مِنْ فَتاوَى فَضِيلَةِ الشَّيخ
محمَّد الأمين بن محمد المختار الجكي
مسألة في
مقر العقل من الإنسان
هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب
هل يجوز دخول الكافر مساجد الله غير المسجد الحرام
• هذهِ فَتوَى فَضيلَةِ الشَّيخِ محمد الأمين عما استفتاه فيهِ الشَّيخُ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر عن : مَقَرِّ العقلِ ، ومسائلَ أُخرَى .. أنقُلُهُ مِن خَطِّهِ
بَسمُ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
حضرةُ صاحبِ المعالي أخي الْمُكَرَّمُ الشَّيخُ : محمدُ الأمينِ بنُ الشَّيخِ محمدِ الخضرِ حَفِظَهُ الله ووفَّقهُ .
السَّلامُ عليكُم ، ورحمةُ الله تعالَى وبركاتُه , وبعدُ : فقد وَصَلَنا خطابُكُم الكريمُ بتاريخِ 27/1/ [ 1344 ] (1) وفهمنا ما سألتم عنه .
والجوابُ حفِظَكُم الله ووفَّقَكُم عن :
( المسألة الأولى التي هي : محلُّ العقلِ ، هو ما سَتراهُ (
ولا يخفى على معاليكم أنَّ بحثَ ( العقلِ ) بحثٌ فلسفيٌّ قديم , وللفلاسفة فيه مائة طريقٍ باعتباراتٍ كثيرةٍ مختلفةٍ , غالبُها : كلُّه تخمينٌ وكذبٌ وتخبطٌ في ظلامِ الجهلِ .
وهم يسمّونَ الملائكةَ : عُقولاً (2) .
ويُكثرونَ البحثَ في (العقولِ العشرةِ) المعروفة عندهم ، ويزعمون أن المؤثِّر في العالمِ هو العقلُ الفيَّاضِ (3) ، وأنَّ نوره ينعكس على العالم كما تنعكس الشَّمسُ على المرآةِ فتحصلُ تأثيراتُه بذلك الانعكاس (4) .
__________
(1) كَذا قَرأتُها .
(2) اُنْظُرْ : (الصَّفديَّة) 1/174 و252 (بُغية المُرتاد) (صَفْحَة : 219-223) .
(3) اُنْظُرْ : (مِنهاج السَّنة) 1/184 .
(4) اُنْظُرْ : (دَرء تعارُضِ العَقلِ والنَّقلِ) 1/35 و5/81 و174 و7/126 و(الصَّفديَّة) 1/125 و208 و282-286 (مِنهاج السّنة) 5/447 8/19 (مجموع الفَتاوى) 3/301 4/117 9104-105 و125 12/156(1/1)
ويبحثونَ في (العقلِ البَسيطِ) الذي يُمَثِّلُ به المنطِقيّون ل(النَّوعِ البَسيطِ) … إلى غيرِ ذلك من بحوثِهم الباطلة المتعلِّقة بالعقلِ من نواحٍ شتَّى .
[ الأَقوالُ في المَسألَةِ ]
1ـ ومِن تلكَ البحوثِ (1) قولِ عامَّتِهم إلاَّ القليل منهم : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وتبعهم في ذلك قليلٌ من المسلمينَ , ويُذكَرُ عن الإمام أحمد : أنَّه جاءت عنهُ روايةٌ بذلك .
2ـ وعامَّةُ علماءِ المسلمينَ على : أَنَّ محلَّ العقلِ : القَلبُ .
وسَنُوَضِّح إنْ شاءَ الله تعالى حُجج الطَّرفين ، ونُبَيِّن ما هو الصواب في ذلك .
• اعلم وفَّقنا الله وإيَّاك أنَّ العقل : نورٌ روحانِيٌّ تُدرِكُ بهِ النَّفسُ العلومَ النَّظريَّةِ والضَّرورِيَّةِ . وأنَّ مَن خَلَقَهُ وابرزَهُ من العَدَمِ إلى الوجودِ ، وزَيَّن به العُقلاءَ وأكرمَهُم به (2) : أعلمُ بمكانِهِ الذي جعلهُ فيه مِن جُملةِ (3) الفلاسفَةِ الكَفَرَةِ الخاليةِ قلوبِهم من نورٍ سماويٍّ وتعليمٍ إلهيٍّ .
وليسَ أحدٌ بعدَ اللهِ أعلمُ بمكانِ العقلِ من النَّبِيِِّ ( ، الذي قالَ في حَقِّهِ ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ? (4) .
وقالَ تَعالَى عن نَفسِهِ : ? قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ? (5) .
__________
(1) بياضٌ في الأَصل بِمِقدر كَلِمة ؛ والكلام مُستقيمٌ بِدونِها .
(2) هُنا إِشارةٌ إلى لَحق في حاشية الصَّفحة ؛ وفيها كلمة (حاشية) ثُم كلام غير مَقروء بِمقدارِ خمس كَلماتٍ .
(3) وتَحتَمِل المخطوطة : جَهَلَةِ .
(4) سُورَةُ النَّجمِ : 3 .
(5) سُورَةُ البقرة : 140 .(1/2)
والآياتُ القرآنيّةُ والأحاديثُ النَّبَوِيَّةُ في كلٍّ منها التَّصريحُ بكثرَةٍ : بِأَنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وكثرةُ ذلكَ وتكرارُهُ في الوحيينِ : لا يتركُ احتمالاً ولا شكَّاً في ذلكَ , وكلَّ نَظَرٍ عَقلِيٍّ صحيحٍ يستحيلُ أن يخالفَ الوحْيَ الصَّريحَ , وسنذكرُ طرفاً من الآياتِ الدَّالة على ذلك ، وطَرَفاً من الأحاديثِ النَّبويَّةِ , ثم نُبَيِّنُ حُجَّةَ مَن خالفَ الوَحيَ من الفلاسفةِ ومَن تَبِعَهُم ، ونُوَضِّحُ الصَّوابَ في ذلكَ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى .
• واعلمْ أوّلاً : أنَّه يغلبُ في الكتابِ والسّنةِ إطلاقُ ( القلبِ ) وإرادةُ ( العقلِ ) وذلك أُسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ ؛ لأنَّ من أساليبِ اللغةِ العربيَّةِ : (إطلاقُ المحلِّ وإرادةُ الحالِّ فيهِ) كعكسِهِ ، والقائلونَ بالمجازِ يُسمّون ذلك الأسلوبَ العربيَّ : مجازاً مُرسَلاً (1) .
__________
(1) المَجازُ المرسَل : هو الكلمة المُستعملة في غيرِ ما وُضِعَت لَهُ ؛ لِعلاقَةٍ غير المُشابهة بين المعنَيينِ . وسُمِّيَ مرسَلاً ؛ لأَنَّه :
1 : أُرسِل عن دعوى الاتّحاد المعتبرة في (الاستعارة) إذ ليست العلاقة بين المعنيين : المشابهة حتى يُدَّعَى اتّحادهما .
2 : أو لأَنَّه أُرْسِلَ (أي : أُطلِقَ) عن التَّقيّد بِعَلاقةٍ واحدة .
اُنْظُرْ : (عِلم البيانِ) لِشيخنا الدّكتور : بَسيوني عبد الفَتَّاح فيّود (صَفْحَة : 145) .(1/3)
ومِنْ عِلاقات (المجازِ الْمُرسَلِ) (1) عندَهم :
1 : المحليّة (2) .
2 : والحاليّة (3) .
[ فالْمَحَلِّيَّةُ ] (4) : كإطلاقِ (القلبِ) وإرادةِ (العقلِ) ؛ لأنَّ القلبَ محلُّ العقلِ .
وكإطلاقِ (النَّهرِ) الذي هو الشَّقُّ في الأرضِ على (الماءِ الجاري فيه) كما هو معلومٌ في محلِّه .
وهذهِ بعضُ نُصوصِ الوَحيينِ :
__________
(1) و(علاقةُ المجاز المرسل) معناها : أن يكون هناك تلازم وترابط يجمع بين المعنيين ، ويسوّغ استعمال أحدهما في موضعِ الآخَر ؛ وهذه العلاقات كَثيرة ؛ أَشهرها : (عِلاقَةُ السَّبَبِيّة) و(عِلاقَةُ الْمُسَبّبَيّة) و(عِلاقَةُ الجُزئِيّة) و(عِلاقَةُ الكُلّيّة) و(عِلاقَةُ اعتِبار ما كانَ) و(عِلاقَةُ اعتبار ما يَكون) (عِلاقَةُ المَحَلّيّة) و(عِلاقَةُ الحالِيّة) و(عِلاقَةُ الآلِيّة) و(عِلاقَةُ المُجاورَة) … وغيرها كثيرٌ .
اُنْظُرْ : (عِلم البيانِ) لِشيخنا الدّكتور : بَسيوني عبد الفَتَّاح فيّود (صَفْحَة : 145-164) وفيه التّعريفُ بِكلِّ علاقة مع التّمثيل .
(2) العِلاقة المَحلّيّة : هي أن يُذكرَ اسمُ المَحَلِّ ويُرادُ الحالِّ بهِ . (عِلم البيانِ) (صَفْحَة : 158) .
(3) العِلاقة الحالِيَّة : هي أن يُذكرَ اسمُ الحالِّ ويُرادُ المَحَلِّ بهِ . (عِلم البيانِ) (صَفْحَة : 159) .
(4) ساقطٌ من المخطوطةِ الجُملة تحتاجها لإزالة اللَّبسِ .(1/4)
1ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا (1) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ? الآيَةُ (2) فعابَهُم الله بأنَّهم لا يَفقهونَ بقلوبِهم ؛ والفِقهُ : هو الفَهمُ (3) ، والفَهمُ لا يكونُ إلاَّ بِالعَقلِ , فدلَّ ذلك على : أنَّ القلبَ محلُّ العقلِ . ولو كانَ الأمرُ كما زعمَ الفلاسفةُ لقالَ [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( لهم أدمغةً لا يفقهونَ بها ) .
2ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (4) ولم يقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فتكُونُ لهُم أدمغةٌ يَعقِلونَ بها ) ، ولم يَقُل : ( ولكنْ تَعمَى الأدمِغَة التي في الرُّؤوسِ ) . كما ترى فقد صرَّح في آية الحجِّ هذه بأنَّ : القلوب هي التي يُعقَل بها ، وما ذلك إلا لأنها محل العقلِ كما ترى . ثم أكَّد ذلك تأكيداً لا يترُكُ شبهةً ولا لبساً ؛ فقال تَعالَى : ? وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? (5) فتأمل قوله [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] ? الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح ، ومعناه : أنَّ القلوبَ التي في الصُّدورِ هي التي تَعمَى إذا سَلَبَ الله منها نورَ العقلِ ، فلا تُمَيِّزُ بعد عَماها بين الحقِّ والباطلِ ، ولا بين الحسنِ والقبيحِ ، ولا بين النَّافعِ والضَّارِّ ، وهو صريحٌ بأنَّ الذي يُمَيَّزُ به كلُّ ذلك هو العقلُ ومحلُّهُ في القلبُ .
__________
(1) ذَرَأْنَاْ : خَلَقْنا وَأَوْجَدْنَا .
(2) سُوْرَةُ الأعرافِ : 179.
(3) اُنْظُرْ : (النِّهاية في غريب الحديثِ) 2/387 و(لِسانُ العَرَبِ) لابنِ منظورِ 5/150 .
(4) سُوْرَةُ الحجِّ : 46 .
(5) سُوْرَةُ الحجِّ : 46 .(1/5)
3ـ وقالَ تَعالى : ? يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? ولم يقل : ( بدِماغٍ سَليمٍ ) .
4ـ وقالَ تَعالَى : ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ? الآيَةُ (1) ولم يقُل : ( على أدمِغَتِهم ) .
