مسؤوليّة الدولة
في الاقتصاد الإسلامي
1_ الضمان الاجتماعي
فرض الإسلام على الدولة ضمان معيشة أفراد المجتمع الإسلامي ضماناً
كاملاً. وهي عادة تقوم بهذه المهمة على مرحلتين: ففي المرحلة الأولى
تهيء الدولة للفرد وسائل العمل، وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط
الاقتصادي المثمر، ليعيش على أساس عمله وجهده. فإذا كان الفرد عاجزاً
عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً، أو كانت الدولة في ظرف
استثنائي لا يمكنها منحه فرصة العمل، جاء دور المرحلة الثانية، التي تمارس
فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان، عن طريق تهيئة المال الكافي، لسد حاجات
الفرد، وتوفير حد خاص من المعيشة له.
ومبدأ الضمان الاجتماعي هذا يرتكز في المذهب الاقتصادي للإسلام
على أساسين، ويستمد مبرراته المذهبية منهما:
أحدهما: التكافل العام. والآخر: حق الجماعة في موارد الدولة العامة.
ولكل من الأساسين حدوده ومقتضياته، في تحديد نوع الحاجات التي يجب
أن يضمن إشباعها، وتعيين الحد الأدنى من المعيشة التي يوفرها مبدأ الضمان
الاجتماعي للأفراد.
فالأساس الأول للضمان لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات
الحياتية والملحّة للفرد، بينما يزيد الأساس الثاني على ذلك، ويفرض إشباعاً
أوسع ومستوى أرفع من الحياة.
والدولة يجب أن تمارس الضمان الاجتماعي في حدود امكاناتها على
مستوى كل من الأساسين.
ولكي نحدد فكرة الضمان في الإسلام يجب أن نشرح هذين الأساسين
ومقتضياتهما وأدلتهما الشرعية.
الأساس الأول للضمان الاجتماعي:
فالأساس الأول للضمان الاجتماعي: هو التكافل العام. والتكافل العام
هو المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كفاية، كفالة بعضهم
لبعض ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم في حدود ظروفه وإمكاناته،
يجب عليه أن يؤديها على أي حال كما يؤدي سائر فرائضه.
والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل(1/1)
العام بين المسلمين، يعبر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال
ما يكلفون به شرعاً، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الإسلام على أنفسهم.
فهي بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإسلام، والقادرة على الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، مسؤولة عن أمانتها، ومخوّلة حق إكراه كل
فرد على أداء واجباته الشرعية، وامتثال التكاليف التي كلفه الله بها. فكما
يكون لها حق إكراه المسلمين على الخروج إلى الجهاد لدى وجوبه عليهم،
كذلك لها حق إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين، إذا
امتنعوا عن القيام بها. وبموجب هذا الحق يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين
وكالة عن المسلمين، وتفرض عليهم في حدود صلاحياتها مد هذا الضمان
بالقدر الكافي من المال، الذي يجعلهم قد أدوا الفريضة وامتثلوا أمر الله تعالى.
ولأجل أن نعرف حدود الضمان الاجتماعي، الذي تمارسه الدولة
على أساس مبدا التكافل، ونوع الحاجات التي يضمن إشباعها.. يجب أن
نستعرض بعض النصوص التشريعية التي أشارت إلى مبدأ التكافل، لنحدد
في ضوئها القدر الواجب من الكفالة على المسلمين، وبالتالي حدود الضمان
الذي تمارسه الدولة على هذا الأساس.
فقد جاء في الحديث الصحيح عن سماعة: (( أنه سأل الأمام جعفر بن
محمد عن قوم عندهم فضل، وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس يسعهم
الزكاة أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم؟، فإن الزمان شديد. فرد
الإمام عليه قائلاً: إن المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحرمه،
فيحق على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه، والمواساة لأهل
الحاجة )) (1).
وفي حديث آخر: أن الإمام جعفر قال: (( أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً
مما يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله يوم
القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا
__________
(1) الوسائل للحر العاملي جـ 11 ص 597.(1/2)
الخائن الذي خان الله ورسوله، ثم يؤمر به إلى النار)) (1). وواضح أن الأمر
به إلى النار يدل على: أن المؤمن يجب عليه إشباع حاجة أخيه المؤمن، في
حدود قدرته، لأن الشخص لا يدخل النار إذا ترك شيئاً لا يجب عليه.
والحاجة في هذا الحديث وإن جاءت مطلقة ولكن المقصود منها هو
الحاجة الشديدة التي ورد الحديث الأول بشأنها، لأن غير الحاجات الشديدة
لا يجب على المسلمين كفالتها وضمان إشباعها إجماعاً.
وينتج عن ذلك: أن الكفالة هي في حدود الحاجات الشديدة.
فالمسلمون إذا كان لديهم فضل عن مؤونتهم، فلا يسعهم_ على حد تعبير
النص في الحديث الأول_ أن يتركوا أخاهم في حاجة شديدة، بل يجب
عليهم إشباع تلك الحاجة وسدها.
وقد ربط الإسلام بين هذه الكفالة ومبدأ الأخوة العامة بين المسلمين
ليدلل على أنها ليست ضريبة التفوق في الدخل فحسب، وإنما هي التعبير
العملي عن الأخوة العامة، سيراً منه على طريقة في إعطاء الأحكام إطاراً
خلقياً يتفق مع مفاهيمه وقيمه، فحق الإنسان في كفالة الآخر له مستمد في
مفهوم الإسلام من أخوته له، واندراجه معه في الأسرة البشرية الصالحة.
والدولة تمارس في حدود صلاحياتها حماية هذا الحق وضمانه. والحاجات
التي يضمن هذا الحق إشباعها هي الحاجات الشديدة، وشدة الحاجة تعني
كون الحاجة حياتية، وعسر الحياة بدون إشباعها.
وهكذا نعرف: أن الضمان الاجتماعي، الذي يقوم على أساس
التكافل يتحدد_ وفقاً له_ بحدود الحاجات الحياتية للأفراد، التي يعسر
عليهم الحياة بدون إشباعها.
الأساس الثاني للضمان الاجتماعي:
ولكن الدولة لا تستمد مبررات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من
مبدأ التكافل العام فحسب، بل قد يمكن إبراز أساس آخر للضمان الاجتماعي
كما عرفنا سابقاً، وهو حق الجماعة في مصادر الثروة. وعلى أساس هذا
الحق تكون الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين
__________
(1) الوسائل جـ 11 ص 599.(1/3)
والعاجزين، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم.
وسوف نتحدث أولاً عن هذه المسؤولية المباشرة للضمان وحدودها،
وفقاً لنصوصها التشريعية، ثم عن الأساس النظري الذي ترتكز عليه فكرة
هذا الضمان. وهو حق الجماعة في ثروات الطبيعة.
أما عن المسؤولية المباشرة للضمان: فإن حدود هذه المسؤولية تختلف
عن حدود الضمان، الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل العام.
