ذاك شهر يغفل عنه الناس
راشد بن عبدالرحمن البداح
الحمد لله وحده، وبعد: فإنَّ العبد يجري في هذه الدنيا في مضمار سباق الآخرة، والموفق هو الذي يبادر الفرصة، ويحذر فوتها، والمحروم من حرم.
وإننا نعيش في هذه الأيام موسماً رابحاً للتجارة مع الله، ألا وهي أيام شهر شعبان الذي قد غفل عنه أكثر الناس، وفيما يلي بيان لأحكامه وفضائله فإلى ذلك البيان:
فضل الصيام:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله - عز وجل -: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" رواه مسلم.
وسئل ابن عيينة عن قوله "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" فقال: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله - عز وجل - عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيحتمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة".
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة" الحديث رواه أحمد وصححه الألباني.
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: "عليك بالصوم فإنه لا عِدْل له" وفي رواية "لا مِثْل له" رواه النسائي وصححه الألباني، (صحيح الترغيب 1/574).
حال الأوائل في الصيام:
صام داود بن أبي هند (ت139) أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزَّازاً(1) يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق. تهذيب سير أعلام النبلاء (1/659).
وصام أبو مسلم الخولاني وهو غازٍ في أرض الروم، فقيل له: ما حملك على الصيام وأنت مسافر؟ قال: لو حضر قتال لأفطرت، ولتهيَّأت له وتقويت، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بُدْن، إنما تجري وهي ضُمَّر، ألا إنَّ أيامنا باقية جائية لها نعمل. تهذيب (1/431)
الآثار الواردة في فضل صيام شعبان:(1/1)
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهرٍ إلا رمضان، وما رأيت أكثر صياماً منه في شعبان" رواه البخاري (196).ومسلم وعنها قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام شهراً أكثر من شعبان وكان يصوم شعبان كله. (1970)
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لآخر: "أصمتَ من سُرَر شعبان(2)؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين" رواه مسلم (2743)، قال النووي: "هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن تقدم رمضان، فبين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وإنما النهي عن غير المعتاد" النووي (807/295).
ومما يدل على أفضلية صيامه ما رواه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يصوم شعبان كله" (2970).
وعند أبي داود: "لا يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يَصِلُه برمضان" أي كان يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله. وقيل: يصوم كله تارة، ومعظمه تارة أخرى. وقيل: من أوله إلى آخره. (ا.هـ. ملخصاً من الفتح، 4/286).
الحكمة من صوم شعبان أكثر من غيره:
قال ابن القيم -رحمه الله- في تهذيب السنن (3/318): "وفي صومه -صلى الله عليه وسلم- أكثر من غيره ثلاث معان:
أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شُغِل عن الصيام أشهراً، فجمع ذلك في شعبان؛ ليدركه قبل الصيام الفرض.
الثاني: أنه فعل ذلك تعظيماً لرمضان، وهذا الصوم يشبه سنة فرض الصلاة قبلها تعظيماً لحقها.
الثالث: أنه شهر ترفع فيه الأعمال؛ فأحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُرفعَ عملُه وهو صائم.(1/2)
ولكنَّ ابن حجر -رحمه الله- رجح هذا الأخير، فقال: "والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصح مما مضى أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله! لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم في شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفعَ عملي وأنا صائم". ونحوه من حديث عائشة عن أبي يعلى، لكن قال فيه: "إن الله يكتب كلَّ نفس ميتة تلك السنة؛ فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم" أ. هـ من الفتح (4/269).
اعتراض وجوابه:
كيف لم يُكثر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصيام في المحرم مع أنه قال: "إنه أفضل الصيام"، وقد أكثر الحث على الصوم في شعبان؟
أجاب عن هذا الإشكال النووي، وقد نقله عنه ابن حجر، فقال: "بأنه يُحتمل أن يكون ما علم بذلك إلا آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار بالسفر والمرض - مثلاً - ما منعه من كثرة الصوم فيه".
أما ابن رجب -رحمه الله- فيرى أنَّ صيام شعبان أفضل من محرم؛ لحديث الترمذي، قال -رحمه الله- "وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، ويكون قوله "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم" محمولاً على التطوُّع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وبعده فلا؛ فإنه يلتحق فيه بالفضل" ثم قال: "اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام، وشهر الصيام، وبعض ما يشتهر فضله قد يكون أفضل منه إما مطلقاً أو لخصوصية فيه" (اللطائف 248).
