلى القبور ونحو ذلك، فطلبوه ليحققوا معه، فذهب إليهم ورافقه تلميذه قاضي الخبراء الشيخ محمد بن عمر بن مبارك العمري، فلما باحثوه وظهر لهم صحة معتقده، عاد إلى بريدة واستمر في عمله القضائي. (1)
موقف السلف من الدجال الكذاب أحمد زيني دحلان (1304 هـ)
محاربته للعقيدة السلفية:
- كلمة الشيخ رشيد رضا فيه في مقدمة صيانة الإنسان (2) : 'رسالة الشيخ أحمد زيني دحلان في الرد على الوهابية'. تصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبدالوهاب والرد عليه أفراد من أهل الأمصار المختلفة، منهم رجل
__________
(1) علماء نجد (2/375).
(2) ص.7-10).(9/143)
من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد، وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة، الشيخ أحمد زيني دحلان، المتوفى سنة أربع وثلاثمائة وألف، ألف رسالة في ذلك، تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته في ما هو مصيب فيه، أنشئت أول مطبعة في مكة المكرمة في زمن هذا الرجل، فطبع رسالته وغيرها من مصنفاته فيها، وكانت توزع بمساعدة أمراء مكة ورجال الدولة، على حجاج الآفاق فعم نشرها، وتناقل الناس مفترياته وبهاءته في كل قطر، وصدقها العوام وكثير من الخواص، كما اتخذت المبتدعة والحشوية والخرافيون رواياته ونقوله الموضوعة والواهية والمنكرة وتحريفاته للروايات الصحيحة حججا يعتمدون عليها في الرد على دعاة السنة المصلحين، وقد فنيت نسخ رسالته تلك ولم يبق منها شيء بين الأيدي، ولكن الألسن والأقلام لا تزال تتناقل كل ما فيها من غير عزو إليها، ودأب البشر العناية بنقل ما يوافق أهواءهم، فكيف إذا وافقت هوى ملوكهم وحكامهم، كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا، ورسائل أمثاله فنصدقها بالتبع لمشائخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم، وخضضت شوكتهم. وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة(9/144)
الأمر، فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام، وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذا لتجدد مجده وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى.
على أن العلامة الشيخ: عبدالباسط الفاخوري، مفتي بيروت، كان ألف كتابا في تاريخ الإسلام، ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقال: إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال: إن الوهابيين في عهده متشددون في الدين، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبدالحميد! ورأيت شيخنا: الشيخ محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم، وتشدد خلفهم وأنه لولا ذلك، لكان إصلاحهم عظيما، ورجى أن يكون عاما، وقد ربى الملك عبدالعزيز الفيصل أيده الله غلاتهم المتشددين، منذ سنتين بالسيف، تربية يرجى أن تكون تمهيدا لإصلاح عظيم.
ثم اطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورسائله وفتاويه، وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم، ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية، ورأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذبا عليهم قالوا: 7oY"ysِ6ك™ { هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } (16) (1) . وما كان صحيحا أو له أصل بينوا
__________
(1) النور الآية (16).(9/145)
حقيقته وردوا عليه، وقد طبعت أكثر كتبهم وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم.
ومن المستبعد جدا، أن يكون الشيخ أحمد دحلان لم يطلع على شيء من تلك الكتب والرسائل، وهو في مركزه بمكة المكرمة على مقربة منهم، فإن كان قد اطلع عليها ثم أصر على ما عزاه إليهم من الكذب والبهتان -ولا سيما ما نفوه صريحا وتبرأوا منه- فأي قيمة لنقله ولدينه وأمانته؟ وهل هو إلا ممن باعوا دينهم بدنياهم؟
ولقد نقل عنه بعض علماء الهند ما يؤيد مثل هذا فيه. فقد قال صاحب كتاب 'البراهين القاطعة على ظلام الأنوار الساطعة' المطبوع بالهند: إن شيخ علماء مكة في زماننا قريب من سنة ثلاث وثلاثمائة وألف قد حكم -أي أفتى- بإيمان أبي طالب، وخالف الأحاديث الصحيحة، لأنه أخذ الرشوة -الربابي القليلة- من الرافضي البغدادي اهـ. وشيخ مكة في ذلك العهد هو الشيخ أحمد دحلان الذي توفي سنة أربع وثلاثمائة وألف، وصاحب الكتاب المذكور هو العلامة الشيخ رشيد أحمد الكتكوتي مؤلف كتاب بذل المجهود شرح سنن أبي داود، والخبر مذكور فيه، وهو قد نسب إلى أحد تلاميذ مؤلفه الشيخ خليل أحمد والصحيح أنه هو الذي أملاه عليه، وهو كبير علماء "ديوبند" في عصره رحمه الله.
وإذا فرضنا أن الشيخ أحمد دحلان لم ير شيئا من تلك الكتب والرسائل، ولم يسمع بخبر عن تلك المناظرات والدلائل، وأن كل ما كتبه في رسالته قد سمعه من الناس وصدقه، أفلم يكن من الواجب عليه أن يتثبت فيه(9/146)
ويبحث ويسأل عن كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورسائله، ويجعل رده عليها، ويقول في الأخبار اللسانية قال لنا فلان، أو قيل عنه كذا، فإن صح فحكمه كذا؟ إن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل، فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره وعدوه من أئمة المصلحين، المجددين للإسلام، ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم. ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك، وإنما هي تمهيد للتعريف بهذا الكتاب في الرد عليه.
" التعليق:
يستفاد من هذا النص الحقائق الآتية:
- بيان الحالة التي كان عليها دحلان من محاربته للعقيدة السلفية.
- بيان تعاون أهل الضلال، وتكاتفهم ضد العقيدة السلفية - أمراء تجار وعلماء.
- الأثر الخبيث الذي تركته كتب هذا المبتدع في نفوس الناس.
- التردي الفكري والعلمي الذي كان يعيشه العالم الإسلامي، وإلا كان بالإمكان أن يتوصل لحقيقة طالبها وإن بعدت الديار.
- كثير من الناس اقتنعوا بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وإن كان التطبيق ينقصهم.
- مبلغ عداوة الدولة العثمانية للعقيدة السلفية.
- شجاعة الشيخ عبدالباسط في إظهار العقيدة السلفية على حقيقتها،(9/147)
وإن كان ينقصه بعض الفهم والتصور عنها، كما ينقص الشيخ رشيد رضا.
- بيع الخرافيين والدجالين لفتواهم الباطلة، ونزاهة السلفيين عن مثل هذا السقوط.
- الإلزامات الجيدة التي ذكرها الشيخ رشيد، تلزم كل خرافي وصاحب بدعة في العقيدة السلفية.
صديق حسن خان (1) (1307 هـ)
الشيخ العلامة محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني أبو الطيب البخاري القَنُّوجِي. ولد سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف للهجرة في قنوج (بالهند)، ثم ارتحل إلى مدينة دهلي، ثم إلى بهوبال، طالبا للعلم وآخذا من أهله. أخذ عن الشيخ صدر الدين الدهلوي وحسن بن محسن السبعي الأنصاري وغيرهما. وفي عام ثمان وثمانين ومائتين وألف للهجرة تزوج ملكة بهوبال، وعمل وزيرا لها ونائبا عنها. قال عنه تليمذه ابن الآلوسي: شيخنا الإمام الكبير، السيد العلامة الأمير البدر المنير، البحر الحبر في التفسير والحديث والفقه والأصول... فصيح سريع القراءة، سريع الكتابة، سريع الحفظ والمطالعة، لا يبالي في الله بلومة لائم من أهل الابتداع، ولا تمنعه صولة صائل في تحرير الحق الحقيق بالاتباع. قال عن نفسه رحمه الله: ثم إني لم أمدح في عمري هذا أحدا من الأمراء طمعا في صلته وملازمته كما هو عادة
__________
(1) هدية العارفين (2/388) والأعلام (6/167) ومعجم المؤلفين (10/90) ومقدمة قطف الثمر (11-25) وجلاء العينين (48) والتاج المكلل (ص.541-550) وأبجد العلوم (3/216-218).(9/148)
الشعراء، وإنما نظمت الشعر العربي والفارسي، إذا طاب الوقت وطاب الهواء. وغالب نظمي في التحريض على اتباع الكتاب والسنة لأنهما يكشفان عن كل مدلهمة ودجنة، وفي ذم التقليد الشؤوم، والابتداع المذموم.
حسبي بسنة أحمد متمسكا ... عن كل قول في الجدال ملفق
أورد أدلتها على أهل الهوى ... إن شئت أن تلهو بلحية أحمق
واترك مقالا حادثا متجددا ... من محدث متشدق متفيهق
ودع اللطيف وما به قد لفقوا ... فهو الكثيف لدى الخبير المتقي
ودع الملقب حكمة فحكيمها ... أبدا إلى طرق الضلالة يرتقي
من مؤلفاته: 'فتح البيان في مقاصد القرآن' و'الدين الخالص' و'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر' و'الإقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد' و'الروضة الندية شرح الدرر البهية للشوكاني' وغيرها كثير. توفي رحمه الله سنة سبع وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- هذا الإمام كان من ملوك الهند الذين من الله عليهم بالهداية إلى الإسلام عموما، وإلى السلفية خصوصا. يقول الشيخ عاصم في مقدمة كتاب قطف الثمر: كان الشيخ حريصا أشد الحرص على العقيدة الصافية والدعوة إلى الكتاب والسنة وذم التقليد والجمود، كما تدل على ذلك سيرته ومؤلفاته. وكتابه العظيم 'الدين الخالص' يشهد له بذلك.
والمصنف رحمه الله كان أشعريا كما هو معروف لدى أهل العلم، وكتابه 'فتح البيان في مقاصد القرآن' يدل على ذلك، ولقد يسر الله له الحج(9/149)
عام خمس وثمانين ومائتين وألف. ولابد أنه التقى بعلماء أهل السنة في سفرته... وفي عام تسع وثمانين وألف ومائتين، صنف المؤلف رسالته 'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر' واستفاد من نصيحة الشيخ العلامة حمد بن عتيق -التي تقدم ذكرها في مواقف الشيخ حمد- وانكب على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، واغترف من كتبهما وكتب غيرهما من أهل السنة، وحث على ذلك. (1)
" التعليق:
يستفاد من هذا أن الشيخ كان على طريقة المؤولة ثم رجع إلى عقيدة السلف رحمه الله.
آثاره السلفية:
1- 'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر'، وهو يشبه إلى حد ما كتاب الواسطية لشيخ الإسلام. وقد طبع بتحقيق الشيخ عاصم.
2- 'الدين الخالص' وهو كتاب جيد فيه فوائد عظيمة، على هنات فيه في التوسل، وعدم التنظيم في السياق، وقد طبع.
3- 'الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة في اتباع السنة'.
4- 'الطريقة المثلى في الإرشاد إلى ترك التقليد واتباع ما هو الأولى'.
5- 'قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل' ذكر هذه الكتب الثلاثة الأخيرة الشيخ عاصم في المقدمة.
__________
(1) قطف الثمر (12).(9/150)
من طيب أقواله:
- قال عقب قول الله عز وجل: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ } أَرْبَابًا (1) الآية: وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم. وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء.
فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبدالله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبدالله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه، فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموها آذانا صما وقلوبا غلفا، وأفهاما مريضة وعقولا مهيضة وأذهانا كليلة وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
__________
(1) التوبة الآية (31).(9/151)
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتهم وقدوتكم، وهو الإمام الأول محمد ابن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - .
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب وأوضح لنا منهج الهداية. (1)
- وقال في الدين الخالص عند قوله تعالى: يَا قَوْمِ { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ } (65) (2) أي تخافون ما نزل بكم من العذاب إلى قوله: قَالُوا { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (70) (3) .
__________
(1) فتح البيان (5/286-287).
(2) الأعراف الآية (65).
(3) الأعراف الآية (70).(9/152)
قال أهل العلم: هذا داخل في جملة ما استنكروه، وهكذا يقول المقلدة لأهل الاتباع والمبتدعة لأهل السنة كأنهم هم. (1)
- ومنها قوله: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة، وكل محدثة في الدين بدعة، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، في أصول الدين وفروعه، كالرافضة، والخوارج، والجهمية، والقدرية، والمرجئة، والكرامية، والمعتزلة، فهذه فرق الضلالة وطرائق البدع.
والاختلاف في الفروع شائع، كما في الطوائف الأربعة، والمختلفون فيه محمودون متابعون على اجتهادهم، من لم يخالف النص، واختلافهم رحمة واسعة، إذا كان مبنيا على أدلة الكتاب والسنة كاختلاف الصحابة فيما بينهم، وهم أسوة الأمة واتفاقهم حجة عند قوم.
ثم من طريقهم اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا، والمشي على ظاهر السنة وواضحها، واتباع سبل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" إلى قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (2) ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله تعالى كما قال تعالى: وَمَنْ { أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
__________
(1) الدين الخالص (1/20-21).
(2) أخرجه: أحمد (1/435) والنسائي في الكبرى (6/343/11174-11175) والدارمي (1/67-68) وابن أبي عاصم (1/13/17) وابن حبان (1/180-181/6-7[الإحسان]) والحاكم (2/318) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.(9/153)
قِيلًا } (122) (1) وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - من هدي كل أحد سواه، سموا أهل الكتاب والسنة وأهل الحديث والآثار. (2)
- ومنها قوله: هذه جملة مختصرة من الكتاب والسنة، وآثار السلف فالزمها وما كان مثلها، مما صح عن الله ورسوله، وصالح سلف الأمة بما حصل من الاتفاق عليه من خيار الأمة، ودع أقوال من عداهم محقورا مهجورا، مبعدا مدحورا، مذموما ملوما، وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم، وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل فقد قال تعالى: وَقَلِيلٌ { مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } (13) (3) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" (4) رواه مسلم.
ولنعم ما قيل:
إن القلوب يد الباري تقلبها من يضلل الله لا تهديه موعظة فهذه غربة الإسلام أنت بها ... فاسأل الله توفيقا وتثبيتا
وإن هديت فبالأخبار أنبيتا
فكن صبورا ولو في الله أوذيتا
فهذه الأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والأثر، وأصحاب الرواية، وحملة العلم النبوي، فمن خالف شيئا من هذه، أو طعن فيهم، أو عاب قائلها،
__________
(1) النساء الآية (122).
(2) قطف الثمر (ص.142-144).
(3) سبأ الآية (13).
(4) مسلم (1/130/145) وابن ماجه (2/1319-1320/3986) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم.(9/154)
فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق.
وما ذكرته من العقائد ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا، ومن فضل الله على قلب الإنسان إن شرحه في أول نشوه للإيمان، من غير حاجة إلى حجة وبرهان، فلا بد من إثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل. (1)
- ومنها قوله: وإنما يضل أكثر الخلف من تركهم العمل بآيات الله البينات والسنة وتطلبهم غيرها، قال الله تعالى: كَمْ { آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (211) (2) .
فليحذر من ذلك كل الحذر من عدم القنوع بما قنع به السلف من حجج الله، فيا له من تخويف شديد، ووعيد عظيم.
وإنما يعرف الحق من جمع خمسة أوصاف: أعظمها الإخلاص، والفهم، والإنصاف، ورابعها وهو أقلها وجودا وأكثرها فقدانا: الحرص على معرفة الحق وشدة الدعوة إلى ذلك.
والبدع قد كثرت، والمحدثات قد عمت البلوى بالإشراك، وكثر الدعاء إليها، والتعويل عليها، وطلاب الحق اليوم شبه طلابه في أيام الفترة وهم
__________
(1) قطف الثمر (154-155).
(2) البقرة الآية (211).(9/155)
سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأضرابهما، فإنهم قدوة لطالب الحق، وفيهم له أعظم أسوة لما حرصوا على الحق، وبذلوا الجهد في طلبه حتى بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة. فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة، وكم عمي عنه من طلبه في زمن النبوة، فاعتبر بذلك، واقتد بأولئك الكرام، فإن الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما، لا ينال مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوق والإشراف إلى سببه، ولا يهجم على البطالين المعرضين، ولا يناجي أشباه الأنعام الضالين.
ما أعظم المصاب بالغفلة، والاغترار بطول المهلة، فليعرف مريد الحق قدر ما هو طالبه، فإنه طالب لأعلى المراتب وَمَنْ { أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ } مُؤْمِنٌ (1) خُذُوا { مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا } فِيهِ (2) فليس في الوجود بأسره أعز من الإيمان بالله وكتبه ورسله، ومتابعتها ومعرفة ما جاؤوا به، إلا تطلب ذلك أهون الطلب، فإن طلبة الدنيا وزخارفها الفانية يرتكبون الأخطاء والمتالف الكبار، وينفق أحدهم غضارة عمره، ونضارة شبابه، وإبان أيامه فيها، وهي لا تحصل لهم على حسب المراد، فكيف بما هو أبقى وخير منها؟ ولم يرفعوا له رأسا ولم يبنوا لها أساسا.
__________
(1) الإسراء الآية (19).
(2) البقرة الآية (63).(9/156)
وإنما أطلنا القول، لأني أعلم بالضرورة في نفسي وغيري: أن جهل الحقائق أكثرها إنما سببه عدم الاهتمام بمعرفتها على الإنصاف، وترك الاعتساف، لا عدم الفهم والإدراك، فإن من اهتم بشيء أدركه، فكيف لا يفهم طالب الحق مقاصد الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين، مع الاهتمام فيه، وبذل الجهد فيه، وحسن القصد، ولطف أرحم الراحمين؟
ولا ينبغي لطالب الحق والصواب أن يصغي إلى من يصده عن كتب الله، وما أنزل فيها من الهدى والنور والرحمة، لطفا للمؤمنين ونعمة للشاكرين، وليحذر كل الحذر من زخرفتهم وتشكيكهم، وليعتبر بقول الله لرسوله المعصوم وَإِنْ { كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا } إِلَيْكَ الآية (1) ويا لها من موعظة موقظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولا يستوحش من ظفر بالحق بكثرة المخالفين، وليوطن نفسه على الصبر واليقين، نسأل الله تعالى أن يرحم غربتنا في الحق ويهدي ضالنا ولا يردنا من أبواب رجائه ودعائه وطلبه ورحمته محرومين.
وخامسها -وهو أصعبها-: المشاركة في العلم والتمييز والفهم والدراية حتى يتمكن من معرفة الحق ومقدار ما يقف عليه فيرغب فيه من غير تقليد، لأنه لا يعرف المقادير إلا ذو بصر نافذ، وفهم ماض، فإن عرضت له محنة، لم يتطير بطلب الحق، فيكون ممن يعبدالله على حرف، وليثق بمواعيد الله وقرب
__________
(1) الإسراء الآية (73).(9/157)
الفرج، قال تعالى: فَتَوَكَّلْ { عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } (79) (1) فَاصْبِرْ { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } (60) (2) وليعلم يقينا أنه تعالى مع الصابرين والصادقين والمحسنين، وأن الله سبحانه ناصر من ينصره، وذاكر من يذكره، وإن سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور عائد على متبعيه، ونصره شامل لناصريه.
وقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى، وصح الترغيب في الدعاء إلى الحق والخير، وأن الداعي إلى ذلك يؤتى مثل أجور من اتبعه (3) ، ومن أحيى نفسا فكأنما أحيى الناس جميعا، ومن أمر بالصلاح والإصلاح ابتغاء مرضات الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما. وفي سورة العصر قصر السلامة من الخسر على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر وَمَنْ { أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
__________
(1) النمل الآية (79).
(2) الروم الآية (60).
(3) إشارة إلى حديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء..." الحديث. أخرجه: أحمد (4/357) ومسلم (4/2059-2060/2674) والترمذي (5/42-43/2675) والنسائي (5/79-80/2553) وابن ماجه (1/74/203) عن جرير بن عبدالله.
وأخرجه: ابن ماجه (1/75/207) عن أبي جحيفة.(9/158)
الْمُسْلِمِينَ } (33) (1) .اهـ (2)
- ومنها قوله: فالزم رحمك الله ما ذكرت لك من كتاب ربك العظيم، وسنة نبيك الرؤوف الرحيم، ولا تحد عنه بقول أحد وعمله، ولا تبتغ الهدى من غيره، ولا تغتر بزخارف المبطلين وانتحالهم وآراء المتكلمين المتكلفين وتأويلهم، إن الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله، لا فيما أحدثه المحدثون وأتى به المتنطعون من أرائهم المضمحلة، وعقولهم الفاسدة، وارض بكتاب الله وسنة رسوله بدلا من قول كل قائل وزخرف باطل. (3)
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله: ويتبرؤون من طريقة الروافض والشيعة، الذين يُبْغضون الصحابة ويسبّونهم، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
ويمسكون عما شجر بين الصحابة بينهم، ويقولون: إن هذه الآثار المروية منها ما هو كذب، ومنها ما هو قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح منها هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك يعتقدون أن كل أحد من الصحابة ليس معصوماً عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق
__________
(1) فصلت الآية (33).
(2) قطف الثمر (158-161) وهو مقتبس من كلام ابن الوزير في إيثار الحق (26-30).
(3) قطف الثمر (ص.98-99).(9/159)
والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم إن صدر، حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، ولهم من الحسنات التي تمحو سيئات ما ليس لمن بعدهم، وكلهم عدول بتعديل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: ومن أصول السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات والتأثيرات، كالمأثور عن سلف الأمة وأئمتها وسالف الأمم في سورة الكهف وسورة مريم وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة.
والكشف والكرامة ليس بحجة في أحكام الشريعة المطهرة، وخاصة فيما يخالف ظاهر الكتاب والسنة. ولا يمتاز صاحب الولاية والكرامة عن آحاد المسلمين في شيء من الزي والعمل والقول، ولا يختص بالنذر وغيره مما ينبغي لله سبحانه. (2)
موقفه من الجهمية:
من مواقفه رحمه الله الطيبة قوله:
- فمذهبنا مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك والشافعي والثوري والأوزاعي وابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم،
__________
(1) قطف الثمر (ص.97).
(2) قطف الثمر (99). وقد أدرح في فصوله كلام ابن تيمية وخصوصا الواسطية.(9/160)
كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبدالله التستري، وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه، موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا نتجاوز القرآن والحديث" وهكذا مذهب سائرهم، فنتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم الأئمة بهذا الشأن، نفيا وإثباتا، وهم أشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بحاله، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يقال هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل هي آيات بينات، دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم.
والإيمان إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم، كذلك فكان الباب عندهم بابا واحدا، قد اطمأنت به قلوبهم، كذلك وسكنت إليه نفوسهم، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله مما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون المتكلمون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فكذا صفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار، لعلمهم بأنه صفة من لا تشبيه لذاته ولا لصفاته، وأن ما جاء مما(9/161)
أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق لا تشابه بينهم في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم بخلاف صفات الحادث، وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ للفظ. والله سبحانه وتعالى قد أخبر أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وحريرا وذهبا، وقال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء" فإذا كانت هذه المخلوقات الفانية ليست مثل هذه الموجودة، مع اتفاقهما في الأسماء فالخالق جل وعلا أعظم علوا، وأعلى مباينة لخلقه، من مباينة المخلوق للخالق وإن اتفقت الأسماء. وأيضا فقد سمى الله سبحانه نفسه حيا عليما سميعا بصيرا ملكا رؤوفا رحيما، وسمى بعض مخلوقاته حيا وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رؤوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرؤوف الرحيم كالرؤوف الرحيم. (1)
- وقوله: ومن ظن أن نصوص الصفات لا يعقل معناها، ولا يدرى ما أراد الله تعالى ورسوله منها، وظاهرها تشبيه وتمثيل، واعتقاد ظاهرها كفر وضلال، وإنما هي ألفاظ لا معاني لها، وإن لها تأويلا وتوجيها لا يعلمه إلا الله، وأنها بمنزلة } O!9# { و } بےèg!2 { وظن أن هذه طريقة السلف، ولم يكونوا يعرفون حقيقة قوله: وَالْأَرْضُ { جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ } الْقِيَامَةِ (2) وقوله: مَا {
__________
(1) قطف الثمر (47-49).
(2) الزمر الآية (67).(9/162)
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ } بِيَدَيَّ (1) .
وقوله: الرَّحْمَنُ { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5) (2) ونحو ذلك. فهذا الظان، من أجهل الناس بعقيدة السلف وأضلهم عن الهدى، وقد تضمن هذا الظن استجهال السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، وكبار الذين كانوا أعلم الأمة علما وأفقههم فهما، وأحسنهم عملا، وأتبعهم سننا. ولازم هذا الظن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، وهو خطأ عظيم وجسارة قبيحة نعوذ بالله منها. (3)
- وقوله: ومن قال: يخلو العرش عند النزول، أو لا يخلو، فقد أتى بقول مبتدع، ورأي مخترع، وكل ما وصف به الرسول ربه من الأحاديث الصحاح، التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان به كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته" (4) متفق عليه. وضحكه تعالى إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، فيدخلان الجنة (5) رواه الشيخان، وقوله: "حتى
__________
(1) ص الآية (75).
(2) طه الآية (5).
(3) قطف الثمر (53-54).
(4) تقدم تخريجه. انظر مواقف ابن قدامة صاحب المغني سنة (620هـ).
(5) أحمد (2/244؛464) والبخاري (6/49/2826) ومسلم (3/1504/1890) والنسائي (6/346/3166) وابن ماجه (1/68/191) كلهم من طرق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة..." الحديث.(9/163)
يضع رب العزة فيها قدمه" متفق عليه (1) ، وقوله: "فينادي بصوت" (2) رواه البخاري ومسلم، وقوله: "فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه" (3) متفق عليه. إلى أمثال هذه الأحاديث، التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه فيما يخبر به.
فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، يؤمنون به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهؤلاء هم الوسط في فرقة الأمة، كما أن الأمة المرحومة هي الوسط في الأمم، فهم وسط الأمة في باب الصفات بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، كما أنهم وسط في باب أفعاله تعالى بين الحرورية والقدرية، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين المعتزلة والمرجئة وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج. (4)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: ولا يخلد صاحب الكبيرة المسلم في النار، والعفو عن الكبائر جائز، وكذلك عفوها عمن مات بلا توبة جائز، من باب خرق العوائد.
__________
(1) تقدم تخريجه من حديث أنس. انظر مواقف عبدالعزيز بن الماجشون سنة (164هـ).
(2) ولفظه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار". أخرجه: أحمد (3/32-33) والبخاري (13/555/7483) واللفظ له ومسلم (1/201-202/222) والنسائي في الكبرى (6/409/11339) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) أحمد (2/72) والبخاري (1/670/406) ومسلم (1/388/547) وأبو داود (1/323/479) والنسائي (2/383/723) وابن ماجه (1/251/763) من طريق نافع عن ابن عمر.
(4) قطف الثمر (59-63).(9/164)
وبعثة الرسل إلى الخلق، وتكليف الله عباده بالأمر والنهي عن ألسنتهم حق، وهم معصومون من الكفر، والإصرار على الكبائر، يعصمهم الله عنها.
إلى أن قال رحمه الله:
والخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قريش، ما بقي من الناس اثنان، وليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة.
والجهاد ماض قائم مع الأئمة الأبرار والفجار، مذ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل.
والجمعة والعيدان: الفطر والأضحى، والحج مع السلاطين وملوك الإسلام وإن لم يكونوا بررة عدولا أتقياء.
ودفع الصدقات، والخراج، والأعشار، والفيء، والغنائم إليهم عدلوا فيها أو جاروا، والانقياد لمن ولاه الله عزوجل أمر الناس، ولا ينزع يدا من طاعته ولا يخرج عليه بسيف حتى يجعل الله له فرجا مخرجا.
ولا يخرج على السلطان، يسمع ويطيع، ولا ينكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع، مخالف، مفارق للجماعة، ولا يمنعه حقه.
والإمساك في الفتنة سنة ماضية، و(3) لزومها، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك.
ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته، وحرمت مخالفته فيما ليس(9/165)
بمعصية لله ولرسوله، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين. وإن أمرك السلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: والإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، مطابقاً للكتاب والسنّة والنية لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (2) .
والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: فَأَمَّا { الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ } إِيمَانًا (3) وقال تعالى: لِيَزْدَادُوا { إِيمَانًا مَعَ } إِيمَانِهِمْ (4) وقال تعالى: ٹ#yٹ÷"tƒur { الَّذِينَ آَمَنُوا } إِيمَانًا (5) . وفي الحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (6) . فجعل القول والعمل جميعاً من الإيمان. (7)
__________
(1) قطف الثمر (132-133).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الشافعي سنة (204هـ).
(3) التوبة الآية (124).
(4) الفتح الآية (4).
(5) المدثر الآية (31).
(6) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(7) قطف الثمر (ص.80).(9/166)
- وقال أيضاً: والاستثناء في الإيمان جائز غير أن لا يكون للشك، بل هي سنة ماضية عند العلماء، ولو سئل الرجل أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، أو مؤمن أرجو الله، أو يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
روي ذلك عن ابن مسعود، وعلقمة بن قيس، وأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض، وغيرهم. وهذا استثناء على يقين قال الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ { الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } آَمِنِينَ (1) .اهـ (2)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: ويجب الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، أنه من الله تعالى، ليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر شيء إلا عن تدبيره وقضائه، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، لا خير ولا شر، إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة، واستعمله بها فضلا، وخلق من أراد للشقاوة، واستعمله بها عدلا، فهو سر استأثر الله تعالى به، وحجبه عن خلقه لَا { يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
__________
(1) الفتح الآية (27).
(2) قطف الثمر (ص.134).(9/167)
يُسْأَلُونَ } (23) (1) قال الله تعالى: وَلَقَدْ { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ } (2) وقال تعالى: وَلَوْ { شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (13) (3) وقال: إِنَّا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (49) (4) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (5) خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: فَمَنْ { يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } (6) وقال تعالى: مَا { أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ
__________
(1) الأنبياء الآية (23).
(2) الأعراف الآية (179).
(3) السجدة الآية (13).
(4) القمر الآية (49).
(5) سيأتي تخريجه في مواقف عبدالرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).
(6) الأنعام الآية (125).(9/168)
فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (22) (1) .
ولا يجوز أن يجعل قدر الله تعالى وقضاؤه حجة بعد الرسل، ونعلم أن لله الحجة علينا بإنزال الكتب، وبعثه الرسل، وما أمر الله تعالى ونهى إلا لمستطيع الفعل والترك، ولم يجبر أحدا على معصية، ولا اضطره على ترك الطاعة، قال تعالى: لَا { يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (2) ، وقال تعالى: فَاتَّقُوا { اللَّهَ مَا } اسْتَطَعْتُمْ (3) ، وقال: الْيَوْمَ { تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } (4) ، فدل على أن للعبد كسبا يجزى على حسنته بالثواب، وعلى سيئته بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره، سبحانه وتعالى.
والإيمان بالقدر، على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
الأولى: الإيمان بأن الله عليم بما يعمل الخلق بعلمه القديم الذي هو
__________
(1) الحديد الآية (22).
(2) البقرة الآية (286).
(3) التغابن الآية (16).
(4) غافر الآية (17).(9/169)
موصوف به، وقد علم جميع أحوالهم، من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال، ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، وأول ما خلق الله القلم وقال له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وهذا التقدير تابع لعلمه سبحانه، يكون في مواضع جملة وتفصيلا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق الجنين قبل خلق الروح فيه، بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، شقي أم سعيد (1) ونحو ذلك. فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكره اليوم قليل.
أما الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد. وأنه سبحانه على كل شيء قدير، من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض، ولا في السماء إلا الله خالقه، سبحانه لا خالق غيره، ولارب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته ومعصية رسوله، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، والله
__________
(1) هو حديث الصادق المصدوق. تقدم تخريجه في موقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).(9/170)
خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، وهذه الدرجة من القدر، يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - "مجوس هذه الأمة" (1) ، يغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى يسلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه، وحكمها ومصالحها. فالقدر ظاهره وباطنه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وقله وكثره، وأوله وآخره من الله عزوجل قضاء قضاه على عباده، وقدر قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله، ولا يجاوز قضاه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم، وهو عدل منه جل ربنا وعز.
والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك والكفر والبدعة والمعاصي والكبائر والصغائر كلها بقضاء الله وقدر منه، من غير أن يكون لأحد من الخلق حجة على الله.
وعلم الله عزوجل، ماض في خلقه، بمشيئة منه، وقد علم من إبليس وغيره، ممن عصاه من لدن عصي إلى أن تقوم الساعة المعصية وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة، وخلقهم لها، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم.
ومن زعم أن الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة، وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم، فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله، وأي افتراء على الله أكبر من هذا.
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).(9/171)
ومن زعم أن الزنا ليس بقدر، قيل له أرأيت هذه المرأة حملت من الزنا، وجاءت بولد، هل شاء الله تعالى عزوجل أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقا آخر وهذا هو الشرك صراحا.
ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية، بل أكل رزقه الذي قضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر الله، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأي كفر أوضح من هذا؟ بل ذلك بقضاء الله عزوجل أو ذلك عدل منه في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم وهو العدل الحق الذي يفعل ما يشاء.
ومن أقر بالعلم، لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة، على الصغر والقمأ، فالأشياء كلها تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال سبحانه: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ } اللَّهُ (1) وكما قال المسلمون ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علمه تعالى، أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله، وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد خلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف للمؤمنين، ونظر لهم، وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف للكافرين، ولا
__________
(1) الانسان الآية (30).(9/172)
أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف لهم، حتى يكونوا مؤمنين، كما قال تعالى: فَلَوْ { شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (1) ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم وختم على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، كما قال، ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إليه سبحانه في كل وقت، والفقر إليه في كل حال. (2)
صالح بن محمد بن حمد الشثري (3) (بعد 1309 هـ)
الشيخ صالح بن محمد بن حمد الشثري. نشأ في بلدته، ثم رحل إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبدالرحمن بن حسن والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن والشيخ عبدالله أبا بطين وغيرهم. له مع كبار العلماء مراسلات وبحوث علمية. له من التلاميذ الشيخ إبراهيم الشثري والشيخ إبراهيم بن عبدالملك آل الشيخ وزيد آل سليمان وحسين الشثري. أرخ لوفاته فيما بعد تسع وثلاثمائة وألف للهجرة.
__________
(1) الأنعام الآية (149).
(2) قطف الثمر (ص.84-88).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/533-535).(9/173)
موقفه من المشركين:
له: رد على أحمد زيني دحلان، ورد على الشيخ علي بن دعيج في تجويز موالاة المشركين. (1)
علي بن سالم بن جلعود آل جليدان (2) (1310 هـ)
الشيخ علي بن سالم بن جلعود آل جليدان. ولد في مدينة عنيزة سنة أربعين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ بها. قرأ على الشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ علي بن محمد آل راشد والشيخ عبدالعزيز بن محمد آل مانع والشيخ قرناس بن عبدالرحمن وغيرهم. تولى الإمامة والتدريس في مسجد المسوكف نحوا من أربعين سنة. أخذ عنه الشيخ عبدالله بن محمد بن مانع وغيره. كان رحمه الله معروفا بكثرة العبادة والغيرة على الدين، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة.
توفي رحمه الله سنة عشر وثلاثمائة وألف، على إثر مرض أصابه في مكة.
موقفه من الصوفية:
جاء في علماء نجد: وكان غيورا جسورا لا تأخذه في الله لومة لائم، بلغني أنه لما حج ودخل المسجد الحرام رأى حلق الذكر المقامة هناك، وإذا هم يرددون لفظ الجلالة، ثم الضمير وحده (هو هو)، فلم يتمالك نفسه إلا أن أخذ ينكر عليهم بيده ويضربهم بعصاه، فقبض عليه وذهبوا به إلى الشريف
__________
(1) علماء نجد (2/534).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/189-192).(9/174)
أمير مكة في ذلك الوقت، فقال: ما حملك على ذلك؟ فقال: فعلت هذا العمل كي أصل إليك، والقصد من وصولي إليك إخبارك بأن هذا العمل بدعة منكرة، وأنه لا يسعك تركهم يتلاعبون باسم الله، وإني على أتم استعداد لمناظرتهم بحضرتك، فخلى الشريف سبيله وتركهم هم على عملهم. (1)
أحمد بن خالد الناصري (2) (1315 هـ)
أحمد بن خالد بن حماد بن محمد الناصري الدرعي، شهاب الدين السلاوي المغربي، أبو العباس. ولد في مدينة سلا سنة خمسين ومائتين وألف للهجرة، وهو من عرب معقل، الداخلين للمغرب في القرن الخامس للهجرة من أسرة تنتمي إلى عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.
طلب العلم في مسقط رأسه، منكبا على مطالعة التآليف الموجودة من علوم التفسير والحديث والتاريخ وغيرها. شغل منصب موظف في خطة الجمارك في سلا، وتنقل في أعمال حكومية أخرى، ثم انقطع عن الأشغال وتفرغ للكتابة والمطالعة والتأليف إلى أن توفي في سنة خسمة عشر وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين والصوفية:
- له كلمة جيدة في التصوف والقبورية: قال في الاستقصا: قد ظهر ببلاد المغرب وغيرها منذ أعصار متطاولة -لا سيما في المائة العاشرة وما
__________
(1) علماء نجد (5/191). وقد منعها أمير مكة الشريف بعد ذلك كما سيأتي ضمن مواقف إبراهيم بن حمد عام (1329هـ).
(2) الاستقصا (1/9-34) والأعلام (1/120-121).(9/175)
بعدها- بدعة قبيحة، وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم أو تقدموهم ممن يشار إليهم بالولاية والخصوصية، ويخصونه بمزيد المحبة والتعظيم، ويتمسكون بخدمته والتقرب إليه قدرا زائدا على غيره من الشيوخ، بحيث يرتسم في خيال جلهم، أن كل المشايخ أوجلهم دونه في المنزلة عند الله تعالى، ويقولون: نحن أتباع سيدي فلان، وخدام الدار الفلانية، لا يحولون عن ذلك ولا يزولون خلفا عن سلف. وينادون باسمه ويستغيثون به ويفزعون في مهماتهم إليه، معتقدين أن التقرب إليه نافع والانحراف عنه قيد شبر ضار، مع أن النافع والضار هو الله وحده. وإذا ذكر لهم شيخ آخر أودعوا إليه، حاصوا حيصة حمر الوحش من غير تبصر في أحواله: هل يستحق ذلك التعظيم أم لا. فصار الأمر عصبيا، وصارت الأمة بذلك طرائق قددا، ففي كل بلد أو قرية عدة طوائف، وهذا لم يكن معروفا في سلف الأمة الذين هم القدوة لمن بعدهم. وغرض الشارع إنما هو في الاجتماع وتمام الألفة واتحاد الوجهة وقد قال تعالى لأهل الكتاب: تَعَالَوْا { إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا } وَبَيْنَكُمْ (1) الآية. وقد ذم قوما فرقوا دينهم وكانوا شيعا... ثم استرسل هؤلاء الطّغام في ضلالهم، حتى صارت كل طائفة تجتمع في أوقات معلومة في مكان مخصوص -أو غيره- على بدعتهم التي يسمونها الحضرة. فما شئت من طست وطار، وطبل ومزمار وغناء ورقص، وخبط
__________
(1) آل عمران الآية (64).(9/176)
وفحص، وربما أضافوا إلى ذلك نارا أو غيرها، يستعملونه على سبيل الكرامة بزعمهم. ويستغرقون في ذلك الزمن الطويل حتى يمضي الوقت والوقتان من أوقات الصلوات، وداعي الفلاح ينادي على رؤوسهم، وهم في حيرتهم يعمهون، لا يرفعون به رأسا، ولا يرون بما هم فيه من الضلال بأسا، بل يعتقدون أن ما هم فيه من أفضل القرب إلى الله، تعالى الله عن جهالتهم علوا كبيرا.
ولا تجد في هذه المجامع الشيطانية غالبا إلا من بلغ الغاية في الجفاء والجهل ممن لا يحسن الفاتحة فضلا عن غيرها، مع ترك الصلاة طول عمره، أو من في معناه من معتوه ناقص العقل والدين. فما أحوج هؤلاء الفسقة إلى محتسب يغير عليهم ما هم فيه من المنكر العظيم، واللبس المقيم، وأعظم من هذا كله أنهم يفعلون تلك الحضرة غالبا في المساجد. فإنهم يتخذون الزاوية باسم الشيخ ويجعلونها مسجدا للصلاة بالمحراب والمنار وغير ذلك، ثم يعمرونها بهذه البدعة الشنيعة. فكم رأينا من عود ورباب ومزمار على أفحش الهيئات في محاريب الصلوات.
ومن بدعهم الشنيعة محاكاتهم أضرحة الشيوخ ببيت الله الحرام من جعل الكسوة لها، وتحديد الحرم على مسافة معلومة بحيث يكون من دخل تلك البقعة من أهل الجرائم آمنا، وسوق الذبائح إليها على هيئة الهدي، واتخاذ الموسم كل عام، وهذا وأمثاله لم يشرع إلا في حق الكعبة. ثم يقع في ذلك الموسم ولا سيما مواسم البادية من المناكر والمفاسد العظام، واختلاط الرجال بالنساء باديات متبرجات شأن أهل الإباحة وشأن قوم نوح في(9/177)
جاهليتهم، ما تصم عنه الآذان ولا منكر ولا مغير ولا ممتعض للدين، لا، بل للحسب، فأما الدين عند هؤلاء فلا دين. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ضيعة الدين وغفلة أهله عنه ويالله ويا للمسلمين لهؤلاء الهمج الرعاع، الذين سلبوا المروءة والحياء والغيرة والعقل والدين والإنسانية جملة. فليسوا في فطنة الشياطين ولا في سلامة صدور البهائم، ولا في نخوة السباع فيغضبوا لدينهم ومروءتهم.
ومن جهالاتهم الفظيعة: جمعهم بين اسم الله تعالى واسم الولي في مقامات التعظيم، كالقسم والاستعطاف وغيرهما. فإذا أقسموا قالوا: وحق الله وحق سيدي فلان. وإذا عزموا على أحد قالوا: دخلت عليك بالله وسيدي فلان. وإذا سألوا قالوا: من يعطينا على الله وعلى سيدي فلان. فيعطفون اسم العبد على اسم مولاه بالواو المقتضية للتشريك والتسوية التامة في مقام قد حظر الشارع أن يتجاوز فيه اسم الله إلى غيره. وهذا هو صريح الشرك.
ومن مناكرهم الجديرة بالتغيير: اجتماعهم كل سنة للوقوف يوم عرفة بضريح الشيخ عبدالسلام ابن مشيش -رضي الله عنه- ويسمون ذلك حج المسكين. فانظر إلى هذه الطامة التي اخترعها هؤلاء العامة. (1)
" التعليق:
هذا الرجل صور الحالة التي يعيش عليها أهل المغرب في العقائد الباطلة
__________
(1) الاستقصا (1/142-145).(9/178)
المسماة بالتصوف، مع الكلام على القبورية. وهذا التصوير الذي ذكره هذا المؤرخ من أحسن ما قرأت في المقارنة بفعل هؤلاء المشركين بأضرحتهم وبما شرعه الله في بيته من طواف وكسوة وسوق هدي. فالحمد لله أن تخرج هذه الكلمة من مثل هذا الرجل: لا هو متهم بالوهابية -كما يقول أعداء العقيدة السلفية- ولا تخرج من الجامعة الإسلامية مأجورا من طرف الدولة الوهابية -كما يقوله أعداء العقيدة السلفية- وإنما هو مؤرخ محايد، عالم بالأحوال التي عليها أهل هذه البلاد. فجزاه الله خيرا على كلمته الطيبة. وأرجو الله أن يغفر زلتنا وزلته.
مبارك بن مساعد آل مبارك (1) (1316 هـ تقريبا)
الشيخ مبارك بن مساعد آل مبارك. ولد في بلدة عنيزة سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ محمد بن عبدالله بن مانع وابنه الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن مانع والشيخ علي آل محمد والشيخ علي باصبرين وغيرهم. كان مولعا بالشعر، ويحفظ منه الكثير، وله فيه القصائد الجيدة، وكان شديد الميل للدعوة السلفية وأعلامها. كانت لديه مكتبة كبيرة بيعت بعد وفاته، تضمنت مخطوطات نفيسة.
توفي رحمه الله في جدة سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف تقريبا.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/433-436).(9/179)
جاء في علماء نجد: حدثني الشيخ محمد نصيف رحمه الله قال: كان العلامة الشيخ علي باصبرين يدرس لطلابه ما بين المغرب والعشاء في جامع الشافعي بجدة، ففي إحدى الليالي جاء البحث في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعها، فنال الشيخ باصبرين منها نيلا فاحشا، وكان من الطلبة الشيخ صالح العبدالله البسام، والشيخ مبارك آل مساعد، فلما فرغ الدرس قاما إليه، وقالا له: هل اطلعت يا شيخ على كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب حينما نلت منه ومن دعوته؟ فقال لهما: لا، إنني لم أطلع عليها، ولكني قلت هذا نقلا عن مشايخي، فقالا له: ألا ترغب في الاطلاع على كتبه؟ فقال: بلى، فأتياه بنسخ من كتبه، فدرسها نحو أسبوع، وهو لا يأتي للشيخ محمد بذكر لا بمدح ولا قدح.
وبعد ذلك قال للطلبة: إنني في إحدى الليالي السابقة نلت من الشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته، والحق أن كلامي لم يكن عن اطلاع على كتبه، وإنما هو تقليد وحسن ظن في مشايخنا، وقد أطلعني بعض إخواننا النجديين على بعض كتبه ورسائله، فرأيت فيها الحق والصواب، وأنا أستغفر الله تعالى عما قلت: ثم صنف رسالة سماها: 'هداية كُمَّلِ العبيد إلى خالص التوحيد'. (1)
إسحاق بن عبدالرحمن آل الشيخ (2) (1319 هـ)
__________
(1) علماء نجد (5/434).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/557-564).(9/180)
الشيخ الإمام إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة ست وسبعين ومائتين وألف. قرأ على أخيه الشيخ عبداللطيف والشيخ حمد بن عتيق وابن أخيه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف وغيرهم. وكان مع حفظه القرآن يحفظ مختصرات في الفقه والحديث والتوحيد. رحل إلى الهند بعد استيلاء آل رشيد على الرياض سنة تسع وثلاثمائة وألف، فأخذ عن المحدث الشيخ نذير حسين والشيخ حسين بن محسن الأنصاري والشيخ سلامة الله، ثم رحل إلى مصر فقرأ على علماء الأزهر مدة، وجد واجتهد حتى عد من كبار علماء زمانه. ثم عاد إلى وطنه، واشتغل بالتدريس والإفادة، فنفع الله بعلمه، فكان ممن أخذ عنه الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ فوزان السابق والشيخ عبدالله بن فيصل والشيخ عبدالعزيز بن عتيق وغيرهم.
توفي رحمه الله في اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف في مدينة الرياض، ورثاه العلماء.
موقفه من المبتدعة:
قال: ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر، وهو ما كان عليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك. فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرا لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه هان عليه ما قد يراه من الكلام(9/181)
المشتبه في بعض مصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - . (1)
موقفه من المشركين:
له رد على أمين بن حنش العراقي. (2)
__________
(1) حكم تكفير المعين (ص.8-9).
(2) علماء نجد (1/564).(9/182)
عبدالله بن محمد بن عثمان بن دخيل (1) (1324 هـ)
الشيخ عبدالله بن محمد بن عثمان بن عبدالله بن دُخَيْل الناصري التميمي. ولد في المجمعة سنة إحدى وستين ومائتين وألف، ونشأ فيها، وأخذ عن الشيخ علي بن عيسى والشيخ عبدالرحمن بن حسن والشيخ عبداللطيف ابن عبدالرحمن والشيخ سليمان بن مقبل والشيخ علي آل محمد الراشد وغيرهم. رحل في طلب العلم إلى المدينة النبوية ثم إلى مكة، ثم إلى بريدة، ثم إلى عنيزة والرياض والمجمعة. ولي قضاء المذنب، وجلس للتدريس والإفتاء، فانتفع بعلمه خلق كثير منهم الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع والشيخ عبدالله ابن بليهد والشيخ محمد بن صالح بن مقبل وغيرهم.
توفي رحمه الله في المذنب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- له رسالة إلى تلميذه الشيخ عبدالله بن إسماعيل ينهاه فيها عن مجالسة من لم يكن مواليا لعلماء الدعوة السلفية. (2)
حسن عبدالرحمن السني البحيري المصري (1326 هـ) (3)
موقفه من الصوفية:
- له رسالة: 'الحماسة السنية في الرد على بعض الصوفية'، قال في
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/490-496).
(2) علماء نجد (4/495).
(3) لم نعثر على سنة وفاته، لذلك أثبتنا سنة طبع هذه الرسالة في مصر.(9/183)
مقدمتها: فقد أهدى إلينا بعض الإخوان مجموعة لبعض متصوفة هذا الزمان، مشتملة على أربع رسائل، أولها: تنوير البصائر، ودليل الحائر في إثبات النبوة ورؤية نبينا لربه. ثانيها: الفتح المبين في الاستغاثة بالأولياء والصالحين. ثالثها: القول المعتبر في القضاء والقدر. رابعها: ما تقول السادة الثقات في إيصال ما يهدى من ثواب القرآن والأذكار للأموات. يقصد ببعضها الرد على من تصدى من أهل العلم ورجال الدين لإخماد نيران البدع التي عمت وضرت محشوة ببدع المضلين، وضلال المتأخرين. وهكذا عوائد شياطين الجن إذا رأوا من تعرض لإخماد نار الضلال أوقدوها بشيطان من شياطين الإنس، يوحون إليه زخارف يجادل بها أهل الحق، قال تعالى: وَإِنَّ { الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ } (1) . وسبب تعرضنا للرد على هذا المتصوف تنبيه الناس على ما وقع في رسائله من الأمور المنكرة والأشياء المردودة شرعا، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا علم له بحقائق الدين، وبالله نستعين. (2)
محمد السَّهْسَوَانِي (3) (1326 هـ)
العلامة محمد بن بشير بن محمد بدر الدين السهسواني الهندي، صاحب
__________
(1) الأنعام الآية (121).
(2) الحماسة السنية (11-12).
(3) الأعلام (6/53) ومعجم المؤلفين (9/103) وصيانة الإنسان (17-22).(9/184)
كتاب 'صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان' ولد في سهسوان -من أعمال ولاية بدايون بالهند- سنة خمسين ومائتين وألف للهجرة تقريبا. ارتحل إلى دهلي، وقرأ الحديث والتفسير على نذير حسين الدهلوي، ودعي إلى بهوبال سنة تسعين ومائتين للهجرة، وأسند إليه رياسة المدارس الدينية بها، فأقام بها نحوا من خمس وعشرين عاما، ثم عاد إلى دهلي، فتوفي بها سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف، رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
- له الكتاب العظيم في الدفاع عن العقيدة السلفية، ذو البحوث القيمة النفيسة القوية. وهو: 'صيانة الإنسان في الرد على أحمد زيني دحلان'.
- قال فيه: فالواجب على المؤمن أن لا يتجاسر على التكلم بكل كلمة في ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمقام مقام الاحتياط، إذ اعتقاد اتصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفاته الكمالية من جملة مسائل العقائد، فما لم يثبت بالكتاب العزيز أو السنة الثابتة المطهرة لم يجز وصف النبي به، فمن ههنا دريت خطأ البوصيري في قوله: "واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم". وخطأ صاحب الرسالة حيث استحسنه.
وبالجملة فنحن معاشر أهل الحديث نعظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل تعظيم جاء في الكتاب أو السنة الثابتة، سواء كان ذلك التعظيم فعليا أو قوليا أو اعتقاديا، والوارد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذلك الباب في غاية الكثرة، وما ذكر هو بعض منه، ولو رمت إحصاء ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، نعم نجتنب التعظيمات التي تشتمل على موجبات الكفر(9/185)
والشرك، وما نهى الله عنه ورسوله، والتعظيمات المحدثة المبتدعة.
وأما أهل البدع فمعظم تعظيمهم تعظيم محدث، كشد الرحال إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والفرح بليلة ولادته، وقراءة المولد، والقيام عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - ، وتقبيل الإبهام عند قول المؤذن "أشهد أن محمدا رسول الله" والتمثل بين يدي قبره قياما، وطلب الحاجات منه - صلى الله عليه وسلم - ، والنذر له وما ضاهاها، وأما التعظيمات الثابتة فهم عنها بمراحل. فيا أهل البدع أنشدكم الله والإسلام والإنصاف أن تقولوا أي الفريقين أزيد تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر اتباعا له وأشد حبا له - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي. (1)
- وقال: ثم بعد انقراض قرن الصحابة أتى أمته ما يوعدون من الحوادث والبدع، وكلما أحدثت بدعة رفع مثلها من السنة، ولكن في قرن التابعين وأتباع التابعين لم تظهر البدع ظهورا فاشيا، وأما بعد قرن أتباع التابعين فقد تغيرت الأحوال تغيرا فاحشا، وغلبت البدع، وصارت السنة غريبة، واتخذ الناس البدعة سنة والسنة بدعة، ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استثني من زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام، إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس.
يدل على ذلك الأحاديث والآثار التي نذكرها الآن بحوله وقوته، منها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، -قال عمران: فلا أدري أذكر
__________
(1) صيانة الإنسان (236-237).(9/186)
بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن" (1) رواه البخاري ومسلم.
ومنها حديث الأسلمي قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة" (2) رواه البخاري. (3)
ثم ذكر طائفة من الأحاديث والآثار إلى أن قال: وقد علم بما نقل من الأحاديث والآثار أن غربة الإسلام ليس معناها أنه يقل أهل الإسلام، دل عليه ما في حديث ثوبان المتقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "بل أنتم يومئذ كثير" (4) بل معناها أن الصالحين من أهل الإسلام يذهبون الأول فالأول، وتبقى حفالة كحفالة الشعير وغثاء كغثاء السيل، وأن سنن الإسلام وشعبها وشرائعها من الصلاة والصيام والنسك والصدقة وغيرها تذهب وقتا فوقتا حتى لا يبقى إلا قول لا إله إلا الله (5) ، فإذا بعث الله ريحا طيبة توفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من
__________
(1) أحمد (4/427و436) والبخاري (5/324/2651) ومسلم (4/1964-1965/2535) وأبو داود (5/44/4657) والترمذي (4/434/2222) والنسائي (7/23-24/3818) من طرق عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) أحمد (4/193) والبخاري (11/302/6434).
(3) صيانة الإنسان (322).
(4) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل" الحديث. أخرجه: أحمد (5/278) وأبو داود (4/483/4297) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (2/647/958).
(5) يشير رحمه الله إلى قوله عليه الصلاة والسلام من حديث حذيفة بن اليمان: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عزوجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية..." الحديث. أخرجه: ابن ماجه (2/1344/4049) والحاكم (4/473و545) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح رجاله ثقات".(9/187)
خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فعليهم تقوم الساعة (1) .اهـ (2)
أحمد بن إبراهيم بن عيسى (3) (1329 هـ)
الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد ينتهي نسبه إلى قبيلة بني زيد ثم إلى قضاعة بن مالك ثم إلى قحطان، شارح نونية ابن القيم. ولد الشيخ بشقراء في الخامس عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين ومائتين وألف، نشأ في حجر والده العالم القاضي الشيخ إبراهيم بن عيسى، فتعلم مبادئ الكتابة والقراءة، ثم حفظ القرآن عن ظهر قلب ثم شرع في القراءة على والده بالتوحيد والفقه والحديث وسائر العلوم. من مشايخه: الشيخ عبدالرحمن ابن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن وغيرهم. ثم سافر إلى الرياض ولازم علماءها الأجلاء، أدرك إدراكا تاما. وَفَاق أقرانه لا سيما في التوحيد،
__________
(1) يشير رحمه الله إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى... إلى أن قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم" أخرجه: مسلم (4/2230/2907) من طريق الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة به.
(2) صيانة الإنسان (331-332).
(3) علماء نجد (1/155-162) والأعلام (1/89) وفهرس الفهارس (1/125-126) وإتحاف النبلاء (2/281-283).(9/188)
ثم سافر إلى مكة فأقام فيها للعبادة والعلم تعلما وتعليما. اتصل بأمير مكة وكلمه في هدم القباب والمباني على القبور والمزارات فأجابه لذلك. فكان من المساهمين في تطهير البلاد من الشرك والساعين في لم شتات الأمة. من تلامذته: الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ والشيخ عبدالقادر بن مصطفى التلمساني والشيخ عبدالستار الدهلوي وغيرهم. عرّفه الكتاني بالعالم السلفي المسند.
توفي في بلد المجمعة بعد صلاة الجمعة في اليوم الرابع من جمادى الثانية من عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في تاريخ علماء نجد: وحدثني الشيخ الوجيه الأفندي محمد حسين نصيف رحمه الله تعالى قال لي: كان الشيخ أحمد بن عيسى يشتري الأقمشة من جدة من الشيخ عبدالقادر بن مصطفى التلمساني أحد تجار جدة بمبلغ ألف جنيه ذهبا، فيدفع له منها أربعمائة ويُقسط عليه الباقي. وآخر قسط يحل ويستلمه الشيخ التلمساني إذا جاء إلى مكة للحج من كل عام. ثم يبتدئون من أول العام بعقد جديد. وكان الكفيل للشيخ أحمد بن عيسى هو الشيخ مبارك المساعد من موالي آل بسام.
وكان صاحب تجارة كبيرة في جدة ودام التعامل بينهما زمنا طويلا. وكان الشيخ أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدد لا يتخلف عنه ولا يماطل في أداء الحق. فقال له الشيخ عبدالقادر: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عاما، فما وجدت أحسن من التعامل معك -يا وهابي- فيظهر أن(9/189)
ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين. فسأله الشيخ أحمد أن يبين له هذه الشائعات. قال: إنهم يقولون: إنكم لا تصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تحبونه. فأجابه الشيخ أحمد بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم. إن عقيدتنا ومذهبنا أن من لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير فصلاته باطلة، ومن لا يحبه فهو كافر. وإنما الذي ننكره نحن -أهل نجد- هو الغلو الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، كما ننكر الاستعانة والاستغاثة بالأموات، ونصرف ذلك لله وحده. يقول الشيخ الراوي محمد نصيف عن الشيخ عبدالقادر التلمساني: فاستمر النقاش بيني وبينه في توحيد العبادة ثلاثة أيام، حتى شرح الله صدري للعقيدة السلفية. وأما توحيد الأسماء والصفات الذي قرأته في الجامع الأزهر، فهو عقيدة الأشاعرة. وكتب الكلام مثل: 'السنوسية' و'أم البراهين' و'شرح الجوهرة' وغيرها.
فلهذا دام النقاش بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يوما، بعدها اعتنقت مذهب السلف، وصرت آخذ التوحيد من منابعه الأصيلة: الكتاب والسنة وأتباعهما من كتب السلف. فعلمت أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم بفضل الله تعالى ثم بحكمة وعلم الشيخ أحمد بن عيسى. ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف.
فطبع منها: 'النونية' و'الصارم المنكي' و'الاستعاذة من الشيطان الرجيم' لابن مفلح و'المؤمل إلى الأمر الأول' لأبي شامة، و'غاية الأماني في الرد على النبهاني' وغيرها. وصار التلمساني من دعاة عقيدة السلف. قال الشيخ محمد نصيف: فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبدالقادر التلمساني،(9/190)
فالحمد لله على توفيقه.
والمترجم له لم يقتصر نشاطه على دعوة الأفراد حتى اتصل بأمير مكة: الشريف عون الرفيق، وكلمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القبور والمزارات، وشرح له أن هذا مخالف للإسلام، وأنه غلو وتعظيم للأموات يسبب فتنة الأحياء، وبث الاعتقادات الفاسدة فيهم. فما كان من "الشريف عون" إلا أن أمر بهدم القباب التي على القبور عدا قبة قبر خديجة رضي الله عنها، والقبر المنسوب إلى حواء في جدة. فأبقاهما مراعاة للقاعدة الشرعية: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". وصار المترجم له بسبب علمه وعقله ونصحه مقربا من الشريف عون، يُجله ويُقدره ويعرف له فضله وحقه (1) .
" التعليق:
يستفاد من هذه القصة المباركة:
- أثر الصدق في المعاملة كان من هدي السلف، ولذا كان من نتيجته ما قص علينا في هذه القصة.
- منقبة لهذا الشيخ، حيث وفقه الله تعالى لهداية التلمساني والشيخ نصيف.
- قوة السلفيين في تأثيرهم على الحكام، وغايتهم في ذلك نشر العقيدة وترسيخها في النفوس، لا المنصب الحكومي، أو المطمع المادي، ولذلك آتت
__________
(1) 1/156-158).(9/191)
دعوتهم أكلها بإذن ربها، ولله الحمد والمنة.
آثار الشيخ السلفية:
1- 'تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي' وهو كتاب قيم وقد طبع.
2- 'الرد على ما جاء في خلاصة الكلام من الطعن على الوهابية والافتراء لدحلان'.
3- 'الرد على شبه المستغيثين بغير الله' طبع.
4- 'شرح النونية' طبع في جزءين. وهو ينم عن علم غزير وفهم عميق، يمكن أن يستخرج منه مواقفه من الفرق كلها ولكن نكتفي منه بما يلي.
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: أشار رحمه الله بهذه الأبيات إلى إثبات صفات الله تعالى التي نطق بها كتابه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات صفات الله تعالى التي ورد بها الكتاب؛ وصحيح السنة وحسنها، إثباتا بلا تمثيل؛ وتنزيها بلا تعطيل؛ خلافا للجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأمر كما قال نعيم بن حماد الخزاعي شبخ البخاري: من شبه الله خلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله تشبيها. انتهى. بل هو إثبات على ما يليق بجلال الله(9/192)
وعظمته وكبريائه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (1)
وقال: ذكر الناظم رحمه الله تعالى في هذا الفصل رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة، كما يرى القمر. وقد اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام، وأنكرها أهل البدع، كالجهمية، والمعتزلة، والباطنية، والرافضة... (2)
إبراهيم بن حمد بن جَاسِر (3) (1329 هـ)
الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر، ولد في بلدة بريدة ونشأ فيها وقرأ على علمائها، ومن أشهر مشايخه: الشيخ محمد بن عمر بن سليم، والشيخ محمد بن عبدالله بن سليم والشيخ إبراهيم بن محمد بن عجلان وغيرهم. وأدرك في العلوم لا سيما في التفسير والحديث واللغة العربية، فهو فيها بحر لا يجارى وعالم لا يمارى، واشتهر أمره وذاع صيته حتى عد من كبار علماء نجد، وشاع له ذكر حسن وثناء طيب، ثارت بعض الخلافات والنزاعات بينه وبين آل سليم، اتهمه بعضهم بتساهله في توحيد الألوهية ولكنه كذب مفترى.
قال فيه الشيخ يوسف الهندي: لم أر مثله في الاطلاع على الحديث إلا شيخي نذير حسين. وقال الشيخ محمد بن عبدالعزيز آل مانع: إنه أعجوبة في
__________
(1) شرح النونية (1/254-255).
(2) شرح النونية (2/568).
(3) علماء نجد (1/103).(9/193)
سعة الاطلاع في التفسير والحديث. ويقول ابن مانع أيضا: إن الشيخ صالح العثمان آل قاضي يعجب من كثرة حفظه للحديث. وقال الشيخ محمد بن صالح البسام: إني كنت أحضر دروسه العامة قبل صلاة العشاء، فكان يشرع في تفسير الآية ويورد في معناها من الأحاديث والآثار وكلام العرب الشيء الكثير. من تلامذته: الشيخ عبدالرحمن بن ناصر آل سعدي، والشيخ عثمان ابن صالح، والشيخ عبدالعزيز بن عقيل وغيرهم.
توفي بعد عودته من العراق عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المشركين:
جاء في علماء نجد: الدليل الرابع على صدقه: ما حدثني به الثقات من أقاربي ممن حضروا القصة الآتية فقال: عرض على المترجم له إمامة وخطابة جامع النقيب في بلد الزبير براتب مغر، وكان في أمس الحاجة إليه. فذهب إلى الجامع المذكور ليراه ومعه بعض أفراد أسرتنا آل بسام، فدخل المسجد وتجول فيه، فرأى حجرة في مؤخر المسجد، فسأل عنها فقالوا: إنها قبر بانيه. فخرج من المسجد مسرعا وقال: لا أصلي ولا فرضا واحدا مأموما، فكيف أصير فيه إماما؟. (1)
موقفه من الصوفية:
جاء في تاريخ علماء نجد: والدليل الثالث على صحة معتقده أنه دخل المسجد الحرام أيام الحكم العثماني، فوجد حلق الصوفية تمارس بدعها
__________
(1) علماء نجد (1/103-104).(9/194)
وخرافاتها، فلم تمنعه غربته ولا إقرار حكومة البلاد لهذه الأعمال من أن يسطو عليهم بعصاه ضربا حتى فرقهم. فرفع أمره إلى أمير مكة المكرمة: "الشريف عون" فلما حضر وحقق معه وعرف أن الصواب مع الشيخ، فمنع هذه الأعمال البدعية. (1)
__________
(1) علماء نجد خلال ستة قرون (1/103-104).(9/195)
حسين آل الشيخ (1) (1329 هـ)
الشيخ حسين بن حسن بن حسين بن علي بن حسين بن الشيخ محمد ابن عبدالوهاب. فهو أخو عبدالله بن حسن آل الشيخ. ولد في الرياض عام أربعة وثمانين ومائتين وألف. قرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ محمد بن حمود والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبدالله الخرجي. قد أدرك لا سيما في النحو حتى ألف فيه وفي الفقه، وله قصائد رد بها على يوسف النبهاني وغيره.
نزح إلى عمان بساحل الخليج العربي وأقام هناك لنشر الدعوة السلفية، فنفع الله به وما زال هناك حتى توفي عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف. وليس له أولاد ولا أحفاد.
موقفه من المبتدعة:
له قصيدة رائية رد بها على قصيدة يوسف النبهاني، وأخرى رد فيها على أمين بن حنش العراقي. (2)
إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ (3) (1329 هـ)
الشيخ العلامة إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في الرياض عام ثمانين ومائتين وألف وبها
__________
(1) علماء نجد (1/219).
(2) علماء نجد (1/219).
(3) علماء نجد (1/127) والأعلام (1/48-49) والدرر السنية (12/82-86).(9/196)
نشأ، ثم أخذ مبادئ الكتابة وقراءة القرآن الكريم على والده العلامة الشيخ عبداللطيف، ثم حفظ القرآن ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على أخيه الشيخ عبدالله والشيخ حمد بن فارس والشيخ محمد بن محمود حتى مهر في التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصولها والنحو.
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: برع في العلوم النقلية والعقلية، وكان آية في الفهم لم ير مثله في الذكاء والفطنة والحفظ، برز في كل فن حتى كاد يستوعب السنن والآثار حفظا، وفاق أهل عصره فكانت له المعرفة التامة في الحديث والتفسير والفقه مع ما جمع الله له من الزهد والعبادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام به. تولى القضاء بالرياض فسار فيه سيرة حميدة من عدالة الأحكام وإنصاف المظلوم، كما كان له حلقات في التدريس بأنواع العلوم فأخذ عنه جم غفير منهم ابناه محمد وعبداللطيف، والشيخ عبدالملك بن إبراهيم والشيخ عبدالرحمن بن داود وغيرهم. وتصدى للإفتاء والإفادة، فله فتاوى تدل على جودة فهمه وحسن تصوره وله رد على أمين بن حنش في قصيدة طويلة بديعة نصر بها الحق ودحض بها الضلال.
توفي بالرياض ليلة السادس من شهر ذي الحجة عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المشركين:
له: منظومة في الرد على أمين العراقي بن حنش؛ هذا بعضها:
الحمد لله حمدا أستزيد به ... فضل الإلاه وأرجو منه رضوانا
وأستعين به في رد خاطئة ... من العراق أتت بغيا وعدوانا(9/197)
من جاهل عارض الحق المبين بها ... هذا به سفها تيها وطغيانا
قد عاب أهل الهدى من غير ما سبب ... وقام يعمر للإشراك بنيانا
فليس بالعلم المرضي مقالته ... ولا الأصيل ولا من نال إتقانا
قد فهت بالزور فيما قلت مجتريا ... لست الأمين ولكن كنت خوانا
من كان يصرف للمخلوق دعوته ... وكان يندب للأموات أحيانا
يدعوهموا باعتقاد منه أنهموا ... يفرجون عن المكروب أحزانا
هذا هو الشرك قد أعليت ذروته ... وسوف تصبح يوم الدين ندمانا
من كان يقصر آيات الكتاب على ... أسباب إنزالها قد نال خسرانا
فالاعتبار عموم اللفظ قال بذا ... من شاد للملة السمحاء أركانا
وليس ينكر أسبابا مؤثرة ... فالله خالقها سبحان مولانا
ومن يعطل للأسباب ينكرها ... قد خالف الشرع والمعقول طغيانا
والاعتماد على الأسباب منقصة ... لأنه من قسيم الشرك قد بانا
أما الخوارق للعادات فهي إذا ... لا تقتضي الفضل إطلاقا لمن كانا
هذا الذي قاله عبداللطيف إذا ... ولم يكن يمنع المشروع بل كانا
مستمسكا بصحيح النقل متبعا ... خير القرون الأولى دانوا بما دانا
يحمي طريق رسول الله عن شبه ... وعن ضلال بذا التأسيس أنبانا
عن ذاك أفصح مصباح له ولقد ... أعلى بذلك للتوحيد بنيانا
هذا جوابك يا هذا موازنة ... فالحر ما دين إنصافا به دانا (1)
__________
(1) علماء نجد (1/127).(9/198)
جمال الدين القاسمي (1) (1332 هـ)
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم أبو الفرج من سلالة الحسين السبط، عالم مشارك في أنواع العلوم، إمام الشام في عصره علما بالدين وتضلعا من فنون الأدب، مولده ووفاته في دمشق. كان سلفي العقيدة لا يقول بالتقليد، انتدبته الحكومة للرحلة وإلقاء الدروس العامة في القرى والبلاد السورية، فأقام في عمله هذا أربع سنوات، ثم رحل إلى مصر وزار المدينة، ولما عاد اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين، فقبضت عليه الحكومة وسألته فرد التهمة فأخلي سبيله واعتذر إليه والي دمشق، فانقطع في منزله للتصنيف، وإلقاء الدروس الخاصة والعامة في التفسير وعلوم الشريعة الإسلامية والأدب. ونشر بحوثا كثيرة في المجلات والصحف. ترك ثروة وافرة من تآليفه النافعة الكثيرة.
وافاه الأجل في الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
هذا الرجل كان من المصلحين الكبار، من الله عليه بالاطلاع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وظهر ذلك في تفسيره: 'محاسن التأويل'. وله بعض الهنات في الكتاب المنسوب إليه: 'تاريخ الجهمية'. وكذلك بعض عباراته في قواعد التحديث، كالثناء على ابن عربي المجمع على
__________
(1) الأعلام (2/135) ومعجم المؤلفين (3/157-158).(9/199)
زندقته، إلا من شذ، فلا عبرة به.
وله من الآثار السلفية:
1- 'إصلاح المساجد من البدع والعوائد'، وهو جيد في بابه، وقد طبع وانتفع به كثير من الناس.
2- 'محاسن التأويل' وهو مطبوع متداول، تكلمت عليه في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (1) .
3- 'دلائل التوحيد' وهو مطبوع كذلك.
من مواقفه:
- قال رحمه الله: الحمد لله الذي أمر بالدعوة إلى سبيله، وجعل الخير والفضل في قبيله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين.
أما بعد: فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين، وجب على كل مستطيع له، أن يقتحم لوجه الله سبله، خشية أن تعم البدعة وتفشو الضلالة، ويتسع الخرق وتشيع الجهالة، فتموت السنة ويندرس الهدي النبوي، ويمحى من الوجود معالم الصراط السوي، ولما أضحت البدع الفواشي، كالسحب الغواشي، يتعذر على البصير حصرها، وضبط أفرادها وسبرها، رأيت أن أدل بجزئي منها على كلياتها، وبنبذة منها على بقياتها، وذلك في البدع والعوائد،
__________
(1) 2/647-662).(9/200)
الفاشية في كثير من المساجد، لأني ابتليت كآبائي بإمامة بعض الجوامع في دمشق الشام، وبالقيام بالتدريس العام، فكنت أرى من أهم الواجبات إعلام الناس بما ألم بها من البدع والمنكرات، فإن القيم مسئول عن إصلاح من في معيته، وفي الحديث: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" (1) .اهـ (2)
- وقال: لا يخفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم حذروا قومهم من البدع ومحدثات الأمور، وأمروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور. وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع بما لا يرتفع معه الترك. (3)
- وقال: لا يخفى أن مدار العبادات إنما هو على المأثور في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى. ولكل مسلم الحق في إنكار كل عبادة لم ترد في الكتاب والسنة في ذاتها أو صورتها، فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه بأنه أكمل لنا ديننا وأتم علينا به نعمته، فكل من يزيد فيه شيئا فهو مردود عليه لأنه مخالف للآية الشريفة وللحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (4) .
وكل البدع التي منها حسن ومنها سيء فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ووسائله ومقاصده وهي المراد بحديث: "من سن سنة حسنة فله
__________
(1) أحمد (2/5) والبخاري (5/222/2554) ومسلم (3/1459/1829) وأبو داود (3/342-343/2928) والترمذي (4/180-181/1705) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) إصلاح المساجد (ص.7).
(3) إصلاح المساجد (ص10).
(4) تقدم في مواقف أبي بكر الخلال سنة (311هـ).(9/201)
أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" (1) ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ركعات الصلاة أو سجداتها (حققه بعض الفضلاء) والله أعلم. (2)
محمد بن قاسم آل غنيم (3) (1335 هـ)
محمد بن قاسم آل غنيم النجدي الزبيري. ولد في بلدة الزبير من أعمال العراق، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ عبدالله بن نفيسة النجدي الزبيري والشيخ صالح بن حمد المبيض والشيخ إبراهيم الغملاس وغيرهم. تعلم الطب ومهر فيه، وطالع كتب الأدب واشتغل به، ونشر العلم وألف المؤلفات. توفي رحمه الله سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف في بلدته الزبير.
موقفه من الرافضة:
له نظم رد فيه على أحد علماء الرافضة. (4)
محمد بن محمود بن عثمان الضالع (5) (1337 هـ)
محمد بن محمود بن عثمان الضالع القصيمي أصلا البغدادي مولدا ومنشأ. ولد في بغداد سنة تسع وخمسين ومائتين وألف، وقرأ القرآن، وأخذ شيئا من النحو على الشيخ بشير الغزي، وطالع كتب الفقه والتفسير وكتب
__________
(1) تقدم ضمن مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ).
(2) إصلاح المساجد (16-17).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/359-361).
(4) علماء نجد (6/360).
(5) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/380-383).(9/202)
شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وكان رحمه الله مجاهرا بعقيدته السلفية، نابذا لأهل البدع ومنكرا عليهم، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله في ذلك الردود القيمة.
توفي رحمه الله في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: وكان من المتحمسين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومن الدعاة إليها، يناظر فيها عن علم ممزوج بآداب المناظرة وحسن المجادلة، ولا يمنعه من المجاهرة بعقيدته وإنكاره مخالفة الناس له في ذلك، ونبذه الناس لانتحاله هذا المذهب لمناظرته فيه، ومطالعته كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم، وإنكاره الشديد على أهل البدع، ونسبوا كل من كان يحضر مجلسه إلى الوهابية، فكان يتحاشاه أكثر عارفيه خصوصا في عهد السلطان عبدالحميد، ومع هذا فإنه لم يزل مصرا على عقيدته ومجاهرته بآرائه، لم يثن عزمه لومة لائم ولا وشاية واش.
وله رسالة وجيزة في الرد على خطبة (المسيو جبرئيل هانوتو) التزم فيها السجع، وله قصيدة رد بها على المصريين، وسبب ذلك أن الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني مدح الشيخ محمد بن عبدالوهاب بقصيدة، فرد عليه الشيخ أبو بكر محمد بن غلبون المصري، فلما اطلع المترجم على الأصل وعلى رد أبي بكر بن غلبون رد عليه بقصيدة أولها:
سلام على من كان في قومه يهدي ... بأي مكان حل في الغور والنجد
ولاشك أن الأرض لا تخلو من فتى ...(9/203)
خلائقه ترضي وأفعاله تجدي
ومنها:
ألا خبروني أنتموا أو هموا ممن ... يداهن في الدين الحنيفي على عمد
يرى كل أقوال الذين تقدموا ... صوابا وإن كان الحلول بما يبدي
وتعظيمهم حتى غدا الدين هزأة ... لكل جحود فاقد العقل والرشد
بتكذيب رسل الله والكتب التي ... نهتنا عن الإشراك بالواحد الفرد
وهي طويلة. وله غيرها من القصائد. (1)
علي بن سليمان بن حلوة آل يوسف (2) (1337 هـ)
علي بن سليمان بن حلوة من آل يوسف الوهيبي التميمي نسبا، العنزي القصيمي أصلا، البغدادي مولدا وموطنا. ولد في بغداد ونشأ فيها، وقرأ على علماء بغداد منهم السيد محمود شكري الآلوسي. قال الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن درهم: العلامة ذو العقل الراجح والشهامة علي بن سليمان آل يوسف طلب العلم في بغداد على مشايخ كثر، وأدرك في كثير من الفنون إدراكا تاما، وقد رأيته واجتمعت به واستفدت منه في مدة إقامته عندنا ببلدنا قطر، وهو إذ ذاك في صحبة الشيخ يوسف آل إبراهيم في أيام قدومه على الشيخ المرحوم قاسم آل ثاني عام خمس عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، فرأيت رجلا لا يجارى فيما تكلم فيه من أي فن خصوصا في الأصول
__________
(1) علماء نجد (6/382-383).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/195-200).(9/204)
والعقائد، والتحقيق لعقيدة السلف والدعوة إليها والرد على من خالفها. له مؤلفات وردود تدل على سعة علمه، وتبنيه لعقيدة السلف.
توفي رحمه الله ببغداد في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'أربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة'.
2- 'قصيدة في الرد على أمين حنش البغدادي'.
3- 'قصيدة في الرد على النبهاني'. (1)
العلامة طاهر الجزائري (2) (1338 هـ)
طاهر بن محمد بن صالح بن أحمد بن موهب السمعوني الجزائري الأصل، الدمشقي المولد والنشأة دخل المدرسة الجقمقية وتخرج بالأستاذ عبدالرحمن البستاني، ثم اتصل بالعلامة الشيخ عبدالغني الغنيمي الميداني ولازمه إلى أن توفاه الله ثم أصبح فقيه المالكية بدمشق ومفتيها بالشام. كان مغرما باقتناء المخطوطات والبحث عنها، فساعد في إنشاء "دار الكتب الظاهرية" بدمشق و"المكتبة الخالدية" في القدس.
تحلق حول الشيخ طائفة من الشيوخ والعلماء النابعون كالشيخ جمال الدين القاسمي وعبدالرزاق البيطار وغيرهم، والتحق بهم نوابغ الشباب من
__________
(1) علماء نجد (5/196-197).
(2) الأعلام للزركلي (3/221-222) ومقدمة الجواهر الكلامية (ص.7-9).(9/205)
أمثال محب الدين الخطيب ورفيق العظم ومحمد سعيد الباني الذي ألف في ترجمة الشيخ 'تنوير البصائر بسيرة الشيخ طاهر'.
من مؤلفاته:
1- 'الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية'.
2- 'تنبيه الأذكياء في قصص الأنبياء'.
3- 'التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن'.
4- 'توجيه النظر إلى علم الأثر'.
وكلها طبعت.
5- 'الإلمام في السيرة النبوية'. وهو مخطوط.
6- 'التفسير الكبير' في أربع مجلدات. وهو مخطوط بالمكتبة الظاهرية.
وغيرها.
توفي رحمه الله بدمشق سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
قال تلميذه الشيخ سعيد الباني: كان يدعو المارقين إلى التدين، ولكن بالدين الذي تركنا عليه الشارع - صلى الله عليه وسلم - ، ونهج عليه سلف الأمة الصالح، ويتحاشى الجمود والتقليد الأعمى، ويرفض كل ما ألصق بالدين من الحرج والتنطع والحشود والبدع مما لا يلتئم مع الإسلامية السمحاء. (1)
موقفه من الرافضة:
__________
(1) مقدمة 'الجواهر الكلامية' للطاهر الجزائري (ص.8).(9/206)
س: من أفضل الأمم جميعا بعد الأنبياء عليهم السلام؟
ج: أفضل الأمم جميعا بعد الأنبياء هي الأمة المحمدية، وأفضلها الصحابة الكرام وهم الذين اجتمعوا بنبينا عليه الصلاة والسلام وآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأفضلهم الخلفاء الأربعة. (1)
موقفه من الصوفية:
س: هل يبلغ الولي درجة النبي، وهل يصل إلى حالة تسقط عنه التكاليف عندها؟
ج: لا يبلغ الولي درجة نبي من الأنبياء أصلا ولايصل العبد ما دام عاقلا بالغا إلى حيث يسقط عنه الأمر والنهي ويباح له ما شاء. ومن زعم ذلك كفر وكذلك يكفر من زعم أن للشريعة باطنا يخالف ظاهرها هو المراد بالحقيقة، فأول النصوص القطعية وحملها على غير ظواهرها. كمن زعم أن المراد بالملائكة القوى العقلية، وبالشياطين القوى الوهمية. (2)
موقفه من الجهمية:
جاء في الجواهر الكلامية:
س: ما المراد بالاستواء في قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5) (3) ؟
__________
(1) ص.80-81).
(2) ص.84-85).
(3) طه الآية (5).(9/207)
ج: المراد به استواء يليق بجلال الرحمن جل وعلا، فالاستواء معلوم والكيف مجهول. واستواؤه على العرش ليس كاستواء الإنسان على السفينة أو ظهر الدابة أو السرير مثلا، فمن تصور مثل ذلك فهو ممن غلب عليه الوهم لأنه شبه الخالق بالمخلوقات مع أنه قد ثبت في العقل والنقل أنه ليس كمثله شيء. فكما أن ذاته لا تشابه ذات شيء من المخلوقات كذلك ما ينسب إليه سبحانه لا يشابه شيئا مما ينسب إليها.
س: هل يضاف إلى الله سبحانه يدان أو أعين أو نحو ذلك؟
ج: قد ورد في الكتاب العزيز إضافة اليد إلى الله سبحانه في قوله جل شأنه: يَدُ { اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (1) واليدين في قوله سبحانه: قَالَ { يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) ، والأعين في قوله سبحانه: وَاصْبِرْ { لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (3) إلا أنه لا يجوز أن يضاف إليه إلا ما أضافه إلى نفسه في كتابه المنزل أو أضافه إليه نبيه المرسل.
س: ما المراد باليد هنا؟
__________
(1) الفتح الآية (10).
(2) ص الآية (75).
(3) الطور الآية (48).(9/208)
ج: المراد باليد هنا معنى يليق بجلاله سبحانه، وكذلك الأعين، فإن كل ما يضاف إليه سبحانه يكون غير مماثل لما يضاف إلى شيء من المخلوقات. ومن اعتقد أن له يدا كيد شيء منها أو عينا كذلك فهو ممن غلب عليه الوهم إذ شبه الله بخلقه وهو ليس كمثله شيء.
س: إلى من ينسب ما ذكرته في معنى الاستواء واليدين والأعين؟
ج: ينسب ذلك إلى جمهور السلف.
وأما الخلف فأكثرهم يفسرون الاستواء بالاستيلاء، واليد بالنعمة أو القدرة، والأعين بالحفظ والرعاية، وذلك لتوهم كثير منهم أنها إن لم تؤول وتصرف عن ظاهرها أوهمت التشبيه وقد اتفق الفريقان على أن المشبه ضال، وغيرهم يقولون إنما توهم التشبيه لولم يدل العقل والنقل على التنزيه، فمن شبه فمن نفسه أتي.
س: كيف نثبت شيئا ثم نقول: (الكيف فيه مجهول)؟
ج: هذا غير مستغرب فإنا نعلم أن نفوسنا متصفة بصفات كالعلم والقدرة والإرادة، مع أنا لانعلم كيفية قيام هذه الصفات بها، بل إنا نسمع ونبصر ولا نعلم كيفية حصول السمع والإبصار بل إننا نتكلم ولا نعلم كيف صدر منا الكلام. فإن علمنا شيئا من ذلك فقد غابت عنا أشياء، ومثل هذا لا يحصى.
فإذا كان هذا فيما يضاف إلينا فكيف الحال فيما يضاف إليه سبحانه. (1)
__________
(1) ص.23-26).(9/209)
عبدالله بن محمد بن عبداللطيف آل الشيخ (1) (1340 هـ)
عبدالله بن محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في الرياض، وتعلم بالمدينة ومصر وتونس، وساح في مراكش وجنوب آسيا والهند والأفغان وإيران والعراق. كان مرجع النجديين في أمور دينهم، وشارك في سياستهم وحروبهم، واشتهر بالكرم والدهاء، وكان مع آل سعود في هجرتهم إلى الكويت.
توفي رحمه الله بالرياض سنة أربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
- 'رسالة في الاتباع وحظر الغلو في الدين'. (2)
محمود شكري الآلوسي (3) (1342 هـ)
محمود شكري بن عبدالله بن شهاب الدين محمود الآلوسي الحسيني أبو المعالي، حفيد الآلوسي المفسر صاحب 'روح المعاني'، مؤرخ عالم بالأدب والدين من الدعاة إلى الإصلاح. ولد في رصافة بغداد سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، وأخذ العلم عن أبيه محمد وعمه وغيرهما. وتصدر للتدريس
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/457) والأعلام (4/99) ومعجم المؤلفين (6/126-127).
(2) الإعلام للزركلي (4/99. علماء نجد خلال ثمانية قرون 4/457).
(3) الأعلام (7/172-173) ومعجم المؤلفين (12/169-170).(9/210)
في داره وفي بعض المساجد وحمل على أهل البدع في الإسلام برسائل فعاداه كثيرون فسعوا إلى والي بغداد فكتب إلى السلطان عبدالحميد فصدر الأمر بنفيه إلى بلاد الأناضول فقام أعيانها وكتبوا إلى السلطان يحتجون فسمح له بالعودة إلى بغداد فلزم بيته عاكفا على التأليف والتدريس، عرض عليه قضاء بغداد فزهد فيه، ولم يل عملا بعد ذلك غير عضوية مجلس المعارف في بدء تأليف الحكومة العربية في بغداد. له مصنفات كثيرة نافعة.
توفي سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
- قال عنه تلميذه الشيخ بهجة الأثري: ولأستاذنا الآلوسي النصيب الأكبر احتسب حياته لخدمة الدين الإسلامي، وتطهيره من أوضار البدع والمحدثات، التي فتت في ساعده، وبذل في ذلك غاية جهده، فجاهد أهل الحشو ودعاة عبادة القبور جهاد الأبطال في ساحات القتال، فكان سيفا ماضيا في رقاب الحشويين والقبوريين. (1)
- وقال أيضا: جاهد السيد البدع والوثنيات، ودعا إلى التوحيد الذي هو أول ما كانت تدعو إليه الرسل، وبين ضرر تقليد الآباء والسير على آثارهم الغامضة، غير مدخر في جهاده ودعوته وسعا حتى كبح جماح الوثنيين وخفف من غلواء القبوريين أو كاد، فكان له من التأثير المحمود في قمع الضلال ما لا سبيل لأحد إلى إنكاره. (2)
__________
(1) أعلام العراق (ص.129-131) كما في مقدمة 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.95-96).
(2) المصدر نفسه (ص.96).(9/211)
- وقال في رده على النبهاني: إن كل ما ليس عليه أثارة من علم ليس بمقبول، وإن الاجتهاد ليس بنبوة حتى يقال إنه ختم بفلان وفلان، أما النبوة فقد دل نص الكتاب والسنة على ختمها. (1)
موقفه من المشركين:
لقد أجاد الشيخ رحمه الله في شرحه للمسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وهي رسالة جيدة في بابها، نذكر نماذج منها:
- قال في شرحه المسألة التاسعة عشرة: من خصالهم الاعتياض عن كتاب الله تعالى بكتب السحر.
قال: وهذه الخصلة الجاهلية موجودة اليوم في كثير من الناس، لا سيما من انتسب إلى الصالحين وهو عنهم بمراحل، فيتعاطى الأعمال السحرية من إمساك الحيات، وضرب السلاح، والدخول في النيران، وغير ذلك مما وردت الشريعة بإبطاله، فأعرضوا ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما ألقاه إليهم شياطينهم، وادعوا أن ذلك من الكرامات، مع أن الكرامة لا تصدر عن فاسق، ومن يتعاطى تلك الأعمال فسقهم ظاهر للعيان، ولذا اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وفي مثلهم قال تعالى: الَّذِينَ { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
__________
(1) غاية الأماني (1/64). انظر مقدمة 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.100).(9/212)
يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (1) .اهـ (2)
- وقال في المسألة الثانية والثلاثين: القول بالتعطيل كما كان يقوله آل فرعون. والتعطيل: إنكار أن يكون للعالم صانع، كما قال فرعون لقومه: مَا { عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ } غَيْرِي (3) ونحو ذلك. ولم يخل العالم عن مثل هذه الجهالات في كل عصر من العصور، وأبناء هذا الزمان إلا النادر على هذه العقيدة الباطلة، لو نظروا بعين الإنصاف والتدبر، لعلموا أن كل موجود في العالم يدل على خالقه وبارئه:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ومن أين للطبيعة إيجاد مثل هذه الدقائق التي نجدها في الآفاق والأنفس، وهي عديمة الشعور لا علم لها ولا فهم -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-. (4)
- وقال في المسألة الثانية والأربعين: الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام. قال تعالى في سورة النساء: يَا أَهْلَ { الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
__________
(1) الكهف الآية (104).
(2) ص.92-93).
(3) القصص الآية (38).
(4) ص.123).(9/213)
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } (1) . والغلو في المخلوق أعظم سبب لعبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة نسر وسواع ويغوث ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام. (2)
موقفه من الرافضة:
لقد جرد الشيخ قلمه للرد على الروافض ودحض شبههم في أكثر من كتاب منها:
1- 'السيوف المشرقة مختصر الصواعق المحرقة'.
2- 'المنحة الإلهية'.
3- 'سعادة الدارين في شرح الثقلين' ترجمه عن الفارسية لمؤلفه الشيخ عبدالعزيز ولي الله الدهلوي.
4- 'رجوم الشيطان'.
5- 'صب العذاب على من سب الأصحاب'.
- قال في مطلعه: لما انتشر بين الناس البدع والضلالات، وسرى الجهل
__________
(1) النساء الآية (171).
(2) ص.157).(9/214)
إلى سائر الجهات، أشاع الروافض رفضهم بين الناس، وأظهروا ما انطووا عليه من الخبث والدس والإلباس، فشمر عند ذلك علماء أهل السنة ساعد الجد والاجتهاد، لتطهير ما لوث به أهل الأهواء وجه الأرض من الفساد، فردوا عليهم في كتبهم أتم رد، وصدوهم عما ذهبوا إليه أكمل صد، بدلائل جلية، وبراهين قطعية. (1)
- وقال: والعجب كل العجب من رافضي ينتسب لأب؛ فإن من نظر إلى أحوال الروافض في المتعة في هذا الزمان لا يحتاج في حكمه عليهم بالزنا إلى شاهد ولا برهان؛ فإن المرأة الواحدة منهم تزني بعشرين رجلا في يوم وليلة، وتقول إنها متمتعة، وقد هيئت عندهم أسواق عديدة للمتعة توقف فيها النساء ولهن قوادون يأتون بالرجال إلى النساء، وبالنساء إلى الرجال، فيختارون ما يرضون، ويعينون أجرة الزنا، ويأخذون بأيديهن إلى لعنة الله تعالى وغضبه، فإذا خرجن من عندهم وقفن لآخرين، وهكذا. كما أخبر بذلك الثقات الذين دخلوا بلادهم، وإن جماعة نحو خمسة أو أقل أو أكثر يأتون إلى امرأة واحدة، فتقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا، ومن الضحى إلى الظهر في متعة هذا، ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا، ومن العصر إلى المغرب في متعة هذا، ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا، ومن العشاء إلى نصف الليل في متعة هذا، ومن نصف الليل إلى الصبح في متعة هذا، ويسمونها "المتعة الدورية"... (2)
__________
(1) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.227-228).
(2) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.239-240).(9/215)
- وقال في خاتمة رده في صب العذاب: فإن هؤلاء الأوغاد، ومنشأ الفتن والفساد أقل من أن تسود جوههم بمداد الأقلام، وأذل من أن يقابلوا بأسنة الألسنة وسهام الأرقام؛ فإنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، قد كوّروا العمائم، واتخذوا ذلك شبكة لصيد طير الولائم، كل منهم قد شمخ بأنف من الجهل طويل، واشمخرّ بخرطوم كخرطوم الفيل، واحتشى من قيح الخبث وقبح الأباطيل، على أن من "يسمع يخِل"، وغالب الرعاع اليوم كالأنعام بل هم أضل، يتبعون كل ناعق ويألفون كل ناهق.
ثم إن ما حرّرته في إبطال كلام الزائغين وأوهام الناكبين عن سبيل المؤمنين، كان في أقل مدة، من غير كلفة ولا عدة؛ فإن فسادهم باد في أول النظر، وكسادهم بيّن لدى كل ذي بصر؛ فإنهم لا فسحة للقول إلا الجدّ، ولا راحة للطبع إلا السرد.
وقد اقتصرت على رد ما ذكروه، ولم أتعرض في هذا المقام لسائر ما هَذَوا به وزوّروه، فقد قضي الوطر من إبطال جميع عقائدهم، وهدم أساس أصولهم وقواعدهم؛ فإن عادوا عدنا، وإن زادوا زدنا:
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة
وها أنا قائم على ساق العزم في ساحة المناظرة غير عاجز، ذو نية وبصيرة، يرجو الغداة نجاة فائز، واقف في ميدان البحث والمحاورة: هل من مبارز؟ إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز. وكيف لا وقد تكفل الله بنصرنا في قوله سبحانه: وَيَوْمَئِذٍ { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(9/216)
} (4) (1) . وبمن أبالي وقد قال تعالى: وَإِنَّ { جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (173) (2) مع أني اليوم أقل القوم، وكم فينا معاشر أهل الحق من بطل همام، ونحرير إمام، يشق بذهنه الشعر، ويثقب بثاقب فكره الدرر، كم أقعدوا المخالفين على عجز الإفحام، وألجموا المعاندين بلجام الإلزام.
ومن أين لفئة الضلال مثل هؤلاء الرجال؛ فإن كلا منهم "أحمق من ربيعة البكّاء"، ومن "ناطح الصخرة ولاعق الماء"، و"أخنث من هيت ودلال"، وأخبث ممن سارت بخبثه الأمثال، وقد زادوا بجهلهم على الحمير، وهذه آثارهم والبعرة تدل على البعير.
والحمد لله الذي صدقنا وعده، ونصر حزبه وجنده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى الآل والأصحاب ومن أخلص لهم وُدّه. (3)
موقفه من الصوفية:
- له من الآثار السلفية: 'غاية الأماني في الرد على النبهاني'، وقد طبع ووزع على نفقة بعض المحسنين. وكان أول محسن طبعه على نفقته الشيخ نصيف والشيخ عبدالقادر التلمساني خدمة للعقيدة السلفية.
- ومما قال فيه: وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة مبتدعة الرفاعية؛ فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها،
__________
(1) الروم الآية (4).
(2) الصافات الآية (173).
(3) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.530-533).(9/217)
فذكرهم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشايخهم، وأعمالهم عبارة عن مسك الحيات والعقارب ونحو ذلك. (1)
- قال رحمه الله في شرحه لكتاب المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب: المسألة السادسة والستون:
تعبدهم بالمكاء والتصدية. قال تعالى في سورة الأنفال: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } (35) (2) . تفسير هذه الآية: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ } الْبَيْتِ أي: المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله، فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا.
wخ) { } مُكَاءً أي: صفيرا. وَتَصْدِيَةً { } أي: تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت. والمراد بالصلاة إما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها، ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها، ولا معنى لها كصفير الطيور، وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد
__________
(1) غاية الأماني (1/370).
(2) الأنفال الآية (35).(9/218)
أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي يليق أن تقع عند البيت... والمقصود أن مثل هذه الأفعال لا تكون عبادة، بل من شعائر الجاهلية. فما يفعله اليوم بعض جهلة المسلمين في المساجد من المكاء والتصدية يزعمون أنهم يذكرون الله، فهو من قبيل فعل الجاهلية، وما أحسن ما يقول القائل فيهم:
أقال الله صفق لي وغن ... وقل كفرا وسم الكفر ذكرا
وقد جعل الشارع صوت الملاهي صوت الشيطان، قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ { مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } (64) (1) .اهـ (2)
موقفه من الجهمية:
قال في شرحه المسألة الخامسة والخمسين: تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية:
قال: كان أهل الجاهلية يلقبون من خرج عن دينهم بالصابئ، كما
__________
(1) الإسراء الآية (64).
(2) المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية (ص.214-216) باختصار.(9/219)
كانوا يسمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، كما ورد في عدة أحاديث من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما (1) ، تنفيرا للناس عن اتباع غير سبيلهم.
وهكذا تجد كثيرا من هذه الأمة يطلقون على من خالفهم في بدعهم وأهوائهم أسماء مكروهة للناس.
وأما الحشوية، فهم قوم كانوا يقولون بجواز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة، كالحروف في أوائل السور، وكذا قال بعضهم، وهم الذين قال فيهم الحسن البصري لما وجد قولهم ساقطا، وكانوا يجلسون في خلقته أمامه: "ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة"، أي: جانبها.
وخصوم السلفيين يرمونهم بهذا الاسم، تنفيرا للناس عن اتباعهم والأخذ بأقوالهم، حيث يقولون في المتشابه: لا يعلم تأويله إلا الله. وقد أخطأت استهم الحفرة، فالسلف لا يقولون بورود ما لا معنى له لا في الكتاب ولا في السنة، بل يقولون في الاستواء مثلا: "الاستواء غير مجهول،
والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر".
ولقد أطال الكلام في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، ولخص ذلك في كتابه 'جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن'.
ومن الناس من فرق بين مذهب السلف ومذهب الحشوية، بأن مذهب الحشوية ورود ما يتعذر التوصل إلى معناه المراد مطلقا، فالاستواء -مثلا- عندهم له معنى يتوصل إليه بمجرد سماعه كل من يعرف الموضوعات اللغوية،
__________
(1) البخاري (6/681-682/3522) ومسلم (4/1919-1922/2473) من حديث أبي ذر في قصة إسلامه رضي الله عنه.(9/220)
إلا أنه غير مراد، لأنه خلاف ما يقتضيه دليل العقل والنقل، ومعنى آخر يليق به -تعالى- لا يعلمه إلا هو -عز وجل-.
وكيف يكون مذهب السلف هو مذهب الحشوية، وقد رأى الحسن البصري الذي هو من أكابر السلف سقوط قول الحشوية، ولم يرض أن يقعد قائله تجاهه؟!.
والمقصود أن أهل الباطل من المبتدعة رموا أهل السنة والحديث بمثل هذا اللقب الخبيث. قال أبو محمد عبدالله بن قتيبة في 'تأويل مختلف الأحاديث': إن أصحاب البدع سموا أهل الحديث بالحشوية، والنابتة، والمتجبرة، والجبرية، وسموهم الغثاء، وهذه كلها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
موقفه من القدرية:
قال في المسألة الخامسة والثلاثين: جحود القدر، والاحتجاج به على الله تعالى ومعارضة شرع الله بقدر الله.
وهذه المسألة من غوامض مسائل الدين، والوقوف على سرها عسر إلا على من وفقه الله تعالى.
ولابن القيم كتاب جليل في هذا الباب سماه 'شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل'.
وقد أبطل الله سبحانه هذه العقيدة الجاهلية بقوله تعالى: سَيَقُولُ { الَّذِينَ
__________
(1) ص.188-191).(9/221)
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا wur آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (1) .
تفسير هذه الآية: سَيَقُولُ { الَّذِينَ } (#qن.uژُ°r&: حكاية لفن آخر من أباطيلهم.
ِqs9 { شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } : لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح، إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم، بل هم كما نطقت به الآيات يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، وأن التحريم إنما كان من الله عزوجل، فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى على أن المشيئة والإرادة تساوي
__________
(1) الأنعام الآيتان (148و149).(9/222)
الأمر، وتستلزم الرضى، كما زعمت المعتزلة، فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئته سبحانه وإرادته، فهو مشروع ومرضي عند الله تعالى.
وبعد أن حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم، رد عليهم بقوله عز من قائل: كَذَّبَ { الَّذِينَ مِنْ } َOخgد=ِ7s(9/223)
عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } ، أي: هل لكم من علم بأن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان؟
وهذا دليل على أن المشركين أمم استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك، لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث قرع مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى، فحين طالبوهم بالإسلام، والتزام الأحكام، احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العَيُّوق. (1)
bخ) { تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } اتحرب، أي: تكذبون على الله تعالى.
ِ@
è(9/224)
ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.
ومن الناس من ذكر وجها آخر في توجيه ما في الآية: وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلمون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك، فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال، فكذب الرسل، وأشرك بالله عزوجل، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة.
ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له تعالى لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعين.
والمقصود أن يمتحض وجه الرد عليهم، وتتلخص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم، وأن إقامتهم الحجة بذلك خاصة.
وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا لصدور الجبرية، وعجزها معجزا للمعتزلة، إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة لأهل السنة على المعتزلة، والحمد لله رب العالمين.(9/225)
ومنهم من وجه الآية: بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، على معنى أن الله تعالى شاء شركنا، وأراده منا، وأنتم تخالفون إرادته، حيث تدعونا إلى الإيمان، فوبخهم سبحانه وتعلى بوجوه عدة:
منها قوله سبحانه: فَلِلَّهِ { الْحُجَّةُ } èptَخ="t6ّ9$#، فإنه بتقدير الشرط، أي: إذا كان الأمر كما زعمتم فَلِلَّهِ { الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } .
وقوله سبحانه: ِِqn=sù { } شَاءَ بدلا منه على سبيل البيان، أي: لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه، لو كان الأمر كما تزعمون، لكان الإسلام أيضا بالمشيئة، فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام، كما وجب بزعمكم ألا يمنعكم الأنبياء عن الشرك، فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة، بل موافقة وموالاة.
وحاصله: أن ما خالف مذهبكم من النِّحل يجب أن يكون عندكم حقا، لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة.
وفي سورة النحل: وَقَالَ { الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ(9/226)
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (35) (1) .
الكلام على هذه الآية كالكلام على الآية السابقة، ولا تراهم يتشبثون إلا عند انخذال الحجة، ألا ترى كيف ختم بنحو آخر مجادلتهم في سورة الأنعام في الآية السابقة، وكذلك في سورة الزخرف وهو قوله تعالى: وَجَعَلُوا { الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (22) (2) .
ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ } èptَخ="t6ّ9$#،
__________
(1) النحل الآية (35).
(2) الزخرف الآيات (19-22).(9/227)
والمراد بما حرموه: السوائب والبحائر وغيرها.
وفي تخصيص الاشتراك والتحريم بالنفي، لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله: أي ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، فلو أنه سبحانه وتعالى شاء أن نوحده، ولا نشرك به شيئا، ونحلل ما أحله، ولا نحرم شيئا مما حرمنا، كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك، وتحليل ما أحله، وعدم تحريم شيء من ذلك، وحيث لم يكن كذلك، ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك، بل شاء ما نحن عليه، وتحقق أن ما يقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم.فرد الله تعالى عليهم بقوله: كَذَلِكَ { فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ } قَبْلِهِمْ من الأمم، أي: أشركوا بالله تعالى، وحرموا من دونه ما حرموا، وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق.
ِ@
ygsù { عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } اجخب، أي: ليست وظيفتهم إلا البلاغ للرسالة، الموضح طريق الحق، والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ { جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ(9/228)
سُبُلَنَا } (1) .
وأما إلجاؤهم إلى ذلك، وتنفيذ قولهم عليه شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم، ولا من الحكمة التي يتوقف عليها التكليف، حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لابد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية، وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله، وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين.
والكلام على هذه الآية ونحوها مستوفى في تفسير 'روح المعاني' (2) وغيره.
فجحود القدر، والاحتجاج به على الله، ومعارضة شرع الله بقدره، كل ذلك من ضلالات الجاهلية.
والمقصود أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، فمن زلت قدمه عن هذه الجادة كان على ما كان عليه أهل الجاهلية، وهي الطريقة التي رد عليها الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . (3)
__________
(1) العنكبوت الآية (69).
(2) 8/51-53).
(3) شرح المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ص.129-137).(9/229)
الشيخ بَابَ (1) (1342 هـ)
العلامة المحدث سيدي بن سيدي محمد، وقد اشتهر بلقبه باب ابن الشيخ سيدي، ويقال له الشيخ سيدي بَابَ، وكنيته أبو محمد ويرجع نسبه إلى قبيلة تَنْدَغ المرابطية. ولد عام سبع وسبعين ومائتين وألف في بلاده، ونشأ في بيئة علمية متدينة فهو من عائلة ذات شهرة دينية وعلمية كبيرة لها مكانة في المجتمع الموريتاني. حفظ القرآن الكريم قبل بلوغه عشر سنين، واشتغل بتحصيل العلم على كبار علماء بلاده، منهم: محمد بن السالم البوحسني، ومحمد بن حنبل بن الفال، وأحمد بن سليمان الديماني، وأحمد بن أزوين. درس السنة وجعلها نصب عينيه وعمل بها، عقيدة وشريعة وسلوكا.
كان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يبالي بما يصيبه في سبيله وقاد دعوة سلفية تهدف إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونبذ الجمود والتقليد.
قال سبطه محمد بن أبي مدين: محيي السنة ومجدد القرن الرابع عشر. وقال عنه أحمد بن أحمد المختار: العلامة المحقق الموحد، العالم المتبحر سيف الله المسلول على المبتدعين والمعطلين وأهل الخرافة أجمعين. وله عدة مؤلفات منها: 'إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين' و'أرجحية التفويض في آيات الصفات وأحاديثها' و'حكم الهجرة من البلاد المحتلة' و'بيان إعجاز القرآن' وغيرها.