فإن هذه المسؤولية لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية
فحسب،بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي
يحياه أفراد المجتمع الإسلامي، لأن ضمان الدولة هنا ضمان إعالة. وإعالة
الفرد هي القيام بمعيشته وإمداده بكفايته. والكفاية من المفاهيم المرنة، التي
يتسع مضمونها كلما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يسراً ورخاء
وعلى هذا الأساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية للفرد، من
غذاء ومسكن ولباس، وإن يكون إشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعية
والكمية، وفي مستوى الكفاية بالنسبة إلى ظروف المجتمع الإسلامي. كما
يجب على الدولة إشباع غير الحاجات الأساسية من ساير الحاجات، التي
تدخل في مفهوم المجتمع الإسلامي عن الكفاية تبعاً لمدى ارتفاع مستوى
المعيشة فيه.
والنصوص التشريعية التي تدل على المسؤولية المباشرة للدولة في الضمان
الاجتماعي، واضحة كل الوضوح، في التأكيد على هذه المسؤولية، وعلى
أن الضمان هنا ضمان إعالة، أي ضمان مستوى الكفاية من المعيشة.
ففي الحديث عن الإمام جعفر: ((أن رسول الله (ص) كان يقول في
خطبته: مَن ترك ضياعه فعليَّ ضياعه ومن ترك ديناً فَعَليَّ دينُه، ومَن
ترك ماله فأكله)).
وفي حديث آخر أن الإمام موسى بن جعفر قال:_ محدداً ما للإمام
وما عليه_: ((أنه وارث من لا وارث له، ويعول من لاحيلة له)).
وفي خبر موسى بن بكر: أن الإمام موسى قال له: ((من طلب هذا(1/4)
الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله،
فإن غلب عليه، فليستدن على الله وعلى رسوله ما يقوت به عياله. فان مات
ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه. فإن لم يقضه، كان عليه وزره. إن الله
عز وجل يقول: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ... )).
الخ، فهو فقير مسكين مغرم)) (1).
وجاء في كتاب الإمام على إلى واليه على مصر: ((ثم الله الله في الطبقة
السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس
والزمنى فان في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً: واحفظ لله ما استحفظك من حقه
فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام
في كل بلد.فإن للأقصى منهم مثل الذي للادنى، وكل قد استرعيت حقه،
فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم
فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعّر خدك لهم.
وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال
ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم
أعمل فيهم بالاعذار إلى الله يوم تلقاه. فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى
الانصاف من غيرهم. وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وعهد أهل
__________
(1) واستشهاد الإمام بهذه الآية الكريمة، لا يعني حصر مسؤولية ولي الأمر في الاعالة
والإنفاق بمورد معين من موارد بيت المال، وهو الزكاة، وذلك لأن الآية لا تختص بالزكاة،
وإنما هي تقرر حكماً عاماً في الصدقة بجميع أقسامها، فتشمل المال الذي تدفعه الدولة إلى العاجز
والمعوز لأنه ضرب من الصدقة أيضاً. أضف إلى هذا: أن ولي الأمر لا يجب عليه بسط الزكاة،
وتقسيمها على الأصناف الثمانية المذكورة في الآية، بل يجوز له إنفاقها على بعض تلك الأصناف،
مع أن النص في حديث موسى بن بكر يؤكد: أن ولي الأمر إذا لم يقض دين الرجل، وليس
هذا إلا لمسؤولية خاصة للدولة في الضمان.(1/5)
اليتم، وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة ولا ينصب للمسألة نفسه)).
فهذه النصوص تقرر بكل وضوح مبدأ الضمان الاجتماعي، وتشرح
المسؤولية المباشرة للدولة في إعالة الفرد وتوفير حد الكفاية له.
هذا هو مبدأ الضمان الاجتماعي، الذي تعتبر الدولة مسؤولة بصورة
مباشرة عن تطبيقه، وممارسته في المجتمع الإسلامي.
وأما الإسلام النظري الذي ترتكز فكرة الضمان في هذا المبدأ عليه،
فمن الممكن أن يكون إيمان الإسلام بحق الجماعة كلها في موارد الثروة،
لأن هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافة، لا لفئة دون فئة(خلق
لكم ما في الأرض جميعاً) وهذا الحق يعين أن كل فرد من الجماعه له
الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة
قادراً على العمل في حد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة
أن تهيء له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له فرصة العمل،
أو كان عاجزاً عنه.. فعلى الدولة أن تضمن حقه في الإستفادة من ثروات
الطبيعة، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم.
فالمسؤولية المباشرة للدولة في الضمان، ترتكز على أساس الحق العام
للجماعة في الإستفادة من ثروات الطبيعة، وثبوت هذا الحق للعاجزين عن
العمل من أفراد الجماعة.
وأما الطريقة التي اتخذها المذهب لتمكين الدولة من ضمان هذا الحق
وحمايته للجماعة كلها بما تضم من العاجزين.. فهي إيجاد بعض القطاعات
العامة في الاقتصاد الإسلامي، التي تتكون من موارد الملكية العامة، وملكية
الدولة، لكي تكون هذه القطاعات_ إلى صف فريضة الزكاة_ ضماناً
لحق الضعفاء من أفراد الجماعة، وحائلاً دون احتكار الأقوياء للثروة
كلها ورصيداً للدولة يمدها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي،
ومنح كل فرد حقه في العيش الكريم من ثروات الطبيعة.
فالأساس على هذا الضوء هو: حق الجماعة كلها في الانتفاع بثروات
الطبيعة.(1/6)
والفكرة التي ترتكز على هذا الأساس هي المسؤولية المباشرة للدولة،
في ضمان مستوى الكفاية من العيش الكريم، لجميع الأفراد العاجزين
والمعوزين.
والطريقة المذهبية وضعت لتنفيذ هذه الفكرة هي: القطاع العام،
الذي أنشأه الاقتصاد الإسلامي ضماناً لتحقيق هذه الفكرة، في جملة
ما يحقق من أهداف.
وقد يكون أروع نص تشريعي في اشعاعه المحتوى المذهبي للأساس
والفكرة، والطريقة جميعاً، هو المقطع القرآني في سورة الحشر، الذي
يحدد وظيفة الفيء، ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعاً عاماً.
وإليكم النص:
((وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب،
ولكن الله يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير. ما أفاء
الله على رسوله من أهل القرى، فلله، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى،
والمساكين، وابن السبيل، كي لا يكون دولة، بين الأغنياء منكم.. )).
ففي هذا النص القرآني قد نجد إشعاعاً بالأساس الذي تقوم عليه فكرة
الضمان. وهو حق الجماعة كلها في الثروة. (كي لا يكون دولة بين
الأغنياء منكم)، وتفسيراً لتشريع القطاع العام في الفيء، بكونه طريقة
لضمان هذا الحق، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيداً
على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن سبيل،
ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بالطبيعة، التي خلقها الله
لخدمة الإنسان(1).
