سورة الفاتِحة
(بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ . الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مالِكِ يومِ الدِّينِ . إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ . اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ علَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ علَيْهِمْ ولا الضَّآلِّينَ).
مُقدمة
الفتوى في القرآن
قال الله ـ تعالى ـ: (وما كانَ اللهُ ليُضِلَّ قوْمًا بعدَ إذْ هداهمْ حتَّى يُبَيِّنَ لهمْ مَا يَتَّقُونَ إنَّ اللهَ بكُلِّ شيءٍ عليمٌ). (الآية: 115 من سورة: التوبة).
بيَّن الله في كتابه الكريم لعباده المؤمنين الأحكام التي علِم أن بها سعادتَهم في الدنيا والآخرة، وصلاحهم أفرادًا وجماعاتٍ، وكان للقرآن في بيان تلك الأحكام طريقانِ:
الطريق الذي لم يُسبق بسؤال:
أحدها: ـ وهو الأصل والكثير الغالب ـ توجيه الأوامر والنواهي إلى المؤمنين توجيهًا مبتدأً غير مسبوقٍ بسؤالِ سائلٍ، وهو في ذلك الطريق مرة يُناديهم أولًا بوَصْف الإيمان، فيُهيئهم للاستماع، ويُحفزهم إلى العمل والامتثال، ويُرشدهم إلى أن تلك الأحكام مِن مُقتضيات الإيمان ومِن عهْده ومِيثاقه (يا أيُّها الذينَ آمنُوا كُتِبَ عليكمُ القِصاصُ في القَتْلَى). (الآية 178 من سورة: البقرة).
(يا أيُّها الذينَ آمنُوا كُتب عليكمُ الصِّيَام). (الآية 183 من سورة: البقرة).
(يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكمْ بالمَنِّ والأذَى كالذِي يُنْفِقُ مالَه رِئَاءَ الناسِ ولا يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ). (الآية: 264 من سورة: البقرة).
(يا أيُّها الذينَ آمنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ). (الآية 282 من سورة: البقرة).
وهكذا إلى آخر الآيات الأَحكامية التي مهّد فيها بالنداء للمُؤمنين.(1/1)
وقد يقع التمهيد بنداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكون الحكم للجميع ومنه (يا أيهُّا النبيُّ إذا طلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). (أول سورة الطلاق). (يا أيُّها النبيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المُؤمنينَ يُدْنِينَ عليهنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللهُ غَفورًا رَحِيمًا). (الآية 59 من سورة: الأحزاب).
ومرة يذكر الحكم أمرًا ونَهْيًا مُجرَّدًا عن النداء المَذكور (ولا تَجْعلُوا اللهَ عُرْضةً لأَيْمانِكُمْ أن تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بيْن الناسِ واللهُ سميعٌ عليمٌ). (الآية 225 من سورة البقرة). (لا يُؤاخذُكُمُ اللهُ باللَّغْوِ في أيْمانِكمْ ولكنْ يُؤاخذُكمْ بما كَسَبَتْ قُلوبُكم). (الآية 228 من سورة: البقرة)؟.
(والمُطلَّقاتُ يتربصْنَ بأنْفُسِهِنَّ ثلاثةَ قُروءٍ ولا يَحِلُّ لهنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ في أرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤمِنَّ باللهِ واليومِ الآخِرِ وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلكَ إنْ أرَادَا إصْلاَحًا ولهُنَّ مثلُ الذِي عليهنَّ بالمَعروفِ وللرِّجالِ عليهنَّ درجةٌ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ). (الآية 228 من سورة: البقرة) (الطلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإِحْسَانٍ). (الآية 229 من سورة البقرة).؟
(والوالداتُ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لمَنْ أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وعلَى المَولودِ لهُ رِزْقُهُنَّ وكُسْوَتُهُنَّ بالمَعروفِ). (الآية 233 من سورة البقرة)
وهكذا إلى آخر ما في القرآن من الآيات الأَحكامية التي لم يُمهد فيها بنداء المُؤمنين، وهذا الطريق بنوعيه: المسبوق بالنداء، وغير المسبوق به هو الأصل في بيان كل تشريع، يُراد إعلامُ الناس به، وأن يسيروا عليه.
الطريق المَسبوق بالسؤال:
أما الطريق الثاني فهو البيان المسبوق في القرآن بسؤال سائل.(1/2)
وهكذا يكون بيانًا لشأنٍ لم يَسبق فيه بيانٌ واحتاج الناس إلى معرفة حُكم الله فيه فسألوا عنه. أو بيانًا لشأنٍ نزل فيه بيان من قبلُ، ولكن اتَّصلت به عند الناس جهاتٌ واعتبارات جعلتهم في حاجة إلى توضيحه، فسألوا طلبًا للتوضيحِ والكشْف.
وقد سجَّل القرآن جملةَ الأسئلة المُوجَّهة إلى الرسول وذَكر معها أجوبتها. وجاء من هذه الأسئلة في سورة البقرة ما يأتي:
أولًا: جاء أعرابيٌّ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسأل: أقريبٌ ربُّنا فنُناجيه أم بعيدٌ فنُناديه؟ فنزل قوله ـ تعالى ـ: (وإذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ). (الآية 186 من سورة: البقرة). وقد أخذ العلماء من هذا أنه لا ينبغي رفْع الصوت في العبادة والدعاء إلا بالمِقدار الذي لا يُخِلُّ بالخُشوع، ولا يُحدث رَجَّةً في نُفوس السامعين.
ثانيًا: ورد أنهم سألوا عن الهلال يبدو في أول الشهر دقيقًا مثل الخيط ثم يعظم حتى يستوي ويستدبر، ثم يعود كما كان، فنزل قوله ـ تعالى ـ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ للناسِ والحَجِّ). (الآية 189 من سورة: البقرة). وقد عدل بهم عن الجانب الذي يسألونه عنه وهو سبب هذه الظاهرة إلى الجانب الذي ينفعهم في حياتهم وهو أنهم يُوقنون بها عباداتِهم من صيامٍ وحجٍّ، ومُعاملاتهم مِن بُيوع ومُداينات. وهذا أخذ بهم إلى الطريق الطبيعي الذي يستوي فيه العالِم والجاهل وهو التوقيت بالسَّنَة القمرية التي لا تتوقف على معرفة الحساب.
والقرآن يُرشد دائمًا إلى الوسائل الطبيعية الفِطرية التي تعمُّ الناس أجمعين.(1/3)
ثالثًا ورابعًا: حبَّب القرآن كثيرًا في الإنْفاق، فسألوا عمَّا يُنفقون، وعلى مَن ينفقون، فنزل قوله ـ تعالى ـ: (يَسْأَلُونَكَ ماذا يُنفقونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فلِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ واليتامَى والمَساكينِ وابنِ السبيلِ وما تَفْعَلُوا مِن خيرٍ فإنَّ اللهَ بهِ عليمٌ). (الآية 215 من سورة البقرة) ونزل قوله ـ تعالى ـ: (ويَسأَلُونَكَ ماذا يُنفقونَ قُلِ العَفْوَ). (الآية 219 من سورة البقرة) فبيَّن لهم ما يُنفقون وهو ما فضَل عن حاجتهم وحاجة مَن يَعُولون، كما بين لهم موضع الإنْفاق.
خامسًا: أرسل النبيُّ بعض أصحابه في سَرِيَّةٍ في آخر شهر جُمادَى، وفي أول يوم مِن رجب وهو أحد الأشهر الحُرم، فقتلوا وأسَرُوا، وأخذ الناس جميعًا يسألون عن حُكم القتال في الشهر الحرام، فنزل قوله ـ تعالى ـ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحرَامِ قِتالٍ فيهِ قُلْ قِتالٌ فيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ بهِ والمَسجدِ الحرامِ وإخراجُ أهلِه منه أكبرُ عندَ اللهِ والفتنةُ أكبرُ مِن القتْلِ). (الآية 217 من سورة: البقرة). فبيَّن لهم أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير مُستنكر، وقرَّر حُرمة الشهر، ولكن هناك ما هو أشدُّ منه استنكارا، فالصدُّ عن سبيل الله، والكُفْر بالله، والصدُّ عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه، كل واحدٍ من هذه الجرائم التي فعلها المُشركون أو مَجموعها أكبر عند الله مِن القتال في الشهْر الحرام، ومِن هذا أخذ العلماء وُجوب ارتكاب أخفِّ الضررينِ أو المُحرَّمَيْنِ إذا لم يكنْ بُدٌّ مِن أحدِهما.(1/4)
سادسًا: لَمَسَ كثيرٌ مِن الأصحاب ضرر الخمْر والمَيْسر، فسألوا عن حُكمها فنزل قوله ـ تعالى ـ: (يَسأُلونَكَ عَنِ الخمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فيهمَا إثمٌ كبيرٌ ومَنَافِعُ للناسِ وإثْمُهُمَا أكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا). (الآية 219 من سورة: البقرة) ففَهِمَ كثيرٌ مِن أصحاب الرسول حُرْمتهما جرْيًا مع القاعدة الطبيعية: وهي وُجوب الابْتعاد عمَّا يَكْثُرُ شرُّه، ولم يبتُّ الله في الأمر بالتحريم المُطلق أخذًا بسُنَّةِ التدرُّج، وتهْيِئَةِ النُّفوس كلها لتلقِّي الحكم بالحُرمة على وجْهٍ عام.
سابعًا: كثُر تحذير القرآن من أكْل أموال اليتامَى، ونزَل فيه الوعيد الشديد، ووقع الناس بذلك في أمرينِ: أيُقاطِعُونَهُمْ فَيَشْعُرُونَ بِذِلَّةِ العُزْلة، أم يُخالطونَهم فيُعرِّضون أنفسهم لتناوُل شيءٍ من مالِهم؟: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إصْلاَحٌ لهمْ خيرٌ وإنْ تُخالِطُوهمْ فإِخْوَانُكُمْ واللهُ يعلمُ المُفسدَ مِنَ المُصْلِحِ). (الآية: 220 من سورة: البقرة). فأرشدهم إلى أن المَقصد عدم قهْرهم وإهمالهم وعدم الافتيَات على حُقوقهم والطمع في مالهم، وأن الأمر يرجع إلى إصلاحهم وإرادة الخيْر بهم، وهذا أمرٌ معروف لا يُوجب الحَيْرَةَ ولا التردُّد.(1/5)
ثامنًا: وُجد المسلمون بين طائفتينِ من أهل الكتاب: تُخالط إحداهما النساء في حالة الحيْض مُخالطة تامَّةً، وتُجانبها الأخرى مُجانبةً تامَّةً حتى في المأْكل والمَشرب، فسألوا: أيُعاملونهنَّ كالطائفة الأُولى أو الثانية؟ فنزل قوله ـ تعالى ـ: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ ولاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتَّى يَطْهُرْنَ). (الآية 222 من سورة البقرة) فأرشدهم إلى وسط لا إفراط فيه كالطائفة الأولَى، ولا تفريط كالطائفة الأُخرى، ولا يمنعهم إلا مِن المُخالطة الخاصة، وأباح لهم ما عداها، وهكذا جاءت الشريعة في أحكامها حدًّا وَسَطًا بين الإفْراطِ والتَّفْرِيط.(1/6)
سِرُّ التعبير بلفظِ الاستِفْتَاءِ:
تاسعًا وعاشرًا: وكما جاء في الاستفهام عن الأحكام بلفظ السؤال، جاء بلفْظ الاستفتاء وذلك في مَوْضِعينِ اثنين مِن القرآن يتعلق كلاهما بأحكام الأسرة والميراث: (ويَسْتَفْتُونَكَ في النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكمْ فيهنَّ ومَا يُتلَى عليكمْ في الكتابِ في يَتَامَى النساءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لهنَّ وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ). (الآية 137 من سورة النساء). وفيها بيان الحكم فيما إذا خافت المرأة نُشوزًا مِن زوجها، وبيان معنى العدْل المطلوب بين الزوجات: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتيكمْ في الكَلاَلَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ليسَ لهُ وَلَدٌ). (الآية 176 من سورة: النساء) الآية الأخيرة من سورة النساء، وفيها بيانُ ميراث الإخوة والأخوات الأشقَّاء أو لأبٍ، وبتخصيص هذين المَوضوعين بكلمة الاستفتاء دون كلمة السؤال مما يدلُّ على شدَّة العناية بمَوضوعيْهما، وهو الأسرة والحقُّ المالي، وذلك نظرًا لمَا يدلُّ عليه الفرْق بين الاستفتاء الذي يتطلَّب دقة النظر في إبداء الرأي والسؤال الذي لا يَستدعي ذلك.(1/7)
حادي عشر: حرَّم الله على المسلمين في أوائل سورة المائدة الميْتة وما إليها (حُرِّمَتْ عليكمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولحْمُ الخِنْزِيرِ). (الآية: 3 من سورة: المائدة). وقد كان العرب يَستبيحون أكْلها، وكانوا مع ذلك يُحرمون على أنفسهم بعض الطيِّبات كالبَحيرة والسائبة وما شاءوا تَحْريمه، فألحَّتْ الحاجة على المُؤمنين في معرفة ما أحلَّه الله لهم بعد هذا الذي حرَّمه عليهم، وفي هذا الشأن جاء قوله ـ تعالى ـ: (يَسْأَلُونَكَ ماذَا أُحِلَّ لهمْ قُلْ أُحِلَّ لكمُ الطيباتُ وما علَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعلِّمُونَهُنَّ ممَّا علَّمَكُمُ اللهُ فكُلوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عليكمْ واذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عليهِ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ سريعُ الحِسَابِ). (الآية 4 من سورة: المائدة).
فأرشدهم إلى أن كل ما لا يُحدث ضررًا ولا يُفسد عقيدةً حلالٌ لهم غير مُحرَّم عليهم، كما أرشدهم إلى حِلِّ أكْلِ الحيوان المَصِيد بشَرْط ذِكْرِ اسم الله عليه.
ثاني عشر: يُتمُّ نَصْرُ اللهِ للمُؤمنين في غزوة بدر، ويَحصلون على الأنفال والغنائم فيقع بينهم خلاف فيمَن يستحقُّ هذه الغنائم، هل يستحقها الشُّبَّانُ، المُحاربون، أو الشيوخ الذين وقفوا رِدْءًا مِن ورائهم؟ ويكثر بينهم الحديث في هذا الشأن ويتَّجِهُونَ بالسؤال عنه إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فينزل أول سورة الأنفال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفالُ للهِ والرسولِ فاتَّقُوا اللهَ وأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وأَطِيعُوا اللهَ ورسولَهُ إنْ كُنتمْ مُؤمنينَ).
فيُرشدهم إلى أن الشأن في توزيع الغنائم ليس إليهم، ولا ينبغي أن يكون سببًا في اختلافهم، وإنما هو إلى اللهِ ورسوله، فيَجب عليهم أن يُطيعوه وأن يُصلحوا ذات بيْنهم وأن يتَّقُوا الله في أنفسهم.(1/8)
2 ـ هذه جملة الأسئلة التي ذُكرت في القرآن الكريم مُوجَّهةً مِنَ المؤمنين إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يختصُّ ببيان الأحكام التي تدعو إليها حاجتهم، وهي كلها ـ كما نرى ـ واردةٌ في السور المدنية: البقرة، المائدة، الأنفال. ومن المَعلوم أن السور المدنية هي التي قامت بمُهمة التشريع التفصيلي لأحكام الإيمان.(1/9)
أسئلة غير المُؤمِنينَ:
وبقِي مِن الأسئلة الواردة في القرآن الكريم ما كان صادرًا من المُنكرين للدعوة المُعارضينَ لها، وقد جاء أكثرها في السور المكية التي قامت بالدعوة إلى أصول الدين، ومِن هنا نراها ـ كما يتضح من النظر في موضوعها ـ تحمل روح الجدَل والتحدِّي فيما يختصُّ بالدعوة، فكان منها السؤال عن الساعة، وقد ورَد في ثلاث سور: سورة الأعْراف: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عندَ ربِّي لا يُجَلِّيهَا لوَقْتِهَا إلاَّ هوَ ثَقُلَتْ في السَّمَاواتِ والأرضِ لا تَأْتِيكُمْ إلاَّ بَغْتَةً يَسألونَكَ كأنَّكَ حَفِيٌّ عنْهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عندَ اللهِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ). (الآية 187 من سورة: الأعراف). وسورة الأحزاب: (يَسْأَلُكَ الناسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إنَّما عِلْمُهَا عندَ اللهِ ومَا يُدْرِيكَ لعلَّ الساعةَ تَكُونُ قَرِيبًا). (الآية: 63 من سورة: الأحزاب).
وسورة النازعات: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلَى رَبِّكَ مُنْتهاهَا إنَّما أنتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها كأنَّهُمْ يومَ يَرَوْنَهَا لمْ يَلْبَثُوا إلاَّ عَشِيَّةً أوْ ضُحَاهَا). (الآيات الأخيرة من سورة النازعات).
ومنها السؤال عن الروح وقد ورَد في سورة الإسراء: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الروحُ مِن أمْرِ ربِّي ومَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلًا). (الآية: 85 من سورة الإسراء).
ومنها السؤال عن بعض الشخصيات التاريخية وهو المذكور في سورة الكهف بقوله ـ تعالى ـ: (ويَسْألُونك عن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عليكمْ مِنْهُ ذِكْرًا…). الآيات.(1/10)
ومنها السؤال عن الجبال ومَصيرها حين يقع البعْث وهو المَذكور في سورة طه بقوله ـ تعالى ـ: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبالِ فقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فيها عِوَجًا ولاَ أَمْتًا). (الآية: 105 من سورة: طه).
هذه هي الأسئلة التي كان يُوجِّهها المَكِّيُّونَ إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذَكَرَهَا القرآنُ.(1/11)
المسلم يسأل عمَّا ينفعُه:
ونحن إذا تأمَّلْنَا جُملةَ الأسئلةِ التي وَرَدَتْ في القرآن على ألْسنة المُؤمنين نعلَم منها أن شأن المُؤمن أن يسأل عمَّا ينفعه في عباداته ومُعاملاته أو يجهله مِن عقائده؛ فلا يسأل عن الأرواح بعد مُفارقتِها للجسد، وماذا تعمل؟ ولا عن كيفية عذاب القبْر. ولا عن مِساحة الجنة،ولا عن أرْضها، ولا عن سَمائها وما إلى ذلك ممَّا شغل المُسلمون به أنفسهم، وهو لا يعود عليهم بنَفْعٍ في الدنيا ولا في الآخرة.(1/12)
العلماء وبيان الأحْكام:
هذا وقد درَج المسلمون من عهْد التنزيل إلى يَوْمنا هذا على أن يُبَيِّنَ لهم عُلماؤهم أحكام دينهم بيانًا ـ كأسلوب القرآن ـ مُبتدئًا غير مَسبوق بسؤالِ السائلينَ، وبيانًا مَسبوقًا بالسؤال وهو: "الفتاوَى".
وقد دُوِّنَتْ فتَاوَى الفقهاء في العصور الفِقْهية الزاهرة، وكانت مَرْجِعًا عَظِيمًا لمَعرفة الأحْكام، وثروةً فِقْهيةً واسعةً.(1/13)
هيئات الفَتْوَى في العصر الحاضر:
واهتمامًا بأمر المسلمين أُعِدَّتْ أخيرًا هيئات لفَتْوَى المُستفتين، وإجابة السائلين، فدار الإفتاء المِصرية قد أُعِدَّتْ لذلك، ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف قد أُعِدَّت لذلك، واتَّجه المُسلمون إليهما مِن كافَّة أنحاء المَعمورة بالسؤال والاستفتاء عمَّا ينزل بهم مِن وقائعَ أو يَصْدُرُ عنهم مِن تَصرُّفات، ونرجو في نهضتنا الحاضرة أن تَنال هذه الفتاوَى حظَّ الفتاوَى السابقة، فتُدوَّن وتُنشر، فتُحفظ ويَعُمُّ نَشْرُهَا، وتكون نماءً للثرْوة الفقهية المأثورة، ووَصْلًا لمَا انقطع مِن سلسلة البحوث الفقهية القيِّمة.(1/14)
الإذاعة والفتاوَى:
كما رأت إذاعتُنا المصرية في بعض الأوقات، تَيْسِيرًا للانتفاع بقدْر الإمكان، أن يكون في برامجها الإرشادية رُكْنٌ للفتاوَى المُتعلِّقة بالشئون العامة التي تقع كثيرًا بين الناس ويَحتاجون فيها إلى معرفة حُكم الله، وأن تُذيع من هذه الفتاوى ما يصدر عن دار الإفْتاء، وعن لجنة الفتوَى بالأزهر وممَّن تَتَّجِهُ إليهمْ بأسئلتها من العلماء.
وهذا عملٌ جليلُ النفع، عظيم الأثَر، يَستوجِب مِنَّا ومِنَ الناس شُكر تلك الهيئات، وشُكر الإذاعة التي حرصت بهذا الاقتراح على أن تكون عبادات الناس وما يجري بينهم من مُعاملات، وما يتخذونه مِن عادات وتقاليدَ، مُوافقة لأَحكام الله، وحرصت في الوقت نفسه على أن تُذيع أحكام الله في المَوضوعات الهامة العامَّة على حضرات المُستمعين بعبارات سهلة ميْسورة، وبطريقة لا تُكلِّفهم عَنَتًا ومَشَقَّةً. وبذلك يتفقَّه الناس في دينهم، وينالون الخير الذي وعَد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ به المُتَفَقِّهِينَ". مَن يُرِدِ اللهُ بهِ خيْرًا يُفْقِّهُّ في الدِّينِ".
وهذه مجموعة من الفتاوَى والأحكامِ أجبت بها على أسئلة السائلين في موضوعات مختلفة، بعضها نشرتُه الصحفُ والمَجلات للقارئين وبعضها أذاعتْه الإذاعة على المُستمعين، لم ألْتزم فيها مَذْهَبًا خاصًّا، ولم أتقيَّد برأيِ فَقِيهٍ مُعيَّنٍ إلا بالكتاب العزيز والسُّنَّة الصحيحة وقواعد الإسلام العامَّة الخالدة، أرجو أن يكون نشْرُها قِيامًا ببعض الواجب الذي فرَضه الله على العلماء مِن التبليغ والبيان. كما أدعو أن ينفع بها المسلمين في كل مكان.
هذا. وقد رُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لا ينبغِي للجاهل أن يسكت على جهله، ولا للعالِم على علْمه". وقد قيل: "العلْم خزائنُ مَفاتيحُها السؤال، فإنه يُؤْجر فيه أربعة: السائلُ، والعالِم، والمُستمع، والمُحِبُّ لهم".(1/15)
وفَّقنا الله إلى الفِقْه في دينه والاهتداء بهَدْيه آمينَ.
محمود شلتوت(1/16)
مبادئ مَسَلَّمة عند العلماء:
بعد نشر هذه الفتوى في مجلة: "الرسالة" السنة العاشرة العدد: 462 قامت ضجَّة أحدثتها قومٌ جَمدُوا على القديم، وادَّعوا الغيرة على الدين.
وقد رَدَدْنَا على شُبُهات هؤلاء بالحُجج العلمية الدامغة ونَشرتْ ذلك "الرسالة" في الأعداد: 514 ـ 517 ـ 518 ـ 519، من السنة الحادية عشرة.
وفيما يلي خلاصة لهذا الرد:
1 ـ حدَّد الشارع العقائد، وطلب من الناس الإيمان بها، والإيمان هو الاعتقاد الجازم المُطابق للواقع عن دليلٍ.
ومِن الواضح أن هذا الاعتقاد لا يُحصله كل ما يُسمَّى دليلًا، وإنما يُحصله الدليل القطعيُّ الذي لا تَعتريه شُبهةٌ.
2 ـ وهذا الدليل القطعي يتمثَّل في شيئينِ:
الأول: الدليل العقلي الذي سلِمت مُقدماته، وانتهت في أحكامها إلى الحِسِّ والضرورة، فهذا ـ باتِّفاق ـ يُفيد اليقينَ، ويُحقق ذلك الإيمان المَطلوب.
الثاني: الدليل النقْليُّ إذا كان قطعيًّا في وُروده، قطعيًّا في دلالته.
ومعنى كوْنه قطعيًّا في وُروده: ألَّا يكون هناك أيُّ شُبْهة في ثُبوته عن الرسول وذلك كالقرآن الكريم الذي ثبت كله بالتواتُر القطعي، وكالأحاديث المُتواترة عن الرسول إن ثبَت تواتُرُها.
ومعنى كوْنه قطعيًّا في دلالته، أن يكون نصًّا مُحْكمًا في معناه، وذلك إنما يكون فيما لا يَحتمل التأويل.
3 ـ فإذا كان الدليل النقليُّ بهذه المَثابة أفاد اليقينَ، وصلُح لأنْ تنبُت به العقيدة.
ومِن هنا نستطيع أن نُقرِّر أن العلميات التي لم تَرِدْ بطريقٍ قطعيٍّ أو وردتْ بطريقٍ قطعيٍّ ولكن لابَسَهَا احتمالٌ في الدلالة فاختَلف فيها العلماء، ليست من العقائد التي يُكلفنا بها الدين، والتي تُعتبر حَدًّا فاصلًا بين الذين يُؤمنون والذين لا يؤمنون.(1/17)
4 ـ هذه المبادئ التي ذكرنا تُنير سبيل البحث لمَن يُريد معرفة الحقِّ فيما هو من العقائد وما ليس منها، وهي مبادئ مُسلَّمة عند العلماء يعرف كل مُطَّلِع على كُتبهم ومُناقشاتهم أنه لا نِزاع فيها (راجع فصل: "طريق ثبوت العقيدة" من كتابنا: "الإسلام عقيدة وشريعة")
وعلى ضوء هذه المبادئ نستقبل قول الذين زعموا "أن رفْع عيسى ونُزوله آخر الزمان ثابتانِ بالكتاب والسُّنَّة والإجْماع".
ولنا في ذلك نظرات ثلاث: نظْرة فيما ذكروا مِن آيات، ونظْرة فيما ساقوا مِن أحاديث، والنظرة الثالثة فيما ادَّعَوا في هذا المقام مِن إجماع.(1/18)
نظرة فيما ساقوا من آيات:
فأما الآيات التي تُذكر في هذا الشأن فنحن نُرجعها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: آياتٌ تَذكر وفاة عيسى ورفْعه، وتدلُّ بظاهرها على أن الوفاة وقعتْ، وهذه الآيات هي:
1 ـ قوله ـ تعالى ـ في سورة آل عمران (إذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إليَّ).
2 ـ قوله ـ تعالى ـ في سورة النساء: (وقوْلِهمْ إنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عيسى ابنَ مَرْيَمَ). إلى قوله: (وما قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إليهِ).
3 ـ قوله ـ تعالى ـ في سورة المائدة: (فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كنتَ أنتَ الرَّقِيبَ علَيْهِمْ).(1/19)
وقد تناولنا هذه الآيات في الفتوى ودرسناها دراسة علميةً واضحة، وعرضنا إلى آراء المُفسرين فيها، وبيَّنَّا أنه ليس فيها دليل قاطعٌ على أن عيسى رُفِعَ بجِسْمِه إلى السماء، بل هي ـ على الرغم مما يراه بعض المفسرين ـ ظاهرةٌ بمَجموعها في أن عيسى قد تُوفِّيَ لأجله، وأن الله رفَع مكانته حين عصَمه منهم، وصانه وطهَّره مِن مكْرهم. ولسنا في حاجة إلى أن نُعيد شيئًا مما ذكرناه. (غير أنهم تمسَّكُوا بقوله ـ تعالى ـ: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إليهِ). بعد قوله: (وما قَتَلُوهُ يَقِينًا). إن الرفع بعد نفْي القتل هو رفع الجسم حتْمًا، وإلا لمَا تحقَّقت المُنافاة بين ما قبْل "بلْ" وما بعدها، ونحن نقول لهم إن المنافاة مُتحققة؛ لأن الغرض من الرفع رفْع المكانة والدرجة بالحَيْلُولة بينهم وبين الإيقاع به كما يُريدون. والمعنى: أن الله عصَمه منهم، فلم يُمكنهم من قتْله بل أُحيط مَكرُهم وأنقذه وتوفَّاه لأَجَلِه فرَفع بذلك مكانته. وقد قلنا في الفتوى: إن الآية بهذا تتَّفقُ تمامًا مع ظاهر قوله ـ تعالى ـ: (إنِّي مُتوفِّيك ورافعُكَ إلى ومُطهِّركَ مِن الذينَ كفَرُوا). وهذا احتمالٌ قويٌّ في الآية يمنع الزعم بأنها نَصٌّ أو ظاهر في رفْعه بجسمه حيًّا. ويقول الإمام الرازي في تفسيره "ومُطهِّرُك: مُخرجُك مِن بيْنهم ومُفرِّق بينك وبينهم. وكما عظَّم شأنه بلفْظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهِير، وكل ذلك يدلُّ على المُبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته. ويقول في معنى قوله ـ تعالى ـ: (وجاعلُ الذينَ اتَّبَعُوك فوقَ الذينَ كفروا): القول الثاني: المُراد من هذه الفوْقِيَّةِ الفوقيةُ بالحُجة والبرهان، ثم يقول: واعْلمْ أن هذه الآية تدلُّ على أن رفْعه في قوله: (ورَافِعُكَ إليَّ) هو رفع الدرجة والمَنقبة لا بالمكان والجِهَةِ، كما أن الفوقيَّةَ في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة" ا.هـ).(1/20)
النوع الثاني: آياتٌ ما كان ليَخطر بالبالِ أن لها صلَة بمَوضوع البحث، فلِذا لم نُفكر فيها، وحسْبنا الآن أن نُمثل لهذا النوع بما قال أحدُهم:
"ولك أن تضمَّ إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه ـ عليه السلام ـ (وَجِيهًا في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ومِنَ المُقَرَّبِينَ). ففي قوله: (ومِنَ المُقَرَّبِينَ) إشارة إلى رفْعه إلى محل الملائكة المُقرَّبين".
والشيخ يُريد السماء طبعًا، وهو لَيٌّ للكتابِ غريبٌ، فقد وردت كلمة: "المقربين" في غير موضع من القرآن الكريم: (والسابقونَ السابقونَ أولئكَ المُقَرَّبُونَ). (فأمَّا إنْ كان مِن المُقربين فرَوْحٌ ورَيْحَانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ). وإذنْ فليس عيسى وحده الذي يعيش بجسمه في السماء، بل معه أفواج من عِباد الله يعيشون فيها ويزداد عددُهم يومًا بعد يوم. وهكذا فلْيكن المنطق!
ثم يقول: "بل في قوله ـ تعالى ـ: (وَجِيهًا في الدُّنْيَا والآخِرَةِ) إشارة إلى ذلك؛ لأن الوجيه بمَعنى: ذي الجاه، ولا أدلَّ على كوْنه ذا جاهٍ في الدنيا مِن رفْعه إلى السماء".
وهذا كلام لا يُقال، فإن وجاهةَ عيسى في الدنيا هي الرسالة المُؤيَّدة بالمُعجزات البيِّنات: (ويُعَلِّمُهُ الكتابَ والحِكْمَةَ والتوراةَ والإنْجِيلَ ورَسُولًا إلى بنِي إسرائيلَ أنِّي قدْ جِئْتُكُمْ بآيةٍ مِن رَبِّكُمْ). فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصةَ الرفع إلى السماء التي يُرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيهًا في الدنيا مَن غادر الأرض وترَك أهلها الذينَ يُحِسُّون وجَاهَتَهُ؟ وهكذا ينتزع القوم مِن كل عبارة إشارة أو تلْميحًا ليُؤيدوا ما زعموا أنه عقيدةٌ يَكْفُرُ مُنْكِرُها.
النوع الثالث: آيتانِ قد اختلفت آراء المُفسرين في بيان المراد منهما، وجاء في بعض ما قيل: إنهما تَدُلَّانِ على نُزول عيسى وهما:(1/21)
1 ـ قوله ـ تعالى ـ في سورة النساء: (وإنْ مِن أهلِ الكتابِ إلَّا لَيُؤْمِنُنَّ بهِ قبلَ مَوْتِهِ). (النساء: 159).
2 ـ وقوله ـ تعالى ـ في سورة الزُّخرف: (وإنَّه لَعِلْمٌ للساعةِ فلا تَمْتَرُنَّ بِهَا). (الزخرف: 61).
ما غاب عنا، وقت أن كتبنا الفتوَى، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى، وما غاب عنَّا ما ذكره المُفسرون من الآراء والأفْهام المُختلفة فيهما، وما كُنَّا نَحسب ـ ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكُفْر على مُخالفه ـ أن أحدًا يعرض لهاتينِ الآيتينِ وقد رأى فيهما ما رأينا مِن أقوال المُفسرين المختلفة في ذاتها، والمُختلفة في ترجيحها، فيقول: إنهما نَصَّانِ قاطِعَانِ في نُزول عيسى! ولذلك آثَرْنَا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظُهور درجتهما في الدلالة لكلِّ مَن يقرأ شيئًا مِن كُتب التفسير.
ولكنهم أَبَوْا إلا أنْ يَذكروا هاتينِ الآيتينِ ويزعموا أنهما تَدُلَّانِ دلالةً قاطعةً على نُزول عيسى، فلسنا نجد بُدًّا مِن أن نضع بين يَدَيْ القُرَّاءِ خُلاصةً لآراء المُفسرين فيهما، ثم نُقَفِّي على ذلك بما نَرى ليَتَبَيَّنُ الحقُّ واضِحًا:(1/22)
الآية الأُولَى:
للمُفسرين في هذه الآية آراء مُختلفة وأشهرها رأيانِ:
الأول: أن الضمير في "به" و"موْته" لعيسى، والمعنى: ما مِن أحدٍ مِن أهل الكتاب يَهُوديهم ونَصرانِيهم إلا ليُؤْمِنَنَّ بعيسى قبلَ أن يموت عيسى. قالوا: أخبرتْ هذه الآية أن أهل الكِتاب سيُؤمنون بعيسى قبل موته وهم لم يُؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طُلب منهم، فلا بد أن يكون عيسى إلى الآنَ حَيًّا، ولابد أن يتحقَّق هذا الإيمان به قبل مَوْتِه، وذلك إنما يكون عند نُزوله آخر الزمان.
الثاني: أن الضمير في: "به" لعيسى، وفي "موته" للكتابي. والمعنى: أنه ما مِن أحدٍ من أهل الكتاب إلا ليُؤمنن بعيسى. والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن، ولا على نُزوله في المستقبل؛ لأن المراد أنهم يؤمنون عند مُعاينتهم الموت بأنه نبي الله وابن أَمَتِهِ.
هذانِ رأيانِ مَشهورانِ في الآية عند المفسرين، ولكلٍّ منهما مَن يُرجِّحُه. وقد ساقهما ابن جرير، وذكَر الآثار التي تدلُّ لكلٍّ منهما ثم قال: "وأَوْلَى الأقوال بالصحة والصواب قول مَن قال: تأويل ذلك، وإن مِن أهل الكتاب إلا ليُؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. وإنما قلنا ذلك؛ لأن الله جلَّ ثناؤُه حكم لكل مؤمن بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحُكم أهل الإيمان في المُوارثة والصلاة عليه وإلْحاق صغار أولاده بحُكمه في المِلَّةِ؛ فلو كان كل كتابيٍّ يُؤمن بعيسى قبل موته لوجَب ألاَّ يرِث الكتابيُّ إذا مات إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم مِن أهل الإسلام.. وأن يكون حُكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغُسْله وتقبيره؛ لأن من مات مؤمنًا بعيسى فقد مات مؤمنًا بمحمد...(1/23)
وقد أجمع أهل الإسلام على أن كل كتابيٍّ مات قبل إقراره بمحمد ـ صلوات الله عليه ـ وما جاء به من عند الله فمَحكوم له بحكم ما كان عليه أيام حياته غير منقول شيءٍ مِن أحكامه في نفسه وماله وولده وصغارهم وكبارهم بموته عمَّا كان عليه في حياته، فدلَّ هذا على أن المعنى: إلا ليُؤمننَّ بعيسى قبل موت عيسى، وإن ذلك عند نزوله". (عن ابن جرير ببعض تصرُّف).
ويُريد ابن جرير بهذه العبارة أن الإيمان بعيسى يلزمه الإيمان بمحمد ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ لأن رسالة محمد ممَّا جاء به عيسى، وعليه يكون من آمن بعيسى مؤمنًا بمحمدٍ فيكون مسلمًا له أحكام المسلمين في التوارث والصلاة عليه وغُسله ودفنه في مقابر المسلمين..إلخ.
وهذا يُخالف إجماع المسلمين على عدم ثبوت شيءٍ من هذه الأحكام للكتابي الذي يموت، وإذا كان هذا يُخالف الإجماع فقد بطُل أن يكون معنى الآية ما ذُكر، وكان "أولَى الأقوال بالصحة والصواب" في نظر ابن جرير هو رأي الأول الذي لا يترتب عليه مُصادمة الإجماع.
إلى هنا، وقبل مناقشة ابن جرير فيما رجَّح به، ليس في الأمر أكثر من أن مُفسِّرًا من بين المفسرين قد اختار رأيًا من رأيينِ حكاهما عن أهل المأثور ورجَّح ما اختاره بما رأى، ولكن القوم تلقَّفوا هذا عن ابن جرير دليلًا قاطعًا على ما يزعمون من نُزول عيسى، ونحن نُلخِّص ردَّنا عليهم في النقاط الآتية التي غفلوا أو تغافلوا عنها.
1 ـ إن ابن جرير يذكر احتمالينِ في الآية، ويذكر الآثار الدالَّة لكلٍّ منهما ويصل بالرأي الثاني إلى ابن عباس ومُجاهد وغيرهما، فكيف يُعَدُّ نَصًّا قاطعًا غير مُحتمِل لأكثر مِن معنى ما خالف فيه ابن عباس ومُجاهد وغيرهما؟(1/24)
2 ـ إن ابن جرير كما وجَّه الرأي الذي اختاره وجه الرأي الثاني ـ أيضًا ـ "بأن كل ما نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبيَّن له الحق مِن الباطل في دينه" وهذا فيما أرى هو الذي جعل ابن جرير يقتصد في التعبير عن ترجيح ما اختاره فيقول: "وأولَى الأقوال" دون أن يقول ـ مثلًا ـ: والرأيُ الصحيح.
3 ـ إن يكن ابن جرير قد رجَّح أحد المعنيينِ فقد رجَّح غيرُه من العلماء المعنى الآخر ومنهم الإمامانِ: النوويُّ والزمخشريُّ وغيرهما. قال ابن حجر في فتْح الباري: "ورجَّح جماعةٌ هذا المذهب ـ يُريد الثاني ـ بقراءة أُبَيِّ بن كعب (إلا لَيُؤْمِنُنَّ بهِ قبلَ مَوْتِهِمْ) أي: أهل الكتاب. قال النووي: معنى الآية على هذا: ليس من أهل الكتاب أحدٌ يَحْضُرُهُ الموتُ إلا آمَن عند المُعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وابن أَمَتِهِ، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال ـ تعالى ـ: (وليستِ التوبةُ للذينَ يعملونَ السيئاتِ حتى إذا حضَر أحدَهم الموتُ قال إنِّي تُبْتُ الآنَ). ثم قال: وهذا المذهب أظهر؛ لأن الأول يخصُّ الكتابيَّ الذي يُدرك نزول عيسى، وظاهر القرآن عُمومه في كل كتابيٍّ في زمن نزول عيسى وقبله".
وقد ذكر صاحب الكشَّاف قريبًا من هذا وأطال فيه ونقَله عنه الإمام الرازي في تفسيره فلْيرجع إليهما مَن شاء.
بهذا يتبيَّن:
1 ـ أن هذه الآية ليست نَصًّا في معنى واحد حتى تكون دليلًا قاطعًا فيه.
2 ـ أن ما تَمسَّك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مُسلَّم له، فقد بنَاه على أن المُراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المُعتبر الذي ينفع صاحبَه وتترتَّب عليه الأحكام، مع أنه إيمان ـ كما قرَّره العلماء، ومنهم ابن جرير نفسه ـ لا يُعتدُّ به ولا يُقام له وزنٌ، ولا تترتَّب عليه أحكامٌ؛ لأنه إيمان جاء في غير وقته.(1/25)
3 ـ أن مَن يَنظر فيما تمسَّك به أصحاب المذهب الثاني: من العُموم الواضح في قوله: (وإنْ مِن أَهْلِ الكِتابِ). ومن قراءة أُبَيٍّ (إلَّا لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ قبْلَ مَوْتِهِمْ). ومن أن إيمان المُعاينة لا ينفع صاحبَه عند الجميع، لا يَسَعُهُ إلا أن يُخالف ابن جرير فيما يذهب إليه وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني: "وهذا المذهب أظهرُ". والنتيجة الحتميَّة لهذا كله أن الآية ليستْ ظاهرةً فيما يقتضي نُزول عيسى فضلًا عن أن تكون قاطعةً فيه!(1/26)
الآية الثانية:
للمُفسرين في هذا الآية ـ أيضًا ـ آراء مختلفة، ومن هذه الآراء أن الضمير في قوله ـ تعالى ـ: (وإنَّهُ لَعِلْمٌ للسَّاعَةِ). راجع إلى محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو إلى القرآن، ولكننا نستبعد هذا ونرى أن الضمير راجع إلى عيسى كما يراه كثير من المُفسرين؛ وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى، ومع ذلك نجد خلافًا آخر يُصوره لنا بعض المفسرين بقوله: "وإنه: أي عيسى لَعِلْمٌ للساعة: أي إنه بنزوله شرطٌ من أشراطها، أو بِحُدوثه بغير أب، أو بإحيائه الموتى دليلٌ على صحة البعْث". (تفسير أبي السعود).
ومن ذلك يتبيَّن أن في توجيه كوْن عيسى علمًا للساعة ثلاثة أقوال:
الأول: أنه بنُزله آخر الزمان علامة من علامات الساعة.
الثاني: أنه بحُدوثه من غير أبٍ دليل على إمكان الساعة.
الثالث: إنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعْث والنُّشور.
ولقد كان في احتمال الآية لهذه المعاني التي يُقررها المفسرون كفايةٌ في أنها ليست نصًّا قاطعًا في نزول عيسى، ولكننا لا نكتفِي بهذا بل نُرجح القول الثاني "وهو أن عيسى بحُدوثه من غير أبٍ دليل على إمكان الساعة"، مُعتمدين في هذا الترجيح على ما يأتي:(1/27)
1 ـ أن الكلام مَسُوقٌ لأهل مكة الذين يُنكرون البعث ويَعجبون من حديثه، وقد عُنِيَ القرآن الكريم في كثير من آياته وسُوره بالردِّ عليهم واقتلاع الشكِّ من قلوبهم. وطريقتُه في ذلك أن يَلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يُشاهدونها فعلًا أو يؤمنون بها (يا أيُّها الناسُ إنْ كنتمْ في رَيْبٍ مِنَ البعْثِ فإنَّا خلَقْنَاكُمْ مِن تُرابٍ). (وتَرَى الأرضَ هامِدَةً فإذا أَنْزَلْنَا عليها الماءَ اهتزَتْ ورَبَتْ). (فانْظُرْ إلى آثَارِ رَحمةِ اللهِ كيفَ يُحيي الأرضَ بعدَ مَوْتِهَا إنَّ ذلكَ لَمُحْيِي المَوْتَى). وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها (والذي نَزَّلَ مِن السماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدةً مَيْتًا كذلكَ تُخْرَجُونَ).
وهذه هي الطريقة المُستقيمة المُنتجة في الاستدلال المُقتلعة للشك، أما أن يُلفت أنظارهم إلى أشياء يُخبرهم هو بها كنُزول عيسى، وهي ـ أيضًا ـ في موضع الشك عندهم، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شكٍّ فذلك طريق غير مُستقيم؛ لأنه استدلال على شيء في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!
2 ـ وممَّا يُؤيد هذا قول الله ـ تعالى ـ تفريعًا على أن عيسى علْمٌ للساعة: (فلا تَمْتَرُنَّ بِهَا). فإنه يدلُّ على أن الكلام مع قومٍ يشكُّون في نفس الساعة، والعلامة إنما تكون لمَن آمَن بها وصدَّق أنها آتية لا ريب فيها؛ أما الذي يُنكر وُقوعها أو يَشُكُّ فيها فهو ليس بحاجةٍ إلى أن يُتحدَّث معه عن علاماتها، بل لا يصحُّ أن يتحدثَ في ذلك معه، وإنما هو بحاجةٍ إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولًا؛ ليُمكن أن يُقال له بعد ذلك: هذا الذي آمنتَ به علاماتُه كذا.(1/28)
3 ـ ثم إنه من الأصول المُقررة في فهْم أساليب اللغة العربية أن الحُكم إذا أُسند في اللفظ إلى الذات، ولم تَصحّ إرادتها معنًى، قُدِّرَ في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالًا بها. فإذا طبَّقنا هذه القاعدة على قوله ـ تعالى ـ: (وإنَّهُ لعِلْمٌ للسَّاعَةِ). وعلمنا أن ذات عيسى مِن حيث هيَ لا يصحُّ أن تكون مُرادة هنا، وأنه لابدَّ مِن تقديرٍ في الكلام، ثم وازَنَّا بين النُّزول والخلْق من غير أبٍ، وإحياء الموتَى، فلا شكَّ أننا نجد الخلْق من غير أبٍ أقربَ هذه الثلاثة إلى الذات؛ لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه إلا إلى شيء عارضٍ له، وحينئذ يتعيَّن الحمْل عليه ويكون معنى الآية الكريمة: "لا تَشُكُّوا في الساعة فإنَّ الذي قَدَرَ على خَلْقِ عيسى من غيرِ أبٍ قادرٌ عليها".
وبهذا يتبيَّن:
أولًا: أن الإخبار بنُزول عيسى لا يَصلح دليلًا على الساعة يَقتلع به ما في نفوس المُنكرين لها من شكٍّ ويصح أن يُقال عقبه "فلا تَمْتَرُنَّ بِهَا".
وثانيًا: أن جعْل عيسى بنُزوله آخر الزمان علامةً مِن علامات الساعة لا يَستقيم هنا؛ لأن الحديث مع قوم مُنكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تُذكر لهم علاماتها.
وثالثًا: أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيَّنَّا.
أما بعدُ: فهذه هي الآيات التي أَوردوها في شأن عيسى مِن رَفْعِه أو نُزوله.
ولا شك أن القارئ المُنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقها على المبادئ التي ذكرنا لا يُخامره شكٌّ في أنه: "ليس في القرآن الكريم ما يُفيد بظاهره غلَبَةَ ظنٍّ بنُزول عيسى أو رفْعه، فضلًا عمَّا يُفيد القطع الذي يُكَوِّنُ العقيدة، ويُكفِّر منكره كما يزعمون".(1/29)
النظرة الثانية في الأحاديث:
والنظرة الثانية فيما ساقوا من أحاديث:
ومُوجز ما نقول فيها: أنها لا تخرج عن كوْنها أحاديثَ آحادٍ، وأحاديثُ الآحاد مهما صحَّت لا تُفيد يَقِينًا يُثبت عقيدةً يُكَفَّرُ مُنكرُها.
وإنه ليُؤسفني أن أرى قومًا تظاهروا بالانتساب إلى الدين والغيرة على أحاديث الرسول استباحوا لأنفسهم ـ في سبيل أغراضهم الدنيا ـ أن يَصطنعوا كل أساليب التلْبيس والتمْويه في شأن أحاديث عيسى التي لا يُمكن أن يكون منها مُتواترٌ حتى على أوسع في تحقُّقه، وهي مع آحاديَّتها يكثُر ويشتد في مُعظمها ضَعْف الرواة واضْطراب المُتون ونِكارة المعاني، فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان مِن الصحابة والتابعين، وذُكرتْ في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المُتقدمين، فإذا رأوا في بعضها ضعفًا أو اضطرابًا أو نكارة حاولوا التخلُّص من ذلك، فقالوا: إن الضعيف فيها مُنجبر بالقَوِيِّ، وإن العدالة لا تُشترط في رواة المتواتر، وهكذا يخلعون عليها ثوبًا مُهلهلًا من القداسة، لا رغبة في علْم ولا غَيْرة على حق، ولكن مُكابرة وعنادًا، وإصرارًا على التضليل، وليُقال على ألسنة العامة وأشباه العامة: إنهم حُفَّاظٌ وإنهم مُحَدِّثون!(1/30)
بقِي بعد هذا أمرٌ لابدَّ مِن تقريره: وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المُحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطعيةَ الدلالة، فقد تناولتها أفْهام العلماء قديمًا وحديثًا ولم يَجدوا مانعًا مِن تأويلها. وقد جاء في شرح المقاصد ـ بعد أن قرَّر مُؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحاديَّة ـ ما نصُّه: "ولا يمتنع حَمْلُها على ظواهرها عند أهل الشريعة ... وأوَّل بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلْم والهداية سِيَّمَا الفقه الحِجازي، والنار الحاشرة للناس بفِتْنَةِ الأتراك، وفتنة الدجَّال بظهور الشَّرِّ والفساد، ونُزول عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ باندفاع ذلك وبُدُوِّ الخير والصلاح... إلخ".
ومن ذلك نرى أن السعد ـ صاحب المقاصد ـ لا يُقرر وُجوب حمْلها على ظواهرها حتى تكون من قطعيِّ الدلالة الذي يمتنع تأويله، وإنما يُقرر بصريح العبارة: "أنه لا مانع مِن حمْلها على ظواهرها"، فيُعطي بذلك حق التأويل لمَن انقدح في قلبه سببٌ للتأويل، ثم يُحدث عن بعض العلماء أنهم سلَكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلًا، ويُبين المعنى الذي حمَلوها عليه، ولا شكَّ أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد ـ كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يَقبل التأويل وما لا يقبله ـ أن ما تدلُّ عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدةً يجب الإيمان بها، فمَن أدَّاهُ نظره إلى أن يُؤمن بظاهرها فله ذلك، ومَن أداه نظره إلى تأويلها فله ذلك شأْن كلِّ ظَنِّيٍّ في دلالته.
وممَّا تقدَّم يتبيَّن حاليًّا أنه ليس في الأحاديث ـ التي أوردها في شأْن نُزول عيسى آخر الزمان ـ قطعيةً ما، لا من ناحية وُرودها ولا مِن ناحية دِلالتها.(1/31)
النظرة الثالثة في الإجْماع:
بقِي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا مِن إجماعٍ في هذا المقام.
وأُحِبُّ أن أُشير هنا إلى أن "الإجماع" الذي اشتهر بين الناس أنه أصلٌ مِن أصول التشريع في الإسلام قد اختلفت فيه المذاهب والآراء اختلافًا بعيدًا:
اختلفوا في حقيقته، واختلفوا في إمكانه وتصور وُقوعه، ثم اختلفوا في حجيته... إلخ مما يتبيَّن لنا به أن حُجة الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعيٍّ، فضلًا عن أن يكون الحُكم الذي أُثبت به معلومًا بدليلٍ قطعيٍّ فيُكفَّر مُنكرُه.
ثم نقول: إن الذين ذهبوا إلى حُجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يُحتجُّ به سوى الأحكام الشرعية العملية، أما الحسيَّات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا: "إن الإجماع عليها لا يُعتبر من حيث هو إجماع؛ لأن المُجمعين لا يعلمون الغيْب، بل يعتبر من حيث هو مَنقول عمَّن يُطلعه الله على الغيب، فهو راجع على الإخبارات فيأخذ حُكمها، وليس مِن الإجماع المَخصوص بأُمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الحِسِّيَّ المُستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه، فإن وَرَدَ به نصٌّ فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع، وإن لم يردْ به نصٌّ فلا مَساغ للاجتهاد فيه". (التحرير) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار ـ التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نُزول عيسى ـ إلى مبدأ قطعية النصوص وظنيَّتها في الوُرود والدلالة.(1/32)
خلاف قديم وحديث في المسألة:
وعلى فرْض أن أشراط الساعة ممَّا يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول: إن نزول عيسى قد استقرَّ فيه الخلاف قديمًا وحديثًا.
أما قديمًا فقد نصَّ على ذلك ابن حزم في كتابه: "مراتب الإجماع" حيث يقول: "واتفقوا على أنه لا نبيَّ مع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا بعده أبدًا، إلا أنهم اختلفوا في عيسى ـ عليه السلام ـ: أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى ابن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد ـ عليه السلام".
كما نصَّ عليه ـ أيضًا ـ القاضي عياض في شرح مسلم، والسعد في شرح المقاصد، وقد سُقنا عباراتِه قريبًا، وهي واضحة جليَّة في أن المسألة ظنيَّة في وُرودها ودلالتها!
وأما حديثًا فقد قرر ذلك كل من الأساتذة المغفور لهم: الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا، والأستاذ الأكبر الشيخ المَراغي.
فالشيخ محمد عبده ـ رضي الله عنه ـ يذكر وهو بصدَد تفسير آية آل عمران: (إذْ قال اللهُ يا عيسى إني مُتوفِّيك ورافعُكَ إليَّ). "أن للعلماء هنا طريقتين: إحداهما وهي المشهورة أنه رُفع بجسمه حيًّا وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفَّاه الله ـ تعالى ... والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها، وأن التَّوَفِّي على معناه الظاهر المُتبادر منه؛ وهو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح.. إلخ". ثم يذكر "أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث الرفع والنزول تخريجينِ: أحدهما أنها آحادٌ تتعلق بأمر اعتقاديٍّ، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعيِّ وليس في الباب حديث مُتواترٌ. وثانيهما تأويل النزول" بنحو ما سبق نقله عن شرح المقاصد (الجزء الثالث من تفسير المنار).(1/33)
وقد ورَد على المغفور له السيد رشيد رضا سؤال مِن "تونس" وفيه "ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جِسْمُهُ من روحه؟ وما قولكم في الآية: (إني متوَفِّيك ورافعك). وإنْ كان حيًّا يرزق كما كان في الدنيا فمِمَّ يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسمٍ حيوانيٍّ كما هي سُنة الله في خلْقه؟".
فأجابه السيد رشيد إجابة مُفصَّلة عمَّا سأل عنه نقتطف منها ما يأتي:
قال بعد أن عرَض للآيات وآراء المفسرين فيها "وجُملة القول أنه ليس في القرآن نصٌّ صريح في أن عيسى رُفع بروحه وجسده إلى السماء حيًّا حياةً دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسْب سُنن الله ـ تعالى ـ إلى غذاء فيتوجَّه سؤال السائل عن غذائه، وليس فيه نصٌّ صريح بأنه يَنزل من السماء، وإنما هي عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثَّها في المسلمين".
ثم تكلم عن الأحاديث وقال: "إن هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بيْن المنقول عنهم رفْع المسيح برُوحه وجسده إلى السماء". (الجزء العاشر من المجلد الثامن والعشرين المنار).
أما المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فقد كتب بمُناسبة السؤال الذي رُفع إليه وكان سببًا في فتْوانَا، إجابة جاء فيها: "ليس في القرآن الكريم نصٌّ صريح قاطع على أن عيسى ـ عليه السلام ـ رُفع بجسمه وروحه، وعلى أنه حيٌّ الآنَ بجسمه وروحه. وقول الله ـ سبحانه: (إذْ قالَ اللهُ يا عيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافعُكَ إليَّ ومُطهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا). الظاهر منه أنه توفَّاه وأماته ثم رفعه، والظاهر مِن الرفع بعد الوفاة أنه رُفع درجات عند الله كما قال في إدريس ـ عليه السلام ـ: (ورَفَعْنَاهُ مَكانًا عَلِيًّا). وهذا الظاهر ذهب إليه بعض علماء المسلمين فهو عند هؤلاء توفَّاه اللهُ وفاةً عادية ثم رفع درجاته عنده، فهو حيٌّ حياةً روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء.(1/34)
لكن جمهور العلماء على أنه رفعه بجِسمه ورُوحه فهو حيٌّ الآن بجسمه وروحه، وفسَّروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردتْ كان لها عندهم المقام الذي يُسوِّغ تفسير القرآن بها، ثم قال: "ولكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المُتواترة التي تُوجب على المسلم عقيدةً، والعقيدة لا تجب إلا بنصٍّ من القرآن أو بحديث مُتواتر" ثم قال: وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى ـ عليه السلام ـ حيٌّ بجِسمه وبروحه، والذي يُخالف في ذلك لا يُعدُّ كافرًا في نظر الشريعة الإسلامية".
هذه نصوص صحيحة يُقرر بها هؤلاء العلماء قديمًا وحديثًا أن مسألة عيسى مسألةٌ خلافيةٌ، وأن الآيات المُتصلة بها ظاهرة في موْته ـ عليه السلام ـ موتًا عاديًّا، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث لا تُثبت عقيدةً، وهي مع هذا تحتمل التأويل وأنه لا يُكفَّر المسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله، فأين مع هذا كله ما يدَّعونه من إجماع؟! (من المُهم مُراجعة ما كتبناه عن ثبوت العقيدة بالقرآن والسُّنة والإجماع في فصل: "طريق ثبوت العقيدة" من كتابنا: "الإسلام عقيدة وشريعة").(1/35)
القرآن الكريم ونهاية عيسى:
ورَد إلى مَشيخة الأزهر الجليلة مِن حضرة: عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤالٌ جاء فيه: هل "عِيسى" حيٌّ أو ميت في نظر القرآن الكريم والسُّنَّة المُطهرة؟ وما حكم المسلم الذي يُنكر أنه حيٌّ؟ وما حُكم مَن لا يُؤمن به إذا فُرض أنه عاد إلى الدنيا مرةً أخرى؟.
وقد حُوِّلَ هذا السؤال إلينا فأجبنا بالفتوَى التالية التي نشرتْها مجلة الرسالة في سَنَتِها العاشرة بالعدد: 462.
أما بعدُ، فإن القرآن الكريم قد عرَض لعيسى ـ عليه السلام ـ فيما يتصل بنهاية شأنه مع قوْمه في ثلاث سور:
1 ـ في سورة آل عمران قوله ـ تعالى ـ: (فَلَمَّا أحَسَّ عِيسَى منهمُ الكُفْرَ قالَ مَن أنْصارِي إلى اللهِ قالَ الحَوَارِيُّونَ نحنُ أنصارُ اللهِ آمَنَّا باللهِ واشْهَدْ بأنَّا مُسلمونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بمَا أنزلتَ واتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. ومَكَرُوا ومَكَرَ اللهُ واللهُ خيرُ المَاكرينَ. إذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إليَّ ومُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا وجَاعِلُ الذِينَ اتَّبَعُوكَ فوقَ الذينَ كَفَرُوا إلَى يومِ القِيامَةِ ثُمَّ إليَّ مَرْجعُكمْ فأَحْكُمُ بيْنكمْ فيمَا كُنتمْ فيهِ تَخْتَلِفُونَ). (الآيات من 52 ـ 55).
2 ـ وفي سورة النساء قوله ـ تعالى ـ: (وقولِهمْ إنَّا قَتَلْنَا عيسى ابنَ مَريمَ رَسُولَ اللهِ ومَا قَتَلُوهُ ومَا صَلَبُوهُ ولكنْ شُبِّهَ لهمْ وإنَّ الذينَ اخْتَلَفُوا فيهِ لفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لهمْ بهِ مِن علْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وما قَتَلُوهُ يَقِينًا. بلْ رَفَعَهُ اللهُ إليهِ وكانَ اللهُ عزيزًا حَكِيمًا). (الآيتان: 157 ـ 158).(1/36)
3 ـ وفي سورة المائدة قوله ـ تعالى ـ: (وإذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابنَ مريمَ أَأَنْتَ قُلتَ للناسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قالَ سُبحانَكَ ما يَكُونُ لِي أنْ أَقُولَ مَا ليسَ لي بِحَقٍّ إنْ كُنتُ قُلتُه فقدْ عَلِمْتَهُ تَعلمُ ما في نفْسِي ولا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ إنَّكَ أنتَ علَّامُ الغُيوبِ. ما قلتُ لهم إلاَّ ما أَمَرْتَنِي بهِ أنِ اعْبُدُوا اللهَ ربِّي ورَبَّكُمْ وكُنتُ عليهمْ شَهِيدًا ما دُمتُ فيهمْ فلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنتَ الرَّقِيبَ عليهمْ وأنتَ على كُلِّ شيءٍ شَهِيدٌ). (الآيتان: 116 ـ 117).
هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه.
والآية الأخيرة ـ آية المائدة ـ تَذكر لنا شأنًا أُخرويًّا يتعلق بعبادةِ قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها. وهي تُقرِّر على لسان عيسى ـ عليه السلام ـ أنه لم يقل إلا أما أمره الله به: (اعْبُدُوا اللهَ ربِّي ورَبَّكُمْ) وأنه كان شهيدًا عليهم مدة إقامته بينهم، وأنه لا يعلم ما يحدث منهم بعد أن (توَفَّاهُ اللهُ).(1/37)
معنى التوفِّي:
وكلمة: "توفَّى" قد وردت في القرآن كثيرًا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المُتبادر منها، ولم تُستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المُتبادر: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّلَ بِكُمْ). (الآية: 11 من سورة السجدة)، (إنَّ الذينَ تَوَفَّاهُمْ الملائكةُ ظَالِمِي أنْفُسِهِمْ). (الآية: 97 من سورة النساء)، (ولو تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الذينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ). (الآية: 50 سورة الأنفال)، (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا). (الآية 61 من سورة الأنعام). (ومِنْكُمْ مَن يُتَوَفَّى). (الآية 5 من سورة الحج) (حتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ). (الآية: 15 من سورة النساء). (تَوَفَّنِي مُسلِمًا وأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ). (الآية: 101 من سورة يوسف).