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (282 وما بعدها).(9/230)
توفي رحمه الله تعالى في بلاده سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة عن عمر بلغ أربعة وستين عاما.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في منظومته:
كن للإله ذاكرا ... وأنكر المناكرا
وكن مع الحق الذي ... يرضاه منك دائرا
ولا تعد نافعا ... سواءه أو ضائرا
واسلك سبيل المصطفى ... ومت عليه سائرا
أما كفى أولنا؟ ... أليس يكفي الآخرا؟
وكن لقوم أحدثوا ... في أمره مهاجرا
قد موهوا بشبه ... واعتذروا معاذرا
وزعموا مزاعما ... وسودوا دفاترا
واحتنكوا أهل الفلا ... واحتنكوا الحواضرا
وأورثت أكابر ... بدعتها أصاغرا
واحكم بما قد أظهروا ... فما تلي السرائرا
وإن دعا مجادل ... في أمرهم إلى مرا
فلا تمار فيهم ... إلا مراء ظاهرا
- وقال أيضا:
آمن أخي واستقم ... ونهج أحمد التزم
واجتنب السبل لا ... تغررك أضغاث الحلم(9/231)
لا خير في دين لدى ... خير القرون منعدم
أحدثه من لم يرد ... نص بأنه عصم
من بعدما قد أنزلت ... اليوم أكملت لكم
وبعدما صح لدى ... جمع على غدير وخم
وادع إلى سبيله ... وخص في الناس وعم
واذكر إذا ما أعرضوا ... عليكم أنفسكم (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله:
ما أوهم التشبيه في آيات ... وفي أحاديث عن الثقات
فهي صفات وصف الرحمن ... بها وواجب بها الإيمان
ثم على ظاهرها نبقيها ... ونحذر التأويل والتشبيها
قال بذا الثلاثة القرون ... والخير باتباعهم مقرون
وهو الذي ينصره القرآن ... والسنن الصحاح والحسان
وكم رآه من إمام مرتضى ... من الخلائق بناظر الرضى
ومن أجاز منهم التأويلا ... لم ينكروا ذا المذهب الأصيلا
والحق أن من أصاب واحد ... لاسيما إن كان في العقائد
ووافق النص وإجماع السلف ... فكيف لا يتبع هذا من عرف
ومن تأول فقد تكلفا ... وغير ما له به علم قفا
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (295-296).(9/232)
وفي الذي هرب منه قد وقع ... وبعضهم عن قوله به رجع
حتى حكى في منعه الإجماعا ... وجعل اجتنابه اتباعا
وقد نماه بعض أهل العلم ... من الأكابر لحزب جهم
فاشدد يديك أيها المحق ... على الذي سمعت فهو الحق (1)
- وقال أيضا: وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، من الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار الذين ساروا على هذا المنهج، كالإمام مالك، والشافعي، والسفيانين، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم من الأئمة المتمسكين بهذا المذهب..
كلهم تلقوا آيات الصفات وأحاديثها بالقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، حيث كانوا يقولون: اقرأوها كما جاءت، بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، على حد قوله تعالى: م}ّٹs9 { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (2) .اهـ (3)
إسحاق بن حمد بن علي بن عتيق (4) (1343 هـ)
إسحاق بن حمد بن علي بن عتيق. ولد في رجب سنة سبع وثمانين
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (290-291).
(2) الشورى الآية (11).
(3) أعلام السلفية (ص.292).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/555-556).(9/233)
ومائتين وألف وقيل غير ذلك. نشأ نشأة علمية، حيث قرأ على والده العلامة الشيخ حمد وعلى أخيه الشيخ سعد. وله قصائد كثيرة، منها مراثي ومنها أمداح.
توفي رحمه الله سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له حاشية على كتاب التوحيد. (1)
وقد نظم شروط "لا إله إلا الله" وما يضادها، فقال:
لسبعة الشروط في الشهادة ... حتم علينا قبول ذي الإفادة
علم ينافي الجهل واليقين ... إذا نفى للشك يا فطين
كذا القبول إن نفى للرد ... والانقياد رابع في العد
وهو المنافي الشرك إخلاص الفتى ... إذا نفى للشرك فافهم يا فتى
والصدق أيضاً المنافي للكذب ... محبة تنفي لشد فاحتسب (2)
محمد عز الدين القسام (3) (1345 هـ)
محمد عز الدين بن عبدالقادر القسام ولد سنة ثلاثمائة وألف للهجرة بجبلة الأدهمية من أعمال اللاذقية بالشام.
رحل إلى الأزهر لطلب العلم وعمره أربعة عشر سنة. ثم رجع إلى قريته بعد أن تخرج من الأزهر وحمل شهادته سنة عشرين وثلاثمائة وألف
__________
(1) علماء نجد (1/555)
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/556).
(3) الأعلام (6/267-268) ومقدمة مشهور حسن سلمان لكتاب 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.114).(9/234)
للهجرة. فعمل إماماً وخطيبا بمسجد المنصوري بجبلة، وعين مدرسا في الجامع الكبير بجبلة جامع إبراهيم بن أدهم.
شارك في الجهاد ضد الفرنسيين الذين احتلوا بلاده فحكموا عليه بالإعدام وطاردوه، ثم رحل إلى فلسطين واستقل في ضاحية "الياجور" قرب "حيفا"، فأصبح خطيبا ومدرسا بجامع الاستقلال الذي سهر على جمع التبرعات لبنائه وأنشأ مدرسة ليلية لتعليم الأميين العرب ومن خلالها بث فكرة الجهاد في نفوس الناس ثم أسس جمعية لذلك وجمع التبرعات ودرّب من انضمّ إليه تدريبا عسكريا بعد أن هيّأه دينيّاً للجهاد في سبيل الله.
ثم بعد أسبوعين من مهاجمة قوات الاحتلال الإنجليزي للمتظاهرين العرب في القدس أعلن الجهاد فتوجّه بالمجاهدين إلى جبال جنين فهاجمهم الإنجليز، فتوفي رحمه الله في تلك المعركة جعله الله من الشهداء الأبرار وذلك يوم الأربعاء لأربع وعشرين خلون من شهر شعبان عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
ألف بالاشتراك مع محمد كامل القصاب رسالة ماتعة في ردّ بدعة الجهر بالذكر في تشييع الجنازة وضمّناها رد الكثير من البدع: كإحياء ذكرى المولد النبوي، وإحياء ليلة النصف من شعبان بصلوات وأذكار مخصوصة، وبدعة التوحيش وهي أناشيد توديع رمضان التي تقام إذا بقي من رمضان أيام قليلة من طرف المؤذنين بعد سلام الإمام من الوتر.(9/235)
- قال في مطلعه: أما بعد؛ فقد اطلعنا على رسالة 'فصل الخطاب في الرد على الزنكلوني والقسام والقصاب' تأليف الفاضل الشيخ محمد صبحي خزيران الحنفي العكي، رئيس كتاب المحمكة الشرعية في ثغر "عكاء"، وقد ألفها انتصارا لأستاذه الفاضل الشيخ عبدالله الجزار مفتي عكاء وقاضيها؛ إذ قد أفتى أحدنا لما سئل عن حكم الصياح في التهليل والتكبير وغيرهما أمام الجنائز، بأنه مكروه تحريما، وبدعة قبيحة، يجب على علماء المسلمين إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، مستدلا بآية قرآنية، وحديث صحيح، وأقوال الفقهاء. (1)
- قال في 'النقد والبيان' (2) عن الاحتفال بالمولد النبوي: إن الاحتفال بقراءة قصة المولد النبوي ليست سنة الخلفاء الراشدين، فيُعضّ عليها بالنواجذ، ولا فعلها أحد من أهل القرون الثلاثة الفاضلة، التي هي خير القرون الإسلامية، بشهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أحدثها الملك المظفّر التركماني الجنس، صاحب إربل، ثم صارت عادة متبعة وسنة مبتدعة وشعارا دينينا.
- وقال عن بدعة رفع الصوت بالذكر في تشييع الجنائز: ..يتعين على كل قادر على إزالة هذه البدعة أن يزيلها، وإلا فهو آثم وشريك لصاحبها ويجب على كل عالم أن ينكرها.. (3)
موقفه من المشركين:
__________
(1) ضمن 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.4).
(2) ضمن 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.117-118).
(3) المصدر نفسه (ص.144).(9/236)
- جاء في كتاب: 'عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين' (1) لمحمد حسن شراب: إن عز الدين القسام حارب حج النساء إلى مقام الخَضِر بجبال "الكرمل" قرب "حيفا" لتقديم النذور وذبح القرابين للشفاء من المرض أو نجاح في مدرسة، وكُنّ يرقصن حول المقام الموهوم فدعا الناس إلى أن يتوجهوا بنذورهم وأضاحيهم إلى الله تعالى فقط لأنه وحده هو القادر على الضر والنفع. (2)
- ومن مواقفه التي تحفظ له في مواجهة المستعمر الإنجليزي أنه باع بيته ليشتري به السلاح لحرب الكافر المعتدي.
عبدالله بن علي بن محمد بن حميد (3) (1346 هـ)
عبدالله بن علي بن محمد بن عبدالله بن حميد بن غانم من آل أبي غنام، وجده هو صاحب السحب الوابلة. ولد في عنيزة سنة اثنتان وتسعين ومائتين وألف للهجرة، وتوفي جده وله أربع سنين، وتوفي والده وله أربع عشرة سنة. نشأ المترجَم في بيت علم وفضل، وقرأ على علماء مكة كالشيخ شعيب المغربي والشيخ أحمد بن عيسى والشيخ عبدالله بن علي بن عمرو. وأخذ عن الشيخ عبدالله القدومي والشيخ محمد سعيد بابصيل والشيخ صالح العثمان آل قاضي وغيرهم.
قال فيه الشيخ زكريا بن عبدالله: عالم فاضل ناسك عرفته يواظب على
__________
(1) ص.172-173).
(2) نقلا عن 'السلفيون' (ص.9-10).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/338-343) والأعلام (4/108).(9/237)
الصلاة في المسجد الحرام. تولى إفتاء الحنابلة بمكة المكرمة، ثم عزل، ثم أعيد. له من التلاميذ الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الصنيع والشيخ سليمان بن محمد ابن شبل والشيخ محمد بن سليمان الفريح الأشيقري والشيخ عبدالله بن سليمان التركي وغيرهم.
توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة في الطائف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: 'شرح مختصر على عقيدة السفاريني'. (1)
سليمان بن سَحْمَان (2) (1349 هـ)
الشيخ سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان العالم المصنف واللسان المدافع عن الدعوة السلفية. ولد بقرية السقا سنة ثمان وستين ومائتين وألف، فنشأ فيها وقرأ على والده الذي كان من حفاظ القرآن ثم بالرياض على الشيخ عبدالرحمن بن حسن وابنه العلامة عبداللطيف، فلازم دروسهما وجد واجتهد حتى صلب عوده في العلم وقوي عضده في النضال. واعتدل قلمه في الكتابة واستقام لسانه في الإنشاء.
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: بلغ في العلوم مبلغا حتى صار منارا يهتدى به، إماما هماما، شهما مقداما، أصوليا مجتهدا، متبحرا كثير
__________
(1) علماء نجد (4/341)
(2) علماء نجد (1/279-281) والأعلام (3/126) ومعجم المؤلفين (4/264) والدرر السنية (12/87-93).(9/238)
التصانيف، كشف جميع شبه المشبهين نظما ونثرا، حتى أدحض حججهم وأرغم أنوفهم، منارا يهتدى به، أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، قام في رد الشبه مقاما فاق به أهل وقته، فثبته الله وسدده، وأدحض به الباطل وأخمده. وله مصنفات كثيرة في توضيح الدعوة السلفية.
توفي بالرياض سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: جرد قلمه للرد على هؤلاء المغرضين -يعني أعداء الدعوة السلفية- ولسانه برائع الشعر على المارقين، فصار يكيل لهم الصاع صاعين بقوة الكلام، وسطوع الحجة وصحة البرهان، فيدحض أقوالهم، ويرد شبههم، ويوهن حجتهم، كما يرميهم بشهب من قصائده الطنانة، وأشعاره الرنانة، وقوافيه المحكمة، وأبياته الرصينة، وبهذا فهو ذو القلمين، وصاحب الصناعتين، وقلّما اجتمع النثر والشعر لواحد إلاّ لنوابغ الكُتّاب وأصحاب الأقلام، فصار لسان هذه الدعوة، ومحامي هذه الملة، فكان من هذه الردود القاطعة، والحجج الدامغة هذه المؤلفات الساطعة (1) ، نذكر منها:
1- 'الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد'.
2- 'الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية'.
3- 'كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام'.
__________
(1) 2/401).(9/239)
4- 'الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق'.
5- 'كشف شبهات البغدادي في تحليله ذبائح الصليب وكفار البوادي'.
6- 'إقامة الدليل والمحجة'.
7- 'تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين'.
8- 'تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعي باليماني شرف'.
9- 'منهاج أهل الحق والاتباع'. (1)
وكتب هذا الشيخ أغلبها مطبوعة، ولعلنا نقف على حقيقتها كلها فنصفها ونعطيها ما تستحقه من الوصف العلمي.
موقفه من الجهمية:
له مؤلفات عظيمة أفردها رحمه الله في الرد على الجهمية سواء منها الجهمية الغابرة أو جهمية أهل زمانه، من هذه المؤلفات:
1- 'كشف الأوهام والالتباس عن تلبيس بعض الأغبياء من الناس'، بين فيها إجماع أهل السنة النبوية على تكفير الجهمية، وهي عبارة عن رد على حسين بن حسن آل الشيخ في ادعائه أن لأهل السنة في تكفير الجهمية قولين.
2- 'منظومة منظمة الشيخ سليمان بن سحمان في الرد على من أنكر على الإخوان تكفير جهمية أهل هذا الزمان'. وهي كسابقتها.
__________
(1) علماء نجد (2/402).(9/240)
3- 'تمييز الصدق من المين في محاورة الرجلين'. وهو كسابقيه.
وقد آثرنا الإشارة إلى ذلك فقط دون إسهاب وتطويل، ومن شاء التفصيل فليرجع إلى الرسائل المشار إليها آنفا، فسوف يجد فيها بغيته بإذن الله.
سعد بن حمد بن عَتِيق (1) (1349 هـ)
سعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق. ولد في بلدة الحلوة سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ونشأ فيها فقرأ على والده، فلما أدرك في التوحيد والتفسير والحديث والفقه والنحو رغب في الزيادة فسافر إلى الهند فقرأ على أعلامها كالشيخ صديق حسن خان والشيخ نذير حسين الدهلوي والشيخ شريف حسين وغيرهم. ثم عاد بعد تسع سنين إلى مكة في موسم الحج فالتقى بالشيخ شعيب الدكالي المغربي وآخرين، وبانكبابه على القراءة والاستفادة من هؤلاء العلماء الكبار بلغ في العلم مبلغا كبيرا وصار في عداد كبار العلماء.
قال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم: وبرع حتى أدرك من العلوم حظا وافرا، وفاق أهل زمانه محصولا، وسمق حتى كان حجة حافظا، وكان كامل العقل، شديد التثبت، حسن السمت، حسن الخلق، له اليد الطولى في الأصول والفروع، تام المعرفة في الحديث ورجاله، وكان من العلماء العاملين، واشتهر ذكره في العالمين، وأثنت عليه ألسن الناطقين.
توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف.
__________
(1) علماء نجد (1/266-269) والأعلام (3/84) ومعجم المؤلفين (4/211) والدرر السنية (12/93-96).(9/241)
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: وصار من عداد كبار العلماء المشار إليهم بالبنان كما ورث عن والده الغيرة الشديدة في الدين، والصلابة في العقيدة. فاشتهر بسعة العلم والتقى والصلاح، وجد واجتهد في نشر الدعوة السلفية، حتى نفع الله باجتهاده وبركة دعوته خلقا كثيرا.
له من الآثار السلفية:
'عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية'. يوجد مخطوطا في جامعة سعود.
جمعت كتاباته وفتاواه في كتاب سمي: 'المجموع المفيد من رسائل وفتاوى الشيخ سعد بن حمد بن عتيق'. (1)
أبو بكر خُوقِير (2) (1349 هـ)
أبو بكر بن محمد عارف بن عبدالقادر المكي مولدا وسكنا ووفاة، عين مفتيا للحنابلة، ثم اشتغل بالاتجار في الكتب، ثم عين مدرسا بالحرم المكي في العهد السعودي، واستمر إلى أن توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار:
1- 'ما لا بد منه في أمور الدين' وهو عبارة عن أسئلة وأجوبة في
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/221).
(2) الأعلام (2/70) ومعجم المؤلفين (3/73).(9/242)
العقيدة يشبه النهج المدرسي، وهو مطبوع.
2- 'فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال'.
3- 'التحقيق في الطريق' مطبوع وفيه بعض الخلط.
4- 'تحرير الكلام عن سؤال الهندي في صفة الكلام'. (1)
ناصر بن سعود بن عبدالعزيز شويمي (2) (1349 هـ)
الشيخ ناصر بن سعود بن عبدالعزيز بن إبراهيم بن عيسى شويمي. ولد في بلده شقراء في حدود سنة خمس وثمانين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ فيها وأخذ عن علمائها وأشهرهم الشيخ القاضي علي بن عبدالله بن عيسى والشيخ أحمد بن عيسى والشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ سعد بن عتيق وغيرهم. رحل إلى الرياض والحجاز وصنعاء والشام والعراق فأخذ فيها عن العلامة محمود شكري الآلوسي وعن غيره من علماء بغداد. كان رحمه الله واسع الاطلاع في كل العلوم من توحيد وتفسير وحديث وفقه وغيرها، وكانت له اليد الطولى في اللغة وأشعار العرب. جلس للتدريس في جامع شقراء وولي إمامته وخطابته. أخذ عنه الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز الحصين والشيخ عبدالله أبا بطين والشيخ إبراهيم الهويش والشيخ عبدالرحمن ابن علي بن عودان قاضي عنيزة وغيرهم. عرض عليه القضاء فرفض، واستمر على نشر العلم إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف وقيل خمسين وثلاثمائة وألف للهجرة رحمه الله.
__________
(1) ذكرها الزركلي في الاعلام (2/70).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/458-464).(9/243)
موقفه من المشركين:
له قصيدة رد بها على أمين بن حنش العراقي وشيخه داود بن جرجيس وهي تزيد على أربعين بيتا، منها:
واضرب بصمصامة الشعر القوي أخا ... جهل لئيم الخيم خوانا
أمين ابن الذي يدعونه حنشا ... من اكتسى من ثياب الزيغ ألوانا
فظل يمدح جهلا من سفاهته ... ذا الكفر والجهل داود بن سلمانا
هلا مدحت الذي شاعت فضائله ... وشاد للملة البيضاء أركانا
حبر الزمان ومحيي كل ما اندثرت ... من سنة المصطفى فعلا وتبيانا
عبداللطيف الذي ألقت أزمتها ... كل العلوم إلى يمناه إذعانا (1)
عبدالله السنوسي (2) (1350 هـ)
عبدالله بن إدريس بن محمد بن أحمد السنوسي، أبو سالم، العالم الأثري، الفاسي نزيل طنجة. من قبيلة بني سنوس بالبربر من كومية، وتعرف قديما بصطفورة. أخذ عن والده أبي العلاء إدريس وأبي عيسى محمد المهدي ابن سودة والقاضي حميد بناني ومحمد نذير حسين الدهلوي وأبي الفضل جعفر الكتاني وأبي عبدالله محمد بن عبدالرحمن العلوي وغيرهم كثير. وأجازه جماعة. وله تلاميذ كثر من أبرزهم عبدالله كنون وعبدالحفيظ الفاسي.
رحل مرات إلى الشرق فحج، واستوطن دمشق الشام، ودرس في كل
__________
(1) علماء نجد (6/464).
(2) معجم الشيوخ أو رياض الجنة لتلميذه عبدالحفيظ الفاسي (2/81-96).(9/244)
بلد وأفاد، وهرع الناس للرواية عنه.
قال عنه تلميذه عبدالحفيظ الفاسي: العالم العلامة المحدث الأثري السلفي الرحالة المعمر... وقال عنه العلامة محمد تقي الدين الهلالي في مقال له بمجلة دعوة الحق المغربية (1) : العالم السلفي المحدث المحقق. وقال عنه الشيخ عبدالرحمن النتيفي (2) : وكان رحمه الله سلفي المذهب. (3)
استقر آخر حياته بطنجة معلما ومدرسا إلى أن توفي بها رحمه الله في أربع وعشرين من جمادى الأولى سنة خمسين وثلاثمائة وألف. بعد ما عمر نحو تسعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
- قال عبدالحفيظ الفاسي: ولما حج شيخنا أبو سالم عبدالله بن إدريس السنوسي ورجع إلى المغرب محدثا بما تحمله عمن لقي من أهل الحديث والأثر؛ كمحمد نذير حسين الهندي المحدث الأثري المشهور وأضرابه، ووفد على السلطان المقدس المولى الحسن رحمه الله تعالى قربه وأدناه وأمره بحضور مجالسه الحديثية؛ فأعلن بمحضره وجوب الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الآراء والأقيسة، ونصر مذهب السلف في العقائد، واشتد الجدال بينه وبين من كان يحضر من العلماء في ذلك المجلس، كل فريق يؤيد مذهبه ومعتقده، إلا أن السلطان لم يكن يعمل بأقوال العلماء فيه ككونه معتزليا،
__________
(1) ص.54) العدد 2-3 سنة 1398هـ/1978م.
(2) ستأتي مواقف النتيفي سنة (1385هـ).
(3) مقدمة نظر الأكياس (ص.20).(9/245)
وخارجيا، وبدعيا؛ بل كان في الحقيقة ناصرا له بما كان يخصه به من العطايا والصلات، زيادة على سهمه معهم في جوائزه المعتادة، وبسبب تعضيد السلطان له بعطاياه ثابر على مذهبه طول حياته؛ فنشره في كافة أنحاء المغرب، وتلقاه عنه كثير من مستقلي الأفكار منذ أوائل هذا القرن إلى أن توفي منتصفه رحمه الله تعالى حسبما استوفينا الكلام على ذلك في ترجمته من المعجم (1) ، هكذا تقلب هذا المذهب في المغرب، وهو اليوم شائع منصور بفضل القائمين به، وتأييده بالأدلة الصحيحة وسيزداد اليوم ظهورا. (2)
- وقال: كان رحمه الله عالما مشاركا، محدثا ملازما لتلاوة القرآن الكريم، حسن النطق به، دؤوبا على نشر الحديث وتدريسه، سلفي العقيدة، أثري المذهب، عاملا بظاهر الكتاب والسنة، نابذا لما سواهما من الآراء والفروع المستنبطة، منفرا من التقليد، متظاهرا بمذهبه، قائما بنصرته، داعيا إليه، مجاهرا بذلك على الرؤوس، لا يهاب فيه ذا سلطة، شديدا على خصمائه من العلماء الجامدين وعلى المبتدعة والمتصوفة الكاذبين، مقرعا لهم، مسفها أحلامهم، مبطلا آراءهم، مبالغا في تقريعهم، لم يرجع عن ذلك منذ اعتقده ولا جل (3) من عزمه كثرة معاداتهم له. (4)
وقال محمد السائح: وكان أثريا سلفيا.. فصدع بوجوب إصلاح
__________
(1) ص.81 ج 2) وهو رياض الجنة وسيأتي النقل منه.
(2) الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات (ص.301-302).
(3) جل هنا بمعنى صغر وهو من الأضداد.
(4) رياض الجنة (2/82).(9/246)
العقيدة وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالسلفية، فثار في وجهه علماء فاس ورشقوه لسهام الانتقاد عن يد واحدة. (1) وقال عنه عبدالله كنون: ..ففي الصنف الرابع وهو المتمسك بالسنة اعتقادا وعملا، وقد قلنا إنه شخص واحد وذلك -فيما أدركنا وما رأينا- وإن كان هناك غيره فإن هذا الشخص هو الذي كان له الظهور والشهرة عند الخاص والعام، ونعني به الشيخ الجليل السيد عبدالله بن إدريس السنوسي الفاسي، فهذا الرجل كان قد وصل إلى المشرق وجال في أقطاره وأخذ من أعلامه، وعاد جبلا راسخا في العلم بالسنة والتمكن من المذهب السلفي، ونبذ التقليد، والجهر بالدعوة إلى توحيد الألوهية، ومحاربة البدع والضلالات والطرقية، والتعلق بالقبور والأموات. ثم قال: ولم يفتأ ينشر الدعوة إلى السنة ويندد بالجمود والابتداع. (2)
موقفه من الصوفية:
وأما اتهامه بإنكار الولاية والكرامات؛ فمعاذ الله أن يصدر منه ذلك؛ وإنما هو من مفترياتهم، إلا أنه ينكر على المدعين الذين جعلوا التصوف حبالا وشباكا يصطادون بها أموال الناس، ويدعون المقامات العالية كذبا وزورا، ويبشرون من أخذ عنهم بفضائل وأجور تغنيهم عن تحمل أعباء العبادات والعزائم الشرعية.
موقفه من الجهمية:
__________
(1) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39).
(2) مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8).(9/247)
- قال عبدالحفيظ الفاسي في معرض ذكره الكتب التي درسها عليه: (قرأت كتاب 'الرد على الجهمية' لشيخ أهل السنة ومقتداهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وكتاب 'الأدب المفرد' للبخاري إلا يسيرا من آخره، وكذلك 'العلو' للذهبي؛ وهو كتاب حفيل عجيب..). (1)
- وقال عبدالحفيظ وهو يذكر بعض المجالس التي حضرها السنوسي بعد رجوعه إلى فاس مع جمع من أعيانها وعلمائها بحضرة السلطان الحسن الأول رحمه الله: فأعلن في ذلك الجمع بما تحمله في الشرق عن شيوخه الأعلام من الرجوع إلى الكتاب والسنة والعمل بهما دون الأقيسة والآراء والفروع المستنبطة، ومن رفض التأويل في آيات وأحاديث الصفات والمتشابهات، وإبقائها على ظاهرها كما وردت، ورد علم المراد بها إلى الله تعالى مع اعتقاد التنزيه كما كان عليه سلف الأمة. وغير ذلك من المسائل. فقام بينه وبين أولئك العلماء خلاف كبير من أجل ذلك، وتناظروا في مجلس السلطان، ولمزوه بالاعتزال والتمذهب بعقائد أهل البدع والأهواء وإنكار الولاية والكرامات، وألف فيه بعضهم المؤلفات المحشوة بالسب والسخافات، الخارجة عن الأدب، مع لمزه بنزغة الاعتزال، ونقل ما قال الناس في المعتزلة والخوارج، وما طعنوا به من الأقوال البعيدة عن الإنصاف في الإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى. (2) اهـ (3)
__________
(1) رياض الجنة (2/95).
(2) رياض الجنة (2/84-85).
(3) وقد انبرى للرد على تلك الرسالة الشيخ عبدالرحمن النتيفي في كتابه 'نظر الأكياس'.(9/248)
- وقال أيضا: ولازمته مدة إقامته بفاس، وتمكنت الرابطة بيني وبينه، وأدركت عنده منزلة عظيمة؛ لما كان يرى من حرصي على سماع الحديث وروايته؛ فأجازني إجازة عامة وهو ضنين بها، ولقد طلب منه بعض إخوة مولاي عبدالعزيز الإجازة فامتنع، وكان يقول لي: أنت عندي بمنزلة الولد، وبسبب هذا الاتصال أمكن لي أن أحقق كل ما نسب إليه من الاعتزال والبدع والأهواء؛ فوجدته مباينا للمعتزلة في كل شيء، وبريئا من كل ما نسب إليه؛ بل عقيدته سالمة، على أن ما خالف فيه الفقهاء من الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ التأويل في آيات الصفات شيء لم يبتكره ولا اختص به من دون سائر الناس؛ بل ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأيمة المجتهدين ومن بعدهم من الهداة المهتدين.
محمد بن عثمان الشاوي (1) (1354 هـ)
محمد بن عثمان بن محمد بن عبدالله الشاوي، من آل عثمان. ولد في بلدة البكيرية سنة ثلاث وثلاثمائة وألف للهجرة، وكف بصره منذ صغره. رحل إلى بريدة فأخذ عن الشيخ عبدالله بن محمد بن سليم، ثم إلى الرياض فقرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ عبدالله بن راشد، والشيخ سعد بن عتيق والشيخ عبدالله العنقري وغيرهم. عين قاضيا في قرية سنام، وعمره عشرون سنة، ومنها إلى بلدة الغطغط. حضر غزوات كثيرة أشهرها معركة تربة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف، وفتح مكة سنة ثلاث وأربعين
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/275-286) والأعلام (6/263).(9/249)
وثلاثمائة وألف. عين مدرسا في المعهد العلمي السعودي بمكة، ثم تولى القضاء في بلدة تربة، ثم قضاء شقراء.
أخذ عنه الفقيه عبدالعزيز بن سبيل والشيخ سليمان بن راشد الحديثي والشيخ عبدالله بن يوسف الوابل والشيخ عبدالعزيز الخضيري وغيرهم. وكان رحمه الله شاعرا مجيدا، له قصائد دافع فيها عن التوحيد وعن العقيدة السلفية.
توفي رحمه الله في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
جاء في علماء نجد: أنه -بعد أن استولت الجيوش السعودية على الحجاز- قام بتصحيح العقائد وتوضيح خالص التوحيد ومحاربة البدع التي رسخت في العالم الإسلامية، ومنه الحرمين الشريفين فنفع الله به.
كما ناضل الشعراء وأصحاب المقالات الذين يؤيدون تلك الأمور المنافية لصفاء التوحيد. فكانت مقالاته وقصائده في الصحف المحلية هي اللسان المدافع في ذلك. (1)
موقفه من الجهمية:
له قصائد جيدة نافح بها عن الشريعة والعقيدة السلفية السليمة وصادم كبار الشعراء منها:
فيا من هو القدوس لا رب غيره ... تباركت أنت الله للخلق مرجع
ويا من على العرش استوى فوق خلقه ... تباركت تعطي من تشاء وتمنع
__________
(1) علماء نجد (6/282..285).(9/250)
بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى ... توسل عبد بائس يتضرع
عبدالسلام السرغيني (1) (1354 هـ)
عبدالسلام بن محمد السرغيني، أصله من قبيلة "السراغنة" بالمغرب الأقصى، استوطن فاسا، فقيه مطلع. من شيوخه أحمد بن الخياط وأحمد بن الجلالي الأمغاري وأحمد بن المامون البلغيتي ومحمد فتحا القادري ومحمد فتحا كنون وحماد الصنهاجي عبدالسلام بناني. كان مدرسا بالمدرسة الثانوية بفاس، وله دروس حافلة بالقرويين، عين قاضيا في قبيلته السراغنة، وبقي هناك إلى أن توفي بها.
له كتاب 'المسامرة'، وهو كما قال عنه شيخنا تقي الدين الهلالي: "في الدعوة لإقامة السنة ومحاربة البدع". وقال عن مؤلفه: "فقيد السلفية والدعوة للإصلاح الديني العلامة عبدالسلام السرغيني برد الله ثراه". (2)
وقال عنه محمد الفاسي: "إن تاريخ الحركة الوطنية -بل الفكرة الوطنية نفسها- يرجع الفضل في بثها ونشرها إلى شيخ الإسلام ابن العربي ومن كان معه من بعض العلماء السلفيين كشيخنا السيد عبدالسلام السرغيني رحمه الله وكثيرا ممن تتلمذوا لابن العربي، كانوا أيضا في نفس الوقت تلاميذ للسيد عبدالسلام السرغيني، وقد لاقت هذه لرحكة أيضا مقاومة شديدة من طرق القبوريين وكان أقطاب السياسة الأهلية من رجال الحماية يساندون الجامدين
__________
(1) سل النصال للنضال لعبدالسلام بن عبد القادر بن سودة (ص.77).
(2) مقدمة خطبة السلطان سليمان العلوي (ص.8).(9/251)
ويضطهدون بشتى الوسائل دعاة الإصلاح". (1)
توفي رحمه الله يوم الاثنين الخامس والعشرين من شوال عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له كتاب 'المسامرة' وهو عبارة عن محاضرة ألقاها بنادي المسامرة بالمدرسة العليا الإدريسية بفاس، قال في مستهله:
- الحمد لله الذي أنزل القرآن نورا يهتدى به في ظلمات الجهل الداجن وصراطا مستقيما من سلكه اهتدى لأقوم المحاج. وأرسل سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما نزل إليهم من كتابه السراج الوهاج.
و - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله السالكين باتباع سنته أقوم منهاج، القامعين لأهل البدع والضلال باللسان والسيف والسنان في الأفراد والأزواج.
أما بعد أيها السادات الكرام إنني ملق إليكم بكلمات طالما اختلج بها الضمير، ولم يكن يمكن عنها باللسان التعبير، وما جرأني على ارتكاب ذلك، وإن كنت لست ممن يقرع تلك الأبواب ولا من يسلك تلك المسالك؛ إلا أني لم أر أحدا من السادة الذين سامروا قبلي تكلم عليها ولا أشار إليها، مع أنها هي التي ينبغي أن تقدم، وتقصد وتؤم؛ إذ ما من مكلف مكلف إلا ويجب عليه أن يتمسك بالسنة ويعض عليها بالنواجذ، ويجتنب البدع ويفر من أهلها ولا فراره ممن يقصد من مقاتله المنافذ؛ وذلك لأن ارتكاب البدعة
__________
(1) مجلة دعوة الحق العدد 8 سنة 1959م (ص.19).(9/252)
أعظم من ارتكاب المعصية؛ لأن المعصية وإن عظمت قد يتوب منها صاحبها، والبدعة لا يتوب منها صاحبها لاعتقاده أنها مطلوبة فهي أحب إلى الشيطان من المعصية... (1)
- وقال أيضا: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف له من أهل السنة، وإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم. قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (2) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا.
فالمبتدع معاند للشارع ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة ووجوها خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. فالمبتدع راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر؛ ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا
__________
(1) المسامرة (ص.2-3).
(2) المائدة الآية (3).(9/253)
ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع؛ أنه علم ما لم يعلمه الشارع؛ وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال بَيِّنٌ. وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية، فكتب إليه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق. فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور أقوى وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي. (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله في مكايد الشيطان لبعض الناس: فمن أعظم مكايده التي كاد بها جل الناس، ولم يسلم منها إلا من لم يرد الله فتنته؛ ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، إلى أن عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح عليه السلام، كما أخبر الله تعالى في كتابه حيث يقول: قَالَ { نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
__________
(1) المسامرة (ص.8-10).(9/254)
وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ } وَوَلَدُهُ الآية (1) . قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون بعدهم؛ دب إليهم إبليس اللعين فقال: إنهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. وهذا كان سبب عبادة اللات والعزى؛ وذلك أن رجلا كان يلث السويق للحاج ويطعمهم، ومات فعكفوا على قبره وعبدوه؛ وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، وهي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الصالح الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، ويقولون: قبر فلان الترياق المجرب لقضاء الحوائج؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس
__________
(1) نوح الآية (21).(9/255)
وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصدوها كما قصده المشركون سدا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخذها مساجد، وبناء المساجد عليها. فقد تواثرت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. (1)
- وقال رحمه الله أيضا: وقد زاد الأمر بهذه الحضرة كغيرها، حتى وصل الحال إلى الشرك بالله قولا واعتقادا، لا سيما طائفة النساء، فقد رأينا وسمعنا من ذلك ما ينفطر له كل قلب دخله الإيمان، فمهما مرض لهم إنسان أو أصابه محذور؛ ذهبوا إلى الشواف أو الشوافة، وسألوه عن المريض وما به، ويزعمون أنهم يعلمون الغيب!! فما أخبر به من سبب الداء وطرق الدواء اعتقدوا ذلك صحيحا، فتارة يقول لهم: إن الذي أصابه: سيدي حموا وشفاؤه في لبسه ثوبه الخاص به من الألوان، وتارة مولى الغابة، ولا بد له من ثوب خاص، أو موسى أو ميرة، أو غير ذلك من مفترياتهم الباطلة، فيعتقد
__________
(1) المسامرة (ص.17-19).(9/256)
ذلك المريض أنه لابد له من ذلك الثوب الخاص فمهما بلي لابد له من خلفه وإلا حل به البلاء والمرض.
وتارة يقول لهم: لابد له من الليلة، فيجمعون طائفة العبيد ويرقصون له على طبولهم، ولا تسأل عما يقع في ذلك من المناكر التي لا يرضاها من له أدنى مسكة من عقل، فضلا عمن له غيرة على حريمه، فيعتقد ذلك المريض أن شفاءه في ذلك، فيفعل ذلك، رغما عما يلزمه من الخسائر الدينية والدنيوية. وصار شبه النساء من الرجال يعتقدون ذلك ويفعلونه، بل ربما فعل ذلك بعض من ينسب إلى العلم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذا الاعتقاد الفاسد لم تعتقده اليهود ولا النصارى، ولا المجوس ولا ملة من الملل فيما علمنا وبلغنا. وهذا غاية الحمق والسفه فضلا عن الشرك بالله الفاعل بالاختيار الذي لا يعلم الغيب سواه، ولا يبري من الأمراض والأدواء إلا إياه: وَإِنْ { يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (17) (1) .اهـ (2)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله: فمن المناكر الشنيعة التي يندى لها وجه الدين ويتبرأ منها الإسلام وسائر المسلمين؛ اختلاط النساء بالرجال، والرقص على الشبابة
__________
(1) الأنعام الآية (17).
(2) المسامرة (ص.37-39).(9/257)
والطار والغربال، من الشيوخ والكهول والنساء والأطفال، ويسمون ذلك التخبط وذلك الجنون بالحال. فترى منهم من يشدخ رأسه بالشواقر، ومنهم من يجعل النار في ثوبه أو فيه، ومنهم من يأكل الشوك أو الزجاج، ومنهم ومنهم إلى غير ذلك من أفعالهم الوحشية البهيمية.
وقد كنت يوما من أيام مواسمهم مارا إلى المدرسة بطالعة هذه الحضرة الفاسية، فرأيت جمعا منهم على هذا الحال الشنيعة، فخرج من بينهم وحش إلى وسطهم ورمى بكورة من حديد إلى أعلى ولقيها برأسه، فسقطت على أم رأسه فخرج دماغه من أنفه وسقط إلى الأرض، فغطوه وقالوا: إنه غلبه الحال!! والواقع أنه ليس هناك حال، وإنما ذهب التعس المجنون ضحية جهله، وفريسة فعله، فكان الأحمق قاتل نفسه. فأنشدكم الله معشر المسلمين؛ هل مثل هذه الهمجية الوحشية يكون من دين الإسلام؟! حتى صار من لا يعرف حقيقة الإسلام يسمي تلك المناكر بالعوائد الدينية، كلا ومعاذ الله أن يكون لدين الصلاة والصيام والذكر والقيام عوائد شيطانية، بل دين الإسلام برئ من هذه المناكر وأهلها، ومن هم منسوبون إليه بريء منهم ومن أفعالهم. (1)
السلطان عبدالحفيظ بن الحسن (2) (1356 هـ)
عبدالحفيظ بن الحسن بن محمد الحسني العلوي، أبو المواهب: سلطان المغرب الأقصى، ولد بفاس، ونشأ في قبيلة بني عامر في الجنوب الغربي من
__________
(1) المسامرة (ص.22-23).
(2) الأعلام (3/277) ومعجم المؤلفين (5/89).(9/258)
مراكش، تولى السلطنة سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة. وخلع نفسه سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وكان فقيها أديبا.
توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار: 'كشف القناع عن اعتقاد طوائف الابتداع'. طبع قديما بفاس على الحجر وبالمطبعة المولوية بفاس سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وهو عبارة عن رد على الطائفة التجانية في زمانه، وقد تجنت هذه الطائفة على هذا الكتاب؛ فتجندت لتتبعه وشرائه من الأسواق ثم إحراقه، ولكن نجى الله منه بعض النسخ؛ فهي لا تزال إلى الآن، كما توجد منه نسخة في المكتبة الملكية بالرباط، وأخرى في مكتبة باريز.
ذكر فيه مقدمة حافلة في الحث على الاتباع وذم الرأي والابتداع، قال رحمه الله: إنما يلتمس رضى الله بكلامه وفروضه وسنة نبيه، لا يلتمس بالبدع وقول الزور على الله ورسوله، والزيادة في الدين ما ليس منه. أبهذا يلتمس رضى الله تعالى ونبيه؟ لا يلتمس بهذا أبدا. (1)
موقفه من المشركين:
- قال: وقد قلت في شدة لرجل يوما يستغيث ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني: قل يا الله؛ فقد قال سبحانه: وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
__________
(1) كشف القناع (ص.46).(9/259)
دَعَانِ } (1) فغضب، وبلغني أنه قال: إن فلانا منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان.اهـ (2)
- وقال: وقد صح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار" (3) إلخ، ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يطلب من سيد العالمين عليه الصلاة والسلام أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله عنهما شيئا، وهم أكرم من ضمته البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة. (4)
موقفه من الصوفية:
- قال في كشف القناع وهو يتكلم عن صلاة الفاتح عند التيجانيين: ومن زعمهم الفاسد أيضا أن صلاة الفاتح خصنا الله بها كما خصنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنها تسمو على كل العبادات، ومن أين للقائل أن صلاة الفاتح خصنا الله بها؟ فإن كان يريد اللفظ العربي فلا مزية لها على غيرها من الصلوات
__________
(1) البقرة الآية (186).
(2) كشف القناع (ص.54).
(3) أخرجه: أحمد (5/353) ومسلم (2/671/975) والنسائي (4/399/2039) وابن ماجه (1/494/1547) عن بريدة رضي الله عنه.
(4) كشف القناع (ص.56-57).(9/260)
المخترعات، وإن أراد خصوصية شرعية فلا يجد لذلك سبيلا -ولو قولا(9/261)
شاذا- وهل الخصوصية تقبل من مدعيها بلا نص؟ هَذَا { بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (17) (1) . وَذَكِّرْ { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } (55) (2) قال:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
وعلى فرض تسليم أنها خصوصية فهل تجعل مقارنة لخصوصية النبي لنا، على أننا لا خصوصية لنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهو مرسل للعالمين جميعا إنسيهم وجنيهم يهوديهم ونصرانيهم، فَمَنْ { شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (3) . وَاللَّهُ { يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (25) (4) . وَلَوْ { شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } (5) .
__________
(1) النور الآيتان (16و17).
(2) الذاريات الآية (55).
(3) الكهف الآية (29).
(4) يونس الآية (25).
(5) يونس الآية (99).(9/262)
فمقالة هذا الرجل تؤذن بعدم عموم الرسالة، وهذا كفر صراح نعوذ بالله، وتؤذن باستواء الفاتح والنبي، وإن أراد بالخصوصية كونه من العرب فمسلمة، ولكن لانسبة بينهما وبين الفاتح ولا خصوصية للفاتح. وقولهم إنها تسمو على كل العبادات (ال) في العبادات للاستغراق ورفع إيهام الجنسية في ضمن فرد، والاستغراق العرفي بقولهم (كل). فثبت الاستغراق الحقيقي بجميع الأفراد،(9/263)
ويلزم عليه أنها أفضل من القرآن والحج؛ لأنهما عبادة ومن الصلوات الخمس ومن الجهاد ومن سائر العلوم الشرعية فقها وحديثا وتفسيرا وتوحيدا وغير ذلك وهذا كفر صراح، إذ كلام الله بالنسبة لكلام الخلق كنسبة الله من الخلق، وأما غيره مما سردناه فلا يشك أحمق فضلا عن عاقل أن ثواب الواجب أعظم وأفضل. وفي الحديث: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه" (1) . وإن قيل مراده الأذكار، أقول: قال عليه السلام: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله" (2) . وكلام النبي من المخلوقات بمنزلة النبي منهم فهل صلاة مخترعة تعدل بهذا كله؟
كزعمهم الفاسد في التصلية التي يسمونها بجوهرة الكمال، وفيها ما يوهم نقصا في النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ وهو قوله: "الأسقم"؛ إذ هو اسم تفضيل من السقم، وقد نص الفقهاء على أن من قال قولاً يوهم نقصاً في النبي يكفر إجماعاً. وكذلك من قال قولاً يتضمن مخالفته - صلى الله عليه وسلم - ، انظر الدردير وغيره. ما لهم لم يقولوا "الأقوم" أَثَقُل على ألسنتهم؟ أم قصدوا الاستغراق في المتشابه؟ فَأَمَّا { الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
__________
(1) أخرجه: البخاري (11/414/6502) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه: الترمذي (5/534/3585) وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" وله شاهد من حديث طلحة ابن عبيدالله بن كريز أخرجه مالك (1/422-423/246) وهو مرسل صحيح. انظر الصحيحة (1503).(9/264)
} (1) على أن ذلك في كتاب الله لا في المخلوقات، وأما كلام المخلوقات فما يوهم نقصا فيه، مما يؤدي لإهانة النبي كفر، إِنَّ { الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } (57) (2) .
ومن زعمهم الفاسد أن سيدي أحمد التيجاني ممد لمن مضى قبله ومن يأتي بعده. و(من) مِن صيغ العموم كما هو معلوم؛ فيدخل النبي وأصحابه وأهل القرون المشهود لهم بالخير، فانظر رحمك الله هذا الحمق الفادح كيف يمد رجل في القرن الثالث العشر أهل القرن الأول؛ أتهوّرٌ؟ أم كفرٌ؟ أم سكرٌ؟ وكيف يمد من بعده وهو ميت انقطع عمله عن الدنيا بالكلية، وحتى الثلاث المستثناة أو العشر فكلها راجعة لكسبه المتقدم في الدنيا؛ إذ لا يوجد فيها ما فعله بعد مماته، أما ما يقرأ عليه أو يتصدق به فليس من عمله، وفيه خلاف بين العلماء منشؤه قوله تعالى: وَأَنْ { لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } (39) (3) ، قال الله تعالى: فَوَيْلٌ { لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (79) (4) ، قال:
__________
(1) آل عمران الآية (7).
(2) الأحزاب الآية (57).
(3) النجم الآية (39).
(4) البقرة الآية (79).(9/265)
وما من كاتب إلا سيبلى فلا تكتب بكفك غير شيءٍ ... ويُبقي الدهرُ ما كتبت يداهُ يسرك يوم القيامة أن تراهُ
ـ=tGُ3çGy™ { شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } (19) (1) .
ومن زعمهم الفاسد أن المواظب على تلك الصلاة ينال الخير الرابح، وأقول: الخير كله في اتباع كلام الله وكلام رسوله، وما استنبطه العلماء رحمهم الله، أما الأمر بالمواظبة على الفاتح؛ فإني لا أرى داعي له؛ فإن كان يريد به الدين النصيحة؛ فالنصيحة أن يرشدهم إلى الفقه والحديث وكلام الله وتعلم الضروري من علوم الدين، وإن كان يريد أنه حصل هذا ولم يبق له إلا العمل، فالنصيحة أن يرشدهم إلى تلاوة كتاب الله؛ فإن الحرف منه بعشر حسنات بفهم وبغير فهم، وإن قال: "هذا من باب التدلي -على زعمهم- ليصل إلى الترقي" فأقول: يرشدهم إلى ما ورد في الحديث من الاستغفار وسبحان الله بحمده، وغير ذلك، وإن أرادوا خصوص الصلاة عليه -عليه السلام- فما أحسن الوارد، كيف وقد قالوا: (كيف نصلي عليك يا رسول الله؟) قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" (2) على أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلموا أحداً تدلياً ولا ترقياً، بالمعنى المصطلح عند القوم، وإنما علّموا كتاب الله وأحكامه.
__________
(1) الزخرف الآية (19).
(2) أخرجه: مالك (4/772) (فتح البر) وأحمد (4/118)و(5/273-274) ومسلم (1/305/405) وأبو داود (1/600/980) والنسائي (3/52-54/1284-1285) والترمذي (5/334-335/3220) من حديث أبي مسعود الأنصاري.(9/266)
ومن زعمهم الفاسد الشنيع المتعارف بينهم نشر ثوب وسطهم، حال التصلية، أسمعت، أو علمت، أو روي لك، شيخ من أصحاب الحديث، أم جاء في كتاب الله، أو استنبط من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ قارئ القرآن ينشر أمامه ثوبا ليقرأ عليه فضلا عن قارئ الفاتح، ألهذا مزية وفضل استوجب به هذا، وما بلغ مداه القرآن والحديث فحرُما، إلا أن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وما بلغنا عنه هذا ونظائره إِنْ { هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } (4) (1) نزل الوحي ونطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث القدسي والنبوي ولم ينشر أمامه الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أحد من أصحابه ثوباً.
قيل: إن ذلك معدٌّ عندهم لجلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أيضا، أصار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبة يأتي لكل حلقة بدعة مشتملة على مناكر كالرقص، ويجلس وسط القوم على خرقة، أرضي بالبدعة فأتى؟ حاشاه، أم صار فُرجة يُجعل في الوسط والناس محدقة به؟ حاشاه، فلو أُمر مقدمهم بالجلوس على تلك الرقعة لأبى وتكبر، أهذا تعظيم أم إهانة؟. وقد علمت أن الصحابة تشاجروا في أحكام وتخالفوا، فما قال أحدهم: أتاني رسول الله وقال لي كذا، وقد تخاصمت بنته الصديقة مولاتنا فاطمة الزهراء مع أبي بكر في مسألة الميراث، ولم يقل لها أبو بكر: سيأتي عندي رسول الله ويقول كذا، ولا أجابته هي رضي الله عنها
__________
(1) الفرقان الآية (4).(9/267)
بذلك، أبخِل عليها وجاد عليكم؟ وانظر يوم موته عليه الصلاة والسلام لما دخلت عليه وهي تبكي فسرّها بأنها أول من يلحق به فضحكت، فهلا قال لها: إنني سآتيك في منزلك؟ وما نقل عن أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عثمان يوم الوقعة، وكفّ الأصحاب عما عزموا عليه، ولا ولا، أترى أن هؤلاء أفضل من أولئك أم هؤلاء على الحق وأولئك على غيره؟ حاشاه. (1)
- وقال: وقول السبكي: "ومن ثم لا حكم إلا لله" هو وإن كان بصدد الرد على المعتزلة، فيه أيضا رد على من يزعم أن أحكام الله تعالى تدرك بطريق الكشف والفراسة أيضا ورؤيا المنام من غير استناد لشيء من أدلة الفقه الشرعية المقررة، كيف والله تعالى يقول: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ } فَخُذُوهُ (2) الآية. ويقول: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ } نِعْمَتِي (3) الآية. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تركتكم على الحنيفية البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك" (4) . "فمن رغب عن سنتي فليس مني" (5) .اهـ (6)
__________
(1) كشف القناع (19-23).
(2) الحشر الآية (7).
(3) المائدة الآية (3).
(4) أخرجه: أحمد (4/126) وأبو داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/16/43) والحاكم (1/96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.
(5) أخرجه: البخاري (9/129/5063) ومسلم (2/1020/1401) والنسائي (6/368-369/3217) من طريقين عن أنس رضي الله عنه.
(6) كشف القناع (46-47).(9/268)
أبو شعيب الدكّاليّ (1356 هـ)
اسمه أبو شعيب بن عبدالرحمن الصديقي. وكان يكتب أحيانا بخطه: "شعيب بن عبدالرحمن المغربي" (1) ، كنيته أبو مدين. ولد سنة خمس وتسعين ومائتين وألف للهجرة.
من أشهر شيوخه بالمغرب: عمه محمد بن عبدالعزيز الصديقي، وابن عزوز محمد الطاهر الصديقي قاضي مراكش، وعبدالرحمن بن الفقيه الصديقي، ومحمد بن المعاشي (حفظ عليه القراءات السبع). وبمصر: سليم البشري، ومحمد بخيت، ومحمد محمود الشنقيطي، وغيرهم.
ومن أشهر تلاميذه: محمد بن العربي العلويّ، وعبدالحفيظ الفاسيّ، ومحمد السايح، وعبدالله كنون، والمكي بن أحمد بربيش، ومحمد المكي الناصري المفسر.
رحل إلى القاهرة سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة ومكث بها نحو ست سنوات، ثم رحل إلى مكة فأقام بها مدة، وكان رجوعه لفاس سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. ولاّه أمير مكة الشريف عون الرفيق الخطابة في الحرم المكي والإفتاء على المذاهب الأربعة وذلك حينما أقام هناك.
كما درس أيضا بجامع الأزهر بمصر، والزيتونة بتونس.
عُيّن قاضياً بمراكش ووزيراً للعدليّة والمعارف فيما بعد، ثم رئيساً
__________
(1) كما في إجازته لعبدالسلام بن عبدالقادر بن سودة، انظر: سل النصال للنضال (ص.83).(9/269)
للاستيناف الشرعيّ، ومع هذه الأشغال كان لا يترك التدريس.
قال عنه عبدالسلام بن سودة: الشيخ الإمام علم الأعلام، المحدّث المفسّر الرّاوية على طريق أيمة الاجتهاد، آخر الحفاظ بالديار المغربية ومحدثها ومفسرها من غير منازع ولا معارض، وهو آخر من رأينا بل وأول من رأينا على طريق الحفاظ المتقدمين الذين بلغنا وصفهم بالحفظ والإتقان والاستحضار، ولولا رؤيته وحضور دروسه لدخلنا الشك في وصف من تقدم قبله.. (1)
وقال عبدالحفيظ الفاسي: أوحد علماء عصره وأشهر علماء المغرب في وقته، من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، إمام في علوم الحديث والسنة... متظاهر بالعمل بالحديث والتمذهب به قولاً وعملاً داعية إليه ناصر له... (2)
توفي ليلة السبت الثامن جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال عبدالله الجراري: ففي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة قدم إلى المغرب ويمم فاس، وحظي بالتجلة والإكرام عند السلطان المرحوم المولى عبدالحفيظ، وقد حصل له من الشفوف والحظوة لديه ما عزّ نظيره، وتهافت عليه علماء فاس وطلبتها وأعيانها، وأقبلوا عليه باعتناء كبير،
__________
(1) سلّ النصال (ص.82).
(2) رياض الجنة (2/142).(9/270)
في هذا الظرف شمّر عن ساعد الجدّ لمحاربة البدع ونصر السنة، ومقاومة الخرافات والأباطيل. (1)
- وقال: كان ينادي بردّ الناس إلى الكتاب والسنة، ويحضّهم على اتباع مذهب السلف الصالح ونبذ ما يؤدّي إلى الخلاف وما ينشأ عنه من الحيرة والدوران في منعرجات الطرق، لأن الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتاً؛ هو طريق السنة والكتاب. (2)
- وقال: فكان الشيخ الدكالي -طيب الله ثراه- يحمل حملات شعواء رافعاً مشعل المقاومة ذائداً في إخلاص وإيمان عن الحنيفية السمحة صابراً على ما وجه إليه من معارضة المتطرفين من أهل الزوايا. (3)
- ومن نماذج انتصاره للسنة وتحرره من التعصب المذهبي أن علماء فاس طلبوا من السلطان عبدالحفيظ أن يسدل الشيخ يديه في الصلاة، فقال الأمير للشيخ: العلماء طلبوا مني أن تسدل، فأجابه بقوله: أطلب منك أن تطلب منهم أن يطلبوا منك أن عسكرك يصلي. ومسألة السدل والقبض تعد من المسائل المفروغ منها والمؤلف فيها تآليف ما بين محبذ للأول ورادّ للثاني والعكس، والمعوّل عليه في السنة هو القبض الذي وردت في شأنه أحاديث وثبتت طرقها -التي أنافت على الثلاثين طريقاً- في غير ما مسند من المساند فلا أطيل بجلبها.
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.9-10).
(2) المحدث الحافظ (ص.80).
(3) المحدث الحافظ (ص.14).(9/271)
ومما ذكره لنا الشيخ الدكالي في أحد مجالسه الحديثية أن طالباً طرح عليه سؤالاً في الموضوع قائلاً: إن السدل وارد في السنة، أجابه الشيخ قائلاً: إن وجدت السدل في السنة فسأكافئك على ذلك، وللحين ذهب الطالب للبحث في كتب السنة يتصفح أبوابها، وبينما هو كذلك إذ فاجأه باب نصه (باب السدل)، وعن عجل طوى الكتاب وأسرع يريد الشيخ، وبعد الاتصال به ذكر له أن السدل موجود وهاهو ذا في الكتاب، فقال له: اقرأ عليّ ففتح الكتاب وأخذ يقرأ، فإذا بلفظ النص (باب سدل الثوب) وسُقِطَ في يد الطالب الذي ذهب حلمه أدراج الرياح. (1)
- وقال الجراري أيضاً: وسلفيّته الصالحة المشبعة بأفكاره التحررية، وآرائه المنطقية التي كونت منه رجل المقاومة لكل ما يمت بسبب إلى الشعوذة والشعبذة، وما كان يبدو من بعض الطوائف من غلوّ وانحراف عن الجادّة، مما قد يبرأ منه الشيخ المنتسب إليه، ذلك وأكثر ما حفز الاستعمار الغاشم لعزله عن الوظيفة كانتقام من حريته المطبوعة، ورغم ذلك فما زاده العزل إلا تفرغاً لأداء الرسالة التي تحملها منذ شبابه الأول، فكان من فينة لأخرى ينتقل من بلد لآخر، ومن مدينة لقرية يبث الوعي واليقظة، وينشر السلفيّة الداعية إلى التحرر والانعتاق من بوائق التقليد الأعمى، ورواسب التحجّر والجمود اللذين بليت بدائهما الفتان فترات وفترات، عشنا لحظات مريرة من مساوئها حتى كان بعض علمائنا رحمهم الله كَعُمي لا تكاد تتفتح عيونهم على آي
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.33-34).(9/272)
الكتاب وبيان السنة، ولا عجب وقد حالت بينهم وبين الأصلين خرافات وأفكار ودعوات مغرضة أن لا ينظر فيهما بمنظار البحث والكشف عن أسرار من شأنها البعث على التنوير والتحرر من ربقة الجهل والضيق، ومع كل العراقيل التي كانت تنصب أمامه؛ مانعة له وصارفة إياه عما جبل عليه، أو خلق من أجله، فكل ميسّر لما خلق له؛ كان يجهد نفسه ويقف موقف المؤمن الصادق في أداء رسالته المقدسة مما كانت له نهضة مباركة عمّت المغرب وأطرافه مدناً وقرى. (1)
- وقال: كانت دروس الشيخ فتحاً جديداً، ونوراً مبيناً أزال كل السدود المانعة من فهم الكتاب المقدس فهماً صحيحاً، وبالتالي أزاح عن الأذهان جميع ما كان يدور في قرارتها من أوهام وخرافات: إننا لا نقدر على الخوض في أحاديث الرسول وآثاره فراراً من الوقوع في التحريف واللحن وكل ما يدعو للافتراء والكذب، إنها لأفكار هي إلى التحجر والجمود أمسّ منها بالتفتح والانطلاق، ولكن جهاد الشيخ وثباته في الدعوة إلى الله بنشر السنة، ودراسة الكتاب رغم مضايقات ومضايقات، رفعت جميع تلك الخيالات، وانفسح المجال للفكر يعمل في طهارة ونضج، متحرراً من قيود الأوهام، وخيالات الأحلام التي كانت طاغية على بعض العقول المثقفة. (2)
- قال عبدالحفيظ الفاسي: عارف بأصول الدين الصحيحة الخالية من
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.82).
(2) المحدث الحافظ (ص.102).(9/273)
البدع والعقائد الزائغة، شديد على المدعين قامع لأهل الأهواء والمبتدعين، سيف الله القاطع على رقابهم. (1)
- وقال الرحالي الفاروقي: فقد كان هذا الشيخ رحمه الله علماً من أعلام المغرب الشاهقة، وفذاً من الأفذاذ الذين يفتخر بهم في ميادين المعرفة والإصلاح، وفي خدمة الكتاب والسنة ورفع رايتهما ونشر معانيهما وإقامة أحكامهما، بل كان يعتبر من الرعيل الأول في المغرب الذين أخذوا على أنفسهم إحياء العقيدة السلفية وبعث الروح الإسلامية الصحيحة في النفوس باعتماد وحي الكتاب العزيز ووحي سنة الذي لا ينطق عن الهوى، ونبذ ما سوى ذلك من الأقوال الموهومة والعقائد المشبوهة والخرافات المدسوسة التي أخرت سير المسلمين وشوهت سمعة الإسلام...
وكان ينادي في كثير من دروسه باعتبار المعرفة الصحيحة أساساً للحضارة الإسلامية واعتبار العقيدة السلفية التي جاء به الكتاب والسنة حصناً من الأمراض الوثنية، وكان رحمه الله حربا على البدعة لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ويحمل حملات عنيفة ضد العقيدة المخلوطة بالشك والشرك، ويوصي بترك الزيارة التي تفضي إلى إفساد العقيدة وإبطال الركن الأول من أركان الإسلام، كما كان رحمه الله يوحي إلى العامة بقراءة توحيد ابن أبي زيد القيرواني. (2)
- وقال عبدالله كنون: قام الشيخ أبو شعيب الدكالي بدعوته التي كان
__________
(1) رياض الجنة (2/142).
(2) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي في رحاب مدينة مراكش الفيحاء لمحمد رياض (ص.51-52).(9/274)
لها غايتان شريفتان: الأولى إحياء علم الحديث ونشره على نطاق واسع، لما كان فيه من رسوخ القدم، وقوة العارضة، والمشاركة في علومه، والحفظ والإتقان... والثانية -وهي بيت القصيد- الأخذ بالسنة والعلم بها في العقائد والعبادات؛ فقد جهر في ذلك بدعوة الحق، ودل على النهج القويم، والصراط المستقيم، بالبرهان الساطع والحجة الناصعة، وندد بالخرافات والأوهام، وأطاح بالدعاوي الباطلة والأقوال الواهية، وبين وجه الصواب في كل مسألة مسألة من مسائل الخلاف الفقهي، وأقنع خصوم الدعوة قبل أنصارها بما لم يجدوا فيه دفعا ولا له ردا، وهكذا حدث تحول كبير في مفهوم الاجتهاد والتقليد بالنسبة إلى أدلة الفقه، وتخفف العلماء من التقيد بالنصوص المذهبية، ومالوا إلى الترجيح والعمل بالسنة عند ثبوتها ونبذ ما خالفها. وكذلك ضعف الاعتقاد في المشايخ وتقديس الأموات، والغلو في الطرقية، والتعلق بتعاليمها التي ما أنزل الله بها من سلطان. (1)
موقفه من المشركين:
- قال عبدالله الجراري: والشيخ الدكالي رحمة الله عليه عمد إلى شجرة كانت بباب لبيبة جوار ضريح سيدي المنكود المجاور للسور الأندلسيّ، وقطعها إذ كان النساء يعقدن بها تمائم وحروزاً وشعوراً وخرقاً كتبرك رجاء دفع ما كان يجول في خواطرهن من هواجس وأوهام سببها الجهل، ولا غرابة، ما دام الشيخ من رواد السلفيّة الصادقة ومحاربة كل ما
__________
(1) مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8-9).(9/275)
يمت بصلة إلى الخرف والشعوذة تنقية للأفكار وتطهيرها من آثار الخرافات والوثنية. (1)
- وقال في خطبة له بإحدى المدارس الكبرى بفاس، واعظاً وموجهاً معلميها وتلاميذها: فما قرأت في الأسفار، وما رأيت في الأسفار، لما خضت البحار، وجبت الأقطار؛ أقبح من المذبذبين، وأعني بهم من ترك لغته ودينه، ولا أخذ من العلم العصريّ لا رخيصه ولا ثمينه، ولا تزين بصنعة ولا حرفة مهمة مما يعد زينته، وقصاراه سوء العقيدة وبيس المذهب مذهب الدهريين. أولئك قوم طلبوا الدنيا فرجعوا بلا دين، فلا ما طلبوا وجدوا، ولا ما أخذوا ردوا، فكانوا عند أهل أوربا من الساقطين، وعندنا من المارقين. (2)
- ذكر علال الفاسي مدى تأثر المغرب بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والعقيدة السنية والدعوات الإصلاحية ثم قال: ولكن هذا كله لم يكن له من الأثر ما أحدثه رجوع المصلح الكبير الشيخ أبي شعيب الدكالي، فقد عاد وكله رغبة في الدعوة لهذه العقيدة والعمل على نشرها، والتف من حوله جماعة من الشباب النابغ يوزعون الكتب التي يطبعها السلفيون بمصر، ويطوفون معه لقطع الأشجار المتبرك بها والأحجار المعتقد فيها. (3)
__________
(1) المحدث الحافظ (ص.30-31).
(2) المحدث الحافظ (ص.118).
(3) الحركات الاستقلالية في المغرب العربي (ص.153).(9/276)
- وقال عبدالكبير الزمراني: أما من الناحية التفكيرية فقد رجع شعيب (1) مزودا بعقيدة سلفية مؤيدة بالمعقول والمنقول وكان عمله برهاناً، وكان يقيم البراهين ليحق ما هو حق ويبطل ما هو باطل، وكان مما أوتيه من مواهب كالجيش وحده، شنّ الغارة على كثير من البدع والخرافات فهزمها، وغزا كثيراً من الأرواح والنفوس فقوّمها، وكان يداً من نور تقلع الخيالات وتغرس الحقائق وتمحو الأساطير وتثبت الحق المبين وتحصد الشك والوهم وتبذر الجزم واليقين، وكانت له بجانب هذه المزايا صرامة حادة في الحق، كانت له بمنزلة المنفذ لما يصدر من أحكام الشرع، وقد وقف مواقف كثيرة دلت على ما له من صرامة وإقدام، ولن ننسى قضية (لاَلَّة خضراء) (2) وهي صخرة ذات شكل هندسيّ افتَتن به النساء بمراكش، وكنّ يقربن لها القرابين، ويقدمن لها النذور ويقمن لها موسماً سنوياً إلى أن سمع بخبرها الشيخ رحمه الله فلم يتردد في تغيير هذه البدعة (3) والقيام بنفسه على إزالتها، ومن الغريب أنه كلما دعا عاملاً لكسرها امتنع من ذلك لما علق بذهنه من الأوهام حولها، إذ ذاك رأى نفسه مضطرا لكسرها بيده، وفعلاً أخذ الفأس وكسرها ثم وزّع أشلاءها خارج البلد. (4)
موقفه من الصوفية:
__________
(1) أي: من رحلته المشرقية.
(2) أي: السيدة الخضراء.
(3) وهي بدعة شركية.
(4) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي في رحاب مدينة مراكش الفيحاء (ص.58-59).(9/277)
- قال محمد السائح عن الشيخ أبي شعيب: فقام بنشر مبادئ الإصلاح؛ غير هياب ولا وجل، واتصل بالسلطان، وبرز للنضال، وثبت في الميدان، حتى استقرت مبادئه واستحكمت أركانها، وضعضع أرباب الزوايا، بل هدها فاستنارت بهديه العقول، وسار في ضوء معارفه عدد غير قليل من الشباب. (1)
- وقال: وقد اتصل صدى حركة الإصلاح التي كان يقوم بها الشيخ بالقصر؛ فصدرت بها ظهائر شريفة تؤيد تلك الحركة، منها ظهير في منع ما يقوم بع بعض أرباب الزوايا مما يعد قذى في عين الدين وبهقا في غرة محاسنه. (2)
__________
(1) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39).
(2) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39).(9/278)
سليمان بن عبدالعزيز السحيمي (1) (1357 هـ)
الشيخ سليمان بن عبدالعزيز بن إبراهيم بن عبدالله الثوري الربابي نسبا السبيعي حلفا. ولد في مدينة عنيزة سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وقيل سنة ثلاثمائة وألف. ونشأ بها، وأخذ عن علمائها كالشيخ صالح بن عثمان والشيخ عبدالله بن محمد آل مانع، وتولى التدريس بها في مسجد المسوكف، ثم انتقل إلى مكة المكرمة، فولي القضاء في بلدة الوجه ثم بلدة القنفذة ثم صار مدرسا في المسجد الحرام. كان رحمه الله يوصف بقوة الحفظ والاستحضار، فأعجب به شيخه صالح بن عثمان آل قاضي والعلامة محمد بن عبدالرزاق حمزة. وكان واعظا، محبا للعلماء ومجالستهم والبحث معهم.
توفي رحمه الله سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المشركين:
له من الآثار السلفية:
1- 'رسالة في التوحيد وعقيدة السلف'.
2- 'كتاب في الرد على حسن الكاظمي' في مسألة البناء على القبور ودعاء الصالحين. (2)
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/320-325).
(2) علماء نجد (2/323-324).(9/279)
عبدالحميد بن باديس (1) (1359 هـ)
هو عبدالحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس أبو الفتوح، بمدينة قسنطينة ولد يوم الحادي عشر من ذي القعدة عام سبع وثلاثمائة وألف للهجرة من أسرة ثرية بربرية صنهاجية عريقة؛ كان لها الملك والسلطان خلال القرن الرابع الهجري، وأبرز رجالها الأمير المعز لدين الله بن باديس المتوفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة للهجرة (2) ؛ الذي نصر السنة وحارب البدعة وقضى على العبيديين الباطنيين وأبعدهم عن الغرب الإسلامي، وأعلن مذهب أهل السنة.
ظهرت على الشيخ علامة النجابة وحب العلم منذ صباه، فسخّر الله له أباً صالحاً وطّأ له سبل العلم وشجعه عليه وكفاه المؤنة حتى قال له: (اكفني همّ الآخرة أكفك همّ الدنيا).
حفظ القرآن كاملاً على محمد الماداسي أشهر قراء قسنطينة في وقته، وأتم دراسته بالزيتونة، ودرس بها. من شيوخه الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي والبشير صفر وغيرهم كثير.
رحل إلى عدة بلدان منها: الحجاز وسوريا ولبنان ومصر، والتقى بعلمائها كمحمد بخيت المطيعي الذي أجازه، وغيره.
ومن العوامل التي نهجت به المسلك الصحيح عقيدة وسلوكاً التقاؤه بعلماء الدعوة السلفية بالحجاز، فترعرعت فكرة الإصلاح في نفسه، والتقى
__________
(1) الأعلام (3/289) ومعجم المؤلفين (5/105) وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعبدالعزيز دخان.
(2) وقد ذكره ابن خلدون في تأريخه للدولة الصنهاجية.(9/280)
للمرة الأولى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالمدينة النبوية وتدارسا الإصلاح في الجزائر وسبله مدة ثلاثة أشهر يلتقيان كل ليلة.
رجع إلى الجزائر ودرّس بمساجدها، وقد فسر القرآن كله خلال خمس وعشرين سنة في دروس يومية، كما شرح موطأ مالك خلال هذه المدة. وأسس مع مجموعة من العلماء (جمعية العلماء الجزائريين) وكان رئيساً لها منذ تأسست إلى أن مات. وقد أصدر رحمه الله عدة صحف منها 'المنتقد' و'الشهاب' و'البصائر' وغيرها.
توفي بعد معاناة شديدة من المرض في ربيع الأول عام تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة بمسقط رأسه رحمه الله.
من آثاره:
'العقائد الإسلامية' وجمع له من مجلة 'الشهاب' كتابات في التفسير بإشراف محمد الصالح رمضان وتوفيق شاهين وطبعت بعنوان: 'مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير'.
وله مقالات كثيرة جداً في الفقه والحديث في جرائد ومجلات (جمعية العلماء) وقد جمع عمار الطالبي قسطاً طيباً من آثاره ولا يزال قسط آخر لم يجمع بعد.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في سبب اختياره الدين على السياسة للنهوض بالأمة: وبعد: فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه(9/281)
واحد والسير في خط مستقيم، وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.
ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه -ولا يخفى على غيرنا- أن القائد الذي يقول للأمة: إنك مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنك ضالة عن أصول دينك، وإنني أريد هدايتك)، فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها. وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا، وإننا -فيما اخترناه- بإذن الله لماضون، وعليه متوكلون. (1)
- وله 'الدرر الغالية في آداب الدعوة والداعية' قال فيه:
تحذير:
خطبة الجمعة اليوم: أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة، مسجعة طويلة، من مخلفات الماضي، لا يراعى فيها شيء من أحوال الحاضر، وأمراض السامعين، تلقى بترنم وتلحين، أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيرا ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات.
هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعائر الإسلامية، سد بها أهلها
__________
(1) مدارك النظر (294-295).(9/282)
بابا عظيما من الخير فتحه الإسلام، وعطلوا بها الوعظ والإرشاد وهو ركن عظيم من أركان الإسلام. فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيبا في الناس. وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون. (1)
- وقال: بماذا تكون الهداية؟ كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون، إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين، فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال. ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر، جاء بالضمير مفردا في قوله تعالى: يَهْدِي { بِهِ } اللَّهُ (2) .اهـ (3)
- وقال: تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيرا مرتبكا: كمن يكون في ظلام: منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى، والمقلد للآباء من دليل يطمئن به، ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه؛ ومنها حالة الشك؛ ومنها حالة اعتراض الشبهات؛ ومنها حالة ثوران الشهوات.
وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة
__________
(1) الدرر الغالية (40).
(2) المائدة الآية (16).
(3) الدرر الغالية (59).(9/283)
بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والاهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات والشهوات، وما فيها من حيرة وعماية إلى الحالة التي تطمئن فيها القلوب، كما تطمئن في النور عندما يسطع فيبدد سدول الظلام. فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات، وتكسر سلطان الشهوات. فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من اعرض عنهما، أو خالفهما، يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة، وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ { مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى } النُّورِ (1) .اهـ (2)
موقفه من المشركين:
داوم في جريدة 'الشهاب' على حرب المشعوذين، فكان يقول فيها: احذر من دجال يتاجر بالطلاسم، ويتخذ آيات القرآن وأسماء الرحمن هزواً يستعملها في التمويه والتضليل.
موقفه من الصوفية:
حارب التصوف وحذر الناس من سلوكه حتى بلغ بهؤلاء الحقد إلى محاولة اغتياله سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لسبع وعشرين وتسعمائة وألف ميلادي. وكان بعضهم يسميه: (ابن إبليس).
موقفه من القدرية:
__________
(1) المائدة الآية (16).
(2) الدرر الغالية (61-62).(9/284)
له كتاب: 'العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية' بين فيه مسألة القدر فقال: العمل بالشرع والجد في السعي مع الإيمان بالقدر:
الشرع معلوم لنا، وضعه الله لنسيّر عليه أعمالنا. والقدر مغيب عنا، أمرنا الله بالإيمان به لأنه من مقتضى كمال العلم. والإرادة من صفات ربنا. فالقدر في دائرة الاعتقاد، والشرع في دائرة العمل. وعلينا أن نعمل بشرع الله ونتوسل إلى المسببات المشروعة بأسبابها، ونؤمن بسبق قدر الله تعالى: فلا يكون إلا ما قدره منها، فمن سبقت له السعادة يسر لأسبابها، ومن سبقت له الشقاوة يسر لأسبابها. (1)
ثم ذكر بعض الأدلة فقال:
الاحتجاج بالقدر: لا يحتج بالقدر في الذنوب، لأن حجة الله قائمة على الخلق بالتمكن والاختيار والدلالة الشرعية، لقوله تعالى: وَقَالُوا { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } (20) (2) .
الحذر والقدر: مع الإيمان بالقدر، يجب الأخذ بالحذر، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا } حِذْرَكُمْ (3) ، وقوله تعالى:
__________
(1) العقائد الإسلامية (ص.74).
(2) الزخرف الآية (20).
(3) النساء الآية (71).(9/285)
وَلْيَأْخُذُوا { حِذْرَهُمْ } وَأَسْلِحَتَهُمْ (1) .
الحكمة والعدل في القدر: القدر كله عدل وحكمة، فما يصيب العباد فهو جزاء أعمالهم. وقد تدرك حكمة القدر ولو بعد حين، وقد تخفى، لأن من أسمائه تعالى: الحكيم، ورد في الآيات والأحاديث الكثيرة. ومن أسمائه تعالى: العدل، ورد في حديث الأسماء عند الترمذي (2) . ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الكرب: "عدل في قضاؤك" (3) . ولقوله تعالى: وَمَا { أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
__________
(1) النساء الآية (102).
(2) أخرجه الترمذي (5/496-497/3507) وقال: "حديث غريب، حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم في كثير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح". وابن ماجه (2/1269-1270/3861) وقال البوصري في الزوائد: "لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره، غير ابن ماجه والترمذي. مع تقديم وتأخير، وطريق الترمذي أصح شيء في الباب. قال: وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف لضعف عبدالملك بن محمد". وقال الحافظ في الفتح (11/258): "وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج" اهـ. والحديث ورد بدون تعيين الأسماء الحسنى. من حديث أبي هريرة. وقد تقدم تخريجه ضمن مواقف إسحاق بن راهويه سنة (237هـ).
(3) أحمد (1/391) والطبراني (10/209-210/10352) والحارث بن أبي أسامة (بغية الباحث 1063) وصححه ابن حبان (3/253/972) والحاكم (1/509) كلهم من حديث ابن مسعود. والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (10/136و186-187) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان ".(9/286)
} (30) (1) .اهـ (2)
__________
(1) الشورى الآية (30).
(2) العقائد الإسلامية (ص.76-77).(9/287)
عبدالعزيز بن حمد بن علي بن عتيق (1) (1359 هـ)
عبدالعزيز بن حمد بن علي بن عتيق. ولد في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف. ونشأ في بيت علم ودين. قرأ على والده الشيخ حمد ابن علي بن عتيق إلى أن توفي، ثم سافر إلى الرياض، ثم إلى الهند حيث وجد المحدث الشيخ نذير حسين الدهلوي، فأخذ عنه الحديث. كان رحمه الله موصوفا بكثرة العبادة والتهجد، وكانت له عناية كبيرة بكتب الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب والشيخين ابن تيمية وابن القيم. أخذ عنه العلم الشيخ سعد بن سعود آل مفلح والشيخ سعود بن محمد بن رشود والشيخ محمد ابن إسحاق. شارك في الفتوح، وكان قد تولى القضاء في الأفلاج ثم نقل إلى وادي الدواسر، ثم أعيد إلى الأفلاج، إلى أن توفي فيها سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
تبنيه لعقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب:
جاء في علماء نجد: "له وصية بقلم محمد بن إسحاق بن عتيق، حيث يقول: هذا ما أوصى به الفقير إلى الله عبدالعزيز بن حمد بن عتيق وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا، أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحد، وأن محمدا عبده ورسوله الصادق المصدق، أفضل الرسل - صلى الله عليه وسلم - ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/330-335).(9/288)
ولو كره المشركون، وأشهد أن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين والبراءة من عبادة ما سواه هو عين ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا الناس إليه، وهو دين الإسلام الذي نعتقده وندين لله به، وأوصى ولدي وولد ولدي وإخواني وأولادهم بأن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصيهم بما أوصي به إبراهيم بنيه ويعقوب إذ قال لبنيه: 4¢سح_t6"tƒ { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (132) (1) .اهـ (2)
علي محفوظ (3) (1361 هـ)
علي محفوظ المصري، واعظ مرشد، عالم تخرج بالأزهر أستاذا للوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية، واختير عضوا في جماعة كبار العلماء. توفي سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) البقرة الآية (132).
(2) علماء نجد (3/333-334).
(3) الأعلام (4/323) ومعجم المؤلفين (7/175).(9/289)
له: 'الإبداع في مضار الابتداع' والكتاب مطبوع ومتداول، وهو وإن كانت فيه بعض الفوائد لكن فيه خلط في تأييد بعض البدع واستحسانها.جاء فيه: الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة:
وأما الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة، فاعلم أن من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب وبينته السنة علم أن النبي صلوات الله وسلامه عليه تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد عنها إلا من قد مرض قلبه وطاش في مهاوي الضلال لبه، فإن الله تعالى قد بين للناس قواعد الدين وأكملها قال تعالى: ôtPِquّ9$# { أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (1) بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، فإذا كان الله سبحانه قد أكمل لنا الدين بما أنزله في كتابه العربي المبين وعلى لسان نبيه الأمين، مما بلغ من الأحكام، وبين لنا من حلال وحرام، فمن اتبع غير سبيل المؤمنين فهو الحقيق بهذا الوعيد الشديد، قال تعالى: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
__________
(1) المائدة الآية (3).(9/290)
مَصِيرًا } (115) (1) وقال تعالى: مَا { فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (2) : ما تركنا وما أغفلنا شيئا يحتاج إليه من الأشياء المهمة، فقد نفى سبحانه التقصير فيما شرع من كتابه الحكيم الذي هو متن للسنة. وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وما شرع من الدين القويم ونهى عن اتباع غير سبيل المؤمنين فقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (3) فذكر تعالى أن له سبيلا واحدا سماها صراطا مستقيما، لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط وهي طرق الشيطان، وحث سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة حثا مقرونا بالنهي عن اتباع السبل، مبينا أن ذلك سبب للتفرق، ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلا واحدا أمروا بسلوكه، وأما أهل البدع والأهواء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة: كُلُّ { حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (32) (4) ، وقد روى أحمد وجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
__________
(1) النساء الآية (115).
(2) الأنعام الآية (38).
(3) الأنعام الآية (153).
(4) الروم الآية (32).(9/291)
خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره، وقال: "هذه السبل المتفرقة وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو" ثم قرأ هذه الآية، حتى بلغ } تَتَّقُونَ { (1) . السبل المتفرقة هي البدع، والشيطان هو شيطان الإنس وهو المبتدع.
وقال تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ (2) ، قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة، فأمر سبحانه برد الأمر حالة النزاع إلى كتابه العزيز وسنة نبيه، ففي حالة الوفاق أولى.
وقال تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ } اللَّهُ (3) فقد جعل سبحانه وتعالى علامة محبته اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن لم يتبع الرسول وادعى محبة الله تعالى فهو كاذب في دعواه فإن عصيان الرسول عصيان لله تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (4) ، وعصيان الله تعالى ينافي محبته:
تعصى الاله وأنت تظهر حبه ... تعصى الاله وأنت تظهر حبه
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(2) النساء الآية (59).
(3) آل عمران الآية (31).
(4) النساء الآية (80).(9/292)
لو كان حبك صادقا لأطعته ... لو كان حبك صادقا لأطعته
ثم رتب على اتباع الرسول حب الله تعالى ورضاءه ومثوبته، فالخير في اتباع الرسول والشر في مخالفة سننه... وكيف لا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه هو المبلغ للكتاب الناطق بالحق والصواب وَمَا { يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } (3) (1) ، وقال تعالى: وَإِنَّكَ { لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (52) (2) : هو الإسلام. وقال تعالى: لَقَدْ { كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ } الْآَخِرَ (3) .
فإذا الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه في جميع أقواله وأفعاله، والتأسي به في سائر أحواله، قال تعالى: !!$tBur { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (4) ، وما أخبث رجلا ترك سبيل السنة الشارحة للكتاب، واستبدل العذب بالعذاب فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
__________
(1) النجم الآية (3).
(2) الشورى الآية (52).
(3) الأحزاب الآية (21).
(4) الحشر الآية (7).(9/293)
أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (1) .
وقال تعالى: قُلْ { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (54) (2) وسر تكرير الفعل: الدلالة على أن ما يأمر به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة كما تجب مقرونة بأمره سبحانه، فهو إذاً مستقل بالطاعة كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه. ألا إني قد أوتيت الكتاب ومثله معه" (3) وقوله: تولوا بحذف إحدى التاءين عام لمن يقع عليه الخطاب من عباده. والمعنى أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم وَإِنْ { تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
__________
(1) النور الآية (63).
(2) النور الآية (54).
(3) أخرجه: أحمد (4/130-131) وأبو داود (5/10-12/4604) والترمذي (5/37/2664) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وابن ماجه (1/6/12) والحاكم (1/109) وصحح إسناده وسكت عنه الذهبي، كلهم من حديث المقدام بن معدي كرب.(9/294)
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (54) (1) أخبر جل ثناؤه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه، وليس عليه إلا البلاغ والبيان الواضح لاهداكم وتوفيقكم، ففي صحيح البخاري عن الزهري: فإن تطيعوه فهو حظكم وسعادتكم، وإن لم تطيعوه فقد أدى ما حمل وما عليه إلا البلاغ. وحكى الإمام الشافعي رضي الله عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وهو كلام حق لا يستراب فيه. وكيف تترك نصوص الشارع المعصوم ويؤخذ بأقوال غيره ممن يجوز عليه الخطأ، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه. والآيات في هذا الباب كثيرة.
والمعنى فإن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها فاعلموا أنما عليه إثم ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة.
وأما الأحاديث: فعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا
__________
(1) النور الآية (54).(9/295)
كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (1) ، فقد أوصانا صلوات الله وسلامه عليه بلزوم سنته وسنة خلفائه الراشدين الذين هم على طريقته، وحرض على ذلك بقوله: "عضوا عليها بالنواجذ". وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد" رواه الطبراني والبيهقي (2) . وعن عباس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر -يعني الأسود- ويقول: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. متفق عليه (3) ، وروى الحاكم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب في حجة الوداع فقال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا. إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه" (4) ...
وقال في الشفاء وشرحه: قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى (سن
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) الطبراني في الأوسط (6/197/5410) ومن طريقه أبو نعيم (8/200). وقال الهيثمي في المجمع (1/172) رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن صالح العدوي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله ثقات وأورده الألباني في الضعيفة (1/497/327).
(3) البخاري (3/589/1597). مسلم (2/925/1270).
(4) أحمد (2/368) والبزار (الكشف 3/322/2850) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات" وقال الهيثمي (10/54) رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/842/471): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين". وفي الباب عن جابر وابن مسعود وأبي الدرداء بنحوه.(9/296)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمور) يعني الخلفاء الراشدين (بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله) أي حيث قال: !!$tBur { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ } فَخُذُوهُ (1) (واستعمال لطاعة الله) أي في طاعة رسوله لقوله تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ } اللَّهَ (2) ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (3) ، (وقوة على الدين) أي على كمال ملته وجمال شريعته (ليس لأحد تغييرها) بزيادة أو نقصان فيها (ولا تبديلها) بغيرها ظنا أنه أحسن منها (ولا النظر في رأي من خالفها، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا). وهذا من كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكا جدا، ولحق ما كان يعجبهم، فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة، لأن قوله: (ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها): قطع لمادة الابتداع جملة. وقوله: (من عمل بها فهو مهتد) الخ الكلام: مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (80).
(3) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).(9/297)
} الْهُدَى (1) الآية، ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة لا بدعة فيه ألبتة، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة. وقال علي رضي الله عنه: لم أكن أدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس، وقال: إني لست بنبي ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ما استطعت. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله وآله وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.اهـ باختصار.
والموفق السعيد من انتظم في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة، فكن يا أخي إياه فقد كثرت البدع وعم ضررها. واستطار شررها، ودام الانكباب على العمل بها مع السكوت عن الإنكار لها حتى صارت كأنها سنن مقررات، وشرائع من صاحب الشرع محررات. فاختلط المشروع بغيره، وعاد المتمسك بمحض السنة كالخارج عنها كما سبق، فتأكد وجوب الإنكار على من عنده فيها علم، ولا يهولنه أن المتعرض لهذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين: فالموالي له يخلد به إلى الأرض، ويمد له يد العجز عن نصرة الحق بعد رسوخ البدع في النفوس، والمعادي يصوب إليه سهام الطعن ويرميه بمقذوفات الأذى، لأنه يحارب عاداته الراسخة في القلوب، ويقبح بدعه المألوفة في الأعمال دينا يتعبد به. ومذهبا خامسا يدين الله عليه
__________
(1) النساء الآية (115).(9/298)
لا حجة له عليها سوى عمل الآباء والأجداد، مع بعض من ينتسب إلى العلم أكانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا ولم يفقهوا أنهم بموافقتهم للآباء وهؤلاء الأدعياء مخالفون لكتاب الله وسنة رسول الله والسلف الصالح من بعده، فالمتعرض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال: ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا أنه قد فنى عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره وكذلك ما عليه الناس اليوم. (1)
مبارك بن محمد الميلي (1364 هـ)
من أفاضل علماء الجزائر، وأحد أعضاء جمعية العلماء بها. ولد سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، وتوفي رحمه الله سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المشركين:
له كتاب 'رسالة الشرك ومظاهره'. تناول فيها هذا الموضوع من كل جوانبه؛ فعرف الشرك وبيّن خطره وتاريخه، ثم مثّل لأبرز مظاهره؛ فأجاد رحمه الله وأفاد.
- قال رحمه الله: وهذه أطوار البعثة من حين الأمر بالإنذار المطلق في سورة المدثر، إلى الأمر بإنذار العشيرة، إلى الأمر بالصدع بالدعوة، إلى الأمر
__________
(1) الابداع في مضار الابتداع (18-23).(9/299)
بالهجرة، إلى الإذن بالقتال، إلى فتح مكة، إلى الإعلام بدنوّ الحمام؛ لم تخل من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك ومظاهره. ويكاد ينحصر غرض البعثة أولاً في ذلك؛ فلا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التنديد بالأصنام وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور بالشعب ثلاث سنوات شديدات، ولا نسيه وهو مختفٍ في هجرته والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وهو ظاهر بمدينته بين أنصاره، ولا غلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة، ولا شغل عنه وهو يجاهد وينتصر ويكر ويفر، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرير عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك. وهذه سيرته المدونة وأحاديثه المصححة فتتبعها تجد تصديق ما ادعينا وتفصيل ما أجملنا. (1)
- وقال: وإن لم يكن بعقلك بأس، فستسلم معي شدة عناية بعثة خاتم النبيين ببيان الشرك وعدم الاكتفاء بشرح التوحيد، وستعجب معي من قلة اهتمام علمائنا بذلك، كأن لا حاجة بالمسلمين إليه! تجد في كلامهم على الفروع عناية بتفصيل أحكام مسائل نادرة أو لا توجد عادة، ولا تجدهم يعنون تلك العناية بالأصول؛ فيحددون الشرك ويفصلون أنواعه، ويعددون مظاهره، حتى يرسخ في نفوس العامة الحذر منه، والابتعاد من وسائله، ولا يفقد المتأخر نص من قبله في جزئية من ذلك. (2)
- وقال: آثار الشرك في المجتمع:
إن كنت باحثاً في علل انحطاط الأمم، فلن تجد كالشرك أدل على
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.19).
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص.20).(9/300)
ظلمة القلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولن تجد كهذه النقائص أضر بالاتحاد، وأدر للفوضى، وأذل للشعوب. وإن كنت باحثاً عن أسباب الرقي، فلن تجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول، وأقوم للأخلاق، ولن تجد كهذه الأسوس أحفظ للحياة وأضمن للسيادة، وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة، وإن نظرة في حياة العرب قبل البعثة، لتؤيد ما أضفناه إلى الشرك من علل ونتائج، وإن وقفة على حياتهم بعد البعثة لتبعث على التصديق بما أنطناه بالتوحيد من أسباب وثمرات، وإن تلك النظرة وهاته الوقفة لمفتاحان لسر حياة المسلمين بعد عصر النبوة.
وكل من قارن بين حياتنا اليوم وحياة جيراننا من غير ملتنا، استيقن أن وسائل الشرك قد وجدت في المسلمين منذ أمد، وأن نتائجه قد ظهرت عليهم، فلا تخفى على أحد. (1)
- وقال رحمه الله: الحكاية العاشورية:
ففي سنة سبع وأربعين، قتل شيخنا محمد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط. وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب 'منار الأشراف' وملقب نفسه "كليب الهامل"، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمده بالمال. فحضرت مجلسه ولم أشعره بحضوري إذ كان قد اجتمع عليه العمى والصمم. وذلك لئلا يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام.
سمعت في ذلك المجلس بأُذنيَّ "كليب الهامل" يحكي مناقضاً لدعوة
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.49).(9/301)
الإصلاح التي اشتهرت يومئذ، أن شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية كان مع مريديه في سفينة فهاج بهم البحر وعلت أمواجه، فلجؤوا جميعاً إلى الله يسألون الفرج والسلامة. وكان الشيخ منفرداً في غرفة يدعو فلم تنفرج الأزمة، وعادته أن لا يبطأ عليه بالإجابة، فوقع في روعه أنه أتي من قبل أتباعه. لا لنقص فيه يوجب هذا الإعراض عنه، فخرج على أتباعه مغضباً يقول: ماذا صنعتم في هذه الشدة؟ فقالوا: دعونا الله مخلصين له الدين بلسان المضطرين -إشارة إلى لقوله تعالى: أَمْ مَنْ { يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ uن q ،9$#.. } (1) - فنكر عليهم اللجوء إلى الله مباشرة، ووبخهم عليه، وعرفهم أن ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه، وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجه إلى ربهم، وأنه الغرق، وعلمهم أن واجبهم هو التوجه إليه وسؤاله، ثم هو وحده يتوجه إلى الله، فتابوا من دعاء الموحدين، وامتثلوا تعليم الشيخ المخالف لتعليم رب العالمين. وعاد الشيخ إلى غرفته يدعو متوسطاً بين الله ومريديه، فانكشفت الغمة، وسملت السفينة، وحمد الشيخ ثقته بنفسه وفقهه سر البطء عن استجابة دعائه، وتفقيهه لأتباعه سر النجاة وصرفهم إلى الثقة به عن الثقة بالله.
هذا معنى ما سمعته من "كليب الهامل"، ولم أقيد الحكاية حين السماع حتى أؤديها بلفظها وأصورها بنصها، ولم يسعني وأنا في مقام التحذير من
__________
(1) النمل الآية (62).(9/302)
الشرك اجتناب إدراج ما ينافي غرض الحاكي في الحكاية حتى تتم ثم أعلق عليها، لئلا يعلق بذهن القارئ شيء من الشرك، ولو إلى حين، ولم أميز المدرج في الحكاية، لأنه لا يخفى على العارف بحال المعارضين لدعاة الإصلاح الديني.
يستدل الشيخ عاشور وأشباهه بأمثال هذه الحكاية على لزوم التعلق بشيوخ الزوايا وتوسيطهم بين العباد وربهم، ناسخين بها نصوص الشريعة الكثيرة المحكمة، وتتلقفها منهم العامة بقلوبها، وتتمسك بها في الاحتجاج لإيثار دعاء غير الله، وتعتقد أن ذلك أليق بحالها من أن تخاطب بنفسها أرحم الراحمين، سنة المشركين من قديم كما تقدم عن الكلدانيين. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: وقد كان ضلال الرافضة مكشوفاً للعامة والخاصة من الفرق الإسلامية؛ فكانوا ممقوتين في المجتمعات، لا تروج لهم بضاعة في جميع الطبقات إلا أن يجدوا غرة في بعض الجهات التي لا تعرف من الدين أكثر من التلفظ بالشهادتين أو صور العبادة المتكررة الفاشية. (2)
موقفه من الصوفية:
لقد أولى رحمه الله في كتابه قضية التصوف اهتماماً كبيراً، باعتبار الصوفية أمراً دخيلاً على الإسلام وأهله، ومنبعاً لتصدير الشرك والبدع والخرافات، مبيناً رحمه الله علاقة التصوف بالتشيع، ومدى الصلة الوثيقة
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.182-183).
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص.263-264).(9/303)
التي تربطهما كأنهما أخوان شقيقان.
- قال رحمه الله: أما ثمرة هذا الاتحاد؛ فهو توصل الرافضة إلى تحقيق ما عجزت عنه من تشويه محاسن الإسلام وقلب تعاليمه. وإن تعجب لسلامة الصوفية من سوء سمعة الرافضة مع اتحاد الفريقين، فأعجب من ذلك أن تعلو كلمة هؤلاء الصوفية كلمة العلماء، ويخصّوا بالفضل دونهم؛ والكتاب والسنة إنما جاءا بفضل العلم وأهله. وترى من هنا؛ أن هذا التصوف سيف ماضي الحدين مؤثر بالجهتين:
فجهة النقص فيه: وهي اتحاده بالباطنية أثر فيها بالتغطية والتعمية حتى لم تشعر بها العامة، وتطاول الأمد فخفيت على كثير من الخاصة.
وجهة الكمال في غيره: وهي جهة العلم قلبها رأساً على عقب؛ فاستأثر بما للعلم من شرف، وجعل أهله محل ريبة لا يوثق بدينهم إلا بتوثيق شيوخ التصوف، وهم لا يوثقون من العلماء إلا من سدل الستار عما في طرقهم من بدع ومنكرات. فأصبح يخطب وُدّهم كل عالم طماع، وكل محتال خداع، وانضافت إليهم هذه الجنود المرتزقة فكان جيشا يهدد كل مرشد نصوح، ومصلح إلى المعالي طموح. (1)
- وقال رحمه الله مبيناً مساوئ التصوف في مسائل منها: الخامسة: الاعتماد في دينهم على الخرافات والمنامات، وما يربي هيبتهم في قلوب مريديهم من حكايات، ولا يتصلون بالعلماء إلا بمن أعانهم على استعباد
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.267-268).(9/304)
الدهماء، والرد على المرشدين النصحاء، بتأويل ما هو حجة عليهم، وتصحيح الحديث الموضوع إذا كان فيه حجة لهم.
قال أبو بكر بن العربي في 'العواصم': إن غلاة الصوفية ودعاة الباطنية يتشبهون بالمبتدعة في تعلقهم بمشتبهات الآيات والآثار على محكماتها، فيخترعون أحاديث أو تخترع لهم على قالب أغراضهم ينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلقون بها علينا) (1/9).اهـ (1)
محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ (2) (1367 هـ)
محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ بها. قرأ على أخيه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ محمد ابن محمود والشيخ حمد بن عتيق والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ والشيخ أبو بكر خوقير وغيرهم. عينه الملك عبدالعزيز قاضيا في القويعية ثم في الوشم، ثم قاضيا للرياض. كان رحمه الله جوادا كريما، متواضعا، حسن الخلق. أخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ صالح بن سحمان والشيخ عبدالله الدوسري وغيرهم. رحل إلى عمان وقطر ثم إلى اليمن. له رسائل وأجوبة في الدعوة إلى التوحيد وهدم الشرك.
توفي رحمه الله في جمادى الثانية سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف.
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.280).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/134-139) والأعلام (6/218) ومعجم المؤلفين (10/193).(9/305)
موقفه من المبتدعة:
له رسائل وأجوبة خاصة في التوحيد تدل على سعة علمه واطلاعه وحبه لنشر العقيدة السلفية، فجزاه الله خيرا.
- نصائحه رحمه للأمة:
وأكبر نعمة نذكركم بها هي ما من به مولاكم، وما خصكم به من المنحة وأولاكم من هذه الدعوة النجدية، وتجديد الملة الحنيفية، بعد أفول شموسها، ومحو آياتها ودروسها، واعتكار ليل الإشراك، وتلاطم الضلال والهلاك، حتى عبدت في نجد كغيرها الطواغيت والأوثان من الأشجار والقبور والغيران، وكان المطاع والمتبع هو الشيطان بدلا عن مضمون كلمة الإسلام والإيمان، شهادة أن لا إله إلا الله الملك الديان، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد عدنان، وأصبح الحق مهجورا، والباطل مؤيدا منصورا، ونشأت بدع الرفض والتجهم والاعتزال، وبدعة الاتحاد التي هي أكبر بدع الضلال، وغير ذلك من ظهور السحر والكهانة والتنجيم، وسفك الدماء ونهب الأموال، واستحلال المحرمات، مما هو حقيقة الجاهلية الجهلى، والضلالة العمياء، إلى أن ابلولج صبح الحق واتضح، وتجهم وجه الباطل وافتضح بما مَنًّ به الكريم من الدعوة والتجديد، على يد من منحهم الله التوفيق والتسديد وهم الإمام الأوحد الفريد الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأنصار أئمة التوحيد آل سعود ومن سبقت لهم سابقة السعادة والسيادة، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يثنهم عن هذا الفخر الأفخم مقاومة مقاوم، فانجلت بحمد الله من نجد وما حولها وجنات الإشراك، وظهرت بذلك(9/306)
فضيحة كل مبتدع أفاك، واستضاءت بنور المحمدية المحضة ارجاء تلك الأقطار، وعاد عود الإسلام غصنا أخضر بعد الالتواء والاصفرار، واستقرت الشريعة في نصابها، ورجعت الفريضة إلى بابها، ونشرت أعلام الجهاد، وقامت حجة الله على العباد. (1)
- وقال: فأول بدعة حدثت بدعة الخوارج وهم قوم من أصحاب علي ابن أبي طالب ممن أخذ العلم عن الصحابة فكفروا عليا رضي الله عنه وأصحابه، وكفروا أهل الكبائر من هذه الأمة، وحكموا على من ارتكب كبيرة بالخلود في النار والكفر، ثم خرجت المعتزلة وحكموا على الفاسق بالخلود في النار فوافقوا الخوارج في الحكم وخالفوهم بالاسم، فالخوارج يقولون: أهل الكبار كفار مخلدون في النار، والمعتزلة يقولون فاسقا ويخلدون في النار، وكلا الطائفتين خارجة عن الصراط المستقيم، وما عليه السلف الصالح من أهل الملة والدين، ثم تتابعت البدع وكثرت كبدعة القدرية، والمرجئة، والجهمية، وغير ذلك من البدع، التي حقيقتها مخالفة الكتاب والسنة.
إذا علمت ذلك فاعلم أن الله تبارك وتعالى مَنَّ في آخر هذا الزمان في القرن الثاني عشر بظهور من دعا إلى ما دعت إليه الرسل وهو شيخ الإسلام وعلم الهداة الاعلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه، لأنه خرج في زمن فترة من أهل العلم تشبه الفترة التي بين الرسل، فدعا إلى
__________
(1) الدرر السنية (11/134).(9/307)
الله وبصر الخلق بحقيقة ما خلقوا له من اخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه الذي هو أول مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، فجد واجتهد وأعلن بالدعوة، فعارضه من عارضه ممن استهوتهم الشياطين واجتالتهم عن فطرهم التي فطروا عليها، فقام في رد ما جاء به علماء السوء بشبهات وضلالات أوهن من بيت العنكبوت، واستعانوا بملاءهم من الرؤساء والأمراء، فجدوا في إطفاء نور الله، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ويعلي كلمته. (1)
ابن المؤقت (2) (1368 هـ)
محمد بن محمد بن عبدالله المؤقت المسفيوي أصلا المراكشي ولادة ونشأة، كان صوفيا أول أمره وألف في ذلك كتبا ثم رجع عن ذلك، وقد ثارت الطرق الصوفية ضده لما كتب كتاب 'الرحلة المراكشية' ويسمى أيضا 'السيف المسلول على المعرض عن سنة الرسول' وشكوه إلى باشا المدينة ثم إلى الملك محمد الخامس، ورد عليه مقدم الطائفة التيجانية القاضي أحمد السكيرج بكتاب سماه 'الحجارة المقتية لكسر مرآة المساوئ الوقتية' ثم رد عليه ابن المؤقت بكتاب بين فيه افتراءاته، إلا أن الكتاب صودر من السوق وأحرق مما يدل على أن المعركة بين الشيخ وخصومه بلغت ذروتها.
بلغت مؤلفاته أربعة وثمانين مؤلفا، طبع منها إحدى وأربعون، وأربعة ما تزال مخطوطة، وباقي هذه المؤلفات مفقود.
__________
(1) الدرر السنية (11/122).
(2) مقدمة الرحلة المراكشية و'سل النصال' لعبدالسلام بن سودة (ص.139).(9/308)
منها 'الرحلة المراكشية' و'الرحلة الأخروية' و'أصحاب السفينة' و'الجيوش الجرارة' و'الكشف والتبيان عن حال أهل الزمان' و'الحجة القوية على الطائفة اليهودية' و'مجموعة اليواقيت العصرية لتاريخ المشرق والمغرب' في ستة أجزاء و'السعادة الأبدية' و'لبانة القارئ من صحيح الإمام البخاري' و'بغية كل مسلم من صحيح مسلم' و'سبيل التحقيق في كشف الغطا عن مساوي كل طريق' و'سبيل السعادة في أحكام العبادة'.
كان مؤقتا بالمسجد الجامع ابن يوسف، وله في التوقيت وعلم الفلك عدة مؤلفات. توفي بمراكش سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف هجرية وقيل سنة تسع وتسعين.
هذا ولا يخلو كتابه الرحلة من أخطاء مثل انتصاره لإرسال اليدين في الصلاة وغير ذلك، وهذا من آثار التقليد المذموم، وكذا في كتبه الأخرى أخطاء وسقطات لعلها أيام تصوفه.
موقفه من المشركين:
- ذكر رحمه الله تفشي الذبح للقبور والأضرحة في زمانه ثم قال: وإن لم يكن هذا كفرا فجهل عظيم، وغباوة جسيمة، وفي صحيح الإمام مسلم عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله من ذبح لغير الله" (1) .
قال بعض العلماء: كالذبح على أضرحة الأولياء، وهذه الذبيحة لا
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/108) ومسلم (3/1567/1978) والنسائي (7/266/4434) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(9/309)
تؤكل لأنها مما أهل به لغير الله، ويتناول صاحبها اللعن. (1)
- وقال: وقد قلت في شدة لرجل يوما يستغيث ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني: قل يا الله. فقد قال سبحانه: وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (2) فغضب، وبلغني أنه قال: إن فلانا منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. (3)
- وقال: وقد صح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" (4) إلخ، ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف ولا يطلب من سيد العالمين عليه الصلاة والسلام ولا من ضجيعيه المكرمين رضي الله عنهما شيئا، وهم أكرم
__________
(1) الرحلة المراكشية (ص.183).
(2) البقرة الآية (186).
(3) الرحلة المراكشية (ص.216-217).
(4) أخرجه: مسلم (2/669/974) وأبو داود (3/558-559/3237) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/310)
من ضمته البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة. (1)
- وقال: ومن بدعهم الحلف بغير الله مع ورود النهي عن ذلك، فمنهم من يحلف بمن اشتهر في الوقت بالصلاح.
ومنهم من يحلف بالأخوة والأبوة والطعام والمحبة، وأمثال هذا الخور الذي لا يخرج إلا من لسان أحمق أخرق لا يميز بين السماء والأرض.
وكل هذا ورد النهي عنه، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" (2) .
فانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" تعرف أن الحلف بغير الله، ولو مما عظم الله كالكعبة والأولياء منهي عنه شرعا. (3)
- وقال: أما من حيث النذور في بلادنا اليوم، فلهم فيها ابتداعات قضت على أمر الدين، وتمكن إبليس اللعين من إدخال الفساد على الإسلام وأهله من هذا الباب حتى لا ترى مسلما اليوم إلا وهو بالوثني أشبه إلا ما قل.
جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم
__________
(1) الرحلة المراكشية (ص.218).
(2) أخرجه: أحمد (2/7) والبخاري (11/649/6646) ومسلم (3/1267/1646[3-4]) والترمذي (4/93/1534) وقال: "حسن صحيح". النسائي (7/7/3773) من طرق عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) الرحلة (ص.299).(9/311)
الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رق العبودية لغير الله، فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل.
وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيرة يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده في سلطانه قف مكانك، ولا تغل في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق، لا رب معبود واعلم أنه لا إله إلا الله.
هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد. أما اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى. فقد ذلت رقابهم، وخفقت رؤوسهم، وصرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم فغلبوهم على أمرهم، وملكوا نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم، فأصبحوا من الخاسرين.
والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهنائها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي السبتي والجزولي والغزواني والتباع والسهيلي واليحصبي وأمثالهم في سائر الأقطار كما يقفون بين يدي الله.
يا قادة الأمة ورؤساءها، عذرنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها.(9/312)
وقلنا أن العامي أقصر نظرا وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة في النصب والتماثيل والأضرحة والقبور، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله وتقرؤون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى: إِنَّمَا { الْغَيْبُ } لِلَّهِ (1) وقوله مخاطبا لنبيه مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا } ضَرًّا (2) وقوله: وَمَا { رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (3) .
فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبرا، أو يتوسلون بضريح، وهل تعلمون أن واحدا منهم وقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته يسأله قضاء حاجة، أو تفريج كربة وهل تعلمون أن السبتي والجيلاني والدسوقي وأمثالهم أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين.
وهل تعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل، نهى عنها عبثا ولعبا، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى. وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منهما يجر إلى الشرك
__________
(1) يونس الآية (20).
(2) الأعراف الآية (188).
(3) الأنفال الآية (17).(9/313)
ويفسد عقيدة التوحيد. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال تحت عنوان "بيان ما عليه المدعون للصلاح وانتسابهم لطريق الصوفية": وما هذه الطوائف الوقتية إلا تلوينات عوجاء، بل أفاعي رقطاء، ابتكرتها مخيلة شيطانية، ومهما أردت التفاهم من أحد منهم والتعرف إلى شخصيته وما تنطوي عليه ضلوعه من الأماني والرغبات، وقمت تبحث عنه في ميادين جهاده، وساحات حروبه ونضاله، وقعت على أعمال تأباها شريعة خير المرسلين. (2)
- ثم قال: إنهم يلعبون بالشرع الشريف ويطبقون الدين على أهوائهم، ويفسرون القرآن بغير معناه، ويجعلون ذلك مصيدة للمال، ولا جدال في أن كثيرين من هذه الطوائف جناة على الأمة الإسلامية إما بجهلهم وجمودهم، وإما بتلاعبهم بالشرع، ومحاولتهم اصطياد الدنيا بشبكة الدين، وإذا قرعهم إنسان بما جاء من الكتاب أو السنة أطلقوا فيه ألسنتهم بالسب، بل ربما كفروه أو فسقوه أو رموه بكل شنيعة.
وبالجملة، فإن الجهل الذي عليه طوائف هذا الزمان جهل هائل لا دواء له إلا التعليم والإرشاد، ولو أن هذه الطوائف توقفت إلى أن تتربى تربية الكتاب والسنة، وتتأدب بآدابهما لاستراحت مما هي فيه من إثم وفساد ومما تعانيه من شرور وموبقات، ولكن: فَإِنَّهَا { لَا
__________
(1) الرحلة (ص.320-321).
(2) الرحلة (ص.158-159).(9/314)
تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (46) (1) .اهـ (2)
- ثم قال: وأما إصلاح دينك فبمتابعة الكتاب والسنة المحمدية لا غير. وأما التصوف في عصرنا اليوم؛ فقد أصبح زيه حبالة للدنيا وشباكه يصطاد بها قلوب من لا يعرفون من الدين إلا اسمه، وما هو إلا اغترارات بأباطيل يختلقها الجاهل، وتمسكات بخزعبلات يفتريها المدعون بهذه الدعوة الفادحة.
وقديما كشف علماء الشريعة الغطاء عن أمر هؤلاء المتصوفة، وبينوا مثالبهم ومخالفتهم للشرع القويم من كل وجهة، وأنهم أضل الناس من كل جهة، وليعلم كل واحد أن ليس المراد بقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا { بِحَبْلِ اللَّهِ } جَمِيعًا (3) طريقة من هذه الطرق التي تمسك بها هؤلاء، وحملهم على التمسك بها متفقهة أهلها بالإتيان ببعض الأدلة من الكتاب والسنة في غير محلها، واستعمالهم التقية في دعاويهم المشقية. (4)
- ثم أورد في ذم التصوف نقولات عن ابن الجوزي من 'تلبيس إبليس' وابن قيم الجوزية من 'إغاثة اللهفان' وغيرهما. وأنكر ما عليه الصوفية من أعمال بدعية شنيعة مثل الرقص حالة الذكر (5) ، والسماع (6) .
__________
(1) الحج الآية (46).
(2) الرحلة (ص.159).
(3) آل عمران الآية (103).
(4) الرحلة (ص.160).
(5) انظر الرحلة المراكشية (ص.171) و(ص.195).
(6) انظر الرحلة المراكشية (ص.168-169) و(ص.175).(9/315)
- ثم قال: وبالجملة فقد تأخر الأمر ودان جل الطوائف التي أصيب بها الإسلام بهمجيات خارجة عن الدين وانتصروا لأنفسهم وشياطينهم وحاربوا لأهوائهم أهل التقوى، ورأوا التمسك بالفساد أقوى. (1)
وبعد سرد جملة كبيرة من أسماء الطرق الصوفية بالمغرب قال: وهذه الطوائف كلها لو أردنا أن نأتي على جميع البدع والمفاسد التي تشبث بها عدد منهم، وما تولد منها لاحتاجت لمجلدات. وبكثرة هذه الطوائف وتباينها، انحط المغرب في أيامنا هذه وفيما قبلها بكثير، وسجل له على صفحات أيامه خرق وحمق ما بعده من خرق وحمق.
وقد عانى علماء الدين الدافعون لهذه الداهية الدهماء مشاق جسيمة عرفها من عرفها، وأنكرها من لم يقف عليها، ولكن تغلبات الأحوال اقتضت فساد الأعمال. وإذا أمعنت النظر في تعدد طرق القوم، واختلاف أحوالهم، وتباين بعضهم بعضا، علمت أن سبب هذا الاختلاف، وكثرة المناكر، وتطرق البدع، إنما هو من جهة قوم تأخرت أزمنتهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي، ولا فهم لمقاصد أهلها وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به، حتى صارت كل طريقة في هذه الأزمنة الأخيرة كأنها شريعة أخرى غير ما أتى به مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وأعظم من ذلك أن كل طريقة من هذه الطرق تتساهل في اتباع السنة
__________
(1) الرحلة (ص.189).(9/316)
وترى اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا. (1)
- وقال أيضا: وتعدد هذه الطوائف أقبح شئ في العصر، وكأن الدين ليس واحدا، وكأن ربه لم يكن واحدا، وكأن مبلغه عن ربه لم يكن واحدا.
وهذا التعدد يدعو إلى الشك، والشك يدعو إلى الإهمال، والإهمال يورث البغض، وعاقبة ذلك الهلاك في دار التحصيل، وفي دار الجزاء.
ومن حق علماء الدين أن يدفعوا هذا الباطل بقدر طاقتهم وقوتهم، لأن الباطل يفسد الحياة، ولأن انتشاره يورث الهلكة. (2)
__________
(1) الرحلة (ص.195).
(2) الرحلة (ص.213).(9/317)
موسى جار الله (1) (1369 هـ)
موسى بن جار الله التركستاني، القازاني، التاتاري، الروسي. تعلم في المدارس الإسلامية بمدينة قازان، ثم في بخارى، وتولى إمامة الجامع الكبير في بتروغراد، وحج وجاور بمكة ثلاث سنين، وعاد إلى بلاده، ثم قبض عليه وسجن، ثم اضطر إلى الهجرة، ومرض في مصر، وتوفي بها سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف.
موقفه من الرافضة:
له: 'الوشيعة في نقض عقائد الشيعة' وهو مطبوع متداول.
إبراهيم بن عبدالعزيز السويح (2) (1369 هـ)
الشيخ إبراهيم بن عبدالعزيز بن إبراهيم السويح. ولد في بلدة روضة سدير سنة اثنتين وثلاثمائة وألف، ورحل إلى كثير من البلدان لطلب العلم، فقرأ في مدينة المجمعة، على الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى والشيخ عبدالله العنقري وغيرهما، وجاور في مكة وقرأ على علمائها، منهم الشيخ عبدالعزيز ابن مانع ومحمد عبدالرزاق حمزة. عين قاضيا في بلدة العلا ثم في بلدة تبوك. وكان فقيها نبيلا أديبا ماهرا، له أخلاق فاضلة، ذكيا، قوي الحافظة، ذا سكينة ووقار.
توفي رحمه الله في آخر رمضان سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف.
__________
(1) الأعلام (7/320-321) ومعجم المؤلفين (13/36-37).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/334-336).(9/318)
موقفه من المشركين:
له كتاب 'بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال' رد فيه على كتاب 'هذه هي الأغلال' لعبدالله بن علي القصيمي، وقد وسم فيه الشرائع بأنها أغلال تحول دون التقدم الحضاري، وما تقدمت الدول الأوربية إلا حين تخلت عن دينها المسيحي. (1)
محمد بن المهابة (2) (1370 هـ)
العلامة اللغوي محمد المهابة بن سيدي محمد بن الطالب إميجن الجملي، ولد في ضواحي مدينة مقطع الحجار بولاية ألاك البراكنة عام ست وثلاثمائة وألف للهجرة، وحفظ القرآن في صغره، ثم تابع دراسته على علماء المنطقة، ومن أبرزهم الفاروق بن زياد الديماني والأمين بن الشيخ محمد الحجاجي ومحمد سالم بن حد. وبرع في الفقه واللغة وعلومها والحديث ومصطلحه، وكان شديد الذكاء متفوقا على أقرانه في الحفظ والفهم. ولازم الشيخ باب وتأثر به في عقيدته ومنهجه. حج والتقى ببعض العلماء السلفيين منهم محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. تولى التدريس والقضاء والفتيا في دائرة البراكنة. تتلمذ عليه محمد عمر بن محمد بلال الجملي، ومحمد بن تكدي اللمتوني، ومحمد الشيباني النجمري وغيرهم. ومن مؤلفاته: 'مذهب السلف في التفويض في آيات الصفات وأحاديثها'، وفتاوى مدونة في
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/335).
(2) السلفية وأعلامها بموريتانيا (300 وما بعدها).(9/319)
مجلد، وغيرهما.
توفي رحمه الله في أوائل ذي الحجة من عام سبعين وثلاثمائة وألف للهجرة في مدينة أندر بالسنغال.
موقفه من الصوفية:
جاء في السلفية وأعلامها في موريتانيا: كما ركز على نقد المتصوفة، فوصفهم بالغلو والبعد عن الحق، واستعباد أتباعهم وساق أبياتا في هذا المعنى. (1)
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: ...إن السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأتباعهم من الفقهاء، والمحدثين، مجمعون على إبقاء نصوص الكتاب والسنة على ظواهرها.. والسكوت عليها من غير تعطيل، ولا تشبيه، ولا تكييف، ولا تأويل، بل يعتقدونها حقا بلا تكييف، مع اعتقادهم أن الله تعالى ليس كمثله شيء.
وأضاف -رحمه الله- قائلا: إن هذا المذهب هو الذي كان عليه مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن المبارك -رحمهم الله- فقد روي عنهم كلهم أنهم أثبتوا الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، وقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، وهو قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.. وأما الجهمية فأنكروا ذلك، وتأولوا آيات الصفات وأحاديثها،
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (310).(9/320)
وفسروها على غير ما فسر أهل العلم. (1)
ثم قال ما نصه: إن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد، وهو أصل كل خطأ، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث، والتفويض إلى الله في جميعها.. (2)
محمد عبدالله المدني (1371 هـ)
موقفه من المبتدعة:
ذكر الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله تعالى في ترجمته لهذا الشيخ، أنه كانت له اليد البيضاء في نشر العقيدة السلفية (بمالي - تنبكتو)، وأن الشيخ حماد ما عرف العقيدة إلا على طريقه، ووصفه بأنه مجاهد كبير وذكر له في مسودته قصائد في الدفاع عن العقيدة السلفية، التي رد بها على المبتدعة في تلك البلاد، فجزاه الله أحسن الجزاء.
فوزان السابق (3) (1373 هـ)
فوزان بن سابق بن فوزان آل عثمان البريدي القصيمي الدوسري النجدي. ولد في بريدة سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، ونشأ بها وتعلم على يد مجموعة من الشيوخ منهم الشيخ سليمان بن مقبل والشيخ محمد بن
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (306).
(2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (309).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/378-383) والأعلام (5/162) ومعجم المؤلفين (8/81-82).(9/321)
عمر آل سليم والشيخ محمد بن عبدالله ابن سليم والشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ وغيرهم. قال عنه صاحب الأعلام: كان من التقى والصدق والدعة وحسن التبصر في الأمور والتفهم لها على جانب عظيم. وكان رحمه الله من العلماء الأفاضل، وكان مع طلبه للعلم يشتغل بتجارة الخيل والمواشي حتى اختاره الملك عبدالعزيز ليكون سفيرا له بدمشق، ثم نقله إلى القاهرة، حيث بدأ دعوته إلى الله علما وعملا معرفا أهل مصر بمعتقد أهل السنة والجماعة ورادا على الطاعنين فيه، إلى أن توفي رحمه الله سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له: 'البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار'. والكتاب مطبوع متداول يدل على قدرة المؤلف العلمية وتمسكه بالعقيدة السلفية.
- قال في مقدمته: أما بعد: فإني لما كنت في دمشق الشام، وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، جمعتني فيها مجالس مع أناس ممن يدعون العلم، وآخرين ممن ينتسبون إليهم. فكانوا لا يتورعون عن الاعتراض على أهل نجد والطعن عليهم في عقيدتهم، وتسميتهم بالوهابية، وأنهم أهل مذهب خامس، والغلاة من هؤلاء يكفرونهم.
ولما كان هؤلاء الغلاة الجامدون على التقليد الأعمى: معرضين عن استقراء الحقائق في مسائل الدين من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة الهدى والدين في هذه الأمة، وخصوصا الأئمة الأربعة، الذين يزعم هؤلاء الجاهلون تقليدهم، ويغالون(9/322)
فيه، ويقولون: إن من خرج عن تقليد أحد الأئمة الأربعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. ومع ذلك تراهم يخالفون الأئمة الأربعة فيما أجمعوا عليه من أصول الدين، وذلك في توحيد عبادة الله تعالى، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك في عبادته تعالى والإقرار بعلو الله تعالى على خلقه، وإثبات صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلقاها عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من علماء الأمة وأئمتها بالقبول والتسليم، إثباتا من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.
فقد أعرض هؤلاء المبتدعة عن اتباع الكتاب والسنة والسلف الصالح من هذه الأمة، ولم يقلدوا أحد الأئمة الأربعة، بل فتحوا باب الشرك في عبادة الله تعالى، ومثلوا صفاته تعالى بصفات خلقه، فقادهم ذلك إلى الجحود والتأويل الباطل. (1)
- وقال: فأما قول هذا الملحد -يعني الحاج المختار- في مخاطبته لهؤلاء العلماء "إني أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع" مقدما لها، ومنوها بها على غيرها. فما ذاك إلا لأنها في مذهبه الباطل: أكبر بدعة في الدين، بل هي عنده: أكبر من جميع ما أسنده إليهم من أعمال المنافقين، وأعمال أهل الكتاب الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فإن كل من خالف هؤلاء الضالين في مذهبهم الباطل المخالف لكتاب الله
__________
(1) البيان والإشهار (3-4).(9/323)
تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - : يسمونه مجتهدا خارجا عن مذاهب الأئمة الأربعة، كما أنهم يسمون إجماعهم على ضلالهم ومن تبعهم من العوام "إجماع الأئمة" ومن خالفهم فقد خرق إجماع الأمة. فهذه براهينهم مبنية على الكذب والمغالطات، غير ملتفتين إلى ما أجمع عليه الأئمة الأربعة في أصول الدين، فضلا عن فروعه. وهذا الملحد جاهل أعمى متبع لهواه. لذلك يسمي الاجتهاد بدعة في الدين، ولم يدر هذا الجاهل الأحمق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جوز اجتهاد الصحابة، واجتهد الصحابة من بعده، واتفق العلماء من كل مذهب: على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات، لا يجوز خلو عصر منه. (1)
ثم ساق قطوفا من كلام العلماء في ذلك.
- وقال: وأما قول الملحد: "ولا ريب أن دعواكم الرجوع لما كان عليه السلف الصالح" إلى آخر كلامه.
فجوابنا عنه: أننا بحمد الله لم نخرج عما كان عليه السلف الصالح حتى ندعي الرجوع إليه. هذا جوابنا إن كان يريد ذلك.
وأما إن كان قصده: أننا ندعي اتباع السلف الصالح والرجوع إليهم، واتباع سبيلهم قولا وعملا: فهذا ما ندين الله تعالى به وندعو إليه، بل نقر إقرارا أصوليا لا إلزاميا: بأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين -كالأئمة الأربعة وأمثالهم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة- كانوا على الكتاب والسنة، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم قامت
__________
(1) البيان والإشهار (10-11).(9/324)
السنة، وبها قاموا. فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وقد جاهدوا في دين الله حق جهاده والذب عنه، حتى لقوا ربهم، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
فأما الذين يدعون أنهم على مذهب السلف وأنهم مقلدون للأئمة الأربعة، وهم مخالفون لهم في الأصول، فضلا عن الفروع. فليسوا على مذهب السلف، ولا ممن قلدوا الأئمة الأربعة، وليسوا على كتاب ولا سنة -أمثال هذا الملحد، ومن قلدهم- وكيف يكون على مذهب السلف أو مقلدا للأئمة الأربعة: من لا يجيز التعبد والتعامل ولا الفتوى بما في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث التي صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتفاق الأمة؟ لا يخرج عن هذا الاتفاق إلا مبطل معاند. (1)
- وقال -رادا على الملحد مختار في طعنه على أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب-: فنحن الوهابيون بحمد الله: أن هدانا إلى الحق، فأصل مذهبنا وقواعده كلها: في القرآن، ومنه أخذناها، وبه تلقينا سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالقبول، وحكمناها على كل قول سواها. فأطعناه واتبعنا أمره، تصديقا وانقيادا لقوله تعالى: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) وقوله تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (3) وقوله تعالى:
__________
(1) البيان والإشهار (17).
(2) الحشر الآية (7).
(3) النساء الآية (80).(9/325)
وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (92) (1) وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } (2) وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (3) وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (132) (4) وقوله تعالى: قُلْ { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } (5) وقوله تعالى:
__________
(1) المائدة الآية (92).
(2) الأنفال الآية (24).
(3) الأنفال الآية (46).
(4) آل عمران الآية (132).
(5) النور الآية (54).(9/326)
وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } (17) (1) وقوله تعالى: أَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (33) (2) وقوله تعالى: وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (71) (3) وقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (4) وقوله تعالى: وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح !$xےّ9$# } (52) (5) وقوله تعالى: وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
__________
(1) الفتح الآية (17).
(2) محمد الآية (33).
(3) الأحزاب الآية (71).
(4) النور الآية (63).
(5) النور الآية (52).(9/327)
} عَلَيْهِمْ (1) وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا { اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } (12) (2) إلى غير ذلك من الآيات في القرآن كثير، يأمر جل ثناؤه فيها بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه، أمرا مطلقا لم يقيده بشيء، كما أمر باتباع كتابه العزيز، الذي لَا { يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (42) (3) فمن لم يعمل بما صح من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتلقاها بالقبول التام، لاستقلالها بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال، وتحريم الحرام: فقد كذب القرآن ولم يؤمن بأن الله أرسل محمدا وأنزل عليه القرآن ليبلغه ويبينه للناس، وبهذا يتبين فساد ما افتراه هذا الملحد على الوهابيين في هذا البهت الشنيع. (4)
- وقال: وأما قوله: "زعموا أن القيام في المولد الشريف بدعة". فالجواب: أن القيام والقعود وإقامة الموالد كلها بدعة، إذا لم يقترن بها ما هو واقع فيها اليوم من المفاسد، وأنواع الفسوق. فإذا انضمت إليها هذه
__________
(1) النساء الآية (69).
(2) التغابن الآية (12).
(3) فصلت الآية (42).
(4) البيان والإشهار (99-100).(9/328)
المنكرات التي يجب أن يصان عنها جناب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ويطهر ذكره عن أوساخها، فلا يشك عاقل -فضلا عن عالم- في أنها من البدع المحرمة التي لم تكن على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عهد أصحابه ولا القرون المفضلة من بعدهم. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) وفي رواية: "من صنع أمرا على غير أمرنا فهو رد" (2) .
فهل لهذا الملحد أن يأتينا بدليل عن الله تعالى، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - في إقامة هذه الموالد، أو عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنه، أو أحد من التابعين، أو أحد من الأئمة الأربعة؟ وإذا كان هذا ليس معروفا من أقوال وأفعال من ذكرناهم، فلا شك ولا ريب في أنه مردود على قائله، مأزور فاعله بنص حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه آنفا. (3)
وقال: فأما قول الملحد: "فأسألكم من هم السلف؟ إلى آخره".
فنقول له، وبالله التوفيق: سلفنا من أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وافترض الله علينا طاعته وتعظيمه وتوقيره، وسدَّ إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه. من عَلّم الله به من الجهالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما، وقلوبا غلفاً: سيد
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(2) أخرجه أبو داود (5/12-13/4606) وأخرجه الإمام أحمد (6/73) بلفظ: "من صنع أمرا من غير أمرنا فهو مردود".
(3) البيان والإشهار (ص.299).(9/329)
الأولين والآخرين، من جاءنا بها بيضاء نقية، القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (1) وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى في الموطأ (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: "وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله تعالى" (3) وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم. ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فأوصنا. فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً. فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، ولك بدع ضلالة" (4) وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب" -الحديث بطوله رواه النسائي وإسناده صحيح (5) ، ورجاله رجال الصحيح، إلا إبراهيم الخثعمي، فإنه لم يخرج له الشيخان. وهو ثقة ثبت، ذكره الجزري. كذا في المرقاة
__________
(1) سيأتي تخريجه في مواقف حافظ الحكمي سنة (1377هـ).
(2) بلاغاً (2/899).
(3) تقدم تخريجه في مواقف أبي الزناد سنة (130هـ).
(4) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(5) السنن الكبرى (5/388/9223). وقد توبع عنده، انظر الأحاديث (9219-9226).(9/330)
واللمعات. قاله في الدين الخالص.
فليس لنا سلف سوى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما جاءنا به من كتاب ربه وسنته المطهرة، وما أرشدنا إليه من سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وأصحابه خيار هذه الأمة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، نعرف لهم فضلهم وأمانتهم، ونشهد بصدقهم وإمامتهم، لإرشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره لنا باتباعهم، واقتفاء أثرهم. فنحن مع نصوص الكتاب والسنة دائرون، ولمن قال بهما متبعون. لا تأخذنا فيهما لومة لائم. ولا يثنينا عنهما إرجاف منحرف في ضلالته هائم. فإن خفي علينا حكم، أو أشكل علينا فهم معنى، رجعنا فيه إلى من أرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباعهم، فيسعنا ما وسعهم؛ فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة، فله الحمد والمنة، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. (1)
موقفه من المشركين:
- قال في كتاب 'البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار': وأما مسألة (اطلاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على علم الغيب) فإن هذا الملحد ومن اتبعه من المارقين من الدين، يزعمون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب استقلالا، كما يعلمه الله تبارك وتعالى كَبُرَتْ { كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } (5) (2) وهذا الزعم ينكره كل مؤمن بالله وبكتابه وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وكل
__________
(1) البيان والإشهار (ص.19-20).
(2) الكهف الآية (5).(9/331)
مؤمن يؤمن بأن الله تعالى يطلع من يشاء من أنبيائه ورسله على بعض المغيبات. وهذه مسألة لا تحتاج إلى جدل، كيف ونصوص الكتاب الكريم ناطقة بذلك؟! يقول تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } (65) (1) .
ويقول تعالى: قُلْ { لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (188) (2) ويقول تعالى: قُلْ { مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } (9) (3) وقال تعالى: عَالِمُ { الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ
__________
(1) النمل الآية (65).
(2) الأعراف الآية (188).
(3) الأحقاف الآية (9).(9/332)
ارْتَضَى مِنْ } رَسُولٍ (1) -الآية، وقال تعالى: وَلَا { أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي } مَلَكٌ (2) فمن لم يقف مع هذه النصوص، ويعطي كل ذي حق حقه. فقد جعل مع الله إلها غيره.
- قال الملحد: "البحث الثاني: في الزيارة، اعلم يا أخي -شرح الله قلبي وقلبك بنور الإخلاص- أن لنا معشر المؤمنين وجدانا في حب نبينا عليه الصلاة والسلام يكفينا عن الاستدلال والاستشهاد على ما نحن في صدده. فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق".
أقول: في كلام هذا الجاهل من الركاكة وسوء التعبير: ما هو اللائق بجهله وغروره في نفسه. إذ أنه لم يكن من الذين شرح الله صدورهم للإسلام، ونور قلوبهم بنور الإيمان المتلقى من مشكاة النبوة، وإنما هو من الجامدين على العادات الجاهلية، والتقاليد الوثنية، التي نشأوا عليها، وحكموها في وجدانهم الضال. فجعلوها دينا يقدمونها على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فلم يكن مصدر وجدانهم عن علم ولا هدى ولا نور، وإنما هي عن بلادة وتقليد أعمى، وغرور بما ورثوا من الجهالات والضلالات البعيدة كل البعد عن خالص الإيمان بالله وبرسوله، وما جاء به من عند الله تعالى من تعزيره وتوقيره، واتباع النور الذي أنزل معه. فمواجيدهم صادرة
__________
(1) الجن الآيتان (26و27).
(2) هود الآية (31).(9/333)
عن هوى نفوسهم الأمارة بالسوء، وعن وسوسة الشيطان الذي أضلهم عن سلوك سبيل المؤمنين. لذلك يقول الأحمق: "إنه يكتفي بوجدانه فيما يزعمه من حب نبينا عليه الصلاة والسلام عن الاستدلال والاستشهاد لما هو في صدده" ويعني به: ما سيذكره من الغلو الذي آل بهم إلى الكفر الشنيع، ومن ثم حذر ونهى الله عنه ورسوله في حقه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وفي حق كل مخلوق، وذلك فيما يموه به عباد القبور من اسم الزيارة عامة، وزيارة قبره الشريف خاصة، فإن حقيقة هذه الزيارة عندهم هي: دعاء الأموات، وصرف خالص العبادة لهم من دون الله فاطر الأرض والسموات. وأما محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : فإنها تبع لمحبة الله تعالى. وقد ادعى قوم محبة الله تعالى، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (1) وكل من ادعى ما ليس فيه، طولب بالدليل قُلْ { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (64) (2) وكيف يدعي محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هو خصم لدعوته ودعوة إخوانه من الرسل، وهي توحيد الله تعالى؟ قال تعالى: وَمَا { أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
__________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) النمل الآية (64).(9/334)
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (25) (1) وهذا الملحد وإخوانه من عباد القبور يصرفون العبادة للموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ويسمونها زيارة القبور، ويقول هذا الأحمق بكل وقاحة: "فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق".
فنقول له: ومن أنت أيها الجهول الظلوم الكفار، حتى تكون متبوعا؟! ألست من حثالة الجهلة المقلدين، الدعاة إلى غير سبيل المؤمنين؟ فبعدا وسحقا للقوم الظالمين.
ثم يقال لهذا الإمعة: إن التنازع كل التنازع في الأذواق التي جعلتها أساس دينك؛ فبطل وانهار فوق رأسك أَفَمَنْ { زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (2) ولولا التنازع في الأذواق، ما كان في الدنيا راد ولا مردود عليه، ولا كان شيطان أبى واستكبر وكان من الكافرين. ولا كنت وسلفك من أولياء الشيطان الرجيم.
ثم إن هذا الأحمق قام يتهوس بكلام كله نفاق ورياء لا يهمنا. وليس
__________
(1) الأنبياء الآية (25).
(2) فاطر الآية (8).(9/335)
هو من موضوعنا في شيء، إلا أنه زعم فيه "أن من لم يرقص ويتمرغ في الرمل في عرفات" وما ذكر معه من هراء القول والسخرية حيث قال: "فإنه لا يشعر بشيء، ولايدرك شيئا، ولا يجد لذة باغتنام أجر، ولا رغبة في زيادة فضل -إلى أن قال- بل قف في الحرم المكي، واصرف نظرك إلى الناس إذا قال المؤذن يا أرحم الراحمين ارحمنا. ترى من خر مصروعا. ومن علا نحيبه وبكاؤه، وشخص ببصره إلى السماء مندهشا" إلى آخر ما هذى به من هذه الخرافات والنفاق الخالص الذي ينضح بخبيث الشرك والكفر والفسوق عن أمر الله وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فإن هذا هو شأن هؤلاء المنافقين الدجالين الذين يتصنعون في هذه المجتمعات الشريفة أنواع الحيل لبلوغ مأرب في نفوسهم مكرا وخداعا، فليس هؤلاء السفلة -إخوان الحاج مختار- أفضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أتقى لله، ولا أعرف به منهم، فإنهم لم يعملوا هذه الأعمال. فلم يرقصوا ولم يتمرغوا في الرمل، ولم يصرعوا متخبطين، كما يصرع حزب الشيطان من مس وليهم الشيطان الرجيم، وإنما كانوا كما وصفهم الله، وأثنى عليهم بقوله: الَّذِينَ { آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (28) (1) .
ثم قال الأحمق: "أما الأحاديث الواردة بفضل زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام، والأنبياء والأولياء والصالحين، وما يحصل منها من البركات
__________
(1) الرعد الآية (28).(9/336)
والخيرات: فهي أكثر من أن تجمع في مختصر مثل هذا" إلى آخر ما هذى به.
فالجواب: أن الزيارة الشرعية لقبور موتى المؤمنين، من الأنبياء والأولياء والصالحين وكافة قبور المسلمين: سنة متفق عليها، لا خلاف فيها عند كافة المسلمين. وأما القبور الوثنية التي بنيت عليها القباب، وأقيمت عليها الأستار والأنصاب، وبنيت عليها المساجد، فكل ذلك مما لعن رسول الله فاعله.
وكذلك الزيارة البدعية الشركية المخالفة لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومن تبعهم من القرون المفضلة، وما يحدث بسببها من الغلو بأصحاب القبور وما يصرف لهم من أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء ونذر النذور لهم، وغيرها مما لا يجوز صرفه لغير الله تعالى؛ فإن هذه هي الزيارة المحرمة وصاحبها ملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذه هي الزيارة التي ننكرها وينكرها كل من نور الله بصيرته بهدى الإسلام، ورزقه فهما صالحا يميز به بين الحق والباطل.
وأما من أغواهم الشيطان: فإنهم يجعلون مع الله تعالى آلهة أخرى، يصرفون لهم ما لله من العبادة من الدعاء والخوف والرجاء، وغير ذلك مما عليه عباد القبور من الغلو بأصحابها. وهذا أمر واقع لا ينكره إلا مكابر معاند، أمثال الحاج مختار ومن قلدهم.
وأما قوله: "إن الشيطان أغوانا، وإننا نزعم أن زيارة قبور الرسل والأنبياء والتوسل بجاههم: شرك بالله تعالى".
فهذا كذب. والذي ننكره من ذلك: هو ما صح الخبر عن رسول الله بالنهي عنه، وكل ما فيه صرف حق الله تعالى لغيره كما تقدم ذكره آنفا.(9/337)
وأما قوله: "إننا نتزلف للأمراء، وأن هذا التزلف منا أقبح من عبادة الأوثان والأصنام".
فهذا القول من هذا الملحد من هذر المجانين، ونزغات الشياطين، التي تحلى بها وبأمثالها من الأقوال الباطلة هذا الأحمق. (1)
- وقال رحمه الله: إن هذا الملحد ومن قلده من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى -أمثال دحلان والنبهاني- ممن جعلوا الأموات وسائط بين الله وبين عباده، وصرفوا لهم خالص العبادة من دون الله تعالى. هؤلاء هم الذين أضلوا كثيرا من جهلة المسلمين، وفتحوا لهم أبواب الشرك في عبادة الله تعالى. وسموها زيارة القبور، وطلب الشفاعة من أهلها، وأن الأموات هم وسيلة الأحياء إلى الله تعالى، لأنهم أقرب منهم إلى الله تعالى، وسواء سموا هؤلاء المدعوين أنبياء أو أولياء، فإنهم عباد الله تعالى. يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا { أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
__________
(1) البيان والإشهار (295-299).(9/338)
كَفَّارٌ } (3) (1) ويقول تعالى: أَمِ { اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (44) (2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة، نصوص بهذا المعنى لا تقبل تحريفا ولا تأويلا، قد صد عنها هؤلاء الوثنيون الذين تجب محاربتهم وإشهار ضلالهم، وتحذير جهلة المسلمين من سلوك سبيلهم، عملا بهذه الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (3)
- وقال: يزعم هذا الملحد المارق بأننا أعداء لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وما ذنبنا عنده إلا اتباعنا لكتاب الله تعالى وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أننا لا نغلو بالقبور وأصحابها، ولا نصرف للمقبورين حقا من حقوق الله تعالى، ولا نتخذها مساجد، ممتثلين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءتنا به الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي خرجها البخاري ومسلم وأهل السنن والإمام مالك رحمهم الله تعالى. فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (4) وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إن
__________
(1) الزمر الآيتان (2و3).
(2) الزمر الآيتان (43و44).
(3) البيان والإشهار (308-309).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن حجر الهيثمي سنة (973هـ).(9/339)
من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" (1) وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (2) وحديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل. فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" (3) وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، إذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا (4) . وفي رواية مسلم "وصالحيهم" ومع هذه النصوص التي لا تقبل المغالطة. فقد بلغ الغلو بهذا الملحد مبلغا من الشرك لم يصل إليه إلا عبدة الأصنام. يقول عنا: "إننا لو جئنا إلى المدينة المنورة في شهر محرم حينما يأتي الزوار القافلون من الحج، ورأينا ما يفعله مئات ألوف
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن عبدالهادي سنة (744هـ).
(2) أحمد (2/284) والبخاري (1/700/437) ومسلم (1/376/530) وأبو داود (3/553/3227) والنسائي (4/401/2046) وفي الكبرى (4/257/7092) من طرق عن أبي هريرة.
(3) مسلم (1/377/532).
(4) أحمد (6/34) والبخاري (1/700/435 و436) ومسلم (1/377/531) والنسائي (2/370-371/702) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.(9/340)
الحجاج من مسلمي كافة الأقطار حول حجرة الرسول الطاهرة من الطواف والتوسل واللياذ بحماه. ونسمع عجيجهم وثجيجهم، وبكاءهم ونحيبهم، لعميت عيوننا وانفطرت قلوبنا، وانشقت أفئدتنا -إلى آخر ما ذكره".
ونحن نجيب هذا المارق: بأنه قد يصيبنا أكثر مما ذكره إذا رأينا وسمعنا ما يقوله عنهم مما يغضب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . وذلك أسفا منا على المسلمين الذين بدلوا الهدى ضلالا، والتوحيد شركا، وطاعة الرسول محادة ومشاقة. وكيف لا ينفطر قلب كل مسلم يرى تغيير معالم الدين، ويسمع الشرك برب العالمين في مهبط وحيه، وفي حرم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وفي جوار قبره الشريف؟! فهل فرض الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بغير الكعبة؟! وهل فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم أو التابعون لهم بإحسان من القرون المفضلة؟! وهل كان العجيج والثجيج والبكاء والنحيب إلا لله وحده لا شريك له في مناجاته في الخلوات، وفي بيته الحرام، ومشاعر الحج التي جعلها الله قياما للناس وأمنا يؤدون فيها مناسكهم بين العجيج والثجيج والبكاء والنحيب، لا يذكرون غير الله تعالى، ولا يتوسلون إليه إلا بالأعمال الصالحة عائذين بجلاله تعالى، لائذين بحماه الذي لا يرام وَإِذَا { سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (186) (1)
__________
(1) البقرة الآية (186).(9/341)
أَمْ مَنْ { يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } (62) (1) هذا هو خالص العبادة لله تعالى، بل مخها، صرفه عباد القبور لولائجهم الموتى من دون الله تعالى وَمَا { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } حُنَفَاءَ (2) فَبَدَّلَ { الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ } لَهُمْ (3) وما سبب ذلك إلا الغلو بالصالحين، ومجاوزة الحد الذي شرعه الله تعالى من حقوق أنبيائه وأوليائه. قال تعالى: يَا أَهْلَ { الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } (4) -الآية، وقال تعالى: قُلْ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا
__________
(1) النمل الآية (62).
(2) البينة الآية (5).
(3) البقرة الآية (59).
(4) النساء الآية (171).(9/342)
وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (77) (1) وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَقَالُوا { لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } (23) (2) : (هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح. فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصابا، وصوروا تماثيلهم. فلما مات أولئك ونسي العلم عبدت)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا عبدالله ورسوله" (3) وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له: ما شاء الله وما شئت: "أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده" (4) .اهـ (5)
عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (6) (1373 هـ)
الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد ابن سعود، من آل مقرن. ولد في الرياض (بنجد) سنة ثلاث وتسعين ومائتين
__________
(1) المائدة الآية (77).
(2) نوح الآية (23).
(3) أحمد (1/47) والبخاري (12/174/6830) مطولا. وأخرجه بدون محل الشاهد: مسلم (3/1317/1691) وأبو داود (4/572-573/4418) والترمذي (4/30/1432) وابن ماجه (2/853/2553).
(4) سيأتي تخريجه ضمن مواقف الشيخ الألباني سنة (1420هـ).
(5) البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج المختار (316-318).
(6) الأعلام (4/19-20).(9/343)
وألف. وخاض حروبا كثيرة من أجل توحيد البلاد، وكان شجاعا بطلا لا يخاف في الله لومة لائم، انتهى به عهد الفروسية في شبه الجزيرة العربية. وكان كريما لا يجارى، خطيبا، لا يبرم أمرا قبل إعمال الروية فيه، يستشير ويناقش، ويكره الملق والرياء.
توفي بالطائف ودفن في الرياض سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف رحمه الله تعالى.
كان هذا الملك على نهج سلفه في تبني العقيدة السلفية والدفاع عنها، وحمايتها وتأييدها بالمال والرجال والنفس، وكانت المملكة في عهده مأوى لكل سلفي. وكان رحمه الله يستطلع جميع البلاد الإسلامية، فكل من بلغه عنه أنه على هذه العقيدة المباركة، كاتبه، وإن أمكن أحضره إليه وقربه. وأما علماء بلده وخصوصا سلالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فلا تسأل عن الحفاوة والاستشارة وتعميدهم للفتوى، والفصل بين الناس. وكاتب رحمه الله الكثير من خارج قطره يدعوهم إلى عقيدة السلف ويشرحها لهم، ويبين لهم بطلان مزاعم الحاقدين على الدعوة السلفية، وأنما هو شيء اخترعه الحاسدون والحاقدون. وقد أمر رضي الله عنه بطبع كثير من كتب السلف وتوزيعها بالمجان على طلبة العلم، وله في ذلك سنن وأيادي بيضاء، فجزاه الله خيرا وأسكنه جنة الفردوس.
موقفه من المبتدعة:
نموذج من رسائله السلفية:
جاء في الدرر السنية: من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل إلى جناب(9/344)
الأخوين المكرمين الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي سلمهما الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو على نعمه التي من أجلها نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه إذ جعلنا من أهلها وأنصارها والذابين عنها، ونسأله أن يصلي على عبده ورسوله وحبيبه وخيرته من خلقه محمد وآله وصحبه وحزبه.
ورد علينا ردكم على عبدالقادر الاسكندراني، فرأيناه ردا سديدا، وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود، فحمدنا الله على ما مَنَّ به عليكم من معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشايخ المسلمين فاستحسنوه وأجازوه، فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين وشبه المارقين والملحدين، فلربنا الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يُثني به عليه خلقه، وهذه منة عظيمة ومنحة جليلة جسيمة حيث جعلكم الله في هذه الأزمان التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودين يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة من ينهى عن ذلك أو يغيره. فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك ويحذر عنه خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم من الكفر والشرك والبدع والمنكرات(9/345)
الفظيعة، فالعالم بالحق والعارف له والمنكر للباطل والمغير له يعد بينهم وحيدا غريبا.
فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بالحجة والبيان، حتى يمن الله الكريم عليكم بمن يساعدكم على هذا، فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات لا سيما في هذا الزمان، الذي قل خيره وكثر شره، قال - صلى الله عليه وسلم - : "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء" (1) . وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" (2) . ونحن إن شاء الله من أنصاركم وأعوانكم.
ومن حسن توفيق الله لكم أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك، واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله. فإن الحق منصور وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه من الطريقة المحمدية والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف أسد السنة سنة (212هـ).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أسد السنة سنة (212هـ).(9/346)
نحن عليه وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية لأقوم منهج وطريق والسلام. (1)
عبدالله بن عبدالعزيز العنقري (2) (1373 هـ)
عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن العنقري من آل عبدالرحمن. ولد في بلدة ثرمداء سنة تسعين ومائتين وألف، وقتل والده وله من العمر سنتان، ثم كف بصره في السابعة من عمره، فتوجه إلى طلب العلم الشرعي، فقرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ إسحاق بن عبدالرحمن والشيخ محمد ابن محمود والشيخ حمد بن فارس وغيرهم. ولي القضاء بسدير، وانتدب من طرف الملك عبدالعزيز لمجموعة من المساعي الإصلاحية بين أطراف متعددة.
قال عنه الشيخ محمد بن مانع: كانت له عناية شديدة بالفقه الحنبلي، فصار له آثار حميدة في التحقيق والتدقيق، فقام بالتدريس والتأليف وكتابة الفتاوى المحررة التي سلك فيها مسلك التحقيق من ذكر الدليل والتعليل، والترجيح لما رجحه الدليل من أقوال المجتهدين. وقال عنه تلميذه سليمان بن حمدان: كان فيما بلغني يلقب بالحافظ، لما رزقه الله من سرعة الحفظ وقوة الإدراك، وكان مشايخه الذين أخذ عنهم يجلونه ويحترمونه، هذا مع ما هو عليه من الوقار والتعفف، والتواضع واطراح التكلف، وعدم مزاحمة أرباب
__________
(1) الدرر السنية (1/303-305).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/265-279) والأعلام (4/99) والمستدرك على معجم المؤلفين (423-424).(9/347)
المناصب عليها. ولم يزل رحمه الله معتنيا بنشر العلم والتدريس والتأليف إلى أن توفي رحمه الله في اليوم السادس من صفر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف في بلدة المجمعة.
موقفه من المبتدعة:
له: 'تعليقات على نونية ابن القيم' لا تزال مخطوطة.
فيصل بن عبدالعزيز آل فيصل آل مبارك (1) (1373 هـ)
فيصل بن عبدالعزيز بن فيصل بن محمد بن مبارك بن راشد آل حمد آل الحسيني العنزي ثم الوائلي. ولد في بلد عشيرته (حريملاء) سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم انتقلت أسرته إلى الرياض، وتوفي والده في المعركة التي دارت بين الملك عبدالعزيز وبين الأمير عبدالعزيز بن رشيد سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. تلقى العلوم الشرعية على شيوخ زمانه كالشيخ ناصر بن محمد بن ناصر والشيخ محمد بن فيصل ابن مبارك والشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ سعد بن عتيق والشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم. بعثه الملك عبدالعزيز واعظا ومرشدا إلى بلدان الحجاز وتهامة، وتولى القضاء في عدة بلدان. وكان رحمه الله مولعا بكتب ومؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وكان يدرسها لطلبة العلم. وأوقاته كلها معمورة بالتدريس والإفادة، أخذ عنه الشيخ
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/392-402) والأعلام (5/168).(9/348)
عبدالله بن عبدالوهاب والشيخ عبدالعزيز العقل والشيخ حمود ابن متروك البليهد وغيرهم.
توفي رحمه الله في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف في مدينة سكاكة بالجوف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: 'مقام الرشاد بين التقليد والاجتهاد'. (1)
__________
(1) علماء نجد (5/397).(9/349)
سيد المختار بن عبدالملك (1) (1375 هـ)
سيد المختار بن عبدالمالك الجكني. عالم جليل له اليد الطولى في القرآن الكريم وعلومه والفقه المالكي، وكان شيخ محضرة يدرس فيها العقيدة السلفية من الكتاب والسنة، والقرآن الكريم وعلومه، والفقه وأصوله، واللغة العربية وعلومها، مع قيامه بالفتيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اشتهر بالزهد والورع وقد عاش في الفترة ما بين ست عشرة وثلاثمائة وألف وخمس وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة كما قال تلميذه التلميدي بن محمود. وكان رحمه الله سلفي العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة، واقفا عندهما، متبعا للإمام مالك وابن أبي زيد القيرواني. درَّس أبناءه العقيدة السلفية. وكان رحمه الله يذم أهل الكلام وينتقد مناهجهم وينكر على المتصوفة.
موقفه من الجهمية:
قال تلميذه وابن عمه التلميدي بن محمود وهو يحدثنا عن منهجه في العقيدة فيقول: كان شيخنا سيد المختار بن عبدالمالك -رحمه الله- سلفي العقيدة، متمسكا بالكتاب والسنة، واقفا عندهما، مثبتا للصفات الإلهية على الوجه اللائق بالله عز وجل، من غير تشبيه، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تأويل، وكما هو معروف -يقول الشيخ التلميدي- فإن مسألة الاستواء من أولى المسائل التي احتدم فيها النزاع، واشتهر بين أهل السنة والجماعة من جهة، وبين الجهمية وغيرهم من طوائف المتكلمين من جهة أخرى. وقد كان
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (334-337 مع الهامش).(9/350)
الشيخ سيد المختار يقول فيها بما قاله الإمام مالك وغيره من السلف: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وما قاله ابن أبي زيد القيرواني: من أنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته. وقد منع الشيخ سيد المختار أولاده من دراسة العقيدة الأشعرية، وعلمهم العقيدة السلفية، من الكتاب، والسنة، وألزمهم بحفظ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان إذا طلب منه أحد تلاميذه أن يدرس له بعض المتون في العقيدة الأشعرية واضطر لذلك، لا يتجاوز ما يوافق مذهب السلف من تلك المتون، ويترك مما وراء ذلك من مذاهب المتكلمين، قائلا لمن يدرسه: هذا مذهب كلامي لا حاجة لك به فارم به عرض الحائط. وكان رحمه الله يذم أهل الكلام من أي مذهب كانوا، وينتقد مناهجهم وينكر على المتصوفة، ولا يقبل شهادتهم، ولا يصلي خلفهم. (1)
عبدالرحمن بن ناصر السعدي (2) (1376 هـ)
العلامة عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر بن حمد، أبو عبدالله السعدي. ولد في بلدة عنيزة في اثني عشر للمحرم عام سبع وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، وكان والده واعظا وإماما في مسجد المسوكف. اشتغل بالعلم منذ صغره، ففاق الأقران، وكانت له عناية كبيرة بكتب شيخ الإسلام
__________
(1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (336-337).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/218-272) والأعلام (3/340) وإتحاف النبلاء بسير العلماء للزهراني (1/43-75).(9/351)
ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكتب أخرى في التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول وغيرها. من شيوخه: الشيخ إبراهيم بن محمد بن محمد بن جاسر والشيخ محمد بن عبدالكريم بن إبراهيم بن صالح الشبل والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع وغيرهم. من تلاميذه: الشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل والشيخ عبدالله بن الرحمن السعدي (ابن الشيخ) والشيخ عبدالعزيز بن محمد السلمان وغيرهم.
أثنى عليه مجموعة من علماء عصره، منهم الشيخ محمد حامد الفقي حيث قال فيه: لقد عرفت الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي من أكثر من عشرين سنة فعرفت فيه العالم السلفي المحقق، الذي يبحث عن الدليل الصادق، وينقب عن البرهان الوثيق، فيمشي وراءه لا يلوي على شيء. وقال فيه الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: كان قليل الكلام إلا فيما يترتب عليه فائدة، جالسته غير مرة في مكة والرياض وكان كلامه قليلا إلا في مسائل العلم، وكان متواضعا حسن الخلق، ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه وعنايته بالدليل فرحمه الله رحمة واسعة.
وللشيخ من التراث السلفي:
1- 'الحق الواضح المبين في توحيد الأنبياء والمرسلين'، وهو مطبوع متداول.
2- 'توضيح الكافية الشافية لابن القيم'، وهو مطبوع كذلك.
3- 'التفسير' الذي أبدى فيه عقيدته السلفية. وقد ذكرته وبينت ما فيه من دفاع عن العقيدة السلفية في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في(9/352)
آيات الصفات' (1) .
4- 'الدرة المختصرة في محاسن الإسلام'.
5- 'القواعد الحسان في تفسير القرآن'.
6- 'تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله'.
7- 'وجوب التعاون بين المسلمين وموضوع الجهاد الديني'.
8- 'الدرة البهية - شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية'.
9- 'الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين'.
المصدر: ذكره أبو كمال عبدالغني عبدالخالق في مقدمته على الدرة البهية.
10- 'التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة'.
وهذه الكتب بحمد الله مطبوعة ومتداولة.
توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
كانت لهذا الإمام صولة وجولة في الدعوة إلى العقيدة السلفية، وانتفع به أهل القصيم خاصة والمسلمون عامة. له تراث سلفي جيد. ومن حسن الحظ أن طالبا في الدراسات العليا سجل رسالة علمية -الماجستير- في دراسة آثار الشيخ عبدالرحمن السلفية، وهو ابن الشيخ الفاضل الوقور المحترم
__________
(1) 2/694-700).(9/353)
عبدالمحسن بن حمد العباد أطال الله في عمره ونفع المسلمين بعلمه والابن هو عبدالرزاق بن عبدالمحسن العباد.
- من أقواله المباركة: قال رحمه الله في تفسير الفاتحة وهو يتحدث عما تضمنته من الفوائد: ...بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال في قوله: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } (6) لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة، واستعانة في قوله: إِيَّاكَ { نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اخب. فالحمد لله رب العالمين. (1)
- وقال: فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه، فيؤمنون ببعضه، ولا يؤمنون ببعضه، إما بجحده أو تأويله، على غير مراد الله ورسوله، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم، بما حاصله عدم التصديق بمعناها، وإن صدقوا بلفظها، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا. (2)
- وقال عقب قول الله تعالى: ôtPِquّ9$# { أَكْمَلْتُ لَكُمْ } دِينَكُمْ (3) : ولهذا كان الكتاب والسنة، كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين، وأصوله
__________
(1) تفسير السعدي (1/38).
(2) تفسير السعدي (1/43).
(3) المائدة الآية (3).(9/354)
وفروعه.
فكل متكلف يزعم، أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم، إلى علوم غير علم الكتاب والسنة من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه. وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله. (1)
- وقال في قوله تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } (4) (2) . أي: ومن الناس طائفة وفرقة، سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل الحق، يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق. والحال، أنهم في غاية الجهل ماعندهم من العلم شيء. وغاية ما عندهم، تقليد أئمة الضلال، من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار. كُتِبَ { } عَلَيْهِ أي: قدر على هذا الشيطان المريد أَنَّهُ { مَنْ } تَوَلَّاهُ أي: اتبعه فَأَنَّهُ { } يُضِلُّهُ عن الحق، ويجنبه
__________
(1) تفسير السعدي (2/242-243).
(2) الحج الآيتان (3و4).(9/355)
الصراط المستقيم وَيَهْدِيهِ { إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } احب. وهذا نائب إبليس حقا، فإن الله قال عنه: ¨$yJ¯Rخ) { يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (6) (1) .
فهذا الذي يجادل في الله، قد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس. وهو متبع ومقلد لكل شيطان مريد، ظلمات بعضها فوق بعض. ويدخل في هذا جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة يجادلون بغير علم. (2)
- وقال في قوله تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } (9) (3) : المجادلة المتقدمة للمقلد، وهذه المجادلة للشيطان المريد، الداعي إلى البدع. فأخبر أنه
__________
(1) فاطر الآية (6).
(2) تفسير السعدي (5/273).
(3) الحج الآيتان (8و9).(9/356)
يُجَادِلُ { فِي } اللَّهِ أي: يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق، بِغَيْرِ { } عِلْمٍ صحيح وَلَا { } هُدًى أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه، لا عقل مرشد، ولا متبوع مهتد.
ںwur { كِتَابٍ مُنِيرٍ } (8) أي: واضح بين، فلا له حجة عقلية ولا نقلية. إن هي إلا شبهات، يوحيها إليه الشيطان وَإِنَّ { الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ } (1) . مع هذا ثَانِيَ { } عِطْفِهِ أي: لاوي جانبه وعنقه، وهذا كناية عن كبره عن الحق، واحتقاره للخلق. فقد فرح بما معه من العلم الغير النافع. واحتقر أهل الحق، وما معهم من الحق. } لِيُضِلَّ { الناس أي: ليكون من دعاة الضلال. ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال. ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال: لَهُ { فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } (2) أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة. وهذا من آيات الله العجيبة، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر والضلال، إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة، والبغض، والذم، ما هو حقيق به، وكل بحسب حاله. وَنُذِيقُهُ {
__________
(1) الأنعام الآية (121).
(2) الحج الآية (9).(9/357)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } (9) أي نذيقه حرها الشديد، وسعيرها البليغ، وذلك بما قدمت يداه. (1)
- وقال: كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر. ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام فقال: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته. وأن نص الرسول على حكم الشيء، كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله. (3)
- وجاء في الفتاوى السعدية عنه قال: البدعة: هي الابتداع في الدين، فإن الدين: هو ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة. وما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة: فهو من الدين. وما خالف ذلك: فهو البدعة. هذا هو الضابط الجامع.
وتنقسم البدعة بحسب حالها إلى قسمين: بدع اعتقاد، ويقال لها: البدع القولية، وميزانها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في السنن: "وستفترق هذه
__________
(1) تفسير السعدي (5/277-278).
(2) الحشر الآية (7).
(3) تفسير السعدي (7/332-333).(9/358)
الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (1) .
فأهل السنة المحضة: السالمون من البدع، الذين تمسكوا بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الأصول كلها، أصول التوحيد والرسالة والقدر، ومسائل الإيمان وغيرها.
وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة، ومن تفرع عنهم: كلهم من أهل البدع الاعتقادية، وأحكامهم متفاوتة بحسب بعدهم عن أصول الدين وقربهم، وبحسب عقائدهم أو تأويلهم، وبحسب سلامة أهل السنة من شرهم في الأقوال والأفعال وعدمه. وتفصيل هذه الجملة يطول جدا.
والنوع الثاني: بدع عملية، وهو أن يشرع في الدين عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله. وكل عبادة لم يأمر بها الشارع أمر إيجاب، أو استحباب، فإنها من البدع العملية، وهي داخلة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد" (2) . ولهذا كان من أصول الأئمة، الإمام أحمد وغيره: أن الأصل في العبادات: الحظر والمنع، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله.
والأصل في المعاملات والعادات: الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
ولهذا نقول: من قصور العلم جعل بعض العادات التي ليست عبادات
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) أخرجه: أحمد (6/180) ومسلم (3/1343-1344/1718[18]).(9/359)
بدعا؛ لا تجوز؛ مع أن الأمر بالعكس، فإن الذي يحكم بالمنع منها وتحريمها هو المبتدع. فلا يحرم من العادات إلا ما حرمه الله ورسوله. بل العادات تنقسم إلى أقسام:
ما أعان منها على الخير والطاعة، فهو من القرب.
وما أعان على الإثم والعدوان، فهو من المحرمات.
وما ليس فيه هذا ولا هذا، فهو من المباحات. والله أعلم. (1)
- وفيها: ولولا الجهل بما جاء به الرسول، والتعصبات الشديدة، وإقامة الحواجز المتعددة، والمقاومات العنيفة لمنع الجماهير والدهماء من رؤية الحق الصريح، والدين الصحيح، لم يبق دين على وجه الأرض سوى دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لدعوته وإرشاده إلى كل صلاح وإصلاح، وخير ورشد وسعادة. ولكن مقاومات الأعداء، ونصر القوة للباطل بالتمويهات والتزويرات، وتقاعد أهل الدين الحق عن نصرته، هي الأسباب الوحيدة التي منعت أكثر الخلق من الوقوف على حقيقته. (2)
موقفه من المشركين:
- من كلامه رحمه الله: فتمام التوحيد بتمام الإخلاص لله في الاعتقاد والقول والعمل، وبتمام معرفته لله تعالى إجمالا وتفصيلا، وتأصيلا وتفريعا... وكلما ضعفت منه هذه الأمور، ضعف توحيده. ولهذا كان الشرك في الربوبية، والشرك في الإلهية، والشرك في العبودية، والشرك في أسماء الله
__________
(1) الفتاوى السعدية (ص.51-52).
(2) الفتاوى السعدية (ص.34).(9/360)
وصفاته وأفعاله، منافيا كل المنافاة للعبودية التي هي غاية الحب، مع غاية الذل، لأن من زعم أن لله شريكا في ربوبيته وتدبيره، أو أن له سميا أو مثيلا في صفات كماله، فقد أشرك بربوبية الله، وساوى غير الله بالله، بل ساوى المخلوق بالخالق، والمعبد المدبر بالرب المدبر. ونفى خصائص ألوهية الله تعالى التي حقيقتها تفرده بجميع الكمال. ومن أشرك في عبوديته وإخلاصه، بأن صرف نوعا من عبوديته لغير الله تعالى، فقد نقص توحيده، وأفسد دينه الذي هو الإخلاص المحض، أَلَا { لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } (1) .
فأي حب وأي ذل يشتبه بهذا أو يقاربه، إلا حب وذل هو عبودية لغير الله، وشرك به؟ وهي المحبة الشركية الصادرة من المشركين التي مضمونها تسوية آلهتهم برب العالمين، في الذل والتعظيم والحب، ولهذا يقولون في وسط جهنم، معترفين بشركهم، نادمين أشد الندم، شاهدين بغاية ضلالهم: قَالُوا { وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (97) (2) .
ومع أن هذا شرك في توحيدهم، فإنهم لا يساوون المؤمنين في حبهم وتعظيمهم، قال الله تعالى: وَمِنَ { النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
__________
(1) الزمر الآية (3).
(2) الشعراء الآيتان (96و97).(9/361)
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } (1) .اهـ (2)
- وقال رحمه الله في حديثه عن أنواع التوسل: النوع الثاني: التوسل إلى الله بذوات المخلوقين وجاههم. فهذا: الصواب أنه لا يحل، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بما شرع، وهذا ليس بمشروع. وأيضا فذوات المخلوقين، وإن كان لهم عند الله مقام وقدر وجاه، فهذا ليس لغيرهم، وليس التوسل بهم سببا لشفاعتهم للمتوسل عند الله. ولم يجعله الله من الأمور المقربة إليه، وليس ذلك إلا توسلا بما من الله به على المتوسل، فتعين أنه لا يجوز.
النوع الثالث: ما يسميه المشركون توسلا، وهو التقرب إلى المخلوقين بالدعاء والخوف والرجاء والطمع، ونحو ذلك. فهذا وإن سموه توسلا، فهو توسل إلى الشيطان لا إلى الرحمن، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفر لصاحبه إن لم يتب. والله أعلم. (3)
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: وقعت مناظرة بيني وبين رجل من الفضلاء، ولكنه يميل إلى مذهب المتكلمين المنحرفين الذين يقولون بأن العقل يقدم على النصوص الشرعية إذا تعارضت، وأنه يجب تأويل النصوص حتى تتفق مع العقل في مسألة الاستواء والنزول الإلهي ونحوها تبعا لأسلافه، فقلت له: -حين
__________
(1) البقرة الآية (165).
(2) الفتاوى السعدية (20-21).
(3) الفتاوى السعدية (24).(9/362)
أوَّل، بل حَرَّفَ نصوص الشرع من جنس التحريفات التي يقولها المتكلمون من الجهمية، ومن وافقهم من الأشعرية ولو في بعض الصفات- الموجه إليه الخطاب في هذا المقام أحد رجلين:
إما رجل لا يعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقه؛ فهذا يتكلم معه في الأصل في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان براهينها القوية الظاهرة الكثيرة، فأعيذك بالله أن تكون هذا الرجل، بل أعرف أنك من أعظم من يكفره ولا يعتقد إسلامه.
والرجل الثاني: من يعلم أن محمدا رسول الله حقا، وأنه صادق وما جاء به ثابت لا ريب فيه، وأنه إذا أخبرنا بشيء نجزم بثبوت ما أخبرنا به، وأنت لا شك تقول بهذا؛ ومن قال بهذا، فإنه يمتنع عنده أن يجعل العقل مقدما على خبر الرسول الصحيح الثابت، فإيمانك بالرسول وتصديقك له في كل ما أخبر به يوجب عليك أن تقدم قوله وخبره على كل شيء، عقل أو غير عقل.
ثم اعلم يا أخي مع ذلك أنه لا يمكن أن يوجد معقول صحيح مسلم فيه عند عقلاء الناس يعارض ما جاء به الرسول، فمدلول كلام الرسول صدق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، وإذا أصررت أن العقل الذي تدعيه يناقض هذه النصوص، فهذه دعوى يتمكن كل مبطل من قولها، ولا تغني شيئا باتفاق الناس، فإن عقول أهل الحق المثبتين ما أثبته الله ورسوله كلها متفقة على معنى ما قاله الله ورسوله خاضعة لذلك، مهتدية به، قد ازدادت عقولهم قوة وهداية حين استنارت بالوحي، فلا يرضى عاقل أن(9/363)
يقدم عليها آراء المتكلمين المتهافتة المتناقضة المبنية على الخيالات والتوهمات.
فقال: ليس عندي شك في صدق الرسول وثبوت خبره، ولكني لا أفهم من الاستواء إلا من جنس استواء الملوك على عروشهم، ولا من النزول إلا نزول المخلوقين من أعلى إلى أسفل، والله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين.
فقلت له: إننا لم نثبت استواء مثل استواء المخلوق، ولا نزولا كنزوله، وإنما نثبت ما أثبته الله منها ومن غيرها على وجه يليق بعظمة الله ويناسب كماله، مع اعتقادنا أن الله ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن النقائص وعن مماثلة المخلوقين، فعلينا أن ننتهي إلى الكتاب والسنة، ولا نتجاوز ذلك، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، والنزول معلوم والكيف مجهول.
فسكت هذا المتأول، وسكوته يدل على أحد أمرين: إما رجوع إلى الصواب، وإما عجز عن نصر باطله، ولكنه تعصب ورضي بالبقاء عليه، وهو الظاهر، إذ لو رجع لصرح لمناظره بذلك.
واعلم أن التأويل الذي قبله أهل العلم هو الذي يقصد به بيان مراد المتكلم، فإن لم يكن كذلك، كان من باب التحريف لا من باب التفسير، وتأويلات أهل البدع لبدعهم هي من هذا الباب. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: الدين والإيمان يشمل القيام بأصول الإيمان الستة،
__________
(1) مجموع الفوائد (116-118).(9/364)
وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإحسان التي هي أعمال القلوب التي أصلها الإحسان: "أن تعبدالله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، كما هو مذكور في حديث جبريل (1) .
ويترتب على هذا أن المؤمنين ثلاثة أقسام:
سابقون بالخيرات، وهم الذين حققوا هذه الأمور ظاهرا وباطنا، وقاموا بواجبها ومستحبها.
ومقتصدون، وهم الذين اقتصروا على فعل الواجبات وترك المحرمات.
وظالمون لأنفسهم، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
ويترتب على هذا أن الإيمان يزيد بزيادة هذه الأمور كثرة وجودة، وينقص بنقص شيء منها، ويترتب على هذا أيضا أن العبد يكون فيه خير وشر وأسباب ثواب وأسباب عقاب، وخصال كفر ونفاق وخصال إيمان.
ويتفرع على هذا أنه يستحق من المدح والذم، ومن الثواب والعقاب، بمقدار ما قام به من هذه الأمور المقتضية لآثارها من ثواب وعقاب، ومدح وقدح، وهذا مقتضى حكمة الله وعدله وفضله. (2)
- وقال رحمه الله: في (الصحيحين) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها أو أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (3) .
__________
(1) تقدم خريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(2) مجموع الفوائد (16-17).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).(9/365)
هذا الحديث من أعظم أدلة السلف على أن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها وأعمال الجوارح، وأنه درجات متفاوتة، أعلاها وأفضلها على الإطلاق شهادة التوحيد، فإنها الأساس الأعظم لجميع أمور الإيمان، وأدناها أقل إحسان يتصور: "إماطة الأذى عن الطريق"، وخص الحياء بالذكر، لأنه يدعو إلى كل خلق جميل وعمل صالح، وينهى عن ضده.
وقد صنف العلماء رحمهم الله في تعداد شعب الإيمان، وتحقيقها: كل عقيدة صحيحة، وإرادة محمودة، وخلق جميل، وعمل صالح، والتفاصيل الواردة في الكتاب والسنة ترجع إلى ذلك:
* فمنها: الأصول الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ والشرائع الخمس: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فرض ذلك ونفله.
* ومنها: أعمال القلوب؛ كمحبة الله، وخوفه، ورجائه وحده، والإخلاص له في كل شيء، والتوكل عليه، والحياء، والصبر، والإنابة، والتقوى، والورع.
* ومنها: النصيحة لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
* ومنها: بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والأصحاب والمعاملين.
* ومنها: التواضع للحق والخلق.
* ومنها: ذكر الله على اختلاف أنواعه، وتعلم العلوم النافعة وتعليمها، وكمال المتابعة للرسول، والاستقامة على دينه وهديه وسنته.(9/366)
* ومنها: القيام بحقوق الأهل والمماليك من الآدميين والبهائم... إلى غير ذلك مما حث عليه الكتاب والسنة. والله أعلم. (1)
- وقال رحمه الله: وذلك أن أهل السنة والجماعة، يعتقدون ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الإيمان: تصديق القلب المتضمن لأعمال الجوارح، فيقولون: الإيمان اعتقادات القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، وأنها كلها من الإيمان...
وأن من أكملها ظاهرا وباطنا، فقد أكمل الإيمان، ومن انتقص شيئا منها، فقد نقص إيمانه. وهذه الأمور بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: "لا إله إلا الله" وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. ويرتبون على هذا الأصل: أن الناس في الإيمان درجات: مقربون، وأصحاب يمين، وظالمون لأنفسهم، لأنهم بحسب مقاماتهم في الدين والإيمان، وأنه يزيد وينقص. فمن فعل محرما، أو ترك واجبا، نقص إيمانه الواجب، ما لم يتب إلى الله.
ويرتبون على هذا الأصل: أن الناس ثلاثة أقسام: منهم من قام بهذه وبحقوق الإيمان كلها، فهو المؤمن حقا، ومنهم من تركها كلها، فهذا كافر بالله. ومنهم من فيه إيمان وكفر، وإيمان ونفاق، وخير وشر، ففيه من ولاية الله، واستحقاقه لكرامته، بحسب ما معه من الإيمان، وفيه من عداوة الله واستحقاقه لعقوبة الله، بحسب ما ضيعه من الإيمان.
__________
(1) مجموع الفوائد (85-87).(9/367)
ويرتبون على هذا الأصل: أن كبائر الذنوب وصغارها، لا تصل بصاحبها إلى الكفر، ولكنها تنقص الإيمان، من غير أن تخرجه من دائرة الإسلام، ولا يخلد صاحبها في النار، ولا يطلقون عليه اسم الكفر، كما تقوله الخوارج، أو ينفون عنه الإيمان، كما تقوله المعتزلة، بل يقولون: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. فمعه مطلق الإيمان. أما الإيمان المطلق فينفى عنه.
وهذه الأصول إذا عرفت وجهها، يحصل بها الإيمان بجميع نصوص الكتاب والسنة. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في الفتاوى السعدية: المسألة السابعة والعشرون "اعملوا فكل ميسر لما خلق له": لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن قضاء الله وقدره سابق للأعمال والحوادث، وقال بعض الصحابة: ففيم العمل يا رسول الله؟ أجابه بكلمة جامعة مزيلة للإشكال، موضحة لحكمة الله في قضائه وقدره، فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له" (2) .
وذلك شامل لأعمال الخير والشر، وللآجال والأعمار والأرزاق وغيرها. فإن الله بحكمته قد جعل مطالب ومقاصد، وجعل لها طرقا وأسبابا، فمن سلك طرقها وأسبابها التامة يسر لها، ومن ترك السبب، أو فعله على وجه ناقص لا يوصل إلى مسببه، لم يحصل له، ويسر لضده.
__________
(1) الفتاوى السعدية (14-15).
(2) أخرجه من حديث علي: أحمد (1/82،129) والبخاري (8/919/4949) ومسلم (4/2039-2040/2647) وأبو داود (5/68-69/4694) والترمذي (4/388/2136) وابن ماجه (1/30-31/78).(9/368)
فكما أن الأرزاق ونحوها منوطة بقضاء الله وقدره، ومع ذلك إذا ترك العبد السبب الموصل إلى الرزق، أو فعله على وجه ناقص، لم يتم له ما أراد، وإذا يسر له سبب الرزق من أي نوع كان، يتيسر له بحسبه. كذلك الأعمال الموصلة إلى الجنة: من يسر إلى سلوكها تامة لا نقص في شيء من مكملاتها، ولا وجود لمانع من موانعها، فقد علم أنه مخلوق للسعادة، وضد ذلك بضده.
فالقضاء والقدر موافق للأسباب، لا مناف لها، شرعا وعقلا وحسا، فإنه قدر الأمور بأسبابها وطرقها، وهو أعلم بها ومن يسلكها، ومن لا يسلكها. فسبق علمه وتقديره لها، لا يوجب ترك العمل، وإنما يوجب السعي التام لمن أحاط علمه بذلك، وعرفه حق المعرفة.
فكما أن من ترك النكاح، وقال: إن قدر لي ولد، جاءني ولولم أتزوج... ومن ترك الغرس والحرث، وقال: إن قدر لي زرع وثمرة، حصلا ولو لم أزرع... ومن ترك الحركة في طلب الرزق، وقال: إن قدر لي رزق، أتاني من دون سعي وحركة...
من فعل ذلك، عد أحمق جاهلا ضالا. فكذلك من قال: سأترك الإيمان، والعمل الصالح، والله إن كان قدر سعادتي حصلت، فهو أعظم جهلا وضلالا وحمقا من ذلك. وهذا واضح، ولله الحمد. (1)
- وفيها: المسألة الثامنة والعشرون: الاحتجاج بالقدر.
الاحتجاج بالقدر على الشرك والكفر وأنواع المعاصي احتجاج باطل،
__________
(1) الفتاوى السعدية (62-63).(9/369)
لأنه يدفع أمر الله ورسوله، ويعتذر به عن معاصيه لله، وذلك من أكبر الظلم والجهل، والضلال.
وكذلك احتجاج العبد بعد وقوع ما يكره بأن يقول: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، فإنه تقول على الله، وتكذيب لقدره الواقع لا محالة. وأما الاحتجاج بالقدر على وجه الإيمان به، والتوحيد لله، والتوكل عليه، والنظر إلى سبق قضائه وقدره، فهو محمود مأمور به، وكذلك الاحتجاج به على نعم الله الدينية والدنيوية، فإنه يوجب للعبد شهود منة الله عليه، بسبق قدره وإحسانه.
وكذلك إذا فعل العبد ما يقدر عليه من الأسباب النافعة في دينه ودنياه، ثم لم يحصل له مراده بعد اجتهاده، فإنه إذا اطمأن في هذه الحال إلى قضاء الله وقدره، كان محمودا نافعا للعبد، مريحا لقلبه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "وإذا غلبك أمر فقل: قدر الله، وما شاء فعل" (1) .
وكذلك إذا احتج به، بعد التوبة من الذنب، ومغفرة الله له، على وجه الإيمان به، كان حسنا، كما حج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام.
وكذلك ينفع النظر إلى القضاء والقدر، ليبعث العبد على الجد والاجتهاد في الأعمال النافعة الدينية والدنيوية. فإنه إذا علم أن الله قدر الوصول إلى المطالب والمقاصد بالأسباب المأمور بها، جد واجتهد، عكس ما
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة: أحمد (2/366،370) والنسائي في الكبرى (6/159/10457) وابن ماجه (2/1395/4168). وأصله عند مسلم (4/2052/2664) بلفظ: "وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله...". وابن ماجه (1/31/78).(9/370)
يظنه كثير من الغالطين أن إثبات القدر يثبط، بل ينشط العاملين أبلغ مما لو كان الأمر لم يقدر له غاية. وكذلك ينفع النظر إلى القدر عند وجود المخاوف المزعجة، فإنه من علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، اطمأن قلبه، وسكنت نفسه، ولم ينزعج للأسباب المخوفة، بل يتلقاها بسكينة وطمأنينة، ويقوم بما أمر بالقيام به عندها.
وكذلك نفعه في المصائب وحلول المحن عظيم، فإنه من يؤمن بالله يهد قلبه. فإذا أصيب بمصيبة يعلم أنها من عند الله رضي وسلم لأمر الله وحكمه، واحتسب أجره لله وثوابه.
فهذا التفصيل في مسألة النظر إلى القضاء والقدر، والاحتجاج به، يأتي على جميع الأحوال، ويتبين أن منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم. والله أعلم. (1)
- وفيها: المسألة السادسة: الإيمان بالقدر: يتفق مع الأسباب.
مباشرة الأسباب، والاجتهاد في الأعمال النافعة، تحقق للعبد تمام الإيمان بالقضاء والقدر.فإن الله قدر المقادير بأسبابها وطرقها، وتلك الأسباب والطرق هي محل حكمة الله، فإن الحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها اللائقة بها... فقضاء الله وقدره وحكمته، متفقات، كل واحد منها يمد الآخر ولا يناقضه. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل وقيل له: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، وأدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من
__________
(1) الفتاوى السعدية (64-65).(9/371)
قضاء الله وقدره؟ فقال: "هي من قضائه وقدره" (1) .
فهذه الأسباب حسية ومعنوية روحانية، وحمية عما يضر، وهي في مقدمة الأسباب، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها من قضاء الله وقدره. فمن زعم أنه مؤمن بالقدر وقد ترك الأسباب النافعة الدينية والدنيوية التي عليها نظام القدر، فهو غالط. فإن المؤمن بالقدر، يجري على أحكامه، ويعمل على سنته ونظامه، ويتبع النافع في إحكامه وإبرامه، والله المعين الموفق.
وتوضيح ذلك أن أقدار الله كلها تابعة لحكمه وحكمته، فكما أن أفعاله تعالى كلها محكمة في غاية الإحكام والانتظام، ما ترى في خلق الرحمن من خلل ولا نقص ولا فطور ولا اختلال، ولا في شرعه من عبث وسفه ومنافاة للحكمة والمصلحة والإحسان، فكذلك أفعال المكلفين دينيها ودنيويها، ظاهرها وباطنها، كلها تجري على وفق الحكمة والغايات الحميدة، وأنه كلما عظم المقصود، وكثرت منافعه ومصالحه لم يمكن إدراكه إلا بسلوك الطرق المفضية إليه.
فأعظم المقاصد على الإطلاق نيل رضا الله، والفوز بثوابه، والسلامة من عقابه.
وقد جعل الله له الإيمان وشعبه الظاهرة والباطنة، والقيام بعبودية الله، وإخلاص الدين له، ولزوم الاستقامة والتقوى جعلها الله طرقا وأسبابا توصل إليه.
__________
(1) أخرجه من حديث أبي خزامة عن أبيه: أحمد (3/421) والترمذي (4/349/2065) وابن ماجه (2/1137/3437) والحاكم (4/199). وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله بشواهده (انظر تخريج أحاديث مشكلة الفقر رقم 11).(9/372)
فما لم يسلك العبد هذا السبيل، فمحال أن يصل إلى رضوان ربه وثوابه، فاتكال الأحمق على القدر بدون جد واجتهاد، قدح في القدر والشرع جميعا. وكذلك المطالب الأخر، كنيل العلم، وإدراكه: هل يمكن بغير جد واجتهاد ومواصلة الأوقات في طلبه، وسلوك الطرق المسهلة له؟ فمن قال: إن قدر لي، أدركت العلم، اجتهدت أم لا، فهو أحمق. كما قال بعضهم:
تمنيت أن تمسي فقيها مناظرا ... بغير عناء، والجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة ... تلقيتها فالعلم كيف يكون
وهكذا: من ترك الزواج، وقال: إن قدر لي أولاد حصلوا، تزوجت أو تركت.
ومن رجا حصول ثمر أو زرع، بغير حرث وسقي وعمل، متكلا على القدر، فهو أحمق مجنون. وهكذا سائر الأشياء دقيقها وجليلها.
فعلم أن القيام بالأسباب النافعة، واعتقاد نفعها، داخل بقضاء الله وقدره، دون الإخلاد إلى الكسل، والسكون مع القدرة على الحركة، هو الجنون. وإن قول من قال:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
هو الغلط الفاحش. وإن هذا القياس الذي قاسه -قاس القادر على الحركة المأمور بها، على العاجز إذا خلا عن الحركة- قياس عجيب غريب، ولو أن هذا الشاعر قاس من تعذرت عليه الحركة والأسباب من كل وجه،(9/373)
على هذا، لكان حسنا مطابقا.
فإن قيل: قد توضح لنا أن السعي في الأسباب الموصلة إلى مسبباتها، مطابق للقضاء والقدر، مؤيد له، وأنه يتعذر الإيمان الصحيح بالقدر بدون فعل الأسباب، فما أحسن طريق يسلكه العبد؟
فالجواب: أحسن طريق يسلكه العبد في أموره الدينية؛ الاجتهاد في تفهم كتاب الله وسنة رسوله، وتحقيق الإخلاص للمعبود في كل عمل وقول، وعقيدة وطريقة، وتحقيق متابعة الرسول، واجتناب البدع الاعتقادية، والبدع العملية. فهذه الطريقة الدينية فيها الخير والبركة، والقليل منها أعظم ثوابا، وأبلغ نجاحا، من الكثير من غيرها.
وأما الأمور الدنيوية: فالعبد مفتقر إلى الكسب لنفسه، ولمن عليه مؤونته، فعليه بسبب يناسب حاله، ويتفق مع وقته من المكاسب المباحة، وخصوصا: المكاسب التي لا تشغل العبد عن أمور دينه، ولا تدخله في محظور. وليثابر على ذلك السبب، ويكون اعتماده على مسبب الأسباب، وليكثر من سؤال ربه لييسر أموره، وأن يختار له أحسن الأحوال. وليكن قنوعا برزق الله، راضيا بما قسم الله، لا يحزن على مفقود، ولا يتشوش من مناقضة الأسباب لمراده، فبذلك يحصل رضا ربه، وراحة قلبه... ويبارك له في القليل. وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم. (1)
__________
(1) الفتاوى السعدية (24-26).(9/374)
عبدالرحمن بن يوسف الإفريقي (1377 هـ)
عبدالرحمن بن يوسف الإفريقي مدير دار الحديث بالمدينة النبوية سابقا، ومؤلف كتاب 'الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية'.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في كتابه 'الأنوار الرحمانية': اعلموا أن الله تعالى قرر القواعد لكل مسلم وقال: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (7) (1) ، وقال: وَمَنْ { يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } (14) (2) ، وقال: وَمَنْ { يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } (23) (3) ، وقال: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
__________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (14).
(3) الجن الآية (23).(9/375)
} (63) (1) ، وقال: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (2) ، ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" (3) رواه البغوي في شرح السنة والنووي في الأربعين بسند صحيح.
ثم قال رحمه الله: عُلم بتلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: أن المسلم لا يكون مسلمًا ولا مؤمنًا إلا إذا اعتصم بالكتاب والسنة، في العقائد والفرائض والسنن والأقوال والأعمال والأفعال والأذكار، على وجه التسليم والرضا والإخلاص، ظاهرًا وباطنًا، خاصة عند المعارضة والمقابلة يقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقوال جميع أهل الأرض كائنًا من كان، وأذكاره - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأذكار الواردة عن المشايخ أهل الطرق وغيرهم، ويعرض تلك الأوراد على الكتاب والسنة؛ فإن وافقتهما عمل بها، وإلا فلا. ويقف على الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحينئذ يكون المسلم مسلمًا حقيقيًّا طائعًا لله ورسوله. قال تعالى:
__________
(1) النور الآية (63).
(2) النساء الآية (65).
(3) ابن بطة في الإبانة (1/387-388/279). الهروي في ذم الكلام (2/167-168/313). الخطيب في التاريخ (4/369). البغوي في شرح السنة (1/212-213/104) كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والحديث قد ضعفه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرح الأربعين (2/394-395) وساق له عللا ثلاثة فأجاد وأفاد.(9/376)
اتَّبِعُوا { مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } (1) ، وقال تعالى: وَمَنْ { يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (101) (2) .
- قال رحمه الله تحت عنوان (تعريف السنة والبدعة): من ضروريات الدين: أن يعلم المسلم صفة السنة والبدعة والفرق بينهما. فليعلم الأخ الكريم أن السنة لغة: الطريق، وشرعًا: هي ما بيّن وفسّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله تعالى قولاً وفعلاً وتقريرًا وما سوى ذلك بدعة.
والسنة هي الطريق المتبع، وهي دين الإسلام، التي لا يزيغ عنها إلا جاهل هالك مبتدع.
والبدعة: أصل مادتها الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: بَدِيعُ { السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (3) ، أي مخترعهما من غير مثال سابق. وهذا لا يليق في الدين إلا من الله تعالى؛ لأنه فعّال لما يريد، وهو الذي شرع لنا الدين، قال تعالى: * { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
__________
(1) الأعراف الآية (3).
(2) آل عمران الآية (101).
(3) البقرة الآية (117).(9/377)
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ } نُوحًا (1) .
وأما البدعة شرعًا: فهي الحدث في الدين بعد الإكمال، أي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وقد جعلها أهل البدع دينًا قويمًا، لا يجوز خلافها، كما في زعم التيجانيين وغيرهم.
- وقال: والبدعة: هي السبب في إلقاء العداوة والبغضاء بين الناس، لأن كل فريق يرى أن طريقته خير من طريقة صاحبه، ويبغض بعضهم بعضًا حتى قال التيجانيون: لا يجوز زيارة من ليس على طريقتهم.
- وقال: فعليكم باتباع نبيكم، وترك كل ما أحدثه المحدثون؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بالقول، ولا قول إلا بالعمل، ولا عمل إلا بالنية، فلا إيمان ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة النبوية، كما قال ابن أبي زيد القيرواني في رسالته. فسبحان الله العظيم، تقرءون في الرسالة ليلاً ونهارًا ولا تفهمون معناها! بماذا تفسرون قوله: "وترك كل ما أحدثه المحدثون" وبماذا تفسرون قوله: "إلا بموافقة السنة"؟
موقفه من الصوفية:
له كتاب: 'الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية' وهو مطبوع متداول. قال فيه تحت عنوان (الشروع في تفصيل ما ينكره أهل السنة على التيجانية): سأذكر لكم يا إخواني بعض ما أنكرناه في هذه الطريقة التيجانية مع بيان مأخذ كل مقال، والإشارة إلى رقم الصحيفة من كتب
__________
(1) الشورى الآية (13).(9/378)
التيجانية، ليتبين لكل مسلم غيور على دينه كفريات التيجانية، وبدعهم وضلالاهم. وجميع ما أنقله من كتبهم؛ إما كفر أو كذب على الله وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله من الخذلان وعمى البصيرة.
- ثم عدد عشر عقائد من عقائد التيجانية الباطلة (1) نذكر منها:
العقيدة الأولى:
قال في جواهر المعاني: (إن هذا الورد ادخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي ولم يُعَلِّمْهُ لأحد من أصحابه) -إلى أن قال-: (لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بتأخير وقته، وعدم وجود من يظهره الله على يديه). وكذا في الجيش (ص.91).
ففي قوله: ادخره لي ولم يعلمه لأحد من أصحابه ردّ على قوله تعالى: * { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } (2) . ومعلوم أن الكتمان محال على الأنبياء والرسل، لأنه خيانة للأمانة. وقال ابن عاشر المالكي في توحيده:
يجب للرسل الكرام الصدق محال الكذب والمنهي ... أمانة تبليغهم يحق كعدم التبليغ يا ذكي
ولا شك أن نسبة الكتمان إليه - صلى الله عليه وسلم - كفر بإجماع العلماء.
__________
(1) انظرها مشكورا غير مأمور، بمزيد بيان وتفصيل ضمن ضلالات التجاني سنة (1230هـ).
(2) المائدة الآية (67).(9/379)
وفي قوله: (عدم وجود من يظهره الله على يديه) تفضيل لنفسه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث لا يقدر أن يحمل هذا الورد. وهذا كلام في غاية الفساد، بل في غاية الوقاحة.
العقيدة الثانية:
قال في جواهر المعاني: (إن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعدل كل تسبيح وقع في الكون، وكل ذكر، وكل دعاء كبير أو صغير، وتعدل تلاوة القرآن ستة آلاف مرة) (ص.96) طبع مطبعة التقدم العلمية الطبعة الأولى.
وهذا كفر وردّة، وخروج عن الملّة الإسلامية؛ وهل يبقى في الدنيا مسلم لا يكفر قائل هذا القول؟ بل من لم ينكر عليه ورضي به فهو كافر في نفسه، يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل.
أليس قد جعل الله لكم عقولاً تعقلون بها؟ أفلا تتفكرون؟ وأي شيء يكون أفضل من القرآن؟ وهل ينزل الله على رجل شيئًا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلاً أن يكون خيرًا من القرآن؟ إن هذا لشيء عجاب.
وأظن قائل هذا القول ما درى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما درى بما جاء به محمد. ولم يدر لِمَ بُعِثَ محمد - صلى الله عليه وسلم - !!.
فداك أبي وأمي يا رسول الله. لقد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين، جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. أشهد أنك خاتم الأنبياء، وشريعتك ناسخة لكل شريعة ولن تُنْسَخَ إلى يوم القيامة، ولم يأت بعدك أحد قط بمثل ما جئتَ به، وأشهد أن من ادعى أن هناك وحيًا ينزل، أو يوحى إليه فقد أعظم الفرية على الله إِنَّ {(9/380)
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (117) (1) . أفلا تعظمون كتاب ربكم؟!
أيها الناس! اتركوا هذه الطريقة الكفرية التي هي أفضل من القرآن في زعم قائلها، فنعوذ بالله من كل شيطان مارد، آمِرٍ بمثل هذا. وهل أنتم تعبدون الله بشيء أفضل من القرآن، إذن والله فقد فضلتم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأنهم ما عبدوا الله بشيء أفضل من القرآن، ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجعل لنفسه وردًا كل ليلة من القرآن، وهكذا أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله" (2) الحديث إلخ. وقد ثبت أنه قال: "فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الله على خلقه" رواه الترمذي وغيره (3) .
أليس هذا صدًّا للجهال العوام عن القرآن؟ وهل يتمسك بهذه الطريقة بعد ما سمع أنها أفضل من القرآن إلا جاهل بكتاب الله وسنة رسوله؟
وهل يستقر في عقل صحيح كون مرة واحدة من صلاة الفاتح أفضل من ذكرٍ واحدٍ وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فضلاً عن جميع الأذكار التي وقعت في الكون؟ أفلا تعقلون؟؟
__________
(1) النحل الآيتان (116و117).
(2) سبق تخريجه ضمن مواقف السلطان عبدالحفيظ سنة (1356هـ).
(3) الترمذي (5/169/2926) وقال: "حسن غريب". وفي إسناده محمد بن الحسن الهمداني متهم، وعطية العوفي ضعيف. ولمزيد الفائدة انظر الضعيفة (1335).(9/381)
تالله لقد جمعت هذه الطريقة كل جهول غبي بعيد عن الدين.
أيها الناس! أما كان آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين يذكرون الله؟ وهل يكون مبتدعُ هذه الطريقة أفضل من هؤلاء الأنبياء؟ كلا وحاشا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أحمد شاكر (1) (1377 هـ)
الشيخ المحدث أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبدالقادر، من آل أبي علياء، أبو الأشبال المصري. ولد بالقاهرة سنة تسع وثلاثمائة وألف. نشأ في طلب العلم على يد والده الشيخ الإمام محمد شاكر، وتحت توجيهه، فأخذ عن الشيخ عبدالله بن إدريس السنوسي المغربي والشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي والشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي. وتفقه على مذهب أبي حنيفة، ونال شهادة العالمية من الأزهر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم ولي القضاء إلى سنة سبعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
قال عنه الأستاذ عبدالسلام محمد هارون: إمام يعسر التعريف بفضله كل العسر، ويقصر الصنع عن الوفاء له كل الوفاء. وقال عنه الشيخ محمود محمد شاكر: هو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وقال عن نفسه: ولكني بجوار هذا -أي بجوار القضاء- بدأت
__________
(1) الأعلام (1/253) مقدمة الرسالة للشافعي (8) ومعجم المؤلفين (13/368) ومجلة التوحيد (العدد الرابع ربيع الآخر 1417هـ/ص.48-51).(9/382)
دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمعت كثيرا وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي. ومؤلفاته تدل على ذلك منها 'تحقيق المسند للإمام أحمد' و'الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير' و'تحقيق الرسالة للشافعي' وغيرها كثير.
توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
- قال: وعلى النهج القويم سار عليه أئمتها من أهل الحديث سِرت، فيما عرضت له من مسائل الخلاف: لا حجة إلا فيما قال الله أو قال رسوله، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله، وَمَا { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (1) . فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (2) .
__________
(1) الأحزاب الآية (36).
(2) النساء الآية (65).(9/383)
لا نقلّد ديننا الرجال، ولا نفرّق بين ما جمعه رسول الله، ولا نجمع ما فرّق بينه، ولا نقول: ما فرّق بين كذا وكذا؟ لأن قول (ما فرّق بين كذا وكذا؟) فيما فرّق بينه رسول الله- لا يعدو أن يكون جهلاً ممّن قاله، أو ارتياباً شرّاً من الجهل، وليس فيه إلا طاعة الله باتّباعه.
فقد أمرنا الله باتباع نبيه، وجعل طاعته والرضا بحكمه شرطاً في صحة الإيمان به، فما جاء من سنّته فيما فيه نصّ كتاب فهو بيان للكتاب، بيان لعامّه وخاصّه، وناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك. وما سنّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: وَإِنَّكَ { لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ } اللَّهِ (1) وقد سنّ رسول الله مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نصّ كتاب. وكل ما سنّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنود عن اتباعها معصيتَه التي لم يَعذِر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجاً، لما وصفت، وما قال رسول الله. أخبرنا سفيان عن سالم أبو النضر مولى عمر بن عبيدالله سمع عبيدالله بن أبي رافع يحدّث عن أبيه أن رسول الله قال: "لا أُلفينّ أحدَكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول: لا أردي، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه" (2) .
وقال الشافعي أيضاً: (فيما وصفتُ من فرض الله على الناس اتّباع
__________
(1) الشورى الآيتان (52و53).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف القاضي عياض سنة (544هـ).(9/384)
أمر رسول الله دليل على أن سنة رسول الله إنما قُبِلت عن الله، فمن اتّبعها فبكتاب الله تبعها، ولا نجد خبراً ألزمه الله خلقه نصّاً بيّناً إلا كتابه ثم سنة نبيه، فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شبه لها من قول خلقٍ من خلق الله، لم يجز أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غير سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدميّ بعده ما جعل له، بل فرض على خلقه اتباعه، فألزمهم أمره، فالخلق كلهم له تَبَع، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرض عليه اتّباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئاً منها).
فلا عذر لأحد يعلم حديثاً صحيحاً أن يُخالفه، لا تقليداً ولا اجتهاداً، ولا استحساناً ولا استنباطاً، كما قال الشافعيّ -وهو ناصر الحديث حقّاً-: (لا يجوز لأحد علمه من المسلمين -عندي- أن يتركه إلا ناسياً أو ساهياً). وكما قال أيضاً: (وأما أن نخالف حديثاً عن رسول الله ثابتاً عنه-: فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله. وليس ذلك لأحد، ولكن قد يجهل الرجل السنة فيكون له قولٌ يخالفها، لا أنه عَمَد خلافَها، وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل. (1)
- قال: ولقد عُنيتُ بهذا الأمر كما عُني -يعني بعلوم الحديث-، ورأيتُ أن أجلّ خدمة لهذا الكتاب التوسعُ في تحقيق دقائق التعليل، تقريباً لها في أذهان القارئين، وإرشاداً للمستفيدين، وتسهيلاً للباحثين، وليكون ذلك
__________
(1) شرح سنن الترمذي (1/67-70).(9/385)
حافزاً لطلاّب الحديث على أن يغوصوا في أعماق فنونه، ويستخرجوا منها الدرر الغالية، التي بها يفقهون كتاب الله حقّ فقهه، ويؤدّون أمانة الله حقّ أدائها، حتى يَسْمُوا بذلك إلى الذّروة العليا في العلم والعمل، في الدين والدنيا، فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصّاً واستدلالاً، ووفّقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونوّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.
وليعلم من يريد أن يعلم: من رجل أسلس للعصبية المذهبية قياده، حتى ملكت عليه رأيه، وغلبته على أمره، فحادت به عن طريق الهدى؛ أو من رجل قرأ شيئاً من العلم فداخله الغرور، إذ أعجتبه نفسه، فتجاوز بها حدّها، وظنّ أن عقله هو العقل الكامل، وأنه (الحكم التُّرضى حكومته) فذهب يلعب بأحاديث النبيّ، يصحح منها ما وافق هواه وإن كان مكذوباً موضوعاً، ويُكذّب ما لم يعجبه وإن كان الثابت الصحيح؛ أو من رجل استولى المبشّرون على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً، ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلاميّ، وقد عُدّ من المسلمين -أو عليهم- في دفاتر المواليد وفي سجلاّت الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبسه جنسيّةٌ ولم يعتقده ديناً، فتراه يتأوّل القرآن ليخضعه لما تعلّم من أستاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم، يخشى أن تكون حجتُهم على الإسلام قائمة!! إذ هو لا يفقه منه شيئاً؛ أو من رجل مثل سابقه، إلا أنه أراح نفسه، فاعتنق ما نفثوه في روحه من دين وعقيدة، ثم(9/386)
هو يأبى أن يعرف الإسلام ديناً أو يعترف به، إلا في بعض شأنه، في التسمي بأسماء المسلمين، وفي شيء من الأنكحة والمواريث ودفن الموتى: أو من رجل مسلم علِّم في مدارس منسوبة للمسلمين، فعرف من أنواع العلوم كثيراً، ولكنه لم يعرف من دينه إلا نزراً أو قشوراً، ثم خدعته مدنية الإفرنج وعلومهم عن نفسه، فظنهم بلغوا في المدنية الكمال والفضل، وفي نظريات العلوم اليقين والبداهة، ثم استخفّه الغرور، فزعم لنفسه أنه أعرف بهذا الدين وأعلم من علمائه وحفظته وخلصائه، فذهب يضرب في الدين يميناً وشمالاً، يرجو أن ينقذه من جمود رجال الدين!! وأن يُصفِّيه من أوهام رجال الدين!!؛ أو من رجل كشف عن دخيلة نفسه، وأعلن إلحاده في هذا الدين وعداوته، ممن قال فيهم القائل: (كفروا بالله تقليداً)؛ أو من رجل ممن ابتُليت بهم الأمة المصرية في هذا العصر، ممن يسمّيهم أخونا النابغة الأديب الكبير كامل كيلاني (المجدّدينات) (1) ... أو من رجل... أو من رجل...
ليعلموا هؤلاء كلهم، وليعلم من شاء من غيرهم: أن المحدِّثين كانوا محدَّثين ملهمين، تحقيقاً لمعجزة سيد المرسلين، حين استنبطوا هذه القواعد المحكمة لنقد رواية الحديث، ومعرفة الصحاح من الزّياف، وأنهم ما كانوا هازلين ولا مخدوعين، وأنهم كانوا جادّين على هدى وعلى صراط مستقيم، فكانت تلك القواعد التي ارتضوها للتوثّق من صحة الأخبار أحكم القواعد وأدقّها، ولو ذهب الباحث المتثبت يُطبّقها في كل مسألة لا إثبات لها إلا
__________
(1) قال بهامشه: هكذا والله سمّاهم هذا الاسم العجيب، وحين سأله سائل عن معنى هذه التسمية، أجاب بجواب أعجب وأبدع: هذا جمع مخنث سالم!! فأقسم له سائله أن العربية في أشدّ الحاجة إلى هذا الجمع في هذا الزمان!.(9/387)
صحة النقل فقط: لآتته ثمرتها الناضجة، ووضعت يده على الخبر اليقين.
وعلى ضوء هذه القواعد سار علماؤنا المتقدمون في إثبات مفردات اللغة وشواهدها، وفي تحقيق الوقائع التاريخية الخطيرة، ولن تجد من ذلك شيئاً ضعيفاً أو باطلاً إلا ما أبطلته قواعد المحدِّثين، وإلا فيما لم ينل العناية بتطبيقها عليه. (1)
- قال في كتابه 'الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين': إن الله أرسل محمداً هادياً وبشيراً ونذيراً، وحاكماً بين الناس بما أنزله عليه. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ودعا الناس إلى طاعته في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، عباداتهم ومعاملتهم. وأنزل عليه شريعة كاملة، لم تَسْمُ إليها شريعة من الشرائع قبلها، ولن يأتي أحد من بعده بخير منها ولا بمثلها. ذلك بأن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وذلك بأن محمداً خاتم النبيين.
شرع الله هذه الشريعة الكاملة للناس كافة، وفي كل زمان ومكان، بعموم بعثة الرسول الأمين، وبختم النبوة والرسالة به. فكانت الباقية على الدهر، ونسخت جميع الشرائع. ولم تكن خاصة بأمة دون أمة، ولا بعصر دون عصر. ولذلك كانت العبادات مفصّلة بجزئيّاتها، لأن العبادة لا تتغير باختلاف الدهور والعصور. وكان ما سواها من شؤون الفرد والمجتمع، في المعاملات المدنية، والمسائل السياسية، ونظام الحكومات، والقواعد
__________
(1) شرح سنن الترمذي (1/70-73).(9/388)
القضائية، والعقوبات، وما إلى ذلك، قواعدَ كليّة سامية، لم يُنصّ على تفاصيل الفروع فيها، إلا على القليل النادر، في الأمر الخطير، مما لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان.
فقام سلفنا الصالح، المسلمون الأولون، بإبلاغ هذه الشريعة والعمل بها، في أنفسهم وفيما دخل من البلدان في سلطانهم، فنفّذوا أحكامها على الناس كافة، وفي جميع الأحوال، واجتهدوا في تطبيق قواعدها على الوقائع والحوادث، واستنبطوا منها الفروع الدقيقة، والقواعد الأصولية والفقهية، بما آتاهم الله من بسطة في العلم، وإخلاص في الدين، حتى تركوا لنا ثروة تشريعية، لا نجد لها مثيلاً في شرائع الأمم، وحتى كان من بعدهم عالة عليهم. (1)
- وقال أيضاً: أيها الناس! إننا جميعاً مسلمون، نحرص على ديننا، ونزعم أننا لا نبغي به بدلاً، ولكننا نخطئ فهم الدين، ونظن أنه لا يتجاوز ما يُقام فينا من شعائر العبادة، وما يهتف به الوعّاظ والخطباء من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ويخيّل إلى كثير منا أنه لا شأن للدين بالمعاملات المدنية، والحقوق الاجتماعية، والعقوبات والتعزير، ولا صلة له بشؤون الحرب، ولا بالسياسة الداخلية والخارجية. كلا، إن الإسلام ليس على ما يظنون. الإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكم وسلطان. وهو لا يرضى من مُتّبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضا ببعض أحكامه
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.9-10).(9/389)
فقد أباه كلّه.
اسمعوا كلام الله ثم اختاروا لأنفسكم ما تريدون.
$tBur { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (36) (1) . وَيَقُولُونَ { آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
__________
(1) الأحزاب الآية (36).(9/390)
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) (1) . يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ
__________
(1) النور الآيات (47-51).(9/391)
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) .
أيها السادة! هذه آيات الله وأوامره، قد سمعتموها كثيراً، وقرأتموها
__________
(1) النساء الآيات (59-65).(9/392)
كثيراً. ولست الآن بصدد تفسيرها أو شرحها، فهي آيات محكمة صريحة بيّنة، فيها عبرة لكم وعظة لو تأملتموها، وفكرتم في حالكم من طاعتها أو عصيانها، وفيما يجب عليكم حيالها، وأنتم تحكمون بقوانين لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، بل هي تنافيه في كثير من أحكامها وتناقضه، بل لا أكون مغالياً إذا صرّحت أنها إلى النصرانية الحاضرة أقرب منها إلى الإسلام، ذلك أنها ترجمت ونقلت كما هي عن قوانين وثنية، عُدّلت ثم وُضعت لأمم تنتسب إلى المسيحية، فكانت، وإن لم توضع عندهم وضعاً دينياً، أقرب إلى عقائدهم وعاداتهم وعرفهم، وأبعد عنّا في كل هذا. وقد ضُربت علينا هذه القوانين في عصر كان كله ظلمات، وكانت الأمة لا تملك لنفسها شيئاً، وكان علماؤها مستضعفين جامدين.
هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس فأُشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلاميّ يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يُلاقي من هزء وسخرية!! ذلك أنه يدعوهم -في نظرهم- إلى الرجوع القهقرى ثلاثة عشر قرناً، إلى تشريع يزعمون أنه وُضع لأمة بادية جاهلة!!
لا تظنوا -أيها السادة- أني أذهب فيما أصف مذهب الغلوّ أو الإسراف في القول، فإني جعلتُ هذه الدعوة هجّيراي وديدني، وجادلت وحاججت، ورأيت وسمعت، ولو شئت أن أُسمّي لسمّيت لكم أسماء ممن(9/393)
نُجلّ ونحترم، ونعرف لهم فضلاً وذكاءً وعلماً. (1)
- وقال: إني أرى أن هذه القوانين الأجنبية إليها يرجع أكثر ما نشكو من علل، في أخلاقنا، في معاملتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك. وسأقص عليكم بعض المثل من آثارها مما رأى:
كان لها أثر بيّن بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين علّموا تعليماً مدنياً، وربّوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ وقواعد، ويرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم. وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكماً قطعياً في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسماً اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسمّوهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمّى (رجال الدين) بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا. ثم عزلوهم عن كل أعمال الحياة وأعمال الدولة، واحتكروا لأنفسهم مناصبها، زعماً منهم أن (رجال الدين) لا يصلحون لشيء من أعمال الدنيا، أيّاً كان مبلغهم من العلم والثقافة والمعرفة، وحصروا الألوف من العلماء المثقفين فيما سمّوه المناصب الدينية، حتى لا مُتنفّس لهم، فإن ضجوا أو تذمروا حجّوهم بأنهم رجال الدين، زعموهم رهباناً، ولا رهبانية في الإسلام. (2)
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.13-17).
(2) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.17-18).(9/394)
إلى أن قال: إن قَسْمَ المتعلمين في الأمة إلى فريقين أو معسكرين مكّن لأقواهما من أن يستأثر بالتشريع والإفتاء، فيحدوَ بالأمة ويعدل بها عن سواء الصراط. ذلك أنهم أُفهموا وعُلّموا أن مسائل التشريع ليست من الدين، وظنوا أن الدين الإسلامي كغيره من الأديان، وأنّ تعرّض العلماء والفقهاء لهذه المسائل تعرّض لما لا يعنيهم، وعصبية للاحتفاظ بسلطانهم، شبّهوهم بالقسس في أوربة، وغلبت عليهم مبادئ الثورة الفرنسية في محاربة الكنيسة، فاندفعوا في عصبيتهم ضدّ شريعتهم ودينهم، وأبوا أن يسمعوا قولاً لقائل، أو نصحاً لناصح. وذهبوا يضعون القوانين للمسلمين، على غرار القوانين التي وضعت لغيرهم، بأنها توافق مبادئ التشريع الحديث!!
وابتُلي فريق منا بهذا التشريع الحديث، فذهبوا يلعبون بدينهم، فيما عرفوا وما لم يعرفوا، فأحلّوا وحرّموا، وأنكروا وأقرّوا، واضطربوا وترددوا، وكثير منهم يؤمن بالإسلام، ويحرص على التمسك به، ولكنه أخطأ الطريق، بما أُشرب في قلبه من مبادئ التشريع الحديث. واندفع العامة والدهماء وراءهم، يقلدون سادتهم وكبراءهم، ويتّبعون خطواتهم. ومرج أمر الناس واضطربوا، حتى إنهم ليحاولون علاج أمراضهم النفسية والاجتماعية بمبادئ التشريع الحديث. وبين أيديهم كتاب الله مَوْعِظَةٌ { مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (57) (1) وuqèd {
__________
(1) يونس الآية (57).(9/395)
لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } (1) ولكن قومنا اكتفوا من القرآن بالتغني به في المآتم والمواسم، وتركوا تدبّر معانيه واتباع هديه، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً!. (2)
موقفه من المشركين:
- التحذير من المستشرقين:
قال رحمه الله بعد إشادته بطبعات المستشرقين للكتب وأنهم اهتموا بوصف الأصول واختلاف النسخ: وعن ذلك كانت طبعات المستشرقين نفائسَ تُقتنى وأعلاقاً تُدّخر، وتغالى الناس وتغالينا في اقتنائها، على علوّ ثمنها، وتعسّر وجود كثير منها على راغبيه.