__________
(1) هناك بعض الروايات يدل على ما يخالف ذلك في تفسير الآية، كالرواية التي تتحدث
عن نزول الآيتين في موضوعين مختلفين: فالأولى في الفيء، والثانية في الغنيمة أو في خمس
الغنيمة خاصة. ولكن هذه الروايات ضعيفة السند، كما يظهر بتتبع سلسلة رواتها. ولهذا يجب
أن نفسر الآيتين في ضوء ظهورهما. ومن الواضح ظهورهما في الحديث عن موضوع واحد
وهي الفيء. فالآية الأولى تنفي حق المقاتلين في الفيء لأنه مما لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب،
والآية الثانية تحدد معرف الفيء أي الجهات التي يصرف عليها الفيء ومن الواضح أن كون
المساكين وابن السبيل واليتامى مصرفاً للفيء لا ينافي كونه ملكاً للنبي والإمام باعتبار منصبه
كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة.
فالمستخلص من تلك الروايات بعد ملاحظة الآية معها: أن الفيء المنصب الذي يشغله
النبي والإمام. ومصرفه الذي يجب عليه صرفه عليه هو ما يدخل ضمن دائرة العناوين التي
ذكرتها الآية، من المصالح المرتبطة بالله والرسول وذوي القربى والمساكين وابن السبيل
واليتامى. وبتحديد المصرف بموجب الآية الكريمة، يقيد عموم قوله (( يجعله حيث يحب)) في
رواية زرارة، فتكون النتيجة، أن الإمام يجعله حيث يجب ضمن الدائرة التي حددتها الآية
الكريمة.(1/7)
فالأساس والفكرة والطريقة كلها واضحة، في هذا الضوء القرآني.
وقد أفتى بعض الفقهاء كالشيخ الحر: بأن ضمان الدولة لا يختص
بالمسلم. فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن
الكسب، كانت نفقته من بيت المال. وقد نقل الشيخ الحر حديثاً عن
الإمام على: أنه مر بشيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ما هذا؟
فقيل له: يا أمير المؤمنين أنه نصراني. فقال الإمام: استعملتوه حتى إذا
كبر وعجز منعتموه!!. انفقوا عليه من بيت المال.
2_ التوازن الاجتماعي
حين عالج الإسلام قضية التوازن الاجتماعي، ليضع منه مبدءاً للدولة
في سياستها الاقتصادية، انطلق من حقيقتين أحداهما كونية. والأخرى
مذهبية.
أما الحقيقة الكونية فهي: تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف
الخصائص والصفات، النفسية والفكرية والجسدية. فهم يختلفون في الصبر
والشجاعة، وفي قوة العزيمة والأمل ويختلفون في حدة الذكاء وسرعة
البديهة وفي القدرة على الإبداع والاختراع. ويختلفون في قوة العضلات،
وفي ثبات الأعصاب، إلى غير ذلك من مقومات الشخصية الإنسانية التي
وزعت بدرجات متفاوتة على الأفراد.
وهذه التناقضات ليست في رأي الإسلام ناتجة عن أحداث عرضية في
تاريخ الإنسان، كما يزعم هواة العامل الاقتصادي، الذين يحاولون أن
يجدوا فيه التعليل النهائي لكل ظواهر التاريخ الإنساني. فإن من الخطأ محاولة
تفسير تلك التناقضات والفروق بين الأفراد، على أساس ظرف اجتماعي
معين، أو عامل اقتصادي خاص. لأن هذا العامل أو ذلك الظرف، لئن
أمكن أن تفسر على ضوئه الحالة الاجتماعية ككل، فيقال: إن التركيب
الطبقي الاقطاعي أو أن نظام الرقيق كان وليد هذا العامل الاقتصادي،
كما يصنع أنصار التفسير المادي للتاريخ.. فلا يمكن بحال من الأحوال أن
يكون العامل الاقتصادي، أو أي وضع اجتماعي، كافياً لتفسير ظهور
تلك الاختلافات والتناقضات الخاصة بين الأفراد. وإلا فلماذا اتخذ هذا(1/8)
الفرد دور الرقيق، وذلك الفرد دور السيد المالك؟! وأصبح هذا الفرد
ذكياً قادراً على الإبداع، والآخر خاملاً عاجزاً عن الإجادة؟! ولماذا
لم يتبادل هذان الفردان دور هما ضمن إطار النظام العام؟!.
ولا جواب على هذا السؤال بدون افتراض الأفراد مختلفين في مواهبهم
وإمكاناتهم الخاصة، قبل كل تفاوت اجتماعي بينهم في التركيب الطبقي
للمجتمع، لكي يفسر تفاوت الأفراد في التركيب الطبقي، واختصاص
كل فرد بدوره الخاص في هذا التركيب، على أساس الاختلاف في
مواهبهم وإمكاناتهم فمن الخطأ القول: بأن هذا الفرد أصبح ذكياً لأنه
احتل دور السيد في التركيب الطبقي وذاك أصبح خاملا لأنه قام بدور
العبد في هذا التركيب، لأنه لا بد لكي يحتل هذا دور العبد، ويحضى ذاك
بدور السيد أن يوجد فارق بينهما مكن السيد باقناع العبد بتوزيع الأدوار على
هذا الشكل. وهكذا ننتهي حتماً في التعليل إلى العوامل الطبيعية السيكولوجية
التي تنبع منها الاختلافات الشخصية، في مختلف الخصائص والصفات.
فالاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معين
فلا يمكن لنظرة واقعية تجاهلها، ولا لنظام اجتماعي الغاؤه في تشريع،
أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعية.
هذه هي الحقيقة الأولى.
وأما الحقيقة الأخرى في المنطق الإسلامي لمعالجة قضية التوازن فهي:
القاعدة المذهبية للتوزيع القائلة: بأن العمل هو أساس الملكية وما لها من
حقوق وقد مرت بنا هذه القاعدة، ودرسنا محتواها المذهبي بكل تفصل
في بحوث التوزيع.
لنجمع الآن هاتين الحقيقتين، لنعرف كيف انطلق الإسلام منهما
لمعالجة قضية التوازن؟
إن نتيجة الإيمان بهاتين الحقيقتين هي: السماح بظهور التفاوت بين
الأفراد في الثروة، فإذا افترضنا جماعة استوطنوا أرضاً وعمروها، وأنشأوا
عليها مجتمعاً، وأقاموا علاقاتهم على أساس أن العمل هو مصدر الملكية،
ولم يمارس أحدهم أي لون من ألوان الاستغلال للآخر.. فسوف نجد أن(1/9)
هؤلاء يختلفون بعد برهة من الزمن في ثرواتهم، تبعاً لاختلافهم في
الخصائص الفكرية والروحية والجسدية.. وهذا التفاوت يقره الإسلام،
لأنه وليد الحقيقتين اللتين يؤمن بهما معاًً. ولا يرى فيه خطراً على التوازن
الاجتماعي ولا تناقضاً معه. وعلى هذا الأساس يقرر الإسلام أن التوازن
الاجتماعي يجب أن يفهم في حدود الاعتراف بهاتين الحقيقتين.
