بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فهذا بحثٌ يتعلق بمسألة من مسائل الحج ، وهي مسألة ( ابتداء وقت رمي جمرة العقبة ) جمعت فيه ما تيسَّر من الأحاديث الواردة في هذه المسألة مما استدل به أهل العلم ؛ وذكرت اختلاف الفقهاء مع بيان دليل كل قول ؛ ثم ترجيح ما ظهر لي في هذه المسألة .
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم وأن يبارك فيه وينفع به .
إعداد / عبدالله بن جابر آلحمادي
الحديث الأول : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : بعثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أُغَيْلِمة بني عبد المطلب على حمُرات يَلْطَح أفخاذَنا ويقول : أُبَيْنِيَّ لاترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس .
هذا الحديث رُوي عن عبد الله بن عباس "رضي الله عنهما " على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : بذكر التعجيل في الدفع من مزدلفة للضعفة ؛ دون ذكر النهي عن الرمي قبل طلوع
الشمس .
الوجه الثاني : بذكر التعجيل في الدفع من مزدلفة للضعفة ؛ مع النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس
وفي بعضها النهي عن الرمي قبل طلوع الصبح .
الوجه الثالث : بذكر التعجيل في الدفع من مزدلفة ؛ ثم ذكر الرمي مع الفجر .
أما الوجه الأول ؛ فقد رواه عن ابن عباس "رضي الله عنه " جمعٌ ، وهم :
1/ عبيد الله بن أبي يزيد . وقد أخرج حديثه البخاري ( 1678وَ1856 ) ومسلم ( 1293 ) وأبو
داود ( 1939 ) والنسائي ( 5/ 261 ) وابن خزيمة ( 2872 ) وابن
حبان ( 3865 ) وأبو داود الطيالسي ( 2758 ) وأحمد في مسنده
( 1939 ) وأبو يعلى ( 2386 ) وغيرهم من طرق عن عبيد الله بن أبي
يزيد عن ابن عباس به .
2/ عكرمة مولى ابن عباس . وأخرج حديثه البخاري ( 1677 ) و الترمذي ( 892 ) و ابن حبان
( 3862 ) و أحمد ( 2204 ) و البيهقي ( 5/ 123 ) وغيرهم من
طريق عكرمة عن ابن عباس به .(1/1)
3/ عطاء بن أبي رباح . وقد أخرج حديثه مسلم ( 1293 ) و النسائي (5/ 261 ) و ابن حبان
و ابن ماجه ( 3026 ) و ابن الجارود ( 472 ) وابن خزيمة ( 2870 )
و الحميدي ( 464 ) و أحمد ( 1920 ) من طريق عمرو بن دينار عن
عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس به .
وأما الوجه الثاني ؛ فقد رواه عن ابن عباس "رضي الله عنه " جماعة ، وهم :
الأول / الحسن بن عبد الله العرني . وقد أخرج حديثه أبو داود ( 1940 ) و النسائي ( 5/ 270 )
وابن ماجه ( 3025 ) و ابن حبان ( 3869 ) و الحميدي
( 470 ) و أحمد ( 2841 و 3192 ) والبيهقي في الكبرى
( 5/131 - ) والطبراني في الكبير ( 12699و 12703 )
والطحاوي في المشكل ( 3500وَ 3502) وغيرهم من طرقٍ
عن سفيان الثوري .
وابن ماجه ( 3025 ) والحميدي ( 470 ) وأحمد (2082)
والطحاوي في المشكل ( 3501) والبيهقي في المعرفة ( 7/311)
من طريق مسعر .
واخرجه الطبراني في الكبير ( 12702 ) والبغوي في الجعديات
(2103 ) من طريق قيس بن الربيع .
والطبراني في الكبير (12702) من طريق يحيى بن سلمة بن كُهيل
وفي ( 12701 ) من طريق أبي شيبة .
والبيهقي في الكبرى ( 5/ 132 ) من طريق منصور بن المعتمر .
كلهم ( سفيان الثوري وَ مسعر وَ قيس بن الربيع وَ يحيى بن سلمة بن كُهيل
وأبو شيبة وَ منصور بن المعتمر ) عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن
عباس به .
وقد اختلف في هذا الوجه على ( سلمة بن كهيل ) وعلى أحد الرواة دونه :
فأولاً / روى هذا الحديث منصور بن المعتمر ، واختلف عليه :
1/ فرواه جرير بن عبد الحميد عن منصور عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن سعيد بن
جبير أو عن الحسن البصري عن ابن عباس .
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( 4/407 ) عن جرير بن عبد الحميد عن منصور به .
والطحاوي في المشكل ( 3494 ) من طريق جرير عن منصور عن سلمة عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس .(1/2)
2/ ورواه إبراهيم بن طهمان عن منصور عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس .
أخرجه البيهقي في الكبرى ( 5/132 ) من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور به .
والوجه الأول أرجح ، وذلك أن جريراً أثبت في منصور من إبراهيم ، بل قال الدار قطني : " أثبت أصحاب منصور : الثوري وشعبة وجرير الضبي " ( شرح العلل 2/ 538 ) .
بالإضافة إلى أن إبراهيم بن طهمان وإن كان ثقةً إلا أنه قد جاء عن بعض الأئمة ما يفيد أن في حفظه شيئاً ، فقد قال ابن المبارك عنه وعن أبي حمزة السكَّري : " كانا صحيحي الكتاب "
قال ابن رجب معلقاً على قول ابن المبارك : "وهذا يدل على أن حفظهما كان فيه شيءٌ عنده "
( شرح العلل 2/601 ) .
وقد يقال : إن هذا الاختلاف من منصور نفسه ، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك .
ثانياً / روى هذا الحديث سلمة بن كهيل ، واختُلف عليه :
1/ فرواه ( الثوري وَ مسعر وَ قيس بن الربيع وَ يحي بن سلمة وَأبو شيبة وَ منصور بن المعتمر
في أحد الوجهين عنه ) كلهم عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس به .
وقد سبق تخريج ذلك .
2/ ورواه ( منصور بن المعتمر في الوجه الآخر عنه ) عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني
عن سعيد بن جبير أوعن الحسن البصري عن ابن عباس به ، وسبق تخريجه .
والراجح الوجه الأول ؛ وذلك أنه قد اتفق على روايته جماعة بعضهم ثقات أثبات كالثوري ومسعر ، بينما تفرد بالوجه الآخر ( منصور بن المعتمر ) وقد اختلف عليه ، ومنصور وإن كان ثقةً حافظا إلا أن في روايته عن أمثال سلمة بن كهيل اضطراب ، كما نص على ذلك الإمام أحمد حيث قال :
" منصور إذا نزل إلى المشايخ اضطرب ... " ثم ذكر من هؤلاء المشايخ ( سلمة بن كهيل ) .
( شرح العلل 2 / 649 ) .
ومما يؤكد اضطراب منصور في هذا الحديث عن سلمة بن كهيل مخالفته للثوري ومسعر وغيرهما .(1/3)
وهذا الطريق من وجهه الراجح مداره على ( الحسن العرني عن ابن عباس ) ولم يسمع الحسن العرني من ابن عباس كما نص على ذلك الإمام أحمد ( العلل لعبد الله بن أحمد 1 / 143 ) .
والإمام البخاري ( التاريخ الأوسط 1 / 440 ) وغيرهما .
الثاني / الحكم بن عتيبة . وقد أخرج حديثه الإمام أحمد في مسنده ( 2239 ) والبخاري في التاريخ
الأوسط ( 1/ 438 ) كلاهما عن محمد بن جعفر ( غندر ) عن شعبة عن الحكم عن ابن
عباس .