فضلٌ آخر:(1/3)
ورد في شعبان فضل آخر يدل عليه الحديث الآتي: عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطَّلِعُ الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا مشرك أو مشاحن" رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه، وقال الألباني "حسن صحيح"، وكذلك رواه ابن ماجه (1/422) وابن أبي عاصم وصححه في (صحيح الترغيب - السلسلة الصحيحة 1562 و1144). والمحققون من أهل الحديث يضعفونه.
تتمة الحديث عن النصف من شعبان:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- (المصرية 1/470): "وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصليها، لكنَّ اجتماع الناس في المساجد لإحيائها بدعة، وإنما كانوا يصلون في بيوتهم كقيام الليل، وإن قام معه بعض الناس من غير مداومة على الجماعة فيها وفي غيرها فلا بأس، كما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بابن عباس وحذيفة، ووليُّ الأمر ينبغي أن ينهى عن هذه الاجتماعات البدعية" قال ابن رجب -رحمه الله- "هذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله".
أما حديث "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" فقد رواه أحمد وأهل السنن، وهو حديث منكر ضعفه ابن مهدي وأحمد وأبو زرعة والأثرم، ورواه أحمد لحديث "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين" فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين، والطحاوي يرى أنه منسوخ، وحكى الإجماع على ترك العمل به، فأما يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض.
وقد روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله - تعالى - [فيها يفرق كل أمر حكيم] أنها ليلة النصف من شعبان، والصحيح أنها ليلة القدر، ونقل ابن رجب -رحمه الله- عن عطاء أنه قال: "إذا كان ليلة النصف من شعبان دُفع إلى ملك الموت صحيفة، فيقال: اقبض مَنْ في هذه الصحيفة".
كن من الموت على وجل * فما تدري متى يهجم الأجل
كل امرئ مصبَّح في أهله * والموت أقرب من شراك نعله(1/4)
وروى ابن أبي شيبة عن عطاء مرسلاً "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر صياماً من شعبان، وذلك أنه تنسخ الآجال". معنى مهم في صيام شعبان:
قد أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" قال ابن رجب: "فيه دليل على استحباب عمارة أوقات الإنسان بالطاعة، وأن ذلك محبوب إلى الله - عز وجل - كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة.
وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكرٍ في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر لله، حتى قال أبو صالح: "إن الله يعجب ممن يذكره في السوق" وسبب ذلك أنه ذكر في مواطن الغفلة بين أهل الغفلة.
وفي إحياء الوقت المغفول عنه فوائد:
-أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لاسيما في الصيام.
-أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقُّها لقلَّة من يقتدون بهم، ولهذا المعنى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون" روى شطره الأول الترمذي (3058) وأبو داود (4341).
-أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يُدْفَع به البلاء عن الناس كلهم، وعند الطبراني (7085) والبزاز والبيهقي وأبي يعلى بسند فيه ضعف: "لولا شباب خُشَّع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لصُبَّ عليكم العذاب صباً، ثم لرُضَّ رضاً".
لولا الذين لهم وِرْد iiيصلونا * وآخرون لهم سَرْد iiيصومونا
لَدُكْدِكَتْ أرضكم من تحتكم سحراً * لأنكم قوم سوء ما تطيعونا
وجاء في بعض الآثار: "إن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله".(1/5)
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرِع فيه ما يُشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لرمضان: قال سلمة بن كهيل: "كان يُقال: شهر شعبان شهر القرَّاء"، قال الحسن بن سهل: قال شعبان: يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين، فما لي؟ قال: جعلت فيك قراءة القرآن.
مضى رجبٌ وما أحسنتَ iiفيه * وهذا شهر شعبان المباركْ
فيا من ضيَّع الأوقات iiجهلاً * بِحُرْمتها أفِقْ واحذر iiبَوَارَكْ
فسوف تفارق اللذات iiقهراً * ويُخْلِي الموت كُرْهاً منك داركْ
تدارَكْ ما استطعت من iiالخطايا * بتوبة مُخْلِصٍ واجعل iiمداركْ
على طلب السلامة من iiجحيم * فخير ذوي الجرائم من iiتداركْ
(اللطائف 252/258).
فتوى:
سئل فضيلة الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله-:ما حكم الصيام في شهر شعبان؟ فأجاب:
الصيام في شهر شعبان سنة، والإكثار منه سنة حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "ما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان". فينبغي الإكثار من الصيام في شهر شعبان لهذا الحديث، قال أهل العلم: "وصوم شعبان مثل السنن الرواتب بالنسبة للصلوات المكتوبة؛ ولذلك سُنَّ الصيام في شهر شعبان، وسُنَّ صيامُ ستة أيام من شهر شوال، كالراتبة قبل المكتوبة وبعدها".وفي الصيام في شعبان فائدة أخرى، وهي توطين النفس وتهيئتها للصيام؛ لتكون مستعدة لصيام رمضان، سهلاً عليها أداؤه. (فتاوى أركان الإسلام 491).