ويخلص الإسلام من ذلك إلى القول: بأن التوازن الاجتماعي هو
التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة، لا في مستوى الدخل
والتوازن في مستوى المعيشة معناه: أن يكون المال موجوداً لدى أفراد
المجتمع ومتداولاً بينهم، إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام،
أي أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ
بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنه تفاوت
درجة، وليس تناقضاً كلياً في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين
مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.
وهذا لا يعني أن الإسلام يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة.
وإنما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة، هدفاً تسعى الدولة
في حدود صلاحياتها إلى تحقيقه والوصول إليه، بمختلف الطرق والأساليب
المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها.
وقد قام الإسلام من ناحيته بالعمل لتحقيق هذا الهدف، بضغط مستوى
المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف، وبضغط المستوى من أسفل، بالارتفاع
بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أرفع. وبذلك
تتقارب المستويات حتى تندمج أخيراً في مستوى واحد، قد يضم درجات
ولكنه لا يحتوي على التناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة.
وفهمنا هذا لمبدأ التوازن الاجتماعي في الإسلام يقوم على أساس
التدقيق في النصوص الإسلامية، الذي يكشف عن إيمان هذه النصوص
بالتوازن الاجتماعي كهدف، وإعطائها لهذا الهدف نفس المضمون الذي(1/10)
شرحناه وتأكيدها على توجيه الدولة إلى رفع معيشة الأفراد الذين يحيون
حياة منخفضة، تقريباً للمستويات بعضها من بعض، بقصد الوصول
أخيراً إلى حالة التوازن العام في مستوى المعيشة.
فقد جاء في الحديث: أن الإمام موسى بن جعفر ذكر بشأن تحديد
مسؤولية الوالي في أموال الزكاة: ((إن الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه
الذي وجهه الله له، على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين. يقسمها بينهم
بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق ولا تقية. فان فضل من ذلك شيء،
رد إلى الوالي. وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به، كان على الوالي
أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا)).
وهذا النص يحدد بوضوح: أن الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام
تحقيقه، ويلقي مسؤولية ذلك على ولي الأمر، هو أغناء كل فرد في المجتمع
الإسلامي.
وهذا ما نجده في كلام الشيباني، على ما حدّث عنه شمس الدين
السرخسي في المبسوط إذ يقول: ((على الإمام أن يتقي الله في صرف
الأموال إلى المصارف فلا يدع فقيراً إلا أعطاه حقه من الصدقات حتى يغنيه
وعياله. وإن احتاج بعض المسلمين، وليس في بيت المال من الصدقات
شيء، اعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج، ولا يكون
ذلك ديناً على بيت مال الصدقة لما بينا أن الخراج وما في معناه يصرف إلى
حاجة المسلمين)).
فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام ولي الأمر. ولكي
نعرف المفهوم الإسلامي للغنى، يجب أن نحدد ذلك على ضوء النصوص
أيضاً وإذا رجعنا إليها، وجدنا أن النصوص جعلت من الغنى الحد النهائي
لتناول الزكاة، فسمحت باعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنياً، ومنعت
إعطاءه بعد ذلك، كما جاء في الخبر عن الإمام جعفر ((تعطيه من الزكاة
حتى تغنيه)). فالغنى الذي يهدف الإسلام إلى توفيره لدى جميع الأفراد،
هو هذا الغنى الذي جعله حداً فاصلاً بين إعطاء الزكاة ومنعها.
ومرة أخرى يجب أن نرجع إلى النصوص، ونفتش عن طبيعة هذا(1/11)
الحد الذي يفصل بين إعطاء الزكاة ومنعها، لنعرف بذلك مفهوم الغنى
في الإسلام.
وفي هذه المرحلة من الاستنتاج يمكن الكشف عن طبيعة ذلك الحد،
في ضوء حديث أبي بصير، الذي جاء فيه: ((إنه سأل الإمام جعفر
الصادق عن رجل له ثمانمائة درهم، وهو رجل خفّاف، وله عيال كثير،
أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال له الإمام: يا أبا محمد أيربح من دراهمه
ما يقوت به عياله ويفضل؟. فقال أبو بصير: نعم. فقال الإمام: إن
كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت، فلا يأخذ الزكاة. وإن كان
أقل من نصف القوت، أخذ الزكاة. وما أخذه منها فضّه على عياله حتى
يلحقهم بالناس)).
ففي ضوء هذا النص نعرف أن الغنى في الإسلام هو انفاق الفرد على
نفسه وعائلته، حتى يلحق بالناس. وتصبح معيشته في المستوى المتعارف
الذي لا ضيق فيه ولا تقية.
وهكذا نخرج من تسلسل المفاهيم إلى مفهوم الإسلام عن التوازن
الاجتماعي، ونعرف أن الإسلام حين وضع مبدأ التوازن الاجتماعي،
وجعل ولي الأمر مسؤولاً عن تحقيقه بالطرق المشروعة.. شرح فكرته عن
التوازن، وبيّن أنه يتحقق بتوفير الغنى لسائر الأفراد. وقد استخدمت
الشريعة مفهوم الغنى هذا بجعله حداً فاصلاً بين جواز الزكاة ومنعها.
وفسرت هذا الحد الفاصل في نصوص أخرى: بيسر معيشة الفرد إلى
درجة تلحقه بمستوى الناس. وبذلك أعطتنا هذه النصوص المفهوم الإسلامي
للغنى، الذي عرفنا عن مبدأ التوازن أنه يتسهدف توفيره للعموم، ويعتبر
تعميمه شرطاً في تحقيق التوازن الاجتماعي. وهكذا تكتمل في ذهننا الصورة
الإسلامية المحددة لمبدأ التوازن الاجتماعي. ونعلم أن الهدف الموضوع
لولي الأمر، هو العمل لإلحاق الأفراد المتخلفين بمستوى أعلى على نحو يحقق
مستوى عاماً مرفهاً للمعيشة.
وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفّل
أيضاً بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة، لكي تمارس تطبيقها للمبدأ في حدود
تلك الإمكانات.(1/12)
ويمكن تلخيص هذه الإمكانات في الأمور التالية:
أولاً: فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرة، وينفق منها
لرعاية التوازن العام.
وثانياً: إيجاد قطاعات لملكية الدولة، وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك
القطاعات، لأغراض التوازن.
وثالثاً: طبيعة التشريع الإسلامي، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في
مختلف الحقول.
1_ فرض ضرائب ثابتة:
وهي ضرائب الزكاة والخمس. فان هاتين الفريضتين الماليتين، لم
تشرعا لأجل إشباع الحاجات الأساسية فحسب، وإنما شرعتا أيضاً لمعالجة
الفقر، والارتفاع بالفقر إلى مستوى المعيشة الذي يمارسه الأغنياء،
تحقيقاً للتوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام.