وقد اختلف في هذا الحديث على ( الحكم بن عتيبة ) وعلى أحد الرواة دونه :
فأولاً / روى هذا الحديث شعبة بن الحجاج ، واختلف عليه :
1/ فرواه محمد بن جعفر ( غندر ) عن شعبة عن الحكم عن ابن عباس ، وقد سبق تخريجه .
2/ وروي عن شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس .
أخرجه البيهقي في الكبرى ( 5 / 132 ) والطحاوي في المشكل ( 3492 ) من طريق
خالد بن الحارث .
والبخاري في التاريخ الأوسط ( 1/ 439 ) من طريق معاذ بن معاذ .
كلاهما ( خالد بن الحارث وَ معاذ بن معاذ ) عن شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس .
و ( خالد وَ معاذ ) ثقتان حافظان إلا أن ( محمد بن جعفر ) أخصُّ بشعبة منهما .
وعلى كل حال فالوجهان – فيما يظهر – ثابتان عن شعبة .
ثانياً / روى هذا الحديث الحكم بن عتيبة واختُلف عليه :
1/ فرواه شعبة بن الحجاج ( في وجهٍ ثابتٍ عنه ) عن الحكم بن عتيبة عن ابن عباس ، وقد سبق
تخريجه .
2/ ورواه جماعة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس ، وهم :
( شعبة بن الحجاج في وجهٍ آخرَ ثابتٍ عنه ) وقد سبق تخريجه .
وَ ( الأعمش ) وقد أخرج روايته الإمام أحمد في مسنده ( 2507 ) و ( 3003) والطحاوي
في شرح معاني الآثار ( 2 / 217 ) وفي المشكل ( 3493 وَ 3497 ) والبخاري في التاريخ
الأوسط ( 1/ 439 ) من طرق عن الأعمش عن الحكم به .
وَ ( حجاج بن أرطأة ) وأخرج روايته الطبراني في الكبير ( 12073 ) والطحاوي في شرح(1/4)
المعاني ( 2/ 217 ) من طريق حجاج عن الحكم به .
ولفظ الطحاوي " لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا " .
وَ ( ابن أبي ليلى ) وأخرج روايته الطبراني في الكبير ( 12073 ) والطحاوي في شرح المعاني
( 2/ 217 ) من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم به .
والذي يظهر بعد هذا العرض أن كلا الوجهين ثابتان عن الحكم بن عتيبة ، وذلك أن شعبة قد رُوي عنه الوجهان وتابعه على الوجه الثاني جمعٌ من الرواة ، وإن كان كلُّ من تابعه لا يسلم من مقال ، إما مطلقاً ( كابن أبى ليلى وَحجاج ) وكذا ( المسعودي ) ولكن الأقرب توثيقه ، وإما في روايته عن الحكم ( كالأعمش ) فقد قال علي بن المديني : " الأعمش كثير الوهم في أحاديث هؤلاء الصغار مثل الحكم ... ".
وقال يعقوب بن شيبة : " الحكم بن عتيبة هو من صغار شيوخ الأعمش وليس من صغار شيوخ شعبة " . ( شرح العلل 2/ 646- 648 )
ولكن ، رواية هؤلاء مع ما سبق تقريره من صحة الوجهين عن شعبة يؤكدان ثبوتَ الوجهين عن الحكم .
وقد جزم الإمام البخاري بكون هذا الوجه مضطرباً ولم يحدِّد ممن وقع الاضطراب ( التاريخ الأوسط 1/ 440 ) ، وعلى كل حال فكلا الوجهين له علة :
أما طريق ( الحكم بن عتيبة عن ابن عباس ) فإن الحكم لم يسمع من ابن عباس ، وقد جزم الأئمة بعدم سماعه من علقمة وغيره فكيف بابن عباس ... ( المراسيل لابن أبي حاتم ص 48 ) .
وأما طريق ( الحكم عن مقسم عن ابن عباس ) فإن الحكم لم يسمع من مقسم إلا أحاديث معدودة نصَّ عليها الأئمة وليس هذا منها ( شرح العلل 2/739 ) .
الثالث / طاووس بن كيسان . وقد أخرج حديثه الإمام أحمد في مسنده ( 2459 ) من طريق شريك
ابن عبد الله وَليث بن أبي سليم عن طاووس عن ابن عباس .
وهذا الوجه سنده ضعيف لأجل ( شريك وَليث ) فكلاهما ضعيفان .
الرابع / عطاء بن أبي رباح . وقد أخرج حديثه أبو داود ( 1941 ) والنسائي ( 5/272 )
والطحاوي في المشكل ( 3499 ) من طريق حبيب بن أبي ثابت عن(1/5)
عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس .
وهذا الوجه منكرٌ لأمرين :
أولاً / أن رواية حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح غيرُ محفوظة
قاله يحيى القطان و العقيلي وغيرهما ( شرح العلل 2/ 651 وَ 654 ) .
ثانياً / أنَّ عمرو بن دينار قد روى هذا الحديث عن عطاء عن ابن
عباس ، ولم يذكر النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس ، وعمرو بن
دينار ثبتٌ في عطاء ، فتفرد حبيب بهذه الزيادة عن عطاء يدل على
كونها غير محفوظة .
الخامس / كريب بن أبي مسلم . وقد أخرج حديثه البيهقي في الكبرى ( 5/132 ) والطحاوي في
شرح معاني الآثار ( 2/ 216 ) وفي المشكل ( 3503 )من طريق
فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس .
ولفظه : " لا ترموا الجمرة إلا مصبحين " .
وسنده ضعيف لأجل ( فضيل بن سليمان ) .
وأما الوجه الثالث ؛ فقد رواه عن ابن عباس "رضي الله عنه " :
شعبة بن دينار مولى ابن عباس . وقد أخرج روايته أحمد في المسند ( 2935وَ 2936 وَ 3304 )
والطبراني في الكبير (12220) والطحاوي في شرح المعاني
( 2/215) والبخاري في التاريخ الأوسط ( 1/ 440 ) وابن
عدي في الكامل ( 4 / 1340 ) من طريق ابن أبي ذئب عن شعبة
ابن دينار عن ابن عباس .
وَ ( شعبة ) ضعيف ؛ وقد تفرد بهذا اللفظ عن ابن عباس مما يدل
على نكارة روايته هذه .
وقد صحح حديث ابن عباس " رضي الله عنه " في النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس ؛ الترمذي وابن حبان و ابن القيم ( زاد المعاد 2/ 248 ) وابن حجر ( الفتح 3/ 674 ) والألباني في
( الإرواء 4/ 272 ) وغيرهم .
ولكن ... من خلال التخريج السابق وبيان الأوجه التي رويت في هذا الحديث ؛ يتبين لي :
1/ أن رواية حديث ابن عباس في الرمي مع الفجر لاتصح ؛ بل هي رواية ضعيفة جداً .
2/ أن رواية حديث ابن عباس في النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس ضعيفة ؛ ولكنها
مع ضعفها أقوى من رواية الرمي مع الفجر .
3/ أن الثابت في حديث ابن عباس هو التعجيل للضعفة في الدفع من مزدلفة .(1/6)
وقد أشار الإمام البخاري " رحمه الله " في التاريخ الأوسط ( 1/ 441 ) إلى أن حديث ابن عباس "رضي الله عنه" في النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس مرجوحٌ وأن الأحاديث الواردة في جواز الرمي قبل طلوع الفجر أكثر وأصح .