5ـ وقالَ اللهُ تَبارَك وَتَعالَى : ? إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً (2) أَن يَفْقَهُوهُ ? الآيَةُ (3) ومفهومُ مُخالفَةِ الآيةُ : أنَّهُ لو لم يجعل الأكِنَّةَ على قُلوبهم لَفَقَهوهُ بِقُلُوبهم ، وذلك لأنَّ محلَّ العقلِ القلبُ كما ترى , ولم يقل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( إنَّا جعلنا على أدمغتهم أكِنَّةً أنْ يفقهوه ) .
6ـ وَقالَ اللهُ تَبارَك وتَعالَى : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ? الآيَةُ (4) ولم يَقُل : ( لمن كان لهُ دماغٌ ) .
7ـ وَقالَ تَعالَى : ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ? الآيَةُ (5) ولم يَقُل [ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( ثم قَسَتْ أَدمِغَتِكُمْ ) وكَونُ القَلبِ إذا قَسَى لم يُطِع صاحِبُهُ اللهَ وإذا لانَ (6) أطاعَ اللهَ : دليلٌ على أنَّ الْمُمَيَّزَ (الذى) تُرادُ به الطَّاعَةُ والمعصيةُ محلُّهُ القلبُ كما ترى وهو العَقلُ .
8ـ وقالَ تَعالَى : ? فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ? (7) .
__________
(1) سُوْرَةُ البقرةِ : 7 .
(2) أَكِنَّةً : أَغْطِيَةٌ سَاتِرَةٌ .
(3) سُوْرَةُ الكهفِ : 57 .
(4) سُوْرَةُ ق : 37 .
(5) سُوْرَةُ البقرة : 74 .
(6) مِنَ (الِّلينِ) ضِدُّ القَسوَةِ .
(7) سُوْرَةُ الزُّمَر : 22 .(1/6)
9ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ (1) فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ? (2) ولم يَقُل [ تَبارَكَ وَتَعالَى ] : ( فويلٌ للقاسِيَةِ أدمِغَتِهِم ) ولم يَقُل : ( فطالَ عليهِم الأمدُ فَقَسَت أَدمِغَتِهِم ) .
10ـ { صَفْحَة : 3 } وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (3) ولم يَقُلْ : ( وخَتَمَ على سَمعِهِ ودِماغِهِ ) .
11ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ (4) بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? الآيَةُ (5) ولم يَقُلْ : ( دِماغُهُ ) .
12ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ? (6) ولم يَقُل : ( ما ليسَ في أَدمِغَتِهم ) .
13ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ (7) ? (8) ولم يَقُل : ( أَدمِغَتِهِم مُنكِرَةٌ ) .
14ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? حَتَّى إِذَا فُزِّعَ (9) عَن قُلُوبِهِمْ ? (10) ولم يَقُل : ( إذا فُزِّعَ عن أدمِغَتِهِم ) .
__________
(1) الأَمَدُ : الأَجَلُ أَو الزَّمان .
(2) سُوْرَةُ الحديدِ : 16 .
(3) سُوْرَةُ الجاثيةِ : 23 .
(4) يَحولُ : يَفصِلُ بين المَرءِ وبَين ما يَتَمَنَّاهُ قَلبُهُ مِن طُولِ الحَياةِ وَفُسحَةِ الآمالِ بأنْ يُمِيتَهُ فَجْأَةً .
اُنْظُرْ : (التّحرير والتّنوير 9/69-70) .
(5) سُوْرَةُ الأنفالِ : 24 .
(6) سُوْرَةُ الفتحِ : 12 .
(7) مُّنكِرَةٌ : جاحِدَةٌ بِما هو واقِعٌ . مِن الإنكارِ ضِدُّ الإِقرارِ ؛ والمراد : مُنكِرَةٌ للتّوحيدِ .
اُنْظُرْ : (التّحرير والتّنوير 13/102-103) .
(8) سُوْرَةُ النَّحلِ : 22 .
(9) فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ : أُزِيلَ عَنهُم الفَزَعُ والخَوفُ .
(10) سُوْرَةُ سَبَإٍ : 23 .(1/7)
15ـ قَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? الآيَةُ (1) ولم يقل : ( أم على أدمغتهم أقفالُها ) .
وانظُر ! ما أصرَحَ آيةَ القتالِ هذهِ : في أنَّ التَّدَبُّرَ وإدراكَ المعانِيَ بهِ إنما هو القلبُ ، ولو جُعِلَ على القلبِ قُفلٌ لم يحصل الإدراك ؛ فَتَبَيَّنَ : أنَّ الدماغَ ليس هو محلُّ الإدراكِ كما ترى .
16ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ (2) اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? الآيَةُ (3) ولم يقل : ( أزاغ الله أدمغتهم ) .
17ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? الآيَةُ (4) ولم يقل : ( تَطْمَئِنُّ أدمغتهم ) .
18ـ وقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ (5) قُلُوبُهُمْ ? الآيَةُ (6) ولم يقل : ( وَجِلَتْ أدمغتهم ) .
و(الطُّمَائْنِينَةُ) و(الخَوْفُ عِندَ ذِكرِ اللهِ) كلاهُما إنما يحصلُ بالفَهمِ والإدراكِ , وقد طَرَحَت الآياتُ المذكورةِ بأنَّ محلَّ ذلكَ : القلبُ لا الدِّماغُ .
__________
(1) سُوْرَةُ محمدٍ : 24 .
(2) زَاغُوا أَزَاغَ : ضَلُّوا وأَضَلَّ .
(3) سُوْرَةُ الصَّفِّ : 5 .
(4) سُوْرَةُ الرَّعدِ : 28 .
(5) وَجِلَتْ : استَشعَرَت الخَوفَ وَفَزِعَت ورَقَّت استِعظاماً وَهَيبَةً .
(6) سُوْرَةُ الأنفالِ : 2 .(1/8)
19ـ وبُيِّنَ في آياتٍ كثيرةٍ أنَّ الذي يُدرِكُ الخطرَ فَيَخافُ مِنهُ (1) ؛ هو : القلبُ الذي هو محلُّ العقلِ لا الدِّماغ , كقولِهِ تَعالَى : ? وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ? الآيَةُ (2) . وقَولُهُ تَعالَى : ? قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ? (3) وإنْ كان الخوفُ تَظهَرُ آثارُهُ على الإنسانِ .
20ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ ? الآيَةُ (4) ولم يقل : ( ونطبعُ على أَدمِغَتِهِم ) .
21ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? الآيَةُ (5) .
22ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ? الآيَةُ (6) والآيَتانِ المذكورتانِ فيهما الدَّلالةُ على أنَّ محلَّ إدراكِ الخطرِ الْمُسَبِّبِ للخَوفِ هو القلبُ كما ترى لا الدِّماغُ .
والآياتُ الواردَةُ في الطَّبعِ على القُلوبِ مُتعدِّدةٌ :
23ـ كَقَولِهِ تَبارَكَ وَتَعالَى : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ : آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ؛ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (7) ولم يَقُل : ( فطبعَ على أَدمِغَتِهِم ) .
__________
(1) أيْ : فَيخافُ القَلبُ مِنَ الخَطَرِ .
(2) سُوْرَةُ الأحزابِ : 10 .
(3) سُوْرَةُ النَّازِعاتِ : 8 .
(4) سُوْرَةُ الأعرافِ : 100 .
(5) سُوْرَةُ الكَهفِ : ه14 .
(6) سُوْرَةُ القَصَصِ : 20 .
(7) سُوْرَةُ المنافقونَ : 3 .(1/9)
24ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ (1) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ? الآيَةُ (2) ولم يَقُل : ( على أَدمِغَتِهِم ) .
25ـ وَكَقَولِهِ تَعالَى : ? إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ? الآيَةُ (3) و(الطُّمَأْنِينَةُ بِالإِيمانِ) إِنَّما تَحصُلُ بإدراكِ فَضلِ [ الإِيمانِ ] (4) وحُسنِ نَتائِجِهِ وعَواقِبِهِ ، وقد صرَّحَ في هذهِ الآيةِ { صَفْحَة : 4 } بإسنادِ ذلكَ الاطْمِئنانِ إلَى القَلبِ الذي هو محلُّ العقلِ الذي هو أداةُ النَّفسِ إلَى الإدراكِ . ولم يَقُل : ( ودماغُهُ مُطمَئِنٌ بالإيمانِ ) .
26ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? قَالَتِ الأَعْرَابُ : آمَنَّا . قُل : لَّمْ تُؤْمِنُوا ، وَلَكِن قُولُوا : أَسْلَمْنَا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? (5) ولم يَقُل : ( في أَدمِغَتِهِم ) .
__________
(1) الخَوالِف : هُمُ النِّساءُ ؛ لأَنَّهُنَّ يَتَخَلَّفْنَ في البَيتِ ويَقعُدْنَ عَنِ الجِهادِ .
(2) سُوْرَةُ التَّوبةِ : 87 .
(3) سُوْرَةُ النَّحلِ : 106 .
(4) كَلِمة لم أَستَطعُ قراءَتَها ؛ وأظُنُّها كَذلكَ .
(5) سُوْرَةُ الحُجُراتِ : 14 .(1/10)
27ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ? (1) ، فقولُهُ تَعالَى : ? وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? , وَقَولُهُ : ? كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ? صريحٌ في أَنَّ المحلَّ [ الذي ] (2) يدخُلُهُ الإيمانُ في المؤمِنِ ويَنتَفِي عنهُ دُخولُه في الكُفرِ : إنَّما هو القلبُ لا الدِّماغُ . وأساسُ الإيمانُ : إيمانُ القلبِ ؛ لأنَّ الجوارحَ كُلَّها تَبَعَ لهُ ؛ كما قالَ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (3)
__________
(1) سُوْرَةُ المجادِلِةِ : 22 .
(2) كلمة غير مَقروءةٌ ولَعلّها ما أُثبِت .
(3) لَفظُ الحديثِ : قالَ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم : « الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ : لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ . فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ : اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ : وَقَعَ فِي الْحَرَامِ . كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ . أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ »
أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (رَقْم : 52 و2051) ومُسلِمٌ (رَقْم : 1599) وأبو داودَ (رَقْم : 3329) والتِّرمِذيّ (رَقْم : 1205) والنَّسائِيُّ (رَقْم : 4453 و5710) وابنُ ماجة (رَقْم : 3984) وأحمد (رَقْم : 17883) من حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ .
• ولَفظٌ أخرَ لِلبُخارِيِّ (رَقْم : 2051) : « الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ : كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ . وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الإِثْمِ : أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ . وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ » .(1/11)
.
فظهرَ بذلكَ دِلالةُ الآيَتَينِ المذكورتَينِ على : أنَّ المصدرَ الأولَ للإيمانِ القلبُ ، فإذا آمَنَ القلبُ آمَنَت الجوارحُ بِفِعلِ المأموراتِ وتركِ المنهِيَّاتِ ؛ لأنَّ القلبَ أميرُ البَدَنِ , وذلك يدلُّ دِلالةً واضِحَةً على : أنَّ القلبَ ما كانَ كذلكَ إلاَّ لأنَّهُ محلُّ العقلِ الذي بهِ الإدراكُ والفَهمُ كَمَا تَرَى .
28ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ : ? وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? الآيَةُ (1) فأسندَ الإثمَ بِكَتمِ الشَّهادةِ للقلبِ ولم يُسنِدْهُ للدِّماغِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ كتمَ الشَّهادةِ الذي هو سببُ الإثمِ واقعٌ عن عَمدٍ ، و أَنَّ محلَّ ذلكَ العَمْدُ : القلبُ ؛ وذلكَ لأنَّه محلُّ العقلِ الذي يحصُلُ بهِ الإدراكُ وقصدُ الطَّاعَةِ وقَصدُ المعصِيةِ كما تَرى .
29ـ وَقَاْلَ اللهُ تَعَاْلَىَ في حفصةَ وعائشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ : فَقَدْ صَغَتْ (2) قُلُوبُكُمَا ? (3) أَي : إنْ مالَت قُلوبُكُما إلَى أمرٍ تَعلَمان أنَّه صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكرَهُهُ , سواءٌ قُلنا :
1 : إِنَّهُ تحريمُ شُربِ العَسَلِ الذي كانَت تَسقِيهِ إيّاهُ إحدَى نِسائِهِ (4)
__________
(1) سُورَةُ البقرةِ : 238 .