والدليل الفقهي على علاقة هذه الضرائب بأغراض التوازن، وإمكان
استخدامها في هذا السبيل، ما يلي من النصوص:
أ_ عن إسحاق بن عمار: ((قال: للإمام جعفر بن محمد أعطي
الرجل من الزكاة مئة؟ قال: نعم. قلت: مائتين؟. قال: نعم قلت:
ثلاثمائة؟ قال: نعم. قلت: أربعمائة؟ قال: نعم. قلت خمسمائة؟ قال:
نعم، حتى تغنيه))(1).
ب_ عن عبد الرحمن بن حجاج: ((قال: سألت الإمام موسى بن
جعفر (ع): عن الرجل يكون أبوه وعمه أو أخوه يكفيه مؤونته، أيأخذ
من الزكاة فيوسع بها، إن كانوا لا يوسعون عليه في كل ما يحتاج إليه؟
فقال: لا بأس))(2).
جـ_ عن سماعة: ((قال: سألت جعفر بن محمد (ع) عن الزكاة
هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال الإمام: نعم))(3).
د_ عن أبي بصير: ((أن الإمام جعفر الصادق (ع) تحدث عمن
تجب عليه الزكاة، وهو ليس موسراً. فقال: يوسع بها على عياله في
طعامهم وكسوتهم، ويبقي منها شيئاً يناوله غيرهم. وما أخذ من الزكاة
فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس))(4).
هـ_ عن اسحاق بن عمار: ((قال: قلت للصادق (ع) أعطي الرجل
__________
(1) الوسائل للحر العاملي جـ 6 ص 180.
(2) الوسائل جـ 6 ص 163.
(3) الوسائل للحر العاملي جـ 6 ص 161.
(4) نفس المصدر جـ 6 ص 159.(1/13)
من الزكاة ثمانين درهماً؟. قال نعم، وزده. قلت: أعطيه مئة؟. قال
نعم(1)واغنه. إن قدرت على أن تغنيه))(2).
و_ عن معاوية بن وهب: ((قال: قلت للصادق(ع) يروى عن
النبي: أن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي. فقال: لا تحل لغني))(3).
ز_ عن أبي بصير: ((قال: قلت للإمام جعفر الصادق (ع) أن
شيخاً من أصحابنا يقال له عمر، سأل عيسى بن أعين وهو محتاج، فقال
له عيسى بن أعين: أما أن عندي من الزكاة، ولكن لا أعطيك منها،
لأني رأيتك اشتريت لحماً وتمراً. فقال له عمر: إنما ربحت درهماً فاشتريت
بدانقين لحماً وبدانقين تمراً ثم رجعت بدانقين لحاجة.. (تقول الرواية
أن الإمام حينما استمع إلى قصة عمر وعيسى بن أعين، وضع يده على
جبهته ساعة، ثم رفع رأسه) وقال: إن الله تعالى نظر في أموال الأغنياء
ثم نظر في الفقراء، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به. ولو لم يكفهم
لزادهم. بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدق ويحج)) (4) (5).
حـ_ عن حماد بن عيسى: ((أن الإمام موسى بن جعفر (ع) قال
_ وهو يتحدث عن نصيب، اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس_:
أن الوالي يقسم بينهم على الكتاب والسنة، ما يستغنون به في سنتهم، فإن
فضل عنهم شيء، فهو للوالي. فان عجز أو نقص عن استغنائهم، كان
على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به))(6).
__________
(1) يلاحظ هنا أن القوة الشرائية للدرهم في عصر تلك النصوص، تزيد كثيراً على القوة
الشرائية للعملة النقدية، التي نطلق عليها اسم الدرهم أليوم.
(2) الوسائل للحر العاملي جـ 6 ص 179.
(3) نفس المصدر جـ 6 ص 159.
(4) نفس المصدر جـ 6 ص 201.
(5) والمرجع في فهم هذه النصوص أنها تستهدف السماح باعطاء الزكاة للفرد في الحدود
التي رسمتها بوصفه فقيراً، لا على أساس تطبيق سهم سبيل الله عليه. وهي لذلك يمكن أن تعطينا
المفهوم الإسلامي للفقير.
(6) أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني جـ 1 ص 540.(1/14)
وكتب ابن قدامة يقول: (قال الميموني: ذاكرت أبا عبد الله فقلت:
قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير وتكون له أربعون
شاة وتكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال: نعم، وذكر قول
عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا. وقال: في رواية
محمد بن الحكم إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو
أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة. وهذا قول الشافعي)(1).
وقد فسر ابن قدامة ذلك بقوله: (لأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها
فمن كان محتاجاً فهو فقير يدخل في عموم النص ومن استغنى دخل في عموم
النصوص المحرمة)(2).
فهذه النصوص تأمر باعطاء الزكاة وما إليها، إلى أن يلحق الفرد بالناس،
أو إلى أن يصبح غنياً، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب
وكسوة وزواج وصدقة وحج، على اختلاف التعابير التي وردت فيها.
وكلها تستهدف غرضاً واحداً، وهو تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي،
وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نحدد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام
بشكل عام. فالفقير هو من لم يظفر بمستوى من المعيشة، يمكنه من إشباع
حاجاته الضرورية وحاجاته الكمالية، بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة
في البلاد. أو هو بتعبير آخر: من يعيش في مستوى تفصله هوة عميقة عن
المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي. والغني من لا تفصله في
مستواه المعيشي هذه الهوة، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية
بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد، ودرجة رقيها المادي، سواء كان
يملك ثروة كبيرة أم لا.
وبهذا نعرف أن الإسلام لم يعط للفقر مفهوماً مطلقاً، ومضموناً ثابتاً
في كل الظروف والأحوال، فلم يقل مثلاً: إن الفقر هو العجز عن الإشباع
البسيط للحاجات الأساسية. وإنما جعل الفقر بمعنى عدم الإ لتحاق في المعيشة
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 2 ص 554.
(2) نفس المصدر ص 553.(1/15)
بمستوى معيشة الناس، كما جاء في النص. وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة
يتسع المدلول الواقعي للفقر لأن التخلّف عن مواكبة هذا الإرتفاع في مستوى
المعيشة يكون فقراً عندئذ. فإذا اعتاد الناس مثلاً على استقلال كل عائلة بدار،
نتيجة لاتساع العمران في البلاد، أصبح عدم حصول عائلة على دار مستقلة
لوناً من الفقر بينما لم يكن فقراً، حينما لم تكن البلاد قد وصلت إلى هذا
المستوى من اليسر والرخاء.
وهذه المرونة في مفهوم الفقر، ترتبط بفكرة التوازن الاجتماعي،
إذ ان الإسلام لو كان قد أعطى_ بدلاً عن ذلك_ مفهوماً ثابتاً للفقر،
وهو العجز عن الإشباع البسيط الحاجات الأساسية، وجعل من وظيفة
الزكاة. وما إليها علاج هذا المفهوم الثابت للفقر، لما أمكن العمل لإيجاد
التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة عن طريقها، ولا تسعت الهوة بين
مستوى عوائل الزكاة وما إليها، ومستوى المعيشة العام للأغنياء، الذي
يزحف ويرتفع باستمرار، تبعاً للتطورات المدنية في البلاد وزيادة الثروة
الكلية. فإعطاء مفاهيم مرنة للفقر والغنى، ووضع نظام الزكاة وغيرها لصالح
التوازن الاجتماعي العام.