وكذلك أشار ابن خزيمة في صحيحه ( 4/ 280 ) إلى عدم قوة حديث ابن عباس في النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس .
بيان بعض المفردات الواردة في الحديث :
قوله " أُغَيْلِمَة " تصغير أَغْلِمَة قياساً ولم تجيء ؛ كما أن أُصَيْبية تصغير أَصبية ولم تُستعمل ؛ إنما المستعمل صِبْية وغِلْمة .
قوله " حُمُرات " جمع حمر ؛ والحمر جمع حمار . ( جامع الأصول 3/260 ) .
قوله " يَلْطَح " قال أبو داود عقب روايته للحديث : " اللطح : الضرب اللين " .
قوله " أُبَيْنِيَّ " اختلف في هذه اللفظة ، فقيل : إنها تصغير ( أََبْنَى ) كأَعمى وأُعيمى ، ويكون ضبطها حينئذٍ ( أُبَيْنَى ) ، قال ابن الأثير : " وهو ( يعني : أَبنْى ) جمع ابن " ( جامع الأصول 3/260 ) .
وقال أبو عبيد : هو تصغير ( بَنِيَّ ) جمعُ ابنٍ مضافاً إلى النفس ، وبناءً على هذا يكون ضبط اللفظ الوارد في الحديث ( أُبَيْنِيَّ ) . ( النهاية لابن الأثير 1/ 17 ) وَ ( شرح السيوطي على النسائي 5/ 271 ) .
الحديث الثاني : عن عائشة " رضي الله عنها " قالت : أرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ؛ ثم مضت فأفاضت ؛ وكان ذلك اليومُ اليومَ الذي يكون رسول - صلى الله عليه وسلم - عندها .
هذا الحديث وقع فيه اختلافٌ في سنده ومتنه ، فأما الاختلاف في سنده فلأن مدارَ الحديث على
(هشام بن عروة ) وقد اختلف عليه وعلى أحد الرواة عنه :
فأولاً / روى هذا الحديث سفيان بن عيينة واختلف عليه :
1/ فرواه ( أبو عبد الله المخزومي ) عن ابن عيينة عن هشام عن أبيه عن أم سلمة .
ذكره الدارقطني في علله ( 5/ 177/مخطوط ) .(1/7)
2/ ورواه ( أبو عبد الله الحميدي ) عن ابن عيينة عن هشام عن أبيه عن أم سلمة 0
ذكره الدارقطني أيضاً ( 5/ 177 /مخطوط ).
والوجه الثاني أرجح ؛ فإن الحميديَّ ثقة حافظ وهو ثبت في ابن عيينة ؛ وأما أبو عبد الله المخزومي وهو ( محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المسيب ) فهو ثقةٌ لكنه دون الحميديِّ بكثير .
ثانياً / روى هذا الحديث هشام بن عروة ، واختلف عليه :
1/ فرواه ابن عيينة ( في وجهٍ مرجوح عنه ) عن هشام عن أبيه عن أم سلمة .
2 / ورواه ابن عيينة ( في الوجه الراجح عنه ) عن هشام عن أبيه مرسلاً ؛ وقد توبع ابنُ عيينة
على هذا الوجه ، تابعه عليه :
( داود العطار وَعبد العزيز الدراوردي ) وأخرج حديثهما الشافعي في الأم ( شفاء العي
1/ 567 ) ومن طريقه البيهقي في الكبرى ( 5/ 133 ) والمعرفة ( 7/ 311 ) .
و َ( حماد بن سلمة ) وأخرج حديثه الطحاوي في شرح معاني الآثار ( 2/218 )
و َ( وكيع بن الجراح ) ذكره عنه الإمام أحمد كما في شرح معاني الآثار ( 2/221 )
وَ زاد المعاد ( 2/249 ) .
وَ ( حبيب المعلم ) ذكره الدارقطني في علله ( 5/ 177/ مخطوط )
وَ ( الثوري ) ذكره الدار قطني في علله ( 5 / 177 / مخطوط ) والبيهقي في الخلافيات
( مختصر الخلافيات للخمي 3/ 213 ) .
وَ ( معمر بن راشد ) ذكره ابن عبد البر في الاستذكار ( 13/ 55) .
كلهم رووه عن هشام عن أبيه مرسلاً .
3/ ورواه الضحاك بن عثمان عن هشام عن أبيه عن عائشة . وقد أخرج روايته أبو داود
( 1942 ) والبيهقي في الكبرى ( 5/ 133 ) والمعرفة ( 7/ 317 ) من طريق ابن أبي
فديك عن الضحاك به .
4/ ورواه أبو معاوية الضرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم
سلمة .
أخرجه الطحاوي في شرح المعاني ( 2 / 221 ) من طريق الإمام أحمد .(1/8)
والبيهقي في الكبرى ( 5 / 133 ) من طريق يحيى بن يحيى ، وفي المعرفة ( 7 / 312 ) من طريق سعيد بن سليمان ، ثلاثتهم عن أبي معاوية عن هشام به .
ولفظهم : " أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة " .
وأخرجه الطحاوي في شرح المعاني ( 2/ 219 ) والبيهقي في المعرفة ( 7 / 312 ) من طريق أسد ابن موسى عن أبي معاوية عن هشام به .
ولفظه : " أمرها يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة " .
والفرق بين اللفظين : أن الأمر على رواية الجماعة كان قبل يوم النحر .
وعلى رواية أسد ، كان توجيه الأمر يوم النحر ، على أن توافيه صلاة الصبح
من اليوم الحادي عشر .
وقد رجح الطحاوي كلا اللفظين في شرح المعاني ( 2 / 220 ) ومختصر اختلاف العلماء ( 2 / 151 ) وجعل رواية ( أسد بن موسى ) مفسِّرة لرواية الجماعة .
وخالفه البيهقي في معرفة السنن والآثار ( 7 / 313 ) فجعل رواية أسد مرجوحة لمخالفتها رواية الجماعة ، ونقل البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال عن الرواية المشهورة :
" هكذا رواه جماعة عن أبي معاوية " .
ولعل قول البيهقي في ترجيح رواية الجماعة على رواية أسد هو الصواب ، فإن أسد بن موسى قد تفرد بهذا اللفظ ، وخالفه غيره من الرواة عن أبي معاوية ، كما أن عامة من روى الحديث عن هشام ابن عروة إنما رواه بلفظ قريب من اللفظ المشهور عن أبي معاوية .
وبعد بيان هذه الأوجه ، يظهر أن الوجه الثاني هو الراجح ، وذلك لاتفاق جمع من الثقات عليه وبعضهم أئمة حفاظ ، وأما الوجه الأول فقد سبق بيان أنه مرجوح .
وأما الوجه الثالث فقد رواه ( الضحاك بن عثمان ) وهو " صدوق " ، ولكنه تفرد بهذا الوجه عن هشام .
وتفرده عن هشام بن عروة مُريب ، فكيف وقد خالفه أئمة ثقات ؟! فهذا الوجه ظاهر الشذوذ ويبدو أن الضحاك قد سلك فيه الجادة .
وأما الوجه الرابع ، فقد رواه أبو معاوية ( محمد بن خازم الضرير ) وهو ثقة ، لكنه خالف جمعاً من(1/9)
الثقات الأثبات ، بل بعضهم ذُكر أنه ( من أثبت الرواة عن هشام بن عروة ) كالثوري ، قاله الدارقطني كما في شرح العلل ( 2 / 488 ) بالإضافة إلى أن الإمام أحمد قد تكلم في مرويات أبي معاوية عن هشام بن عروة ( شرح العلل 2 / 488 ) .