وقفة:
العبادة يزداد أجرها وفضلها إذا توفَّر فيها من شرف الزمان والمكان والحال، وغفلة الناس وغير ذلك.
5 / 8 / 1425 هـ
---
(1) أي بائع الثياب.
(2) أي أوله(1/6)
الْعُمْرَةُ فِي ذِيْ الْقَعْدَةِ
زاد المعاد لابن القيم رحمه الله- (ج 2 / ص 90)
وَالْمَقْصُودُ أَنّ عُمَرَهُ ^ كُلّهَا كَانَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ مُخَالِفَةً لِهَدْيِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ وَيَقُولُونَ هِيَ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي رَجَبٍ بِلَا شَكّ .
وَأَمّا الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاعْتِمَارِ فِي رَمَضَانَ فَمَوْضِعُ نَظَرٍ فَقَدْ صَحّ عَنْهُ ^ أَنَّهُ أَمَرَ أُمّ مَعْقِلٍ لَمّا فَاتَهَا الْحَجّ مَعَهُ أَنْ تَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ وَأَخْبَرَهَا أَنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حِجّةً . وَأَيْضًا : فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الزّمَانِ وَأَفْضَلُ الْبِقَاعِ وَلَكِنّ اللّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَخْتَارَ لِنَبِيّهِ ^ فِي عُمَرِهِ إلّا أَوْلَى الْأَوْقَاتِ وَأَحَقّهَا بِهَا ، فَكَانَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ نَظِيرَ وُقُوعِ الْحَجّ فِي أَشْهُرِهِ ، وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ قَدْ خَصّهَا اللّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَجَعَلَهَا وَقْتًا لَهَا ، وَالْعُمْرَةُ حَجّ أَصْغَرُ فَأَوْلَى الْأَزْمِنَةِ بِهَا أَشْهُرُ الْحَجّ وَذُو الْقَعْدَةِ أَوْسَطُهَا ، وَهَذَا مِمّا نَسْتَخِيرُ اللّهَ فِيهِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ عِلْمٍ فَلْيَرْشُدْ إلَيْهِ .(2/1)
وَقَدْ يُقَال : إنّ رَسُولَ اللّهِ ^ كَانَ يَشْتَغِلُ فِي رَمَضَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِمَا هُوَ أَهَمّ مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ فَأَخّرَ العُمْرَةَ إِلَى أَشْهُرِ الحَجِّ ، وَوَفَّرَ نَفْسَهُ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ ، مَعَ مَا فِي تَرْكِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بِأُمّتِهِ وَالرّأْفَةِ بِهِمْ ؛ فَإِنّهُ لَوْ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَبَادَرَتْ الْأُمّةُ إلَى ذَلِكَ وَكَانَ يَشُقّ عَلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالصّوْمِ وَرُبّمَا لَا تَسْمَحُ أَكْثَرُ النّفُوسِ بِالْفِطْرِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ حِرْصًا عَلَى تَحْصِيلِ الْعُمْرَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ فَتَحْصُلُ الْمَشَقّةُ فَأَخّرَهَا إلَى أَشْهُرِ الْحَجّ وَقَدْ كَانَ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ يُحِبّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ الْمَشَقّةِ عَلَيْهِمْ . وَلَمّا دَخَلَ الْبَيْتَ خَرَجَ مِنْهُ حَزِينًا ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ إنّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمّتِي وَهَمّ أَنْ يَنْزِلَ يَسْتَسْقِي مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ لِلْحَاجّ فَخَافَ أَنْ يُغْلَبَ أَهْلُهَا عَلَى سِقَايَتِهِمْ بَعْدَهُ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
بدائع الفوائد لابن القيم- (ج 4 / ص 102)(2/2)
ونظير هذا اعتراضهم على أحاديث الأمر بفسخ الحج إلى العمرة بأن المقصود بها الإعلام بجواز العمرة في أشهر الحج مخالفة للكفار فقيل لهم وهذا من أدل الدلائل على استحبابه ودوام مشروعيته فإن ما شرع من المناسك قصدا لمخالفة الكفار فإنه دائم المشروعية إلى يوم القيامة كالوقوف بعرفة فإن النبي ^ خالفهم ووقف بها وكانوا يقفون بمزدلفة فقالوا : خالف هدينا هدي المشركين وكالدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس ؛ فإنهم كانوا لا يدفعون منها حتى تشرق الشمس فقصد مخالفتهم وصارت سنة إلى يوم القيامة وهذه قاعدة من قواعد الشرع : أن الأحكام المشروعة لهذه الأسباب في الأصل لا يشترط في ثبوتها قيام تلك الأسباب .(2/3)
ححح