وليس غريباً إعطاه مفهوم مرن لمدلول تعلق به حكم شرعي، كالفقر
الذي ربطت به الزكاة. ولا يعني هذا تغير الحكم الشرعي، بل هو حكم
ثابت لمفهوم خاص، والتغير إنما هو في واقع هذا المفهوم، تبعاً للظروف.
ونظير هذا مفهوم الطب مثلاً، فان الشرع حكم بوجوب تعلم الطب
كفاية على المسلمين، وهذا الوجوب حكم ثابت، تعلق بمفهوم خاص وهو
(الطب). ولكن ما هو مفهوم الطب؟ وما يعني تعلم الطب؟. إن تعلم
الطب هو دراسة المعلومات الخاصة، التي تتوفر في ظرف ما عن الأمراض
وطريقة علاجها. وهذه المعلومات الخاصة تنمو على مر الزمن، تبعاً لتطور
العلم. وتكامل التجربة. فما هي معلومات خاصة بالأمس، لا تعتبر
معلومات خاصة اليوم. ولا يكفي في طبيب اليوم أن يتقن ما كان يعرفه(1/16)
الأطباء الحادقون في عصر النبوة، ليكون ممتثلاً لحكم الله في تعلم الطلب،
فالمرونة في المفهوم إذن غير التغير في الحكم الشرعي. وإذا كان طبيب
اليوم غير طبيب عصر النبوة فمن المعقول أن يكون فقير اليوم في مفهوم
الإسلام غير فقير عصر النبوة أيضاً.
2_ ايجاد قطاعات عامة:
ولم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرعها لأجل إيجاد التوازن،
بل جعل الدولة مسؤولة عن الانفاق في القطاع العام لهذا الغرض. فقد جاء
في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع): أن على الوالي في حالة عدم
كفاية الزكاة، أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.
وكلمة: (من عنده) تدل على أن غير الزكاة من موارد بيت المال،
يتسع لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن، بإغناء الفقراء، ورفع مستوى
معيشتهم.
وقد شرح القرآن الكريم دور الفيء الذي هو أحد موارد بيت المال_
في إيجاد التوازن، فقال: ((ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون
دولة بين الأغنياء منكم )).
وقد مر بنا: أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن مصرف الفيء، فتضع
اليتامى والمساكين وابن سبيل، إلى صف الله والرسول وذي القربى.
وهذا يعني: أن الفيء معد للانفاق منه على الفقراء، كما هو معد للإنفاق
منه على المصالح العامة المرتبطة بالله والرسول. وتدل الآية بوضوح على أن
إعداد الفيء للإنفاق منه على الفقراء، يستهدف جعل المال متداولاً وموجوداً
لدى جميع أفراد المجتمع، ليحفظ بذلك التوازن الاجتماعي العام، ولا
يكون دولة بين الأغنياء خاصة.
والفيء في الأصل: ما يغنمه المسلمون من الكفار بدون قتال. وهو
ملك للدولة، أي النبي والإمام باعتبار المنصب. ولذلك يعتبر الفيء نوعاً
من الأنفال وهي الأموال التي جعلها الله ملكاً للمنصب الذي يمارسه النبي
والإمام كالأراضي الموات أو المعادن على قول.(1/17)
ويطلق الفيء في المصطلح التشريعي على الأنفال بصورة عامة، بدليل
ما جاء في حديث محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: ((الفيء
والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء، وقوم صولحوا أو
أعطوا بأيديهم وما كان من أرض خربة، أو بطون أودية، فهو كله من
الفيء.. الخ ))(1) فان هذا النص واضح في إطلاق اسم الفيء، على غير
ما يغنمه المسلمون من أنواع الأنفال. وفي ضوء هذا المصطلح التشريعي،
لا يختص الفيء حينئذ بالغنيمة المجردة عن القتال، بل يصبح تعبيراً عن
جميع القطاع الذي يملكه منصب النبي والإمام(2).
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نستنتج: أن الآية حددت حكم الأنفال
بصورة عامة، تحت إسم: الفيء وبذلك نعرف أن الأنفال تستخدم في
الشريعة لغرض حفظ التوازن، وضمان تداول المال بين الجميع، كما
تستخدم للمصالح العامة.
3_ طبيعة التشريع الإسلامي:
والتوازن العام في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات
الإسلامية في مختلف الحقول، فانها تساهم عند تطبيق الدولة لها، في حماية
التوازن.
ولا نستطيع أن نستوعب هنا مجموعة التشريعات ذات الصلة بمبدأ
التوازن، ونكشف عن أوجه الإرتباط بينها وبينه. وإنما يكفي أن نشير
هنا إلى محاربة الإسلام لاكتناز النقود، والغائه للفائدة، وتشريعة لأحكام
الإرث وإعطاء الدولة صلاحيات ضمن منطقة الفراغ المتروكة لها في التشريع
الإسلامي وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام، إلى غير
ذلك من الأحكام.
فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة، يقضي على دور المصارف
الرأسمالية في إيجاد التناقض والاخلال بالتوازن الاجتماعي وينتزع منها
قدرتها على اقتناص الجزء الكبير من ثروة البلاد الأمر الذي تمارسه تلك
المصارف في البلاد الرأسمالية عن طريق تشجيع الناس على الادخار،
__________
(1) الوسائل للحر العاملي جـ 6 ص 368.
(2) ولا بد أن يضاف إلى ذلك القول بالغاء خصوصية المورد في الآية بالفهم العرفي.(1/18)
واغرائهم بالفائدة.
وينتج عن الموقف الإسلامي طبيعياً عدم قدرة رأس المال الفردي غالباً،
على التوسع في حقول الإنتاج والتجارة، بالدرجة التي تضر التوازن، لأن
توسع الأفراد في مشاريع الإنتاج والتجارة، إنما يعتمد في مجتمع كالمجتمع
الرأسمالي على المصارف الرأسمالية، التي تمد تلك المشاريع بحاجتها إلى المال،
نظير فائدة محددة. فاذا منع الاكتناز وحرمت الفائدة، لم يتيسر للمصارف
أن تكدس في خزائنها النقد بشكل هائل، ولا أن تمد المشاريع الفردية
بالقروض. فتبقى النشاطات الخاصة على الصعيد الاقتصادي في الحدود
المعقولة التي تواكب التوازن العام. وتترك_ طبيعياً_ المشاريع الكبرى في
الإنتاج إلى الملكيات العامة.