ولذلك فالذي يبدو أن الوجه الثاني هو الصواب ، وقد رجحه الإمام أحمد حيث قال :
" لم يسنده غيره ( يعني أبا معاوية ) وهو خطأ " زاد المعاد ( 2 / 249) .
وممن رجح الإرسال كذلك ، الدارقطني في العلل ( 5 / 177 / مخطوط ) .
أما الاختلاف في متن هذا الحديث ، فلأن هذا الحديث قد رُوي بألفاظ :
الأول / لفظ أبي داود ، وهو اللفظ المذكور ص8 ، وممن روى هذا اللفظ ( الضحاك ابن عثمان )
عن هشام عن أبيه عن عائشة .
ونحوه رواية ( حماد بن سلمة ) عن هشام عن أبيه مرسلاً .
الثاني / أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة .
وممن رواه كذلك ( أبو معاوية ) عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة .
وكذا رواية ( الثوري ) عن هشام عن أبيه مرسلاً ، هي بنحو هذا اللفظ .
الثالث / أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة أن تعجل الإفاضة من جمع حتى ترمي الجمرة وتوافي صلاة
الصبح بمكة ، وكان يومَها فأحبَّ أن توافيَه .
وممن رواه كذلك ( داود العطار وَ الدراوردي ) عن هشام عن أبيه مرسلاً .
ولا نكارة في الوجهين الأول والثاني ، وإنما النكارة في الوجه الثالث ، حيث جاء فيه : " فأحبَّ أن توافيَه " . إذ كيف توافي أمُّ سلمة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة صلاة الصبح من يوم النحر ، وهو قد صلى في مزدلفة بالإجماع ؟!!
قال الإمام أحمد : " وما يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ؟! يُنكر ذلك ".
وقال أيضاً :" فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته . فقال : ( عن هشام عن أبيه : أمرها أن توافي ) وليس توافيه . قال : وبين ذين فرق !!(1/10)
قال : وقال لي يحيى : سَلْ عبد الرحمن ( يعني ابن مهدي ) فسألته فقال : هكذا قال
سفيان عن هشام عن أبيه ".
يُنظر ( شرح معاني الآثار 2 / 221 ) فقد نقل كلام الإمام أحمد كاملاً من طريق الأثرم وَ زاد المعاد ( 2 / 249 ) وَ ( الجوهر النقي المطبوع مع السنن الكبرى 5 / 132 ) .
وقد صحح الحديثَ الإمامُ البيهقي ( المعرفة 7 / 316 - ) وَ النووي ( المجموع 8 / 166 ) وابن حجر كما في ( الدراية 2 / 24 وَ التلخيص 2 / 258 ) واحتج به الطحاوي ( مختصر اختلاف العلماء 2 / 151 ) .
قال الإمام البيهقي :" أبو معاوية حجة ، قد أجمع الحفَّاظ على قبول ما ينفرد به ، ثم قد وصله
الضحاك بن عثمان وهو من الثقات الأثبات ". وساق رواية الضحاك ... ثم
قال : " ... وهذا إسنادٌ لا غبار عليه ، وكأنَّ عروة حمله من الوجهين جميعاً ،
فكان هشام يرسله مرة ويسنده أخرى ، وهذه عادتهم في الرواية " . أ.هـ
( معرفة السنن والآثار 7 / 316 - ) .
وفي كلام الإمام البيهقي نظر !! فإن أبا معاوية وإن كان ثقةً إلا أنه متكلَّم في روايته عن هشام بن
عروة ، وقد خالفه في روايته جمعٌ من الرواة بعضهم أئمة حفاظ كالثوري وَ وكيع .
وأما رواية الضحاك بن عثمان فإسنادها مخالف لإسناد أبي معاوية .
وأما قوله :" وكأنَّ عروةَ حمله من الوجهين جميعاً " . فهذا ممكن ولكن في غير هذا
الحديث ، فقد تفرَّد الضحاك بن عثمان بوجهٍ و أبو معاوية بوجهٍ أخر وخالفهما
عددٌ من الرواة الثقات ، منهم (الثوري وَ وكيع وَمعمر وَداود العطار وَحبيب المعلم)
فكيف يقال بصحة تلك الأوجه ؟!
ولذلك فالذي يظهر أن هذا الحديث لا يصح ، إذ الصحيح في إسناده أنه مرسل ، بالإضافة إلى ما وقع في متنه من النكارة ، ولو قيل بسلامة المتن من النكارة أو أمكن توجيهه ، فيبقى الحديث معلولاً بالإرسال .(1/11)
وقد ذكر الحافظ ابن حجر ( التخليص 2 / 258 ) وتبعه العلامة الشنقيطي ( الأضواء 5 / 276 ) أنَّ إسنادَ أبي داود سليمٌ من النكارة ، وليس فيه اللفظةُ التي أنكرها الإمام أحمد وغيره ، وهو إسنادٌ ظاهره الصحة .
قلت : هذا صحيح ... هو إسنادٌ ظاهره الصحة وسَلِم من نكارة المتن ، لكنه لم يسلم من نكارة
الإسناد ، فقد تفرَّد به ( الضحاك بن عثمان ) وخالفه جمعٌ من الرواة فأرسلوه فتكون روايةُ
الضحاك هذه شاذة .
فائدة : ممن ضعف حديث أم سلمة "رضي الله عنها " الألباني " رحمه الله " ( الإرواء 4 /277- )
الحديث الثالث : عن عائشة " رضي الله عنها " قالت : استأذنت سودة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ المزدلفة أن تدفع قبله ، وكانت ثَبِطَة ً– تعني ثقيلة – فأذن لها . قالت : فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه ، ولأَنْ أكون استأذنتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سودة أحبُّ إلي من مفروحٍ به " .
أخرجه البخاري ( 1680 و 1681 ) وَ مسلم ( 1290 ) وَ النسائي ( 5 / 262 ) وَابن
ماجه ( 3027 ) .
فائدة : لفظة ( تعني : ثقيلة ) من قول القاسم بن محمد ، كما ذكر الحافظ ابن حجر " رحمه الله " .
وقد جاء في روايةٍ عند مسلم : " ... وكانت امرأةً ثبطة ( يقول القاسم : والثبطة الثقيلة )
وفي رواية عند البخاري ومسلم : " إنها كانت امرأة ثقيلة ثبطة " من قول عائشة . وقد
ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا المثال هو من ( الإدراج الواقع قبل ما أُدرج عليه ، وأمثلته قليلةٌ
جداً ، وسببه أن الراوي أدرج التفسير بعد الأصل ، فظن الراوي الآخر أن اللفظين ثابتان في
أصل المتن فقدَّم وأخَّر ) أ . هـ الفتح ( 3 / 676 ) .
الحديث الرابع : عن جابر بن عبد الله "رضي الله عنهما " قال :" رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى ، وأما بعدُ فإذا زالت الشمس " .(1/12)
أخرجه مسلم ( 1299 ) والبخاري تعليقاً مجزوماً به ( كتاب الحج – باب رمي الجمار ) . والنسائي ( 5 / 270 ) و أبو داود ( 1971 ) والترمذي (894).
الحديث الخامس : عن عائشة "رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر إحدى نسائه أن تنفر من جَمْعٍ ليلة جَمْع ، فتأتي جمرة العقبة فترميها وتصبح في منزلها .وكان عطاء يفعله حتى مات .