ومن حق كلمة: "تَوَفَّيْتَنِي" في الآية أن تُجمِل هذا المعنى المُتبادر؛ وهو الإماتة التي يعرفها الناس ويُدركها من اللفظ والسياق الناطقون بالضاد.
وإذنْ فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية "عيسى" مع قومه لمَا كان هناك مُبرِّرٌ للقول بأن عيسى حيٌّ لم يمت.
ولا سبيل إلى القول بأن الوفاة هنا مرادٌ بها وفاة عيسى بعد نُزوله من السماء بناء على زَعم مَن يرى أنه حيٌّ في السماء، وأنه سينزل منها آخر الزمان؛ لأن الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يَكونون آخر الزمان وهم قوم محمد بالاتِّفاق لا قوم عيسى.(1/38)
معنى رَفَعَهُ اللهُ إليه وهل هو إلى السماء؟
أما آية النساء فإنها تقول "بل رَفَعَهُ اللهُ إليهِ" وقد فسَّرها بعض المُفسرين، بل جُمهورهم بالرفع إلى السماء، ويقولون: إن اللهَ ألْقَى شَبَهَهُ على غيره، ورفعه بجسده إلى السماء، فهو حيٌّ فيها وسينزل منها آخر الزمان، فيَقتل الخنزير ويَكسر الصليب، ويعتمدون في ذلك:
أولًا: على روايات تُفيد نزول عيسى بعد الدجَّال، وهي روايات مُضطربة مُختلفة في ألفاظها ومَعانيها اختلافًا لا مجال معه للجمع بينها، وقد نصَّ على ذلك علماء الحديث. وهي فوق ذلك من رواية: وهب بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عُرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ.
ثانيًا: على حديث مَرْوِيٍّ عن أبي هريرة اقتصر فيه على الأخبار بنزول عيسى وإذا صحَّ هذا الحديث فهو حديث آحادٍ. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تُفيد عقيدةً ولا يصحُّ الاعتمادُ عليها في شأن المُغيَّبات.
ثالثًا: على ما جاء في حديث المِعراجِ مِن أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما صعَد إلى السماء، وأخذ يَستفْتِحُها واحدةً بعد واحدةٍ فتُفتَح له ويدخل، رأَى عيسى ـ عليه السلام ـ وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المُستند ما قرَّره كثير مِن شُرَّاح الحديث في شأن المِعراج وفي شأن اجتماع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأنبياء، وأنه كان اجتماعًا رُوحيًّا لا جِسمانيًّا "انظر: فتح الباري وزاد المعاد وغيرهما".(1/39)
ومِن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفْع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج، بينما نرى فريقًا منهم يَستدلُّ على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعًا جسديًّا يقول ـ تعالى ـ: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ). وهكذا يتخذونَ الآيةَ دليلًا على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث، ويتَّخذُون الحديث دليلًا على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية.(1/40)
الرفع في آية آل عمران:
ونحن إذا رجعنا إلى قوله ـ تعالى ـ: (إنِّي مُتوفِّيكَ ورَافعُكَ إليَّ). في آيات آل عمران مع قوله: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ) في آيات النساء، وجدنا الثانية إخبارًا عن تحقيق الوعد الذي تضمَّنتْه الأُولَى، وقد كان هذا الوعْد التوفية والرفع والتطهير مِن الذين كفروا، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خاليةً من التوفية والتطهير، واقتصرتْ على ذِكْرِ الرفع إلى الله فإنه يجب أن يُلاحظ فيها ما ذُكر في الأُولَى جمعًا بين الآيتينِ.
والمعنى أن اللهَ توفَّى عيسى ورفعه إليه وطهَّره من الذين كفروا.
وقد فسَّر الآلوسي قوله ـ تعالى ـ: (إنِّي مُتَوَفِّيكَ). بوُجوهٍ منها ـ وهو أظهرُها ـ إني مُستوفي أجَلك ومُمِيتُكُ حَتْفَ أنْفك لا أُسَلِّطُ عليك مَن يقتلك، وهو كناية عن عِصْمَتِهِ من الأعداء وما هم بِصَدَدِهِ مِن الفَتْكِ به ـ عليه السلام؛ لأنه يلزم مِن استيفاء الله أجَله وموْته حتْف أنْفِه ذلك.
وظاهرٌ أن الرفع ـ الذي يكون بعد التوْفية ـ هو رفع المَكانةِ لا رفع الجَسد، خُصوصًا وقد جاء بجانبه قوله: (ومُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا) مِمَّا يَدُلُّ على أن الأمر أمرُ تَشْرِيفٍ وتَكْرِيمٍ.
وقد جاء الرفع في القرآن كثيرًا بهذا المعنى: (في بُيوتٍ أذِن اللهُ أنْ تُرفَعَ). (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ). (ورَفَعْنَا لكَ ذِكْرَكَ). (ورَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا). (يَرْفَعُ اللهُ الذينَ آمَنُوا)..إلخ.(1/41)
وإذنْ فالتعبير بقوله: (ورَافِعُكَ إليَّ). وقوله: (بلْ رَفَعَهُ اللهُ إليهِ) كالتعبيرِ في قوْلهم: لَحِقَ فلانٌ بالرفيقِ الأعْلَى وفِي: (إنَّ اللهَ مَعَنَا). وفي (عنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). وكلها لا يُفهم منها سوَى معنى الرعاية والحِفْظِ والدخول في الكنَفِ المُقدَّس. فمِن أين تُؤخذ كلمةُ السماء من كلمةِ (إِلَيْهِ)؟ اللهمَّ إنَّ هذا لَظُلْمٌ للتعبير القرآني الواضح خضوعًا لقصصٍ وروايات لم يقُم على الظنِّ بها ـ فضلًا عن اليقينِ ـ بُرْهَانٌ ولا شِبْهَ بُرهانٍ!(1/42)
الفهْم المُتبادر من الآيات:
وبعدُ. فما عيسى إلا رسول قد خَلَتْ من قبله الرسل، ناصَبَهُ قومُه العَدَاءَ، وظهرتْ على وُجُوههمْ بَوَادِرُ الشَّرِّ بالنسبة إليه، فالْتَجَأَ إلى الله ـ شأن الأنبياء والمُرسلينَ ـ فأنْقَذَهُ اللهُ بِعِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ وخيَّب مَكْرَ أعدائه. وهذا هو ما تضمَّنتْه الآياتُ (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى منهمُ الكُفْرَ قالَ مَن أنْصَارِي إلى اللهِ). إلى آخرها، بيَّن الله فيها قوة مَكْرِهِ بالنسبة إلى مَكْرِهم، وأن مَكْرَهُمْ في اغتيال عيسى قد ضَاعَ أمام مَكْرِ الله في حفظه إلى وعِصْمته إذ قال (يا عيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافعُك إليَّ ومُطهِّركَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا). فهو يُبشره بإنْجائه من مَكْرِهِمْ وردِّ كيْدهم في نُحورهم، وأنه سيَسْتَوْفِي أجَلَهُ حتى يموتَ حتْف أنْفِه مِن غيرِ قَتْلٍ ولا صَلْبٍ، ثم يرفعه الله إليه.
وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سُنة الله مع أنبيائه حين يتأَلَّبُ عليهم خُصومهم، ومتى خَلَا ذِهْنُه من تلك الروايات التي لا يَنْبَغِي أن تُحكَّم في القرآن، ولستُ أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه مِن بينهم، ورفْعه بجَسده إلى السماء مَكْرًا؟ وكيف يُوصف بأنه خيرٌ مِن مَكْرِهِمْ مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يُقاوموه، شيءٌ ليس في قُدرة البشر؟
ألَا إنه لا يتحقَّق مكرٌ في مُقابلة مكرٍ إلا إذا كانَ جاريًا على أسلوبه، غير خارج عن مُقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وإذْ يَمْكُرُ بكَ الذينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخرجوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ).(1/43)
رفع عيسى ليس عقيدةً يكفر مُنكرها:
والخلاصة من هذا البحْث:
1 ـ أنه ليس في القرآن الكريم، ولا في السُّنة المُطهرة مُستند يصلُح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رُفع بجِسمه إلى السماء، وأنه حيٌّ إلى الآن فيها، وأنه سينزل آخر الزمان إلى الأرض.
2 ـ أن كل ما تُفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعْد الله عيسى بأنه مُتوفيه أجَله ورافعُه إليه وعاصِمُه من الذين كفروا، وأن هذا الوعد قد تحقَّق فلم يقتله أعداؤُه ولم يَصلبوه، ولكن وفَّاه الله أجَله ورفَعه إليه.
3 ـ إن مَن أنكر أن عيسى قد رُفع بجِسمه إلى السماء، وأنه فيها حيٌّ إلى الآن، وأنه سينزل منها آخر الزمان، فإنه لا يكون بذلكَ مُنكرًا لمَا ثَبَتَ بدليلٍ قَطْعِيٍّ، فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه، ولا ينبغي أن يُحكم عليه بالرِّدَّةِ، بل هو مسلم مُؤمن، إذا مات فهو مِن المُؤمنينَ، يُصلَّى عليه كما يُصلَّى على المؤمنين، ويُدفَنُ في مقابر المؤمنينَ، ولا شِيَةَ في إيمانه عند الله والله بعباده خبيرٌ بصيرٌ.(1/44)
آراء غريبة:
سؤال مِن طالبة حُقوقية بجامعة الإسكندرية، تقول فيه: قد اختلفتُ أنا وزميلاتي في تفسير آيةٍ مِن كتاب الله، وهي قوله ـ تعالى ـ: (وإذا وَقَعَ القوْلُ عليهمْ أَخْرَجْنَا لهمْ دابَّةً مِن الأرضِ تُكَلِّمُهُمْ). (الآية: 82 من سورة النمل). والخلاف ينحصر فيما يأتي: هل الدابَّةُ حيوانٌ، وله رأسُ إنسانٍ وجسدُ طيرٍ؟ وهل صحيح أنها تُكلم الناس ومعها عصَا موسى وخاتَم سليمان؟ أو هي حشَرةٌ من الحشرات المُؤذية يُسلِّطها الله على عباده؟ فما رأيكم فيها؟
والواقع أن هذه الدابَّة قد قيل في شأنها أكثر مِن ذلك، وعملتْ فيها الروايات والآثار عمَلها المَعروف في كل أمر غيبيٍّ أخبر به القرآن، ولم يتصل به بيانٌ قاطع عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قيل ذلك في حقيقتها، وقيل في صِفَتِهَا، ومن أغرب ما قيل في حقيقتها أنها إنسان، وأنه عليٌّ ـ رضي الله عنه.
وقيل: إنها ولد ناقة صالحٍ، فرَّ هاربًا حينمَا عقَر القومُ أُمَّهُ، انفتحت له في طريقه صخرةٌ فدخلها ثم انطبقت عليه، فهو في باطنها إلى أن يخرج قُرب يوم القيامة.
وقيل: إنها دابَّة قديمة خُلقت في عهد الأنبياء المُتقدمين، وإنَّ موسى سأل ربه أن يُريه إيَّاها، فأخرجها ثلاثة أيام ولياليهم، تذهب في السماء لا يرى واحدٌ مِن طرَفَيْهَا، فرأى ـ عليه السلام ـ منظرًا فظيعًا، فقال: يا رب رُدَّهَا فَرَدَّهَا أو إنها هي الثعبان الذي كان في جوْف الكعبة، واختطفتْه العُقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمَنَعَهُمْ، فأَلْقَتْهُ العُقاب بالحُجونِ، فالْتَقَمَتْهُ الأرضُ، وهو في باطنها حتى يخرج يوم القيامة.(1/45)
ومِن أغرب ما قيل في صفة الدابَّة أن طولها سُتون ذراعًا بذراع آدمَ ـ عليه السلام ـ لا يُدركها طالبٌ ولا يَفُوتُها هاربٌ، وأن لها مع جميع دوابِّ الأرض مُشابهة تامَّة في عضو من أعضائها، فلَها وجهُ إنسان ورأْس ثورٍ، وعيْن خنزير، وأُذُنُ فِيلٍ "إلى آخر ما سُوِّدت به الصحف، وضاع الوقت في نقْله". وهي (أيْ عبارة: "ما سُودت به الصحف، وضاع الوقت في نقله"). كلمةُ حقٍّ قالها أحدُ المُفسرين ونقلها الآلوسي في تفسيره، وأقرَّها، وقال مُعتذرًا عن ذِكْرِه شيئًا من أخبارها: "وإنما نقلتُ بعض ذلك دفعًا لشهْوةِ مَن يُحب الاطلاع على شيء مِن أخبارها صِدْقًا كانَ أو كَذِبًا".
وقال الإمام الرازي بعد أن حكَى هو ـ أيضًا ـ شيئًا من أخبارها: "واعلَمْ أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور؛ فإنْ صحَّ الخبر فيه عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبلُ، وإلَّا لم يُلتفت إليه". وهو يعني أنه لا يصحُّ من أخبارها شيءٌ غير المذكور في القرآن الكريم.(1/46)
إسرائيليات مُضلّلة يجب تنقية التفسير منها:
هذا وقد فات المُفسرين أن يضعوا حدًّا لِصَوْنِ التفْسِير عن هذه الإسرائيليات التي أظلمتِ الجوَّ على طلاب الهِداية القرآنية، وشغلتْهم على اللُّبِّ والجَوْهر بما ألْصَقَتْهُ بالقرآن، وقَصَرُوا جُهودهم على النَّبْشِ فيما أُلْصق! وليس هذا خاصًّا ـ كما قلنا ـ بالدابَّة، وإنما هو ريحُ السَّموم هبَّتْ على كُتب التفسير من نواحٍ كثيرة في كل أمر غيبيٍّ أخبر به القرآن، ولم يتصل به بيانٌ قاطع عن الرسول ـ عليه السلام ـ فقد قيل مثله في: "يأجوج ومأجوج" وفي "الصُّور" وفي "اللوْح المَحفوظ" وفي غيرها.
وقد تتَبَّعَ بعض المفسرين غرائب الأخبار التي ليس لها سندٌ صحيح، وأغدقوا من شرِّها على الناس وعلى القرآن؛ وكان جديرًا بهم أن يُقيموا بينها وبين الناس سَدًّا يَقِيهِمُ البَلْبَلَةَ الفكرية فيما يتصل بالغيْب الذي استأثر الله بعِلْمِهِ، ولم يَرَ فائدةً لعباده في أن يُطلعهم على شيءٍ منه. وإذا كان للناس بطبيعتهم وَلَعٌ بسماع الغرائب وقراءتها، فما أشدَّ أثرها في إلْهائهم عن التفكير النافع فيما تضمَّنه القرآن مِن آيات العقائد والأخلاق وصالِح الأعمال!(1/47)
الوقوف في شئون الغيب عند النصوص:
والذي أُحبُّ أن أُقَرِّرَهُ هنا ـ بهذه المناسبة فيما أَخبر الله به من شُئون الغيب التي لم يتصل بها بيانٌ قاطع عن الرسول مِن الدابَّة، والصُّور، ونحوهما ـ هو:
أنَّا نُؤمن به على القدْر الذي أخبر اللهُ به دون صَرْفٍ للفظ عن معناه، ودون زيادة عمَّا تضمَّنه الخبر الصادق: فنُؤمن ـ مثلًا ـ بأنه سيكون في آخر الدنيا صُورٌ يُنفخ فيه، فتكون صَعْقَةً، ثم يُنفخ فيه أُخْرى، فيكون البعث؛ أمَّا الخَوْض في حقيقته ومقداره وكيفية النفْخ فيه، أو حَمْله على أنه تَمثيل لسرعة إفناء العالَم وبعثه بسرعة النَّفْخ المعروفة للناس، فإنه رجْمٌ بالغيب، وتَقَوُّلٌ على الله بغير حق.
ونُؤمن بأن القرآن ـ كما أخبر الله ـ في لوحٍ مَحفوظ، أما الخوْض في حقيقته أو تأويله بأنه تمثيل لِصَوْنِهِ عن التغيير والتبديل؛ فإنه رجمٌ بالغيب، وتقوُّل على الله بغير حق.(1/48)
ما يجب أن نعلمه عن الدابَّة:
وعلى هذا، بالنسبة إلى الدابَّة ـ نؤمن بأنه حينما يقع أمر الله، وتَحِقُّ كلمته، ويأتي اليوم الذي لا ينفع فيه نفسًا إيمانُها لم تكنْ آمنتْ مِن قبلُ ـ ستظهر للناس دابَّة، ولكن: هل تتولد مِن الأرض، أم هي مِن دوابِّها؟ ذلك يعلمه الله. وهل هي صغيرة أم كبيرة، وعرْضها كذا وطولها كذا.
وهل تحمل معها عصا موسى، وخاتم سليمان أم لا تحمل شيئًا؟ ذلك يعلمه الله؛ نُؤمن فقط أن دابةً ستخرج وتُكلم الناس، هل تكلمهم بلسان عربي ذلق، أو بغيره؟ كذلك هذا يعمله الله؛ نؤمن بها وبكلامها دون استبعاد أو إنكار.
وقد قصَّ الله علينا في السورة نفسها أن عصا موسى وهي جماد تحرَّكت واهتزَّت كأنها جانٌّ، وأنها تلَقَّفَتْ ما كانوا يأفِكون، وقصَّ علينا أن الحيوان الذي ليس من شأنه أن ينطق ولا أن يعبر عن الإيمان والكُفر، كالهدهد، نطق وعبَّر عن الإيمان والكفر، وأن نبيَّ الله سليمان فهِم منه كل ما أراد، وانتفع برحلته التي قام بها من تلقاء نفسه إلى ملِكة سبأ.
وإذا كانت الجَمادية تلحقها في الدنيا بسُنن الله الخاصية الحيوانية فتتحرك وتبتلع، والحيوانية كذلك تلحقها بالسُّنن الخاصية الناطقية فتُفكر وتُدبر وتنطق وتُعبر، فما بالنا بالنشأة الأُخرى التي لا سَبيل لنا إلى معرفتها، ولا معرفة أحداثها، ولا سُنن الله فيها إلا بالخبر الصادق عنه سبحانه؟ وإذا كانت الأسلاك تهتز بأنباء رؤية مَن رفعه الله إليه عن طريق اليَقَظة، وبأنباء تكوُّن الجنِين بأحد العُنصرين اللذينِ لابدَّ منهما في تكوُّنه بحَسب السنن العامة في الدنيا، ثم تَنال تلك الأنباء التأييد والتصديق، فما الذي يدعو إلى الإنْكار، أو الاستبعاد، أو التأويل لمَا يتضمَّنُه كلام الله الذي قام ألفُ دليلٍ ودليل على صِدْقِهِ، بالقياس إلى نشأةٍ تقع بظاهرها وباطنها في قبْضة الله وحده الذي ينطق كل شيء؟(1/49)
نعم. يجب الوقوف في الإيمان عند الحدِّ الذي جاء به الخبر الصادق، ولا ينبغي التصرُّف فيه بالحمل على التمثيل، أو الزيادة عليه، وضمِّ شيءٍ إليه، فضلًا عن استبعاده أو إنْكاره؛ وهذا هو شأن المُؤمنين بالله، وبكتابه وغيْبه.(1/50)
لكل نبي آية تُناسب زمنه:
هل كان للرسول مُعجزة غير القرآن؟ وهل يَجب على المسلم أن يُؤمن بكل ما رُوي من الخوارق الحسية: من مثل تكثير الطعام القليل على يديه وتسبيح الحصى ونحو ذلك؟
صَحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "ما مِن نبيٍّ مِن الأنبياء إلا أُعطيَ من الآيات ما مثله آمَن عليه البَشَرُ. وإنما كان الذي أُوتِيتُه وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا يوم القيامة).
وهذا الحديث يرشدنا في شأن المعجزات إلى أمرين:
أحدهما خاصٌّ بالرسل السابقين. وهو أن الله أعطى كل نبيٍّ مِن المُعجزات وخوارق العادات ما يَكفي في حمْل الناس ـ الذين يُعاصرونهم ويُشاهدونها ـ على الإيمان بهم والتصديق برسالتهم، ومن ذلك ما جاء في القرآن من آيات موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ وهي كلها مُعجزات حسِّية تقع أمام الأقوام على يد صاحبها، وتنقرض بانقراض وقتها، وسبيل التصديق بها لم يكن إلا ورود الأخبار بها في المنقول المُتواتر المقطوع بصحته وهو القرآن الكريم وبذلك كان القرآن شاهدًا بالرسالات السابقة.(1/51)
آية النبيِّ مُحمد:
أما الأمر الثاني: فهو خاصٌّ بالنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أن الذي أعطاه الله إيَّاه من المعجزات كان غير الذي أعطاه للأنبياء السابقين، كان "وَحْيًا" يُسمع، ويُفهم، ويُعقل؛ فيُدرك العقل منه جهات إعجازه ولا ينقرض بانقراض زمنه ولا بموت صاحبه؛ بل يظلُّ قائمًا محفوظًا بحفظ الله الذي أوحاه، ينظره الناس على توالي العصور، ويكثر المُؤمنون به، وبرسالة صاحبه إلى يوم الدينِ.
ومِن هنا يرجو الرسول ـ عليه السلام ـ أن يكون أكثر الأنبياء أتباعًا يوم القيامة، ولعلَّنا لو قارَنَّا عدد المسلمين اليوم بعدَدهم يوم حياة الرسول لوجدنا مِصداق ذلك الرجاء، ولعرفنا أن مردَّ ذلك إلى التأثُّر بروح الإعجاز الدائم الذي يحمله القرآن، ويتذوَّقُه الإنسان.(1/52)
القرآن هو المُعجزة الخالدة:
وقد جاء في القرآن أن المعجزة، التي تحدى بها ـ عليه السلام ـ قومه هي القرآن خاصة؛ (وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ ممَّا نَزَّلْنَا علَى عَبْدِنَا فأْتُوا بسُورةٍ مِن مِثْلِهِ وادْعُوا شُهداءَكُمْ مِن دُونِ اللهِ إنْ كنتمْ صَادِقِينَ). (الآية: 23 من سورة البقرة) وأنه قد تحدَّاهم بالقرآن على صور شتَّى: تحداهم بكُلِّه، وتحداهم ببَعضه! وأنه سجَّل عليهم عجزهم عن الإتيان بمثله: (فإنْ لمْ تَفْعَلُوا ولنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النَّارَ التِي وَقُودُهَا الناسُ والحِجارةُ أُعِدَّتْ للكَافِرِينَ). (الآية: 24 من سورة البقرة). (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ علَى أنْ يأْتُوا بمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بمِثْلِهِ ولوْ كانَ بَعضُهمْ لبَعْضٍ ظَهِيرًا ولقد صَرَّفْنَا للناسِ في هذا القرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبَى أكْثَرُ الناسِ إِلَّا كُفُورا). (الآيتان: 88 ـ 89 من سورة الإسراء). وراحوا يقترحون على النبي الآيات، ويَطلبون منه خوارقَ كالتي يسمعونها عن الأنبياء السابقين (وقالُوا لن نُؤمنَ لكَ حتَّى تَفْجُرَ لنَا مِن الأرضِ يَنْبُوعًا أو تَكونَ لكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فتُفجِّرَ الأنهارَ خلالَها تَفْجِيرًا أو تُسْقِطَ السماءَ كمَا زَعَمْتَ علَيْنَا كِسَفًا أو تَأْتِىَ باللهِ والمَلائكَةِ قَبِيلًا أو يكونَ لكَ بيتٌ مِن زُخْرِفٍ أو تَرْقَى في السماءِ ولنْ نُؤمنَ لِرُقِيِّكَ حتى تُنْزِلَ علَيْنَا كِتابًا نَقْرَؤُهُ). (الآيات 90ـ 91ـ 92 من سورة الإسراء).(1/53)
وقد ردَّ القرآن عليهم في ذلك (قُلْ سُبحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشَرًا رَسُولًا)؟ (قُلْ إنما الآياتُ عندَ اللهِ وإنَّما أنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أوَ لمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنْزَلْنَا عليكَ الكتابَ يُتْلَى عليهمْ إنَّ في ذلكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لقومٍ يُؤمنونَ). (الآيتان 50 ـ 51 من سورة العنكبوت) وأخيرًا يُبين لهم الحكمة في عدم إجابتهم إلى ما اقترحوا من آيات، فيقول: (ولوْ أنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ). (الآية: 8 من سورة الأنعام) ويقول: (وما مَنَعَنَا أنْ نُرْسِلَ بالآياتِ إلا أنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ). (الآية: 59 من سورة الإسراء) لم يُجبْهم الله إلى ما اقترحوا مِن آيات حسية بأعينهم، إبقاءً عليهم، وحِفْظًا لهم مِن عذاب الاسْتِئْصَالِ الذي كان يلحق بالأولين حين يُكذبون أنبياءهم بعد رؤية الآياتِ.(1/54)
الخوارق مُمكنة وواقعة:
وليس معنى هذا أن خوارق العادات غير مُمكنة، أو غير حاصلة، كيف وهي منذ القِدم تحت سلطان القدرة الإلهية، بها حصلت، وبها شُوهدت، ولا نزال إلى يومنا هذا نرى ونسمع خوارقَ عاداتٍ في خلْق الأشخاص، وفي مَظاهر الكوْن: نراها في الإعصار والصواعق، التي تنتزع المدن مِن أماكنها، وتترك أهلها جاثمين، وهي مثل التي تحدَّث عنها القرآن الكريم في الأمم السابقة، وتحدث عمَّا حدث لسليمان مِن نُطق الحيوانات ومُحادثتهم معه، وعمَّا سيحدث مِن نطق جوارح الإنسان، وشهادتها عليه بما فعل (حتَّى إذا ما جاءُوها شَهِدَ عليهِمْ سَمْعُهُمْ وأَبْصَارُهمْ وجُلودُهمْ بما كانُوا يَعْمَلُونَ وقالُوا لجُلودهم لِمَ شَهِدْتُمْ علينا قالُوا أنْطَقَنَا اللهُ الذي أنْطَقَ كُلَّ شيءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ وإليهِ تُرْجَعُونَ). (الآيتان: 20ـ 21 من سورة فصلت).(1/55)
لسنا نعلم كل نواميس الكوْن:
والله قد كوَّن العالم على نواميسَ، بعضها ظاهرٌ جليٌّ، كثيرًا ما يقف الإنسان بإيمانه عندها، ولكن ـ والله يقول: (ومَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلًا). (الآية: 85 من سورة الإسراء) ـ لا ينبغي الوقوف بالإيمان عند حدِّ ما أدركنا وظهر لنا من تلك النواميس؛ فلله في خلْقه شئون، وله وراء النواميس المألوفة نواميس لا يعلمها إلا هو، يُجريها كما يُريد على يدِ مَن يُريد، ولا عن يد أحد.
فأنا أُومن بخوارق العادات، أُومِنُ بإمكانها ووُقوقعها تكريمًا وتثبيتًا لمَن أراد الله أن يُكرمه ويُثبته، وانتقامًا وعُقوبةً لمَن أراد أن يُعاقبه وينتقم منه، وأُصدِّق الإخبار بها متى صحَّت الرواية، ونقلت النقل الصحيح السليم، ودرجة الإيمان بالخارق تتَّبع درجتَه في النقل، فليس ما يُنقل بصحيح، وليس كل الصحيح في درجة واحدة من القوة؛ فمِن المنقول: الموضوع، ومنه الضعيف، ومن الصحيح المُتواتر القطعيّ، ومنه المشهور الظنِّيّ.(1/56)
الخوارق الحِسِّيَّة لِنَبِيِّنَا ليست إجابةً للكُفَّار:
وإنما الذي لا أَقبله أن يكون حصول الخارق إجابة لاقتراح الكفار.
وإذا ما صحَّ الخبر بشيءٍ من الخوارق الحِسِّية، مُسنَدًا إلى الرسول، وتواتر في نقْله، وآمنَّا به لصِدْقِ الرسول، فليس سبيله إجابة الكفار إلى ما اقترحوا، وليس سبيله المُعجزة التي تحدَّى بها القوم، وإنما سبيله، كما قال القاضي عياض، فيما نقله من المُعجزات الحسية، كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذْع، ومُحادثة الضَّبِّ، ومُخاطبة الأشجار، ونبْع الماء من بين أصابع الرسول، وتكثير الطعام والشراب. قال في كل ذلك:
"إني لم أجمع هذه الآثار التي وردت بالخوارق لمُنكري نُبُوَّتِهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا لطاعنٍ في مُعجزته، وإنما جمعناه لأهل مِلَّتِهِ المُلَبِّينَ لدعوته، المُصدقين لنبوته، ليكون تأكيدًا لهم في مَحَبَّتِهِمْ له، وزيادة في أعمالهم، وليزدادو إيمانًا على إيمانهم، ولِتَدُلَّ على عظيم قدْره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ربه". وبذلك يتبيَّن أنَّ فائدة تلك الخوارق ترجع إلى المؤمنين بتأكيد محبَّتهم للرسول بدلالتها على قدْره عند ربه، ولم يقصد بها تحدِّي القوم أو إجابتهم إلى ما اقترحوا من آياتٍ.
ولعلَّنا نجد في آية الإسراء ما يُرشد إلى أن المَقْصد به كان تكريم الرسول وتثبيت قلبه، وتطمينه على عِناية الله به: (لِنُرِيَهُ مِن ءَايَاتِنَا). (الآية الأولى من سورة الإسراء)، (أَفَتُمَارُونَهُ علَى ما يَرَى). (الآية: 12 من سورة النجم).(1/57)
المدار على صحة النقل:
والرأيُ أن مَن اطمأن قلبُه إلى صِدْق الرواية في شيء من الخوارق الحسية كان إيمانه بها حَتْمًا تابعًا لدرجة صدْق الرواية عنده. ومَن لم يطمئن إلى شيء منها فلا يتوقف صحة إيمانه بالرسول على إيمانه بها، وكفَى بالقرآن ومُتواتر أخلاقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بُرهانًا وبراهينَ على صدْقه ـ عليه الصلاة والسلام.(1/58)
معنى القدَر:
ما معنى كلمة "القدَر" التي ورَد ذِكْرها كثيرًا في القرآن الكريم؟
القدر الذي جاء في القرآن الكريم مُضافًا إلى الله مثل قوله: (إنَّا كلَّ شيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). (الآية: 49 من سورة القمر) وقوله ـ تعالى ـ: (وما نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). (الآية: 21 من سورة الحجر).
وقوله ـ تعالى ـ: (والذِي قَدَّرَ فَهَدَى). (الآية: 3 من سورة الأعلى). وغير ذلك، يرجع معناه إلى أن الله خلَق هذا الكون على سُننٍ مَضبوطة، ومقاديرَ مُعينة، ولم يكن صادرًا عن طريق الصدْفة التي لا تعتمد على نواميسَ يجري عليها، ويسير على مُقتضاها ويُؤدي بهما مُهمته، ولا تُوجد في القرآن كلمة: "قدَر" بالمعنى الذي يفهمه كثير من الناس، والذي يرجع إلى أن الإنسان مَجبور في أفعاله بحيث يكون مَقهورًا عليها.(1/59)
القدَر بالنسبة للإنسان:
والقدَر بالنسبة للإنسان معناه: أنه خلَقه بإرادةٍ وحرية واختيار فيما كلَّفه به من أعمال الخير، والبُعد عن أعمال الشرِّ، وكل نصوص القرآن تدل على ذلك دلالة واضحة، واختيار الإنسان أساسٌ لتكليفه ومُحاسبته، ومُحال أن يكون مَجبورًا على فعله ثم يُكَلَّفُ ويُثاب على ما لا يستطيع صرْف نفسه عنه، وعلْم الله بما سيكون من الإنسان باختياره وإرادته يُحقق معنى الاختيار ويَنفي القهْر والجبْر، وصفة العلْم صفة كشْفٍ وليست صفةَ تأثيرٍ.(1/60)
المسلم الذي يقضي بغير حُكْم الإسلام
ما رأيكم في رجلٍ يحكم في قضيةٍ مَا حُكمًا غير إسلاميٍّ. هل يُعتبر مُرْتَدًّا عن الدين؟
السؤال لا يختصُّ بالقاضي:
هذا السؤال لا يختصُّ بالقاضي الذي يَحْكُم حُكمًا غير إسلامي، إنما يتناول الحُكام المسلمين الذي يأمرون بتَقْنِينِ أحكامٍ غير إسلامية، والمُقنِّنِين المسلمين الذين يتولَّوْنَ وَضْعَ هذه الأحكام، والمُتخاصمين المسلمين الذين يتحاكمون إليها ويَرْضَوْنَ بها، بل إن حاجة هؤلاء إلى حُكم الإسلام فيهم أشدُّ من حاجة القضاة الذين يحكمون بتلك الأحكام، وخاصة مَن يكونون منهم في بلدٍ إسلامي، ليس لغيره عليه سُلطان في تشريعه وأحكامه.
وقد شاع على ألْسنةِ كثيرٍ من المسلمين المُتدينين أن القُضاة الذين يحكمون بالقانون الوضعِي ـ الذي تُخالف أحكامه أحكام الإسلام ـ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ عن الإسلام، مُعتمدين في ذلك على ظاهر قوله ـ تعالى ـ من سورة المائدة: (ومَن لمْ يَحْكُمْ بمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئكَ هُمُ الكافِرُونَ). (الآية: 44 من سورة المائدة). ويُلزمهم أن يحكموا بكُفر المُقَنِّنِينَ والآمِرِينَ بالتَّقْنِينِ، فإن هؤلاء ـ وإن لم يكونوا يحكمون بها ـ قد وضعوها بأنفسهم أو أمَروا بوَضْعِهَا، ولا شك أن واضعِيها والآمرين بوَضْعِهَا تَبِعَتُهُمْ أشدُّ مِن تَبِعَةِ الحاكِمِينَ بها.(1/61)
الحكم الإسلامي نوعانِ: قطعيٌّ واجتهادِيٌّ:
ولمعرفة الجواب الحق لهذا السؤال يجب أن نعلم أولًا أن الحكم الإسلامي نوعانِ:
حكمٌ نَصَّ عليه القرآنُ أو السُّنَّة نَصًّا صَرِيحًا لا يحتملُ التأويل ولا يقبل الاجتهادَ.
ومثاله في الأحوال الشخصية: حُرْمةُ المُطلقة ثلاث مراتٍ على مُطلِّقِها حتى تتزوَّج غيره.
وفي المَدنِيَّاتِ حُرْمة الأرباح التي استُغلتْ في سبيل الحصول عليها حاجة الفقير المُحتاج المُستحِق للمَعونة، وتقسيم الميراث الذي وردَ في القرآن.
ومثاله في العُقوبات قطْع يد السارق الذي توافرتْ فيه وفي سرَقَتِه شُروط العقوبة.
هذا نوعٌ، والنوع الآخر: حُكمٌ لم يَرِد به قرآن ولا سُنَّة، أو وَرَد به أحدهما ولكن لم يكن الوارِد به قطعيًّا فيه، بل مُحتمِلًا له ولغيره، وكان بذلك مَحلًّا لاجتهاد الفقهاء والمُشَرِّعين، فاجتهدوا فيه، وكان لكلِّ مُجتهد رأيُه ووِجْهَةُ نَظَرِهِ. وأكثر الأحكام الإسلامية من هذا النوع الاجتهادي.(1/62)
في النوع الاجتهادي مُتَّسَعٌ للقاضِي:
وإذا علمنا هذا استطعنا أن نقول في الجواب عن السؤال: إن الحُكم في النوع الثاني ـ وهو النوع الاجتهادي ـ ولو خالَف جميع الآراء والمذاهب الإسلامية فإنه ما دام أساسُه تَحرِّي العدْل والمَصلحة، لا اتِّباع الهوى والشهْوة، فإن الإسلام لا يمنعه ولا يمْقُته فضلًا عن أن يراه رِدَّةً يخرج القاضي به عن الإسلام؛ ذلك أن الإسلام ليس له في هذا النوع حكمٌ مُعين، وإنما حُكمه هو ما يصل إليه المُجتهد باجتهادِه المبني على تحرِّي المَصلحة والعدل، فمتى وُجد العدل والمصلحة فثَمَّ شرْع الله وحُكمه.(1/63)
متى نَحْكُمُ بالكُفْرِ؟
أما النوع الأول ـ وهو الحكم القطعي المنصوص عليه في كتاب الله أو سُنة رسوله الثابتة، التي لم يظهر فيها خصوصية الوقت أو الحال ـ فإن الحكم بغيره إن كان مَبْنِيًّا على اعتقاد أن غيره أفضل منه وأنه هو لا يُحقِّق العدل ولا المَصلحة كان ولا شكَّ رِدَّةً يَخرُج به القاضي عن الإسلام.
أما إذا كان القاضي الذي حكم بغيره مُؤمنًا بحكم الله، وأنه هو العدل والمصلحة دون سواه، ولكنه في بلد غير إسلامي أو بلد إسلامي مغلوب على أمره في الحُكم والتشريع، واضْطُرَّ أن يحكم بغير حكم الله لمَعنى آخر وراء الجحود والإنكار، فإن الحكم في تلك الحالة لا يكون كًفْرًا إنما يكون مَعصيةً، وهو نظير مَن يتناول الخمر وهو يعتقد حُرْمَتَهَا.(1/64)
الواجب على القاضي المُسلم:
وإذنْ يجب على القاضي المسلم أن يرد نفسه عن الحكم متى استطاع إلى ذلك سبيلًا، وإذا لم يستطع أن يرد نفسه ـ خوْفًا مِن ضَرَرٍ فادحٍ يَلحقه أو يلحق جماعته ـ فإن الإسلام يُبيح له ذلك، ارتكابًا لأخفِّ الضررينِ ما دام قلبُه مُطمئنًا إلى حُكم الله.(1/65)
تخريج آية المائدة:
أما قوله ـ تعالى ـ: (ومَنْ لمْ يَحْكُمْ بمَا أنزلَ اللهُ فأُولئكَ همُ الكَافِرُونَ). فقد جاء في قومٍ يَملكون أنفسهم وتشريعهم، ويعرفون حكم الله ويرفضونه مُؤثرين عليه حكم الهوَى والشهْوة، وفي جوهم يقول الله: (مِن الذينَ قالُوا ءَامنَّا بأفْواهِهمْ ولم تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). (الآية: 41 من سورة المائدة) ويقول: (ولا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليكَ). (الآية: 49 من سورة المائدة).
ومن هنا يتبيَّن أن الآية الكريمة وهي: (ومَن لم يحكمْ بما أنزلَ اللهُ فأُولئكَ هُمُ الكافرونَ). ليس في حق كل مَن حكَمَ حُكمًا غير إسلاميٍّ في قضيةٍ مَا.(1/66)
أدلة القائلين ببعث الحيوان
هل يُحاسب الحيوان يوم القيامة، ومنه مَن له قِسْطٌ معقول من الذكاء؟
اتَّفقت الرسالات السماوية على أن بعْث الإنسان يوم القيامة حقٌّ، وأن مُحاسبته على أعماله في الدنيا حقٌّ، ولا خلاف فيه لأحد من المؤمنين. أما بعث الحيوانات، من البهائم والطيور، ومُحاسبتها على ما ارتكبت في دُنياها، فقد ذهب إليه جماعة من العلماء قرَّروا بعْثها من قُبورها يوم القيامة كالإنسان، وقَرَّرُوا سؤالها عمَّا فعلت، واستندوا في بعثها إلى مثل قوله ـ تعالى ـ في سورة التكوير: (وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ). (الآية 5 من سورة التكوير) وقوله ـ تعالى ـ في سورة الأنعام (وما مِن دَابَّةٍ في الأرضِ ولا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). (الآية: 38 من سورة الأنعام)، ويَستندون في مُحاسبتها إلى ما فهموه من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "لَتُؤَدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلِها يومَ القيامَةِ حتَّى يُقْتَصَّ للشاةِ الجَمَّاء مِن القَرْنَاءِ". والجمَّاء: التي لا قرن لها تدفعُ به عن نفسها اعتداءَ ذات القرْن عليها. ويقول هؤلاء: إن الله بعد أن يُحقق هذه العدالة العامة في خلْقه على هذا النحو، يقول لها: مُوتى فتَموت، وليس لها جَنَّة ولا نار.(1/67)
المحاسبة والمسئولية للإنسان المُكَلَّفِ:
وتَرى طائفةٌ أخرى ـ ذات نظرٍ أعمقَ ـ أن البعْث خاصٌّ بالإنسان المُكلَّف، وأن المُحاسبة والمسئولية خاصانِ به، والآخرة دار جزاءٍ، ولا مُحاسبة إلا حيث التكليف، ولا تكليف لغير الثَّقَلَيْنِ: الإنْسِ والجِنِّ. وإذنْ فلا مُحاسبة للحيوانات ولا بَعْثَ.
أما قوله: (وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ) فالحَشْرُ فيها ليس هو حشر الآخرة، وإنما هو جمْعها لاستيلاء الرُّعْب عليها وقت الاضْطراب العام وانْحلال النواميس الكوْنية، وقد ذُكر هذا الحشْر في حوادث الاضطراب التي تَحدث قبل البعْث بدليل ما قبلها. (وإذا الشمسُ كُوِّرَتْ وإذا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وإذا الجِبَالُ سُيِّرَتْ وإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ). (الآيات أوائل سورة التكوير). وما جاء بعدها (وإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ). وكل هذه من حوادث الاضطراب العام الذي يقع قبل يوم القيامة.
أما البعْث فقد ذُكِر بعد ذلك كله بقوله ـ تعالى ـ في السورة نفسها (وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وإذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). إلى قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ).
أما الحشر في آية الأنعام فهو يرجع إلى المُكذبين لرسالة الرسول المَذكورين قبل الآية وبعدها، أو أن معناه: الهلاك والموت، وهو عامٌّ لكلِّ المخلوقات، ومن ذلك قول العرب في السنة المُجدبة: "حُشرتِ الناسُ، يُريدون: أهلكتْهُمْ".
هذا وقد قال الإمام الآلوسي في تفسيره: وليس في الباب ـ يُريد مسألة بعث الحيوانات ـ نصٌّ من كتابٍ أو سُنة يُعَوَّل عليه، يدلُّ على حشْر غير الثقلين من الوحوش والطيور. ثم قال: "ومن القريب جِدًّا أن يكون الحديث الذي ذكروه كنايةً عن تمام العدْل، بدليل ما جاء في بعض الروايات من الاقْتصاص من الحجر إذا وقع على الحجر".(1/68)
ذكاء بعض الحيوانات لا إرادةَ معه:
هذا ما قاله العلماء في هذه المسألة ونحن مع أرباب الرأْي الثاني، وهو أنه لا بعث ولا مُحاسبة إلا على مَن ثَبَتَ تكليفه لا لمَن لا يفهم الشرائع والخِطاب بخاصَّة نفسه وطبيعته. كيف وقد خلَقها الله مُسخَّرةً للإنسان فيما تنفعه مِن أكْل وحمْل وحرْثٍ وسائر ما يُحتاج منها؟ أما ما يُرى مِن ذكاء بعض الحيوانات فهو ذكاءٌ لا إرادةَ معه، ولا يعدو نواحيَ خاصَّةً لا تتصل بفَهْم الخطاب ولا مُقتضيات التكليف الإلهي.(1/69)
تصوير القرآن لنهاية الدنيا:
يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسمواتُ). فأين تكون الخلائقُ عندما تُبَدَّلُ هذه الأرضُ؟
مِن سُنَّةِ القُرآن الكريم في كثير مِن آياته ـ التي يَذكر فيها وعِيدَ المُجْرمين المُستكبرين عن قَبُول الحق بالذي أُعِدَّ لهم في الدار الآخرة ـ أن يَعرض للأحداث الكوْنية التي تنتهي بها هذه الحياة الدنيا، والتي تكون بأهْوالِها وجسامةِ أمرها نَذيرًا بقُرب العذاب وشِدَّتِهِ، فوق ما تُحدثه في النفوس مِن الخوف والهلَع والاضطراب، فيقول ـ مثلًا ـ: (يا أيُّها الناسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إنَّ زَلزلةَ الساعةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عمَّا أَرْضَعَتْ وتَضَعُ كلُّ ذاتِ حمْلٍ حَمْلَهَا وتَرَى الناسَ سُكَارَى وما همْ بِسُكارَى ولكنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). (الآية: 1 من سورة الحج). ويقول: (إذا زُلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزَالَهَا وأَخْرَجَتِ الأرضُ أثْقَالَهَا). (الآية 1 من سورة الزلزلة).
ويقول: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا). (الآية: 105 من سورة طه) وبالنسبة للأجْرام السماوية: (إذا السماءُ انْفَطَرَتْ وإذَا الكواكبُ انْتَثَرَتْ). (أول آية من سورة الانفطار). (إذا الشمسُ كُوِّرَتْ . وإذا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). (أول آية من سورة التكوير).
وهكذا يُصوِّر لنا القرآن خراب هذا العالَم الذي تَعْقُبُهُ الحياة الآخرةُ، وفيها يَنال المُجرمونَ ما أُعِدَّ لهم مِن عقابٍ.(1/70)
ومن هذا التصوير ـ الذي يملأ النفوس هَلَعًا، ويُبرزُ لهم مَظاهر الانحلال الكونِيِّ ـ قوله تعالى في وَعِيدِ الظالِمِين: (ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلًا عمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ). (الآية: 42 من سورة إبراهيم) ثم يَصِف حَيْرَتَهمْ يوم العذاب ويُذَكِّرُهُ بخَواصِّه الهائلة، وعلاماته المُفزعة، وأحداثه المُزلزلة فيقول: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسمواتُ وبَرَزُوا للهِ الواحدِ القَهَّارِ). (الآية: 48 من سورة إبراهيم).
فتبديل الأرض والسموات المذكورة في هذه الآية هو إجمال لِعَيْنِ الأحداث التي ذُكرتْ مُفصلة في الآيات الأخرى، والتي ينحلُّ بها هذا العالَم، وتنفصم روابِطُه، ويبدأ العالَم الآخرُ نشأةً أُخرَى تُقام فيها المَوازين، ويجري في ظلها حساب العباد.(1/71)
التبديل تغيير للأوصاف فقط:
وهو إذنْ ليس إفناءً مُطْلَقًا لذاتِ الأرض وذات السماء بحيث لا يكون هناك أرضٌ ولا سماء، وليس إزالةَ أرضٍ بأرضٍ وسماءٍ بسماءٍ، وإنما هو تغييرٌ لِصِفَاتِ الكوْن وأوضاعه التي عهدناها في حياتنا الدنيا، فالأرض كما قال ابن عباس ورواه أبو هريرة: هي الأرضُ بذاتها، وهي السموات بذاتها، ولكن الأرضَ تَسِيرُ عنها جبالُها، وتُفَجَّرُ بِحَارُها، وتُسَوَّى هِضَابُهَا، وتُضرب فتُخرج أثقالَها، والسماءُ تَنفطر، والشمسُ تُكَوَّرُ، والنجوم تَنْكَدِرُ.
وهذا هو ما يدلُّ عليه القرآن، ويُستفاد مِن آياته الكريمة، وهو الذي يبتغي الوُقوف عنده، ولا يصحُّ في هذه المُغيَّبات إلا أن نتَّبِعَ الوارد القطعيَّ فيها، فليس في القرآن ما يدل على فناء ذات الأرض والسموات، وليس في القرآن ما يدلُّ على خلْق أرض أخرى من مادة غير مادة الأرض المَعروفة، وكذلك السموات.
والآيات كلها ناطقةٌ بتغيير الأوصاف والأوضاع فقط.(1/72)
واجب المؤمن في أمور الغيب:
وعلى فرْض أن في القرآن ما يُشير إلى الإفناء الكلِّيِّ لأرضنا وسمائنا فليس فيه ما يدلُّ على حقيقة ما يُتَّخَذُ بدلًا منهما.
وكذلك الحديث عن حقيقة ما تكون فيه الخلائِق يومئذٍ، هو حديث عن الغيْب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله، مُدَبِّر الدنيا ومُنشؤها، ومُدبر الآخرة ومنشؤها.
وما علينا إلا أن نُؤمن بالانقلاب الكونِيِّ على القدْر الذي تصف الآيات، وبالجمع والحساب والجزاء، وهذا هو كله ما ينبغي أن يُعنَى به المؤمنون.
وإذنْ يصير السؤال عن مكان الخلائق إذْ ذاك سُؤالًا لا محل له.(1/73)
استطلاع الغيْب والتشاؤُم
بعض الناس يدَّعون معرفة الأسرار والمُغيبات بوسائلَ شتَّى، وبعض الناس يتشاءمون من أماكنَ، أو أيامٍ، أو أشياء مُعينة. فهل لهؤلاء أو أولئك سندٌ مِن الدِّين؟
يختلج في نفوس كثير مِن الناس أن الله ربط نجاح الإنسان وفشله ـ فيما يُريد من أعمال الخير ـ بساعات مُعينة من اليوم، أو بأيَّامٍ مُعينة من الشهر، وبذلك يُحجمون عن مشروعاتهم في بعض الأيام، ويُقدمون عليها في البعض الآخر.
وكذلك يختلج في نفوسهم أنَّ لاستطلاع الغيب المَكنون في جوْف المستقبل وسائلَ يَعرفون بها ما يَهُمُّهُمْ أن يَعرفوه، مِن مَسروق لم يُعرف سارقه، أو مَفقود لم يُعرف مكانُه.
وقد اتَّسع لهم مجال ذلك حتى استخدموا الوهْم والتخييل، وانصرفوا بهما عن الحقائق، ومعرفة السُّنن التي ربط الله بها بين الأسباب والمُسببات، وأسلَموا أنفسهم لعاداتٍ وتقاليدَ توارثَها الجهل، حتى لعِبت بالعقول، وحُرمتْها لذَّةَ العلْم والمعرفة.(1/74)
الإسلام والعلْم:
وجاء الإسلام فوجد الناس يتقلَّبون في طبقات من الجهل، مكَّنتْ في نفوسهم تلك التقاليد التي صاروا بها أُسراء الوهْم والخيال، فعُنِيَ عنايةً كاملةً بالإرشاد إلى الوسائل التي تُنَقِّي المجتمع الإنساني من أدْران الجهْل، وعبَث الوهْم.
ومِن هنا حارب الجهل وتَتَبَّعَهُ في كل وَكْرٍ مِن أوْكارِهِ وفي كل لَوْنٍ مِن ألوانه، حاربه بالدعوة إلى توحيد الله، وجهَّل الشرك والوثنية، وبَثَّ في الأنفس والآفاق دلائل التوحيد ولَفَتَ نظَرَ الإنسان إليها، وحثَّه على النظر والتفكير فيها؛ ليُؤمن أولًا: بأن العظمة التي تخضع لها الرقاب، والعلْم الواسع الذي لا يَعْزُبُ عنه شيء، والقدرة النافذة التي لا يُعجزها شيء في الأرض ولا في السماء ليست لأحد سواه.
وبذلك يتَّجِه إليه وحده، ويُقبل على عمَله مُعتمدًا عليه وحده في تذليل ما قد يعترضه في طريقه مِن صور العَظمات الزائفة، أو الإدراكات المُنحرفة التي يَنْسُجُها التخيُّل الفاسد، وحارب كذلك جهالة التقْليد، وأنكر على الإنسان أن يُسلم عقله لغيره، وأن يقف ـ في عقائده ومعارفه العامة، وسُبل حياته ـ عند ما ورِثه عن الآباء والأجداد، أو نبَت في زوايا الأوْهام والخُرافات.(1/75)
انحراف الإنسان:
تلك منزلة العلْم وتقدير الحقائق، والدعوة إليهما في نظر الإسلام، ولكن الإنسان ـ وقد خُلق من عجَلٍ ـ تملَّكه أمرانِ استصعب بهما طريق العلْم، واستبطأ بهما طريق البحث والنظر، واستعاض عنهما بطريقِ التخيُّل والتخْمين، وظنَّه طريقًا من طُرق المعرفة، به يستريح دون عناء، ودون حذَر، أمران تملَّكاهُ في هذا الشأن:
أحدهما: رغْبته الملحة في سرعة اكتشاف الغيب، وخاصة فيما يتعلَّق بمُستقبله ومستقبل مَن يتصل به.
وثانيهما: خوْفه الشديد من اعتراض ما يَعُوقه عن أهدافه التي يتجه إليها ويعزم عليها.
وفي سبيل تلك الرغبة المُلِحَّةِ، وذلك الخوف الشديد، أخذ يتسمَّع لمَا يجري بين الناس ويتناقلونه عن الآباء والأجداد مِن أحاديث الوهْم والخيال عن طُرق معرفة الغيب، في خيْره وشرِّه، واكتشاف المُعوقات ذات الشُّؤْم، والمُيَسِّرات ذات التفاؤل.
وبذلك تفتَّحت له طُرق شتَّى، ظنَّ أن فيها أُمْنيته وما يُسعفه في اكتشاف الغيب، أو يُرشده إلى ما يَسْلُكُهُ من إحجامٍ أو إقدام!(1/76)
انتشار طُرق الوهْم والدَّجَل:
راجتْ هذه الطرق، وتأثَّر بها، ونزل على حكمها كثير من الناس، فاصطنعوها وخضعوا لها، واعتمدوا عليها من فجر التاريخ إلى يومنا هذا، وربط كثيرٌ من الناس ـ ومنهم دِينيون يقرءون كتاب الله، ويَرْوُونَ عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأحاديثَ ـ حياتهم وأعمالهم بما يقع لهم من ذلك؛ فاستطْلعوا الغيب ـ على ما يظنون ـ عن طريق الوِلاية والكِهانة والتنجيم، وعن طريق ضرْب الحصا والودَع والفُول، وعن طريق خُطوط الرمْل والفنجان والكَفِّ، وعن طريق المَندل واستخارة السِّبْحَة واستخارة القرآن، وعن طريق التشاؤُم بالزمان في الساعة واليوم والشهر، والمكان والأشخاص والأشياء والكلمات، وأضغاث الأحلام. وبهذا كله وقع الإنسان أسِيرًا في حياته وأعماله وعقائده، لشئونٍ لا يُعقَل وجهُ اتِّصالها بما يُسعد أو يُشقِي.
وظنَّ أنه بذلك قد وُضِعتْ بيده مفاتحُ الغيب. وشارَك الله في الاستيلاء عليها!!(1/77)
الطبيعة الضعيفة:
ولكنها الطبيعة الضعيفة، والنفْس الحائرة المُضطربة، التي أَسقطتْ نفسها مِن منزلة التكريم الإلَهِيِّ بنِعْمَةِ العقل والبحث والنظَر..هي الطبيعة الضعيفة والنفس الحائرة، تُنَمِّي ضَعْفَهَا وحَيْرَتَهَا وبُعْدَهَا عن جَنَّةِ التكريم، العادات الفاسدة، وتقاليد الجهل المَوروثة عن الآباء والأجداد، ثم تدفع بها إلى سُوق التجارة الزائفة، يُنشئها ويُعلن عن أمرها، ويدعو إليها تُجَّار العقول والمُتكسبون بالأوهام والخُرافات.
وبذلك ضعُفت عزيمة الإنسان في الحياة، وعطَّل أعماله، وأَهْمل التعويلَ على سُنن الله التي وضعها للسعادة والشقاء. فكدَّر صَفْوَ الحياة على نفسه بمَنْظرٍ يراه، أو كلمةٍ يسمعها، أو طيْرٍ يَمُرُّ به من هنا أو هناك، أو خيالٍ يَغْرِسُهُ في نفسه دجَّال أو مُنَجِّمٌ أو كاهن، حتى وصل الأمر إلى استخدام المُصحف وآياته التي أُنزلت لتقوية الإيمان والعزائم، وطرْد الوساوس والأوهام في استطلاع الغيْب والتشاؤم.
وكمْ رأينا من أهلِ بيت نَكَصُوا عن تزْوِيج كرِيمَتِهِمْ بعد الخِطْبَةِ والاتفاق بكلمةٍ سَمِعُوهَا، أو خيال رُؤي في المنام فعَنَّسُوا "البِنْتَ" وأضاعوا عليها الحياة.
وكم رأينا من تاجر قعد عن السفر، وأهمل تجارتَه اعتمادًا على تشاؤُمٍ، أو نُبُوءةِ دجَّالٍ كاذبٍ.
وكم رأينا من مُصاب بمَرضٍ فاتك ووَباء مُهلك، اعتمد في علاجه على رُقْيةٍ أو بُخور، أو حِجاب، وترَك المرض يسري في جسمه سريان النار في الهشيم.
وكم رأينا على وجهٍ عامٍّ من ضحايَا لأدعياء فتْح الكتاب، واكتشاف الغيْب، وخواصِّ النفوس، والتنْويم، وما إلى ذلك مما حلَّ عند الناس محَلَّ العقائد، وأعرضوا به عمَّا وضَعَهُ الله في الكوْن من أسبابٍ وسُنَنٍ وُجِّهَ الناس إليها، فالْتَوَتْ بهم السُّبُلُ، وألْقوا بأنفسهم وحياتهم في مَهَامِهِ العَبَثِ، والضلال والحَيْرة.(1/78)
الترويج لوسائل الدَّجَلِ:
وقد أطمع الناس في ذلك كله ـ بعد رغبتهم المُلِحَّة في استطلاع الغيب، وخوفهم الشديد من المعوقات، أطمعهم في الركوب إلى تلك الوسائل والاتجاه إليها، والاعتماد عليها، وإسلام النفس لها ـ أطمعهم صدق بعض التنبُّؤات، أو بعض صور التشاؤم عن طريق المُصادفة، التي لا ينبغي للعقول السليمة أن تتَّخذها أساسًا أو مُوَجِّهًا في نواحي الحياة والعمل.
وكم مِن كتابٍ فُتِحَ، ومِن مُصحف قُلِّبَتْ أوراقُه وعُدَّتْ آياتُه، وكم من طيرٍ مَرَّ، وكم مِن وَدَعٍ ضُرِبَ وكم وكمْ..، وترقَّب الناس الأحداث التي أوحتْ بها إليهم هذه الوسائل، ثم خاب فَأْلُهُمْ، وطاشَ سَهْمُهُمْ، ومَرَّتِ الأيامُ تِلْوَ الأيامِ ولم يَحدث شيءٌ مما شاع وذاع، وملأ الأسماع، وما حديث الناس عن انتهاء العالَم ـ وتخمينهم عن وُقوع الوباء العام، أو القَحْط الشامل وترقُّبُهُمْ للأحداث المُفاجئة ـ إلا أسلوب مِن أساليب الدَّجَل، قَصَدَ به أرْبابُه زلزلةَ الإنسانية الضعيفة، وصرْفها عن جهات العمل النافع الذي يُطمئنها في الحياة.
وإذا كان لصدْق بعض التنبؤات أثرٌ في استمرار الناس على التعلُّق بتلك الوسائل، فهناك مُبَرِّرٌ آخرُ للنفوس الضعيفة في استمرارها عليها. ذلك هو اشتغال بعض المُنتسبِينَ إلى الدِّين ـ ظُلْمًا وزُورًا ـ بكثير من هذه الوسائل: يَعلمونها ويُظهرون تَصديقهم إيَّاها ويدعون الناس لها، ويُوجِّهونَهم إليها.
ومما يتصل بهذا ما نَقرؤه في بعض المجلات والصُّحف من إعدادِ إطار خاص يُرشد إلى حظِّ القارئ ونَجْمِهِ وسعادته وشقائه باعتبار مِيلاده، يوْمه وبُرجه. والمفروض أن الصحف مَصادر التثقيف والتوجِيه، وأن المُشرفين عليها أرباب ثقافةٍ أخذوا بها على عاتقهم توجيه الناس إلى ما فيه خيْرهم وسعادتهم.(1/79)
القرآن يُنكر التشاؤم:
وقديمًا تشاءمَ قومُ موسى بمُوسى (فإذا جاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قالوا لنَا هذهِ وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بمُوسَى ومَن مَعَهُ). (الأعراف: 130).
وتشاءم قومُ صالحٍ بصالح (قالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وبمَنْ مَعَكَ). (النمل: 47). وتشاءم أهل قرية برُسلهم (قالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ). (يس: 18).