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على خير البريات ، وعلى الآل والصحب والتابعين أزكى التحيات ، أما بعد :فإن الله "جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض ، وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته ، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته ، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات ، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات ،فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات ، فيسعد فيها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات " (1) حتى إذا جاء يوم القيامة تفاوتت بينهم الدرجات وإن كانوا من أهل الجنات ، فكانوا – إجمالاً – على قسمين ذكرهما الإمام ابن القيم – رحمه الله – عند قوله تعالى [إِنَّ المُصَّدِّقِينَ وَالمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ - وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ] قال : ( وعمال الآخرة على قسمين ، منهم من يعمل على الأجر والثواب ، ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة ، فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى ، ويسابق إلى القرب منه )(2)
وإن ثمت عملاً صالحاً يحصل لمن انشرح صدره أن يسابق وينافس به على المنازل والدرجات العلا، ألا وهو كما عبر عنه ابن رجب – رحمه الله –بـ( الخلوة المشروعة لهذه الأمة.. فمعنى الاعتكاف وحقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق "(3)
__________
(1) باختصار من لطائف المعارف/ ابن رجب ص 40
(2) الوابل الصيب ص 13
(3) اللطائف ص 348(3/1)
"وليست العزلة المشروعة لتربية النفس وتهذيبها مقصورة على سنة الاعتكاف فحسب؛ بل كان السلف –رضي الله عنهم- يحثون السالك على اختلاس أويقات يخلو فيها بنفسه للذكر أو الفكر أو المحاسبة أو غيرها .قال عمر ر :" خذوا بحظكم من العزلة " وقال مسروق-رحمه الله-:" إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكر ذنوبه ، فيستغفر منها " (1).ويوصينا ابن الجوزي – رحمه الله- بالعزلة فيقول: " فيا للعزلة ما ألذها ! فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل ، والسلامة من شر المخالطة كفى " ويقول : " الصبر الصبر على ما توجبه العزلة ، فإنه إن انفردْتَ بمولاك فتح لك باب معرفته .."(2)
__________
(1) العزلة والخلطة / العودة ص 57
(2) بتصرف من صيد الخاطر ( 80، 261)(3/2)
إن أهم ما يُعنى به الموفق لطاعة مولاه هو إصلاح تلك المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله ، وفي الصوم والاعتكاف من الإصلاح الشيء الكثير .ولنقرأ الآن ما فتح الله به على طبيب القلوب ابن القيم –رحمه الله – حيث يقول – وما أحسن ما قال - : " اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب .. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى .. فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيُعِدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور ،حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه ، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم . ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم ، شرع لهم الاعتكاف في أفضل أيام الصوم ، وهو العشر الأخير من رمضان "(1) و إن الاعتكاف سنة فاضلة في زمن فاضل ، وقد صار سنة مهجورة لا تكاد تعرف في بعض البلاد، فكان إحياؤه آكد وأعظم أجراً ؛ لأن السنة كلما هجرت كان الأجر في إحيائها أعظم ، ونظير ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخّر العشاء إلى ثلث الليل قال لهم " ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم "(2)قال ابن رجب : " وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له " (3)
ومما يؤكد أفضلية الاعتكاف وعظيم شأنه أمور منها :
1- أن في تلك العشر ليلة هي خير من ألف شهر ، أي خير من ثلاث وثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان يعتكف - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يوافقها ، بل قد اعتكف العشر الأوّل ثم الأوسط ، ثم أطْلع رأسه فكلم الناس ، فدنوا منه ، فقال " إني اعتكفت العشر الأوّل ، ألتمس هذه الليلة ، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أُتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر ، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف "(4).
__________
(1) اد المعاد ( 2/82 )
(2) البخاري ( 569 ) ومسلم ( 639 )
(3) اللطائف ص 251
(4) مسلم ( 2763 )(3/3)
2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتركه ، وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً ، بل لما تنافست نساؤه على الاعتكاف تركه ، ثم قضاه في العشر الأول من شوال (1)، كل ذلك تحصيلاً لتلك القربة ألا تفوت ، وفعله كافٍ لبيان فضله .