ثم غلا قومُنا غلوّاً غير مُستساغ في تمجيد المستشرقين، والإشادة بذكرهم، والاستخذاء لهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي: خطإ أو صواب، يتقلدونه ويدافعون عنه، ويجعلون قولهم فوق كلّ قول، وكلمتهم عالية على كلّ كلمة، إذ رأوهم أتقنوا صناعة من الصناعات: صناعةَ تصحيح الكتب، فظنوا أنهم بلغوا فيما اشتغلوا به من علوم الإسلام والعربية الغاية، وأنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه، حتى في الدين: التفسير والحديث والفقه.
__________
(1) فصلت الآية (44).
(2) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.21-23).(9/396)
وجهلوا أو نسوا، أو علموا وتناسوا أن المستشرقين طلائع المبشّرين، وأن جلّ أبحاثهم في الإسلام وما إليه إنما تصدر عن هوىً وقصد دفين، وأنهم كسابقيهم يُحَرِّفُونَ { الْكَلِمَ عَنْ } مَوَاضِعِهِ وإنما يفضلونهم بأنهم يحافظون على النصوص، ثم هم يحرفونها بالتأويل والاستنباط.
نعم: إن منهم رجالاً أحرار الفكر، لا يقصدون إلى التعصب، ولا يميلون مع الهوى، ولكنهم أخذوا العلم عن غير أهله، وأخذوه من الكتب، وهم يبحثون في لغة غير لغتهم، وفي علوم لم تمتزج بأرواحهم، وعلى أسس غير ثابتة وضعها متقدموهم، ثم لا يزال ما نشؤوا عليه واعتقدوا يغلبهم، ثم ينحرف بهم عن الجادّة، فإذا هم قد ساروا في طريق آخر، غير ما يؤدي إليه حرية الفكر والنظر السليم.
ومعاذ الله أن أبخس أحداً حقّه، أو أنكر ما للمستشرقين من جهد مشكور في إحياء آثارنا الخالدة، ونشر مفاخر أئمتنا العظماء، ولكني رجل أريد أن أضع الأمور مواضعها، وأن أقرّ الحق في نصابه، وأريد أن أعرف الفضل لصحابه، في حدود ما أسدى إلينا من فضل، ثم لا أجاوز به حدّه، ولا أعلو به عن مستواه. ولكني رجل أتعصب لديني ولغتي أشدّ العصبية، وأعرف معنى العصبية، وحدّها، وأن ليس معناها العدوان، وأن ليس في الخروج عنها إلا الذلّ والاستسلام، وإنما معناها الاحتفاظ بمآثرنا ومفاخرنا، وحَوطها والذود عنها، وإنما معناها أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعرف أنه (ما غُزي قومٌ قطّ في عقر دارهم إلا ذلّوا) وقد -والله- غُزينا في عقر(9/397)
دارنا، وفي نفوسنا، وفي عقائدنا، وفي كل ما يقدّسه الإسلام ويفخر به المسلمون.
وكان قومنا ضعافاً، والضعيف مُغرىً أبداً بتقليد القوي وتمجيده، فرأوا من أعمال الأجانب ما بهر أبصارهم، فقلدوهم في كل شيء، وعظّموهم في كل شيء، وكادت أن تعصفَ بهم العواصف، لولا فضل الله ورحمته. (1)
- قال في رسالته 'الشرع واللغة' (2) التي خصّها للرّدّ على عبدالعزيز فهمي باشا وعدائه للعربية -بعد نقله لكلام هذا المفتون-: وقد بدأ معالي الباشا استدلاله -يعني نقضه ردّ الشيخ محبّ الدين الخطيب عليه- بكلمة منكرة (أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان) وما هذه الكلمة إلا تحريف أو تحوير لكلمة ليست إسلامية، وليست عربية، كلمة فيها خنوع وخور واستسلام لاستبداد القياصرة، لا يرضاها مسلم، ولا يرضاها عربيّ.
نعم: إن الدين كله لله، وإن الأمر كله لله. ولكن هذا الرجل والذين يظاهرونه يريدون أن يفهموا الدين على غير ما يعرف المسلمون، وعلى غير ما أنزل الله في القرآن وعلى لسان الرسول. يريدون أن ينفثوا في روع الأغرار والجاهلين أن الدين هو العقائد والعبادات فقط، وأن ما سواهما من التشريع ليس من أمر الدين، عدواً منهم وبغياً، واستكباراً وعتوّاً على المسلمين، بل جهلاً وعجزاً، ثم استكانة وذلاًّ، للسادة الأوربيين (ذوي العقول الجبارة). ثم لا يستحيي أحدهم أن يدعي أنه يفهم الدين، وأن يزعم
__________
(1) شرح سنن الترمذي (1/19-20).
(2) طبعت مع محاضرته الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدراً للقوانين.(9/398)
أنه مكتفٍ بما يسّر الله له من دينه، وأنه موقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين!!
والأدلة في القرآن وبديهيات الإسلام على وجوب اتباع ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، في العقائد والعبادات، وأحكام المعاملات والعقوبات وغيرها، متوافرة متواترة، لا ينكرها مسلم ولا يستطيع. وأظن أن معالي الباشا سمع مرة أو مرات قول الله تعالى: وَمَنْ { لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (44) (1) . وقوله سبحانه: وَأَنِ { احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } (49) (2) . أيجرؤ معاليه أن يتأول هذه الآيات ونحوها على أنها في العقائد والعبادات؟ وإن جرؤ على ذلك، فماذا هو قائل في قول الله: وَمَا { كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
__________
(1) المائدة الآية (44).
(2) المائدة الآية (49).(9/399)
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (36) (1) . وقوله: وَيَقُولُونَ { آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) (2) . أفيجرؤ أن
__________
(1) الأحزاب الآية (36).
(2) النور الآيات (47-51).(9/400)
يتأولها أيضاً على العقائد والعبادة؟ أم هو يلعب بالألفاظ والألباب؟!. (1)
- وقال: ولطالما سمعنا اعتذار المسرفين على أنفسهم، من يأبون العود بالأمة إلى تشريعها الإسلاميّ، ولطالما جادلناهم، فما رأينا أحداً منهم أجرأ على الله وعلى الدين من هذا الباحث العلامة!
ما زعم لنا واحد منهم قطّ (أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان) وأن (الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس على ما يحقق مصالحهم، مؤسساً عمله على الحق والعدل، على أن لا يمسّ العقائد وفرائض العبادات). لأن معنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته، وجعله دين عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون الإنسان.
والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص.
فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية. وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه. وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كلّه. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.88-90).(9/401)
إنهم كانوا يدورون حول هذا المعنى ويجمجمون ولا يصرّحون، حتى كشف هذا الرجل عن ذات نفسه، وأخشى أن يكون قد كشف عما كانوا يضمرون. ولكني لا أحب أن أجزم في شأنهم، فلسنا نأخذ الناس بالظنة، وحسابهم بين يدي الله يوم القيامة. (1)
- قال -بعد ذكره نماذج لما في القوانين الإفرنجية والنظم الأوربية مما يخالف عقائد المسلمين، وتعطيل لكثير من فروض الدين-: ولسنا ننعى على هذه القوانين كلّ جزئية فيها، بالضرورة، ففيها فروع في مسائل مفصلة، تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة، ولكنا ننكر المصدر الذي أخذت منه، وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في التشريع، وقد أُمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله. فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام، نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كلّ عصر وكلّ مكان، مسترشدين بالعقل وقواعد العدل. ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح الإلحاد والتمرد على الإسلام، في كثير من المسائل الخطيرة، والقواعد الأساسية، فلا يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى البديهيّ من قواعد الإسلام، وأن يصبغوها صبغة أوربية، مسيحية أو وثنية، إذا ما أَرضوا عنهم أعداءهم، ونالوا ثناءهم، ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث!!
وهم -في نظر الشرع- مخطئون إذا ما أصابوا، مجرمون إذا ما أخطؤوا.
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.93-94).(9/402)
أصابوا عن غير طرق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنهما ابتغاء مرضاة غير الله، جهلوهما جهلاً عجيباً. وأخطؤوا عامدين أن يخالفوا ما أمرهم به ربّهم، ساخطين إذا ما دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. والحجة عليهم قول كبيرهم: (إن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين)!! وإصراره على أنه لو كان قوياً في صحته فلن يجيب إلى (الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين). (1)
موقفه من الجهمية:
كان هذا الرجل متشبعا بالعقيدة السلفية زيادة على تضلعه في علم الحديث ويظهر ذلك من تعاليقه وتحريراته، وله مقال جيد نأخذه على سبيل المثال للدلالة على دفاعه عن العقيدة السلفية: جاء في دائرة المعارف الإسلامية في التعليق على مادة: "تأويل": قال: أصل مادة (تأويل) من المعنى اللغوي: آل يؤول أولا، أي: رجع إلى أصله. ثم استعمل في كلام العرب وفي القرآن خاصة بمعنى التفسير أو بشيء قريب من معناه. فالتفسير والتأويل: كشف المراد عن الشيء المشكل. وفرق بعض العلماء بينهما، فكثر استعمال التفسير: فيما يتعلق بشرح المفردات والألفاظ، والتأويل: فيما يتعلق بالمعاني والجمل. واصطلح الفقهاء وغيرهم على معنى آخر للتأويل هو: تفسير الآية أو الحديث بمعنى غير ما يفهم من ظاهر اللفظ. ولذلك يقول العلماء كثيرا في عباراتهم مثلا: إن هذا الحديث أو هذه الآية من الصريح الذي لا يحتمل
__________
(1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.97-98).(9/403)
التأويل، أي: لا يحتمل معنى آخر يخرجه عن المراد الظاهر من لفظه، فالمعنى الظاهر لا يخرج عن المفسر والمؤول إلا بدليل أو قرينة، لأنه يكون شبيها بالمعنى المجازي. وقد ورد لفظ التأويل في آيات من القرآن على المعنى اللغوي الأصلي، ولكن بعض العلماء والمفسرين ظنها مما يدخل في التأويل الاصطلاحي، فنشأ عن ذلك اختلاف واضطراب في آرائهم، والحق أن ذلك على المعنى اللغوي الواضح. ففي لسان العرب: "وأما قول الله عز وجل: هَلْ { يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي } تَأْوِيلُهُ (1) فقال أبو إسحاق: معناه، هل ينظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم من البعث. قال: وهذا التأويل هو قوله تعالى: وَمَا { يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (2) أي: لا يعلم متى يكون أمر البعث وما يؤول إليه الأمر عند قيام الساعة إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به أي: آمنا بالبعث. والله أعلم، قال ابن منظور: وهذا حسن (3) . وأقول: بل هو الصواب الذي لا يفهم من القرآن غيره، ثم دخل على المسلمين ناس اتبعوا المتشابه في مثل هذا، وأكثروا من القول في القرآن بغير علم، حتى ادعوا أن له ظاهرا وباطنا، وأن الباطن لا يعلمه هؤلاء إلا بشيء يزعمونه نحو: "الإلهام". وهم لم يفقهوا ظاهر القرآن، ولم يعرفوا شيئا من السنة، أو عرفوا وأعرضوا
__________
(1) الأعراف الآية (53).
(2) آل عمران الآية (7).
(3) لسان العرب (13/25).(9/404)
عنه لما وقر في نفوسهم من حب الإغراب أو من آراء تنافي الإسلام، فأرادوا أن يلصقوها به، وعن ذلك نشأت تأويلات الصوفية وغيرهم ممن أشار إليهم كاتب المادة. وهذه التأويلات لا تمت إلى الإسلام بصلة وإن كان قائلوها يسمون بأسماء إسلامية ويذكرون في تاريخ الإسلام، وتذكر أقوالهم وآراؤهم مع آراء علماء الإسلام. والإسلام دين واضح سهل لا رموز فيه ولا ألغاز. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك المسلمين على المحجة الواضحة ليلها كنهارها. فكل من حاد عن هذه السبيل فإنما أعرض عن الصراط المستقيم وتفرقت به السبل، حتى خرج بعضهم عن كل طريق من طرق الإسلام، أو من الطرق التي تشبه أن تتصل بالإسلام، ممن وصفهم كاتب المادة بقوله: "بل صارت أحكام القرآن في رأي أصحابها غير واجبة الإتباع". ومن ذهب هذا المذهب أو قريبا منه فلا يمكن أن يعد من المسلمين ولا أن ينسب قوله إلى أقوال أهل الإسلام. (1)
" التعليق:
الله أعلم بالضرر البالغ الذي ألحقه طاغوت التأويل بالمسلمين الذي اخترعه أعداء العقيدة السلفية. وقد تصدى لرده وبيان الباطل والحق منه: العلامة ابن القيم في كتابه 'الصواعق المرسلة' بما لا مزيد عليه، فجزاه الله خيرا.
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية (9/162-163).(9/405)
حافظ بن أحمد الحَكَمِي (1) (1377 هـ)
الشيخ حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة بطن من (مذحج). ولد في شهر رمضان عام اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف بقرية السلام في منطقة جيزان. نشأ في بيئة صالحة طيبة ساعدته على تحصيل العلوم الشرعية منذ الصغر، فحفظ القرآن الكريم ثم توجه إلى الاشتغال بكتب الفقه والحديث والتفسير والتوحيد وغيرها. وأخذ عن الشيخ عبدالله القرعاوي الذي كان قد قدم من "نجد"، ولازمه حتى نضج علمه ورسخت قدمه. وكان رحمه الله شديد التمسك بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على جانب كبير من الورع والكرم والعفة. عين مديرا لمدرسة سامطة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم مديرا للمعهد العلمي فيها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، واستمر فيه إلى أن توفي يوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة بمكة المكرمة ودفن بها.
أقول: كان هذا الرجل أعجوبة زمانه -كما يحكي تلامذته الذين درسوا عليه- في الحفظ والاستحضار، وظهر أثر ذلك في كتبه التي ألفها على صغر سنه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
آثاره السلفية:
1- 'سلم الوصول إلى علم الأصول في توحيد الله'.
__________
(1) الأعلام (2/159) ومقدمة معارج القبول، بقلم ابن الشيخ. والمستدرك على معجم المؤلفين (183-184).(9/406)
2- 'معارج القبول في شرح سلم الوصول'.
3- 'أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة'.
والكل مطبوع متداول.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أعلام السنة:
س: ما هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه ونهانا عن اتباع غيره؟
ج: هو دين الاسلام الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، ولم يقبل من أحد سواه، ولا ينجو إلا من سلكه، ومن سلك غيره تشعبت عليه الطرق وتفرقت به السبل قال الله تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (1) وخط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما" وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ وَأَنْ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
__________
(1) الأنعام الآية (153).(9/407)
} سَبِيلِهِ (1) وقال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم" (2) .
س: بماذا يتأتى سلوكه والسلامة من الانحراف عنه؟
ج: لا يحصل ذلك إلا بالتمسك بالكتاب والسنة، والسير بسيرهما، والوقوف عند حدودهما، وبذلك يحصل تجريد التوحيد لله وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ { يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(2) الترمذي (5/133/2859) والنسائي في الكبرى (6/361/11233) من طريق بقية بن الوليد عن بجير بن سعيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي مرفوعا وفيه بقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية. ولهذا قال الترمذي: "هذا حديث غريب. إلا أنه لم ينفرد به. فقد رواه أحمد (4/182-183) من طريق الليث بن سعد والحاكم (1/73) من طريق ابن وهب كلاهما عن معاوية بن صالح، عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان به". قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولا أعرف له علة" ووافقه الذهبي.(9/408)
أُولَئِكَ رَفِيقًا } (69) (1) وهؤلاء المنعم عليهم المذكورون ههنا تفصيل: هم الذين أضاف الصراط إليهم في فاتحة الكتاب بقوله تعالى: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } (7) (2) ولا أعظم نعمة على العبد من هدايته إلى هذا الصراط المستقيم، وتجنيبه السبل المخلة، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (3) .
س: ما ضد السنة؟
ج: ضدها البدعة المحدثة: وهي شرع ما لم يأذن به الله، وهي التي عناها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (4) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة" (5)
__________
(1) النساء الآية (69).
(2) الفاتحة الآيتان (6و7).
(3) أخرجه: أحمد (4/126)) وابن ماجه (1/16/43) وأصله عند أبي داود (5/13/4607) والترمذي (5/43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/178/5) والحاكم (1/95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي من حديث العرباض بن سارية.
(4) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(5) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).(9/409)
وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى وقوعها بقوله: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" وعينها بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" (1) . وقد برأه الله تعالى من أهل البدع بقوله: إِنَّ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى } اللَّهِ (2) الآية. (3)
- وقال في معارج القبول: وقد حصل مصداق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق من الافتراق، وتفاقم الأمر وعظم الشقاق فاشتد الاختلاف ونجمت البدع والنفاق، فافترقوا في أسماء الله تعالى وصفاته إلى نفاة معطلة، وغلاة ممثلة، وفي باب الإيمان والوعد والوعيد إلى: مرجئة ووعيدية من خوارج ومعتزلة، وفي باب أفعال الله وأقداره إلى: جبرية غلاة وقدرية نفاة، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته إلى رافضة غلاة وناصبة جفاة، إلى غير ذلك من فرق الضلال، وطوائف البدع والانتحال، وكل طائفة من هذه الطوائف قد تحزبت فرقا وتشعبت طرقا، وكل فرقة تكفر صاحبتها وتزعم أنها هي الفرقة الناجية المنصورة. (4)
- وقال: ثم اعلم أن البدع كلها مردودة ليس منها شيء مقبولا، وكلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها ضلال ليس فيها هدى، وكلها أوزار
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) الأنعام الآية (159).
(3) أعلام السنة المنشورة (216-219).
(4) معارج القبول بشرح سلم الوصول (1/18).(9/410)
ليس فيها أجر، وكلها باطل ليس فيها حق. ومعنى البدعة هو شرع ما لم يأذن الله به ولم يكن عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، ولهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - البدعة بقوله: "كل عمل ليس عليه أمرنا" (1) ووصف الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بقوله: "هم الجماعة". وفي رواية: "هم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي" (2) .اهـ (3)
- وفيه: وهذا الذي قاله -أي الإمام الشافعي- من تحكيم نصوص الكتاب والسنة، وطرح ما خالفهما هو الذي نطقا به وصرحت به نصوصهما وأجمع عليه الصحابة والتابعون فمن بعدهم كما حكى إجماعهم هو وغيره، وكما هو المشهور من سيرتهم في الأقوال والأفعال. ونصوصهم في هذا الباب ملء الدنيا، وتصانيفهم في ذلك قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، ولو رأوا ما عليه مقلدوهم في هذا الوقت لتبرأوا منهم ومقتوهم أشد المقت، فإنهم ليسوا على ما كانوا عليه، ولا اهتدوا إلى ما أرشدوهم إليه، بل اختلفوا اختلافا شديدا وافترقوا افتراقا بعيدا، وكل منهم يحصر الحق في إمامه ويرى ما خالفه باطلا، ويرى سائر أهل العلم مفضولين وإمامه فاضلا، وإذا خالف مذهبه نصا ضرب له الأمثال، وتكلف له التأويل المحال، ويقابله الآخر بمثل ذلك، فهم بين راد ومردود وحاسد ومحسود، وكان فيهم شبه من الذين قال الله تعالى فيهم مِنَ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) تقدم قريبا.
(3) معارج القبول (2/616).(9/411)
وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (32) (1) ، ولم يعلم هؤلاء المساكين أن سلفهم الصالح الذين يزعمون الاقتداء بهم كانوا أبعد من هذه الصفة بعد ما بين المشارق والمغارب، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم أجل شأنا وأكمل إيمانا من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل هم تبع له في أوامره ونواهيه، ولنصوص الشرع أعظم عندهم من أن يقدموا عليها آراء الرجال، وهي أجل قدرا في صدورهم من أن تضرب لها الأمثال، وأعلى منزلة من أن تدفع بالأقيسة والتأويل المحال، وإنما المقتدي بهم على الحقيقة من اقتفى أثرهم واتبع سيرهم وحفظ وصيتهم وأحيا سنتهم في طلب الحق وأخذه أين وجده، والوقوف عند كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما بلغته، فكما كان اجتهاد السلف رحمهم الله في جمع الأدلة واستنباط الأحكام منها فالواجب عند الخلاف تتبع تلك الأدلة والاستنباطات والأخذ بالأصح منها مع من كان وبيد من وجد، فإن الحق واحد لا يجزئه الاختلاف، وكل واحد من أولئك الأئمة يدأب في طلبه جادا مجتهدا إن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر والخطأ مغفور، وهذه أقوالهم مدونة في كتبهم، كلها تذم الرأي في الدين، وتحث من بعدهم على اقتفاء أثرهم في طلب الحق أين ما كان، ولم يدع أحد منهم إلى تقليده، ولم يكن أحد منهم معصوما ولا ادعى ذلك ولا قال: إن الحق معي لا يفارقني فتمسكوا بما أقول وأفعل، ولا كان لأحد منهم
__________
(1) الروم الآية (32).(9/412)
التزام قول أحد من آحاد الأمة لا ممن هو مثلهم ولا من هو أفضل منهم فضلا عمن هو دونهم، ولم يكن لهم أن يلتزموه فيما خالف النص الذي لم يبلغه أو لم يستحضره، ولو كان ذلك خيرا لسبقونا إليه، بل كان إمام الجميع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بين للناس ما نزل إليهم، ويتبعون آثاره من الأفعال والأقوال والتقريرات، يتلقنونها من حفاظها من كانوا وأين كانوا وبيد من وجدوها، وقفوا عندها ولم يعدوها إلى غيرها. وكانت طريقتهم في تلقي النصوص أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون ما يفسر لهم المتشابه ويُبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره، قال الله تعالى: أَفَلَا { يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (82) (1) .اهـ (2)
موقفه من الرافضة:
- جاء في معارج القبول:
فصل من هو أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الصحابة
__________
(1) النساء الآية (82).
(2) معارج القبول (628-630).(9/413)
بمحاسنهم، والكف عن مساويهم وما شجر بينهم رضي الله عنهم.
أهم ما في هذا الفصل خمس مسائل:
الأولى: مسألة الخلافة.
والثانية: فضل الصحابة وتفاضلهم بينهم.
والثالثة: تولي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته سلام الله ورحمته وبركته عليهم، ومحبة الجميع والذب عنهم.
الرابعة: ذكرهم بمحاسنهم والكف عن مساويهم.
والخامسة: السكوت عما شجر بينهم، وأن الجميع مجتهد: فمصيبهم له أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، ومخطؤهم له أجر الاجتهاد وخطؤه مغفور.
وبعده الخليفة الشفيق ... نعم نقيب الأمة الصديق
ذلك رفيق المصطفى في الغار ... شيخ المهاجرين والأنصار
وهو الذي بنفسه تولى ... جهاد من عن الهدى تولى
(وبعده): أي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (الخليفة): له في أمته. الشفيق: بهم وعليهم. (نعم): فعل مدح. (نقيب): فاعل نعم، والنقيب عريف القوم وأفضلهم. (الصديق): هو المخصوص بالمدح وهو النقابة منه لجميع الأمة، وهو أبو بكر عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي، أول الرجال إسلاما، وأفضل الأمة على الإطلاق رضي الله عنه... (1)
- وفيه:
__________
(1) معارج القبول (2/522-523).(9/414)
ثانيه في الفضل بلا ارتياب ... الصادع الناطق بالصواب
أعني به الشهم أبا حفص عمر ... من ظاهر الدين القويم ونصر
الصارم المنكي على الكفار ... وموسع الفتوح في الأمصار
(ثانيه): أي ثاني أبي بكر. (في الفضل): على الناس بعده فلا أفضل منه، وكذا هو ثانيه في الخلافة بالإجماع. (بلا ارتياب): أي بلا شك. (الصادع): بالحق المجاهر به الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ومنه قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : فَاصْدَعْ { بِمَا } تُؤْمَرُ (1) فكان عمر رضي الله عنه كذلك، وبه سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاروقا. (الناطق بالصواب): والذي وافق الوحي في أشياء قبل نزوله كما سيأتي. (أعني به): أي بهذا النعت. (الشهم): الذكي المتوقد، السيد المطاع الحكم القوى في أمر الله الشديد في دين الله. (أبا حفص عمر): ابن الخطاب ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قرط بن رزاح ابن عدي بن كعب العدوى ثاني الخلفاء وإمام الحنفاء بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وأول من تسمى أمير المؤمنين. (الصارم): السيف المسلول. (المنكي): من النكاية. (على الكفار): لشدته عليهم وإثخانه إياهم، حتى إن كان شيطانه ليخافه أن يأمره بمعصية كما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (وموسع): من الاتساع. (الفتوح): فتوح الإسلام. (في الأمصار): فكمل فتوح بلاد الروم بعد اليرموك ثم بلاد فارس حتى مزق الله به ملكهم كل ممزق، ثم أوغل في
__________
(1) الحجر الآية (94).(9/415)
بلاد الترك كما هو مبسوط في كتب السير وغيرها. (1)
- وفيه:
ثالثهم عثمان ذو النورين ... ذو الحلم والحيا بغير مين
بحر العلوم جامع القرآن ... منه استحت ملائك الرحمن
بايع عنه سيد الأكوان ... بكفه في بيعة الرضوان
(ثالثهم): في الخلافة والفضل. (عثمان): بن عفان بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف، من السابقين الأولين إلى الإسلام بدعوة الصديق إياه، وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية ابنته رضي الله عنها، وهاجر الهجرتين وهي معه، وتخلف عن بدر لمرضها، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره. وبعد وفاتها زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل صحبتها وبذلك تسمى. (ذو النورين): لأنه تزوج ابنتي نبي واحدة بعد واحدة ولم يتفق ذلك لغيره رضي الله عنه. ذو الحلم: التام الذي لم يدركه غيره. (والحياء): الإيماني الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الحياء شعبة من الإيمان" (2) وقال: "أشدكم حياء عثمان" (3) . (بحر العلوم): الفهم التام في كتاب الله تعالى حتى إن كان ليقوم به في ركعة واحدة فلا يركع إلا في خاتمتها إلا ما كان من سجود القرآن. (جامع القرآن): لما خشى الاختلاف في القرآن والخصام
__________
(1) معارج القبول (2/546-547).
(2) أحمد (2/414) والبخاري (1/71/9) ومسلم (1/63/35) وأبو داود (5/56/4614) والنسائي (8/484/5020) وابن ماجه (1/22/57).
(3) تقدم تخريجه في مواقف شيخ المالكية سعيد بن محمد بن الحداد المغربي سنة (302هـ).(9/416)
فيه في أثناء خلافته رضي الله عنه، فجمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على القراءة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سني حياته... (1)
- وفيه:
والرابع ابن عم خير الرسل ... أعني الإمام الحق ذا القدر العلي
مبيد كل خارجي مارق ... وكل خب رافضي فاسق
من كان للرسول في مكان ... هارون من موسى بلا نكران
ولا في نبوة فقد قدمت ما ... يكفي لمن من سوء ظن سلما
(والرابع): في الفضل والخلافة. (ابن عم): محمد - صلى الله عليه وسلم - . (خير الرسل): أكرمهم على الله عز وجل. (أعني): بذلك. (الإمام الحق): بالإجماع بلا مدافعة ولا ممانعة. (ذا): صاحب. (القدر العلي): الرفيع، وهو أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنه وأرضاه...
(ومبيد كل خب رافضي فاسق): الخب الخداع الخائن، والرافضي نسبة إلى الرفض، وهو الترك بازدراء واستهانة، سموا بذلك لرفضهم الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنهما ظلما عليا واغتصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة رضي الله عنها فدك، وبذلك يحطون عليهما ثم على عائشة ثم على غيرها من الصحابة. وهم أقسام كثيرة لا كثرهم الله تعالى، أعظمهم
__________
(1) معارج القبول (2/555-556).(9/417)
غلوا وأسوأهم قولا وأخبثهم اعتقادا بل وأخبث من اليهود والنصارى هم السبئية أتباع عبدالله بن سبأ اليهودي قبحه الله، كانوا يعتقدون في علي رضي الله عنه الإلهية كما يعتقد النصارى في عيسى عليه السلام، وهم الذين أحرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأنكر ذلك عليه ابن عباس كما في صحيح البخاري والمسند وأبي داود والترمذي والنسائي عن عكرمة رضي الله عنه قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من بدل دينه فاقتلوه" (1) .
حكى عن أبي المظفر الاسفراييني في الملل والنحل: أن الذين أحرقهم علي رضي الله عنه طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبئية، وكان كبيرهم عبدالله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة. وتفصيل ذلك ما ذكره في الفتح من طريق عبدالله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي رضي الله عنه: إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا أنت ربنا وخالقنا ورازقنا. قال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني. فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال لئن
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/217) والبخاري (6/184/3017) وأبوداود (4/520/4351) والترمذي (4/48/1458) والنسائي (7/120/4071) وابن ماجه (2/848/2535).(9/418)
قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فأمر علي رضي الله عنه أن يخد لهم أخدود بين المسجد والقصر، وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم: إني طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمر منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
قال ابن حجر: "إسناده صحيح" (1) .اهـ (2)
- وفيه: وأكثر ما يكذب على علي رضي الله عنه الرافضة الذين يدعون مشايعته ونشر فضائله ومثالب غيره من الصحابة، فيسندون ذلك إليه رضي الله عنه وهو بريء منهم، وهم أعدى عدو له. وفي الصحيحين من طرق عنه رضي الله عنه قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار" (3) . وفي فضائله رضي الله عنه من الأحاديث الصحاح والحسان ما يغني عن أكاذيب الرافضة، وهم يجهلون غالب ما له من الفضائل فيها، وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت فثلاث قالهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له وقد خلفه في مغازيه
__________
(1) تقدم ضمن مواقف علي رضي الله عنه سنة (40هـ).
(2) معارج القبول (2/565-574).
(3) أحمد (1/83،123،150) والبخاري (1/266/106) ومسلم في مقدمته (1/9/1) والترمذي (5/34/2660) والنسائي في الكبرى (3/457/5811) وابن ماجه (1/13/31).(9/419)
فقال له علي رضي الله عنه: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي؟" وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله"، قال فتطاولنا لها قال: "ادعوا لي عليا"، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ليلة فتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: تَعَالَوْا { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا } وَأَبْنَاءَكُمْ (1) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" (2) .اهـ (3)
- وفيه:
ثم السكوت واجب عما جرى ... بينهم من فعل ما قد قدرا
فكلهم مجتهد مثاب ... وخطؤهم يغفره الوهاب
أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه، والاسترجاع على
__________
(1) آل عمران الآية (61).
(2) أحمد (1/185) ومسلم (4/1871/2404 [32]) والترمذي (5/596/3724) والنسائي في الكبرى (6/122/8439) من طريق بكير بن مسمار المدني عن عامر بن سعد عن أبيه.
(3) معارج القبول (2/579-580).(9/420)
تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة، والاستغفار للقتلى من الطرفين والترحم عليهم، وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر مناقبهم، عملا بقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ { جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا } بِالْإِيمَانِ (1) الآية. واعتقاد أن الكل منهم مجتهد: إن أصاب فله أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور، ولا نقول إنهم معصومون بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك. وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون. (2)
موقفه من الصوفية:
سئل رحمه الله: إلى كم قسم تنقسم البدع في العبادات:
فأجاب: إلى قسمين:
الأول: التعبد بما لم يأذن الله أن يعبد به ألبتة، كتعبد جهلة المتصوفة بآلات اللهو والرقص والصفق والغناء وأنواع المعازف وغيرهما، مما هم فيه مضاهئون فعل الذين قال الله تعالى فيهم: وَمَا { كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
__________
(1) الحشر الآية (10).
(2) معارج القبول (2/599-600)(9/421)
إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } (1) .
والثاني: التعبد بما أصله مشروع، ولكن وضع في غير موضعه، ككشف الرأس مثلا هو في الإحرام عبادة مشروعة، فإذا فعله غير المحرم في الصوم أو في الصلاة أو غيرها بنية التعبد كان بدعة محرمة، وكذلك فعل سائر العبادات المشروعة في غير ما تشرع فيه، كالصلوات النفل في أوقات النهي، وكصيام يوم الشك وصيام العيدين، ونحو ذلك. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال في معرض ذكره للإلحاد في أسماء الله: وهو ثلاثة أقسام:
الأول: إلحاد المشركين، وهو ما ذكره ابن عباس وابن جريج ومجاهد من عدولهم بأسماء الله تعالى عما هي عليه، وتسميتهم أوثانهم بها مضاهاة لله عز وجل ومشاقة له وللرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني: إلحاد المشبهة الذين يكيفون صفات الله عز وجل ويشبهونها بصفات خلقه مضادة له تعالى وردا لقوله عز وجل: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (3) ، وَلَا { يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (4) وهو مقابل لإلحاد المشركين؛ فأولئك جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق وسووه به، وهؤلاء جعلوا الخالق بمنزلة الأجسام المخلوقة
__________
(1) الأنفال الآية (35).
(2) أعلام السنة المنشورة (ص.220).
(3) الشورى الآية (11).
(4) طه الآية (110).(9/422)
وشبهوه بها، تعالى وتقدس عن إفكهم.
الثالث: إلحاد النفاة، وهم قسمان:
قسم أثبتوا ألفاظ أسمائه تعالى دون ما تضمنته من صفات الكمال، فقالوا: رحمن رحيم بلا رحمة، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر. واطردوا بقية الأسماء الحسنى هكذا وعطلوها عن معانيها وما تقتضيه وتتضمنه من صفات الكمال لله تعالى، وهم في الحقيقة كمن بعدهم، وإنما أثبتوا الألفاظ دون المعاني تسترا وهو لا ينفعهم.
وقسم لم يتستروا بما تستر به إخوانهم بل صرحوا بنفي الأسماء وما تدل عليه من المعاني واستراحوا من تكلف أولئك، وصفوا الله تعالى بالعدم المحض الذي لا اسم له ولا صفة؛ وهم في الحقيقة جاحدون لوجود ذاته تعالى، مكذبون بالكتاب وبما أرسل الله به رسله. وكل هذه الأربعة الأقسام كل فريق منهم يكفر مقابله، وهم كما قالوا كلهم كفار بشهادة الله وملائكته وكتبه ورسله والناس أجمعين من أهل الإيمان والإثبات الواقفين مع كلام الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآله وصحبه أجمعين. (1)
- وقال في 'أعلام السنة المنشورة' مبينا معتقده في القرآن: القرآن كلام الله عز وجل حقيقة حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، تكلم الله به قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وآمن به
__________
(1) معارج القبول (1/88-89).(9/423)
المؤمنون حقا، فهو وإن خط بالبنان وتلي باللسان، وحفظ بالجنان وسمع بالآذان وأبصرته العينان، لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الرحمن، فالأنامل والمداد والأقلام والأوراق مخلوقة، والمكتوب بها غير مخلوق، والألسن والأصوات مخلوقة والمتلو بها على اختلافها غير مخلوق، والصدور مخلوقة، والمحفوظ فيها غير مخلوق، والأسماع مخلوقة، والمسموع غير مخلوق، قال الله تعالى: إِنَّهُ { لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } (78) (1) ، وقال تعالى: بَلْ { هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } (49) (2) ، وقال تعالى: وَاتْلُ { مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ } لِكَلِمَاتِهِ (3) ، وقال تعالى: وَإِنْ { أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ } اللَّهِ (4) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "أديموا النظر في
__________
(1) الواقعة الآيتان (77و78).
(2) العنكبوت الآية (49).
(3) الكهف الآية (27).
(4) التوبة الآية (6).(9/424)
المصحف" والنصوص في ذلك لا تحصى، ومن قال: القرآن أو شيء من القرآن مخلوق فهو كافر كفرا أكبر يخرجه من الإسلام بالكلية، لأن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود وكلامه وصفته، ومن قال: شيء من صفات الله مخلوق فهو كافر مرتد، يعرض عليه الرجوع إلى الإسلام فإن رجع وإلا قتل كفرا ليس له شيء من أحكام المسلمين. (1)
موقفه من الخوارج:
بين رحمه الله الواجب لولاة الأمور طبقا لما قرره أهل السنة فقال: الواجب لهم النصيحة بموالاتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكيرهم برفق، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، والصبر عليهم وإن جاروا، وترك الخروج بالسيف عليهم ما لم يظهروا كفرا بواحا، وألا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح والتوفيق. (2)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله في سلم الوصول:
اعلم بأن الدين قول وعمل ... فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل
- وقال أيضا فيه:
إيماننا يزيد بالطاعات ... ونقصه يكون بالزلات
وأهله فيه على تفاضل ... هل أنت كالأملاك أو كالرسل
والفاسق الملي ذو العصيان ... لم ينف عنه مطلق الإيمان
__________
(1) أعلام السنة (93-95).
(2) أعلام السنة (245).(9/425)
لكن بقدر الفسق والمعاصي ... إيمانه مازال في انتقاص
وقد شرح رحمه الله هذه الأبيات في معارج القبول شرحا وافيا فلتنظر هناك. (1)
موقفه من القدرية:
عقد فصلا في كتابه الجليل 'معارج القبول' في رؤوس الطوائف الضالة وذكر من بينهم القدرية فقال: الطائفة الرابعة: نفاة القدر، وهم فرقتان:
فرقة نفت تقدير الخير والشر بالكلية وجعلت العباد هم الخالقين لأفعالهم خيرها وشرها، ولازم هذا القول أنهم هم الخالقون لأنفسهم، لأن في قولهم نفي تصرف الله في عباده، وإخراج أفعالهم عن خلقه وتقديره، فيكون تكونهم من التراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى آخر أطوار التخليق هم بأنفسهم تطوروا، وبطبيعتهم تخلقوا، وهذا راجع إلى مذهب الطبائعية الدهرية الذين لم يثبتوا خالقا أصلا كما قدمنا مناظرة أبي حنيفة لبعضهم فأسلموا على يديه.
وفرقة نفت تقدير الشر دون الخير، فجعلوا الخير من الله وجعلوا الشر من العبد، ثم منهم من ينفي تقدير الشر من أعمال العباد دون تقديره في المصائب، ومنهم من غلا فنفى تقدير الشر من المصائب والمعايب. وعلى كل حال فقد أثبتوا مع الله تعالى خالقا، بل جعلوا العباد معه خالقين كلهم، ونفوا أن يكون الله هو المتفرد بالتصرف في ملكوته، وهذا راجع إلى مذهب
__________
(1) انظر (2/17-23) و(2/405-421) وغيرها من المواطن.(9/426)
المجوس الثنوية الذين أثبتوا خالقين خالقا للخير وخالقا للشر قبحهم الله تعالى. (1)
- وعقد بابا في القضاء والقدر فيه من نظم سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد قال:
والسادس الإيمان بالأقدار ... فأيقن بها ولا تمار
فكل شيء بقضاء وقدر ... والكل في أم الكتاب مستطر (2)
ثم بسط شرح ذلك مطولا.
شيخ أنصار السنة بمصر حامد الفقي (3) (1378 هـ)
الشيخ العلامة محمد حامد الفقي مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية، ولد في قرية جزيرة نكلا العنب في سنة عشر وثلاثمائة وألف للهجرة. حفظ القرآن الكريم وأتم حفظه في شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. بدأ دراسته بالأزهر في شهر شوال سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. ودراسته للحديث والتفسير بعد مضي ست سنين.
نال شهادة العالمية في الأزهر الشريف سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف وعمره آنذاك خمس وعشرون سنة. وانقطع بعدها إلى خدمة كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) معارج القبول (1/336-337).
(2) معارج القبول (2/326).
(3) مجلة التوحيد بتصرف (العدد الثالث ربيع الأول 1416هـ).(9/427)
أنشأ جماعة أنصار السنة المحمدية سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف، واتخذ لها دارا بعابدين. وبعدها أسس مجلة الهدي النبوي فنفع الله بها النفع العظيم.
قال الشيخ عبدالرحمن الوكيل: لقد ظل إمام التوحيد (في العالم الإسلامي) والدنا الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- أكثر من أربعين عاما يجاهد في سبيل الله، ظل يجالد قوى الشر الباغية في صبر، مارس الغلب على الخطوب، واعتاد النصر على الأحداث، وإرادته تزلزل الدنيا حولها، وترجف الأرض من تحتها، فلا تميل عن قصد، ولا تجبن عن غاية، لم يكن يعرف في دعوته هذه الخوف من الناس، أو يلوذ له، إذ كان الخوف من الله آخذا بمجامع قلبه، كان يسمي كل شيء باسمه الذي هو له، فلا يدهن في القول ولا يداجي، ولا يبالي ولا يعرف المجاملة أبدا في الحق أو الجهر به، إذ كان يسمي المجاملة نفاقا ومداهنة، ويسمي السكوت عن قول الحق ذلا وجبنا.
توفي رحمه الله فجر الجمعة سابع رجب سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة على إثر عملية جراحية أجراها بمستشفى العجوزة.
موقفه من المبتدعة:
كان هذا الإمام شوكة في حلق المبتدعة في زمنه. ونفع الله به نفعا عظيما. وأخرج كثيرا من كتب السلف وزينها بتعاليقه الجيدة. وهي وإن كانت مختصرة، لكنها مفيدة.
منها ما جاء في هامش 'اقتضاء الصراط المستقيم':
- قال: وكذلك المقلدون على عمى: قد أطاعوا من قلدوهم في(9/428)
أخطائهم، وردوا بها صريح نصوص الكتاب والسنة، زاعمين أنها لم يأخذ بها معظمهم. (1)
- وقال: الجاهلية: هي الحالة الناشئة عن الجهل والإعراض عن أسباب العلم التي أقامها الله في آياته الكونية في الأنفس والآفاق وفي النعم المتتالية؛ فهذه الحالة الجاهلية ملازمة للإعراض عن الفهم والتفقه لما أنزل الله في كتبه وأرسل به رسله، وللإعراض عن التدبر والتأمل لسنن الله الكونية، وآياته العلمية. وهذه حال يعمد الشيطان إلى إركاس الناس فيها بصرفهم عن الحق والهدي الذي جاءهم به رسل الله. وقد أركس الشيطان الناس اليوم فيها بالتقليد الأعمى وتعطيل عقولهم وأفهامهم، وحرمانهم من تدبر سنن الله وآياته، ومن الفقه في كتاب الله وسنة رسوله، فغلب عليهم العقائد الزائغة، والأخلاق الفاسدة، وانعكست بهم الأحوال، فغلبت النساء بسفههن الرجال، ونفقت سوق الشرك والبدع والخرافات، والفسوق والعصيان، وتحاكموا إلى الطواغيت، وتقطعت الصلات، وتباغضت القلوب، وتعاونوا على الإثم والعدوان، وأصبحوا شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، وضل سعيهم في كل شئون الحياة الدنيا. وعلى الجملة: أصبحوا في حياة لا ينبغي أن تنسب إلا إلى الجهل والسفه والغي، والإسلام دين الحكمة والرشد والفطرة السليمة، ودين العزة والقوة: برئ منها كل البراءة. (2)
- وقال: لا يمكن أن تكون بدعة إلا ولها سلف وقدوة خبيثة من دين
__________
(1) هامش اقتضاء الصراط المستقيم (9).
(2) هامش اقتضاء الصراط (79).(9/429)
الكافرين وخبث أعمالهم التي أوحاها إليهم شياطين الإنس والجن. (1)
- وقال: والذي أعتقده -والله الموفق- هو أن شرع الإسلام بعقائده وعباداته وشرائعه شرع تام بما أتمه الله غير محتاج إلى غيره الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2) بل جعله الله مهيمنا على غيره. بحيث يجب على المؤمن أن لا يرجع إلى غيره، ولو أنه عرض له في حياته أمر أي أمر -فيجب أن يرده إلى الله ورسوله. فهو الشريعة التي حفظ الله أصولها ونصوصها، بحيث لا يتطرق شك ولا ريبة إلى أي أصل من أصولها، ولا نص من نصوصها، وهي الشريعة التي ارتضاها الله ربنا سبحانه -وهو العليم الحكيم الرحيم- لعباده من كل بني آدم من وقت نزولها إلى آخر الدهر، واختزن ربنا في طوايا نصوصها ما فيه الهدى والرحمة، والرشد والحكمة، والشفاء لما في صدور جميع الناس من كل داء ومرض من أمراض الشبهات والشهوات في الفرد والأسرة والحكومة والمجتمع. (3)
- قال الشيخ رحمه الله عقب كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء: "وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له، والله قد يثيبهم على هذه
__________
(1) هامش اقتضاء الصراط (116).
(2) المائدة الآية (3).
(3) هامش اقتضاء الصراط (170).(9/430)
المحبة والاجتهاد لا على البدع: من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا".
قلت: كيف يكون لهم ثواب على هذا وهم مخالفون لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهدي أصحابه؟! فإن قيل: لأنهم اجتهدوا فأخطأوا، فنقول: أي اجتهاد في هذا؟ وهل تركت نصوص العبادات مجالا للاجتهاد؟! والأمر فيه واضح كل الوضوح. وما هو إلا غلبة الجاهلية وتحكم الأهواء، حملت الناس على الإعراض عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دين اليهود والنصارى والوثنيين. فعليهم ما يستحقونه من لعنة الله وغضبه، وهل تكون محبة وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن هديه وكرهه وكراهية ما جاء به من الحق لصلاح الناس من عند ربه، والمسارعة إلى الوثنية واليهودية والنصرانية؟ ومن هم أولئك الذين أحيوا تلك الأعياد الوثنية؟ هل هم مالك أو الشافعي أو أحمد أو أبو حنيفة أو السفيانان أو غيرهم من أئمة الهدى رضي الله عنهم؟ حتى يعتذر لهم ولأخطائهم، كلا، بل ما أحدث هذه الأعياد الشركية إلا العبيديون الذين أجمعت الأمة على زندقتهم، وأنهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأنهم كانوا وبالا على المسلمين، وعلى أيديهم وبدسائسهم وما نفثوا في الأمة من سموم الصوفية الخبيثة انحرف المسلمون عن الصراط المستقيم، حتى كانوا مع المغضوب عليهم والضالين؟ وكلام شيخ الإسلام نفسه يدل على خلاف ما يقول من إثابتهم، لأن حب الرسول وتعظيمه الواجب على كل مسلم: إنما هو باتباع ما جاء به من عند الله. كما قال الله تعالى: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ(9/431)
ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (31) (1) وقال: أَلَمْ { تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
__________
(1) آل عمران الآية (31).(9/432)
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) ، وقال تعالى: وَيَقُولُونَ { آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا
__________
(1) النساء الآيات (60-65).(9/433)
كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (51) (1) .اهـ (2)
و له كلام جيد على بدعة قراءة القرآن على الموتى:
جاء في اقتضاء الصراط المستقيم: "والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة: أنها تعين على حفظ القرآن، وأنها رزق لحفاظ القرآن، وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته، وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته، فهو مما يحفظ به الدين، كما يحفظ بقراءة الكافر وجهاد الفاجر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" (3) ".
- قال حامد الفقي عقب هذا القول: لقد كان هذا من أقوى أسباب إماتة القرآن فقها وعلما وعملا وإن حفظوه حروفا وألفاظا، لأنهم يحترفون قراءته للموتى، على مثال كهنة قدماء المصريين الوثنيين، وبذلك هان القرآن ونزل من نفوس القادة والرؤساء، بل والعامة، حتى أصبح أقل منزلة في نفوسهم من قول الشيوخ وآرائهم، وعادات الآباء وتقاليدهم، وحتى أصبح في زمننا هذا أقل من قوانين الفرنجة وضلالهم. ولم يبق له في العقائد والعبادات والأخلاق والأدب والأحكام والدولة والأسرة أي أثر ولا قيمة،
__________
(1) النور الآيات (47-52).
(2) هامش اقتضاء الصراط (294-295 دار الكتب العلمية).
(3) أحمد (2/309) والبخاري (6/220-221/3062) ومسلم (1/105-106/111).(9/434)
كل ذلك من آثار امتهانه للموتى والمقابر وللحجب والتمائم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهل كان السلف يستعينون على حفظ القرآن بهذا؟ أو هل أثر عن أحد من الخلفاء الراشدين قراءة القرآن على المقابر؟ ولكن هي السنن، حين تتحكم الأهواء، فيلتمس الناس لجعلها دينا أي دليل، ولو كان أوهى من بيت العنكبوت. (1)
موقفه من المشركين:
له هوامش على 'فتح المجيد':
- قال رحمه الله عقب قول الشارح: "..فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى": هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة، لأن حب الله لا يكون إلا عن معرفة بالله، بأسمائه وصفاته. ومن أحب الله على الحقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه ندا. وليس معنى (كحب الله) أي كحبهم لله. ولكن معناها والله أعلم: يحبونهم حبا من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله. وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الذل والتعظيم. فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حبا لله. والمشركون يجردونه لأوليائهم أو يشركونهم مع الله، ولا يرجون لله وقارا. (2)
- وقال: الظاهر أن المعنى: أنهم يحبون أندادهم من جنس حب الله الذي هو حب التعظيم والذل والخضوع. لأنه ليس كل حب يكون عبادة
__________
(1) هامش اقتضاء الصراط (380-381 دار الكتب العلمية).
(2) فتح المجيد (ص.123).(9/435)
حتى يكون فيه تعظيم وخضوع. ولذلك قال: (كحب الله) ولم يقل: كحبهم لله. فهم في الوقت الذي يحبونهم أعظم الحب، يخافونهم أشد الخوف، معتقدين أنهم يخلفون عليهم خيرا مما ينذرونه لهم، ويذبحونه لهم من طيب مالهم، ويرجون منهم المساعدة والمعونة على كشف الضر ودفع البأساء، ويحذرون انتقامهم بحرق زرعهم وإهلاك أولادهم وأنفسهم، ويروون عن سدنتهم روايات مكذوبة في تأييد دعاويهم تهويلا عليهم وتمكينا للضلال والشرك من أنفسهم. فهم لا يرجون لله وقارا كما يرجون لهم، ولا يخشون الله كما يخشونهم. فتجود أنفسهم بسخاء في سبيل التقرب إلى أولئك الموتى من أوليائهم بما لا تجود بعشره في سبيل الله برا للوالدين أو صلة للأرحام، أو إطعاما لجار بائس، أو مسكين من أهل قريته؛ هذا شأن عباد القبور والموتى اليوم. دقق في أحوالهم وطبقها على آيات المشركين في القرآن تجدهم زادوا على مشركي الجاهلية الأولى. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن من تحقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله، ويتصدقون لوجوهها بما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره لوجه الله. (1)
- وقال: في التِّوَلَة: وإن زعم الذين يصنعونها للنساء أنهم مسلمون ومتدينون، وأن ما يكتبونه من القرآن وأسماء الله، فإنهم يفعلون ذلك تضليلا بالقرآن وإلحادا فيه. لأنهم يكتبونه على طريقة اليهود حروفا مقطعة وبمداد
__________
(1) فتح المجيد (ص.137).(9/436)
خاص، ويمزجونه بأدعية جاهلية وبخطوط يزعمونها على صورة خاتم سليمان الذي كان فيه سر ملكه، كما يزعم اليهود الذين يعتقدون كفر سليمان، وأنه كان يسخر الجن بالسحر لا بمعجزة من الله. وعلى هذه العقيدة اليهودية الدجالون الذين يكتبون التمائم والتولات، ويزعمون أن للحروف والأسماء خداما يقومون بما يطلب منهم من الأعمال السحرية، ويتخذون أنواعا من البخور والأدوات المخصوصة التي يوحي بها شياطينهم. وكل ذلك من الكفر العظيم. (1)
- وقال: في قوله تعالى: إِنْ { يَتَّبِعُونَ إِلَّا } الظَّنَّ (2) : الظن هنا: ظن المشركين بأوليائهم أنها تسمع الدعاء وتجيب، فإنهم ليس لهم علم بذلك لا من طريق حواسهم، ولا من خبر صادق، وإنما هو مما يشيعه السدنة ترويجا لتجارتهم الخاسرة. ويزيد الجاهلين تعلقا بأوليائهم من دون الله ما تهوى أنفسهم من قضاء حاجاتهم بغير الأسباب الكونية فهم يعظمون أولئك الموتى لهوى أنفسهم وقضاء وطرهم لا حبا في الإيمان والمؤمنين. ولذلك تراهم يتنقلون من ميت إلى آخر إذا لم يجدوا مسألتهم قضيت عند الأول. وهكذا ترى السدنة إذا انتقلوا من وظيفة عند هذا الولي الذي كان في نظرهم كبيرا أصبح الولي الذي انتقلوا عند قبره أعظم بركة وأكثر كرامات. والله يقول: إن هؤلاء جميعا لا يتبعون إلا هوى أنفسهم وهم كاذبون أعظم الكذب في دعواهم حب الأولياء
__________
(1) فتح المجيد (ص.154).
(2) النجم الآية (23).(9/437)
والصالحين. (1)
__________
(1) فتح المجيد (ص.162-163).(9/438)
عبدالرحمن الكمالي (1379 هـ)
عبدالرحمن بن أحمد بن يحيى الكمالي الأنصاري، ولد سنة تسع وتسعين ومائتين وألف لسبع خلون من محرم الحرام. وتعلم ببلاده بجزيرة القسم "الجَسَم" بقرية كاروان بجنوب فارس، ثم رحل إلى "لنجة" فدرس على الشيخ عبدالرحمن بن يوسف، ثم رحل إلى مكة ومكث بها عشر سنين؛ فدرس هناك على الشيخ أبي شعيب الدكالي المغربي علوم الحديث والتفسير والتوحيد، ولازمه مدة طويلة. وكان الشيخ أبو شعيب هو السبب في تحول الشيخ عبدالرحمن الكمالي إلى المنهج السلفي، لذا قال فيه (1) :
وفي الغرب من أتباع مالك الإمام ... قوم لهم ذخر حديث محمد
هنالك شيخي المغربي شعيب الـ ... ـذي كابن عبدالبر في نصر مسند
ودرس أيضا على مشايخ الحرم علوم العربية والفقه وغير ذلك.
رجع إلى بلده ودرس فيها العقيدة السلفية في المدرسة الكمالية المشهورة بالعلم، وقضى عمره في مواجهة المناوئين فكانت له معارك كلامية معهم يذب فيها عن منهج السلف في العقيدة، وابتلي جَرَّاء ذلك أثابه الله وأحسن إليه.
له منظومة 'شهود الحق' أبرز فيها المنهج السلفي في العقيدة، شرحها محمد رشاد محمد صالح (إسماعيل زادة) وقام بطبعها، وقدم لها الشيخ أحمد بن حجر رئيس قضاة المحكمة الشرعية بقطر، فأثنى عليها وعلى صاحبها،
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.278).(9/439)
وللمترجم قصائد أخرى في نصرة العقيدة السلفية منها: قصيدة في أسماء الله وشروطها وغيرها.
توفي رحمه الله يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة في مسجد كاروان في جزيرة "الجسم" ببلده.
موقفه من المشركين:
- قال في منظومته 'شهود الحق':
ولا تعتد لا تدع معه خليقة ... ولو ملكا ذا قرب أو بشيرا هدي
طغى بعض أصحاب النجوم بدعوة الـ ... ـكواكب والخدام بعدا لمعتد
فإن الدعاء والقرابين والسجو ... د والصوم والتسبيح لله فاعبد
قريب لمن يدنو إليه بلطفه ... مجيب لمن يدعو فلا تتبعد
- وقال في قصيدة 'أسماء الله الحسنى وشروطها' (1) :
ولا تعبدن الخلق بل كن موحدا ... لمن كان قبل الخلق ربا وسيدا
- وقال أيضا (2) :
بإخلاصك التوحيد نل قصرك المشيد ... في جنة سقف لها العرش فافرش
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله (3) :
وآل رسول الله بالصدق وَالِهم ... على السنة البيضا لجدهم اهتد
__________
(1) ص.296).
(2) ص.297).
(3) منظومة 'شهود الحق' (ص.276-277).(9/440)
ولا تك خبا رافضيا بزعمه ... محبتهم في سب صحب محمدي
وقذف الطهور أم من آمنوا رضا ... وتخوين جبريل الأمين الممجد
وتنزيهما في بضع عشرة آية ... أمانتهم جاءت بآيات اشهد
فذو الرفض كالجهمي يخفي شواهد الـ ... ـعلو وفي الوحيين ألف لمهتد
قم اتبع وحب الصحب فالتابعون في ... رضا الله موصولون معهم إلى غد
هم أولياء الله مع تابعيهم ... طريق الهدى معهم شريعة أحمد
موقفه من الجهمية:
قال الشيخ أحمد بن حجر في مقدمته لمنظومة 'شهود الحق' (1) : ولم يكتف الشيخ عبدالرحمن بكونه أصبح سلفيا متقيدا بعقيدته في الكتاب والسنة وفي أعماله، بل أصبح مناظرا ومجاهدا وسيفا مسلولا على المؤولة.
- قال رحمه الله (2) :
سألنا علي الذات والوصف جمعنا ... بمجمع أسعاد بأرفع مسعد
ودفعا لأشرار الفلاسفة البغاة ... في طغيهم عما أتى من محمد
ورفعا لوسواس لهم قد أتوا به ... إلينا بأوهام الكلام المبعد
ومنعا لطرق الشك في قلب واحد ... من الجمع، جمع الشمل شمل التسعد
ورجعا لمن في مهمه الوهم تاه من ... تسفسط قول الفلسفي المعربد
إله الورى لا داخل العالمين بل ... ولا خارجا عنها فما الفوق فاجحد
نصوصا أتت فيه وإن جلت إذ قضت ... لحشوية أرذال أمة أحمد
__________
(1) ص.7-8).
(2) منظومة 'شهود الحق' (ص.106-112).(9/441)
يقولون مولانا عن الخلق بائن ... بفوقية جاءت نصوص فنقتدي
وإن أمكن التأويل أول وقل لهم ... بفوقية القدر اصرفنها وقيد
كقولك إن السيف فوق الجريد أو ... كما قيل الياقوت فوق الزبرجد
ولا تطلقن اسم العلي ودافعن ... نصوصا وأخرى اطعن وأول وبعد
وإن كثرت منها السهام ولم تجد ... مجالا لتأويل فلا تتشرد
وقل عقلنا قد عارض النقل فلنقد ... م العقل إذ منه إلى النقل نهتدي
فذلك أصل وهو أولى تقدما ... عن الفرع واستمسك بذا وتجلد
أقول إذا فليصنعوا ما بدا لهم ... فبالوحي ما استهدوا ولا بمحمد
وكم لهم من حيلة حولوا بها ... قلوبا عن استقبال سنة أحمد
إن العقل بالإيمان بالوحي مجدوا ... ولم يمرقوا فالوحي أصل الممجد
ولكن عقل المثبتين هو الذي ... يوافقه لا عقل أهل التجحد
يقولون ما لا في كتاب وسنة ... بلى سنة اليونان أكيد حسد
- وقال أيضا (1) :
أيا حيلة اليونان في درك سمك المد ... سم قد ألهمت إلهام من هدي
ويا حيلة اليونان في رد كيدك الموكـ ... ـد قد برهنت برهان مهتد
ويا حيلة اليونان ربي ناصري ... عليك فإني من جيوش محمد
ويا حيلة اليونان حولي فدرعي القر ... آن وسيفي سيف جدي أحمد
معوذتاه حلتا عقدا عقد ... ت من سحر تخييل بغير توجد
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.124-127).(9/442)
فكم صدت أقواما بسحر خيالك المحا ... ل بدعوى نفي تشبيه ابتدي
يخيل للأقوام أنك تجحدين ... تشبيهه حتى ظفرت بمقصد
وما تم ذاك النفي إلا بنفيه ... تعالى، فهذا منتهى قصدك الردي
بقصدك رأسا بان أنك تعلمـ ... ـين حربا ويكفي الرأس عن رجل أو يد
بلغت مناك من أناس كثيرة ... فلا تقريبنا يا بغي بل ابعدي
تريدين قطعا للطريق إصالة ... لأنك قطعا من أصول التمرد
وأبلس إبليس اللعين برأيه ... كمثلك قطعا بعد طول التعبد
- وقال أيضا (1) :
كفانا بحمد الله ليس كمثله ... بذات وأوصاف ولم نتجحد
كما أنه بالذات ليس كمثله ... كذا في صفات الذات لم نتردد
وبالحي والقيوم نعلم أنه ... بأحمد أوصاف الكمال وأمجد
فكيف وقد جاءت بقرآن ربنا ... وسنة هادينا، أبالجحد نرتدي؟
وأسماءه الحسنى قبلنا جميعها ... بمدلولها عكس الجحود المبعد
تفرقتم عن جمع جمع صفاته ... مع الذات واستجمعتم آراء مفسد
فناف لذات الله ناف صفاته ... لزوما ولم يهدأ بروغ ويهتد
- وقال (2) :
وما يهتدى إلا بهدي محمد ... وما مدعي هدي عداه بمرشد
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.134-136).
(2) منظومة 'شهود الحق' (ص.153-154).(9/443)
أكنت بمعراج النبي إلى العلي ... الأعلى على أعلى العلا في تردد
عروجا حقيقيا بغير تأول ... أم أول جهمي به كنت تقتدي
كذلك الأملاك إليه عروجهم ... يخافونه من فوقهم مع تعبد
وتنفيه عن فوق فليس بسافل ... فلم تتشهد مع يقين وتعبد
وعما وراكون فليس بداخل العـ ... ـتخشى الذات يا ذا التردد
لعلك في وهم بأن العظيم في ... قلبيك ذاتا كالحلولي يا ردي
أو الذات في الأكوان مزجا ... أو احتشت ولم تمتزج حشوي أهون معتد
أو الرب والمربوب لم يتباينا ... هما واحد كالاتحادي نعتدي
فلم تخل من بعض أو أنت معطل ... جحود كلا أدرية بالتأكيد
جزاك عمود النار فوق الجحود، ذق ... جزاء وفاقا للعزيز الممجد
فكم فرق في تيه لا الله داخلا ... ولا خارجا أبدت فنون التردد
كما مر ذكر البعض والنهر إن يسد ... مجراه يهدم حوله من مشيد
فنون أهالي التيه صارت جنون من ... يتيه بدعوى كل فن مفند
وأما قلوب الناس في حال فطرة ... الإله عليها قبل نحو التهود
فنحو العلا مجبولة في رجوعها ... إلى الله هذي فطرة اله فاشهد
وعامة إسلام تقر بفوقه ... بحمد الله كالحديث المؤيد
فسله السواد الأعظم اليوم أو غدا ... تجد جود مولانا على الناس فاحمد
- وقال (1) :
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.269-270).(9/444)
أيا مسلما سلم لوصف علوه ... تسلم تسليما به المرء يهتدي
ويا مؤمنا أيقن بنعت علوه ... هديت إذ الإيقان ضد التردد
وأدرى عباد الله بالله عبده ... الرسول وبالوحي بغير تردد
تواترت عنه في العلو دلائل ... بقول وفعل أعجزت ذا التجحد
وكان رسول الله يدعوه بالعلي ... الأعلى إذا ما اهتم بالقصد الأوكد
كذاك إذا ما اهتم يدعوه رافعا ... يديه فتبدو الإبط للشاهد الهدي
وجد برفع الوجه والعين واليد ... فزال الردا عن قده بالتجهد
ببدر بدا كالبدر بل هو أبين ... كذا الرفع في الحج وبعد الوضو أشهد
فقال لنا الجهمي ذا الرفع للسماء ... لا للعلي الواحد المتفرد
فهل لك يا جهمي نص بصرف ذا ... عن الله هل بالصرف للخلق تهتدي
- وقال (1) :
هم سلفيَّ إياك إياك أن ترى ... تخالفهم، خف من شقاء مؤبد
هم الأهل، لا أصحاب شر زمخشر ... وأضرابه من حائر متردد
ترددهم في ذات ربي ووصفه ... وأسمائه من اعتزال مبعد
محمد سلطان المعصومي (2) (1380 هـ)
أبو عبدالكريم محمد سلطان بن أبي عبدالله محمد أورون المعصومي الخجندي، نسبة إلى جده الأعلى محمد المعصوم. ولد في بلدة خجندة من
__________
(1) منظومة 'شهود الحق' (ص.227-228).
(2) مقدمة هدية السلطان (4-12).(9/445)
بلاد ما وراء النهر سنة سبع وتسعين ومائتين وألف. سافر إلى الحجاز ثم إلى الشام ثم إلى مصر، آخذا عن علمائها ومشايخها، ثم رجع إلى موطنه، فاشتغل بالتدريس في المدرسة التي أنشأها والده. وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة خرج الشيخ من الصين متوجها إلى مكة المكرمة بسبب محن وقعت له، فاستوطنها، وبقي فيها يدرس ويعلم إلى أن توفاه الله سنة ثمانين وثلاثمائة وألف رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
كان هذا الرجل من المجاهدين في سبيل عقيدتهم، وكاد أن يكون ضحية الزحف الأحمر الملعون في روسيا ولكن الله نجاه رغم العواصف التي مرت به ترك لنا تراثا سلفيا جيدا من ذلك:
'هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان' وهي رسالة جيدة جوابا على سؤال: هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة؟ نجتزئ منها بعض أقواله:
- قال: أساس دين الإسلام إنما هو العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا هو دين الإسلام الحق، وأصله وأساسه الكتاب والسنة، فهما المرجع في كل ما تنازع فيه المسلمون. ومن رد التنازع إلى غيرهما فهو غير مؤمن، كما قال الله تعالى: فَلَا { وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ(9/446)
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (65) (1) . ولم يقل أحد من الأئمة اتبعوني فيما ذهب إليه، بل قالوا خذوا من حيث أخذنا، على أن هذه المذاهب أضيف إليها كثير من أفهام القرون المتأخرة، وفيها كثير من الغلط، والمسائل الافتراضية التي لو رآها أحد من الأئمة الذين نسبت إلى مذاهبهم لتبرؤوا منها وممن قالها. وكل واحد ممن يحفظ عنه العلم والدين من أئمة السلف قد تمسك بظاهر الكتاب والسنة، ورغب الناس في التمسك والعمل بهما، كما ثبت عن الإمام أبي حنيفة، وكذا مالك، والشافعي، وأحمد، والسفيانين (2) : الثوري وابن عيينة، والحسن البصري، وأبي (3) يوسف يعقوب القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وعبدالرحمن الأوزاعي، وعبدالله بن المبارك، والإمام البخاري، ومسلم، وغيرهم رحمهم الله تعالى، وكل واحد منهم يحذر من البدعة في الدين، ومن التقليد لغير المعصوم؛ والمعصوم إنما هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما غيره فأياً كان فغير معصوم، فيقبل من قوله ما وافق الكتاب والسنة، وينبذ ما خالفهما أيا كان، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "كل الناس يؤخذ منه ويؤخذ عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وعلى هذا سلك المحققون من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكل واحد منهم يحذر من التقليد الجامد، لأن الله تعالى قد ذم في غير موضع من كتابه المقلدين الجامدين، وما كفر غالب من كفر من الأولين والآخرين إلا بالتقليد للأحبار والرهبان،
__________
(1) النساء الآية (65).
(2) في الأصل: السفيانان.
(3) في الأصل: وأبو.(9/447)
والمشايخ والآباء. وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: "لا يحل لأحد أن يفتي بكلامنا، أو يأخذ بقولنا ما لم يعرف من أين أخذناه" وصرح كل واحد منهم أنه: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" وقالوا أيضا: "إذا قلت قولا فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله، فإن وافقهما فاقبلوه، وما خالفهما فردوه، واضربوا بقولي عرض الحائط" وهذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام، أدخلهم الله تعالى دار السلام. ولكن الأسف ألف أسف من المقلدين المتأخرين، والمؤلفين الذين سودوا الدفاتر، وقد ظنهم الناس أنهم علماء مجتهدون معصومون، فهم قد ألزموا الناس تقليد واحد من الأئمة الأربعة ومذاهبهم المعروفة، فبعد الالتزام حظروا الأخذ والعمل بقول غيره كأنهم جعلوه نبيا مطاعا، يا ليتهم يعملون بقول الأئمة أنفسهم، ولكن لا يعرف أكثرهم من قول الإمام المتبوع إلا الاسم، وقد اخترع بعض المتأخرين مسائل، وابتدع مذاهب، ونسبها إلى الإمام، فيظن من يأتي بعده أنها قول الإمام أو مدعيه، والحال أنه مخالف لما قاله الإمام وقرره، وهو بريء مما نسب إليه، كقول كثير من متأخري الحنفية بحرمة الإشارة بالسبابة في تشهد الصلاة، أو أن المراد من يد الله قدرته، أو أنه تعالى في كل مكان بذاته وليس على العرش استوى. وبهذا وأمثاله قد انشقت عصا المسلمين، وتفرقت جماعتهم وجمعيتهم فاتسع الخرق على الراقع، وامتلأت الآفاق بالنفاق والشقاق. فبدع بعضهم بعضا، وضللت كل جماعة من يخالفها في أدنى شيء، وحتى كفر بعضهم بعضا، وضرب بعضهم رقاب بعض، وصاروا مثلا لما أخبر به الرسول الصادق الأمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - :(9/448)
"ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة"، قيل من هم يا رسول الله؟ قال: "الذين على ما أنا عليه وأصحابي" (1) .
المتأخرون غيروا وبدلوا حتى الزموا تقليد واحد فتفرقوا.
والله العظيم، إن المسلمين حينما كانوا مسلمين كاملين، وصادقين في إسلامهم، كانوا منصورين وفاتحين البلاد، ورافعين أعلامهم الدين (2) ، كالخلفاء الراشدين والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، ولكن لما غير المسلمون أوامر رب العالمين، جازاهم الله تعالى بتغيير النعمة عليهم، وسلب عنهم الدولة وأزال عنهم الخلافة، كما تشهد به آيات كثيرة. فمن جملة ما غيروا: التمذهب بالمذاهب الخاصة، والتعصب لها ولو بالباطل، وهذه المذاهب أمور مبتدعة حدثت بعد القرون الثلاثة، وهذا لا شك فيه ولا شبهة، وكل بدعة تعتقد دينا وثوابا فهي ضلالة، والسلف الصالحون كانوا يتمسكون بالكتاب والسنة وما دلاّ عليه، وما أجمعت عليه الأمة، وكانوا مسلمين رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم وأرضاهم وجعلنا منهم، وحشرنا معهم في زمرتهم؛ ولكن لما شاعت بدعة المذاهب نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل البعض البعض، حتى أفتوا بعدم جواز اقتداء الحنفي وراء الإمام الشافعي مثلا، وإن تقولوا بأن أهل المذاهب الأربعة هم أهل السنة، ولكن أعمالهم تكذبهم وتعارض قولهم وتبطله، فحدثت من هذه البدع هذه المقامات الأربعة في المسجد الحرام، فتعددت الجماعة، وانتظر كل متمذهب
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) كذا بالأصل، ولعل الصواب (رافعين أعلام الدين).(9/449)
جماعة مذهبه، فبأمثال هذه البدع حصّل إبليس مقصدا من مقاصده، ألا وهو تفريق المسلمين وتشتيت شملهم، فنعوذ بالله من ذلك. (1)
- وقال: والعجب من هؤلاء المقلدين لهذه المذاهب المبتدعة الشائعة والمتعصبين لها، فإن أحدهم يتبع ما نسب إلى مذهبه مع بعده عن الدليل، ويعتقده كأنه نبي مرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب، وقد شاهدنا وجربنا أن هؤلاء المقلدين يعتقدون أن إمامهم يمتنع على مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه أنه لا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه، وهذا هو طبق ما رواه الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ } اللَّهِ (2) فقلت: يا رسول الله إنهم ما كانوا يعبدونهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إنهم إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، فذلك عبادتهم" (3) .اهـ (4)
- وقال: اعلم أن معظم الناس خاسرون وأقلهم رابحون، فمن أراد أن ينظر في ربحه وخسره؛ فلينظر وليعرض نفسه على الكتاب والسنة، فإذا وافقهما فهو الرابح، وأما إذا خالفهما فهو الخاسر، فيا حسرة عليه، وقد
__________
(1) هدية السلطان (40-48).
(2) التوبة الآية (31).
(3) الترمذي (5/259-260/3095) وقال: "هذا حديث غريب". وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام (برقم 6).
(4) هدية السلطان (52-53).(9/450)
أخبر الله تعالى بخسارة الخاسرين وربح الرابحين، فأقسم بالعصر إن الإنسان لفي خسر إلا من جمع أربعة أوصاف، وإذا رأيت إنسانا يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، أو يخبر عن المغيبات، ولكن يخالف الشرع بارتكاب المحرمات بغير سبب محلل، ويترك الواجبات بغير سبب مجوز، فاعلم أنه شيطان نصبه الله تعالى فتنة للجهلة، وليس ذلك بعيدا من الأسباب التي وضعها الله تعالى للضلال، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإن الدجال يحيي ويميت ويمطر السماء فتنة لأهل الضلال، وكذلك من يأكل الحيات ويدخل النيران. (1)
- وقال: يقال للمقلد على أي شيء كان الناس قبل أن يوجد فلان وفلان الذين قلدتموهم، وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع، وليتكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو ضلالة؟ فلا بد من أن يقروا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنة والآثار، وتقديم قول الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة رضي الله عنهم على ما يخالفها، والتحاكم إليها دون قول فلان وفلان ورأيه؟ وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى يؤفكون؟ فتدبر. (2)
- وله كتاب 'تمييز المحظوظين عن المحرومين في تجريد الدين وتوحيد المرسلين'. قال فيه: واحترز أيها المؤمن عن الصيغ المحدثة المبتدعة، والأحزاب
__________
(1) هدية السلطان (77).
(2) هدية السلطان (79).(9/451)
المؤقتة التي فيها المنكرات بل الأكاذيب والكفريات كـ 'دلائل الخيرات' للجزولي، و'صلوات الثناء' للنبهاني؛ فإنها من البدع المنكرة، لا يحل لمن يؤمن بالله وبكتابه ورسالة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك، أو يعتقد جوازه، فإنه مما لم يأذن به الله ولا رسوله ولا أحد من أئمة المسلمين، فالحذر الحذر. (1)
- وقال: وقد صدق الله العظيم؛ فإن المسلمين لما كانوا كاملي الإسلام؛ كالخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم نصرهم الله تعالى على الأعداء، وفتح على أيديهم البلدان الكثيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فجزاهم الله تعالى في الدارين خير الجزاء. وأما الخلف؛ الذين خالفوا الله، وخالفوا أمره، وخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا سنته، وخالفوا السلف الصالحين، وتركوا العمل بكتاب الله الهادي إلى سعادة الدارين، وجهلوا معانيه، واتخذوا دينهم هزوا ولعبا، واعتمدوا على الخرافات ودجل الدجالين، واعتقدوا أن أرواح الأولياء تعينهم وتمدهم، وأن الأقطاب والأوتاد تتصرف في العالم وتحفظه، فبنوا الأربطة والخانقات، واشتغلوا بالخرافات والخزعبلات، بل الشركيات والبدعيات والضلالات، وساعدهم السلاطين الجهلة، والعلماء الدجاجلة؛ فسلب الله تعالى عنهم الدولة، وسلط عليهم الكفرة الخذلة، ذَلِكَ { بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَن اللَّهَ
__________
(1) تمييز المحظوظين (253).(9/452)
سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (53) (1) .اهـ (2)
- وقال: الآية الخامسة والثمانون في سورة المجادلة: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (10) (3) . قد نادى الله تعالى وخاطب عباده المؤمنين؛ مؤدبا إياهم أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين الذين يتناجون بالإثم فيما بينهم، والفسق والعدوان على غيرهم، ومنه معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفته، ويصرون عليها، ويتواصون بها فيما بينهم؛ كأكثر البخاريين الذين يجاورون الحرمين وهم مصرون على عداوة أهل التوحيد العاملين بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيعادون الوهابيين،
__________
(1) الأنفال الآية (53).
(2) تمييز المحظوظين (261-262).
(3) المجادلة الآيتان (9و10).(9/453)
ويعادون السلفيين، ويقولون على طريق التشنيع: إنه وهابي، ويتواصون بذلك بعضهم بعضا، ويتواصون بعضهم بعضا أن لا يحضروا ولا يستمعوا دروس التفسير والحديث والتوحيد. وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا } تَنَاجَيْتُمْ وتساررتم فيما بينكم فَلَا { تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ } الرَّسُولِ كما يتناجى الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ومالأهم على ضلالهم من المنافقين والمقلدين الجامدين، بل أنتم أيها المؤمنون (#ِqyf"uZs? { بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (9) فيجازيكم على أعمالكم وأقوالكم وقد أحصاها عليكم. ثم قال تعالى: إِنَّمَا { } 3"uqôf¨Z9$#؛ أي: المساررة حيث يتوهم المؤمن بها سوءا من تزيين الشيطان وتسويله؛ لِيَحْزُنَ { الَّذِينَ } (#qمZtB#uن؛ أي: إنما يزين لهم ذلك ليحزن المؤمنين ويسوؤهم، وَلَيْسَ { بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ كما يفعل أكثر المبتدعين في حق السلفيين الموحدين، وما هم بضارين شيئا إلا بإذن الله، فنحن نستعيذ(9/454)
منهم بالله، ونتوكل عليه تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل. فيا أيها المؤمنون اتقوا ربكم؛ فإنه عليم خبير، وعذابه أليم وشديد، ولا تغتروا بوساوس الشيطان من الجن والإنسان. (1)
- وقال: ثم اعلم أنه كما اختلفت وكفرت طائفة من بني إسرائيل؛ كذلك اختلفت وكفرت طوائف من هذه الأمة، وغلت في نبيها وآله؛ كالرافضة، والشيعة، وغلاة الصوفية، والحنفية الهندية البريلوية، فادعت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب الآن (2) ، وأن حاله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته كحاله قبل موته، وهو حي في قبره كحياته الدنيوية، ولهذا ينادونه ويستغيثون به، حتى إنهم حينما يقرؤون قصة المولد يقومون قياما بغاية التعظيم، ويقولون:
مرحبا يا مرحبا يا مرحبا ... مرحبا جد الحسين مرحبا
وإنما يقومون لأنهم يعتقدون أن روحه - صلى الله عليه وسلم - قد حضر هناك. وزاد غلو متأخريهم حتى صاروا يعتقدون أن الأولياء كعبدالقادر الجيلاني مثلا- يعلمون الغيب، ويتصرفون في الأمور، فلهذا تراهم ينادونهم ويستغيثون بهم وينذرون لهم، فهؤلاء وأمثالهم كفرة مشركون، والعياذ بالله تعالى. (3)
__________
(1) تمييز المحظوظين (283-284).
(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب لا الآن ولا قبل، إلا ما أعلمه الله عزوجل في حياته، قال تعالى: قُلْ { لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } النمل الآية (65) وقال: فَلَا { يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } (27) الجن الآيتان (26و27).
(3) تمييز المحظوظين (302-303).(9/455)
موقفه من المشركين:
له من الآثار السلفية:
1- 'المشاهد المعصومية عند قبر خير البرية في المدينة الطيبة' وهو عبارة عن رسالة صغيرة ذكر فيها ما يتعلق بالقبة ومتى بنيت، وذكر ما دخل المسجد النبوي من تغييرات مخالفة لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وأسوق بعض النماذج من كلامه.
قال رحمه الله: اعلم أنه إلى عام 678هـ لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبره - صلى الله عليه وسلم - وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة 678هـ فعملت تلك القبة. قلت:إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلا منه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، كما قلدهم الوليد في زخرفة المسجد فتنبه.
وقال: غيروا توحيد الله بالشرك باعتقاد أن أرواح الأنبياء والأولياء وخصوصا روح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعلم الغيب وتنفع وتضر. وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى ما لم يتب منه؛ وبالركوع والسجود وكمال الخضوع إلى قبره الشريف وجعله قبلة في كل يوم مرات، وغيروا الإسلام باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فاستحلوا ما حللوه لهم وإن كان محرما ممنوعا من الله ورسوله كالبناء على القبور وتزيين المساجد وابتداع عبادات وأوراد في أوقات مخصوصة كدلائل الخيرات وقصيدة البردة. وحرموا على أنفسهم ما حلله الله بل فرضه، كتحريمهم العمل بالكتاب والسنة، وتحريمهم الإشارة بالسبابة، وإيجابهم تقليد أحد المذاهب المعينة(9/456)
وإلزامهم أخذ البيعة على يد شيخ من شيوخ الطرق ونحو ذلك من الخرافات والضلالة فتدبر.
وقال في موضع آخر: فما في مسجد المدينة من النقوش المتنوعة، وطلي الذهب الكثير جدا، وكتابة الأبيات والأشعار الباطلة محفورة على الأسطوانات، وكتابة أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجدار القبلي، وفيها ما هو من أسماء الله الخاصة له تعالى كالمهيمن والمحيي، وكتابة أبيات قصيدة البردة تماما على سقوف الأروقة والقبب القبلية، وكتابة أحاديث موضوعة محفورة على الحديد المذهب كحديث: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" (1) ونحوها من النقوش التي هي منكرة؛ وإني لا أشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان حيا لأزالها حالا، ولا يدخل هذا المسجد حتى تزال هذه المنكرات فتنبه.
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله: لما غلب الجهل على كثير ممن يدعي الإسلام والتصوف؛ حرفوا هذه المراقبة، وبدلوها بمراقبة الشيخ، وسموها رابطة، فصاروا يراقبون صور شيوخهم، وهؤلاء الشيوخ يأمرونهم بذلك، فوضعوا شيوخهم موضع رب العالمين، فصاروا بذلك مشركين بالشرك الأكبر وهم لا يشعرون، وقد دخلوا في دين الوثنية باسم التصوف وهم لا يعلمون، ولهذا صاروا يتوجهون
__________
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي (65)، ومن طريقه البيهقي (5/245) من طريق أبي الجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر عن عمر رضي الله عنه. وقال: هذا إسناد مجهول. وقال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (ص.89): "هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه" وانظر الإرواء (4/333/1127).(9/457)
إلى القبور وإلى أصحاب القبور، ويستمدون منهم ويستغيثون بهم، ويبنون على قبور من يزعمونه صالحا قبة وعمارة عالية، ويزخرفونها، ويتوجهون إليها، وينذرون لها؛ كما هو حالهم المشاهد في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد صاروا عباد الأصنام والأوثان وهم لا يفهمون: ولهذا أذلهم الله تعالى في هذه الحياة الدنيا تحت أرجل الكفرة من الإنكليز والطليان والفرنسيين والروس والبلاشفة والأمريكان، وَلَعَذَابُ { الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } (127) (1) .
فيا أيها المسلمون توبوا إلى الله، وارجعوا إلى دراسة كتاب الله وأحاديث رسول الله، واجتهدوا في فهم أوامر الله وخطاباته لكم؛ كي يعفو الله عنكم ويغفر ذنوبكم، فيدفع عنكم البلاء. (2)
__________
(1) طه الآية (127).
(2) تمييز المحظوظين عن المحرومين (ص.243-244).(9/458)
محمد بن علي بن محمد بن تركي (1) (1380 هـ)
الشيخ محمد بن علي بن محمد بن منصور بن تركي، ولد في بلدة عنيزة عام ألف وثلاثمائة وواحد للهجرة. سافر إلى مكة والهند والعراق ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان وغيرها. استفاد كثيرا من الشيخ عبدالرحمن آل سعدي، ومن الشيخ شعيب الدكالي المغربي، والشيخ عبدالرحمن الدهان، وغيرهم. أخذ عنه كثيرون منهم عبدالله بن مطلق الفهيد وعبدالعزيز الصالح البسام وغيرهما.
ولي قضاء المدينة النبوية، ثم مساعدا لرئيس القضاة في مكة، ثم أعفي منها، كما عين مدرسا في مدرسة العلوم الشرعية في المدينة.
توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة في المدينة.
موقفه من المشركين:
له رد على عبدالقادر الإسكندراني، اشترك فيه هو والشيخ بهجة البيطار. (2)
وقد أثنى على ردهما الملك عبدالعزيز آل فيصل في رسالة وجهها إليهما، مما جاء فيها: "وعرضناه على مشايخ المسلمين، فاستحسنوه وأجازوه، فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية، وعصابة تذب عن دين المسلمين، وتحمي حماه عن زيغ الزائفين، وشبه المارقين والملحدين". (3)
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/333-339).
(2) علماء نجد (6/337).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/337-338).(9/459)
عبدالحفيظ الفاسي (1) (1383 هـ)
عبدالحفيظ بن محمد الطاهر بن عبدالكبير الفهري، أبو الفضل الفاسي. من نسل عالم الأندلس في وقته أبي بكر محمد بن الجد، ويرجع نسبهم إلى بني فهر بن مالك من قريش. أخذ عن والده وعمه أبي جيده بن عبدالكبير وخاله عبدالكبير الكتاني وعبدالله السنوسي وأبي شعيب الدكالي وعبدالرحمن المرادي وعبدالله الأمراني ومحمد بن جعفر الكتاني وغيرهم.
وأجازه جماعة منهم أحمد بن سودة وعبدالله السنوسي وماء العين وغيرهم.
قضى زهاء عشرة أعوام في القضاء الشرعي في عدة مدن منها الصويرة وسطات، ثم كان من أعضاء المحكمة الجنائية العليا.
له من المؤلفات:
1- 'رياض الجنة في تراجم من لقيت أو كاتبني من الجلة' أو 'المدهش المطرب بأخبار من لقيت أو كاتبني بالمشرق أو المغرب'.
2- 'الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات'.
3- رسالة 'الداء والدواء'.
4- 'الإسعاد لمراعاة الإسناد'.
5- 'التاج فيمن اسمه محمد من ملوك الإسلام'.
6- 'خبايا الزوايا' في أربع مجلدات.
__________
(1) الأعلام للزركلي (3/279-280) وشجرة النور الزكية (1/434) والتأليف ونهضته لعبدالله الجراري (ص.331) وسل النصال لعبدالقادر بن سودة (ص.190).(9/460)
7- 'الإنصاف في العمل بالتلغراف'.
8- 'إتقان الصنعة في الرد على مقسمي البدعة'.
9- وله رسالة في الرد على الطائفة المعروفة بهداوة.
10- 'أربع رسائل في إبطال المهدوية' وغيرها.
قال الزركلي: وانقطع عن العمل يوم استقل المغرب، فعكف على كتبه وأوراقه في منزله بالرباط إلى أن توفي وذلك سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف.
قلت: وكان ذلك لأربع وعشرين خلون من رمضان.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في يوسف بن إسماعيل النبهاني: المترجم ممن رزق الإعانة على التأليف كما رزق التيسير في طبعها وقبولها فلا ينشر منها كتاب إلا وتهافت الناس على شرائه في مشارق الأرض ومغاربها، وهي وإن كانت له فيها حسنات فهي لا تقابل ما له فيها من السيئات، وذلك لما خلط بها من الخرافات ونسبة المقامات العظيمة لمن لا قدم له فيها من الطغام، وادعاء الكرامات حتى لمن عرفوا بعدم التمسك بالتقوى، ولا مستند له فيها إلا مجرد التقول والدعوى، أو نقل فلان عن علان، ولو كان هيان بن بيان، أو الاغترار بظواهر الأحوال، وعدم البحث عن حقائق الرجال، وبعكس ذلك عمد إلى علماء الإسلام الذين خدموا السنة والدين خدمة لم يشاركهم فيها غيرهم في عصرهم بشهادة الموافق والمخالف لهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فحمل عليهما حملة شعواء في كتابه شواهد الحق في(9/461)
الاستغاثة بسيد الخلق. (1)
- وقال عن تآليفه أيضا: فقد ملأها النبهاني بتأييد البدع ورصعها بخرافات وأوهام دنس بها صحيفته ووجه الدين الإسلامي النقي الطاهر، وأبقاها حجة ووسيلة يتذرع ويحتج بها الطاعنون في الإسلام والثالبون لتعاليمه الصحيحة الحقة.. (2)
موقفه من الصوفية:
قال في سياق الترهيب من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شرحه لحديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" (3) رادا على الطائفة التجانية: ومن ذلك افتراء بعضهم كون النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله خص أصحابه بمزايا دون سائر الأمة، وجعل لصلواتهم وأورادهم فضائل تقوم مقام العبادات في السنين العديدة، وتكفر ما ضيعوا من الصلوات، وتغفر من غير توبة ما اجترموا من المعاصي والسيئات، وأمثال هذا مما يضللون به الجهال الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام وشرائعه تشويقا لهم وترغيبا للدخول في طريقتهم؛ لأن النفوس متشوفة إلى نيل الأجور الكثيرة على الأعمال الصغيرة، وميالة إلى ترك الشاق من الطاعات والتهاون بالمحرمات والعياذ بالله. ولا شك أن مدعي هذا داخل في الوعيد المذكور في حديثنا المتكلم عليه لما في تلك البشائر والخصائص من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) رياض الجنة (2/162-163).
(2) رياض الجنة (2/164).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).(9/462)
وعلى آله بدليل ما فيها من مخالفة قواعد الدين، وتشريع عبادات لم يشرعها، وإبطال فرائض قد أوجبها، مع أن باب التشريع قد انسد لموته - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال في شرحه للحديث المسلسل بالأولية: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (2) : وقوله: "يرحمكم من في السماء" نقل في المنح البادية عن الخطيب أبي علي أن المراد به الله تعالى، والمعنى بذلك الإشارة إلى أن الله فوق من طريق الصفات لا من طريق الجهة؛ فإنها مستحيلة على الله تعالى، وقيل معناه من في السماء أمره وملكه، واختصت السماء بالذكر وإن كان أمره وملكه أيضا في الأرض تنبيها على عظمها في النفوس وأن الذي يتصرف فيها أمره وفيها سلطانه هو الذي له الأمر والملك في الأرض حقيقة سبحانه لا إله إلا هو، ويمكن أن يراد بمن في السماء أهل السماء كما جاء كذلك في رواية أخرى انتهى. ومثله قول الشيخ علي الخواص: يعني الملائكة يرحمون من رحم أهل البلايا وتجاوز عنهم في الدنيا باستغفارهم له في السماء وهو قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ { لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } انتهى. قلت: الأول يتمشى على مذهب أهل الحديث والأثر في آيات وأحاديث الصفات؛ فإنهم يتركونها على ظاهرها ويؤمنون بها كما جاءت من غير تأويل مع اعتقاد
__________
(1) الآيات البينات (ص.273-274).
(2) سيأتي تخريجه في مواقف الشيخ الألباني رحمه الله سنة (1420هـ).(9/463)
التنزيه، وما بعده يتمشى على مذهب المؤولة من المتكلمين من سائر الفرق؛ فإنهم يحملونها على ما عرف من المجازات، والمذهب الأول وهو مذهب أهل الحديث هو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والأئمة المجتهدون بعده ولا يلزم من إثبات صفة العلو والفوقية لله تعالى على مذهب أهل الحديث القول بالجهة المستلزمة للحد والجسمية؛ فإن أهل الحديث يفرون من ذلك وينزهون الباري جل جلاله عن الجهة والجسمية وعن مشابهته تعالى للحوادث، وإن ألزمهم المؤولة ذلك يلزم من قبلهم من باب أولى وأحرى؛ لأن مستند أهل الحديث هو ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه الذين لم يكن يخطر ببالهم عند ذكر تلك الصفات تشبيه أو تشكيك؛ بل كانوا يعلمون أن الحق سبحانه لم يكن مشابها للمخلوقات كما في القرآن لَيْسَ { كَمِثْلِهِ } شَيْءٌ (1) ، فكذلك صفاته لا تماثل ولا تشابه صفات المخلوقات، فكانوا يؤمنون بها كما وردت، لأن الله تعالى وصف بها نفسه وهي لائقة بذاته القديمة الكريمة، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن أحد من أصحابه أنهم أولوا أو أخرجوا تلك النصوص عن ظواهرها، بل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للجارية السوداء: "أين الله؟" فأشارت بأصبعها إلى السماء، فقال: "إنها مؤمنة" (2) . فهل يقدر أحد ينتمي إلى الإسلام أن يقول إنها مجسمة، أو تعتقد الجهة لما يلزم عليه من كون
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) أحمد (5/447) ومسلم (1/381-382/537) وأبو داود (1/570-571/930) والنسائي (3/19-22/1217) من حديث معاوية بن الحكم.(9/464)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرها على معتقدها الباطل؟ ومعاذ الله أن يقع ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما بعث إلا لتقديس الله تعالى وتوحيده، فشيء أقره - صلى الله عليه وسلم - وشهد لصاحبه بالإيمان كيف يسوغ لنا أن ننكر على من يقول به؟ ونقول: إنه يعتقد الجهة والجسمية، بل نعتقد أنه هو المذهب الحق، وندين الله به، ولا نتحول عنه.
وقد أطلق غير واحد من الأئمة ممن حكى إجماع السلف -منهم الخطابي- أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان في رسالته المدنية ما نصه: مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل انتهى.
وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية -وهو مجدد مذهب الأشعرية-: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مرادها، وتفويض معانيها (1) إلى الله، ثم قال: والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة السلف للدليل القاطع على إن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرف عصر الصحابة
__________
(1) قلت: ليس من مذهب السلف تفويض معاني الصفات؛ فهذا مذهب المفوضة. أما التفويض الذي ذهب إليه السلف فهو تفويض الحقيقة والكيفية لا تفويض المعاني.(9/465)
والتابعين عن الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. فليسعنا ما وسعهم؛ فإنهم هداتنا وقدوتنا، وقد رضيناهم حجة بيننا وبين الله تعالى، وقلدناهم فيما دون هذا وهو الفروع الفقهية العملية فكيف لا نقلدهم في معتقدنا هذا. وقد رأيت للعلامة السفاريني في شرح عقيدته كلاما نفيسا في صفة الفوقية والعلو للعلي الأعلى التي يقول بها أهل الحديث، ومنه يتبين تنزيههم عن القول بالجهة والتجسيم، فلنسقه هنا تتميما للفائدة وشرحا لمعتقدهم الطاهر.. (1)
- وقال رحمه الله: ذكر أهل التاريخ أن أهل المغرب كانوا في الأصول والمعتقدات بعد أن طهرهم الله تعالى من نزغة الخارجية أولا والرافضية ثانيا على مذهب أهل السنة، مقلدين للصحابة ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح وأهل القرون الثلاثة الفاضلة؛ في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل، مع اعتقاد التنزيه، كما جرى عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر محمد بن تومرت الملقب نفسه بالإمام المعصوم أو مهدي الموحدين، وذلك في صدر المائة السادسة، فرحل إلى المشرق، وأخذ عن علمائه مذهب المتأخرين من أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب
__________
(1) الآيات البينات (ص.19-22).(9/466)
بلاغتها، ومزج ذلك بما كان ينتحله من عقائد الخوارج والشيعة والفلاسفة، حسبما يعلم ذلك أولا بمعرفة كتب الإمام أبي الحسن الأشعري كالإبانة في أصول الديانة وغيرها التي ينصر فيها مذهب السلف، وبمعرفة كتب الجهابذة من أتباعه الذين اقتدوا به في ذلك كإمام الحرمين، وثانيا بإمعان النظر في أقوال وأفعال وأحوال ابن تومرت وخلفائه من بعده، ثم عاد ابن تومرت إلى المغرب بهذه العقيدة المختلطة المدلسة الفاسدة، وألف فيها التآليف العديدة هو وأتباعه، ودعا الناس إلى سلوكها، وجزم بتضليل من خالفها؛ بل وتكفيره. وسمى أصحابه بالموحدين تعريضا بأن من خالف عقيدته ليس بموحد؛ بل مجسم مشرك، وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على ملك المغرب حسبما هو معلوم، فقاتل على عقيدته، واستباح هو وخلفاؤه لأجلها دماء مئات الآلاف من الناس وأموالهم حتى تمكنت من عقول الناس بالسيف، ونبذوا ما كان عليه سلفهم الأول، وأقبلوا كافة على تعاطي هذا المذهب، وقام العلماء بتقريره وتحريره درسا وتأليفا، والناس على دين ملوكهم. (1)
- وقال معلقا ومستدركا على كلامه السابق: وفاتنا أن نبين هناك أن الإمام أبا عبدالله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي ثم الفاسي من علماء القرن الحادي عشر والثاني قام بنصرة مذهب السلف وألف كتابه 'جهد المقل القاصر في نصرة الشيخ عبدالقادر' لطعن الناس في عقيدته الحنبلية،
__________
(1) الآيات البينات (ص.24-25).(9/467)
وتتبع ما قيل فيه وفي شيخ الإسلام ابن تيمية، ونصرهما بما يعلم بالوقوف على تأليفه المذكور. ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن إسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث عشر بنصرة هذا المذهب، وصرح في أول كتابه 'الفتوحات الكبرى' بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة، وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة لكونها على مذهب السلف، وعقد في آخره بابا بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره، ولم يزل معلنا بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية. وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته، ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوما حديث النزول فنزل عن كرسيه وقال: كنزولي هذا، ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك، فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية.
ولما أفضت الخلافة إلى ولده أبي الربيع سليمان نهج منهجه في ذلك، واتصلت المكاتبة بينه وبين الأمير سعود ناصر المذهب الوهابي الحنبلي حين افتتح الحجاز وطهره مما كان فيه من البدع، وأرسل وفدا مؤلفا من أولاده وبعض علماء حضرته، ووجه له قصيدة من إنشاء شاعرحضرته العلامة المحدث الصوفي الأديب أبي الفيض حمدون بن الحاج مجيبا له عن كتابه(9/468)
ومادحا له ولمذهبهم السني السلفي. (1)
محمد بن العربي العلوي (2) (1384 هـ)
محمد بن العربي بن محمد بن محمد العلوي المدغري الحسني، ولد بالقصر الجديد بمدغرة بتافيلالت سنة إحدى وثلاثمائة وألف للهجرة، وقيل سنة خمس.
حفظ القرآن بالمكتب على والده العربي العلوي وابن عمه الطيب ابن علي العلوي. والتحق بمعهد القرويين سنة ثمان عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة.
تتلمذ على عبدالسلام بن محمد بناني، ومحمد بن محمد بن عبدالسلام كنون، وأحمد بن الخياط، والفاطمي الشرادي، وأحمد بن المامون البلغيني، والتهامي كنون، والمهدي الوزاني، وأبي شعيب الدكالي وغيرهم.
تخرج على يده تلاميذ كثر، منهم: علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني ومحمد المختار السوسي.
درّس بالقرويين، كما عين قاضيا بفاس، ثم رئيسا لمجلس الاستئناف الشرعي الأعلى بالرباط، ثم وزيرا للعدل. وكان لا يفتي إلا بالاجتهاد دون التقليد.
__________
(1) الآيات البينات (ص.301). وراجع مواضع أخرى في الرد على الجهمية وأذنابهم من الكتاب نفسه (ص.68-74) و(ص.173-175) و(ص.183-184).
(2) 'إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ' تأليف محمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي. و'سل النصال للنضال' تأليف عبدالسلام بن عبدالقادر بن سودة.(9/469)
نفاه المستعمر مرتين بسببها، وسبب دروسه المحرضة ضد المستعمر في القرويين.
وعين وزيرا عضوا في مجلس التاج سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة بعد الاستقلال، وقاضيا شرعيا بالقصر الملكي.
سمعت شيخنا محمد الأمين الشنقيطي (صاحب الأضواء) يثني عليه ويصفه بقوة الذكاء.
توفي رحمه الله يوم الخميس الثاني والعشرين من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
قال تلميذه عبدالسلام عبدالقادر بن سودة في 'سل النصال للنضال' (1) : العلامة السلفي، المطلع المشارك النقاد، المدرس النفاعة الوطني، المخلص المكافح بكل ماله وقوته وأفكاره وآرائه الصائبة عن الإسلام وعن وطنه بإخلاص وحسن نيته. كان في أول أمره يومن بالطرق وأهلها ويدافع عنها، بل كان تجاني الطريقة، ولما رجع الشيخ أبو شعيب الدكالي من المشرق بعد ما طلب العلم هناك حاملا الأفكار السلفية الداعية إلى الرجوع للإسلام على حقيقته، اتصل به اتصالا مكينا، وأخذ عنه؛ فأنار فكره، وقوّى عزيمته، وأخرجه من ربقة التقليد الأعمى، فكان صاحب الترجمة أول من أظهره الله للوجود من العلماء السلفيين، وأول
__________
(1) سل النصال للنضال (ص.195).(9/470)
من صدع بالحق بعد الشيخ أبي شعيب، فدخل إلى القرويين وصار ينير مشكلها، ويضيء جوانبها بقبس من النور، فما لبث أن التف حوله نخبة من الشباب لا يستهان بهم، وانتشر مذهبه في الأوساط العلمية الراقية، وصار الناس ما بين مؤيد ومخالف، وسرعان ما انتصر الحق على الباطل إِنَّ { الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } (81) (1) . فكانت جل دروسه حاملة سيف الانتصار ضد أهل الطرق الموجودة بالمغرب وأهل الزوايا والمشعوذين الملبسين الحق بالباطل، وحمل ضد زيارة القبور، والتملق إليها، وطلب النفع منها، والالتجاء إليها، كل هذا كان لا يخلو من نقد وشتم ولعن من أصحاب الطرق، فكم نصبوا له من أفخاخ، وكم بارزوه بمكايد حتى إن بعض العلماء أفتوا بكفره وخروجه من ربقة الإسلام، كل هذا لم يؤثر في عزمه؛ لأنه يعرف نفسه أنه على الحق.
قال محمد زنيبر: وكان يتناول تفسير القرآن بلهجة لا تخلو من صراحة وحرية فكر، وكل همه أن يحارب الخرافات والشعوذة وكل مظاهر الجمود التي رانت على الفكر المغربي منذ أجيال. (2)
قال تلميذه محمد بن الفاطمي السلمي في كتابه 'إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنهم من الشيوخ': ..يتابع دروسه التفسيرية بالقرويين وكانت عبارة عن وعظ وإرشاد وتوجيه إلى السلفية والإصلاح
__________
(1) الإسراء الآية (81).
(2) 'السلفي المناضل' لمحمد الوديع الآسفي (ص.169).(9/471)
الديني بتحرير الأفكار والعقول من الأوهام والأباطيل والخرافات وباطل الاعتقادات وهو متأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في أفكارهما النيرة الإصلاحية. (1)
موقفه من المشركين:
- قال عبدالسلام بن سودة (2) : ومن المآثر التي تحفظ له ولا تنكر قطع شجرة السدرة الكبرى التي كانت قبالة باب ضريح الشيخ أبي غالب الكائن بحومة صريرة داخل باب الفتوح؛ فإن هذه الشجرة كادت أن تعبد من دون الله، فقد كبرت واتسعت وطال عليها الأمد، وكانت النساء والصبيان وحتى بعض الرجال يقصدونها، ويلتمسون بركاتها، وتعلق فيها بعض الخرق المعقودة، ولا يمكن حلها إلا بعد قضاء الحاجة المتطلبة، وكان ربما أعماهم الشيطان فيصادفون بعض الإجابة؛ فإذا رأيت منظرها اندهشت من كثرة ما يعلق بها من الخرق والتمائم، وأوراق الكتابة والحروز وغير ذلك من الأمور، التي يستغرب منها كشعر النساء، وكان من العادة الجارية أن كل من زارها وعلق بها مطلبه لا بد له من أن يدخل الضريح ويجعل فيه شيئا من المال؛ لأجل أن تقضى حاجته، ومن لا يفعل ذلك لا تقضى له حاجة، فكان ولاة الضريح وهم الشرفاء الطالبيون يعظمونها مع الناس؛ لأجل المادة التي تحصل لهم. وكان يوم قطعها يوما
__________
(1) ص.213-214).
(2) سل النصال للنضال (ص.195-196).(9/472)
مشهودا بين مستحسن ومخالف، وقال رئيس الفئة المتطرفة وزعيمهم الأكبر: إن ابن العربي صاحب الترجمة سيصاب بشلل من أجل قطع الشجرة التي يتبرك بها الناس، وبعد مدة سلط الله عليه ذلك وبقي ابن العربي سالما إلى الآن والحمد لله؛ لأنه يدافع عن الحق. (1)
موقفه من الصوفية:
يتجلى ذلك في المناظرة حول التيجانية بينه وبين الشيخ محمد تقي الدين الهلالي وهذه حكايتها.
- قال محمد تقي الدين الهلالي (2) بعد مقدمة بين فيها كرم ضيافة الشيخ محمد بن العربي العلوي له، وأنه لما سمعه وجلساءه يطعنون في الطرق الصوفية غضب وهمَّ بالخروج: ولم تخف حالي على الشيخ فقال لي: أراك منقبضا فما سبب انقباضك؟ فقلت: سببه أنكم انتقلتم من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطعن في الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه الطعن في شيخي وطريقته. فقال لي: لا بأس عليك أنا أيضا كنت تجانيا؛ فخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها (3) ، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلسي انتقادا لها أو طعنا فيها، وإن كنت
__________
(1) ذكر ذلك أيضا أحمد بناني في مقال له بمجلة الإيمان العدد 10 سنة 1964م (ص.11) بعنوان: (جوانب من شخصية شيخنا ابن العربي العلوي)، ونقله عنه أحمد أزمي في مجلة دعوة الحق العدد 5 سنة 2001م.
(2) الهدية الهادية إلى الفرقة التجانية (ص.17-20).
(3) كان ذلك حين مناظرة الشيخ أبي شعيب الدكالي له بمثل ما ناظر به هو محمد تقي الدين الهلالي في هذه المناظرة، ثم قراءته لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية 'الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان'.(9/473)
تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة؛ فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها، كما فعلت أنا، فأخذتني النخوة، ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل، فقلت: قبلت المناظرة.
قال الشيخ: أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت: ما هي؟ قال: ادعاء التجاني أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا مناما وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل، فإن ثبتت رؤيته للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة وأخذه منه فأنت على حق وأنا على باطل، والرجوع إلى الحق حق، وإن بطل ادعاؤه ذلك فأنا على حق وأنت على باطل، فيجب عليك أن تترك الباطل وتتمسك بالحق. ثم قال: تبدأ أنت أو أبدأ أنا؟ فقلت: ابدأ أنت. فقال: عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني. قلت: هات ما عندك وعلي الجواب.
فقال: الأول: أن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بسبب الخلافة، قالت الأنصار للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. وقال المهاجرون: إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش (1) ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه. فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول: الخليفة فلان، فينتهي النزاع؟ كيف يترك هذا الأمر العظيم؟ لو كان يكلم أحدا يقظة
__________
(1) أحمد (1/55-56) والبخاري (12/174-176/6830) ومسلم (3/1317/1691) وأبو داود (4/582-583/4418) والنسائي في الكبرى (4/273/7156) وابن ماجه (2/853/2553) عن ابن عباس(9/474)
بعد موته لكلم أصحابه وأصلح بينهم وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني بعد مضي ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر؟ ليقول له: أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو والده وأولاده وأزواجه لا الحفدة. فكيف يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور، ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم.