وتشريع أحكام الإرث، الذي تقسم التركة بموجبه غالباً على عدد من
الأقرباء الورثة.. يعتبر ضماناً آخر للتوازن، لأنه يفتت الثروات باستمرار
ويحول دون تكدسها عن طريق تقسيمها على الأقرباء، وفقاً لما تقرره أحكام
الميراث. ففي نهاية كل جيل تكون ثروات الأفراد الأغنياء قد قسمت غالباً
على مجموعة أكبر عدداً منهم وقد يبلغ المالكون الجدد للثروة المتروكة
أضعاف ملاّكها الأولين.
والصلاحيات الممنوحة للدولة لملء منطقة الفراغ، لها أثر كبير في
حماية التوازن، كما سنجد في البحث المقبل.
وكذلك الغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام، يعبر عن
وضع نقطة انطلاق النشاط الاقتصادي، تؤدي بطبيعتها إلى التوازن، لأن
استخدام الثروات الطبيعية هو نقطة الانطلاق الرئيسية في النشاط الاقتصادي.
فإذا وضعت المباشرة شرطاً أساسياً، في تملك الثروات الخام من الطبيعة
كما يرى بعض الفقهاء، ومنع عن تسخير الآخرين في هذا السبيل... فقد
حدد توزيع تلك الثروات بشكل يحقق التوازن، ولم يسمح لنفر قليل
بالاستيلاء عليها، عن طريق تسخير الآخرين لخدمتهم في هذا المجال،
الأمر الذي يعصف بالتوازن، ويضع بذرة التناقض والاختلال منذ البداية.
3_ مبدأ تدخل الدولة(1/19)
تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية، يعتبر من المبادىء المهمة في الاقتصاد
الإسلامي، التي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والمشمول.
ولا يقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة،
بل يمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع. فهي تحرص من ناحية على
تطبيق العناصر الثابتة من التشريع، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة
وفقاً للظروف.
ففي مجال التطبيق تتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، لضمان تطبيق
أحكام الإسلام، التي تتصل بحياة الأفراد الاقتصادية. فتحول مثلا دون
تعامل الناس بالربا، أو السيطرة على الأرض بدون إحياء، كما تدرس
الدولة نفسها تطبيق الأحكام التي ترتبط بها مباشرة، فتحقق مثلاً الضمان
الاجتماعي والتوازن العام في الحياة الاقتصادية بالطريقة التي سمح الاسلام
باتباعها، لتحقيق تلك المبادىء.
وفي المجال التشريعي تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع
الإسلامي للدولة، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة، بالشكل الذي
يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ويحقق الصورة الإسلامية
للعدالة الاجتماعية.
وقد أشرنا في مستهل هذه البحوث إلى منطقة الفراغ هذه، وعرفنا أن
من الضروري دراستها خلال عملية الاكتشاف لأن الموقف الإيجابي للدولة
من هذه المنطقة، يدخل ضمن الصورة التي نحاول اكتشافها، بوصفه
العنصر المتحرك في الصورة الذي يمنحها القدرة على أداء رسالتها، ومواصلة
حياتها على الصعيدين النظري والواقعي في مختلف العصور.
لماذا وضعت منطقة فراغ؟
والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ هذه، تقوم على أساس: أن الإسلام
لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً، أو
تنظيماً مرحلياً، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال
التنظيم. وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور.
فكان لابد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، أن ينعكس تطور(1/20)
العصور فيها، ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدرة على التكيف وفقاً
لظروف مختلفة.
ولكي نستوعب تفصيلات هذه الفكرة يجب أن نحدد الجانب المتطور
من حياة الإنسان الاقتصادية، ومدى تأثيره على الصورة التشريعية التي
تنظم تلك الحياة.
فهناك في الحياة الاقتصادية علاقات الإنسان بالطبيعة، أو الثروة التي
تتمثل في أساليب إنتاجه لها، وسيطرته عليها وعلاقات الإنسان بأخيه
الإنسان، التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك.
والفارق بين هذين النوعين من العلاقات: أن الإنسان يمارس النوع
الأول من العلاقات، سواء كان يعيش ضمن جماعة أم كان منفصلا عنها،
فهو يشتبك على أي حال مع الطبيعة في علاقات معينة، يحددها مستوى
خبرته ومعرفته، فيصطاد الطير، ويزرع الأرض، ويستخرج الفحم،
ويغزل الصوف بالأساليب التي يجيدها. فهذه العلاقات بطبيعتها لا يتوقف
قيامها بين الطبيعة والإنسان على وجوده ضمن جماعة. وإنما أثر الجماعة على
هذه العلاقات، أنها تؤدي إلى تجميع خبرات وتجارب متعددة، وتنمية
الرصيد البشري لمعرفة الطبيعة، وتوسعة حاجات الإنسان ورغباته تبعاً
لذلك.
وأما علاقات الإنسان بالإنسان، التي تحددها الحقوق والامتيازات
والواجبات، فهي بطبيعتها تتوقف على وجود الإنسان ضمن الجماعة.
فما لم يكن الإنسان كذلك، لا يقدم على جعل حقوق له وواجبات عليه.
فحق الإنسان في الأرض التي أحياها، وحرمانه من الكسب بدون عمل عن
طريق الربا، والزامه بإشباع حاجات الآخرين من ماء العين التي استنبطها،
إذا كان زائداً على حاجته.. كل هذه العلاقات لا معنى لها إلا في ظل جماعة.
والإسلام_ كما نتصوره_ يميز بين هذين النوعين من العلاقات. فهو
يرى أن علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة، تتطور عبر الزمن، تبعاً
للمشاكل المتجددة التي يواجهها الإنسان باستمرار وتتابع، خلال ممارسته
للطبيعة، والحلول المتنوعة التي يتغلب بها على تلك المشاكل. وكلما تطورت(1/21)
علاقاته بالطبيعة ازداد سيطرة عليها، وقوة في وسائله وأساليبه.
وأما علاقات الإنسان بأخيه، فهي ليست متطورة بطبيعتها، لأنها
تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً، مهما اختلف اطارها ومظهرها. فكل جماعة
تسيطر خلال علاقاتها بالطبيعة على ثروة، تواجه مشكلة توزيعها، وتحديد
حقوق الأفراد والجماعة فيها، سواء كان الإنتاج لدى الجماعة على مستوى
البخار والكهرباء، أم على مستوى الطاحونة اليدوية.
ولأجل ذلك يرى الإسلام: أن الصورة التشريعية التي ينظم بها تلك
العلاقات، وفقاً لتصوراته للعدالة.. قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية
لأنها تعالج مشاكل ثابتة. فالمبدأ التشريعي القائل_ مثلاً_: إن الحق
الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل. يعالج مشكلة عامة
يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقدة، لأن طريقة توزيع
المصادر الطبيعية على الأفراد، مسألة قائمة في كلا العصرين.
والإسلام في هذا يخالف الماركسية، التي تعتقد أن علاقات الإنسان
بأخيه، تتطور تبعاً لتطور علاقاته بالطبيعة، وتربط شكل التوزيع بطريقة
الإنتاج، وترفض امكان بحث مشاكل الجماعة، إلا في إطار علاقتها
بالطبيعة، كما مر بنا عرضه ونقده في بحوث الكتاب الأول من اقتصادنا.