أخرجه النسائي ( 5 / 272 ) والبخاري في التاريخ الأوسط ( 1 / 441 ) من طريق : عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة بنت طلحة عن خالتها عائشة "رضي الله عنها " و ( عبد الله الطائفي ) ضعيف . يُنظر التهذيب ( 5 / 298 - ) .
فائدة : ذكر ابن الأثير أن المرأة لم تسمَّ في هذا الحديث ، فيحتمل أن تكون أمَّ سلمة ويحتمل أن
تكون سودة ..
قلت : ويحتمل أن تكون أمَّ حبيبة ، وحديثها في صحيح مسلم ( 1292 ) .
الحديث السادس : عن عبد الله بن عمر " رضي الله عنهما " أنه كان يقدِّم ضَعَفَةَ أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليلٍ ، فيذكرون الله ما بدا لهم ، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع ، فمنهم من يَقْدَمُ منىً لصلاة الفجر ، ومنهم من يَقْدَم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر "رضي الله عنه " يقول : أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أخرجه البخاري ( 1676 ) ومسلم ( 1295 ) ومالك ( 1 / 391 ) .
قوله " ضعفة أهله ... " قال ابن الأثير : " يريد بهم النساء والصبيان والمرضى ونحوهم " .
جامع الأصول ( 3 / 260 ) .(1/13)
الحديث السابع : عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر "رضي الله عنها " أنها نزلت ليلة جَمْعٍ عند المزدلفة فقامت تصلي ، فصلت ساعة ثم قالت : يا بُنيَّ هل غاب القمر ؟ فقال : لا، فصلت ساعة ثم قالت : هل غاب القمر ؟ فقال : نعم . قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها . فقال لها غلامها : يا هَنَتَاه . ما أُرانا إلا قد غلَّسنا قالت :
"يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظُعُن ".
أخرجه البخاري ( 1679 ) ومسلم ( 1291 ) وأبو داود ( 1943 ) والنسائي ( 5/ 266 ) .
قوله " يا هنتاه " يعني ، يا هذه ، بفتح الهاء والنون ، وقد تسكَّن النون ، أخرها هاءٌ ساكنة .
( الفتح 3 / 537 وَ 673 ) .
وقوله " ما أرانا " أُرى بضم الهمزة أي : أظن . ( الفتح 3 / 674 ) .
وقوله " الظعن " بضم الظاء والعين ، وهي المرأة في الهودج ، ثم أُطلق على المرأة مطلقاً .
( الفتح 3 / 674 ) .
فقه الحديث :
أجمع العلماء على أن من رمى جمرة العقبة يوم العيد بعد طلوع الشمس فإنه يصحُّ ذلك الرمي منه ، وهو الأفضل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى في هذا الوقت ، كما ثبت في حديث جابر "رضي الله عنه " ( سبق تخريجه ) وقد نقل هذا الإجماع ابن المنذر ( المجموع 8 / 177 ) وابن عبد البر ( الاستذكار 13 / 59 وَ 64 ) . والشنقيطي ( الأضواء 5 / 275 ) .
واختلفوا في ابتداء وقت الرمي لجمرة العقبة على أقوالٍ خمسة :
أولها / أنه من بعد طلوع الشمس مطلقاً ، للأقوياء والضعفاء .
وهو قول مجاهد وإبراهيم النخعي والثوري ( المغني لابن قدامة 5 / 295 ) وابن حزم ( المحلى
7 / 135 ) وبه قال الألباني ( حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 80 ) .
ثانيها / أنه من بعد منتصف الليل مطلقاً . وهو مذهب الشافعية والحنابلة ، وبه قال عطاء وعكرمة
ابن خالد وابن أبي ليلى ( المغني 5 / 295 ) وابن أبي مليكة ( المعرفة للبيهقي 7 / 318 ) .(1/14)
ثالثها / أنه من بعد طلوع الفجر مطلقاً . وهو مذهب الحنفية والمالكية ورواية عن أحمد وقول
إسحاق وابن المنذر ( المغني 5 / 295 ) .
رابعها / أنه من بعد غياب القمر بالنسبة للضعفة ، ومن بعد طلوع الشمس بالنسبة للأقوياء .
وهو ظاهر تبويب النسائي في سننه الصغرى ، حيث بوب بالنهي عن الرمي قبل طلوع
الشمس ثم بوب بعده بالرخصة في الرمي للنساء ( 5 / 270- ) .
وقال به ابن القيم ، وعزاه إلى :" جماعة من أهل العلم "، ولم يسمهم ( زاد المعاد 2/ 252)
والشوكاني ( نيل الأوطار 5 / 65 – والسيل الجرار 4 / 204 ) .
والصنعاني ( سبل السلام 4 / 295 ) ومال إليه الشنقيطي ( الأضواء 5 / 279 - ) .
ورجحه بعض الباحثين المعاصرين كالدكتور عبد الكريم زيدان ( المفصل في أحكام المرأة
2/ 239 - ) والدكتور شرف الشريف ( رمي الجمرات ص 80 ) .
خامسها / أنه من بعد منتصف الليل بالنسبة للضعفة ، ومن بعد طلوع الفجر بالنسبة للأقوياء .
وهذا القول نسبه الصنعاني للهادوية ( سبل السلام 4 / 295 ) . وكذلك نُسب إليهم في
الروض النضير للسياغي ( 3 / 195 ) والسيل للشوكاني ( 4 / 203 ) .
ولكل قولٍ من هذه الأقوال أدلةٌ فيما ذهب إليه ، وسأورد فيما يلي ما تيسَّر من أدلة كل قول ، مع ذكر ما يرد عليه من مناقشات .
القول الأول / أن وقت رمي جمرة العقبة يبدأ من بعد طلوع الشمس مطلقاً . وقد استدلوا على
ذلك بما يلي :
أولاً : حديث ابن عباس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم ضَعَفة أهله بِغَلَس ،
ويأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس " . ( سبق تخريجه ) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرٌ ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للضعفة بالدفع من
مزدلفة ، ونهاهم عن الرمي قبل طلوع الشمس ، فدل على أن وقت رمي جمرة العقبة
لايكون إلا بعد طلوع الشمس في حق الضعفة ، وغيرُهم من باب أولى .(1/15)
ثانياً : حديث جابر بن عبد الله " رضي الله عنهما " قال " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة
يوم النحر ضحى ، وأما بعدُ فإذا زالت الشمس " ( سبق تخريجه ) .
وعنه "رضي الله عنه " أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " لتأخذوا عني مناسككم ".
أخرجه مسلم ( 1297 ) .
ووجه الدلالة هنا : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بأن يأخذوا المناسك عنه ، والأمرُ
يقتضي الوجوب ، ومن المناسك رمي جمرة العقبة وكان هديه فيها أنه
لم يرمِ إلا بعد طلوع الشمس ، فدل على أن وقت رمي جمرة العقبة
إنما يكون بعد طلوع الشمس .
تعقيب ... أما الاستدلال بحديث ابن عباس "رضي الله عنه " فهو استدلالٌ ظاهر إلا أنه يَرِدُ
عليه أمران :
1/ أنه قد ثبت في حديث ابن عمر وكذا حديث أسماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل
للضعفة حكماً خاصاً ، وهذا يعارض ظاهرَ حديث ابن عباس .
2/ أنه قد سبق بحث هذا الحديث وبيان أنه لا يصلح ، وأن الصواب في حديث ابن
عباس "رضي الله عنه " الإذن للضعفة بالدفع من مزدلفة ليلاً دون ذكر النهي
عن الرمي قبل طلوع الشمس .