وكان الردُّ عليهم جميعًا أن الشر ما جاءهم مِن قِبَلِ الرُّسُل، وإنما جاءهم مِن قِبَلِ أنْفسهم بِكُفْرِهم وعِنادهم، وإهمالهم سُنَنَ الله في الحياة (ألاَ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عنْدَ اللهِ). (الأعراف: 130). (طائرُكُمْ معَكُمْ). (يس: 19). وقد جاء فيما يتَّصل بعلْم الغيب، وأنه ممَّا استأثر الله به قوله ـ تعالى ـ: (عالِمِ الغيْبِ فلا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُولٍ). (الجن: 26 ـ 27) وقوله: (وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ). (الأنعام: 59) وقوله للرسول ـ عليه السلام ـ: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلا مَا شَاءَ اللهُ ولوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخيْرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ). (الأعراف: 188) وحسْب المؤمن في ذلك كله هذه الآية الفذَّة الواضحة (إنَّ اللهَ عندَهُ علْم الساعةِ ويُنزِّلُ الغيْثَ ويَعْلمُ ما في الأرْحامِ وما تَدْرِي نفسٌ ماذا تَكْسِبُ غدًا ومَا تَدْرِي نفْسٌ بِأَيِّ أرضٍ تَمُوتُ إنَّ اللهَ عليمٌ خَبيرٌ). (الآية: 34 من سورة لقمان).(1/80)
وإنَّ مَن يعلم أن مُهمة الإسلام الأولى، إنما هي تقوية الروح الإنسانية، والسموُّ بها عن مَزالق الأوهام والخرافات إلى ميدان الحقائق والسُّنن الإلهية الثابتة، التي بُنِيَ عليها صرْح هذا العالَم، بإبداعه وإحكامه. ليأبَى الإِباءَ كله أن ينحرف في حياته إلى استخدام هذه الوسائل الخدَّاعة. ولكن للعادات وللدَّجَلِ، الذي يحترفه بعض الناس تأثيرٌ على النفوس الضعيفة، يُخرجها من نور الحقائق وميدانها الواسع إلى ظُلْمة الأوْهام ومنافذها الضيِّقة.(1/81)
تحرِيف:
هذا. وقد تعلَّق بعض الناظرين في القرآن، المُروِّجينَ لسُنة التشاؤم الفاسدة، بقوله ـ تعالى ـ في وصْف العذاب الذي نزل بقوم عادٍ: (إنَّا أرْسَلْنَا عليْهمْ رِيحًا صَرْصَرًا في يومِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ). (الآية: 19 من سورة القمر). (فَأَرْسَلْنَا عليْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في أيَّامٍ نَحِسَاتٍ). (الآية: 16 من سورة فُصِّلتْ). (وأمَّا عادٌ فأُهْلِكُوا برِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَليهمْ سَبْعَ ليالٍ وثَمَانِيَةَ أيَّامٍ حُسُومًا). (الآية: 7 من سورة الحاقة) وقالوا: إن القرآن يُرشد بهذه الآيات إلى أن في الأيام نَحْسًا وسُعُودًا، وأيَّدوا بهذه الآيات ما نُسبت روايته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ "آخرُ أربعاء في الشهر يومُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٌ".
وقد عرض الآلوسي في تفسيره للروايات التي افْتُعِلَتْ تَرْوِيجًا للتشاؤم بالأيام وللتفاؤل بها، ويُعجبني قولُه في هذا المقام: "ويكفي في هذا الباب أن حادثة عادٍ استوعبت أيامَ الأُسبوع كلَّها، فقد قال ـ سبحانه ـ: (سَخَّرَهَا عليهمْ سبْعَ ليالٍ وثَمانِيَةَ أيَّامٍ حُسُومًا). فإن كانت نُحوسة الأيام لذلك فقل لي: أي يومٍ من الأسبوع خلاَ منها؟! والحق ـ كما قال ـ أن كل الأيام سواء ولا اختصاص ليومٍ بنُحوسة ولا لآخر بسَعْدٍ، وإنه ما مِن ساعة من الساعات إلا وهِي سعْد على شخص، ونحْس على آخر، باعتبار ما يقع فيها من الخير على هذا، ومن الشر على ذاك، فإن استنْحس يومٌ من الأيام لوقوع حادث فيه فلْيَستنْحس كل يوم لمَا يقع في الأيام كلها من أحداثٍ، وما أُولِجَ الليلُ في النهار، والنهار في الليل إلا لإيلادِ الحوادث، ولا تأثير لمَا يقع فيها من أحداث، ولا شأن للوقت أو المكان أو الأشياء في نُحوسة أو سعود.(1/82)
نعم، لبعض الأوقات شرفٌ ترجع إليه في نظر الشرع مُضاعفة الجزاء لعاملي الخير أو الشر، ولكن شرف الأوقات الذي يُضاعَف به جزاءُ العاملين شيء، ونُحوستها وسُعودها باعتبار ذاتها، وعلى وجه يعمُّ الناس جميعًا شيءٌ آخر، لا يعرفُه الإسلام ولا يُبيح لأحدٍ أن يَنْسُبَهُ إليهِ.(1/83)
وبعد:
فواجب المُؤمنين أن ينتبهوا إلى عبَث الدَّجَّالين بإشاعة فكرة التشاؤم بينهم ووسائل استطلاع الغيب، هذه الفكرة التي يَصير بها الإنسان أسيرًا لوهْم بكلمة يسمعها، أو بيومٍ يمر عليه، أو منظر يراه. واجبهم أن يُطهروا قُلوبهم من هذه الأوهام، وأن يُقْدموا على أعمالهم وتصرُّفاتهم وقضاء مصالحهم متى اقتنعوا بها وعزَموا عليها (فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ علَى اللهِ). مُعتمدين في ذلك على إيمانهم النَّقِيِّ، وعلى تَوْفِيقِ اللهِ إيَّاهم، وبذلك تَسْلَمُ حياتهم، وتستقر شُئونهم، وتسير بهم سفينةُ النجاة إلى شاطئ الأمن والاستقرار. والله ولِيُّ التوفيق والهداية.(1/84)
"ما قولكم في ظهور الجنِّ للإنسان العادي؟ وما رأيكم في الحديث معهم، ورجاء الخير وتوقُّع الشرِّ على أيديهم"؟
حديث الناس عن الجن:
يتحدث كثير من الناس أن في العالَم، وراء الإنسان الناطق المُفكر العامل، نوعًا آخر غَيْبِيًّا لا تُرَى ذاتُه، ولكن يُعرف بآثاره وتصرُّفاته، وله مِن التصرفات ما يتصل بالإنسان وبكثير مِن نواحي الحياة، وله وراء ذلك خاصية الإخْبار بالمُغَيَّبَاتِ، والقُدرة على أن يلبس جسم الإنسان، فيَنطق بلِسان الإنسان، ويتحرَّك الإنسان بتحرُّكه، كما أن للإنسان وسائل "تلاواتٍ وأدعيةٍ، وتعاويذَ" يستعينُ بها على استحضاره كلَّما أراد، وعلى تسخيره في قضاء ما يُريد من حاجات وأنباء، وأن هذا النوع هو المعروف في لسان الناس والكُتب السماوية باسم: "الجِنِّ".
وبينما يرى هذا الفريق من الناس هذا الرأي، يرى فريق آخر: أنه ليس في العالَم، وراء الإنسان المَرْئِيِّ المُشاهَد الذي ينطق ويُفكر ويعمل، نوعٌ مَا له هذه الخواص، وأنه ليس في الكوْن سِوَى الإنسان. والرأيانِ في الواقع يُمثلان الفكرة الإنسانية المَعروفة من قديمٍ في "المادية والروحية".(1/85)
الكتب السماوية:
وبينما يتقاسم الناس هذين الرأيين في الجنِّ وما وراء المادة ـ وهما كما نرى على طرفيْ نقيضٍ، وإفراط وتفريط ـ تجيء الكتب السماوية، وتأخذ من كل منها بطرَف، وتُحدد الواقع الذي يعلمه خالق الكوْن ومنزل تلك الكتب، وتردُّ الأمر في "الجن" إلى الحدِّ الوسط، وتُقرر الواقع الذي فرَّطت فيه الفكرة الإنسانية، وهو أصل الوجود لهذا النوع، فتُقرر وُجوده، وتُقرر له خواص ذاتية أخرى، وتنفي عنه هذه الخواص التي أضافتْها إليه الفكرة الإنسانية في جانب الإفراط.
جاءت الكتب السماوية، بعباراتٍ واضحة لا تحتمل التأْويل، بأن في العالَم خلْقًا آخر غير الإنسان لا ترى أشباحه، ولا تعرف حقيقته، وصرَّحت بالعناوين الخاصة بهذا النوع، فذكرتْ الملائكة وجعلت الإيمان بها عنصرًا من عناصر الإيمان، ثم ذكرت أعمالَهم وفصَّلتْها، ثم وصفتْهم بالطاعة الدائمة التي خُلقوا بها وأنهم (لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). (الآية: 6 من سورة: التحريم).
وذكرتِ الجنَّ وجعلتْهم نوعًا مُقابلًا للإنسان، يندرجون معه تحت عنوان: "الثَّقَلَيْنِ" وخاطبتهم وتحدثت عنهم، في المسئولية، والمُؤاخذة والمصير، كما خاطبت الإنسان وتحدثت عنهم في كل ذلك (يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسانِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عليكمْ آياتِي ويُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا). (الآية: 130 من سورة: الأنعام).
(يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإِنْسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِن أقْطَارِ السمواتِ والأرضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ). (الآية: 33 من سورة: الرحمن).(1/86)
(سَنَفْرُغُ لكمْ أيُّها الثَّقَلاَنِ). (الآية: 31 من سورة الرحمن) (ويومَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا معْشَرَ الجِنِّ قد اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وقالَ أولِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذِي أَجَّلْتَ لنَا قالَ النارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إلاَّ ما شاءَ اللهُ إنَّ ربَّكَ حَكيمٌ عليمٌ). (الآية: 128 من سورة الأنعام).(1/87)
حُكم إنكار الجنِّ أو تأويلهم:
وبإخبار القرآن والكتب السماوية هكذا بوُجود الجنِّ كان إنكارهم تكذيبًا لإخبار الله ـ سبحانه ـ وبذلك يكون مَن لم يُؤمن بهم غير مُؤمنٍ بالقرآن، ولا بِرسالات السماء، وتكون مُحاولة تأويل هذه العبارات الواضحة تحريفًا للكلِم عن مَواضعه، وسَلْخًا للألفاظ عن معانيها، وإفسادًا لهذه المُقابلة التي جاءت بها تلك الكتب بين "الإنْس والجِنِّ". وكان بعد ذلك ضِيقٌ عطِن مِن المُولَعين بإنكار ما لا يُدركه الحِسُّ.
وإذنْ فليس في وُجودهم شكٌّ، وليس في مسئوليتهم عن التكاليف ومُؤاخذتهم على التقصير شكٌّ، وليس في استعدادهم لاستماع القرآن وتلقِّيهِ وفَهْمه وتدبُّره والتأثر به شك. فكل هذا حقٌّ ولا ريب فيه.(1/88)
صلة الجنِّ بالناس في نظر القرآن:
وكما جاء القرآن بأصل وُجودهم جاء بما يُرشد إلى صلتهم بالناس، وأنها لا تعْدو "الوَسْوسة والتزْيين" على نحو ما يحدث للناس من الناس واقرأ في ذلك من سورة الناس: (مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ الذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناسِ مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ). واقرأ في ذلك ـ أيضًا ـ ما جاء على لسان الشيطان نفسه ـ وهو من الجن بنصِّ القرآن ـ (وقالَ الشيطانُ لمَّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ ووَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وما كانَ لي عليكمْ مِن سُلطانٍ إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فاسْتَجَبْتُمْ لي فلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكُمْ). (الآية: 22 من سورة إبراهيم) وإذنْ فليس للجنِّ مع الإنسان شيءٌ وراء الدعوة، والوعْد، والوسوسة، والإغراء والتزيين (فَوَسْوَسَ لهُمَا الشَّيْطَانُ). (الآية: 20 من سورة الأعراف).
(قالَ رَبِّ بما أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لهمْ في الأرْضِ ولأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). (الآية: 39 من سورة الحِجْر).
وكما جاء هذا في القرآن، جاء فيه ـ أيضًا ـ ما يقطع بأن الذين يتأثَّرون بوسوسة الجن وإغوائهم إنما هُم فقط ضِعاف العُقول والإيمان، أما أقوياؤهمْ فهم بعقولهم وإيمانهم بَعِيدُونَ عن التأثُّر بها، وقد استثنى الله مِن المُتأثِّرين بها عِبادَه المُخلَصين وقال: (إنَّ عِبادي ليسَ لكَ عليهمْ سُلطانٌ إلاَّ مَن اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ). (الآية: 42 من سورة الحجر).(1/89)
أوهام الناس في الاتصال بالجنِّ:
أمَّا ما وراء الوسوسة والإغْواء ـ من ظُهورهم للإنسان العادي بصُورتهم الأصلية، أو بصورة أخرى يتشكَّلون بها، ومِن دُخولهم في جسمه، واستيلائهم على حواسِّه، ومِن استخدامه إيَّاهم في جلْب الخير ودفْع الشر، واستحضارهم كلَّما أراد، ومِن استطلاع الغيْب عن طريقهم ومِن التزوُّج بهم ومُعاشرتهم، وغير ذلك مما أشاع على ألْسنة الناس ـ فهذا كله مَصدره خارج عن نِطاق المَصادر الشرعية ذات القطْع واليقين، وقد صدَّق كثيرٌ من الناس ـ في كل العصور ـ كثيرًا مما يسمع مِن أحاديث الجنِّ، أو يتخيَّل من تصرُّفاتٍ مَنسوبة إليهم، صدَّقوا ظهورهم للإنسان العادي وتشكُّلهم بغير صُورتهم، وصدَّقوا مُحادثتهم للإنسان، ودُخولهم في جسمه، وصدَّقوا استخدامه إيَّاهم في جلْب الخير ودفْع الشر، وفي العلْم بالمُغيبات.(1/90)
فرض الفقهاء في الجن:
صدَّق كثير من الناس ما شاع من ذلك عن الجنِّ، وتناقلوا فيه الحكايات التي ربما رفعوها إلى السلف الصالح، واستمروا على ذلك حتى جاراهم الفُقهاء وفرضوا صحته، واتخذوا من هذا الفرض مادةً جعلوا منها حقْلًا للتدريب على تطبيق كثير من الأحاديث الشرعية عليهم، وكان منهم مَن تحدَّثوا عن صحة التزوُّج بهم، وعن وُجوب الغُسل على الإنْسية إذا خالَطها جِنِّيٍّ، وعن انْعقاد الجماعة بهم في الصلاة، وعن مُرورهم بين يَدَيِ المُصلي وعن روايتهم عن الإنْس، ورواية الإنس عنهم وعن حكم استنجاء الإنس بزادهم وهو "العظم" وعن حكم الأكْل مِن ذبائحهم، إلى غير ذلك ممَّا نراه مَنْشُورا في كتب الفقه، أو نجده في كتب خاصَّة ذات عِناية خاصة بالجنِّ.
وإني أعتقدُ أن ذلك من فُقهائنا لم يكن إلا مُجرد تمرينٍ فِقْهِيٍّ، جَرْيًا على سُنَّتهُم في افتراض الحالات والوقائع التي لا يُرتَقب وُقوعها، أو التي لا يُمكن أن تقع. وإذنْ فَفُروض الفقهاء، التي لم يقصدوا بها إلا مُجرد التدريب الفقهي، لا تصلح أن تكون دليلًا أو شِبه دليلٍ على الوقوع والتحقُّق فلْنتركهم على سُنَّتهم يَفترضون، ومَرَدُّنَا في ذلك إلى القرآن الكريم.(1/91)
القرآن:
والقرآن الكريم يَمْتَنُّ اللهُ فيه على الناس بنِعمة الأزواج، وبأن جعلهُن مِن جِنْسهم، وجعلهم سكنًا ومَوَدَّةً ورَحْمَةً (واللهُ جَعَلَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا وجعَلَ لكمْ مِن أزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وحَفَدَةً). (الآية: 72 من سورة النحل) (ومِن آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً). (الآية 21 من سورة الروم).
وهذا يقطع حبل الشكِّ في فساد القوْل بإمكان التزوُّج منهم فضلًا عن صحتِّه أو فساده.
وكذلك يَحكي اللهُ في القرآن ما تحدَّثَ به الجن إلى قومهم في شأن الإنْس، الذين كانوا قبل الرسالة المُحمدية يَعتقدون أن للجنِّ سُلطانًا عليهم، فيَعوذون برجال منهم يُخَلِّصُونَهُمْ مِن سُلطانِ الجِنِّ، بما يزعمون لأنفسهم مِن سُلطة استخدام الجن، وسُلطة منْعهم مِن أذاهم، ولْنُصْغِ إلى الجنِّ وهم يَتَحَدَّثُونَ إلى قومهم في عقيدة أنهم يعلمون الغيْب، وأنَّ أُناسًا يَستخدمونهم في ذلك فيعلمون منهم ما تسوقه المقادير الإلهية، ثم يعلمون أنها عقيدةٌ فاسدة، وأن الغيْب للهِ وحده (وأنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ فِي الأرضِ أمْ أرادَ بهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا). (الآية: 10 من سورة الجن).
وإذا كان هذا حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لمَعرفة الغيْب الذي جاء فيه قوله ـ تعالى ـ: (عالِمِ الغَيْبِ فلا يُظْهِرُ علَى غَيْبِهِ أحَدًا إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُولٍ). (الآية: 26 من سورة الجن).(1/92)
وقوله في جِنِّ سُليمان: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أنْ لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا في العذابِ المُهِينِ). (الآية: 14 من سورة سبأ) إذا كان هذا حديثهم بالنسبة لمَعرفة الغيْب، وكان حديثهم عن أنفسهم بالنسبة لسُلطانهم على الإنْس، وأن هذا وذاك موضع إنكار منهم أنفسهم، كما حدَّث القرآن، صِرْنَا إلى يَقِينٍ لا يَمَسُّهُ ريبٌ بأنَّ الجنَّ لا يعلمون الغيب، ولا يَقدرون على الإيذاء الاتِّصالي أو التَّلَبُّسِي.(1/93)
وهْمٌ وتَلْبِيسٌ:
ومع هذا كله قد تغلَّب الوهْم على الناس، ودرج المُشعوذون في كل العصور على التلبيس، وعلى غرْس هذه الأوهام في نفوس الناس، استغلُّوا بها ضعاف العقول والإيمان، ووضعوا في نفوسهم أن الجنَّ يلْبس جسم الإنسان، وأن لهم قدرة على استخراجه، ومِن ذلك كانت بِدْعَةُ الزَّار، وكانت حفَلاته الساخرة المُزرية، ووضعوا في نُفوسهم أن لهم القدرة على استخدام الجنِّ: في الحُب والبُغْض والزواج والطلاق، وجلْب الخير ودفْع الشر، وبذلك كانت "التَّحْوِيطَة والمَنْدَلُ وخاتم سليمان". استخدموهم في إظهار الغيْب، من مَسروق ضائعٍ أو مستقبل مَخبوء، واستخدموهم في العلاج. استغلوهم بكل ذلك في كل شيء، وصارت لَدَيْهِمْ مهنة يَتعيَّشون، وللمال يجمعون، وبالعقول يعبثون.
وقد ساعدهم على ذلك طائفةٌ مِن المُتَّسِمِينَ بالعلْم والدِّين، وأيَّدوهم بحكايات وقصص مَوضوعة، أفسدوا بها حياة الناس، وصَرَفُوهم عن السُّنن الطبيعية في العلْم والعمل، عن الجِدِّ النافع المُفيد.
وجديرٌ بالناس أن يشتغلوا بما يَعْنِيهم، وبما ينفعهم في دِينهم ودُنياهم.
جدير بهم ألا يجعلوا لِدَجَلِ المُشعوذين سبيلًا إلى قلوبهم، فلْيُحاربوهم وليُطاردوهم حتى يَطهر المُجتمع منهم، وليَعرفوا ما أوجب الله عليهم مَعرفته، ممَّا يفتح لهم أبواب الخير والسعادة.(1/94)
"ما الروح؟ وأين تكون قبل دُخولها الجسد؟ وأين تسكن بعد خروجها منه؟ وهل تظلُّ في عالَمنا هذا؟ وما حقيقة تحضير الأرواح؟ وهل هو صحيح"؟
ما الروح؟
الروح هي القوة التي تُحدث الحياة في الكائنات الحيَّة مِن نبات وحيوان وإنسان، وقد غلبت على ما به حياة الحِسِّ والحركة، والعقل والتفكير، وأُضيفت إلى الحيوان والإنسان.
ولم يرِد في الدين نصٌّ واضح صريحٌ يشرح حقيقتَها، ويُحدد وُجودها، وكانت في نظَر الدين كغيرها من سائر الحقائق الكونية تُركت للبحث البشريِّ يبحث عنها، ويُصيب أو يُخطئ على حدٍّ سواء.(1/95)
اختلاف الباحثين في حقيقة الروح:
ولقد خاض الإنسان قديمًا وحديثًا مَلِيًّا وغير مليٍّ في البحث عن حقيقتها وأثرت عنه فيها أقوالٌ وآراء. قال فيها الإمام الآلوسي بعد أن ذكر جملة منها: "وقيل وقيل إلى نحو ألْف قوْلٍ) ثم قال: والمُعَوَّل عليه عند المُحققين قولانِ، ذكرهما واختار أولهما، وهو أن الروح جسمٌ نُوراني عُلوِيٌّ حيٌّ، مُخالف بالماهية لهذا الجسم المَحسوس، سار فيه سريانَ الماء في الورد، لا يقبل التحلُّل ولا التفرُّق، يفيض على الجسم الحياة وتوابعها ما دام الجسم صالحًا لقَبول الفيْض، وقد أيَّده ابن القيم، وقال: إنه الصواب ولا يصحُّ غيره، وعليه دلَّ الكتاب والسُّنَّة وإجماع الصحابة، وأدلَّة العقل والفِطْرة، وبرهنَ عليه بما يزيد عن مائة دليلٍ.(1/96)
الروح قبل اتصالها بالجسد:
وكما اختلف العلماء في حقيقتها هكذا، اختلفُوا ـ أيضًا ـ في قِدَمِهَا وحُدوثها، وفي مُستقرها قبل اتصالها بالأجسام، والقائلون بحُدوثها اختلفوا ـ أيضًا ـ في زمن حُدوثها، هل حدثت قبل الأجسام أو بعد الأجسام؟ وليس في النصوص أكثر من أن نَفْخَهَا في الجسم يكون بعد تسوِيته، والمَفهوم من نفْخها تحصيل آثارِها في الجسم.(1/97)
الروح بعد مُفارقتها للجسم:
وكما اختلفوا في هذا اختلفوا ـ أيضًا ـ في موْتها وبقائها، وفي مُستقرها بعد مُفارقة الأبدان.
والذي تُرشد إليه الآثار الدينية أنها تخرج من بدَن الإنسان فيكون الموْت، وأنها تبقَى ذات إدراكٍ، تسمع السلام عليها، وتعرف مَن يزور قبْر صاحبه، وتُدرك لذَّة النعيم وألَم الجحيم، وأن مَقرَّها يختلف بعد مُفارقة البدَن بتفاوُت درجاتها عند الله.(1/98)
لا مانع من البحث عن حقيقتها:
وعلى رغم كل هذا فلا تزال حقيقتُها من الغيْب الذي لم يكشفه الله للإنسان، وهي في ذلك ككثير مما يَنتفع الإنسان بآثاره دون أن يعرف كُنْهَهُ.
وباب البحث عن حقيقتها مفتوح لم يمنع منه نصٌّ دينيٌّ.
ولا حُجَّةَ للقائلين بحُرمة البحث عنها في قوله ـ تعالى ـ: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي). (الآية: 85 من سورة: الإسراء). فقد رجَّح بعض العلماء أن المراد منها في الآية نفسه، وقد سمَّاه اللهُ رُوحًا (وكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِن أَمْرِنَا). (الآية: 52 من سورة: الشورى) وسابِقُ الآية ولاحقُها يُرشد إلى صحة هذا الرأي.
وإذنْ فلا يتعيَّن أن يكون المَسئول عنه هو روح الحياة، على أنه لو كان هو روح الحياة فليس في الآية أكثر مِن أنها مِن أمر الله، وهو لا يمنَع البحثَ عن حقيقتها.(1/99)
تحضير الأرواح:
وكما لم يَرِدْ نَصٌّ في شيء من ذلك كله، لم يرد شيء فيما يختصُّ بتحضيرها وتَسْخيرها لدعوة الإنسان، كما لم يدلّ عليه حِسٌّ مَوثوق به، أو تجربة صادقة، وكل ما نسمعه في ذلك لا يخرج عن مَظاهر خداعٍ وإلْهَاءٍ بالخَيَالاتِ لا يلبث أن ينكشف أمرُه.
وإذن فنحن في حِلٍّ من رفضه إلى أن يقوم الدليل على صِدْقِه.
وحسْب المؤمن في إيمانه أن يقف عند ما أخبر الله به، وصحَّ عن رسوله، وليس عليه أن يُحمِّل نفسه عقيدةً أو رَأْيًا لا يتوقف عليه صحة الإيمان.(1/100)
بين الجهل في التطبيق والنظر القاصر:
تحدث كثير مِن الناس في استبدال النقود بالهدْي والأضاحي: هل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ ووجَّه بعض الصحف إلى العلماء استفتاءً في هذا الشأن فأجبنا عنه بما يلي:
يظنُّ كثير مِن الحُجاج أنه يجب على كل حاجٍّ أن يذبح هدْيًا في حجه، وأن يكون ذبحه في أيام معينة هي أيام النحر الثلاثة، وفي مكان معين وهو مِنًى خاصة. ومن هنا نرى الفقراء أو البخلاء يعمدون إلى ما قلَّ ثمنه من هدي مريض أو هزيل فيذبحونه، فلا يَطيب لحمه لأكل ولو كان فقيرًا يتضور جوعًا، وبذلك تتكدس لحوم الهدايا في منى وتتعفن، وتنبعث منها الروائح الكريهة، فتفسد الجو، وتنتشر بها جراثيم المرض، وفي ذلك من الأذى والضرر ما لا يرضاه الشرع، الحريص على صحة الناس، وطيب الحياة.
وأمام هذا الواقع الفاسد يبرز آخرون، يقف نظرهم عندما تقع عليه أبصارهم، وتشمه أفواههم من تكدس اللحوم وآثارها السيئة، ولا يكلفون أنفسهم البحث عن أسباب هذه الظاهرة الخبيثة، فيردونها إلى سوء التشريع، لا إلى سوء التطبيق أو الجهل بالتشريع، وبذلك يصيحون ـ كلما أظل الناس موسم الحج ـ بوجوب العدول عن الهدى والذبح، ويلحون في استبدال النقود بالهدي وتوزيعها على الفقراء، بدلاً من هذه اللحوم التي تُفسد الجو، أو تُدفن في الأرض، ويُقحمون فيما يبرر رأيهم ـ جهلاً بغير علم ـ قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) (الآية 37 من سورة الحج).
وبذلك وقعت مسألة "الهدي في الحج" بين جهل في التطبيق والعمل، وبين نظر قاصر، يحاول بهذا الجهل تغيير حكم الله فيها، دون أن يتعرف واقع المشروع ويدعو الناس إليه، فيبقى حكم الله على ما شرع، ويسلم الجو من الأذى والضرر.(1/101)
كلمات في الهدي:
وهذه كلمات في الهدي أكشف بها هنا معنى الهدي الذي شرعه الله في الحج، وعن مكانته في القرآن الكريم، وعن الحالات التي يطلب فيها عينًا دون تخيير بينه وبين غيره، وعن المكان والزمان اللذين يصح فيهما ذبح الهدي، وعما ينبغي أن يكون عليه الهدي من سلامة الصحة والجودة والنقاء.
وأرجو أن يجد الفريقان في هذه الكلمات ما يردهم إلى الصواب، فيعرف الحجاج أن الهدي ليس واجبًا على كل حاجٍّ، ويعرف من يجب عليه أن الهدي الهزيل هدي خبيث لا يرضاه لنفسه ولا لأهله، فلا ينبغي أن يرضاه لله (ولا تيمَّمُوا الخبيثَ منه تُنفقون ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أن تُغْمِضُوا فيه) (الآية 267 من سورة البقرة).
ويعرف الآخرون أن الله أرحم بعباده منهم، وأنه لا يشرع لهم إلا كل خير نافع، وأنه أجل من أن يتعبدهم بما فيه شر أو ضرر، وأن تشريعه فوق ما يربطون به نظرهم من سوء التصرف المبني على الجهل بأحكامه وشرائعه، وأن من الخير لهم وللناس أن يتريثوا في آرائهم، ولا يندفعوا إلى إعلان التحلل من أحكام الله بمجرد نظر خاطف، فيوقعوا الناس في شك من دينهم، ويفتحوا على أحكام الله بمثل هذا النظر باب التفكير في كثير من صور العبادات التي ينحرف الناس بها عن وضعها الشرعي؛ وإذن لا يمضي كثير من الزمن، وخاصة في هذه الفترة التي تعيش فيها، والتي يستبيح فيها كثير منا ـ باسم حرية الرأي ومعقولية الدين ـ أن يتناولوا بأفكارهم الشاذة ما لا يفقهون من أحكام الله التعبدية، أو ما يفقهون ويريدون ـ لحاجة في نفوسهم ـ القضاء عليه.(1/102)
معني الهدْي:
والهدي اسم للحيوان الذي يُهدى باسم الله إلى الحرم، يذبح فيه، ويطعم منه الفقير والمسكين: (فإذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلوا منها وأَطْعِمُوا القَانِعَ والمُعْتَرَّ كَذَلكَ سخَّرناها لكم لعلكم تشكرون) (الآية 36 من سورة الحج) وقد أرشد القرآن إلى الروح الذي يتقبل الله به الهدي، وهو روح الإخلاص والتقوى، شأن كل التكاليف، لا يكفي في تقبلها شكلها ولا صورتها، وإنما يرفعها إليه الإخلاص والتقوى، وهو المعنى المقصود بقوله تعالى: (لن يَنَالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُه التَّقْوَى منكم) (الآية 37 من سورة الحج).
كما لا يناله من الصلاة الحركات والسكنات، ولا من الصوم ترك المأكولات والمشروبات، ولكن يناله منهما ما يحملان من معاني الخشوع والإخبات، ومراقبة القلب وحسن النيات: (إنما يتقبَّلُ اللهُ من المتقين).(1/103)
الهدْي في القرآن:
قد عرض القرآن للهدي من جهات ثلاث:
أولاها: جهة التنويه بشأنه، فطلبه وطلب الإخلاص فيه لله، وجعله من الشعائر التي يجب المحافظة عليها، ويحرم إهمالها وإحلالها، ففي سورة المائدة: (يا أيًّها الذين آمنوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ ولا الشهرَ الحرامَ ولا الهدْيَ ولا القَلائِدَ ولا آمِّينَ البيتَ الحرامَ) (أوائل سورة المائدة). وفي سورة الحج: (والبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لكُم فيها خيرٌ) (الآية 36 من سورة الحج) وفيها (ومَنْ يُعَظَّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّها من تَقْوَى القُلوبِ) (الآية 32 من سورة الحج).
ثانيتها: جهة الحالات التي يطلب فيها، وهي حالة الإحصار، ومعناه المنع عن إتمام الحج أو العمرة بمرض أو عدو، وهي المذكورة بقوله تعالى في سورة البقرة: (وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) (الآية 196 من سورة البقرة).
وقد طلب الهدي فيها عينًا متى تيسر، ولم يخير بينه وبين غيره، كما لم يجعل له بدلاً عند العجز عنه.
وحالة الاعتداء على الإحرام بفعل محظور من محظوراته، كتغطية الرأس، أو لبس مفصل على الجسم، أو قتل صيد الحرم، وهي المذكورة بقوله تعالى في سورة البقرة: (فمَن كان منكم مريضًا أو به أذًى مِن رأسِه فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ) (الآية 196 من سورة البقرة). وبقوله في سورة المائدة: (يا أيُّها الذين آمنوا لا تَقْتُلوا الصَّيْدَ وأنتُم حُرُمٌ ومَن قَتَله منكم مُتعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مثلُ ما قَتَل من النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامًا) (الآية 95 من سورة المائدة).(1/104)
وقد طلب الهدي في هاتين الحالتين على سبيل التخيير بينه وبين غيره من الصوم والإطعام، وقد بين الرسول أن المراد صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين.
وحالة التمتع بالتحلل من الإحرام الأول على إرادة استئناف إحرام آخر للحج عند الخروج إلى عرفة، وهي المذكورة بقوله تعالى: (فمَن تمتَّعَ بالعُمْرَة إلى الحَجِّ فمَا استيْسَرَ من الهَدْي فمَنْ لم يَجْدْ فصيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) (الآية 196 من سورة البقرة).
وقد طلب الهدْي هنا على أن يكون له بدل عند العجز.(1/105)
زمان ومكان ذبح الهدْي:
وكما عرض القرآن للهدْي من جهة التنويه بشأنه، ومن جهة الحالات التي يُطلب فيها عينًا أو تَخْيِيرًا بينه وبين غيره، عرض له من جهة المكان الذي يُذبح فيه: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيتِ العَتِيقِ). (هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ). (حتى يَبْلُغ الهَدىُ مَحِلَّهُ). والمراد، لما دلَّ عليه قول الرسول وعمله، الحرَم كله، وقد صحَّ عنه ـ عليه السلام ـ: "إنَّ مِنًى كُلَّهَا مَنْحَرٌ، وإنَّ مكةَ وفِجاجها مَنْحَرٌ".
وإذنْ، ففي مكان ذبْحه مُتَّسَعٌ، ومتسع عظيم، وليس خاصًّا بمِنًى كما يظن كثير من الناس.
أما الوقت الذي يُذبح فيه الهدي فلم يعرض له القرآن، ولم يصحّ في تعيينه حديث، وإذنْ، فلمَن وجب عليه الذبح عينًا أن يذبح هديه في أي وقت شاء بعد أن وجب عليه، وليس هناك ذبْح يتعيَّن زمنه سوى "الأُضحية" التي تكون في أيام النَّحْر الثلاثة، وهي غير الهدْي، وهي لا تجب ـ إن صحَّ أنها واجبة ـ على حاجٍّ أو مسافر.
وقد بيَّن الفقهاء أن هدْي التمتُّع يجوز ذبْحه بمكة قبل الخروج إلى عرفة، بل قبل الإحرام بالحجِّ، وهو أهم ما يجري فيه الجدل بين الناس، وأهم ما يحدث به تلك الظاهرة الكريهة.(1/106)
الهدْي من شعائر الله:
بهذا الذي ذكرناه نعلم أن الهدي من شعائر الله التي تجب المحافظة عليها، ولا يصحُّ التهاوُن فيها أو إغفالها. وحسْبنا (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ). والشعائر هي العلامات الواضحة الظاهرة التي اعتبرها الدين مظهرًا من المظاهر العامة، وهذا لا يتحقق إلا بعمل ظاهرٍ يراه الناس في مُناسبات خاصة.
وإذا أردت زيادةً في الإيضاح فانظر إلى موقف الشريعة مِن الأذان. إذِ اعتبرته شعيرةً من شعائر الدِّينِ، يُقاتَل أهل القرية أو المدينة على ترْكها وإنْ لم تكن من الفرائض.
ألا وإنَّ للشعائر في نظر الإسلام مكانة الفروض المُقدسة. وعلى هذا اتفقت كلمة الفقهاء في ذبائح الحج، ولم نَرَ لواحد منهم خلافًا في ذلك، نُزولًا على حكم تلك الآية الصريحة الواضحة. وتحقيقًا للغرض المقصود، وهو التقرُّب إلى الله بإرَاقة الدمِ؛ ولله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يَتعبَّدَ عباده بما يشاء: بما يُدركون حِكْمته، وبما لا يُدركون، وما كان اختلاف الفرائض ـ في عدد الركعات والكيفيات، وتحديد الأوقات، واختلاف مقادير الزكاة والكفارات، وسائر ما دخله العدُّ، أو اعْتُبرت فيه الكيفية ـ إلا نوعًا من هذا التعبُّد الذي يتجلَّى فيه بوضوحٍ مُقتضى العبودية الحقَّة، وهو الامتثال لأمر الرب الحكيم، عُقِل معناه أو لم يُعْقَلْ.(1/107)
مِن ثمرات الهدْي الروحية والاقتصادية:
والعلماء يذكرون في هذا المقام أن هذه القُرْبَةَ تُذكر بحادث الفداء الذي حصل لإبراهيم الخليل وولده ـ عليهما السلام ـ وتُنَبِّهُ النفوس المُؤمنة إلى مبدأ التضحية في سبيل الله وطاعته بأعز شيءٍ لَدَيْهَا: (وفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
على أن في العمل بهذه القرية سِرًّا اقتصاديًا يرجع إلى سكان البادية، ولعله من مِصداق دعوة أبيهم إبراهيم حين قال: (رَبَّنَا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ عندَ بيتكَ المُحرَّمِ رَبَّنَا لِيُقيموا الصلاةَ فاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِن الناسِ تَهْوِي إليهمْ وارْزُقُهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لعلَّهمْ يَشْكُرُونَ). ذلك أن الماشية رأس مال أهل البادية، وموسم الحج هو السُّوق التي تُنفق فيه هذه السلعة عن رغبةٍ لا مشقَّةَ فيها، وبذا يحصلون على أرزاقهم من أعمالهم، ومِن ثَمَّ أموالهم، دون أن يتعرَّضوا لذُلِّ السؤال، أو يترقَّبوا لمَنِّ العَطاءِ.(1/108)
لا تغيير في أمور التعبُّد:
مِن هذا يتَّضحُ جليًّا أنه لا يجوز للمسلمين أن يُفكروا في استبدال النقود بالهدْي أو الأضاحي التي طلبها الشارع بذاتها، إقامةً للتصدُّق بثمنها مقامها؛ إذ ليس القصد هو التصدُّق، وإنما القصد ـ كما قلنا ـ التقرُّب بها نفسها.
وإننا لو أبحنا لأنفسنا هذا النحو من التفكير ـ بناء على ما نظنُّ مِن حُكم التشريع ـ لانفتح علينا باب التفكير في التخلِّي عن الأعداد والكيفيات التي طلبت في كثير من العبادات، ولأمكنَ لقائلٍ أن يقول: إن الغرض من الصلاة هو الخضوع ومُراقبة الله، وهما مَعنيانِ يحصلانِ بالقلب، وبأي مظهر من مظاهر الخضوع والمراقبة! فليست هناك حاجة إلى ركوع أو سجود أو غيرهما من كيفيات الصلاة الخاصة، وبذلك ينفتح باب الشَّرِّ على مِصراعيه، ولا يقف ضرره عند حدِّ الأضاحي وفِدْيَةِ الحجِّ.(1/109)
الشريعة لا ذنب لها:
أما ما يُبررون به مثل هذا التفكير مِن أن لحومَ الذبائح تتكدَّس في مِنى، وتُترك للتعفُّن المفسد للجو، أو للنار المذهبة للأموال؛ فهذه الحالة ـ إن صحت ليست ناشئة عن أصل التشريع الذي هو خير كله، وإنما نشأت عن عدم التنظيم، وعدم الإلْمام بأحكام الشرع؛ فإن الشرع لم يطلب مِن كل حاجٍّ أن يذبح، فالذي نَوَى الحج واستمر على إحرامه حتى أكمل حَجَّهُ لا يجب عليه ذبْح، ولم يوجب أن يكون الذبح ـ فيما يطلب فيه الذبح ـ في خصوص مِنَى ولا مَجْزَرَتِهَا، ولا في اليوم الأول من أيام النحر. فأيام النحر كلها زمنٌ للذبح، والحرم كله مكان للذبح، والذبح لم يطلب عينًا إلا في حالات مَخصوصة، وما عداها فالحاج مُخَيَّرٌ بينه وبين غيره: من صدقة أو صيام.
فلو عرف الحجاجُ أحكام الله على هذا الوجه ـ فيما يختصُّ بالدماء، فتصدق مَن لم يُطلب منه الذبْح، وذبح مَن طُلب منه الذبح، وفرَّقوا الذبح على الأماكن والأيام، ثم تخيَّروا الذبيحة مِن غير العِجاف والمرضى، وهيَّئُوها بالسلْخ والتقطيع ـ لَمَا كان لهذه الشكوى موضع، ولكن جرتْ سُنتنا في التفكير أن نَعُدَّ الوضع الذي جرت إليه العادات ـ وإنْ كانت فاسدةً ـ صورةً للتشريع، فنحكم عليه بالقُبح، ثم نُحاول التخلِّي عنه بالقضاء على أصله، وبذلك ندخل في بابٍ من التغيير والتبديل في أحكام الله، ولا نلبث بعد ذلك أن نترك الشريعة كلها جانبًا، باستحساننَا الفاسد المَبنيِّ على واقعٍ جَرَّ إليه الجهلُ وعدم التنظيم.(1/110)
اقتراحٌ لحلِّ المشكلة:
وبعدُ: فإن الكلام في هذا الموضوع ليس وليدَ اليوم، بل سبق أن تحدث فيه المرحوم: الهلباوي بك مع فضيلة المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ: المراغي، فأحال على فضيلته بحثه من الوِجْهَةِ الفقهية الشرعية، فعُدت إلى فضيلته بعد البحث الطويل بأن الفقهاء جميعًا يعتبرون التعبُّد في هذه المسألة بإراقة الدماء، دون أن أرى في كلام واحد منهم ما يُشير ـ ولو مِن بعيد ـ إلى جواز استبدال النقود بها: فاطمأن فضيلتُه إلى هذا وأقَرَّه، وقد عرضتُ على فضيلته اقتراحًا هو:
أنه على فرض تكدُّس اللحوم ـ كما يقولون، بعد مُراعاة الأحكام الشرعية في زمان الذبح ومكانه، وطلبه وعدم طلبه ـ يجب على المسلمين ـ وفيهم الحمد لله مُوسرون كثير ـ أن يَعملوا على استخدام إحدى الوسائل الحديثة لحفْظ هذه اللحوم وادخارها طيِّبةً، ثم توزيعها على الفقراء والمحتاجين في جميع الأقطار الإسلامية إنْ ضاق عنها القُطر الحِجازي، أو بيْعها بأثمان تُصْرفُ فيما ينفع الفقراء والمساكين، أو في سبيل الله العامَّة. وإني أعتقد أن هذا المَشروع متَى كفَلتْهُ الدولتان العظيمتان: الجمهورية العربية، والمملكة السعودية، رأينا آثاره، وانتفع الناس بثمراته في الموسم المُقبل ـ إن شاء الله.
أيها المسلمون: هذه أحكام الله في الهدْي ـ وأحكامه كلها خير وبركة ـ فاعرفوها على وجهها، وعلِّموها الناس، ونظِّموا العمل بها والمُحافظة عليها، ولا تكونوا كالذين ثَقُلَتْ عليهم أحكام الله مع يُسرها وخيرها، فبدَّلوا قولًا غير الذي قيل لهم فأرسل الله عليهم رِجْزًا مِن السماء بما كانوا يظلمون.(1/111)
حُكم تارك الفرائض الإسلامية
ما حُكم المسلم الذي يترك ما فرضه الله عليه من الصلاة والصيام والزكاة والحج؟ هل يُعَدُّ بِتَرْكِهِ كافرًا؟
هذا السؤال تَتمةٌ للسؤال السابق عن الصوم مع ترك الصلاة، وجوابنا عنه أيضًا تتمةٌ للجواب السابق:
لا خلاف بين المسلمين في أن مَن ترك شيئًا مِن فرائض الإسلام وأركانه، مُنْكِرًا لوُجوبه، كان خارجًا عن الإسلام، وحُكمُه حكم المُرتدين، أما الترْك مع اعتقاد الوُجوب والفرضية فهو، بالإجماع وبالدلائل الصريحة، كبيرة من الكبائر، يستحقُّ فاعلها الجزاء الأُخْرَوِيُّ الذي توعَّد الله به أرباب الكبائر، ولا يُطهِّره منها سوى التوبة الصادقة، أو الحجّ المبرور. وهذا هو الحكم الأخروي.
أما الحكم الدنيوي الذي يجب على إمام المسلمين إقامته على التارك فإنَّا لا نعلم في ثُبوته بالنسبة للحجِّ رأْيًا يُعْتَدُّ به لأحد الأئمة، غير أنهم أجمعوا على تعزيره والتشهير به بالنسبة للصوم والزكاة، كما أجمعوا على أن الزكاة يجب على الإمام أن يأخذها قهرًا مِن تاركها. وأما قوله ـ تعالى ـ بعد آية الحج: (ومَن كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ). (الآية: 97 من سورة آل عمران) فليس المقصود منه الكفر بتَرْك الحج، وإنما المقصود الكفْر بفرضية الحجِّ على الناس، وهي المذكورة قبلُ بقوله ـ تعالى ـ: (وللهِ على الناسِ حَجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سَبِيلًا). (الآية: 97 من سورة آل عمران).
نعم: تكلموا في تارك الصلاة كسلًا، وكان لهم فيها ـ كما ذكرنا سابقًا ـ مذاهبُ ثلاثة: أولها: أنه يخرج عن الإسلام ويُقتل كُفْرًا كالمُرْتَدِّ.
وثانيها: أنه لا يخرج عن الإسلام ولكن يجب قتْلُه حدًّا إذا لم يَتُبْ ويُصلي، كقاتل النفس بغير حق، وثالثها: أنه لا يخرج عن الإسلام ولا يُحَدُّ بالقتْلِ وإنما يُعَزَّرُ بالضرْب والحبْس حتى يُصلي.(1/112)
وبالنظر في أدلة هذه المذاهب رأينا أن أقربها إلى الصواب هو المذهب الأخير، لا كُفْرَ ولا قَتْلَ وإنما الضرْب والحبْس، وحُجته قوله ـ عليه السلام ـ: "لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفْرٍ بعدَ إيمانٍ، وزِنًا بعد إحْصانٍ، وقتْلٍ بغير حقٍّ".
أما الأحاديث التي استدلَّ بها القائلون بالقتْل، فإن ما صحَّ منها وما كان في الموضوع، وهو الترْك كسلًا، وذلك كقوله ـ عليه السلام ـ: "بين الرجل وبين الكُفْر تركُ الصلاة". وقوله: "العَهْدُ الذي بيْنَنَا وبيْنكم الصلاةُ، فمَن تَرَكَهَا فقدْ كَفَرَ". فإنه يجب حمله على التغليظ والتوبيخ، ومعناه أنه في صورة الكُفر باعتبار العمل، وليس كفرًا على الحقيقة، وإنما وجَب حمْلُه على التغليظ لا على الحقيقة لقيام الأدلة على أن صاحب الكبيرة لا يخرج بها عن الإسلام.
أما القول بالقتْل حدًّا فقد قال فيه الإمام ابن رُشد المالكي: "إنه قول ضعيف، ولا مُستند له إلا قياس ترك الصلاة على القتْل باعتبار أن الصلاة رأس المَأمورات، وأن القتل رأس المَنْهِيَّاتِ، وهو قياس ضعيف، ولا يُباح بمثله دمٌ مَوثوق بإيمان صاحبه. أما بعدُ:(1/113)
فهذه خلاصة مُوجزة عن آراء الأئمة في تارك الصلاة كسلًا، وحسْب المسلم المؤمن بالله واليوم الآخر في المُحافظة عليها قوله ـ تعالى ـ: (حافِظُوا علَى الصلَواتِ والصلاةِ الوُسْطَى وقُومُوا للهِ قَانِتِينَ). وقوله: (واسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ والصلاةِ وإنَّها لَكَبِيرةٌ إلَّا على الخَاشِعِينَ الذينَ يَظُنُّونَ أنَّهمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وأنَّهم إليهِ رَاجِعُونَ). وقوله: (وأقمِ الصلاةَ إنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنكَرِ ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يَعلمُ مَا تَصْنَعُونَ). وقوله: (إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعًا إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وإذا مَسَّهُ الخيْرُ مَنُوعًا إلَّا المُصلِّينَ الذينَ همْ على صلاتِهِمْ دَائِمُونَ). كيف وهي الشعار الخاص الذي يُعرف به المسلم من غيره؟ وهي غذاء الإيمان الذي يُقرِّبُ العبْدَ مِن مولاه؟(1/114)
الصوم فريضة مُستقلة.
يحرص كثيرٌ من المسلمين على صوم رمضان، وإنْ كانوا يتركون الصلاة، فما حكم الصوم مع ترك الصلاة؟
صلاة الخَمْس في اليوم والليلة، وصوم شهر رمضان، كلاهما فريضة من فرائض الإسلام الأولَى، وكلاهما ركن من أركانه الخمس التي بُني عليها، وجُعلت في حكم الله عُمده التي يقوم عليها، وهما ركنان بَدَنِيَّانِ. فالصلاة يستحضر بها المسلم عظمة مَولاه عن طريق الوقوف بين يديه ومُناجاته ربَّه، وتُعظم مراقبته إيَّاه، وبالصوم تُطهَّر نفسه من بواعث الشهْوة، وتُخلَّص من مُكدِّرات الروح شهرًا كاملًا من السنة كلها، ويتكرر درس التصفية والرياضة كلما حلَّ رمضان في كل عام. وهما إن اشتركَا في الغاية والهدف، وكوَّنَا غذاءً قويًّا للإيمان، إلا أن كلًّا منهما، فريضة مستقلة ـ في الطلب والتكليف والجزاء ـ عن الأخرى، ولا يكمل الإيمان إلا بهما مضمومًا إليهما الزكاة والحج، فمَن صام وصلَّى وزكَّى وحجَّ فقد كمُل إيمانه، ومَن تركها فقدْ فَقَدَ جميع الشعائر الدالة على صدق الإيمان وكل إيمانه مجرد دعوَى، لا يُقام لها عند الله ولا عند الناس وزْنٌ، ومَن أتى بواحدةٍ منها، أو تركَ منها، كان مُقَوِّضًا مِن عُمُدِ الإسلام بقدْر ما ترك، وسقط عنه التكليف الدنيوي بما أتى به.(1/115)
مكانة الصلاة بين الفرائض:
وللصلاة مِن بين أركان الإسلام خصائص: فهي أول رُكنٍ فُرض بعد الإيمان، وهي الدرْس المتكرر في كل يوم، وهي الشعار الخاص الفارق بين الإيمان والكُفر، وهي لا تسقط عن المسلم إلا إذا خرج عن أهلية التكليف.
فهي تُؤدَّى من قيام للقادر، ومن قعود أو إيماء للعاجز، في السفر وفي الحضر، في الأمن وفي الخوف، في الصحة وفي المرض. ولا كذلك الصوم الذي يسقط ببدل القضاء أو الفدية، وقد تكرَّر طلب القرآن للصلاة مُقترنة بالإيمان في معظم مَوارده.
أما الصوم فلم يَعرض له القرآن إلَّا في آياته الخاصة الواردة في سورة البقرة، وقد ربط بالصلاة ـ من الثمرات الروحية وطهَّر الجوارح ـ ما لم يُصرَّح بمثله في الصوم.
دلَّ كل هذا على مكانة الصلاة عند الله مِن بين فرائض الإسلام، وعليه فمَن صام، وترك الصلاة فقد ترك الأهمَّ في تقويم الإسلام، فإن لم يكن مُؤمنًا بما ترك كان خارجًا عن الإسلام ولا ينفعه صومٌ ولا زكاة. وإن كان مُؤمنًا بما ترك كان فاسقًا عن أمر ربه، وكان صومه مع ترك الصلاة قرينةً واضحة على أنه لم يصمْ امتثالًا لأمر الله، وإلا لَمَا ترك الواجب الأول، مُكتفيًا بما دوَّنه في الفرضيَّة والتكليف، وكان باقتصاره على ما فعل كالمُستظهر على الله فيما فرض على عباده؛ وإذنْ لا يكون صومُه إلا مُجاراةً لعادةٍ تَقَلَّدَهَا مِن بِيئته أوْ وَرِثَهَا عن آبائه، أو زعمًا منه أن الصوم كما يَظنُّ بعض الناس يُكفر الذنوب كلها، وكلَا الأمرينِ يُنافي الإيمان وما يقتضيه، وكان إيمانُه محلَّ شكٍّ وتَرَدُّدٍ. كيف وقد وردت أحاديثُ كثيرة تدلُّ بظاهرها على كُفْرِ تارك الصلاة؟ وكان في اقتران الصلاة بالإيمان في كثير من الآيات مُقَوِّيًا لرأي الجُمهور في كُفْرِ تارك الصلاة واستحقاقه القتْل، وإنْ كان بعضهم يرى أن القتل ليس كُفْرًا وإنما هو حَدٌّ، شأنُ الزاني والقاتل.(1/116)
هذانِ رأيان في حكم تارك الصلاة. والرأي الثالث أنه لا يَخرج عن الإسلام ما دام مُؤمنًا بفَرْضِيَّتِهَا ولا يُحد بالقتْل، وإنما يُعَزَّرُ بالضرب والحبْس حتى يُصلِّي، ولا نعرف في تارك الصوم سوَى التعزير والتشهير به في الأسواق والمُجتمعات.
وبعد. فهل لهؤلاء الذين يصومون مع تركهم الصلاة أن يفهموا وضع الصلاة في الإسلام، وأن الواجبات الدينية عند الله وحده لا تتجزَّأ يشدُّ بعضها أَزْرَ بعض، ولا تحوز واحدة منها درجة القبول عند الله إلا مُقترنةً في سِجِلِّ صاحبها بسائر أخواتها؟ هل لهم أن يفهموا أن العبادة بحُكم العادة والشهْوة مَرْدُودة على صاحبها، وأنَّ صاحبها لا يُؤدي بها حقَّ الله، ولا يَمتثل بها أمره، وإنما يُؤدي بها حق بيئته أو أمر شَهْوَتِهِ؟ أرجو أن يفهموا ذلك، ويَثُوبوا إلى رُشدهم، ويجمعوا بين الصلاة والصوم؛ امتثالًا لأمر الله وطلبًا لرضوانه، وتحقيقًا لواجب الإيمان.(1/117)
الحِكْمَةُ في صدَقة الفِطْر:
الأمر الثاني الذي يسأل الناس عنه هو صدقة الفِطْر
1 ـ وصدقة الفطر كلمتانِ: صدَقَةٌ وفِطْرٌ. والصدقة: اسم لمَا يُخرجه المسلم من ماله سدًّا لحاجة أخيه الفقير بقَصْدِ التقَرُّب إلى الله، امتثالًا لأمره وشكرًا على نِعمته، وهي بهذا المعنى من دلائل صدق الإيمان الذي يربط الإنسان بربِّه، ويُوحد بين قلوب المؤمنين ـ أغنيائهم وفُقرائهم ـ في الإحساس بحاجة بعضهم إلى بعض، وفي تبادُل المَعونة بينهم. أما كلمة "فِطْرٍ" فيُقصد بها الإفطار من صوم رمضان، وهو إنما يكون بغُروب شمس يومه الأخير. ومن هنا كان الانتهاء من صوم رمضان هو السبب الظاهر لوُجوب تلك الصدقة، وقد أُضيفتْ إليه وعُرفت به، وصار عنوانها: صدَقة الفِطْر.
2 ـ أما الحكمة ـ التي قُصدت من تشريعها ـ فهي ما بيَّنه ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ بقوله: "فرَض رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاةَ الفطر طُهْرَةً للصائم من اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وطُعْمَةً للمساكين". فلها حكمتانِ، ترجع إحداهما إلى الصائم، وهي تطهير نفسه مما عسَاه أن يكون قد وقع فيه وهو صائم من لَغْوِ القوْل وفُحْشِهِ، وللحسنات أثرها الطيب في إزالة السيئات، "وأَتْبِعِ السيئةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا".
وترجع الأخرى إلى تلبية الإحساس بحاجة أخيه المِسكين، فتكون عوْنًا لهُ وسَدًّا لحاجته، ومَظْهَرًا عَمَلِيًّا للتضامُن الذي يُبنى المجتمع الإسلامي على أساسٍ منه.(1/118)
على مَن تجب؟
3 ـ وصدقة الفطر تجب على الصائم عن نفسه وعمَّن تَلزمه نفقته، فتجب عن زوجته وأبنائه وخدمه الذين يلِي أمرَهم ويُنفق عليهم، ولا يتوقَّف وُجوبها على أن يكون الصائم مالكًا لنِصابِ الزكاة المَفروضة، بل يكفي على الصحيح أن يكون عنده ما يَفضُل عن قوتِ يومٍ وليلة لنفسه وأهله، ومِن المأثور في ذلك: "أمَّا غَنِيُّكُمْ فيُزَكِّيهِ اللهُ، وأمَّا فَقِيرُكم فيَرُدُّ اللهُ عليهِ أكثرَ ممَّا أعْطَى". وفي هذا التشريع إشعار بوُجوب عُموم التضامُن، وأنه كما يطلب أن يكون بين الغني والفقير، يطلب أن يكون ـ أيضًا ـ بين الفقير والفقير، وفيه ـ أيضًا ـ إشعار الفقير بمعنى العزة حين يُعطي، ويمد يده عاليةً بالعطاء، فيَدفعه ذلك إلى العمل على التخلُّص من ظاهرة الفقر التي يمدُّ بها يده مُتواضعةً للأخْذ، "واليد العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى".(1/119)
مقدار الصدَقة ووقْتها:
4 ـ والقدْر الذي يُخرج عن الشخص: قَدَحٌ وثُلث من غالب قُوت البلد الذي يعيش فيه الصائم، وعلى ذلك تُجزئ الكَيْلَةُ المصرية عن سِتَّةٍ، وتكفي قيمة الحُبوب من النقود، وربما كانت القيمة النقدية أرْفقَ للصائم، وأنفع للفقير، نظرًا لتنوُّع حاجة الفقير وهو أدرى بها من غيره، وقد لا يتيَسَّرُ له الاستبدال، فكانت القيمة أدخل في قضاء الحاجة. والذي أستحسنه وأختاره لنفسي، أني إذا كنت في المدينة أَخرجتُ القيمة، وإذا كنت في القرية بعثتُ بالتمر والزبيب والبُرِّ والأرز ونحوها، هدية المسلم لأخيه في شهر التكريم وعيد السرور.
5 ـ ويجوز إخراجها قبل آخر رمضان بمُدة يتمكَّن فيها الفقير من الانتفاع بها في يوم العيد، وذلك تحقيق المعنى المقصود منها، وهو إغناء الفقير عن مدِّ يده في يوم العيد، "أَغْنُوهُمْ في هذَا اليومِ عنِ السُّؤَالِ".(1/120)
إلى مَن تُصْرَفُ؟
6 ـ والأصل في الزكاة ـ على وجه عام ـ أن تُصرف في بلدِ المُزَكِّي، وجاز نَقْلُها لقريب في بلد آخر، ويَحسن أن يُراعي بعد قَرابة النسب ترتيب قَرابة الجوار مع تفاوُت الحاجة، وهي على العموم لا يجوز إعطاؤها لمَن يعود نفْعه إلى المُزكِّي، فلا يُعطيها لوالده الفقير، ولا لابنه الفقير؛ لأن نفقة الأصل والفرع واجبة عليه، وكل مَن تجب نَفَقَتُه مِن الأقارب يمنع إعطاؤهم مِن الصدَقة.
أما بعدُ:
فهذا هو أهم ما ينبغي أن يعرفه المسلمون عمَّا أوجبه الله عليهم مِن صدقة الفطر في آخر شهر رمضان، فلْيُطهروا بها أنفسهم، ويُطعموا بها إخوانهم، ثم يتبادلوا التهاني في صباح العيد ـ وهم في بيوت الله ـ إخوانًا، يذكرون فضْله وإنعامه، أعاده الله علينا وعلى المسلمين جميعًا بالعِزِّ والإقْبَالِ.(1/121)
ليلة القدْر
يكثر التساؤل في أواخر رمضان من كل عام عن أمرينِ شرعيينِ، العناية بهما ومعرفة حكم الله فيهما مما يَكمُل به صوم المسلم، ويرفعه إلى مستوى القبول عند الله، وهما: ليلة القدر، والمَطلوب في إحيائها، وصدَقة الفطر، والمطلوب في إخراجها.
وفيما يلي كلمة عن حكم الإسلام في الأمرينِ:
تَواضعَ المسلمون بعد عصورهم الأولَى على أن يحتفلوا في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان بليلة القدر، وليلة القدر جاء ذِكْرها في القرآن الكريم في سورة سُمِّيتْ بسورة القدر، وجاء كذلك ذكرها في أحاديث كثيرة.
وقد رغَّبت هذه الأحاديث في إحيائها ووعدت عليه بالثواب والمَغفرة. ويظنُّ كثيرٌ من الناس أن هذا الاحتفال التقليدي، الذي يُقيمونه في ليلة السابع والعشرين من رمضان، والذي قِوامه كلمة تُلقى على الحاضرين، وحلوَى تُوزَّع عليهم، يَظنُّون أنه يُحقق معنى قيامها الذي رغَّب فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمثل قوله: "مَن قامَ ليلةَ القدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ).
والذي نعتقده أن معنى قيامها المطلوب: إسلام المُؤمن نفسه في ليلتها لله، وإخلاصه في الدعاء والتذكُّر والعبادة. ومِن المأثور في هذا الشأن قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كان إذا دخَل العشر الأواخر، أحْيَا الليلَ وأيقظَ أهْلَهُ، وشدَّ المِئْزَر". وهو كناية عن الجِدِّ في العبادة.