(2) مالَت إِلى ما يَجِبُ عليكما تِجاه رَسولِ الله صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن تَعظيمِ وإجلالٍ .
(3) سُورَةُ التَّحريمِ : 4 .
(4) اختَلَف العلماءُ في تَحديدِ التي سَقَت الرَّسولِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَسَلَ ؛ هل هِيَ (زَينَبُ بِنتُ جَحشٍ) أو (حَفْصَة بِنْت عُمَر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُماْ . اُنْظُرْ : (تَفسيرَ القُرطُبِي) 18/157-159 (المَهدِي) .
• قالَ الحافظُ في الفَتحِ (رَقْم : 5266) : ( ذَكَرَ الْمُصَنِّف (أي البُخارِيّ) حَدِيث عَائِشَة فِي قِصَّة شُرْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَسَل عِنْد بَعْض نِسَائِهِ فَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
(1) أَحَدهمَا : مِنْ طَرِيق : عُبَيْد بْن عُمَيْر ، عَنْ عَائِشَة ، وَفِيهِ : ( أَنَّ شُرْب الْعَسَل كَانَ عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاْ ) [ خ (رَقْم : 4912) م (رَقْم : 1474) ] .
(2) وَالثَّانِي : مِنْ طَرِيق هِشَام بْن عُرْوَة ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَة . وَفِيهِ : ( أَنَّ شُرْب الْعَسَل كَانَ عِنْد حَفْصَة بِنْت عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاْ ) [ خ (رَقْم : 5268) م (رَقْم : 1479/21) ] . فَهَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ .
(3) وَأَخْرَجَ اِبْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيق : اِبْن أَبِي مُلَيْكَة ، عَنْ اِبْن عَبَّاس : ( أَنَّ شُرْب الْعَسَل كَانَ عِنْد سَوْدَة , وَأَنَّ عَائِشَة وَحَفْصَة هُمَا اللَّتَانِ تَوَاطَأَتَا ) عَلَى وَفْق مَا فِي رِوَايَة : عُبَيْد بْن عُمَيْر ، وَإِنْ اِخْتَلَفَا فِي صَاحِبَة الْعَسَل .
وَطَرِيق الْجَمْع بَيْن هَذَا الاخْتِلاف :
1ـ الْحَمْلُ عَلَى التَّعَدُّد فَلا يَمْتَنِع تَعَدُّد السَّبَب لِلأَمْرِ الْوَاحِد .
2ـ فَإِنْ جُنِحَ إِلَى التَّرْجِيح : فَرِوَايَةُ (عُبَيْد بْن عُمَيْر) [ أنَّها زَيْنَب بِنْت جَحْش ] أَثْبَتُ ؛ لِمُوَافَقَةِ اِبْن عَبَّاس لَهَا عَلَى أَنَّ : الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ حَفْصَة وَعَائِشَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِير وَفِي الطّلاق مِنْ جَزْم عُمَر بِذَلِكَ [ صَحيحُ البُخاريِّ (رَقْم : 4913 و5191) ومُسلم (رَقْم : 1479) ] , فَلَوْ كَانَتْ حَفْصَة صَاحِبَة الْعَسَل لَمْ تُقْرَن فِي التَّظَاهُر بِعَائِشَة .
3ـ لَكِنْ : يُمْكِنُ تَعَدُّد الْقِصَّة فِي شُرْب الْعَسَل وَتَحْرِيمه ، وَاخْتِصَاص النُّزُول : بِالْقِصَّةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ عَائِشَة وَحَفْصَة هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ .
4ـ وَيُمْكِن : أَنْ تَكُون الْقِصَّة الَّتِي وَقَعَ فِيهَا شُرْب الْعَسَل عِنْد حَفْصَة كَانَتْ سَابِقَة [ لِقِصَّةِ زَيْنَب بِنْت جَحْش ] ، وَيُؤَيِّد هَذَا الْحَمْل : أَنَّهُ لَمْ يَقَع فِي طَرِيق : هِشَام بْن عُرْوَة الَّتِي فِيهَا : أَنَّ شُرْب الْعَسَل كَانَ عِنْد حَفْصَة تَعَرُّض لِلآيَةِ وَلا لِذِكْرِ سَبَب النُّزُول .
• أما ذِكر سَودة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاْ :
فَالرَّاجِح أَيْضًا : أَنَّ صَاحِبَة الْعَسَل زَيْنَب لا سَوْدَة ؛ لأَمرينِ :
1ـ أَنَّ طَرِيق : (عُبَيْد بْن عُمَيْر) أَثْبَت مِنْ طَرِيق : (اِبْن أَبِي مُلَيْكَة) بِكَثِيرٍ , وَلا جَائِز أَنْ تَتَّحِد بِطَرِيقِ هِشَام بْن عُرْوَة ؛ لأَنَّ فِيهَا أَنَّ سَوْدَة كَانَتْ مِمَّنْ وَافَقَ عَائِشَة عَلَى قَوْلهَا : ( أَجِدُ رِيحَ مَغَافِير ) .
2ـ وَيُرَجِّحهُ أَيْضًا : مَا مَضَى فِي كِتَاب الْهِبَة [ من صَحيحِ البُخاريِّ (رَقْم : 2581) ] عَنْ عَائِشَة : ( أَنَّ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ حِزْبَيْنِ : أَنَا وَسَوْدَة وَحَفْصَة وَصَفِيَّة فِي حِزْب , وَزَيْنَب بِنْت جَحْش وَأُمّ سَلَمَة وَالْبَاقِيَات فِي حِزْب ) فَهَذَا يُرَجِّح : أَنَّ زَيْنَب هِيَ صَاحِبَة الْعَسَل ، وَلِهَذَا غَارَتْ عَائِشَة مِنْهَا لِكَوْنِهَا مِنْ غَيْر حِزْبهَا وَاللَّهُ أَعْلَم .
وعَلَيه : فَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَزْم الدَّاوُدِيّ : بِأَنَّ تَسْمِيَة الَّتِي شَرِبَتْ الْعَسَل حَفْصَة غَلَط ، وَإِنَّمَا هِيَ صَفِيَّة بِنْت حُيَيٍّ أَوْ زَيْنَب بِنْت جَحْش .
وَمِمَّنْ جَنَحَ إِلَى التَّرْجِيح : عِيَاض وَمِنْهُ تَلَقَّفَ الْقُرْطُبِيّ , وَكَذَا : نَقَلَهُ النَّوَوِيّ عَنْ عِيَاض وَأَقَرَّهُ فَقَالَ عِيَاض : ( رِوَايَة عُبَيْد بْن عُمَيْر أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهَا ظَاهِر كِتَاب اللَّه , لأَنَّ فِيهِ ? وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ? فَهُمَا ثِنْتَانِ لا أَكْثَر . وَلِحَدِيثِ : اِبْن عَبَّاس عَنْ عُمَر [ البُخاريِّ (رَقْم : 4913 و5191) ومُسلم (رَقْم : 1479) ] . قَالَ : فَكَأَنَّ الأَسْمَاء اِنْقَلَبَتْ عَلَى رَاوِي الرِّوَايَة الأُخْرَى ) ه .
وَتَعَقَّبَ الْكَرْمَانِيُّ مَقَالَة عِيَاض فَأَجَادَ فَقَالَ : ( مَتَى جَوَّزْنَا هَذَا اِرْتَفَعَ الْوُثُوق بِأَكْثَر الرِّوَايَات ) ه .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ [ في المُفهِم 4/251 ] : ( الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا أَنَّ الْمُتَظَاهِرَات عَائِشَة وَسَوْدَة وَصَفِيَّة لَيْسَتْ بِصَحِيحَةِ ؛ لأَنَّهَا مُخَالَفَة لِلتِّلاوَةِ لِمَجِيئِهَا بِلَفْظِ خِطَاب الاثْنَيَتَنِ ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَجَاءَتْ بِخِطَابِ جَمَاعَة الْمُؤَنَّث . ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الأَصِيلِيّ وَغَيْره : أَنَّ رِوَايَة عُبَيْد بْن عُمَيْر أَصَحّ وَأَوْلَى ) ه .
وَمَا الْمَانِع : أَنْ تَكُون قِصَّة حَفْصَة سَابِقَة , فَلَمَّا قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ : تَرَكَ الشُّرْب مِنْ غَيْر تَصْرِيح بِتَحْرِيمٍ ، وَلَمْ يَنْزِل فِي ذَلِكَ شَيْء , ثُمَّ : لَمَّا شَرِبَ فِي بَيْت زَيْنَب تَظَاهَرَتْ عَائِشَة وَحَفْصَة عَلَى ذَلِكَ الْقَوْل ؛ فَحَرَّمَ حِينَئِذٍ الْعَسَل فَنَزَلَتْ الآيَة .
قَالَ [ لعلَّهُ الْكَرْمَانِيُّ ] : ( وَأَمَّا ذِكْر سَوْدَة مَعَ الْجَزْم بِالتَّثْنِيَةِ فِيمَنْ تَظَاهَرَ مِنْهُنَّ : فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ كَالتَّابِعَةِ لِعَائِشَة وَلِهَذَا وَهَبَتْ يَوْمهَا لَهَا , فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الْهِبَة فَلا اِعْتِرَاض بِدُخُولِهِ عَلَيْهَا , وَإِنْ كَانَ بَعْده فَلا يَمْتَنِع هِبَتهَا يَوْمهَا لِعَائِشَة أَنْ يَتَرَدَّد إِلَى سَوْدَة ) .
قُلْت : لا حَاجَة إِلَى الاعْتِذَار عَنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ ذِكْر سَوْدَة إِنَّمَا جَاءَ فِي قِصَّة شُرْب الْعَسَل عِنْد حَفْصَة وَلا تَثْنِيَة فِيهِ وَلا نُزُول عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَمْع الَّذِي ذَكَرَهُ , وَأَمَّا قِصَّة الْعَسَل عِنْد زَيْنَب بِنْت جَحْش فَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ عَائِشَة قَالَتْ : ( تَوَاطَأْت أَنَا وَحَفْصَة ) [ خ (رَقْم : 4912 و5267 و6691) ومُسلم (رَقْم : 1474) ] فَهُوَ مُطَابِق لِمَا جَزَمَ بِهِ عُمَر مِنْ أَنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَائِشَة وَحَفْصَة وَمُوَافِق لِظَاهِرِ الآيَة وَاللَّهُ أَعْلَم .
وَوَجَدَتْ لِقِصَّةِ شُرْب الْعَسَل عِنْد حَفْصَة شَاهِدًا : فِي (تَفْسِير اِبْن مَرْدَوَيْهِ) مِنْ طَرِيق : يَزِيد بْن رُومَان عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَرُوَاته لا بَأْس بِهِمْ , وَقَدْ أَشَرْت إِلَى غَالِب أَلْفَاظه . وَوَقَعَ فِي (تَفْسِير السُّدِّيّ) : ( أَنَّ شُرْب الْعَسَل كَانَ عِنْد أُمّ سَلَمَة ) أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْره . وَهُوَ مَرْجُوح ؛ لإِرْسَالِهِ وَشُذُوذه , وَاللَّهُ أَعْلَم ) .(1/12)
.
2 : أو قُلْنا : إنَّهُ تحريمُ جارِيتَهُ مارِيةَ (1)
__________
(1) أخْرَجَهُ : الدَّارَقُطنِيّ في (سُنَنِه) 4/42 مُسنَداً من حديثِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا . وسندُهُ ضَعيفٌ ؛ لِضَعفِ (عبدِ اللهِ بن شَبيبِ الرَّبعِيّ) واهٍ كما في (الميزان) 4/118 .
وأخرَجَهُ ابنُ سَعد فِي (الطّبقاتِ) 8/150 مُرسَلاً عن زَيدِ بنِ أسلَمَ . اُنْظُرْ : حَواشِي (الكَشَّاف) للزَّمَخشَري 6/154-155 (ط : العُبَيكان) .