وأما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في حديث جابر مع قوله :
" لتأخذوا عني مناسككم " . فهذا دليلٌ كافٍ لإثبات المشروعية إلا أنه لا يدل على الوجوب ، ومعلوم أن في الحج أقوالاً وأفعالاً هي سنن بالإجماع ، مع أنها تنطبق عليها القاعدة السابقة .
القول الثاني / أن وقت الرمي يبدأ من بعد منتصف ليلة النحر مطلقاً . وللقائلين بذلك أدلة منها :
أولاً : حديث أسماء بنت أبي بكر "رضي الله عنها " أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت
تصلي ، فصلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ فقال لها غلامها : لا ، فصلت
ساعة ثم قالت : هل غاب القمر ؟ فقال : نعم . قالت : فارتحلوا . قال غلامها : فارتحلنا
ومضينا حتى رمت الجمرة . ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها .(1/16)
فقال لها غلامها : يا هنتاه ، ما أُرانا إلا قد غلَّسنا . قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن
( سبق تخريجه ) .
ثانياً / ما جاء من الأحاديث الدالة على جواز الدفع من مزدلفة ليلاً ، ومن ذلك :
حديث ابن عباس "رضي الله عنه " : " بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمعٍ بليل " متفق عليه .
( وهو الوجه الأول من حديث ابن عباس ، المذكور ص2 ).
وحديث عائشة "رضي الله عنها " في استئذان سودة "رضي الله عنها " . ( سبق تخريجه )
فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على جواز الدفع للضعفة من مزدلفة ليلاً ، وإذا جاز لهم
الدفع جاز لهم الرمي ، لأن الرمي تحية منى كما يقول الفقهاء .
وقوله ( بليل ) في حديث ابن عباس أو ( ليلاً ) كما في رواية أخرى ، هو تعبيرٌ صالح
لكل الليل فجُعل النصفُ ضابطاً له ، ويتأيد ذلك بحديث أسماء .
ثالثاً / حديث عائشة "رضي الله عنها " قالت : أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر فرمت
الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليومُ اليومَ الذي يكون رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ، تعني : عندها " ( سبق تخريجه ) .
ووجه الدلالة من الحديث : أن أم سلمة "رضي الله عنها " لما أذن لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بالدفع من مزدلفة ( قبل الفجر ) فإنه آذِنٌ لها بالرمي
إذ الرمي تحية منى كما يقول الفقهاء .
وقول عائشة ( قبل الفجر ) تعبيرٌ صالح لكل الليل فجُعل
النصف ضابطاً له لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبل النصف ، قاله
الدكتور نور الدين عتر ( الحج والعمرة ص 107 ) .
رابعاً : أنه ليس هناك ما يمنع الرمي قبل طلوع الفجر ، وأما حديث ابن عباس " رضي الله عنه "
في النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس ، فهو محمولٌ على الاستحباب كما صرح بذلك
البيهقي كما في ( مختصر الخلافيات للخمي 3 / 215 ) وابن حجر كما في ( الفتح 3 /
674 ) .(1/17)
وإنما حملوه على الاستحباب لورود عدد من الأحاديث في الرخصة بالرمي قبل الفجر ،
وهذه الرخصة وإن كانت في حق الضعفة إلا أنها تدل على أن حديث ابن عباس ليس
على ظاهره ، حيث إنه رُخص فيه للضعفة بالدفع ليلاً ولم يرخَّص لهم في الرمي ، وهذا
الظاهر تخالفه الأحاديث الأخرى ، كما سبق بيان ذلك .
وبناءً على ذلك يكون الرمي قبل الفجر جائزاً مطلقاً ، للضعفة وغيرهم ، وذلك لأن
حديث ابن عباس ( وهو واردٌ في حق الضعفة ) ليس على ظاهره ، وإذا كان كذلك فلا
دليل على المنع .
وقد أيَّدوا قولهم هذا بأن الإجماع انعقد على عدم الأخذ بظاهر حديث ابن عباس ، وعلى
جواز الرمي قبل طلوع الشمس ، حكاه ابن المنذر ، كما في التمهيد ( فتح البر 9/ 59 )
وَ فتح الباري ( 3 / 674 ) .
وهذا التوجيه لحديث ابن عباس ( أعني : بحمله على الاستحباب ) إنما هو عند من يقول
بصحة الحديث .
تعقيب ... الأدلةُ التي استدل بها أصحاب هذا القول ، يلاحظ أنها جاءت في شأن الضعفة وليست
عامةً لهم ولغيرهم ، ولذلك فهذه الأدلة إنما تصلح دليلاً لمن خصَّ جواز الرمي قبل
الفجر بالضعفة ( كما ذهب إلى ذلك أصحاب القول الرابع والخامس ) .
واستدلالهم بها على جواز الرمي قبل الفجر للأقوياء استدلالٌ بعيد ، إذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنما أذن
بتعجيل الدفع من مزدلفة للضعفة فقط ، وترخيصه لهم دليلٌ على أن البقاءَ بمزدلفة ليلاً
عزيمةٌ في حق غيرهم ، وهذا البقاء شاملٌ لكل الليل حتى طلوع الفجر وإذا لم يجز لهم
الدفع قبل الفجر فكذلك الرمي .
ثم إن تحديدهم بـ ( منتصف الليل ) لا دليل عليه ، فالأحاديث ألفاظها مطلقة إلا
حديث أسماء ففيه ( هل غاب القمر ؟ ) ففهمت "رضي الله عنها " أن الإذن للضعفة
مقيدٌ بغيبوبة القمر ، لا بنصف الليل ، وهناك فرقٌ بينهما ، فقد ذكر الحافظ ابن
حجر " رحمه الله " : " أن القمر يغيب في هذه الليلة في أول الثلث الأخير من الليل "
( الفتح 3 / 672 ) .(1/18)
القول الثالث / أن رمي جمرة العقبة يبدأ من طلوع الفجر الثاني مطلقاً ، ولهذا القول أدلة ، منها :
أولاً : حديث ابن عباس "رضي الله عنه " " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر نساءه وثَقَلَه من صبيحة جمع
أن يفيضوا مع أول الفجر وألا يرموا الجمرة إلا مصبحين " (سبق تخريجه) .
وفي رواية قال : " كنت فيمن بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فرمينا الجمرة مع الفجر " .
وجه الدلالة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى الضعفة عن رمي الجمرة حتى يصبحوا ، والصبح
يكون بطلوع الفجر ، بدليل قوله في الرواية الأخرى :"فرمينا الجمرة مع
الفجر " .
وأما رواية : " لا ترموا حتى تطلع الشمس " فقد ذكر الطحاوي أنه يمكن
الجمع بينها وبين الروايات الأخرى وذلك بأن يكون الوقت المختار ( بعد
طلوع الشمس ) ووقت الجواز ( بعد طلوع الفجر ) .
مختصر اختلاف العلماء ( 2 / 155 ) .
ثانياً / حديث ابن عمر "رضي الله عنه " أنه كان يقدم ضعفة أهله وأن منهم من يقدم لصلاة
الفجر ، ومنهم من يقدَم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة . وكان ابن عمر يقول :
"رخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ( سبق تخريجه ) .
وجه الدلالة : دل هذا الحديث على جواز رمي الضعفة بعد طلوع الفجر .
ثالثاً / حديث أسماء بنت أبي بكر "رضي الله عنهما " وفيه قولها : " هل غاب القمر ؟ " .