ومن الطبيعي_ على هذا الأساس_ أن يقدم الإسلام مبادئة النظرية
والتشريعية، بوصفها قادرة على تنظيم علاقات الإنسان بالإنسان في عصور
مختلفة.
ولكن هذا لا يعني جواز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقات
الإنسان بالطبيعة واخراج تأثير هذا الجانب من الحساب فان تطور قدرة
الإنسان على الطبيعة، ونمو سيطرته على ثرواتها، يطور وينمي باستمرار
خطر الإنسان على الجماعة، ويضع في خدمته باستمرار امكانات جديدة
للتوسع، ولتهديد الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعية.
فالمبدأ التشريعي القائل مثلا: إن من عمل في أرض، وأنفق عليها
جهداً حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره.. يعتبر في نظر الإسلام عادلاً،(1/22)
لأن من الظلم أن يساوى بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده، وغيره
ممن لم يعمل فيها شيئاً. ولكن هذا المبدأ بتطور قدرة الإنسان على الطبيعة
ونموها، يصبح من الممكن استغلاله. ففي عصر كان يقوم احياء الأرض
فيه على الأساليب القديمة، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء
إلا في مساحات صغيرة. وأما بعد أن تنمو قدرة الإنسان، وتتوفر لديه
وسائل السيطرة على الطبيعة، فيصبح بامكان أفراد قلائل ممن تؤاتيهم
الفرصة، أن يحيوا مساحة هائلة من الأرض. باستخدام الآلات الضخمة
ويسيطروا عليها، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة.
فكان لا بد للصورة التشريعية من منطقة فراغ، يمكن ملؤها حسب الظروف
فيسمح بالإحياء سماحاً عاماً في العصر الأول ويمنع الأفراد في العصر الثاني
_منعاً تكليفياً_ عن ممارسة الإحياء، إلا في حدود تتناسب مع أهداف
الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة.
وعلى هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ في الصورة التشريعية
التي نظم بها الحياة الاقتصادية، لتعكس العنصر المتحرك وتواكب تطور
العلاقات بين الإنسان والطبيعة، وتدرأ الأخطار التي قد تنجم عن هذا
التطور المتنامي على مر الزمن.
منطقة الفراغ ليست نقصاً:
ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال
من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استيعاب الصورة.
وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة
الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها
بمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية
منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف. فإحياء الفرد للأرض مثلا
عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولولي الأمر الحق المنع عن ممارستها، وفقاً
لمقتضيات الظروف.
الدليل التشريعي:
والدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه، لملء منطقة الفراغ،(1/23)
هو النص القرآني الكريم: (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم)).
وحدود منطقة الفراغ التي تتسع لها صلاحيات أولي الأمر، تضم في
ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح تشريعياً بطبيعته فأي نشاط وعمل
لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه.. يسمح لولي الأمر باعطائه
صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته،
أصبح حراماً، وإذا أمر به، أصبح واجباً. وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً
تحريمها بشكل عام، كالربا مثلاً، فليس من حق ولي الأمر، الأمر بها. كما
أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه، كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن
لولي الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي
لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة. فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في
الحياة الاقتصادية هي التي تشكّل منطقة الفراغ.
نماذج:
وفي النصوص المأثورة نماذج عديدة، لاستعمال ولي الأمر صلاحياته
في حدود منطقة الفراغ. وهذه النماذج تلقي ضوءاً على طبيعة المنطقة،
وأهمية دورها الإيجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية. ولهذا نستعرض فيما
يلي قسماً من تلك النماذج، مدعماً بالنصوص:
أ_ جاء في النصوص: أن النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ.
فعن الإمام الصادق أنه قال: (( قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب
النخل إنه لا يمنع فضل ماء وكلاء)).
وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً. وإذا جمعنا إلى
ذلك رأى جمهور الفقهاء القائل: بأن منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه
من ماء وكلاء، ليس من المحرمات الأصيلة في الشريعة، كمنع الزوجة
نفقتها وشرب الخمر.. أمكننا أن نستنتج: أن النهي من النبي صدر عنه،
بوصفه ولي الأمر.
فهو ممارسة لصلاحية في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف
لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية،(1/24)
فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين، تشجيعاً
للثروات الزراعية والحيوانية.
وهكذا نرى أن بذل فضل الماء والكلاء فعل مباح بطبيعته وقد ألزمت
به الدولة إلزاماً تكليفياً، تحقيقاً لمصلحة واجبة.
ب_ ورد عن النبي (ص) النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها.
ففي الحديث عن الصادق (ع): أنه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسماة
من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها؟ فقال: ((قد اختصموا في ذلك
إلى رسول الله (ص)، فكانوا يذكرون ذلك فلما رآهم لا يدعون الخصومة،
نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرّمه، ولكنه فعل ذلك من
أجل خصومتهم)). وفي حديث آخر: أن رسول الله أحل ذلك فاختلفوا
فقال: لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها.
فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها وقد أباحتها الشريعة
الإسلامية بصورة عامة. ولكن النبي نهى عن هذا البيع بوصفه ولي الأمر،
دفعاً لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات.
جـ_ ونقل الترمذي عن رافع بن خديج أنه قال: نهانا رسول الله (ص)
عن أمر كان لنا نافعاً، إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها
أو بدراهم، وقال: إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها.
ونحن حين نجمع بين قصة هذا النهي، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة
كراء الأرض في الشريعة بصورة عامة، ونضيف إلى ذلك نصوصاً كثيرة
واردة عن الصحابة، تدل على جواز إجارة الأرض.. نخرج بتفسير معين
للنص الوارد في خبر رافع بن خديج وهو أن النهي كان صادراً من النبي
بوصفه ولي الأمر وليس حكماً شرعياً عاماً.
فإجارة الأرض بوصفها عملاً من الأعمال المباحة بطبيعتها، يمكن النبي
المنع عنها باعتباره ولي الأمر منعاً تكليفياً، وفقاً لمقتضيات الموقف.
د_ جاءت في عهد الإمام عليه السلام إلى مالك الاشتر أوامر مؤكدة
بتحديد الأسعار، وفقاً لمقتضيات العدالة. فقد تحدث الإمام إلى واليه عن(1/25)
التجار، وأوصاه بهم، ثم عقب ذلك قائلاً: ((واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في
البياعات. وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار
فان رسول الله (ص) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل،
وأسعار لا تجحف بالفريقين في البائع والمبتاع )).
ومن الواضح فقهياً: أن البائع يباح له البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع
الشريعة منعاً عاماً عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. فأمر الإمام بتحديد
السعر، ومنع التجار عن البيع بثمن أكبر.. صادر منه بوصفه ولي الأمر.
فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة
الاجتماعية التي يتبناها الإسلام.(1/26)