أما ما تواضعنا عليه فهو تقليدٌ إلى الهزل أقرب منه إلى الجِدِّ، والحمد لله إذ طُويت صفحتُه أو كادتْ.(1/122)
هذا وقد اختلف العلماء في معنى ليلة القدر، وفي حقيقتها، وفي وقتها، وفيما وقع أو يقع فيها. اختلفوا في كل ذلك اختلافًا واسعَ المدى، وقد يكون فسيح الخيال، وحسْبك في ذلك أن تعلم أن أقوال العلماء فيها أوصلها شُرَّاح الحديث إلى سبعةٍ وأربعينَ قولًا، وأنه ليَعِزُّ عليَّ أن يضيعَ وقتِي ووقتُ القارئ في الاشتغال بنقل هذه الأقوال أو قراءتها. والذي أطمئن إليه، وأُحبُّ أن أقدمه لأخي المسلم في هذه الكلمة هو: أن ليلة القدر هي التي فيها بُدئ بإنزال القرآن، وهو ما تُصرِّح به سورة القدر: (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلةِ القَدْرِ). (أول سورة القدر).
وكان ذلك حين نزل قوله ـ تعالى ـ: (اقْرَأْ باسمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسانَ مِن عَلَقٍ). (سورة العلق) وأن هذه الليلة كانت مِن ليالي شهر رمضان، لقوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (شَهْرُ رمضانَ الذي أُنْزِلَ فيهِ القُرآنُ هُدًى للناسِ وبَيِّنَاتٍ مِن الهُدَى والفُرْقَانِ). (الآية: 185 من سورة البقرة). وأنها الليلة التي وصَفها الله بأنها مُباركة في قوله في أول سورة الدخان: (حم. والكتابِ المُبِينِ. إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في ليلةٍ مُباركةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). (أول سورة الدخان).(1/123)
وإذنْ فيه ليلة تاريخية، نَذكُر بها كلما جاءت شهرَها، بل نَذكرها بشهرِها، ونذكر بها نعمة الله على الناس كافَّة بهذا القرآن الكريم، وأن معنى "القدْر" الشرَف والعَظمة، فهي ليلة اكتسبتْ ذلك بما أُنزل فيها، وإنَّ ليلةً ينزل فيها القرآن ويتجلَّى فيها ربُّ العِزَّة والجلال على الناس ـ فيبعث إليهم الهُدى مِن السماء، يرشد ضالُّهم، ويعلم جاهلهم، ويُنظم شُؤونهم، ويرسم لهم طرق المجد، ويَفُكُّ عنهم إصْرَهُمْ وأغلالهم ـ إن ليلةً هذا شأنُها، لجديرة بالتفخيم والتعظيم وجديرة بإحيائها، وبَذْلِ الجهود في شُكر الله على آثارها، وقد صوَّر اللهُ لنا عظمتها بهذا الاستفهام الدالِّ على جلالها (ومَا أدْرَاكَ مَا لَيْلةُ القَدْرِ). وبتكرار كلمة "القدْر" ثلاث مرات تكرارًا يملأ النفس رَوْعَةً (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ في ليلةِ القَدْرِ ومَا أدراكَ ما ليلةُ القَدْرِ). وبهذا التفضيل الذي لم يستعمل أسلوبه في فضْل شيءٍ غيرها (خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ). ألف شهر رمز للكثْرة التي لا يأْلَفها المُخاطبون، فتذهب نُفوسهم في حقيقتها كل مذهب مُمكن. لم يقف القرآن في تصوير عظمتها عند هذا الحد، بل راح يذكر شيئًا غيْبِيًّا يتصل بنُزول الملائكة وبينهم الروح الأمين "حفاوة السماء بالأرض" واطمئنان الأرواح الخيِّرة على أن شمس الهداية التي ترجوها لبنِي الإنسان، قد آذنت بإشراق، وأن الخير والإصلاح سيَعُمَّانِ كل الآفاق، وأن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مدَّ يده برسالةٍ مِن ربِّه إلى الإنسانية جميعها؛ ليُخرجها مِن الظلمات إلى النور، ويَرُدُّها إلى فِطْرتها الخيِّرة، ويُرْشدها إلى صراط الله المستقيم، تلك ليلة القدر، وهذا طريق إحيائها.(1/124)
صوم القضاء:
يسأل كثير من الناس بعد انتهاء رمضان عن حُكم صوم القضاء، وعن حكم صوم الكفارات، ففي القضاء يسألون: هل يجب فورًا بعد انتهاء رمضان؟. وهل يجب متتابعًا كرمضان؟ أو يجوز تأخيره والتفريق فيه؟ ويسألون عن حُكم ما إذا أخر صوم القضاء حتى انتهى شعبان المُقبل وأقبل بعده رمضان؟، وعن حكم ما إذا تأخَّر القضاء حتى مات مَن عليه القضاء؟
وكذلك يسألون عن حكم الصوم في الكفارات التي وَرَدَ فيها الصوم: وهل يكون متتابعًا، أو يجوز فيه التفريق؟ ثم يسألون عن الحِكمة في أن جعل الله الصومَ أحدَ الأنواع التي شرَعها تكفيرًا للذنوب ومَحْوًا لآثارها؟.
ثم يسألون عن أنواع الصيام الأخرى التي رغَّب الإسلام فيها بعد صوم رمضان وصوم الكفارات اللذينِ أوجبهما الله أداءً أو قضاءً أو تكفيرًا
والكلام في هذه المسائل يرجع إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول صوْم القضاء: ومن المعلوم أن قضاء الصوم يجب على كل مَن فاته الصوم في رمضان كُلًّا أو بعضًا. وأن مِن الناس مَن تلحقهم في رمضان أعذارٌ صحية أو شرعية تُبيح لهم ـ بحُكم الشرع والدين ـ الإفطار مدةَ تلك الأعذار، ومن ذلك المريض المُسافر والحائض والنُّفَساء، وأن مِن الناس مَن يتناول مُفطرًا على وجه لا يتحقق به وُجوب الكفارة عليه، ومنهم مَن يُفطرون قبل الغروب على اعتقاد أن الشمس قد غَربت، أو يأكلون بعد الفجر على اعتقاد أن الفجر لم يطلع. ومنهم مَن يُفطر بغير ما يُغذي ولا يُشتهى، وكل أولئك يجب عليهم القضاء يومًا بيوم.(1/125)
ولكن مِن الناس مَن يَغفُل عمَّا أفطره مِن أيام رمضان، وكثيرًا ما ينساه ولا يذكره، وقد يذكره ولكنه يخدع نفسه جرْيًا وراء شهْوَتِهَا، فيَتثاقل أو يُؤجِّل من يوم إلى يوم، ومن أسبوع إلى أسبوع إلى آخر، ومِن شهر إلى شهر، وهكذا حتى يَمُرَّ عليه العام، فيتلوه آخر، وهكذا حتى يُوافيه الأجل وعليه ما عليه من صيام. وإن واجب المسلم أن يكون على ذِكْرٍ دائم مِن حق ربه عليه، وأن يكون على ذكْر ـ أيضًا ـ من قوله في آيات الصوم التي فرضَتْه في رمضان، وبيَّنت أحكامَه (فمَنْ كَانَ مَرِيضًا أو علَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرَ). وقد وضعتْ هذه الآية قضاء رمضان في مستوى أدائه في وقته بالنظر للمريض والمسافر، وبذلك أخذ القضاء حكم الأداء، ووجب على مَن فاته الأداء أن يَحرص على القضاء، وإذا كان الله أوجب القضاء على مَن أباح له الفِطْر في رمضان بعُذر المرض أو السفر، فلأنْ يجب القضاء ـ مِن باب أولَى ـ على مَن أفطر بغير ما أباح به الإفْطار في رمضان.(1/126)
المُبادرة بالقضاء:
وإذا كان القضاء في صوم رمضان، ممَّا أوجبه الله على المُؤمنين، فممَّا لا شكَّ فيه أن المبادرة بقضاء الواجب في وقت التمكُّن منه أفضل مِن تأخيره، ولا يَنبغي للمُؤمن أن يُماطل ربه في أداء حقه بعد أن أزال عُذره وردَّ عليه صحته، وأعاده إلى وطنه. كيف والإنسان لا يدري متَى ينزل به القضاء؟
ومِن هنا رجَّح العلماء أن الحجَّ واجب على الفوْر، ولا ينبغي تأخيره متى تحقَّقت عند المسلم استطاعته وأمِن الطريق إليه، ولو فُرض وتهاون المسلم في قضاء الصوم، حتى أقبل رمضان التالي، فإنه يجب عليه أن يصوم رمضان لتعيُّنه وقْتًا للصوم المفروض، ثم يصوم ما عليه مِن قضاء. وإذا ألَحَّ به التسويف حتى مات دون أن يصوم القضاء كان مَسئولًا عنه أمام الله، وكان صومه لرمضان الذي أفطر فيه ووجب قضاؤه وأهمل فيه حتى مات، كان ناقصًا لا يصل به إلى درجة الصائمين عند الله.(1/127)
التتابُع في القضاء:
أما حُكم القضاء من جهة التتابُع أو التفريق فللعلماء فيه رأيانِ: أحدهما. أنه يجب فيه التتابع، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى حديث لم يصحّ عند أهل الحديث. والجمهور على أن صوْم القضاء لا يجب فيه التتابُع، وإنما يَستحبُّون فيه وإن فرَّق صحَّ، ويستدلون بعُموم قوله ـ تعالى ـ في جانب القضاء (فَعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرَ). ومَن أتى به مُتفرِّقًا فقد صام عدةً من أيام أخر، وصحَّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئل عن تقطيع صوْم القضاء فقال: "ذلك إليكَ. أرأيتَ لو كان على أحدكم دَيْنٌ فقضى الدرهمَ والدرهمينِ، ألم يكن ذلك قضاءً؟ فالله أحقُّ أن يعْفو ويغفر".
هذه هي الأحكام المُتعلقة بقضاء رمضان. وينبغي أن يُعلم أن الإفطار في صوم القضاء لا يُوجب أكثر من قضائه، ولا تجب فيه كفَّارة ولا غيرها، وإنْ كان الإفطار فيه مُتَعَمَّدًا، وكان بمُغَذٍّ أو مُشْتَهًي؛ لأن المطلوب في القضاء صوم يوم آخر بدل الأصل (فعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرَ).(1/128)
صوم الكفَّارات:
أما حُكم الصوم في الكفارات فينبغي أن يُعلم أولًا: أن الصوم جاء في كفارة اليمين (فكَفَّارَتُهُ إطعامُ عشرةِ مَساكِينَ مِن أوْسَطِ مَا تُطعمُونَ أَهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلكَ كفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ). وقد دلَّتْ الآيةُ على حُكمينِ:
أحدهما: أن الصوم في كفَّارة اليمين لا يكون إلا بعد أن يعجز الحانِث في يَمِينه عن التكفير بالإطعام أو الكُسْوة.
ثانيهما: أن الصوم المَطلوب فيها إنما هو صوم ثلاثة أيام مُطلقة غير مُقيدة، فشملت المُتتابعة والمُتفرقة. نعم، رأى بعض العلماء التتابع واستدلوا بما لم يصحّ، ويُلاحظ هنا أن كفارة اليمين إنما تجب حيثُ كان الحلِف باسمٍ مِن أسماء الله، فلا كفارة للحِنْثِ في الحلِف بغير الله، كالنبي والولِي والكعبة، وليس ذلك يمينًا شرعيًّا تترتب عليه أحكام اليمين.
وجاء الصوم ـ أيضًا ـ في كفارتَيِ القتْل والظهار، ولكنه جاء في كل منهما مُقيَّدًا بالتتابع، ففي كفارة القتْل الخطأ: (فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِن اللهِ). وفي كفارة الظهار: (فمَنْ لمْ يَجِدْ فصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتتابِعَيْنِ مِن قبْلِ أنْ يَتَمَاسَّا). والنَّصَّانِ صريحانِ في وُجوب التتابع في صوم هاتينِ الكفَّارتين.
ولعل الحِكْمة في إطلاق صوم اليمينِ، وصوم قضاء رمضان عن التقييد بالتتابع مع التقييد به في صوم كفارتَي القتل الخطأ والظهار هو ما علِمه الله عن عباده من كثْرة الحلِف والحِنْث، وقلَّة ونُدرة القتل الخطأ والظهار؛ فكان الإطلاق فيما يكثر أيسر على العباد، وذلك زيادةٌ عمَّا فيهما مِن آثار سيئةٍ تلحق النفس البريئة في القتل، والزوجة الهادئة في الظهار، وليس كذلك الحنْث في اليمين.(1/129)
حُكم شرعية الصوم للكفَّارة:
أما الحكمة في أن الله جعل الصوم أحد الأنواع التي شرعها تكفيرًا ومَحْوًا لآثارها فهي ترجع إلى حِكمة الصوم العامة، التي قَصد بها الشارع إلى أهمِّ أُصول الحياة الطيبة للإنسان، وهو تهذيب النفس وتقويم الخُلُق، والتعويد على الصبْر، وضبْط الإرادة في تحمُّل الشدائد واستقبال الآلام بقوة العزيمة.
وليس مِن رَيْبٍ في أن قِوام الأمم إنما يكون بتسلُّح أبنائها بهذه المعاني، التي تُعِدُّهُمْ لمُكافحة الطوارئ ومُصارعة الأحداث. ومن هنا صحَّت أحاديثُ كثيرة ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُرغِّب في صوم أيام مُعينة، مُوزعة على الشهور والأسابيع؛ توجيهًا للمسلم إلى وسائل العلاج لمَا قد يكون وقع فيه مِن ذنوب، ووسائل الوقاية لمَا يُخشَى أن يقع فيه: نَذْكُرُ من ذلك: صوم ستٍّ من شوال، وما يَتَيَسَّرُ مِن شعبان، وصوم عاشوراء، وصوم يوم عرفة لغير حاجٍّ، وصوم ثلاثة أيام في كل شهر، ويومَيِ الإثنين والخميس من كل أسبوع.(1/130)
مواقيت الصلاة والصيام:
هل يُصام رمضان حيث النهار ستة أشهر، وكيف يصام؟
فرض الله على المُؤمنين خمْس صلوات في اليوم والليلة، وبيَّن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله وفِعله أوقاتها فيها، فحدَّد الصبْح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، وللظهر من زوال الشمس عن كبِد السماء إلى صيرورة ظلِّ كل شيءٍ مثله أو مثْليه، وللعصر من نهاية وقت الظهر إلى غروب الشمس، وللمغرب من غروب الشمس إلى غياب الشفق.
وفرض عليهم ـ أيضًا ـ صوم شهر هلاليٍّ من السَّنَة، وبيَّن أنه شهر رمضان، وقال ـ عليه السلام ـ: الشهرُ هكذا أو هكذا، بإشارةٍ تدلُّ على أنه إما ثلاثين يومًا أو تسعةً وعشرينَ يومًا، ولا ريب أن بيان أوقات الصلاة في اليوم والليلة وبيان الشهر في السنة ـ على هذا الوجه الذي عُرف، وتناقَله الناس جيلًا بعد جيل ـ إنما كان بما يُناسب حال البلاد المعتدلة التي تتجلّى أوقاتها المُحددة في اليوم والليلة، ويتجلَّى رمضانُها في السَّنة وهي القِسْم الأعظم من الكرة الأرضية.
ولم يكن معروفًا للناس في وقت التشريع أن في الكرة الأرضية جهات تكون السنة فيها يومًا وليلة، نِصفها نهار ونصفها ليل، وجهات أخرى يطول نهارُها حتى لا يكون ليلها إلا جزءًا يسيرًا، ويطول ليلها حتى لا يكون نهارها إلا جزءًا يسيرًا.(1/131)
فرْض يجب استبعادُه:
ولا ريب أن الجرْي في هذه الجهات على بيان الأوقات التي عُرفت للصلاة والصوم يُؤدي إلى أن يُصلى المسلم في يومه وليلته هو "سنة كاملة" خمس صلوات فقط مُوزعة على خمس أوقات من السنة كلها، ويُؤدي كذلك في بعض الجهات إلى أن تكون الصلوات المفروضة أربعًا أو أقل، على حسب طول النهار وقصره، وكذلك يُؤدي إلى أن يُكلَّف المسلم في تلك الجهات صوم رمضان ولا رمضان عنده، وفي بعضها يُؤدي إلى صوم ثلاث وعشرين ساعة من أربع وعشرين ساعة، وكل هذا تكليف تَأْبَاهُ الحِكمة من أحكم الحاكمين والرحمة من أرحم الرحماء.
وإذنْ يجب استبعاد هذا الفرض.(1/132)
فرض الإعفاء من الصلاة والصوم:
ويدور أمر هذه الأقاليم بعد ذلك بين فرضينِ آخرينِ لا ثالث لهما:
إما إعفاؤهم ـ كما ذهب إليه بعض الناظرينَ ـ من الصلاة والصوم؛ لعدم الوقت وعدم القدرة والإمكان، وعدم الفائدة المَرْجُوة من التكليف، وهو فيما نرى فرض يأْباهُ عموم النصوص التي جاءت بتكليف الصلاة؛ فالصوم لجميع المؤمنين دون فرق بين قُطْرٍ وقُطر.(1/133)
مَواقيتهم حسب أقرب البلاد المُعتدلة إليهم:
وإذنْ، لا يبقى طريقًا لقيامهم بواجبهم الديني ـ على وجه مَقدور لهم ميْسور ومُحقق للفائدة المَرجُوة من التكليف ـ سوى أن يُقدِّروا أيامهم ولياليهم وأشهرهم بحساب أوقات أقرب البلاد المُعتدلة إليهم، أي حساب البلاد القريبة منهم، التي تتميز فيها الأوقات، ويتَّسِع كل من ليلها ونهارها لمَا فُرض من صوم وصلاة على الوجه الذي يُحقق حِكمة التكليف دون مشقَّة أو إرهاق.
ولا ريب أن أهل هذه الجهات لابد أن يكونوا قد اتَّخذوا طريقًا لتقدير الأيام والأشهر فيما يختصُّ بحياتهم العامة من أعمال وعُقود.
وإذنْ فمِن السهل أن يتَّخِذُوا في تحديد أوقات عبادتهم ما عُرف في أقرب البلاد المُعتدلة إليهم. وبهذا يستطيعون أداء فروضهم الدينية من صلاة وصوم على وجه مُحدَّد كامل لا عُسر فيه ولا إرهاق: (يُرِيدُ اللهُ بكمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُمُ العُسْرَ ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللهَ علَى مَا هَداكُمْ ولعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).(1/134)
الصوم وأسلوب القرآن في فرضيته:
باسم حرية الرأي، وإشباعها لهواية الضجيج والشذوذ عن المعروف، خرج بعضهم عن إجماع المسلمين من عهد النبي إلى عصرنا هذا وأفتَى في إباحة الفطر في رمضان بفتوَى جاهلة خاطئة أثارت ضمائر المسلمين، فكتب إلينا كثيرون يَطلبون إلينا بيان حُكم الصوم في الإسلام ومنكر فرضيَّته وموْضع اليُسر والرُّخْصة فيه، ووضْع الحق في نِصابه أمام جماعة المسلمين.
(شَهْرُ رمضانَ الذي أُنْزِلَ فيهِ القرآنُ هُدًى للناسِ وبَيِّنَاتٍ مِن الهُدَى والفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ منْكُمُ الشهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومَن كانَ مَرِيضًا أو علَى سَفَرٍ فِعِدَّةٌ مِن أيامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكمُ العُسْرَ ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا الله علَى مَا هَداكُمْ ولعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (الآية: 185 من سورة البقرة).(1/135)
وليس في بلاد الإسلام مَن يجهل معنى الصوم الذي طلبه اللهُ من المسلمين في هذا الشهر، وليس فيها مَن يجهل أن صومه رُكنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ من فرائضه الأُولى التي بُني عليها. وقد عبَّر القرآن عن فريضته "بمادة" لا تحتمل غير الإثبات والإيجاب والتحتيم، بمادة لم تُعرف فيه لغير الصوم مِن أركان الإسلام. بمادة كان أكثر ما ورد للتعبير بها في الدلالة على التحتُّم والثبوت لمُقتضيات الذات الإلهية، أو لمُقتضيات النظام الكوني الذي قدَّره الله في سابق علْمه للكائنات، ولا يَعتريه في سُنَّته تغيير ولا تبديل. وإنك إذا قرأت في الدلالة على تحتُّم تلك المُقتضيات قوله ـ تعالى ـ: (كَتَبَ ربُّكُمْ علَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). (الآية: 54 من سورة الأنعام). وقوله: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أنَا ورُسُلِي). (الآية: 21 من سورة المجادلة) وقوله: (قُلْ لنْ يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لنَا). (الآية: 51 من سورة التوبة) وقوله: (أُولئكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ منه). (الآية: 22 من سورة المجادلة). فإنَّك ترى القرآن لم يقف في شرْع الصوم وطلبه من المؤمنين عند "المادة" المألوفة في طلب الشيء، أو الأمر به نحو "فلْيَصُمْهُ". أو نحو: (أَقِيمُوا الصلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ). أو نحو: (وللهِ علَى الناسِ حِجُّ البيتِ). بل سَمَا به إلى مادة: "الكُتب والكتابة" التي عُرفت عنه في مقام التعبير عن مُقتضى الألوهية، أو مقتضى التقدير الإلهي في النظام الكوني الثابت المُتقرر، ترى القرآن سمَا بالصوم إلى هذه المادة، مُمهِّدًا له بالنداء المُوقظ للشعور، وبِوَصْف الإيمان الباعث على الامتثال، ومشيرًا في الأسلوب نفسه إلى أن الصوم تكليف الله العام لهؤلاء ولمَن مضى من عباده السابقين (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيَامُ كمَا كُتِبَ على الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ). (الآية: 183 من سورة البقرة).(1/136)
ثُمَّ حَدَّدَ وَقْتَه، وفصَّل أعذاره على نحوٍ لم يوجد في غيره من الفرائض والأركان.
ومِن هنا أجمع المسلمون من عهد التشريع على أن مَن أنْكر فرضية الصوم أو أوَّل طلبه، أو حرَّف وضْعه، أو ردَّه إلى مُجرد الشوْق إليه والرغبة فيه كان خارجًا عن رِبْقَةِ الإسلام، لا تجري عليه أحكامه، ولا يُعَدُّ من أهله. وهذا هو حكم الله في الصوم وفي سائر ما ثبتَتْ فرضيته أو حُرمته بمَصدرٍ تشريعيٍّ قطعيٍّ في ثبوته عن الله، ودلالته على معناه، وتناقل جميع المؤمنين العلم به هكذا، جيلًا عن جيل، وطبقةً عن طبقة.(1/137)
فرضية الصوم ليست محلا للرأي:
وأثرًا للتشريع بهذا النحو، استقرَّ في ضمير المُؤمنين، أن ما ثبتت به فرضيته أو حُرْمته ليس محلًّا للرأي، ولا مجالًا للاجتهاد الذي أباحه الله للعباد، واستقر كذلك في ضميرهم أن مَن يعبث بشيءٍ مِن تلك الأحكام القطعية ـ ويتَّخِذ ذلك العبَث باسم "الرأي وحريته" قنطرةً يَعْبر عليها إلى فتْنة الناس في دينهم، أو زعزعة إيمانم، أو الحصول على شُهْرة زائفة مُفتعلة، أو متاعٍ زائلٍ حقيرٍ ـ كان هو، ومَن يتَّبِعُهُ ويُصدقه، ومَن يُقَوِّيه وينفخ فيه، كان "ثلاثتهم" في الخروج عن دين الله سواء، وكان جديرًا بالمُؤمنين الصادقين أن يَنبذُوهم نَبْذَ النَّوَاةِ، وأن يَسِمُوهم على الخرطوم بحُروف بارزة "ضالُّونَ مُضِلُّونَ". (ومِن الناسِ مَن يُجادل في الله بغيرِ علْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ. ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لهُ في الدُّنْيَا خِزْيٌ ونُذِيقُهُ يومَ القيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ). (الآيتان: 8، 9 من سورة الحج).
إن لكل دين إلهي أو نظام بشري دائرةً مُقدسة، وشقة مُحرَّمة، لا يسمح الدين ولا أهل النظام أن تُمَسَّ، وإذا مُسَّتْ عن قُرب أو بُعد كان مسُّها اعتداءً صارخًا عليها، وتقويضًا لقداستها وانتهاكًا لحُرمتها، ولا يُبرره أنه رأيٌ، وحرية الرأي مكفولة!! فإن للرأي في الشرائع، سماويةً أو وضعيةً مجالَه!! وللدائرة المُقدسة مجالها!! وعلى هذا طُبعت النفوس في مُعتقداتها ونُظمها ودساتيرها.(1/138)
يُسر الإسلام ورحمته:
نعم. بنى الإسلام تشريعه كله على اليُسر والرحمة، ولم يقصد بتكاليفه ـ على وجهٍ
عام ـ عنتًا ولا إرهاقًا (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا). (الآية 286 من سورة البقرة) (وما جَعَلَ عليكمْ في الدِّينِ مِن حَرَجٍ). (الآية 78 من سورة الحج) ومِن ذلك: رخَّصَ لمَن أُكِرَه على الكُفْرِ أن ينطقَ بكلمته، وقلْبُه مُطئمنٌ بالإيمان، ورخَّص لمَن أشرف على الهلاك، أو خاف الضرَر بجُوعٍ أو عطش أن يأكل أو يشرب ممَّا حرَّمه الله بقدر ما يحفظ عليه حياته، أو يدفع عنه ضرَره، حتى إذا ما تَزَمَّتَ في التَّدَيُّنِ، وامتنع باسمه عن الأكل أو الشرب حتى مات، أو أُصيب بزمانة، كان آثمًا عند الله مُسرفًا في تديُّنه!! (فمَنِ اضْطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إِثْمَ علَيْهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رَحِيمٌ). (الآية 173 من سورة البقرة).
وكذلك أباح لمَن يتضرَّر أو يخاف الضرر باستعمال الماء في طهارة الصلاة، أن يتيمَّم صعيدًا طيِّبًا. وأباح الصلاة في مَواطن الخوْف المُشقة، مُخففة في عدد ركعاتها، وكيفية أدائها، حتى لقد تقبَّلها رمزًا بحركة رأسيةٍ أو عيْنية. وأباح ترك الحج عند خوْف الطريق ـ وجعل أمْنه، والقدرة على نفقة الذهاب والإياب زائدةً عن نفقة الأسرة ـ مِن الاستطاعة التي لا يجب الحجُّ إلا بها.(1/139)
اليُسْر في صوم رمضان:
وعلى هذه السُّنَّة الرحيمة العامة في التكاليف كلها فرَض الله صوم رمضان، وجعل الناس بالنسبة إليه واحدًا من ثلاثة:
1 ـ مُقيم سليم قادر عليه دون ضرر يَلحقه أو مشقَّة تُرهقه، الصوم واجب مُحتم عليه. وهذا هو الأصل الذي نظر فيه إلى السلامة مِن العوارض، وهو المذكور بقوله ـ تعالى ـ: (كُتِبَ عليكمُ الصِّيَامُ). وقوله: (فمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
2 ـ مريض أو مسافر، وقد أُبِيح له الإفطار مع وُجوب القضاء يوم بيوم عند الصحة أو الإقامة، وهو المَذكور بقوله ـ تعالى ـ: (فمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أوْ علَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرَ).
3 ـ مَن يَشُقُّ عليه الصوم لسببٍ لا يُرجَى زَوالُه، ومنه ضعف الشيخوخة، والمرض المُزمن، والحمْل والإرضاع المُتواليانِ إذا خِيف على الحامل أو المرضع أو الرضيع، وقد أُبيح لهؤلاء وأمثالهم الإفْطار دون قضاء، واكتفَى منهم أن يُطعموا بدلًا عن كل يوم مِسكينًا واحدًا بما يُشبعه في وجبتينِ مِن طعام مُتوسط، ويقوم مقام الإطعام بدل ثمنه على حسب التقدير المُتعارف بين الناس، وهذا هو المُشار إليه بقوله ـ تعالى ـ: (وعلَى الذينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ). فالفِدْية لا تكون إلا بدلًا عن فائتٍ، والإطاقة لا يُعبَّر بها عن اليُسر والسهولة فلا يُقال: فلان يُطيق حمل التفاحة، وإنما يُقال: يُطيق حمْل هذه الصخرة. وإذنْ، فهي تدل على العُسر ومَشَقَّةَ الاحتمال.
وإذنْ، فحيث كان اليُسر كان الصوم، وحيث كان العُسر كان الإفطار، هذا هو شرْع الله ودينه.(1/140)
وتقدير اليُسر والعُسر يَرجع المؤمن فيه إلى إيمانه وما يُحِسُّهُ مِن نفسه، ومُفْتِيِهِ في ذلك ضميرُه، ولا حاجة بعد معرفة المبدأ العام إلى فَتْوَى المُفتين التي كثيرًا ما تُوقع الناس في الحيرة والاضطراب "البِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إليهِ النفسُ والإثْمُ ما حَاكَ في الصدْر وكَرِهْتَ أن يطَّلِعَ عليه الناس".
ومما يجب التنبيه له هنا، أن المراد بخوف الضرر المُبيح للإفطار هو تيقُّنه، أو غلبَةُ ظنِّه. وواضح أن ذلك يستدعي التجربة الشخصية، أو إخبار الطبيب الأمين الذي لا يُعرف بالتهاون الديني. أما الخوف الناشئ عن مُجرد الوهْم أو التخيُّل فإنه لا وزن له عند الله ولا يُبيح به الإفطار. أما بعدُ.
فهذا هو الصوم الذي فرضه الله علينا، فاستقْبِلُوا شهْره بصدورٍ منشرحة وركزوا رُوحانيته على هداية مِن رُوحانية القرآن الذي أُنزل فيه، وحافظوا عليهما، وإيَّاكم أن تَميلَ بكم أهواء الفتاوَى إلى غير سبيل المُؤمنين.(1/141)
أسئلة موسمية:
ما من رمضان يَمُرُّ بنا إلا تَكثر فيه الأسئلة عن شئون يتكرر حُدوثها للناس، وتتكرَّر إجابة العلماء عنها تحديثًا في الإذاعة، وبيانًا في الدروس، وكتابة في الصحف والمجلات.
وربما استغرق ذلك الشهر كله، وهي ظاهرة طيبة من الجانبين؛ فإن واجب المسلم الحريص على صحة عبادته، وعلى تقبُّل الله لها أن يسأل أهل الذِّكْرِ في كل ما يحتاج إليه في عبادته ولا يعرف حُكْم الله فيه، وواجب العالِم بأحكام الله أن يُبيِّن له ما يجهله، ويُرشده إلى ما ينفع، ويُجيبه عمَّا يسأل؛ وقد كان هذا شأن المُؤمنين مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه منذ كان الإسلام.(1/142)
أدب السؤال والجواب:
كانوا يسألون النبيَّ فيُجيبهم، وكانوا يسألون خُلفاءَه وأصحابه فيُجيبونهم، والنفوس راضية، والقلوب مطمئنة، والألْسنة شاكرة، والامتثال شأن السائلين، والتحرِّي وقصد وجه الله شأن المسئولين. ومن مبادئ الإسلام في هذا الشأن بالنسبة لمَن لا يعرف قوله ـ تعالى ـ: (فَاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (الآية: 7 من سورة الأنبياء) وبالنسبة لمَن يعلم قوله ـ تعالى ـ: (إنَّ الذينَ يَكتمونَ ما أنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ للناسِ في الكِتابِ أُولئكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ويَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إلا الذينَ تَابُوا وأَصْلَحُوا وبَيَّنُوا...). (الآيتان: 159 ـ 160 من سورة البقرة).
وبالنسبة للامتثال قوله ـ تعالى ـ: (ومَنْ يُشَاقِقِ الرسولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤمنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيرًا). (الآية: 115 من سورة النساء).(1/143)
هدْيُ السلَف:
على هذا المبدأ في السؤال والجواب والامتثال درَج المسلمون ودرج العلماء، وكان مرجع التوفيق في سؤال السائلين أن يسألوا عمَّا ينفعهم في صحة عبادتهم، وحلّ تَصرُّفهم وتقرُّبِهم إلى مولاهم؛ وكانوا لذلك لا يسألون عن مَفروض لا يقع، أو غيبيٍ لا يتصل بالعمل، ويرون أن الاشتغال بهذا النوع من الأسئلة اشتغالٌ بما لا يَعْنِي؛ ومن حُسن إسلام المرْء ترْكه ما لا يَعْنيه. وكان مرجع التوفيق في جواب المسئولين التحرِّي عن حُكم الله، والرجوع ـ عند عدم العلم أو عند الشك والتردُّد ـ إلى المصادر الصحيحة من كتاب الله أو سُنة رسوله أو كُتب العلماء المَوثوق بعلْمهم، الذين لم يتَّخِذوا الفتوَى أو الفقه تِجارةً منها يتعيشون، وكانوا يرون لهذا أنَّ تحكيم الهوى ـ إرضاءٌ للسائل، أو تحصيلًا للمادة، أو تحكيم التفكير العقلي في العبادة دون رجوع إلى مصدر تشريعي ـ باب واسع من أبواب الضلال والإضلال، وما نزل بجلال الدين وجلال أحكامه عن درجة القداسة سوى تحكيم الهوَى وحب الاستظهار على أحكام الله.
والعبادة ـ في أصلها، وكيفيتها، وصحتها ـ رسمٌ من الله لا شأن للإنسان فيه إلا أن يَعرفها كما وردتْ، وإلا أن يفعلها أو يَعلمها كما عَرف، وليس له أن يتصرَّف فيها برأْيه وهواه، فيَضِلُّ ويُضِلُّ، ويحمل في عنقه تَبِعَةَ ضَلالهِ، كما يحمل تبِعةَ إضْلاله.
هذا هو واجب السائلين، وذاك هو واجب المسئولين، وأرجو أن يقتصد السائلون في أسئلتهم، وأن يقتصد المسئولون في أجوبتهم، وأن يقف كل فريقٍ عندما ينبغي للمسلم المؤمن أن يقف عنده من سؤالٍ أو جوابٍ.(1/144)
وبهذه المناسبة نتحدث في الأجوبة عن أسئلةٍ اتَّجَهَ بها إلينا بعض الصائمين: يسألون: ما حُكم الصيام إذا اكتحل الصائم، أو قطَر في عيْنه، أو مَسَّها؟ وما حُكم الصوم إذا كان عند الصائم بواسير واحتاج في تخفيف آلامها إلى دِهانها أو إلى استعمال الأقْماع وهو صائم؟ وما حكم الاحتقان الشرَجي أو الجلدي أو العرقي في حال الصوم؟ وما حكم الصوم إذا طلع على الصائم النهار وهو لم يغتسل من أثر الليل؟ وما حُكم الأكل والشرب عند النِّسْيان؟ وما الحكم إذا غلب الماء ونزل إلى جوف المتوضئ؟ وما حكم الأكْل على ظنِّ أن الفجر لم يطلع؛ ثم تَبين للآكِل أنه طلع؛ أو الأكل على ظنِّ أن الشمس قد غربت ثم تبيَّن أنها لم تغرب؟(1/145)
طلوع الفجر قبل اغتسال الجُنُب:
هذه جمل من الأسئلة يكثر دورانها على الألْسنة، وقد يتلقَّى الناس فيها أجوبةً مختلفة تُحدث عندهم بلبلة واضطرابًا. ونحن إذا نظرنا إلى معنى الصوم المُفاد من قوله ـ تعالى ـ: (أُحِلَّ لكمْ ليلةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ). (الآية: 187 من سورة البقرة)؛ وقوله: (وكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لكُمُ الخيْطُ الأبيْضُ مِن الخَيْطِ الأسْوَدِ مِن الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى الليلِ). (الآية: 187 من سورة البقرة) ـ علمنا أن الرَّفَثَ إلى النساء مُباح ليلة الصيام حتى مطلع الفجر، ومن ضرورة ذلك أن يُدرك الفجرُ الصائمَ وبه أثر الرفث لم يغتسل؛ ومِن هنا كان صوْمه صحيحًا ولا تأثير للجنابة عليه: وقد حكَت ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زوجانِ من أزواجه: عائشة وأم سلمة. ولا فرْق في صحة الصوم بين جنابة الاتصال، وجنابة الاحتلام.(1/146)
الأكل أو الشرب ناسيًا أو مُخطئًا:
أما من أكل أو شرب ناسيًا أو مُخطئًا فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة.
وقد صحَّ في ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فلْيُتِمَّ صومَه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه". وقوله: "إنَّ اللهَ وَضَعَ عن أمَّتِي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ومنه يُعلم حُكم مَن غلبه الماء ونزل على جوْفه وهو يتوضأ، فصوْمه ـ أيضًا ـ صحيح ولا شيء عليه.(1/147)
الخطأ بالإفطار قبل الغروب أو السحور بعد الفجر:
وإذا كان مبدأ الصوم هو طلوع الفجر، وغايته غروب الشمس، فإن مَن أكل أو شرب على ظن أن الفجر لم يطلع وهو طالع، أو على ظن أن الشمس غربت وهي لم تغرب يكون قد أكل عمدًا في وقت الصوم فيُفسد صومه، ويجب عليه القضاء؛ وإن أخطأ في الوقت لم يكن مُنتهكًا لحُرمة الصوم فلا تجب عليه كفارة؛ وهو أشبه بمَن ظنَّ دخول وقت الصلاة فصلَّاها، ثم تبيَّن أنه لم يدخلْ، فعَلَيْهِ الإعَادة.(1/148)
الحُقَنُ كلها لا تُفطر:
وإذ كان من مَحظور الصوم الأكلُ والشرب ـ وحقيقتُهما دخول شيء من الحلْق إلى المعدة، والمعدة هي محل الطعام والشراب من الإنسان، وقالوا إنها كالحُويصلة للطائر والكرْش للحيوان ـ كان المُبطل للصوم ما دخل فيها بخُصوصها، سواء أكان مُغَذِّيًا أمْ غير مُغَذٍّ، ولابد أن يكون عن المَنْفذ المُعتاد؛ ومن أجل هذا فما دخل في الجوف ولكن لم يصلْ إليها لا يفسد الصوم.
فالحُقنة الشرجية يدخل بها الماء في الجوْف، ولكن لا يصل إليها، فلا تُفطر، والحقن الجلدية أو العرقية يسري أثرها في العُروق ولا تدخل محل الطعام والشراب، فلا تُفطر. نعم؛ قد يُحدث بعضها نشاطًا في الجسم وقوةً عامة، ولكن لا تَدفع جُوعًا ولا عطشًا؛ ومن هنا لا تأخذ حُكم الأكل أو الشرب، وإنْ أدَّتْ شيئًا من مُهمَّتِه.
وإذا كان هذا هو الأصل في الإفطار، وكانت الحقن بجميع أنواعها لا تُفطر الصائم، فإن أقماع البواسير أو مَراهمها أو الاكْتحال، أو التقطير في العين أو مَسَّها كل ذلك لا تأثير لشيءٍ منه على الصوم؛ فهو ليس بأكل في صورته ولا في معناه، وهو بعد لا يصل إلى المعدة محل الطعام والشراب.
وفي اعتقادي أن المُحافظة على روح الصوم باستحضار المراقبة وأن المسلم هو صائم في ضيافة مولاه، وأن هذه الضيافة تقضي عليه التوجُّه إليه في ظاهره، وباطنه فلا يرتكب ما يُغضبه، ولا يُدَنِّسُ نفسه بما يُنافي تَقْوَاهُ، والمُحافظة على هذا الوضْع تسمو بالنفس عن الاشتغال بأن مثل هذه الشئون تُفسد الصوم أو لا تفسده، وتجعل الصائم في حِصْنٍ عن كل ما يَرِيبُهُ في صحة صومه؛ وليس الصوم ـ الذي يريده الله ويُعلق به التقوى ـ مما يَخفَى شأنه إلى هذا الحد الذي تراه بين الصائمين، وبينهم وبين المُفْتِينَ، والله وليُّ التوفيق والهداية.(1/149)
صرف الزكاة في بناء المساجد:
هل يجوز صرف الزكاة لبناء المساجد أو إصلاحها؟
إن المسجد الذي يُراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية، أو كان بها غيره ولكن يَضيق بأهلِها، ويحتاجون إلى مسجد آخر صحَّ شرعًا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه، والصرْف على المسجد في تلك الحالة يكون من المَصرِف الذي ذُكر في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم: "سبيل الله" (إنَّما الصدقاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمُؤلفة قلوبُهم وفي الرقاب والغارمينَ وفي سبيلِ اللهِ وابنِ السبيلِ).
وهذا مَبْنِيٌّ على اختيار أن المقصود بكلمة: "سبيل الله" المَصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافَّةً، ولا تَخُصُّ واحدًا بعيْنه، فتشمل المساجد والمُستشفيات ودُور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها ممَّا يعود نفْعه على الجماعة.
وأحبُّ أن أُقرِّر هنا: أن المسألة محلُّ خلاف بين العلماء، وقد قال الإمام الرازي في تفسيره، بعد أن ذكر بعض الآراء فيها: "واعلمْ أن ظاهر اللفظ في قوله: (وفي سبيلِ اللهِ). لا يُوجب القصْر على الغُزاة أو غيرهم، ولهذا نقَل القفَّال في تفسيره عن بعض الفقهاء: "أنهم أجازوا صرْف الصدقات إلى جميع وُجوه الخير من تكفين الموتَى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن سبيل الله عام في الكل". وهذا هو ما أَختارُه وأطمَئِن إليه، وأُفْتِى به، ولكن مع القيْد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد، وهو أن يكون المسجد لا يُغني عنه غيره، وإلا كان الصرْف إلى غير المسجد أولى وأحقَّ.(1/150)
زكاةُ محلِّ الفِراشة
كيف يُزكِّي "محل الفِراشة" الذي اشترى أدواتِه ومُعداته أثناء العام بقصد الاستثمار بتأجيره في الحفلات؟
مُوجز جوابنا: أن أعيان المحل، وأدوات الفراشة، من الأموال الثابتة التي تستغل كالمساكن والسيارات، وإذنْ تكون زكاتها فيما يُستفاد منها، لا في أعيانها ولا في قيمتها، وتكون من زكاة الأموال، يشترط في وُجوبها النصاب، وحَوَلانُ الحوْل، ويُحسب لها حول مُستقل، يَبتدئ من الوقت الذي تبلغ فيه الغلَّة النِّصاب، ولا علاقة لزكاته بزكاة محل "التجارة العام" التي تُبْنَى على جَرْدِ العُروض التجارية وتقويمها.(1/151)
الفروق بين الضرائب والزكاة:
جاءنا خطابٌ من مسلم فاضلٍ بالمنصورة، يتلخَّص في أنه يرى أن أرباب الأموال يدفعون من أموالهم فوق مقادير الزكاة، التي حددتها الشريعة إلى الحكومة باسم الضرائب والخراج، والحكومة تنفق ما تأخذه في مصارفها المبيِّنة في ميزانيتها، ويرى أن بعض هذه المَصارف من مصارف الزكاة، ويقول: فماذا ترون قد بقي في ذمة المُلاك من حق الزكاة؟ ويرى بذلك أن حاجة الفقراء التي يجب سدُّها على المسلمين الأغنياء أصبحت بهذا الوضْع في عُنق الحكومة التي لا سبيل لنا عليها؛ وكأنه يُريد أن يصل من ذلك إلى سقوط حق الزكاة عن الأغنياء، وإلى إلْقاء التبِعة في إهمال الفقير ـ الذي يُهدد الغنيَّ في حياته ـ على الحكومة، ويرجو أن يقرأ في ذلك بيانًا مُفصَّلًا يُرضي الله رسوله.
ويكفينا في هذا البيان المفصل الذي نلتمسه أن نقول:
لمعرفة حُكم الشرع في هذه المسألة يجب أن نعرف "أولًا" الأساس الذي بُنيت عليه فرضية الزكاة في الإسلام، والأساس الذي أُبيح به للحاكم المسلم أن يضع "ضرائب" على المالكين. فالزكاة أحدُ الفروض الدينية والأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام، فهي في وضْع الصلاة والصوم وشهادة التوحيد، مَدَدٌ يُغذي الإيمان ويُطهر النفوس، ويُؤَدِّيه المسلم بمُقتضى إيمانه وتدَيُّنه.
أما الضرائب فوَضْعُهَا وَضْعٌ آخر غير هذا الوضع، وهو أن الأمة المُمثَّلة في الحاكم، أو الحاكم المُمثِّل للأمة إذا لم يجد مالًا يُحقق به المصالح العامة للجماعة كإنشاء دُور التعليم، والاستشفاء، وتعبيد الطرق، وحفْر الترع ـ والمصانع، وإعداد العُدَّة للدفاع عن البلاد، ورأى مع هذا أن أغنياء الأمة، القادرين على المساعدة في إقامة هذه المصالح ـ قد قبضوا أيديهم ولم يَمُدُّوهَا بالبذْل والمعونة جاز له ـ وقد يجب ـ أن يضع عليهم من الضرائب ما يُحقق به تلك المصالح، دون إرهاق أو إعْناتٍ.(1/152)
وهذا فرقٌ آخر بين الضرائب والزكاة وهو أن مقادير الزكاة مُحدَّدة مُعينة بنصِّ الشارع، لا تزيد ولا تنقص عمَّا حدَّد الشرْع "2.5 في المائة" بالنسبة للنقد "والعشر أو نصفه" بالنسبة للزروع والثمار، أما الضرائب فقد ترتفع وقد تنخفض بل قد تُلْغَى أصلًا.(1/153)
الضرائب لا تُحسب من الزكاة:
وإذا كانت الزكاة من وضْع الله، وكانت فرضًا إيمانيًّا يجب إخراجها، وُجدتْ حاجة إليها أم لم توجد، وتكون في تلك الحالة بمَثابة موردٍ دائمٍ للفقراء والمساكين الذين لا تخلو منهم أُمة أو شعب، وكانت الضرائب مِن وضْع الحاكم عند الحاجة ـ كان من البيِّن أن إحداهما لا تُغني عن الأخرى، فهما حقَّانِ مُختلفان في مصدر التشريع، وفي الغاية، وفي المِقدار، وفي الاستقرار والدوام.
وعليه فيجب إخراج الضرائب وتكون بمَثابة دَيْنٍ شُغِلَ به المالُ، فإن بلغ الباقي نِصاب الزكاة وتحقَّق فيه شرطُها ـ وهو الفراغ من الحاجات الأصلية ومَرَّ عليه الحول ـ وجب دينيًّا إخراجُ زكاتِه.
وإذا كان الناس يُحِسُّونَ بشيء من الإرهاق في بعض ما يُفرض عليهم من ضرائب، فتبِعةُ ذلك لا ترجع إلى الفقير بحِرمانه من حقه الذي أوجبه الله له، وإنما سبيله مُطالبة الحكومة بالاقتصاد في مصارفها، ومحاسبتها على ما تجمع وتُنفق.
ومُحاسبة الحكومة على أعمالها العامة ممَّا تشهد به أصول الإسلام، وتقضي به المصلحة الاجتماعية العامة التي يضعها الدِّينُ في المكان الأول.(1/154)
الخراج وزكاة الزروع:
أما الخراج الذي تأخذه الحكومة على الأراضي الزراعية، فيرَى جمهور أئمة المسلمين أنه حقٌّ مُغاير لحقِّ الزكاة في دليله، وسببه، ومَصرفه، وحكمته، فلا يمنع أحدهما الآخر، وبالمُقارنة بين أدلة هؤلاء، وأدلة مُخالفيهم يتبيَّن جليًّا رجحان مذهب الجمهور، مع ملاحظة أن مُخالفيهم، لا يرون تأثير الخراج على كل أنواع الزكاة، وإنما يرون تأثيره خاصًّا بزكاة الزروع (راجع ما كتبناه في هذه المسألة في كتاب: "المقارنة بين المذاهب" المُقرر على طلبة كلية الشريعة بالأزهر الشريف).
أما زكاة الأموال وما إليها فلا تأثير للخراج عليها؛ لأنه غير متعلق بها وإنما يتعلق بالأرض التي يتعلق بها أو يزرعها العشر.
وإذا كان الاتجاه في الضرائب والخراج هو ما ذكرنا ـ وليس أحدهما مبذولًا بحكم الدين، وقضاء واجب النفس في التطهير من خُلُقِ الشُّحِّ، ولا بقضاء واجب الأُخوة الدينية التي أراد الله أن يستكمل بها إنسانية المؤمن ـ فلا ينبغي التفكير في مُحاولة اعتبارهما قائمينِ مقام الزكاة. فالزكاة فرضٌ ديني كالصلاة والصوم يجب من الإنسان مُحاسَبة نفسِه عليه متى ملَك النِّصابَ فارغًا ـ كما يقول الفقهاء ـ عن حاجته الأصلية.(1/155)
الزكاة حقُّ الزرع:
أما السؤال الثالث وهو: على مَن تجب زكاة الأرض المُستأجرة؟ فالرأي الذي نعتمده أنها على المُستأجر الذي يُباشر الزرع، والزكاة حقُّ الزرع، وهي ـ بعدُ ـ نوعٌ من الشكر على نعمة إنبات الزرع وسلامته؛ وبذلك كان المُستأجِر هو المُطالَب بإخراج زكاة الزرع المُستأجَرة.(1/156)
الزكاة في كل زرع وثَمرٍ:
هذا. وأُحب أن أُقرِّر في هذا المقام ـ وبمناسبة دخول الزراع في موسم الحصاد ـ أن الشريعة الإسلامية أوجبتْ زكاة الزروع والثمار في كل ما تُخرجه الأرض باستنبات الإنسان وعمله كيفما كان الزرع، وكانت الثمار. وقد جاء أصل هذه الزكاة على هذا الوجه العام في قوله ـ تعالى ـ: (وهُوَ الذِي أنْشَأَ جنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وغيرَ مَعْرُوشاتٍ والنَّخْلَ والزَّرْعَ مُختَلِفًا أُكُلُهُ والزيتونَ والرُّمَّانَ مُتشابِهًا وغيرَ مُتشابهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وآتُوا حَقَّه يومَ حَصَادِهِ). (الآية: 141 من سورة الأنعام). وفي قوله ـ تعالى ـ: (أنْفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ومِمَّا أَخْرَجْنَا لكمْ مِنَ الأرضِ). (الآية: 247 من سورة البقرة).
دلَّت الآيتانِ على أن الزكاة في كل ما تُخرجه الأرض ـ خراجيةً كانت يُدفع عليها مالٌ حكومي، أو عشرية لا يدفع عليها مال ـ قليلاً كان ما أخرجتْه الأرض أم كثيرًا، قوتًا كان كالحِنطة والأرز والذرة والعدس والفول، أمْ فاكهةً كالعنب والرمان والتفاح، أم خُضرًا كالخيار والبطيخ حتى الكرَّاث والبصل!
وقد بيَّنت السُّنَّة أن زكاة الزرْع هي عُشْر ما تُخرجه الأرض إذا سُقيت "بالراحة" أو نصفه إذا سُقيت بالآلة، وذلك في قوله ـ عليه السلام ـ: "فيما سَقتِ السماءُ العُشر".
وزكاة الزروع هذه ترتبط بالزراعة لا بالحوْل، حتى لو زُرعت الأرض أكثر من مرة في العام الواحد وجَب إخراج زكاة الزرع في كل مرةٍ اتَّحَدَ الصنف أم اختلف.
والتعميم في زكاة الزروع على هذا الوجْه الذي يُحقق معنى التكافُل الاجتماعي الذي يقصده الإسلام مِن مشروعية الزكاة، والتعميم الذي يقضي بعدم استئثار طائفةٍ مِن الناس بنَوْعٍ مِن نِعَمِ الأرض التي أعدَّها الله للزرع وامْتَنَّ بها على جميع عباده.(1/157)
الإيمان يفرض علينا جمع الزكاة:
وإنِّي أُناشد الزراع ـ والوقت وقت حصاد ـ أُناشدهم بحكم الإيمان أن يعملوا على إحياء هذه الفريضة، وأن يُحصي كل زارع منهم كل ما تُخرجه أرضه، ثم يخرج عنه حقَّ الله لعبادِ الله، ولو أُتيح لأهل كل قرية أن يكونوا من بينهم جماعة مُخلصينَ لله من رؤساء العائلات، تجمع الزكاة عن الزروع من أربابها، ثم يُحصَى فقراءُ القرية وعَجَزَتُها وتُوزَّع الزكاة عليهم توزيعًا مناسبًا لأسرة كل فقير أو عاجز، وأُتيح كذلك لأهل المدن تقسيم مُدنهم إلى مناطق كما رأيته في إحدى زياراتي لمدينة الفيوم، وقام أغنياء كل منطقة بمثل هذا الصنيع فيما يختصُّ بزكاة الأموال وعُروض التجارة ـ لو أتيح ذلك لأهل القرى والمدن، وتعرَّفوا إخوانهم الفقراء، وصرفوا إليهم زكاة أموالهم ـ لحقَّقوا بذلك اشتراكية الإسلام المُعمِّرة التي تُناديهم بحق أخيهم الفقير في العيش والعمل، ولاكتسبوا بذلك محبَّته إيَّاهم، وحرصهم على أموالهم؛ لأنهم يرونها أموالهم، ولَتَحَلَّوْا فيما بينهم بشعار الأُخُوَّة الإسلامية الذي ربط فقيرَهم بغنيِّهم، وكوَّنت به من جميعهم أسرةً إيمانيةً واحدة يُعنَى غنيُّها بشأن فقيرها، وقَوِيُّها بشأن ضعيفها: (ولوْ أنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بهِ لكانَ خَيْرًا لهمْ وأشَدَّ تَثْبِيتًا وإذًا لآتَيْنَاهُمْ مِن لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ولَهَدَيْنَاهُمْ صِراطًا مُستقيمًا). (الآيات: 66ـ 67ـ 68 من سورة النساء).(1/158)
زكاة الحُلِيِّ
تلقيتُ ثلاث رسائل يسأل أصحابها عن حُكم الزكاة في حُلِيِّ النساء، وعن كيفية الزكاة في عُروض التجارة، وعمَّن تجب عليه الزرع في الأرض المستأجرة. ويقول السائلون: إنهم سمعوا أجوبةً مختلفة في الموضوعات الثلاثة، ويُريدون الرأي الذي يطمئنون إليه.
وقد أجبتُ هؤلاء السائلين بالرأي الذي أعتقد أنه أوفَى بتحقيق الغرض المقصود من شرْع الزكاة، وأرجو أن يجدوا في الإجابة ما يُطمئنهم، وقد رأيتُ تعميمًا للانتفاع بهذه الأجوبة أن أُذيعها على السادة المستمعين في حديثنا هذا.
فحُلي المرأة إنْ كان المقصود مِن اتِّخاذه التَّزَيُّنَ كان مِن الحاجة الأصلية للمرأة؛ ولهذا لا تتعلَّق به زكاةٌ، أما إذا اتخذتْه المرأة كنْزًا وادِّخَارًا باسم الحلي ـ وإنما وضعتْه في يدها حفظًا له من الضياع ـ فقد صار نقدًا لم تتعلق به حاجة أصلية لصاحبه؛ وبهذا تجب فيه الزكاة، ولعلَّ هذا التفصيل يكون جمعًا بين الآراء المختلفة، وأخْذًا بالنصوص المروية في الموضوع.(1/159)
زكاة عُروض التجارة:
وأما عروض التجارة فالرأي الذي يجب التعويل عليه ـ وهو رأي جماهير العلماء مِن سلف الأمة وخلَفها ـ أنه تجب فيها الزكاة متى بلغت قيمتُها في آخر الحوْل نِصَابًا نَقْدِيًّا، ومعنى هذا أن التاجر المؤمن يجب عليه في آخر كل عام أن يُجرِّد بضائعه جميعًا، ويُقدِّر قيمتها، ويُخرج زكاتَها متى بلغتْ نِصابًا، مع ملاحظة أنه لا يدخل في التقدير المحلُّ الذي تُدار فيه التجارة، ولا أثاثُه الثابت.
وعُروض التجارة في واقعها أموالٌ مُتداولة بقصْد الاستغلال، فلو لم تجب الزكاة في الأعيان التجارية ـ والأموال عند كثير من الأمَم الإسلامية مصدرها الزراعة والتجارة ـ لتُرِكَ نِصْفُ مال الأغنياء دون زكاة، ولاحتال أرباب النصف الآخر على أن يتَّجِرُوا بأموالهم؛ وبذلك تضيع الزكاة جملةً، وتفوت حكمةُ الشارع الحكيم من تشريعها وجعلها رُكْنًا مِن أركان الدين.(1/160)
معنى الصدَقة:
سؤال يجري على ألْسنة كثيرٍ مِن المسلمين، الذين يُحبون أن تقع عباداتُهم، ووُجوه تقربُّهِم إلى الله على الوجْه الذي رسَم، وبيَّنه في كتابه، وشرَحه بالقول والعمل رسولُه.
والصدقة: اسمٌ لجُزْءٍ مِن المال يُخرجه الغنيُّ من ماله إلى إخوانه الفقراء، وإلى إقامة المَصالح العامة التي تتوقف عليها حياة الجماعة في أصلها وانتظامها.
وبالصدقة يُطهَّر المُجتمع بقدْر الإمكان من عدوِّ الإنسان القاهر وهو الفقر، وتتوثَّق عُرَى الأُلْفَةِ والمَحَبَّة بين الأغنياء وتَسْرِي بينهم روح التراحُم والتعاوُن، ويتبادلون الإحساس والشعور.(1/161)
الصدقة تُحقق أسمَى معاني الاشتراكية:
والصدَقة في نظر الإسلام: هي نقل الأمة بعض مالها من إحدى يديها ـ وهي اليد المُشرفة التي استخلَفها الله على حِفْظِهِ وتنميتِه والتصرُّف فيه، وهي يد الأغنياء ـ إلى اليد الأُخرى وهي اليد العاملة الكادحة التي جُعل رزقها فيه ومنه، وهي يد الفقراء، وهذا هو ما أراده القرآن حين قال: (وأَنْفِقُوا ممَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ). (الآية: 7 من سورة الحديد). وحين يقول: (وآتُوهُمْ مِن مالِ اللهِ الذي آتاكمْ). (الآية 33 من سورة النور). وأرادهُ الرسول حين قال لمُعاذ: "فإنْ همْ أطَاعُوا لذلكَ فأَعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عليهمْ صدَقةً في أموالهم، تُؤخَذُ مِن أغنيائِهِمْ وتُرَدُّ إلى فُقَرائِهِمْ".
تعبيرٌ واضح قويٌّ في تحقيق أسمَى معاني الاشتراكية العادلة، فها هو ذا يجعل افتراضَ الصدَقة على جميع الأمة، وأن الأموال التي تجب الصدقة فيها أموال جميع الأمة، وأن الإعطاء للفقراء، هو في فائدته الاجتماعية، إعطاء للأغنياءِ، وفي واقعه العمليّ رَدٌّ إلى الفقراء، حقٌّ لهم ليس مُتَفَضَّلًا بهِ عليهم، وهكذا نظر الإسلام إلى الصدقات.(1/162)
أنواع الصدقة:
والصدقة تشمل صدقة الأموال التي تجب في النقد التعامليِّ، وفي المواشي، وفي الزُّروع، وفي عُروض التجارة.
وتشمل صدقة الفِطْر التي يجب على المسلمين أن يتبادلوا بها الأخذ والإعطاء في نهاية شهر رمضان، شَرْحًا لصُدورِ الفقراء، وسَدًّا لحَاجَتِهِمْ، وإحياءً لنُفوسهم، وحِفْظًا لمَاءِ وُجُوهِهِمْ في أيَّام الفرَح والسُّرُورِ.
وتشمل صدقة الحاجة، وهي الصدقة التي يُوجبها الإسلام على الأغنياء في الأحوال التي لا تفي فيها الصدقات المَفروضة ولا ماليةُ الدولة بسدِّ حاجة المُعْوِزِينَ، وإقامة المَصالح الضرورية.(1/163)
حق الحاكم المسلم:
وللحاكم إذا لم تَدفع الأغنياء أرْيَحِيَّتهمْ للبذْل في تلك الأحوال، مُكتفين بالزكاة المَحدودة، أن يتدخل بسُلطانه في الأخذ منهم بالنسبة التي تدفع الحاجة الطارئة، وتُحقق العدالة، كما أن له ذلك إذا امتنعوا عن إخراج الزكاة المُحددة، وله أن يضع لجَمْعِهَا وتوزيعها نظامًا يَكِلُ تنفيذَه إلى الأقوياء الأُمناء العادلين، ولقد كان على ذلك سلَفُنا الصالح، وقاتَل الخليفة الأول على الزكاة حتى ركَّز بها الدولة وأرسَى قواعد الإسلام.(1/164)
الجهات التي تُصرف إليها الصدقات:
أما الجهات التي تُصرف إليها هذه الصدقات فقد تضمَّنت آية التوبة ـ وهي قوله ـ تعالى ـ: (إنَّما الصَّدَقَاتُ للفُقراءِ والمَساكِينِ والعاملينَ عليها والمُؤلَّفَةِ قُلوبُهمْ وفي الرِّقَابِ والغَارِمِينَ وفي سَبيلِ اللهِ وابنِ السَّبِيلِ). أن الصدقات تُصرف في جهتين أساسيتين: إحداهما، أشخاص لا يجدون ما يكفيهم في المعيشة ولا يقدرون على تحصيل ما به يَكتفون.