3- أنه - صلى الله عليه وسلم - يترك ما هو مباح له أصلاً، وهو النوم والنساء ، وبذلك يفسر قول عائشة – رضي الله عنها – ( جدّ و شدّ مئزره ) بأنه ترك النوم والنساء .
4- أنه - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما نهى عنه ؛ فقد نهى عن الوصال وهو تأخير السحور إلى السحر ، وكان يفعله لا سيما في العشر،وكما قد نهى عن إحياء الليل كله ، إلا أن أعلم النساء به قالت " وأحيا ليله" وقد قال العلماء : ( يحتمل إحياء الليل كله ؛ لأنه لم يرد شيء صحيح يخالف هذا الظاهر ) (2)
5-ومما يؤكد أهمية الاعتكاف : أن الرجل لو نذر وهو مشرك أن يعتكف ، ثم أسلم ؛ فإنه يجب عليه وفاؤه، كما ورد عن عمر-رضي الله عنه-
6- أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكفن معه وبعده ، حتى إن عائشة – رضي الله عنها –لتقول : " اعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة مستحاضة من أزواجه ، فكانت ترى الحمرة والصفرة ، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي "(3) فيا سبحان الله ! إذا كانت حتى نساء الصحابة يعتكفن ، بل وإن كن مستحاضات ، فما بال الرجال من الشباب والكهول عن هذه العبادة راغبون ؟ ألم يعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحس بدنو أجله اعتكف عشرين يوماً ؟. فيا أيها الدعاة : إن كنتم تريدون هداية الناس ، فاعبدوا الله حقاً بمثل الاعتكاف! ويا طلبة العلم : لا يفتح عليكم بالعلم إلا بالاجتهاد في العبادة ولزوم التقوى .
__________
(1) البخاري ( 2044 و 2045 )
(2) مذكرة العلوان في شرح البلوغ من كتاب الصيام ص 38
(3) البخاري ( 2037 )(3/4)
ويا من يقتدى بكم : كيف يقتدي الناس بطيب أقوالكم، ولم يروا الطيب من أفعالكم ؟ فاحذروا أن تكونوا كما قال أبو حازم –رحمه الله – " رضي الناس من العمل بالعلم ، ورضوا من الفعل بالقول ! "(1) ويا أيها الشباب : تناديكم امرأة من التابعيات وهي حفصة ابنة سيرين – رحمها الله- فتقول:" يا معشر الشباب ! اعملوا فإنما العمل في الشباب " (2) واعتكاف الشباب أعظم اجراً من غيرهم ؛ لأن داعي الشهوة والهوى أقوى، وفي بعض الآثار :" أيها الشاب التارك لشهوته ، المتبذل شبابه من أجلي : أنت عندي كبعض ملائكتي "(3) . ولذلك فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله :"شاب نشأ في عبادة ربه عز وجل" و"رجل معلق قلبه بالمساجد" وكلا الوصفين يحصلان في الاعتكاف .هذا وقد أنعم الله على طلاب المدارس والجامعات ومدرسيهم بإجازة طيلة أيام العشر الأخير في رمضان ، وهم مغبونون بذلك ، فما عذرهم ؟ وهل يليق بهم أن يقضوا تلك الإجازة في سهر أو لهو أو نزهة أو سفر لا طائل تحته ؟ ثم أهم أشد شغلاً من رسولهم ^الذي لم يدع الاعتكاف أبدًأ ، مع أن قضايا الأمة تدار من عنده ؟
رأى شريح جيرانًا له يجولون ، فقال : مالكم ؟ فقالوا : فرغنا اليوم . فقال شريح : وبهذا أمر الفارغ ؟ (4)
وإن منهم لمن يقول : أعتمر في العشر أفضل من أن أعتكف ! والحقيقة أن الجمع بينهما أكمل ، وإن كان لايقدر إلا على أحدهما ، فالاعتكاف أفضل لوجهين :
أن النبي ^ لم يكن يعتمر ، وإنما يعتكف، وهو لا يفعل إلا الأكمل والأفضل .
أن الاعتكاف مهجور في كثير من المساجد ، وإحياؤه – حينئذٍ – أولى من العمرة التي يتنافس عليها معظم العباد في هذا الزمان ) (5) .