وجه الدلالة : أن أسماء "رضي الله عنها " إنما دفعت من المزدلفة بعد غيبوبة القمر
وفهمت أن هذا هو الوقت الذي رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للضعفة أن يدفعوا بعده ،
وبناءً على ذلك لا يكون الرمي لمثل هؤلاء إلا بعد طلوع الفجر ، إذ لا يمكن إدراك
الرمي قبل الفجر لمن دفع بعد غيبوبة القمر والمسافة إلى الجمرات تحتاج إلى وقتٍ
لا يمكن معه إدراك الرمي قبل الفجر .
تعقيب ... هذه الأدلة يرد عليها مناقشات عدة ، منها :(1/19)
1/ أن حديث ابن عباس "رضي الله عنه " الذي احتجوا به لا يصح بكل رواياته التي ذكروها ،
وقد سبق بحث ذلك وبيان أنه لا يثبت في هذا الحديث إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لضعفة أهله
ومنهم ابن عباس بأن يدفعوا من مزدلفة ليلاً .
2/ أنهم احتجوا برواية : " لا ترموا الجمرة إلا مصبحين " ، وقد جاء في رواية : " فرمينا الجمرة
مع الفجر " ، وفي رواية ثالثة : " لا ترموا قبل طلوع الشمس " .
والحديث واحد ، يحكي فيه ابن عباس قصةً واحدة ، ومع ذلك ألفاظه مختلفة .
ثم إن لفظة ( مصبحين ) كما في الرواية التي احتجوا بها ، لفظةٌ تحتمل طلوع الفجر وطلوع
الشمس وقد جاء ما يؤيد كلا الاحتمالين ، فرواية : " فرمينا الجمرة مع الفجر " تؤيد حمل
لفظة ( مصبحين) على المعنى الأول .
ورواية : " لا ترموا قبل طلوع الشمس " . تؤيد حمل لفظة ( مصبحين ) على المعنى الثاني .
فأما رواية : " فرمينا الجمرة مع الفجر " فقد سبق بيان نكارتها ، وأن رواية : " لا ترموا
حتى تطلع الشمس " مع أنها ضعيفة إلا أنها أصح من رواية "فرمينا الجمرة مع الفجر" . وبناءً
على هذا يكون حملُ لفظة ( مصبحين ) على معنى طلوع الشمس أقرب إلى الصواب .
وأما جمع الطحاوي بين الروايات بحمل رواية :" لا ترموا حتى تطلع الشمس " على وقت
الاختيار ، ورواية :" فرمينا الجمرة مع الفجر " على وقت الجواز ، فهذا جمع بعيد ، وذلك
أن الحادثة واحدة ، وهذان لفظان مختلفان فلا يمكن الجمع .
3/ أما حديث ابن عمر "رضي الله عنه " فهو حديثٌ ثابت ، ووجه الدلالة منه على جواز
الرمي للضعفة بعد طلوع الفجر ظاهر ، ولكن لا دلالة فيه على منع الرمي قبل طلوع الفجر
4/ وأما حديث أسماء ... فيناقش الاستدلال به بما يلي :
1- أن المزدلفة تختلف في قربها وبعدها من الجمرات ، فبعضها قريب يصل الماشي منها إلى
الجمرات في أقل من ساعة ، وبعضها بعيد ، وبناءً على ذلك لا يصح الاستدلال بمثل هذا(1/20)
الحديث المحتمل على المنع من الرمي قبل طلوع الفجر .
2- أن الحديث فيه الإذن بالدفع بعد غيبوبة القمر ، وقد سارت أسماء إلى الجمرة لترمي
وليس فيه بيان وقت رميها ، هل وقع قبل طلوع الفجر أو بعده ؟ فالحديث محتمل .
القول الرابع / أن وقت رمي جمرة العقبة يبدأ من غروب القمر بالنسبة للضعفة ، ومن بعد طلوع
الشمس بالنسبة للأقوياء ، وهذا القول أراد أصحابه الجمع بين الأدلة بهذا التفصيل ،
فحملوا الأدلةَ المانعة من الرمي قبل طلوع الشمس على الأقوياء ، والأدلةَ التي فيها
الترخيص بالرمي قبل الفجر على الضعفة .
فأما ما استدلوا به على المنع من الرمي قبل طلوع الشمس فمنه ما يلي :
أولاً : حديث ابن عباس "رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة أهله ،
وقال : " لا ترموا حتى تطلع الشمس " ( سبق تخريجه ) .
ثانياً : حديث جابر "رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة يوم النحر ضحى
وقد قال في الحديث الآخر : " لتأخذوا عني مناسككم ".
وجه الدلالة : أن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانٌ لما تضمنه أمره ، وأمره يقتضي
الوجوب فكذا ما كان بياناً لهذا الأمر .
وأما الأدلة التي استدلوا بها على الترخيص للضعفة بالرمي بعد غيبوبة القمر ، فمنها ، مايلي :
أولاً : حديث أسماء بنت أبي بكر "رضي الله عنها " وقد سبق ذكره ، وأن أسماء كانت
تسأل غلامها ( هل غاب القمر ؟ ) ففهمت أن الترخيص للضعفة إنما يبدأ بعد
غيبوبة القمر .
ثانياً : ما ورد من الأدلة على جواز الدفع من مزدلفة ليلاً للضعفة ، كحديث عائشة في
استئذان سودة "رضي الله عنهما " وكذلك حديث ابن عباس عندما بعثه النبي
- صلى الله عليه وسلم - مع ضعفة أهله من جمع بليل .
وجه الدلالة : أنه لما جاز لهؤلاء الضعفة أن يدفعوا من المزدلفة ليلاً جاز لهم
الرمي ، إذ الدفع إنما هو رخصة لهم حتى لا يتأذَّوا بحَطْمَة الناس ، فكذلك(1/21)
الرمي ، إذ الأذى عنده أشد في الغالب ، حيث يجتمع الناس في مكان واحد
فيحصل الازدحام .
قالوا : فالأدلة المانعة من الرمي قبل طلوع الشمس استُثني منها الضعفة ، فيجوز
لهم الرمي قبل الفجر ويبقى المنع في حق الأقوياء .
تعقيب ... هذا القول هو أقوى الأقوال السابقة ، حيث جمع بين الأحاديث بالجمع اللائق بها على
فرض ثبوت جميعها ، فحمل أحاديث النهي على القوي القادر وحمل أحاديث الرخصة
على الضعفة ، كما جاء في بعض الأحاديث بأنه : " أذن للظعن" كما في حديث أسماء .
أو : " أولئك الذين أرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كما في حديث ابن عمر .
وهذا القول فيما يظهر يُعدُّ اختياراً من القولين الأول والثاني ( مع تحفُّظ على القول
الثاني حيث قيَّدوا بـ" نصف الليل " والأولى أن يقيَّد بـ" غيبوبة القمر " كما سبق )
فهذا القول وافق القولَ الأول في حق الأقوياء ، ووافق القولَ الثاني – إلى حدٍ ما – في
حق الضعفة .
ولكن ، يرد على هذا القول مناقشةٌ في منعه الأقوياءَ من الرمي قبل طلوع الشمس ،
وذلك أنهم اعتمدوا على دليلين :
الأول : حديث ابن عباس "رضي الله عنه "، وهو حديثٌ لا يثبت كما سبق بيانه
فلا يصح الاحتجاج به .
وعلى افتراض ثبوته فهو مشكلٌ على هذا القول ، لأن قوله : " لا ترموا حتى
تطلع الشمس " . متوجِّهٌ للضعفة الذين أُذن لهم بتعجيل الدفع من مزدلفة
فكيف نُخرجهم من هذا الخطاب ؟!