وأخرَجَهُ النَّسائِي في (السّنن الصّغرى) (رَقْم : 3959) و(السّنن الكبرى) (رَقْم : 627 التَّفسيرُ) عَن : إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ حَرَمِيٌّ هُوَ لَقَبُهُ (صَدوقٌ) ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ (البنانِيّ) ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ? إِلَى آخِرِ الآيَةِ ) ه .
وهذا سَنَدٌ حَسَنٌ . وقال الحافظُ في (الفَتحِ) : ( أخرجَهُ النَّسائي بِسندٍ صَحيحٍ ) . ولَكن ليسَ فيه ذِكرٌ لِمارِية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاْ .
وأخرجه الحاكم في (المُستدرَكِ) 2/493 وصَحَّحَهُ على شَرطِ مُسلمٍ . ووافقَهُ الذّهبيّ .
• وقال الحافظُ في (الفَتحِ) : ( وَوَقَعَ فِي رِوَايَة : يَزِيد بْن رُومَان ، عَنْ عَائِشَة عِنْد اِبْن مَرْدَوَيْهِ مَا يَجْمَع الْقَوْلَيْنِ [ في سَبَبَي النّزولِ ] وَفِيهِ : ( أَنَّ حَفْصَة أُهْدِيَتْ لَهَا عُكَّة فِيهَا عَسَل , وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَبَسَتْهُ حَتَّى تُلْعِقهُ أَوْ تَسْقِيه مِنْهَا , فَقَالَتْ عَائِشَة لِجَارِيَةٍ عِنْدهَا حَبَشِيَّة يُقَال لَهَا خَضْرَاء : ( إِذَا دَخَلَ عَلَى حَفْصَة فَانْظُرِي مَا يَصْنَع ) فَأَخْبَرَتْهَا الْجَارِيَة بِشَأْنِ الْعَسَل , فَأَرْسَلَتْ إِلَى صَوَاحِبهَا فَقَالَتْ : ( إِذَا دَخَلَ عَلَيْكُنَّ فَقُلْنَ : إِنَّا نَجْد مِنْك رِيح مَغَافِير ) , فَقَالَ : « هُوَ عَسَل , وَاللَّه لا أَطْعَمَهُ أَبَدًا » . فَلَمَّا كَانَ يَوْم حَفْصَة اِسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَأْتِي أَبَاهَا ، فَأَذِنَ لَهَا فَذَهَبَتْ فَأَرْسَلَ إِلَى جَارِيَته مَارِيَة فَأَدْخَلَهَا بَيْت حَفْصَة , قَالَتْ حَفْصَة : ( فَرَجَعْت فَوَجَدْت الْبَاب مُغْلَقًا فَخَرَجَ وَوَجْهه يَقْطُر وَحَفْصَة تَبْكِي فَعَاتَبَتْهُ فَقَالَ : « أُشْهِدك أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَام , اُنْظُرِي لا تُخْبِرِي بِهَذَا اِمْرَأَة وَهِيَ عِنْدك أَمَانَة » . فَلَمَّا خَرَجَ قَرَعَتْ حَفْصَة الْجِدَار الَّذِي بَيْنهَا وَبَيْن عَائِشَة فَقَالَتْ : ( أَلا أُبَشِّرك ؟ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَرَّمَ أَمَته ) فَنَزَلَتْ ) ه .
وَعِنْد اِبْن سَعْد مِنْ طَرِيق : شُعْبَة مَوْلَى اِبْن عَبَّاس عَنْهُ : ( خَرَجَتْ حَفْصَة مِنْ بَيْتهَا يَوْم عَائِشَة فَدَخَلَ رَسُول اللَّه بِجَارِيَتِهِ الْقِبْطِيَّة بَيْت حَفْصَة ، فَجَاءَتْ فَرَقَبَته حَتَّى خَرَجَتْ الْجَارِيَة فَقَالَتْ لَهُ : ( أَمَا إِنِّي قَدْ رَأَيْت مَا صَنَعْت ) قَالَ : « فَاكْتُمِي عَلَيَّ وَهِيَ حَرَام » فَانْطَلَقَتْ حَفْصَة إِلَى عَائِشَة فَأَخْبَرَتْهَا , فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَة : ( أَمَّا يَوْمِي فَتَعْرِض فِيهِ بِالْقِبْطِيَّةِ وَيَسْلَم لِنِسَائِك سَائِر أَيَّامهنَّ ) فَنَزَلَتْ الآيَة ) ه .
• وقال الحافظُ في (الفَتحِ) : ( وَفِيهِ قَوْل آخَر [ أي قولٌ ثالِثٌ ] : أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث جَابِر قَالَ : ( جَاءَ أَبُو بَكْر وَالنَّاس جُلُوس بِبَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤْذَن لأَحَدٍ مِنْهُمْ ، فَأُذِنَ لأَبِي بَكْر فَدَخَلَ . ثُمَّ جَاءَ عُمَر فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ ، فَوَجَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْله نِسَاؤُهُ - فَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِيهِ - : « هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَة » فَقَامَ أَبُو بَكْر إِلَى عَائِشَة ، وَقَامَ عُمَر إِلَى حَفْصَة , ثُمَّ اِعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا ) ه فَذَكَرَ نُزُول آيَة التَّخْيِير .
وَيَحْتَمِل : أَنْ يَكُون مَجْمُوع هَذِهِ الأَشْيَاء كَانَ سَبَبًا لاعْتِزَالِهِنَّ . وَهَذَا هُوَ اللائِق بِمَكَارِمِ أَخْلاقه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعَة صَدْره وَكَثْرَة صَفْحه , وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَع مِنْهُ حَتَّى تَكَرَّرَ مُوجِبه مِنْهُنَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ ) ه .
قال الحافظُ ابن حجرٍ في (الفَتحِ) (رَقْم : 5191) : ( وَالرَّاجِح مِنْ الأَقْوَال كُلّهَا : قِصَّة مَارِيَة لاخْتِصَاصِ عَائِشَة وَحَفْصَة بِهَا ، بِخِلافِ (الْعَسَل) فَإِنَّهُ اِجْتَمَعَ فِيهِ جَمَاعَة مِنْهُنَّ .
وَيَحْتَمِل : أَنْ تَكُون الأَسْبَاب جَمِيعهَا اِجْتَمَعَتْ فَأُشِيرَ إِلَى أَهَمّهَا . وَيُؤَيِّدهُ : شُمُول الْحَلِف لِلْجَمِيعِ ، وَلَوْ كَانَ مَثَلا فِي قِصَّة مَارِيَة فَقَطْ لاخْتَصَّ بِحَفْصَةَ وَعَائِشَة ) ه .(1/13)
.
فقولُهُ تَعالى : ? صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ? أَي مالَت ، يدلُّ على أنَّ الإدراكَ وقصدُ الميلِ المذكورِ محلُّهُ : القلبُ . ولو كان الدِّماغُ لقالَ : ( فقد صَغَتَ أدمِغَتُكُما ) كما ترى .
ولما ذكرَ كلٌّ منَ اليهودِ والمشركينَ أنَّ محلَّ عقولِهم هو قلوبُهُم ، قَرَّرَهُم اللهُ على ذلكَ ؛ لأنَّ كونَ القلبِ محلُّ العقلِ هوَ حقٌّ , وأَبطلَ دَعواهُم مِن جهةٍ أُخرى ، وذلكَ يَدلُّ بإيضاحٍ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ .
30ـ أما اليهودُ لعنَهُم اللهُ :
فقد ذكر اللهُ ذلك عنهم في قولِهَِ : ? وَقَالُواْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? (1) , فقالَ تعالى : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ { صَفْحَة : 5 } ? (2) فقولُهم : ? قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? [ (غلف) فيها قِراءتانِ ] (3) :
1 : (غُلْفٌ) بسكونِ الَّلامِ (4) ؛ يعنونَ : أَنَّ عليها غِلافاً أي : غِشاءً يَمْنَعُها مِن فهمِ ما تَقولُ .
فقرَّرَهُم اللهُ تَعالَى على : أَنَّ قلوبَهم هيَ محلُّ الفَهمِ والإدراكِ ؛ لأنَّها محلُّ العقلِ ، ولكن كَذَّبَهم في ادِّعائِهم أَنَّ عليها غِلافاً مانِعاً مِن الفَهمِ , فقالَ على سبيلِ الإضْرابِ الإبْطالِي (5) : ? بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ? .
__________
(1) سُورَةُ البقرةِ : 88 .
(2) سُوْرَةُ النِّساءِ : 155 .
(3) اُنْظُرْ : (تَفسير القُرطُبي) 6/11 و(زاد المسير) لابن الجوزي 1/86.
(4) غُلْف : جمعُ أَغلَفِ ؛ وهو الشّديد الغلاف ، مُشتقّ من (غَلَّفَهُ) إذا جعل له غِلافاً ، وهو الوِعاء الحافظ للشيءِ . (التحرير والتنوير) 1/582 .
(5) اُنْظُرْ : (الوجيز في الأدواتِ النَّحويَّة) (صَفْحَة : 67-68) .(1/14)
2 : وأمَّا على قِراءَةِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما : ( قُلُوبُنا غُلُفْ ) بِضَمَّتَين ؛ يَعنونَ : أنَّ قُلوبَهم كأنَّها غِلافٌ مَحْشُوٌّ بِالعُلومِ والمعارِفِ فلا حاجَةَ إلَى ما تَدعونَنا إليهِ .
وذلكَ يدلُّ على عِلمِهِم بأَنَّ محلَّ العلمِ والفَهمِ : القُلوبَ لا الأدمِغَةَ .
31ـ وأمَّا المشركونَ :
فقد ذكرَ اللهُ ذلكَ عنهُم في قولِهِ : ? وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ? الآيَةُ (1) فكانوا عالِمِين بأنَّ محلَّ العقلِ : القلبُ , ولذا قالوا : ? قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ? ولم يَقولُوا : ( أدمِغَتِنا في أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) , والله لم يُكَذِّبْهُم في ذلكَ ولكنَّهُ وَبَّخَهُم على كُفرِهِم بِقولِهِ : ? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ? الآيَةُ (2) وهذه الآياتِ التي أُطلِقَ فيها القلبُ مراداً بهِ العقلُ ؛ لأنَّ القلبَ هو محلُّهُ , أوضحَ اللهُ المرادَ منها بقولِهِ : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ? الآيَةُ (3) فصَرَّحَ : بأَنَّهم يَعقِلونَ بالقلوبِ ، وهو يدلُّ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ دلالةً لا مطعنَ فيها كما ترى .
32ـ وقالَ اللهُ تعالَى : ? فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ? (4) ولم يَقُل : ( يختمُ على دِماغِكَ ) .
__________
(1) سُوْرَةُ فُصِّلَت : 5 .
(2) سُوْرَةُ فُصِّلَتْ : 9 .
(3) سُوْرَةُ الحجِّ : 46 .
(4) سُوْرَةُ الشُّورَى : 24 .(1/15)
33ـ وقالَ تَعالى : ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ? (1) ولم يقُلْ : ( خَتَمَ على أدمِغَتِكُم ) .
34ـ وقالَ تعالى في سُوْرَةُ النَّحلِ : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ? (2) ، وقالَ تعالَى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ? الآيَةُ (3) ولم يَقُل : ( امْتَحَنَ أَدمِغَتَهُم ) .
35ـ وقالَ تَعالَى : ? وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ? الآيَةُ (4) والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ ؛ ولِنَكْتَفِ مِنْها بما ذَكَرْناهُ خَشيَةَ الإطالَةِ الْمُمِلَّةِ .
• وأَمَّا الأَحاديثُ الْمُطابِقَةُ لِلآياتِ التي ذَكَرناها والدَّالَّةِ على أَنَّ مَحَلَّ العَقلِ القَلبُ فهِيَ كَثيرةٌ جِدّاً :
كالحديثِ الصَّحيحِ والذي فيهِ : « أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ : صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . وَإِذَا فَسَدَتْ : فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ » (5) ولم يقل فيه : ( أَلا وَهِي الدِّماغُ ) .