فقلت له: إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلقي الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته، وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص.
فقال: أنا لا أسلم أن في الشريعة خاصا وعاما، لأن أحكام الشرع خمسة، وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثوابا، فهو إما واجب أو مستحب، ولم ينتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات، وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معشر أهل البيت بشيء؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله وإلا ما في هذه الصحيفة، ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم(9/475)
بكافر (1) . فكيف لا يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلا في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة.
فقلت: إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع.
قال: احفظ هذا. الأمر الثاني: اختلاف أبي بكر مع فاطمة رضي الله عنهما على الميراث، فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها، واحتجت عليه بأنه إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها؟ فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا صدقة" (2) . وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها - صلى الله عليه وسلم - . فهذان حبيبان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: "فاطمة بضعة مني يسوؤني ما ساءها" (3) أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، وقال: "ما أحد أمن علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق" (4) رواه البخاري. وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي
__________
(1) أخرجه: أحمد (1/79) والبخاري (12/303/6903) والترمذي (4/17/1412) والنسائي (8/392/4758) وابن ماجه (2/887/2658).
(2) أخرجه: أحمد (1/7-8) والبخاري (6/242/3092-3093) ومسلم (3/1381-1382/1759[54]) وأبو داود (3/376-377/2969) عن أبي بكر.
(3) أحمد (4/326) والبخاري (7/106-107/3729) ومسلم (4/1902/2449) وأبو داود (2/556-557/2069) وابن ماجه (1/644/1999) عن المسور بن مخرمة.
(4) أحمد (3/18) والبخاري (1/734/466) ومسلم (4/1854-1855/2382) والترمذي (5/568/3660) والنسائي في الكبرى (5/35/8103) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(9/476)
بكر وفاطمة، تسوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له: إني رجعت عن عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها: يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر، فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به.
فقلت له: ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت.
قال: احفظ هذا. الأمر الثالث: الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى، واشتد النزاع حتى وقعت حرب الجمل في البصرة، فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة، فكيف يهون على النبي - صلى الله عليه وسلم - سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت وذلك قوله تعالى: لَقَدْ { جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (128) (1) .
فقلت له: ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت، وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء.
قال: احفظ هذا وفكر فيه. الأمر الرابع: خلاف علي مع الخوارج،
__________
(1) التوبة الآية (128)(9/477)
وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء.
فقلت: الجواب هو ما سمعت.
فقال لي: احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق... والأمر الخامس: النزاع الذي وقع بين علي ومعاوية، وقد قتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهور لأفضل الناس بعده، وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين العاملين بقوله تعالى: وَأَصْلِحُوا { ذَاتَ بَيْنِكُمْ } (1) وقوله تعالى: إِنَّمَا { الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (10) (2) ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول، لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة.
فلم يجد عندي جوابا غير ما تقدم ولكني لم أسلم له.
فقال لي: فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس، كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما
__________
(1) الأنفال الآية (1).
(2) الحجرات الآية (10).(9/478)
بعد العشاء بكثير، وحينئذ أيقنت أنني كنت على ضلال.
- قال عبدالسلام بن سودة (1) : ومن أفعاله المذكورة صرخته الكبرى في وجه الطوائف الضالة مثل الطائفة المنسوبة للشيخ مَحمد -فتحا- بن عيسى والطائفة المنسوبة للشيخ علي بن حمدوش، وغيرهما من الطوائف الذين كانوا يفعلون أفعالا لا يقبلها الشرع؛ مثل الشطح في الأسواق والأزقة على نغمات المزامير والطبول، وأكل اللحم النيئ، وضرب الرؤوس بشواقر، وجعل النار في أفواههم، إلى غير ذلك من الموبقات. فقد سعى بكل جهوده لقطع دابر ذلك من المغرب، ولم يهمل السعي وراءه حتى صدر الأمر بمنعه من جلالة الملك محمد الخامس، عام أربعة وخمسين وثلاثمائة وألف، وأراح الله من ذلك البلاد والعباد. ومناقبه في هذا الباب لا تعد. وإن شئت قلت بلا مداهنة ولا محاباة إنه هو الرجل الأول الذي غرس البذرة الأولى للسلفية في الشعب.
وقال الحسن العرائشي: إن حلقات هذا الشيخ كانت تهدف أساسا لمواجهة أدعياء المشيخة وتطهير الدين من الخرافات والخزعبلات التي ألصقها به هؤلاء المشعوذون الذين ربطوا مصيرهم بمصير الاستعمار. (2)
ومنع الفرقة العيساوية بفاس من التوجه إلى ضريح شيخهم بمكناس لإقامة الرقص والشطح الصوفي. (3)
__________
(1) سل النصال (ص.196).
(2) مجلة دعوة الحق العدد 5 سنة 2001م مقال لأحمد أزمي.
(3) المصدر السابق.(9/479)
عبدالرحمن النتيفي (1) (1385 هـ)
الشيخ الإمام عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم النتيفي الجعفري، ينتهي نسبه إلى محمد الجواد بن علي الزينبي بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وعلي الزينبي هو ابن زينب بنت فاطمة الزهراء بنت نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - . ولد الشيخ عام ثلاث وثلاثمائة وألف للهجرة بقرية المقاديد بقبيلة هنتيفة، وحفظ القرآن في صغره. وفي عام أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة بدأ بقراءة العلم على جمع من الشيوخ منهم: بوشعيب البهلولي. وسافر إلى فاس عام ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وأخذ عن عدة مشايخ كالفاطمي الشرايبي ومحمد التهامي كنون ومحمد بن جعفر الكتاني وغيرهم. وفارق فاس عام خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وقصد مراكش معرجا على الدار البيضاء فحضر موقعة تدارت التي تم على إثرها احتلال المدينة. وبعد الوقعة قصد الشيخ خنيفرة عاصمة قبائل زايان بالأطلس المتوسط فأقام بها وأنشأ مدرسة للعلم تخرج على يده جماعات كثيرة من أهل العلم كأخيه قاضي مراكش جعفر محمد النتيفي والفقيه عباس المعداني وغيرهما. حج البيت الحرام عام تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وعاد من رحلته الحجازية عام ثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة. ورجع إلى خنيفرة فمكث فيها لنشر العلم وإحياء الإسلام والسنة في تلك القبائل البربرية الذين كانوا أبعد عن الإسلام بجفاء طبعهم فنفع الله به العباد والبلاد. خرج من خنيفرة بعد احتلال
__________
(1) مختصر ترجمة شيخ الإسلام رحمه الله أبي زيد الحاج عبدالرحمن النتيفي الجعفري لابنه الفقيه حسن بن عبدالرحمن النتيفي الجعفري.(9/480)
الفرنسيين الكفرة لها وقصد قبائل أيت عمو ودخل فاس عام ست وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فمكث فيها سنتين يدرس بالقرويين إلى عام سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة وفي آخر تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فارق فاس. ودخل المدينة القديمة البيضاء عام إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة واتخذ بها مدرسة. وقصدته أفواج من أنحاء المغرب للقراءة عليه، والإقامة بمنزله وتحت نفقته. وأنشأ بالمدينة الجديدة من البيضاء مدرسة سماها (السنة) لتمييز منهاج دروسها وتعليمها. للشيخ رحمه الله باع طويل في العلم، أصيب بفقد البصر وكان قوي الذاكرة، ولم يكن متقيدا بمذهب معين بل يدور مع الدليل أين ما دار.
توفي رحمه الله عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
1- 'حل إبرام النقض في الرد على من طعن بالمحلول أو سنة القبض'. رد فيه على محمد الخضر الذي ألف كتابا في نصر السدل.
2- 'القول الفائز في عدم التهليل وراء الجنائز'.
3- 'السيف المسلول في الرد على من حكم بتضليل من ترك السيادة في صلاة الرسول'.
4- 'الأبحاث البيضاء مع الشيخين عبده ورشيد رضا'. وهو رد على بعض آرائهما.
5- 'كشف النقاب في الرد على من خصص أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية الحجاب'.(9/481)
موقفه من المشركين:
1- 'حكم السنة والكتاب في وجوب هدم الزوايا والقباب'.
2- 'إرشاد الحيارى في تحريم زي النصارى'.
3- 'رد طعن الطاعنين في سحر اليهود لسيد المرسلين'.
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية:
1- 'تنبيه الرجال في نفي القطب والغوث والأبدال'. وهو رد على المتصوفة الذين ينتحلون أسماء لشيوخهم كالقطب والغوث.
2- 'القول الجلي في الرد على من قال بتطور الولي'. رد فيه على المتصوفة الذين قرروا أن من كرامات الأولياء التطور في أشكال شتى.
3- 'الذكر الملحوظ في نفي رؤية اللوح المحفوظ'. (1)
4- 'الاستفاضة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى بعد وفاته يقظة'. رد فيه على السيوطي الذي زعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى بعد وفاته يقظة.
5- 'تنبيه الرجال في نفي القطب والغوث والأبدال'. وهو رد على الصوفية الذين أضفوا هذه الألقاب على مشايخهم.
6- 'الذكر الملحوظ في نفي رؤية اللوح المحفوظ'. وهو رد على من زعم أن شيخه كان يرى اللوح المحفوظ.
7- 'القول الجلي في الرد على من قال بتطور الولي'. وقد رد فيه على
__________
(1) المصدر: مختصر ترجمة شيخ الإسلام أبي زيد عبدالرحمن النتيفي لابنه الحسن بن عبدالرحمن (ص.25و29).(9/482)
بعض الفقهاء المتصوفة الذين قرروا بأن من كرامات الأولياء التطور في أشكال شتى.
8- 'الميزان العزيز في البحث مع أهل الديوان المذكور في كتاب الإبريز للشيخ الدباغ عبدالعزيز'. رد فيه على الدباغ عبدالعزيز في كتابه 'الإبريز' الذي أثبت التصرف للأولياء، وأن لهم ديوانا يجتمعون فيه.
9- 'تحفة الأماني في الرد على أصحاب التجاني'. وقد ضاعت للمؤلف بالأطلس المتوسط.
10- 'كشف الهمم في أن عهود المشايخ لا تلزم'.
11- 'البراهين العلمية في ما في الصلاة المشيشية'.
12- 'كتاب الزهرة في الرد على غلو البردة'.
13- 'الحجج العلمية في رد غلو الهمزية'.
14- 'أحسن ما تنظر إليه الأبصار وتصغى إليه الأسماع في نقد ما اشتمل عليه ممتع الأسماع في الجزولي وأصحابه والتباع'.
15- 'الدلائل البينات في البحث في الدلائل الخيرات وشرحه مطالع المسرات'.
وغيرها كثير بحمد الله، وهذه التي ذكرت إنما هي غيض من فيض.
موقفه من الجهمية:
له: 'الإرشاد والتبيين في البحث مع شراح المرشد المعين'. رد فيه على شراح المرشد المعين في التوحيد وما قرروه من أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت تبعا لمذهب المعتزلة.(9/483)
وله كتاب: 'نظر الأكياس في الرد على جهمية البيضاء وفاس'.
- قال في مطلعه: الحمد لله الذي استوى على عرشه بلا كيف، واتصف بصفات الكمال، وانفرد بها دون سائر خلقه؛ نحمده تعالى ونشكره، ونستعينه سبحانه وتعالى ونستغفره استغفار خائف من قهره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته ولا في فعله ووصفه، ونشهد أن نبينا (1) محمدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه ورسله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى آله وكرام صحبه.
أما بعد: فإن مما أبرزته الأقدار ونفست به الأيام والأعصار ما دهمنا من الوقائع في هذه الديار من كيد جماعة من الأشرار، ليسوا من الأقوياء الفجار ولا من الأتقياء الأبرار، التي هي واقعة رجب سنة ثلاثة وستين وثلاثمائة وألف هجرة، فقد قام بها بعض من أولئك المشار إليهم هنالك بعد أن أجمعوا أمرهم وأتوا صفا، وقاموا قومة رجل واحد، واختنقوا غيظا وحيفا، وانكشفت صدورهم عما فيها من الضغائن والحقود؛ وحشروا لكيدهم كل مبتدع وحسود، واستغاثوا لنصرتهم بكل معاد للسنة وكائد، دفعا لها، وتصمما عن سمعها، وتسلحوا لذلك بكل دافع ومعاند؛ وكانوا مهما سمعوا للسنة أثرا، ومر على آذانهم ذكر من يؤيد لها خبرا، تحلفوا لذلك واجتمعوا وتحيلوا في كيدها وناصرها، وحفظوا في ذلك ووعوا ثم لم يزالوا في هذا الحال، والحال ما حال يتربصون الفرص، ويتجرعون الغصص إلى أن
__________
(1) في (ت) سيدنا.(9/484)
بدت لهم فرصة غصوا بريقهم فيها أزالوا غصتهم فيها بالدعاوى والصياح، والفتنة واللعن والشتم، وغير المباح، وأفعال لو كانت من الصبيان والمجانين لحق لها أن [لا] (1) توضع في مجالس العلم وبيوت أذن الله أن ترفع.
وذلك أننا ذكرنا مذاهب الناس في استواء الله على عرشه، وأيدنا منه ما أيده الله في كتابه ورسوله في حديثه، وسلف أمته ومحققوا خلفها / بصريح نصه؛ قامت قيامة قيامتهم تلك، وانتظموا لنصر خلاف ما لله ولرسوله وسلف أمته في صف وسلك، ولعنوا وشنعوا وطيروا الخبر إلى كل من بادية المغرب ومدنه. وشكوا إلى أمراء الوقت وقضاته وسلطانه. وآل الأمر بيننا وبينهم إلى إيقاف دروسنا ودروس قبيح جاهل منهم وهو الذي تولى كبر هذه الفتنة نحو أربعين يوما على يد قاضي الوقت. وعقد مجلس للمناظرة على يده أخرص الله فيها ألسنة القوم، وعجزوا عن تأييد مذهبهم إلا بأفكارهم التي ينبذونها عند الدليل ويرجعون إليها ولا بد للتعصب والميل، وكان في خلال هذه الأيام أن رجلا من هؤلاء فاسيا تذكر ذاخرة تركها له أبوه، فيالها من ذخيرة وياله من أب لله دره، وهي ما حدثني بعض الفضلاء عنه أن السلطان أبا علي المولى الحسن العلوي نور الله ضريحه وأسكنه من روض الجنان فسيحه بينما صحيح البخاري يقرأ بين يديه على العادة بفاس إذ وقع في مجلسه خلاف في استواء الله على عرشه بين علماء فاس وعالم من أهل طنجة؛ فاستدعاه السلطان للحضور معهم، وهو: الشيخ عبدالله
__________
(1) في (ب).(9/485)
السنوسي. فأمهلهم الإمام إلى أن يأتوا غدا بأدلتهم. فجاءوا غدا بأوراق في أيديهم؛ فلما صفحت ورقات أبيه أعجبت السلطان وأمر بسردها وأن ينتهى إلى معناها وقولها بعد أن عجز خصمه عن رد ما فيها إلى آخر ما قال.. ودفع السلطان ذلك العالم عن مجلسه، فبقيت من هذه الرسالة بيد ولد صاحبها المذكور. فأسرع بها إلى أبي المكارم السلطان المولى محمد بن الإمام المولى يوسف إمام وقتنا أعلا الله علاه وأعز كلمته، ورفع شأنه. وزعم أنه أخذها منه ثمانية أيام وينسخها -أو يطالعها- فردها بعد الأجل؛ وقصد الرجل بذلك أن يغيضنا به ويغير قلب الملك ويدخل في علمه أن لأسلافه الفاسيين حجة علمية، ومستندا للانتقام منا، ولا علم لنا بذلك؛ ولكن أبى الملك الكبير واللطيف الخبير إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل، فأيد سلطاننا ونور/ ذهنه وفكره حتى ميز بين الحق فأيده وأحبه، وبين الباطل فأدمغه وأرداه، فكان جزاء أعمال أولئك المبطلين من مالك العوالم ثم من مالك المغرب الحرمان، وانعكست عليهم القضية، فكانت مقاصدهم السيئات في جانبنا حسنات حيث تسببوا لنا بذلك في قرب من السلطان وصِلاته وسماع الدروس منا المرة بعد المرة، وإعجابه بذلك، وذكره للخاصة والعامة؛ وطرد الذي تولى كبر الفتنة من المسجد الأعظم، فخمدت بذلك نار فتنته واضت تضطرم في أحشائه، ثم بعد هذا جاءنا الفاضل الذي حدثنا عن الفاسي وشأن رسالته بها فقرأناها وتأملنا ما فيها؛ فإذا هي من باب تكلموا تُعرَفوا، قد أعربت عن مدارك أصحابها. وقدمنا رِجْلاً وأخرنا أخرى في الكتب علينا برهة من الدهر حتى ألح عليها بعض الفضلاء في رقم كلمات(9/486)
عليها. فأجبناه لذلك، وسألنا الله العون عليه. (1)
- وقال فيه أيضا: وقول الإمام مالك: والسؤال عن هذا بدعة؛ صحيح، لأن السلف كانوا يعتقدون أن تلك الصفات المنصوص عليها في الكتاب والسنة صفات لله وإن تشاركت مع صفة المخلوق من حيث الأسماء، ويحكمون بمباينة المسميات بقوله تعالى: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (2) . لأن ذات الله وصفاته وأفعاله لا تقاس بذات المخلوقات ولا بصفاته وأفعاله. وهذا معلوم عندهم لا يسأل عنه إلا حديث عهد بالإسلام أو مبتدع. ولما كثر السؤال عنه من مبتدعة الجهمية في زمان الإمام مالك، إذ جهم (3) والجعد ابن درهم الذي قتله خالد بن عبدالله القسري، شاعت دعوتهم في زمان بني أمية ثم ازدادت شيوعا في دولة بني العباس. فقد قال أهل التاريخ: ظهر الخوارج والروافض والشيعة والمرجئة، فلم يتجاسروا على رد نصوص الشريعة بالعقل، وصاح بهم الصحابة من كل صوب وبدّعوهم، وتركوا السلام عليهم، ونسبوهم إلى العظائم، ثم ظهر الجهمية في آخر عصر التابعين، فعارضوا الوحي بالعقل، وقالوا كل شريعة لا تقبلها عقولنا رددناها بالتأويل إليها، ثم ذلك منهم في آخر زمان بني أمية، فخمدت نار فتنتهم فقتل خالدُ ابن عبدالله الجعدَ ابن درهم ثاني رؤسائهم، ثم اشتعلت نار فتنتهم في زمان المأمون فأوقع /
__________
(1) نظر الأكياس: (14-16) مخطوط.
(2) الشورى الآية (11).
(3) في ت وب: (وهو) وهي زيادة خاطئة من الناسخ إلا أن يقع سقط تقدير: وهو تلميذ.(9/487)
المحنة بالعلماء حيث أعجبه مذهب هؤلاء المبتدعة، فقتل من قتل من العلماء، ونجا منهم بإظهار مذهبهم اتقاء شرهم أو بالصبر على الحبس والعذاب، وعلى هذه البدعة حَبَسَ المعتصمُ الإمام أحمدَ وضربه، ثم أطفأ الله نار هذه البدعة وأظهر السنة على لسان خلقه، وخطب بها على المنابر زمانا حتى ظهرت جنود إبليس القرامطة والباطنية والملاحدة، ودعوا الناس إلى العقل المجرد، وأن أمور الرسل تعارض المعقول. وفي زمنهم غلب الكفار على كثير من بلاد المسلمين، وهم الذين كسروا عسكر الخليفة العباسي، وقلعوا الحجر الأسود (1) ، وقتلوا الحجاج. ثم خمدت دعوتهم في المشرق وظهرت في المغرب قليلا قليلا. ثم أخذوا يطؤون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها هم وولاتهم وقضاتهم، وفي زمنهم صرح ابن أبي زيد بأن الله مستو على عرشه بذاته، ردا لمذهبهم من غير أن تأخذه في الله لومة لائم، واتخذ الكلاب ليحرسوا من صائلهم ومعتدهم. وفي أيامهم ألفت الإشارات وكتب ابن سينا، قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمين. وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة.
فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء، حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيديهم على يد نور الدين محمود بن زنكي والسلطان الأعظم صلاح الدين ابن أيوب رحمه الله،
__________
(1) في (ت): الحجر الأسعد.(9/488)
قابل الإسلام من علته وانتعش بعد طول الحمرة حتى استبشر أهل الأرض والسناء، واستنقذ الله بعبده صلاح الدين وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، فعاش الناس/ في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة وقدم الناس العقول على النقول، والأذواق على الشريعة الربانية، وكان رئيسهم هذا الطوسي وأضرابه، هذا في المشرق.
وأما في المغرب فمنذ فتح الإسلام إلا وهو على عقيدة السلف إلا ما كان من فتنة العبيدين وبدعتهم، ثم انجلت ظلمتها واستضاء المسلمون بنور السنة ومذهب السلف حتى ظهر فيهم في أوائل القرن السادس محمد بن تومرت المهدي تلميذ أبي حامد الغزالي، فملأ أرضهم بمعارضة العقل للوحي، واشتهر مذهب شيخه الغزالي في هذه البقاع، وسمى من خالفه من علماء المغرب وملوكهم وجمهورهم مجسمة، وقاتلهم على ذلك، وسمى أتباعه الموحدين؛ وفي ذلك يقول الحفيد ابن رشد: ولما ظهر أبو حامد طم الوادي على القرى ثم لم يزل أهل المغرب في دولة الموحدين وبني مرين بعدهم وغيرهم آخذين بمذهبه. وآخذ بمذهب السلف وهم القليل، حتى كانت دولة سيدي محمد بن عبدالله العلوي، فعانق مذهب السلف هو وخواصه، وأظهره للجمهور، وهكذا ابنه أبو الربيع المولى سليمان كما تقدم.
وأما أهل المشرق فبعث الله عليهم في خلال هذه الدعوة عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وهم التتار، ثم تيمور ثم نيضت نابغة أيضا تدعوا إلى معارضة النقل بالعقل فقيض الله لهم شيخ الإسلام الحراني وأصحابه، فكانوا يناضلون بسيف الحجة عن مذهب أهل السنة، ثم اختلط(9/489)
الأمر بعد ذلك ومرج؛ فمن آخذ بمذهب هؤلاء، ومن آخذ بمذهب هؤلاء. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خافهم حتى يأتي أمر الله" (1) . ولذلك تفرس في السائل الإمام (2) أنه من أهل هذه الدعوة لدليل ما قال: "وأظنك رجل سوء، أخرجوه".
ولولا ما ظنه الإمام فيه لما ساغ له أن يواجهه بهذا الكلام، / ولا أن يقول: "أخرجوه"، إذ السائل لا ينهر؛ بل يلان له القول ويكرم. ولا يشك في أن الإمام مالكا من أكابر أهل السنة لا شَكَّاكٌ، ولو كان قصد مالك بقوله: "معلوم" ما نسبتم له من التأويل لكان قوله: والكيف مجهول، ضائعا، ومنافيا لاعتقاده. إذ لا يقال الكيف مجهول إلا إذا كان الاستواء على معناه الحقيقي، بل لا يحكم على شيء أنه مجهول إلا إذا كان موجودا، وإلا كان اسم المعدوم أحق به. (3)
__________
(1) تقدم ضمن مواقف ابن المبارك سنة (181هـ).
(2) يعني الإمام مالك رحمه الله.
(3) نظر الأكياس (67-70) مخطوط.(9/490)
محمد بن عبدالعزيز بن مانع (1) (1385 هـ)
الشيخ الإمام محمد بن عبدالعزيز بن محمد بن مانع بن شبرمة الوهيبي التميمي. ولد بعنيزة سنة ثلاثمائة وألف للهجرة، ورحل في طلب العلم إلى بريدة، فالبصرة، فبغداد، ثم استقر في الأزهر بمصر. كان فقيها مطلعا على خلاف العلماء، حافظا للسنة، وآية في العلوم العربية لا سيما النحو، حتى قيل إن الشيخ عبدالرحمن بن سعدي كان يفضله فيها على الشيخ الشنقيطي. وأما حفظ المتون واستحضار مسائلها وأقوال شراحها فأمر عجيب. أخذ عن مجموعة من الشيوخ منهم السيد محمود شكري الآلوسي والشيخ محمد الذهبي والشيخ جمال الدين القاسمي والشيخ عبدالرزاق الأعظمي وغيرهم. وأخذ عنه الشيخ عبدالرحمن السعدي والشيخ عبدالعزيز ابن محمد بن مانع (ابنه) والشيخ عثمان بن صالح القاضي وغيرهم.
رجع إلى بلدته "عنيزة" سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم دعي للتدريس في البحرين سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم استدعاه أمير قطر فولاه الإفتاء والوعظ والقضاء، ثم دعاه الملك عبدالعزيز آل سعود سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة فدرس في الحرم المكي، ثم طلب حاكم قطر من السعودية انتدابه للعمل فيها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة فأقام فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وألف.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/100-113) والأعلام (6/209) والمستدرك على معجم المؤلفين (682).(9/491)
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'القول السديد فيما يجب لله على العبيد'.
2- 'مختصر شرح عقيدة السفاريني'.
3- 'تحقيق النظر في أخبار المهدي المنتظر'.
4- 'حاشية على العقيدة الطحاوية'. وكذا على العقيدة الواسطية وغيرها.
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: اعلم وفقنا الله وإياك أن أول اختلاف وقع في هذه الأمة: هو خلاف (الخوارج) حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم. ثم حدث بعدهم خلاف (المعتزلة) وقوله: "إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر"، ويثبتون (المنزلة بين المنزلتين). ثم حدث خلاف (المرجئة)، وقولهم: "إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان".
وقد صنف العلماء قديما وحديثا في هذه المسائل تصانيف متعددة، وبينوا ما هو الحق فيها، وصرحوا: أن الفاسق الملي، مرتكب الكبيرة، فاسق بكبيرته، مؤمن بإيمانه، وهو تحت مشيئة الله تعالى. (1)
- وقال: فالمؤمن لا يخرج من الإيمان بملابسة كبائر الذنوب والعصيان.
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية (ص.173-174).(9/492)
كما قال تعالى: إِنَّ { اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) . وفي الحديث القدسي، الذي رواه الترمذي عن أنس مرفوعا: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة" (2) . فدلت الآية وحديث أنس على أن من جاء مع التوحيد بملء الأرض خطايا، لقيه الله بملئها مغفرة، مع مشيئة الله تعالى، فإن شاء غفر له، وإن شاء عذبه وأخذه بذنبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة. (3)
- وقال في حاشيته على الطحاوية (4) عند قوله: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله": ومراد الشيخ رحمه الله بهذا الكلام: الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
محمد البشير الإبراهيمي (1385 هـ)
ولد في الثالث عشر من شوال سنة ست وثلاثمائة وألف للهجرة بقرية أولاد إبراهيم قرب سطيف؛ من أسرة ترجع أصولها إلى الأدارسة الذين حكموا المغرب. حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وحفظ المتون على يد
__________
(1) النساء الآية (48) والآية (116).
(2) الترمذي (5/512/3540) وقال: "حديث حسن". وقال ابن رجب في جامعه: "إسناده لا بأس به".
(3) المصدر السابق (ص.175-176).
(4) ص.53).(9/493)
والده وعمه محمد المكي الإبراهيمي، كما تفقه في قواعد النحو والفقه والبلاغة. وكان من أعلم أهل بلده في وقته، خلف عمه في التدريس لما مات وهو ابن الرابعة عشر.
وخلال رحلته إلى المدينة لطلب العلم؛ حط الرحال بالقاهرة ثلاثة أشهر يتردد فيها على الأزهر. وفي الحرم النبوي الشريف درس الموطأ على عبدالعزيز الوزير التونسي، وصحيح مسلم على حسين أحمد الفيض أبادي الهندي وغيرهما من المشايخ، ولما اشتد عوده درّس به أيضاً.
ورحل إلى دمشق سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فاشتغل مدرساً للعربية بالمدرسة السلطانية الأولى، وكان يلقي الدروس في الجامع الأموي، وشارك في تأسيس المجمع العلمي للتعريب بدمشق. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد للجزائر فاشتغل بنشر العلم.
كان خطيباً مفوهاً، وشاعراً فصيحاً، أديباً بليغاً، شارك شكيب أرسلان في إمارة 'البيان العربي'، واختير لعضوية مجمع اللغة العربية بمصر سنة ثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة.
التقى أول مرة بعبدالحميد بن باديس بالمدينة النبوية فاستمرت لقاءاتهما كل ليلة على مدى ثلاثة أشهر يدرسان فيها سبل النهوض والإصلاح الديني في الجزائر، ثم عادا إلى بلدهما فأسسا جمعية العلماء. وقد نفاه المحتل الفرنسي، إلى صحراء وهران؛ ولما توفي ابن باديس اختاره العلماء لرئاسة الجمعية وهو في منفاه إذ لبث فيه ثلاث سنوات يدير الجمعية بالمراسلة. واستمر في(9/494)
استكمال ما قام به سلفه من إنشاء المدارس وبناء المساجد، وتعليم الطلاب، وأنشأ معهداً ثانوياً وسماه بـ (معهد عبدالحميد بن باديس).
كانت له علاقة وطيدة بمفتي الديار السعودية في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عمر بن حسن آل الشيخ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وافته المنية في الثامن عشر من غرة محرم عام خمس وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة.
من آثاره:
1- 'بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر'.
2- 'النقايات والنفايات في لغة العرب'.
3- 'حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام'.
4- 'شعب الإيمان'.
5- 'قصيدة شعرية رجزية في ست وثلاثين ألف بيت نظمها في منفاه بالصحراء، وصف فيها الفرق المعاصرة وأولياء الشيطان، ومكايد الاستعمار وهي أيضاً حول تاريخ الإسلام والمجتمع الجزائري'.
6- 'عيون البصائر'.
7- 'رسالة الطب'.
8- 'نظام العربية في موازين كلماتها'.
9- 'محاضرات وأبحاث وفتاوى' جمعها أحد تلاميذه. وقد طبعت مجموعة تحت عنوان: 'آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي' في خمس مجلدات.
موقفه من المبتدعة:(9/495)
- قال رحمه الله: إنهم موتورون لهذه الوهابية التي هدمت أنصابهم ومحت بدعهم فيما وقع تحت سلطانهم من أرض الله، وقد ضج مبتدعة الحجاز فضج هؤلاء لضجيجهم، والبدعة رحم ماسة، فليس ما نسمعه هنا من ترديد كلمة (وهابي) تُقذف في وجه كل داعٍ إلى الحق إلا نواحاً مُردَّداً على البدع التي ذهبت صرعى لهذه الوهابية. (1)
- وقال عن التعصب المذهبي: هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدهم -أي الفقهاء والأئمة الأربعة على وجه الخصوص- للمذاهب والتي نعتقد أنهم لو بعثوا من جديد لأنكروها على أتباعهم... وقد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، وكان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وأن في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوباً. (2)
موقفه من المشركين:
- قال في خطبة ألقاها بإذاعة صوت العرب سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة -حول موالاة الكفار المستعمرين-: بسم الله الرحمن الرحيم، إذا قلنا: (إن موالاة المستعمر خروج عن الإسلام)؛ فهذا حكم مجمل، تفصيله: إن الموالاة مفاعلة، أصلها الولاء أو الولاية، وتمسها في معناها مادة التّولّي، والألفاظ الثلاثة واردة على لسان الشرع، منوط بها الحكم الذي حكمنا به؛ وهو الخروج عن الإسلام، وهي في الاستعمال الشرعي جارية على استعمالها اللغوي، وهو في جملته ضد العداوة؛ لأن العرب تقول: وَالَيتُ
__________
(1) مجلة الأصالة الأردنية العدد 1، (ص.36).
(2) الأصالة العدد 2، (ص.44).(9/496)
أو عاديتُ، وفلان وليّ أو عدوّ، وبنو فلان أولياء أو أعداء، وعلى هذا المعنى تدور تصرفات الكلمة في الاستعمالين الشرعي واللغوي. وماذا بين الاستعمار والإسلام من جوامع أو فوارق حتى يكون ذلك الحكم الذي قلناه صحيحاً أو فاسداً؟
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدإ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قوامُه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يُثبت الأديان السماوية ويحميها، ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلاً من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه، خصوصاً الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. نستنتج من كل ذلك أن الاستعمار عدو لدود للإسلام وأهله، فوجب في حكم الإسلام اعتبار الاستعمار أعدى أعدائه، ووجب على المسلمين أن يطبِّقوا هذا الحكم وهو معاداة الاستعمار لا موالاته. الاستعمار الغربي -وكل استعمار في الوجود غربي- يزيد على مقاصده الجوهرية وهي الاستئثار والاستعلاء والاستغلال مقصداً آخر أصيلاً وهو محو الإسلام من الكرة الأرضية خوفاً من قوته الكامنة، وخشيةً منه أن يعيد سيرته الأولى كرةً أخرى. وجميع أعمال الاستعمار ترمي إلى تحقيق هذا المقصد؛ فاحتضانه للحركات التبشيرية وحمايته لها وسيلة من وسائل حربه(9/497)
للإسلام، وتشجيعه للضالين المضلين من المسلمين غايته تجريد الإسلام من روحانيته وسلطانه على النفوس، ثم محوه بالتدريج، ونشره للإلحاد بين المسلمين وسيلة من وسائل محو الإسلام، وحمايته للآفات الاجتماعية التي يحرّمها الإسلام ويحاربها كالخمر والبغاء والقمار ترمي إلى تلك الغاية، ففي الجزائر -مثلاً- يبيح الاستعمار الفرنسي فتح المقامر لتبديد أموال المسلمين، وفتح المخامر لإفساد عقولهم وأبدانهم، وفتح المواخير لإفساد مجتمعهم، ولا يبيح فتح مدرسة عربية تحيي لغتهم، أو فتح مدرسة دينية تحفظ عليهم دينهم. ويأتي في آخر قائمة الأسلحة التي يستعملها الاستعمار الغربي لحرب الإسلام اتفاقه بالإجماع على خلق دولة إسرائيل في صميم الوطن العربي، وانتزاع قطعة مقدسة من وطن الإسلام وإعطائها لليهود الذين يدينون بكذب المسيح وصلبه، وبالطعن في أمه الطاهرة.
فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أن من كان عدوّاً لهم فأقل درجات الإنصاف أن يكونوا أعداءً له، وأنّ موالاته بأي نوع من أنواع الولاية هي خروج عن أحكام الإسلام؛ لأن معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك وعلى دينك وعلى قومك وعلى وطنك. والمعاذير التي يعتذر بها الموالون للاستعمار كالمداراة وطلب المصلحة يجب أن تدخل في الموازين الإسلامية، والموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء من ذلك بقدره وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد لا في الجماعات ولا في الحكومات. وموالاة المستعمر أقبح وأشنع ما تكون من(9/498)
الحكومات، وأقبح أنواعها أن يحالَف حيث يجب أن يُخالَف، وأن يعاهَد حيث يجب أن يجاهَد...
أيها المسلمون أفراداً وهيئات وحكومات: لا توالوا الاستعمار؛ فإن موالاته عداوة لله وخروج عن دينه. ولا تتولّوه في سلم ولا حرب؛ فإن مصلحته في السلم قبل مصالحكم، وغنيمته في الحرب هي أوطانكم. ولا تعاهدوه؛ فإنه لا عهد له. ولا تأمنوه؛ فإنه لا أمانَ له ولا إيمان. إن الاستعمار يلفظ أنفاسه الأخيرة فلا يكتب عليكم التاريخ أنكم زدتم في عمره يوماً بموالاتكم له. ولا تحالفوه؛ فإن من طبعه الحيواني أن يأكل حليفه قبل عدوه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (1)
- وقال: ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن وآيات الأكوان لما ضلوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله -وهي العبادات- وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف. (2)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: إننا علمنا حق العلم بعد التروي والتثبت، ودراسة أحوال الأمة ومناشئ أمراضها؛ أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام هي سبب تفرق المسلمين، ونعلم أننا حين نقاومها نقاوم كل شر. إن هذه الطرق لم تسلم منها بقعة من بقاع الإسلام، وأنها تختلف في التعاليم والرسوم والمظاهر
__________
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5/68-70).
(2) الأصالة العدد 5، (ص.57).(9/499)
كثيراً، ولا تختلف في الآثار النفسية إلا قليلاً، وتجتمع كلها في نقطة واحدة: وهي التخدير والإلهاء عن الدين والدنيا. (1)
- وقال: أما والله ما بلغ الوضاعون للحديث، ولا بلغت الجمعيات السرية ولا العلنية الكائدة للإسلام من هذا الدين عشر معشار ما بلغته من هذه الطرق المشؤومة... إن هذه الهوة العميقة التي أصبحت حاجزة بين الأمة وقرآنها هي من صنع أيدي الطرقيين. (2)
- وقال أيضاً: فكل راقص صوفي، وكل ضارب بالطبل صوفي، وكل عابث بأحكام الله صوفي، وكل ماجن خليع صوفي، وكل مسلوب العقل صوفي، وكل آكل للدنيا بالدين صوفي، وكل ملحد بآيات الله صوفي، وهلم سحباً، أفيجمل بجنود الإصلاح أن يدعو هذه القلعة تحمي الضلال وتؤويه؟! أم يجب عليهم أن يحملوا عليها حملة صادقة شعارهم (لا صوفية في الإسلام) حتى يدكّوها دكّاً، وينسفوها نسفاً، ويذروها خاوية على عروشها. (3)
موقفه من الجهمية:
يقول عن علم الكلام: هو مبدأ التفرق الحقيقي في الدين؛ لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام. (4)
__________
(1) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34-35).
(2) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34-35).
(3) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34-35).
(4) مجلة الأصالة العدد 2، (ص.45).(9/500)
عبدالرحمن المُعَلِّمِي اليمني (1) (1386 هـ)
العلامة عبدالرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني. ولد بالعتمة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة ونشأ بها. سافر إلى جيزان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وعين في رئاسة القضاء، ثم سافر إلى الهند وعمل في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ثم عاد إلى مكة سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فعين أمينا لمكتبة الحرم المكي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وبقي فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة ست وثمانين وثلاثمائة وألف، ودفن بمكة.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيار العلماء رحمه الله، بذل مجهودا كبيرا في التراث الإسلامي وفي خدمة طلاب العلم، تصدى للشيخ النجدي (2) وبين ضلاله وتلبيساته على المسلمين، وطعنه على السلف، وفي مقدمتهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتابه 'التنكيل' يشهد له بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، والمعرفة الواسعة في علم الرجال. وقد خصص جزءا كبيرا من 'التنكيل' بين فيه العقيدة السلفية، ودافع عنها أحسن دفاع، فجزاه الله خيرا وأسكنه جنات الفردوس وإخوانه السلفيين.
- فمن كلامه في التنكيل: والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودربة في دفع الروايات الصحيحة، ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم
__________
(1) الأعلام (3/342) ومقدمة التنكيل (3-8) والمستدرك على معجم المؤلفين (366).
(2) هو محمد زاهد الكوثري.(9/501)
يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ (1) لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقر منه، بل أربى عليهم جميعا كما تراه في الطليعة، ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى. وأما غلاة المقلدين فأمرهم ظاهر، وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة وقد يغفل السنة، وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة، وقد يسهو أو يخطئ أو يزل، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافه، فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها، ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطب، ولكنه يعد غلوهم تقصيرا. (2)
- وقال في فصل: (فيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، وما يجب على أهل العلم في هذا العصر).
قال الله تبارك وتعالى: * { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ
__________
(1) الكوثري.
(2) التنكيل (1/26).(9/502)
مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } (1) وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } إلى أن قال: وَلَا { تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (105) (2) . وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا
__________
(1) الشورى الآيتان (13و14).
(2) آل عمران الآيات (100-105).(9/503)
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (153) (1) وقال سبحانه: إِنَّ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (2) . وقال تعالى: فَأَقِمْ { وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (32) (3) . وقال سبحانه: وَلَوْ { شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
__________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) الأنعام الآية (159).
(3) الروم الآيات (30-32).(9/504)
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (119) (1) إن قيل: التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه، والآيات تقتضي ذم الفريقين. قلت: كلا، فإن الآيات نفسها تحض على إقامة الدين، والثبات عليه، والاعتصام به، واتباع الصراط، بل هذا هو المقصود منها، فالثابت على السراط لم يحدث شيئا، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف، وإنما يحدث ذلك بخروج من يخرج عن السراط، وهو منهي عن ذلك، فعليه التبعة. فإن قيل: المكلف مأمور (2) بالاستقامة على الصراط، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبر، وحجج الحق -كما سلف في المقدمة- غير مكشوفة، فالباحث معرض للخطأ، بل من تدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يختلف الناظرون فيها، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى: لَا { يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (3) وقال سبحانه: فَاتَّقُوا { اللَّهَ مَا
__________
(1) هود الآيتان (118و119).
(2) في الأصل: بأمور.
(3) البقرة الآية (286).(9/505)
} اسْتَطَعْتُمْ (1) . أقول -وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق-: قولي: إن حجج الحق غير مكشوفة، إنما معناه كما سلف أنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور، واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات، وإنما الشأن في أمرين:
الأول: تمييز الحجج من الشبهات.
الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه.
وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة الصراط المستقيم، وقد بينه الله تعالى بقوله: صِرَاطَ { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } (7) (2) . وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعا من هذه الأمة هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقد قال الله عز وجل: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (3) . وقال تعالى: وَمَنْ { يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
__________
(1) التغابن الآية (16).
(2) الفاتحة الآية (7).
(3) يوسف الآية (108).(9/506)
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (115) (1) . فالصراط المستقيم: هو ما كان
عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد تقدم بيان جوامعه في الباب الأول، وأول الباب الرابع. فما اتضح من المأخذين السلفيين بحسب النظر الذي كان متيسرا للصحابة وخيار التابعين، فهو من الصراط المستقيم، وما خفي أو تردد فيه النظر فالصراط المستقيم، هو السكوت عنه، قال الله تعالى لرسوله: وَلَا { تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (2) . وقال تعالى: قُلْ { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } (86) (3) . وفي الصحيحين من حديث جندب ابن عبدالله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه" (4) . فإن كان من الأحكام العملية -والقضية واقعة- ساغ الاجتهاد فيه على الطريق التي كان يجري عليها في أمثال ذلك الصحابة وأئمة التابعين.
فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم،
__________
(1) النساء الآية (115).
(2) الإسراء الآية (36).
(3) ص الآية (86).
(4) أحمد (4/313) والبخاري (9/124/5060-5061) ومسلم (4/2053/2667).(9/507)
ومن لزم ذلك في المقاصد، وخاض في النظر والرأي المتعمق فيه، لتأييد الحق وكشف الشبهات، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك، فلا يقضى عليه بالخروج عن الصراط ما لم يتبين خروجه عنه في المقاصد فتلحقه تبعة ذلك بحسب مقدار خروجه.
هذا، والاختلاف المنهي عنه من لازمه -كما بينته الآيات- التحزب وأن يكونوا شيعا، وسبيل الحق بينة، والدين محفوظ قد تكفل الله تعالى بحفظه، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه، فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبهه على أخطائه، فإن لم يتفق له ذلك، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبهه، فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس يثبتون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى، ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمون علماء المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى، وأكثرهم صادقون في الجملة، ولكن الرامي يغفل عن نفسه، وكما جاء في الأثر "يرى القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه" (1) . وعلى كل حال، فإن الأمة قد اتبعت سنن من قبلها كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ذلك بل من أعظمه أنها فرقت دينها وكانت شيعا، وقد تواترت الأخبار بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، فعلى أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على الصراط، وإفرادها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله،
__________
(1) أخرجه ابن حبان (13/73-74/5761) والقضاعي في مسند الشهاب (1/356/610) وأبو نعيم في الحلية (4/99) من حديث أبي هريرة مرفوعا: "يبصر أحدكم القذاة..." الحديث.(9/508)
ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شيعا؛ ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب:
الأول: العقائد، وقد علمت أن هناك معدنا لحجج الحق وهو المأخذان السلفيان، ومعدنا للشبه، وهو المأخذان الخلفيان، فطريق الحق في ذلك واضح.
المطلب الثاني: البدع العملية، والأمر في هذا قريب لولا غلبة الهوى، فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة أنها من أركان الإسلام ولا من واجباته ولا من مندوباته، بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات، وصرح قوم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عز وجل، وقد شرحت ذلك في كتاب (العبادة)، وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها (1) بأسا، أو زاد على ذلك أنه يرجى منها النفع، فإنه مع مخالفته لمن هو أعلم منه يعترف بأن في الأعمال المشروعة اتفاقا ما هو أعظم أجرا وأكبر فضلا بدرجات لا تحصى، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا { اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2) ، وفي (الصحيحين) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في
__________
(1) في الأصل: بعضها.
(2) التغابن الآية (16).(9/509)
الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (1) وفي حديث آخر: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (2) . وفي حديث آخر: "إنه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس" (3) . والنظر الواضح يكشف هذا، فإنك لو كنت مريضا، فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سم قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سما ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضار، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع. أفلا يقضي عليك العقل إن كنت عاقلا بأن تجتنب ذاك الشيء؟! أو ليس من يأمرك ويلح عليك أن تصرف وقتك في تناول ذاك الشيء تاركا ما اتفقوا على نفعه بحقيق أن تعده ألد أعدائك؟! وتدبر في نفسك، أيصح من عاقل محب للإيمان خائف من الشرك أن يستحضر هذا المعنى ثم يصر على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركا؟! أو ليس من يصر إنما يشهد على نفسه بأنه لا يبالي إذا وافق هواه أن
__________
(1) أحمد (4/270) والبخاري (1/168/52) ومسلم (3/1219-1220/1599) وأبو داود (3/624/3330) والترمذي (3/511/1205) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/277-279/4465) وابن ماجه (2/1318-1319/3984).
(2) أحمد (1/200) والترمذي (4/576-577/2518) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/732/5727) وابن حبان (2/498/722 الإحسان) والحاكم (2/13) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) الترمذي (4/547/2451) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (2/1409/4215) والحاكم (4/319) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام (برقم 178) وقال: "وهذا عجب منه خاصة، فإن عبدالله بن يزيد وهو الدمشقي لم يوثقه أحد، بل قال الجوزجاني: "روى عن ابن عقيل أحاديث منكرة" ...وأورده الذهبي نفسه في الضعفاء وذكر قول الجوزجاني هذا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف".(9/510)
يكون شركا؟
المطلب الثالث: الفقهيات، والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه -كما مرت الإشارة إليه- لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فرقا متنازعة وشيعا متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديم أقوال الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص، وإذ كان المسلمون قد وقعوا في ذلك فإنما أوقعهم الهوى، فلا مخلص لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحوها عن الغي، ويتناسوا ما استقر في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبوها مذهبا واحدا اختلف علماؤه، وأن على العالم في زماننا النظر في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيار الأرجح منها. وقد نص جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلد إذا ظهر له رجحان الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليد إمامه في تلك القضية، بل يأخذ بالحق لأنه إنما رخص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعة الله وطاعة رسوله، ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحان خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلف فيه، فيترجح عندك قول مجتهد آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متبعا للدليل الراجح من جهة، ومقلدا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة؛ والفقهاء يجيزون تقليد المقلد غير إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟! وقضية التلفيق إنما شددوا فيها إذا كانت لمجرد التشهي وتتبع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرى الحق وإن(9/511)
خالف هواه فأمرها هين، فقد كان العامة في عهد السلف تعرض لأحدهم المسألة في الوضوء فيسأل عنها عالما فيفتيه فيأخذ بفتواه، ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضا أو الصلاة فيسأل عالما آخر فيفيته فيأخذ بفتواه، وهكذا، ومن تدبر علم أن هذا تعرض للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف، فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذ كان غير مقصود، ولم ينشأ عن التشهي وتتبع الرخص. فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل، ويسوغ له أن يثق بما تبين له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه؛ نعم قد غلب اتباع الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا احتيط لذلك بأن يرتب جماعة من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى فينظروا فيها مجتمعين، ثم يفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم لكان في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى.
فتلخص مما تقدم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معهما، واتقى البدع، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرى الأرجح، وكان مع ذلك محافظا على الفرائض، مجتنبا للكبائر، فإن عثر استقال ربه وتاب وأناب، فهو من الطائفة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تزال قائمة على الحق، فليتعرف إخوانه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوع بالمسلمين إلى سواء الصراط. فأما من أبى إلا الجمود على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا { أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ(9/512)
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ } اللَّهِ (1) وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ { مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } (2) . اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، ں$oY/u' { لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (286) (3) .اهـ (4)
موقفه من الصوفية:
قال في كتابه التنكيل: مآخذ العقائد الإسلامية أربعة: سلفيان وهما
__________
(1) التوبة الآية (31).
(2) الجاثية الآية (23).
(3) البقرة الآية (286).
(4) التنكيل (2/401-407).(9/513)
الفطرة والشرع. وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمق فيه، والكشف التصوفي.
ثم شرع رحمه الله في تفصيل المقال في هذه المآخذ إلى أن قال: وأما المأخذ الخلفي الثاني وهو الكشف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف اسما ولا رسما، خلا أنه كان منهم أفراد صادقوا الحب لله تعالى، والخشية له يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة، فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز وجل بعض دعائه أو عنايته بل على ما يقل في العادة، ويلقى الحكمة في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير، وإذا كان من أهل العلم، ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة، فقد يفهم من الآية أو الحديث معنى صحيحا إذا سمعه العلماء وتدبروا وجدوه حقا، ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبههم ذلك العبد الصالح. ثم جاء القرن الثاني فتوغل أفراد في العبادة والعزلة وكثرة الصوم والسهر وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوقعوا في طرف من الرياضة... فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطان مسلكا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من العلم ما دافع به عن دينه كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين -الكتاب والسنة-" ذكرها ونحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في الاعتصام (106-121).
ومنهم من سلم له أصل الإيمان لكن وقع في البدع العملية، ومنهم من كان سلطان الشيطان عليه أشد فأوقعه في أشد من ذلك كما ترى الإشارة(9/514)
إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمرو القيسي من (لسان الميزان). ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة والجوع والسهر لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطان الشيطان عليهم، ثم نقلت مقالات الأمم الأخرى ومنها الرياضة وشرح ما تثمره من قوة الإدراك والتأثير، فضمها هواتها إلى ما سبق، ملصقين لها بالعبادات الشرعية، وكثر تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة، فمنهم من تعاطاها ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام والوحي، ويتدرع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى، ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلا للشكوك والشبهات التي أوقعه فيها التعمق في الكلام والفلسفة.
ومن أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، وكان من نتائج ذلك قضية الحلاج، ولعله كان في أقران الحلاج من هو موافق له في الجملة، بل لعل فيهم من هو أغلا منه إلا أنهم كانوا يتكتمون، ودعا الحلاج إلى إظهار ما أظهره حب الرياسة.
وكذلك مزج الفلسفة بالتصوف كان معروفا عن بعض الفلاسفة الأقدمين، وتجد في كلام الفارابي وابن سينا نتفا من ذلك.
وكذلك في كلام متفلسفي المغاربة كابن باجة وغيره؛ وهكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوف، فلما جاء الغزالي نصب التصوف منصب الكلام والفلسفة الباطنية، وزعم أن الحق لا يعدو هذه الأربع المقالات، وقضى ظاهرا للتصوف مع ذكره كغيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الإباحة المحضة، وفي ذلك نبذ الشرائع البتة، ثم لم يزل الأمر يشتد حتى جاء ابن عربي(9/515)
وابن سبعين والتلمساني، ومقالاتهم معروفة. ومن تتبع ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعم النظر في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم علم يقينا أنه لا يمكنه إن لم يغالط نفسه أن يصدق الشرع ويصدقهم معا، وإن غالط نفسه وغالطته، فالتكذيب ثابت في قرارها ولا بد.
هذا والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة" (1) .
وورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذكر في (فتح الباري) منها حديث ابن عباس (2) عند مسلم وغيره، وحديث أم كرز (3) عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان، وحديث حذيفة ابن أسيد (4) عند أحمد والطبراني، وحديث عائشة (5) عند أحمد، وحديث أنس (6) عند أبي يعلى.
__________
(1) رواه أحمد (2/233) والبخاري (12/464/6990) ومسلم (4/1774/2263(8)) والترمذي (4/461/2270) وابن ماجه (2/1282/3894) وأبو داود (5/282-283/5019) بنحوه.
(2) رواه أحمد (1/219) ومسلم (1/348/479) وأبو داود (1/545-546/876) والنسائي (2/534/1044) وابن ماجه (2/1283/3899).
(3) رواه أحمد (6/381) وابن ماجه (2/1283/3896) وصححه ابن حبان (13/411/6047)
(4) رواه الطبراني في الكبير (3/200/3051) والبزار (3/11/2121 كشف الأستار) وقال الهيثمي في المجمع (7/173): "ورجال الطبراني ثقات".
(5) رواه أحمد (6/129) والبزار (3/10/2118 كشف الأستار) قال الهيثمي (7/172): "ورجال أحمد رجال الصحيح".
(6) رواه أحمد (3/106) والبخاري (12/473/6994) ومسلم (4/1774) تحت حديث عبادة (2264) ولم يرقم. وابن ماجه (2/1282/3893) وأبو يعلى (6/41/3285)، وفي الباب عن عبادة وابن عمر.(9/516)
وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا...
فالكشف إذن تتبع للهوى؛ فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس، ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف، إنما يسعى في أن يضله الله عز وجل، ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل؛ وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل، دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنة، لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنة بالطريق التي كان يفهمها بها السلف الصالح.
فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل.
أولا: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل.
ثانيا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع، فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على(9/517)
تأويله؟.
وأما التحديث والإلهام ففي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" (1) . وأخرجه مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة، وفيه: "فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" (2) وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام.
وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم استدلال بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يخفى عليهم الحكم فيسألون عنه، فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصيرون إليه، وكانوا يقولون القول، فيخبرهم إنسان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فيرجعون إليه.
وأما الفراسة، فإن المتفرس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبه لها، فإذا شرحها عرفت، فإن كانت مما يعتد به عملت بها لا بالفراسة. (3)
موقفه من المرجئة:
قال رحمه الله في بيان عقيدة السلف التي ختم بها كتاب التنكيل: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:
__________
(1) أحمد (2/339) والبخاري (7/52/3689) والنسائي في الكبرى (5/40/8120) من حديث أبي هريرة. وفي الباب من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أحمد (6/55) ومسلم (4/1864/2398) والترمذي (5/581/3693) والنسائي في الكبرى (5/39-40/8119).
(3) التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل (2/255-260).(9/518)
اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ليس العمل من الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص. وروى الخطيب عن جماعة من أهل السنة إنكارهم ذلك على أبي حنيفة، ونسبته إلى الإرجاء، فتكلم الكوثري في تلك الروايات، وحاول التشنيع على أولئك الأئمة، وأسرف وغالط على عادته، فاضطررت إلى مناقشته دفعاً لتهجمه بالباطل على أئمة السنة... (1)
ونقل كلامه ثم قال: اختلفت الأمة فيمن كان مؤمناً ثم ارتكب كبيرة، فقالت الخوارج: يكفر، وقالت المعتزلة: لا يكفر ولكن يزول إيمانه، وإذا مات عن غير توبة دخل النار وخلد فيها مع الكفار، وقالت المرجئة: لا يكفر ولا يزول إيمانه ولا يدخل النار، لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقال أهل السنة: لا يكفر، ولا يزول إيمانه البتة بمجرد ارتكابه الكبيرة ولكنه يكون ناقصاً، وقال بعض الأئمة: إلا ترك الصلاة المكتوبة عمداً فإنه كفر، وحقق بعض أتباعهم أن الترك نفسه ليس كفراً، ولكن الشرع قضى أنه لا يكون إلا من كافر.
يستدل المرجئة والمعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن المؤمنين لا يعذبون، ويستدل المعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمناً، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرها أن ارتكاب بعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولين، بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث: بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان لا زواله، ويدفع المرجئة
__________
(1) التنكيل للمعلمي اليماني (2/383).(9/519)
الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان.
وهذا القول قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري أنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات.
بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف فيكفي لإنكار القول فهو مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة، ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم لم أتعب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساوٍ لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساوٍ لهم فيه!
وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما(9/520)
السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذاً أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟!
وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية، أما النصوص على أن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد وينقص بحسبها فمعروفة، حتى اضطر الكوثري إلى المواربة، فزعم أن أبا حنيفة إنما كان يدفع أن يكون العمل ركناً أصلياً لا أنه من الإيمان في الجملة، كاليدين والرجلين وغيرها من الأعضاء بالنسبة إلى الجسد هي منه وينقص بفقدها مع بقاء أصله، وإن كان في بعض عبارات الكوثري ما يخالف هذه الدعوى.
وأما النصوص على أن الإيمان القلبي يزيد وينقص، فمنها الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان. (1)
فأما قول الله عز وجل: * { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } (2) فليس فيها ما ينافي أن تكون الأعمال من الإيمان، وإنما غاية ما فيها أن الاعتقاد القلبي ركن ضروري
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبدالله بن أحمد المقدسي سنة (620هـ).
(2) الحجرات الآية (14).(9/521)
للإيمان، فلا يكون الإنسان مؤمناً حقاً بدونه، فإن قوله: لَمْ { } تُؤْمِنُوا نفي لإيمانهم، ويكفي في نفيه انتفاء ركن ضروري عنه كما لا يخفى، وقوله: وَلَمَّا { يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي } قُلُوبِكُمْ لا يقتضي أن الإيمان كله هو الذي يكون في القلب، ألا ترى أنه يصح أن يقال: لم يدخل الإسلام في قلب فلان... أو: لم يدخل الدين في قلب فلان. مع الاتفاق أن الإسلام والدين لا يختص بما في القلب.
وأما ما في حديث جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.." (1) فقد أجاب عنه البخاري في كتاب الإيمان من "صحيحه" قال: باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم"، فجعل ذلك كله ديناً، وما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: ِِ`tBur { يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ } مِنْهُ (2) .
وقصة وفد عبد القيس التي أشار إليها هي في "الصحيحين" أيضاً وقد أوردها فيما بعد فأخرج من طريق ابن عباس في قصة محاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: ..فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(2) آل عمران الآية (85).(9/522)
ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.." (1) فقد يقال: الإيمان في حديث جبريل منحوّ به المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي، ويؤيد ذلك أن السائل في حديث جبريل كان في الظاهر -كما يعلم من الروايات- أعرابياً لم يجتمع قبل ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ابتدأ فقال: ما الإيمان؟ كان الظاهر أنه إنما يريد بالإيمان ما يعرفه في اللغة، فإذا كان معناه في اللغة التصديق القلبي، فظاهر السؤال: ما الذي يطلب في الدين التصديق القلبي به؟.. وأما في قصة عبد القيس، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي ابتدأ فأمرهم بالإيمان ثم فسره لهم، فكان المعنى الشرعي للإيمان هو ما جاء في قصة عبد القيس.
فإن قيل: فإنه لم يستوعب الأعمال.
قلت: هذا السؤال مشترك، ولا قائل إن ما ذكر فيه من الأعمال هي من الإيمان دون غيرها، ومثل هذا في النصوص كثير من الاقتصار على الأهم، إما لعلم المخاطب بغيره، وإما اتكالاً على أنه سيعلمه عند الحاجة، وإما لأن في الإجمال ما يدل عليه، وكثيراً ما يقع الاختصار من بعض الرواة. (2)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(2) التنكيل للمعلمي اليماني (2/385-388).(9/523)
محمد بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم (1387 هـ)
موقفه من المبتدعة:
ذكر عبدالرحمن بن عبدالجبار أن هذا الشيخ كانت له نهضة سلفية في باكستان والهند، وذكر أنه كان أعجوبة العصر في الوقوف أمام المبتدعة. جاء في مسودة عبدالرحمن بن عبدالجبار: أحد نوابغ عصره ومن العلماء المفلقين في علوم الكتاب والسنة، وكان مولعا بنشر السنة والسلفية، قضى حياته في الدرس والإفادة والتأليف والوعظ والإرشاد، تخرج على المحدث الوزير أبادي، كان له مساهمة كبيرة في الحركات بباكستان التي كان أمينها العام، وله بحوث ومقالات علمية قيمة في الدفاع عن السنة والسلفية، وله ردود علمية على منكري السنة والمقلدة الجامدين.
ومن مؤلفاته:
1- 'تحقيق مسألة حياة الأنبياء'.
2- 'النهضة السلفية في الهند والباكستان'.
محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1) (1389 هـ)
الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. حفظ القرآن في سن الحادية عشرة، ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على والده مختصرات من علم التوحيد وأصول
__________
(1) الأعلام (5/306-307) وعلماء نجد (1/88) والإتحاف (1/105) والمستدرك على معجم المؤلفين (582).(9/524)
العقيدة والحديث وغيره. وفي سن الرابعة عشر من عمره فقد بصره، فصبر واحتسب واستمر في طلبه. تلقى الشيخ العلم على أيدي مجموعة من الشيوخ، فبالإضافة إلى أبيه وعمه، هناك الشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبدالله بن راشد بن جلعود وغيرهم. ومن تلاميذه: الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد وعبدالرحمن بن قاسم، وغيرهم كثير.
قال عنه الشيخ ابن باز: كان من أعلم الناس في زمانه ومن أحسنهم تعليما وتفقيها وعناية بالطالب وإيقاع الأسئلة. وقال الأمين الشنقيطي: عرفنا فيه وفور العلم ورجاحة العقل وتمام الحكمة والصبر المنقطع النظير وهو -رحمه الله- فيما أعتقد وأجزم به وإن كنت لا أزكي على الله أحدا فهو من نوادر الرجال الذين عرفناهم علما وعقلا وحكمة فنرجو الله أن يتقبل منه صالح عمله وأن يجزيه كل خير ويعلي درجته في الآخرة كما أعلاها في الدنيا، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف وله من العمر ثمان وسبعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله: كل بدعة ضلالة (1) : فيه أن البدعة ليس فيها حسن، ففيه الرد على من يقول أن هذه بدعة حسنة والرسول يقول ضلالة.
__________
(1) أخرجه أحمد (3/310-311و319و371) ومسلم (2/592/867) والنسائي (3/209-210/1577) وابن ماجه (1/17/45) من حديث جابر رضي الله عنه.(9/525)
وأما قول عمر: نعمت البدعة. المراد من جهة اللغة وإلا فأصلها مشروع فإنه من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ليال فلم يخرج خشية فرضها عليهم فأصلها معروف زمن النبي (1) .
أما تقسيم بعضهم البدعة إلى خمسة أقسام: فهذا غير مسلم. بل البدعة التي لا يسوغها الشرع بدعة ضلالة. وما كان لها ما يخولها من الدين ويدل عليها فليست بدعة ضلالة بل بدعة لفظية. (2)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: وأما الطواف بالقبر، وطلب البركة منه، فهو لا يشك عاقل في تحريمه وأنه من الشرك، فإن الطواف من أنواع العبادات فصرفه لغير الله شرك، وكذلك البركة لا تطلب إلا من الله، وطلبها من غير الله شرك كما تقدم في حديث أبي واقد الليثي (3) .
وأما النذر للقبر فلا يجوز، فإن النذر عبادة، وصرفه لغير الله شرك أكبر، كما قال الله سبحانه: يُوفُونَ { } بِالنَّذْرِ (4) . وكما في الصحيح من حديث عائشة: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (5) .اهـ (6)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(2) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن ابراهيم (1/257-258)
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الشيخ محمد بن عبدالوهاب سنة (1206هـ).
(4) الإنسان الآية (7).
(5) أحمد (6/36) والبخاري (11/712/6696) وأبو داود (3/593/3289) والترمذي (4/88/1526) والنسائي (7/23/3815) وابن ماجه (1/687/2126).
(6) فتاوى ورسائل محمد بن ابراهيم (1/122).(9/526)
- وقال أيضا: إن الغلو في قبور الأنبياء والصالحين واتخاذها مساجد وتشييد القباب والأبنية وإقامة الأضرحة وتعليق الستور المزركشة عليها وإسراجها بالشموع والأضواء كل ذلك من مظاهر الشرك وآثار الجاهلية التي لا يقرها الإسلام ولا تتفق مع أحكام شريعته المطهرة، ولذلك بالغ رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه في إنكار ذلك والتحذير منه أشد المبالغة، لئلا يفضي الأمر بهذه الأمة إلى اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين أوثانا تعبد من دون الله. (1)
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله: من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم علي بن محمد المطوع المحترم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك المؤرخ، الذي ذكرت فيه ما أجراه بعض الروافض عندكم أنهم صوروا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صورة مجسمة تجسيما كاملا، وزينوه بلباس فاخر بلحيته وعمامته، وجعلوا له ذيلا يستهزءون به في مجالسهم، ويرقصون حواليه، ويلعنونه، ثم أتوا بولد أبو عشرين سنة وأتوا بمطوعهم ليعقدوا للولد على عمر، ويجعلونه مثل الذين تعرفون، ثم عثرت عليهم الشرطة، فمسكتهم وأودعوا السجن، وتسأل عما يجب في حقهم شرعا؟.
__________
(1) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/141-142).(9/527)
والجواب: عن ما ذكرتم من هذا الأمر العظيم من فعل هؤلاء الروافض وتهجمهم على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذين اختارهم الله لصحبة رسوله، فقاموا معه خير قيام، وآمنوا به، وهاجروا وجاهدوا معه، ونصروه، وبذلوا في سبيل ذلك مهجهم وأولادهم وأوطانهم وأموالهم، وفدوه - صلى الله عليه وسلم - بجميع ذلك.
قال أبو زرعة العراقي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من الصحابة فاعلم أنه زنديق، وذلك أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة، فمن جرحهم فقد أراد إبطال الكتاب والسنة.
فإذا كان هذا في حق سائر الصحابة، فما بالك بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو أفضل الصحابة وأجلهم بعد الصديق بإجماع الأمة والبراهين القاطعة، والذي وردت في فضله الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة، ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" (1) وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد كان فيمن كان قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر" (2) أي ملهمون. وروى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف خالد بن يوسف النابلسي سنة (663هـ).
(2) تقدم تخريجه انظر (المهدي بن تومرت محمد بن عبدالله وبدعه في بلاد المغرب سنة (524هـ).(9/528)
جعل الحق على لسان عمر وقلبه" (1) وأخرج الترمذي أيضا عن عقبة بن عامر مرفوعا: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" (2) والأحاديث والآثار في هذا كثيرة معروفة.
وهؤلاء الروافض قد ارتكبوا بهذا الصنيع عدة جرائم شنيعة: منها الاستهزاء بأفاضل الصحابة رضوان الله عليهم وسبهم ولعنهم. ومنها التصوير، والتصوير من كبائر الذنوب الملعون فاعلها، مع أنهم لم يصوروه على خلقته رضي الله عنه بل صوروه صورة بهيمة، وجعلوا له ذيلا لتمام السخرية والاستهزاء قبحهم الله. وما أعظمها وأقبحها وأفضحها وأفحشها، ومنها تهجمهم عليه ووقاحتهم حتى أتوا برجل يعقدون له النكاح عليه قبحهم الله وأخزاهم، وهذا يدل على خبثهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، فيجب على المسلمين أن يغاروا لأفاضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يقوموا على هؤلاء الروافض قيام صدق لله تعالى، ويحاكموهم محاكمة قوية دقيقة، ويوقعوا عليهم الجزاء الصارم البليغ، سواء كان القتل أو غيره حسب ما يراه الحاكم بنظره المصلحي الشرعي، والمأمول من ولاة الأمور عندكم وفقهم الله وهداهم القيام حول ما ذكر بما يلزم شرعا بالضرب على هؤلاء بيد من حديد، غيرة لديننا وخيار سلفنا وزجرا لمن تسول له نفسه مثل صنعهم. ونسأل الله أن
__________
(1) أحمد (2/95) والترمذي (5/576-577/3682) وقال: "حسن غريب من هذا الوجه" وابن حبان (الإحسان 15/318/6895) وفي الباب عن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(2) أحمد (4/154). الترمذي (5/578/3686) وقال: "حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان". الحاكم (3/85/4495) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومشرح هذا قال فيه الحافظ في التقريب: "مقبول". قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/646): "وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات، وفي مشرح كلام لا ينزل عن رتبة الحسن، وقد وثقه ابن معين".(9/529)
ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، ويوفق ولاة الأمر لما فيه عز الإسلام والمسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: وقد اشتهر في النفي مذاهب أربعة: المعتزلة، والأشاعرة، والجهمية، والماتريدية، والماتريدية قريبة من الأشعرية إلا أن بينهما فروقا مذكورة في مواضعها.
الجهمية ينفون جميع الأسماء والصفات ولا يثبتون شيئا أو يثبتون "القادر" لأن مذهب جهم الجبر. وهم زعموا التنزيه فلجأوا إلى التشبيه، فلما تصوروا ذلك واعتقدوه كذبوا الرسول ولجئوا إلى التعطيل، فوقعوا في تشبيه أكثر من الأول.
والأشاعرة أثبتوا سبعا، وقالوا في البقية أنها أخبار آحاد ونحو ذلك.
ثم الأشاعرة في مسلكهم الردي في النصوص يقال لهم: يلزمكم فيما صرتم إليه، فإن قالوا: إرادة مثل إرادة المخلوق. قيل: شبهتم، وإن قالوا: إرادة تليق بجلال الله. قيل لهم: وكذلك قولوا في الرحمة وأثبتوا نصوص الكتاب والسنة. وكذلك يقال في سائر الصفات. والحق ما عليه أهل السنة وهو إثبات الصفات حقيقة مع قطعهم أن الجميع لا يماثل صفات المخلوقين. (2)
- وقال: وفي قوله: u×A¨"t\مB { مِنْ
__________
(1) فتاوى ورسائل محمد بن ابراهيم (1/248-250).
(2) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/201-202).(9/530)
} رَبِّكَ (1) دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة، كما هو قول "الجهمية" الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم، فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة جهميا.
فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزيد المبالغة في النفي والابتداء لكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه. وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فإن الجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبدالله القسري بواسط يوم النحر. وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه.
ولكن المعتزلة وإن وافقوا جهما في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضا، ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول إن الله لا يتكلم أو يقول إنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون إنه تكلم حقيقة. لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضا كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء.
__________
(1) الأنعام الآية (114).(9/531)
فالمقصود أن قوله: u×A¨"t\مB { مِنْ } رَبِّكَ (1) فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات. ولهذا قال السلف: منه بدأ. أي هو الذي تكلم به لم يبتدأ من غيره كما قالت الخلقية. (2)
__________
(1) الأنعام الآية (114).
(2) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/219-220).(9/532)
محب الدين الخطيب (1) (1389 هـ)
الشيخ محب الدين بن أبي الفتح محمد بن عبدالقادر بن صالح الخطيب. ولد بدمشق سنة ثلاث وثلاثمائة وألف من الهجرة، وتعلم بها، ثم رحل إلى صنعاء ثم إلى مصر (القاهرة) شاغلا مناصب مختلفة، آخرها محررا في جريدة الأهرام، وأصدر مجلته "الزهراء" و"الفتح"، وتولى تحرير "مجلة الأزهر" وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها، فنشر عددا كبيرا من كتب التراث الإسلامي.
توفي رحمه الله سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
كانت له أيادي بيضاء في نشر العقيدة السلفية والدفاع عنها، يظهر ذلك في تعاليقه الجيدة على المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي.
ومن آثاره السلفية:
1- 'الغارة على العالم الإسلامي'.
2- وله تعاليق غنية بالفوائد والدرر.
- قال في مقدمته على 'العواصم' لابن العربي: والتاريخ الصادق لا يريد من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث عن رجاله أن يذكر لهم حسناتهم على قدرها، وأن يتقى الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فيها ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من أكاذيبها.
نحن المسلمين لا نعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل من
__________
(1) الأعلام (5/282) والمستدرك على معجم المؤلفين (576-577).(9/533)
ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كاذب. فالإنسان إنسان، يصدر عنه ما يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر. وقد يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع فيعد من أهل الحق والخير، ولا يمنع هذا من أن تكون له هفوات. وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدر منه بوادر صالحات في بعض الأوقات.
يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات، أن لا ينسى ما غلب عليهم من الحق والخير، فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات. ويجب على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا علم لهم بوادر صالحات، أن لا يوهم الناس أنها من الصالحات من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم الصالحات. (1)
- قال في مقدمته على كتاب 'مختصر التحفة الاثني عشرية': والمسلمون الأولون -الذين تولى الهادي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تربيتهم وتوجيههم وإعدادهم للاضطلاع بمهمة الإسلام العظمى- كانوا المثل الكامل للعمل بالإسلام: في إيمانهم، وطاعتهم لله، وأخلاقهم الكريمة، وسياستهم الحكيمة، وفتوحهم الرحيمة، وتكوينهم المجتمع الإسلامي الصالح، والدولة الإنسانية المثالية. وقد كافأهم الله على ذلك بانتشار رسالته على أيديهم، وذيوع دعوته بين الأمم اقتداء بهم، واتباعا لهم. ولما تخطت رسالة الإسلام حدود الجزيرة العربية
__________
(1) مقدمة العواصم (46-47).(9/534)
المباركة -فدخلت العراق وإيران شرقا، والشام شمالا، ومصر وإفريقية غربا- كان ذلك سعادة للأخيار من أهل البلاد المفتوحة، وغذاء لعقولهم، وبهجة وحبورا تطمئن بهما قلوبهم. وشجى للأشرار منهم، وغصة في حلوقهم، ومبعث إحنة وغل تسممت بهما دماؤهم وأرواحهم. إن الأخيار من طبقات سالم مولى أبي حذيفة، وعبدالله بن سلام، وسلمان الفارسي، فالحسن البصري، وعبدالله بن المبارك، فمحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي حاتم الرازي، وابنه عبدالرحمن، وأندادهم وتلاميذهم، استقبلوا هداية الإسلام السليمة الأصيلة بأرواحهم وعقولهم، وفتحوا لها أبوابهم وصدورهم، وأحلوا لغتها محل لغاتهم، وعملوا بسننها بدلا من سننهم، ونسخوا بإيمانها كل ما كانوا -أو كان آباؤهم- عليه من قبل. فساهموا في حفظ كتاب الله وسنة رسوله الأعظم، وحرصوا على فهمهما كما كان يفهمهما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وعبدالله بن عمر وعبدالله ابن مسعود ومعاذ بن جبل ومن ائتم بهم وسار على منهاجهم، حتى صاروا بنعمة الله إخوانا للمسلمين كصالحي المسلمين، وأئمة للمسلمين كسائر أئمة المسلمين. (1)
- وقال في مقدمة تحقيقه على كتاب 'المنتقى من منهاج الاعتدال' للذهبي رحمهما الله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا
__________
(1) مقدمة مختصر التحفة الاثني عشرية.(9/535)
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (8) (1) . إن ظهور هذا الدين الإسلامي -على فترة من تاريخ الإنسانية- كان حادثا من أعظم أحداثها، بل هو أعظم أحداثها، فقد جاء لإقامة الحق: ما كان منه وما سيكون، فكل حق يواجهه البشر في ائتلافهم واختلافهم، وفي معاملاتهم وأقضيتهم وأحكامهم، وفي تفكيرهم وبحوثهم ودراساتهم وأنظمتهم، وفي تعاونهم على ما فيه خيرهم ومصالحهم: فهو من الإسلام. وحسب الإسلام مكانة في تاريخ التشريع أن يسميه الله "دين الحق" هُوَ { الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ } الْحَقِّ (2) ، وكل ما وافق العدل والقسط فالإسلام يدعو أهله إلى أن يقوموا به، وأن يشهد كل واحد منهم بما يعلمه منه، وأن يعملوا جميعا على بسط سلطان العدل ونشر لوائه في دار الإسلام وفي سائر آفاق الأرض كاملا وافيا بأقصى ما يستطيعونه، ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم، فالحق والعدل وإقامتهما والشهادة بهما عنصر الإسلام الأول، وخلقه المقدم، والسمة التي يجب أن يتميز بها أهله في طيبة قلب وصفاء فطرة وطهارة نفس وإيثار لما فيه مرضاة الخالق وطمأنينة الخلق. والعدل في نظام الإسلام من التقوى، والتقوى ميزان التفاضل بين المسلمين، والله خبير بأهلها
__________
(1) المائدة الآية (8).
(2) التوبة الآية (33).(9/536)
وبمن ينحرف عنها، لا تخفى عليه منهم خافية. وهذه الصورة المشرقة لهذا الإسلام الجميل هي التي تولى خاتم رسل الله تربية أصحابه عليها، وإعدادهم ليخلفوه في دعوة الإنسانية إليها، ولم يودع - صلى الله عليه وسلم - هذه الدنيا ويغمض بصره وراء سجف بيت عائشة أم المؤمنين المطل على مسجده الشريف ليلتحق بالرفيق الأعلى؛ إلا بعد أن أقر الله عينيه الكريمتين باجتماع الصفوة المختارة منهم صفوفا كالبنيان المرصوص، مسلمين أنفسهم وقلوبهم لله عز وجل في عبادته وطاعته، خلف خليفته فيهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي قال فيه وفي صنوه عمر بن الخطاب أخوهما علي بن أبي طالب وهو يخطب على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وفي مثل لمح البصر -بعد فاجعة الإسلام والمسلمين بفراق أكرم خلق الله على الله- لم هؤلاء البررة الأخيار شعثهم في جزيرتهم المباركة، ووحدوا صفوفهم العامة للجهاد، كما وحدوا في أيام احتضار الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفوفهم للصلاة، فسارت رايات أبي بكر متوجهة إلى العراق والشام حاملة أمانات الرسالة المحمدية إلى أمم الأرض أدناها فأدناها، وسرعان ما كافأهم الله على جهادهم الصادق بالنصر الموعود، فترددت أصداء دعوة "حي على الفلاح" في الآفاق التي خفقت فيها رايات قواد الخليفة الأول: أبي عبيدة، وخالد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وكان هؤلاء للشعوب التي اتصلوا بها معلمين ودعاة وأصحاب رسالة من الله ورسوله إلى البلاد التي عرفت أقدارهم؛ وفتحت أبوابها وقلوب أهلها لتعليمهم وتوجيههم. وبعد أن قرت عينا أبي بكر بنصر الله في بلاد الرافدين وربوع الشام اختاره الله لمجاورة الرسول - صلى الله عليه وسلم -(9/537)
في الأخرى، كما اختاره لصحبته في الدنيا، فأخذ دفة القيادة في سفينة الإسلام خليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر بشهادة أخيهما أبي الحسن رضي الله عنهم جميعا. ومضت قافلة الإسلام في طريقها ترعاها عين الله التي لا تنام، فواصلت كتائب الدعوة المحمدية سيرها إلى وادي النيل، ومنها إلى شمال إفريقية، كما توغلت أخواتها في مملكة كسرى إلى أقصى آفاقها، حتى إذا تآمرت على الدم العمري الشريف مكايد اليهودية والمجوسية، واختار الله إليه مثال العدالة في الأرض: يسر له مجاورة صاحبيه، فارتضى المسلمون للخلافة المحمدية عليهم أطيبهم نفسا وأرحمهم قلبا وأنداهم يدا وأحفظهم للقرآن وأصبرهم على بلاء الزمان: صهر نبيهم على كريمتيه، ولو كان له - صلى الله عليه وسلم - ابنة ثالثة لآثره بها، فكان عثمان لهؤلاء الصفوة البررة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخا مخلصا، ولأبنائهم أبا مشفقا، وكانت الأمة مدة خلافته في أرخى عيش وأسعد مجتمع، كما شهد بذلك عالمان من كبار التابعين: الحسن البصري وصنوه ابن سيرين، بينما كانت رايات ذي النورين بأيدي المجاهدين الأبطال من رجاله تخفق في آفاق قفقاسيا وما وراء الباب مما كان قواد الأكاسرة وأبطالهم لا يطمعون في الوصول إليه. وهكذا عرفت أمم المشرق وأمم المغرب هذا الإسلام من سيرة الصحابة وعدلهم، ورفقهم وحزمهم واستقامتهم على طريق الحق الذي قامت به السماوات والأرض، وبذلك تحقق فيهم قول صاحب الرسالة العظمى - صلى الله عليه وسلم - : "خير(9/538)
القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1) ... وهذا الحديث الشريف من أعلام نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الإسلام لم ير زمان سعادة وعزة واستقامة على الحق والخير كالذي رآه في زمان الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وتحديد ذلك إلى نهاية الدولة الأموية، وقد يلتحق به زمن الخلفاء الأولين من بني العباس الذين تربوا في البيئة الأموية. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج7صلى الله عليه وسلم4): اتفقوا -أي اتفق أئمة الإسلام- أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود سنة 220هـ، ثم ظهرت البدع، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا.
هذه المدة التي تنبأ عنها خاتم رسل الله - صلى الله عليه وسلم - ونعتها بأنها "خير القرون" وكان ذلك من أعلام نبوته، هي عصور الإسلام الذهبية التي لم ير الإسلام أعظم منها بركة، ولا أعز منها لأهله رفعة وسلطانا، ولا أصدق من جهاد قادتها جهادا، ولا أوسع من دعوتها إلى الله في أوسع الآفاق من أرض الله، وفيها انتشر حفظة القرآن في أنحاء المعمورة ورحل شباب التابعين إلى كل بقعة فيها صحابي يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من سنته السنية ليتلقوها عنه قبل أن تموت بموته، ثم رحل تابعوهم إلى كل بقعة فيها أحد من كبار التابعين يحفظ شيئا عن الصحابة ليحملوا عنه ما حمله عن شيوخه من
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الحلية (4/172) عن عمر بن الخطاب واستغربه. وقد صح الحديث بلفظ "خير الناس قرني..." من حديث ابن مسعود أخرجه: أحمد (1/334) والبخاري (5/324/2652) ومسلم (4/1963/2533[212]) والترمذي (5/652/3859) والنسائي في الكبرى (3/494-495/6031) وابن ماجه (2/791/2362).(9/539)
الصحابة، وهكذا وصلت أمانة السنة إلى رجال التدوين -من أمثال مالك وأحمد وشيوخهم ومعاصريهم وتلاميذهم- غضة يفوح منها عبق النبوة، هدية من الأمناء الحافظين إلى الأمناء الحافظين، فكان من ذلك أثمن تراث للمسلمين بعد كتاب الله عز وجل، فبهمة هؤلاء حفظ الله لنا هذه الكنوز، وبسيوفهم فتح الله للإسلام هذه الممالك، وبدعوتهم المباركة نشر الله دعوة الإسلام، فكان لنا اليوم هذا العالم الإسلامي بأوطانه وشعوبه وما فيه من علوم وعلماء كانوا في عصور الإسلام الأولى ملح الأرض وزينة الدنيا، وبصلاحهم وعودتهم إلى الله في أيامنا والأيام الآتية سيعود إن شاء الله لهذا الإسلام مجده وسلطانه، وستحيا بنهضتهم أنظمته وسننه، وما ذلك على الله بعزيز.
وكما أن أبناء السراة وأهل السعة يرثون عن آبائهم أملاكهم وأموالهم فتكون لهم بذلك العزة والمكانة في الدنيا، إلا أن يخدعهم عنها قرناء السوء فيوهموهم أن سعادتهم ومتعتهم في تبديدها والتفريط بها. كذلك هذا المجد الإسلامي الذي ورثناه عن الصحابة والتابعين لا نعلم لأمة من أمم الأرض مجدا يضارعه في مواريث الإنسانية، وأثمن هذا الميراث وأعظمه قدسية وبركة اهتمام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بجمع القرآن، وتوحيد تلاوته، وحفظه في المصاحف، ولو أن كل مسلم على وجه الأرض دعا لهم بالرحمة والرضا وعظيم المثوبة آناء الليل وأطراف النهار على ما أحسنوا به إلى المسلمين من هذا العمل العظيم لما وفيناهم ما في أعناقنا من منة لهم، سيتولى الله عنا حسن مكافأتهم عليها، ثم من أعظم كنوز هذا الميراث العظيم عناية(9/540)
كل صحابي بصيانة ما حفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديثه وخطبه وسيرته وتصرفاته وتشريعه في أمره ونهيه وإقراره، فأدوا -رحمهم الله ورضي عنهم- هذه الأمانة إلى إخوانهم وأبنائهم والتابعين لهم بإحسان بما لم يعهد مثله عن أصحاب نبي غيره من الأنبياء السابقين، فكان ذلك من أعظم مواريث الإنسانية كلها في الأخلاق والتشريع وتكوين الأمم الاجتماعي والتقريب بين البشر في طبقاتهم وأجناسهم وأوطانهم وألوانهم، ولا يغمط جيل الصحابة فيما قاموا به للإنسانية من ذلك إلا ظالم يغالط في الحق إن كان غير مسلم، أو زنديق يبطن للإسلام غير الذي يظهره لأهله إن كان من المنتسبين إليه. وميراثنا الثالث من المواريث التي صارت إلينا عن الصحابة حسن عرضهم هذا الإسلام على الأمم ممثلا بأخلاقهم الإسلامية السليمة وأعمالهم الجليلة الرحيمة، فحببوه بذلك إلى الناس، وعرفوهم به من طريق القدوة والأسوة، فكان ذلك سبب دخول الأمم في الإسلام إلى أقصى آفاق المعمورة المعروفة في أزمنتهم. وهذه الفضيلة قد شارك عمال الخلفاء الراشدين فيها من جاهد بعدهم من الصحابة والتابعين تحت رايات الخلفاء من قريش الذين كان من أعلام نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا التنويه بهم في حديث جابر بن سمرة في الصحيحين (1) ، ورؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قباء عن جهاد معاوية رضي الله عنه في
__________
(1) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة". ثم قال كلمة لم أفهمها. فقلت لأبي: ما قاله؟ فقال: "كلهم من قريش". أخرجه: أحمد (5/86،87،88،90) والبخاري (13/261/7222، 7223) ومسلم (3/1452-1453/1821[7]) واللفظ له. وأبو داود (4/471-472/4279،4280) والترمذي (4/434/2223) من طرق عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره.(9/541)
البحر، ورؤياه الثانية يومئذ عن حملة ابنه في حصار القسطنطينية (1) ، وهؤلاء الخلفاء من قريش الذين ورد النص عنهم في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة هم الذين جاهدوا وجاهد رجالهم تحت كل كوكب، وطووا آفاق الأرض يحملون هذه الدعوة إلى أقاصي المعمور من بلاد آسيا وإفريقية وأوربا، ومهما تنبض قلوبنا بشكرهم والوفاء لهم والثناء على ما نشروا في الدنيا من ألوية جهادهم لن نوفيهم عشر معشار ما كان ينبغي لنا أن نفعله، وإلا فأين هي الدراسات العلمية الصحيحة التي قمنا بها لتدوين أمجادهم العظمى وبطولتهم الكبرى، وأين هي المؤلفات العصرية التي كان ينبغي أن تكون في أيدي الشباب في جميع أقطار الإسلام، والتي تجعل القارئ منا كأنه معاصر لتلك الأحداث، مرافق لكتائبها وأعلامها، مشارك بمشاعره ومداركه وخفقات قلبه في كل نصر أحرزه الإسلام في الدنيا على أيدي الصحابة والتابعين وأتباعهم. (2)
موقفه من الرافضة:
من آثاره السلفية:
__________
(1) البخاري (6/127/2924) عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت يا رسول الله: أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا". قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا في البحر، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر. وقد حدث أنس بن مالك عن أم حرام هذا الحديث أتم من هذا السياق.
(2) مقدمة المنتقى من منهاج الاعتدال (3-8).(9/542)
1- 'الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية'.
2- تعليق على مختصر التحفة الاثني عشرية وقد ذيله بخاتمة عنوانها: "حملة رسالة الإسلام الأولون وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير وكيف شوه المغرضون جمال سيرتهم".
3- تعليق على العواصم والقواصم لابن العربي.
وله تعليقات أخرى نافعة.(9/543)
عبدالله بن علي بن محمد من آل يابس (1) (1389 هـ)
الشيخ عبدالله بن علي بن محمد من آل يابس، ولد في القويعية سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها، رحل إلى الرياض فأخذ عن الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ سعد بن عتيق والشيخ عبدالله بن محمود وغيرهم، ثم رحل هو وزميلاه الشيخ عبدالعزيز بن راشد وعبدالله ابن علي القصيمي إلى الأحساء ثم إلى بغداد، فأخذوا عن الشيخ شكري الآلوسي، ثم توجهوا إلى مصر. أقام المترجم في مصر نحوا من أربعين عاما، وهو يدافع عن عقيدة السلف، ويرد على المخالف، وله في ذلك المؤلفات القيمة.
رحل في أواخر حياته إلى نجد، فأدركه المرض، فتوفي في الرياض وذلك سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له: 'إعلام الأنام في الرد على محمود شلتوت'. (2)
جاء في 'علماء نجد خلال ثمانية قرون' (3) : وقد اجتمع كل من المترجَم له -يعني أبا يابس، والشيخ عبدالعزيز بن راشد، وعبدالله بن علي القصيمي، وعقدوا العزم على السفر إلى الهند لأخذ الحديث وعلومه عن علمائه، فمروا بالأحساء، فأقاموا فيه للقراءة على قاضيه الشيخ عبدالعزيز بن بشر.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/335-337) والأعلام (4/108).
(2) علماء نجد (4/337) والأعلام (4/108).
(3) 4/336-337).(9/544)
وبعد فترة غير قليلة توجهوا إلى بغداد في طريقهم إلى الهند، فأقاموا فيه للأخذ عن علمائه، وأشهرهم السيد شكري الآلوسي.
ولأمور سياسية عدلوا عن الهند، وتوجهوا ثلاثتهم إلى مصر، فالتحق الثلاثة بالأزهر، فأخذوا عن علمائه واستفادوا منهم فائدة كبرى، فكان الثلاثة من كبار العلماء، ولم تتأثر عقيدتهم السلفية بشيء، بل ظلوا على تمسكهم بعقيدة السلف الصالح، يوالونها ويدعون إليها ويدافعون عنها، وهذا لم يردهم من الاستفادة مما عند الأزهريين من علم التفسير والحديث وأصولهما، ومن توسع في علوم اللغة العربية، وكان من أشدهم مدافعة ومهاجمة، وردوداً على المنحرفين والمبتدعين، ولا سيما الشيعة، هو عبدالله ابن علي القصيمي صاحب القلم السيال، والحجة القوية، واللسان الذرب، فكبتهم بكتاباته العظيمة وبرسائله "البروق النجدية" وغيرها، إلا أنه انحرف -والعياذ بالله- بعد ذلك، وصار من أكبر الملاحدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
والقصد أن المترجَم استقر في مصر، وكانت إقامته في الإسكندرية، وكان هو أيضاً يدافع عن عقيدة السلف، فقد ردَّ على الشيخ محمود شلتوت.
ولما انحرف زميله القصيمي وصنف كتابه 'هذي هي الأغلال' ردّ عليه المترجَم بكتاب سماه 'الرد القويم على ملحد القصيم'.
وله غير ذلك من الكتب المفيدة النافعة.(9/545)
والحقيقة أن الله تعالى نفع به وبزميله عبدالعزيز بن راشد في الإسكندرية في بث عقيدة السلف.
موقفه المشركين:
له: 'الرد القويم على ملحد القصيم'، رد فيه على كتاب 'هذي هي الأغلال' لعبدالله القصيمي. (1)
عبدالرحمن الوكيل (2) (1390 هـ)
الشيخ عبدالرحمن عبدالوهاب الوكيل، ولد في قرية زاوية البقلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وحفظ القرآن ثم التحق بالمعهد الديني في طنطا، ومكث فيه تسع سنوات. وحصل على الإجازة العالية وعلى درجة العالمية وإجازة التدريس ثم عين في المعهد العلمي بالرياض سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة. وفي سنة ثمانين وثلاثمائة وألف انتخب رئيسا لجماعة أنصار السنة المحمدية بعد الشيخ عبدالرزاق عفيفي.
قال فيه الشيخ محمد عبدالرحيم: لقد كان الشيخ عبدالرحمن الوكيل موفور الحظ من اللغة وجمال البلاغة ووضوح المعنى وسعة الاطلاع وشرف الغاية، كما جمع علما مصفى من شوائب البدع والخرافات الصوفية. وقال الدكتور سيد رزق الطويل: لقد كان في أخلاقه نسيج وحده، سموا في الخلق وعفة في اللسان، طلق المحيا منبسط الأسارير، واسع الثقافة متنوع المعرفة أديبا
__________
(1) علماء نجد (4/337) والأعلام (4/108).
(2) مجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1416هـ/ص.34-37).(9/546)
شاعرا.
كان الشيخ رحمه الله يعرف بهادم الطواغيت أي الصوفية وله في ذلك مؤلفات جليلة تدل على سعة علمه واطلاعه.
توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة تسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ودفن بـ"الحجون".
موقفه من المبتدعة:
قال في كتابه 'الصفات الإلهية': أمة القرآن: ولقد آتى هذا الإيمان العظيم أكله، فجعل من أصحابه خير أمة أخرجت للناس، وأعظم جماعة تسامت بكرامة الإنسانية وبدد بنوره الذي أشرق في قلوب هؤلاء، وأشرقوا به على الناس، بغي الصليبية، وكيد الصهيونية ودنس المجوسية، ومكن لهم بنصر الله في الأرض، فأشرق في أرجائها جلال التوحيد، وروحانية الإيمان، وصفاء الخير، ونقاء الحب، ووداعة السلام، وتلاقت الأرحام على أقدس أخوة عرفها تاريخ بني الإنسان.
فأروني الأمة التي أخرجها علم الكلام، ودعاته ألوف ألوف، وقد خيم على العقول القرون الطوال؟ إننا لا نجد أمته إلا أمة ضلالة ذاهلة وحيرة شاردة، وإن التاريخ لم يسجل لأمة غير هذا الذي نقول؟ وسجل له أنه كان من الظلمات التي حاولت أن تغتال النور في قلوب هذه الأمة وتاريخها المجيد.
كيد دنيء: هكذا فعل الإيمان العظيم الذي تحدثنا عنه بهذه الأمة. ولكن أبى المسعرون بالأحقاد أن تظل هذه القوة العظيمة المنتصرة تبطش بالجور والسفه والضلالة والكفر، وتشيد في كل لحظة مجدا لقوة الحق، وجلالة(9/547)
الإيمان، وإيثار الأخوة السمحاء، وللوحدة القوية التي تجعل من البشرية أسرة واحدة.
كما أبوا أن يستكينوا إلى ذل الهزيمة، فأوغلوا في الكيد وظلوا بالمسلمين يمارسون -في دهاء- فتنتهم، حتى استطاعوا الظفر بمن يهجر القرآن، ويتنكر للسنة، ويمجد البدعة، ويسجد للخرافة "وإذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل -كما يقول ابن تيمية- انتقم الله ممن خالف الرسل، فإنه لما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط الله عليهم الكفار. ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام، وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار" وقول الإمام ابن تيمية حق هدى إليه القرآن، وامتلأ بآياته التاريخ. (1)
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية:
1- صوفيات أو 'هذه هي الصوفية'. وهو مطبوع ومتداول.
- ومما قال فيه رحمه الله: للصوفية مدد من كل نحلة ودين إلا دين الإسلام، اللهم إلا حين نظن أن للباطل اللئيم مددا من الحق الكريم، وأن للكفر الدنس روحا من الإيمان الطهور. والصوفية نفسها تبرأ إلا من دين طواغيتها مؤمنة بأنه هو الحق الخالص. يقول التلمساني -وهو من كهان الصوفية- "القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا" وابن عربي يزعم أن رسول الله أعطاه كتاب فصوص الحكم -وهو دين زندقة- وقال له: "أخرج
__________
(1) الصفات الإلهية (10-12).(9/548)
به إلى الناس ينتفعون به- ويقول: فحققت الأمنية كما حده لي رسول الله بلا زيادة ولا نقصان" ثم يقول:
فمن الله، فاسمعوا ... وإلى الله فارجعوا
على حين يذكر الحق وتاريخه الصادق أن الصوفية تنتسب إلى كل نحلة مارقة، وتنتهب منها أخبث ما تدين به، ثم تفتريه لنفسها، مؤمنة به، وتحمل على الإيمان به كل فراشة تطيف بجحيمه، وإلا فهل من الإسلام أسطورة وحدة الوجود، وخرافة وحدة الأديان؟ فتلك تزعم أن الله سبحانه عين خلقه، عينهم في الذات والصفات والأسماء والأفعال، تزعم أن واهب الحياة، وخالق الوجود عين الصخر الأصم، والرمة العفنة، ووحدة الأديان تزعم أن كفر الكافر، وخطيئة الفاجر عين إيمان المؤمن، وصالحة الناسك، وتزعم أن دين الخليل هو دين أبيه آزر، وأن إيمان موسى عين كفر فرعون، وأن وثنية أبي جهل عين توحيد محمد، فكل رب الدين ورسوله، كل تعين للذات الإلهية، غير أنها سميت في تعين بمحمد، وفي آخر بأبي جهل، وهي هي في مظهريها، أو اسميها، تزعم أن دين إبليس وإيمانه عين دين أمين الوحي، وروح إيمانه، بل زادت الخطيئة فجورا، فزعمت أن إبليس أعظم معرفة بآداب الحضرة الإلهية من أمين الوحي، وأسمى مقاما.
أفمن دين الإسلام هذه الخطايا الكافرة؟. (1)
- وقال رحمه الله: كانت الجاهلية في إسفافها الوثني أقل حماقة من
__________
(1) هذه هي الصوفية (ص.19-20).(9/549)
الصوفية، وتدبر ما قصه الله عن الجاهلية وشركها، تجدهم كانوا يوحدون الله في ربوبيته توحيدا حرمت حتى من مثله قلوب الصوفية، إن كانت لهم قلوب، يقول تعالى: قُلْ { لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } (89) (1) .
هذا دين الجاهلية ولكن الله لعنهم لعنا كبيرا بشركهم، لأنهم أشركوا بالله في إلهيته، فتضرعوا إلى غيره بالدعاء.
أما الصوفية فتدين بالقتلة والمجرمين، وأوغاد الفاحشة أقطابا يتصرفون في الوجود، ويسيطرون بقهرهم على سنن الله الكونية ونواميس الوجود التي فطرها الله وحده، وهو الذي يصرفها وحده، ويتحكمون في أقدار الله، فلا ينفذ منها إلا ما يشتهون، فأي الشركين أطغى بغيا، وأخبث رجسا؟ لقد
__________
(1) المؤمنون الآيات (84-89).(9/550)
وحدت الجاهلية الله في ربوبيته، وأشركت به في ألوهيته، أما الصوفية فنفتهما عنه، وأثبتتهما للمفاليك الصعاليك، بل انحدرت حتى نفت وجود الله الحق، ونعتته بالعدم الصرف، أفيمكن أن يقاس إلحاد الصوفية، بشرك الجاهلية؟ أم ترى هذا ليلا غاسقا، وترى الإلحاد الصوفي دياجير تطغى، وتتراكم، وتطول، حتى لا يعرف الأبد فيها بدايته، أو منتهاه؟ أجيبوا يا كهنة الصوفية ولكن، لا: فحسبي أن الجواب مسفر الصبح، وضيء البيان، قوي الدلائل. (1)
وله تقديم وتعليق على كتاب 'تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي' وكتاب 'تحذير العباد ببدعة الاتحاد' وكلاهما للبقاعي، تحت عنوان 'مصرع التصوف'.
- قال رحمه الله في مقدمة الكتاب: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ورسوله. إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي العداوة للدين الحق. فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية، وديصانية. تجد أفلوطينية، وغنوصية. تجد فيه يهودية، ونصرانية، ووثنية جاهلية. تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة صوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفرا جديدا مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: (تصوف) وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامى والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام، أقولها
__________
(1) هذه هي الصوفية (ص.135).(9/551)
عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف، ولكن سلوا الصوفية سودا وبيضا، خضرا وحمرا، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق الحق؟ سيقولون ما قالت وثنية عاد: إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها. (1)
- وقال رحمه الله متعقبا ابن خلدون في تقسيمه طريق المتصوفة إلى طريقة السنة وطريقة هي مشوبة بالبدع: ما كان من الصحابة ولا من التابعين صوفي، ولم يسم واحد منهم بهذا الاسم المرادف للزنديق، والصوفية منذ نشأوا وحيث كانوا عصابة تنابذ الكتاب والسنة، لا يفترق في هذا سلفهم عن خلفهم في هذا، غير أن بعضهم كان أشد جرأة من بعض في البيان عن زندقته، ودليلنا ما سجله التاريخ الحق، وما خلفوه هم في كتبهم من تراث وثني طافح بالمجوسية الغادرة، فتقسيم ابن خلدون هذا مجاف للصواب، ولكنه خدع كغيره فيما يشقشق به الصوفية من زور النفاق، إذ يزعمون كاذبين أن طريقهم طريق الكتاب والسنة، وابن خلدون نفسه يقر بأنه بدعة، إذ يقول في مقدمته عن التصوف: "هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة" ثم هل في الكتاب والسنة أن قبر الكرخي يقسم به على الله فيستجيب، ويستشفى به فيهفو الشفاء، وأن الصوفية هم غياث الخلق؟ كما
__________
(1) مصرع التصوف (ص.10).(9/552)
زعم القشيري في رسالته، وهو من سلف الصوفية المتقدمين، وأقلهم شناعة في إفك المتصوف. أجاء في السنة أن العزوبية تباح لهذه الأمة بعد المائتين من الهجرة، وأن تربية الجرو أفضل من تربية الولد كما زعم أبو طالب المكي في قوته، ونسب فريته المانوية إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ أفيها أن الدين شريعة وحقيقة، وأن هذه أفضل من تلك؟ أفيها أن المريد لابد له من شيخ، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟ أفيها أن قلب المريد بيد شيخه يصرفه بهواه؟ أفيها أن غضب الشيخ من غضب الله؟ أفيها أن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كجثة الميت بين يدي الغاسل؟ أفيها أن الولي أفضل من النبي؟ أفيها أن العارف يسمع كلام الله كما سمعه موسى؟ أفيها أن الذريات تسبح بحمد الأولياء، وأن هؤلاء يفقهون تسبيحها؟ كما زعم الغزالي؟ تلك بعض مفتريات سلف الصوفية الأقدمين، بهتوا بها الحق والهدى منذ سمي أول رجل منهم بالصوفي في منتصف القرن الثاني للهجرة وبعده، وتلك بعض ضلالات أولئك الأول الذين يزعم لهم ابن خلدون -وغيره- أن طريقهم مؤيد بالكتاب والسنة، أفتنسم على روحك مما نقلته عنهم نسمات حق، أو عبير هدى؟ كلا بل إنه يحموم كفر ومجوسية، ألا فلنقل الحق: ما من صوفي إلا وهو يسلك طريق الشيطان وحده من سلف ومن خلف. (1)
- وقال رحمه الله: الخبير بحال الصوفية -سلفهم وخلفهم- والمتأمل في كتبهم يوقن أن الصوفية منذ نشأت، وهي حرب دنيئة -خفية أو
__________
(1) هامش (ص.150-151) من الكتاب نفسه.(9/553)
مستعلنة- على الإسلام، هذا القشيري الصوفي القديم (ولد سنة 376هـ وتوفي سنة 465هـ) هذا هو يقول في رسالته عنهم: (ارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركنوا إلى اتباع الشهوات. وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدانية) (ص.2-3) الرسالة للقشيري. هذه شهادة عليهم في القرن الرابع الهجري من رجل يعدونه المثل الأعلى للصوفية العملية المعتدلة، وإنها لتدل على أن الصوفية من قديم تواصوا بالكيد للإسلام، وإنا لا تخدعنا هذه الشفوف من النفاق الصوفي، إذ هم السم الناقع يتراآ شهدا مذابا. فالقائلون بما هلل له البقاعي هم عين القائلين بما يخنقك منه يحموم الزندقة، فالقشيري نفسه يقول في مقدمة رسالته عن أهل الطريقة: (جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه) يفضل الصوفية على السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم يقول: (جعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق) وماذا بقي لله إذا كان هؤلاء غياثا للخلق؟ وماذا للصحابة من طوالع الأنوار ومعادن الأسرار إذا كان هؤلاء وحدهم كذلك؟ ثم يقول: (ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية) إذا فهم عند القشيري أعظم مقاما من خليل الله إبراهيم، ومن محمد(9/554)
عليه الصلاة والسلام؟ فتأمل في الأستاذ القشيري، وفي قوله، وفيما خلفه في رسالته، ثم اسمع إليه ينقل في رسالته: (لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا، المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه) (انظر مقدمة الرسالة وص.164 منها) وهذه زمزمة قديمة بزندقة الاتحاد ووحدة الشهود. (1)
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
- 'الصفات الإلهية' وهي من خيرة ما ألف في هذا الباب، فقد أبلغ في النصيحة لأهل الكلام قاطبة.
- قال رحمه الله: ولقد رأيت من البر بالحقيقة، ومن الإحسان في الدعوة إلى الله أن أنشر هذه النصوص الوفيرة لأئمة الأشاعرة، بل لأعظم أئمتها، وهم: "أبو الحسن الأشعري، إمام الأشاعرة الأول، والباقلاني، والجُوَيْني، وابن فُورك، والرازي، والغزالي" وسيرى أولئك الذين أضَلتهم فتنةُ الخلفية أن أئمة الأشاعرة قد اعترفوا اعترافاً صريحاً كاملاً بأن طريقة السلف هي الأسلم، وبأنها هي الأعلم، وبأنها هي الأحكم. وبأن طريقة الخلف حيرة وشك وضلالة أوهام.
وإني لأرجو أن يحمل هذا بعضَ الذين يحسنون الظن "بالخلفية" على
__________
(1) هامش (ص.232).(9/555)
الرجوع إلى الإيمان الصحيح، وعلى أن يكسروا من حدة غلوائهم في اتهامنا بالتمثيل، وبالتجسيم، وعلى أن يؤمنوا أن خلف الأشاعرة لا تصلهم رحمٌ ما بسلف الأشاعرة، فقد عاش أبو الحسن -بعد توبته- يؤكد في كل كتاب له: أنه على عقيدة سلف هذه الأمة. أما متأخرو الأشاعرة، فقد لُقِّبوا بأنهم "مخانيث الجهمية والمعتزلة" لأنهم أَوْغَلوا في التأويل إيغالاً أدى بهم إلى التعطيل.