والأخرى مصالح ضرورية لابد منها في إقامة الدولة والدين. وقد ذكرت الآية من الأفراد الذين تُصرف إليهم الصدقات "الفقراء والمساكين" والوصفان يَدلانِ على الحاجة الحقيقية إلى ما يكفي المَعيشة، فمَن عنده ما يكفيه في معيشته ليس فقيرًا ولا مسكينًا، ومَن يَتَزَيَّا بِزِيِّ المُحتاجين ويحترف السؤال ـ عنوانًا على حاجته وهو في واقعه مُتكسب بماء وجهه ـ ليس فقيرًا ولا مسكينًا، والذي تدفعه الحاجة إلى السؤال فقيرٌ، والذي يمنعه تَعَفُّفُهُ مع حاجته فقيرٌ ومِسكين ينبغي أن يُتفَطَّن له.
والفقراء والمساكين هم أجدر الأفراد وأحقهم بالصدَقات. وقد جعل الإسلام لهم مع هذا حقًّا في أجزية الأخطاء التي يقع فيها المؤمنون، ككفَّارة اليمين والقتْل والإفطار.. إلخ.
وقد عُني القرآن بالحثِّ على إعطائهم عنايةً واسعة قوية. ثم هم الصنف الذي قلَّمَا يخلو منه مجتمع، وهم الصنف الذي يُهدد استمرارُ فقْرِه أُمَّته في أمنها واستقرارها.(1/165)
وذكرت الآية من الأفراد الذين تُصرف إليهم الصدقات "المؤلفة قلوبهم" : وهم قوم ضعُف إسلامهم، ويُخشَى ارتدادُهم، فتُدفع إليهم الصدقات تركيزًا لأقدامهم. وقد رأى بعض الفقهاء سقوط هذا الصنف بانتشار الإسلام وذُيوعه، والواقع أن ثَمة جهات يَحتاج المسلمون في دفْع الشر عنهم، أو جلْب الخير لهم إلى تأليفها. وقد يكون الذي يجري في جنوب الوادي وما يُشبهه ـ من جهود الإرساليات التبشيرية في اقتناص الوثنيينَ ـ أبرز ما يُرشد إلى وُجود هذا الصنف الذي يجب تأليفه تأليفًا يُنقذه من الأيدي، التي تعمل جاهدةً في سبيل قطْعه عن مُواطنيه، وسلْخه عن جنسيته ودين إقليمه وَجَوِّهِ.
وذكرتِ الآية مِن الأفراد الذين تُصرف إليهم الصدقات "ابن السبيل": وهو المسافر الذي انقطع عن بلده، واحتاج إلى المال في تَتْمِيمِ مُهمته.
ويصدق هذا الصنف في أيامنا هذه على الذين يتبرَّعون بالرحلات إلى البلاد الإسلامية؛ لدراسة أحوالها وتوثيق الروابط بين أهلها، والإنفاق على المصالح المشتركة، فهؤلاء يُصرف إليهم مِن الزكاة حتى يعودوا إلى بلادهم، وقد ذكرتِ الآية من الأفراد غير الفقير والمُؤلفة قلوبُهم وابن السبيل "العاملين عليها والغارمين".
أما العاملون عليها: وهم المُوظفون من قِبَل الحاكم لجمع الزكاة من الأغنياء، فقد كانوا مَوجودين حين كان للزكاة نظامُها الخاص الذي يُحصِّلها به ثم يُوزعها على حسب ما يرى من الجهات المُستحِقة.
أما الآن لهذا الصنف عندنا ما يصدق عليه.
أما الغارمون: وهم الذين لحقتهم ديون بسبب تحمُّلهم لتَبِعَات الإصلاح بين المسلمين، فقد كانت مَعونتهم عادةً عربية تدفع إليها المروءة ومَحبة السلام، وقد أقرَّها الإسلام، ولكن حُرِمَ منها المسلمون، فلا وجود لهم فيما بيننا الآن.
إنما الغارمون عندنا هم الذين لحقتْهم الدُّيُون بفساد أخلاقهم أو سوء تصرُّفهم، أو بعبثهم في الشراب والقمار.(1/166)
وإذنْ فالذين تُصرَف إليهم الزكاة مِن الأفراد الآن هم الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم وأبناء السبيل.
أما جهات المصالح التي تُصرف إليها الصدقات، فقد ذكرت منها الآية جهتين هامتين: إحداهما أعمُّ الجهات وأشملها لكل خير عام، وهي "في سبيل الله". والأخرى هي المذكورة بقوله: "في الرقاب" وقد كان أبرز ما تصدق عليه جهة الرقاب شراء الرَّقِيق بقصْد تحريره، أو مُساعدته في بذْل تحريره الذي يبذله لسيده، وقد انقرض هذا الصنْف بانقراض الرِّقِّ الذي عمِل الإسلام على انقراضه منذُ أعلن كلمته في الحرص على حرية الإنسان. ولكن قد حلَّ محله الآنَ رِقٌّ هو أشد خطرًا منه على الإنسانية، ذلكم هو رِقُّ الشعوب في أفكارها وأموالها وسُلطانها وحريتها في بلادها. كان ذاك رِقُّ أفرادٍ يَموتون وتَبقَى دُولهم، ولكن هذا رقُّ شعوبٍ وأمم، تَلِدُ شعوبًا وأُمَمًا، فهو رقٌّ عامٌّ دائم، وهو أجدر وأحقُّ بالعمل على التخلص منه، ورفْع ذُله عن الشعوب، لا بمال الصدقات فقط، بل بكل المال والأرواح.
أما الجهة الأخرى العامة المذكورة بقوله: (وفي سبيلِ اللهِ) فهي تشمَل سائر المصالح التي هي أساس الدين والدولة، وأوَّلها وأحقها الاستعداد الحربيُّ بجميع لوازمه، حتى المُستشفيات العسكرية، ومدُّ الخطوط الحديدية والقناطر، وما إلى ذلك مما يعرفه رجالُ الحرب والميدان.
ويدخل في هذه الجهة الإعداد لدُعاةٍ إسلاميينَ إعدادًا يُظهرون به جمال الإسلام وسماحته، ويدفعون بشُبَهِ الأعداء إلى صدورهم، كما يدخل فيه العمل على تحفيظ القرآن في جمعياته وأفراده، وإنشاء المساجد في الأحياء التي لا توجد فيها المساجد الكافية.
أما بعدُ:(1/167)
فهذه هي المبادئ العامة في فرْض الصدقات وأنواعها وحِكْمتها، والجهات التي تُصرف إليها، وقديمًا انفعلت نفوس المؤمنين بهذه الفريضة، وطَهَّرَ أغنياؤهم بها أنفسهم من الشُّحِّ، وطهَّر فقراؤُهم بها أنفسهم من الحِقْد، وكان الجميع إخوانًا مُتحابِّينَ في الله مُتعاونين، فحققوا المَصالح العامة، وأرهبوا بقوتهم الأعداء، وكانوا أصحاب الشروط والإملاء، فهل لنا أن نذْكر هذا الجهد، ونعمل مُعاونين على أداء حق الله في الأفراد والجماعات؟ أرجو أن يوفقنا الله.(1/168)
عدد آيات السجدة:
في ليلة قريبة كُنتُ في مجلس أخويٍّ، وكان معنا في المجلس قارئٌ فاضل، لقراءته روْعةٌ تأخذ بالقلب إلى سماء الرُّوحية الصافية، فطلبنا إليه أن يقرأ علينا شيئًا مِن القرآن، فقرأ علينا أواخر سورة الإسراء: (وبالحَقِّ أنْزَلْنَاهُ وبالحقِّ نَزَلَ. ومَا أَرْسلْنَاكَ إلَّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا وقُرآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ علَى الناسِ علَى مُكْثٍ ونَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا. قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى علَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأذْقَانِ سُجَّدًا ويَقُولونَ سُبحانَ رَبِّنَا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولَا ويَخِرُّونَ للأَذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعًا). وما كاد القارئ يصل إلى هذه الفاصلة حتى خلَع أحدُ الحاضرين نفْسه من جلسته وولَّى وجهه شطر القِبْلَة وكبَّر وخَرَّ ساجدًا، ثم رفع رأسه وعاد إلى مكانه في جِلْسَتِهِ الأُولَى، فأخذ المجلس برَوْعةٍ نَسَجَتْ عليه بَرْدًا مِن الصمت الرَّهِيب، ثم عاد القارئُ إلى قراءته حتى ختَم السورة.
وهنا عاد المجلس إلى المُذاكرة، وقد فَتحتْ لنا السجدة بابًا آخر غير الذي كُنَّا فيه، إذْ سأل بعضُ الحاضرين عن هذه السجدة، وعن صِفَتِهَا في المشروعات الدينية، وعن سبِبها، وعن حِكْمَتِهَا ومَواضعها من القرآن الكريم. وكان ممَّا قيلَ بيانًا لها، وإجابةً عمَّا وُجِّهَ في شأْنها من أسئلة ما يأتي:(1/169)
في القرآن الكريم آياتٌ لا يقل عددُها باتِّفاق المُحدثين والفقهاء عن عشْر آيات، ولا يزيد عددُها باتِّفاقهم ـ أيضًا ـ عن خمس عشرة آية، يأمر بعض هذه الآيات بالسجود للهِ ويُنكر بعضها على مَن سجد لغير الله. ويَحكي بعضها عمَّا في السماوات وما في الأرض وعن الملائكة، وعن المؤمنين سُجودهم لله. وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قرأ آية من تلك الآيات سجَد في نهايتها، وسجَد معه أصحابه السامعون، واستمر الأمر على ذلك إلى أن لحِق ـ صلى الله عليه وسلم ـ بربه، ودرَج عليها من بعده أصحابه والتابعون، حتى جاء أئمةُ الفقه فبحثوا أحكامها من أقوال الرسول وفِعْلِهِ، على نحو ما بحثوا سائر المشروعات العملية من عبادات ومُعاملات، وأفرَدوا لها بابًا مُستقِلًا، عُرف في جميع كتب المذاهب بباب: "سُجود التلاوة".(1/170)
حُكم السجود:
وقد اتَّفَقَ جميعُهم على أنها مشروعةٌ ومَطلوبة، وأعطاها بعضهم حكم الوُجوب وقرَّر أن ترْكها ـ مع العلْم بها، وتحقُّق سببِها وهو القراءة أو السماع ـ مُوجب للإثْم، شأن كل واجب إذا تُرك، ومَنَحَهَا البعض الآخر حُكم السُّنِّيَّة، ورأى أن ترْكها مُفَوِّتٌ لثواب السُّنن، وأن المُداومة على تركها مَظهر من مظاهر الجفْوة للمشروعات التعبديَّة الثابتة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.(1/171)
مواضع السجود في القرآن:
أما آياتها فهي كما جاءت في سُورها على حسب الترتيب المُصحفِيِّ قوله ـ تعالى ـ في آخر سورة الأعراف: (إنَّ الذينَ عندَ ربِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِهِ ويُسَبّحُونَهُ ولهُ يَسْجُدُونَ). (آخر آية بالأعْراف) وقوله في سورة الرعد: (وللهِ يَسجدُ مَن في السمواتِ والأرضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُمْ بالْغُدُوِّ والآصَالِ). (الآية: 2 من سورة الرعد).
وقوله في سورة النحل: (وللهِ يسجدُ ما في السمواتِ وما في الأرضِ مِن دابَّةٍ والملائكةُ وهمْ لا يَستكبرونَ). (الآية: 49 من سورة النحل) وقوله في سورة الإسراء: (قُلْ آمِنُوا بهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الذينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى علَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأَذْقَانِ سُجَّدًا ويَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنَا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا). (الآية: 107 ـ 108 من سورة الإسراء). وقوله في سورة مريم بعد أن قصَّ أنباء جملة من رُسله الكرام: (أُولئكَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ ومِمَّنْ حَمَلْنَا معَ نُوحٍ ومِن ذُريةِ إبراهيمَ وإسرائيلَ وممَّنْ هَدَيْنَا واجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عليهمْ آياتُ الرحمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا). (الآية: 58 من سورة مريم) وقوله في سورة الحج: (ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسجدُ له مَن في السمواتِ ومَن في الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ وكثيرٌ حَقَّ عليهِ العذابَ ومَن يُهِنِ اللهُ فمَا له مِن مُكْرِمٍ إنَّ اللهَ يَفعلُ مَا يَشَاءُ). (الآية: 18 من سورة الحج) وقوله في آخرها: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكُمْ وافْعَلُوا الخيْرَ لعلَّكم تُفلحونَ). (الآية: 77 من سورة الحج). وقوله في سورة الفرقان: (وإذا قِيلَ لهمْ اسْجُدُوا للرحمنِ قالُوا ومَا الرحمنُ أنَسْجُدُ لمَا(1/172)
تَأْمُرُنَا وزَادَهُمْ نُفُورًا). (الآية: 60 من سورة الفرقان) وقوله في سورة النمل بعد حديث الهُدهد عن ملكة سبأٍ: (ألَّا يَسجُدُوا للهِ الذي يُخرجُ الخَبْءَ في السمواتِ والأرضِ ويَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ ومَا تُعْلِنُونَ اللهُ لا إلهَ إلَّا هوَ ربُّ العَرْشِ العَظيمِ). (الآية 25ـ 26 من سورة النمل).
وقوله في سورة السجدة: (إنَّمَا يُؤمنُ بآيَاتِنَا الذينَ إذَا ذُكِّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا وسَبَّحُوا بحَمْدِ رَبِّهِمْ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ). (الآية: 15 من سورة السجدة) وقوله في قصة داود من سورة ص: (وظَنَّ داودُ أنَّمَا فَتَنَّاهُ فاسْتَغْفَرَ ربَّهُ وخَرَّ راكِعًا وأَنَابَ). (الآية: 24 من سورة ص) وقوله في سورة "فُصِّلتْ" (ومِن آياتِه الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ لا تَسْجُدُوا للشمسِ ولا للْقَمَرِ واسْجُدُوا للهِ الذي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنتمْ إيَّاهُ تَعْبُدونَ فإنِ اسْتَكْبَرُوا فالذينَ عندَ رَبِّكَ يُسبِّحُونَ لهُ بالليلِ والنَّهَارِ وهُمْ لا يَسْئَمُونَ). (الآية: 37 ـ 38 من سورة فصلت) وقوله في سورة النجم: (أفمِن هذا الحديثِ تَعجبونَ وتَضحكونَ ولا تَبْكُونَ وأنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا للهِ واعْبُدُوا). (الآيات: 59 ـ 62 من سورة النجم). وقوله في سورة الانشقاق: (فلا أُقْسِمُ بالشَّفَقِ والليلِ ومَا وَسَقَ والقمرِ إذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ فمَا لهُمْ لا يُؤمنونَ وإذَا قُرِئَ عليهمُ القرآنُ لا يَسْجُدُونَ). (الآيات 16 ـ 21 من سورة الانشقاق). وقوله في سورة العلق: (اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ). (كلَّا لَئِنْ لمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ ناصيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةُ كلَّا لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ). (الآيات 15 ـ 19 من سورة العلق).(1/173)
هذه آيات السجدة على أكثر عددها، وقد وُضع لها في هامش الطبعة الأخيرة من المُصحف علاماتٌ واضحة، تُرشد إلى ما أجمع الأئمة على السجود فيه، وإلى ما اختلفوا فيه، وبيان المذهب المُخالف، وهي تُؤدَّى بسجدةٍ واحدة بين تكبيرتينِ، إحداهما حين الهُوِيِّ لوَضْعِ الجبهة على الأرض. والأُخرَى حين الرفْع للانتهاء دون تشهُّدٍ ولا تسليمٍ، وأفضل ما يُقال فيها بعد تسبيح السجود المَعهود ما روتْه السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ: "كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في سجود القرآن: "سجَد وجهي للذي خلَقَهُ، وشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ". ويجب أن يكون السجود ـ بحُكم نظام التوجُّه العام في الإسلام ـ إلى جهة القِبْلة، كما يجب ألَّا يكون الساجد على جَنابة، واشترطت المذاهب المشهورة "طهارة الوُضوء" واستظهر بعض الفُقهاء، تبعًا لبعضِ الروايات، أنه لا يُشترط الوضوء، وفي هذا الرأْيِ يُسْرٌ عظيمٌ يتمشَّى مع يُسْر الإسلام وسُهولته، وإن كان الوضوءُ أحبَّ وأولَى، ومن هنا كان الوضوء سلاح المُؤمن.(1/174)
الحكمة من السجود:
أمَّا حِكْمَةُ هذا السجود فهي على وجهٍ عام نوع من التربية العملية الروحية، يُفاجأُ بها المؤمن كلَّما قرأ القرآن أو سمعه في أيِّ وقت وفي أيِّ مكان. وهذا اختبار لدرجة استعداده لإجابة الدعوة عَمَلِيًّا في الخُضوع لله، وإسلام الوجه إليه؛ فيكون المؤمن بالنسبة لله "وله المثلُ الأعلَى" كالجندي تُفاجئه رؤيةُ قائده، فيَنسلخ بمُجرد رؤيته من نفسه ويَبذل له التحية المَرسومة عن طوْعٍ واختيار، رمزًا للطاعة والامتثال.
وفيها بعد ذلك المُسايرة لرُوح العبودية العام، الذي سُخِّرَ الكوْنُ عليه، ناطقُه وصامتُه، عُلْوِيُّهِ وسُفْلِيُّهِ، والمُسارعة إلى الإعلان العملي بتخصيص السجود لله، دون أرباب العظمة الآفلة الفانية، (لا تَسْجُدُوا للشمسِ ولا للقمرِ واسْجُدُوا للهِ الذِي خَلَقَهُنَّ). (ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسْجُدُ لهُ مَن فِي السمواتِ ومَن فِي الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ).
وفيها التلبية لمُقتضى العلْم والإيمان، والتشبُّه بالملأ الأعلَى الدائم السجود لله، (إنَّ الذين أُوتُوا العلْم مِن قبلِه إذا يُتلَى عليهمْ يَخِرُّونَ للأذقانِ سُجَّدًا). (إنَّ الذينَ عندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ ويُسَبِّحُونَه ولهُ يَسْجُدُونَ).(1/175)
وفيها مُراغمةُ المُلحدين الذينَ (إذا قيلَ لهمُ اسْجُدُوا للرحمنِ قالُوا وما الرَّحمنُ)؟ وأخيرًا فيها المبادرة إلى التأسِّي بالرسول في قُوة إعراضه عن المُكذبين، وائتماره بالسجود لله، ومُتابعة الأنبياء والسير في طريقهم، إظهارًا لوَحْدة الدين عند الله (كلَّا لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ). (أُولئكَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ ومِمَّنْ حَمَلْنَا معَ نُوحٍ ومِن ذُريةِ إبراهيمَ وإسرائيلَ وممَّنْ هَدَيْنَا واجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عليهمْ آياتُ الرحمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا).(1/176)
معنى السجود معروف:
هذه هي سجدة التلاوة ومكانتها في التشريع، وتلك آياتها وحِكمة مشروعيتها، وقد اتَّضح أن السجود الوارد في تلك الآيات ليس معناه فقط ـ كما يُريد أرباب التحلُّل ـ مجرد الخضوع والتسليم القلبيِّ الخفِيِّ دون أن يكون له بالأعضاء مَظهر يدلُّ عليه. وإنَّ مَن يُفسره بذلك ولا يرى سُجودًا عمليًّا مَطلوبًا فقد اقتحم حُرمة عبادةٍ عُرفتْ مَشْرُوعيَّتُها عن الرسول، وتواترت بصفتها الشرعية، وتلقَّاها خلَفُ المسلمين المُتفقِّهينَ في دِينهم عن سلَفهم الصالح، واتَّضح أنها شِعارٌ عمليٌّ عام للمؤمنين، يُوجَد مثله عند كثير مِن الطوائف والجماعات، ذات المبادئ الخاصة، والاتجاهات المُعيَّنة، إعلانًا لمبادئهم وتقديسًا لمُعتقداتهم.
وجدير بشريعة الله أن تتَّخذ السجود لله رمزًا لأسمَى العقائد وأقواها أثَرًا في الحياة، وهي عقيدةُ التوحيد المُطلق للهِ الواحد القهَّار.(1/177)
تطهير بيوت العبادة:
في بعض المساجد تُوجد أضرحةٌ ومقابرُ، فما حُكم إقامتها؟ وما حكم الصلاة إليها؟ والصلاة فيها؟
شُرعت الصلاة في الإسلام لتكون رِباطًا بين العبد وربِّه، يقضي فيها بين يديه خاشعًا ضارعًا يُناجيه، مُستشعرًا عظمته، مُستحضرًا جلالَه، مُلتمسًا عَفْوَهُ ورِضاه؛ فتسمو نفسه، وتزكو روحه، وترتفع هِمَّتُه عن ذُلِّ العبودية والخضوع لغير مَوْلاه (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
وكان من لوازم ذلك الموقف، والمُحافظة فيه على قلب المُصلِّي، أن يخلص قلبه في الاتجاه إليه ـ سبحانه ـ وأن يُحال بينه وبين مشاهدَ مِن شأنها أن تبعث في نفسه شيئًا مِن تعظيم غير الله، فيصرف عن تعظيمه إلى تعظيم غيره، أو إلى إشراكِ غيره معه في التعظيم.
ولذلك كان مِن أحكام الإسلام فيما يختصُّ بأماكن العبادة تطهيرها من هذه المشاهد (وعَهِدْنَا إلَى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ). (الآية: 125 من سورة البقرة)، (وإذْ بَوَّأْنَا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أنْ لا تُشْرِكْ بِي شيئًا وطَهِّرْ بَيْتِيَ للطائِفينَ والقَائمينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ). (الآية 26 من سورة الحج) (إنَّمَا يَعْمُرُ مساجدَ اللهِ مَن ءَامَنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ وأقامَ الصلاةَ وآتَى الزكاةَ ولمْ يَخْشَ إلا اللهَ). (الآية: 18 من سورة التوبة). (وأنَّ المَساجدَ للهِ فلا تَدْعُوا معَ اللهِ أحَدًا). (الآية: 18 من سورة الحج).(1/178)
تسرُّب الشِّرْكِ إلى العبادة:
وما زَلَّ العقل الإنساني وخرج عن فطرة التوحيد الخالص ـ فعبَد غير الله، أو أشرك معه غيره في العبادة والتقديس ـ إلا عن طريق هذه المَشاهد التي اعتقدَ أن لأربابها والثَّاوِينَ فيها صلةً خاصةً بالله، بها يَقْرُبونَ إليه، وبها يَشْفَعُونَ عنده؛ فعظَّمها واتَّجه إليها، واستغاث بها، وأخيرًا طافَ وتعلَّق، وفعَل بين يديها كل ما يفعله أمام الله من عبادةٍ وتقديس.(1/179)
لا تتخذوا القبور مساجد:
والإسلام من قواعده الإصلاحية أن يَسُدَّ بين أهله وذرائعِ الفساد، وتطبيقًا لهذه القاعدة، صحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخِذون قُبور أنبيائهم وصالحيهم مساجدَ، ألَا فلا تَتَّخِذُوا القُبورَ مساجدَ، إنِّي أنْهَاكمْ عن ذلك". نهَى الرسول، وشدَّد في النهْي عن اتِّخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وذلك يَصْدُقُ بالصلاة إليها، وبالصلاة فيها، وأشار الرسول إلى أن ذلك كان سببًا في انحراف الأمم السابقة عن إخلاص العبادة لله، وقد قال العلماء إنه لمَّا كثُر المسلمون، وفكَّر أصحاب الرسول في توسيع مسجده، وامتدت الزيادة إلى أن دخلتْ فيه بيوت أمهات المؤمنين، وفيها حُجرة عائشة، مَدْفَنُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبيْه أبي بكر وعمر فبَنَوْا على القَبْر حيطانًا مرتفعة تدور حوله مَخافة أن تظهر القبور في المسجد فيُصلي إليها الناس، ويقعوا في الفِتْنة والمَحظور.(1/180)
واجب المسلمين نحو الأضْرحة:
وإذا كان الافتتان بالأنبياء والصالحين، كما نراه ونعلمه، شأن كثير من الناس في كل زمان ومكان، فإنه يجب ـ مُحافظةً على عقيدة المسلم ـ إخفاء الأضْرحة من المساجد، وألَّا تُتَّخَذَ لها أبوابٌ ونوافذُ فيها، وبخاصة إذا كانت في جهة القبلة. يجب أن تُفصل عنها فصلًا تامًّا بحيث لا تقع أبصار المُصلين عليها، ولا يتمكَّنون من استقبالها وهم بين يدي الله، ومن بابٍ أولَى يجب منْع الصلاة في نفس الضريح، وإزالة المَحاريب من الأضرحة.
وإنَّ ما نراه في المساجد التي فيها الأضرحة، ونراه في نفس الأضرحة، لمَا يبعث في نفوس المؤمنين سرعة العمل في ذلك، وِقايةً لعقائد المسلمين وعباداتهم من مظاهر لا تَتَّفِقُ وواجبَ الإخلاص في العقيدة والتوحيد، ومِن هنا رأى العلماء أن الصلاة إلى القبْر أيًّا كان مُحرَّمةٌ، ونُهِيَ عنها، واستظهر بعضهم بحُكم النهي بُطلانها؛ فليتنبَّه المسلمون إلى ذلك، وليُسرع أولياء الأمر في البلاد الإسلامية إلى إخلاص المساجد للهِ كما قال الله: (وأَنَّ المَساجدَ للهِ فلا تَدْعُوا معَ اللهِ أحَدًا).(1/181)
مكانة الجمعة في الإسلام:
نرى في المساجد يوم الجمعة مَظاهرَ لتَصَرُّفاتٍ سيئة لا تَلِيقُ بجلال المسجد، نرجو من فضيلتكم أن تكتبوا عن الآداب التي يجب أن يرعاها المسلمون حين يدخلون بيوت الله.
قال ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ للصلاةِ مِن يَوْمِ الجُمعةِ فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلكُمْ خيْرٌ لكُمْ إنْ كنتمْ تَعلمونَ. فإذا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأرضِ وابْتَغُوا مِن فضْلِ اللهِ واذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعلَّكمْ تُفْلِحُونَ). (الآية 9ـ 10 من سورة الجمعة).
وهكذا يجمع الله للمُؤمنين بين الدين والدنيا، بين عبادة ربِّهم والسعْي على رِزقهم، ولا يتركهم للدين يأخذهم من الدنيا، ولا للدنيا تأخذهم من الدِّين، بل يُكلفهم الأمرين معًا، ويجعلهما سبيل فلاحِهم وسعادتهم، ويجعل دعوتَهم وشعارَهم: "رَبَّنا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ). (الآية: 200 من سورة البقرة).
والجمعة هي تِلكم الفريضة الأسبوعية التي يجتمع لها المُؤمنون بشعورٍ واحد في زمن واحد. يَخلعون أنفسهم ساعة مِن دُنياهم، يَفْرُغونَ فيها لربهم، فيُناجونه ويستحضرون عظمته، ويلتمسون منه العفْو والرِّضا، ويستمطرونه الحوْل والقوة. ثم يسمعون المَواعظ المُرقِّقة للقلوب، المُهذِّبة للنفوس، المُرْشدة إلى وُجوه السعادة في الدنيا والآخرة (وَلوْ أنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لكَانَ خَيْرًا لهمْ وأشدَّ تَثْبِيتًا وإذًا لآتَيْنَاهُمْ مِن لَدُنَّا أجْرًا عظيمًا ولَهَدَيْنَاهمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا). (الآيات 66ـ 67ـ 68 من سورة النساء).(1/182)
وقد تضافرت كثرةٌ من أحاديث الرسول ـ عليه السلام ـ بعد نزول القرآن فيها والأمر بالسعْي إليها، والتخلِّي لأجلها عن شئون الدنيا ـ على التحذير من تركها والتهاون في شأنها، وكان منها قوله ـ عليه السلام ـ في قومٍ يتخلَّفون عنها: "لقد هممتُ آمرَ رجلًا يُصلي بالناس، ثم أُحرِّق على رجال يتخلَّفون عن الجُمعة بُيوتَهم". وقوله فيمَن يتركها بغير عُذْر شرعيٍّ "مَن ترك الجمعة ثلاثًا مِن غير ضرورة طبَع الله على قلبه".(1/183)
شِعار الرابطة الإسلامية:
وقد اعتبر الإسلام في صحة الجمعة وحدة الزمن والمكان؛ ليكون الاجتماع لها وسيلةً مِن وسائل التعارُف والتعاون والاتحاد وجمع الكلمة، وهي أول عبادة وضَعها الإسلام في شعار الرابطة الإسلامية، والأُخوة الدينية، وهي كذلك أول ما وضعه من الشعائر العملية لمبدأ المساواة الذي قرَّره بين مُعتنقيه، وألْغَى به التفاضل بينهم إلا بالتقوَى والعمل الصالح، وكان شعار الرابطة والمساواة ـ أيضًا ـ فيما طلب من عباداتٍ، على وجهٍ أعمَّ ونطاق أوسعَ صلاة العيدين، واجتماع الحجيج في بيت الله وعرَفة من كل عامٍ.(1/184)
المسجد:
أمَّا المسجد، فهو ذلكم المكان الذي أُعِدَّ لهذا الاجتماع، وقد كان إنشاؤه أول ما اتَّجهتْ إليه عناية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد وُصوله إلى المدينة، أنشأ مسجده الجامع ليَضُمَّ شَتَاتَ المسلمين، ولتُقام فيه الصلوات في صورة جماعية رائعة وقد درَج المسلمون بعده على سُنة بناء المساجد والعِناية بها.
وقد نَوَّهَ الله بشأنها وأضافها إلى نفسه، تشريفًا وتكريمًا، وجعلها بيْتَه، خاصًّا به، لا يُذكر فيه أحدٌ سِواه، ورفع قدْرها بما أُعِدَّتْ له مِن عبادته وتقْديسه (في بُيوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ ويُذكرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لهُ فيها بالغُدُوِّ والآصَالِ. رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فيهِ القُلوبُ والأبصارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا ويَزِيدَهُمْ مِن فَضْلِهِ). (الآيتان: 36 ـ 37 من سورة النور).
ثم ربط القلوب بها وبآثارها الطيِّبة التي يجب أن يحرص عليها المسلمون ضمانًا لروابطهم وحُسْن عباداتهم (إنَّمَا يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَن آمَنَ باللهِ واليومِ الآخرِ وأقامَ الصلاةَ وآتَى الزكاةَ ولمْ يَخْشَ إلَّا اللهَ فعَسَى أُولئكَ أنْ يَكُونوا مِنَ المُهْتَدِينَ). (الآية: 18 من سورة التوبة). (وأنَّ المساجدَ للهِ فلا تَدْعُوا معَ اللهِ أحَدًا). (الآية 18 من سورة الجن) هذا هو المسجد، وهذه هي الجمعة. واحترامهما والحمد لله لا يزال باقيًا في نفوس المسلمين، يتوارثونه الجيلَ بعد الجيلِ، والأبناء بعد الآباء وليسوا ـ فيما نرى ـ بحاجة إلى ما يبعث في قلوبهم ذلك الاحترام الذي نرى آثاره بادية على وُجوهِ مَن لا يعرفون المسجد، ولا يهتمون بصلاة الجمعة إلا في مناسبات خاصَّة!!(1/185)
أدب المسجد والجُمعة:
وقد كان المسجد وصلاة الجمعة بهذا الوضع من أقوى ما يُعِدُّ النفوس لتلقِّي الإلْهامات الروحية، التي تُضيء للمؤمنين سبيل الهداية والتوفيق، غير أن بعض المظاهر كثيرًا ما نُشاهدها تحدث في المسجد، في صلاة الجمعة، على وجه خاصٍّ، وأخشى أن يكون لها تأثير سيئٌ فيما يُرَوِّجُونَ مِن إخلاص العبادة لله والتوجُّه إليه ـ سبحانه ـ وحده.
ومِن هنا أوجب الإسلام أن يسود في المساجد مظهر الخُشوع والسَّكِينة، والبعد عمَّا يُكَدِّرُ صَفْوَ الرُّوحية التي يَسْعَوْنَ إليها ويلتمسونها بالصلاة الجامعة.(1/186)
مظاهر لا تليقُ بجلال المسجد:
وحرصًا على هذا الأدب لا ينبغي أن يُتَّخَذَ منها مَسرحٌ للتسوُّل، وبيْع المجلات والكتب، تُخترق فيها الصفوف، وتُوزع على المُصلِّين أوراق التسوُّل والمجلات والإعلانات التجارية والطبية، ثم تُجمع ويُنتقل بها مِن صَفٍّ إلى صفٍّ، وهكذا يُشغَل المُصلون بهذه الحركات عن حُسْنِ تَوَجُّهِهِمْ إلى الله، حتى إقامة الصلاة.
ولا ينبغي أن تنطلقُ فيها الأصوات المُزعجة المُفَرِّقَة للقلب عقب الصلاة بحذاءٍ فُقِدَ، أو مِسْبَحةٍ سقطت، أو منديل ضاع، أو قراءة فاتحة لصاحب الضريح، أو غير ذلك ممَّا يَصرِف الناس عن تنسُّم طمأنينة الصلاة، أو آداب سُنَّتِهَا، أو خَتْمِهَا كما ورد بالتسبيح والتحميد والتكبير، وصحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه حذَّر من الْتماس الضالَّة في المساجد، "والضالة الشيء المَفقود"، وأمر بالدعاء على مَن يلْتمسها، قولوا له: "لا رَدَّهَا اللهُ عليكَ". فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا.
ولا ينبغي أن تُتَّخَذَ ميدانًا للجدل الصاخب، يُثيره مُتَفَيْهِقٌ ثَرْثارٌ في شأنٍ لا تُعرف مشروعيته أو عدم مشروعيته إلا مِن رجال النظر والاختصاص في الفقْه وشئون العبادة.
ومِن أمثلة ذلك ما كَتب إليَّ فيه بعض المُقيمين في القُرى ويقول:(1/187)
"قد أخذتِ الناسَ فيه عاصفة حاجة من الجدل، وصَلَتْ بهم إلى المعارك المادية في بيت الله، وحرمة الصلاة" وكان من تلك المسائل: "صلاة الظهر ينفرد بإقامتها بعض المُصلِّين عقِب سلام الإمام من صلاة الجمعة مباشرةً". ومنها: "الأذان الذي يُفعل بين يديِ الخطيب داخل المسجد بعد صُعود المنبر". ومنها: "قراءة سورة الكهف بصوت مرتفع قبل الصلاة"، وخاصة إذا كانت مِن قارئٍ يعمد في قراءته إلى تطريب النَّغَم، فترتفع الأصوات بكلمات الاستحسان، إلى حدِّ أن يتخيَّل مُستمعو المذياع أنها أصوات تنبعث من أحد الملاهي، أو إحدى حفلات السمَر، وما هي إلا في بيت الله، ومجتمع المناجاة وبقراءة القرآن؟؟
ولا ينبغي أن يُهرَع المُصلُّون عقب السلام مباشرة إلى حمْل أحذيتهم، مُتزاحمين على باب المسجد، مُتدافعين مُتسابقينَ إلى الخروج، شأن الفارِّينَ مِن سجْن طالتْ إقامتهم فيه، وضاقت بهم سُبل التخلُّص منه، ثم جاءهم الفرَج، وفاجأتهم ساعةُ الخروج. وهم ما كانوا إلا في المُناجاة، وتطمين القلوب بذِكْرِ الله.
هذه بعض مظاهرَ، يجب تطهير المسجد ـ وهو مكان الصلاة الجامعة ـ منها. وإن جلال الشخصية الدينية، والانتفاع بثمرات الصلاة لَمُرتبطٌ كل الارتباط بمُراعاة ما يُقَوِّمُ تلك الشخصية ويحافظ عليها ويبعد بها عن المُؤذيات وما يَصرف عن تذكُّر الله، وقد كان مِن وصايَا الرسول في ذلك أنْ طلَب من المؤمنين الاغتسال ليوم الجمعة، وجعل أكْل الثوم والبصل ـ مثلًا ـ لكلِّ مَن به رائحة كريهة مُؤذية، وحذَّرهُ من قربان المسجد وشُهود الجماعة، وصحَّ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: "كان الناس ينتابون "يأتون" الجُمعة من منازلهم، ومن العوالي "القُرى" في العَباء، فيُصيبهم الغبار والعرق فتَخرج منهم الرِّيح، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لو أنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ ليَوْمِكُمْ هذا؟".(1/188)
وإذا كان المسجد هو مكان الاجتماع الإسلامي، فإن ما يُطلب فيه من التطهر والطيب شأن كل مُجتمع فاضل في نظَر الإسلام.
وكان مِن وصاياه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أيضًا في صلاة الجمعة، ومثلها كل جماعة، التحذيرُ من تخطِّي الرِّقاب.
وكان مِن وصاياه الخاصة بالخُطباء التحْذير من إطالة الخُطبة.(1/189)
الطمأنينة القلبية:
وبعدُ، فليس من شك في أن الطمأنينة القلبية، التي يلتمسها المسلم من صلاته ومن حضوره المسجد، لا سبيل لها إلى القلوب إلا في جوِّ الهدوء والسكينة وخُلوص الفكر لله، وانْفعال النفس بجلاله وعظمته. وليس من شكٍّ أيضًا في أن كل ما يُؤذي ـ رائحةً أو حركةً أو منظرًا ـ ممَّا يعوق سيْرها إلى القلوب، ويجعل الصلاة وحضور المسجد مجرد شأنٍ تقليديٍّ، لا حظَّ للروح فيه، والمؤمن يجب أن يكون فاقِهًا بعِبادته، جادًّا في عمله حريصًا على خيره، مُلتمسًا رضَا ربه.
(قدْ أفْلَحَ المُؤمنونَ. الذينَ همْ في صلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. والذينَ همْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ). (الآيات 1ـ 2ـ 3 من سورة المؤمنون).(1/190)
تشريع بما لم يأْذن به الله:
نَشرت الجمهورية في السابع من أبريل لسنة: 1955 قرارًا يختصُّ بصلاة الجمعة بمديرية التحرير يشتمل هذا القرار على أُمور، أولها: أن تكون صلاة الجمعة إجبارية على النِّساء.
ثانيها: أن تُقام لهن في الساعة العاشرة إلى الحادية عشرة.
ثالثها: أن تُقام بعد انصرافهن للرجال في وقتها المُعتاد.
ويلزم هذه الأمور الثلاثة أمر رابع: وهو أن يُدْعي لصلاة الجمعة وتقام في اليوم الواحد، والمكان الواحد مرتينِ، مرة للنساء، ومرة للرجال، لا يفصل بينهما إلا ساعةٌ، فيها ينصرف النساء ويدخل الرجال، وقد أغفل القرار رسْم طريقة التنفيذ لجبْرية الجمعة على النساء.
والقرار في جملته يُذكِّرنا بما يُتخذ في معابد بعض الطوائف، وفي بعض شواطئ الاستِحمام من تخصيص وقت للسيدات وآخر للرجال.
وقد يكون هذا مقبولًا في الشئون الإنسانية التي مُنح الإنسان حقَّ تنظيمها بمُقتضى ما يُقدر من مَصالح، أما في العبادات التي يرجع المسلمون في أصلها ووقتها وتنظيمها، اجتماعًا وافتراقًا إلى الله وحده، فإنه يُدركُني كثيرٌ من الوجَل إذا قرأت فيها قرارًا مثل هذا.
وذلك أن تقرير "إجبارية النساء على صلاة الجمعة" تشريع لإِيجابها عليهنَّ، وهو تشريع وردتِ الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنَفْيِه، وبهذه الأحاديث انعقد الإجماع على عدَمه، وإذنْ، يكون تشريعُه تشريعًا بما لم يأذنُ به الله.(1/191)
ليس للنساء جُمعة خاصة:
أما التفريق في الوقت أو في المكان في صلاة الجمعة بين الرجال والنساء، فقد أجمع المسلمون سلفًا وخلفًا على أنه لا يُقام فيها للنساء صلاة خاصةٌ، وإنما يُصلِّينَ ـ إذا أردْنَ صلاة الجمعة ـ مع الرجال في جماعة واحدةٍ، خلْف إمام واحد، بخُطبة واحدة، في وقت واحد، ومكان واحد، غير أنهنَّ يقِفْنَ خلْف الرجال، وقد عُهِد ذلك في الصلوات الخمس وصلاة العِيدينِ والحج، ومن مزايا الإسلام إفراغ الوحدة على جماعة المسلمين في عبادتهم العامَّة، وإلغاء الفوارق الشخصية في مقام الخشْية، والوُقوف بين يديِ الله عالِم السِّرِّ والنجْوَى، وإذنْ يكون التفريق بين الرجال والنساء في صلاة الجمعة، مكانًا وزمانًا، تشريعًا آخر بما لم يأذن به الله.(1/192)
لَمْ تُشرع إقامة الجمعة مرتينِ:
والدعوة إلى إقامة الجمعة مرتينِ، في مكان واحدٍ ووقت واحد، في جماعتينِ بخُطبتين لم تُعهد في حاضر الإسلام ولا ماضيه، ولم يُعرف لها سند في أصل التشريع؛ وإذنْ، تكون هذه
الثالثة ـ أيضًا ـ تشريعًا بما لم يأذنْ به الله.
أما صلاة الجمعة قبل الظهر، فهِي وإنْ كانت قولًا منسوبًا إلى الإمام أحمد بن حنبل فإن المأثور ـ عن جمهور الصحابة والتابعين ومَن بعدهم مِن جماهير الأئمة ـ أنهم مُتفقون على أن وقت الظهر شرْط لصلاة الجمعة، وقد جاء في كتب الحنابلة أنفسهم: "وإذا زالتِ الشمسُ يوم الجمعة، صعَد الإمام على المِنْبَر" ووجَّه شُرَّاحهم ذلك: بأن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفعله وساقُوا الأحاديث الصحيحة في أنه ـ عليه السلام ـ كان يُصلي الجمعة حين تميل الشمس، وقالوا ـ في اختيار العمل بمذهب الجمهور وتفضيله ـ: إن في صلاتها بعد الزوال، خروجًا من الخلاف، فإن علماء الأمة اتَّفقوا على أن ما بعد الزوال وقتٌ للجمعة، وإنما الخلاف فيما قبله، أي الواجب في العبادة الاحتياط وإيقاعها على الوجه المُتفَق على مشروعيته دون المُختلف في صحته، وعلى هذا جرى العمل في جميع الأقطار الإسلامية، عملًا بقاعدة التيقُّن في صحة العبادة، وتحقيقًا لمَظهر الوحدة التي يعمل الإسلام عليها في جميع تشريعاته.
ومِن هنا يتبيَّن أن رأي الإمام أحمد بن حنبل في جواز تقديم صلاة الجمعة على الزوال إنما هو مُجرد رأيٍ نظريٍّ، لم يأخذ صِبْغَةً عمليةً عامَّةً في عهد سابق ولا عهد لاحق، والمُتتبِّع لآراء الفقهاء في كثير من المسائل يرى أن لكثيرٍ منهم آراء نظرية، جرى العمل ـ حتى من أصحابها ـ على غيرها، أخذًا بالأحْوط، وعملًا على الوحدة التي هي من مقاصد الإسلام، والتي يُحققها رأْيُ الأكثرية.(1/193)
على أن الإمام أحمد حينما رأى جواز صلاة الجمعة قبل الزوال لم يرده، ولم يره على هذا النحو من التفريق، فتُقام في المكان الواحد، مرة قبل الزوال لطائفة، ومرة أخرى في المكان نفسه لطائفة ثانية، وإنما يُريد كالمُتبِع أن جماعةً في مكان ما لو جَمعوا قبل الزوال صَحَّ، ولو جمعوا بعد الزوال صحَّ، أما أن يجمع النساء أولًا ثم الرجال ثانيًا أو يجمع بعض الرجال أولًا، والبعض الآخر ثانيًا، فهذا لم يقل به الإمام أحمد ولا غيره ما دامت الصلاةُ هي صلاة الجُمعة، وإذنْ تكون صلاة الجمعة على هذا النحو ـ من التفريق، وأداؤها في مكان واحد لأهل مَحِلَّةٍ واحدة في وقتينِ مُختلفتين ـ تشريعًا بما لم يقل به أحدٌ، وبما لم يأذن به الله، ويكون انفراد مصر بقرارِ صلاة الجمعة وقت الضحى ـ وإنْ وافق في الوقت مذهب الإمام أحمد ـ خروجًا على الإجماع العلْمي والعملِيِّ للمسلمين في مصر وسائر الأقطار الإسلامية.
وبهذا يكون القرار الذي أشارت إليه "الجمهورية" ـ في جملته وتفصيله ـ ليس له دِينيًّا ما يُبرر التفكير فيه أو شَغْل الناس به، وأَقُولها كلمة صريحةٍ بالنسبة لهذا القرار، وما يُشاكله من قرارات التجديد الديني: إن مجال التفكير والتنظيم فيما نحن في حاجة إلى تنظيمه والتفكير فيه؛ لِيَستنفدَ من العاملين الجادِّين أوقاتهم وجُهودهم، ونسأل الله التوفيق للجميع.(1/194)
الخشوع روح الصلاة:
كثيرًا ما يتعرَّض المُصلي لوساوسَ وأفكارٍ في شئون الدنيا تشغله عن الخشوع والتدبُّر فهل ذلك يَذهب بثواب الصلاة؟ وما حِيلةُ المصلي تجاه ذلك؟
طلب الله من المُؤمنين الصلاة، وحثَّ فيها على الخشوع وكمال التوجه إليه ـ سبحانه ـ: (حافِظُوا علَى الصلَوَاتِ والصلاةِ الوُسْطَى وقُومُوا للهِ قَانِتِينَ). (الآية: 238 من سورة البقرة) وفُسرت الصلاة الوسطى بالصلاة الفُضْلى. وهي ذات الخُشوع والتوجُّه الكامل إليه ـ سبحانه ـ وربط الله بالصلاة الخاشعة فلاحَ المؤمنين (قد أفْلَحَ المُؤمنونَ الذينَ همْ فِي صلاَتهِمْ خَاشِعُونَ). (أوائل سورة المؤمنون).
والصلاة لا تُثمر ثمرتها من النهي عن الفحشاء والمنكر، واقتلاع بذور الشرِّ من النفْس إلا إذا كانت ذات خُشوع وتوجُّهٍ كامل.(1/195)
لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسْعَهَا:
ولكن الله ـ وهو العليم بطبائع ما خلَق ـ علِم عُسْرَ الخُشوع القلبي على الإنسان، وعلم أن شُرود الفكر عنده غالبٌ عليه، فاجتزأ منه في صحة الصلاة، وخُروجه عن عُهدتها، أن يُؤديها تامة الشروط والأركان، وأن يتَّجه إليه بالتكبير قاصدًا وجهه، مُستشعرًا عظمته، ثم رغَّب إليه أن يُحارب ما يغلب عليه من الشواغل القلبية والخطَرات النفسية التي تَحُول بينه وبين الشعور بلذَّة الصلاة الروحية، وأعْلمه على لسان رسوله بأن اشتغال الفِكر أثناء الصلاة بغير جلال الله مِن وَسْوَسَةِ الشيطان وزعزعة النفس، وعدم الصبر في مُكافحة هذه الخطرات. وقد صوَّر الرسول هذا المعنى أبلغ تصوير ـ ليس في الصلاة فقط بل فيها وفي تلبية ندائها، والإسراع إليها ـ وذلك فيما رُوي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا نُودي بالصلاة أدْبَر الشيطان وله حصاص". "كناية عن النُّفْرَة التي تَصُمُّ الآذان". حتى لا يسمع الأذان، فإذا قُضي الأذان أقبلَ، فإذا ثُوِّبَ بالصلاة "أُقميتْ" أدْبر، فإذا قُضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول. اذْكُر كذا اذكر كذا، ما لم يكن يذكر حتى يضلَّ الرجلُ أن يدري كم صلَّى، فإذا لم يدرِ أحدُكم أثَلاثًا صلَّى أم أربعًا فلْيَسْجُد سجدتينِ وهو جالس". يُريد سجدة السهْو.(1/196)
واجب المسلم تجاه الوسْوسة:
أرشدنا الحديث إلى حديث النفس في الصلاة بما يصرِف القلب عن الموقف من عمل الشيطان، ومن البيان أن عمل الشيطان ممَّا يجب على المسلم مُكافحته في صلاته وفي حياته. وأرشدنا رحمةً بنا، نَظَرًا لعُسرة الموقف إلى صحة الصلاة التي استوعب التفكير جزءًا منها. فعلَى المسلم إذنْ أن يذكر إذا وقف بين يدي الله وكبَّر للصلاة أن الشيطان في زعْزعة نفسه واقفٌ له بالمرصاد فلْيَعْتَصِمْ بذِكْرِ الله، ولْيتدبَّر ما يُجريه على لسانه مِن تكبير إذا قام أو ركع، وتسبيح وحمْد إذا رفع أو سجد، وقراءة ما قرأ. عليه أن يُروض نفسه على ذلك المرَّة بعد الأخرى حتى يصير شأنُه، وحتى يسدَّ على نفسه مسالك تلك الوسوسة التي تَسْلُبُه ـ إذا استمرت ـ رُوحَ الصلاة، وتجعلها صورةً جافَّةً لا تصعد بالنفس، ولا تُزَكِّي الروح.
هذا وقد عُلم أن من خواص النفس البشرية أنها لا تتَّجه في وقت واحد إلا إلى شيءٍ واحد، وأنها إذا حُصرت في دائرته لا يصل إليها غيره، وأن الحواسَّ متى رُبطت بمَواقعَ مُعيَّنة تبِعها التفكير وانحصر في دائرتها، ومن هنا قال العلماء الذين حاربوا الوسوسة فغَلبوها: فينبغي للمُصلي أن ينظر إلى موْضع سُجوده وهو قائم، وإلى ظهر قدِمه وهو راكع، وإلى أرْبنة أنفه وهو ساجد، فيربط حواسه بهذه المواقع، ويحصر فكره في تدبُّر ما ينطق به مِن تكبير وتسبيح وقراءة. وبذلك نرجو أن تَكمل للمسلم صلاتُه ويحظَى فيها بلذَّة السُّمُوِّ الروحي، وقُرَّةِ العين التي كان يَجِدُها الرسول في الصلاة.(1/197)
ليس للإسلام زيٌّ خاص:
لا يُشترط في صحة الصلاة غطاء الرأس، فتَصحُّ الصلاة برأس مُغطاةٍ وبِرَأْسٍ مَكشوفٍ، ولا يُشترط في غطائها ـ إذا غُطيتْ ـ نوعٌ خاصٌّ من الغطاء.
فللمسلم أن يُصلي بعِمامة وبِطَاقية وبقُبَّعة ما دامت لا تمنعه من وضْع الجبهة على الأرض.
والإسلام لا يعرف زِيًّا خاصًّا للرأس، والزِّيُّ وغطاء الرأس من الأمور التي يتركها الإسلام للعُرف الذي يجري عليه الناس.(1/198)
التشبه بغير المسلمين
ليس صحيحًا ما يُقال إن القبعة زيٌّ خاصٌّ بغير المسلمين وشعارٌ غير إسلامي، فالمسلم وغيره في ذلك سواء، والذين يلبسون القُبعات من المسلمين لا يقصدون التشبُّه بغيرهم فيما هو مِن خصائص دينهم وإنما يَلبَسونها لتَقِيهم من حرِّ الشمس أو برد الشتاء ـ مثلًا ـ أو لأن عُرف بلادهم جرَى على ذلك.(1/199)
عناية الإسلام بالطهارة:
هل يجوز تطهير الإنَاء الذي وَلَغَ فيه الكلْب بمادة مُطهرة غير التراب الذي وَرَدَ به لفظ الحديث؟
إن مِن أبرز خصائص الإسلام العناية بالطهارة والنظافة للإنسان في جسمه، وفي ثوبه، وفي مكانه، وفي آنِيته التي يأكل فيها ويشرب.
وقد بلغت أحاديث الرسول ـ التي تُوصى بكمال العناية في الطهارة ـ حدَّ الكثرة المُتواترة، وتَتَبَّعَتْ في ذلك مواقع القذَر، فأمرتْ بغَسلها وتَطهيرها، وشدَّدتْ في بعض المواقع نظرًا لمَا لها مِن الأثَر السيءِ في صحة الإنسان وعملًا على سلامته من الجراثيم الفتَّاكة التي تذهب بصحته وتقضي على حياته.(1/200)
وُلُوغُ الكلْب في الإناء:
وكان مِن ذلك الحديث المُتَّفق عليه بين المُحَدِّثين بالنسبة للإناء الذي ولَغ فيه الكلب، وهو فيما يرويه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: "إذا شرِب الكلْب في إناء أحدكم فلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا". وفي بعض الروايات: "طُهُور إناء أحدكم إذا ولَغ فيه الكلب أن يغسله سبْع مرات إحداهن بالتراب، أو أُولاهن بالتراب، أو عفِّرُوه الثامنة بالتراب).
وقد فهِم كثير من العلماء أن العدد في الغُسل مع الترتيب مَقصودان لذاتهما، فأوجبوا غَسْل الإناء سبْع مرات، كما أوجبوا أن تكون إحداهن بالتراب.(1/201)
الفَهْم الذي نطئمن إليه:
ولكن الذي نفهمه، هو الذي فهِمه غيرهم من العلماء، وهو أن المقصود من العدد مُجرد الكثرة التي يتطلبها الاطمئنان على زوال أثَر لُعاب الكلْب من الآنِية. وأن المقصود من التراب استعمال مادة مع الماء مِن شأنها تقوية الماء في إزالة ذلك الأثر، وإنما ذكر التراب في الحديث؛ لأنه الميسور لعامة الناس؛ ولأنه كان هو المعروف في ذلك الوقت مادةً قوية في التطهير واقتلاع ما عساه يتركه لُعاب الكلب في الإناء من جراثيم.
ومِن هنا نستطيع أن نُقرر الاكتفاء في التطهير المَطلوب بما عرَفه العلماء بخواص الأشياء من المُطهرات القوية وإن لم تكن ترابًا، ولا من عناصرها التراب.(1/202)
مُصافحة المرأة لا تنقض الوضوء
يقول الله ـ تعالى ـ في بيان الطهارة التي تجب على المُؤمن إذا أراد القيام إلى الصلاة (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلَى المَرافِقِ وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ وإنْ كنتمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وإنْ كُنتُمْ مَرْضَى أو علَى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِن الغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّساءَ فلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكمْ وأَيْدِيكُمْ مِنْهُ). (الآية: 6 من سورة المائدة).
وفي قوله ـ تعالى ـ: (أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ). يسأل سائلٌ: هل المراد بالملامسة المُصافحة ونحوها أو المراد المُخالطة الخاصة؟ والسائل يقصد بهذا السؤال أنه إذا كان المرادُ بالملامسة المصافحةَ كان مسُّ المرأة باليد أو نحوها ناقضًا للوضوء، فلا تصح بعده الصلاة حتى يتوضأ الذي لامَسَ.. وإنْ كان المراد بها المُخالطة الخاصة كان المَسُّ باليد أو نحوها غير ناقضٍ للوضوء وصحَّتْ به الصلاة.
والجواب:
أن بعض الأئمة فسَّر الملامسة في الآية بمَسِّ اليد أو نحوها، وعليه يكون مَسُّ المرأة ناقضًا للوضوء. وفسَّرها آخرون بالمُخالطة الخاص، وعليه لا يكون المسُّ باليد ومنه المُصافحة ناقضًا للوضوء. هذا هو الذي نختاره.
أولًا: لأن القرآن استعمل المَسَّ في المُخالطة (لمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ). (ثم طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قبلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ). كما استعمل فيها المباشرة (ولا تُباشروهُنَّ وأنتم عاكفون في المساجد). والمُلامسة كالمباشرة والمسِّ.(1/203)
ثانيًا: أنه بتفسير المُلامسة بالمُخالطة الخاصة تكون الآية استوعبتْ جميع أنواع الطهارة الواجبة بالنسبة لأسبابها؛ فبيَّنت طهارة الوُضوء بقوله: (فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)...إلخ، وبيَّنت طهارة الغُسل بقوله: (وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا). ثم بيَّنت الطهارة بالتيمُّم حين العُذْر عن استعمال الماء بدلًا من الوضوء بقوله: (أو جاء أحدٌ منكمْ مِنَ الغَائِطِ). وبدلًا من الغُسل بقوله: (أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ).
ثالثًا: قد صحَّت الأحاديث الدالَّة على بقاء الوُضوء بعد المَسِّ باليد ونحوها.
رابعًا: أن عدم نقْض الوضوء بالمُصافحة هو ما يقضي به اليُسْرُ الذي بُنيتْ عليه الشريعة وخُتمت به آية الطهارة: (ما يُريدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عليكمْ مِن حَرَجٍ ولكنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكمْ لعلَّكمْ تَشْكُرُونَ).(1/204)
آراء الفقهاء:
ما حكم الشرع في حلْق اللحى؟
تكلم الفقهاء على حلْق اللحى، فرأى بعضهم أنه مُحرَّم، ورأى آخرون أنه مكروه، ومنهم من شدَّد فوصفه بأنه من "المنكرات"، وبأنه "سَفَهٌ وضلالة أو فِسْقٌ وجهالة".
ونحن لا نشكُّ في أن إبقاءها وعدم حلْقها كان شأن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ وأنه كان يأخذ من أطرافها وأعلاها بما يُحسينها، ويجعلها مُتناسبة مع تقاسيم وجهه الشريف، وأنه كان يُعنَى بتنظيفها وتخليلها بالماء، عملًا على كمال النظافة. وكان الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ يُتابعونه في كل ما يختاره ويسير عليه في مظهره وهيئته، حتى مِشْيته.(1/205)
مِن سُنن الفِطْرة:
وقد وردت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديثُ تُرغِّب في توفيرها ضمن أمور تتصل كلها بالنظافة، وتحسين الهيئة وإظهار الوَقار، وعُرفت تلك الأحاديث عند العلماء بأحاديث: "خِصال الفِطْرة أو سُننها" والكلمة تَعني الآن الأشياء التي تتفق وخُلُق الإنسان في أحسن ما شاء الله من الصور، وكان في هذه الخصال الواردة مع إعفاء اللحية في تلك الأحاديث: "السواك، وقصّ الشارب والأظافر، وغسل البراجم: وهي عُقد الأصابع ومعاطفها، واستنشاق الماء وإزالة شعر الإبِط والعانة والختان" وقد أخذت هذه الخصال عند كثير من الفقهاء الباحثين عن أحكام الشريعة حكم السُّنية أو الاستحباب، وأخذت حكم الكراهة، وإعفاء اللحية واحدة من هذا الخصال لا يعدو حُكمه حُكمها وهو السُّنية والاستحباب.
على أن كلمة سُنة أخذت في دور الاجتهاد غير مَعناها في زمن التشريع، فهي عندهم ما يُثاب المرء على فعْله ولا يُعاقب على تركه. وقد كان معناها الطريقة العملية التي يستحسنها الناس، ويرى فيها النبيُّ ما يرون فيها، فيسير عليها ويُرغِّب أصحابه فيها.(1/206)
عادةٌ قديمة:
وقد أرشدنا التاريخ في قديم العرب وغيرهم إلى أن إعفاء اللحْية كان عادة مُستحسنة، ولا يزال كذلك عند كثير من الأمم في علمائها وفلاسفتها، مع ما بينهم من اختلافٍ في الدين والجنسية والإقليم. يَرون فيها مظهرًا لجمال الهيئة، وكمال الوقار والاحترام.
والرسول ـ عليه السلام ـ مِن دأبه إرشاد أمته إلى ما يجعلهم في مقدمة أرباب العادات المُسْتحسنة، التي تُوفر بحسب العُرف مظاهر الوقار، وجمال الهيئة.
ومِن ذلك جاءت أحاديث الترغيب في توفير اللحْية، كما جاءت أحاديث الترغيب في السواك وتنظيف عُقد الأصابع ومَعاطفها.(1/207)
الأمر بمُخالفة المُشركين:
نعم جاء في أحاديثَ خاصةٍ باللحية الأمر بالإعفاء والتوفير وعَلَّلَتْ ذلك بمُخالفة المجوس والمشركين، ومن هنا فقط أخذ بعض العلماء أن حلْق اللحْية حرام أو مُنكَر.
والذي نعرفه في كثير مما ورد عن الرسول في مثل هذه الخصال أن الأمر كما يكون للوجوب يكون لمُجرد الإرشاد إلى ما هو الأفضل، وأن مُشابهة المُخالفين في الدين إنما تَحرُم فيما يقصد فيه التشبُّه من خصائصهم الدينية؛ أما مُجرد المشابهة فيما تجري به العادات والأعراف العامة فإنه لا بأس بها ولا كراهة فيها ولا حُرمة.