__________
(1) سُوْرَةُ الأنعامِ : 46 .
(2) سُوْرَةُ النَّحلِ : 108 .
(3) سُوْرَةُ الحُجُراتِ : 3 .
(4) سُوْرَةُ الحُجُراتِ : 7 .
(5) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (رَقْم : 52 و2051) ومُسلِمٌ (رَقْم : 1599) وقد تَقدَّم .(1/16)
وكقولِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : « يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » . قَالَ : فَقُلْنَا ! يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : فَقَالَ : « نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا » (1) ولم يقلْ : ( يا مُقَلِّبَ الأدمِغَةَ ثَبِّتْ دِماغِي على دِينِكَ ) .
وكقولِهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسَلِّم : « قَلْبُ المؤْمِنِ بَينَ إصْبَعَينِ مِنْ أَصابِعِ الرَّحمنِ » (2) وهو مِن أحاديثِ الصِّفاتِ { صَفْحَة : 6 }، ولم يقل : دِماغُ المؤمن … إلخ .
والأحاديثُ بِمثِلِ هذا كثيرةٌ جِدّا فلا نُطيلُ بها الكلامَ .
[ الخُلاصَةُ ]
__________
(1) أخْرَجَهُ : التِّرمذيّ (رَقْم : 2140) وابن ماجة (رَقْم : 3834) وأحمد 3/112 و257 وابنُ أبي شَيبة 10/209 [ 10/21-22 (رَقْم : 29685) ] 11/36 [ 10/308-309 (رَقْم : 30922) ] والحاكم 1/526 والبَغَوي في (شَرح السنة) (رَقْم : 88) وأبو نُعيم في (الحلية) 8/122 .
حَسَّنهُ التِّرمذي ، وصَحَّحهُ الحاكم ووافقه الذّهبي والألبانِيّ في (السِّلسِلة الصحيحة) 5/126 (رَقْم : 2091) .
(2) أخْرَجَهُ : مُسلِم (رَقْم : 2654) بِغير هذا اللفظِ مِنْ حَديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : « أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ . اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ » .(1/17)
وقد تَبَيَّنَ ممَّا ذَكَرنا : أَنَّ خالِقَ العَقلِ وواهِبَهُ للإنسانِ بَيَّنَ في آياتٍ قُرآنِيّةٍ كَثيرةٍ أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ , وخالِقُهُ أعلمُ بمكانِهِ مِن كَفَرَةِ الفَلاسِفَةِ .
وكذلكَ رسولُ اللهِ صَلَّى الله عَليهِ وآلِهِ وَسَلِّم كما رَأَيتَ .
أمَّا عامَّةُ الفَلاسِفَةِ إلاَّ القليلُ النَّادِرِ مِنهُم فإنَّهم يَقولونَ : أَنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ .
وشذَّت طائفةٌ مِن مُتأخِّريهم : فزَعَموا أنَّ العَقلَ ليسَ لهُ مَركَزٌ مَكانِيٌّ في الإنسانِ أَصلاً ؛ وإنَّما هو زَمانِيٌّ مَحضٌ لا مَكانَ لهُ .
وقولُ هؤلاءِ أَظهَرُ سُقوطاً مِن أنْ يُشْتَغَلُ بِالكَلامِ عَلَيهِ .
ومِن أشهرِ الأَدلَّةِ التي يَستَدِلُّ بها القائلونَ مِنْ أنَّ محلَّ العقلِ الدِّماغُ ؛ هو : أنَّ كلَّ شيءٍ يُؤثِّرُ في الدِّماغِ يُؤثِّرُ في العقلِ .
ونحنُ لا نُنكِرُ أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ؛ ولكن نَقولُ بِموجِبِهِ , فنقولُ : سَلَّمنا أنَّ العقلَ قد يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ ، ولكن لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلكَ يَستَلزِمُ أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ :
فَكَم مِن عُضوٍ مِن أعضاءٍ الإنسانِ خارِجٌ عَنِ الدِّماغِ بلا نِزاعٍ وهوَ يَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الدِّماغِ كما هوَ معلومٌ .
وكَم مِن شَلَلٍ في بعضِ أعضاءِ الإنسانِ ناشِئٌ عَن اختلالٍ واقِعٍ في الدِّماغِ .
فالعقلُ خارِجٌ عَن الدِّماغِ ؛ ولكنَّ سَلامَتَهُ مَشروطَةٌ بِسلامَةِ الدِّماغِ ؛ كالأعضاءِ التي تختلُّ باختِلالِ الدِّماغِ ؛ فإنَّها خارِجَةٌ عنهُ معَ أنَّ سلامَتَها مَشروطٌ فيها سلامَةُ الدِّماغِ كما هوَ معروفٌ .
وإظهارُ حُجَّةَ هؤلاءِ والرَّدُّ عليها على الوجهِ المعروفِ في (آدابِ البحثِ والمناظرةِ) :(1/18)
أنَّ حاصِلَ دليلِهم : أنهم يستدلون بـ(قياسٍ منطقيٍّ) من الشرطِ المتَّصلِ المركَّبِ من : شَرطِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ لُزومِيَّةٍ واستِثنائِيَّة يَستَثنونَ فيهِ نَقيضَ التَّالِي فينتجُ لهم في زعمِهم دعواهُم المذكورَةُ والتي هي نَقيضُ المقدَّمِ .
وصورَتُهُ : أنَّهم يقولونَ : ( لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ على الدِّماغِ ، لكنَّهُ يَتَأَثَّرُ بِكُلِّ مُؤَثِّرٍ على الدِّماغِ . فَيَنتُجُ : أَنَّ العقلَ في الدِّماغِ ) .
وهذا الاستدلالُ مردودٌ بالنَّقضِ التَّفصيليِّ الذي هوَ المنعُ ؛ وذلك : بِمَنعِ كُبْراهُ التي هيَ شَرطِيَّتُهُ ؛ فنقولُ :
المانِعُ : مَنعُ قولِكَ : (لو لم يكُن العقلُ في الدِّماغِ لَما تَأَثَّرَ بِكُلِّ مُؤثِّرٍ علي الدِّماغِ) بل هو خارِجٌ عَن الدِّماغِ ، معَ أَنَّهُ يتأثَّرُ بكلِّ مؤثِّرٍ على الدِّماغِ كغيرِهِ مِنَ الأعضاءِ التي تتأثَّرُ بِتأثّرِ الدِّماغِ . فالرَّابطُ بينَ التَّاليِ والمقدّم غَيرُ صحيحٍ ، والمحلُّ الذي يَتوارَدُ عليهِ { صَفْحَة : 7 } الصِّدقُ والكذِبُ في الشَّرطِيَّةِ إنَّما هو الرَّابِطُ بين مُقَدِّمِها وتاليها , فإنْ لم يكُن الرَّبطُ صَحيحاً كانَت كاذِبِةً , والرَّبطُ في قَضِيتِهم المذكورةِ : كاذِبٌ , فظهرَ بُطلانُ دَعواهُم .
وهناكَ طائفةٌ ثالثةٌ : أرادت أنْ تجمعَ بينَ القولين ؛ فقالتْ : إنَّ ما دَلَّ عليه الوحي مِن كونِ محلِّ العقلِ هو القلبُ صحيحٌ , وما يقولُه الفلاسفةُ ومَن وافَقهُم من أنَّ محلَّهُ الدِّماغُ صحيحٌ أيضاً , فلا منافاةَ بينَ القولَين .
قالُوا : ووجهُ الجَمعِ أنَّ العقلَ في القَلبِ كما فِي القُرآنِ والسَّنة ، ولكنَّ نُورُهُ يَتَصاعَدُ مِنْ القَلبِ فيتَّصِلُ بِالدِّماغِ ، وبواسطةِ اتِّصالِهِ بالدِّماغِ يَصدُقُ عليهِ أنَّهُ في الدِّماغِ من غيرِ مُنافاةٍ لكونِ محلِّهِ هو القلبُ .(1/19)
قالُوا : وبهذا يندَفِعُ التَّعارُضُ بَيْنَ النَّظرِ العَقلي الذي زعمَهُ الفلاسفةُ وبَينَ الوَحي .
واستدلَّ بعضُهم لهذا الجمعِ بـ(الاستقراءِ غَيرِ التَّامِّ) وهوَ المعروفُ في الأصولِ بـ(الإِلحاقِ بالغالبِ) وهو حُجَّة ظنِّيَّةٌ عِندَ جماعةٍ مِنَ الأصوليينَ ، وإليه أشارَ صاحبُ (مراقي السُّعودِ) في كتابِ الاستدلالِ (1) ، في الكلامِ على أقسامِ الاستقراء بقوله :
وَهْوَ لَدَىَ البَعْضُ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبَ يُسْمَى لُحُوْقَ الفَرْدِ بِالَّذِيْ غَلَبْ
ومعلومٌ أنَّ (الاستقراءَ) هوَ : تَتَبّعُ الأفرادِ حتى يغلبَ على ظنِّهِ أنَّ ذلكَ الحكمَ مُطَّرِدُ فِي جميعِ الأَفرادِ .
وإيضاحُ هذا : أنَّ القائلينَ بالجمعِ المذكورِ بين الوحيَ وأقوالَ أهلِ الفلسفَةِ في محلِّ العقلِ ؛ قالت جماعةٌ منهُم : دليلُنا على هذا الجمعِ الاستقراءُ غيرُ التَّامِّ , وذلك أنَّهم قالوا : تتبَّعنا أفرادَ الإنسانِ الطَّويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً زائِداً على المعهودِ زِيادَةً بَيِّنَةً ؛ فوجَدنا كلَّ طويلِ العُنُقِ طُولاً مُفرِطاً ناقِصَ العَقلِ ؛ وذلك لأنَّ طولَ [ العُنُق ] (2) طولاً مُفرِطاً يلزمُهُ بُعدَ المسافةِ بينَ طريقِ نُورِ العقلِ الكائنِ في القلبِ وبينَ المتصاعِدِ منهُ إلى الدِّماغِ , وبُعدُ المسافةِ بينَ طَرَفيهِ قد يُؤدِّي إلى عدمِ تماسُكِه واجتماعِه فيظهرُ فيه النَّقصُ .
وهذا الدَّليلُ كما ترى ليسَ فيه مقنَعٌ وإنْ كان يُشاهَدُ مِثلَهُ في الخارِجِ كَثيراً .
( فتَحصَّل مِنْ هذا :
أنَّ الذي يقولُ : ( أنَّ العقلَ في الدِّماغِ وحدَهُ وليسَ في القلبِ منهُ شيءٌ ) أنَّ قولَهُ في غايةِ البُطلانِ ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ لآياتٍ وأحاديثَ كثيرةٍ جدّاً كما ذَكَرنا بعضَهُ .
__________
(1) اُنْظُرْ : (نَثر الورودِ على مراقي السّعودِ) للمؤَلِّف 2/567-568 .
(2) في الأصل : (العقل) .(1/20)
وهذا القولُ لا يتجرّأُ عليهِ مسلمٌ إلاَّ إن كانَ لا يُؤمِنُ بكتابِ اللهِ ولا بِسُنَّةِ رسولِهِ ( ؛ وهوَ إنْ كانَ كذلكَ : فَلَيسَ بمسلمٍ { صَفْحَة : 8 } .
ومَنْ قالَ : ( إنَّهُ في القلبِ وحدَهُ وليسَ في الدِّماغِ منهُ شيءٌ ) فقولُهُ هو ظاهِرُ كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِهِ ( ، ولم يقُم دليلٌ جازمٌ قاطعٌ مِن نَقلٍ ولا عقلٍ على خِلافِهِ .
ومَنْ جمعَ بينَ القولينِ ؛ فقولُهُ : جائزٌ عَقلاً ، ولا تكذيبَ فيهِ للكتابِ ولا للسّنّةِ ، ولكنَّهُ يحتاجُ إلى دليلٍ يجبُ الرُّجوعُ إليهِ ؛ ولا دليلَ عليهِ منَ النَّقلِ ؛ فإنْ قامَ عليهِ دليلٌ مِن عقلٍ أو استقراءٍ محتجٌّ بهِ فلا مانِعَ مِنْ قَبولِه . والعلمُ عندَ الله .