الثاني : حديثا جابر " رضي الله عنه " ، ويرد على الاستدلال بهما ما سبق ذكره من
أن مثل ذلك يكفي في إثبات مشروعية العمل ، ولكن لا يمكن الاستدلال به
على الوجوب .
ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك بن الحويرث : " صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري (631 ) .
فقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي صلاته ما هو مستحبٌ إجماعاً .(1/22)
ولذلك ، فهذا القول قويٌ من حيث تفريقه بين الضعفة وغيرهم ، ولكن يرد عليه أنه يمنع الأقوياء من الرمي قبل طلوع الشمس ، وليس لهم على ذلك دليلٌ يصح فيما ظهر لي .
القول الخامس / أن وقت رمي جمرة العقبة يبدأ من منتصف ليلة النحر بالنسبة للضعفة ، وأما الأقوياء
فيبدأ في حقهم من طلوع الفجر .
وهذا القول أيضاً أراد أصحابه الجمع بين الأدلة بهذا التفصيل ، فحملوا الأدلة المحتج
بها على الرمي ليلاً على أنها رخصة للضعفة ، والأدلة الواردة في المنع من الرمي قبل
طلوع الشمس على الاستحباب ، وإنما حملوه ( أعني : حديث ابن عباس ) على
الاستحباب لأمرين :
1/ أن هذا الحديث قد روي بلفظ :" لا ترموا الجمرة إلا مصبحين " . وفي رواية :
"فرمينا الجمرة مع الفجر " .
فقوله ( مصبحين ) معناه : حتى تدخلوا في الصباح ، وهذا يحصل بأول الفجر
ويؤيد هذا ، الروايةُ الأخرى : " فرمينا الجمرة مع الفجر " .
وبناءً على ذلك تكون رواية : "لا ترموا حتى تطلع الشمس" ليست على
ظاهرها ، فتُحمل على الاستحباب .
2/ أن ابن المنذر قد حكى الإجماع على أن من رمى بعد الفجر وقبل طلوع
الشمس فإنه يجزئه ، قال : " ولو علمت أحداً قال : لا يجزيه قبل طلوع
الشمس ، لقلت به ". التمهيد ( فتح البر 9/ 59 ) و فتح الباري ( 3 / 674)
تعقيب ... هذا القول يقارب قوةَ القول الذي قبله ، وهو – فيما يظهر – اختيار من القولين ( الثاني
والثالث ) فوافقوا القولَ الثاني بالنسبة للضعفة ، والقولَ الثالث بالنسبة للأقوياء .
ويرد على هذا القول ما يلي :
1/ تقييدهم ابتداءَ وقت رمي الضعفة بـ ( منتصف الليل ) لا دليلَ عليه ، وقد سبق
بيان ذلك عند مناقشة القول الثاني ، وأن الصواب تقييده بـ ( غيبوبة القمر ) .
2/ استدلالهم برواية: " لا ترموا إلا مصبحين " . سبق مناقشته عند التعقيب على
القول الثالث.
3/ حكاية ابن المنذر للإجماع يَرِدُ عليها مخالفة الثوري وغيره ممن يرى عدم جواز الرمي(1/23)
قبل طلوع الشمس .
وبعد عرض الأدلة الواردة في هذه المسألة والأقوال التي قيلت فيها , يتبين أن الذين ذهبوا إلى التفصيل في المسألة أقرب إلى الصواب ممن أطلق ، ولذلك فالراجح أنَّ عندنا حالان :
الحال الأولى / حال الضعفة ومن كان معهم ( ويدخل في الضعفة أكثر النساء ) فهؤلاء يظهر أن
الراجح جواز رميهم لجمرة العقبة بعد دفعهم من مزدلفة بعد غيبوبة القمر ؛ وذلك
أنه قد ثبت جواز الدفع لهم من مزدلفة ليلاً كما في حديث ابن عمر وابن عباس
وعائشة وأسماء ، وهذا الدفع إنما هو رخصة لهم لما فيهم من الضعف الذي يجعل
حكمهم مختلفاً عن حكم غيرهم ؛ وذلك حتى لا يتأذَّوا بحَطْمَة الناس حال اندفاعهم .
وهذه المصلحة يحتاج إليها هؤلاء الضعفة عند رمي الجمرة الكبرى يوم النحر ؛ إذ
الحطمة عندها إن لم تكن أشد من حطمة الدفع وإلا فهي لاتقل عنها .
بل لو قيل : إن الغرض من تعجيل الضعفة هو ألا يتأذوا حال الرمي وليس لأجل
ألا يتأذوا حال الدفع لكان قولاً وجيهاً ، ويؤيده أنه لم يؤذَن للضعفة
بتعجيل الدفع من عرفة إلى مزدلفة .
ولذلك فالقول بأن الرمي يجوز قبل الفجر لمن جاز له الدفع ليلاً هو
الصواب . وإنما كان تحديد ذلك بـ ( غيبوبة القمر ) استناداً إلى
حديث أسماء "رضي الله عنها "
وغيبوبة القمر في ليلة النحر تكون في أول الثلث الأخير من الليل ؛ كما
قال الحافظ ابن حجر "رحمه الله " .
الحال الثانية / حال الأقوياء ، فهؤلاء لم يتبين لي دليلٌ صحيح يمنعهم من الرمي قبل طلوع الشمس .
فحديث ابن عباس ضعيف كما سبق بيان ذلك ؛ وأما حديث جابر "رضي الله عنه" في
حكاية رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى مع قوله : " خذوا عني مناسككم " فقد سبق أن هذا
دليل يحتج به لإثبات مشروعية الفعل أو القول ؛ ولكنه لايكفي لإثبات الوجوب .
وبناءً على ذلك يكون الرمي للأقوياء بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس جائزاً ؛(1/24)
وقد قال بجوازه جماهير أهل العلم ؛ وحكاه ابن المنذر إجماعاً ( كما سبق ) .
بقي أن يقال : ماحكم رمي الأقوياء قبل طلوع الفجر ؟
الذي يظهر أنه لايجوز لهم ذلك ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص في الدفع من مزدلفة ليلاً
للضعفة ؛ ولم يرخص للأقوياء ؛ وترخيصه للضعفة دليل على أن البقاء بمزدلفة
إلىالفجر ( الذي ينتهي بطلوعه وقت الرخصة للضعفة ) عزيمةٌ على الأقوياء ، وبالتالي
لايجوز لهم الرمي إلا بعد جواز الدفع ؛ وذلك بعد طلوع الفجر .
وقد ذهب جماهير العلماء إلى جواز الدفع بعد طلوع الفجر وأنه لايلزم البقاء إلى الإسفار
وقد يُستدل لذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للضعفة بالدفع من مزدلفة ليلاً .
و "ليلاً " اسمٌ يشمل كلَّ الليل ؛ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر , وبناءًً على ذلك
يكون وقت الرخصة التي اختص بها الضعفة دون غيرهم ( من غروب القمر إلى طلوع
الفجر ) فالدفع في هذا الوقت رخصةٌ للضعفة , وإذا انتهى الليل وطلع الفجر فقد انتهى
وقت الرخصة ؛ ودخل الوقت الذي يشترك فيه الضعفة وغيرهم , ومن جاز له الدفع في
ذلك الوقت جاز له الرمي عند وصوله إلى منى ولو قبل طلوع الشمس ؛ ولا دليل يمنع
من ذلك إلا ماسبقت الإجابة عنه .
هذا الذي يظهر في المسألة ؛ وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت في عرضها بشكل وافٍ .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .(1/25)