وقد قيل لأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ـ وقد رُئِيَ لابسًا نعلينِ مَخصوفين بمساميرَ ـ إن فلانًا وفلانا من العلماء كرَّها ذلك؛ لأن فيه تشبُّهًا بالرهبان فقال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلبس النِّعال التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان.
ونحن لو تمشينا مع التحريم لمجرد المشابهة في كل ما عُرف عنهم من العادات والمظاهر الزمنية لوجب علينا الآن تحريم إعفاء اللحى؛ لأنه شأن الرهبان في سائر الأمم التي تُخالفنا في الدين، ولَوَجَبَ الحكم بالحرمة على لبْس القُبَّعَة، وبذلك تعود مسألتها جَذَعَةً بعد أن طوى الزمن صفحتها، وأخذت عند الناس مسلك الأعراف العامة التي لا تتصل بتديُّن ولا فِسْقٍ ولا بإيمانٍ وكُفْرٍ.
والحقُّ أن أمر اللباس والهيئات الشخصية ومنها حلْق اللحية من العادات التي ينبغي أن ينزل المرء فيها على استحسان البيئة؛ فمَن درجت بيئته على استحسان شيء منها كان عليه أن يُساير بيئته، وكان خُروجه عمَّا ألِفَ الناس فيها شذوذًا عن البيئة.
والله الموفق للسداد.(1/208)
مِن التقبيل حَسَنٌ وقَبِيحٌ:
ما حكم الشرع في تقبيل أيدي العلماء والوالدينِ؟
التقبيل من العادات القديمة التي عرفها الناس وانتشرت فيما بينهم، ومنه القبيح المُستهجن، ومنه الحسن المقبول، وقد اختلط على الناس ـ بحكم التقاليد المختلفة، والأهواء النفسيَّة ـ قبيحه بِحَسنه، ومُستهجنه بمَقبوله، وصِرْنَا نرى منه ما يمقته الشرع والدين، وما تُنكره المروءة والشرف، وما قد يصل بصاحبه إلى عتبة الكفر والخروج عن الإيمان. ونرى منه ما لا بأس به في نظر الشرع وتقدير الشرف.
نرى تقبيل الأرض والأقدام أمام العظماء والملوك، وأمام الشيوخ، ونرى تقبيل أيدي العلماء والوالدينِ والطاعنينَ في السِّنِّ، ونرى تقبيل أيدي السيدات الأجنبيات، والفتيات المُراهقات، نرى كل هذا في المجتمعات وعند المُقابلات، وقد أخذ عند بعض الطوائف وَضْعَ الشيء المألوف، الذي يُعَدُّ ترْكُه مُنْكَرًا أو تأخُّرًا.(1/209)
تقدير الباعث على التقبيل:
والواجب في هذا الشأن النظر فيما ينبغي منه أن يكون فيُفعل، وما لا ينبغي أن يكون فيُترك، والأصل ـ الذي يجب أن نجعله أساسًا لذلك ـ هو تقدير الباعث عليه، فإن التقبيل قد يكون بقصد الخُضوع وإعلان العظمة، وقد يكون بقصد إشباع الغريزة تحت ستار التحية والتعظيم، وقد يكون تلبية لعاطفة الشفقة والرحمة، وقد يكون اعترافًا بفضل، وهكذا تتنوَّع بواعثه.
فإن كان الباعث يمْقته الشرع أخذ التقبيل حُكمه وكان ممقوتًا، وذلك كتقبيل الأرض أمام الملوك والعظماء وأدعياء التصوف وقد صرَّح العلماء بحُرمته، وقالوا: إن فاعله والراضي به آثمانِ؛ لأنه يُشبه العبادة ومِن مظاهر الوثنية.
ومنه تقبيل الأجنبيَّات، سيدات كُنَّ أم فتيات، وفي الخُدود أو الأيدي فهو مُحرَّم ممقوتٌ، وفاعله والراضي به آثمانِ.
وإنْ كان الباعث عليه لا يمقته الشرع أخذ حكمه، وذلك كالتَّجِلَّةِ والاحترام لِتَقِىٍّ وَرِعٍ، أو عالم عامل، أو حاكم عادل، تستقيم بعدْله الأحوال، ويُقيم حدود الله. والوالدانِ مُقدَّمانِ على الناس جميعًا في استحسان تقبيل أيديهما (واخْفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). (الآية: 24 من سورة الإسراء).(1/210)
مِن طرائف الفُقهاء:
ومِن طريف ما قرأتُه لبعض الفقهاء بمناسبة الكلام على حكم التقبيل أنه باعتبار موقعه على أنواع: تقبيل المَوَدَّةِ للولد، ويكون على الخَدِّ. وتقبيل الرحمة للوالدينِ، ويكون على الرأس. وتقبيل الشفقة للأخ ويكون على الجبهة، وتقبيل الشهْوة للزوجة، ويكون على الفم، وتقبيل التحية للعلماء العاملين، والحكام العادلين، ويكون على اليد.
والذي يَعنينا في الموضوع أن نُحَكِّمَ في عادة التقبيل عقولَنا، ولا نُجاري العواطف ولا الأهواء فنَزِلَّ. وهذا شأنٌ يستطيع تقديرَه كلُّ مَن يعرف الكرامة، ويخشى الذِّلَّة، ولا يحتاج إلى مَجهود عقلي، ولا بحث فقهي، ولا فتوى شرعية، بعد أن نعرف الحلال والحرام في التعظيم ومُماسَّة الأجسام للأجسام.(1/211)
بلبلة السائلين لاختلاف المجيبين:
تحدَّث معي أخٌ كريم فيما تجري به عادة بعض المسلمين ـ كلَّما وافتْهم الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان ورمضان ـ من كثرة التردُّد على المقابر والأضرحة لزيارتها، وقد امتدَّ الحديث إلى هذه المظاهر التي ألِفها الناس في المآتم، ويظنُّ كثير منهم أنها ممَّا يستحبُّه الدِّين، أو يُبيحه على الأقل.
وكان فيما قال: إنه سمِع مِن علماء الحلال والحرام، فيما يختص بزيارة النساء للمقابر، حُكمينِ مُتعارضينِ، سمع أنها مباحة، وأن تمكينهم منها حقٌّ لهن على الرجال، وسمع أنها مُحرمة، وأنهنَّ يرجع منها مأْزورات غير مأْجورات، وأنه كذلك سمع حُكمينِ متعارضين في زيارة الأضرحة: "مقابر الأولياء": سمع طائفة من أرباب الإرشاد الديني تُقررها، وترى إباحة ما اعتاده الناس في زيارتها، وسمع طائفة أخرى منهم تُنكرها أشد الإنكار، وترى أنها من بقايَا صور الوثنية التي جاء الإسلام لمَحْوِها والقضاء عليها!!
ويقول صاحبنا إن اختلاف العلماء هكذا ـ في هاتين المسألتين وغيرهما، وفي كثير من المسائل التي ينبغي أن يكون حُكمها بيِّنًا واضحًا، وأن يكون موقف المسلمين فيها واحدًا غير مختلف ـ مما يُوقع الناس في بلبلة دينية، كثيرًا ما تُثير بينهم فتنًا نحن في أشد الحاجة إلى البعد عنها، وتطهير المُجتمع منها، وتوجيههم إلى ما يحفظ عليهم قيمة الوجود في الحياة، وخاصة مسألة زيارة الأضرحة، التي تفاقم الاختلاف فيها إلى حدِّ التكفير، والرمْي بالشرْك، والتسوية بينها وبين عبادة الأصنام في الجاهلية!! وقد طُلب إليَّ بهذه المناسبة أن أتحدث إلى القراء عن حكم الشريعة في هذه الشئون، داخل إطار النصوص التشريعية الواردة فيها، وعلى ضوء من الحِكَمِ المقصودة منها، ويرجو أن تَخِفَّ بذلك وطْأة الاختلاف الذي يُلهب نار الفتنة بين المسلمين باسم الدين والدين منه بريءٌ.(1/212)
زيارة النساء للمقابر:
ينبغي أن يعلم أولاً أن زيارة المقابر كانت في أول الإسلام محرمة على الرجال والنساء، وأنه حينما استقرت عقيدة الإسلام في القلوب وعُرفت أحكامه وأهدافه أُبيحت الزيارة، وجاءت فيها جملة من الأحاديث الصحيحة، تضمَّنت مشروعيتها وكيفيتها وحِكمتها. الحديث القائل: "كنتُ نَهَيْتُكم عن زيارة القبور، ألَا فَزُورُوها فإنها تُذكركم بالآخرة". ومنها أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقال لها عبد الله بن أبي مُليكة: "من أين أقبلتِ يا أم المؤمنين؟ قالت: مِن قبْر أخي عبد الرحمن. فقال لها: أليس كان نهَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن زيارة القبور؟ قالت نعمْ، كان نهَى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها". وكان منها في بيان كيفيتها أن الرسول كان يُعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكن العافية". ومنها أن النبي مَرَّ بامرأة عند قبر تبكي على صبيٍّ لها، فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: وما تُبالي بمُصيبتي، اذهب عني ـ وكأنها لم تعرفه ـ فلما ذهب، قيل لها: إنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأتتْ إليه، وقالت: لم أعرفك يا رسول الله. فقال لها: "إنما الصبْر عند الصدْمة الأُولَى". وَعَظَهَا بالصبر ولم يُنكر زيارة القبر.(1/213)
والذي يُؤخذ من هذه الأحاديث أنه متى قُصد بزيارة القبور الإحسان إلى الميت بالدعاء، وإلى النفس بالعِظة والاعتبار، وخلت من تجديد الأحزان ومظاهر الجزع، وعن التجمعات الساخرة التي نراها في الأعياد والمواسم، وعن صور اللهو والتسلية ونُظم الضيافة، وعن المبيت في المقابر وانتهازها فرصة لما لا ينبغي ـ إذا خلَت عن كل ذلك وخلُصت للدعاء والعظة، واتُّخذت فيها الآداب الشرعية، كانت مشروعة للرجال والنساء، أما إذا قُصد بها تجديد الأحزان، واتُّخذ فيها ما يُنافي العظة والاعتبار، فإنها تكون مُحرمة على الرجال والنساء. وهي حينئذ نوعٌ من المُنْكَرِ الذي يُفسد الأخلاق، وذهب بالأموال في غير غرض شريف، ويجب على أولياء الأمر مُحاربتُها والقضاء عليها، حِفْظًا للكرامة وتطهيرًا للمجتمع من وصمات تلتصق به باسم مشروع دينيٍّ، وهو زيارة القبور، وهذا هو الذي ينبغي أن يُصار إليه في فهْم الأحاديث الواردة في الموضوع، وهو الذي يجب أن يعلمه الناس، وأن يُوجَّهوا إليه.(1/214)
زيارة الأضْرِحة:
وفي هذه الدائرة أباح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه وعلَّمهم زيارة القبور، وزارها، وزاروها رجالًا ونساء، ودرَج عليها المسلمون الأولون، كما تلقَّوا عن عهده في العلم والعمل، درَجوا عليها، وفي القبور الصدِّيقون والشهداء والصالحون، ولم يُؤْثَرْ عن أحد منهم شيء في زيارة هؤلاء الصالحين وراء ما شرَع في زيارة غيرهم: تَذَكُّر وتسليم ودعاء. وإذنْ، فما يفعله كثير منا ـ في زيارة أصحاب الأضرحة الكاسية المزركشة، ذات المقاصير المفضَّضة، والقباب المزخرفة ـ تجاوُز للحد المشروع في زيارة القبور، واقتحام لغير المشروع باسم المشروع، فوقْفة الاستئذان على باب الضريح، واستقباله مع رفع الأكف بالضراعة والمناجاة، والطواف حوله مع تقبيل جوانبه والتمسُّح بحديده أو خشبه، وشرح القضايا والمهام، وتقديم العرائض وطلب الفصْل فيها، كل ذلك عمل غير مشروع، يأْباه الله ويأباه الرسول، ويغضب منه أصحاب الأضْرحة أنفسهم.(1/215)
أولياء الله لا يَرْضَوْنَ هذه المُنكَرات:
وأولياء الله هم ـ بنصِّ كتاب الله ـ الذين آمنوا وكانوا يتَّقون، كانوا في حياتهم لله عبادًا مُخلصين، لم يتجهوا بقلوبهم إلى غير الله، ولم يقفوا ببابِ أحدٍ سواه، ولم يرفعوا أكُفَّ الضراعة إلا إليه، وأنهم كانوا يدعون الناس إلى هدى الله وشرعه، وهم يُحبون من الناس أن يَسلكوا سبيلهم، يَعبدون الله كما عبدوا، ويتقربون إليه بما تقربوا، فإذا ما سلكنا في زيارتهم ما سلكوا في زيارة أسلافهم طابتْ نفوسهم، واطمأنت أرواحهم، وإذا ما انحرفنا عن طريقهم ـ فوجَّهنا وُجوهنا في عبادة الله إليهم، واتَّخَذْنَا قبورهم مطافًا كالبيت الحرام، ومُستلمًا كالحجر الأسود، ومُصلَّى كمقام إبراهيم، وخاطبناهم بالدعاء والرجاء ـ فقد جافَيْنَا طريقهم وجفَوْناهم، وصِرْنَا إلى ما يُحزنهم، لا إلى ما يُرضيهم.
هذا ما يجب أن يعلمه الناس حتى يعرفوا المشروع فيفعلوه، وغير المشروع فيجتنبوه، ولا ينبغي أن نَسكت مُجاراةً أو مُجاملة، فإن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرَسُ.(1/216)
الدعوة التي هي أحسن:
وإذا كان الله قد أخذ علينا العهد والمِيثاق أن نبيِّن للناس، فقد أمرنا أن يكون البيان، وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسنُ، تجمع ولا تُفرق، وتُؤلف ولا تُنفِّر. وإذنْ، لا ينبغي لنا أن نقسو باسم الدين وباسم الدعوة إليه، فنَتَّخِذ الحكم بالشرك وعبادة الأصنام على الزائرين بهذه الكيفية سبيلًا للدعوة، وطريقًا للبيان. كيف ونحن نعلم أن هؤلاء الزائرين ـ كما تنطق به أحوالهم ـ مؤمنون بعقائد الدين كلها، وبفرائضه كلها، ومؤمنون بأن النبي والوليَّ من عباد الله، خلقهما كما خلق العباد، وأمدَّهما بأسباب الحياة كما أمدَّ العباد، وأماتهما كما يُميت العباد، وأنه سيبعثهما كما يبعث العباد، وتلك عقيدة الإيمان الحقِّ التي لم يكن يُؤمن بها عُبَّاد الأصنام!! نعم، توارث هؤلاء ـ عن غير علْم ـ صورًا في زيارة الأضرحة، غير ما رسم الشرع في زيارة المقابر، والمؤمنون يجدُر بهم أن يَقفوا في عباداتهم وما يرجع إلى غيْب الله عند حُدود الوارد عن الله، وخيرٌ لنا ولهم ـ من الحُكم عليهم بالشرْك، ومن إطلاق كلمة: "أصنام" على هذه الأضرحة، وقد يكون فيها "رُفات شخصياتٍ" ذات شأن خالد في خدمة الإسلام والمسلمين ـ خير لنا جميعًا، وحفظًا لكرامة هذه الشخصيات، أن نبذل جهودنا في تعليم مَن لا يعلم، لا في تكفيره، ولا في الإساءة إلى تلك الأرواح الطاهرة، ونسأل الله السلامة والتوفيق.(1/217)
الإسلام يُقِرُّ العاداتِ الحسنةَ ويُنكر السيئةَ
طلب إليَّ مسلم كريم أن أُبيِّن له وللناس حُكم الشريعة فيما اعتاده الناس في المآتم وعيَّن على وجه الخصوص:
أولاً: حُكم قراءة الصلوات ودلائل الخيرات بالأصوات المُرتفعة أمام الجنازة.
وثانيًا: حكم ذبْح الحيوانات عند خروج الجثة من المنزل، أو عند وُصولها إلى القبر على مشهد من المُشيعين.
وثالثًا: حكم إقامة المأتم ليلةً فأكثر على الوجه المعروف الآن في القرى والمدن.
ورابعًا: حكم الاجتماع لإعادة التعزية فيما يعرف باسم الخميس الصغير، والخميس الكبير وباسم الأربعين والمواسم، وباسم الذكرى السنوية من كل عام.
وخامسًا: حكم إعلان الحُزن بلبْس الملابس السوداء، وحمل شارات الحزن، وما يتبع ذلك من تحريم أهل الميت وأقاربه على أنفسهم بعض الأطعمة.
وسادسًا: حُكم ما يفعله بعض الناس باسم إسقاط الصلاة والصوم عن الميت.
وأخيرًا عن المعنى المقصود من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إيَّاكُمْ والنَّعْيَ فإنَّ النَّعْيَ عملُ الجاهلية".
وفي الواقع أن الناس اعتادوا أمورًا كثيرة في المآتِم وغير المآتم، ولم يعتمدوا في أكثرها إلا على مُجرد الاستحسان الشخصي أو الطائفي، وأخذت تنتقل من جيلٍ إلى جيل حتى عمَّت وصارت تقاليدَ، يأخذها حاضر الناس عن ماضيهم، غير ناظرين فيها إلى أكثر من أنها سُنة الآباء والأجداد، ولم يجدوا مَن يُنكر المُنكَر منها عليهم! ولعلَّها وجدت مَن يُبيحها، أو يستحسنها ويُقوِّيها!! فعَلها واعتادها غير المُتفقِّهين، وسايَرهم فيها المتفقهون، واحتملوا إثْمها وإثْم مَن ابتكرها وفعَلها إلى يوم الدِّين!!(1/218)
استقرت هذه العادات في المجتمعات الإسلامية بلوْنها الديني، حتى ظن غير المسلمين أنها من شئون الإسلام، والإسلام منها برِييء. وبذلك ألْصق بالدين ما ليس منه واستطاع الزائرون الأجانب أن يتَّخذوا لها رُسومًا شمسية، صوَّروا بها الإسلام العملي في بلادهم، تشويهًا للمجتمع الإسلامي، ومسخًا للإسلام. ومن هنا عظمت الجريمة وتضاعفت المسئولية. ولكن على مَن تقع؟ ومَن عليها يُحاسب؟ أعتقد أن الذين تقع عليهم المسئولية، ويُحاسبون عليها، يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم المسئولون، المُحاسبون!
جاء الإسلام، وللناس عاداتٌ: بعضها حسنٌ طيب مفيد، فأقرَّها وقواها، وبعضها سيئٌ خبيثٌ ضارٌّ، فأنكرها وحاربها وألْغاها. وكان هذا هو شأن الإسلام في كل ما جَدَّ في ظله من عادات. الحسَنُ يُقره ويُسميه: "سُنةً حسَنة"، والسيئُ يدفعه ويُسميه: "سُنةً سيئة"، وكان شأن القائمين على أحكام الإسلام وبيانها أن يسيروا مع العادات، حَسَنها وسَيئها، على هذا المبدأ العام الذي قرَّره الإسلام في التقرير والإنْكار. ولكن..!(1/219)
الأحكام الشرعية:
ولمعرفة حكم الشرع في عادات المآتم، وهو موضوع فَتْوَانَا، ينبغي أن يعرف المسلمون أن الحكمة في تشييع الجنازة، الذي طلبه الشرع وحثَّ عليه، هي الاتِّعاظ بالموت، واستِحضار جلاله الآخِذ بالنفوس القاضي على غطْرستها، المُذكر بيوم الحساب والجزاء (يومَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا ومَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لوْ أنَّ بَيْنَهَا وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا).
وقد جاء في ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما معناه: "اتِّباعُ الجنازة يُذَكِّرُ بالآخرة".(1/220)
الصمت عند الجنازة:
1 ـ وتحصيلًا لهذه الحكمة السامية طلب الشارع الصمتَ من المشيعين حتى تخلص العِظَةُ إلى النفس، ويقوَى التذكر في القلب، وفي ذلك ما ورد عن الرسول: "إنَّ اللهَ يُحبُّ الصمتَ عند ثلاث: عند تِلاوة القرآن، وعند الزَّحْفِ، وعند الجنازة". ومن هنا عُلم حكم العادة الأولى، وحرَّم رفع الصوت في تشييع الجنازة، ولو بالذِّكْرِ وقراءة القرآن، وطلب الاستغفار للميت.
وقد رُوي أن أحد المشيعين لجنازة على عهد رسول الله رفَع صوته بالاستغفار للميت، فقال له الأصحاب بمَسْمع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يغفر الله لك". وإذا كان رفع الصوت بطلب الاستغفار، وهو دعاء من الحاضرينَ للميت، بهذه المَثابة من الإنكار، واستحقاق صاحبه المَقْت والتشنيع والدعاء عليه بالحرمان من مغفرة الله، فما بالنا برفع الأصوات بغيره، كالصِّياح والنِّياحة والندْب وعزْف الموسيقى ذات النغمات المُحزنة؟!
وقد نهَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اتباع الجنائز التي معها "رانَّة" والرانَّة هي المُصوِّتة، أي ذات الصوت، فتشمل بعُمومها النائحة والموسيقى والقارئ والذاكر، فكل ذلك أمام الجنازة حرامٌ ومنهيٌّ عنه.
وليس من شك في أن هذه المظاهر ـ فضلًا عن أنها تحول دون التذكر
والاتعاظ ـ تُثير الأحزان وتُضاعف الأسَى، وتخلع القلوب، وتأخذ بها عن جميل الصبر، وفضيلة الرضا بقضاء الله.
وقد سمع عمر بن الخطاب مرةً نَدْبًا ونِياحةً، فدخل مكان الصوت، وأخذ الحاضرين بدرته حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خِمارها، وقال لمَن معه: "اضربْ، فإنها نائحةٌ ولا حُرمة لها، إنها لا تبكي لشَجْوكم، إنها تُريق دموعها على أخْذ دراهمكم، وإنها تُؤذي موتاكم في قُبورهم، وأحيائكم في دُورهم، إنها تَنْهَى عن الصبر وقد أمر الله به، وتأمر بالجزَع وقد نهَى الله عنه".(1/221)
ولا أدري ماذا كان يفعل عمر لو رأى ما نرى وسمع ما نسمع: في الشوارع، والمقابر، والنوادي، ماشيات، حافيات، راكبات، قد صبغْن وُجوهَهن وملابسهن، وغيَّرْنَ خَلْقَ الله؟.(1/222)
إقامة المآتِم:
3 ـ أما إقامة المآتم ـ ليلةً فأكثر على الوجه المعروف من نَصْبِ السُّرادقات، والإنفاق عليها بما يُظهر بَهْجَتَهَا ـ فهي "قطعًا إسرافٌ مُحَرَّمٌ بنَصِّ القرآن، وتشتد حُرمتها إذا كان وارث الميت قاصرًا، يحمل كل هذه النفقات، أو كان أهل الميت في حاجة إليها، أو كانوا لا يحصلون عليها إلا عن طريق الربا المُحرم، ولم تكن التعزية عند مُسمَّى العصور الأولى إلا عند التشييع، أو عند المُقابلة الأولى لمَن لم يحضر التشييع.(1/223)
الذبْح عادةٌ جاهلية:
2 ـ أما الذبح عند خُروج الجُثَّة، أو عند وُصولها إلى القبْر، فهو عادة جاهلية، وقد نهَى النبيُّ عنها بقوله: "لا عَقْرَ في الإسلام". وهو بعد ذلك لون من ألوان المُباهاة والفخْر في موضع ليس محلًّا للمباهاة والفخر، وللصدَقة مجالها في المكان والزمان والأشخاص.(1/224)
الخميسُ والأربعينَ:
4 ـ ومن هنا، لم يكن معروفًا في الإسلام ما يعرف اليوم من خميس صغير أو كبير، فضلًا عن "الأربعين والمواسم والأعياد" التي يجدد فيها الناس اليوم الأحزان، ويعيدون بها المآتم، ويشغلون بها الناس عن أعمالهم النافعة في الحياة.(1/225)
لا حِداد إلا لامرأةٍ على زوجها:
5 ـ ومما يُضحك الثَّكْلَى في عادات المآتم إظهار الحزن والامتناع عن صنع بعض أنواع الأطعمة أو تناولها، وبالملابس السوداء ولو برباط العنق الأسود، وأن يستمر ذلك مدة قد تبلغ سَنة كاملة، وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن استدامة الحزن وإظهاره فوق ثلاثة أيام إلا لامرأةٍ مات عنها زوجها، فجعل لحُزنها مدةً عِدَّتُها أربعةَ أشهرٍ وعشرة أيام.(1/226)
إسقاط الصلاة والصوْم:
6 ـ وإذا كان الناس يتصرَّفون في أعمالهم الخاصة بحُكم التعوُّد المُورَّث، والتقليد المُتبع، ويستبيحون لأنفسهم ما يفعلون من عادات ليست إلا مَهزلة من مهازل التوارث الفاسد، فمَن ذا الذي أباح لهم التصرُّف في حقوق الله التي أوجبها على ميتهم في حياته لِيُزَكِّى بها نفسه من صلاة أو صوم، ثم استخفَّ بها وتركها، أو تلهَّى عنها ومات وهو مُطالَب بها؟ أتدري ماذا يفعلون؟ يحسبون لها فِدْيَةً ويُقدمونها للفقراء باسم: "إسقاط الصلاة أو الصوم"، ثم يعبثون باحتيال مكشوف لا يَخفَى على أحد من الناس، فضلًا عمَّن أحاط بكل شيء علمًا، يعبثون فيشترطون على الفقير لكثرة الفِدْيَة أن يردَّها إليهم بطريق الهِبَةِ في مُقابلة جزء يسيرٍ يأخذها منها! فعلى فرض مشروعية إسقاط الصلاة والصوم ـ والواقع أنه لم يرد بها مصدر تشريعي صحيح ولا ضعيف ـ فهل يُعقل أن تكون تلك الحيلة عملًا مشروعًا يقبله الله ويسقط به عن ميتهم الصلاة والصوم؟! إنه احتيال من نوع احتيال أهل السبت.(1/227)
النعْيُ مُباحٌ ومَحْظُورٌ:
7 ـ أما النعي، بمعنى الإخبار بالموت فقط، فإنه شأن لا بأسَ به، بل ربما كان مطلوبًا، نظرًا لمَا فيه من مبادرة الناس إلى شهود الجنازة، ومِن مُساعدة أهل الميت في التجهيز والدفْن، ومِن التعزية في وقتها، وفيه بعد هذا كله الإعلان بانقطاع مُعاملته مع الخلْق، وانتقاله إلى الخالق. أما النعْي بما وراء ذلك ـ من طواف النساء ليلًا أو نهارًا يندبْنَ ويَلْطُمْنَ، وبكلمات الجاهلية، وبعتاب القضاء والقدَر، والسخط والتبرُّم منهما ـ فهو محرَّم ومَنْهِيٌّ عنه.
أما بعدُ:
فهذا ما أردتُ بيانه للناس في عادات المآتم، وأرجو أن يكون لإيمان المؤمنين عمل حازم يرد الناس إلى ما يُرضي الله ويحفظ عليهم كرامتهم، ويُنقِّي دينهم مما غشَّاه من بِدَعٍ ومُنكرات، ونسأل الله التوفيق.(1/228)
الغاية مِن إنزال القرآن:
في أكثر مِن رسالة مِن الرسائل التي تلقيتُها يسأل المواطنون من القراء عن حقيقة الأمر في التداوي ببعض آيات القرآن الكريم أو الرُّقَى بها.
كما يسألون ـ أيضًا ـ عن رُقية المريض ببعض العبارات الخاصة المعتادة.
وعن حُكم الدين في قراءة القرآن في الطُّرقات العامة بقصْد الارتزاق، مما نراه ونشاهده في كثير من المدن والقرى.
وما هو الرأي الصحيح في قراءة القرآن على المقابر؟
وما الرأي فيما يُذكر خاصًّا بفضل سورة القرآن أو بعضها؟
تلك خلاصةُ جملةٍ من الرسائل أعرب مُرْسِلُوها عن رغبتهم في الإجابة على ما يسألون، وهي كلها تدور حول هذا المعنى.
ليس مِن شكٍّ في أن القرآن أُنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لغرض هو أسمَى الأغراض وأنبلها وهو هداية الناس إلى الحقِّ عن طريقه، وإخراجهم مما هم فيه مِن الظلمات إلى النور.
أنزله الله ليُطهر القلوب مِن رِجْسِ الخُضوع لغيره، ويُرشد الناس إلى العقائد الصحيحة، وإلى العلوم النافعة، وإلى الأخلاق الفاضلة التي تَحفظهم وتحفظ المجتمع من مَزالق الهوى والشهوة، وأنزله ـ أيضًا ـ ليُرشد الناس إلى الأعمال الصالحة التي تسمو بالفرد والمجتمع إلى مكانة العِزَّةِ والكرامة.
وقد أرشد القرآن نفسه إلى هذه الغاية أو الغايات في كثير من الآيات فقال تعالى: (قد جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلامِ ويُخرجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بإِذْنِهِ ويَهْدِيهمْ إلَى صِراطٍ مُستقيمٍ). (الآيتان: 15 ـ 16 من سورة المائدة). (يا أيُّها الناسُ قد جاءتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةً للمُؤمِنِينَ). (الآية: 57 من سورة يونس).
وبذلك كان القرآن شافيًا لأمراض القلب، التي تُفسد على الإنسان حياته.(1/229)
وأمراض الصدور: جهْلٌ بالحق، وشُبهة تضعف الإيمان، وشهْوة تُغري بالفساد.
وقد تضمَّن القرآن الكريم بنُصوصه وإرشاداته ما يُعالج البشرية من جهلها وشُبهها وشهواتها.
ولم يختلف المسلمون الأوَّلون في هذه الحقيقة، بل آمنوا بها وحدَّدوا الغاية التي لأجلها نزل القرآن، فأقبلوا على حِفْظِه ودرسه، يستخرجون نفائسه، ويتعرفون أحكامه، ثم أخذوا يُعالجون به القلوب من رجس العقائد الباطلة، والأخلاق الفاسدة، ويدفعون به المجتمع إلى سُبل الخير والفلاح.
ومن هذا نعلم ما كان للقرآن الكريم من أثرٍ وتوجيه في حياة المسلمين الأولين، بيْد أن المسلمين بعد ذلك ما لبثوا أن انحرفوا بالقرآن عمَّا أُنزل لأجْله، واستُخدم لأغراض لا تَمُتُّ بأَوْهَى الأسباب إليه، ولا هي مما ينبغي أن تُستخدم أو تُتَّخَذَ طريقًا إليه.(1/230)
انحراف بالقرآن عن وِجْهَتِهِ:
انحرف المسلمون المُتأخِّرون بالقرآن الكريم إلى جهةٍ أخرى لم يتَّجهْ بها أحدٌ من المسلمين الأولين، والسبب في هذا الانحراف هو ما مُنِيَ به العلماء من التعصُّب المذهبي، إذ حملهم هذا على الاكْتفاء بما وصل إلى أيديهم من تراث السابقين، وقالوا: إن السابقين كَفَوْنَا مَؤُونة البحث في آيِ الذِّكْرِ الحكيم استنباطًا لحُكم شرعيٍّ أو تفسيرًا لآية، وجعلوا بينهم وبين النظر في الكتاب حجابًا كثيفًا من التقليد والتعصب للمُجتهدين السابقين، اعتزازًا بفضلهم، وتابَعهم المسلمون في فهْمهم واتجهوا بالقرآن الكريم وجهةً أخرى، حتى إننا نرى المسلمين اليوم إلا مَن عَصَمَهُ الله ـ وقليل ما هم ـ هجروا القرآن الكريم ككتابِ وإرشاد، وشاعتْ بينهم فكرة تقديسه من جهات أخرى هي:
جهة التداوِي به من أمراض الأبدان.
وجهة استِمْطار الرحمة بقراءته على أرواح الموتى.
وجهة تسوُّل الفقراء به واستغلال عاطفة الإيمان عن طريقه.
هذه البِدَعُ الثلاث، أو المنكرات الثلاثة، كانت أثرًا لهجر المسلمين كتاب الله من الجهة التي أنزل لأجلها، وكانت في الوقت نفسه عنوانًا سيِّئًا على إيمان المسلمين من حيث لا يشعرون بمكانة تلك المعجزة الخالدة، التي جعلها الله سبيلًا لإنقاذ البشرية من الأوهام والخُرافات.
وكانت مع هذا وذاك عنوانًا على الجهل بنظام الأسباب والمسببات الذي نظم الله عليه العالَم، وهدى الناس إلى السيْر في سبيله (أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). (الآية: 50 من سورة طه).
يجعل اللهُ القرآن سبيلًا لإنْقاذ البشرية من الأوْهام والخرافات، ويعكس نَفَرٌ من المسلمين القضية فيجعلونه سبيلًا من سُبل الأوهام، وعُنوانًا على الجهل بأسرار الله ونظام الله.(1/231)
الدِّينُ والعقل لا يُقرَّانِ هذا الانحراف:
وإنْ تعجب فعَجَبٌ أن تُكتب الآية القرآنية الحكيمة في إناء ثم تُمحَى بالماء. ثم يُؤمر المريض بشُربه، أو تُكتب قِطعٌ صغيرة من الورق، ثم تُلَفُّ كالبرشام، ويُؤمر المريض بابتلاعها، أو تُحرق تلك القطع ويُبخر المريض بها على مرات، أو تُوضع في خِرْقة وتُعلق حِجابًا "في مكان معين من جسم المريض"!!
بهذا ونحوه اتَّخذ الدجَّالون القرآن الكريم وسيلة لكسْب العيش عن طريق يأْباهُ الإيمان، ويُصدقه كثيرٌ من المسلمين.
وذلك فضلًا عن أنه انحراف بالقرآن عمَّا أُنزل لأجله فإن فيه إفسادًا للعقول الضعيفة، وصرفًا لأربابها عن طريق العلاج الصحيح، وتغييرًا لسُنة الله في الأسباب والمُسببات، واحتيالًا على أكل أموال الناس بالباطل، وهذا تصرُّف لا يُقره دِينٌ ولا يرضى به عقل سليم.
فإذا تركنا هؤلاء الدجَّالين يَعبثون في القرآن والمُدن وبالعقول الضعيفة على هذا النحو، وسِرْتُ في شوارع القاهرة أو غيرها مِن المُدن فإنَّك ترى المُتسولين ـ وقد جلَس أحدُهم رجلًا أو امرأةً ـ في مُلتقى الطرقات، أو مواقف المواصلات، أو على أبواب المساجد والأضْرِحة، يقرأ القرآن، باسطًا كفَّهُ للغادِينَ والرائحين بقَصْدِ التَّسَوُّلِ.
تَرى هذا المنظر المُفجع بين الأحياء، فإذا ما ذهبت إلى المقابر، رأيت ما هو أدهى وأمرُّ، رأيت الفقراء من حملة القرآن يتسابقون إلى المقبرة وقد اندسُّوا بين أفواج الزائرين والزائرات، يُساومونهم على مقدار ما يقرءون، ومقدار ما يأخذون ثمنًا لما يُقرءون.
وفي هذه المشاهد كلها لا تسمع قرآنًا وإنما تسمع هذْرمةً في القراءة، وإخلالًا بواجبها، وإخراجًا للقرآن ذي الروْعة والجمال إلى ذلك المنظر المُزري، الذي يُقزِّز النفوس ويجرح الصدور، ويُبعده في نظر السامعين عن أن يكون طريق الهداية والإرشاد من رب العالمين.(1/232)
القرآن ودواء الأمراض البدنيَّة:
إن الأمراض البدنية قد خلق الله لها عقاقير طبية فيها خاصة الشفاء، وأرشد إلى البحث عنها والتداوِي بها.
وقد صحَّ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على مريضٍ يعوده، فلمَّا رآه طلب من أهله أن يُرسلوا إلى طبيب، فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟ فقال ـ عليه السلام ـ: نعم. إن الله ـ عز وجل ـ لم يُنزل داءً إلا أنزل له دواء.
فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إرشادًا لأُمته إلى أن التداوي مِن الأمراض البدنية إنما يكون مِن طريق الطب البَشرِيِّ الذي يعرف الدواء.
أما القرآن فلم يُنزله الله دواءً لأمراض الأبدان، وإنما أنزله كما قال دواء لأمراض القلوب وشفاءً لمَا في الصدور.
وإذا كانت أمراض الأبدان أمراضًا مادية وشفاؤها بأدوية مادية، فأمراض القلوب أمراض معنوية، وشفاؤها بأدوية معنوية، والقرآن، قد عالج مرض الجهل بالعلْم، ومرض الشُّبْهَةِ بالبرهان، ومرض الشهْوة بالحِكْمة.
وما التداوي في الأمراض البدنية بالقرآن إلا كقراءة البُخاري والختمات للنصر على الأعداء في ميدان القتال، وإلا كقراءة ما يُسميه العامة: "عِدِّيَّةَ يس" تحصيلًا للرغبات. كلاهما وُضِعَ للعلاج المعنوي مكان العلاج المادي، وكلاهما قلبٌ لنظام الله في خلْقه، وخُروج بالقرآن عمَّا أُنزل لأجله.(1/233)
القراءة على الموتَى:
أما استمطار الرحْمة على الموتى فإنه لا يكون إلا بعمل مشروع كالدعاء والصدقة، بشرط أن يكون خالصًا لوجْه الله الكريم.
أما ما لم يَشْرَعْه الله ولم يأذن به، أو شرعه، ولكن فعله الإنسان بأجرٍ يأخذه من أخيه الإنسان فثوابه هو ذلك الأجر ولا ثواب له عند الله. وإذا لم يكن للقراءة ثواب عند الله للقارئ؛ لأنه أخذ أجره ممَّن استأجره، ولا للمُستأجر؛ لأنه لم يقرأ شيء فأيُّ شيء يصل من هذه القراءة إلى الموتى؟ إن رحمة الله للموتى شأن من شئون الغيبية استأثر بها، ومنه وحدة تُعرف سُبلُها، وقد بين تلك السبل في كتابه الكريم. وكل ما يفعله المرء من تِلقاء نفسه في هذا الشأن هجوم منه على الغيب، وتَقَوُّلٌ على الله بغير علْم، وتحكُّم فيما لا يحكم فيه إلا الله.(1/234)
التسوُّل بالقرآن:
وإذا كان التسوُّل بالوضْع الذي نراه اليوم يمقته في ذات الشرْع والدين، وتأْباه الكرامة والخُلق، ولا ترضاه لنفسها أمة تُريد المجد، فما بالنا به إذا اتخذ القرآن الكريم وسيلةً له، واعترض به المارة في الطرقات، والمصلين في المساجد، والراكبين في السيارات والقطارات.
علينا أن نبذل قَصارَى جهدنا في صيانة كتاب الله عن الابْتذال، وأن نُوجِّه الناس إلى جهة الانتفاع بالقرآن الكريم، وإلى ما يحفظ كرامتنا بين الأمم عن طريق الأسباب التي وضعها الله سبيلًا للمجد والكرامة.(1/235)
فضْل بعض السُّور:
أما ما جاء عن فضل سور القرآن وتلاوتها ـ من درجات الثواب التي يحصل عليها قارئ هذه السورة أو تلك، مما ردَّدتْه بعض كتب التفاسير ـ فالواقع أني في قراءتي لهذه التفاسير انتهيت إلى أن ما جاء في ذلك من أحاديث إنما قُصد به التناسُب بينها وبين ما احتوت عليه هذه السورة أو السور، واعتراني شكٌّ من جهة أن سور القرآن البالغ عددها: 114 سورة كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتحدث عن كل سورة منها بما يُناسبها.
و الذي نعلمه أن الرسول ما كان يُرتب الثواب على مجرد القراءة، وإنما كان يُرتبه على الإيمان والعمل الصالح.
والمسألة ليست مسألة مجرد قراءة فحسْب، ولعلك تدري الحِكمة القائلة: "كم من قارئ يقرأ القرآنَ والقرآنُ يَلْعَنُهُ".
وقد دفعني ما وقعت فيه من شكٍّ أن أبحث عن أصل هذه الأحاديث، فوجدت أنها ترجع إلى أصل واحد، وأن الذي تحدَّث بها وتكلم بها رجلٌ يُسمَّى "نوح ابن مريم".
وقد سُئل في هذا فقال: "إني وجدتُ الناس قد شُغلوا بتاريخ ابن إسحاق وفِقه أبي حنيفة عن القرآن فأحببتُ أن ألْفِتَهُمْ إلى القرآن فوضعتُ هذه الأحاديث حِسْبَةً لله.(1/236)
الرُّقْيَةُ دعاء لا دواء:
أما الرُّقَى بالأدعية فإنها تُفَسَّرُ على أنها نوع من الدعاء، ولكنها لا تُقبل على أنها دواء للمريض من الداء، فللأدْواء علاجُها مما خلق الله من العقاقير.
بعد هذا البيان لا يَسَعني إلا أن أدعو المسلمين إلى أن ينظروا للقرآن النظرة اللائقة بمكانته، وأن يضعوه في المرْتبة السامية التي وضعه فيها المسلمون الأوَّلون، وأن يمحوا من أذهانهم أن آياتِه نزلتْ لدواء الأبدان، أو لشفاء العلل، وإنما هو هُدًى ورحمة وتشريع، وتنوير للبصائر وسُمُوٌّ بالإنسانية، وتقويض للشرك وهدم للباطل ونُصرة للحق، والله يهدينا سواء السبيل.(1/237)
آيات وأحاديث:
يقرأ كثير من الناس القرآن ثم يَهَبُهُ للميت فهل ينفعه ذلك؟
تُعرف هذه المسألة بمسألة إهداء ثواب العبادة للموتَى، وقد اختلفت فيها آراء العلماء، ومَنشأ الاختلاف أنه وُجد في القرآن الكريم آياتٌ تُبَيِّنُ سُنَّة الله في الثواب والعقاب، وفي تبديل السيئات بالحسنات، ووُجدت أحاديث صحيحة صريحة في أن الوالدينِ ينتفعانِ بصدَقة ولدهما أو صوْمه أو حَجِّه عنهما؛ فمِنَ الآيات قوله تعالى: (لهَا مَا كَسَبَتْ وعلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). (الآية: 286 من سورة البقرة). وقوله: (قدْ أفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وقدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). (الآيتان 9 ـ 10 من سورة الشمس). (إلَّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عمَلًا صَالِحًا فأُولَئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ). (الآية: 70 من سورة الفرقان). وقوله: (أفَرَأيْتَ الذي تَوَلَّى . وأَعْطَى قَلِيلًا وأَكْدَى. أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى . أمْ لمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحِفِ مُوسَى . وإبراهيمَ الذي وَفَّي . ألَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وأنْ ليسَ للإنسانِ إلَّا ما سَعَى . وأنَّ سَعْيَهُ سوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاءَ الَأوْفَى). (الآيات 33 ـ 41 من سورة النجم).
فهذه الآيات ونحوها ظاهرةٌ في أن الإنسان لا ينتفع إلا بسَعْيِهِ وعمله الذي يُزَكِّى نفسه بالنِّيَّةِ الطيبة والإخلاص لله.
أما الأحاديث التي وَرَدَتْ في الموضوع فكُلها تدور حول الجواب عن سؤال واحد: هو: هل ينتفع أبي وأمي إذا صُمتُ أو تصدقتُ أو حججت عنهما؟ وكان الجواب: نعم. ينفعه ذلك.(1/238)
اختلاف العلماء:
وأمام هذه الآيات وتلك الأحاديث اختلفت آراء العلماء.
فرأى فريقٌ أن الآيات مُقدمة في العمل على الأحاديث، والأحاديث ليس لها قوة الحُكم على الآيات، وبذلك قرَّروا أن الإنسان لا ينتفع بعمل غيره أيًّا كان ذلك العمل، وكيفما كان ذلك الغير.
ورأى فريق آخر أن الأحاديث صريحة في انتفاع الوالدينِ بصدقةٍ ولَدهما أو حَجه أو صومه عنهما، ثم قالوا: لا فرق بين الولد وغيره، وبذلك قرروا أن الإنسان ينتفع بعد موته بعمل غيره متى أَهدى ثوابه إليه، وإن لم يكن من ولده وقالوا: إن الثواب ملك للعامل، فله أن يتبرَّع به ويهديه إلى أخيه المسلم، ثم خرَّج هؤلاء الآيات تخريجًا أوْهَنَ مِن موقفهم أمام المانعينَ. وكذلك كان موقفهم في قياس غير الولد ـ الذي لم يرِد به نصٌّ ـ على الولد الذي ورَد به نصٌّ مع وُجود الفارق بينهما.
أما الدعاء فهو عبادة مُستقلة، ثوابها للداعي فقط، والمَدعو له إنما ينتفع بالاستجابة إذا حصلت، والاستجابة إذا حصلت ليستْ أثرًا لإهداء الداعي ثواب دعائه للميت، وإنما هي شأن خاصٌّ بالله للأحياء والأموات. أما القول بملكية الثواب للعامل فواضح أنه ليس ملكًا بالمعنى المُتعارف في متاع الدنيا لصاحبه نقله وتحويله، فهو توجيه فاسد. وبهذا يتبيَّن أن إطلاق القول بجواز إهداء ثواب العمل ـ أيًّا كان من العامل وكيفما كان ـ لا تنهض له حُجة، ولا يستقيم له دليل.(1/239)
ولد الإنسان مِن سَعْيِهِ:
والرأي الذي أراه هو أن الآياتِ مُحكمة في معناها، وأنها من شرع الله العام الذي لا يختصُّ بقوْمٍ دون قوم، وأن الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها خاصة بعمل الأبناء يهدون ثوابه للآباء، وقد صحَّ في الحديث أن ولد الإنسان من سعْيه، وعمله من عمله، وبذلك كان انتفاع الوالدين بعمل ولدهما، وإهداء ثوابه إليهما مما تتناوله الآيات.(1/240)
الاستئجار على القراءة والحج ونحوهما:
أما ما جرتْ به العادات من قراءة الأجانب القرآن، وإهداء ثوابِها للأموات، والاستئجار على القراءة والحجِّ، وإسقاط الصلاة والصوم، فكل ذلك ليس له مُستند شرعيٍّ سليم، وهو فوق ذلك يقوم على النيابة في العبادات التي لم تُشرع إلا لتهْذيب النفوس، وتبديل سيئاتها حسنات. وهذا لا يكون إلا عن طريق العمل الشخصي. كيف وقد صرح الجميع بأن ما اعتاده الناس من ذلك شيء حدث بعد عهد السلف، ولم يُؤثر عن أحد منهم أنه عمل وأهدى لغير الوالدين، مع ظهور رغبتهم في عمل الخير، ومَحبتهم لإخوانهم الأحياء والأموات، والجدير بالمسلم أن يقف في عِبادته وفي شئون الثواب ومحْو السيئات عند الحدِّ الذي ورَد، فبحسنات الإنسان تذهب سيئاته، وبتقواه تُغفر ذُنوبه، ولا شأن للإنسان في الثواب يُحوله، ولا في السيئات يَمحوها.(1/241)
أخبار يَلُوحُ عليها الزَّيْفُ:
يتحدث كثير من الناس عن طيران بعض الموتَى، وهم مَحْمُولون على أعناق الرجال، وعن تراجُع النَّعْشِ بحامِلِيهِ إلى الوراء، ويتحدَّثُون عن ثِقَلِهِ مرة، وخِفَّتِهِ أخرى، وتنتشر هذه الأحاديث، وتأخذ بين الناس صبغة الواقع الصحيح، وكما يأخذ الموتَى في مُعتقداتهم مكانة الأولياء الذين تبدو كراماتهم الحِسِّيَّة. وكثيرًا ما ينشأ عن ذلك إقامةُ أضرحةٍ لهؤلاء الموتَى باسم الولاية، وتصحب تلك الأضرحة مزارات تُلتمَس بركاتُها، ويُدْعَى مَن فيها، ويُتَّجَهُ إليه في قضاء الحاجات ودَفْعِ المُلِمَّاتِ والكُروب، كما يُصبح للضريح أيضًا خدَمٌ وموظفون، يتلقَّوْنَ النُّذُورَ والصدَقات باسم ساكنه.
وقد سألني الكثيرون أن أُبَيِّنَ لهم موقف الدين من هذه الأمور.
والواقع أن صِدْقَ هذه الأخبار لا يكفي فيه مجرد سماعها، ولا مُجرد رؤية النعش وهو مَحمول على الأعناق يتقهقر إلى الوراء أو يتقدم إلى الأمام، فضلاً عن سماع طيرانه في السماء. لا يكفي سماع شيءٍ من هذا في تصديقه؛ فالناس مُولَعون بتناقُل الأخبار الغريبة، وفيهم مَن هو قابِلٌ لتصديق كل شيء يسمعه، فينقله ويتحدث به ويُقسم عليه. إنَّ صِدْقَ الأخبار يحتاج إلى الوُثوق بصدق حاملي النعْش، والوُثوق بسلامة نفوسهم من الانفعالات الخاصة، التي تُورث الضعف في أعصابهم وتجعلهم يتقهقرون أو يندفعون إلى الأمام بغير انتظام، والوُثوق بأنه ليس لهم نوايَا خاصة في إشاعة أن الميت له عند الله منزلة، يُبنى له بها ضريح، وتُصنع له مَقْصورة، وتُفتح أبوابه للزيارة والنُّذور، وتُقام له الموالد والليالي، إلى غير ذلك ممَّا يكون في واقعه مَوْرِدَ رِزْقٍ جديد لحَامليه، وإلى مَن أعزَّ إليهم بإيجاد هذا المَظْهر.(1/242)
لم يَطِرْ ميتٌ مَحْمولٌ في سيارةٍ:
ومن الغريب أنَّا لم نسمع بذلك إلَّا في القرى؛ حيث تُحمل الموتى على الأعناق، وإلا في عُصورنا المتأخرة التي اتُّخذت فيها هذه المظاهر سبيلًا للتغرير بضعفاء العقول؛ فلم نسمعه عن ميت محمول في سيارة أو قِطار أو في طائرة، لم نسمعه عن باخرة قافلة من بيت الله الحرام، وقد فاضت فيها روح حاجٍّ تَقِيٍّ نَقِيٍّ له بالله صِلَةٌ خاصةٌ. ولم نسمع أن جُثَّته ثقُلت أو امتنعت عن أيدي الذين يَقذفونه في البحر، حتى يُحفظ من الحيتان والأسماك، ويُدفن في القبور العادية.(1/243)
لم يَطِرْ أحدٌ من الصحابة:
لم نسمع شيئًا من ذلك عن أحدٍ مِن الربَّانيينَ الذين ماتوا في العصور الأولى للإسلام، خير القُرون، وعلى رأسهم الخُلفاء الأربعة، وحُماة الإسلام من الصدِّيقينَ والشهداء والصالحين. وإذنْ، فنحن في حِلٍّ مِن تكذيب كل ما نسمع من هذا القبيل ونرفضه ولا نُعْنَى بالبحث عن أسراره وأسبابه.
والإنسان متى فارق الحياة انقطعتْ صِلَتُهُ بالدنيا، وصار أمره لله وحْده.
ومن غريب الأمر أن مثل هذه الأقاصيص المُخترعة لا تُرَوَّجُ إلا في زمن التقهْقر الفكري، وانصراف الناس عن العمل الجاد المُثمر، ولا تُرَوَّجُ إلَّا في بيئات خاصة عُرفت بالسَّذَاجة وتصديق كلِّ ما يُقال.(1/244)
اتجهوا بالسؤال إلى ما ينفع:
وبعدُ:
فنصيحتي للسائلينَ أن يتَّجِهُوا بأسئلتهم نحو ما ينفعهم في دِينهم ودُنياهم، ولِيَعْلَمُوا أن الحياة ـ حياةُ السائل، وحياة المُجِيبِ، وحياة القارئ والمُستمع ـ أعزُّ مِن أن تَضِيعَ في السؤال والجواب عن طيَرانِ المَوْتَى أو تَقهْقُرِهم أو تقدُّمهم، وليس في النَّعْشِ سِوَى جُثَّةٍ هامدة ذهبت رُوحها إلى خالِقها، وهو وحده العليم بحالِها ما لَها وما عليها (ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لكَ بهِ علمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولئكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).(1/245)
الذِّكْرُ بكلمة: "أه"
وهذا سؤال يطلب فيه صاحبه بيان المعنى المقصود من ذكر الله الذي طلبه القرآن وحبَّبه وامتدح أهله: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كثيرًا). (الآية: 41 من سورة الأحزاب). (ولَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ). (الآية: 45 من سورة العنكبوت). (والذَّاكِرِينَ اللهَ كثِيرًا والذَّاكِرَاتِ). (الآية: 35 من سورة الأحزاب). وهل منه هذا اللون الذي نراه ونسمعه من بعض المُنتسبين إلى طوائف الصوفية في الموالد والمُجتمعات التي تُعرف عندهم باسم طوائف الصوفية في الموالد والمُجتمعات التي تُعرف عندهم باسم الحضْرات وهل يَصِحُّ الذكْر بكلمة: "أه" أو بكلمة: "لا إيلاه إيلا اللاه"؟.
والجواب:
أن الأصل في ذِكْرِ الله هو استحضار عظمته وامتلاء القلب بجلاله وجماله، وطريقة النَّظَرِ والتفكير في بديع الصُّنْعِ المُحكم، وآثار القُدرة الباهرة، والحكمة البالغة، والسلطان النافذ، وهو بهذا المعنى أثرُ الإيمان الحق، وأساس المراقبة الصادقة، والباعث على كل خير، ويُقابله الغَفْلة عن تلك العظمة، والغفْلة عن تلك العظمة أثر لضعْف الإيمان، وسبيل للرَّيْنِ على القلوب.(1/246)
وكثيرًا ما يُطلق الذكْر على التعبير اللساني عن تلك العظمة باسم من أسماء الله الحُسنى التي سمَّى الله بها نفسه في كتابه، أو سمَّاه بها رسوله، وهذا هو ما يَعرف الناس اليوم من كلمة: "ذِكْرِ الله" ولكن هذا الذكر اللساني لا يَحصل صاحبه على حظِّ الذاكرين عند الله إلا إذا كان ترجمةً مُعبرةً عن الذِّكْرِ القلبي، وفي غير ذلك يكون حُجَّةً على صاحبه، وذَنْبًا يُحاسب عليه، وأشد منه في المُؤاخذة به هذا اللون الذي نراه في الموالد والمجتمعات المعروفة باسم: "الحضْرات"، وإن مَن يسمعه ويرى القائمينَ به لا يتردَّد في أنه نوع مِن الهزْل والتمثيل الصاخب، والصياح المُنْكَر، الذي لا يُمكن أن يكون مُعبِّرًا عن خاصة ذكْر الله في قلوب المؤمنين: (إنَّما المُؤمنون الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). (الآية: 2 من سورة الأنفال). (ألَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ). (الآية: 28 من سورة الرعد).
أما الذكر بكلمة: "أهْ" ـ بفتح الهمزة وسكون الهاء ـ فهي لفظٌ مُهمل ليس له معنى في اللغة، وليس قطعًا من أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب، أو صحَّ وُرُودُها عن الرسول ـ عليه السلام ـ. وذِكْرُ الله عبادةٌ، ولا يصحُّ لنا أن نعبده إلا بما أَذِنَ لنا أن نعبده به، وإذنْ فالذكْر بها كالذكر بالأسماء المُحرَّفة، والمَدُّ المُغيِّر للحُروف والكلمات؛ فكلاهما ذِكْرٌ فاسد وذكرٌ حرام. وأخشى أن يكون المُتمسكون بألوان هذا الذكْر من الذين أمرنا الله بتَرْكِهِمْ والإعْراض عنهم: (وللهِ الأسماءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وذَرُوا الذينَ يُلْحِدُونَ في أسمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانوا يَعْمَلُونَ). (الآية 180 من سورة الأعراف). ألَا وإنَّ تسمية الله بغير ما لم يُسَمِّ به نفسه، والتحريف فيما سمَّي به نفسه، لَمِن أظهر صور الإلْحاد في أسمائه.(1/247)
هذا. وأرجو أن يُهتم مِن رجال الصوفية بهذا الجانب، وأن يَعملوا على منْع الذِّكْرِ بالأسماء المُخترعة أو المُحرَّفة، وأن يُطهروا مُجتمعات الذِّكْر من صور المهازل الكثيرة التي نراها في الموالد والحضْرات؛ حتى تكون صورةً صحيحة لجمال الإسلام وروعة العبادة، وسبيلاً لقَبول الذِّكْرِ، ورضَا الله والإِنَابَة عليه.
وبعدُ: فكم في الموالد والحضْرات من عادات سيئةٍ، وبِدَعٍ مُنْكَرَةٍ لا يرضى بها الله، ولا يَطمئن إليها المُؤمنون! والخير كل الخير أن يتحرَّى المؤمن في عبادته كلها ما رَسم الله لعباده وبيَّنه رسوله، ودرَج عليه المسلمون الأَوَّلُونَ.(1/248)
ابتداع المَوالد في عُهود التأخُّر:
ما حُكم الدين في إقامة الموالد للمَشايخ ووَضْع الشمع والمناديل على مقاماتهم؟
الموالد: هي هذه الحفلات الصاخبة، أو المجتمعات السُّوقية العامة، التي ابتدعها المسلمون في عُهودهم المتأخرة باسم تكريم الأولياء وإعلان قدْرهم ومكانتهم، عن طريق تقديم النُّذُور والقرابين وذبْح الذبائح، وإقامة حفلات الذكْر، وعن طريق الخُطب والقصص والمناقب والأناشيد، التي تُصور حياة الولِيِّ، وتَصِف تنقُّله في معارج الولاية، وما يتحدث به الناس عنه، ويُضاف إليه من كشْفٍ وخوارقَ وكراماتٍ.
تُقام تلك الحفلات لأولياء المُدن، ولكثير من أولياء القرى، وقد تُقام حفلة الميلاد في السنة الواحدة للولي الواحد مرتينِ فأكثر. ولهذه الموالد على العموم عُشاق يضعونها في مَصافِّ الشئون الدينية التي يتقرَّبون بها إلى الله عن طريق الولِي، فيَحفظون تواريخها، ويُهيئون طول العام لها، حتى إذا ما حلَّ وقتُها تراهم يَحزمون أمتعتهم، ويَرتحلون بقَضِّهِم وقَضِيضِهِمْ، برجالهم ونسائهم، بشيوخهم وشُبَّانهم. ويُلقون بأحمالهم ـ كما يقولون ـ على شيَّال الحمول صاحب المولد، تاركينَ بُيوتهم ومَصالحهم في قُراهم ومزارعهم مدةً تتراوح بين أسبوع وأسبوعين.
والمَشياخ الأولياء ـ من جهة تعلُّق الناس بهم، والعناية بمَوالدهم ـ على قِيَمٍ مختلفة ودرجات متفاوتة، فمنهم مَن يَعْظُمُ عند الناس جاهُه، ويمتد في نظرهم سلطانه. ويتسع صدره لكل لونٍ من ألوان الحياة، ولكل رغبةٍ مِن رغبات الطوائف، حتى لقد تَرَى حفلات المُقامرين والمقامرات بجانب حفلات المُدمنين والمدمنات، وبجانبها حفلات الذاكِرينَ والذاكرات، والخلِيعين والخليعات، والراقصين والراقصات، ويَجُوسُ خلال الجميع المُتسوِّلون والمُتسولات، والنشَّالون والنشالات، وكل ذلك يُصنع في الموالد، وعليه تُقام، وإليها يُهرع الناس باسم الولاية وتكريم المشايخ.(1/249)
مباءة للمفاسد:
ومهما قال عُشاق الموالد، والمُتكسبون بها ومُروِّجوها ـ من أن فيها ذِكْرَ الله والمَواعظ وفيه الصدقات، وإطعام الفقراء ـ فإن بعض ما نراه فيها ويراه كل الناس ـ من ألوان الفُسوق وأنواع المَخازي، وصور التهتُّك، والإسراف في المال ـ ما يُحتِّم على رجال الشئون الاجتماعية، وقادة الإصلاح الخُلقي والديني المبادرة بالعمل على إنْهائها ووضْع حدٍّ لمَخازيها، وتطهير البلاد مِن وَصْمَتِهَا. ولقد صارت بحقٍّ ـ لسُكوت العلماء عنها، ومُشاركة رجال الحُكم فيها ـ مباءةً عامة تُنتهك فيها الحُرمات، وتُراق في جوانبها دماء الأعراض، وتُمسخ فيها وُجوه العبادة، وتُستباح البِدَعُ والمُنكرات، ولا يقف فيها أرباب الدِّعارة عند مظهر أو مظهرين من مظاهر الدعارة العامة، وإنما يُنكرون ويَبتدعون ما شاء لهم الهوَى من صور الدعارة المُقوِّضة للخُلق والفضيلة.