وهذا ما يَتَعَلَّقُ بِالمسأَلَةِ الأُولَى
[ المسألَةُ الثَّانِيَةِ : الفَرقُ بينَ (الكُفَّارِ) و(أَهلِ الكِتابِ) ]
وأمَّا الجوابُ عنِ المسألةِ الثَّانيةِ :(1/21)
فهوَ أنَّ ما ذَكَرتُم : مِن أنَّ القُرآنَ فرَّقَ بينَ (المشركينَ) وبينَ (أهلِ الكتابِ) (1) ، واستَشهَدتُم لذلكَ بآيةِ المائدةِ : ? لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ : الْيَهُودَ ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ . وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ : الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ? (2) فهُوا كما ذَكَرتُم ؛ لأنَّ العَطفَ يَقتَضِي بظاهرِهِ الفرقَ بينَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه (3) , وقد تكرَّرَ في القرآنِ عطفُ بعضِهم على بعضٍ كالآيةِ التي تفضَّلتُم بذكرِها .
وكقولِهِ تَعالَى : ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ : أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ؛ مُنفَكِّينَ ? الآيَةُ (4) .
وقولِه تَعالَى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ : أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ? الآيَةُ (5) .
وقولِه تَعالَى : ? مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ : أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ? الآيَةُ (6) .
__________
(1) اُنْظُرْ : (الْمُحَلَّى) لابن حَزم 4/443 وانظُر التَّتِمَّةَ .
(2) سُورَةُ المائدةِ : 82 .
(3) اُنْظُرْ مَذاهبُ العُلماء في (الواوِ العاطِفَة) : (القَواعدُ) لِعلِي بنِ محمدِ البَعلِي المَعروفُ بِـ(ابنِ اللَّحَّامِ) 1/427-438 وبَعضِ فُروع القاعدة 1/438-448 (زِينَةَ العَرائِسِ مِنَ الطُّرَفِ والنَّفائِسِ في تَخريجِ الفُروعِ الفِقهِيَّةِ على القَواعِدِ النَّحْوِيَّة) ليُوسُف بن حَسَن بِن عبد الهادِي المَعروف بِـ(ابنِ الْمِبْرَدِ) (صَفْحَة : 281-282) (المَحصول) للرَّازِي 1/363 و(البَحر الْمُحيط) للزَّركَشي 2/253 والتَّمهيد لِلأَسنَوي (صَفْحَة : 203) .
(4) سُورَةُ البيِّنةِ : 1 .
(5) سُورَةُ البيِّنةِ : 6 .
(6) سُورَةُ البقرةِ : 105 .(1/22)
وقولِه تعالَى : ? وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ : الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ? (1) الآيَةُ … إلى غيرِ ذلكَ مِن الآياتِ .
وظاهرُ العطفِ يقتضي المغايرةُ بين المتعاطفين ؛ لأنَّ عطفَ الشَّيءِ على نفسِه يحتاجُ إِلَى دليلٍ خاصٍّ يجبُ الرُّجوعُ إليهِ ، معَ بيانِ الْمُسَوّغِ لذلك كَما هُو مَعلومٌ في محلِّه .
وَما تَفَضَّلْتُم بذِكْرِه : مِنْ أنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العَزيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمَرَ بإلْحاقِ أهلِ الكتابِ بالمشركينَ في عدمِ دُخولِ المسجِدِ الحرامِ .. فمُسْتَنَدُهُ الْمُسَوِّغُ لهُ : أنَّ الله جَلَّ وَعَلا صَرَّحَ في سُورةِ التَّوبةِ : بِأنَّ أهلَ الكتابِ مِن يهودٍ ونصارى من جُملَةِ المشركينَ , وإذا جاءََ التَّصريحُ في القرآنِ العظيمِ بأنَّهم مِنَ المشركينَ , فدُخولُهم في عُمومِ قولِه تَعالَى : ? إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ? الآيَةُ (2) لا إشكالَ فيهِ .
__________
(1) سُورَةُ آل عِمرانَ : 186 .
(2) سُوْرَةُ التَّوبَةِ : 28 .(1/23)
وآيةُ التَّوبَةِ التي ببَيَّنَ اللهُ فيها أنَّهُم مِن جُملَةِ المشركينَ ؛ هيَ قَوله تَعالَى : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ . وَقَالَتْ النَّصَارَى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ . ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ، يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ، قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ، وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ { صَفْحَة : 9 } لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ?(1) فتأمَّل قولَه تعالى في اليهودِ والنَّصارى : ? سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? … الآيَة , يظهرُ لك صِدقُ اسمِ الشِّركِ عليهم فيَتَّضحْ [ …… ] في عُمومِ ? إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ? .
ووجهُ الفَرقِ بينهُم بعَطفِ بَعضِهِم على بَعضٍ ؛ هو : أنَّهم جميعاً مشركونَ . والمغايرةُ التي سوَّغتْ عطفَ بعضِ المشركينَ على بعضٍ ؛ هيَ : اختلافُهُم في نَوعِ الشِّركِ :
فشِركُ المشركينَ غيرَ أهلِ الكتابِ كان : شركاً في العبادةِ ؛ لأنهم يعبدونَ الأوثانَ .
__________
(1) سُوْرَةُ التَّوبَةِ : 30 .(1/24)
وأهلُ الكتابِ : لا يعبدونَ الأوثانَ , فلا يُشركونَ هذا النَّوعُ من الشِّركِ ؛ ولكنهم يُشركونَ شِركَ رُبوبيّتِة ؛ كما أشار له الله تعالى بِقولِهِ : ? اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ? (1) ومن اتَّخذَ أرباباً من دونِ اللهِ ؛ فهوَ : مُشركٌ بهِ في رُبوبيّتهِ . فَادِّعاء أنَّ عزيرَ ابنُ الله والمسيحَ ابنُ الله من الشِّركِ في الربوبيَّةِ , ولما كان الشِّركُ في الربوبيّةِ يستلزمُ الشّركَ في العبادةِ قال اللهُ تعالى : ? وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? (2) .
••••
[ المَسألة الثَّالثةُ : هلْ يجوزُ دُخولُ الكفَّارِ لمسجدٍ منْ مساجدِ المسلمينَ غيرَ المسجدِ الحرامِ المنصوصِ على مَنعِ دُخولِهِم فيهِ ]
وما ذكرتُم منْ أنَّ عَطَاءً رحمهُ الله : جعلَ المسجدَ يشملُ الكُلَّ ، وأنَّ المسلمينَ دَرَجوا على ذلكَ إلى الآن ؛ فهي مسألة :
هل يجوزُ دخولُ الكفَّارِ لمسجدٍ مِنْ مساجدِ المسلمينَ غيرَ المسجدِ الحرامِ المنصوصِ على مَنعِ دخولِهم فيهِ بعدَ عامِ تسعٍ منَ الهجرةِ في قولِهِ تعالى ? فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ] ? (3) ؟
والعلماءُ مختلفونَ : هل يجوزُ دُخولُ الكفَّارِ مَسجِداً غيرَ المسجِدِ الحرامِ أمْ لا (4) ؟
__________
(1) سُورَةُ التوبة:31 .
(2) سُورَةُ التوبة:31 .
(3) سُوْرَةُ التَّوبَةِ : 28 .
(4) اُنْظُرْ : (الفُروع) وحاشِية ابن قُندُس 10/342-344 و(الشَّرح الكَبير معَ الإِنصافِ) 10/469 و(موسوعة الفِقه الكُويتيّة) 35/23-24 (كُفْر) و(البَيانُ في مَذهَبِ الشَّافعي) للعُمرانِيّ 12/294-296 .(1/25)
1ـ فذهبَ مالكٌ وأصحابُه ومن وافقَهم إلى : أنَّه لا يجوزُ [ …… ] (1) الكافرِ مسجداً مِن مساجِدَِ المسلمينَ مُطلَقاً .
واستَدَلُّوا لذلك بأدلَّةٍ :
( أ ) منها : آيةُ التَّوبةِ ، وإنْ كانت خاصَّة بالمسجدِ الحرامِ ؛ فَعِلَّةُ حُكمِها يقتضي تعميمَه في جميعِ المساجدِ .
وقد تقرَّرَ في الأصولِ : أنَّ العِلَّةَ قد تُعَمِّمُ معلولَها تارَّة وقد تُخصِّصه تارَّةً أُخرى . كما أشارَ إليهِ صاحبُ مَراقي السُّعود بِقَولِهِ في الكلامِ على (العِلَّةِ) (2) :
وقد تُخَصِّصُ وقد تُعَمِّمُ ... لأصلِها لِاكِنَّها لا تُخْرِمُ
واذا علِمت أنَّ العِلَّةَ تعمم معلولَها الذي لفظُه خاصٌّ ؛ فاعلم : أنَّ مسلكَ العلَّة المعروف ب(بمسلك الإيماء والتَّنبيه) دلَّ على : أنَّ علَّةَ منعَ قُربانِ المشركينَ المسجدَ الحرامِ بعدَ عامِ تِسعٍ : أنَّهم نَجَسٌ . وذلك واضحٌ من تَرتيبِ الحُكمِ بالنَّهي عن قُربانِ المسجدِ ب(الفاءِ) على كونِهم نَجَساً في قوله تعالَى : ? إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ? { صَفْحَة : 10 } ثم رَتَّبَ على ذلك ب(الفاءِ) قوله تعالى ? فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ? (3) ومعلومٌ : أنَّ جميعَ المساجدِ تجبُ صيانَتَها مِن دُخولِ النَّجَسِ فيها , وكونُهم (نَجَساً) تعميمٌ لِلحكم في كلِّ المساجدِ .
__________
(1) كَلمتانِ غَير مَقروئَتَين كُتِبَت بِخطٍ دقيقٍ فوق كلمة (لا يَجوزُ) ؛ ولَعلَّ منها (دُخولُ) .
(2) اُنْظُرْ : (نَثر الورودِ على مراقِي السُّعودِ) لِلمؤَلِّفِ 2/473-474 .
(3) سُورَةُ التّوبة : 28 .(1/26)
( ب ) واستَدَلَّ مالكٌ ومَنْ وافَقَهُ أَيضاً على مَنعِ دُخولِ الكُفَّارِ المساجِدِ مُطلَقاً : بِآيَةِ البَقَرَةِ عَلى بَعضِ التَّفسيراتِ التي فُسِّرَت بها (1) وهيَ قَولُه تَعالَى : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ? (2) .
فقد فُسِّرَ قولُه تعالى : ? أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا ? أيْ : ليس لهم دُخولَ المساجدِ إلا مسارعَة خائفين من المسلمينَ أن يطَّلعوا عليهم فيُخْرِجُوهم منها ويُنَكِّلوا يِهم (3) .
وفي تفسيرِ الآيةِ أقوالٌ غيرُ هذا .
وسواءٌ (4) :
__________
(1) قَال العَلاَّمةُ ابنُ الجَوزِيّ في تَفسيرِِ 1/102-103 : ( قوله تعالى : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ ? اختلفوا فيمن نزلت على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا ، فخرَّب وطرحت الجيف فيه . قاله ابن عباس في آخرين .
والثاني : أنها في المشركين الذين حالوا بين رسول الله ( وبين مكة يوم الحديبية . قاله ابن زيد .
وفي المراد بخرابها قولان : أحدهما : أنه نقضها . والثاني : منعُ ذكرِ الله فيها ) ه .
(2) سُورَةُ البقرةِ : 114 .
(3) اُنْظُرْ : تَفسير القُرطبيّ 2/76 (البَقَرة : 114) .
(4) اُنْظُرْ : تَفسير القُرطبيّ 2/75 (البَقَرة : 114) .(1/27)
? قُلنا : إنَّ تخريبَ المساجدِ [ حِسِّيٌّ ] كما فعلتْ النَّصارَى (1) وبُخْتنَصَّر بالمسجدِ [ … ] (2) الأقصى المشارِ إليهِ بِقولِهِ تَعالَى : ? فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً ? (3) .