فليتدبر الذين يزعمون أنهم أشاعرة أو خلف، فلعل إشراقة من نور الحق تبدد ما غام على نفوسهم من غَيِّ الخلفية وفتنتها.
نصيحة من القلب: وليتدبر أولئك الإخوان الذين نشهد لكثير منهم بحسن القصد والسعي في سبيل الخير والحق، فَثَمَّت فيهم من يدين بالخلفية الجهمية، ويفتي بها غير مقتصد، ولا مُسْتَدِل بكتاب، أو سنة.
وينكر أن الله استوى على عرشه، وأن له يدين، وأن له وجهاً، ويقترف تفسيراً كله زيغ وضلالة وإفك قديم لكل آية أخبر الله فيها عن استوائه ويديه ووجهه سبحانه.
فهل هذه الخلفية هي "السنة" التي يزعم هؤلاء المفتون أنهم يؤمنون بها، ويعملون بها، ويجاهدون في سبيل أن يجعلها المسلمون لهم منهاجاً وسبيلاً إلى الله؟
لا أظن أنهم يجرءون على اقتراف هذا الزعم، فما نجمت الخلفية إلا بعد قرون، ولا أظن أنهم يجرءون على اتهام الصحابة والتابعين بأنهم لم يكونوا على بينة من دينهم، وبأن "الرازي وأضرابه" كانوا أبر بكتاب الله من أبي(9/556)
بكر وعمر؛ أو كانوا أسلم وأحكم وأعلم، وأعظم فهماً للكتاب من صفوة هذه الأمة؟
إن من يؤكد للناس أنه "عامل بالكتاب والسنة" يجب عليه أن يكون هو القدوة الحسنة في ذلك، فيعتقد في الله سبحانه ما كان يعتقده خير العاملين بالكتاب والسنة، رسول الكتاب والسنة، أما أن يعتقد فيه ما كان يعتقده "الرازي" مثلاً، فهو بهذا يناقض ما يدعيه، ويثبت أنه عامل "بالرازي" لا بالكتاب والسنة.
ترى هل ظلت الأمة كلها أربعة قرون جاهلة بمراد الله، ضالة عن معرفته حتى ظهر أمثال "الرازي" فدل هذه الأمة على دينها؟. (1)
- وقال بعد ذكره النصوص الواضحات من كتب أبي الحسن الأشعري التي تدل على اعتناقه مذهب السلف: كل هذا، بل بعضه يدمغ بالجور أولئك الأشاعرة الذين يمقتون أن يُنْسب إلى الأشعري أنه كان يمجد عقيدة السلف. وذلك حين يتراءون بالارتياب في صحة نسب كتابه 'الإبانة' إلى الأشعري، أو حين يزعمون أنه رجع عما فيه، فألف الكتب التي تنقض ما أثبته فيه، والإبانة في الحقيقة هو آخر كتاب ألفه.
ولا أظن في أشعري مسلم، أنه يرتضي أن يُتهم إمامُه بالردة عن دين الحق، أو بأنه كان نَهْبَ الحيرة والاضطراب في عقيدته، أو بأنه كان ذا وجهين، وجه ينافق به المعتزلة والمعطلة، فيكتب في تأويل الصفات أو نفيها،
__________
(1) الصفات الإلهية (ص.32-34).(9/557)
ووجه آخر ينافق به السلفيين، فيكتب في إثبات الصفات.
ولا أظن في إنسان يحترم الحقيقة أنه يجنح إلى الريبة في صحة نسب الكتاب إلى الأشعري من غير دليل إلا إن كنا نعتبر نزغ الهوى دليلاً، كما لا أظن أنه يرتاب في أن الأشعري ظل يؤمن بكل كلمة قالها فيه، ولم يؤلف كتاباً آخر ينقض به ما أثبته في الإبانة.
والذين يجلون الأشعري، ويفخرون بالانتساب إليه، لا أظن أيضاً أنهم يجرؤون على إنكار هذه الحقيقة التي أذكرهم بها مرة أخرى: تلك هي أن ما انتهى إليه مذهب الأشعري على يد بعض أتباعه يخالف ما كان عليه الأشعري نفسه، ويناهضه وأن ما كتبه الرازي، أو الجويني وغيرهما من تأويلات يناقض عقيدة الأشعري كل المناقضة، وينتسب برحمٍ ماسَّةٍ إلى المعتزلة والجهمية الذين كفَّرهم أبو الحسن الأشعري، فهل بعد هذا أستطيع أن أُقْدِم على الظن بأن أشاعرة اليوم لن يُقْدِموا على تحطيم إمامهم الكبير؛ ليبنوا على أنقاضه بعض الذين أبوا إلا أن يجحدوا بدين إمامهم الكبير، وإلا أن يعينوا عليه عدوَّه من الجهمية والمعتزلة، وإلا أن يَسُبُّوا كبار أئمتهم كالأشعري، ليسبوا -بَغْياً- أنصار السنة؟. (1)
محمد بن اليمني الناصري (2) (1391 هـ)
__________
(1) الصفات الإلهية (ص.52-53).
(2) صل النصال للنضال لعبد القادر بن سودة.(9/558)
محمد بن اليمني بن سعيد الناصري، ولد بمدينة الرباط بالمغرب الأقصى يوم الخميس تاسع رجب سنة ثمان وثلاثمائة وألف، رحل لطلب العلم إلى المدينة النبوية سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف. وهو شقيق محمد المكي الناصري المشهور.
شيوخه كثيرون، من أشهرهم: أبو شعيب الدكالي.
له كتاب: 'الأعلاق الغالية في الأخلاق الغالية'، و'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار' في الرد على الصوفية، و'ديوان شعري'.
توفي بالمدينة النبوية يوم الجمعة العاشر من صفر سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في رده على صاحب 'غاية الانكسار': إنك وأمثالك في واد والدين الطاهر النقي في واد آخر، لخروجك عن سننه وانتصارك للمبطلين البطالين بالباطل المحض.
لعلك التبس عليك الأمر فنسبت ذلك إليه، والحال أن الأمة الإسلامية هي الذابلة السقيمة الضعيفة لخروجها عن سننه، وهجرها لفروضه وسننه، بتدجيل الدجالين أمثالك، المحتالين على سلب ضعاف العقول عقولهم وأموالهم، وتركهم تحت نير الاستسلام للمتجرين باسم الدين، والانقياد لعمائمهم وسبحهم وتلوناتهم، ولباسهم لكل من حال من الأحوال الشيطانية لبوسها، وضربهم بالأسداد على عقولهم حتى لا ينفذ إليها ما ينور أفكارهم(9/559)
وينبههم إلى مواقع سقطاتهم من تعاليم ديننا الصحيحة، ونصوصه البينة الواضحة الصريحة؛ حتى إن من أولئك الدجالين من يحرم نشر العلم وتدريسه في المجالس العامة بدعوى أن العلماء إنما يقصدون بتعليمه الرياء والسمعة حسبما نص عليه حافظ المغرب في عصره العلامة ابن عبدالسلام الناصري في رحلته الحجازية العلمية، فانظره إن شئت.
ومنهم من يمنعهم من التوغل في الفقه؛ بدعوى أنه يقسي القلوب؛ ويحرمها من التعلق بعلام الغيوب.
ومنهم من يمنعهم كبعض فقهائنا المبتلين بداء الجمود والخمود من النظر في الحديث بدعوى أنهم مقلدون، وأن النظر في علم الحديث رواية ودراية إنما هو من وظيف المجتهد المطلق، مع أن الحديث هو المبين لمعاني كلام الله تعالى ومقاصده العالية. (1)
- وقال تحت فصل: (ما القصد من زيارة الأموات مطلقا؟): أما زيارة الأموات أنبياء كانوا أو أولياء أو غيرهم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفانا مئونة استفتاء صاحب 'نهاية الانكسار' فيها -على أنه ليس أهلا للاستفتاء- إذ بين لنا - صلى الله عليه وسلم - بكلام عربي مبين؛ أن القصد منها هو تذكر الآخرة بقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور أما الآن فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة" (2) .
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.29-30).
(2) أحمد (5/305) ومسلم (2/672/977) والنسائي (7/269/4441-4442) من حديث أبي بريدة الأسلمي رضي الله عنه.(9/560)
بين لنا - صلى الله عليه وسلم - أن القصد منها هو تذكر الآخرة لا الاستمداد ولا اعتقاد التأثير كما تدل عليه بعض عباراتك... ضمنا وتصريحا، مما يدل على أن حب الموت والموتى برح بك تبريحا.
والذي نفسي بيده لو أتى الملايين من العلماء الأعلام، ومعهم الملايير من أصحاب الطبول والأبواق والأعلام، كيفما كانت مراكزهم وهزاهزهم، وهزاتهم، وأرادوا تحويلنا عن هذا الاعتقاد الصحيح في نظر الشرع وأمام العقل الراجح؛ ما تحولنا ولا حلنا ولا زلنا لوضوح معنى الحديث، وظهور مدلوله في القديم والحديث. (1)
- وقال تحت فصل: (هل يجوز البناء على القبور؟): البناء على القبور ممنوع شرعا وطبعا.
أما الشرع فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا كما في الصحيح (2) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - لزينب وأم حبيبة لما قدمتا من الحبشة ووصفتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما شهدتاه على قبور صلحاء الحبشة من المساجد والقباب: "أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" أو كما قال وهو في
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.60-61).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف فوزان السابق سنة (1373هـ).(9/561)
الصحيح أيضا (1) . وفي سنن الترمذي وأبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (2) .
إننا لسنا بصدد التوسع في الاستدلال على منع البناء على القبور، وإنما حدا بنا إلى هذا تأويل البيضاوي لحديث عائشة رضي الله عنها بحمله على اتخاذ قبور الأنبياء قبلة والصلاة إليها؛ فإنه غير واقع موقعه، ولا حال موضعه؛ لما يرده من صريح السنة كحديث زينب وأم حبيبة، وحديث أبي داود والترمذي المتقدمين وغيرهما من الأدلة الصحيحة، ولو عاش البيضاوي إلى زماننا على فرض صحة تأويله ورأى توسع الأمة الإسلامية في زخرفة أضرحة أوليائها وصلحائها، وتشييد القباب عليهم على هيئة تستلفت أنظار الغافلين وتؤثر على نفوسهم، وشاهد ما يجري حولها -مما صار معلوما عند الخاص والعام- لرجع عن فكره؛ على أن تأويله ليس بلازم لنا ما دام بين ظهرانينا من يحسن النظر في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما طبعا؛ فلأن الطباع السليمة التي تعلم أن القبر مظهر من مظاهر الحزن والأسى والأسف، وموطن من مواطن الفناء والبلى والعظام النخرة والظلمة والانحلال والدود والحشرات، لا تروق في أنظارها تلك البناءات الضخمة، والقباب الفخمة، التي تمثل زهرة الحياة الدنيا وترغب في العيش بهذه الدار الفانية؛ دار الأنكاد والأحقاد والفساد والإفساد، وتقضي على
__________
(1) أحمد (6/51) والبخاري (1/699/434) ومسلم (1/375/528) والنسائي (2/371/703).
(2) أخرجه أحمد (1/229) وأبو داود (3/558/3236) والترمذي (2/136/320) والنسائي (4/400/2042) وابن ماجه (1/502/1575) وقال الترمذي: "حديث حسن". وصححه ابن حبان (7/452-453/3179).(9/562)
زائرها بتوسيع الأمل، وتحمل البله والمغفلين والجهلاء على اعتقاد التأثير لأربابها بما تبقيه فخامتها وضخامتها من الأثر في نفوسهم.
والله لو أبصرت عيناك ما صنعت لما انتفعت بعيش بعدهم أبدا ... يد الزمان بهم والدود يفترس
أما هم من جنى الدنيا فقد يئسوا
حسب الإنسان العاقل من الوقوف على القبر أن يتذكر مآل نفسه، ويتعظ ويعتبر ويتهيأ للحلول في رمسه، ويقول:
يا بني الدنيا استريحوا نحن قوم أين سرنا ... سَيْرنا عنكم إلى الله
ونهجنا حسبنا الله (1)
- وقال تحت فصل: (من هي الفرقة الناجية؟): إن من له أدنى مسكة من العلم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم بالله أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (2) ، وهي التي تستقيم على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام.
فبالله عليك يا صاحب 'نهاية الانكسار' من هي الفرقة الناجية من هذه الفرق الموجودة الآن التي قمت تدافع عنها بكل قواك وما أحسنت الدفاع؟ ومن هي هذه الفرقة الملازمة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، المحافظة على آداب دينها الطاهر، المنابذة لما يمس بسمعته الحسنة ومبادئه القويمة المستحسنة؟ لعلك من المائلين إلى القول بأن المراد بالفرق في الحديث الشريف: الفرق الضالة كالمعتزلة ونحوهم ممن اندرست آثارهم، ولم تصلنا
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.61-63).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).(9/563)
إلا أخبارهم. إن كنت قائلا بهذا، والظن أنك قائل به؛ فإننا نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بيننا وبينك في هذا الحديث نفسه بأن الفرقة الناجية هي المعتنقة لما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ على أن تلك الفرق الضالة قد ذهب جلها إن لم نقل كلها بما له وما عليه، ولم تكن في نظري ونظر ذوي النظر الصائب ممن مارس التاريخ وزاوله إلا أتقى وأنقى بكثير وأبعد نظرا وأبهى مخبرا ومنظرا من بعض الفرق الموجودة الآن؛ إذ ليس منهم من كان يفضل كلام المخلوق العاجز الضعيف الحادث على كلام الخالق القادر القوي القديم سبحانه، ولا من يتخذ ضرائح الأولياء والصلحاء ملجأ وكعبة وقبلة يتوجهون إليها كما يتوجهون إلى الله تعالى، ويتطوفون بها ويتمسحون بجدرانها، ويقبلون درابيزها وكساها كما يقبلون الحجر الأسود، ويركعون أمامها بجوارحهم وجوانحهم، ويسجدون لها بكيفية أرقى من السجود لله، معفرين خدودهم على ترابها؛ بل لم يكن فيهم من يتلبس بالمنكرات وهو يعتقد أنها عبادة تقربه من الله زلفى، ولا من يبيع دينه بدنيا غيره مؤخرا الصلاة عن وقتها لخدمة شيخ من المشايخ أو حضور حضرته، ولا من يتخذ طبلا ولا مزمارا ولا آلة لهو وطرب في المعابد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولا... ولا... من المنكرات التي يتلبس بها كثير من هذه الفرق المسماة بالطوائف؛ التي في تسميتها بالطوائف لو كانت متبصرة، ولآداب دينها حافظة مستحضرة نهاية الاعتبار وغاية الحجة، كيف لا والله سبحانه علمنا في فاتحة كتابه التي أوجب علينا قراءتها وتدبرها في كل ركعة من الركعات أن نسأله الهداية إلى صراط واحد هو الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى لا نميل(9/564)
عنه يمنة أو يسرة بقوله: اهْدِنَا { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } اذب.
ولو كان المجال واسعا للمقايسة بين أعمال المعتزلة ومن في معناهم وأعمال هذه الفرق، والمقابلة بينها لشفينا الغليل، ولأبرأنا بحول الله وقوته كل عليل، ولأبنّا لكل متعصب البون الشاسع والفرق الواضح كالفرق بين هذه الفرق وتلك، حتى تتجلى لكل منصف على منصة البيان حقائق تجعل كثيرا من فرقنا اليوم أضل سبيلا، وأكذب قيلا.
بالله عليك! أتقدر بعد هذا أن تقر ما أنكره صاحب الإظهار من أعمال العيساويين والحمدوشيين، ومن في معناهم من الشاطحين الناطحين، الرقاصين القصاصين، القناصين الخراصين، وتأتي ولو بدليل واحد من ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جواز أعمالهم وإباحتها وموافقتها لروح ديننا الطاهر. (1)
موقفه من المشركين:
- قال عن الصحابة: ..ما صح عنهم قط أنهم زاروا نبيا ولا وليا ولا صحابيا من أكابر الصحابة -الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من بعدهم ولو بلغ ما
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.65-68).(9/565)
بلغ في الفضل وعلو المنزلة ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (1) - على هذه الكيفية التي يرتكبها عامتنا، وكثير من خاصتنا اليوم؛ والحال أنهم أهدى منا بشهادة الله ورسوله.
ولا ثبت في تاريخ حياتهم أنهم أقاموا لنبي ولا لولي ولا لصحابي موسما، ولا بنوا عليه قبة ولا معبدا، ولا سجدوا لقبر من قبورهم، ولا مرغوا خدودهم عليه ولا عفروها بترابه، ولا جعلوا عليه دربوزا ولا كسوة، ولا ولا، مما لا يساعد عليه دينك يا الله.
وقد حكم عليه الصلاة والسلام بأن هذه القرون -قرون الصحابة وكبار آل البيت والتابعين- التي كانت تمثل الإسلام أجمل تمثيل، وبلغ فيها الإسلام ما لم يبلغه غيره من الأديان، وأدرك أهله من العز والسؤدد ما لم تحلم به دول القياصرة والأكاسرة في عنفوان مجدها، هي خير القرون بقوله عليه الصلاة والسلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (2) .
ولكن هذه الأمة التي شرفتها بالإسلام وأخرجتها بنوره من حالك الظلام أبت إلا التغابي والتغاضي والتغافل؛ بل المحافظة على عوائد ما أنزلت -يا مولانا- بها من سلطان، ولا يرتكبها إلا من يريد القضاء على دينك من زنديق أو منافق أو شيطان، فأنقذ اللهم هذه الأمة المحمدية مما وقعت فيه من المهلكات، ونجها من كل ما يوقعها فيما ينصب لها من الشبكات. (3)
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف السلطان المولى سلميان سنة (1238هـ).
(3) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.3-4).(9/566)
- وقال تحت فصل: (من هو الولي؟): فالمومنون إيمانا كاملا -ولا يكون الإيمان كاملا إلا باتباعه - صلى الله عليه وسلم - فيما سنه، وعدم ابتداع أي شيء بعده- المتقون ظاهرا وباطنا، الذين لا يخرجون عن الشريعة قيد أنملة؛ هم الأولياء حقيقة الذين يجب أن نغسل عن أقدامهم، ونتتبع خطواتهم في كل ما وافق الشريعة.
ومع ذلك فلا يجب علينا أن نقدسهم إلى درجة أننا نبني عليهم القباب، ونسألهم كما نسأل رب الأرباب، ونتوسل إليهم بالله في تيسير الأسباب، غافلين عن الإتيان لقضاء أغراضنا من الباب؛ لأن الولاية الحقيقية هي غاية الخضوع لله والإغراق في العبودية، والتحقق بوصف العجز والضعف والذل أمام الربوبية.
فماذا يعطي ويمنع من هذا شأنه؟ وماذا يدفع عنك أو يجلب لك من تلك حاله، وإلى الله مآله؟ وماذا يفيدك إذا قمت تناضل عن بدعة ابتدعها أصحابه بعده بباطل، إنك لا تزداد بذلك من الله ورسوله ثم من ذلك الولي إلا بعدا وطردا، فليتنبه الغافل المسكين، قبل أن يذبح بغير سكين؛ فإن هذا الموطن من مزالِّ الأقدام ومزالقها، نسأل الله الثبات، فإنه يكسر صولة الوَثَبات. (1)
- وقال بعد بيان المقصود من الزيارة الشرعية للقبور: ..لا بأن نقصد الاستمداد منهم والاستغاثة بهم، أو نعتقد أن لهم في الكون تصرفا مطلقا بحيث يقدمون هذا ويؤخرون ذاك، ويعطون زيدا ويمنعون عمراً، ويُولّون خالدا ويعزلون بكراً؛ كما يعتقد بعض المغاربة أن القط لا يتسلط على الفأر إلا بإذن مولانا إدريس رضي الله عنه، وأن أبا العباس السبتي رضي
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.58-59).(9/567)
الله عنه لا يقضي الحاجات إلا إذا قدمت له جعلاً أو نذرت له نذرا ولو نزراً، وأنت تعلم أن النذر لا يكون إلا لله؛ فهو كتسلط القط على الفأر من خواص الربوبية؛ إذ القواعد القواطع تقتضي أن النفع والضر، وبسط الرزق وقبضه، وكل حادث يحدث في الوجود -قل أو كثر، صغر أو كبر- بيد الله وحده لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. الرب رب والعبد عبد إِنْ { كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } (93) (1) .
وما يستوي وحي من الله منزل ... وقافية في الغابرين شرود (2)
موقفه من الصوفية:
له كتاب: 'ضرب نطاق الحصار' رد فيه على الشرقي صاحب 'غاية الانتصار ونهاية الانكسار' الذي انتقد فيه شقيقه محمد المكي الناصري في كتابه: 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة'.
- قال فيه: وصل اللهم على من أرسلته بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، الذي أنزلت عليه في محكم كتابك: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
__________
(1) مريم الآية (93).
(2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.109).(9/568)
ذُنُوبَكُمْ } (1) الذي جعلت طاعته طاعتك، ومعصيته معصيتك، وحكمه حكمك، الذي لم يبح لأمته من اللهو إلا الرماية والسباحة وركوب الخيل، ونحوها مما فيه منفعة ظاهرة أو فائدة جليلة، الذي ما ثبت عنه -وحاشا المعصوم الأكبر من أفعال المجانين- أنه طبّل أو زمّر، أو رقص أو شطح، أو صعق أو مزق ثوبا لسماع صوت، أو أكل لحما نيئا، أو شدخ رأسا بآلة محددة أو غيرها، أو أكل نارا موقدة، أو استعمل آلة لهو وطرب داخل مسجده النبوي أو خارجه، أو حضرها على أنها عبادة، أو أقر من استعملها، أو أذن فيما يسمى بين بعض المتصوفة والمفقرة بالحضرة، أو فعله أو ركض برجله، أو ضرب بعصاه الحجر تعبدا.
فصل اللهم عليه صلاة توفقنا وسائر المسلمين بها إلى اتباع سنته والوقوف عند شريعته وعلى آله الطيبين الأكرمين المحترمين المكرمين؛ الذين ما ثبت عنهم أنهم استعملوا من ذلك شيئا على أنه عبادة في خير القرون، ولا ساعدوا عليه، ولا رأوا في الشريعة الإسلامية ما يسوغه ولو على سبيل الاستيناس. (2)
- وقال أيضا: حضرت مجلس بعض متصوفة العصر، فسمعته يقول من غير أدنى مناسبة للموضوع الذي التزم الكلام فيه: لنا ولله الحمد على جعل السبحة في الأعناق أدلة واضحة من الكتاب والسنة، فاستغربت ذلك غاية الاستغراب وصارت منافذ جسمي كلها مسامع لتلقي هذا البهتان العظيم،
__________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.2-3).(9/569)
فسمعته يقول: أما الدليل من الكتاب: فقول الله تعالى: وَكُلَّ { إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } (1) . وأما الدليل من السنة: فما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حمله السيف في عنقه حين ركب على الفرس العري لأبي طلحة (2) . قال: ولا شك أن السيف هو آلة الجهاد الأصغر، والسبحة آلة الجهاد الأكبر، فاقشعر جلدي واصطكت مسامعي لذلك، وقمت مسرعا خوف أن يخسف بأهل ذلك المجلس، ولكن الله سبحانه أبقى عليهم استدراجا لهم، ومن هذا القبيل كل ما يستدل به هذا البعض على جواز ما يرتكبه أكَلة اللحوم النيئة والنار، وشادخوا الرؤوس من المضحكات المبكيات. (3)
- وقال أيضا: إننا اجتمعنا بكثير من متصوفة العصر، وداخلناهم وخالطناهم مخالطة مستطلع باحث عن أسرارهم وخصائصهم ومميزاتهم، فوجدناهم يقدس بعضهم بعضا، ويركع بعضهم أمام بعض متجاوزين في ذلك الحد الذي يجب الوقوف عنده، قاصدين بذلك نشر دعاويهم الكاذبة، وتأييدها لإغراق الدهماء في أوهام وأضاليل أبعد عمقا من الداماء، حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يخمد جمرهم، ولا يترك شطحهم وزمرهم...
__________
(1) الإسراء الآية (13).
(2) أحمد (3/147و163و171و185و202) والبخاري (6/43/2820) ومسلم (4/1802-1803/2307) وأبو داود (5/263/4988) والترمذي (4/171-172/1675-1678) والنسائي في الكبرى (5/257/8829) وابن ماجه (2/926/2272) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.28).(9/570)
فما هم إلا كالشعراء المبتلين بداء الانحطاط النفسي، المتجاوزين قدر الممدوح فوق ما يستحقه، حتى أفضى ذلك بكثير منهم إلى الكفر والزندقة، والاقتصار على البرقشة والشقشقة، والداعي الوحيد الذي دعاهم إلى ذلك هو خوف الافتضاح، والوقوف على ما هم عليه من الخوض في ظلمات التضليل، ونصب حبائل الشيطنة والتدجيل لإيقاع الجهلة فيها. ففضحهم حملة السنة وخدمتها، وأوسعوهم تقريعا وتسفيها، ولم يبق ينفعهم ما اصطلحوا عليه من المصطلحات التي تقضي ببقاء أمرهم مستورا في غياهب البطون، ودياجر الكتمان؛ من بناء طريقهم على الصفح والتجاوز وعدم إقامة الميزان، حتى أفضى بهم توقع ذلك إلى نهي أتباعهم عن مطالعة مثل 'المدخل' لابن الحاج وفتاوي ابن تيمية، وتآليف تلميذه ابن القيم، وكتب الحافظ ابن حجر، وكتب أبي إسحاق الشاطبي، وكتب أبي بكر بن العربي، و'تلبيس إبليس' للحافظ أبي الفرج بن الجوزي، وأمثالهم من أكابر علماء الإسلام، وأعاظم المصلحين والمجددين، وحتى سمعنا بعضهم يقول لأتباعه: إذا قال لك المعارض قال صاحب 'المدخل'. فقل له: قال صاحب المخرج. ويدعم ذلك بحكاية عن بعضهم، وإذا قال لك: قال ابن حجر فقل له: قال ابن حرير، وهكذا؛ بل اضطرهم الحال إلى الحكم عليهم بالمنع من تعاطي العلوم النافعة التي تؤدي إلى إلغاء ترهاتهم ودحض شبهاتهم، كالفقه وأصوله والحديث والتفسير، وسموا أمثال هذه العلوم التي بها حياة الدين وقوام الإسلام، بالعلوم الميتة، وسموا شطحاتهم وفلسفتهم وحقائقهم علوما حية؛ بدعوى أنهم لا يأخذونها إلا عن الحي الذي لا يموت. وهكذا تمشت حيلهم،(9/571)
وتمكنت من الذين لا علم يرشدهم، ولا فكر يهديهم في الغالب، فأعظموا أمرهم، وتلقوا منهم تعاليمهم المنافية غالبا للدين بالسمع والطاعة العمياء. (1)
- وقال مخاطبا عامة الناس وناصحا لهم: وكل منكم يعلم: أن الشطح والرقص، واستعمال الطبول والمزامير ونحوها، في حلقاتكم المعروفة عندكم بالحضرة؛ ليس من الدين في شيء، وإنما هو لعب في لعب، والله سبحانه لا يعبد باللعب. وإن كان أمركم بعض مشايخ العصر بالمحافظة عليها بقوله لبعض مقَدميكم: (زد في الحضرة ولا عليك في الهذرة). يعني بالهذرة: ما تسمعونه من أقوال الله والرسول التي تتلقونها في بعض مجالس التفسير والحديث الشريف، والتي تقضي بطرح تلك التقاليد القبيحة في نظر الشرع الإسلامي، والعقل السليم السامي. (2)
- قال: أليس من المتقرر لديكم يا إخواننا أن مقتداكم النبي المكرم - صلى الله عليه وسلم - ، الذي تفدونه بأرواحكم وأموالكم، وآبائكم وأبنائكم، وتودون إرضاءه بكل ما وسعكم، وتخلصون له محبتكم، لم يكن يفعل شيئا من ذلك؛ فأحرى شدخ الرؤوس بالقلال والآلات المحددة كالفؤوس، وأكل اللحوم النيئة والزجاج والسموم ونحوها، وشرب الدم المسفوح، والطواف بالأسواق بالأعلام والطبول والأبواق على تلك الكيفية البشيعة، التي لا ترضاها البهائم لنفسها، فضلا عن العقلاء الذين يدعون أن لهم عقلا مميزا، فضلا عن مسلم
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.83-84).
(2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.94-95).(9/572)
مثلكم متأدب بآداب الإسلام، المنفرة من هذه الموبقات التي لا يرتكبها إلا سفهاء الأحلام.
على أن كلاًّ منكم يعلم أنه لا يرتكب أحد منكم ذلك إلا بداعي التوحش، ودعوى خدمة الشيخ، والله سبحانه هو أولى بالاتباع من الشيخ، وما أمر سبحانه أحدا منكم بذلك؛ بل قد نهى جل جلاله عن كل ما ينافي الإنسانية بمعناها التام. فالشيخ إذا كان من أولياء الله تعالى، وكان محقا؛ فإنه يتبرأ ولا شك من أمثال هذه المخزيات المحزنات، الموقعة في سخط الله وغضبه؛ اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ولا سخط ولا عقوبة أفظع من ارتكاب أفعال لا يفعلها إلا جهال المجانين. (1)
- وقال أيضا: ليعلم كل واحد أولا: أنه ليس المراد بحبل الله المتين طريقة من هذه الطرق التي تمسكتم بها، وحملكم على التمسك بها تستر متفقهة أهلها بالإتيان ببعض الأدلة من الكتاب والسنة في غير محلها، واستعمالهم التقية في دعاويهم المشقية، مما لا يخفى على مسلم متبصر في دينه، يميز شماله من يمينه، ويفرق بين شكه ويقينه؛ بل المراد بحبل الله الذي يجب التمسك به دون سواه، ولا يمكن للمسلم أن يعميه ويصمه مع تمسكه به هواه؛ هو كتاب الله الحكيم، وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقد نص أبو بكر بن الجصاص الحنفي في 'أحكام القرآن' على أن المراد به كتاب الله. وكذلك القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه بعد ما ذكر
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.95-96).(9/573)
اختلاف العلماء في المراد بالحبل: هل المراد به عهد الله أو كتابه أو دينه؟ فإنه استظهر أنه كتاب الله؛ لأنه يتضمن عهده ودينه ...
إن أمعنتم النظر استنتجتم أنه لا فتنة أضر عليكم في دينكم من فتن الطرق؛ فإنها حولتكم عن الوجهة التي وجه الشارع إليها وجوهكم، ونبهكم إلى طلب الهداية إليها بقوله: $tRد‰÷d$# { xق؛uژإ_ا9$# tLىة)tGَ،كJّ9$# } ادب (1) ، وبقوله: `tBur { NإءtF÷ètƒ "!$$خ/ ô‰s)sù y"د‰èd 4'n<خ) :ق؛uژإہ 8Lىة)tFَ،oB } اتةتب (2) . وهو أدرى بمصالحكم منكم، وإن كان هناك فتن أخرى، فإنها في نظر ذي الفهم الصحيح أدون وأهون من تلك الفتنة التي تسلب الإنسان المسلم من أعز عزيز لديه وهو إخلاص التوحيد لله، وتخصيصه بالإعطاء والمنع، والضر والنفع، ونذر النذور واليمين، والسجود ونحوها من خواص الربوبية، وتبثّ في نفسه الخضوع والاستكانة والتذلل والاستحذاء لمخلوق ضعيف مثله...
فهل كتاب 'الإبريز' وكتاب 'جواهر المعاني' أو كتاب 'المقصد الأحمد'، وما في معناها من كتب المناقب التي ترجعون إليها وتتشبعون بما فيها، تقوم مقام كتاب الله سبحانه؟ وهل بقي لقائل أن يقول: إن هذه الطرق ليست بفتن، وهي تصرفنا عن الاشتغال بكتاب الله ودراسته وتدبره؛ بمناقب وأذكار
__________
(1) الفاتحة الآية (6).
(2) آل عمران الآية (101).(9/574)
وأوراد ملفقة لم تأت عن الشارع، ذات خواص ومزايا وفتوحات وبركات وشفاعات، وتتركنا نتخبط في ليل أليل من الجهل بما أنزله الله وأمرنا بالاعتصام به؟... أنبتغي الهدى في كتاب من كتب مناقب الطرقيين المحشوة بالخرافات والأكاذيب وغيرها من نتائج الأغراض والحال؟ (1)
- وقال: أخرج أبو عبيد عن أنس مرفوعا: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار" (2) فكيف يجعل هؤلاء القرآن خلفهم، ويسعون في تنقية زواياهم منه، واستبداله بالشطح والرقص على القبور والصلاة عليها، والاجتماع على أذكار مستحدثة وأمداح بالشرك ملوثة مما يضاد القرآن ويقضي بمعارضته في كل آن، ويدعون أنهم من أهل الفضل والدين، وينسبون لأنفسهم المقامات العالية، وهم بمقتضى هذا الحديث وغيره في الدرك الأسفل، ولا سيما إذا قامت على ذلك قرينة على استغنائهم ببعض أذكارهم الملفقة عن القرآن الكريم؛ لاعتقادهم أن منها ما هو أفضل من القرآن بدرجات ومراحل؟ أخرج الشيخان من حديث عثمان: "خيركم -وفي لفظ: إن أفضلكم- من تعلم القرآن وعلمه" (3) زاد البيهقي في الأسماء: "وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه" (4) فمن هذا الذي يجرأ بعد هذا على
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.99-101).
(2) ابن حبان (1/331-332/124).
(3) أخرجه: أحمد (1/58) والبخاري (9/91/5027) وأبو داود (2/147/1452) والترمذي (5/159/2907) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/19/8037) وابن ماجه (1/76-77/211).
(4) 2/578/504).(9/575)
اعتقاد أن بعض الصلوات أو الأذكار التي تلقاها من شيخه، والتي هي من مبتكرات شيخه أفضل من القرآن، أو إذا قرأها مرة تعدل بكذا وكذا ختمة؟ هذا ما لا يقدر مطلق مومن أن يخطره بباله فضلا عن أن يعتقده ضرورة؛ أن الكلام صفة للمتكلم، وأن الصفة تابعة لموصوفها في العظم والخسة والله تعالى ليس كمثله شيء فكلامه ليس كمثله كلام. (1)
- وقال: إن ترتيب الثواب والعقاب على الأقوال والأعمال؛ إنما هو من وظيف الشارع وحده، لا من شأن الشيخ فلان، ولا الغوث فلان، ولا القطب فلان، ولا الختم الكتم فلان، حتى تطمئن نفوسنا، إليه ويقوى رجاؤنا في تحقيق حصوله وبلوغه إلى معتقديه ووصوله. فلتنتبهوا ولتكونوا على حذر، ولا يغرنكم دخول بعض من ينتسب للعلم وهو منه براء في زمرتهم؛ فإن كتاب الله وسنة رسوله بين ظهرانيكم؛ وهما المحكمان فيكم، وباتباعهما وامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما تكونوا أفضل الأمم، وتنجلي عنكم الغمم، ولتعتقدوا اعتقادا جازما أن حبل الله المتين الذي يجب الاعتصام به هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . (2)
عبدالرحمن العاصمي (3) (1392 هـ)
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.104-105).
(2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.107).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/202-208) والأعلام للزركلي (3/336) والمستدرك على معجم المؤلفين (364) وإتحاف النبلاء (1/109-114).(9/576)
الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم من آل عاصم، أبو عبدالله القحطاني صاحب الدرر السنية وغيرها. ولد بقرية "البير" قرية من قرى المحمل قرب الرياض سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، وقيل اثني عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، فنشأ بها، واعتنى عناية كبيرة بالعلوم الشرعية. وأخذ عن مجموعة من الشيوخ أشهرهم العلامة عبدالله بن عبداللطيف والشيخ عبدالعزيز العنقري والشيخ محمد بن محمود والشيخ سعد بن عتيق والشيخ سليمان السحمان وغيرهم.
قال عنه صاحب علماء نجد: كان على جانب كبير من الأخلاق، حلو الشمائل مستقيما في دينه وخلقه، وكان عنده غيرة على حرمات الله، ويكره جدا مساكنة الكفار وجوارهم. قام رحمه الله بجمع فتاوى ورسائل علماء نجد المتفرقة، وكذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، فقام بطبعها ونشرها داخل البلاد وخارجها.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة متأثرا من حادثة سير وقعت له سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له:
1- 'شرح عقيدة السفاريني'.
2- 'السيف المسلول على عابد الرسول'.
3- تراجم علماء الدعوة السلفية النجدية وهو المسمى بـ 'الدرر السنية'.
4- حاشية على كتاب التوحيد.
5- حاشية على الأصول الثلاثة.(9/577)
6- جمعه الفريد وترتيبه النضيد لفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في سبعة وثلاثين مجلدا. (1)
فالح بن مهدي آل مهدي الدوسري (2) (1392 هـ)
الشيخ فالح بن مهدي بن سعد بن مبارك آل مهدي، من قبيلة الدواسر، جنوب المملكة العربية السعودية. ولد في مدينة "ليلى" عام اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ فيها وفقد بصره وهو في سن العاشرة فأكمل حفظ القرآن، فسافر إلى الرياض، فقرأ على الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ سعود بن رشود والشيخ إبراهيم بن سلمان. عين للتدريس في المعهد العلمي بالرياض ثم في كلية الشريعة.
قال عنه عبدالله البسام: وما زال مجدا في العلم بحثا وتعلما وتعليما في كلية الشريعة وفي منزله وفي المسجد حتى عد من كبار العلماء.
توفي رحمه الله عام اثنين وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'السلف بين القديم والجديد' وهو مطبوع.
2- 'التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية' وهو مطبوع متداول.
وله فيها كلام جيد:
- قال: فإن البدعة لا تكون حقا محضا موافقا للسنة إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلا، ولا تكون باطلا محضا لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولكن
__________
(1) علماء نجد (2/414-415).
(2) الأعلام (5/133) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (5/370-372) والمستدرك على معجم المؤلفين (542).(9/578)
تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل، إما مخطئا غالطا وإما متعمدا لنفاق فيه وإلحاد، كما قال تعالى: ِqs9 { (#qم_tچyz /ن3دù $¨B ِNن.rكٹ#y- wخ) Zw$t6yz (#qمè|ت÷rV{ur ِNن3n="n=د{ مNà6tRqنَِ7tƒ spuZ÷Fدےّ9$# َOن3دùur tbqمè"£Jy™ ِNçlm; } (1) فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالا، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة. ومن المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم، إما لظن مخطئ أو لنوع من الهوى أو لمجموعهما، فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه. (2)
- وقال: وعلى هذا النهج المستقيم درج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يستضيئون بمشكاة القرآن فيهديهم أقوم الطريق ويتحاكمون إليه وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد مدحهم سبحانه وأثنى عليهم حيث قبلوا عن رسوله ما بلغه إليهم وهم المهاجرون والأنصار الذين ضرب بهم المثل في التوراة والإنجيل والقرآن فقال: س‰£Jpt'C { مAqك™' "!$# tûïد(9/579)
} حotچyfO±9$# (1) الآية، فهم حجة الله على خلقه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدون عن رسوله ما أدى إليهم لأنه بذلك أمرهم فقال: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب" (2) ولقد مدحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا- "ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" (3) وروى مسلم أيضا بسنده عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" (4) ، ومعنى الخيرية في الأحاديث راجعة لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ويتفاضل فيها العاملون، فقد غلب الخير وكثر أهله واعتز فيها الإسلام والإيمان وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان ويكثر القتل فيمن عاند منهم ولم يتب، والمشهور في
__________
(1) الفتح الآية (18).
(2) أحمد (5/37) والبخاري (1/265/105) ومسلم (3/1305-1306/1679) وابن ماجه (1/85/233) عن أبي بكرة.
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد السهسواني سنة (1326هـ).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف محب الدين الخطيب سنة (1389هـ).(9/580)
الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة الثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم.
وإذا فالشاهد من آية براءة وحديث عمران بن حصين هو مدح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله والثناء عليهم، لاستقامتهم على أمر الله وتمسكهم بهدي رسول الله. وقوله -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية-: "فرضي عن السابقين رضا مطلقا ورضي عن التابعين لهم بإحسان" معناه أن الله أوجب لجميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشرطه فيهم وهو اتباعهم إياهم بإحسان، فالصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم، ومعنى: tûïد(9/581)
عموما الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
وأثر ابن مسعود في وصف الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- رواه رزين بن معاوية العبدري، ومثله ما جاء عن عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة أنه قال: "عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من ابتغى غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم".
وأثر حذيفة رواه البخاري، ومعشر القراء: المراد بهم علماء القرآن والسنة وقوله: "فقد سبقتم" قيل: الرواية الصحيحة بفتح السن والباء والمشهور ضم السين وكسر الباء، والمعنى على الأول اسلكوا طريق الاستقامة لأنكم أدركتم أوائل الإسلام فاستمسكوا بالكتاب والسنة لتسبقوا إلى خير، إذ من جاء بعدكم وإن عمل بعملكم لا يصل إلى سبقكم إلى الإسلام، وعلى الثانية سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي(9/582)
إلى انحراف عن سنن الاستقامة يمينا وشمالا الموجب للهلاك الأبدي... (1)
موقفه من المرجئة:
- قال في 'التحفة المهدية': والكرامية لهم في مسألة الإيمان قول شنيع لم يسبقهم إليه أحد من الطوائف، وهو قولهم إن الإيمان يكفي فيه مجرد النطق باللسان وإن كان القلب غير مصدق، وعلى هذا فالمنافق عندهم مؤمن، لكنهم يحكمون عليه بالخلود في النار، فهو عندهم مؤمن في الاسم لا في الحكم، أما رأي الكرامية في مسائل الصفات، والقدر، والوعيد، فهو شبيه برأي كثير من طوائف المتكلمين الذين يوجد في آرائهم شيء من الصواب وشيء من مخالفة الشرع. (2)
- وقال مبينا مذهب أهل السنة في الإيمان: والحق، أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان وإقرار واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي. وأهل الذنوب مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. والخوارج والمعتزلة يقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد ولكن لا يزيد ولا ينقص، ومن أتى كبيرة كفر عند الحرورية، وصار فاسقا عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وأما الحكم فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة: فعندهم أن من أتى كبيرة فهو خالد
__________
(1) التحفة المهدية (448-451).
(2) ص.374).(9/583)
مخلد في النار، لا يخرج منها لا بشفاعة، ولا بغير شفاعة، أما في الدنيا فالخوارج حكموا بكفر العاصي واستحلوا دمه وماله، وأما المعتزلة فحكموا بخروجه من الإيمان ولم يدخلوه في الكفر، ولم يستحلوا منه ما استحله الخوارج، وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية. فإن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد. (1)
محمد بن شهوان بن عبدالله بن شهوان (2) (1392 هـ)
الشيخ محمد بن شهوان بن عبدالله بن محمد بن شهوان النجدي الحنبلي، ولد سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف في الزبير، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ عبدالله بن حمود والشيخ صالح بن حمد المبيض والشيخ محمد العوجان والشيخ محمد الغنيم وغيرهم.
تولى إمامة مسجد الرشيدية والخطابة في يوم الجمعة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة. ودرس في مدرسة المعارف مدة خمس سنوات، ثم في مدرسة النجاة. رحل إلى كل من مصر والهند والحجاز.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له:
__________
(1) التحفة المهدية (ص.376).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/565-567).(9/584)
- اختصار الدرة المضيئة للسفاريني إلى نحو ربعها. (1)
وجاء في علماء نجد خلال ثمانية قرون (2) : وكان رحمه الله يحث في خطبه على مكارم الأخلاق ومحاربة البدع والمنكرات.
__________
(1) علماء نجد (5/566).
(2) 5/566).(9/585)
المجلد العاشر ...
محمد الأمين الشنقيطي (1) (1393 هـ)
الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار بن عبدالقادر الجكني الشنقيطي، ولقبه آبّا بتشديد الباء من الإباء. ولد عام خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة بشنقيط، من أعمال دولة موريتانيا، وتعلم بها على يد مشايخ عصره منهم: الشيخ أحمد بن محمد المختار والعلامة أحمد بن عمر والفقيه محمد بن زيدان والعلامة الكبير أحمد فال. حج سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، واستقر مدرسا في كلية الشريعة واللغة العربية في الرياض، وأخيرا في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. كان رحمه الله يتمتع بأخلاق ومزايا فاضلة أكسبته الثقة والاحترام في أوساط أولي الأمر وكبار أهل العلم، وكان أديبا ضليعا. تلقى العلم على يديه أفواج لا يحصون من طلاب العلم ومن أبرزهم: الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالمحسن العباد والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ صالح الفوزان والشيخ محمد عطية سالم والشيخ محمد أمان الجامي وغيرهم كثير.
قال عنه الشيخ محمد عطية سالم بأنه صاحب أخلاق عالية من المروءة والإيثار والزهد في الدنيا وملاذها، والرغبة في الآخرة وما يقرب إليها. له مؤلفات نفيسة تدل على سعة علمه واطلاعه، من أشهرها: 'أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن' و'آداب البحث والمناظرة' و'دفع إيهام
__________
(1) الأعلام (6/45) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (6/371-378) وإتحاف النبلاء بسير العلماء (1/117-147) والمستدرك على معجم المؤلفين (607) وجهود الشيخ الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف للدكتور عبدالعزيز الطويان (1/29-87).(10/1)
الاضطراب عن آي الكتاب'.
توفي رحمه الله في مكة المكرمة ضحوة يوم الخميس في اليوم السابع عشر من شهر ذي الحجة من عام ثلاثة وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ودفن بها. ورثاه تلميذه الشيخ أحمد بن أحمد الجكني بقوله:
موت الإمام الحبر من جاكاني ... رزء ألم بأمة العدناني
يا للمصيبة للبرية إنها ... فقدت عظيم مناهل العرفان
شيخا أضاء من العقيدة نيرا ... أرساه فوق دعائم البرهان
أعشى سناه كل جهم ملحد ... نبذ الكتاب لمنطق اليونان
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حاو لكل تراجم القرآن
موقفه من المبتدعة:
هذا الرجل كان أعجوبة في حفظه واستحضاره، حضرناه ولقيناه واجتمعنا به غير ما مرة، وليس هذا هو الغريب فيه، بل قد يشترك معه في هذه الصفة كثير من الناس، ولكن قبوله للحق، واعتناقه له، والدفاع عنه بكل شجاعة وإخلاص، وهذا يندر وجوده في أبناء جنسه من أهل تلك البلاد. فالشيخ جزاه الله خيرا شرفه اللباس السلفي الذي ارتداه وزينه خير تزيين، وأصبحت كتبه تضيء بذلك النور وتفوح بذلك المسك. فهذا: 'أضواء البيان' الذي نفع الله به أهل المشرق والمغرب، ووجد القبول عند الجميع، قلما تمر فيه مناسبة للعقيدة السلفية، إلا وتجد الشيخ كأنه مطر نافع مغيث تستطيبه النفوس، وتتمنى المزيد منه والاستمرار، ويأتي على ذلك الغثاء ويلقيه في مكان سحيق، حتى لا يتأذى المسلمون بشره بعد بيان أن هذا(10/2)
الضرر يجب إبعاده، ولا يجوز الاقتراب منه. وناهيك بالبحث العظيم الذي سطره في سورة الأعراف عند قوله تعالى: إِن { رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى } الْعَرْشِ (1) وقد بينت في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (2) ما لهذا الكتاب من قيمة.
وسأقتصر هنا على ذكر بعض النماذج لدفاع الشيخ عن العقيدة السلفية، جاء في: 'أضواء البيان'.
قال:
تنبيه مهم: يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى، والطامة الكبرى، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة؛ وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله استغناء تاما في جميع الأحكام، من عبادات ومعاملات وحدود وغير ذلك، بالمذاهب المدونة، وبناء هذا على مقدمتين:
إحداهما: أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين.
والثانية: أن المجتهدين معدومون عدما كليا لا وجود لأحد منهم في الدنيا، وأنه بناء على هاتين المقدمتين، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله
__________
(1) الأعراف الآية (54).
(2) 2/701-705).(10/3)
منعا باتا على جميع أهل الأرض، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة.
وزاد كثير منهم على هذا، منع تقليد غير المذاهب الأربعة وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان. فتأمل يا أخي رحمك الله! كيف يسوغ لمسلم أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما، استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين، ولا خلاف في أنهم يخطئون؛ فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة لا حاجة إلى تعلمهما، وأنهما يغني غيرهما، فهذا بهتان عظيم ومنكر من القول وزور.
وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه، فهو أيضا زعم باطل، لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، مع كونها في غاية التعقيد والكثرة، والله جل وعلا يقول في سورة القمر مرات متعددة: وَلَقَدْ { يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (17) ويقول تعالى في الدخان (1) : فَإِنَّمَا { يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } (58) ويقول في مريم (2) : فَإِنَّمَا { يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا
__________
(1) الدخان الآية (58).
(2) مريم الآية (97).(10/4)
لُدًّا } ازذب. فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به. والله جل وعلا يقول: بَلْ { هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } (1) ويقول: وَلَقَدْ { جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (52) (2) .
فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته.
ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ليستضاء به، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، والرشد من الغي.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا { النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } (174) (3) . وقال تعالى: قَدْ { جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
__________
(1) العنكبوت الآية (49).
(2) الأعراف الآية (52).
(3) النساء الآية (174).(10/5)
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (16) (1) . وقال تعالى: وَكَذَلِكَ { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } (2) وقال تعالى: فَآَمِنُوا { بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي } أَنْزَلْنَا (3) ، وقال تعالى: فَالَّذِينَ { آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (157) (4) .
فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله
__________
(1) المائدة الآيتان (15و16).
(2) الشورى الآية (52).
(3) التغابن الآية (8).
(4) الأعراف الآية (157).(10/6)
ليستضاء به، ويُهتدَى بهداه في أرضه، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور؟
فلا تكن خفاشي البصيرة، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم:
خفافيش أعماها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويُعمي أعين الخفاش
كٹ(10/7)
الحديث، والتمييز بين الصحيح والضعيف، لأن الجميع ضبط وأتقن ودُوِّنَ، فالجميع سهل التناول اليوم.
فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين.
وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها وما يتطرق إليها من العلل والضعف.
فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما.
والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله.
واعلم أيها المسلم المنصف، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق على الله وكتابه، وعلى النبي وسنته المطهرة، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران، واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم، لكونهم لا يميزون بين حق وباطل. فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى: وَلَا { تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا } (23) الآية (1) . بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى
__________
(1) الكهف الآية (23).(10/8)
منه بزمان، ما نصه: وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل وأن يقصد بها حل اليمين، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية. فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. اهـ منه بلفظه.
فانظر يا أخي رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله، وما أجرأ قائله على الله وكتابه وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته وأصحابه، سبحانك هذا بهتان عظيم.
أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة. فالذي ينصره هو الضال المضل.
وأما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، فهذا أيضا من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . سبحانك هذا بهتان عظيم.
والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين، أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم دليل صحيح(10/9)
شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح.
والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا، لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس.
ومما يوضح لك ذلك أن آية الكهف هذه، التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر وزمنها عن اليمين وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة: وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، كله باطل لا أساس له.
وظاهر الآية بعيد مما ظن بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة، ولا التضمن ولا الالتزام. فضلا على أن تكون ظاهرة فيه.
وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحاً، لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال لهم سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه، وعدم تعليقه بمشيئته جل وعلا، فتأخر عنه الوحي.
ثم علمه الله في الآية الأدب معه في قوله: وَلَا { تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ(10/10)
} (1) .
ثم قال لنبيه: وَاذْكُرْ { رَبَّكَ إِذَا } نَسِيتَ يعني إن قلت سأفعل كذا غداً، ثم نسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك، فاذكر ربك، أي قل إن شاء الله، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته، بسبب النسيان، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى: وَلَا { تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } .
والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور، الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهباً من المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله.
وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه. فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليداً أعمى على جهالة عمياء، أين دل ظاهر آية الكهف هذه، على اليمين بالله، أو بالطلاق أو بالعتق أو بغير ذلك من الأيمان؟
هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار: سأخبركم غداً؟
وهل قال الله: ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غداً؟
ومن أين جئتم باليمين، حتى قلتم إن ظاهر القرآن، هو حل الأيمان
__________
(1) الكهف الآيتان (23و24).(10/11)
بالمشيئة المتأخرة عنها، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟
ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحاً ما قاله الصاوي أيضاً في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: فَأَمَّا { الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (1) فإنه قال على كلام الجلال ما نصه: زيغ أي ميل عن الحق للباطل، قوله: بوقوعهم في الشبهات واللبس، أي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة. اهـ.
فانظر رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله، وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - ، وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به. فإنه جعل ما قاله نصارى نجران، هو ظاهر كتاب الله، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم فأخذ بظاهر القرآن.
وذكر أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول
__________
(1) آل عمران الآية (7).(10/12)
الكفر.
وقد قال قبل هذا: قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألست تقول: إن عيسى روح الله وكلمته؟ فقال: "نعم"، فقالوا حسبنا، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله. فنزلت الآية.
فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى: وَكَلِمَتُهُ { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } (1) هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة، بوجه من الوجوه، ولا بدلالة من الدلالات، أن عيسى ابن الله، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت.
فقول الصاوي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره، وقوله: وَرُوحٌ { مِنْهُ } كقوله تعالى: وَسَخَّرَ { لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
__________
(1) النساء الآية (171).(10/13)
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } (1) أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السموات والأرض مبدؤه ومنشؤه منه جل وعلا.
فلفظة "من" في الآيتين لابتداء الغاية، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق، خلافاً لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران.
وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر وأنهم يعتقدون شيئاً ظاهر النص. والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره.
فبنوا باطلا على باطل، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل.
ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها، لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا.
فتصور الصاوي، أن ظاهر آية الكهف المتقدمة، وهو حل الأيمان، بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها.
وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران، من أن عيسى ابن الله؛ فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم ظاهر
__________
(1) الجاثية الآية (13).(10/14)
القرآن مطلقاً، كما لا يخفى على عاقل.
وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران: إن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة.
ومن هم العلماء الذين قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟
سموهم لنا، وبينوا لنا من هم؟
والحق الذي لا يشك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم، ولا متعلم، لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه.
والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جداً لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جداً كقوله تعالى: فَصِيَامُ { ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } (1) .
والغالب الذي هو الأكثر، هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر.
وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول.
__________
(1) البقرة الآية (196).(10/15)
فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله، وسنة رسوله، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر، هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى.
وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر، ويتباعد منها كل التباعد، ويتجنب أسبابها كل الاجتناب، فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي.
وهذا كما ترى، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال، ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة، ليست بلائقة.
والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك.
وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله، وسنة رسوله، هو عدم معرفة مدعيها. (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله تعالى: اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة -يعني قوله تعالى: وَاعْبُدْ { رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (99) (2) - بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف؛ لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
__________
(1) أضواء البيان (7/435-443).
(2) الحجر الآية (99).(10/16)
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلا، بل يسمى لعبا كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابهم هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته؛ وقد قال جل وعلا: إِنَّمَا { يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (1) والعلم عند الله تعالى. (2)
- وقال عند قوله تعالى: وَإِذَا { مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } (67) (3) .
لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة: أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يعرفون شيئا من حقه لمخلوق. وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من عبدة الأوثان،
__________
(1) فاطر الآية (28).
(2) الأضواء (3/207).
(3) الإسراء الآية (67).(10/17)
فإنهم إذا دهمتهم الشدائد وغشيتهم الأهوال والكروب، التجأوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح، في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله. مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر، وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره. (1)
- قال رحمه الله: واعلم أنه لا خلاف بين العلماء -كما ذكرنا آنفا- في منع النداء برابطة غير الإسلام، كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية، فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا، على أن يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضا مثلا، فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة، فهي كما قال الراجز:
بدلت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا (2)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله: وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما
__________
(1) أضواء البيان (3/614).
(2) أضواء البيان (3/445).(10/18)
جاءوا به، ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: وَمَا { كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (15) (1) ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما. وقال تعالى: رُسُلًا { مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (2) ، وقال: وَلَوْ { أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ } آَيَاتِكَ (3) الآية. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا. وقد بينا طرفا من ذلك في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله: وَمَا { كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } (15) (4) . وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف، من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع -كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام،
__________
(1) الإسراء الآية (15).
(2) النساء الآية (165).
(3) طه الآية (134).
(4) الإسراء الآية (15).(10/19)
بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبها أولا، ومعطلا ثانيا. فارتكب مالا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي، طاهرا من أقذار التشبيه. لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (2) ، فلو قال متنطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها؟ قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع
__________
(1) أضواء البيان (4/159-160).
(2) الشورى الآية (11).(10/20)
غيره أن يحصي الثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه: يَعْلَمُ { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (1) ، لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (2) ، قُلْ { هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد } احب، فَلَا { تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } (3) .اهـ (4)
- وقال رحمه الله: والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة نداء الله له، فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق، ولا كلام خلقه الله في مخلوق، كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة، إذ لا يمكن أن يقول غير الله: إِنَّهُ { أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (9) (5) ، ولا أن يقول: إِنَّنِي { أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا
__________
(1) طه الآية (110).
(2) الشورى الآية (11).
(3) النحل الآية (74).
(4) أضواء البيان (2/320-321).
(5) النمل الآية (9).(10/21)
} فَاعْبُدْنِي (1) . ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله، كقول فرعون tO$tRr& { رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } (24) على سبيل فرض المحال، فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب.
فقوله: إِنَّنِي { أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } فَاعْبُدْنِي (2) ، وقوله: إِنَّهُ { أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (9) (3) صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك، كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام. (4)
- وقال رحمه الله تحت قوله تعالى: وَهُوَ { اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } (5) : واعلم أن ما يزعمه الجهمية من أن الله تعالى في كل مكان، مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض، ضلال مبين، وجهل بالله تعالى، لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السموات والأرض، الذي هو أعظم من كل شيء، وأعلى
__________
(1) طه الآية (14).
(2) طه الآية (14).
(3) النمل الآية (9).
(4) أضواء البيان (4/293-294).
(5) الأنعام الآية (3).(10/22)
من كل شيء، محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، فالسماوات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال: إنه حال فيها، أو في كل جزء من أجزائها، لا وكلا، هي أصغر وأحقر من ذلك، فإذا علمت ذلك، فاعلم أن رب السموات والأرض أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء، ولا يكون فوقه شيء لَا { يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (3) (1) ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه يَعْلَمُ { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (2) .اهـ (3)
- ثم قال الشيخ رحمه الله بعد كلام طويل: ...ولأجل هذه البلية العظمى والطامة الكبرى، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه، وعقد ذلك المقري في إضاءته في قوله:
والنص إن أوهم غير اللائق ... بالله كالتشبيه بالخلائق
__________
(1) سبأ الآية (3).
(2) طه الآية (110).
(3) أضواء البيان (2/182-183).(10/23)
فاصرفه عن ظاهره إجماعا ... واقطع عن الممتنع الأطماعا
وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - . والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها لكل مسلم راجع عقله، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه.
ولا بد أن نتساءل هنا فنقول:
أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى. وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخالق؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا.
فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه، يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف. فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟
فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق. وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق. فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق، هو كونها جارحة، هي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي(10/24)
يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: فَاقْطَعُوا { } أَيْدِيَهُمَا (1) .
والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: مَا { مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) أنها صفة كمال وجلال لائقة بالله جل وعلا، ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وقد بين جل وعلا عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة، قال تعالى في تعظيم شأنها: وَمَا { قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (67) (3) . وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى: قَالَ { يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (4) . فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي من صفات
__________
(1) المائدة الآية (38).
(2) ص الآية (75).
(3) الزمر الآية (67).
(4) ص الآية (75).(10/25)
كماله وجلاله، يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى.
ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة، لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السموات والأرض.
فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله، لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها، إن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين، وقد جرك شؤم التشبيه إلى ورطة التعطيل، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف.
وماذا عليك لو صدقت الله وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل؟ وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق؟ فاخش الله يا إنسان، واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه. واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به، والوصف(10/26)
غير اللائق به، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك.
فاليد مثلا، التي وصفت بها نفسك لا تليق بك، لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا، وأبدلها لك بوصف لائق بك، وهو النعمة أو القدرة مثلا، أو الجود. سبحانك هذا بهتان عظيم". (1) ثم ذكر الشيخ الرد على الأشاعرة في تقسيم الصفات والإيمان بالبعض دون البعض. وهو بحث نفيس ينبغي الرجوع إليه وقراءته.
موقفه من الخوارج:
قال رحمه الله: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة. هل يكون ذلك سببا لعزله والقيام عليه أولا؟
قال بعض العلماء: إذا صار فاسقا أو داعيا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه. والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه، إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان.
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: "إلا أن تروا
__________
(1) أضواء البيان (7/443-446).(10/27)
كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" (1) .
وفي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيار أئمتكم الذين يحبونكم وتحبونهم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله تعالى، ولا ينزعن يدا من طاعة" (2) .
وفي صحيح مسلم أيضا: من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع". قالوا: يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا" (3) .
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية" (4) .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا
__________
(1) أحمد (3/441) والبخاري (13/6/7055و7056) ومسلم (3/1470/1709) والنسائي (7/157/4164) وابن ماجه (2/957/2866).
(2) أحمد (6/24) ومسلم (3/1481/1855).
(3) أحمد (6/295) ومسلم (3/1480/1854) وأبو داود (5/119/4760) والترمذي (4/458/2265).
(4) أحمد (1/275) والبخاري (13/6/7054) ومسلم (3/1477/1849).(10/28)
حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية" (1) .
والأحاديث في هذا كثيرة. فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه، ولو كان مرتكبا لما لا يجوز، إلا إذا ارتكب الكفر الصريح، الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه كفر بواح، أي: ظاهر باد لا لبس فيه.
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك. ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة، فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنة.
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن. كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أخرجه الشيخان وأبو داود (2) .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: "لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا،
__________
(1) أحمد (2/70) ومسلم (3/1478/1851).
(2) أحمد (2/17) والبخاري (13/152/7144) ومسلم (3/1469/1839) وأبو داود (3/93-94/2626) والترمذي (4/182/1707) والنسائي (7/179-180/4217) وابن ماجه (2/956/2864).(10/29)
إنما الطاعة في المعروف" (1) . وفي الكتاب العزيز: وَلَا { يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } (2) .اهـ (3)
موقفه من المرجئة:
- قال: ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه، الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد. وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة. (4)
- وقال رحمه الله: قوله تعالى: نَحْنُ { نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (13) (5) .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق. ثم أخبره مؤكدا له أنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله جل وعلا زادهم هدى.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى، لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان.
__________
(1) أحمد (1/81) والبخاري (8/72-73/4340) ومسلم (3/1469/1840(40)) وأبو داود (3/92-93/2625) والنسائي (7/179/4216).
(2) الممتحنة الآية (12).
(3) أضواء البيان (1/67-69).
(4) أضواء البيان (7/201).
(5) الكهف الآية (13).(10/30)
وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ { اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (17) (1) ، وقوله: وَالَّذِينَ { جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } الآية (2) ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ } فُرْقَانًا الآية (3) ، وقوله: فَأَمَّا { الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (124) (4) ، وقوله تعالى: هُوَ { الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } الآية (5) ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا
__________
(1) محمد الآية (17).
(2) العنكبوت الآية (69).
(3) الأنفال الآية (29).
(4) التوبة الآية (124).
(5) الفتح الآية (4).(10/31)
اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ } بِهِ (1) ، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد، مفهوم منها أنه ينقص أيضا، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك، وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها، لا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى، والعلم عند الله تعالى. (2)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا { فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } (8) (3) يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا { الْعَمَى عَلَى } الْهُدَى (4) . وقوله تعالى: { اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ
__________
(1) الحديد الآية (28).
(2) أضواء البيان (4/28-29).
(3) الشمس الآية (8).
(4) فصلت الآية (17).(10/32)
بِالْهُدَى } (1) ونحو ذلك، وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية.
أما القدرية: فضلوا بالتفريط، حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه.
وأما الجبرية فضلوا بالإفراط، حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به.
وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى.
فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب.
ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا، فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل، وأني لابد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي، فأنا مجبور. فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعا تسمع به، وبصرا تبصر به، وعقلا تعقل به، وأرسل لك رسولا، وجعل لك اختيارا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق، وهو ملكه المحض، إن
__________
(1) البقرة الآية (16).(10/33)
أعطاه ففضل، وإن منعه فعدل.
كما أشار له تعالى بقوله: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (1) يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أعطيه ففضل، ومن منعه فعدل.
ولما تناظر أبو إسحق الاسفرائيني مع عبدالجبار المعتزلي. قال عبدالجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم.
فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال:سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبدالجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟
فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟
فقال عبدالجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالردى؟ أتراه أحسن إلي أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء، وإن كان له، فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبهت عبدالجبار. وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب.
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له: ادع الله لي أن يرد علي
__________
(1) الأنعام الآية (149).(10/34)
حمارة سرقت مني، فقال: اللهم إن حمارته سرقت، ولم ترد سرقتها فارددها عليه. فقال له الأعرابي: يا هذا كف عني دعاءك الخبيث. إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها، فقد يريد ردها ولا ترد. وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (1) فأثبت للعبد مشيئة، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا. فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا.
وقوله: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (2)
وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى فَأَلْهَمَهَا { فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } (8) (3) أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال في الآية.وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء. والعلم عند الله تعالى. (4)
- وقال رحمه الله: ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن
__________
(1) الإنسان الآية (30).
(2) الأنعام الآية (149).
(3) الشمس الآية (8).
(4) دفع إيهام الاضطراب الملحق بأضواء البيان (9/330-332).(10/35)
أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر.
وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه، برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى.
وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك؟وتصير علم الله جهلا، بحيث لا يقع ماسبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟
والجواب بلاشك: هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (1) ، وقال الله تعالى: قُلْ { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } (149) (2) .
ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولايجور، وغير مستقل به دون
__________
(1) الإنسان الآية (30).
(2) الأنعام الآية (149).(10/36)
قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: وَمَا { تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (1) .اهـ (2)
- وقال رحمه الله: أما قوله تعالى: قُلْ { إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } (81) (3) على القول بأن إن شرطية لا تمكن صحة الربط بين شرطها وجزائها ألبتة، لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال.
ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب" (4) فنفى الطرفين مع أن الربط صحيح، ولا يمكن أن ينفي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى، فلا يقول هو ولا غيره: ليس له ولد ولا أعبده.
وعلى كل حال، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا فلا يصح.
فاتضح الفرق بين الآيتين وحديث: "لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب" رواه قتادة بن دعامة مرسلا. وبنحوه قال بعض الصحابة، فمن بعدهم،
__________
(1) الإنسان الآية (30).
(2) أضواء البيان (7/224-225).
(3) الزخرف الآية (81).
(4) أخرجه عبدالرزاق (6/125-126/10211) وابن جرير (7/168) عن قتادة. قال الزيلعي في تخريج الكشاف (2/140): "هو معضل". وأخرجه ابن أبي حاتم (6/1986/10583) بسنده إلى ابن عباس. وفيه هشيم وهو مدلس كثير الإرسال وقد عنعن.(10/37)
ومعناه صحيح بلا شك.
وما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه لقبحه وشناعته، ولم أعلم أحدا من الكفار فيما قَصَّ الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه.
وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه.وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه، الديني واللغوي.
قال في الكشاف ما نصه: قُلْ { إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ } وَلَدٌ (1) وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه.
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها.
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر، إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله.
__________
(1) الزخرف الآية (81).(10/38)
فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا للكفر.
وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا، مع الدلالة على سماجة المذهب، وضلالة الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه.
ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له (أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى): (لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك).
وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف الملئ بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم لإضافة الولد إليه اهـ. الغرض من كلام الزمخشري.
وفي كلامه هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية ما الله عالم به. ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله.
وسنبين لك ما يتضح به ذلك فإنه أولا قال: إن كان للرحمن ولد وصح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه.
فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل، لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد، فلا شك أن ذلك يقتضي، أن ذلك الولد لا يستحق العبادة بحال، ولو كان في ذلك(10/39)
تعظيم لأبيه، لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة، والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا. أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا ألبتة.
وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه.
فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه، لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله.
والزمخشري في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارج عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا.
فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج، دليل واضح على ما ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه.
فإنه قال فيها إن الحجاج قال لسعيد بن جبير: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال سعيد للحجاج: لو علمت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. فهو يدل على أنه علق المحال على المحال، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به الزمخشري لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله.
فقوله: لو علمت أن ذلك إليك في معنى إِنْ { كَانَ لِلرَّحْمَنِ } وَلَدٌ (1) ، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد.
__________
(1) الزخرف الآية (81).(10/40)
فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله.
ولكنه لم يقل هذا، لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه.
وكذلك تمثيل الزمخشري للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر.
فقد اضطر فيه أيضا إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا فإنه قال فيه:
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله.
فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب إلخ.
فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم، مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله، وهذا المستحيل في زعمه الباطل، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب، ومعذبا عليه فهو شيطان لا إله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية. لأنه جعل قوله: إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى إِنْ { كَانَ لِلرَّحْمَنِ(10/41)
} وَلَدٌ (1) في أن الشرط فيهما مستحيل، وجعل قوله في الله إنه شيطان لا إله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أول العابدين.
فاللازم لكلامه أن يقول: لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله: فأنا أول العابدين.
وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه، وشدة ضلاله، وتناقضه لشناعته ووضوح بطلانه، فهي عبارات مزخرفة، وشقشقة لا طائل تحتها، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية. والتناقض الواضح وكم من كلام ملئ بزخرف القول، وهو عقيم لا فائدة فيه، ولا طائل تحته كما قيل:
وإني وإني ثم إني وإنني ... إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا
فظل يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء
واعلم أن الكلام على القدر، وخلق أفعال العباد: قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: وَقَالُوا { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } (2) ، ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله خالق كل شيء، كما قال تعالى: اللَّهُ { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) الزخرف الآية (81).
(2) الزخرف الآية (20).(10/42)
} (1) الآية، وقال تعالى: وَخَلَقَ { كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } (2) (2) . وقال: هَلْ { مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ } اللَّهِ (3) ، وقال تعالى: إِنَّا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (49) (4) .
فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشري يقتضي أن الله شيطان، سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا. وجزى الزمخشري بما هو أهله. (5)
محمد الجزولي (1393 هـ)
من أهل المغرب الأقصى، ولد بالرباط سنة ست وثلاثمائة وألف للهجرة. اشتغل بالقضاء، وله ديوان شعري باسم: 'ذكريات من ربيع الحياة' طبع سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
__________
(1) الزمر الآية (62).
(2) الفرقان الآية (2).
(3) فاطر الآية (3).
(4) القمر الآية (49).
(5) أضواء البيان (7/299-304).(10/43)
قال عنه محمد بن اليمني الناصري شقيق محمد المكي الناصري المعروف: "صاحبنا كاتب الحقيقة وشاعر العاطفة؛ أخونا المطلع الخبير والداهية الكبير". (1)
توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من الصوفية:
كتب رسالة لشيخ الطائفة التجانية بالرباط سماها: 'لا طرق في الإسلام' بعد مذاكرات بينهما جرت حول الطرق الصوفية، هذه الرسالة كلها ذم وتقريع وكشف لحقيقة الطرقية المقيتة، وقد ضمنها نحو عشرين سؤالا ملزما مفحما قاضيا بضلال هذا المسلك -جزاه الله خيرا- وقد انتشرت وذاعت في وقتها؛ إلا أنها أثارت ثائرة الطرقيين فضجوا من أجلها حسب ما ذكره محمد بن اليمني الناصري في كتابه: 'ضرب نطاق الحصار'.
وقد نقل هذه الرسالة كاملة وهي جواب عن سؤال شيخ التجانية: "ما هي هذه الطرق؟ لأن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره".
فأجاب رحمه الله: الطرق هي ما دعي فيه إلى أعمال وأقوال زائدة غير صالحة في نفسها ولا مصلحة لغيرها، مستمدة من عالم الأذواق والإلهام! لم يدع إليها محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه نصا، لم تسد من الدين ثغرة، ولم تزده في عالم الإصلاح شهرة؛ بل شوهته بما استحالت إليه من محاكاة القردة والحيوانات المفترسة والمتوحشين في مجاهل الأرض.
__________
(1) 'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار' لمحمد الناصري (ص.156).(10/44)
ادعاها أشخاص من طلاب الشهرة الدينية أو الدنيوية. فيهم صالح النية وخبيثها. ومن العسير معرفة صالحهم من طالحهم؛ إذ لا مميز قطعيا هناك؛ مما يوجب طرح دعاويهم جميعا وإلقاء ما أتوا به جملة وتفصيلا؛ استغناء بكتاب الله وسنة رسوله.
أما بعد: فطالما تنكبت -منذ عرفت طويتك، وخبرت هويتك- الطرق المؤدية للاجتماع بك، لا لقلي لك أو بغض فيك؛ إذ لست هناك، ولكن لما بين الفكرين من التضارب، وبين الرأيين من التباين؛ فبينما أراني متطلعا في سماء الحرية الصافية الأديم، الرائقة النسيم، متغلغلا ببصر البصيرة في سعة أجوائها، وترامي أرجائها، متنسما عطر أريحها، متشحا برد نسيجها؛ إذ بك ترسف في أغلال التقليد وسلاسل الجمود، معتقداً سلاسلها مخانق من لؤلؤ، وقيودها خلاخل من ذهب، ومع إبهاظ تلك لعاتقك، ونخر هذه لسوقك تضن بهما ضن البخيل بماله، والغيور بعياله، فأنى يطيب لنا اجتماع أو يحصل بيننا اتفاق؛ اللهم إلا إذا اجتمع الضدان، وائتلف النقيضان، وتساوى الطائر المحلِّق -حيث لا يخشى الطلب- بالمحبوس أسيرا -وإن في قفص من ذهب-، لهذا وذاك، كنت دائما أتحرى عدم لقياك، استغناء عن نفعك واتقاء لأذاك، حتى سقطت علينا بالأمس سقوط الجراد في ليلة أَحَلْت بياض أنسها إلى سواد، عند ذلك السميدع الأصيل إذ انجر بنا الحديث -والحديث شجون- إلى ذكر الطرق المحدثة في الإسلام، وما انبثق منها فيه من الأضاليل والأوهام. والانشقاق والاختلاف، والتزحلق عن مهيع الحق والانحراف، حتى تمزقت أوصاله وتلونت أحواله، وصارت أممه في فرقها شيعا، واتخذ كل منهم(10/45)
حسب هواه طريقا ومهيعا، تلك الوصمة التي وسم بها الدين، وأحدث بها التفريق بين جماعة المومنين، وتفوهت -تأثرا بما أثاره ذلك الحديث- بتلك الجملة التي أنزلتها منزلة كلمة التثليث وهي: "إن الإسلام بدون هذه الطرق خير منه بها"؛ فقمت وقد انتفخت أوداجك. وتصلبت أمشاجك. وقلت: إن ذلك القول ضلال، واعتقاده كفر، وتخيّله زندقة، والعمل به مخرقة. وشددت اللوم على من يحوم في حمى القوم، وطالبتني بالدليل على صحة جملتي، والحجة التي تثبت بها دعوتي، فاستدللت ولم أبعد، ورغما على إبراقك فلم أرعد؛ بأن الإسلام قبل تفريخ جراثيم هذه الطرق في جسمه، كانت أعظم دول الأرض ترتعد لذكر اسمه، وأنه بعد تسميمها لدمه، وسريان ذلك الدم المسموم في جميع أممه، تفرقت أجزاؤه، وسادته أعداؤه، وانفصمت عراه، وانحط من علاه، وتمزق أيدي سبا، وتمسك بالقشور وأعرض عن اللبا، وألفح روضاته الغناء إعصار فيه نار المحرقين فاحترقت، وطما على سدوده المتينة سيل الجهل فانخرقت، وإن لم تكن كل مصائبه من تلك الطرق؛ فإنها إحدى مصائبه الكبر، وفي تمسك دعاة العلم بأهدابها أفدح المصائب وأعظم العبر، وهذه طبيعة العمران؛ فإن الأمم إذا هرمت انحلت قواها العاقلة، وتسفلت فيها المدارك والعقول، وانحطت من أوج التمحيص والانتقاد إلى هاوية التقليد والخمول، حيث تستعبدها الأوهام والخرافات، باعتقاد سيدات وسادات، لهم التصرف في الكون قبضا وبسطا، ومنعا وإعطا، اعتقادا يتساوى فيه العالم والجاهل، والعالي والنازل، عاملين على استبدال الأعمال الصالحة بمضغ الألفاظ، مع بعدها عن مركز الانفعال بعد الإعقاب عن(10/46)
الألحاظ، وأعماهم التعصب والتقليد عن رؤية الحق مع أن الحق نور، ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وحيث كنت تكابر في هذا القدر، وتحتج بحجج لا تعلم محط مغزاها، ولا هدف مرماها، وإنما ترددها ترديد الصدى، جريا على ما جبلت عليه من التقليد حتى في الضلال والهدى.
اقترحت أن أخط لكم ما تفوهت به في كتاب، وأضيف إليها ما يعن لي في هذا الباب، وأنتم تجيبون على ذلك بما يزيل اللبس، ويبين أن أفكاركم مبنية على أمتن أس؛ وإلا فأنت في ميدان المناضلة محجوج. وجبين دعواك بعصا العجز مشجوج. هذا وإني لأشفق عليك مما يلم بك من الألم، عند مطالعة ما يخطه القلم؛ لأن الحقيقة مرة في أفواه العائشين بالآمال والأوهام، واليقظة ضربة قاضية على المثرين في الأحلام، ولكنها الحقيقة. والحقيقة بنت البحث البحت، والمرمر لا تنجلي مرآته بغير الصقل والنحت. وإليكها جملا مرصوصة البنا، ظاهرة الغنا، طيبة الجنا، وليست إلا أنموذجا لأمثالها، وشكلا يدل على تعدد أشكالها. وهي بين ادعاء محض يفتقر إلى إثبات أو نقض، أو استفهام يتطلب الجواب بالنفي أو الإيجاب. بيد أنه لا يقبل من الحجج النقلية إلا ما كان صريحا في الموضوع من كتاب أو سنة أو كان من الحجج العقلية المحسوسة فقط، وكل كلام تسوقه للغير أياً كان فهو لغو، والعبرة بما يقال، لا بمن قال. ثم إني لا إخالك تجد ولا جوابا واحدا يوافق ما به تحتج. إلا إذا استقام الظل والشاخص أعوج، وقد صدرت تلك الجمل بالجملة التي كانت(10/47)
السبب في تسطير هذا الرق، وذيّلتُها بأسئلة تقوم في وجه الباطل بسيف الحق. وهي:
1- الإسلام بدون هذه الطرق خير منه بها؟
2- هل هذه الطرق ضرورية الوجود للدين؟
3- إذا كانت غير ضرورية للدين وهو تام بدونها فما المحوج لها إذاً؟
4- هل كانت الديانة الإسلامية ناقصة قبل وجود هذه الطرق؟
5- هل المتمسكون بهذه الطرق أهدى ممن كان قبلهم من المسلمين ومن معاصريهم المسلمين الغير المتمسكين بها؟
6- هل المؤمن بكتاب الله وبما صح وروده عن النبي عليه السلام؛ العامل بمقتضى الشريعة يعد ضالا إذا قال: إن الإسلام غني بنفسه عن الطرق واعتقد ذلك ودعا إليه؟
7- أي فائدة استفادها الإسلام من هذه الطرق بعد فشوها فيه حتى امتاز عصره بها بالعز والجاه والفضل والاستقامة عن غيره من أعصره الخالية منها؟
8- لو لم توجد في الإسلام هذه الطرق التي فرقته شيعا وجعلته طرائق قددا وبقي على ما كان عليه أيام النبي عليه السلام والأعصر الثلاثة بعده أيكون غير صالح لهداية البشر وأتعس حالا مما هو عليه الآن؟
9- أعَثرنا بهذه الطرق على إكسير الأخلاق الذي صير الأمة في أخلاقها وأطوارها خيرا مما كانت عليه من قبل؟(10/48)
10- إذا تمسك المسلمون بالكتاب والسنة واتحدوا عليهما ونبذوا هذه الطرق المبثوثة الأطراف أيَصيرون غير مسلمين ويعودون بذلك من الضالين؟
11- هل جاءت هذه الطرق بشيء زائد على ما في الكتاب والسنة يحتاج إليه الإسلام والمسلمون؟
12- إذا كانت لم تأت بشيء زائد على ما فيهما فما الفائدة من إحداث طرق منشقة في الإسلام ترى لنفسها فضلا وشفوفا على غيرها اغترارا بقول داع مجترئ؟
13- هل المؤمن المصلي على نبيه، الذاكر لربه، ائتمارا بأمر الله في كتابه العزيز، وبالصيغ الواردة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون أحط رتبة، وأخس مثوبة، وأقل أجرا من المصلي أو الذاكر وفاقا لقانون الشيخ فلان، وبالصيغ الموحاة إليه من حظيرة الأوهام؟
14- ما قولك فيمن يبتدع صيغا من الأدعية والصلوات، غريبة الألفاظ، ركيكة التركيب، ليست على نهج القرآن ولا على أسلوب الحديث يتلقفها من عالم الغيب في زعمه، ويمليها ألفاظا غير أليفة ولا مألوفة، مدعيا لها من الأجر والثواب والفضل الذي لا يحصره حساب الحاصل لتاليها مرة واحدة ما لا يحصل لمن ختم القرآن كذا وكذا ألف مرة؟
15- وما قولك فيمن يدعي ما لم يدعه محمد ولا عظماء صحابته من التصرف في الجنة والنار يدخلهما من يشاء ويخرج منهما من يشاء؛ كأن مفاتحهما في جيبه أو عقد اتفاقا مع خزنتهما أوجب تخصيصه بذلك أو شارك رب العزة في ملكوته، يغر بذلك السذج ويجرئهم على معاصي الله؟(10/49)
16- هل قام الإسلام وانتشر في العالم بالقعود على الطنافس، ولَوْك الألفاظ وتحريك السبح وضرب الرؤوس، ونهش اللحوم والرقص على التمويل و... إلخ، أم بجلائل الأعمال وبذل النفس والنزوح عن الأوطان في سبيل الدعوة إلى الأقطار النائية الشاسعة مع بعد الشقة وعظم المشقة؟
17- ماذا ترى فيمن تَعْرِض له صيغة تصلية أو ذكر مما لفّقه شيخه فينزهها عن ذكره لها لكونه على غير وضوء؛ حتى إذا عرض له ذكر القرآن وهو في مجلسه ذلك وبحالته تلك اندفع في تلاوته اندفاع السيل من الجبل، أتلك الصيغة الواردة عن شيخه أجل قدرا وأعظم خطرا من القرآن المنزل من رب العزة بواسطة جبريل الأمين على قلب محمد بن عبدالله؟
18- لا شك أن جل مبتدعي هذه الطرق كان قصدهم حسناً فيما ابتدعوه، ولكن يعرض لتلك البدع ما يخرجها عن مقصدها الحسن، ويجعلها وبالاً على الإسلام المسلمين كما هو مشاهد.
19- إذا قسنا الطرق الصالحة -إن كانت هناك طرق صالحة وليست هي إلا طريقتك في نظرك- على الكثير الفاسد، ورفضنا الكل سداً للذريعة، ودفعا للأذى فهل يضرنا ذلك الرفض في ديننا؟
20- إن كان رفض تلك الطرق يضرنا في ديننا فما وجه ضرره؟
هذا قل من كثر، وبعض من كل، وإن شئتم زدنا، وإن عدتم عدنا، والحمد لله أولا وآخرا. (1)
__________
(1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.157- 164).(10/50)
محمد خليل هراس (1) (1395 هـ)
الإمام السلفي محمد خليل هراس. ولد بطنطا عام خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وتخرج من الأزهر من كلية أصول الدين وحاز على شهادة "الدكتوراه" في التوحيد وموضوع الرسالة 'ابن تيمية السلفي ورده على مذاهب المتكلمين'.
شغل عدة مناصب آخرها نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة النبوية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة. كان الشيخ محمد على قدر كبير من التمييز في دراسة العقيدة الصحيحة، ومتفردا في معرفة العقائد والفرق الكلامية والفلسفات القديمة والحديثة. وكان رحمه الله سلفي المعتقد، حاملا لواء السنة، نابذا لواء البدعة، منكبا على نشر السنة، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله في ذلك مؤلفات.
توفي رحمه الله سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
آثاره السلفية:
1- 'شرح العقيدة الواسطية'.
2- 'شرح النونية'.
3- 'دعوة التوحيد'.
وكلها مطبوعة.
__________
(1) مقدمة كتابه 'شرح العقيدة الواسطية' بقلم علوي السقاف (ص.41-42) ومجلة التوحيد (العدد الأول محرم 1417هـ/ص.57-59)(10/51)
- قال في شرحه على نونية ابن القيم:
وهذه الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع قطع مسافتها، وبلوغ غايتها إلا من جرد لها ركائب عزمه، وتوجه إليها بكل همه، ولم يلتفت إلى شيء مما يعوقه في سيره من تقليد لمذهب أو تعصب لرأي أو استحسان لبدعة، ولكن مسافتها تطول وتطول جدا على من خصهم الله بالحرمان والخذلان، فصرف قلوبهم عنها، وكره انبعاثهم إليها، فثبطهم وقال اقعدوا مع القاعدين، فهي هجرة لا ينالها أبدا كسلان، ولا يقوى عليها كل رعديد الفؤاد جبان، وهي هجرة لا تحتاج أن تعد لها زادا وراحلة، وتضرب في بيد الأرض وقفارها، بل قد يقوم بها العبد وهو نائم على فراشه، ويسبق في مضمارها الساعين إلى منازل الرحمة والرضوان، الذين يغذون السير جاهدين، تخب بهم مطاياهم، وأما هو فيسير سيرا لينا رفيقا، ولكنك تراه مع ذلك قد سبق الركب، وسار أمامهم كأنه الجبل العظيم، يراه من في القاع تحته، وإنما هيأ له السبق في المضمار أنه نشرت له أعلام النصوص، وفي رؤوسها أوقدت نيران، هي النور المبين لهداية السالك الحيران، ولكن لا يراها إلا من كانت له عينان بمراود الوحي مكتحلتان، لا بمراود أهل الفشر والهذيان، فلما رآها هرع نحوها وجرد السعي إليها، فلم يلتفت عنها يمينا ولا شمالا حتى بلغها وأدرك عندها بغيته وحقق أمله. (1)
- وقال: وردت أحاديث كثيرة على ما أعد الله سبحانه من أجر
__________
(1) شرح النونية (2/282).(10/52)
عظيم للمتمسكين بسنة نبيه المختار - صلى الله عليه وسلم - عند فساد الزمان وانحلال عرى الدين. فروى أبو داود رحمه الله في سننه، وروى أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في مسنده أثرا تضمن أن للعامل من هذه الأمة عند فساد الزمان أجر خمسين رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولفظ الحديث عند أبي داود، وعن أبي أمية الشعباني قال: "سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية: عَلَيْكُمْ { أَنْفُسَكُمْ } (1) ؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك -يعني بنفسك- ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر فيها مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله"، وزاد في غيره، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم" (2) ، وله شاهد يقويه فيما رواه مسلم رحمه الله من أن العبادة في وقت الهرج -أي القتل والفتن- تعدل هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) . هذا ولأهل السنة هجرات كثيرة لا بالأماني والأحلام ولكن بالتحقيق والتثبيت، فلهم هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص والتوحيد، ولهم هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء والاتباع، ولهم هجرة من البدع إلى السنن، ومن
__________
(1) المائدة الآية (105).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي ذر سنة (32هـ).(10/53)
المعاصي إلى الطاعات، ومن الأقوال والآراء إلى ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء في القرآن؛ وله شاهد أيضا فيما رواه الترمذي من أن الذي يحيى سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماتت يكون رفيقه في الجنة (1) .اهـ (2)
- وقال في شرحه على العقيدة الواسطية: هذا بيان المنهج لأهل السنة والجماعة في استنباط الأحكام الدينية كلها، أصولها وفروعها، بعد طريقتهم في مسائل الأصول، وهذا المنهج يقوم على أصول ثلاثة: أولها كتاب الله عز وجل، الذي هو خير الكلام وأصدقه، فهم لا يقدمون على كلام الله كلام أحد من الناس. وثانيها: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما أثر عنه من هدي وطريقة، لا يقدمون على ذلك هدي أحد من الناس. وثالثها: ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل التفرق والانتشار وظهور البدعة والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه من المقالات وزنوها بهذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، فإن وافقها قبلوه، وإن خالفها ردوه؛ أيا كان قائله. وهذا هو المنهج الوسط، والصراط المستقيم، الذي لا يضل سالكه، ولا يشقى من اتبعه، وسط بين من يتلاعب بالنصوص، فيتأول الكتاب، وينكر الأحاديث الصحيحة، ولا يعبأ بإجماع السلف، وبين من يخبط خبط عشواء، فيتقبل كل رأي، ويأخذ بكل قول، لا
__________
(1) أخرجه: الترمذي (5/44-45/2678) عن أنس بن مالك بلفظ: "...ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة" وقال: "حديث حسن غريب". قال الشيخ الألباني في المشكاة (1/62/175): "فيه علي بن زيد وهو ابن جدعان، وهو ضعيف". انظر الضعيفة (4548).
(2) شرح النونية (2/321).(10/54)
يفرق في ذلك بين غث وسمين، وصحيح وسقيم. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال في شرحه على الواسطية: قوله: (وفي باب أسماء الإيمان...) إلخ. كانت مسألة الأسماء والأحكام من أول ما وقع فيه النزاع في الإسلام بين الطوائف المختلفة، وكان للأحداث السياسية والحروب التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في ذلك الحين، وما ترتب عليها من ظهور الخوارج والرافضة والقدرية أثر كبير في ذلك النزاع.
والمراد بالأسماء هنا أسماء الدين؛ مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق... إلخ.
والمراد بالأحكام أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.
فالخوارج الحرورية والمعتزلة ذهبوا إلى أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من صدق بجنانه، وأقر بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميع الكبائر. فمرتكب الكبيرة عندهم لا يسمى مؤمنا باتفاق بين الفريقين.
ولكنهم اختلفوا: هل يسمى كافرا أو لا؟
فالخوارج يسمونه كافرا، ويستحلون دمه وماله، ولهذا كفروا عليا ومعاوية وأصحابهما، واستحلوا منهم ما يستحلون من الكفار.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين، وهذا أحد الأصول التي قام عليها مذهب
__________
(1) شرح الواسطية (256-257).(10/55)
الاعتزال.
واتفق الفريقان أيضا على أن من مات على كبيرة ولم يتب منها؛ فهو مخلد في النار.
فوقع الاتفاق بينهما في أمرين:
1- نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة.
2- خلوده في النار مع الكفار.
ووقع الخلاف أيضا في موضعين:
أحدهما: تسميته كافرا.
والثاني: استحلال دمه وماله، وهو الحكم الدنيوي. (1)
- وفيه أيضا: والشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال تعالى: مَنْ { ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (2) فنفي الشفاعة بلا إذن إثبات للشفاعة من بعد الإذن. قال تعالى عن الملائكة: * { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } (26) (3) .
__________
(1) ص.190-191).
(2) البقرة الآية (255).
(3) النجم الآية (26).(10/56)
فبين الله الشفاعة الصحيحة، وهي التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله وعمله. وأما ما يتمسك به الخوارج والمعتزلة في نفي الشفاعة من مثل قوله تعالى: فَمَا { تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (48) (1) وَلَا { يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا } شَفَاعَةٌ (2) فَمَا { لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } (100) (3) ... إلخ، فإن الشفاعة المنفية هنا هي الشفاعة في أهل الشرك، وكذلك الشفاعة الشركية التي يثبتها المشركون لأصنامهم، ويثبتها النصارى للمسيح والرهبان، وهي التي تكون بغير إذن الله ورضاه. (4)
- وفيه أيضا: وأما قوله: (وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار ... ) إلخ. وهذه هي الشفاعة التي ينكرها الخوارج والمعتزلة؛ فإن مذهبهم أن من استحق النار لابد أن يدخلها؛ ومن دخلها لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها. والأحاديث المستفيضة المتواترة ترد على زعمهم وتبطله. (5)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: أهل السنة والجماعة وسط في باب الوعيد بين
__________
(1) المدثر الآية (48).
(2) البقرة الآية (123).
(3) الشعراء الآية (100).
(4) ص.215-216).
(5) ص.218).(10/57)
المفرطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وزعموا أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، وإن لم ينطق به، وسُمّوا بذلك نسبة إلى الإرجاء، أي: التأخير؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان.
ولا شك أن الإرجاء بهذا المعنى كفرٌ يخرج صاحبه عن الملة؛ فإنه لا بد في الإيمان من قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، فإذا اختل واحد منها لم يكن الرجل مؤمناً.
وأما الإرجاء الذي نُسب إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة؛ كأبي حنيفة وغيره، وهو قولهم: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم مع ذلك يوافقون أهل السنة على أن الله يعذب مَن يعذب من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم منها بالشفاعة وغيرها، وعلى أنه لا بد في الإيمان من نطق باللسان، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة يستحق تاركها الذمّ والعقاب؛ فهذا النوع من الإرجاء ليس كفراً، وإن كان قولاً باطلاً مبتدَعاً؛ لإخراجهم الأعمال عن الإيمان. (1)
- وقال أيضاً: أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وأن هذه الثلاثة داخلة في مسمى الإيمان المطلق.
فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين: ظاهرُه وباطنُه، أصولُه وفروعه،
__________
(1) شرح الواسطية (ص.188-189).(10/58)
فلا يستحق اسم الإيمان المطلق إلا من جمع ذلك كله ولم ينقص منه شيئاً.
ولما كانت الأعمال والأقوال داخلة في مسمى الإيمان؛ كان الإيمان قابلاً للزيادة والنقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ كما هو صريح الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر مشاهد من تفاوت المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم وأعمال جوارحهم.
ومن الأدلة على زيادة الإيمان ونقصه أن الله قسم المؤمنين ثلاث طبقات، فقال سبحانه: ثُمَّ { أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } (1) .
فالسابقون بالخيرات هم الذين أدّوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، وهؤلاء هم المقربون.
والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرمات.
والظالمون لأنفسهم هم الذين اجترؤوا على بعض المحرمات وقصّروا ببعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم.
ومن وجوه زيادته ونقصه كذلك أن المؤمنين متفاوتون في علوم الإيمان،
__________
(1) فاطر الآية (32).(10/59)
فمنهم من وصل إليه من تفاصيله وعقائده خير كثير، فازداد به إيمانه، وتمّ يقينه، ومنهم من هو دون ذلك، حتى يبلغ الحال ببعضهم أن لا يكون معه إلا إيمان إجمالي لم يتيسر له من التفاصيل شيء، وهو مع ذلك مؤمن.
وكذلك هم متفاوتون في كثير من أعمال القلوب والجوارح، وكثرة الطاعات وقلتها.
وأما من ذهب إلى أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، وأنه غير قابل للزيادة أو النقص؛ كما يُروى عن أبي حنيفة وغيره؛ فهو محجوج بما ذكرنا من الأدلة، قال عليه السلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) (1) .اهـ (2)
__________
(1) تقدم تخريجه في مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(2) شرح الواسطية (ص.231-233).(10/60)
محمد بهجة البيطار (1) (1396 هـ)
الشيخ محمد بهجة البيطار، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق. ولد في دمشق سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف. وهو من أصل جزائري، نشأ في حجر والده محمد بهاء الدين، وتلقى على يده مبادئ العلوم الدينية، وعلى يد جده لأمه عبدالرزاق البيطار. واشتغل في عدة مناصب دينية آخرها توليه إدارة دار التوحيد السعودية، وعضوا عاملا في المجمع العلمي بدمشق والقاهرة.
له مؤلفات كثيرة منها: 'حياة شيخ الإسلام ابن تيمية' و'رسالة في الرد على من طعن في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب' و'رسالة في الرد على الكوثري'.
توفي رحمه الله بدمشق في ثلاثين جمادى الأولى سنة ست وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
دافع عن شيخ الإسلام ابن تيمية وله في ذلك مؤلف قال فيه: لقد صدق كثير من العلماء والأدباء في مختلف العصور هذه الرواية الآتية في رحلة ابن بطوطة الشهير، وجعلوها قضية مسلمة يروونها ويتوارثونها إلى عصرنا هذا، حتى إن دائرة المعارف الإسلامية التي تنقل الآن إلى العربية في مصر، قد ترجمت لابن تيمية ترجمة بقلم الأستاذ محمد بن شنب (ص.109-116ج1)
__________
(1) المستدرك على معجم المؤلفين (614-615) وتاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري (2/918).(10/61)
فيها أغلاط كثيرة، ونقلت عبارة ابن بطوطة هذه، وهي قوله عن إمام الشام وشيخ الإسلام ابن تيمية، "وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر" فرأيت أن أنشر كلمة في هذا الموضوع تكون الحد الفاصل بين الحق والباطل.
1- إن ابن بطوطة رحمه الله لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به، إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة هجرية، وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام، ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين لعشرين من ذي العقدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وسمعه يقول: ينزل..الخ.
2- إن رحلة ابن بطوطة مملوءة بالروايات والحكايات الغريبة، ومنها مالا يصح عقلا ولا نقلا، وهو يلقي ما ينقله على عواهنه، ولا يتعقبه بشيء فمن ذلك قوله (1) : وفي وسط المسجد (أي الأموي بدمشق) قبر زكريا عليه السلام، والمعروف أنه قبر يحيى عليه السلام، وقوله أيضا: وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وهذا لا يقال من قبل الرأي، وسفيان أجل من أن يفضله على مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين وهما لم يبلغ الثواب
__________
(1) 1/54).(10/62)
فيهما هذه الدرجة، كما هو معلوم للمحدثين وغيرهم، ومن نقوله التي أقرها ولم ينكرها (1) النذور للقبور المعظمة، والوقوف على أبواب الملوك، ومن ذلك النذر لأبي إسحاق، إذا هاجت الرياح في البحار، واشتدت الأخطار، وهو ما لم يبلغه أهل الجاهلية الذين قال الله تعالى عنهم: فَإِذَا { رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ } الدِّينَ (2) .
3-لم يكن ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع كما زعم ابن بطوطة (3) (فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ على منبر الجامع) بل لم يكن يخطب أو يعظ على منبر الجمعة كما يوهمه قوله: ونزل درجة من درج المنبر. وإنما كان يجلس على كرسي يعظ الناس، ويكون المجلس غاصا بأهله، قال الحافظ الذهبي: وقد اشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكان يورد الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح، وقال: وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع. (4)
واسترسل الشيخ البيطار في رد هذه الفرية من وجوه فمن شاء وقف عليها في كتابه 'حياة شيخ الإسلام'.
__________
(1) 1/199-133-136)
(2) العنكبوت الآية (65).
(3) 1/57).
(4) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية (36-37).(10/63)
موقفه من المشركين:
- قال في كتابه 'شيخ الإسلام ابن تيمية': وأقول -تأييدا لما ذكره شيخ الإسلام-: إن الصحابة الكرام قد تناظروا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، في أمر الخلافة، وفي جمع القرآن، وفي المعارك الدامية كوقعة الجمل وصفين والنهروان، وتناظر الشيخان في قتال مانعي الزكاة، وفي إرسال جيش أسامة، ولم يستغيثوا به في هذه الشدائد، ولم يستفتوه في شيء منها، وكل هذا معلوم من الدين والتاريخ بالضرورة، ومن العقل والحس والوجدان بالبداهة، فيجب رد ما يتجدد من الوقائع والحوادث إلى الوحي المنزل، وما عرف من سنن الصدر الأول للإسلام.
ولو كان ترك وسائل النصر والظفر، والاستنصار بغيره تعالى مفيدا لنا في شيء، لكنا اليوم أسعد الأمم حالا، وأنعمها بالا، وأوفرها عزة وثروة وقوة، ولكن تلك الخطة المعارضة للشرع والطبع والحس التي سلكها أولئك الناس لم تزد الأمة إلا نكالا ووبالا، قُلِ { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا(10/64)
} (57) (1) .
ثم إن هذا المؤلف (البكري) قد جرى على عرف بعض العلماء المتأخرين الذين جعلوا الاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم - وبغيره في معنى التوسل إلى الله تعالى بجاهه وبحقه، كالسبكي في 'شفاء السقام' والقسطلاني في 'المواهب'، والسمهودي في 'خلاصة الوفا' وابن حجر المكي في 'الجوهر المنظم' وغيرهم.
والمراد أنهم يسألون الله تعالى بحقه وجاهه أن تقضى حوائجهم، وسيأتي بحث ذلك. أما الاستغاثة بأهل القبور أنفسهم بمعنى طلب الغوث منهم أي زوال الشدة، وتفريج الهم والكرب، وقضاء سائر الحوائج، فهذه استغاثة شركية، لا تدخل في دائرة الأسباب والمسببات بحال، بل هي توسل الغلاة والجهال في الحضر والسفر، والبر والبحر، والعسر واليسر، والفرج والشدة، ونحن نجل أهل العلم والعقل والإيمان، عن الوقوع في مثل هذا الطغيان والهذيان. (2)
- وقال: ومن المؤسف جدا عدم الاهتداء بهدي الأنبياء والصالحين، والاكتفاء بتشييد القبور، وجعلها كالقصور والقلاع، والصلاة عندها، والطواف حولها، ونذر النذور لسدنتها، ويرحم الله حافظا القائل:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات
والواجب يتقاضى علماء الدين الخالص، والعاملين للمدنية الصحيحة،
__________
(1) الإسراء الآيتان (56و57).
(2) حياة شيخ الإسلام (ص.62-64).(10/65)
أن يتعاونوا على إنشاء معاهد علمية في الأقطار الشرقية والغربية، تدعو إلى الله على بصيرة، وتصحح العقائد والعوائد، وتزيل المهالك والمفاسد، وتعيد عهد الأئمة، وتجدد معالم الأمة. (1)
__________
(1) حياة شيخ الإسلام (ص.70).(10/66)
حمد بن مطلق بن إبراهيم الغفيلي (1) (1397 هـ)
الشيخ حمد بن مطلق بن إبراهيم بن راشد المحفوظي العجمي، من آل حصنان. ولد في بلدة الرس سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وألف، قرأ في بلدته، ثم انتقل إلى عنيزة، فلازم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي واستفاد منه، وقرأ عليه أمهات الكتب. عين قاضيا في السوارقية سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف، ثم قاضيا في مدينة صبياء، ثم طريف ثم الفوارة ثم أخيرا قاضيا لمحكمة العظيم بمنطقة حائل.
كان رحمه الله حسن الأخلاق، محبا للقرآن وكتب السنة، توفي في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف.
موقفه من الرافضة:
له من الآثار السلفية:
1- 'تنزيه جناب الشريعة عن تمويه مذاهب الشيعة'. وهو مقتبس من منهاج السنة. (2)
صهيب بن محمد الزمزمي بن الصديق الغماري (بعد 1397 هـ)
من عائلة الغماريّين المشتهرة بالانحراف السلوكيّ والعقديّ، منّ الله عليه بالبعد عن مخازيهم ونصرة المذهب الحق.
جمعنا وإياه مجلس مع الشيخ الألبانيّ حين جاء إلى المغرب. توفي بعد
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/116-120).
(2) علماء نجد (2/119).(10/67)
سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له رسالة اسمها: 'جماعة التبليغ أو أصحاب الدعوة الباكستانية خطر على المسلمين'. تحدث فيها عن أخطاء هذه الجماعة الدخيلة، وفنّد حججها الواهية، كما بيّن -رحمه الله- خطرها على الإسلام والمسلمين مستدلاًّ على ذلك بالآيات البيّنات والأحاديث الواضحات.
- قال رحمه الله في مقدمتها: وقد رغب إليّ كثير من المسلمين القاطنين ببلجيكا وهولندا، وألحوا علي أن أكتب رسالة أبيّن فيها موقف الإسلام من الخروج مع 'جماعة التبليغ' أو 'أصحاب الدعوة الباكستانية' هذا الخروج الذي يزعمون أنه في سبيل الله، وأنه لا يحل المسلم أن يتخلف عنه، ويثيرون بسببه ضجات وفتناً في المساجد ويدعون أنهم على هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأنهم الفرقة الناجية! والطائفة المنصورة.
حينئذ أخذت أتتبع نشاط هذه الطائفة وأقتفي أثر أفرادها في مجال الدعوة، بغية الحصول على معلومات تمكنني من تسليط الأضواء على هذه الفرقة، والحكم عليها حكماً لا جور فيه ولا شطط.
ومن خلال تحادثي مع بعض الأشخاص المنتمين إليهم، وبعد استماعي إلى أحاديث دعاتهم المسجلة على الأشرطة، تبين لي أن 'جماعة التبليغ' أو 'أصحاب الدعوة الباكستانية' أتباع طريقة صوفية جاءت على نمط جديد.
وأن انتشارها يضرّ بسمعة الإسلام، كما أن فيه خطراً على المسلمين، وهذا الخروج الذي يلهج به أتباعها في كلّ مكان، ويدندنون حوله في جميع(10/68)
أحاديثهم ليس إلا وسيلة لضمّ الناس إليهم، وتكثير السواد بهم.