__________
(2) اقتضاء العلم العمل / الخطيب رقم ( 190-94 )
(3) فتح الباري / ابن رجب ( 4/62)
(4) الاقتضاء ( 174 )
(5) مذكرة العلوان(3/5)
7- من الفضائل التي تحصل بالاعتكاف : الرباط في سبيل الله . وهو انتظار الصلاة بعد الصلاة ، والذي رتب عليه النبي ^ أجراً عظيمًا بأن ( يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ) (1) وبأن صاحبه ( في صلاة ماكان في المسجد ينتظر الصلاة مالم يحدث )(2) ولذا يمكن أن يقال : كل اعتكاف رباط ، ولا عكس .
أحكام الاعتكاف :
قد حد الله للاعتكاف حدودًا وأحكامًا ، ثم قال عنها سبحانه : [تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا] وسأبين ماتدعو الحاجة إليه من تلك الأحكام فيما يلي :
على المعتكف تحصيل مقصود الاعتكاف باتباع هديه ^ فيه ؛ فقد اعتكف مرة في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيرًا ؛ (3) وسبب ذلك كما قال ابن القيم – رحمه الله - : " تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عٍشرة ، ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون ! "(4) .
إذا نوى الاعتكاف لم يجب عليه إتمامه ، وجاز له قطعه ، ولا سيما إذا خشي على عمله الرياء (5). قال ابن باز – رحمه الله - :" وله قطع ذلك إذا دعت الحاجة لذلك ؛ لأن الاعتكاف سنة ، ولايجب الشروع إذا لم يكن منذورًا "(6).
لم يرد حديث صحيح في تحديد أقل مدة الاعتكاف ، لكن أخذ بعض العلماء من قول عمر ر كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة " . وفي رواية " يومًا "(7) : أن أقل الاعتكاف يوم وليلة ، ولعله أقرب للصواب .
__________
(1) مسلم ( 1/151 )
(2) البخاري ( 176 )
(3) مسلم 2763
(4) زاد المعاد ( 2/86 )
(5) فتح الباري ( 4/277)
(6) مجموع فتاوى ابن باز ( 5/263 )
(7) البخاري ( 2032 ) وانظر الفتح ( 4/274 )(3/6)
ذهب الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا إلى أن المعتكف يدخل معتكَفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها ، وأما قول عائشة في الحديث المتفق عليه ( وإذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفه )(1) فالمراد به المكان الذي أعد لاعتكافه ^ فيه ، من خيمة ونحوها(2) .
يحسن بالمعتكف أن يتخذ لنفسه مكانًا خاصاً ؛ وذلك ليخلو بربه ، وليستريح فيه ، ولكيلا يتعوره أحد حين استبدال ملابسه ، أو استقبال من يريد زيارته من أهله(3) .
يجوز تنقل المعتكف في أنحاء المسجد ، لكن الأولى للمعتكف ألا يكثر الحركة والتنقل في المسجد لأمرين :
أن النبي ^ قد اتخذ خباء في المسجد لا يخرج منه إلا لصلاة ، وخير الهدي هديه ^ .
أن النبي ^ قال :" الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه "(4). قال ابن رجب :" فهذا يدل على أنه اذا تحول من موضع صلاته من المسجد إلى غيره من المسجد انقطع حكم جلوسه في مصلاه "(5).
أما قضية الخروج من المسجد ، فقد ذكر الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : جائز ، وهو الخروج لأمر لابد منه شرعًا أو طبعًا ، كالخروج لصلاة الجمعة ، والأكل والشرب إن لم يكن له من يأتيه بهما.
الثاني : الخروج لطاعة لاتجب عليه ، كعيادة المريض وشهود الجنازة ، فإن اشترطه في ابتداء اعتكافه جاز وإلا فلا .
الثالث : الخروج لأمر ينافي الاعتكاف ، كالخروج للبيع والشراء ، وجماع أهله ونحو ذلك ، فهذا لا يجوز لا بشرط ولابغير شرط " (6).
__________
(1) البخاري ( 2041 ) ومسلم ( 1173 )
(2) مذكرة العلوان في الصيام ( 40 )
(3) مجموع فتاوى ابن باز ( 5/263) وانظر مذكرة العلوان
(4) البخاري ( 659)
(5) انظر فتح الباري لابن رجب ( 4/57 )
(6) من فتوى مكتوبة لفضيلته بتاريخ 17/9/1408 هـ(3/7)
لكن يرى بعض أهل العلم أن قضية اشتراط المعتكف الخروج لا أصل لها عن النبي ^ ولا عن أحد من الصحابة ، وبذلك يقول الإمام مالك كما في الموطأ ؛ فقد كان ^ يخرج لحاجته ، ولم يذكر عنه أنه علم أمته الاشتراط ، بل للمعتكف أن يخرج للحاجة التي يشق على نفسه تركها ، ولو لم يشترط على الراجح . وهذا لا يعني أن يتوسع في الخروج كيفما أراد ، وحينها سيتحول الأمر إلى تلاعب ينافي حكمة الاعتكاف ؛و الله يقول :" تلك حدود الله فلا تقربوها " وأما من يخرج من معتكفه لأجل حضور التراويح مع إمام حسن الصوت فهذا ليس معتكفًا في الحقيقة ،. فليتق الله أولئك الذين يفعلون سنة ، ولا يراعون حدود الله فيها .