ومِن أشد ما يُؤلم، أن نرى كثيرًا من تلك المناظر الداعرة تُطوِّق في المدن معاهدَ العلم والدين ومساجد العبادة والتقوى، على مَسْمَعٍ ومرأى من رجال الحكم، ورجال الدين أرباب الدعوة والإرشاد.(1/250)
مقامات الأولياء:
أما وضْع الشمع والمناديل على مقامات الأولياء فينبغي أن يُعرف أولاً: أن الدين لا يَعرف شيئًا يُقال له: "مقامات الأولياء" سوى ما يكون للمؤمنين المتقين عند ربهم من درجات، وإنما يَعرف كما يعرف الناس أن لهم قُبورًا، وأن قبورهم كقبور سائر موتَى المسلمين، يَحرم تشييدها وزخْرفتها وإقامة المقاصير عليها، وتَحرم الصلاة فيها وإليها، والطواف بها، ومُناجاة مَن فيها، والتمسُّح بجُدرانها، وتقبيلها والتعلُّق بها، ويَحرم وضْع أستار وعمائم عليها، وإيقاد شموع أو ثُرَيَّاتٍ حولها. وكل ذلك ـ مما نرى ويتهافت الناس عليه ويتسابقون في فعله على أنه قُرْبَةُ الله أو تكريم للولِيِّ أو قُربة وتكريم ـ خروج عن حُدود الدين، وارتكاب لِمَا حرَّمه اللهُ ورسوله في العقيدة والعمل، وإضاعة للأموال في غير فائدة، وسبيل للتغرير بأرباب العقول الضعيفة، واحتيال على سلْب الأموال بالباطل.
أما بعدُ ـ فهذا هو حُكم الدين في الموالد، وهذا حُكْمه فيما يصنع بمقامات الأولياء، فمَتى يتنبَّه المسلمون ويتقرَّبون إلى الله بمَا يرضاه الله، وتقرَّب به إليه أولياؤه، الذين آمنوا وكانوا يتَّقون؟(1/251)
الليلة المُباركة في القرآن:
يذكر الناس فضائل كثيرة لليلة النصف مِن شهر شعبان، ويُؤدون فيها صلاةً بِنِيَّةٍ خاصةٍ، ويدعون بدعاء مشهور، ويقولون: إن هذه هي الليلة المباركة التي يُفْرَقُ فيها كل أمر حكيم ويُبرم، نرجو من فضيلتكم بيان الخطأ والصواب في هذه الاعتقادات والأعمال.
قال ـ تعالى ـ في أول سورة الدخان: (إنَّا أنْزَلْنَاهُ في ليلةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فيهَا يُفْرَقُ كلَّ أمْرٍ حَكِيمٍ أمْرًا مِن عِنْدِنَا إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّهُ هُوَ السميعُ العليمُ). (أول سورة الدخان).
هذه إحدى آيات ثلاثٍ، جاءت في القرآن تتحدث عن إنزاله وعن الزمن الذي أنزل فيه، والآية الثانية هي قوله ـ تعالى ـ: (إنَّا أنْزَلْناهُ في ليلةِ القدْر) والآية الثالثة قوله ـ تعالى ـ: (شهْرُ رمضانَ الذِي أُنْزِلَ فيهِ القُرْآنُ). وهدف الآيات الثلاث تأكيد أن القرآن لم يكن ـ كما كان يزعم مُنكرو الرسالة ـ مِن صُنع محمد، وإنما هو مِن عند الله، أنزله بعِلْمه وحِكْمته هُدًى للناس وبيِّنات مِن الهدى والفرقان.
وقد وصف الآية الأُولى الليلة التي أُنزل فيها (ليلةٍ مُباركةٍ) وهي الصِّفَةُ التي وُصِفَ بها القرآن في قوله ـ تعالى ـ: (وهذَا كِتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصِدِّقُ الذي بيْنَ يدَيْهِ ولِتُنْذِرَ أمَّ القُرَى ومَن حَوْلَهَا). وسُمِّيَتْ في الآية الثانية بـ: (ليلةِ القَدْرِ). وهو الشرَف وعُلُوُّ المكانة، وبيَّنتِ الآية الثالثة أن شهر تلك الليلة هو شهر رمضان، الذي فَرَضَ الله على المؤمنين صوْمَهُ، تَذْكِيرًا بنِعْمَةِ إنزالِ القرآن وشُكْرًا لله عليها.(1/252)
الروايات والآراء:
ومع وُضوح الاتِّساق بين هذه الآيات الثلاث هكذا وتَسانُدها، وشدِّ بعضها أزْرَ بعض في تقرير أن القرآن أنزله الله على الناس في ليلة مُباركة، ذات قدْر وشرَفٍ، وأنَّ رمضان هو شهر تلك الليلة، مع وُضوح هذا نرى الروايات والآراء خَلقت في كتب التفسير حول هذه الآيات جَوًّا اصطرعت فيه اصطراعًا أثارَ على الناظرين في القرآن غُبارًا طَمَسَ عليهم مِحْوَرَهَا الذي تَدُورُ عليه، وباعدتْ بينها في الهدف الذي ترمي إليه.
وكان من ذلك ما قيل وذاعَ بين الناس أن "الليلة المباركة" في الآية الأولى، وهي "ليلة النصف مِن شعبان" وأن الأمور الحكيمة التي تُفرَق فيها هي الأرزاق والأعمار وسائر الأحداث الكونية التي يقدرها الله، ثم يظهر ما يقع منها في العام للمنفذين من الملائكة الكرام!! ويمتد الكلام إلى التفرقة بين التقدير الذي يحصل في تلك الليلة والتقدير الذي يروى أيضًا عن ليلة القدر، ثم إلى الفرق بين كل من هذين التقديرين اللذين يحصلان في هاتين الليلتين: "ليلة النصف وليلة القدر" وبين التقدير الأزلي لهذه الأحداث يمتد الكلام في الفرق بين هذه التقديرات الثلاثة بما أعتقد ويعتقد كل مؤمن أنه خوض في أمر محجوب، وهجوم على غيوب استأثر الله بعلمها ولم يرد بها نص قاطع من قبله.(1/253)
الناس في ليلة النصف:
وكان منه أيضًا، اعتقاد العامَّة وأشباههم، أن ليلة النصف من شعبان ليلةٌ ذات مكانة خاصة عند الله، وأن الاجتماع لإحيائها بالذِّكْرِ والعبادة، والدعاء والقراءة مشروع مطلوب، وتَبِعَ ذلك أن وضع لهم في إحيائها نظام خاص يجتمعون في المسجد عقِب صلاة المغرب ويُصلون صلاة خاصة باسم "صلاة النصف من شعبان"، ثم يقرءون بصوت مُرتفع سورة مُعينة هي: "سورة يس"، ثم يبتهلون كذلك بدعاء يُعرف: "بدعاء النصف من شعبان" يتلقنه بعضهم من بعض، ويحفظونه على خلَلٍ في التلقين وفساد في المعنى، ويُكررونه ثلاث مرات: إحداها بِنِيَّةِ طُولِ العمر، والثانية بنِيَّةِ دفْع البلاء، والثالثة بنِيَّةِ الإغناء عن الناس. ويعتقد العامة أن التخلُّف عن المشاركة في هذا الاجتماع نذيرٌ بقِصَرِ العمر وكثرة البلاء والحاجة إلى الناس. ويَنتهز بعض تُجار الكتب ليلة النصف فُرصة، يَطبعون فيها "سورة يس" مع الدعاء، ويكلفون الصبية توزيعها في الطرقات والمركبات والمجتمعات، منادين على سلعتهم "سورة يس ودعاءها بخمسة ملاليم!!".(1/254)
دعاء نصف شعبان:
وإذا كنت ممَّن لم يُوَفَّقُوا إلى قراءة هذا الدعاء أو سماعه فاعلم أنهم يطلبون فيه من الله مَحْوَ ما كتبه في أم الكتاب مِن الشقاوة وتبديلها سعادةً، والحِرْمان وتبديله عطاء، والإقتار وتبديله غِنًى، ويذكرون في تبرير هذا الطلب وحيثياته أن الله قال في كتابه: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِندَهُ أُمُّ الكتابِ). (أواخر سورة الرعد) وهو تحريف واضح للكلِم عن مواضعه؛ فإن هذه الآية سِيقتْ لتقرير أن الله ينْسخ من أحكام الشرائع السابقة ما لا يتَّفق واستعداد الأمم اللاحِقة، وأن الأصول التي تحتاجها الإنسانية العامة ـ كالتوحيد والبعْث والرسالة، وتحريم الفواحش ـ دائمة وثابتة، وهي: "أم الكتاب" الإلَهِيِّ الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، وإذنْ لا علاقة لآية المَحْوِ والإثبات بالأحداث الكوْنية حتى تُحشر في الدعاء، وتُذكر حيثيةً للرجاء.(1/255)
شهر شعبان:
والذي صحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحُفظت روايتُه عن أصحابه، وتلقَّاه أهل العلم والتمحيص بالقَبول إنما هو فقط فضل شهر شعبان كله، لا فرق بين ليلة وليلة، وقد طلب فيه على وجهٍ عام الإكثار من العبادة وعمل الخير، وطلب في الإكثار من الصوم على وجه خاصٍّ، تدريبًا للنفس على الصوم، وإعدادًا لاستقبال رمضان، حتى لا يُفاجأ الناس فيه بتغيير مأْلُوفهم فيَشُقُّ عليهم. وقد سُئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أيُّ الصوم أفضل بعد رمضان؟؟ فقال: شعبان لتعظيم رمضان". وتعظيم رمضان إنما يكون بحُسن استقباله والاطمئنان إليه بالتدرُّب عليه وعدم التبرُّم به. أمَّا خصوص ليلة النصف والاجتماع لإحيائها وصلاتها، ودعاؤها فإنه لم يرِد فيها شيء صحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يعرفها أحدٌ من أهل الصدر الأول.(1/256)
رأي الشيخ محمد عبده:
ويجدر بي أن أسوق هنا ما كتبه الشيخ الإمام عن: "الليلة المباركة" في تفسيره "جزء: عمَّ" قال أجزل الله ثوابه:
"أما ما يقوله الكثير من الناس ـ من أن الليلة المباركة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان، وأن الأمور التي تُفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يَقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر ـ فهو من الجُرأة على الكلام في الغيب بغير حُجة قاطعة، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك ما لم يرِد به خبرٌ مُتواتر عن المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومثل ذلك لم يرِد؛ لاضطراب الروايات وضعف أغلبها، وكذِب الكثير منها، ومثلها لا يصحُّ الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العِزَّةِ، ونُزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين لعدَم تواتر خبَرِه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يجوز لنا الأخْذ بالظن في عقيدة مثل هذه وإلا كنا من الذين قيل فيهم: (إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ) نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المُصيبة، مُصيبة الخلْط بين ما يصحُّ الاعتقاد به من غيب الله ويُعَدُّ من عقائد الدين، وبين ما يظنُّ به للعمل على فضيلة من الفضائل، فاحْذَرْ أن تقع فيه مثلهم".
يحذرنا الأستاذ الإمام أن ننزل في عقائدنا على حُكم الظن، فإن الظن لا ينبُع منه اليقين، وإن الظن لا يُغني من الحق شيئًا، وإن الاعتقاد بالظن قول على الله بغير علم. والقول على الله بغير علمٍ صِنْوُ الإثْمِ والبَغْيِ عند الله.
وقد كان هذا هو منهج الإمام في العقائد، ومنهجه في تفسير كتاب الله: سيْرٌ في المحجة الواضحة. واعتقاد بالحُجة القاطعة. وبُعد بكتاب الله عن الظنون والأوهام. ورحمة الله على الإمام. والسلام على مَنِ اتَّبع الهُدى.(1/257)
معنى الدين الذي يجب التعبُّد به:
يجري على ألْسنة كثير من الناس كلمة: "بدعة وابتداع" ويتسع معناهما تارة حتى لا يخرج عن دائرتهما شيء، ويَضيق تارة حتى لا يتناول شيئًا. فهل لنا أن نسمع أو نقرأ تحديدًا عامًّا يضبط ما يدخل فيهما وما يخرج عنهما؟
هذا هو السؤال الذي وُجِّه إلينا فيما يخصُّ البدعة والابتداع فكان جوابنا عنه ما يأتي:
كلَّف الله عباده عقائدَ تتصل به ـ سبحانه ـ وبرسالاته وكُتبه إليهم، وتتصل باليوم الآخر الذي أعدَّه لدار الجزاء، وكلَّفهم ـ أيضًا ـ عباداتٍ هي غذاء لهذا الإيمان وعلامة على الصدق فيه، وحرَّم عليهم أشياء صَوْنًا لحياتهم وحِفْظًا لعُقولهم وأعراضهم وأخلاقهم، وقد فصَّل لهم في كتبه ورسالاته ما كلَّفهم إياه وما حرَّمه عليهم، وكان مجموع ما فصَّل وبيَّن ـ على الوجه الذي بيَّن وفصَّل ـ هو الذي تعبَّدهم به، ولا يَقبل منهم سواه، وكان امتثاله والقيام به، على وجهه المبين في الكتب الإلهية وعلى ألْسنة الرسل، هو التديُّن الصادق، الذي يقف بصاحبه في العقيدة والعبادة، والحِلِّ والحُرْمَة عند حدِّ ما شرع الله وبيَّن، وكان التصرُّف في شيء منه هو الانحراف عن دين الله، وهو الابتداع فيه.(1/258)
لا تغيير في الأمور الدنْيوية:
ومِن هنا يُعلم أن الابتداع في الدِّين إنما يكون فيما تعبَّدَنا الله به من عقيدة أو عبادة أو حِلٍّ وحُرْمة.
أما ما لم يتعبَّدْنا الله بشيء منه ـ وإنما فوَّض لنا الأمر فيه باختيار ما نراه موافقًا لمصلحتنا ومُحققًا لخيرنا بحسب العصور والبيئات ـ فإن التصرف فيه بالتنظيم أو التغيير لا يكون من الابتداع الذي يُؤثر على تديُّن الإنسان وعلاقته بربه، بل إن الابتداع فيه من مُقتضيات التطوُّر الزمني الذي لا يسمح بالوقوف عند حدِّ المَوروث مِن وسائل الحياة عن الآباء والأجداد. وإذا كان لحياة الأبناء والأحفاد وسائل غير وسائل الحياة لأسلافهم كان مِن ضرورة بقائهم وطيِّب حياتهم ومُسايرتهم للتقدُّم الزمني أن يخلعوا وسائل الأسلاف التي لا تتفق وزمنهم، ويعملوا جاهدينَ في تلبية عُصورهم بما تطلبه وتقضي به، وإلا تخلَّفوا عن الركب المُجِدِّ في السيْر، وانقطع حبل اتصالهم به، وصاروا في عُزلة لا يُسمع لهم فيها صوت، ولا يُعرف لهم فيها وجود.
ولو كان من سُنَّةِ الله في تعبُّده لعباده أن يُقيَّدوا في هذا الجانب بمنهج خاص لحَدَّدَ لهم أرض الزراعة وأنواعها وطُرقها، ولَحَدَّدَ لهم نوعًا من القوة التي أمرهم بإعدادها وأطلقها إطلاقًا، ولحدَّد لهم نوعًا أو نوعينِ من مظاهر الحضارة المختلفة التي يعلم أنها ستكثر وتنتشر وتأخذ بأطراف العالَم، ولكنه ـ سبحانه وتعالى ـ لم يُحدد لعباده شيئًا مِن ذلك، بل أطلق للعقل الإنساني حريته في هذا الجانب كله، ولم يأمره إلا بالبحث والنظر، والكدِّ والعمل بقصد الإصلاح والتعمير: (واللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ). (الآية 220 من سورة البقرة).(1/259)
مَثَلٌ مِن تاريخ السابقين:
وقد كان ما أخذ به الأمم السابقة، وقبَّحه منهم ونعاه عليهم خاصًّا بالابتداع في العقائد والعبادات والحل والحرمة، ولم يكن شيءٌ منه مما يتصل بزِينة الحياة التي أخرج لعباده أو بِنُمُوِّهَا وتَقَدُّمِهَا، فهو لم يُنكر ـ مثلًا ـ على أهل سبأ أن تكون لهم جنتانِ عن يمينٍ وشمال. ولم يُنكر على قارون أن كان له من الكُنوز ما إنَّ مفاتحه لتَنُوءُ بالعُصبة أولِي القوة، بل نرَى في القرآن الكريم امتنانه ـ سبحانه ـ على داود بإِلَانَةِ الحديد له، ونرى أمره إيَّاه بصُنْعِ الدُّرُوع السابغة الواقية، ثم نراه ـ سبحانه ـ يرضى عن دعوة سليمان: (رَبِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعْدِي). (الآية: 35 من سورة ص). ويُفسح لها مجالها، فيُسخِّر له الريح تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب، ويُسيل له عين القِطْرِ، ويُسخِّر له الجنَّ يعملون ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، ثم يُطعمه في المزيد ويُغريه بالعمل.
(اعْمَلُوا آلَ داودَ شُكْرًا وقليلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ). (الآية: 13 من سورة سبأ).(1/260)
موضع الإنكار على الأمم السابقة:
نعم: لم يُنكر الله على أحدٍ مِن خلْقه ابتداع شيءٍ من مُتَعِ الحياة الطيبة، ولا مِن وسائل قُوَّتها واتساع عُمرانها، وإنما كان الذي أنكره ابتداع الناس فيما بيَّن ورسم، وتعبَّد به عباده في العقيدة والعمل، والحِلِّ والحُرمة.
أنكر على مَن تخيَّلوا أن في بعض المخلوقات روحًا من أُلوهية الله بها كان في نظرهم إلهًا أو بعض إلهٍ، وبها استحقَّ أن يُعبد، وأن يشفع عند الله، وأن يُقرّب إليه زُلْفَى.
وأنكر على مَن غيَّروا وبدَّلوا في رسوم العبادة وكيفيتها، فعبدوا بما لم يُشرع وغيَّروا فيما شرع، فكانت صلاتهم عند البيت مُكاءً وتصديةً، وطافوا به عرايَا، وحرَّموا ما أحلَّ الله وقالوا: (هذهِ أنْعَامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إلَّا مَن نَشَاءُ). (الآية: 138 من سورة الأنعام).
هذا وحده هو الابتداع في الدين، هو الابتداع الذي يخرج به المؤمن عن دائرة الرسالة الإلهية، هو الابتداع الذي يَغتصب به المبتدع حقَّ الله في تشريعٍ هو له وحده، هو الابتداع الذي به يضع المُبتدِع نفسه موضع مَن يرى أن العبادات أو العقائد ـ التي رسمها الله ليَتقرب بها العباد إليه ـ ناقصةً أو فاسدة، فأكملها أو أصلحها بابتداعه! أو موضع مَن يرى أن الرسول الذي اصطفاه الله لتَبليغِ دينه قد قصَّر فيما أُمِرَ بتَبْليغه، وحجَز عن عباد الله بعض ما يُقربهم إليه!.
ولقد كان هذا الابتداع هو السبب الوحيد في نسيان الأمم السابقة شرائعَ الله وأحكامه، هو السبب الوحيد في انْدراسِ العقائد والعبادات، وفي التحلُّل من قيود الحِلِّ والحُرْمَةِ، وانتزاع التديُّن من القلوب، وبذلك انقطعت صلتُهم بالخالِق، وصار أساس التعامُل بينهم القوة الغاشمة، والطغيان المُزْرِي بالإنسانية!.(1/261)
كلمة بِدْعَة في مُجتمعنا:
هذا وقد جرت على ألْسنتنا من قديمٍ كلمة: "بدْعة"، وأخذها بعض الناس عامة في العبادات والعادات، وحرَّموا باسْمها كثيرًا من العبادات الطيبة ووسائل الحياة القوية، وأهْدر بعضٌ آخر قيمتها باسم حرية الرأي، وامتدت إلى العقيدة فأفْسدتْها، وإلى العبادة فحرَّفتها أو أهملتها، واستباح المُنتسب للإسلام بهذا الوهْم الخادع أن يعتقد ما يشاء، وأن يَعبد أو لا يعبد كما يشاء، وتبعًا لاختلاف المُنتسبين إلى الدين في هذا الموقف اختلفت الأمة على نفسها، وصارت شِيَعًا وأحزابًا، لا أقول في الإقليم والإقليم، وإنما نرى في الإقليم الواحد، ونسمع طعْنَ بعض المُتدينين في بعض بالإلْحاد والزندقة والتزمُّت، وبذلك تفرَّقت القلوب وضعُفت الوحدة، وتعرَّض الدين للتلاشي كما تعرض له مِن قبلُ.(1/262)
الشخصية الإنسانية العامة للمسلمين:
وسِرُّ المسألة أن للمجتمع الإسلامي شخصيةً خاصة وشخصية عامة. بل لكل مجتمع ذي دينٍ شخصيتانِ: شخصية إنسانية عامة يُشاركها فيها سائر المجتمعات الإنسانية وهو ـ من هذا الجانب، وبتلك الشخصية ـ له وعليه أن يفكر فيما يصلح له شأنه الإنساني، ويجعله ذا مركز في الحياة، يُجاري به على الأقل إنْ لم يسبق سائر المُجتمعات البشرية.
عليه أن يفكر في طرق الإصلاح الزراعي والصناعي، وتنسيق موارد الاقتصاد. وتركيز قُوته بالوسائل والمُعدات التي تحفظ عليه وطنه واستقلالهن وتَقِيهِ عادِيَةَ الطامعينَ المُغيرين على الناس بغير حقٍّ.
عليه أن يُفكر فيما لا يُلائم عصره مِن طرق التثفيف وخُطط التعليم بما يُوسِّع مدارك أبناء الشعب، ويصل بهم إلى الثقافة النافعة مِن أقرب الطرق وأيْسرها، وليس له أن يَجْمُدَ على ما ورث من ذلك عن آبائه وأجداده، ويقف مكتوفَ اليد دون أن يَسلُك طريق الاختراع والابتداع فيما يُحقق له العِزَّةَ والمَجْدَ مِن وسائل الحياة. وإنْ كان ما يُحدثه في هذا الجانب مِن المُخترعات التي لم يُسبق بها يكون محفوظًا له في تاريخ العاملين على ترقية شعوبهم، ويكون له في الوقت نفسه من الثواب عند الله بقدْر ما ينتفع العباد بمُخترعاته وإنتاجه.(1/263)
وقد ترك الله في شرْعه هذا الجانب من الحياة للتفكير البشري، ولم يُقيده فقيهٌ بتشريعٍ مُعينٍ ولا أسلوبٍ خاصٍّ، بل دعاه إلى التفكير والنظر فيما يصلح شأنه، على حساب الإيحاءات الزمنية والوسائل العصرية المُتبدلة المُتغيرة؛ ولعل ذلك هو المقصود بمثل قوله ـ عليه السلام ـ: "أنتم أعلمُ بشئون دُنياكم". وإذنْ؛ ليس لنا أن نقول عن شيء يقع في هذه الدائرة إنه لم يفعله الرسول ولا أحد مِن خلفائه، فلا تفعله، ذلك بأنهم لم يفعلوه؛ لأن زمنهم لم يطلبه، ولم تُخلق لديهم بواعث عمله أو التفكير فيه. ومحال على الرسول وخُلفائه أن يعترض تقدمهم في الحياة شيءٌ لا يَمَسُّ عمله عقيدة ولا عبادة، ولديهم وسائله والقُدرة عليه، ثم لا يعملوه بحُجة أن الله لم يأذن لهم فيه!
وقد وافق الرسولُ ـ عليه السلام ـ سلمانَ الفارسي فيما أشار به من حفْر الخندق حول المدينة حينما جاءتهم الأنباء بتجمُّع الأحزاب لمُهاجمتها، واشترك ـ عليه السلام ـ بشَخصه في الحفْر ونقْل الأتربة!
وما مشروعات عمر بن الخطاب ـ في تنظيم الدولة وإنفاذ الجيوش، وترتيب الخراج، وحبْس ما أفاء الله على المؤمنين، وتعيين الولاة وتغييرهم ـ إلا أثرٌ من آثار هذا الإطلاق الذي كانوا يُؤمنون أن الله تركهم عليه، يبحثون به ما يحتاجون إليه من الشئون الزمنية.
وبهذا الإطلاق استطاعوا في وقتٍ وجيزٍ أن يقتحموا الحُصون، ويدكوا صروح الظلم وعُروش الفساد والطُّغيان، وأن يُثبِّتوا أقدامهم فيما استطاعوا أن يثبتوا أقدامهم فيه من أرض الله الواسعة، فدانت لهم قُوى الفساد في الأرض، وأيْقظوا الإنسانية الفاضلة مِن نَوْمِهَا، وأخذت تعمل بوَحْيِهِم وإرشادهم في أرض الله، حتى أظهرت ما أظهرت مِن أسرار الله في كوْنه وانتفع بها الناس، وساروا على هُدًى مِن ربِّهم وأولئك هم المُفلحون.(1/264)
هذه هي الشخصية الإنسانية العامة التي يُشارك المجتمع الإسلامي فيها سائر المجتمعات، والتي كان الابتداع فيها وفي وسائل حياتها رائدَ المَجْد والكمال.(1/265)
الشخصية الإسلامية الخاصة:
أما الشخصية الخاصة للمجتمع الإسلامي فهي الشخصية التي تُحدد دائرتها العقيدة والعبادة، وأصول المُحرمات التي حظَرها الدينُ حِفْظًا للعقائد والأخلاق، وحفْظًا للعقول والأبْدان، وهي الأصول التي تَلتئم منها الشخصية الإسلامية ولا تَتحقَّق إلا بها. وهذه الدائرة لا تُتلقَّى أحكامها إلا مِن جهة الوحْي، بيانًا بالقرآن، أو بيانًا بفعل الرسول التشريعي العام، ولا يصحُّ التصرُّف البشري فيها، لا بتغيير في كيفيتها ولا بزيادة عليها ولا بنَقْصٍ منها، وهي الدين الذي أكمله اللهُ لعباده.
وهذه الشخصية هي التي لا يقبل فيها الابتداع بوجهٍ من الوُجوه؛ فهي بأحكامها الخاصة المَظهر الصادق للإسلامية التي يُريدها الله، والمُحافظة عليها هي السبيل الوحيد لبقائها وتمييز المسلمين بها، ومِن هنا كان الابتداع في شيء منها خروجًا عن حُدودها التي رسمها الله: (تلكَ حُدُودُ اللهِ فلا تَعْتَدُوهَا ومَن يَتَعَدَّ حُدودَ اللهِ فأُولئكَ همُ الظالِمونَ). (الآية: 229 من سورة البقرة).
وفي هذا يقول الرسول: "مَن أحدثَ في دِيننا ما ليس منه فهو رَدٌّ". أيْ: مَردود على صاحبه غير مقبول؛ ذلك أن الابتداع في شيء مِن عناصر هذه الشخصية يتضمَّن خفاءَ كثيرٍ مِن أحكامها، كما يتضمن كثيرًا ممَّا يُشوِّه جمالها ويُلبس حقها بالباطل؛ وخفاء أحكامها سبيل لانْدراسها وضياعها، وتشويه جمالها سبيل لإعراض الناس عنها، وسُخريتهم منها.(1/266)
الابتداع مصدر الفُرْقَةِ:
والابتداع بعد هذا وذاك ليس ذا مصدر واحد، وإنما تتعدد مصادره بمصادر المُبتدعين، وكل مبتدع يتَّبِعُ في ابْتداعه هواه، والهوى مُتشعب النواحي مختلف الأهداف؛ ومِن هنا نجد الشخصية الدينية التي انتابها الابتداع لا تقف في العقيدة الواحدة عند وَضْعٍ واحد، بل تتعدَّد في أوضاعها وصُورها بتعدُّد الأهواء التي أدخلت عليها الابتداع، ومِن ثَم تصير الشخصية الدينية الواحدة ـ التي نزلت للتوحيد بين الناس فيما يتقربون به إلى الله الواحد ـ شخصياتٍ متعددةً، تقف كل شخصية منها عند مبتدع من المبتدعين وأتباعه الذين يسلكون طريقه. ومن هنا تفقد الأمة وحدتها الدينية، ويتحكم بين هيئاتها الابتداعية تنافُس العداوة والبغضاء، وكثيرًا ما يشتد التنافس والخصام، وتشتعل نارهما فيقع بينهم التكفير واستحلال الدماء، وتنقلب الأمة يضرب بعضها رقاب بعض، وقد جاء حفظًا لوحدة الأمة في هذا الجانب قوله ـ تعالى ـ: (واعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جميعًا ولا تَفَرَّقُوا). (الآية 103 من سورة آل عمران).(1/267)
وصحَّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "خَطَّ خَطًّا بيدهِ، ثم قال: هذا سبيل اللهِ مُستقيمًا، ثم خَطَّ خُطوطًا عن يمينِ هذا الخطِّ وعن شماله، ثم قال: وهذه السُّبُل ليس فيها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ هذه الآية الكريمة: (وأنَّ هذا صِراطِي مُستَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ). (الآية 153 من سورة الأنعام) وفي ذلك تقول السيدة عائشة: "ألا إنَّ نَبِيَّكُمْ قدْ بَرِئَ ممَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ واحْتَرَبَ، ثم تَلَتْ قوله ـ تعالى ـ: (إنَّ الذينَ فَرَّقُوا دِينَهمْ وكانُوا شِيَعًا لستَ مِنْهُمْ في شيءٍ إنَّما أمْرُهُمْ إلى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بمَا كانُوا يَفْعَلُونَ). (الآية: 159 من سورة الأنعام). وقد عرفنا مِن تاريخ الأديان والشرائع أن التحريف الابتداعي قد أصابها من جهات ثلاث:
من جهة العقيدة: ومنها دخل الشِّرْكُ وعبادة غير الله ودُعاؤه، والاستعانة به، واللجوء إليه!
ومِن جهة العبادة: ومنها دخل التغيير بالزيادة أو النقْص، والتغيير في الكيفية.
ومن جهة الحلال والحرام: ومنها حرَّم الحلال، واحْتِيلَ فحَلَّلَ الحرام.
وإذا كانت البشرية في كل زمان هي البشرية، ولا تَخلوا عن مُنحرف أو مُتعصب يعدو على شرع الله بغير علْم ولا هدى، ولا تخلو كذلك عن مجامل للمنحرفين أو المتعصبين فإن أشد ما أخشاه على شخصيتنا الدينية أن تسلك أمتنا بالأهواء أو التعصب مسلك السابقين، فتَطْغَى البِدَعُ على ديننا والانحراف على استقامتنا، وبذلك تَحِقُّ علينا كلمة الرسول: "إنكم تَتَّبِعُونَ سَنَنَ مَن قَبْلَكمْ شِبْرًا بشبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ؛ حتَّى لوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ دَخَلْتُمُوهُ".(1/268)
وبعد: فهل لعلمائنا الفاقِهين الذي يؤمنون بوحدة أمتهم في عقيدتها وعبادتها وأصول تفكيرها، ويُؤمنون بثمرة هذه الوحدة الطيبة في الدنيا والآخرة، ويؤمنون بالعاقبة السيئة لتفرُّق الأمة في ذلك، وهل لزُعمائنا الغَيُورين الذين يعملون في الجوانب السياسية والاقتصادية والحربية على التركيز، وتوحيد الكلمة والمنهج، هل لهم جميعًا أن ينظروا إلى هذا الجانب الديني أيضًا، ويعملوا بإيمانهم وحِكْمَتهم على إحيائه سليمًا نَقِيًّا، وعلى وحدة المسلمين فيه، والرجوع بهم إلى المَحجَّة البيضاء التي تركها الرسول، وظلَّت قائمةً بمَصادرها الخالدة من كتاب وسُنة؟.
هذا ما أرجو أن يعمل عليه الزعماء والعلماء، حتى يُحققوا للإسلام الوحدة التي رسمها الله، ويَفوزوا بتوفِيقه ورِضاهُ.(1/269)
الكفَّارة وشرعيتها:
ما الحِكمة في تشريع الكفَّارة؟ وما السِّرُّ في تخصيص أفعال مُعينة لتكفير ذنوب معينة؟
إن الإنسان ـ بما رُكِّبَ فيه من قُوَّتَيِ الشهوة والغضب ـ عُرضة للوقوع في الذنوب والسيئات بمُخالفة أوامر الخير والطاعات، ولا يَسلم من ذلك إلا بعِصْمَةٍ من الله تَحُول بينه وبين شهْوته وغضبه. ومن رحمة الله بالمؤمن أن شرَع له وسائل كثيرة إذا فعلها وقام بها على وجهها طهُرت نفسه مِن أدْران المعصية السابقة، وقَوِيَتْ على طرد بواعث المَعصية اللاحقة، وبذلك يحصل على علاج ما وقع، وعلى الوقاية مما يتوقع. ولو تنبَّه المؤمن إلى تلك الوسائل العلاجية الوقائية، وامْتثل إرشادها؛ لأقبلَ على الله طاهرًا نَقِيًّا، ورَاضِيًا مَرْضِيًّا، ولأقبل اللهُ عليه، عَفُوًّا كَرِيمًا، غَفورًا رحيمًا.(1/270)
الكفارات عامة وخاصة:
وهذه الوسائل، التي شُرعتْ علاجًا للذنوب ووقايةً منها، هي المعروفة في لسان الشرْع باسم "الكفَّارة" وهي بالاستقراء والتتبُّع لمَواضعها، نوعانِ: نوع عام لم يُخصص بذنب مُعيَّن، ولا بوَسيلة مُعيَّنة. ونوع خاص، خُصصت فيه وسائل مُعينة لذُنوب معينة.
ومن النوع الأول: الصبر على المَكروه، يُصيب الإنسان في بدَنه أو ماله أو ولَده "ما مِن مسلم يُصيبه أذًى، شوكةٌ فما فوْقها، إلا كفَّر الله بها سيئاته، وحطَّ عنه ذُنوبَه، كما تحطُّ الشجرةُ وَرَقَهَا".
ومنها الحسنات، يفعلها المسلم بعد السيئات: (إنْ تُبْدُوا الصدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وإنْ تُخْفُوهَا وتُؤْتُوهَا الفُقراء فهو خيرٌ لكمْ ويُكفِّرُ عنكمْ مِن سَيِّئَاتِكُمْ). (الآية: 271 من سورة البقرة).
ونجد هذا النوع كثيرًا في القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبوية الصحيحة.(1/271)
الكفَّارات الخاصة:
أما النوع الثاني، وهو المعروف في اصطلاح الفقهاء من كلمة "كفَّارة" عند الإطلاق؛ فهو الأفعال التي نص عليها القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة، طريقًا لتكفير ذنوبٍ نصَّ عليها ـ أيضًا ـ في الكتاب أو السُّنَّة، وجاء من ذلك في القرآن الكريم جملة أنواع لجملة مُخالفات، فمن ذلك كفارة اليمين، وآياتها قوله تعالى في سورة المائدة: (لا يُؤاخذُكمُ الله باللَّغْوِ في أيْمانِكم ولكنْ يُؤاخذُكمْ بمَا عَقَدْتُمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطعامُ عشرةِ مَساكِينَ مِن أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أوْ كُسْوَتُهُمْ أو تحريرُ رقبةٍ فمَن لمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلكَ كفَّارَةُ أيْمانِكمْ إذا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أيْمانَكُمْ). (الآية: 89 من سورة المائدة).
وبذلك وجب على المسلم إذا حلَف بالله على شيء يفعله، أو بَدَا له أن عدم فعْله خير؛ فإن الشارع يطلب منه كفَّارة لهذا الحنْث الذي لم يُحافظ به على جلال اسم الله الكريم، ويجب عليه أن يفعل الكفارة مرتبة كما جاء في الآية، ولا صيام إلا بعد العجز عن الإطعام أو الكُسوة.
ومِن هذا النوع كفَّارة القتْل الخطأ، وهي المذكورة في سورة النساء بقوله تعالى ـ: (ومَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمنةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ). (الآية: 92 من سورة النساء).
وبذلك وجب على المسلم إذا قتل امرءًا خطأ، فإنه يجب عليه فوق الحق المدني، وهو الدية المسلَّمة إلى أهل القتيل، كفارةً لذنب الشرع وعدم التأنِّي والاحتياط، ويجب أن يفعلها كما هي مرتبة في الآية: تحرير رقبة إنْ وُجدت، وإن لم توجد فصيام شهرين مُتتابعين، ولا إطعامَ فيها.(1/272)
كفَّارة الظهار:
كان الرجل في الجاهلية إذا قصد تحريم زوجه على نفسه، قال لها: أنت على كظهْر أمِّي، وكانت بذلك تَحْرُم عليه ولا تَحِلُّ له أبدًا. ولما جاء الإسلام عدل هذا التقليد، واعتبر تلك الكلمة زورًا من القول، وذنبًا من الزوج، روَّع به زوجته، وهو المسمَّى في اصطلاح الفقهاء بالظهار، واستقرَّ حُكمه في الإسلام على أن الزوجة لا تحرم به، وإنما يلزم الرجل إذا أراد أن يَرجع إلى زوجه ويتصل بها، أن يُكفِّر عن تلاعبه بمُنكر القول وزوره.
وفي هذا الشأن، وفي كفارته نزلت الآيات الأربع التي افتتحت بها سورة المُجادلة، وكان لنُزولها حادثة حال بين مَن جرى بينهما هذا الظهار، وفي القصة كثير من وُجوه العِبَرِ ونواحي الرحمة التي ينظر الله بها إلى عباده، وخاصة مَن يقع منهم في ضيق، أو يُحيط به كرب، أما الآيات الأربع فهي قوله تعالى: (قد سَمِعَ اللهُ قوْلَ التي تُجادِلُكَ في زَوْجِهَا وتَشْتَكِي إلى اللهِ واللهُ يسمعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ..الآيات). (أول سورة المجادلة).(1/273)
المُجادِلة وزوجُها:
كانت خوْلة بنت ثعلَبة زوجًا لأوس بن الصامت، فغضب منها لشأن ما، فرمى في وجهها بتلك الكلمة المأثورة "أنت عليَّ ظهْر أمي" وكانت تلك الكلمة من طلاق أهل الجاهلية، ثم قال لها بعد أن هدأت ثورته وسكن غضبه: ما أظنك إلا قد حرمتِ عليَّ، فقالت: والله ما ذاك بطلاقٍ. وأتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصَّتْ عليه أمرها مع زوجها: إنَّ أوسًا تزوجني، وأنا شابةٌ مرغوب فيَّ، غنية ذات أهل ومال، فلمَّا خلا سِنِّي، وأفنى شبابي، وتفرَّق أهلي، ظاهَر مني، وقد ندم. فهل من شيء يجمعني وإيَّاه؟ فيجيبها الرسول بقوله: ما أراك إلا حرُمتِ عليه، ولم ينزل عليَّ في شأنك شيءٌ، فتُعيد قولها للرسول، ويُعيد الرسول لها قوله، وأخيرًا اتَّجهتْ إلى الله شاكيةً ضارعةً: ربِّ إليك أشكو فاقَتي ووحدتي وما يشقُّ عليَّ من فراق زوجي، الذي هو أبو ولدي وأحب الناس إليَّ. رب إنك تعلم أن لي منه صبية صغارًا، إنْ ضممتُهم إليَّ جاعوا، وإنْ ضمَّهم إليه ضاعوا، وأخذت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيِّك ما به تفريج كرْبي. وما كادت تفرغ من شكْواها لربِّها، وهو عالِم بسِرِّهَا ونجواها، حتى نزل على الرسول الوحْي بهذه الآيات الأربع، فطلب منها دعوةَ زوجها فدعتْه، فتَلَا عليه رسول الله الآيات. ثم قال له: هل تستطيع العتْق؟ فقال لا والله. فقال له: هل تستطيع الصوم؟ فقال لا والله، وإني إنْ أخطأني الأكْل في اليوم مرة أو مرتينِ كَلَّ بصري وظننت أني أموتُ، فقال له: أطعِم ستينَ مسكينًا فقال: ما أجد إلا ما أن تُعينني بمَعونة وصلة، فأعانه الرسول وتصدَّق بما أعانه على ستين مسكينًا. وكان هذا أول ظهار في الإسلام، وبه استقرَّ حكم الظهار على أنه ذنب يحرم على الرجل الاتصال بزوْجه إلى أن يُكفر على هذا النحو الذي بُيِّنَ في الآيات.(1/274)
عمر وخولة بنت ثعلبة
وقد امتدت حياة المُجادِلة في زوجها، والتي عُدِّلَ بشكواها حكم الظهار، ونزل التعديل في القرآن، ونوَّه بشأنها فيه "خولة بنت ثعلبة" امتدت حياتها إلى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان من شأنه معها مما يدلُّ على مكانتها عنده، وعِظم تقديره إيَّاها: أنه مر بها ذات يوم وهو راكب دابَّته والناس حوله، فاستوقفته طويلًا، ووعظته كثيرًا، وكان مما قالت: يا عمر، قد كنت تُدعَى عميرًا! ثم قيل لك يا عمر! ثم قيل لك، يا أمير المؤمنين، فاتَّقِ الله يا عمر، فإنه مَن أيقن بالموت خاف العذاب، وبعد أن فرغتْ مِن عِظَتِها لعمر، ومشى بمَن معه، قيل له: يا أمير المؤمنين، أتَقِفُ لهذه العجوز هذا الموقف؟ فقال عمر: والله لو حبستْني مِن أول النهار إلى آخره لمَا تحرَّكت إلَّا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خوْلة بنت ثعلبة، سمِع الله قوْلها من فوق سبْع سماوات، أيسمعُ رب العالمين قولها ولا يسمعُ عمر؟ وهكذا تسمو التقوى بأصحابها، ويصلُ الرشد الكامل بأصحاب الحُكم والسلطان إلى تقدير أهل التقوَى والمغفرة، فرحِم الله عمر ورحم الله خولة.(1/275)
الحِكمة في تشريع الكفَّارة:
هذه هي الكفارات، ويَهُمُّنَا الآن أن نعرف أن الشارع الحكيم ـ حين قرَّرها مَحْوًا للذنوب، وعلاجًا للأخطاء التي يقع فيها المسلم ـ قد قصد إلى أن يحتفظ المسلم بالروح المعنوية في علاقته بربه، فلا يقطع أمله من الله في أيِّ حالٍ حتى في حال الذنْب والعِصيان. وليس من ريب في أن المرء إذا أذنب ثم راجعه ضميرُه تمنَّى لو أن شيئًا من الأشياء محَا عنه هذا الذنب لافتدى به وقدَّمه في سبيل طُهْره طائعًا مختارًا، فرحًا مسرورًا، وبهذا قضت الحكمة الإلهية أن يكون لذنْب المؤمن كفَّارة تُغطيه وتمحو آثاره، فيعود العبد إلى ربه بفعْل الكفارة صافيًا، مطمئن القلب، مستريح الضمير. ولا يظل الذنب عالقًا بعُنقه يفسد ما بينه وبين ربه. ولقد كان في متَّسع عفْو الله ومغفرته أن يمحو عن عبده هذا الذنب دون شيءٍ يفعله العبد. ولكن يُريد أن تكون تزكية نفسه، وطُهر قلبه بشيء يبذله في مقابلة محْو الذنب، توجيهًا له نحو العمل ونحو البذْل ونحو الطاعة (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ). (الآية: 146 من النساء).(1/276)
الحكمة في تخصيص أفعال مُعيَّنة للتكفير:
وبالنظر في أنواع هذه الكفارات نجدها لا تخرج في جملتها على ثلاثة أشياء: تحرير الرقيق إنْ وجد، والصوم، والبٍرّ بالفقراء. وليس من ريبٍ في أنَّ أيَّ واحد من هذه الثلاثة يُحقق للمجتمع بالكفارات أنواعًا من الفوائد الاجتماعية، تعود عليه بكثير من البر والخير والسموِّ، وترفع من شأن الإنسانية إلى درجة التهذيب والتضامن الاجتماعي الذي يُحقق التعاطُف والتراحُم بين بَنِي الإنسان.
فتحرير الرقيق باب واسع من أبواب الحرية، فتَحه الشارع في الكفارات على مِصْراعيه ليَضُمَّ به إلى المجمع الإنساني أعضاء نافعين، يُحييهم بعد موتهم الأدبي، ويُحقِّق لهم بالعتْق شخصيتهم القانونية، وما الرِّقُّ في واقعه إلا موتٌ أدبيٌّ وما الحرية في واقعها إلا حياة. وقد بلغت عناية الإسلام بهذا النوع من الإحياء الأدبي أن أدخله في معظم الكفارات، وجعله مصرفًا من مصارف الزكاة، وجعله إحدى العَقبتين اللتين إذا اقتحمهما المؤمن أمِن عذاب الله وغضبه.
وفي العِتْق ـ حين يكون كفارةً للقتْل الخطأ ـ معنى آخر، وهو تعويض المجتمع عن النفس المَقتولة بإحياء نفسٍ أخرى هي نفس العبد الرقيق، تُشاركه في تحمُّل أعباء الإنسانية، ولعله يُجْدي عليها بشخصيته الجديدة خيرًا كثيرًا.
أما الصوم: فلا يخفى ما فيه من تهذيب النفس، وتقويم الخُلق، والتعويد على الصبر، وضبط الإرادة في تحمل الشدائد، واستقبال الآلام بقوة وعزيمة.
وما أشدَّ حاجة الأمم إلى تسلُّح أبنائها بهذه المعاني التي تُعِدُّهم لمُكافحة الطوارئ ومُصارعة الأحداث.
أما البر بالفقراء فهو مِن أسمى مَطالب الإسلام؛ فكتاب الله يحضُّ عليه بكثير من الأساليب المُختلفة، ولا نكاد نجد سورة من سوره تخلو عن التصريح بسُمُوِّ البر بالفقراء والمساكين، وكذلك كانت تعاليمُ الرسولِ وأحواله أمثلةُ عُليا في الحضِّ على إطعام الطعام والبِرِّ بالفقير والمسكين.(1/277)
كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجود الناس بالخير، يَمينُه كالريح المُرسلة، يَهَبُ تارةً ويتصدَّق تارة، ويُهدي ثالثة، ويقترض فيردّ أكثر منه وأفضل، وكذلك كان أصحابه على مثل حاله من الجُود والبِرِّ، وهذا أبو موسى يُحدث أن رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن الأشعريينَ إذا أرْمَلُوا في الغزْو أو قَلَّ طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم، وحسب أصحابه في المقام قوله ـ تعالى ـ في شأنهم: (يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ إليهمْ ولا يَجِدُونَ في صُدورِهمْ حاجَةً ممَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ علَى أنْفُسِهِمْ ولوْ كانَ بهمْ خَصَاصةٌ. ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأُولئكَ همُ المُفلحونَ). (الآية: 9 من سورة الحشر).
أما بعدُ:
فهذا نوع من وُجوه الحِكَمِ التشريعية، عرفها المسلمون الأولون، وامتلأت بها نفوسهم وكانت من مقاصدهم في حياتهم، فارتقت عن طريقها جماعتهم. وامتدَّ سلطانهم وعزَّ جانبهم. وهكذا تتصل جميع العبادات الدينية اتصالًا وثيقًا بشئون الفرد فتُسعده، وشئون المجتمع فترفعه. ونسأل الله أن يُبصِّرَنا بهدْيه، وأن يُرشدنا إلى حِكَمِ تشريعه، وأن يُوفقنا لإصلاح دُنيانا بأسرار دِيننا.(1/278)
انحراف الناس في مشروعية النذر:
وهذا صنْف من المشروعات الإسلامية، اتَّجه به كثير من المسلمين إلى غير وجهه، واتَّخذوا منه ـ بزعمهم ـ سبيلًا لصرْف المقادير الإلهية عمَّا يخشون أن تكون قد تعلَّقت به، ومن مكروه يَنزل بالنفس، أو المال أو الولد، إلى ما يَرجُونه من مَحبوب فيها ومَرغوب. ثم اشتطُّوا فيه وأسرفوا، فأضافوه في أقوالهم وأفعالهم إلى غير الله، الذي بيده مَقاليد كل شيء، والذي شرَعه ـ حين شرعه ـ مَنْسُوبًا إليه وحده، يلتزم باسمه، ويعمل باسمه، ويُقصد به وجهه الكريم، دون أن يكون لأحدٍ من خلْقه شبيهٌ فيه، من اسم أو رسم.
وذلكم الصنْف هو المعروف في الإسلام باسم: "النَّذْرِ" شرعه الله طريقًا من طرق التقرُّب إليه ابتغاء مرضاته، يلتزمه الناس بأنفسهم ومحْض إرادتهم، وخالص نِيَّتِهِمْ في زيادة التقرُّب إليه ـ سبحانه ـ ولكنهم قد توسعوا فيه بالشهوات والأهواء، والفتاوى الشخصية!! ونَذَرُوا ـ إنْ نجح ولدهم في الامتحان، أو نجحوا هم في الانتخاب، أو شُفِيَ مريضُهم ـ أن يكون ولَد البقرة للسيد البدوي، أو يصنعوا للسيدة "فولها السنوي" ويُقيمون بالعجل أو الفول "ليلة صاخبة" تُدْعَى لها الدراويش" وأرباب الطرق، ويهتفون فيها باسم: "السيد" أو "السيدة".(1/279)
وفي هذا الصنيع، يتسرَّب الشكُّ إلى بعض العقلاء، ولا يتقبلونه باطْمئنان: يشكُّون في مشروعيته، ويشكون في أنه "النذْر" الذي طلب الله الوفاء به، ومنح المُوفين به درجة الأطْهار الأبرار، يتسرب الشك إليهم فيسألون: هل هو نذْرٌ شرعيٌّ يجب الوفاء به؟ وهل يتعيَّن فيه أن يذهب الناذِر بما نذَر مِن "عِجْلٍ أو فُول" إلى مكان الولِي الذي نذَر باسمه، ويُوزعه على أحْلاس الضريح العاكفينَ حوله؟ وهلا يجوز له أن يبيعه ويصرف ثمنه على الفقراء والمساكين بدل التزام عيْنه؟ وهلَّا يجوز له أن يصرف ثمنه في مَهامٍّ يحتاجها لنفسه، ولأولاده من كُسوة أو نفقة، أو آلة زراعته، أو بذْر أرضه؟ ثم يكون دينًا لله في ذِمَّتِهِ، ويَقْضِيه إذ أيْسر؟
وأخيرًا يسألون: عن المَصرِف الشرعي للنقود التي تُوضع في صناديق الأضرحة بِنِيَّةِ التقرُّب إلى الله، عن طريق صاحب الضريح، أتُصْرَفُ على ترميم الأضرحة وإضامتها وفَرْشها وتزيينها، أم تُصرف على خدْمتها ومُوَظَّفِي مَساجدها، أم أن هناك جهةً أخرى، هي أحقُّ بالصرْف فيها من هاتينِ الجهتينِ؟(1/280)
لابد من تمحيص المشروع
هذه أسئلة يتَّحه بها كثيرٌ من العقلاء إلى أهل العلم بأحكام الله، فيما يتعلق بالنُّذور الشائعة بين الناس، وحق لهم أن يسألوا؛ لأنهم يُريدون التقرُّب إلى الله، والتقرب إلى الله لا يكون إلا بما يعتقدون؛ لأن الله قد شرعه، وكثيرًا ما يجري الناس على عادات مَوروثة تأخذ صفة الذيوع والاشتهار، ويَفعلونها على أنها مشروعة، وهي ليست بمَشروعة، ولا لها في التقرُّب إلى الله حساب، وإذنْ، فلابد من التمحيص، ولابد من إرشاد الناس وهدايتهم إلى المشروع وتخليصه من غير المشروع.
وعلى أهل العلْم بأحكام الله ـ بمُقتضى وضْعهم ورسالتهم، وبمقتضى العهد الذي أخذ عليهم ـ أن يُبيِّنوا أحكام الله على وَجْهها، دون تأثُّر بمَوروث فاسد، وإنْ طال أَمَدُهُ، ودون محاولة لتصحيحه وإلباسه ثوب المشروع، مُجاملةً للناس ومُجاراة للأهواء.
وهذه كلمات أُبيِّن بها ما أَعتقده مشروعًا في النذْر، وأرجو ألا تأخذ بعض الناس فيها العِزَّةُ بالإثْم، فالحق أحقُّ أن يُتَّبَعَ، والظنُّ لا يُغني عن الحق شيئًا.(1/281)
النذْر شِرْعَةٌ قديمة:
والنذر أسلوب قديم من أساليب التقرُّب إلى الله، حكاه الله ـ سبحانه ـ عن امرأة عمران أم مريم: (إذْ قالتِ امرأةُ عمرانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ). (الآية: 35 من سورة آل عمران) وحكاه عن مريم نفسها حينما اقترب منها الوضْع، وأمرها به (فإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أحدًا فقُولِي إنِّي نَذَرْتُ للرحمنِ صوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليومَ إنْسِيًّا). (الآية: 26 من سورة مريم).(1/282)
النذْر في الجاهلية:
وقد تصرَّف فيه أهل الجاهلية بالشهوات والأهواء والمُعتقدات الفاسدة، التي شَذُّوا بها عن الفِطْرَة في التحليل والتحريم بغير ما لم يأذن به الله، تصرَّفوا فيه فجعلوه لآلِهَتِهِمْ، الْتِمَاسًا لشَفَاعَتِهِمْ عند الله، وليُقربوهم إليه زُلْفَى، (وجَعَلُوا للهِ ممَّا ذَرَأَ مِن الحَرْثِ والأنْعَامِ نَصِيبًا فقالوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لشُركَائِنَا فمَا كانَ لشُركائِهِمْ فلا يصلُ إلى اللهِ وما كانَ للهِ فهوَ يصلُ إلى شُركائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ). (الآية: 136 من سورة الأنعام).(1/283)
النُّذُور في الإسلام:
ولمَّا جاء الإسلام أقرَّ النذر على وضْعه الأول طاعةً لله، فلا يكون لغيره، ولا يكون بمَعصيته. ومن هنا، كان النذر في الإسلام لغير الله باطلًا وحرامًا، لا يجب الوفاء به، ولا يُثاب الناذر عليه، إن لم يُؤاخذ به، ولا يشفع في صحَّته وحِلِّهِ ما يقوله بعض "المُفتين" إنه لله في النِّيَّةِ والقلب والأعمال بالنِّيَّاتِ؛ لأن صيغته وظروف فعْله، وشواهد حال الناذرين ناطقةٌ بأن لغير الله فيه نصيبًا، أقلُّه أن يقوم "الوليُّ" بدور الوساطة في المحبوب والمرغوب بين الله والناذِر، وهذا وإن لم يكن شِرًكا بالنِّيَّةِ والقلب فهو شرك في القوْل والفعل، ومن شأن العبادة المقبولة أن تكون لله في النية والقول والفعل جميعًا (إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ).(1/284)
أجوبة السائلين:
وإذنْ، فالنذر الشرعي الذي يجب الوفاء به هو ما كان باسم الله وحده، ومُتَّجِهًا به لله وحده، وهذا هو جواب السؤال الأول.
وإذا كان التقرُّب إلى الله لا يختصُّ بمكان دون آخر، وكان تخصيص العبادة بالمكان أو الزمان لا يُعرف إلا مِن قِبَلِهِ ـ سبحانه ـ كان للناذر ـ بعد أن يكون النذر لله، أن يصرف نَذْرَهُ في قريته، أو في حيِّه، وأن يُطعمه فُقراءها، بل هم به أحقُّ وأولَى من غيرهم، وهذا هو جواب السؤال الثاني.
وكذلك إذا رأى الناذر أن صرْف ثمن النذْر أنفع للفقراء، أو طرأت عليه ضرورة احتاج في دفعها إلى ثمنه، كان له أن يبيعه وأن يصرف ثمنه على الفقراء أو في حاجته، ويكون في الحالة الثانية دَيْنًا عليه في ذِمَّتِهِ يقضيه إذا أَيْسَرَ، وهذانِ هما جوابَا السؤالينِ: الثالث والرابع.(1/285)
صناديق النذور:
أما النقود التي تُوضع في صناديق الأضرحة، فمَصرفها أولًا الفقراء والمساكين، وجهات البِرِّ والمصالح العامة، وليس ترميم الأضرحة وإضاءتها وفرْشها وتزيينها، وأن ذلك كله غير مشروع. نعمْ، يصحُّ الصرف منها على ترميم المساجد، وعلى خدَمها الفقراء الذين لا تَفِي رواتبهم بمَعيشتهم.
ويجب أن يُنظر إلى هذه الصناديق كخزائن عامة وُضعت في أماكن عامة وهي: "المساجد" لا "الأضْرحة"؛ ليضعَ فيها أربابُ الخيْر ما تجود به نفوسهم للهِ وفي سبيل الله، لا "للأضْرحة ولا لأصحابها".
ويجب مع هذا أن يتولَّى حفْظها، وصرْف ما فيها، وتعيين جهاتُه، أناسٌ معروفون بتقوَى الله في مال الله، ولا تَعرف الصلات الشخصية، أو الاعتبارات الفاسدة سبيلًا إلى قلوبهم.(1/286)
كلمتانِ:
هذه هي أجوبة السائلينَ عمَّا يتعلق بالنذْر، وأُحب أن أختم هذا الحديث بكلمتين، يجدر بإخواننا المسلمين أن يتفهموهما، وأن يكونوا على ذكْر منهما، وإيمان
بهما؛ لتكون صلتهم بالله في شرعه وعبادته على ما رسَم، وعلى ما يُحبُّ ويرضَى.
إحداهما: أو أولياء الله، الذين يعرفهم الله، ويعرفون الله، يُرضيهم ما يرضي الله، ويُغضبهم ما يُغضبه، وأنهم قد تقرَّبوا إليه، وأعدَّ لهم درجاتٍ عنده بفعل ما شرَع، وأنهم يُحبون من الناس أن يتقرَّبوا إليه بما تقرَّبوا هم به إليه، ويُغضبهم ويُضاعف غضبهم أن يرفع الناس إليهم أكُفَّ الضراعة، أو يلتزموا باسمهم نذْرًا أو طاعة.
أما الكلمة الثانية فهي أن النذْر عبادة وطاعة، يتقرَّب به العبد إلى ربه، ويُؤكد به معنى العبودية الخالصة، فلا ينبغي أن يكون مَذكورًا باسم غيره، ولا أن يكون فعله مشروطًا على السيد المعبود، فيكون مُقابلةً ومبادلةً، ينزل كثيرًا عن درجة العبادة، ولا يصل بصاحبه إلى درجة العابدينَ الأبرار، وقد صحَّ عن
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إنما النَّذْرُ ما ابتُغيَ به وجهَ الله، وإنه لا يردُّ شيئًا".
أما بعدُ:
فهذه هي أحكام النَّذْرِ، أُقدمها لإخواننا المسلمين، قيامًا بواجب البيان، وخير لنا ولهم أن يتحرَّروا في نُذورهم ـ إذا أرادوا ـ ما شرع الله، وأن يُوفوا به على وجهها المشروع؛ فيكون لهم ثواب المُخلصين ومنزلة العابدينَ المُقربين.
والسلام على مَنِ اتَّبَعَ الهدى.(1/287)
الناس في شأن اليَمِين:
تلقيتُ جملة من الرسائل يسأل فيها أصحابُها عن أشياء تتعلق باليمينِ: فمنهم من يسأل عن حكم الحلِف بالنبي أو الولي. وحُكم الحلف بكتاب الله وبيت الله، والحلف بالطلاق، وأيمان المسلمين، وما إلى ذلك مما جرت عادة الناس بالحلف به: هل هي أيمان شرعية تنعقد، وتجب الكفارة بها على الحالف إذا حنَث في يمينه؟ ومنهم مَن يسأل عن حُكم حلف الإنسان بألَّا يصل رحمه، أو بأن يُقاطع والديه! ومنهم من يسأل عن صوم اليمين: أيَلزم أن تكون أيامه مُتصلة، أو يجوز تفريقها بحيث يصوم في كل أسبوع يومًا مثلًا؟
وقد رأيتُ أن اليمين وأحكامها من الشئون العامة التي شاعت بين الناس واختلطت فيها المشروعة بغير المشروعة، وصار الناس فيها بين رجلينِ: رجل يحلِف ويُكثر الحلف، ولا يَهُمُّهُ من حلفه سوى أن يُبرئ نفسه، أو يحمل الناس على تصديقه، ولا عليه بعد ذلك أكان صادقًا في يمينه أم كاذبًا؟ أأغضب الله بيَمينه أم أرضاه؟ أيُكفِّر عن يمينه أم لا يكفر؟ ورجل يحلف بالله وبغير الله، ويعتقد أن الحلف بغير الله في مكان الحلِف بالله؛ وقد يفوق خوْفه الضريح أو الولي خوفه الله! ويعظم في نفسه طلاق امرأته أكثر ممَّا يَعْظُمُ الله في نفسه! فتراه يمتنع عن اليمين بالنبي أو الولي أو الطلاق ويَقبل مُسرعًا على اليمين بالله غير مُكترث بعَظمته ولا خائفٍ غضبه!(1/288)
أصول الإسلام في أحكام اليمين:
أمام هذا الانحلال الدينيِّ والخلقي ـ الذي صرف كثيرًا من الناس عن أحكام الله في الأيمان، حتى شرعوا لأنفسهم ما لم يشرع الله فيها ـ أردت أن أبيِّن للمسلمين الأصول التي ركز الله عليها أحكام حلِف اليمين، ليتبيَّن الحق من الباطل، وينتفع السائل وغير السائل، ويكون الناس على بصيرةٍ من أحكام دينهم التي عنها يَسألون.