وإذ ذاك، لم أجد بدّاً من كتابة هذه الرسالة التي أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، ويقبلها مني نصحاً لدينه وللمسلمين. (1)
-وقال في رد بدعة التمذهب: كما أنه إذا كان الداعي ملتزما في أمور دينه بمذهب معين لا يخالف ما فيه من أقوال وآراء وإن علم أنها غير متفقة مع ما جاء في القرآن أو في السنة، فهذا أيضا لا يجوز له أن يتصدى للدعوى إلى الله، وذلك لأنه إذا دعا الناس وحاله هذه فإنما سيدعوهم إلى ما هو عليه من اتباع النظريات والأفكار المخالفة للكتاب والسنة، والله سبحانه وتعالى إنما أمر أن تكون الدعوة غليه بالكتاب والسنة فقال جل ذكره: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ } بِالْحِكْمَةِ (2) . قال ابن جرير: وهو ما أنزل عليه من الكتاب والسنة.
والخلاصة أن الدعوة إلى الله وما يتبعها من الأمر والنهي، لا يمكن ولا أن تتحقق بدون هذه الشروط:
1- الفقه في الدين، ولو فيما يتعلق بالدعوة.
2- التمسك بالقرآن والسنة قولا وفعلا.
3- وأن يكون القرآن والسنة في مجال الدعوة وسيلة وغاية، بحيث تكون الدعوة إليهما وبهما: ادْعُ { إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
__________
(1) رسالة جماعة التبليغ (ص.5-6).
(2) النحل الآية (125).(10/69)
} بِالْحِكْمَةِ (1) .اهـ (2)
ثم بيّن رحمه الله خطر هذه الجماعة على المسلمين من سبعة أوجه قويّة فقال: لماذا كانت الطريقة الباكستانية خطراً على المسلمين؟
يتميز أتباع هذه الطريقة بخصال:
أولها: مخالفة السنة النبويّة، بل محاربتها، فهم لا يعملون إلا بالسنة المقررة في طريقتهم والتي يعمل بها مشايخهم بالباكستان، وما سوى ذلك فهم لا يقبلونه ولا يرفعون به رأساً. (3)
وقال رحمه الله مبينا منهجه: هذا ونلفت القراء إلى أن الانتقادات التي نوجهها إلى أتباع الطريقة الباكستانية إنما تأتي على ضوء الكتاب والسنة، لا على أساس مبدإ صوفي، ولا ننتمي إلى مذهب؛ بل مذهبنا في الحياة الإسلام: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (4) . وطريقتنا فيه العمل بما قام عليه البرهان، وثبتت حجته عن الله ورسوله. وما كان من اختلاف أو تنازع نبحث عن صوابه، ونطلب حله في القرآن، وفيما صح من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا
__________
(1) النحل الآية (125).
(2) جماعة التبليغ (ص.10-11).
(3) جماعة التبليغ (ص.23).
(4) الأنعام الآية (153).(10/70)
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ (1) . فهذا ما ننبه إليه، فمن كان ملتزما بذلك فحسبنا به قارئا والسلام. (2)
- ثم بيّن رحمه الله خطر هذه الجماعة على المسلمين من سبعة أوجه قويّة نذكر بعضا منها:
قال رحمه الله: لماذا كانت الطريقة الباكستانية خطراً على المسلمين؟ يتميز أتباع هذه الطريقة بخصال:
أولها: مخالفة السنة النبويّة، بل محاربتها، فهم لا يعملون إلا بالسنة المقررة في طريقتهم والتي يعمل بها مشايخهم بالباكستان، وما سوى ذلك فهم لا يقبلونه ولا يرفعون به رأساً. (3)
وقال: ثانيها: دعوة الناس إلى أمور يسمونها صفات الصحابة، وهي في الحقيقة مبادئ طريقتهم الباكستانية ويزعمون أنه حين لم يعد المسلمون أهلاً لاتباع السنة النبوية قام العلماء بجمع هذه الصفات الستة من حياة الصحابة ليعمل الناس بها! سبحان الله! ما هي شروط اتباع السنة؟ حبذا لو عرفناها!. (4)
__________
(1) النساء الآية (59).
(2) جماعة التبليغ (ص.7).
(3) جماعة التبليغ (ص.23).
(4) جماعة التبليغ (ص.25-26).(10/71)
- وقال: ثالثها: اجتراؤهم على تفسير كلام الله تعالى، وشرح معاني آياته وهم جاهلون! حتى إن الواحد منهم لا يكاد يحسن كتابة اسمه، ورغم ذلك، يجلس في المساجد للوعظ والإرشاد، ويشرح للناس -بكل وقاحة!- ما يعرض من آيات قرآنية وأحاديث نبوية. (1)
- وقال: رابعها: الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل وبما يعرف الناس أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كالأمثال السائرة، وأقوال بعض الصوفية، والحكم المشهورة بين العامة.
وهذه الخصلة من الموبقات المهلكة، والكبائر العظيمة، التي تقذف صاحبها في النار. (2)
- وقال: سابعها: أنهم لا يرعوون عن قذف أي عالم من علماء المسلمين ورميه بالكفر والإلحاد، والفسق والفجور إذا هو اعترض أفكارهم وأنكر طريقتهم، شأنهم في ذلك شأن اليهود الذين قال عنهم عبدالله بن سلام رضي الله عنه: (إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني) (3) .
وهكذا أتباع الطريقة الباكستانية، فويل منهم للعالم الذي يحذّر الناس من طريقتهم ويردّ عليهم.
أخبرني الأستاذ الصمدي أنهم يكفرون الشيخ أبا الأعلى المودودي الكاتب الإسلامي المشهور! ونحن نعلم -مسبقاً- أن المودودي لا ذنب له
__________
(1) جماعة التبليغ (ص.26).
(2) جماعة التبليغ (ص.27).
(3) أخرجه: أحمد (3/108) والبخاري (6/446-447/3329) والنسائي في الكبرى (5/70-71/8254).(10/72)
عندهم إلا أنه يخالفهم، ولا يتفق معهم!
وقديماً بلغنا عنهم أنهم يقولون عن الدكتور الهلالي إنه مسيحيّ! والسبب هو هو، فالدكتور الهلاليّ قد عاش مدّة بالباكستان وعرف عنهم الكثير، فهو لذلك لا يسميهم إلا 'الإلياسيّين' نسبة إلى شيخهم، ويقول: إنهم أصحاب طريقة عصريّة.
وفي شهر رمضان من العام الماضي حضر إلى العاصمة البلجيكية عالم من السعوديّة، وألقى دروساً ببعض المساجد هناك، ولما رأى هؤلاء الباكستانيون إعراضه عنهم، وإنكاره لما هم عليه، أشاعوا عنه إشاعة قبيحة توحي بأنه رجل فاسق! إِن { الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } (19) (1) .
فبوجود تلك الخصال في أتباع الطريقة الباكستانية كانت هذه الطريقة خطراً على المسلمين، إذ أنها لو ظهرت -والحالة هذه- وانتشرت -لا سمح الله بذلك- بين جميع المسلمين، لأصبحت الأمة الإسلامية أذلّ أمة على وجه الأرض، ضعيفة في دينها وعقيدتها، تحارب السنة، وترغب عنها، وتنصر البدعة، يتجاسر الجاهلون منها على تفسير كلام الله تعالى ولا يهابونه، ويكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يبالون، يتنصلون من مسؤولياتهم، ويهربون من واجبات
__________
(1) النور الآية (19).(10/73)
الحياة باسم الدين، ويستحلّون الكذب، ويستبيحون الافتراء على الله والناس.
وبذلك، ينزل المسلمون إلى الدرك الأسفل من التخلف والانحطاط، ولا يبقى أي أمل في النهوض بهم بعد أبداً، وذلك بالذات، هو ما يتمناه أعداء الإسلام ويودون وقوعه. (1)
__________
(1) جماعة التبليغ (ص.37-39).(10/74)
محمد كنوني المذكوري ( 1398 هـ)
محمد بن محمد بن العربي كنوني المذكوري، الفقيه العلامة. كان رحمه الله عضواً بارزاً في الأمانة العامّة لرابطة علماء المغرب، له مجموعة فتاوى نشرت في جريدة 'الميثاق' لسان رابطة علماء المغرب، ثم طبعت مستقلة. وقد قال الشيخ عبدالله كنون في تقريظه لها: والآن يقوم بهذه المهمة -أي الفتوى- فضيلة الفقيه العلامة الحاج محمد كنوني المذكوري الذي أبدى كفاءة ومقدرة عديمتي النظير في هذا الباب مع غاية التثبت وعدم الاندفاع في هذه الجهة أو تلك بمجرد الرغبة في الخلاف أو إرادة الشهرة؛ كما يقال: خالف تعرف. بل إن دافعه إحقاق الحق وبذل الجهد في إصابة حكم الله في المسألة من غير تعصب ولا تحامل، وفتاواه المنشورة في هذه المجموعة؛ وهي الدفعة الأولى دليل على ذلك، فالله يديم توفيقه وتسديده ويطيل بقاءه في صحة وعافية للنفع وخدمة العلم بهذه الروح العالية والهمة الصادقة، إنه تعالى سميع مجيب.
توفي رحمه الله ليلة الجمعة لست وعشرين خلون من شهر محرّم سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة بمدينة الدار البيضاء.
موقفه من المبتدعة:
له رسالة الفتاوى أبدى فيها مؤلفها نصاعة المنهاج الذي يجب على المسلمين أن يسيروا عليه، ألا وهو التمسك بالدليل مع الاسترشاد بفهم(10/75)
السلف رحمهم الله. (1)
- قال المذكوري في مقدمة فتاواه: وقد سلكت في ذلك سلوك الاستدلال بكتاب الله تعالى، وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بكلام الفقهاء بعد ذلك، بعد مقابلته بالأصول المبني عليها، إذ من المعلوم المقرر من أقواله وأفعاله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - أن ما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، هو هذان الأصلان الأولان للتشريع الإسلامي، فكيف يمكن إذن للمسلم أن يدع هذين الأصلين الصحيحين إلى أقوال البشر المعرضة للخطإ، وكيف يمكن لأهل العلم أن ينفر بعضهم ممن يدعو إلى العمل بكتاب الله الكريم وبالسنة المطهرة ويسلك السبيل الذي أراده بعض الإخوان من الفقهاء حيث انتقدوا هذا السلوك الذي يخالف رغبتهم في التقيّد بالتقليد الأعمى المحرّم كتاباً وسنة، وطالما أقنعناهم بأن يراجعوا الأصول التي بنى عليها الفقهاء الكبار رحمة الله عليهم مذاهبهم، فإن وجدوا الفروع موافقة لأصولها فذاك، وإلا فالرجوع إلى الأصل والصواب أفضل من التمادي على الباطل، ولكنهم لم يقتنعوا بحجة ذلك التقليد، ويزداد العجب عندما نجد أن بعض الإخوان لازالوا يسيرون في نفس هذا الاتجاه ولو كان مخالفاً للمصدرين المذكورين أو لأحدهما حتى صار الناس فرقاً مختلفة متناحرين، مع أن دستورهم الخالد هو كتاب الله القائل: وَأَنِ { احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
__________
(1) وزيّنها تقديم الأمين العام لرابطة علماء المغرب عبدالله كنون الذي حثّ الفقهاء في مقدمته على وجوب إرداف الفتوى بدليل من الكتاب والسنة والابتعاد عن التقليد.(10/76)
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (50) (1) ، والقائل: ثُمَّ { جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (18) (2) ، والقائل: فَإِنْ { لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } (3) الآية، كما أن حديث رسولهم - صلى الله عليه وسلم - واحد، وهو المبيّن لكتاب الله كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا { إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
__________
(1) المائدة الآيتان (49و50).
(2) الجاثية الآية (18).
(3) القصص الآية (50).(10/77)
} إِلَيْهِمْ (1) .
إلى أن قال: ولذلك فإننا ندعو على سبيل الذكرى التي تنفع المؤمنين جميع إخواننا المسلمين إلى مراجعة ما هم عليه من هذا التقليد بحيث يعرضون أعمالهم وسلوكهم على كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وعلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وعلى ما استخرجه السادات العلماء رحمهم الله من ذلك.
ومن أجل هذا وشبهه، اقترح علينا بعض إخواننا من أهل العلم وبعض المنتسبين للسنة المطهرة والعاملين بها من الطلبة وغيرهم، طبع هاته الأجوبة عسى أن يسترشد بها أصحاب العقول النيرة ويهتدي بها من هم في حيرة والتباس فأسعفت طلبهم رجاء ثواب الله تعالى. (2)
- وقال رحمه الله ناصحاً الدعاة إلى الله: ومما ينبغي له أيضاً، بل يجب، هو اهتمامه بمسألة العقيدة، فهي أهم كل شيء، ولاسيما وقد انهارت من قلوب الكثير من الناس كما وقع لبعض الشباب الصاعد بسبب أنه لم يدرسها أصلاً أو درسها دراسة غير كافية أو منحرفة، أو كما وقع لبعض الشباب البريء، وكثير من الشيوخ والنساء والكهول، حيث يعتقدون اعتقادات ضالة لا يقرها ديننا الحنيف، ومن أجل هذه العقيدة، بعث الله الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، إلى أقوامهم ليعبدوا الله مخلصين له
__________
(1) النحل الآية (44).
(2) الفتاوى (ص.7-9).(10/78)
الدين، صارخين فيهم: مَا { لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ } غَيْرُهُ وكلنا نعلم ما وصلت إليه عقيدة الشعوب من عبادة القبور والقباب، مما تضيق من ذكره الصدور، ومن أعجب ما يستغرب، أن هذا القرآن الكريم، وإن كان مرّ على نزوله أربعة عشر قرناً، وهو يقرأ في كلّ وقت وحين، مندّداً ببطلان علة عابد الأصنام حيث قالوا: مَا { نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ } زُلْفَى (1) قلت: ومع تكرارها بالألسنة، وعلى الآذان والعقول والأفهام، لازال عباد القبور والقباب، يتعللون بتلك العلة، فقد امتزجت بقلوبهم وعقولهم، ولذلك فاستئصالها من عقولهم أمر عسير، يحتاج إلى عناء كبير وحكمة وتبصّر، وخبرة باقتلاع جذورها من صدورهم، إذ ليست مرضاً كالأمراض العاديّة التي تعالج بالحبوب أو السوائل أو المسكنات، بل تحتاج إلى عملية جراحية، وأطباء ماهرين في اقتلاع ذلك بحكمة وأناة وصبر، وأنتم أيها العلماء والمرشدون وأمثالكم، هم الصالحون لإزالة ذلك المرض، فهيئوا لذلك نفوسكم، وسووا لها صفوفكم ووحدوا خطتكم ومعكم الله ورسوله والمؤمنون، وَلَقَدْ { سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ
__________
(1) الزمر الآية (3).(10/79)
الْغَالِبُونَ } (173) (1) ، ومما ينبغي له كذلك، أن يقتصر على موضوع واحد بحيث يستحضر عناصره وأصوله، ويحلله تحليلاً سهلاً مبسطاً مع ضرب الأمثال ما استطاع، بحيث يتحدث إلى القلوب، فتنجذب إليه قبل الآذان، وأن يتجنب الألفاظ القاسية الشديدة التي ينفر منها الطبع ولا يستلذها الإحساس والسمع، فصاحبها كالطبيب اللبيب يستعمل لمريضه الدواء المر واللسان الحلو، ومما ينبغي له الاقتصار على الأحاديث الصحيحة أو الحسنة، وما أكثرهما ولله الحمد، ففيهما كل كفاية، وذلك مخافة أن تحدثهم بالحديث الضعيف، فيسألوا غيرك، وما أكثر هذا الصنف من الناس، فإذا ما أخبرهم بضعفه، فإن هذا الضعف يشملك أنت أيضاً فيصير الكلّ ضعيفاً فترتفع الثقة منك وعدم الاطمئنان إليك، فحذار حذار. (2)
وقال رحمه الله بعد ذكر قول الأئمة في نبذ التقليد: فهذه أقوالهم وأفعالهم، وهم قادة الأمة وسادتها، فليتأمل المتأمل المنصف ذلك وليقس عليه أفعال الناس اليوم وأقوالهم من ملازمتهم لهذا التقليد الأعمى حتى ولو خالف الكتاب والسنة، وهذا الشيء عشناه وشاهدناه، ولم نجد أيام دراستنا إلا مثل هذا التقليد، إلى أن قيّض الله تعالى لهذا الشعب المغربيّ النبيل أحد أبنائه البررة الإمام شيخنا وشيخ الإسلام المحدث الحافظ، أبا شعيب الدكالي رحمه الله وجزاه خير ما يجازي به كل مصلح، فقد كانت دروسه برداً وسلاماً على
__________
(1) الصافات الآيات (171-173).
(2) الفتاوى (ص.88-90).(10/80)
قلوب المنتبهين والحائرين وجحيماً على المقلدين الجامدين، حيث حمل على البدعة والتقليد، وندّد بأصحابهما أيما تنديد، فانبثقت من درسه عدة دروس، اشتاقت لسماعها الكثير من النفوس، وخفقت أعلام السنة في المدن والبوادي وغنّى لها كل من الرائح والغادي، وأدبرت فلول البدعة تتعثر في أثواب الخجل والوجل، وتمت كلمة الله عز وجل، فله على هذا الشعب الفضل العظيم، وسيلقى جزاء ذلك عند الله الغفور الرحيم، فزالت بذلك عن كثير من القلوب الغباوة، وعن أعين الكثير الغشاوة، فالواجب على من بيدهم مقاليد أمور المسلمين أن يسعوا لجمع كل من فيه أهلية المجتهد أو حتى نصف المجتهد على القول به، لينظروا أو يسيروا في هذا الطريق السويّ بدافع الضرورة، أو لما حدث ويحدث في جميع بلاد الإسلام من وقائع ومستحدثات. (1)
وقال في تقريظه لرسالة ابن تاويت التطواني حول البناء على القبور والصلاة إليها: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. أما بعد:
فقد راجعت ما كتبه وحرره فضيلة الفقيه العلامة أحمد بن محمد بن تاويت التطواني في رسالته المسماة 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور والصلاة بالزوايا'؛ رادا فيها على من أجاز ذلك معتمدا على قول الشيخ خليل والمدونة أولا، وسكوت علماء فاس على تنبيه الناس على صحة صلاتهم بضريح المولى إدريس وغيره ثانيا.
__________
(1) الفتاوى (ص.187-188).(10/81)
ولقد أجاد حفظه الله وأتى بالنصوص المستمدة من الينبوع الصافي السلسبيل؛ كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يشفي الغليل ويبرئ العليل.
وأسمع لو نادى حيا ... ولكن لا حياة لمن يُنادي
ِqs9ur { عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } (1) إذ التقليد الأعمى سرى في أمزجتهم وعقولهم، وامتزج بدمهم ولحمهم، فلا تنفع فيهم أدلة الكتاب الكريم ولا سنة رسوله، ولا أقوال وأفعال الخلفاء الراشدين، ولا العشرة المبشرين بالجنة، ولا سائر الصحابة والتابعين وأتباعهم الذين هم خير القرون بشهادته - صلى الله عليه وسلم - .
هذا، وإنني كنت سئلت عن مثل ما جاء في الرسالة المذكورة من بعض النواحي، فأجبت بمثل ما أتى في هاته الرسالة، كما أنني كنت أقرر ذلك غير ما مرة سواء في الدروس أو في المجتمعات. ومع ذلك لا زالوا نائمين وعن التذركة معرضين، ثم إنه كيف يعقل أن يترك كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعصوم من الخطإ؛ وفعله وتقريره إلى قول فلان وسكوت فلان وفلان؟ وهل يتصور أن يرجح سكوت العلماء، ويرمى بما نطق به هذا الرسول الكريم وطبقه في أقواله وأفعاله، ويضرب بذلك كله عرض الحائط؟ رَبَّنَا { لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
__________
(1) الأنفال الآية (23).(10/82)
} (8) (1) .
ثم هل هذا منهم يعد عنادا وتحديا لكلام الله تعالى في قوله: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) وفي قوله: لَقَدْ { كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ } الْآَخِرَ (3) وفي قوله: فَلْيَحْذَرِ { الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) (4) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث؟ فإن كان الأمر كذلك فإني أخشى عليهم من قول الله تعالى كما في سورة المجادلة: إِنَّ { الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } (5) إلخ. وفيها أيضا: إِنَّ { الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي
__________
(1) آل عمران الآية (8).
(2) الحشر الآية (7).
(3) الأحزاب الآية (21).
(4) النور الآية (63).
(5) المجادلة الآية (5).(10/83)
الْأَذَلِّينَ } (20) (1) إلخ. وقد تكرر نهي الله تعالى في كثير من آيات كتابه عن التقليد. ففي سورة البقرة: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (170) (2) وفي سورة المائدة: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (104) (3) وفي سورة لقمان: وَإِذَا { قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
__________
(1) المجادلة الآية (20).
(2) البقرة الآية (170).
(3) المائدة الآية (104).(10/84)
} (21) (1) وفي سورة الزخرف: بَلْ { قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (25) (2) إلى غير ذلك.
ونحن من جهتنا لا نحب أن نثير هنا الجدال والإكثار من قيل وقال. فالصبح واضح لكل ذي عينين، وإنما نقول لهم: ارجعوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، فهما الأصلان الأولان لهذا التشريع الإسلامي الحكيم؛ الصالح لكل زمان ومكان وشخص. إذ فيهما من الأسرار الإلهية ما هو كفيل بإسعاد البشرية، وفيهما ما بينه رسول الله عليه السلام، امتثالا لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا { إِلَيْكَ
__________
(1) لقمان الآية (21).
(2) الزخرف الآيات (22-25).(10/85)
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (44) (1) ومن جملة ما بينه شروط سائر العبادات؛ فمن أداها بشروطها فقد امتثل الأمر، ومن لم يطبقها فلا عبادة له؛ إذ من المعلوم أن الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. ففي الصلاة مثلا بينها بأقواله وطبقها بأفعاله وأكد ذلك قائلا: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (2) ، ومن جملة أقواله النهي عن الصلاة في المقابر كما وضحه صاحب الرسالة، وفي الصوم قال: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" (3) ، وفي الحج: "خذو عني مناسككم" (4) ، وأكد ذلك بفعله إلخ.
والله تعالى لما كرر المحافظة على الصلاة فقال في سورة البقرة: حَافِظُوا { عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ } الْوُسْطَى (5) إلخ. وفي الأنعام: وَهُمْ { عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
__________
(1) النحل الآية (44).
(2) أخرجه أحمد (5/53) والبخاري (2/142/631) من حديث مالك بن الحويرث.
(3) رواه ابن ماجة (1/539/1690) والنسائي في الكبرى (2/239/3249) من حديث أبي هريرة. وصححه الحاكم (1/431) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وابن خزيمة (3/242/1997).
(4) أحمد (3/301) ومسلم (2/405/1970) والترمذي (3/234/886) والنسائي (5/298/3062) وابن ماجه (2/1006/3023).
(5) البقرة الآية (238).(10/86)
} (92) (1) وفي سورة المؤمنون: وَالَّذِينَ { هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } (9) (2) وإني لأتعجب كثيرا لهذا المصلي المسكين الذي يتعب نفسه في استعمال الطهارة، وفي خروجه إلى الصلوات ولكن يوقعها وهو مخالف لأوامر ربه في قوله: وَمَا { آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (3) ومخالف لنهي نبيه كما جاء في أحاديث تلك الرسالة.
هذه نصيحتنا لإخواننا المسلمين، إذ نحن ملزمون بأدائها عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "الدين النصيحة" (4) وعملا بقوله تعالى: وَالْعَصْرِ { (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } (3) (5) ونحن نرجو الله تعالى أن لا نكون نحن ولا هم من الخاسرين. هذا ما يتعلق بالصلاة على القبور قدمتها لأهميتها.
__________
(1) الأنعام الآية (92).
(2) المؤمنون الآية (9).
(3) الحشر الآية (7).
(4) أخرجه من حديث تميم الداري: أحمد (4/102) ومسلم (1/74/55) وأبو داود (5/233-234/4944) والنسائي (7/176-177/4208و4209).
(5) سورة العصر.(10/87)
أما البناء على القبور سنقول فيه ما قلنا في شأن الصلاة، إذ كل ذلك مخالف للشرع، كما قاله وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما هو مبين كذلك في الرسالة المشار إليها، فلا داعي للتطويل بجلب الأولى على ذلك، والاستدلال فَمَاذَا { بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } (1) .
كما له فتاوى في بدعية رفع الصوت وراء الجنائز، وبدعية قراءة القرآن جماعة وغيرها.
موقفه من المشركين:
- له رحمه الله 'التحريف والتدجيل في كتابي التوراة والإنجيل' بيّن فيه ما وقع من التحريف في التوراة والإنجيل وأنهما لم يبقيا على أصلهما الصحيح. وهذا الأمر أوضح من أين يذكر، فإن الله جلّ وعلا قد ذكره في كتابه، ومع ذلك نجد من يشكّ أو يشكّك في ذلك، فيدعو الناس إلى التقارب المزعوم بين الأديان السماوية، وكأنها لا زالت على ما كانت عليه، فلينتبه العاقل لهذا!.
موقفه من الصوفية:
قال: أما ما ذكره السائل من ذلك الرقص الفظيع والتلفظ بقولهم: "هي الله" فذاك شيء شنيع، فتبّاً له من تعبير، وتعالى الله عن فحش ذلك الضمير، أفلا يخشى الإنسان من هذا، والله تعالى يقول: قُلْ { هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ
__________
(1) يونس الآية (32).(10/88)
شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } (65) (1) ، وقال: ذَلِكَ { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } (62) (2) إلخ.
فكيف إذاً يحصل الخشوع الذي يظنه السائل، وهم على الحالة الموصوفة، بل ذلك شيء آخر أصون القلم عن تسطيره، وخير لهم كذلك أن يجتمعوا على ذكر الله تعالى، ولاسيما بالأذكار الواردة عن الرسول عليه السلام. (3)
مبارك بن عبدالمحسن بن باز (4) (أواخر القرن الرابع عشر الهجري)
الشيخ مبارك بن عبدالمحسن بن باز. ولد في بلدة الحلوة سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، ونشأ فيها. قرأ على الشيخ عبدالله بن عبداللطيف والشيخ إسحاق بن عبدالرحمن والشيخ إبراهيم بن عبداللطيف والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ وغيرهم.
__________
(1) الأنعام الآية (65).
(2) الحج الآية (62).
(3) الفتاوى (ص.118-119).
(4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/425-426).(10/89)
كان والده هو قاضي بلدة الحلوة، فلما توفي تولى القضاء بعده، ثم تقلب في قضاء عدة بلدان آخرها قضاء مقاطعة الشعيب. كان رحمه الله أحد العلماء الذين بعثهم الإمام عبدالعزيز بن سعود لمناظرة علماء مكة في مسائل التوحيد. توفي رحمه الله في بلدة الحلوة في آخر القرن الرابع عشر الهجري.
موقفه من المشركين:
جاء في علماء نجد: ولما تولى الإمام عبدالعزيز بن سعود على الحجاز عينه قاضيا في الطائف، وهو أحد وفد العلماء الذين بعثهم الإمام عبدالعزيز ابن سعود ليناظروا علماء مكة في مسائل تتعلق بتحقيق التوحيد، وهذا قبل ولاية الإمام عبدالعزيز بن سعود عليها، فاجتمعوا بهم وناظروهم، وظهر الحق بالجانب السعودي النجدي. (1)
محمد أسلم الباكستاني (حوالي 1400 هـ)
الشيخ محمد أسلم عرفته طالبا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية وكان رحمه الله من الطلبة المحبين لمنهج السلف وتخرج من الجامعة الإسلامية، وذهب داعية إلى كندا، وكان مجتهدا في الدعوة إلى الله، ويعتبر أول من كتب عن جماعة التبليغ، وكان كتابه دراسة على جماعة التبليغ، تقدم به لنيل الإجازة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية، وهو بعنوان 'جماعة التبليغ عقائدها وأفكارها ومشايخها'. وكان هذا الكتاب أصلا لكل كاتب
__________
(1) علماء نجد (5/426).(10/90)
على هذه الجماعة في بيان ضلالاتها وخرافاتها وعداوتها للمنهاج السلفي. وهو الذي اعتمده شيخنا الهلالي رحمه الله في كتابه السراج المنير في تنبيه جماعة التبليغ على أخطائهم.
مات رحمه الله مقتولا في كندا على يد جماعة أثيمة عاملها الله بما تستحق.
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله في معرض رده على الديوبندي شيخ طائفة التبليغ: "استدلاله بالآية المحرفة": كل واحد يعرف الشيخ محمود حسن ديوبندي "يسمونه شيخ الهند" الذي كتب كتاب 'إيضاح الأدلة' ردا على عالم سلفي استدل على رد التقليد بآية: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (59) (1) . فقام الشيخ محمود حسن فرد على العالم المذكور، واستشهد بنفس الآية على ادعائه، لكن زاد فيها: ((وإلى أولي الأمر منكم)) زاعما أن هذا من الآية، مع أنه ليس من الآية. ثم
__________
(1) النساء الآبة (59).(10/91)
قال: هذا هو السبب لقوله تعالى: فَإِنْ { تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } وَالرَّسُولِ ((وإلى أولي الأمر منكم..)) والظاهر أن (أولي الأمر) في الآية غير الأنبياء، فانظر إلى الآية يتضح بها أن الأنبياء وأولي الأمر كلهم يجب اتباعهم. -ثم بدأ معترضا- أنك قد عرفت: فَرُدُّوهُ { إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } ، ولم تعرف إلى الآن أن القرآن الذي وجدت فيه هذه الآية [توجد فيه الآية] المذكورة التي استدللت بها، وليس بعجيب أن ترى التعارض بين الآيتين جهد عادتك، فنفتي بأن تكون إحداهما ناسخة والأخرى منسوخة. انتهى
ويثار السؤال على هذا الاستدلال بأن الآية الثانية التي زاد فيها الشيخ محمود حسن الديوبندي واستدل بها في أي جزء من القرآن وفي أي مصحف؟! وقد نشر الكتاب باسم الشيخ محمود حسن، والأغلب أنه نشر في قيد حياته وقرأه تلامذته من العلماء والمشايخ، ومن الديوبنديين وجماعة التبليغ، فهل وفق أحدهم أن يصلح هذه الهفوة "التحريف"؟. (1)
-وقال في ترجمة أحد شيوخ جماعة التبليغ -الشيخ محمد يوسف البنوري الحنفي الديوبندي الجشتي-: إنه من شيوخ جماعة التبليغ، وحكي عنه خرافات كثيرة من مكالمة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ومن ذلك: أنه يؤيد ابن
__________
(1) السراج المنير لتقي الدين الهلالي (ص.54-55).(10/92)
عربي الحاتمي القائل بوحدة الوجود،كما أنشد في كتاب الفتوحات المكية من شعره، بل من بعره:
العبد رب والرب عبد إن قلت عبد فذاك حق ... يا ليت شعري من المكلف أو قلت رب أنى يكلف
وقال فيه الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في داليته المشهورة التي مدح بها شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله تعالى:
وأكفر أهل الأرض من ظن أنه مسماه كل الكائنات بأسرها ... إله تعالى الله جل عن الند من الكلب والخنزير والفهد والقرد (1)
__________
(1) السراج المنير (ص.80).(10/93)
عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر (1) (1401 هـ)
الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر بن محمد بن جاسر، ولد في شهر محرم سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف في بلد أشيقر، ونشأ بها وطلب العلم، فلازم الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى ملازمة تامة دامت ست عشرة سنة، وقرأ عليه كتبا كثيرة في التوحيد والنحو والفقه والحديث والتفسير، كما أخذ عن الشيخ العالم محمد الطيب الأنصاري المدني. تولى القضاء بالمستعجلة بمكة سنة خمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم بالطائف ثم بالمدينة النبوية، فمكث بها سبع سنين، ثم صار رئيسا لمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية وعضوا في مجلس القضاء.
توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعمائة وألف، وصلي عليه في المسجد الحرام بمكة المكرمة.
موقفه من الجهمية:
له: 'تنبيه النبيه والغبي فيما التبس على الشيخ المغربي'.
رد فيها على شيخ مغربي أنكر تكليم الله لموسى، وزعم أن جبريل عليه الصلاة والسلام إنما أظهر لموسى كلام الله من اللوح المحفوظ. (2)
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/193-199).
(2) علماء نجد (4/196).(10/94)
عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز بن حميد (1) (1402 هـ)
الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حميد، من آل حسين بن عثمان. ولد في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، في بلدة معكال من الرياض، وكف بصره في طفولته، وطلب العلم، فأخذ عن مشايخ كبار أمثال الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ سعد بن عتيق والشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ وغيرهم. عين قاضيا في الرياض، ثم نقل إلى قضاء مقاطعة سدير، ثم إلى مقاطعة قصيم، ثم عين رئيسا للرئاسة العامة للإشراف الديني على المسجد الحرام، ثم رئيسا لمجلس القضاء.
لازم الشيخ محمد بن إبراهيم ملازمة تامة، فأصبح من كبار علماء الإسلام، وكان ولاة الأمور يجلونه ويعظمونه لسعة علمه، حتى قال في حقه الملك عبدالعزيز آل سعود: لو كنت جاعلا القضاء والإمارة جميعا في يد رجل واحد، لكان ذلك هو الشيخ عبدالله بن حميد.
قال الشيخ عبدالله البسام: شخصية سماحة الشيخ عبدالله تتميز بعدة صفات يصعب إجمالها، فإذا أردنا أن نعدد صفاته ومميزاته لاحتجنا لعدة مؤلفات فهو كبير في أشياء كثيرة، كبير في شخصيته وعلمه الغزير فهو يتميز عن الآخرين بعدة صفات وسمات تجعله مميزا عن غيره، فهو يتميز بالذكاء والدهاء والعقل الحكيم وقوة الرزانة وغير ذلك من الصفات العديدة التي
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/431-445) وإتحاف النبلاء (1/161-169).(10/95)
كنت أدعو الله عز وجل أن أحصل على أية صفة منها.
كان رحمه الله حاد الذكاء، جيد الفهم، واسع الاطلاع، ما زال خادما للعلم حتى توفي سنة اثنتين وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'الدعوة إلى الجهاد في الكتاب والسنة'.
2- 'كمال الشريعة وشمولها لكل ما يحتاجه البشر'.
3- 'دفاع عن الإسلام'. (1) وغيرها.
جاء في علماء نجد خلال ثمانية قرون: رزقه الله بصيرة نافذة، يعرف الدعاة الحقيقيين الناصحين المخلصين، بحيث يميزهم من أهل التمويه والخداع، لا يمكن أن يُستغفل، فهو كيّس فطِن، يزوره الكثير من أهل العلم، وممن ينتسبون إلى جمعيات وأحزاب من الشرق والغرب، فيتعرف المصيبَ من غيره.
وكان يرى اتحاد المسلمين هو العلاج الوحيد لنصرة المسلمين، وأن الإسلام ليس فيه تحزب ولا تفرق، وهو بهذه النظرة البعيدة نال إعجاب المسلمين عامة، وثقة شعب المملكة خاصة.
وكان يحرص على توجيه الشباب ونصحهم بالتعقل والرزانة، فالشباب في الغالب تكون عندهم عجلة، وعدم تفكير في العواقب، مع حبهم للخير، وحرصهم على الدعوة إلى الله، فكان رحمه الله يشجعهم، ولكنه ينصحهم
__________
(1) علماء نجد (4/440).(10/96)
بالتثبت والهدوء، وعدم العجلة، ويحذرهم من التهور، ويحثّهم على الاستقامة، والتأدب بآداب العلماء، وينصحهم بسلوك العلماء، وعلى ألا يأخذوا العلم إلا عن أهله المعروفين، وألا يأخذوه عن الجهال والأدعياء.
وكان رحمه الله يكره الفتن، ويكره إثارتها، ويجعل قاعدة: "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح" نصب عينيه. (1)
يوسف بن عبدالمحسن أبا بطين (2) (1403 هـ)
الشيخ يوسف بن عبدالمحسن بن إبراهيم بن عبدالعزيز أبا بطين، ولد في الزبير سنة ستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها. أخذ عن والده الشيخ عبدالمحسن أبا بطين والشيخ محمد بن سند وغيرهما. له مؤلفات تدل على تمكنه وسعة اطلاعه.
توفي رحمه الله في بلده الزبير سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة.
موقفه من الخوارج:
جاء في كتاب علماء نجد (3) : ألف كتابا بين فيه مذهب الخوارج، وفساد عقيدتهم ورد عليهم رد العالم المتمكن، وقد طبع الكتاب وحصلت منه الفائدة.
أحمد الخريصي (بعد 1403 هـ)
__________
(1) علماء نجد (4/438-439).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/507-508).
(3) علماء نجد (6/507-508).(10/97)
تخرج من كلية القرويين قديما، ومن دار الحديث الحسنية بالرباط، وكان أستاذا بالمعهد العلمي بمكناس، وانخرط في سلك العدلية، واشتغل لمدة سنتين مدرسا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ابتداء من إحدى وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله متعقبا على ما كتبه أحمد بن المواز في مشروعية الاحتفال بالمولد: (الأعياد الشرعية اثنان لا ثالث لهما. وبالنسبة للنص الثاني:
1- فقول أحمد بن المواز: "أن أول من احتفل بالمولد في المغرب أبو يعقوب المريني"، يرد بأن قرار أبي يعقوب المريني لا يضفي صفة المشروعية على الاحتفال بالمولد النبوي، إذ الاحتفال ليس بمصلحة دنيوية تدخل في نطاق الدليل المرسل الملائم لتصرفات الشرع، بحيث يصح لولي الأمر البت فيه، وإنما هو عبادة يرجع في شأنها إلى التوقيف فلا عبادة إلا على أساس نص.
2- وقوله: "..وإلحاقه بأعياد المسلمين.." صريح في أن الاحتفال بالمولد النبوي تقرر بصفة رسمية عيدا ثالثا من أعياد المسلمين.
وهذا هو المعروف بمغربنا الأقصى إلى -الآن- يحتفلون بثلاثة أعياد: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد المولد النبوي يوم 12 من ربيع الأول. وهذا هو المعتقد لدى عامة الناس بما فيهم سلطة حاكمة وعلماء إلا الأقل من القليل يعرفه بدعة، ولكن لايستطيع أن يجهر بالحق لأنه مقيد بدافع من الدوافع مما أشار إليها الشوكاني أعلاه..(10/98)
إن اعتقاد اليوم الثاني عشر من ربيع الأول كعيد ثالث؛ اعتقاد خاطئ لايستند إلى دليل، بل يعتبر اتخاذا لشرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان بما لم يخصه به الله، الشيء الذي يؤدي إلى وقوع ما وقع فيه أهل الكتاب..
على أن النص على حصر الأعياد الشرعية في عيدين واضح لا يقبل التأويل، فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبان فيهما فقال: "أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر". أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح (1) .
إن الأعياد -كما قلنا أعلاه- شريعة من الشرائع يجب فيها الاتباع لا الابتداع، وما أكثر الأحداث، والوقائع والعهود والانتصارات التي مرت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلال إبلاغه الدعوة إلى الناس، وهي مذكورة في سيره ومغازيه - صلى الله عليه وسلم - .
مثل: غزوة بدر، وحنين، والخندق، وبيعة الرضوان، وفتح مكة، ووقت الهجرة ودخول المدينة.. إلى غير ذلك..
ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باتخاذ أيامها أعيادا، أو ذكريات، ولا فعلها خلفاؤه الراشدون، ولا الدول الإسلامية ذات القرون الثلاثة الأولى المفضلة...
وإنما يفعل مثل هذه الموالد النصارى، الذين يتخذون أيام أحداث عيسى عليه السلام أعيادا ..حتى أصبحت كل الدول الإسلامية وبعض الأفراد من شعوبها في عصرنا الحاضر تقلد أوروبا المسيحية في إقامة الأعياد
__________
(1) أخرجه: أحمد (3/250) وأبو داود (1/675/1134) والنسائي (3/199/1555) والحاكم (1/294) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي".(10/99)
للموالد والوقائع والأحداث..
وفي هذا المعنى ورد الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم"، قلنا: يا رسول الله؟ اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" (1) .
3- وقوله: "...وكان الاهتمام بذلك عند كثير من شيوخ التربية" بمقتضى أن المتصوفة هم الذين قرروا بدعة الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لنفوذهم المعنوي على الجمهور..
4- وقوله: "..وكان عدد من الناس يحتفلون له في اليوم السابع من المولد لكونه يوم عقيقة مولانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأهل القصر الكبير ومن وافقهم..
يقتضي أن الاحتفال بيوم 12 من ربيع الأول لم يكن متفقا عليه بالمغرب الأقصى.. فها نحن نرى سكان القصر الكبير الذي كان أحد معاقل المتصوفة، وبقية الجهات التابعة له كانوا يحتفلون باليوم السابع، أي يوم الثامن عشر من ربيع الأول، الأمر الذي يؤكد مدى استيلاء الجهل على الناس، مما جعلهم منقادين لأهوائهم، وإيحاءات شياطينهم.. (2)
- وقال داحضا شبهة تعلق بها أصحاب الاحتفال بالمولد:" غير أنهم أجابوا: أنهم قصدوا بـ "الاحتفال" التعبير عن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي
__________
(1) أخرجه من حديث أبي سعيد: أحمد (3/84،89) والبخاري (13/371/7320) ومسلم (4/2054/2669).
(2) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.120-122).(10/100)
واجبة على كل مسلم؛ وجوبا مقدما على نفسه وولده ووالده والناس أجمعين..
ورد بأن ما قصدوه خطأ، وأن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي في الاتباع لا في الابتداع، وأن الاتباع المطلوب شرعا هو اتباع أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، وقد قال تعالى: مَنْ { يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (80) (1) وقال عز من قائل: قُلْ { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (2) .
إن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تعبر عنها تلك المظاهر المزرية، التي تتجلى في المهرجانات التي تقام عادة بهذه المناسبة بين ساحات المدن والقرى الغاصة بحلقات أهل الفساد والبدع، والمتمثلة في قرع الطبول، ونفخ المزامير والأبواق، وشدخ الرؤوس، والضرب على الصدور والزعق، وشق الجيوب، والتشبه بالحيوانات الشاردة أو المفترسة من كل ما يفعله الجهلة الهمج.
كما لا تعبر عنها تلك الاحتفالات التي تقام في الأضرحة وبعض الأربطة التي أسسها الطرقيون، كمساجد للضرار تضايق المساجد المؤسسة
__________
(1) النساء الآية (80).
(2) آل عمران الآية (31).(10/101)
على تقوى من الله، فتتلى فيها المدائح، والتلاوات بأصوات رخيمة عذبة وترنمات يتبارى فيها المنشدون بألبستهم الفضفاضة، ومماويلهم وتقاطيعهم الموسيقية..
كلا ..لا يعبر عن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا هذا ولا ذاك..وإنما الذي يقرره المسلم الغيور هو القول: بأن تلك المظاهر محادة لله ورسوله، وضرب من الخلف في مقتضيات كتاب الله وما جاء به محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه من محجة بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. (1)
- وقال: فنحن المسلمين اليوم أحوج ما كنا إلى إدراك العبرة من مولد الرسول عليه السلام لكن لا في نطاق حب الرسول المزعوم الذي يكتسي مظهرا مزريا يتجلى في تلك المهرجانات التي تقام عادة بهذه المناسبة بين ساحات المدن والقرى الغاصة بحلقات أهل الفساد والبدع والضلالات والتي لو بعث الرسول لتبرأ من إسلامهم المزعوم، ولا في نطاق الاحتفالات التي تقام في الأضرحة وبعض الزوايا فتتلى فيه القصص والمدائح النبوية بأصوات رخيمة عذبة يترنح لها عشاق الطرب والتي لا تعدو في الواقع حد المتعة والسلوى.
فهذه لايصح أن تكون تعبيرا عن حب الرسول إذ المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره لا يغنيه أبدا أن يترنم بعدة قصائد في الأمداح النبوية أو يستمع إليها ليس ذاك هو إكنان حب الرسول الذي ينبغي أن ندرك
__________
(1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - (163-164).(10/102)
مغزاه...
ولكن حب الرسول هو أسمى من تلك القشور، وترك اللباب المهجور، فإن حب الرسول في الرجوع إلى اللباب: إلى كتاب الله واتباع سنته والعمل بروح شريعته، إلى سلوك المرء في تقويم نفسه وإصلاح شأنه في عباداته وعاداته إلى جمع كلمة المسلمين من أقصى الشرق إلى المحيط، وإلغاء الحواجز المصطنعة بين المسلمين.. المؤمنون إخوة في كل قارة لا جنسية في الإسلام لا أقلية في الإسلام لا جالية في الإسلام المؤمنون كتلة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم..
موقفه من الصوفية:
ألف رحمه الله كتابه 'المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي' تحدث فيه عن نشأة التصوف وتطورهم عبر التاريخ، وتسارعهم إلى البدع والمبتدعات، وإغراقهم في ذلك.
- قال رحمه الله ردّا على المتصوفة اختراعهم للمولد: إن من يفكر في أسباب هذه البدعة أو كيف لصقت بالمسلمين وأعاد بالذاكرة إلى الوراء مستعرضا عصور انحطاط المسلمين سوف لا يجد ذلك إلا من ابتكارات المتصوفة الذين دأبوا على إطلاق العنان لخيالاتهم في اختراع التوسلات والأذكار والتصليات، وإنشاء الأحزاب ودلائل الخيرات.. إلى غير ذلك من كل ما يشغل ويلهي عن كتاب الله تعالى، الأمر الذي يتعين معه القول: بأنه لا بلية أصابت المسلمين في عباداتهم وعقائدهم أخطر من بلية المتصوفة، إذ من بابهم دخلت على المسلمين تصورات ومفاهيم أجنبية غريبة، لا عهد لهم(10/103)
بها في ماضيهم النقي المجيد، ومن بابهم دخلت الوثنية، وبدعة إقامة الموالد ومواسم الأضرحة والمهرجانات على عقائد المسلمين مما سنقف على نماذج منها إن شاء الله تعالى. (1)
- وقال: وقد يأخذك العجب، وتستغرب أشد الاستغراب، إذا قلت لك: إن المتصوفة إذا ما أعوزهم الدليل فإنهم لا يتورعون أن يدعموا احتجاجهم على تبني الفكرة ولو بالرواية عن إبليس اللعين.
ولكن يزول استغرابك وتواجهك الحقيقة المرة، إذا أوقفتك على النص، خاصة وقد رواه زعيم متصوفة المتأخرين، ألا وهو أبو حامد الغزالي رحمه الله، وسجله في كتابه 'إحياء علوم الدين'.
فقد نص في كتاب العلم من إحياء علوم الدين تحت عنوان: (الباب السادس في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء) على ما يلي: "وحكي عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم، فرجعوا إليه محسورين، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء، ما نصيب منهم شيئا، وقد أتعبونا، فقال: إنكم لا تقدرون عليهم، قد صحبوا نبيهم، وشهدوا تنزيل ربهم، ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسين، فقالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب، فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، فقال:
__________
(1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.7).(10/104)
إنكم لن تنالوا من هؤلاء لصحة توحيدهم، واتباعهم لسنة نبيهم، ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم تلعبون بهم وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم، لم يستغفروا فيغفر لهم، ولا يتوبون، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، قال: فجاء بعد القرن الأول فبث فيهم الأهواء، وزين لهم البدع، فاستحلوها، واتخذوها دينا لا يستغفرون الله منها، ولا يتوبون عنها، فسلط الله عليهم الأعداء، وقادوهم حيث شاءوا".
إن أبا حامد الغزالي -وكان ذكي الفؤاد- عندما وقع في المصيدة وأصبح مستهدفا للنقد اللاذع الذي استوجبه فقدان السند عن إبليس اللعين حاول التخلص بالجواب الآتي، ولكنه جواب بارد لا تسخنه إلا حرارة النقد كما يقول لدى مناقشته لمذهب الروافض وعقائدهم الباطلة: "في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف" ولنصغي إليه، وهو يتساءل ويجيب في العبارات التالية: "فإن قلت: من أين عرف قائل هذا ما قاله إبليس وهو لم يشاهد إبليس، ولا اجتمع به، ولا حدثه بذلك؟.
فاعلم: أن أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت، تارة على سبيل الإلهام: بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون، وتارة على سبيل الرؤيا الصادقة، وتارة في اليقظة، وعلى سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة، كما يكون في المنام، وهذا على درجات، وهي من درجات النبوة العالية، كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
فإياك أن يكون حظك من هذا العلم إنكار ما جاوز حد قصورك، ففيه هلك المتحذلقون من العلماء الزاعمون أنهم أحاطوا بعلوم العقول فالجهل خير(10/105)
من عقل يدعو إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى (ومن أنكر ذلك للأولياء لزمه إنكار الأنبياء، وكان خارجا عن الدين بالكلية). (1)
ثم استرسل الخريصي رحمه الله يرد هذا الهراء.
__________
(1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.33-36).(10/106)
أبو عبدالله محمد أعظم بن فضل الدين الجوندلوي (1) (1405 هـ)
الشيخ العلامة محمد أعظم بن فضل الدين، أبو عبدالله الجوندلوي، ولد في قرية "جوندلانوالا" بباكستان يوم الخميس في رمضان سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف. حفظ القرآن الكريم في صباه، ودرس على عدد من الشيوخ كالشيخ عبدالجبار الغزنوي والشيخ محمد حسين الهزاروي والشيخ عبدالمنان ابن شرف الدين الوزير آبادي وغيرهم. اعتنى رحمه الله بصحيح البخاري عناية كبيرة، حيث درسه أكثر من خمسين مرة، وكان شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية. وله تلاميذ كثيرون أخذوا عنه واستفادوا منه كالعلامة عبيدالله المباركفوري والشيخ محمد عطاء الله حنيف والحافظ عبدالله الفيروز فوري والشيخ أبي البركات أحمد المدراسي وغيرهم كثير. وله مؤلفات تدل على علو كعبه في العلوم.
توفي رحمه الله في الرابع عشر من رمضان لعام خمسة وأربعمائة وألف للهجرة وله تسعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
هذا الشيخ من القطر الهندي الذي أشرقت فيه شمس السنة يوم أن كان العالم الإسلامي يعيش في ظلام التقليد والجهل، وكان لهذا القطر من رجال حفظ الله بهم السنة النبوية والتراث النبوي، وقد استوفى ذكرهم في مؤلف خاص الشيخ الفاضل عبدالرحمن بن عبدالجبار الفريوائي، سماه 'جهود أهل
__________
(1) انظر كتاب كوكبة من أئمة الهدى للقريوتي (ص.21-36).(10/107)
الحديث في الهند' والكتاب مطبوع، وسأقتصر على نماذج منهم ممن عرفته اهتم كثيرا بالعقيدة السلفية، فهذا المعنون له منهم.
قال عبدالرحمن بن عبدالجبار في مسودة له في هذا الشيخ: كان الشيخ سلفي المنهج والاعتقاد، على طريق أهل السنة والحديث، وكان شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية كما يرى من مصنفاته.
وقال في موضع آخر: واشتغل في هذه الرحلة بكتب الجهابذة المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الرشيد ابن القيم. ثم ذكر من آثاره العقائدية:
1- 'رسالة في ختم النبوة' رد فيها على القاديانية.
2- 'إثبات التوحيد' رد فيه على مؤلف لأحد النصارى اسمه إثبات التثليت.
3- 'تحفة الإخوان في الكلام والعقائد'.
4- 'رسالة في رد حسن القصد في عمل المولد للسيوطي'.
5- 'رسالة في الرد على منكري الحديث'.
6- 'كتاب في الرد على النصرانية'.
7- 'الإصلاح في الرد على أهل البدع'.
8- 'زبدة البيان في تنقيح حقيقة الإيمان وتحقيق زيادته والنقصان'.(10/108)
تقي الدين الهلالي (1) (1406 هـ)
شيخنا الإمام محمد تقي الدين الهلالي الحسني السجلماسي، الداعية إلى التوحيد، الناشر للسنة، نفع الله بدعوته أهل المشرق والمغرب. ولد سنة إحدى عشر وثلاثمائة وألف بالفيضة القديمة وتسمى "الفرخ" من أرض سجلماسة المعروفة بتافيلالت من بلاد المغرب. قرأ القرآن على جده ووالده، فحفظه وهو ابن اثنتي عشرة سنة. رحل طالبا للعلم إلى كل من القاهرة والهند والعراق ثم إلى المملكة العربية السعودية، حيث عين مراقبا للمدرسين مدة سنتين، ثم مدرسا في المسجد الحرام والمعهد السعودي لمدة سنة. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف هجرية حصل على رسالة الدكتوراه في ترجمة 'مقدمة كتاب الجماهير في الجواهر' للبيروني، مع التعليق عليها. وفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة توجه الشيخ إلى الحج، فالتقى بالعلامة عبدالعزيز بن باز، فعين أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبقي فيها إلى سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة.
كان لدعوته المباركة الأثر الكبير في الهند، وفي العراق، وفي أوربا عموما، وأما المغرب فنور دعوته أشرق في كثير من مدن المغرب وقراه، ونحن -بحمد الله- من ثمرة دعوته. عرفته في صغر سني، وتتلمذت عليه، وقرأت عليه النحو والحديث واللغة والعقيدة والفقه. وكان فحلا لا يجارى، فشعره يحاكي الأقدمين، ولغته كأنه رضع العربية من ثدي أمه.
__________
(1) مقدمة كتابه سبيل الرشاد في هدي خير العباد بقلم عمر بن محمد بن محسن (1/13-18).(10/109)
وأما مواقفه الصادقة فتذكرنا بمواقف كبار أئمة السلف، وقد استمر في دعوته التي تتصف بالصدق والأمانة إلى أن لقي ربه سنة ست وأربعمائة وألف للهجرة، عليه رحمة الله. وقد ترك مؤلفات تدل على منهاجه القويم منها: 'سبيل الرشاد' و'حكم تارك الصلاة' و'الصبح السافر في حكم صلاة المسافر' و'الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق' وكتاب 'الدعوة إلى الله' و'القاضي العدل في حكم البناء على القبور' نشر في المنار لمحمد رشيد رضا، وغيرها كثير.
موقفه من المبتدعة:
موقفه من بدعة قراءة القرآن على الأموات:
- قال محمد تقي الدين عقب حديث ابن عباس في القبرين اللذين مر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنهما يعذبان (1) : ولو كانت قراءة القرآن للأموات مشروعة ونافعة لقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من القرآن وجعل ثوابه لهما، ولاقتدى به أصحابه ففعلوا مثل ذلك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور القبور كثيرا ولم يقرأ على أهلها شيئا من القرآن، مع أن قراءته لا حَدَّ لثوابها، بل كان يدعو لهم ويعلم أصحابه إذا رأوا القبور ذلك الدعاء (2) كما يعلمهم السورة من القرآن، وقد تقدم لفظه. ومن الأدلة على أن قراءة القرآن وجعل ثوابها غير مشروعة،
__________
(1) أخرجه أحمد (1/255) والبخاري (1/427/218) ومسلم (1/240-241/292) وأبو داود (1/25-26/20) والترمذي (1/102/70) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (4/412/2068) وابن ماجه (1/125/347).
(2) أحمد (5/353،359-360) ومسلم (2/671/975) والنسائي (4/399/2039) وابن ماجه (1/494/1547) من حديث بريدة.(10/110)
حديث أبي هريرة المتقدم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث من ولد صالح يدعو له" الحديث (1) ، ولم يقل: يقرأ عليه القرآن أو ادعوا المتأكلين بالقرآن ويعطيهم أجرة ليقرؤوا ختمة من القرآن ويجعلوا ثوابها لوالده كما يفعل أهل هذا الزمان الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. (2)
- وقال: من عجائب ما يقع في المغرب وينسب إلى الإسلام، والإسلام بريء منه، شيء يسمونه الفدية وهو شائع عند الجهلة، يدعو أولياء الميت جماعة من البطالين المحتالين ليعملوا لهم "فدية" للميت تنقذه من العذاب وتجعله من أهل الجنة! فإذا كان قبره حفرة من النار ينقلب في الحين روضة من رياض الجنة، وذلك أن أولئك البطالين يذكرون لا إله إلا الله سبعين ألف مرة، يتقاسمون العدد فيما بينهم، كل واحد بضعة آلاف، فيطعمهم ذلك المسكين، ويعطي كل واحد منهم شيئا من الدراهم يأكلها سحتا، قال الله تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ
__________
(1) أحمد (2/372) ومسلم (3/1255/1631) وأبو داود (3/300/2880) والترمذي (3/660/1376) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/561-562/3653) وابن ماجه (1/88-89/242) بلفظ آخر أتم.
(2) سبيل الرشاد (6/160-161)(10/111)
الظَّالِمُونَ } (254) (1) .اهـ (2)
وله قصيدة في خمسة وتسعين بيتا في ذم من عارض القرآن والسنة:
منها:
ومن يَقْل سنات الرسول فإنه ... يعذب في الدنيا وفي فتنة القبر
ويسأله فيه نكير ومنكر ... وما من جواب عنده غير لا أدري
وذي سنة الجبار في كل من غدا ... يحارب دين الله في السر والجهر
ألم تدر أن الله ناصر دينه ... وموقع أهل البغي في داره الخسر
وكم قد سعى ساع لإطفاء نوره ... بكيد فرد الله كيده في النحر
وتنصر إشراكا وفسقا وبدعة ... وناصر هذي خاسر أبد الدهر
دعا المصطفى قدما عليه بلعنة ... ومن يلعن المختار فهو إلى شر
وتلعنه الأملاك من فوق سبعة ... كذلك أهل الأرض في السهل والوعر
ومنها:
وما نحن إلا خادمون لسنة ... أتت عن نبي الله ذي الفتح والنصر
وخادم سنات الرسول حياته ... كخادمها من بعد ما صار في القبر
وما غاب إلا شخصه عن عيوننا ... وأنواره تبقى إلى الحشر والنشر
فيا مبغضي هدي النبي ألا أبشروا ... بخزي على خزي وقهر على قهر
سلكتم سبيلا قد قفاها أمامكم ... أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر
وعاقبة المتبوع حتم لتابع ... كما لزم الإحراق للقابض الجمر
__________
(1) البقرة الآية (254).
(2) سبيل الرشاد (6/161).(10/112)
فإن أنتم كذبتم بوعيده ... فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر
فصب عليهم ربهم سوط نقمة ... فصاروا أحاديث المقيمين والسفر
"فيارب هل إلا بك النصر يرتجى ... عليهم" إليك الأمر في العسرواليسر
قلوا سنة المختار يبغون محوها ... وكادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفرى
هم استضعفونا اليوم من أجل أننا ... قليل وقد يعلو القليل إلى الكثر
ولا سيما إن كان لله قائما ... وأعداؤه للبغي من جهلها تجري
وإدراك إحدى الحسنيين محقق ... لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر
ومن ظن أن الله مخلف وعده ... وخاذل أنصار النبي بذا العصر
فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل ... عريض القفا بين الورى مظلم الفكر
تكفل بالنصر العلي لحزبه ... حياتهم هذي وفي موقف الحشر
ففي غافر قد جاء ذلك واضحا ... ولكنه يخفى على الفدم والغمر
سلام على أنصار سنة أحمد ... فهم أولياء الله في كل ما دهر
إليهم أجوب البر والبحر قاصدا ... فرؤيتهم تشفي السقيم من الضر
هم حفظوا الدين الحنيف وناضلوا ... عن الحق بالبرهان والبيض والسمر
هم خلفوا المختار في نشرسنة ... بفعل وأقوال تلألأ كالدر
هم جردوا التوحيد من كل نزغة ... من الشرك والإلحاد والزيغ والنكر
فلا قبة تبنى على قبر ميت ... ولم يعبدوا قبرا بذبح ولا نذر
ولا بطواف أو بتقبيل تربة ... فذلك فعل المشركين ذوي الكفر
ولا رحلوا يوما لغير ثلاثة ... مساجد خصت بالفضائل والأجر
ولم يستغيثوا في الشدائد كلها ... بغير إله الناس ذي الخلق والأمر(10/113)
ومنها:
ومن ظن تقليد الأئمة منجيا ... فأفتى بتقليد فيا له من غر
كمنتحل عذرا ليغفر ذنبه ... أضاف له جرما تجدد بالعذر
ألا إنما التقليد جهل وظلمة ... وطالبه خلو من العلم والخبر
كطالب ورد بعدما شفه الظما ... جرى خلف آل لاح في مهمه قفر
فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضيا ... فإياك والتقليد فهو الذي يزري
وجرد سيوفا من براهين قد سمت ... عن الحدس والتخمين والسخف والهتر
وطرفك سرح في الكتاب فإنه ... رياض حوت ما تشتهيه من الزهر
ومن بعده فاعلق بسنة أحمد ... فأنوارها تسمو على الشمس والبدر
ولا تحكمن بالرأي إلا ضرورة ... كما حلت الميتات أكلا لمضطر
ومهما بدا أن القضاء على خطا ... أقيم فبادر للرجوع على الفور
ومن يقض بالتقليد فهو على شفا ... كعشوا غدت في كافر حالك تسري
ومن يفت بالتقليد فهو قد افترى ... وفي النحل نص جاء في غاية الزجر
لعمرك ما التقليد للجهل شافيا ... وأما نصوص الوحي فهي التي تبري
وصل وسلم يا إلهي على النبي ... صلاة تدوم الدهر طيبة النشر
فدونكها بكرا عروبا خريدة ... مهفهفة غيدى عروسا من الشعر
يضيء ظلام الليل نور جمالها ... وليس لها إلا القراءة من مهري
قصدت بها نصرا لسنة أحمد ... وناصرها لا شك يظفر بالنصر(10/114)
وعدتها تسعون من بعد خمسة ... وأختمها بالحمد لله والشكر (1)
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية: 'الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية'.
قال فيه رحمه الله: اعلم أن التيجانيين رووا عن شيخهم فضائل تحصل للمتعلقين به مصادمة للكتاب والسنة وإجماع الأمة، وزعموا أن الشيخ التجاني كتب تلك الفضائل بيده وسلمها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه أن يقرأها ويضمنها له فقرأها وضمنها له، وقع ذلك يقظة لا مناما انظر صفحة 44 من الجزء الثاني من الرماح، وهذه الفضائل زعموا أن الله يعطيهم إياها بسبب تعلقهم بشيخهم، وسأسرد هنا هذه الفضائل وعددها تسع وثلاثون، أربع عشرة فضيلة تحصل لكل من اعتقد فيه الخير ولم يعترض على طريقه وكان محبا له ولأصحابه ولكل من أطعمه أو سقاه أو قضى له حاجة إذا استمر على محبته حتى الموت وإن لم يأخذ ورده ولم يصر من أصحاب طريقته وسائر الفضائل، وهي خمس وعشرون خاصة بمن أخذ الطريقة والتزم شروطها:
الفضيلة الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمن لهم أن يموتوا على الإيمان والإسلام.
الفضيلة الثانية: أن يخفف الله عنهم سكرات الموت.
الفضيلة الثالثة: لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم.
الفضيلة الرابعة: أن يؤمنهم الله تعالى من جميع أنواع عذابه وتخويفه
__________
(1) سبيل الرشاد (4/230-232).(10/115)
وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة.
الخامسة: أن يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر.
السادسة: أن يؤدي الله تعالى عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم.
السابعة: أن لا يحاسبهم الله تعالى ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل والكثير يوم القيامة.
الثامنة: أن يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم القيامة.
التاسعة: أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة عين على كواهل الملائكة.
العاشرة: أن يسقيهم الله تعالى من حوضه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة.
الحادية عشرة: أن يدخلهم الله تعالى الجنة بغير حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى.
الثانية عشرة: أن يجعلهم الله تعالى مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس وجنة عدن.
الثالثة عشرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب كل من كان محبا له.
الرابعة عشرة: أن محبه لا يموت حتى يكون وليا، قال -أي أحمد التجاني-: قد أخبرني سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - أن كل من أحبني فهو حبيب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يموت حتى يكون وليا قطعا، وقال لي سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - : أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين، وأنت حبيبي ومن أحبك حبيبي، وكل من أخذ(10/116)
وردك فهو محرر من النار، وقال: أبشروا أن كل من كان في محبتنا إلى أن مات عليها يبعث من الآمنين على أي حالة كان، ما لم يلبس حلة الأمان من مكر الله وقال: وأما من كان محبا ولم يأخذ الورد فلا يخرج من الدنيا حتى يكون من الأولياء.
ثم قلت في الرد على هذه الأباطيل في صفحة 86 ما نصه:
قال محمد تقي الدين:لم يستوف صاحب الرماح الفضائل التي وعد بذكرها؛ بل اقتصر على ذكر ثلاث وثلاثين، وفي ما ذكره من الطوام والضلالات ما لا يبقي شكا في أن هذه الطريقة على الحال الراهنة يستحيل أن تجتمع في قلب شخص واحد مع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين الحنيف المبني على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وسنعقب عليها بالنقد والنقض حتى يتضح بطلانها وتنجلي ظلمتها، بحول الله وقوته وحسن توفيقه.
اعلم أيها القارىء الموفق لمعرفة الحق واتباعه مع من كان وحيث كان أن ما ذكره صاحب الرماح من الفضائل بزعمه له ولإخوانه في الطريقة ولشيخهم بزعمهم مردود من وجوه بعضها إجمالي وبعضها تفصيلي، ولنبدأ بالإجمالي فنقول:
كل ما نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار هو من شر أقسام الموضوع المفترى وقد خاب من افترى، فإن الأمة بعلمائها وأئمتها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن تقوم الساعة، أجمعت الأمة على أنه لا طريق لتلقي خبر من الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالسماع والمشاهدة في حياته الدنيوية، أو بواسطة الثقات الأثبات بالسند المتصل، وما ذكروه من الأخبار(10/117)
ليس له سند أصلا وما زعموه من السماع كذب بإجماع الأئمة، ومن خرق إجماعهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم، وكان مشاقا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومتبعا غير سبيل المؤمنين، ومن ذلك أن تلك الأخبار مناقضة لكتاب الله وللأخبار الصحيحة المروية بأسانيد كالشمس معلومة التواتر أو الصحة العالية، إذا قرأت ما تقدم من الرد تبين لك من خلاله فساد تلك الأخبار وبطلانها واضمحلالها. (1)
موقفه من الجهمية:
قال محمد تقي الدين: لقد من الله علي وأعانني على ختم هذا القسم، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبمحبتنا واتباعنا لحبيبه وخليله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، أن يعينني على القسم الثالث، ويجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ولما كنت أنقل كلام الأئمة كنت أمر بأشعار في الرد على المقلدين وذم طريقتهم ومدح اتباع الكتاب والسنة، فرأيت أن أؤخرها وأجعلها خاتمة لهذا القسم يستمتع بها من حبب الله له الاتباع وكره إليه التقليد، وهذه هي وأول ما أبدأ به القصيدة المقصورة نظمتها في مصر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة (2) :
تركت الطريق طريق الجفا ... وأقبلت أتبع المصطفى
وسنته وكتاب الإله ... وأصحابه أنجم الاهتدا
وأتباعهم أينما وجدوا ... سواء نأى عصرهم أم دنا
__________
(1) الهدية الهادية (ص.81-87).
(2) سبيل الرشاد (4/212-214).(10/118)
سواء ذووالشرق أم غربنا ... وأهل الخيام وأهل القرى
وليس يجوز بمذهبنا اتـ ... ـباع لغير فدع من هذى
ولسنا نؤول لفظ الحديـ ... ـث والذكر إلا بما قد أتى
فما هلك الناس إلا بما ... تؤوله زمرة الاعتدا
فنحن على مذهب السابقيـ ... ـن من رضي الله عنهم علا
ومن حاد عن نهجهم قد هوى ... سواء درى ذاك أم ما درى
فخير الهدى هدى خير الورى ... وشر الأمور اتباع الهوى
فلا تتصوف ولا تتكلف ... ولا تلج إلا لرب العلا
ولا تدع من دونه أحدا ... فليس ولي سواه يرى
أغير الإله أرى لي وليا ... إذا قد ضللت طريق الهدى
أأتخذ الأولياء وربي ... بمحكم ذكره عنهم نهى
ولو مرسلين ولو صالحين ... ولو طائرين بأوج السما
ولا يعبدالله إلا بما ... أتى في شريعته وارتضى
ومن زعم العلم غير الكتاب ... وغير الحديث الصحيح افترى
ولا فضل في ديننا لأرسطو ... ولا لابن رشد ومن قد قفا
فتوحيد ربي بمنزله ... غني عن المنطق المرتأى
فإن أرسطو وأتباعه ... عدو لدين إله الورى
وإن هم رأوا حكما أحكموها ... أخذنا بها في أمور الدنى
ومهما وجدنا الحديث الصحيح ... عبدنا به من له المنتهى
وليس له من وسيلة إلا ... علوم اصطلاح وعلم اللغى(10/119)
فعلم الكلام وبعض الأصول ... ظلام يجران كل العنا
ولا نستغيث بغير الإله ... ومن يستغث بالعباد غوى
ونعتقد الله سبحانه ... على عرشه ذي التعالي استوى
ولسنا نؤول ذاك بقهر ... ولا غيره مثل من قد مضى
وأن البخاري في كتبه ... قد أحسن للناس دون امترا
عليها اعتكف ثم منها اقتطف ... تجد كل ما رمته من منى
ومسلم لا تنس تأليفه ... فنعم الكتاب الوثيق العرى
وإن خضت في غير دينك فاسلك ... بعلم غزير وإلا فلا
ولا تعتبر كل كتب عليها ... فقد مزجوها بما يرتمى
فجد وخذ زبد ما سطروا ... ودع ما تراه معيبا سدى
وما قد يسمونه باطنا ... فباللام يقرأه من درى
فإن الشريعة قد أكملت ... وقد بينت مثل شمس الضحى
فما مات خير الورى أحمد ... إلى أن جلاها بغير خفا
وما أحد من أهيل النفاق ... نجا فاصبر إن نلت منهم أذى
ولا تبن في تربة قبة ... ومهما تراها فهدم البنا
فقد عبدوها وما فطنوا ... و وافقهم علماء الشقا
وقد ألفوا في عبادتها ... بدون احتشام بدون حيا
لتدع الإله بما قد روى الثقات ... الهداة عن المجتبى
وإن البخاري روى في الصحيح ... دعاء وذكرا به الاكتفا
وحاذر من الشرك فهو بذا الز ... مان بكل النواحي فشا(10/120)
ولا قطب نعلمه غير نجم ... يرى في السماء وقطب الرحى
ونحوهما لا الذي ذكروا ... يكون مقيما بغار حرا
يمد الأنام ويجري الشؤو ... ن في الكون تالك أدهى الفرا
فهل من كتاب وهل سنة ... أتت من صحيح الحديث بذا
فخذ بالنصوص ولا تبتدع ... وفي عدم النص قس ما جلا
وليس لنا مذهب لازم ... سوى مذهب المصطفى المرتضى
عليه الصلاة وأزكى السلام ... سلاما يدوم بغير انتها
ويشمل آلا وصحبا كراما ... ومن قد قفاهم بنهج الصفا
موقفه من أهل الكلام:
دع الكلام فما فيه سوى الخطل ... وانبذ مجالسه تحفظ من العلل
فهو شر ابتداع جاء بالخلل ... وخل سمعك عن بلوى أخي جدل
شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
الله يعلم كم قد سيق من ضرر ... للناس من أجله في البدو والحضر
أقبح بها بدعة تدني إلى الشرر ... ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر
ولا أتت عن أبي هر ولا أنس
وكم دماء غدت في الناس مهرقة ... فهو الكلام بكسر ساء مخرقة
فلا ترى فيه شمس الحق مشرقة ... إلا هوى وخصومات ملفقة
ليست برطب إذا عدت ولا يبس
داء كما جرب في الناس منتشر ... وكتبه بين أهل العلم تستطر(10/121)
ذر بدعة عند أهل الحق تحتقر ... فلا يغرك من أربابها هذر
أجدى وجدك منها نغمة الجرس
نأوا عن الحق بالأوهام وانطلقوا ... في مهمه بلقع ما فيه مرتفق
وجادلوا بأباطيل بها مرقوا ... أعرهم أذنا صما إذا نطقوا
وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
وأبعد عن الرأي بعدا يعدك الخطر ... فهو السحاب ولكن ما به مطر
الرأي أغصان سدر ما بها ثمر ... ما العلم إلا كتاب الله أو أثر
يجلو بنور سناه كل ملتبس (1)
- قال رحمه الله: وفي الصحيح من حديث قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه" (2) وأخرجه أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة بإسناد قوي عن ثابت عن أنس وفيه: "فآتي باب الجنة فيفتح لي، فآتي ربي تبارك وتعالى وهو على كرسيه أو سريره فأخر له ساجدا" وذكر الحديث. قال محمد تقي الدين: وهذا الحديث أيضا صريح في أن الله فوق عرشه، اللهم اشهد علينا بأننا آمنا به، فيا ويل من كذب به وأنكر معناه. (3)
- وقال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تصدق بعدل
__________
(1) سبيل الرشاد (4/220-221).
(2) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/116) والبخاري (13/519-520/7440) ومسلم (1/180-181/193) وابن ماجه (2/1442-1443/4312).
(3) سبيل الرشاد (5/78).(10/122)
تمرة من كسب طيب -ولا يصعد إلى الله إلا طيب- فإنه يتقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل" (1) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري. قال محمد تقي الدين: وماذا يقول الجهمي في هذا الحديث الذي يدل على صعود الصدقة إلى الله تعالى فيأخذها بيمينه أيؤمن به أم يكفر به؟ فإن آمن به فقد فاز وربح وإن كفر به فتعسا له. (2)
- قال محمد تقي الدين: في هذا الحديث -يعني حديث الجارية (3) - السؤال عن الله تعالى بـ (أين) ومنعه الخوارج وسائر الفرق المعطلة كالمعتزلة والمتأخرين من الأشعرية، وزعموا أن من سأل عن الله بأين فهو مجسم واختلفوا في كفره وفسقه ومعصيته، فيلزمهم نسبة ذلك إلى نبي الله الذي جاءنا بالإيمان، فقبح الله علما يفضي إلى مثل هذا، وفيه -إقرار النبي عليه الصلاة والسلام- بأن الله في السماء وأنكرته المعطلة واختلفوا في كفر معتقده، فيا ويلهم ماذا جنوا على أنفسهم بسبب جهلهم وعمى بصائرهم فنعوذ بالله من الخذلان. (4)
__________
(1) رواه أحمد (2/418و538) والبخاري (3/354/1410) ومسلم (2/702/1014) والترمذي (3/49/661) والنسائي (5/60-61/2524) وابن ماجه (1/590/1842) بلفظ: "ولا يقبل" بدل "ولا يصعد". ورواه البخاري (13/511/7430) تعليقا. ووصله أحمد (2/331و431) بلفظ الكتاب.
(2) سبيل الرشاد (5/75-76).
(3) تقدم تخريجه. انظر مواقف أبي عمرو السهروردي سنة (458هـ).
(4) سبيل الرشاد (5/70-71).(10/123)
إحسان إلهي ظهير (1) (1407 هـ)
إحسان إلهي ظهير من كبار علماء باكستان، ولد في "سيالكوت" عام ستين وثلاثمائة بعد الألف للهجرة. حفظ القرآن في التاسعة من عمره وأكمل دراسته في الجامعة السلفية بفيصل آباد، حصل على الليسانس في الشريعة من الجامعة الإسلامية في المدينة وكان ترتيبه الأول على طلبة الجامعة. ثم رجع إلى باكستان، وانتظم في جامعة البنجاب كلية الحقوق والعلوم السياسية، وعين في ذلك الوقت خطيبا في أكبر مساجد أهل الحديث بلاهور، وحصل على ست شهادات ما جستير في الشريعة، واللغة العربية، والفارسية والأردية والسياسة من جامعة البنجاب وكذلك حصل على شهادة الحقوق من كراتشي. وكان رئيسا لمجمع البحوث الإسلامية ورئيسا لتحرير مجلة (ترجمان الحديث) التابعة لجمعية أهل الحديث بلاهور في باكستان، وكذلك مديرا لتحرير مجلة أهل الحديث الأسبوعية.
وفي الثالث والعشرين من شهر رجب سنة سبع وأربعمائة وألف كان الشيخ يلقي محاضرة بمقر جمعيته بمناسبة ندوة العلماء وكان أمامه مزهرية وضع بداخلها قنبلة موقوتة انفجرت فأصابت الشيخ بإصابات بليغة وقتلت سبعة من العلماء في الحال ومات اثنان آخران بعد مدة، وبقي الشيخ أربعة أيام في باكستان، ثم نقل إلى الرياض باقتراح من الشيخ ابن باز رحمه الله وأدخل المستشفى العسكري لكن روحه فاضت إلى ربها في الأول من شعبان
__________
(1) انظر تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (1/23). والعدد (105) من مجلة الجندي المسلم التي تصدر عن وزارة الدفاع السعودية.(10/124)
فنقل إلى المدينة ودفن بالبقيع بالقرب من الصحابة رضي الله عنهم الذين نذر حياته للدفاع عنهم وبيان فضائلهم. فرحمة الله عليه.
موقفه من المبتدعة:
- قال: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد المصطفى، نبي الهدى والرحمة وعلى آله وأصحابه الطاهرين البررة. وبعد، فإنه أشاع في هذا الزمان كلمة "الاتحاد والوحدة" كثير من دعاة الشقاق والفرقة، وكثر استعمالها حتى كاد ينخدع بها السذج من المسلمين الذين لا يعرفون ما وراءها من كيد ودس ودهاء. فالقاديانية عميلة الاستعمار الصليبي في القارة الهندية الباكستانية، وسمة العار على جبهة المسلمين المشرقة، تستعمل هذه الكلمة لكي يتسع لها الطريق لنفث السموم في نفوس المسلمين. والبهائية وليدة الروس، والإنكليز، والنزعات الشيعية، تريد بهذه الكلمة نفسها غزو الشيعة في إيرانها وعراقها. والشيعة ربيبة اليهود في بلاد الإسلام، يستعملون هذه الكلمة أيضا عند افتضاح أمرها، واكتشاف حقيقتها، وإماطة اللثام عن وجهها. فليست هذه الكلمة، إلا كلمة حق أريد بها الباطل، كما نقل عن علي -رضي الله عنه- أنه لما سمع قول الخوارج "لا حكم إلا لله" قال: كلمة حق أريد بها الباطل، نعم لا حكم إلا لله". وقال: "سيأتي عليكم بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل". فهذا هو الزمان الذي أشار إليه علي في قوله، فما أكثر الكذب فيه وما أفظعه. ولقد بدأ الشيعة منذ قريب ينشرون كتبا ملفقة مزورة في بلاد الإسلام، يدعون فيها إلى التقرب إلى أهل السنة، ولكن الصحيح أنهم يريدون بها تقريب أهل(10/125)
السنة إليهم بترك عقائدهم، ومعتقداتهم في الله، وفي رسوله، وأصحابه الذين جاهدوا تحت رايته، وأزواجه الطاهرات اللائي صاحبنه بمعروف، وفي الكتاب الذي أنزله الله عليه من اللوح المحفوظ، نعم يريدون أن يترك المسلمون كل هذا، ويعتقدوا ما نسجته أيدي اليهودية الأثيمة من الخرافات، والترهات في الله، أنه يحصل له "البداء"، وفي كتاب الله أنه محرف ومغير فيه، وأن يعتقدوا في رسول الله أن عليا وأولاده أفضل منه، وفي أصحابه حملة هذا الدين أنهم كانوا خونة مرتدين ومنهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأن يعتقدوا في أزواج النبي وأمهات المؤمنين، ومنهن الطيبة، الطاهرة، بشهادة من الله في كتابه، أنهن خن الله ورسوله، وفي أئمة الدين، من مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والبخاري، أنهم كانوا كفرة ملعونين -رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين-. نعم يريدون هذا، وما الله بغافل عما يعملون. فكل من عرف هذا وقام في وجههم، ورد عليهم، صاحوا عليه ونادوا بالوحدة والاتحاد، ورددوا قول الله عز وجل: وَلَا { تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (1) . فبعدا للوحدة التي تقام على حساب الإسلام، وسحقا للاتحاد الذي بني على الطعن في محمد النبي، وأصحابه، وأزواجه -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، فقد علمنا الله عز وجل في كتابه الذي نعتقد فيه أن حرفا منه لم يتغير ولم يتبدل، وما زيد عليه كلمة، ولا نقص منه حرف، علمنا فيه أن كفار مكة طلبوا
__________
(1) الأنفال الآية (46).(10/126)
أيضا من رسول الله الصادق الأمين، عدم الفرقة والاختلاف حين دعاهم إلى عبادة الله وحده مخلصين له الدين، ونبذ آلهتهم، فأجابهم بأمر من الله: قُلْ { يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (6) (1) وقال: قُلْ { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (108) (2) . وقال: وَلَنَا { أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } (139) (3) . وقال: وَمَا { يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) '@
دjà9$#ںwur وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا
__________
(1) الكافرون الآيات (1-6).
(2) يوسف الآية (108).
(3) البقرة الآية (139).(10/127)
يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } (22) (1) . نعم يمكن الوحدة إن أرادوها، ويمكن الاتحاد إن طلبوه، بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهما، حسب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا { الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (2) . نعم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فتعالوا إلى هذه الكلمة، كلمة الوحدة، والاتحاد، إلى قول الله عز وجل وقول نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - . فلنرفع الخلاف ولنقض على النزاع، فهيا بنا إلى الوحدة أيها القوم. فاتركوا سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خيار خلق الله، الذين بشرهم الله بالجنة في كتابه المجيد حيث قال: وَالسَّابِقُونَ { الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ
__________
(1) فاطر الآيات (19-22).
(2) النساء الآية (59).(10/128)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (100) (1) . وقال: * { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ } الشَّجَرَةِ (2) وقال رسوله الناطق بالوحي: "لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني" (3) وقال عليه السلام: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (4) . ويمكن الاتحاد بالاعتراف أن كلام الله المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأن من قال فيه بتحريف وتغيير كان ضالا مضلا خارجا عن الإسلام، تعالوا فلنتفق ونتحد على هذا. (5)
__________
(1) التوبة الآية (100).
(2) الفتح الآية (18).
(3) الترمذي (5/651-652/3858) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع برقم (6277).
(4) أحمد (5/54،55) والترمذي (5/653/3862) وقال: "هذا حديث غريب". وابن حبان (16/244/7256). قال المناوي في فيض القدير (2/98): "فيه عبدالرحمن بن زياد، قال الذهبي: لا يعرف. وفي الميزان: في الحديث اضطراب". انظر الضعيفة (2901).
(5) الشيعة والسنة (5-9).(10/129)
- وقال: وأما المولد فقد صرح العلماء أن أول من أحدث هذه البدعة كان مظفر الدين بن زين الدين صاحب الإربل. كان ملكا مسرفا فأمر علماء زمانه أن يعملوا باستنباطهم واجتهادهم وأن لا يتبعوا لمذهب غيرهم، حتى مالت إليه جماعة من العلماء وطائفة من الفضلاء، وكان يحتفل بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الربيع الأول، وهو أول من أحدث من الملوك هذا العمل. وكان ينفق كل سنة على مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ثلاثمائة ألف. وكان معينه ومساعده على هذه البدعة أبو الخطاب عمر بن دحية: اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام ثم إلى العراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة ووجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب 'التنوير في مولد السراج المنير' وقرأ عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار. ونقل الإمام ابن كثير عن السبط في ابن دحية هذا: وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة منهم، ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الكامل مقبلا عليه، فلما أكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه. وقد كتب عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني ما خلاصته: إنه كان كذابا كثير الكذب وضاعا، كثير الوقيعة في الأئمة وفي السلف من العلماء، خبيث اللسان، أحمق، شديد الكبر، قليل النظر في أمور الدين متهاونا -ونقل ذلك عن الحافظ ضياء، ثم كتب-: وحدثني علي بن الحسين أبو العلاء الأصبهاني وناهيك به جلالة ونبلا، قال: لما قدم ابن دحية علينا أصبهان نزل على أبي في الخانكاه، فكان يكرمه ويبجله فدخل على والدي يوما ومعه سجادة فقبلها ووضعها بين يديه وقال: صليت على هذه السجادة كذا وكذا ألف(10/130)
ركعة وختمت القرآن في جوف الكعبة، قال: فأخذها والدي وقبلها ووضعها على رأسه وقبلها منه مبتهجا بها، فلما كان آخر النهار حضر عندنا رجل من أهل أصبهان، فتحدث عندنا إلى أن اتفق أن قال: كان الفقيه المغربي الذي عندكم اليوم في السوق اشترى سجادة حسنة بكذا وكذا فأمر والدي بإحضار السجادة، فقال الرجل: أي والله هذه، فسكت والدي وسقط ابن دحية من عينيه. فذاك كان الملك وهذا كان مساعده في تأسيس هذه البدعة الشنيعة التي اخترعوها مضاهين النصارى، لأن يكون لهم عيد ميلاد النبي كما يوجد عندهم عيد ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم وعند القوم عادة أنه يقومون عند قراءة المولد وذكره ويقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حضر في مجلس ذكر مولده فنستقبله قائما، ثم ينشدون هذا البيت المشهور، نذكره بنصه في اللغة الأردية.
دم بدم برهو درود ... حضرت بهي هين يهان موجود
صلوا صلوا على النبي ... فإنه حضر هاهنا
ويقول أحد علماء القوم: يجب القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - . ويعملون هذه الفعلة على حساب ذلك النبي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه من كان يمنع عن القيام حتى وأيام حياته الميمونة بقوله: "من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" (1) . ويروي أنس بن مالك رضي
__________
(1) أحمد (4/93،100) وأبو داود (5/397-398/5229) والترمذي (5/84/2755) وقال: "هذا حديث حسن". والبخاري في الأدب المفرد برقم (977). وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم (357).(10/131)
الله عنه، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك) (1) .اهـ (2)
- وقال في حديثه عن البريلوية: وللمحافظة على تجارتهم هذه أعموا أبصارهم وصموا آذانهم وختموا على قلوبهم كي لا تنفلت من أيديهم هذه الأغنام المدرارة الساذجة، فحرموا عليهم الاستماع إلى أحد من الموحدين، المتبعين كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإصغاء إليهم، والمجالسة معهم، والاختلاط بهم، والحضور في خطباتهم واجتماعاتهم، والنظر في كتبهم، كي لا يعقل المغفل، ويتنور من أحيط بالظلام، ويتعلم من رغب عن الجهل فقال قائلهم: حرام على المسلمين أن يقرؤوا كتب الوهابيين وأن ينظروا فيها. ومن جالس الوهابية أو اختلط بهم لا يجوز مناكحته. وغير ذلك.
ولم تكن هذه الاحتياطات كلها إلا للحفاظ على جهالاتهم ومناصبهم النافعة المفيدة في آن واحد، ولكن من أراد الله هدايته والخير به فلم يمنعه هذا الحصار لأن يخرج من الظلمات إلى النور وَمَنْ { لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (40) (3) . وإليكم النصوص من تعاليم القوم، وأتبعنا كل واحدة منها بالرد عليها من كتب
__________
(1) أحمد (3/132) والترمذي (5/84/2754) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". والبخاري في الأدب المفرد (946).
(2) البريلوية (129-131).
(3) النور الآية (40).(10/132)
الأحناف، لأن القوم يدعون انتسابهم إلى الحنفية، كي يعرف أن هؤلاء الناس ليس لهم من الأمر شيء، فلا الكتاب يؤيدهم، ولا السنة تناصرهم، ولا الفقه الحنفي يحالفهم، فإنهم ليسوا على دليل وبرهان، بل هم حقيقة أخلافا لأسلاف عرفوا في الجاهلية الأولى بالمشركين والوثنيين، وفي الجاهلية المتأخرة عبدة القبور والخرافيين والبدعيين، لاختلافهم بعض الاختلاف معهم في لون البدعات وصورها حسب الاختلاف الإقليمي والجغرافي، لأن العالمية للسنة، فسنة رسول الله في جميع البلدان والمدن وفي جميع أقطار الأرض وأطرافها سنة واحدة، لأن مصدرها واحد وهو ذات الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه. وأما البدعة فتختلف وتتنوع باختلاف المكان والزمان، وبحسب القطر والإقليم، وبحسب المقتضيات والمتطلبات، ولأن مصدرها أشخاص متعددون متنوعون حسب الأغراض والأهواء، ومختلفون حسب الذوق والمزاج، فالسنة عليها توثيق: وَمَا { يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4) (1) ، والبدعة هي مصداق: وَلَوْ { كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (82) (2) .اهـ (3)
- وقال: فكل شيء أحدث في الإسلام ولا يؤيده آية من كتاب الله أو
__________
(1) النجم الآيتان (3و4).
(2) النساء الآية (82).
(3) البريلوية (113-115).(10/133)
أمر من رسول الله فهو مردود. "من أحدث في أمرنا هذا فهو رد" (1) . وقال: "فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" (2) . ولو كان ذلك من الدين أو من المستحسن لما ترك الله بيانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تفصيله. فعدم وروده ووجوده في الكتاب والسنة يدل على أنه ليس من الدين. ولو كان من الدين ولم يرد ذكره فيهما لما كان الدين كاملا. (3)
موقفه من المشركين:
- قال في حديثه عن القاديانية: والعجب كل العجب أن الفئة الضالة المضلة التي لم تستطع مع كل إمدادات الاستعمار والحكومة الانكليزية أوان سلطتها أن تضم إليها في القارة الهندية، حيث يقع مركزها إلا أشخاصا معدودين، ممن نشؤوا في أحضان الاستعمار طوال سبعين سنة، ولا يزيد عددهم عن الألوف، ومساجدهم عن العشرات، ومدارسهم عن الأعداد المفردة، وهذا لأن المسلمين قد عرفوا حقيقتهم، واكتشفوا أمرهم، وفي إفريقيا وغيرها دعاة الإسلام غير موفورين، لم؟ هل المسلمون صاروا فقراء إلى هذا الحد حتى لم يستطيعوا إرسال المبلغين إلى تلك البلاد؟ أم ماذا؟ ينبغي أن يتفكر كل منا جواب هذا، وأن يسمح لي فأقول جهرا: إن كل شيء موفور عند المسلمين، أكثر ما كانت قبل، ولكن الفكر للإسلام والتألم
__________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الخلال سنة (311هـ) وابن رجب سنة (795هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن ابراهيم آل الشيخ سنة (1389هـ).
(3) البريلوية (161).(10/134)
له والنهوض به والدفاع عنه والتضحية في سبيله صارت مفقودة فينا، ونحن نرى أنفسنا بكل خير وفي كل خير ما دام لم يصبنا نحن، أولادنا، وأشقائنا، وأسرتنا، وعائلتنا أي أذى، وأما الإسلام فيكون في خطر والمسلمون يكونون في طوفان، طوفان الكفر والارتداد، طوفان الضلالة والإلحاد فلا يهمنا ما دام الطوفان بعيدا عن أبوابنا. فهذا عين الضلالة، وقد وصف الله عز وجل أمة محمد عليه السلام بقوله: كُنْتُمْ { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (1) وقد أهملنا هذه المنزلة وهذه المكرمة وفقدنا ميزة الخيرية. فتيقظوا أيها المسلمون. وتنبهوا، أليس من المبكي أن تغزو هذه الفئة الكثير من بلاد العالم الإسلامي بينما كان المسلمون في يقظة لكل عدو وحربا على كل ضلال وفساد للقضاء عليه في موطنه. فالمسئولية مشتركة كل بقدره. وإن العمل ضد القاديانية لإيقاف خطرها أمر يحتمه ويوجبه كل من الدين، والسياسة، والوطنية.
أما الدين: فبتحريفها العقائد، وهدمها لأركان الإسلام.
وأما السياسة: فلكونها الجسر الواسع للاستعمار في كل شعب تحل فيه كما أنشأها وعاهدها.
وأما الوطنية: فكما بين الكاتب الهندوسي الكبير وكشف شاعر
__________
(1) آل عمران الآية (110).(10/135)
الإسلام الكبير محمد إقبال حينما رد على جواهر لآل نهرو في تدعيمه إياها. (1)
موقفه من الرافضة:
هذا العلَم الذي سخر قلمه ولسانه للذب عن المنهج السلفي، وتقويض أركان أهل الضلال والبدع خاصة الرافضة اللعينة، فقد تصدى لها الشيخ رحمه الله بكل ما أوتي من قوة وجهد، وألف في ذلك المؤلفات العظيمة منها:
1- 'الشيعة والتشيع'.
2- 'الشيعة والقرآن'.
3- 'الشيعة والسنة'.
4- 'الشيعة وأهل البيت'.
5- 'الإسماعيلية'.
وكلها مطبوعة ومتداولة ولله الحمد والمنة.
موقفه من الصوفية:
له من الآثار السلفية: 'التصوف المنشأ والمصادر'. وهو مطبوع.
- قال في مقدمته رحمه الله: كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءوا إلى التصوف والصوفية، وأن الغلو والتطرف هو الذي جلب عليهم الطعن وأوقعهم في التشابه مع التشيع والشيعة، ولكنني وجدت كلما تعمقت في الموضوع، وتأملت في القوم ورسائلهم، وتوغلت في جماعاتهم وطرقهم، وحققت في سيرهم وتراجمهم، أنه لا اعتدال عندهم كالشيعة تماما،
__________
(1) القاديانية (15-17).(10/136)
فإن الاعتدال فيهم كالعنقاء في الطيور، والشيعي لا يعد شيعيا إلا حين ما يكون مغاليا متطرفا، وكذلك الصوفي تماما، فمن لا يعتقد اتصاف الخلق بأوصاف الخالق، لا يمكن أن يعد صوفيا ووليا من أولياء الله.
ومن الطرائف أن ظني ذلك كان يجعلني ويحثني على أن أسمي مجموعة الكتابة عن المتصوفة 'التصوف بين الاعتدال والتطرف' ولكنني لما كتبت وجدت أن هذا الاسم لا يمكن أن يناسب تلك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتي أن أجده لأدافع عنهم وأجادل، وأبرر بعض مواقفهم، وأجد المعاذير للبعض الأخرى، ولكنني بعد قراءتي الطويلة العميقة العريضة لكتب الصوفية ومؤلفات التصوف، وجدت نفسي، إما أن أجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأتبع كل شيطان مريد -ولا جعلني الله منهم- وإما أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم، وأتقي الله وأكون مع الصادقين- وجعلني الله منهم ورزقني الاستقامة والثبات عليه. (1)
- وقال: فإن التصوف أمر زائد وطارئ على الزهد، وله كيانه وهيئته، نظامه وأصوله، قواعده وأسسه، كتبه ومؤلفاته، ورسائله ومصنفاته، كما أن له رجالا وسدنة وزعماء وأعيانا.
فإن الزهد عبارة عن ترجيح الآخرة على الدنيا، والتصوف اسم لترك الدنيا تماما.
والزهد هو تجنب الحرام، والاقتصاد في الحلال، والتمتع بنعم الله
__________
(1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.6-7).(10/137)
بالكفاف، وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والإخوان والخلان.
والتصوف تحريم الحلال، وترك الطيبات، والتهرب من الزواج ومعاشرة الأهل والإخوان، وتعذيب النفس بالتجوع والتعري والسهر.
فالزهد منهج وسلوك مبني على الكتاب والسنة، وليس التصوف كذلك، لذلك احتيج لبيانه إلى 'التعرف لمذهب أهل التصوف' و'قواعد التصوف' و'الرسالة القشيرية' و'اللمع' و'قوت القلوب' و'عوارف المعارف' وغيرها من الكتب. (1)
- وقال: فخلاصة الكلام أن الجميع متفقون على حداثة هذا الاسم، وعدم وجوده في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالحين.
نعم، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد خلق الله في الدنيا وزخارفها، وأصحابه على سيرته وطريقته، يعدون الدنيا وما فيها لهوا ولعبا، زائلة فانية، والأموال والأولاد فتنة ابتلي المؤمنون بها، فلم يكونوا يجعلون أكبر همهم إلا ابتغاء مرضاة الله، يرجون لقاءه وثوابه، ويخافون غضبه وعقابه، آخذين من الدنيا ما أباح الله لهم أخذه، ومجتنبين عنها ما نهى الله عنه، سالكين مسلك الاعتدال، منتهجين منهج المقتصد، غير باغين ولا عادين، ولا مفرطين ولا متطرفين، وعلى رأسهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلفاء الراشدون، وبقية العشرة المبشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب بيعة الرضوان، ثم السابقون الأولون من
__________
(1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.9-10).(10/138)
المهاجرين والأنصار، ثم عامة الأصحاب، على ترتيب الأفضلية كما مر سابقا في الفصل الأول من هذا الباب.
وتبعهم في ذلك التابعون لهم بإحسان، وأتباع التابعين، أصحاب خير القرون، المشهود لهم بالخير والفضيلة، ولم يكن لهؤلاء كلهم في غير رسول الله أسوة ولا قدوة، الذي قال فيه جل وعلا: أَلَمْ { يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ Wxح !(10/139)
وزخارفها، وفتحت عليهم أبواب الترف والرخاء، ودرت عليهم الأرض والسماء، وأقبلت عليهم الدنيا بكنوزها وخزائنها، وفتحت عليهم الآفاق، فانغمسوا في زخارفها وملذاتها، وبخاصة العرب الفاتحون الغزاة، والغالبون الظاهرون، فحصل رد الفعل، وفي نفوس المغلوبين المغزوين والمقهورين، من الموالي والفرس والمفلسين وأصحاب النفوس الضعيفة المتوانية خاصة، فهربوا عن الحياة ومناضلتها، وجدها وكدها، ولجأوا إلى الخانقاوات والتكايا والزوايا والرباطات، فرارا من المبارزة والمناضلة، وصبغوا هذا الفرار والانهزام ورد الفعل صبغة دينية، ولون قداسة وطهارة، وتنزه وقرابة، كما كان هنالك أسباب ودوافع ومؤثرات أخرى، وكذلك أيدى خفية دفعتهم إلى تكوين فلسفة جديدة للحياة، وطراز آخر من المشرب والمسلك، وأسلوب جديد للعيش والمعاش، فظهر التصوف بصورة مذهب مخصوص، وبطائفة مخصوصة، اعتنقه قوم، وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير، وتدبر عميق كمسلك الزهد، ووسيلة التقرب إلى الله، غير عارفين بالأسس التي قام عليها هذا المشرب، والقواعد التي أسس عليها هذا المذهب، بسذاجة فطرية، وطيبة طبيعية، كما تستر بقناعه، وتنقب بنقابه بعض آخرون لهدم الإسلام وكيانه، وإدخال اليهودية والمسيحية في الإسلام، وأفكارهما من جانب، والزرادشتية والمجوسية والشعوبية من جانب آخر، وكذلك الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى، وتقويض أركان الإسلام وإلغاء تعاليم سيد الرسل - صلى الله عليه وسلم - ، ونسخ الإسلام وإبطال شريعته بنعرة وحدة الوجود، ووحدة الأديان، وإجراء النبوة، وترجيح من يسمى بالولي على أنبياء الله(10/140)
ورسله، ومخالفة العلم، والتفريق بين الشريعة والحقيقة، وترويج الحكايات والأباطيل والأساطير، باسم الكرامات والخوارق وغير ذلك من الخرافات والترهات. (1)
- وقال: ولقد بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج، وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزموا أنفسهم التبتل، خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها. تقليدا لهم واتباعا لسنتهم، واقتداء لمسالكهم ومشاربهم، مخالفين أوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - الناسخ لجميع الشرائع والأديان، المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات، فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة، فيقول جل من قائل: وَإِنْ { خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } (3) (2) . وقال: وَأَنْكِحُوا { الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
__________
(1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.43-45).
(2) النساء الآية (3).(10/141)
عِبَادِكُمْ ِNà6ح !$tBخ)ur إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (32) (1) . وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل: وَمِنْ { آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (21) (2) . ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: إن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرنهم فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه، ثم قال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني" (3) . وقال: "تزوجوا الولود والودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" (4) . وقال عليه الصلاة والسلام: "حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء،
__________
(1) النور الآية (32).
(2) الروم الآية (21).
(3) تقدم ضمن مواقف إسماعيل بن محمد الأصبهاني سنة (535هـ).
(4) أحمد (3/158) وابن حبان (9/338/4028 الإحسان) وأورده الهيثمي في المجمع (258) وحسن إسناده.(10/142)
وجعلت قرة عيني في الصلاة" (1) . وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يأتى أحدنا شهوته ويكون فيها له أجر؟. قال: "أفرأيتم لو وضعه في حرام، هل عليه وزر؟" قالوا نعم. قال: "فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (2) . وما أحسن ما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: (ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع، ثم قال: لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله. لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء، وكان يختار النكاح ويحث عليه، وينهى عن التبتل، فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق. ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: "حبب إلي النساء". فهذه هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين لشرع الله: الكتاب والسنة.
وتلك هي أقوال الصوفية، التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب، والمنهل الصافي، بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك، ونساك الجينية، ورهبان المسيحية. وأمر أولئك في هذا الباب مشهور ومعروف لا يحتاج إلى كثير من البيان. (3)
__________
(1) أحمد (3/128و199و285) والنسائي (7/72/3949) والحاكم (2/160) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي والبيهقي (7/78) من حديث أنس.
(2) أحمد (5/167و168) ومسلم (2/697-698/1006) وأبو داود (5/406-407/5243).
(3) التصوف المنشأ والمصادر (ص.61-62).(10/143)
عبدالعزيز بن ناصر بن عبدالله بن رشيد (1) (1408 هـ)
الشيخ عبدالعزيز بن ناصر بن عبدالله بن عبدالعزيز بن رشيد بن حدجان، من آل حصنان. ولد في بلدة الرس سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف، ونشأ فيها، ثم رحل إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ. ثم سافر إلى مكة المكرمة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، فصار مدرسا في المسجد الحرام، ثم صار قاضيا في بلجرشي، وفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عين مدرسا في المعهد العلمي بالرياض. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف عين رئيسا لهيئة التمييز بالرياض. وله مؤلفات تدل على سعة علمه واطلاعه الواسع في العلوم الشرعية.
توفي رحمه الله سنة ثمان وأربعمائة وألف.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1- 'التنبيهات السنية في شرح العقيدة الواسطية'.
2- 'القول الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى'. (2)
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/531-534).
(2) علماء نجد (3/534).(10/144)
أبو يوسف عبدالرحمن عبدالصمد (1) (1408 هـ)
الشيخ العلم عبدالرحمن بن يوسف بن محمود بن حسين بن علي بن عبدالصمد، ولد في بلدة عنبتا قضاء طولكرم التابعة لنابلس في فلسطين. نشأ يتيما لا أب ولا أم وهو دون التاسعة من عمره.
خرج من فلسطين إلى لبنان فسوريا وبها تصوف على طريقة الرفاعية حتى منَّ الله عليه بمعرفة الحق الواضح الأبلج، فتبرأ من التصوف وأهله وحذر منهم.
درس في المعهد العلمي بالرياض الذي افتتح عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، تعرف على عدة مشايخ على رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وبقي في الرياض تسع سنوات حتى التحق بالجامعة الإسلامية حين افتتاحها سنة ثمانين وثلاثمائة وألف.
ثم رجع إلى سوريا فعمل إماما وخطيبا في مناطق مختلفة، ثم رحل إلى الكويت وبقي فيها مدة، إلى أن وجهت له دعوة من الجمعية الإسلامية في ملبورن بأستراليا، فأجاب دعوتهم ورحل إليهم، فتوفي رحمه الله هناك بأستراليا ودفن بها في مساء الخميس سبعة عشر شوال سنة ثمان وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له رسالة ماتعة بعنوان: 'أسئلة طال حولها الجدل'. وهي رسالة تشف
__________
(1) 'المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف عبدالرحمن عبدالصمد' بقلم إبراهيم الساجر. وتتمة الأعلام (1/283-284) لمحمد خير رمضان يوسف. وإتمام الأعلام (ص.151) لنزار أباظه ومحمد رياض المالح.(10/145)
عن منهج صاحبها الرقراق.
- قال رحمه الله فيها: مما لا شك فيه عندي في أن جميع البدع الشرعية المنسوبة إلى الدين بشتى ألوانها وصورها كلها ضلالة وفي النار، لأنها تشريع لم يأذن به الله، وحدث في الدين ما أنزل الله به من سلطان، وتحريف للكلم عن مواضعه، وإساءة في فهم قواعد الشرع العامة، وتلاعب في نصوص الدين الإسلامي الحنيف، وتمسك بما تشابه منه ابتغاء الفتنة وضرارا وتفريقا بين المؤمنين،وتمزيقا لشملهم.
لكن الله جلت قدرته أبى إلا أن يحفظ دينه ويعلي كلمته، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المبطلون، ويحق الحق بكلماته ويزهق الباطل وأهله. فكان حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى- على جميعها بأنها ضلالة وفي النار، وكذلك الخلفاء والصحابة والأئمة رضوان الله عليهم أجمعين ورثوا ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - وحذروا أتباعهم من اتخاذ البدع والعمل بها. (1)
- ثم قال بعد ذكر الأدلة على ذلك وكلام الأئمة المعتبرين: وخلاصة القول: أنه قد ثبت أن جميع بدع العبادات كلها ضلالة وكلها في النار، وأنه لا يوجد في البدع الشرعية ما يمدح، وليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كلها سيئة ومذمومة ومن زعم ذلك فينطبق عليه قول الإمام مالك رحمه الله: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة).
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.54).(10/146)
وتقسيم من قسمها منصب على بدع العادات والبدعة اللغوية لا غير كالمنخل والأشنان ونحو ذلك من بدع العادات، ومعلوم أن الأمة متفقة على أن الخير كله في اتباع من سلف والشر كله في ابتداع من خلف، وأن الابتداع في الدين شر كله وليس فيه ما يمدح، والله تعالى أعلم. (1)
- وقال رحمه الله في شأن التقليد: مما لا شك فيه أن المتأخرين قد نسبوا إلى الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين (مذاهب) وتعارفوا فيما بينهم على صحة ما نسبوه إليهم من تلك المذاهب وعرفوها بأنها عبارة عن (كتب المذهب) سواء نسبت للإمام نفسه أو إلى أحد تلامذته أو لأحد من مجتهدي المذهب، وسواء أكانت أصولا أو فروعا، متونا أو حواشي أو شروحا، وألزم أولئك المتأخرون أتباعهم بالتقيد التام بالمذهب وبأخذ جميع ما فيه من مسائل وغيرها، وعدوا الخارج عنها ولو بمسألة واحدة خارجا عن المذهب وعدوه ملفقا ومرقعا.