إذا أراد صلاة الجمعة ، فقيل يذهب مبكرًا ؛ للأحاديث الورادة في التبكير(1) ، وقيل يذهب متأخرًا لئلا يطول خروجه عن معتكفه ، وإنما رخص له للحاجه ، والمقصود يتم إذا صلى الجمعة ،( وهذا القول أقرب للصواب من القول الأول )(2) .
9- له أن يتبع جنازة من له حق عليه ، كأحد الوالدين أو ابن أو عم ، أو من يشق عليه ترك جنازته ، أو عالم له نفع للإسلام والمسلمين ، فمثل هؤلاء تتبع جنازتهم ويعاد مريضهم بلا اشتراط(3) ، لكن لا يقف لانتظار الجنازة أو المريض .
10 - إذا كان هناك (دورة مياه ) داخل سور المسجد ، وهو لا يحتشم منها ، لزمه ألا يخرج ، ( وإلا لم يلزمه )(4) .
11- يشرع للمعتكف تعليم العلم وإقراء القرآن ، ونحو ذلك من العبادات المتعدية، لكن يقيد ذلك بما لم يكثرمنه (5).
__________
(1) فتاوى أركان الإسلام / ابن عثيمين ص 496
(2) مذكرة شرح كتاب الصيام من البلوغ للعلوان ص 41
(3) المصدر السابق
(4) فقه الاعتكاف / خالد المشيقح ص 146 و ص 237
(5) المصدر السابق ص 220(3/8)
12-يجوز للمعتكف أن يخرج ويشتري ما لابد منه ، كقوته وقوت عياله ، إذا لم يكن أحد يقوم به غيره ، لكن اشترط المالكية : أن يكون شراؤه من أقرب مكان إليه ، ولا يشتغل بشيء غيره . واشترط الحنابلة : أن يكون ذلك في طريقه من غير أن يقف أو يعرِّج (1) .
13-على المعتكف أن يتقي الله في خلوته ، فلا يضيع وقته بالنوم أو التفكير بلا مصلحة ، فضلاً عن فعل الحرام ، قال ابن رجب – رحمه الله - :" فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي ، ولهذا قيل : إن من أعز الأشياء : الورع في الخلوة "(2)، كما أن عليه أن يكثر من الأذكار والاستغفار والدعاء والبكاء حيث لا يراه أحد، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه " . فأوصيك أيها المعتكف : بكثرة التذلل والانكسار بين يدي الله ؛ فلقد قال ابن القيم – رحمه الله -:" .. فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار بين يدي الله .. وأقرب باب دخل منه العبد على الله – تعالى – هو الإفلاس ! " (3).وقال:" أفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله عز وجل في صومهم "(4) .
14- كما أن على المعتكف أن يختار من يشاركونه هذه العبادة حتى يشجع بعضهم بعضًا ثم بعد ذلك ؛ يُقِلٌّ الاجتماع بهم والخوض في الحديث معهم . قال ابن القيم – رحمه الله - :" واعلم أن الحسرة كل الحسرة بمن لا يجرّ عليك الاشتغال به إلا فَوْت نصيبك وحظك من الله – عز وجل – وانقطاعك عنه ، وضياع وقتك عليك "(5) .
__________
(1) السابق ص 250
(2) فتح الباري / ابن رجب ( 4/63 )
(4) الوابل الصيب ص 17 و ص 141
(5) المصدر السابق ص 96(3/9)
15-بعض الشباب يرفض والده أن يعتكف ابنه ، فماذا يفعل الابن ؟ يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – عن ذلك : " الاعتكاف سنة ، وبر الوالدين واجب .. فالذي أنصحك به ألا تعتكف ؛ نعم لو قال أبوك : لا تعتكف ، ولم يذكر مبررات لذلك ، فإنه لا يلزمك طاعته في هذه الحال ، لأنه لا يلزمك أن تطيعه في أمر ليس فيه ضرر عليه في مخالفتك إياه ، وفيه تفويت منفعة لك "(1) .