? أَو قُلنا : أنَّ تَخريبَ المساجدِ المذكورِ في الآيةِ [ مَعنَويٌّ ] (4) : وهو منعُ المسلمينَ مِنَ التَّعبدِ فيها ؛ كما فعلَ المشركونَ بالنَّبِي صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ … ] (5) عامَ الحُدَيِبِيَّةِ ؛ كما قالَ تعالى : ? هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? (6) [ … ] (7). وقالَ تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ? (8) . وقوله تعالى : ? وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ? الآيَةُ (9) . وقال تعالى : ? وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ? الآيَةُ (10) .
__________
(1) لم يَظهَر مِنها إلاَّ بَعض الحروف (النَّصَ) .
(2) بياضٌ بِمقدارِ كلمةٌ ، والكلامُ مُستقيمٌ بدونِها .
(3) سُورَةُ الإسراء : 7 .
(4) لم يَظهر مِنها إلاَّ حَرفان (معـ) .
(5) كلمةٌ لم تَظهر في التَّصويرِ .
(6) سُورَةُ الفتح : 25 .
(7) كلمةٌ لم تَظهر في التَّصويرِ .
(8) سُورَةُ الحجِّ : 25 .
(9) سُورَةُ المائدة : 2 .
(10) سُورَةُ البقرة : 217 .(1/28)
ومن الآيات التي تدُلّ على أنَّ عِمارَةَ المساجِدَ هي طاعَةُ اللهِ فيها ؛ قَولُهُ تَعالَى : ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ? الآيَة (1) .
2ـ وأمَّا مَن قالَ مِن أهلِ العلمِ : بجوازِ دُخولِ الكُفَّارِ جميعَ مَساجدِ [ المسلِمينَ ] (2) غَيرَ المسجدِ الحَرامِ , فقد احتجّوا :
( أ ) بأنَّ الله تَبارَكَ وتَعالَى إنَّما نهى عن ذلك في خصوصِ المسجدِ الحرام [ ... ] في قوله تعالى : ? فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ? (3) وقالوا : ويُفهم منْ تخصيصِ المسجدِ الحرامِ بالذِّكرِ أنَّ غيرَهُ منَ المساجدِ ليسَ كذلك .
( ب ) واحتجُّوا لذلك : بأنَّ النَّبي صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَطَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سيّدِ أَهلِ اليمامةِ لَمَّا جِيءَ بهِ أسيرًا بَينَ سَواري المسجدِ ؛ وهو مُشركٌ قبلَ إسلامهِ (4) .
__________
(1) سُورَةُ التَّوبة : 18 .
(2) لم يَظهر من هذه الكلمة إلا طرفها .
(3) سُورَةُ التَّوبة : 28 .
(4) أَخرج البُخاري (رَقْم : 462) ومُسلم (رَقْم : 1764) والنّسائي (رَقْم : 712) وأبو داود (رَقْم : 2679) وأحمد (رَقْم : 9523) 2/246-247 من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : « أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ » فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ) .(1/29)
قالوا : وقد أَنْزَلَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ وَفدَ ] (1) نَصارى نجرانَ بالمَسجدِ في المدينةِ وهُم نَصارى (2) , وكانَ قُدومُ وفدِ نَصارى نجران مُتأخِّراً ؛ لأنَّهم [ … … ] (3) ، كما خافوا منَ المباهلةِ (4) { صَفْحَة : 11 } ، والجِزيَةُ إنما نَزلت في سورةِ بَراءةِ ، ونُزولها كان في رُجوعِه صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن غَزوةِ تَبوكِ , وغزوةُ تَبوك كانتْ سنةَ تِسعٍ بلا خلافٍ .
__________
(1) لم يَظهر في الأَصلِ منها إلا حرفاً واحد .
(2) حديثُ وَفدِ ثَقيفٍ : أخْرَجَهُ : أبو داود (رَقْم : 3026) وأحمد (رَقْم : 17913) .
(3) كَلمتان لم أستطع قراءتهما في الأَصلِ ؛ وأظنّها : (أَعطَوا الجِزيَةَ) .
(4) أخرجَ البُخاري (رَقْم : 4380) ومُسلم (رَقْم : 2420) والتِّرمِذي (رَقْم : 3796) وابن ماجة (رَقْم : 135) وأحمد (رَقْم : 22461) من حديثِ حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ أَنْ يُلاعِنَاهُ . قَالَ : فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : لا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلاعَنَّا لا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا . قَالا : إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً أَمِينًا وَلا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلا أَمِينًا . فَقَالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ » فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ » . فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ » ) .(1/30)
3ـ وَمَن قالَ مِن أَهلِ العِلمِ : بأنَّهُ لا يجوزُ دُخولُ الكافرِ مَسجِداً مِن مَساجِد المسلمينَ لا بِأمانٍ من مُسلِم ؛ فقد احتج لذلك : بِقَولِهِ تَعالى : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن : مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ؛ أُوْلَئِكَ : مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ، [ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] ? (1) .
قالوا : قولُه تعالَى : ? مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ? يدلُّ على أنَّ مَنْ دَخَلَها بأمانِ مسلمٍ فقدْ دَخَلَها خائِفاً ؛ بحيثُ لا يتمكَّنُ مِن دُخولِها إلاَّ بأمانِ مسلمٍ لخوفهِ لو دَخَلَها بغيرِ أمانٍ .
4ـ وأمَّا منْ قالَ منْ أهلِ العلمِ : أنَّ قولَ اللهِ تَبارَكَ وَتَعالَى : ? فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ? الآيَةُ (2) يشملُ : الحرامَ كلَّهُ ؛ ولا يختصُّ بالمسجدِ الحرامِ المنصوصِ عليهِ في الآيةِ ؛ فحُجَّتُهُ هِيَ : ما عُلِم منها مِن إطلاقِ (المسجدِ الحرامِ) وإرادة الحَرَمِ كلِّهِ ؛ كقولِهِ تعالى :
? ? إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? الآيَةُ (3) ومعلومٌ أنَّ : المعاهدَةَ كانت في غيرِ المسجدِ الحرامِ ، بل كانت في طَرَفِ الحُدَيْبِيَّةِ ؛ الذي هوَ داخِلٌ في الحرمِ كما قالَهُ غَيرُ واحدٍ .
? وكَقولِهِ تَعالى : ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? الآيَةُ (4) وكان الإسراءُ بهِ مِن : بيتِ أمِّ هانيء لا مِن نَفسِ المَسجدِ الحَرَامِ على القولِ بذلكَ .
__________
(1) سُورَةُ البقرةِ : 114 .
(2) سُورَةُ التَّوبة : 28 .
(3) سُورَةُ التَّوبةِ : 7 .
(4) سُورَةُ الإسراءِ : 1 .(1/31)
? وكقولِهِ تعالى : ? هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ? الآيَةُ (1) والهَدْيُ يُنحَرُ في الحَرَمِ كُلّه ، وأكبرُ مَنحَرٌ منه : مِنَى .
? وقولِهِ تعالى : ? وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ? الآيَةُ (2) وهُم : مُخرَجونَ مِن مَكَّةَ لا مِن نفسِ المسجدِ … ونحو ذلكَ مِنَ الآياتِ ، والعلمُ عند اللهِ تعالَى .
[ خُلاصَةُ الفَتوَى ]
فتَحَصَّلَ :
1ـ أنَّ محلَّ العَقلِ : القلبُ ، وأنَّهُ لا مانعَ من اتِّصالِ طَرَفِ نورِه [ الرَّوحانِيّ ] (3) بالدِّماغِ . وعليه : لا تخالفَ بينَ القولَين , وهذا : إنْ قامَ عليه دليلٌ فلا مانعَ مِنَ القولِ به ، ونحنُ لا نعلمُ عليهِ دليلاً مُقنِعاً .
2ـ وأنَّ عُمَر بنَ عبدِ العزيزِ أَلْحَقَ أهلَ الكتابِ بالمشركينَ لآيةِ التَّوبة التي ذَكَرنا , وأنَّهُ جعلَ حُكمَ جميعِ الحرمِ المكيِّ كحُكمِ المسجدِ الحرامِ . دَليلُهُ : استقراءُ الآياتِ التي جاءتْ بِنَحوِ ذلكَ .
وقدْ رأيتَ حُجَجَ مَن : مَنَعَهُم دُخولَ المساجدِ غَيرِ المسجدِ الحرامِ ، ومَنْ أجازَ ذلكَ ، ومَن فرَّقَ .
ولا يخفَى : أنَّ الذين يجزُمونَ بأنَّ محلَّ العقلِ : الدِّماغُ ولا صِلَةَ لهُ بالقلبِ أصلاً ؛ أنهم في جَهلِهِم كما قالتِ الرَّاجِزَةُ لِزَوجِها :
[………] (4) وخَيْبَةُ أَهْلِيِ ... مِنْ جَهْلِهِ يَحسَبُ رَأْسِي رِجلِي
اِنْتَهَىَ والحمدُ لله
مُلحَقٌ فِي
فِي دُخُولُ الْمُشْرِكِينَ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ
قَالَ ابنُ حَزمٍ في الْمُحَلَّى 4/443 المَسألة (499) :
__________
(1) سُورَةُ المائدةِ : 95 .
(2) سُورَةُ البقرةِ : 217 .
(3) في الأصل : (الرّيحاني) .
(4) لم أستَطع قِراءَتهها ؛ وهي على هذا الرَّسمِ (سنظيرة) .(1/32)
- مَسْأَلَةٌ : وَدُخُولُ الْمُشْرِكِينَ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ : جَائِزٌ ؛ حَاشَا : حَرَمَ مَكَّةَ كُلَّهُ الْمَسْجِدَ وَغَيْرَهُ فَلاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَدْخُلَهُ كَافِرٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لاَ بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ الْيَهُودِيُّ , وَالنَّصْرَانِيُّ , وَمَنَعَ مِنْهُ سَائِرَ الأَدْيَانِ .
وَكَرِهَ مَالِكٌ دُخُولَ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ .
[ البَحثُ والمُناقَشَة ]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ? إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ? .
• قَالَ عَلِيٌّ : فَخَصَّ اللَّهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ , فَلاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ , وَقَدْ كَانَ الْحَرَمُ قَبْلَ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا » .
فَصَحَّ أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ :(1/33)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ ، حدثنا الْبُخَارِيُّ ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، حدثنا اللَّيْثُ ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ : ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ , فَخَرَجَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَالَ : عِنْدِي خَيْرٌ , يَا مُحَمَّدُ إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ , وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ , وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ … وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَأَنَّهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِطْلاَقِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ : فَانْطَلَقَ إلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ , فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , يَا مُحَمَّدُ , وَاَللَّهِ : مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ , فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إلَيَّ , وَاَللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إلَيَّ مِنْ دِينِكَ , فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إلَيَّ … وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
فَبَطَلَ قَوْلُ مَالِكٍ .(1/34)
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ : فَقَالَ تَعَالَى ? لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ? وَقَالَ تَعَالَى ? إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ? . قَالَ : وَالْمُشْرِكُ : هُوَ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا , لاَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَرِيكًا .
• قَالَ عَلِيٌّ : لاَ حُجَّةَ لَهُ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا .
فأما تَعَلُّقُهُ بِالآيَتَيْنِ : فَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِمَا ; لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : ? فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ? وَالرُّمَّانُ مِنْ الْفَاكِهَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى ? مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ? وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ هُمَا مِنْ الْمَلاَئِكَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ? وَهَؤُلاَءِ مِنْ النَّبِيِّينَ .
إلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً : إنْ لَمْ يَأْتِ بُرْهَانٌ بِأَنَّ الْيَهُودَ , وَالنَّصَارَى , وَالْمَجُوسَ , وَالصَّابِئِينَ : مُشْرِكُونَ ؛ لاَِنَّهُ لاَ يُحْمَلُ شَيْءٌ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ إلاَّ أَنَّهُ غَيْرُهُ , حَتَّى يَأْتِيَ بُرْهَانٌ بِأَنَّهُ هُوَ أَوْ بَعْضُهُ .(1/35)
• فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : إنَّ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لِنَصِّ الآيَتَيْنِ أَبُو حَنِيفَةَ ; لأَنَّ الْمَجُوسَ عِنْدَهُ : مُشْرِكُونَ , وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الذِّكْرِ بَيْنَ (الْمَجُوسِ) وَبَيْنَ (الْمُشْرِكِينَ) فَبَطَلَ تَعَلُّقَهُ بِعَطْفِ اللَّهِ تَعَالَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الأُخْرَى .
ثُمَّ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ : ? إنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ? فَلَوْ كَانَ هَاهُنَا (كُفْرٌ) لَيْسَ (شِرْكًا) لَكَانَ مَغْفُورًا لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلاَفِ (الشِّرْكِ) وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، عَنْ جَرِيرٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ : « أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا , وَهُوَ خَلَقَكَ » , قَالَ : ثُمَّ أَيُّ قَالَ : « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ » .(1/36)
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ : أَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ ، حدثنا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ( فَقَالَ : « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلاَثًا الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَوْ قَوْلُ الزُّورِ » .
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ : حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » , قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمَا هُنَّ قَالَ : « الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالسِّحْرُ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ , وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ » .
قَالَ عَلِيٌّ : فَلَوْ كَانَ هَاهُنَا (كُفْرٌ) لَيْسَ (شِرْكًا) لَكَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ خَارِجًا عَنِ الْكَبَائِرِ , وَلَكَانَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , وَشَهَادَةُ الزُّورِ , أَعْظَمُ مِنْهُ , وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ .
فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ (كُفْرٍ) (شِرْكٌ) , وَكُلَّ (شِرْكٍ) (كُفْرٌ) , وَأَنَّهُمَا اسْمَانِ شَرْعِيَّانِ أَوْقَعَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ .
وَأَمَّا حُجَّتُهُ : بِأَنَّ الْمُشْرِكَ هُوَ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَقَطْ .
فَهِيَ مُنْتَقِضَةٌ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :(1/37)
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّصَارَى يَجْعَلُونَ لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيكًا يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ , وَهُوَ يَقُولُ : إنَّهُمْ لَيْسُوا مُشْرِكِينَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْبَرَاهِمَةَ , وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ , وَأَنَّ لَهُ خَالِقًا وَاحِدًا لَمْ يَزَلْ , وَالْقَائِلِينَ بِنُبُوَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُغِيرَةِ وَبُزَيْغٍ ؛ كُلُّهُمْ : لاَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيكًا ، وَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُشْرِكُونَ . وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ : وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ (الْمُشْرِكُ) إلاَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ التَّشْرِيكِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ : مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيكًا فَقَطْ لَوَجَبَ أَنْ لاَ يَكُونَ (الْكُفْرُ) إلاَّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرَهُ جُمْلَةً , لاَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَجْحَدْهُ , فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لاَ يَكُونَ الْكُفَّارُ إلاَّ الدَّهْرِيَّةُ فَقَطْ , وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى وَلاَ الْمَجُوسُ وَلاَ الْبَرَاهِمَةُ كُفَّارًا ; لأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُقِرُّونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ لاَ يَقُولُ بِهَذَا , وَلاَ مُسْلِمٌ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ .
أَوْ : كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ غَطَّى شَيْئًا : كَافِرًا . فَإِنَّ (الْكُفْرَ) فِي اللُّغَةِ : التَّغْطِيَةُ .
فَإِذَاً كُلُّ هَذَا بَاطِلٌ ؛ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُمَا اسْمَانِ نَقَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَوْضُوعِهِمَا فِي اللُّغَةِ إلَى كُلِّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ دِينِ اللَّهِ الإِسْلاَمِ يَكُونُ بِإِنْكَارِهِ مُعَانِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ ( بَعْدَ بُلُوغِ النِّذَارَةِ إلَيْهِ , وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
انتَهَى كلامُ ابنُ حَزمٍ(1/38)
مُلحَقٌ فِي الْمُتَواتِرِ
قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى : وَأَمَّا عِدَّةُ الأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ :
فَلَفْظُ الْمُتَوَاتِرِ : يُرَادُ بِهِ مَعَانٍ ; إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ :
1ـ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ .
2ـ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ لا يُسَمِّي مُتَوَاتِرًا ؛ إلا : مَا رَوَاهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ يَكُونُ الْعِلْمُ حَاصِلا بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ فَقَطْ . وَيَقُولُونَ : إنَّ كُلَّ عَدَدٍ أَفَادَ الْعِلْمَ فِي قَضِيَّةٍ أَفَادَ مِثْلُ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْعِلْمَ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ الأَكْثَرُونَ : أَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ :
• بِكَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ تَارَةً .
• وَقَدْ يَحْصُلُ بِصِفَاتِهِمْ لِدِينِهِمْ وَضَبْطِهِمْ .
• وَقَدْ يَحْصُلُ بِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِالْخَبَرِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ .
• وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِطَائِفَةِ دُونَ طَائِفَةٍ .
وَأَيْضًا : فَالْخَبَرُ الَّذِي تَلَقَّاهُ الأَئِمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِمُوجَبِهِ يُفِيدُ الْعِلْمَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ .
وَهَذَا فِي مَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ ; لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّيه : الْمَشْهُورَ وَالْمُسْتَفِيضَ ، وَيُقَسِّمُونَ الْخَبَرَ إلَى : مُتَوَاتِرٍ ، وَمَشْهُورٍ ، وَخَبَرٍ وَاحِدٍ .(1/39)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَأَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مَعْلُومَةٌ مُتْقَنَةٌ تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهَا ، وَإِجْمَاعُهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ كَمَا أَنَّ إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ عَلَى الأَحْكَامِ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ ، وَلَوْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُكْمٍ كَانَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُ أَحَدِهِمْ خَبَرَ وَاحِدٍ أَوْ قِيَاسًا أَوْ عُمُومًا ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ؛ إذَا : أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ خَبَرٍ أَفَادَ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ ; لَكِنَّ إجْمَاعَهُمْ مَعْصُومُ عَنْ الْخَطَأِ .
ثُمَّ هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهَا : قَدْ تَتَوَاتَرُ وَتَسْتَفِيضُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ ، وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِصِدْقِهَا لِبَعْضِهِمْ ؛ لِعِلْمِهِ بِصِفَاتِ الْمُخْبِرِينَ وَمَا اقْتَرَنَ بِالْخَبَرِ مِنْهُ الْقَرَائِنُ الَّتِي تُفِيدُ الْعِلْمَ ؛ كَمَنْ سَمِعَ خَبَرًا مِنْ الصِّدِّيقِ أَوْ الْفَارُوقِ يَرْوِيه بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، وَقَدْ كَانُوا شَهِدُوا مِنْهُ مَا شَهِدَ وَهُمْ مُصَدِّقُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهُمْ مُقِرُّونَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ : « إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ » هُوَ مِمَّا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَيْسَ هُوَ فِي أَصْلِهِ مُتَوَاتِرًا ; بَلْ هُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ لَكِنْ لَمَّا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ صَارَ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ .(1/40)
وَفِي السُّنَنِ أَحَادِيثُ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ كَقَوْلِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ » فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ وَهُوَ فِي السُّنَنِ لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ .
وَأَمَّا عَدَدُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّوَاتُرُ :
1ـ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ لَهُ عَدَدًا مَحْصُورًا ؛ ثُمَّ يُفَرِّقُ [ اِفتَرَقَ ] هَؤُلاءِ :
فَقِيلَ : أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ . وَقِيلَ : اثْنَا عَشَرَ . وَقِيلَ : أَرْبَعُونَ . وَقِيلَ : سَبْعُونَ . وَقِيلَ : ثَلاثُمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ .
وَكُلُّ هَذِهِ الأَقْوَالِ بَاطِلَةٌ لِتَكَافُئِهَا فِي الدَّعْوَى .
2ـ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ : أَنَّ التَّوَاتُرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ ، وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِخَبَرِ مِنْ الأَخْبَارِ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ ضَرُورَةً ؛ كَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ عَقِيبَ الأَكْلِ وَالرِّيِّ عِنْدَ الشُّرْبِ وَلَيْسَ لَمَّا يَشْبَعُ كُلُّ وَاحِدٍ وَيَرْوِيه قَدْرٌ مُعَيَّنٌ ; بَلْ قَدْ يَكُونُ الشِّبَعُ : لِكَثْرَةِ الطَّعَامِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِجَوْدَتِهِ كَاللَّحْمِ ، وَقَدْ يَكُونُ لاسْتِغْنَاءِ الآكِلِ بِقَلِيلِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ لاشْتِغَالِ نَفْسِهِ بِفَرَحِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ حُزْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
كَذَلِكَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِيبَ الْخَبَرِ :
( أ ) تَارَةً : يَكُونُ لِكَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ : وَإِذَا كَثُرُوا فَقَدْ يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا .
( ب ) وَتَارَةً : يَكُونُ لِدِينِهِمْ وَضَبْطِهِمْ . فَرُبَّ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ يَحْصُلُ مِنْ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ مَا لا يَحْصُلُ بِعَشَرَةِ وَعِشْرِينَ لا يُوثَقُ بِدِينِهِمْ وَضَبْطِهِمْ .(1/41)
( ج ) وَتَارَةً : قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ كُلٍّ مِنْ الْمُخْبِرِينَ أَخْبَرَ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الآخَرُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَاطَآ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ الاتِّفَاقُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ؛ مِثْلَ مَنْ يَرْوِي حَدِيثًا طَوِيلا فِيهِ فُصُولٌ وَيَرْوِيه آخَرُ لَمْ يَلْقَهُ .
( د ) وَتَارَةً : يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ لِمَنْ عِنْدُهُ الْفِطْنَةُ وَالذَّكَاءُ وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ وَبِمَا أَخْبَرُوا بِهِ مَا لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ .
( ه ) وَتَارَةً : يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ لِكَوْنِهِ رُوِيَ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ شَارَكُوا الْمُخْبِرَ فِي الْعِلْمِ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ; فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ قَدْ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ كَمَا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ .
• وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ لَهُ أَسْبَابٌ غَيْرَ مُجَرَّدِ الْعَدَدِ ؛ عُلِمَ أَنَّ مَنْ قَيَّدَ الْعِلْمَ بِعَدَدِ مُعَيَّنٍ وَسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا ; وَلِهَذَا كَانَ التَّوَاتُرُ يَنْقَسِمُ إلَى :
1ـ تَواترٍ عَامٍّ .
2ـ وَتَواترٍ خَاصٍّ .
فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ : قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ الْعَامَّةِ ؛ كَسُجُودِ السَّهْوِ ، وَوُجُوبِ الشُّفْعَةِ ، وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ الْعَقْلَ ، وَرَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَأَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .(1/42)
وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ ؛ وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِ لِقَوْمِ دُونَ قَوْمٍ :
فَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ : وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ ؛ كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ .
وَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ : فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ لأَهْلِ الإِجْمَاعِ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّتِهِ كَمَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يُسَلِّمُوا الأَحْكَامَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا إلَى مَنْ أَجْمَعَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ; فَإِنَّ اللَّهَ عَصَمَ هَذِهِ الأُمَّةَ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلالَةٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إجْمَاعُهَا بِأَنْ يُسَلِّمَ غَيْرُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ ; إذْ غَيْرُ الْعَالِمِ لا يَكُونُ لَهُ قَوْلٌ وَإِنَّمَا الْقَوْلُ لِلْعَالِمِ ، فَكَمَا أَنَّ مَنْ لا يَعْرِفُ أَدِلَّةَ الأَحْكَامِ لا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ ، فَمَنْ لا يَعْرِفُ طُرُقَ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ لا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ ، بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمِ أَنْ يَتْبَعَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ ه .(1/43)