لكن الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين براء من كل ذلك، وبعيدون كل البعد عن أن يدعوا لأنفسهم مذهبا معينا على النحو المعروف اليوم ويلزموا أتباعهم بأن يلتزموه ويفرضوا عليهم أن يتقيدوا بأقوالهم وأفعالهم واجتهاداتهم وأن يأمروهم بعدم الخروج عنها، حاشاهم من ذلك ونعيذهم بالله أن يقع منهم مثل ذلك. بل الذي حصل منهم على العكس مما يدعيه المتأخرون، إنهم زجروا أتباعهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم من الأئمة قال الإمام أحمد رحمه
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.59).(10/147)
الله: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا) من إيقاظ الهمم للفلاني صفحة 113 وأعلام الموقعين (2/302) وقال: (رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار) ذكره ابن عبدالبر في الجامع (2/149) وللمزيد راجع مقدمة صفة صلاة النبي للألباني.
وقال الإمام مالك: (ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ابن عبدالبر في الجامع (2/91). وقال: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) ابن عبدالبر (2/32).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل أن يدعها لقول أحد) راجع صفة صلاة النبي للألباني (المقدمة ص 29-30). وقال: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت) المرجع السابق.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: (ويحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا، وأرى الرأي غدا واتركه بعد غد) نفس المرجع.
هذا ما قاله هؤلاء الفضلاء ودُوِّنَ عنهم رضوان الله عليهم أجمعين، وبهذا أمروا أتباعهم، لا كما يزعمه المقلدة.
صحيح أن كلمة المذهب قد وردت في معرض كلامهم وجرت على بعض ألسنتهم مثل قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ومعلوم أن كلمة(10/148)
(المذهب) مأخوذة من ذهب يذهب ذهابا ومذهبا فهو ذاهب، ومقصودهم من هذه العبارة أنهم إذا وجدوا حديثا صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسألة ما ذهبوا إليه وتمسكوا به وعملوا بما فيه وتركوا آراء الرجال وأقيستهم. وبعد التتبع والاستقراء وجدنا جميع مذاهبهم تقوم على ثلاثة أركان:
الأول: صحة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني: إذا خالفت أقوالهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رددنا أقوالهم وأخذنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الثالث: إذا صح الحديث في مسألة ما بخلاف ما قالوا رجعوا عما قالوه في حياتهم وبعد موتهم. (1)
إلى أن قال: فالذي يُلزم الناس باتباع مذهب معين ويحملهم على التقيد بجميع ما فيه من المسائل وعدم الخروج عنه دون المذاهب الأخرى فإنه غير موفق للصواب ومخالف لجميع مذاهب الأئمة أنفسهم، بل يكون جاهلا أو صاحب هوى متبعا لهواه أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وهنا نسأل الذي يلزم الناس باتباع مذهب معين والتقيد به دون المذاهب الأخرى؟ هل يعتقد بعصمة من يدعو الناس لاتباع مذهبه؟ وهل أحاط صاحب ذلك المذهب بجميع تعاليم الإسلام كما أنزلها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - كاملة وتامة؟.
فإن قال بعصمة صاحب المذهب وعدم الخطأ وأنه أحاط بجميع
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.132-134).(10/149)
تعاليم الإسلام كاملة غير منقوصة ولم يعزب عنه منها شيء فقد خالف الواقع المحسوس وما اتفقت عليه الأمة. وإن قال بعدم العصمة وبجواز الخطأ عليه وأنه لم يحط بجميع تعاليم الإسلام، فنقول له:كيف تلزم الناس بأن يتقيدوا بأقوال تحتمل الخطأ والصواب وبإسلام غير متكامل؟؟؟
وفي الحقيقة أن القول بإلزام الناس بمذهب واحد معين لا يعدو عن كونه نظرية من نسج الخيال ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، يكذبها الواقع واقع الإسلام وواقع المسلمين في القرون الثلاثة المفضلة وتردها الأصول التي أصّلها أصحاب المذاهب أنفسهم. (1)
- وله أيضا كتاب 'الرسالة العظمى' لكنه لم يتمه.
وله ردود وتعقبات على كثير من الرسائل منها:
- 'تبسيط عقائد المسلمين' لحسن أيوب.
- 'نحو كلمة سواء وحوار كريم' لعبدالله نجيب.
- 'الإمام الشيرازي' لمحمد حسن هيتو. وغيرها.
موقفه من الجهمية:
له رسالة في التوحيد.
قال فيها رحمه الله: أقول: فأي محادة لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم - أكبر عند الله من ملحد يسمع قول الله: وَتَوَكَّلْ { عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا
__________
(1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.136-137).(10/150)
} يَمُوتُ (1) اللَّهُ { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (2) ويقول: (لا أقول حي ولا لا حي) ويسمع قول الله: عَالِمُ { الْغَيْبِ } وَالشَّهَادَةِ الآية (3) وقوله: إِن { اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } (38) (4) ويقول: (لا أقول عالم ولا لا عالم).
ولكن الحقيقة كل الحقيقة فَإِنَّهَا { لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (46) (5) وحسبهم قول الله: إِنَّ { الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ } (20) (6) .
وهم القائلون: (سميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة ومريد بلا
__________
(1) الفرقان الآية (58).
(2) البقرة الآية (256).
(3) الأنعام الآية (73).
(4) فاطر الآية (38).
(5) الحج الآية (46).
(6) المجادلة الآية (20).(10/151)
إرادة ومقتدر بلا قدرة... إلخ).
فرارا منهم من تعدد القديم زعموا. ونكتفي بالرد عليهم بما قاله الفاضل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل؛ لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل، فإذا عدم السواد عن جرم مثلا استحال أن نقول هو أسود إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد. وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات استحال أن نقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك ولم يقم بها علم ولا قدرة) [1/309 أضواء البيان]. وهنا أسأل أتباع هؤلاء سؤالا على النمط الذي وجه إلى بشر المريسي في فتنة خلق القرآن. فأقول: "قولكم لا نقول عالم ولا لا عالم وحي ولا لا حي وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة وقادر بلا قدرة... إلخ" هل هذا القول من الدين الذي أكمله الله وأتمه ورضيه لنا دينا أم لا؟
فإن قلتم: من الدين، نقول لكم: هل علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم جهله؟ فإن قلتم: جهله، نقول لكم إنكم قد نسبتم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهل في الدين.
شيء من الدين جهله النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمتموه أنتم، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وإن قلتم علمه: نقول لكم: هل علّمه أحدا من أصحابه رضوان الله عليهم أم سكت عنه؟ فإن قلتم: علمه، نقول لكم: من روى هذا عنه - صلى الله عليه وسلم - ؟ وفي أي الكتب روى؟ ودونكم خرط القتاد أن تثبتوا ذلك وأنى لكم التناوش.(10/152)
وإن قلتم سكت عنه ولم يعلمه أحد من أصحابه، نقول لكم: شيء سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلمه أحدا من أصحابه وسكت عنه الخلفاء والصحابة وسكت عنه التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا ولم يعلموه أحدا من العالمين ألا يسعكم السكوت عنه؟ لا وسّع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم.
وهذا السؤال يصلح أن يسأل به عن كل قول قاله الزنادقة والباطنية الحاقدة وعلماء الكلام وكذلك أتباع المشبهة والمجسمة والمعطلة والمؤولة والواقفية والمفوضة وغيرهم ولله الحمد والمنة. (1)
- وقال رحمه الله ردا على المؤولة، ومبينا فساد مذهبهم: أقول في مقالتهم هذه أن ظواهر هذه الصفات والمتبادر للذهب والسابق إلى الفهم من معاني الاستواء والنزول... هو مشابهة صفات المخلوقين... إلخ. إساءة الظن بالله جل وعلا واتهام لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكيف يسوغ بمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أن في كلام الله الذي أنزله في كتابه ووصف به نفسه ما ظاهره التشبيه والكفر، ويتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم بيان ما ظاهره الكفر والتشبيه للأمة، مع أنه مأمور بتبليغ الرسالة للناس كافة وتبيين لهم ما نزل إليهم، وكيف يخطر ببال مسلم أن استواء الله على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة ووجهه ويده ورضاه وغضبه... إلخ يشبه صفات المخلوقين وهو القائل جل وعلا: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
__________
(1) المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف (ص.50-52).(10/153)
الْبَصِيرُ } (11) (1) .
ولكن أبى الزنادقة والباطنية الحاقدة وأفراخ الفلاسفة الملحدين وتلامذة المتكلمين واليهود المارقين، أبوا إلا الدس في هذا الدين الحنيف وزعزعة عقائد المسلمين، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. (2)
أسامة بن توفيق القصاص (3) (1408 هـ)
الشاب الهمام العالم أسامة بن توفيق القصاص الداعية الفريد، وضع رحمه الله نفسه في خدمة العلم، ورفع منار التوحيد الخالص، والتعريف بالله الواحد، والتصدي بكل قوة لفرقة ضلت وانحرفت عن فهم صفات ربها وألحدت في أسمائه، وكفرت المسلمين، وسبت وشتمت علماء الإسلام واستحلت دماء الموحدين، وعاثت في الأرض فسادا... وأن هذا الجهبذ رحمه الله رحمة واسعة كان يعلم أن وراء بيان الحق وإنكار منكر هذه الطائفة الضالة أن يعرض نفسه للقتل. ومع ذلك فإنه لم يأبه لذلك، بل قال في كتابه هذا: (لقد هددوني بالقتل، وأوعزوا إلى أحدهم بالفعل، وهم يجهلون أنني أرضى بأن يطاح برأسي مقابل رأسهم وهم يظنون أن الله غافل عما يفعلون، أو أن المسلمين عنهم لاهون... ألا إن الصبح قريب، وسبحان ربنا القائل: قُلْ { لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف (ص.59).
(3) من مقدمة كتابه 'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين' بقلم الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق.(10/154)
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } (1) .
قتلته رحمه الله فرقة الأحباش الضالة المنحرفة بطرابلس الشام. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
من تآليفه 'إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة' و'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين'.
موقفه من المبتدعة:
قال في كتابه 'إشراقة الشرعة' راد على من قسم البدعة إلى حسنة وسيئة، وأدحض فيه شبههم الواهية: فاعلم أخي أن حثالة من الناس حملت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول بعض الصحابة، بل وقول بعض العلماء، على فهمها المعوج، لتضرب بذلك السنة الصريحة الواضحة، بل لتضرب الدين بالدين كفعل الزنادقة الملحدين الذين كان دأبهم أن يشككوا الناس في إسلامهم؛ وهكذا فالفعل شاهد المقصد. وغاية ما في الأمر أن بعض العلماء المتأخرين قال بتقسيم البدعة، وتبعه على ذلك من تبعه، ولكن تذرع من لا فهم عنده بهذا الأمر ليقول: إن بعض الابتداع في الدين يكون حسنا أو واجبا أو ما شابه، رافعا هذا القول لواء، وظانا أن بعض السنة يعاضده ويسانده ففرح المسكين، واستمال بذلك قلوب العامة... (2)
__________
(1) التوبة الآيتان (51و52).
(2) إشراقة الشرعة (ص.13).(10/155)
- وقال أيضا: عليك أن تعرف أخي أن الابتداع معناه أحد أمرين:
... إما أن الله تعالى لم يكمل الدين؛ وهذا كفر، إذ يقول الله سبحانه: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) .
وإما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخفق ولم يبلغ الرسالة حق التبليغ؛ وهذا اتهام له بالخيانة، وهو كفر، فالله تعالى امتدحه وجعله خاتم الرسل، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرا لهم" (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به" (3) . وقالت عائشة لمسروق رضي الله عنهما: "ومن حدثك أن محمدا كتم شيئا مما نزل عليه فقد كذب" (4) .
وقال مالك رحمه الله في هذا الشأن وهو عالم دار الهجرة: (من ابتدع
__________
(1) المائدة الآية (3).
(2) أخرجه: أحمد (2/161) ومسلم (3/1472-1473/1844) والنسائي (7/172-173/4202) وابن ماجه (2/1306-1307/3956). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3) أخرجه: الشافعي في الرسالة: (ص.87) فقرة (289)، وعنه البيهقي (7/76) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/270) مرسلا عن المطلب بن حنطب. قال الشيخ الألباني إسناده مرسل حسن، وذكر للحديث شواهد يتقوى بها (الصحيحة: 4/417).
(4) أحمد (6/49،50) والبخاري (8/349/4612) ومسلم (1/159/177) والترمذي (5/3068-3069/3278).(10/156)
في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: الْيَوْمَ { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) ، فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا).
فمن ابتدع إذا كان هذا معنى فعله، وهو أنه متهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيانة لدين الله وحاشاه.
وكذلك ليس لأحد أن يقول عن شيء هذا أمر صغير أو حسن، لأن الوصف لا وزن له مع قبح الفعل وهو الابتداع؛ لأن البدعة مضاهية للشريعة، والتشريع من حق الشارع. ومن قال عما لم يكن مشروعا: هذا حسن، فكأنما نصب نفسه إلها أو ندا لله تعالى، وكذلك العقل فهو مناط التكليف، ولم يقل أحد هو مناط التشريع، ولو كان ذلك من حقوقه لما كان هناك من دافع إلى إنزال الكتب وإرسال الرسل، إذ كل منا عندئذ يتخذ دينا يتعبد به بمحض اختياره. وهذا كله باطل، فالدين واحد وهو كامل لا يحتاج إلى من يزيد عليه، وليس للبشر ولا للملائكة ولا للجن أن يتصرفوا فيه بالزيادة والنقصان، فإذا كان هذا ليس من حق الرسل، فكيف يكون من حق من هو دونهم؟!
قال الله تعالى في رسوله اللأعظم: وَمَا { يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى
__________
(1) المائدة الآية (3).(10/157)
} (4) (1) .
فهذا الوصف الرباني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين لنا أن كلامه لم يكن من عنده، بل هو وحي من الله، ويؤكد وجوب اتباع القرآن والسنة، لكونهما خاليين من هواه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن هنا كانا دينا يتعبد به ويلتزم. فكيف يتعبد إذاً بقول الرجال وأهواء الجهال؟!! اللهم غفرا. (2)
- وقال: ومن أشنع وأبشع ما يسمع من الكلام قول بعض الجهال -إذا ما نهيته عن بدعة-: (أهذا الأمر الصغير بدعة؟) فمشكلة هؤلاء أن أحدهم ينظر إلى البدعة في شكلها لا فعلها، ولو فقهوا معناها لأدركوا قيمة هذا النهي ولكن هيهات، فقد غلفت قلوبهم غشاوة الاستحسان، فأصبحوا لا يفرقون بين السنة والبدعة بخلاف السني فإن قلبه مرآة صافية، إذا ما عرضت له نكتة سوداء سارع إلى حكها، لأنها تظهر بوضوح لنصاعة القلب وطهره، وليعلم الجاهل بأن الأمر إن كان تافها في عينه لا يحتاج إلى نهي فإنه لا بد ولا ريب سيترسخ في يوم من الأيام حتى يصبح عند الناس سنة، وهذا خطر جسيم، لأن شرائع أو طبائع البشر تصبح بذلك دينا، والإسلام لا يقبل الزيادة أو النقصان. (3)
- وقال: فالمبتدع كما ترى سفيه أحمق وعقله مغلق، يظن بفعله أنه يؤجر ويثاب، ولا يدري ما ينتظره من العقاب، وهو يحتج على نهيك بقول
__________
(1) النجم الآيتان (3و4).
(2) إشراقة الشرعة (ص.15-17).
(3) إشراقة الشرعة (ص.86).(10/158)
ساقط وخيم، وهو أنه يصلي أو يذكر أو يصوم، ويتجاهل أن هذه العبادات لها كيفيات وأوقات، فإن خرجت عنها استحق صاحبها العقوبات وخرجت عن كونها قربات. (1)
وقال (2) :
عصابة ظهرت في الدين مفتتنة ... قالت وجدنا وجدنا بدعة حسنه
وكان تقسيم بعض الناس عمدتَها ... مع أنه لغوي عند من وزنه
تعسا لها جهلت أن كل محدثة ... في الشرع مذمومة قد خالفت سننه
إذ لم يفرق بقول منه ينصرها ... بل قوله (كل) يعني كلها نتنه
وإن من صحبوا المختار سائرهم ... نصوا على قبحها ردا على الخونه
حتى الذي صنعوا من قوله حججا ... وحرفوا قصده قد حوربت زَمَنَه
لم يعرفوا عمرا يا ويح نظرتهم ... فكيف يهدون إذ أفهامهم زَمِنَه
هو المداوي صبيغا من ضلالته ... بضرب عرجونة وهو الذي سجنه
قلنا لهم بحديث المصطفى اعتصموا ... فعصمة المرء بالقرآن إن قرنه
لكنهم أعرضوا عن قولنا عجبا ... يستحسنون بأهواء لهم عفنه
كم من حقائق عن أحوالهم ظهرت ... إن رمت تعرفها سل أنفسا فطنه
فقد كشفنا معاني فعلهم ولذا ... تعلق القلب بالمأثور واحتضنه
النفس جامحة مثل الحصان فإن ... تتركه يهلك لذا أحكم له رسنه
ما الابتداع سوى أهواء صاحبها
__________
(1) إشراقة الشرعة (ص.94).
(2) إشراقة الشرعة (ص.99-103).(10/159)
فكل مبتدع لا بد متبع ... لأنه مظهر ما النفس مختزنه
وديننا آية أو سنة أبدا ... لها فما خرجت عن كونها وثنه
فذاك موطننا لانرتضي بدلا ... دوما على مثل هذا الروح مئتمنه
فيه الأمان فهلا كنت زائره ... وإن رأى غيرنا في غيره وطنه
لا تحتقر أهل من دانوا بمنهجنا ... حتى تسائل عما فيه من سكنه
في الله حدتهم هذي مزيتهم ... حتى وإن خرجت ألفاظهم خشنه
فالحق غايتهم والصدق رايتهم ... عند التعدي أتبقى النفس متزنهه؟
الشرع بالنص لا بالقول تعرفه ... ماذا يروم الفتى بعد الذي أمنه
كم باطل فيه ألفاظ منمقة ... فلن يكون لأقوال الرجال زنه
وكم طوائف هلكى في ضلالتها ... وكم خبيث يرى في عصبة لسنه
فالمحدثات كموج فيه ملتطم ... هذا الزمان عصيب فاجتنب فتنه
أمواجه بالهوى لا بالهوا اضطربت ... يا ويل خائضه هلا درى جننه
فيها الهلاك بغير المصطفى ونجا ... أثارها فئة للدين ممتهنه
أهل الحديث هم الناجون وحدهم يا قبح شانئهم لو فيه من خفر ... من كان متخذا آثاره سفنه
فهل سلا غضبة الجبار مبتدع ... وسط الخضم وإن لاقوا به محنه
ومستحق لهذا من طغى وبغى ... لكان منه لسان السوء قد دفنه
تراه عند لقاء الرعن مبتهجا ... وَيْلُمِّهِ كم رسول الله قد لعنه
فلا تجالس عدوا للحديث فكم ... إذ تلك مهنته بالسوء مرتهنه
أنقذ بذلك من أمسى ضحيتهم ... وإن يلاقي مداري سنة طعنه(10/160)
وإن أصابك من جراء ذا ضرر ... بسمه محدث من صاحب حقنه
من كان متبعا نهج الرسول أخي هيء وليدك وازرع فيه سنته ... وقل ليصرف عن أقوالهم أذنه
هذي الرعاية أعلى في جلالتها ... فهب لغيرك نصحا وانتظر ثمنه
عود بنيك لزوم الاقتداء به ... إلى النهاية سنيا ترى كفنه
يا ويحهم نحن حراس العقيدة كم ... كذا بحب الصحاب امزج له لبنه
نحن الهداة علينا واجب ولذا ... من أن تنمي أو ترعى له بدنه
يا عزنا عندما نلقى الإله غدا ... حتى يكونوا رجالا بالعلى قمنه
فأين هم؟ يا لهم زادوا ببدعتهم ... تخشى العيون لغدر الجهل وطء سنه
لاشك أنهم ليسوا بذا معنا ... منا القلوب بهذا الأمر ممتحنه
إن قيل ما فعلوا؟ قلنا قد اتخذوا ... وقد أباح لنا من فضله عدنه
على البناء الذي لم يفتقد لبنه
بل مع زبانية للنار هم خزنه
لهم مشائخ كالأحبار والكهنه
موقفه من الجهمية:
له كتاب: 'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين'. أو 'إثبات علو الرحمن من قول فرعون لهامان' كما سماه في مقدمته، وهو مطبوع متداول في جزءين، طبع دار الهجرة.
قرر فيه صفة (العلو) لله عز وجل بالأدلة السمعية: القرآن والسنة والآثار وضمنها نقولا عن الأئمة في الأخذ بهذه الأدلة.
وناقش فيه المخالفين بالحجج العقلية، قال رحمه الله في مقدمة الكتاب: أبدأ بعون الله تعالى فأقول: إنه من المصائب الكبرى ما يردده أتباع الجهمية في عصرنا الحاضر، وهو إنكار علو الله تعالى على خلقه، وإنكار استوائه على(10/161)
عرشه، معتمدين بذلك على عقول بعض الجهال، الذين أخذوا دينهم عن المحاولات الفلسفية، والسفسطات الكلامية، وراحوا يردون دين الله بالشبهات، مما أدخل على فطر بعض الناس شوائب كثيرة، حتى اجترؤوا على كلام الله وكلام رسوله، وظنوا أن هذا تنزيها لله سبحانه وتعالى وما هو بتنزيه فقد ظنوا التعطيل تنزيها، فعبدوا العدم، وقالوا أقوالا، لا يجرؤ على ذكرها القلم.
لقد أعاد التاريخ نفسه، ولملم معه بعض شتات الانحراف، فرمى على درب الزمان، نسخة ممسوخة، لو قلبتها بين يديك، وأمعنت فيها النظر، لنظرت فيها نماذج، من بعض أنواع البشر.
إن كان قد عير التاريخ، بمثل جهم بن صفوان، وبشر المريسي، والجعد ابن درهم، وغيرهم من رموز الضلال.
فلايزال العار آخذا بصفحة عنقه، ودامغا على جبهته، ولكن بصور أخرى لتلك الرموز.
ها هم اليوم أفراخ الجهمية يتخذون لأنفسهم رؤوسا، ليسلكوا تلك الطريق، التي عجز عن سلوكها أربابهم، لعلهم ينجحون في المهمة المستحيلة، ويا ليتهم يعودون عن غيهم إلى الرشد، ويدركون تلك الحقيقة.. حقيقة الوعد.
نعم، حقيقة الوعد من الله بحفظ هذا الدين، فلينظروا كيف قيض الله عبر العصور، وعلى امتداد الزمان لهذا الدين، من ينافح عنه، ويذب كل دخيل، جاعلا من نفسه سياجا يقي صفاءه من الكدر، ويحمي سماحته من(10/162)
شياطين الجن والبشر، كيلا يحولوا بساطته إلى رمز خفي، تنقطع دون فهمه أعناق المطي.
لقد اتخذ بعضهم شيخا لهم الذي قال مدعيا كما قال غيره:
اثنان من يعذلني فيهما ... فهو على التحقيق مني بري
حب أبي بكر إمام الهدى ... ثم اعتقادي مذهب الأشعري
قلت: هذا زعم منك، وإني لأقول لك:
بل أنت لا تصدق يا عبدري ... ها جئت بالمذموم والمنكر
إن كنت بالتعطيل له تابعا ... قد عاد عن تعطيله الأشعري
أو كنت في شك وفي ريبة ... فانظر لهذا "كذب المفتري"
قد صور التاريخ عارا، بدى ... في صورة من صور الأعصر
مثل المريسي وجهم نرى ... فيك وفي سيدك الكوثري
لقد غفل الإمبراطور وعصابته، عن أن صفات الله لا تقاس بصفات المخلوقين، ولم يدركوا ما لعلوه سبحانه فوق خلقه، من آيات العظمة التي لا تحصى. فكيف يرد الدين لقول الجاحدين والجاهلين؟!! سبحانك ربي! هذا بهتان عظيم.
وقد فصل الله آياته وأحكمها، فهي هدى ونور للمتقين، الذين أرادوا الله، إذن كيف يدعونها لقواعد فلسفية بنيت على المقاييس!؟ ففي كتاب الله، فصل المقال، يهرع إليه عند النزاع.
فالله تعالى يقول: الر { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ(10/163)
فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (1) (1) ويقول سبحانه: أَأَنْتُمْ { أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } (2) فهو في كتابه المفصل والمحكم، وصف نفسه بالعلو، ثم جئتم أنتم تنكرون آَللَّهُ { أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } (59) (3) قُلِ { اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } (4) .
إنكم تردون الحق بحجج متهافتة وواهية، كلها مبنية على المقاييس، وكل ذلك وحي من الشيطان، كما أوحى إلى مشركي مكة أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشاة، تصبح ميتة: من قتلها؟ فقال: "الله قتلها" (5) فأوحى إليهم أن يقولوا له: "ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة حرام، فأنتم إذن أحسن من الله؟" فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ { الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
__________
(1) هود الآية (1).
(2) البقرة الآية (140).
(3) يونس الآية (59).
(4) الزمر الآية (14).
(5) أخرجه: أبو داود (3/245/2818) والترمذي (5/246/3069) وحسنه والنسائي في الكبرى (6/342/11171) وابن ماجه (2/7059/3173).(10/164)
لَمُشْرِكُونَ } (121) (1) .
فنحن لا نحب الجدال والمراء، لأن الله ما غضب على قوم إلا أورثهم الجدل، ويعلم الله أنني عندما أسير في الطريق، أتذكر قول الله تعالى: وَقُلْ { رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } (98) (2) .
ولكن الحاجة في بعض الأحيان، تستدعي المجابهة والمواجهة، ولاسيما عندما يوجد معهم، بعض المساكين، الذين يلبسون عليهم الحقائق، ويزرعون في أذهانهم الشبهات.
وبفضل الله تعالى -وهو ينصر دينه- تسقط حججهم في كل جلسة مناظرة، الواحدة تلو الأخرى، والله يقول: فَسَيُنْفِقُونَهَا { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } (3) .
وقد عرفت بحكم الاحتكاك المتواصل بهم، والممارسات المتلاحقة، أنهم لا يأخذون بظاهر النصوص، فهم يقرون بوجود الآيات والأحاديث، لكن يتأولون ذلك على غير حقيقته، الأمر الذي دفعني إلى أن أرد عليهم ردا عقليا، يخصهم، لعلهم يرجعون عما هم فيه من التحريف، والله يعلم أنني لم
__________
(1) الأنعام الآية (121).
(2) المؤمنون الآيتان (97و98).
(3) الأنفال الآية (38).(10/165)
أكن محبا لما خط قلمي، لميلي إلى أسلوب النصوص، ولكن الحاجة ماسة، وتستدعي مثل هذا النوع من الردود، وهو أمر بحسب الضرورة، لا سيما أن المسلم بحكم طبيعته، لا ينبغي -في حيز العلاقات- أن يخلو من رابطتين:
رابطة العبادة، وتكون بين العبد والمعبود.
ورابطة الدعوة إلى العبادة، وتكون بين العبد والعبد.
وليس في التوحيد أنانية، حتى يستأثر العبد به دون سواه، بل عليه أن يوحد الله، وأن يدعو غيره إلى توحيده.
هذا، ولما عرفت من أنهم لا ينكرون النصوص، بل يؤولونها، كان الأمر مستدعيا، أن يرد عليهم رد يلزمون به، وإن كان عقليا، والضرورة تعظم عندما يعلم المسلم أن رجوع أحدهم عن غيه، إنما هو رجوع لخلق معه، بل إحالة دون وقوع أناس في هذا الشرك، لأن أحدهم لابد من أن يدعو إلى ضلاله أناسا كثيرين.
وقام بتوجيه مثل هذه الردود، علماء عظماء، وعلى رأسهم إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، ونرى ذلك في رده الذي أقام به الحجة على الجهمية والزنادقة، حيث قال رضي الله تعالى عنه: (إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه، فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لابد له من واحد منهما.
إن زعم أن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن(10/166)
والإنس والشياطين في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا كفرا أيضا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء.
وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع وهو قول أهل السنة).
وهذا من نمط الردود العقلية، دعت إليه الحاجة والضرورة.. وقد يكون واجبا في بعض الأحيان كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وكان العلماء الأوائل قد ردوا على أربابهم بالنصوص، ولما كانت هناك شبهات أخرى حادثة عند هؤلاء الموجودين بين أرجلنا، دعت الحاجة إلى أن يرد عليهم بالنصوص أيضا، مع إسقاط تأويلاتهم وتحريفاتهم، ورد شبهاتهم بالحجج والبراهين، وهذا ما حبذه الكثير من أهل الحق، وهو أن يرد عليهم بالآيات والأحاديث مع رد تأويلاتهم لها، لا الاكتفاء بسردها.
وما كان ضلالهم إلا بالظن واتباع الهوى، والله تبارك وتعالى يقول: إِنْ { يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } (23) (1) .
فقد أرادوا تنزيه الله بعقولهم وأهوائهم، ونصبوا أنفسهم حاكما على الله، يثبتون له ما يشاؤون، وينفون عنه ما يختارون، فكان مثلهم كمثل الَّذِينَ { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
__________
(1) النجم الآية (23).(10/167)
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } (104) (1) .
فهؤلاء هم الأخسرون أعمالا، وهم في الدنيا عمي: وَمَنْ { كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } (72) (2) .
وهذا ما عزمنا على القيام به، مستعينين بالله تعالى.
ولا يمكننا تجاهل ذلك الفرق العظيم بينهم وبين أجدادهم، فهم يقولون (الله ليس في مكان على الإطلاق) فهو عندهم، ليس فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا خلف، ولا أمام، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عنه. ولا داخل العالم ولا خارجه. وهكذا شبهوا الرب سبحانه بالعدم.
فكان هذان الفريقان بين الإفراط والتفريط.
أو ليس كان يسعهم أن يكونوا على منهاج أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبت الله لنفسه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقولون: ربنا في السماء، كما أخبر وأنزل، فيرفعون أيديهم إليه، ويسألونه الهدى والتقى، والعفاف والغنى، ولكن ماذا نقول!!
فلا اعتراض على قدر الله الذي من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
__________
(1) الكهف الآية (104).
(2) الإسراء الآية (72).(10/168)
وأما الذين يؤمنون بكتاب الله تعالى، أي الذي يتبعون ما فيه فهؤلاء اتبعوا الهدى، إذ يقول المولى: الم { (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } (2) (1) وهم يزدادون من هدى الله كلما ازداد اتباعهم له.
ك‰ƒج"tƒur { اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } (2) ، فهذا الهدى لا يأتي إلا باتباع ما أنزل وبالإيمان به على الحقيقة التي نزل بها، لا تأويل ولا تعطيل، لأن الله أنزل الكتاب ليبين الحق وينير السبيل ...
وها قد أضفت إلى صواعق العلماء صاعقة جديدة، فيها من الحقائق والبراهين النقلية عن الله وعن رسوله وعن علماء الأمة، ما يدمر الأكاذيب والأباطيل، لاسيما أن الرسالة الأولى التي ناقشتهم فيها بالعقل، كانت تحتاج إلى الأصل، وهو أن يؤخذ الدين بالنقل لا بالعقل، ولكن سبحان الله! فقد كانت الظروف والدوافع إلى إخراج تلك قبل هذه كثيرة.
وفي هذه الرسالة برهان لكبارهم وصغارهم، فمن جحد بعدها، فلا أظن أنه يؤمن بحقيقة آية من آيات الله، وقد اتبعت فيها أسلوبا مجديا، يناسب الشبهات الجديدة التي أوردوها، إذ ذكرت الأدلة من الآيات والسنن ثم جاوبت عن كل عذر اعتذروا به أو تذرعوا، وأبطلت كل مذهب ذهبوا إليه، وكشفت الستار عن شبهات يطرحونها بين الناس ليلبسوا عليهم دينهم،
__________
(1) البقرة الآيتان (1و2).
(2) مريم الآية (76).(10/169)
فكبلت أقوالهم بقيود الكتاب والسنة، ومدلول العربية التي خاطب الله بها عباده في قرآنه العزيز. (1)
__________
(1) إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين (ص.6-23).(10/170)
محمد جميل غازي (1409 هـ)
الشيخ محمد جميل غازي ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، بقرية كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ بمصر، وقد حصل على الشهادة الابتدائية بتفوق في عام ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف من المعهد الأحمدي بطنطا، ثم أكمل دراسته بنفس المعهد وبعد حصوله على العالمية "ليسانس اللغة العربية" في عام ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف عمل الشيخ موظفا بوزارة الثقافة بمحافظة المنصورة، ثم انتقل للعمل بالقاهرة، فاتسع نشاطه وذاع صيته.
حصل الشيخ على درجة الماجستير في الآداب، ثم الدكتوراة في عام اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف بامتياز مع مرتبة الشرف، وكان موضوعها: 'تحقيق كتاب: لأبي هلال العسكري'.
ترأس الشيخ مجلس إدارة المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة بعد أن أسسه.
هذا، وقد وصل الشيخ إلى درجة "كبير الباحثين" في المجلس الأعلى للفنون والآداب، كما تم اختياره -قبل وفاته- عضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وله مؤلفات عديدة من بينها: 'مفردات القرآن الكريم' و'الطلاق شريعة محكمة لا أهواء متحكمة' و'الصوفية: الوجه الآخر'.
وتوفي رحمه الله في الأول من ربيع الأول عام تسع وأربعمائة وألف، وتظل القضية التي شغلت حياته هي: محاربة البدع والخرافات، وكشف أوهام الصوفية، والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونشر العلم الصحيح بين الناس.(10/171)
موقفه من المبتدعة:
له تقدمة على كتاب 'العواصم من القواصم' لابن العربي، قال فيها: وينبغي لنا، ويجمل بنا، أن نتوقف عند هذه النقطة من هذه المقدمة لنقول: إن ثراء الثقافة الإسلامية.. وإن باب الاجتهاد المفتوح على مصاريعه فيها.. وإن ترحيبها المستمر بكل الأمم والشعوب.. إن كل أولئك كان مدخلا تسللت منه رواسب ثقافات، وبقايا اعتقادات ومزيج من الخرافات التي لا تتفق مع الإسلام في الشكل أو في الموضوع. أرأيت إلى النهر العظيم، وهو يهدر في مجراه.. وينساب قويا عظيما ليروي الظماء من البشر والحيوان والطير والقفار.. أرأيت إلى هذا المنهل العذب وعطائه العظيم.. كذلك.. نهر الثقافة الإسلامية.. ثم.. أرأيت إلى ما يعلق بهذا النهر من غثاء.. ونباتات طفيلية.. وجنادل وصخور ناتئة من شطآنه.. أو ملقاة في سبيل مده الهادر. كذلك.. نهر الثقافة الإسلامية. وإذا كان كل نهر في حاجة إلى من يطهر مجراه.. ويعمقه.. ويزيل ما علق بمجراه، من كل ما يعوق تدفقه واندفاعه فكذلك الإسلام.. وهذا هو دور المجددين الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" (1) .. وكلمة (من) لا تعني مجددا واحدا.. بل تعني عشرات، ومئات، وألوف المجددين.. على طول الزمان.. وعرض المكان. والتجديد يكون لأمر الدين لا
__________
(1) أبو داود (4/480/4291) والحاكم (4/522) وقال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (559): "سكت عليه الحاكم والذهبي، وأما المناوي فنقل عنه أنه صححه، فلعله سقط ذلك من النسخة المطبوعة من المستدرك، والسند صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم".(10/172)
للدين نفسه. وأمر الدين كله يتسع ليشمل كل المعارف التي فجرها هذا الدين، سواء أكانت في أصول الدين، أم أصول الفقه، أم أصول الدنيا.. إن الأمم الكثيرة والأملاء التي لا تكاد تنتهي حصرا واستقصاء من الداخلين في هذا الدين.. قد جروا معهم عن قصد أو عن غير قصد، بحسن نية أو بسوء نية.. مجموعة من الأفكار، والاتجاهات، والمأثورات الشعبية، والأساطير القومية والاتجاهات السياسية، والانتماءات الحزبية. وكل ذلك -وغيره كثير- شكل ركاما من الدخيل الذي ألصق بالثقافة الإسلامية إلصاقا.. ومثل من نسميه بالخرافات والبدع والأقاصيص. ولقد كان المجال التاريخي -ولا زال، وسيظل- معبرا للتصورات الباهتة، والروايات الموضوعة، التي تؤيد حزبا ضد حزب، وتعين فريقا على فريق، إن "الرواية التاريخية" أصبحت على لسان المحاربين كالسيف الذي في أيديهم يقتلون بها.. ويثيرون القلاقل في صفوف أعدائهم.. وإذا كانت "الحرب الباردة" تعتمد على "الإشاعة" و"الأكاذيب".. فإن "الإشاعة" و"الأكاذيب" تحولت إلى روايات تاريخية.. بل إلى روايات حديثية.. يضعها الوضاعون، ثم يرفعونها بلا خوف ولا خجل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو يوقفونها بلا حياء ولا استخزاء عند صحابته رضوان الله عليهم.. وإن الله الذي تعهد بحفظ "ذكره" و"وحيه" قيض لهذه الثقافة من ينفي عنها الخبث والعبث والضلال والتضليل والزيف والدخيل. (1)
__________
(1) العواصم من القواصم (8-9).(10/173)
عبدالله بن محمد بن أحمد بن الدويش (1) (1409 هـ)
الشيخ عبدالله بن محمد بن أحمد بن محمد الدويش، ولد بمدينة الزلفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف، ونشأ نشأة صالحة، ورحل إلى مدينة بريدة طالبا للعلم، فحصله وأصبح من أعلامه. وكان رحمه الله آية في الحفظ وكان مكبا على كتب السلف الصالح، ولذلك تجده شديد التأثر بهم وبأحوالهم. وكان أشد تأثرا بشيخي الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب وتلاميذهما من أئمة الدعوة.
قال الشيخ عبدالله البسام: وكان واسع الأفق، جيد الفهم والحفظ لما يقرأ ويلقى عليه، وشاهد ذلك بروزه في وقت قصير، فقد قيل إنه يحفظ الأمهات الست وغيرها من كتب الحديث، وكان عنده من كل فن طرف جيد، لأنه كان مكبا على دراسة هذه الفنون، فكان عالما بالعقيدة والتوحيد والتفسير والفقه والنحو. من شيوخه الشيخ صالح بن أحمد الخريص والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز التويجري وغيرهم. جلس للتدريس والإفادة، فنفع الله بعلمه، وله مؤلفات مفيدة ونافعة.
توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه، وذلك سنة تسع وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1- 'التوضيح المفيد لشرح مسائل كتاب التوحيد'.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/386-391).(10/174)
2- 'دفاع أهل السنة والإيمان عن حديث خلق آدم على صورة الرحمن'.
3- 'الألفاظ الموضحات لأخطاء دلائل الخيرات'.
4- 'المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال'.
5- 'الزوائد على مسائل الجاهلية'. (1)
عبد الله كنون (1409 هـ)
رئيس رابطة علماء المغرب وأمينها العام. ولد سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة بفاس، حفظ القرآن صغيرا، ثم التحق بالقرويين للدراسة بها، وبعدها رحل مع والده إلى طنجة. من شيوخه الذين تأثر بهم أبو شعيب الدكالي.
أسس المعهد الإسلامي بطنجة وكان أستاذا بالمعهد العالي بتطوان، ثم مديرا لمعهد الحسن الثاني، ثم عين وزيرا للعدل، شارك في تأسيس الجمعية الوطنية الأولى بقيادة محمد عبدالكريم الخطابي، عين سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وسنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وسنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، واختير أيضا عضوا بالمجمع العلمي العراقي، وشارك في المجلس
__________
(1) علماء نجد (4/390-391).(10/175)
التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، أسندت إليه رئاسة صحيفة الميثاق لسان رابطة العلماء.
توفي في الخامس من شهر ذي الحجة سنة تسع وأربعمائة وألف للهجرة.
له نحو خمسين كتابا منها:
1-'أدب الفقهاء'.
2- 'الإسلام أهدى'.
3- 'إسلام رائد'.
4- 'ترتيب أحاديث الشهاب لابن الحسن القلعي'.
5- 'تفسير سور المفصل من القرآن الكريم'.
6- 'تفسير الفاتحة'.
7- 'الرد القرآني على كتاب: هل يمكن الاعتقاد بالقرآن'.
8- 'فضيحة المبشرين في احتجاجهم بالقرآن المبين'.
9- 'مفاهيم إسلامية'.
10- 'النبوغ المغربي'.
11- 'التعاشيب'. وكلها منشور مطبوع. (1)
موقفه من المبتدعة:
__________
(1) تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (2/15).(10/176)
- قال في مقدمته لفتاوى محمد كنوني المذكوري: تعتبر مهمة الإفتاء مسؤولية دينية ودنيوية معا، فالمفتي مخبر عن الله كما يقول الفقهاء، أي عن شرعه وأحكام دينه، وهو بمقتضى ذلك يجب أن لا يصدر فتوى إلا بعد التحري والمبالغة في تحرير مناط المسألة والتماس الدليل الشرعي عليها.
ومن حيث أن الفتوى تتعلق بأحكام المعاملات، كما تتعلق بأحكام العبادات، فتمنع بها حقوق وتستباح حرمات؛ فإن المفتي يتحمل بذلك عبئا ثقيلا من أمر الدين والدنيا.
وكانت الفتوى قبل اليوم تدور في فلك المذهب وقواعده، وتعتمد أقوال علمائه وحاملي رايته، لا تكاد تخرج عن ذلك إلا نادرا حينما يكون الدليل الشرعي واضحا وبمتناول الجميع، أما اليوم وبعد أن نشرت كتب السنة وشروحها وكتب الخلاف العالي والمذاهب الفقهية المتعددة، وأصبحت متداولة بين أيدي الناس، واطلع الفقهاء وطلبة العلم على ما بها من أدلة ومدارك تخالف ما كانوا يعهدونه ويتمسكون به في بعض المسائل؛ فإن المفتي الآن صار مطالبا بتخريج المسألة على مقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة وما في حكمهما، ومقارنة المذاهب وأقوال الأئمة والترجيح بينها.
- وفي معرض كلامه عن دولة المرابطين بالمغرب واهتمامهم بالفقه والفقهاء قال: على أن اهتمام المرابطين بعلوم الدين كان يزينه وصف شريف، وخلق نبيل هو تشبعه بالروح السلفي المتسامح، الخالص من شوائب(10/177)
التنطع والتعمق، وعدم مجاراته للخلافات المذهبية والبدع والأهواء التي كانت حينئذ تنخر جسم الوحدة الإسلامية بالشرق. (1)
- وقال في معرض تحقيقه لمسألة نسبة الدولة الموحدية لمذهب الظاهرية خلص إلى نفيه عنهم ثم قال: وإنما كان الفقهاء ينسبونهم إليها تشنيعا عليهم كما يقال اليوم في كل من كان سلفي العقيدة: إنه وهابي تنكيتا عليه وتنفيرا من مذهبه. (2)
موقفه من الصوفية:
- قال: فأما الطرقي فلا كلام لنا عليه، ومهما بلغ ما بلغ من العلم والفقه ودراسة الحديث، لا يمكن أن يعد من أتباع السنة أو الداعين إليها إلا إذا قلبت الحقائق وغيرت المفاهيم خصوصا إذا كان غاليا في الطرقية كما هو شأن الكثير ممن أدركناهم وعرفنا أحوالهم. (3)
- وقال عن دعوة الشيخ أبي شعيب الدكالي أيضا: وقد تخرج بالشيخ عدد وفير من أهل العلم وامتاز منهم بالخصوص في علم الحديث والدعوة إلى السنة أفراد معدودون ولكن قلّ منهم من سار على نهجه واتبع طريقه، فهذا شيخ متمكن من المادة الحديثية واصطلاح المحدثين ولكنه طرقي لم يرفع رأسا لما كان أستاذه يصوبه من أسهم النقد إلى الطرقيين وبدعهم ودعاويهم... وعاد كثير من الطرقيين إلى ما كانوا عليه من اعتقادات باطلة وشعارات لا
__________
(1) النبوغ المغربي (ص.68).
(2) المصدر السابق (ص.125).
(3) مجلة دعوة الحق العدد السابع (ص.7)/السنة 1969م.(10/178)
أصل لها من السنة. (1)
الخميني الرافضي الخبيث (1409 هـ)
لقد حمل الخميني لواء الكيد لأهل الإسلام أهل السنة، كلما أتيحت له الفرصة نال منهم ومن أخيارهم، وإن حاول جاهدا كتم ذلك تقية ونفاقا، إلا أن ما سطرته يده من الكتب والرسائل تطفح بالحقد على أهل السنة عامة، والبغض لهم، والتربص بهم الدوائر، ووصفهم بكل ألقاب السوء كالكفر والردة والنفاق وغيرها.
وهو على مذهب الروافض الغلاة الاثنى عشرية الجعفرية، كما صرح بذلك حيث يقول في دستوره الذي وضعه لدولته في المادة الثانية عشرة: (الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنى عشري، وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد) (2) .
وهذه الشهادة منه على نفسه كافية لمعرفة الخميني الاثنى عشري، على وجه الحقيقة، وهذا الاعتراف قد يُلبَّس به على كثير من المغفلين فيقول أحدهم مثلا: إنما يدعو الخميني إلى الإسلام، فأي عيب في ذلك؟
فنقول وبالله التوفيق: أي إسلام تعني أنت؟ هل هو إسلام أبي بكر وعمر وجميع الصحب والآل؟ فبالطبع ستقول: نعم، فأقول: من هنا أُصبتَ. فليس هذا هو إسلام الخميني!! إنما الإسلام المزعوم عنده هو التكذيب أولا
__________
(1) المصدر السابق (ص.9).
(2) الدستور (ص.23).(10/179)
بمصادرنا الأصيلة كتابا وسنة جملة وتفصيلا،ثم تكفير خيار هذه الأمة من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحب، وهكذا كل من خالف ما هم عليه إلى قيام الساعة.
وإليك أقوال الخميني من كتبه تدل على ما قلنا:
1- قوله بتحريف القرآن الذي بين أيدينا، وزعمه بوجود مصحف فاطمة الملهم من عند الله:
أصدر الخميني بمشاركة خمسة من علمائهم وآياتهم وثيقة كفرية يكفرون فيها أبا بكر وعمر، ويسمونهما بصنمي قريش؛ يتهمونهما بتحريف الكتاب -وسيأتي ذكر الوثيقة بتمامها- والشاهد منها هنا قولهم فيها: "وعصيا رسولك، وقلبا دينك، وحرفا كتابك". ثم قالوا أيضا: "اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها". فهذا تصريح منه ومن أمثاله يدل دلالة واضحة على أن قرآننا لم يكن من عند الله بكماله وتمامه، وإنما زاد الصحابة فيه ونقصوا وحرفوا. فما جواب أهل الإيمان عن هذه الفرية؟!.
وهذا ليس بغريب عن الخميني؛ لأن مصادره التي يأخذ منها علمه مملوءة بهذا الزيف والكذب والافتراء، على رأسها كتاب الكافي للكليني، وكتاب مستدرك الوسائل للطبرسي وهو صاحب كتاب 'فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب' وكذلك يأخذ من الوسائل للحر العاملي، والخميني شديد الترضي على هؤلاء.
كما يفخر الخميني بمصحف فاطمة الملفق، ويزعم أن الله ألهمها إياها،(10/180)
فقال في وصيته العالمية (1) السياسية: "ونحن نفخر بأن الأدعية وهي القرآن الصاعد وفيها الحياة إنما هي من فيض أئمتنا المعصومين، وعندنا مناجاة الأئمة الشعبانية ودعاء الحسين بن علي عليهما السلام في عرفات، وعندنا الصحيفة السجادية زبور آل محمد والصحيفة الفاطمية وهي الكتاب الذي ألهمه الله سبحانه وتعالى للزهراء المرضية".
وقال: "والحديث الآخر يقول فيه: إن جبرائيل كان يأتي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بأنباء من الغيب، فيقوم أمير المؤمنين بتدوينها، وهذا هو مصحف فاطمة". (2)
2- موقفه من السنة وكتبها ورواتها:
لا يعترف الخميني بكتب السنة المعلومة عندنا كصحيح البخاري وصحيح مسلم والموطإ وغيرها. والسبب في ذلك أن رواتها ونقلتها عنده كلهم كذابون منافقون لا يخافون الله، غيروا وبدلوا تبعا لأهوائهم وأغراضهم. فلذلك فإن الخميني تبعا للشيعة الروافض لهم كتب تخصهم مخالفة لكتب أهل السنة، قال الخميني وهو يقرر الدستور في مادته الثانية أن نظامهم يقوم: "على أساس الكتاب وسنة المعصومين" (3) . فأين سنة سيد المرسلين؟!.
3- موقفه من الصحب الأخيار:
__________
(1) نشرتها صحيفة 'كيهان الإيرانية' الصادرة باللغة العربية في عددها الصادر في 13 ذي القعدة 1409هـ الموافق لـ 17 حزيران 1989م بعنوان: نص الوصية الإلهية السياسية للإمام القائد قدس الله سره. ونشرتها أيضا مؤسسة الإمام الخميني الثقافية طهران (ص.12) بعنوان: الإمام الخميني، النداء الأخير.
(2) كشف الأسرار (ص.143).
(3) الدستور (ص.20).(10/181)
لقد طعن هذا الخبيث في أفضل الأمة بعد نبيها أبي بكر الصديق وكذا في عمر وعثمان رضي الله عنهم، بل وكفرهم ولعنهم، فما بالك بقوله في غيرهم من أهل الإسلام، فإليك بعض أقواله:
- "إننا هنا لا شأن لنا بالشيخين وما قاما به من مخالفات للقرآن، ومن تلاعب بأحكام الإله، وما حللاه وحرماه من عندهما، وما مارساه من ظلم ضد فاطمة ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وضد أولاده، ولكننا نشير إلى جهلهما بأحكام الإله والدين.
فقد قام أبو بكر بقطع اليد اليسرى لأحد اللصوص، وأحرق شخصا آخر؛ مع أن ذلك كان حراما.. وكان يجهل أحكام القاصرين، والإرث، ولم يطبق أحكام الله في خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة وأخذ زوجته في تلك الليلة نفسها.
أما عمر؛ فإن أعماله أكثر من أن تعد وتحصى، فقد أمر برجم امرأة حامل، وأخرى مجنونة، مع أن أمير المؤمنين نهاه عن ذلك، وأخطأ مرة فيما يخص أحكام المهر، فصححت إحدى النسوة - من خلف الحجب - خطأه، فقال عمر في ذلك: جميع الناس يعرفون أحكام الله خيرا مني، حتى النسوة الكائنات خلف الحجب، وخالف تعاليم الله والنبي، فحرم متعة الحج والنساء، وأحرق باب بيت الرسول. أما عثمان ومعاوية ويزيد، فإن الجميع يعرفونهم جيدا". (1)
__________
(1) كشف الأسرار له (ص.126-127).(10/182)
- "نورد هنا مخالفات عمر لما ورد في القرآن، لنبين بأن معارضة القرآن لدى هؤلاء كانت أمرا هينا، ونؤكد بأنهم كانوا سيخالفون القرآن أيضا فيما إذا كان قد تحدث بصراحة عن الإمامة". (1)
- "وأغمض عينيه، وفي أذنيه كلمات ابن الخطاب القائمة على الفرية، والنابعة من أعمال الكفر والزندقة، والمخالفة لآيات ورد ذكرها في القرآن الكريم". (2)
- "دعاء صنمي قريش: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما وابنتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وقلبا دينك وحرفا كتابك وأحبا أعداءك وجحدا آلاءك وعطلا أحكامك وأبطلا فرائضك وألحدا في آياتك وعاديا أولياءك وواليا أعداءك وخربا بلادك وأفسدا عبادك.
اللهم العنهما واتباعهما وأولياءهما وأشياعهما ومحبيهما فقد أخربا بيت النبوة وردما بابه ونقضا سقفه وألحقا سماءه بأرضه وعاليه بسافله وظاهره بباطنه واستأصلا أهله وأبادا أنصاره وقتلا أطفاله وأخليا منبره من وصيه، ووارث علمه وجحدا إمامته وأشركا بربهما..! فعظم ذنبهما وخلدهما في سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر.
اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه وحق أخفوه ومنبر علوه ومؤمن
__________
(1) كشف الأسرار (ص.135).
(2) كشف الأسرار (ص.137-138).(10/183)
أرجوه ومنافق ولوه وولي آذوه وطريق أووه وصادق طردوه وكافر نصروه وإمام قهروه وفرض غيروه وأثر أنكروه وشر آثروه ودم أراقوه وخير بدلوه وكفر نصبوه وكذب دلسوه وإرث غصبوه وفيء اقتطعوه وسحت أكلوه وخمس استحلوه وباطل أسسوه وجور بسطوه ونفاق أسروه وغدر أضمروه وظلم نشروه ووعد أخلفوه وأمانة خانوه وعهد نقضوه وحلال حرموه وحرام أحلوه وبطن فتقوه وجنين أسقطوه وضلع دقوه وصك مزقوه وشمل بددوه وعزيز أذلوه وذليل أعزوه وذو حق منعوه وكذب دلسوه وحكم قلبوه وإمام خالفوه!
اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها وفريضة تركوها وسنة غيروها وأحكام عطلوها ورسوم قطعوها ووصية بدلوها وأمور ضيعوها وبيعة نكثوها وشهادات كتموها ودعوات أبطلوها وبينة أنكروها وحيلة أحدثوها وخيانة أوردوها وعقبة ارتقوها ودباب دحرجوها وأزيان لزموها اللهم العنهم في مكنون السر وظاهر العلانية لعنا كثيرا أبدا دائما دائبا سرمدا لا انقطاع لعدده ولا نفاد لأمده لعنا يعود أوله ولا ينقطع آخره لهم ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم ومواليهم والمسلمين لهم والمائلين إليهم والناهقين باحتجاجهم والناهضين بأجنحتهم والمقتدين بكلامهم والمصدقين بأحكامهم..!.
قل أربع مرات: اللهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار آمين رب العالمين.
ثم تقول أربع مرات: اللهم العنهم جميعا! اللهم صل على محمد وآل(10/184)
محمد فأغنني بحلالك عن حرامك وأعذني من الفقر رب إني أسأت وظلمت نفسي واعترفت بذنبي وها أنا ذا بين يديك فخذ لنفسك رضاها من نفسي لك العتبى لا أعود، فإن عدت فعد علي بالمغفرة والعفو لك بفضلك وجودك بمغفرتك وكرمك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين". (1)
- "إننا لا نعبد إلها يقيم بناء شامخا للعبادة والعدالة والتدين، ثم يقوم بهدمه بنفسه ويجلس يزيدا ومعاوية وعثمان وسواهم من العتاة في مواقع الإمارة على الناس، ولا يقوم بتقرير مصير الأمة بعد وفاة نبيه". (2)
- "وتشير كتب التاريخ أن هذا الكفر صدر عن عمر بن الخطاب، وأن البعض قد أيده في ذلك، ولم يسمحوا للنبي بأن يكتب ما يريد". (3)
- "مثل هؤلاء (4) الأفراد الجهال الحمقى والأفاقون والجائرون غير جديرين بأن يكونوا في موقع الإمامة، وأن يكونوا ضمن أولي الأمر". (5)
- "ويشهد التاريخ بأنه فيما كان هؤلاء منشغلين بدفن الرسول؛ فإن اجتماع السقيفة اختار أبا بكر للحكم، فتم بذلك وضع الأساس بشكل خاطئ". (6)
__________
(1) نص الوثيقة التي أشرنا إليها سابقا، انظر تحفة العوام مقبول (ص.422-423) المطبوع في لاهور.
(2) كشف الأسرار (ص.123-124)
(3) كشف الأسرار (ص.176).
(4) يعني بذلك الصحابة.
(5) كشف الأسرار (ص.127).
(6) كشف الأسرار (ص.128).(10/185)
وأما قوله في عثمان ومعاوية وسمرة بن جندب فأكثر من أن يذكر، ولعل العاقل يكفيه المثال والمثالان.
4- ادعاؤه أن الأولياء في مرتبة تفوق مرتبة الأنبياء بكثير:
قال الخميني: وأن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وقد ورد عنهم (ع): أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل. (1)
ويكفينا ردا عليه ما قاله الإمام القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا: "وكذلك نقطع بتكفير غلاة الروافض في قولهم أن الأئمة أفضل من الأنبياء". (2)
وقال ابن تيمية رحمه الله: "والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وغلاتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء". (3)
كما زعم الخميني أن الأئمة عندهم لا يلحقهم السهو والنسيان، فقال: لأن الأئمة الذين لا تتصور فيهم السهو أو الغفلة، ونعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين. (4)
5- تعصب الخميني لشعبه، وتفضيل شعبه على العالمين:
__________
(1) الحكومة الإسلامية للخميني (ص.52).
(2) الشفا (2/290).
(3) منهاج السنة (1/177).
(4) الحكومة الإسلامية (ص.91).(10/186)
لقد ضاهى الخميني اليهود في ادعائهم أنهم شعب الله المختار، لايدانيهم أحد في فضلهم ومرتبتهم، فادعى هو كذلك أن شعبه هو الشعب المختار الذي انتهت له السيادة والريادة. فقال في وصيته العالمية السياسية السابقة: إنني أقولها وبجرأة إن شعب إيران بجماهيره المليونية في العصر الحاضر هو أفضل من شعب الحجاز في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشعب الكوفة والعراق على عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهما، فأهل الحجاز وكذا المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يطيعونه، وبذرائع شتى كانوا يتهربون من القتال، حتى إن الله تعالى أنبههم في آيات من سورة التوبة وأوعدهم بالعذاب، بل وافتروا عليه حتى دعا عليهم كما يروى. (1)
- وقال أيضا في خطاب له بمناسبة عيد النوروز -من أعياد الفرس- لسنة اثنتين وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية، الذي يحتفل به في الحادي والعشرين من آذار من كل عام: أقول صراحة بأنه لا يوجد شعب كشعب إيران، ولا مجلس كمجلس إيران، ولا شرطة كشرطة إيران، مند صدر تاريخ العالم وحتى يومنا هذا.. من أفضل العهود في الإسلام عهد الرسول الأكرم، ففي عهد الرسول الأكرم عندما كان في مكة لم تكن هناك حكومة، وعندما جاء إلى المدينة وقامت الحكومة تعرفون جميعكم بأن جميع الذين كانوا معه ماذا كانوا يعملون معه؟ لقد كانوا يتذرعون بشتى الذرائع، يعودون (من الجهاد) بذريعة ما. لقد كان
__________
(1) سبق ذكر المرجع.(10/187)
النبي في عهده مظلوما أكثر من الآن لم يكن يطيعونه.
أقول: ماذا ينتظر العالم الإسلامي من الخميني وهذه تصريحاته وبجرأة وصراحة، والخمينيون الذين هم على منواله كثر -لا كثرهم الله- كلهم يحملون الحقد الدفين للعروبة والإسلام، ويتمنون جميعا مجيء يوم ينقضون فيه على أهل الإسلام قاطبة ليفتكوا بهم، لأنهم في نظرهم أسوأ من اليهود والنصارى، بل ومن الملاحدة والزنادقة.
فأي تقارب يكون مع هؤلاء؟!
وأي أخوة تكون مع هؤلاء؟!
فقد تقدم معنا بحمد الله في هذه المسيرة المباركة موقف علماء السنة من هؤلاء، فما علينا إلا أن نحتذي حذوهم ونقتفي أثرهم، لنرجع العزة إلى أنفسنا، ولنسود العالم بديننا دين الحق والسماحة، ولنهتم بمقدساتنا ونغار عليها، بل ندافع وننافح قدر استطاعتنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
صالح بن إبراهيم بن محمد البليهي (1) (1410 هـ)
الشيخ صالح بن إبراهيم بن محمد بن مانع البليهي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف في قرية الشماسية، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة بريدة عام خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وأخذ على علمائها منهم الشيخ عمر بن محمد بن سليم ولازمه، والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد والشيخ
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/430-434) وإتحاف النبلاء (1/173-186) ومجلة الفرقان الكويتية (العدد 303).(10/188)
عبدالعزيز بن إبراهيم العبادي وغيرهم. قرأ القرآن في مدرسة أهلية ثم اشتغل مع والده في التجارة ثم الزراعة وبعد ذلك تفرغ لطلب العلم. عين مدرسا في المعهد العلمي ببريدة عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم إماما بمسجد الوزان عام أربع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة ودرّس فيه العلوم الشرعية، وعندما تأسست كلية الشريعة بالقصيم أصبح محاضرا بها. كان رحمه الله كريم النفس، متواضعا، قائما بأعمال البر والخير، أخذ عنه علماء أجلاء منهم الشيخ صالح الفوزان والشيخ إبراهيم الدباسي وعبدالله المسند وعبدالسلام بن برجس وغيرهم.
قال أحد أبنائه: كان رحمه الله سمح المحيا دمث الأخلاق، عليه سيما الوقار وهيبة العلماء واسع البال طويل المدى، رؤوفا بالكبار لطيفا باشا ذا بسمة عند المقابلة حريصا على الشباب والأخذ بأيديهم إلى ساحل النجاة، وكان كريما شجاعا في ذات الله غيورا على محارمه.
توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة عشر وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة
- قال: السلف هم الوسط:
السلف: وهم أهل السنة والجماعة أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هم الوسط في فرق الأمة، كما أن هذه الأمة هي الوسط في الأمم. قال تعالى: وَكَذَلِكَ {(10/189)
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً } وَسَطًا (1) أي: عدلاً خياراً.
وعقيدة أهل السنة والجماعة: هي العقيدة الصافية، السالمة من الإلحاد والتحريف، والتعطيل والتمثيل، والتكييف. نعم هذه الأمة هي الوسط في فرق الأمة، فلا غلو، ولا جفاء، ولا إفراط، ولا تفريط.
فأهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة، والمشبهة؛ فالمعطلة جفوا، والمشبهة غلوا؛ المعطلة هم المعتزلة والجهمية، عطلوا الله من صفاته اللائقة به.
والمشبهة الذين شبهوا الله بخلقه. وهم بعض اليهود، والبعض من الكرامية، وغلاة الشيعة.
فقالوا ما معناه: الله له وجه ويد ورجل كواحد من خلقه، وحتى نقل الشهرستاني في كتابه 'الملل والنحل' عن داود الجواربي أنه قال: أعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عما وراء ذلك. وقال: إن معبوده جسم، ولحم، ودم، وله جوارح، وأعضاء من يد ورجل، ورأس، ولسان. تعالى الله عن قول المعطلة والمشبهة علواً كبيراً.
أما أهل السنة: فأثبتوا لله الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات.
وأيضاً؛ أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية والجبرية، فالجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد؛ الجبرية في طرف، والقدرية في الطرف
__________
(1) البقرة الآية (143).(10/190)
الآخر. الجبرية غلوا في إثبات القدر، فزعموا أن العبد مجبور على فعله، فلا إرادة له ولا قصد، ولا اختيار. فإذا فعل طاعة أو فعل معصية، فإنما ذلك فعل الله، تعالى الله عن هذا الفجور وهذا الزور علواً كبيراً.
أما القدرية: وهم المعتزلة، فغلوا في نفي القدر، فقالوا ما معناه: أفعال العباد من الطاعات والمعاصي، لم تدخل تحت قضاء الله ومشيئته وقدره، إنما العباد هم الذين يفعلونها، بقصد منهم واختيار، فعليه؛ العبد هو الذي يخلق فعل نفسه. فلازم قولهم هو أن الله لا يقدر أن يهدى ضالاً، ولا يضل مهتدياً. وهذا القول، وهذا المذهب من أخبث المذاهب، وأبعدها عن الحق والصواب.
عقيدة السلف:
إذا عرف ما تقدم؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة هي حق بين باطلين، وهدىً بين ضلالتين، فالله تعالى هو خالق العباد وخالق أفعالهم، ومقدر أرزاقهم وآجالهم، هو خالق العبيد ولا يكون في ملكه ما لا يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لَا { يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (23) (1) .
وأيضاً: أهل السنة والجماعة وسط بين المرجئة، وبين المعتزلة والخوارج. فالمرجئة جفوا، والمعتزلة والخوارج غلوا، وفي أثناء هذا الجزء يأتي الكلام على هذه الطوائف الضالة، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الأنبياء الآية (23).(10/191)
والمرجئة كما يأتي نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير. أي: تأخير الأعمال عن الإيمان.
فعند المرجئة الخالصة: الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب، والناس في الإيمان سواء، فإيمان أفسق الناس كإيمان الأنبياء، والمؤمنين الأتقياء.
وبناءً على ذلك؛ فلا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فلازم قول المرجئة هو أن من فعل شيئاً من كبائر الذنوب وترك الواجبات أو شيئاً منها، لا يضر ذلك، وهذا يؤدي إلى الانسلاخ من دين الإسلام.
أما المعتزلة والخوارج فقد غلوا، فقالوا ما معناه: من فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ومات ولم يتب منها، فهو من المخلدين في نار جهنم، على خلاف بين الطائفتين؛ فعند الخوارج: هو كافر وحلال الدم والمال. وعند المعتزلة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين.
وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء المرجئة، وغلو الخوارج والمعتزلة؛ فالإيمان نية وقول وعمل، يزيد بطاعة الله وينقص معصيته. فمن فعل كبيرة، يقال في حقه: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان. وإذا مات ولم يتب، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله بعدله عذبه في نار جهنم بقدر ذنبه وجريمته، ولا يخلد في النار، لا يخلِّد فيها إلا الكافرين، والمشركين. هذا هو معتقد السلف الصالحين، وأهل السنة والجماعة أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الحمد لله على قول الحق، واعتقاده والعمل به، والدعوة إليه.(10/192)
وأيضاً، أهل السنة والجماعة وسط بين غلو الرافضة، وجفاء الخوارج؛ لأن الرافضة والخوارج في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طرفي نقيض.
فالرافضة: غلوا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأهل البيت، غلواً جاوز الحد والمشروع.
وأما الخوارج: فإنهم كفروا علياً، ومن كان موالياً له. وإذا عرف ذلك، فأهل السنة ولله الحمد والمنة، دائماً وأبداً بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط، مع العلم أن الرافضة قبحهم الله يسبون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ويلعنونهم ويكفرونهم.
وأهل السنة يحبون جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوالونهم ويدعون الله لهم، ويترحمون الله لهم، ويسألونه لهم المغفرة والرضوان؛ لأنهم رضي الله عنهم؛ هم صفوة هذه الأمة وخيارها، أبرها أقوالاً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً، قوم لا كان ولا يكون مثلهم، اختارهم الله لصحبة نبيه ولنصر دينه. وبعد ما استنارت قلوبهم بالإيمان، صاروا رضي الله عنهم مضرب المثل في عبادة الله، وفي الزهد والورع، والخشية، والتقوى، والصدق، والأمانة، والشجاعة، فهم الرجال إذا ذكر الرجال. رِجَالٌ { صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (23) (1) ، رَبَّنَا { اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
__________
(1) الأحزاب الآية (23).(10/193)
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (10) (1) .
وأيضاً هذه الأمة الإسلامية وسط بين غلو النصارى، وجفاء اليهود. فالنصارى غلوا في عيسى، فقالوا: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. وقالت اليهود: عيسى ولد زنا. فعلى اليهود لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين.
والمسلمون يقولون: عيسى هو عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. والحمد لله الذي عافانا من الفلسفة والسفسطة، والشطح، والشقشقة، ومن التعطيل والتمثيل، ومن البدع والأباطيل. ونسأله تعالى الثبات على الحق، والعمل به. (2)
- وقال أيضا: الاختلاف مصيبة:
الخلاف والاختلاف بين الأفراد والمجتمعات الإسلامية مصيبة. الاختلاف مصيبة كبرى، ومحنة عظمى. [و]الخلاف من حيث هو شر وفتنة وشقاء وبلاء وعناء.
الاختلاف نقمة، والاتفاق رحمة، وبالأخص الخلاف في المسائل العقائدية التي هي الأصل في شريعة الإسلام.
__________
(1) الحشر الآية (10).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/308-313).(10/194)
أما الخلاف في المسائل الفروعية -فالأمر في ذلك أسهل-: فإذا كان على طريق الاجتهاد وتحري الصواب في المسائل الغامضة فلا بأس بذلك.
أما إذا كان على طريقة الهوى والتعصب للمذاهب، وأقوال الرجال، فهو مذموم شرعاً وعقلاً وفطرةً.
وأما ما يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختلاف أمتي رحمة" فهذا الحديث ليس له خطام ولا زمام، فلا أصل له (1) . قال تعالى: وَلَا { تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (2) ، وقال تعالى: إِنَّ { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (3) ، وقال تعالى: وَأَنَّ { هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } (4) ، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا { بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (5) ، وقال تعالى: * { شَرَعَ
__________
(1) وكذا قال الشيخ الألباني في الضعيفة (57).
(2) الأنفال الآية (46).
(3) الأنعام الآية (159).
(4) الأنعام الآية (153).
(5) آل عمران الآية (103).(10/195)
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (1) .
والآيات في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف كثيرة، وكذا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بالوفاق، والنهي عن الشقاق، كثيرة جداً، سواء كان الاختلاف في العقائد وأصل الديانة أو غير ذلك.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها (2) .
وعلى سبيل العموم؛ ليس للمسلمين عز ولا نصر إلا إذا حصل بينهم اتفاق ووفاق، وتكاتف وتساند. فهذا الحديث فيه رد على كل من ابتدع في دين الله ما ليس منه.
وفي حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي، يقول - صلى الله عليه وسلم - : "فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عُضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (3) .
__________
(1) الشورى الآية (13).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الخلال سنة (311هـ).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).(10/196)
ومن أعظم الحدث: الحدث في العقائد الإلهية، وكذا الحدث في العبادات والأحكام الشرعية، فلا مسرح للعقول، ولا مجال للفهوم في ذات الله، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في دينه وشرعه، إنما الواجب التعلم والفهم ثم العمل بدين الإسلام كله.
فلا بد من التمسك والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، في كل شيء عقيدة وعبادة، وأحكاماً وأخلاقاً، وهذا هو الذي به عز المسلمين، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، والله وليّ التوفيق.
وفخر المسلمين وعزهم ونصرهم، على اليهود وغير اليهود من أعداء الإسلام والمسلمين، لا يتحقق إلا إذا عملوا بشريعة الإسلام، قولاً وعملاً واعتقاداً، مع نبذ الأحقاد والضغائن، ويحل محل ذلك الوفاق والمحبة والائتلاف، والتكاتف والتساند، والأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية. حقق الله ذلك بمنه وكرمه وجوده وإحسانه وفضله. اللهم صلّ وسلم وبارك على -من أمر بالائتلاف ونهى عن الاختلاف- نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (1)
موقفه من المشركين:
- له من الآثار السلفية: 'عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين' وهو مطبوع متداول، نفع الله به نفعا عظيما.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/343-345).(10/197)
- قال رحمه الله فيه: الإلحاد في لغة العرب: هو الميل، ومنه لحد القبر. وهو أنواع: فمنه إلحاد المشركين وعبدة الأوثان: حيث اشتقوا لمعبوداتهم أسماءً من أسماء الله، كاللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
ومنه: إلحاد الجهمية الذين عطلوا الله من صفاته، ومن معاني أسمائه وحقائقها. فالله تعالى أثبت لنفسه السمع والبصر والوجه واليدين والاستواء على العرش والمجيء والقدرة والمشيئة وغير ذلك من صفات الله، والمعتزلة والجهمية تنكر ذلك.
ومنه إلحاد المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه. والله تعالى حذر من الإلحاد، وعاب الملحدين في أربع آيات: في سورة النحل آية 103، وفي سورة الأعراف آية 180، وفي سورة فصلت آية 40، وفي سورة الحج آية 25. وبإعانة الله يأتي الكلام على المعطلة والمشبهة في الجزء الثاني.
ومن أنواع الإلحاد إلحاد الدهرية الذين أنكروا وجود الله تعالى.
ومن أنواع الإلحاد المذموم شرعاً وعقلاً: إلحاد النصارى، حيث قالوا: الله ثالث ثلاثة.
ومنه إلحاد اليهود قالوا من كفرهم وتكذيبهم وغرورهم: الله فقير ويده مغلولة.(10/198)
وعلى سبيل العموم: كل من كذب بما جاء عن الله، أو عن رسوله فهو ملحد. وكذا من تأول وحرّف ما جاء عن الله أو جاء عن رسوله فهو ملحد ومجرم أثيم. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال: ومعتقد أهل السنة والجماعة: لا يشهد لأحد بجنة، ولا نار، إلا لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كالعشرة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك، وسعيد ابن زيد، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين.
وموالاة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ومحبتهم دين وإحسان وإيمان، وبغضهم وسبهم كفر ونفاق وطغيان. (2)
- وقال رحمه الله: الشيعة:
أو باسم آخر: الرافضة، وهو ألصق بهم. وأول من ابتدع الرفض عبدالله بن سبأ اليهودي المنافق الزنديق، أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه، ثم انتشر هذا المذهب الخبيث. وقد قال ابن سبأ لعلي رضي الله عنه: أنت الإله حقاً.
والشيعة: اسم لكل من فضّل علياً على الخلفاء الراشدين، [ومنهم] الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/89-90).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/9).(10/199)
الشيعة هم من طوائف الضلال، الشيعة لهم أقوال شنيعة، واعتقادات باطلة. الشيعة عداوتهم للمسلمين عظيمة، قديماً وحديثاً.
وسموا بهذا الاسم -بزعم منهم- أنهم شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليسوا كذلك، بل هم أعداء لعلي وأعداء لأهل البيت؛ لأنهم غلوا فيهم غلواً جاوز الحد والمشروع، ورفعوهم فوق طبقة البشر. وكما يأتي خلاف أهل السنة مع الرافضة خلاف في أصول الدين، وفروعه، فلا لقاء ولا موافقة، حتى تشيب مفارق الغربان.
والرافضة: هم الشيعة أو طائفة منهم، وسموا بهذا الاسم؛ لأنهم بعدما بايعوا زيد بن علي، قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر. فأبى، وقال: كانا وزيري جدي، بل أتولاّهما وأتبرّأ ممن تبرّأ منهما. فتركوه ورفضوه، وأرفضوا عنه. والنسبة: رافضي، والرافضة شر من وطئ الحصاء، ولا يقر لهم قرار حتى يعيدوها وثنية قرمطية مجوسية. مكر وخداع، والمكر يحيق بأهله.
ووقاحة الرافضة ومعائبهم ومخازيهم كثيرة جداً، ولا يصدق بما يعتقدونه ويقولونه إلا من طالع كتبهم. فمن ذلك ما صرح به الشاطبي في كتابه 'الاعتصام' (الجزء الثاني، ص.181)، قال: الفرقة الثانية: الشيعة، وهم اثنتان وعشرون فرقة، يكفر بعضهم بعضاً. اهـ كلامه.
وأكثر الشيعة يعتقدون أن الحكام والمحكومين من المسلمين كلهم ضُلاّل وعلى غير هدى.(10/200)
ومن أصول الدين عند الرافضة: تأويل آيات القرآن، وصرف معانيها، إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى غير ما فهمه منها علماء الإسلام والمسلمين.
ولا شك بأن هذه جريمة كبرى، وإلحاد في آيات القرآن، حيث أجازت الشيعة لأنفسهم تحريف آيات القرآن، على حسب أهوائهم وأغراضهم الفاسدة ومقاصدهم الباطلة.
ومن معتقدات الشيعة وأعمالهم الخبيثة: التقيّة، فيظهر الموافقة، وهو بخلاف ذلك، وهذه هي أعمال المنافقين. وذلك مكر وخداع، وخيانة، ونفاق. فالتقية دين الشيعة، والنفاق ركن أصيل في عقيدتهم. وحيث أن التقية من أصول دين الرافضة، فقد كذبوا وزوروا على جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: التقية ديني ودين آبائي.
وبدع الشيعة المنكرة، ومذاهبهم الخبيثة كثيرة وكثيرة، ومن اعتقد أو قال: إن القرآن زيد فيه ونقص منه فلا شك في كفره وإلحاده.
ومن مخازي الشيعة ووقاحتهم: هو أنهم يعتقدون ويصرحون بأن القرآن الكريم محرف، وزيد فيه ونقص منه. ففي سنة 1292هـ ألّف الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي كتاباً أسماه: 'فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب' جمع فيه النصوص عن علماء الشيعة في مختلف العصور بأن القرآن قد زيد فيه ونقص منه. وقد طبع الكتاب في إيران سنة 1298هـ. والطبرسي هو من كبار علماء النجف، والطبرسي معظم عند(10/201)
الرافضة. وتوفي 1320هـ. وكثير من علماء الشيعة صرحوا بأن القرآن نقص منه وزيد فيه.
ولا شك بأن هذا تكذيب لله تعالى، ومن كذّب الله فهو كافر. يقول جل شأنه: إِنَّا { نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (9) (1) . وقد أجمع المسلمون بأن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان، ومن التغيير والتبديل، محفوظ من عبث العابثين وكيد الكائدين. والواقع شاهد بذلك، والحمد لله رب العالمين. مضى على القرآن 1402 سنة ولا زيد في القرآن ولا نقص منه ولا حرف واحد، ومن قال أو اعتقد أن القرآن زيد فيه أو نقص منه فهو كافر بإجماع المسلمين.
والشيعة قد بلغت الغاية في الوقاحة والخبث، فإنه مما يتدينون به: لعن صحابة الرسول، ولعن أبي بكر وعمر، بل يبغضون ويسبون كل من ليس بشيعي. فيلعن الشيعة أبا بكر وعمر وعثمان، وكل من تولى الحكم في الإسلام غير علي، بل من خبث الشيعة يسمون أبا بكر وعمر: الجبت والطاغوت، وصنمي قريش.
ذكر بعض هذه النقاط الشيخ محب الدين الخطيب في رسالة له أسماها: 'الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية'.
__________
(1) الحجر الآية (9).(10/202)
وقال الشيخ ابن تيمية: الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بالبشر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأول من ابتدع الرفض عبدالله بن سبأ اليهودي، وكان منافقاً زنديقاً، أراد بذلك إفساد دين الإسلام. وقال أيضاً شيخ الإسلام: وليس في فرق الأمة أكثر كذباً واختلافاً من الرافضة من حين نبغوا. (1)
- وقال: ومن أعظم منكرات الرافضة: هو أن أكثرهم يعتقد أن الحج إلى قبر علي رضي الله عنه في النجف، والحج إلى قبر الحسين في كربلاء أفضل من الحج إلى مكة، مع العلم أن قبر علي ليس في النجف، بل دفن رضي الله عنه في قصر الكوفة. وكذا قبر الحسين لم يثبت أنه في كربلاء.
ومن بدع الرافضة: لا يرون صلاة الجماعة، وفي هذا تكذيب لله ورسوله، ومن كذّب الله أو رسوله فقد كفر.
ومن بدع الشيعة وضلالهم: هو أنهم جهميون في الصفات، وقدريون في أفعال العباد.
ومن بدع الرافضة: لا يرون غسل القدمين في الوضوء. وفي هذا تكذيب لفعل الرسول وقوله، وقد أجمع المسلمون على وجوب غسل القدمين.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/349-352).(10/203)
ومن بدع الرافضة: أكثرهم لا يقيمون صلاة الجمعة لعدم وجود الإمام العادل، والعادل: هو مهديهم المنتظر في زعمهم.
ومن بدع الرافضة لا يرون المسح على الخفين، وما أنكر الشيعة هذه السنة الثابتة عن الرسول إلا من زيغ قلوبهم، وفساد أقيستهم وآرائهم.
وقد أجمعت الأمة الإسلامية على جواز المسح على الخفين. ولا عبرة بخلاف الرافضة. قال النووي: أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر لحاجة أو غيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها، والزَّمِن الذي لا يمشي. وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يُعتدّ بخلافهما.
وقد روى سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين. اهـ
وقال الحسن: روى المسح سبعون نفساً فعلاً منه عليه السلام، وقولاً.
وقال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح على الخفين شيء؛ فيه أربعون حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والرافضة كذبت الرسول في المسح على الخفين، وكذبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحكام شريعة الإسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن من كذب الرسول فهو كافر بالله، كما أن من عصى الرسول فقد عصى الله، والشيعة كذبت بما ثبت عن الرسول في تحريم المتعة، ومن وقاحة الشيعة: إباحة المتعة متعة النساء.(10/204)
وقد حكى غير واحد من علماء الإسلام الإجماع على تحريمها؛ لأن الرسول عليه السلام حرمها عن أمر من الله جل شأنه، فهي حرام، لما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، من حديث سبرة الجهني: "أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة، فقال: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فيلخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" (1) .
وعن علي رضي الله عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية" متفق عليه (2) .
والأحاديث التي هي صحيحة وصريحة في تحريم المتعة بعد إباحتها كثيرة. وعبدالله بن عباس -رضي الله عنه- رجع عنه القول بإباحتها، كما في سنن الترمذي (3/430).
قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة. وقال ابن بطال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل، سواء كان قبل الدخول أم بعده. وقال القاضي عياض: وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريم المتعة إلا الروافض. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة
__________
(1) أخرجه: أحمد (3/406) ومسلم (2/1025/1406) والنسائي (5/437/3368).
(2) أخرجه: أحمد (1/79) والبخاري (9/207/5115) ومسلم (2/1027/1407) والترمذي (3/429/1121) والنسائي (6/436/3366) وابن ماجه (1/630/1961).(10/205)
لم يطل، وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. اهـ (1)
- وقال: والشيعة الشنيعة تبغض أبا بكر وتلعنه، فعلى الشيعة ما تستحقه من غضب الله وسخطه ولعنته. وهذه الآية -يعني: قوله تعالى: إِلَّا { تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا } (2) - فيها دليل على أن الشيعة كذّبوا الله ورسوله، ومن كذّب الله، أو كذّب رسوله فقد كفر بالله.
وقال تعالى: وَالَّذِي { جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (33) (3) الذي جاء بالصدق هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والذي صدّق به هو أبو بكر رضي الله عنه. قال بهذا القول كثير من علماء التفسير. (4)
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/355-357).
(2) التوبة الآية (40).
(3) الزمر الآية (33).
(4) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/359).(10/206)
- وقال: ومن معائب الشيعة ومخازيهم: عيبهم وكراهتهم لصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وأكثر الشيعة لا يؤمنون بالأحاديث المذكورة في الصحيحين والسنن والمسانيد ولا يعملون بها.
فمن حماقة الشيعة وضلالهم: لا يقبلون الأحاديث التي رواها الصحابة ولا يعملون بها، والله يقول: * { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } (18) (1) ، وكان الصحابة ألفاً وخمسمائة، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعثمان. وكان ذلك عام الحديبية سنة ست من الهجرة. وهذا الرضاء من الله لجميع الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان.
والرافضة لا تؤمن، بل تكذّب بما ذكره الله في هذه الآية الكريمة، ومن كذّب بشيء من القرآن فلا شك في كفره وإلحاده، وليس بغريب من الرافضة؛ لأنهم مجوس، والمجوس أعداء للإسلام والمسلمين دائماً وأبداً.
فصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرُّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأصدقها لهجةً، وأقواها إيماناً، قوم هم مضرب المثل في العبادة والزهادة، والتقى والخشية لله تعالى، وعلماء وحكماء، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا رضي الله عنهم رهباناً في ليلهم، أُسوداً في نهارهم في
__________
(1) الفتح الآية (18).(10/207)
ميادين الحروب جهاداً في سبيل الله. قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه ومؤازرته، ونصر دينه وتبليغ رسالته. قوم مدحهم الله وأثنى عليهم، ونوّه بذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن.
فدع الرافضة! دعهم في ضلالهم يعمهون! دعهم للحقد يحرق قلوبهم والغيظ يأكل نفوسهم!
قال جل شأنه: مُحَمَّدٌ { رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا(10/208)
عَظِيمًا } (29) (1) والشيعة تنكر ذلك وتكذّبه، ومن كذّب الله أو كذّب رسوله فهو كافر بإجماع المسلمين. (2)
ويعتقد أهل السنة والجماعة: أن أفضل هذه الأمة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم صحابة الرسول؛ قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ومؤازرته، ونصر دينه.
وأفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين.
وقد قال عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه من حديث حذيفة (3) .
وأفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة هم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم الذين بايعوا في الحديبية بيعة الرضوان تحت الشجرة، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، رضي الله عن صحابة الرسول وأرضاهم أجمعين.
والذين سجلوا أحاديث الرسول كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد كل منهم يعقد ترجمة خاصة بالصحابة ثم يسوق بعض الأحاديث الواردة في فضائل القوم.
__________
(1) الفتح الآية (29).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/360-362).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).(10/209)
وأهل السنة والجماعة يتولون أمهات المؤمنين، أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويستغفرون لهن، وهن أزواج الرسول في الآخرة.
وأفضلهن عائشة وخديجة رضي الله عنهن. ومن سبّ الصحابة أو واحداً منه، أو واحدة من أزواج الرسول، فهو ضالّ مضلّ، أضلّ من حمار أهله.
والذين يسبون الصحابة ويشتمونهم هم الشيعة الشنيعة، ويشتمون ويسبون زوجات الرسول وخاصة عائشة وحفصة فعلى الشيعة ما يستحقونه من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: ومما هو معروف وشائع وذائع؛ أن أكثر الصوفية يعبدون ويؤلهون أصحاب القبور، ويعظمونهم أعظم من تعظيمهم لله تعالى فيدعونهم، ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، اعتقادا منهم: بأنهم يسمعون وينفعون ويضرون، ويجيبون دعاء من دعاهم. ومن فعل ذلك أو اعتقد جوازه فهو من المشركين.
وأعظم من ذلك: أن أكثر الصوفية من أهل وحدة الوجود، ملاحدة زنادقة، لا يؤمنون بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه؛ بل يعتقدون بأن هذا الوجود هو الله.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/9-11).(10/210)
وعلماء الإسلام الذين بينوا أباطيل الصوفية وردوا عليهم هم -والحمد لله- خلق كثير وجم غفير، ومنهم عبدالرحمن الوكيل، وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية في كتابه 'هذه هي الصوفية'. (1)
- وقد أورد منه نقولا ثم قال: هذا الكتاب عظيم في تحري الحق والصواب، وعظيم في تحقيقه وتنقيحه، وتنظيمه وإتقانه، وعظيم في أسلوبه الرائع البديع.
فمن أراد الاطلاع على ما عند الصوفية من مخالفات لما يعتقده أهل السنة، فليراجع هذا الكتاب، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل؛ مع العلم أننا والحمد لله أعطينا القارئ -وفقنا الله وإياه- فكرة يستفاد منها مخالفة الصوفية لما يعتقده ويعمل به أهل السنة والجماعة.
تنبيه:
الذي أراه وأعتقده: هو أن الصوفية ليسوا على حد سواء في الاعتقاد والأقوال والأعمال؛ فمنهم زنادقة ملاحدة، قالوا بوحدة الوجود، وآمنوا بها ودعوا إليها.
ومنهم من يؤمن بوحدانية الله تعالى، ولكنهم يعظمون ساداتهم وكبراءهم من الأموات، ويعتقدون أنهم ينفعون ويشفعون ويضرون، ولهم قدرة ونفوذ وتصرف في هذا الكون، ولا شك أن هذا كفر بالله وخروج من دين الإسلام.
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/500-501).(10/211)
وكثير من الصوفية يتبركون ويتوسلون بأصحاب القبور، وبعض الصوفية يتعبدون لله بألفاظ وأوراد مبتدعة في دين الإسلام، وبعضهم يتعبد بألفاظ مفردة كقولهم: هو هو هو، أو: الله، الله، الله. ويزعم بعض الصوفية أن "لا إله إلا الله" ذكر العامة، و"الله" ذكر الخاصة، و"هو" ذكر خاصة الخاصة.
وبعضهم يتعبدون الله بالرقص والأغاني، والتصفيق والشهيق، والشخير والنخير. وبدع الصوفية وشطحاتهم والمنكرات التي تقولها الصوفية وتفعلها؛ كثيرة وكثيرة.
وطوائف الصوفية كثيرة، منهم: الشاذلية، والرفاعية، والنقشبندية، والتيجانية، والجيلانية، والجنيدات. ونعوذ بالله من كل بدعة وضلالة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) .
وبعض الصوفية زنادقة وملاحدة، يقولون ولا يستحون -وقديما قيل: "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" (2) - يقولون: من بلغ الغاية في الولاية، سقطت التكاليف، وحلت له المحرمات.
قال أبو محمد ابن حزم في كتابه في الملل والنحل: ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل. وقال: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها؛ من الصلاة
__________
(1) سبق قريبا.
(2) أخرجه أحمد (4/121) والبخاري (6/638/3483-3484) وابن ماجة (2/1400/4183) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.(10/212)
والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها؛ من الزنا والخمر وغير ذلك. واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا: إننا نرى الله ونكلمه، وكلما قذف في نفوسنا فهو حق. ثم ذكر أبو محمد ابن حزم عن الصوفية أشياء كثيرة من الخرافات والمنكرات.
وكتب الصوفية هي الشواهد على ما عندهم من كفر وشرك وإلحاد. (1)
موقفه من الجهمية:
- له: 'إثبات علو الله تعالى'. (2)
- قال: ويؤمن أهل السنة بصفات الله العلية، ومن صفاته تعالى: الكلام، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والعينان، والمحبة، والرضاء، والغضب، والاستواء على العرش، والنزول، والمجيء، والقدرة، والإرادة، والمشيئة، وغير ذلك من صفات الله تعالى التي تليق بجلال الله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
يؤمن أهل السنة والجماعة بصفات الله جل وعلا على الحقيقة، لا ما تقوله المعتزلة والجهمية بأن ذلك على المجاز. (3)
- وقال رحمه الله: وأيضاً: أهل السنة والجماعة يصدّقون ويؤمنون بأن الله جل شأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/505-507).
(2) علماء نجد (2/433).
(3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/4).(10/213)
له؟" (1) . ينزل الله تبارك متى شاء كيف شاء، ولا تكييف، ولا تمثيل. والجهمية والمعتزلة والأشاعرة كما كذّبوا برؤية الله تعالى كذّبوا بنزول الله جل شأنه.
ورؤية الله ثابتة بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فالمؤمنون يرون ربهم عياناً بأبصارهم، وذلك في عرصات القيامة، ويرونه تعالى بعد دخول الجنان، في جنة النعيم. ورؤية الله تعالى هي أعظم سرور، وأتمّ نعيم لأولياء الله تعالى. (2)
- وقال: الله جل وعلا -كما هو صريح القرآن وصريح السنة- له أسماء وله صفات، وأسماء الله جل شأنه حسنى، وأسماء الله -كما يأتي- ليست محصورة في تسع وتسعين اسماً. وبتوفيق الله وإعانته نذكر من أسماء الله ثلاثة وثلاثين اسماً في أول الجزء الثاني.
والله تعالى -كما هو صريح القرآن وصريح سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - له صفات، صفات لائقة بعظمته، ومجده، وكبريائه. صفات يجب إثباتها لله كما أثبتها الله لنفسه في القرآن، وكما أثبتها الرسول لربه في سنته المطهرة.
صفات يجب إثباتها لله على الحقيقة لا على المجاز، خلافاً للمعتزلة، والجهمية، والماتريدية، والأشاعرة، والقدرية.
فما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجب إثباته إثباتاً من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل. لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
__________
(1) تقدم ضمن مواقف عبدالعزيز بن الماجشون سنة (164هـ).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/8).(10/214)
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (11) (1) .
ومن صفات الله تعالى: الكلام، والرحمة، والغضب، والرضاء، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والمجيء، والنزول، والاستواء على العرش، وغير ذلك. والله جل شأنه أنزل الكتب وأرسل الرسل بإثبات مفصل ونفي مجمل. (2)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: ومن عقائد أهل السنة: أن من ولاّه الله أمر المسلمين، فطاعته واجبة بشرط أن يكون مسلماً. والخروج عليه، وشقّ عصا المسلمين معصية لله وجريمة كبرى وذنب عظيم إلا إذا أمر ولي الأمر بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأهل السنة والجماعة هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
ومن عقائد أهل السنة والجماعة: أن صاحب الكبيرة إذا مات قبل أن يتوب، ولم يكن مستحلاً لما فعله، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله عذّبه بعدله، بقدر ذنبه وجريمته، في نار جهنم، ولا يخلد فيها.
__________
(1) الشورى الآية (11).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/331-332).(10/215)
والمعتزلة والخوارج خالفوا نصوص الكتاب والسنة، فحكموا بأن صاحب الكبيرة من المخلدين في نار جهنم، فلا يخرج منها، لا برحمة أرحم الراحمين، ولا بشفاعة الشافعين، إذا مات قبل أن يتوب من جريمته.
موقفه من المرجئة:
قال: وصريح القرآن والسنة وهو معتقد أهل السنة والجماعة؛ أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله، وينقص بمعصيته.
والناس متفاوتون في الإيمان، فليسوا على حد سواء، كما قالت ذلك الطائفة المشهورة بالمرجئة. ويأتي بيان مذهب المرجئة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
ومجرد الإيمان لا يكفي، فلا بد من العمل؛ وعند المرجئة الأعمال الصالحة ليست من الإيمان. ومذهب المرجئة زور وباطل، تبطله وتردّه نصوص الكتاب والسنة؛ فعند المرجئة إيمان المرسلين والمؤمنين كإيمان المجرمين والفاسقين.
نعم لا بد من العمل بدين الإسلام. ففي سبعين آية من آيات القرآن الكريم يقرن الله بين الإيمان والعمل. مثل قوله تعالى: وَيَوْمَ { تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا(10/216)
وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } (16) (1) .اهـ (2)
موقفه من القدرية:
- قال: أشكل على كثير من طلبة العلم هل العبد مخير أو مسير؟ والذي يظهر لي أن العبد ليس بمخير ولا مسير؛ لأننا إذا قلنا إن العبد مخير، دخلنا في مذهب القدرية الذين قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، وإن قلنا العبد مسير، دخلنا في مذهب الجبرية. فالذي ينبغي أن يقال: العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته.
الجبرية:
والجبر لغة: هو الإلزام.
والجبرية هم من طوائف الضلال، وهم من أتباع الجهم بن صفوان. وسموا بهذا الاسم لأنهم قالوا: نحن مجبورون على أفعالنا، وفي قول الجبرية تعطيل لأحكام الإسلام فلازم قولهم: لا يقتل القاتل، ولا تقطع يد السارق، ولا يرجم الزاني، ولا يقام في الإسلام حد، فمن فعل جريمة لا عتب عليه، ولا لوم.
ومن هذه الزاوية نعرف أن القدرية والجبرية في طرفي نقيض؛ فالقدرية جفوا، حيث قالوا: إن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي لم تكن داخلة
__________
(1) الروم الآيات (14-16).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/43).(10/217)
تحت قضاء الله وقدره، بل هم الذين شاؤوها وفعلوها، استقلالاً واختياراً منهم لها.
فالقدرية جفوا حيث أبطلوها ما قضاه الله وقدره. وتقدمت الأدلة التي فيها الرد على القدرية، ولله الحمد والمنة.
أما الجبرية فهم غلوا في إثبات القدر، وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء القدرية، وغلو الجبرية.
وهكذا أهل السنة دائماً، والحمد لله، وسط بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء.
نعم كما تقدم، الجبرية غلوا في إثبات القدر، فاعتقدوا أن العباد، لا مشيئة لهم ولا قصد ولا اختيار، بل إذا فعلوا طاعة أو معصية، فهم مجبورون عليها. فعلى قول الجبرية: الطاعات والمعاصي عين فعل الرب، لا أفعالهم. وهذا القول معرف بطلانه بالضرورة من دين الإسلام.
فعند الجبرية حركات العبد وسكناته وأفعاله اضطرارية، كحركة الأشجار وأغصانها وأوراقها بالرياح التي تصفقها يمنةً ويسرةً، فإنها تضطرب وتمايل من غير اختيارها.
وكحركة المرتعش الذي أصابه مرض الفالج، فإنه يضطرب ويتحرك من غير اختيار منه ولا قصد. هذا قول الجبرية الخالصة.
وهذا القول كذب على الله، وزور وباطل، فالله أعظم وأجل قدراً من أن يجبر أحداً على ذنب ثم يعذبه عليه.(10/218)
وكتاب الله، وسنة رسوله، والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة، كلها حجج وبراهين على بطلان ما تعتقده وتقوله الجبرية الخالصة. (1)
- وقال أيضا: وكما أشرنا سابقاً: معتقد أهل السنة والجماعة هو أن العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها ليست مستقلة، بل هي تابعة لإرادة الله ومشيئته، وكتاب الله، وسنة رسوله، وقول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعقل، والفطرة، في الجميع ردّ وإبطال لما تعتقده وتقوله الجبرية.
قال تعالى: لِمَنْ { شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (29) (2) ، وقال تعالى: مَنْ { عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } (46) (3) . فهذه الآية الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور على فعل الطاعات والمعاصي.
نعم العبد ليس بمجبور، قال تعالى: إِنَّا { أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
__________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/303-305).
(2) التكوير الآيتان (28و29).
(3) فصلت الآية (46).(10/219)
عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } (41) (1) .
والآيات القرآنية التي فيها الرد على الجبرية كثيرة جداً. فبعد تتبع المصحف من سورة الفاتحة إلى (قل أعوذ برب الناس) وجدنا 77 سبعاً وسبعين آية، كلها صريحة في الرد على الجبرية.
ولا ريب بأنه يوجد في القرآن الكريم أكثر من هذا العدد؛ وإلى المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، سبع آيات: قال تعالى: مَا { أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } (79) (2) ، وقال تعالى: وَذَرُوا { ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } (120) (3) ، وقال جل وعلا: وَإِذَا { فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن
__________
(1) الزمر الآية (41).
(2) النساء الآية (79).
(3) الأنعام الآية (120).(10/220)
اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (28) (1) ، وقال تعالى: إِنْ { أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (2) فالعبد له قصد واختيار فليس بمجبور، وقال تعالى: مَنْ { كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (45) (3) ، وقال جل شأنه: قُلْ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } (108) (4) ، وقال تعالى: إِنَّ { اللَّهَ لَا يَظْلِمُ
__________
(1) الأعراف الآية (28).
(2) الإسراء الآية (7).
(3) الروم الآيتان (44و45).
(4) يونس الآية (108).(10/221)
النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (44) (1) . فهذه الآيات الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور، فالعبد يفعل الطاعات والمعاصي بقصده واختياره، ولا يخرج عن قضاء الله وقدره.
وأحاديث الرسول التي فيها إبطال لقول الجبرية كثيرة وشهيرة والحمد لله رب العالمين. فالرسول جلد في الخمر، وقطع يد السارق، ورجم في الزنا. (2)
علي بن عبدالله بن علي الحواس (3) (1410 هـ)
الشيخ علي بن عبدالله بن علي الحواس العساف، ولد في بريدة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها. أخذ عن الشيخ محمد الصالح المطوع والشيخ عمر بن محمد بن سليم والشيخ عبدالعزيز العبادي. عين مدرسا في المعهد العلمي بحائل، ثم مدرسا في الأحساء، ثم عين موجها دينيا في جامعة الإمام محمد بن سعود. كان رحمه الله موصوفا بالتواضع والابتعاد عن الدنيا ومناصبها، حسن الصوت، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر. له مؤلفات أكثرها ردود.
توفي رحمه الله سنة عشر وأربعمائة وألف، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة.
__________
(1) يونس الآية (44).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/306-308).
(3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/229-235).(10/222)
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: 'بيان أن المثل الأعلى خاص لربنا وحده تبارك وتعالى'. وهو رد على من قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الأعلى في السيرة والمنهج. (1) وهو رد على من قال إن معية الله لخلقه معية ذاتية.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية: 'النقول الواضحة الجلية عن السلف الصالح في معنى المعية الإلهية الحقيقية'. (2)
جميل الرحمن (3) (1412 هـ)
الشيخ محمد حسين بن عبدالمنان، المعروف بجميل الرحمن. ولد سنة ستين وثلاثمائة وألف للهجرة. في قرية وادي بيج بولاية كنر. طلب العلم مبكرا، فأخذ عن الشيخ عبدالخالق اللغة الفارسية والأردية وعن الشيخ عبدالمنان السلفي الحديث وغيره وعن الشيخ محمد طاهر البنجشيري التوحيد والتفسير. كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في نشر الدعوة السلفية في أفغانستان بشكل كبير، ثم ضيق عليه فهاجر إلى باكستان، وبعد تحرير كنر عاد الشيخ، فأعلن فيها الإمارة الإسلامية على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر فيها بالصلاة وقضى على مزارع الحشيش وغيره، فدب الأمن والسلام،
__________
(1) علماء نجد (5/230).
(2) علماء نجد (5/230).
(3) مجلة المجاهد (العدد الخامس والثلاثون ص.8-11).(10/223)
لكن أعداء التوحيد لم يسرهم هذا الأمر، فقاموا باغتياله على يد رجل يدعى أشرف بن أنور بن محمد النيلي من الحاقدين على الدعوة السلفية وذلك قبل ظهيرة الجمعة، صفر عام اثني عشرة وأربعمائة وألف للهجرة، فرحمه الله رحمة واسعة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله يبين عقيدته ومنهجه: ونرى هجر أهل البدع والمعاصي واجبا لقوله تعالى: لَا { تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ } وَرَسُولَهُ (1) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك (2) وكذلك النصح لهم وتحذيرهم من البدعة واجب. ونرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وتعليم الكتاب والسنة، وتفقيه الناس وتثقيفهم في دينهم. (3)
- وقال أيضا: ونستدل في المسائل العلمية والعملية بكتاب الله وبسنة رسوله، ثم بالإجماع، ثم بسنة الخلفاء الراشدين المهديين، حسب القواعد والأصول التي سلك عليها السلف الصالح ومجتهدو الأمة، ونرى أن الخروج عن منهجهم في فهم الكتاب والسنة من الابتداع والزندقة. ونرى الرجوع
__________
(1) المجادلة الآية (22).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن عبدالبر سنة (463هـ).
(3) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (20).(10/224)
في موارد الاختلاف إلى الكتاب والسنة، وليس الفصل بين الحق والباطل إلا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا هو سبيل المؤمنين في القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، وسبيل مجتهدي الأمة والأئمة الأربعة رحمهم الله، وكانوا ينفرون عن التقليد وينهون عنه. حيث قال الإمام مالك رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وقال: "ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي". وقال الإمام أبو حنيفة: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذنا" -وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا". وقال الشافعي: "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد". وقال تلميذه الإمام المزني في أول مختصر كتاب الأم: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله: "لأقربه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق". وقال الإمام أحمد رحمه الله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "من رد حديث رسول الله فهو على شفا هلكة". هذه عقيدتنا ومنهجنا ندعو إليه، ونرى أنه لا صلاح للجهاد إلا به، مع إخلاص التوحيد ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ذلك هو سبيل النصر وسبيل تأليف القلوب وتوحيد الصفوف وسبيل التمكين في الأرض، نسأل الله تعالى لنا ولكافة المسلمين الهداية والرشاد والحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا(10/225)
تسليما كثيرا. (1)
- ومن الأسئلة التي وجهت إليه ما يلي:
السؤال: أنتم متهمون بانتهاج السلفية للوصول إلى مآرب سياسية وهي الوصول إلى الرياسة والزعامة؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. الجواب عن هذا السؤال من أربعة أوجه:
الوجه الأول: نعم إن رفع الصوت بالدعوة إلى الحق تارة يكون ناشئا عن داعية حب الرياسة وطلبها في نفس الإنسان، وتارة يكون ناشئا عن داعية إحساس المسئولية أمام الله، وكذلك التهمة التي يرمى بها الدعاة قد تكون ناشئة من الشبهة وعدم الفهم، وقد تكون ناشئة من أغراض سياسية عدوانية مثل صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس عن اتباعه ولبس الدين عليهم. فإذا نظرت في تاريخ الإنسانية من بدئه إلى يومنا هذا لا تجد داعيا رفع صوته بالدعوة ولو كان محفوفا بالبينات إلا رمي بالاتهامات والافتراءات. فهؤلاء قوم نوح عليه السلام يقولون عنه: يُرِيدُ { أَنْ يَتَفَضَّلَ } عَلَيْكُمْ (2) ويقولون له: إِنَّا { لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (60) (3) معنى يتفضل أي: يتقدم ويترأس عليكم. وهؤلاء قوم فرعون قالوا لموسى وهارون عليهما السلام:
__________
(1) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (21).
(2) المؤمنون الآية (24).
(3) الأعراف الآية (60).(10/226)
قَالُوا { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي } الْأَرْضِ (1) ومعنى الكبرياء في الأرض: الرياسة. وهكذا قال كبراء الناس في مكة: وَانْطَلَقَ { الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } (6) (2) ، ومعنى ضنَسy´ { } يُرَادُ أي أن محمدا أراد بهذه الدعوة أن تكون له الرياسة عليكم، كما في التفسير. فظهر أن اتهام الدعوة بطلب الرياسة هو اتهام قديم من عهد نوح عليه السلام وليس بمحدث، فالدعوة والتهمة سنتان من سنن الله الجارية. فهذه سنة من السنن الشرعية وتلك سنة من السنن الكونية والقدرية، وكلتاهما متآخيتان، كلما وجدت الدعوة رميت بالتهمة، يقول الله تعالى عن سنته الخالدة: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ } (3) وقوله سبحانه: وَكَذَلِكَ { جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ
__________
(1) يونس الآية (78).
(2) ص الآية (6).
(3) الفرقان الآية (31).(10/227)
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } (1) ، وكل من سلك طريق الأنبياء في الدعوة لابد وأن يلاقي ما لاقوه من التهم. فنقول لإزالتها إن السلف الصالح هم: الصحابة والتابعون رضي الله عنهم الذين هم خير القرون بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنهجهم في الدين هو المنهج الحق الذي تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وساروا عليه، ولا تصير الأمة المسلمة مستحقة للبشارة التي بشر الله سبحانه وتعالى بها في قوله إلا بحسب الظاهر، قال الله تعالى: وَقُلِ { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (105) (2) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة" رواه البخاري (3) . ونحن نرى أن هذه الاتهامات بطلب الرياسة، قد رمانا بها المخالفون لمآرب سياسية تستهدف صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس
__________
(1) الأنعام الآية (112).
(2) التوبة الآية (105).
(3) 5/315/2641).(10/228)