16-من يترك الوظيفة ليعتكف ، قال عنه الشيخ أيضًا : لأنه " كالذي يهدم مِصْرًا ويبني قصرًا، لأنه قام بشيء مستحب .. ولهذا يجب عليه أن يقطع الاعتكاف ، ويذهب إلى وظيفته ؛ إذا كان يريد السلامة من الإثم " (1).
وبعد ؛ أخي الحريص على السنة ، المريد رضوان الله : اهتبل هذه الفرصة ، فلعلك لا تدركها فيما بعد ؛ فالله سماها ( أيامًا معدودات ) :
ألفاه شهرًا ولكن في نهايته يمضي كطيف خيال قد لمحناه(2)
فعسانا أن ندرك ليلة القدر ، فيرانا ربنا ونحن نتعرض لنفحاته ، فيشملنا بغفرانه ، ويكرمنا برضوانه ، ويصيبنا برحمته ، ويدخلنا الفردوس من جنته .
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا . اللهم اجعلنا ممن أدرك ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا ، وفاز بالثواب الجزيل والأجر . اللهم صل وسلم على محمد .
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد ( 1/551-552 )
(2) رهبان الليل / عفاني ( 2/541 )(3/10)
ههه
فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا والله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف، ويتقرب بها إلى مولاه وهو راج خائف .
و قد سمى النبي ^ المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته . ويشهد لهذا أنه ^ قال كما في صحيح مسلم: أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ . ولما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى كان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام وأفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم .
قال الله عز وجل: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] فأخبر سبحانه أنه منذ خلق السماوات والأرض جعل السنة اثني عشر شهرا بحسب الهلال؛ لا بسير الشمس وانتقالها كما يفعله أهل الكتاب، وجعل الله تعالى من هذه الأشهر أربعة أشهر حرما . وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أنها ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو شهر رجب .(4/1)
وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل؛ فقال الحسن: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم . وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه . وقال سعيد بن جبير وغيره: أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة أو ذو الحجة . وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات؛ العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من محرم، والعشر الأول من ذي القعدة . وروى خلاد الصفار عن أبي مسلم قال: صيام يوم من أشهر الحج أو قال أشهر الحرم يعدل شهرا وصيام يوم من غير الأشهر الحرم يعدل عشرا
وأما ذو القعدة فهو من الأشهر الحرم، وهو أول الأشهر الحرم المتوالية، وهو أيضا من أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: [الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] وسمي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال . ومن خصائص ذي القعدة أن عُمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في ذي القعدة . وقد روي عن طائفة من السلف منهم ابن عمر وعائشة وعطاء تفضيل عمرة ذي القعدة وشوال على رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة وفي أشهر الحج . ولذي القعدة فضيلة أخرى وهي أنه قد قيل: إنه الثلاثون يوما الذي واعد الله فيه موسى عليه السلام . وقال سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن كعب قال: اختار الله الزمان وأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول:
قطعت شهور العام لهواً وغفلة ... ولم تحترم فيما أتيت المحرَّما
فلا في ليالي عشر ذي الحجة الذي ... مضى كنت قواما ولا كنت مُحْرِما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة ... وتبكي عليها حسرة وتندما(4/2)
وأما قوله: [فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] فمراده بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النسيء كما قال تعالى: [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ ] فقد كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر فيحرمونها بدلها ويحلون ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا إلى ذلك ولكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئا ولذا قال ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كما في صحيح البخاري كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الْأَثَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ قَالَ فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ^ وَأَصْحَابُهُ رَابِعَةً مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ وَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ ^ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً .
وسميت هذه الأشهر الأربعة حرما؛ قيل: لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها. قال ابن عباس: اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم وجعل العمل الصالح والأجر أعظم . وقيل: إنما سميت حرما لتحريم القتال فيها وكان ذلك معروفا في الجاهلية .
وقد اختلف العلماء في حكم القتال في الأشهر الحرم هل تحريمه باق أو نسخ فالجمهور: على أنه نسخ تحريمه ونص على نسخه الإمام أحمد وغيره من الأئمة . وذهبت طائفة من السلف: منهم عطاء: إلى بقاء تحريمه، ورجحه بعض المتأخرين .
بتصرف واختصار من : لطائف المعارف لابن رجب – رحمه الله –
كتبه / راشد بن عبد الرحمن بن رِدْن البداح
3/12/1427هـ(4/3)