جرت عادة الإنسان أن يُؤكد عزيمته ـ فيما يُريد من أفعال، أو صِدْقِه فيما يُلقي من أخبار ـ بالحلف بما يَعْظُم في نفسه سلطانُه، أو تقوى مَحبته، أو تُخشَى سَطْوته، وقد كان أهل الجاهلية يحلفون بالأصنام التي كانوا يَعبدونها من دون الله، وبالآباء الذين كانوا يتمسكون بعاداتهم دون شرع الله، وكان هذا وذاك أثَرًا من آثار كُفرهم بالله، فلمَّا جاء الإسلام ـ ومُهمته الأولى الدعوة إلى التوحيد الخالص، وطرَح الوثنية في جميع صُورها، وبيَّن لهم أن السلطان الذي يرهب، والتشريع الذي يجب أن يُحترم، والسطوة التي تُخشى إنما كل أولئك لله وحده لا يُشاركه فيها أحد من خلْقه ـ نهاهم عن الحلف بغير الله، وقرَّر لليَمين أُصولًا عامةً يجب اتباعها، ولا يصحُّ التحوُّل عنها، ولا التصرُّف فيها.(1/289)
لا حلف إلا بالله:
وأول تلك الأُصول: تحريم الحلف بغير الله، وقد جاء فيه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إن اللهَ ينهاكم أن تحلِفوا بآبائكم، فمَن كان حالفًا فلْيَحْلِفْ بالله أو لِيَصْمُتْ". وأن ابن عمر سمع رجلًا يقول: ولا والكعبة؛ فقال: لا تحلفوا بغير الله؛ فإني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَن حلَف بغير الله فقد كفرَ وأشركَ". ومن هذا الأصل كان الحلف بغير الله أيًّا كان ذلك الغيْر إثْمًا يستوجب المقْت والغضب، ويستحقُّ صاحبه التعزير والتأديب، وهو بعد ذلك لا ينعقد ولا ينفع الحِنْثُ فيه إطعامٌ ولا صوم، وإنما يُعرض صاحبه للكفر بالله، وبشرع الله، وليس له من كفَّارة سوى التوبة والاستغفار.
والحلف بغير الله على عُمومه يتناول الحلف بالنبي والكعبة، والمصحف، ويتناول الحلف بالولي والضريح وقد شذَّ قومٌ، فشرَّعوا ما جرى الناس عليه من هذه الأيمان، وقالوا: إنَّ العُرف جرى بها. والأيمان مبنيَّة على العُرف، وإذا صحَّ هذا فقد فتحنا باسم العرف باب العودة إلى أيام الجاهلية التي كانت مُتعارفة فيما بينهم، وليس ما يُحلف به ممَّا يصحُّ أن يُحكَّم العُرْف فيه.
نعم، العرف يُحكم في معنى المَحلوف عليه فقط وذلك كمَن حلف لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا؛ فإنه لا يقع بناء على أن العُرف لا يُطلق على السمك لحمًا. أما أصل اليمين وبماذا يكون، فمَصدره التشريعي معروف ولا قيمة للعُرف فيه.
ومرة أخرى لو فتحنا هذا الباب لضاع بالعُرف كثيرٌ من أحكام الشريعة التي ثبتت بالأحاديث الصحيحة، وانعقد عليها إجماع المصدر الأول.
ومن هذا الأصل ـ أيضًا ـ كان الحلف بالطلاق، كقول الرجل: عليَّ الطلاق أو يَلْزَمُني الطلاق، منكرًا من القول لم يُشرعه الله، فلا يقع به الطلاق، ويكون الحالف به مُتجاوزًا حُدود الله فيما تُحَلُّ به عُقدة الزواج وفيما يُحلف به.(1/290)
لا تجعلوا الله عُرْضةً لأيْمانكم:
أما الأصل الثاني: فهو أن الأيمان إنما شُرعت لإثبات حق أو دفع باطل، فيجب أن تُقدَّر بقدرها، وألَّا يُهرع إليها في كل ما عظُم أو حقر، كما يجب ألا تُتخذ وسيلةً لمنْع خيرٍ، أو سلْب حق، أو ترويج سلعة كاسدة، أو أخبار كاذبة، ومن هذا الأصل وَجب الحنْث على مَنِ اتَّخذ يمينه حِجابًا مانعًا من فعل الخير، وفي ذلك يقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "مَن حلَف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها فليأتِ التي هي خيرٌ وليُكفِّرْ عن يمينه".
وقد نزل في شأن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حينما حلَف بالله ألا يُنفق على أحد أقاربه، وقد كان ممَّن خاضوا في قصة الإِفْكِ ـ قوله تعالى: (ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أنْ يُؤتُوا أولِي القُرْبَى والمَساكينِ والمُهاجرينَ في سبيلِ اللهِ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لكمْ). (الآية: 22 من سورة النور) وقد فُسِّرَ قوله ـ تعالى ـ: (ولَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بيْن النَّاسِ). (الآية: 224 من سورة البقرة) ـ بالنهْي عن اتخاذ اسم الله مانعًا من فعْل الخير والتقوَى والإصلاح بين الناس، كما فُسِّر بالنهْي عن كثرة الأيْمان؛ حتى لا ينزلق المُؤمنون إلى مكانة الحلَّاف الذي قال الله فيه: (ولا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٌ). (الآية: 10 من سورة القلم).
وليس من شكٍّ في أن كثرة الأيْمان واشتهار الإنسان بها ممَّا يُضعف ثِقة الناس فيه بعد أن تضعف ثقته في نفسه، ومتى ضعُفت ثقة المرء بنفسه وتبِعها ضعف ثقة الناس فيه لم يبقَ له شيء من كرامة المؤمنين.(1/291)
كفَّارة اليمين:
أما الأصل الثالث: فهو أنه متى كانت اليمين شرعيةً ـ على النحو الذي قلنا، وكانت صادرةً عن قصْد ورويةٍ وعَقْدِ قَلْبٍ، وفات على الحالف فعْلُ المَحلوف عليه ـ فإن الله قد رحِم عباده، وشرع لهم ما يُكفر ذنب الحنْث في اليمين.
والكفارة هي إطعام عشرة مساكينَ أو كسوتهم، والإطعام هو ما يُشبع، والكسوة هي ما يستر البدن، ومرجع ذلك إلى العُرف، فإذا عجز الحالف عن أحدها انتقل إلى صوم ثلاثة أيام، ويَكفي صومها مُتفرقة ولو يومًا في كل أسبوع، والأفضل أن تكون متصلةً ليكون أثرها في تهذيب النفس أقوَى وأعظم، ومن هذا الأصل يتبيَّن أن الأيْمان التي تجري على اللسان، وليست صادرةً عن عَقْد قلب ـ كقول الرجل لأخيه: لا واللهِ، وبلى والله ـ لا وُقوع فيها ولا تكفير لها؛ إذ هي مِن لَغْوِ اليَمِينِ الذي لا يُؤَاخِذُ الله به.(1/292)
أُصول يجب أن تُرْعَى:
هذه هي الأصول التي يجب على المؤمنين أن يأخذوا أنفسهم بها في أيمانهم، وأن يترفعوا بأنفسهم عن أهوائهم في الحلِف بما يشاءون، وليذكروا دائمًا قوله
تعالى ـ: (ولَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بيْن النَّاسِ). (الآية: 224 من سورة البقرة) وقوله: (لا يُؤاخذُكم الله باللَّغْوِ في أيْمانِكم ولكنْ يُؤاخذُكم بما عَقَدْتُمُ الأيْمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عشرةِ مساكينَ مِن أوسطِ مَا تُطعمونَ أهليكمْ أوْ كِسْوَتُهمْ أو تحريرُ رَقبةٍ فمَن لم يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلكَ كفَّارَةُ أيْمانِكمْ إذا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ كذلكَ يُبِيِّنُ اللهُ لكمْ آياتِهِ لعلَّكمْ تَشْكُرُونَ). (الآية: 89 من سورة المائدة).
فإلى هؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بعظمة غير الله، والخوف من الأضرحة والمَخلوقات، فحلفوا بها، وتركوا الحلِف بالله، وإلى هؤلاء الذين اتخذوا اليمين بالله مانعًا من فِعْل الخير وصِلة الأرحام، والذين اتخذوا اليمين سبيلًا للطلاق، وترويج السِّلع الكاسدة، وتضييع الحقوق الثابتة، وخدْش الأعراض المُحترمة ـ إلى هؤلاء جميعًا ـ أُوجه هذا الحديث، وأسأل الله لي ولهم التوفيق والهداية، وهو يَهدي من يشاء إلى صراطه المُستقيم.(1/293)
حقوقُ الله في التَّرِكَة
جاءنا سؤال تقول فيه صاحبته: مات زوجها وعليه زكاة أموالٍ وكفارات وفِدْيَة صومٍ ونحو ذلك من حقوق الله. فهل لأحدِ الورثة أن يَطلب منهم حجْز مبلغ من التركة لأداء هذه الحقوق التي مات عنها وهي في ذِمَّتِهِ؟
إن أول ما يجب أن يخرج مِن التركة هو تجهيز الميتِ تجهيزًا مُعتدلًا لا إسراف فيه ولا تقتير، ثم قضاء دُيونه التي هي للعباد. أما الديون الواجبة لله كالزكاة ونحوها، فإنْ كان الميت قد أوصى بها لزِم الورثة أن يُخرجوها، فإذا ما تبرعوا بها وأخْرجوها مِن حُقوقهم، فهل تُسقط عنه الواجب؟
يرى بعض الفقهاء أنها لا تُسقط عنه الواجب؛ لأنه عبادة، والعبادة لابد في سُقوطها من فِعْلٍ أو نِيَّةٍ، ولا فعل ولا نِيَّة من الميت. وفعل الورثة لا يقوم مقام فعله إلا بإذنه ولم يُوجد منه إذن. ولكنا نرى أن في إذْنِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحَجِّ عن الوالِدِ دون وصيةٍ منه ما يجعلنا أقوياءَ الرَّجَاءِ في قَبُولِ التبرُّع به من الورثة، ورفع العِقاب به عن الميت وإثابته عليه؛ نظرًا إلى أن المال من كَسْبِهِ وسَعْيِهِ، والورثة أولاده أو أولياؤُه، فَهُمْ مِنْهُ ومالُهم مِن مالِهِ.(1/294)
الأُسَرُ لَبِنَاتُ المُجتمع:
بدموع من الغيظ الشديد كتب يقول: تُوفِّيَ والدي في عام كذا عنِّي وعن أخٍ لي، وعن كذا أخوات، وفُوجئتُ في اليوم التالي لوَفاته بأنه كتب لأخي جميع ما يملك بطريق البيْع الصُّورِي، وكان هذا الإجراء قبل وفاته بأربع سنوات، وأخذ يشرح قصةَ والده مع أخيه، أو قصة أخيه مع والده التي انتهت بهذه المأساة التي ـ كما يقول ـ شرَّدتْه، وستُشرد أولاده، وسيظل بها طول حياته حاقد القلب، ثائِر النفس على أخيه، وسيَغرس ما استطاع رُوح البغض والكراهية في نفوس أبنائه لعَمِّهِمْ: "أخيه" وأبناء عمِّهم. وهكذا إلى آخر ما كتب.
وهذا واحد مِن كثرة "بنينَ وبناتٍ" بعثتْ إلى تشكو مُرَّ الشكوَى مِن تصرُّف الآباء في أملاكهم وحِرمانهم منها بطريق البيع الصوري لزوجة مَحبوبة، أو ولدٍ ماكر.
وكم سمعنا وقرأنا في الصُّحُف أنباء جرائمَ ارتُكبتْ بين الآباء والأبناء، أو بين الإخوة بعضهم مع بعض، أثَرًا لهذا التصرُّف الذي ينحرف به بعض الآباء عن وضْع أُبوتهم، وعن أحكام الله في تركاتهم، وعمَّا يجب عليهم في المُحافظة على سلامة أُسرهم من التدهور والانحلال.(1/295)
وهذا حديثٌ أَعرِض فيه آثار تلك الجريمة، التي يُفرق بها الآباء بين أبنائهم ويَغرسون بينهم العداوة والبغضاء، وأُبَيِّنُ فيه حُكم الله في الميراث، وحُكم رسوله في تفضيل بعض الأبناء على بعض في العطايَا والهِبَاتِ، لكي يَعرف الآباء مقدار ما يرتكبون بهذا التصرُّف في حق إيمانهم، وفي حقِّ أُسرهم، وفي حق مجتمعهم، وما المجتمع إلا الأُسَرُ التي يتكوَّن منها، وما الأُسر إلا لَبِنَاتُ المجتمع، يأخذ قوتها إنْ كانت قوية، ويتحاقد إذا تحاقدت، ويصفو إذا صفَتْ. وقد عُنِيَ القرآن الكريم أيَّمَا عنايةٍ ـ تكوينًا للمجتمع الفاضل ـ بالأسرة، فذكَر بِرَّ الأولادِ بالآباء والإحسان إليهم، وذَكَرَ تربية الآباء للأبناء والعطف عليهم، وأكثر من وصية الفريقينِ أحدهما بالآخر. وقد تجلَّت وصية الآباء بالأبناء في موضوع "الميراث" وتوزيع التَّرِكَةِ؛ لأنه هو الموضوع الذي تنبت منه الشُّرُورُ والمفاسد بين الآباء والأبناء بعضهم مع بعض، وتَسْرِي بسُوء التصرُّف فيه روح العداوة والبغضاء في الأسرة، فتُفسدها ولا يجد المُجتمع بعد ذلك إلا لَبِنَاتٍ فاسدةً يتكوَّن منها، ويُكوِّن تبَعًا لها مجتمعًا فاسدًا، لا يدفع عن نفسه شَرًّا، ولا يجلبُ لها خَيْرًا، يُكوِّن مُجتمعًا على عكس ما وصف اللهُ المجتمع الإسلامي: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ باللهِ). (الآية: 110 من سور آل عمران).(1/296)
المِيراث في كتاب اللهِ:
الميراث حقٌّ قرَّره الله في كتابه، وجعله فريضةً مُحكمةً لا يَلحقها تغيير ولا تبديل، قرَّره في كتابه، واستثار في المُحافظة عليه عاطفةَ الإيمان، وعاطفة الأبوة، واختار لذلك مادةَ "الوصيَّة" التي تُوحي بشدَّة الحِرْص مِن المُوصي والمُوصَى على المُوصَى به، وبأن المُوصَى به لا ينبغي أن يَلحقه شيءٌ من الإهمال أو التهاوُن. بدأ آياته
بقوله سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أوْلادِكُمْ). وأشارَ إلى جِهَةِ الخير فيه، وأنه ـ كما
رسم ـ مبنيٌّ على عِلْمِه وحِكْمَتِهِ (آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أَقْرَبُ لكمْ نَفْعًا). (الآية: 11 من سورة النساء) ثم يُصرِّح بفرضيته من الله على المُؤمنين: (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إنَّ اللهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). ثم يُضَمِّنَ الآياتِ التحذير الشديد من مُضَارَّةِ الوَرَثَةِ بوَصِيَّةٍ أو دِينٍ (غيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ). (الآية: 12 من سورة النساء) .
ثم يَخْتِمُ آياتِه بأنَّ أحكامه التي بُيِّنَتْ فيها هي حُدودُه التي حدَّها لعباده، والتي لا يَرْضَى بغيرها بَدِيلًا عنها، ويُرتِّبُ على إطاعته فيها المثوبة الخالدة والفوز العظيم، وعلى مُخالفته، وعصيانه فيها العُقوبة الخالدة والعذاب المُهين.
(تِلْكَ حُدودُ اللهِ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فيهَا وذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ومَن يَعْصِ اللهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ولهُ عذابٌ مُهِينٌ). (الآيتان: 13 ـ 14 من سورة النساء) ثم يُشير في آيةِ الميراث الثالثة التي خُتمتْ بها سورة النساء إلى الحكمة في أنه ـ سبحانه ـ هو الذي تولَّى بنفسه توزيع الترِكات، وعيَّنَ أنْصِبَةَ المُستحقِّينَ فيها: (يُبَيِّنُ اللهُ لكمْ أنْ تَضِلُّوا واللهُ بكلِّ شيءٍ عَلِيمٌ).(1/297)
الآباء يسبقون الله بتوزيع التَّرِكة:
وأمام هذا التشريع البيِّن الواضح، وهذه التحذيرات المشدودة، نرى فريقًا من المسلمين، وممَّن يزعمون لأنفسهم الإيمان بالله، وبحُكمه وتشريعه، نراهم يَغُضُّونَ النَّظَرَ عن أحكام الله في الميراث، ويتعجلون توزيع أموالهم وهم أحياء بدافع من الهوى والشهْوة، فيُحرِّمون المُستحق، ويمنحون غيره، ويتَّخذُون في ذلك سِتَارًا مُهلْهلًا، لا يخفى على الناس ـ فضلًا عن الله ـ ما وراءه من وصية جائرة، أو إقرار كاذب بدِينٍ، أو تبادُل ببيْع صُوري، وبهذا الستار المَكذوب يَحرِمونَ أيضًا مَن أرادوا حِرْمانه، فيَعكسون حُكم الله، ويذهبون بحِكْمَتِهِ البالغة، وبهذا الصنيع الفاسد يُفسدون أُسَرهم، ويُخرِّبون بُيُوتهم، تلبيةً لشهْوةٍ باطلةٍ أو هوًى فاسدٍ، وربما وجَدُوا ممَّن ينتسبون إلى الدين مَن يُؤيدهم في هذا الصنيع، ويُبرر لهم تصرُّفهم الفاسد فيقولون: الولد وما ملك لأَبيه! المالك حُرٌّ فيما يملك الوارث لا يتعلَّق به حق بالترِكة إلا بموت الموروث وهكذا مِن الفتاوى المُنحرفة.. وهكذا من الفتاوى المنحرفة التي لم يُرَاعَ فيها سِرُّ الحِكْمَةِ في قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أوْلادِكُمْ). ولا في أن الله تولَّى بنفسه توزيع التَّرِكات وبيان أنصِبة الوارثينَ.(1/298)
الوَصِيَّةُ المَشْرُوعَةُ:
نعم، أجاز الله للمالك أن يُوصِي بشيء من ماله ليَتدارك بها تقصيره في حياته بالنسبة إلى ما كان يجب عليه مِن فِعْلِ الخيْر، فأباح له أن يُخرج جزءًا من ماله تَقُرُّبًا إليه بعد عِوَزٍ أو دفْع حاجة، وفي ذلك يقول ـ عليه السلام ـ: "إنَّ اللهَ تَصدَّق عليكمْ بثُلُثِ أموالكم عند وفاتِكم، زيادةً في حسناتِكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم". والوصية لا تقع عند اللهِ موقع القَبُول إلا إذا جاءت على هذا الأساس "سَدِّ عِوَزِ المُعْوِزِينَ، وإعانة الفُقراء العَاجِزِينَ". ولم يترتب عليها مع ذلك حرمان مُستحقٍّ هو في الحاجة أشد. وعليه فالوصية أو ما في معناها من البيْع الصوري الاحتيالي أو الهِبَةِ الاحتيالية لأجنبيٍّ غير مُحتاج، أو لأجنبية له بها علاقة شخصية تَصَرُّفٌ سيئ محظور، والوصية أو ما في معناها لإحْدَى الزوجتينِ، أو لها ولأولادها ـ حِرمانًا للزوجة الأخرى ـ تَصَرُّفٌ سيئٌ مَحْظُورٌ والوَصِيَّةُ وما في معناها للذكور خاصةً ـ حِرْمانًا للبنات ـ تَصَرُّفٌ سيئٌ محظورٌ. وكذا لزوج عقيمٍ، حرمانًا للعصبية وسائر الأقارب، تصرُّفٌ سيئ محظور، كل هذا تصرف سيئ، يتجاوز به المؤمن حُدود الله، ويُعَرِّض به نفسه لغَضبه، كما يُعرض به أُسرته للانحلال، ويُعرِّض أبناءه وأقاربه لتبادُل العداوة والبغْضاء.(1/299)
تَصَرُّفٌ سيئٌ، يقطع به المسلم ما أمر الله به أن يُوصل: يُوغِر صدْر الأخ على أخيه، وصدْر الأختِ على أخيها، وصدريْهما معًا على أبيهما. وبذلك تَنْشَقُّ عَصَا الرحِم، وتَشتعل بين أبناء الرجل الواحد، وفي البيت الواحد، نارُ الحِقْدِ والضغينة، وقد رأينا وقَرَأْنَا أنْ قتَلَ بهذا التصرُّف الأخُ أخاه، والولد أباه، وخرجتِ البِنْتُ على أبيها، واحتربتْ مع أخيها، وأنْكَرَ أخُوها نِسْبَتَهَا إلى أبيها، فطعَن عِرْضَهُ، وأشاع الفاحشة في أُسرته، وفيمَن حملتْه كرْهًا ووَضَعَتْهُ كرْهًا! وهكذا فعل الآباء بالأبناء، وفعل رؤساء الأُسَرِ بالأسر! وهكذا أيقظ المسلمون شرعةَ الجاهلية الظالمة، فهل مِن مُدَّكِرٍ؟(1/300)
تفضيل بعض الأبْناء:
وإذا كان هذا هو شأنَ حِرْمانِ المُستحق فإن تفضيل بعض الأبناء على بعض في العطايَا والهباتِ لا يَقِلُّ أثَرُه الاجتماعي والأُسري عن الحِرْمَانِ نفْسِه، وهذا هو بشيرٌ والد النعمان يَمْنَحُهُ بعض ماله، ويذهب به إلى الرسول، ويُخبره بعَطِيَّتِهِ لوَلده النعمان، ويلتمس منه أن يشهد عليها، فيسأله الرسول: ألَه إخوةٌ؟ فيقول بشيرٌ: نعم، فيقول الرسول: أَكُلُّهُمْ أَعطيتَهُ مثلَ ما أعطيتَه؟ فيقول: لا، فيُنكر عليه الرسول تخصيص النعمان بالعطيَّة، ويأمره بِرَدِّهَا والرجوع فيها، ويمتنع عن الشهادة عليها: لا تُشهدني على جَوْرٍ، إنه عملٌ غيرُ صالحٍ، ويَزيده: (اتَّقُوا اللهَ واعْدِلُوا بيْن أوْلَادِكُمْ). ويَهُزُّ عاطفتَه: "إنَّ لِبَنِيكَ عليكَ مِنَ الحقِّ أنْ تَعْدِلَ بيْنهم، كمَا لك عليهمْ مِنَ الحقِّ أنْ يَعْدِلُوا في بِرِّكَ، أَيَسُرُّكَ أنْ يَكونوا لكَ في البِرِّ سواءً؟ قال: نعمْ، فقال الرسول: فلا إِذَنْ". ورجع بشير في عطيته.
وردتْ هذه القصة في كُتب السُّنَّة الصحيحة، وتلقَّاها المُحَدِّثُونَ في أصلها بالقبول، وجاءت برواياتٍ مُتعددةٍ اختلفتْ في التعبير عن إنكار النبي ـ عليه الصلاة ـ لصَنِيعِ بَشِيرٍ في تخصيص ولده ببعض ماله. وقد جمعناها على اختلافها، ولا ريب أن اعتبارًا واحدًا منها كافٍ في حُرمة هذا الصنيع، الذي يصنعه كثيرٌ مِن الآباء في أبنائهم بأسبابٍ فاسدةٍ، لا ينبغي لعاقلٍ أن يتَّخِذَ شيئًا منها أساسًا لِتَصَرُّفِهِ، فنِسْبَةُ الأبناء إلى الآباء نِسْبَةٌ واحدة لا يَفْضُلُ أحدُهم أخاه في شيءٍ منها، فلا ينبغي أن يفرق بينهم في العطاء؛ حتى لا يتفرَّقوا في المودة والرحمة والتعاون والمحبة.(1/301)
واجب وَلِيِّ الأمر:
وإذا كان مِن حُكم الشرع والقانون الحجْر على سفيهٍ يُبدد بعض ماله، أو يضع منه شيئًا في غير موْضعه، والحَجْرُ على مَدِينٍ مُحافظةً على حقِّ الدائن، فإني أعتقد أن الحجْر على مثل هؤلاء الآباء الذين يَفتنون أبناءهم، ويُزعزعون أُسرهم، ويُهدِّدون كيان مُجتمعهم بالحِرْمانِ المطلق لبعضهم، أو بالتفضيل لغير سبب معقول، أعتقدُ أن الحجر عليهم أوجب عند الله، وألْزم في نظر العدل والقانون من الحَجْر على السفيهِ والمَدينِ، فهل لمُشرِّعي الأمة الذين يعملون على خيرها أن يتَّجهوا إلى هذا الخطر قبل أن يستفحل ويمتد، ويمنعوا بالتشريع الحكيم هذه التصرُّفات، التي تحمل رُوحها وآثارها عناصر الشرِّ والفساد، وتدفع إلى الجرائم وسفْك الدماء؟
نَبِّئُونِي بعِلْمٍ، إلى مَن تلتجئ البنت هضيمةُ الجناح وقد حرَمها أبوها من الميراث، وطلَّقها زوجها أو مات عنها وهي فقيرة لا تجد قُوت يوْمها؟ إلى مَن يَلتجئ الابن ولمَّا ينهض على أعباء الحياة، أو لمَّا يُتمِّمْ دراسته، وقد حرَمه أبوه وكتب كل تركته لأخيه الذي يلتقِي معه في صُلب رجل واحد، والذي شغل معه بالتناوُب بطن أم واحدة؟ أم كيف تهدأ ثائرةُ قريبٍ وقد رأى الأجنبيَّ أو الأجنبية يتمتَّعانِ بمال قريبه لا لشيء سوى الشهْوة العمياء والهوَى الفاسد؟
أما بعدُ:
فيا أيها المسلمون: (اتَّقُوا اللهَ واعْدِلُوا بيْنَ أولادِكُمْ). ويا أيها المشرعون القائمون على حفْظ الأمة: حافظوا على أمتكم واضربوا بالتشريعات الحكيمة العادلة على أيدي المُفسدين المُخرِّبين، ونسأل الله التوفيق لمَا فيه حياة الأمة وحفْظ كيانها وسلامة عِزَّتِهَا.(1/302)
الختان شأنٌ قديم:
قال صاحبنا: اختلفتْ آراء الأطباء في ختان الأنثى، فمنهم مَن سمع به وأيَّده، ومنهم مَن أنكره وحذَره. والناس على رغم هذا الاختلاف مُتمسكون به، حَرِيصُون عليه: يفعلونه ويُقيمون له الولائم السِّرِّيَّة، ويرون أنه شأن يدعو إليه الدِّين، ويجعله شعارًا خاصًّا للمسلمين، فهل لنا أن نعرف حُكم الإسلام فيه! وأن نعرف وقته من عمر الطفل؟
وليس صاحبنا هذا بأول مَن يطلب حُكم الإسلام في عملية الخِتان، وليس ما أكتبه اليوم جوابًا له هو أول ما كتبتُ فيها، فقد كتبتُ فيها مراتٍ كثيرةً، غير أنها كانت لخُصوص السائلينَ، لا لعُموم القارئينَ وقد آثرتُ اليوم أن أُحقِّقَ رغبته الكريمة فأتحدَّث فيها عن طريق مِنْبَرٍ له صوته في آذان الناس من جهة ما تُرهف أسماعهم إليه، وهو حُكم الدين وحُكم الإسلام فيَعرف السائل وغير السائل موقف الشرْع من هذه العملية، ويكون القارئون على بيِّنة مِن الأمر في علاقتها بالشرْع والدين.
وعملية الختانِ عملية قديمةٌ، عرفها كثير مِن الناس منذ فجر التاريخ، واستمروا عليها حتى جاء الإسلام واختتنوا وخَتَنُوا ـ ذُكورًا وإناثًا ـ في ظلِّه، غير أنَّا لا نعرف بالتحديد: أكان مَصدرها لديهم التفكير البشري وهدايةُ الفِطْرَة في إزالة الزوائد التي لا خيرَ في بقائها، أو التي قد يكون في بقائها شيءٌ من الأذى والقذَر، أم كان مصدرُها تعليمًا دينيًّا، ظهر على لسان نبيٍّ أو رسول في حِقَبِ التاريخ الماضية؟ والذي يَهُمُّنَا هو معرفة علاقته بالدِّين وحُكم الإسلام فيه.(1/303)
الفُقهاء والخِتان:
وقد أثَّرتْ في شأنه جملة من المَرْوِيَّات، كان الفقهاء أمامها في حُكمه على مذاهب شأنهم في كل ما لم يرِد فيه نصٌّ صحيح. فمِنهم مَن رأى أنه واجبٌ دينيٌّ في الذكور والإناث، ومنهم مَن رأى أنه سُنَّةٌ فيهما، ومنهم مَن رأى أنه واجب في الذكور دون الإناث، وأنه فيهنَّ "مَكْرُمَةٌ". وكما اختلف الفقهاء في حكمه على هذا الوجه ـ الذي تتباعد جهات النظر فيه إلى أقصى حدٍّ للتباعُد، وتتقارب إلى أقصى حدٍّ للتقارب ـ اختلفوا في الوقت الشرعي الذي تجري فيه عمليته على نحو هذا الوجه أيضًا. فمنهم مَن رأى أنه لا يختصُّ بوقتٍ مُعيَّنٍ، ومنهم مَن حرَّمه قبل أن يبلغ الطفل عشر سِنينَ، ومنهم مَن جعل وقته بعد أسبوع من الولادة، ومنهم ومنهم إلى آخر ما نُقل عنهم في ذلك من آراء.(1/304)
وِجهات النظر المُختلفة:
وإذا كان لنا أن نأخذ مِن اختلافهم هذا ـ وهو الشأن الكثير الغالب بينهم في كل ما لم يرِد فيه نصٌّ صحيحٌ صريحٌ ـ ما ننتفع به في معرفة الوضْع الحقيقي للتشريع الإسلامي، فإن أول ما نأخذه أن القوم كانوا على حُريَّة واسعة المدَى وهم يبحثون عن حُكم الشرْع فيما وصل إليهم أو وصلوا إليه مِن مصادر تشريعية، لم تنلْ قطعيةَ الدلالة ولا كمال الحُجَّة المتفق عليها، لا يَعيب أحدُهم على صاحبه ولو كان على نقيضِ رأيه، وكانوا يستمعون الحُججِ فيَقبلون أو يَرفضون، دون تزمُّت أو إسرافٍ في التجهيل أو الانحراف.
وليس أغرب مِن أن يستدلَّ الذاهبون إلى وُجوب الخِتان بقوله ـ تعالى ـ: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إليكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ حَنِيفًا). ويقولون إنه قد جاء في الحديث "إن إبراهيم اخْتَتَنَ بعدما أتتْ عليه ثمانونَ سنةً". والاتِّباع الذي أمر به محمد وأصحابه يقضي عليهم أن يفعلوا ما فعله إبراهيم. وإذنْ يكون الختان وقد فعله إبراهيم واجبًا على محمدٍ وأتباعه.
إسراف في الاستدلال، غاية ما قُوبلَ به، عدم التسليم له، وهو مِن نوع استدلالٍ آخر للقائلينَ بالوُجوب أيضًا وهو: أن الخِتَانَ أحدُ الأمور التي ابتلَى الله بها إبراهيم والتي ذكرها بعنوان: "الكلمات" بقوله ـ تعالى ـ: (وإذا ابْتَلَى إبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ). قالوا: وورَد عن ابن عباس أن تلك الكلمات، هي خِصال الفِطْرَة: وهي الخِتان، وقصُّ الشارب، ونتْف الإبِط، وتقليم الأظفار، إلى آخر ما قالوا ونَقرؤه في المتداول مِن كُتب التفسير.(1/305)
رأيُنا في الموضوع:
وقد خرجنا مِن استعراض المَرْوِيَّاتِ في مسألة الختان على أنه ليس فيها ما يصحُّ أن يكون دليلًا على "السُّنَّةِ الفِقْهِيَّةِ"، فضْلًا "عن الوجود الفقهي" وهي النتيجة التي وصل إليها بعض العلماء السابقين، وعبَّر عنها بقوله: "ليس في الخِتان خَبَرٌ يرجع إليه ولا سُنَّةٌ تُتَّبَعُ". وأن كلمة: "سنة"، التي جاءت في بعض المَرويات، معناها إذا صحت، الطريقة المألوفة عند القوم في ذلك الوقت، ولم ترِد الكلمة على لسان الرسول بمعناها الفقهي الذي عُرفت به فيما بعد.
والذي أراه أن حُكم الشرع في الختان لا يخضع لنصٍّ منقول، وإنما يخضع في الذَّكَرِ والأُنثى لقاعدة شرعية عامة: وهي أن إيلامَ الحيِّ لا يجوز شرعًا إلا لمصالح تعود عليه، وتربو على الألَم الذي يَلْحقه.(1/306)
خِتان الذَّكَرِ:
ونحن إذا نظرنا إلى الختان في ضوء ذلك الأصل نجده في الذَّكَر غيرَه في الإناث، فهو فيهم ذو مَصلحة تربو بكثير عن الألم الذي يلحقُهم بسببه، ذاك أن داخل "الغلفة" مَنْبَتٌ خَصيبٌ لتكوين الإفْرازات التي تُؤدي إلى تَعفُّنٍ، تغلب معه جراثيم تُهيئ للإصابة بالسرطان أو غيره من الأمراض الفتَّاكة. ومن هنا؛ يكون الخِتان طريقًا وقائيًّا يحفظ للإنسان حياته.. ومثل هذا يأخذ في نظر الشرع حُكم الوُجوب والتحْتيم.(1/307)
خِتانُ الأُنْثَى:
أما الأنثى فليس لخِتانها هذا الجانب الوِقائي حتى يكون كختان أخيها.
نعم، حُكم الناس فيه جانبٌ آخر يدور حول ما يُحدِّث به بعض الأطباء من "إشعال الغريزة الجنسية وضعْفها" فيرى بعضهم أن ترك الخِتان يُشعل تلك الغريزة، وبها تندفع إلى ما لا ينبغي؛ وإذنْ، يجب الختانُ وِقايةً للشرَف والعِرْض. ويرى آخرون أن الختان يُضعفها فيحتاج الرجل إلى استعانة بموادَّ تُفسد عليه حياته. وإذن، يجب ترْكه حفظًا لصحة الرجل العقلية والبدنية.(1/308)
إسراف هنا وهناك:
ولعلي لا أكون مُسرفًا أيضًا إذا قلت: ما أشبه إسراف الأطباء في وجهات نظرهم بإسراف الفقهاء في أدلة مذاهبهم، فإن الغريزة الجنْسية لا تَتْبع في قوتها أو ضعفها خِتان الأُنثى أو عدمه، وإنما تتبع البِنْيَةَ والغُدد قوةً وضعفًا، ونشاطًا وخُمولًا.
والانزلاق إلى ما لا ينبغي كثيرًا ما يَحدث للمَختونات كما هو مشاهد ومقروء من حوادث الجنايات العِرْضية، والمَستور منها أكثر مما يعلمه الناس.
والذين يتناولون المواد الضارَّة إنما يتناولونها بحُكم الإلْف الواصل إليهم من البيئات الفاسدة، وليس ما يُحسُّونه في جانب الغريزة إلا وهمًا خيَّله لهم تخدير الأعصاب.
والواقع أن المسألة في جانبيْها "الإيجابي والسلبي" ترجع إلى الخُلُق والبيئة وإحسان التربية وحزْم المُراقبة. ومِن هنا يتبيَّن أن ختانَ الأُنثَى ليس لَدَيْنَا ما يدعو إليه، وإلى تَحتُّمِه، لا شرعًا، ولا خُلُقًا، ولا طِبًّا.(1/309)
قد يكون مَكْرُمَةً:
نعم قد يكون ختان الأنثى ـ كما يقول بعض الفقهاء ـ مكرُمةً للرجال الذين لم يأْلفوا الإحساس "بالزائدة" وهو في ذلك لا يزيد عمَّا تقتضيه الفِطْرة البشرية من التجمُّل والتطيُّب وإزالة ما يَنْبُتُ حوْل الحِمَى.
أما بعدُ:
فهذا هو حُكم الختان للذكَر والأنثى فيما أرى، أخذًا من القواعد العامة للشريعة، لا أخذًا من نصوص تشريعيةٍ خاصةٍ بالموضوع.(1/310)
التوالُد بالتلْقِيح أُلْهِمَهُ الإنسانُ من قديمٍ:
أما المُشكلة الثالثة التي يسأل الناس عن حُكم الشريعة فيها فنُوضح الجواب عنها بما يلي:
مِن المعلوم أن تَخَلُّقَ الولد إنما هو مِن السائل المَنَوِيِّ الذي يَخرجُ مِن الرجلِ فيَصِل إلى الرَّحِمِ المُستَعَدِّ للتفاعُل (خُلِقَ مِن مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ). (الآية: 6 ـ 7 من سورة الطارق). (إنَّا خَلَقْنَا الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ). (الدهر: 2). يتخلَّق الولد مِن هذا السائل متَى وصلَ إلى الرَّحِم المُستعد للتفاعل، وإن لم يكن وُصوله عن طريق الاتصال الجسماني المعروف، وهذا قدر عرفه الناس جميعًا، وعرفه فقهاؤنا، وجاء في كلامهم: "إن الحَمْلَ قد يكون بإدْخال الماء للمحلِّ دون اتِّصالٍ". عرَّفُوه هكذا ورتَّبوا عليه وُجوب العِدَّةِ، وهي مدة يبعد فيها الزوْج عن زوجته حتى تعرف براءةَ رحِمها من الحمل في حالة يصِل فيها إلى المرأة ماء أجنبيٌّ عنها. قالوا: "إذا أدخلتِ المرأةُ مَنِيًّا ظنَّتْهُ مَنِيَّ زوجها ثم تبيَّن أنه ليس لزوجها، فعليها العِدَّةُ كالمَوطوءة بشُبْهة" وقد جاء ذلك الفرض في كتب الشافعية، وقال صاحب البحر مِن كتب الحنفية: ولم أرَهُ لأصحابنا، والقواعد لا تأْبَاهُ؛ لأن وُجوب العِدَّةَ لِتَعرُّفِ براءةِ الرحِم. وهذا صريح في اعترافهم أن وُصول الماء عن غير الطريق المُعتاد قد يكون وسيلةً لشغْل الرحم بالجنين، وهو يتضمن تقرير المبدأ المعروف في تكوُّن الطفل من الماء الحيوي دون حاجة إلى العملية الجنسية. وما الاتصال الجِسماني إلا وسيلةً مُعتادة، لا يتوقَّف عليها تكوُّن الولد الذي هو من الماء المُستكمِل مُؤهلاته الطبيعية.(1/311)
والواقع أن التلقيح الصناعي، وقصْد التوليد عن طريقه، قد أُلهمه الإنسان من قديم وعرفه من فجْر حياته في الحيوان والنبات، واستخدمه فيهما، وظهر له فعلًا نجاحه، وحصل منه على أنواع حسنة من الحيوان، وعلى ثمار جيدة من النبات. وقد دفعه ذلك إلى إجراء التجارِب التلقيحية الصناعية في المرأة بماء الرجل، وفعلًا نجحت هذه التجارب أيضًا، وتكوَّن بالتلقيح الصناعي الجنينُ، واستكمل حياته الرحِميَّة، وخرج إنسانًا سَوِيَّ الخَلْق مُكتملَه. غير أن قصد الإنسان من التلقيح الصناعي البشري لم يكن على نحوٍ قصده من التلقيح في الحيوان والنبات، فلم يكن مِن أهدافه أن يحصل به على نسْل إنسانيٍّ أحسنَ وأقوى، كما هو الشأن في الحيوان والنبات، وإنما كان القصد علميًّا أوَّلاً وقبل كل شيء. ثم بعد أن تبيَّن نجاحُه علمًا وعملًا، اتُّخِذَ سبيلًا لتحقيق رغبة الولد بالنسبة للزوجين اللذين ليس لهما ولدٌ؛ وذلك كيْ يقف عندهما الإحْساس بالعُقم أو يزول، وبذلك يستويانِ بغيرهما، ويَشعرانِ في هذه الحياة بزِينة الأُبُوَّةِ والأُمومة للأبناء. وإنْ كان ذلك لا يخرج عن حدِّ التعلُّل النفسي بصورة الأُبوة والبنوة!! ثم توسَّع فيه بعض أرباب الآراء الفلسفية واتَّخذوا منه ـ بالتفلسُف الإنساني ـ سبيلًا لتكثير سواد الأمة وعدد أفرادها لمُجرد الرغبة في التوسُّع البشري، أو تحصيلًا لعِوَضٍ عمَّنْ تُهلكهم الحروب الطاحنة.
وبهاتينِ الرغبتينِ اللتينِ بعثتهما "الفلسفة المادية" كان التلقيح الصناعي في الإنسان أمرًا مشروعًا عند أرباب تلك الفلسفة الجافَّة. وبهما ساوى عندهم في المشروعية وعدم الإنكار والتأفُّف التلقيحَ الصناعي في الحيوان والنبات.(1/312)
المستوى الإنساني يأبَى التلقيح:
ولقد كان جديرًا بأرباب هذه الفلسفة الذينَ سوَّوا بآرائهم التلقيح في الإنسان بالتلقيح في الحيوان والنبات، كان جديرًا بهم أن يذكروا أن الإنسان ـ وهُم من أفراده ـ له مُجتمعات، شعوب وقبائل، تتكون مِن أفرادٍ تَنتظمها سلسلةٌ واحدة، تُعرَف بها وتنتسب إليها، وأنهم بإنسانيتهم ليسوا كأفراد الحيوان والنبات التي تظلُّ مُفكَّكة الحياة لا يجمعها رباطٌ، ولا تشعر في حياتها بالحاجة إلى الرِّباط، وهذه خاصة الحيوان والنبات. وتلك خاصة الإنسان، وليس مِن ريبٍ في أنهم إذا ذكروا هذه، ورجعوا إلى أنفسهم وشُعورهم لأَدْركوا أن للإنسان حياةً هي أرقى من حياة الفرد نفسه، وهي حياة تلك المُجتمعات التي تخضع لقوانينَ بشريةٍ، وشرائع سماوية، تُلَبِّي داعِيَ الفِطْرة الإنسانية في ذلك، ويرتبط بها الإنسان في تصرُّفاته وسُلوكه، وانتظامه في مُجتمعاته. ولعل الزواج وإعلانه ـ وهو شأن فطري ـ كان أهم الشئون التي تخضع المُجتمعات، لحُكمها، وترتِّب عليه آثارًا مُعيَّنةً معروفة فيما يتعلق بحياة الأسرة ونسَب الأبناء.(1/313)
حكم الشريعة في التلْقيح:
ومن هنا نستطيع أن نُقَرِّرَ ـ بالنسبة لحُكم الشريعة في التلقيح الصناعي الإنساني ـ أنه إذا كان بماء الرجل لزَوجه كان تَصرُّفًا واقعًا في دائرة القانون والشرائع التي تخضع لحُكمها المُجتمعات الإنسانية الفاضلة، وكان عملًا مَشروعًا لا إثم فيه ولا حرج، وهو بعد هذا قد يكون في تلك الحالة سبيلًا للحصول على ولد شرعي، يُذْكَر به والِداهُ وبه تمتدُّ حياتهما وتكمل سعادتهما النفسية والاجتماعية، ويَطمئنانِ على دوام العِشْرَةِ وبقاء المودَّة بينهما.
أما إذا كان التلقيح بماءِ رجلٍ أجنبيٍّ عن المرأة ـ لا يربط بينهما عقد زواج "ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يُراد مِن التلقيح الصناعي عندما يتحدث الناس عنه" ـ فإنه يَزِجُّ بالإنسانِ دون شكٍّ في دائرتَيِ الحيوان والنبات، ويُخرجه عن المستوى الإنساني، مستوى المجتمعات الفاضلة التي تَنْسُجُ حياتَها بالتعاقُد الزوجي وإعلانه.(1/314)
التلقيحُ والزِّنَا:
وهو في هذه الحالة ـ بعد هذا وذاك ـ يكون في نظر الشريعة الإسلامية، ذات التنظيم الإنساني الكريم، جريمةً مُنكرةً، وإثمًا عظيمًا. يلتقِي مع "الزنا" في إطار واحد: جوهرهما واحد، ونتيجتهما واحدة، وهي وضْع ماء رجلٍ أجنبي قصدًا في حرْثٍ ليس بينه وبين ذلك الرجل عقدُ ارتباط بزوجيّة شرعية، يُظلها القانون الطبيعي، والشريعة السماوية. ولولا قُصور في صورة الجريمة لكان حُكم التلقيح في تلك الحالة هو حُكم الزِّنَا الذي حدَّدته الشرائع الإلهية، ونزلت به كتب السماء.(1/315)
التلقيح أفظْع جُرْمًا من التَّبَنِّي:
وإذا كان التلقيح البشري بغير ماء الزوج على هذا الوضع، وبتلك المنزلة، كان دون شكٍّ أفظعَ جُرْمًا وأشد نُكرانًا من "التبني" في أشهر معناه الذي بيَّنَّا حُكمه، وإبطال القرآن له في الحديث السابق، وهو أن يَنسب الإنسان ولدًا يعرف أنه ابن غيره إلى نفسه، وإنما كان التلقيح أفظَعَ جُرْمًا من التبنِّي؛ لأن الولد المُتبنَّى، المعروف أنه للغير، وليس ناشئًا عن ماء أجنبي عن عقد الزوجية، إنما هو ولد ناشئٌ عن ماء أبيه ألْحقه رجلٌ آخر بأُسرته وهو يعرف أنه ليس حلْقةً من سِلسلتها، غير أنه أخفَى ذلك عن الولد، ولم يشأ أن يُشعره بأنه أجنبيٌّ، فجعله في عداد أُسرته، وجعله أحد أبنائه زُورًا من القول. وأثبت له ما للأبناء من أحكام.
أما ولد التلْقيح فهو يجمع بين نتيجة التبنِّي المذكور ـ وهي إدخال عنصر غريب في النسب ـ وبين خِسَّةٍ أُخرى وهي التقاؤُه مع الزِّنَا في إطار واحد، تَنْبُو عنه الشرائع والقوانين، وينْبو عنه المستوى الإنساني الفاضل، ويَنزلق به إلى المستوى الحيواني الذي لا شُعور فيه للأفراد برِباطِ المُجتمعات الكريمة. وحسب مَن يدْعُونَ إلى هذا التلقيح ويُشيرون به على أرباب العُقم تلك النتيجة المُزدوجة، التي تجمع بين الخِسَّتَيْنِ: دخل في النسب، وعارٌ مستمر إلى الأبد. حفظ الله على المسلمين أنسابهم ومُستواهم الإنساني الفاضل.(1/316)
اللَّقِيط في نظَر الشريعة:
هذه مشاكلُ ثلاثٌ، لا يكاد يخلو منها مُجتمع، ولها ـ إذا تُركت دون حَلٍّ ـ آثارٌ سيئة تُهدد المجتمع في سعادته واطمئنانه، وكثيرًا ما عُقدت لبحثها المؤتمرات، وأدلى فيها ذوو الآراء بآرائهم، وكثيرًا ما تنوعت الآراء، وعلى رغم ما تناولها من البحث وتعدُّد الآراء فإنها لا تزال غُصَّةً، تُعرض بين حين وآخر ويتحدث الناس عنها في العرض اللاحق بمثل ما تحدثوا به في العرض السابق.
ماذا يُفعل باللقيط؟ وماذا يجب على المُلتَقِطِ؟ وعلى من يكون الإنفاق عليه وتربيته وتهذيبه؟
وهل يجوز التبنِّي؟ وما هي الآثار التي تترتب عليه؟ وما هو حُكم عملية التلقيح الصناعي لإيجاد النسل بالنسبة لأرباب العُقم، أحلالٌ هي أم حرام؟ وهل يثبت بها نسَب الولد ـ الذي جاء عن طريقها ـ للزوج العَقيم؟
وفي أجوبة هذه الأسئلة ونحوها يدور البحث في هذه المشاكل الثلاث، وقد رأيت أن أُبيِّن حكم الشريعة الإسلامية بالنسبة لكل مشكلة منها، ونبدأ بالقول في نظرة الشريعة إلى "اللُّقطاء والتبنِّي" وما قرَّرتْه بالنسبة إليهما مِن أحكام.
عُنِيتْ الشريعة الإسلامية بالنظر إلى الأطفال، وعَرَض الفقهاء لنوعٍ خاص منهم، وهو أجدرهم بالعناية، نظرًا لفقده مَن يَعُوله ويتعهَّده من أبٍ أو قريب، وذلك النوع هو المعروف عند الناس باسم: "اللقطاء" فعرَّفوا اللقيط، وبيَّنوا أحكامه من جميع جهاته في بحثٍ مستقل، وتحت عنوان خاص هو: "باب اللقِيط" وقد عرفوه بأنه مولود حيٌّ، طرحه أهله خوفًا من الفقر، أو فِرارًا من التُّهْمة، وهو تعريف يُصور لنا شأن اللقيط باعتبار الأسباب التي تدعو غالبًا إلى نبْذه وطرحه، وأنها لا تكاد تخرج عن أمرين: إما الخوْف من الفقر وعدم القُدرة على تربيته والإنفاق عليه، وإما الخوْف من تُهمة العرض.(1/317)
وقد قرَّروا أن أخذه والتقاطه واجبٌ على مَن يجده؛ لأنه إحياء لنفسٍ صارَ لها حظٌّ في الوجود، ويُرجى أن يكون لها نفع في الحياة، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (ومَن أحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا الناسَ جَمِيعًا). والواقع أن ترْكه مع القدرة على أخذه والتقاطه تضييع له وقضاء عليه.
وهذا القدْر كافٍ في تحقُّق مسئولية التقصير في حفظ حياة الحيِّ، وهي مسئولية تدخل في جوِّ المسئوليات الجنائية في نظر الشرائع والقوانين، ومِن هنا قال الفقهاء ـ ترغيبًا في الْتقاطه وتحذيرًا من ترْكه ـ مُضَيِّعُهُ آثِمٌ، وآخِذُهُ غانمٌ.
وكيف لا يكون أخْذُه واجبًا وغُنْمًا، وترْكه مُحرمًا وإثْمًا، وقد دلَّ تاريخ اللقطاء على أن فيهم مَن يختصُّه الله بكثير مِن فضله، فيَقود الأمم، ويُرشد الناس إلى الخير والصلاح؟(1/318)
نسَبُ اللَّقِيطُ ونَفَقَتُه:
واتَّفقَ أهل الفقه أنه إذا ادَّعى نسَب اللقيط رجلٌ مسلم، وهو يعتقد أنه ليس ابن غيره، ثبت نسَبه منه، حِفْظًا لكرامته وإعزازًا له بين أُمته بانتسابه إلى أبٍ معروف، ومتى ثبت نسبُه ثبتت له جميعُ حقوق البُنُوَّةِ، مِن نَفقةٍ وتربية وميراث، أما إذا لم يدَّعِ أحدٌ نسبه فإنه يظلُّ بيد المُلتقط، تكون له وِلايته وعليه تربيته وتثقيفه بالعلْم النافع في الحياة، أو الصَّنْعَة الكريمة المُثمرة، حتى لا يكون عالةً على الأُمَّة، ولا مَنْبَعَ شقاء للمجتمع. ونفقتُه في تلك الحالة واجبة على بيت المال، يُنفق عليه وهو في يَدِ المُلتقط، ويكون الملتقط مسئولًا عنه في كل ما يحتاجه وينفعه من عملٍ وتوْجيه. وقد ورَد عن
عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لمَن التقطَ طفلًا: "لكَ ولاؤُهُ، وعلينا نَفَقَتُهُ". وكان يفرض له مِن النفقة ما يُصلحه ويقوم بشأنه، ويُعطيه لولِيِّه كل شهر، ويُوصي به خيرًا. ومع هذا قرَّر الفقهاء أن المُلتقط إذا كان سيئ التصرُّف، لا يهتدي إلى وُجوه التربية المثمرة، أو كان غير أمين على ما يُعطي مِن نفقته، وجب نزعُه مِن يده، ويتولى الحاكم عندئذ تربيته والإشراف عليه، كما يتولَّى رزقه ونفقتُه.(1/319)
واجب الجماعة للقيط:
ولم يقف الفقهاء عند هذا الحدِّ في تمهيد طريق الحياة للقيط، ووسائل العناية بتربيته، والإنفاق عليه، بل قدَّروا خُلُوَّ بيت المال عن سداد حاجة اللقيط، وتَعَذُّرِ الإنفاق عليه من جهة ولِيِّ الأمر وعجزه عن القيام بشأنه، قدَّروا ذلك وقرَّروا أنه يجب في تلك الحالة على جماعة المسلمين أن يتعاونوا على البِرِّ به والإنفاق عليه، ويكون ذلك مِن الشئون الخيْرية العامة التي رغَّب القرآن في التعاون عليها وحبَّب فيها، وأنْكر على المُتخاذِلينَ عنها (وتَعَاوَنُوا علَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى). (الآية: 2 من سورة المائدة) (ويُطعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا). (الآية: 8 من سورة الدهر). (أرَأيتَ الذي يُكَذِّبُ بالدِّينِ. فذلكَ الذِي يَدُعُّ اليتيمَ. ولا يَحُضُّ على طعامِ المِسْكِينِ). (أول سورة الماعون). (كلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ. ولا تَحَاضُّونَ علَى طعَامِ المِسْكِينِ). (الآيتان: 17 ـ 18 من سورة الفجر). ولا ريب في أنَّ اللقيط قد جمع معاني اليُتْمِ والمَسْكنة والأَسْرِ، فهو يتيم فقَدَ أباه ومن يرعاه، ومسكين أُسكن في التراب وفي الزقاق وفي الشواطئ، وأَسير شُدَّ وَثَاقُهُ، وكُبِّلَتْ حياته، وعُقدتْ عليه سُبُلُها. فهو ـ إذنْ ـ أحقُّ بالعطف والرعاية، والحضِّ على إطعامه مِن كل ذي حاجة سواه، ولا يبعد أن يكون لهذه الآيات الكريمة أثرٌ كبيرٌ في توجيه أهل الخير إلى تأليف جميعاتِ الطفولة المُشرَّدة، ومدُّها بوسائل الحياة لإيوَائها والعناية بها.(1/320)
التَّبَنِّي في نظر الشريعة:
هذا ما قرَّره فقهاؤنا أخذًا من قواعد الشريعة ورُوحها بالنسبة للُّقَطَاءِ، أما التبنِّي فينبغي لمعرفة حُكم الشريعة فيه أن يعرف له في معناه صورتينِ: إحداهما أن يضمَّ الرجل الطفل الذي يعرف أنه ابن غيره إلى نفسه، فيُعامله مُعاملة الأبناء من جهة العطف والإنفاق عليه، ومِن جهة التربية والعناية بشأنه كلِّه، دون أن يُلْحِقَ به نسبَه، فلا يكون ابنًا شرعيًّا، ولا يثبُت له شيءٌ من أحكام البُنُوَّةِ. والتبني بهذا المعنى صَنِيعٌ يلجأ إليه بعض أرباب الخير من المُوسرين الذين لم يُنعم الله عليهم بالأبناء، ويَرونه نوعًا من القُرْبَةِ إلى الله بتربية طفل فقير، حُرم من عطف الأُبوَّة، أو حُرم من قدرة أبيه على تربيته وتعليمه، ولا ريب أنه عملٌ يستحبُّه الشرع، ويدعو إليه، ويُثيب عليه، وقد فتحت الشريعة الإسلامية للمُوسر في مثل تلك الحالة باب الوصية، وجعلتْ له الحقَّ في أن يُوصي بشيء مِن تركتِه يَسُدُّ حاجة الطفل في مستقبل حياته، حتى لا تضطرب به المعيشة، ولا تقسو عليه الحياة.(1/321)
التَّبَنِّي المَحْظُورُ:
أما الصورة الثانية، وهي المفهومة من كلمة: "تبنِّي" عند الإطلاق، وفي عُرف الشرائع ومُتعارف الناس، فهي أن ينسب الشخص إلى نفسه طفلًا يعرف أنه ولد غيره، وليس ولدًا له ينسبه إلى نفسه نسبة الابن الصحيح ويُثبت له أحكام البنوة من استحقاق إرْثه بعد موته، وحُرمة تزوُّجه بحليلته، وهذا شأنٌ كان يعرفه أهل الجاهلية، وكان سببًا من أسباب الإرْث التي كانوا يُورِّثون بها، فلمَّا جاء الإسلام ـ وبيَّن الوارثين والوارثات بالعناوين التي قرَّرها سببًا في استحقاق الإرث ـ أسقطه من أسباب التوارث، وحصرها في البنوة والأُبوَّة والأمومة والزوجية والأخوة والأرحام على ترتيب بينهم (وأُولُوا الأَرْحَامِ بعضُهمْ أوْلَى بِبَعْضٍ في كتابِ اللهِ). (آخر سورة الأنفال).
ولم يقف الإسلام في إبطال آثار التبني الجاهلي عند حدِّ إسقاطه من أسباب الميراث، بل صرَّح ببُطلانه، وأهدَر آثاره، وأرشد نبيَّه إلى التمسُّك بالواقع الصحيح، وقد جاء ذلك في قوله ـ تعالى ـ من سورة الأحزاب: (وما جَعَلَ أدْعِيَاءَكُمْ أبْنَاءَكُمْ ذلكُمْ قَوْلُكُمْ بأَفْوَاهِكُمْ واللهُ يقولُ الحقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هوَ أقْسَطُ عندَ اللهِ فَإِنْ لمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ ومَوَالِيكُمْ). (الآيتان: 4 ـ 5 من سورة الأحزاب).(1/322)
زيد بن حارثة:
وقد تبَنَّى النبي ـ صلى الله عليه وسلم، على سُنة العرب، وقبل التشريع ـ زيدَ بن حارثة، فكان يُدعي: زيدَ بنَ محمد، وحينما طلبه أَبُوه وأهلُه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَكَلَ النبي الأمر إلى اختيار زيد، فآثَرَ زيدٌ أُبُوَّةَ النبي على أبوة أبيه، ورضي الجميع بذلك، وانصرفوا عنه، وتركوه مُتَبَنَّى تَبِنِّي الرسول فرحينَ مسرورينَ، فلما جاء القرآن بإبطال التبنِّي أمر الله نبيَّه أن يُنَفِّذَ بنفسه تطبيق ذلك التشريع الجديد في مُتَبَنَّاهُ؛ ليكونَ ذلك عند الأمة باعثًا على الامتثال والمُسارعة إلى القبول، دون تحرُّج من ترْك ما ألِفُوا.
أمر الله نبيه بتنفيذ التشريع الجديد، وإهدار السُّنَّةَ السابقة فيما يختصُّ بالتبنِّي، وفي سبيل ذلك طلب منه أن يتزوج بحليلةِ مُتبناه زيد بن حارثة، وقد اتَّفق في ذلك الوقت أن زيدًا كان قد طلَّقها، وقد جاء ذلك في قوله ـ تعالى ـ من سورة الأحزاب أيضًا: (فلمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لكَيْ لا يَكُونَ على المُؤمِنينَ حَرَجٌ في أزواجِ أدْعيائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وكانَ أمْرُ اللهِ مَفْعُولًا). (الآية: 37 من سورة الأحزاب) وبذلك بطل هذا النوع من التبنِّي، وصار مُحَرَّمًا على المسلم أن يُلحق بنسَبه الطفلَ الذي يَعرف أنه ابن غيره وليس ابنًا له، عرَف أبَاه أم لم يَعرفه.(1/323)
إبطال هذا التبنِّي:
ولعل من واجب المسلمين علينا أن يعرفوا الحِكْمَةَ في إبطال هذا النوع من التبنِّي،
ونُزول القرآن بإنكاره وتحريمه وإبطال آثاره، ليتبيَّن لهم مقدارُ حدب الشريعة الإسلامية على صوْن الأنساب وحِفظ الحقوق الأُسرية التي ارتبطت في التشريع الإسلامي بجهات القرابة العِماد الواقعي بين الوارثينَ ومُورِّثِهم.
وليس مِن ريبٍ أن في هذا التبنِّي حرمانَ الأب الحقيقي المعروف من أن يتصل به نسبه المُتولد منه، المنسوب إليه في الواقع وفيما يعلم الله والناس، وفيه إدخال عنصر غريب في نسب المُتبنِّي، يَدخل على زوجته وبناته باسم البُنُوَّةِ والأخوة، ويُعاشرهن على أساس منهما وهو أجنبي عنهن، لا يُباح له منهن ما يُباح للابن أو الأخ الحقيقي لهنَّ، وبقدر ما تتركز هذه البُنوة الكاذبة في هذه الأسرة، فإن البنوة الحقَّة، في الأسرة الحقة، تسير إلى الفناء والمَحْوِ والزوال، وبذلك تضيع الأنساب، ويختلُّ نظام الأُسَر.
وفيه ـ وراء ضياع الأنساب واختلال نظام الأسر ـ تضييعٌ لحقوق الورثة الذين تَحَقَّقَ سبب إرْثهم الشرعي من الأب الكاذب "المُتبنِّي" فلا تَرِثُ إخوته ولا أخواته لوُجود الابن "الزُّور" الذي منَع بِبُنُوَّتِهِ الكاذبة إرْثهم الشرعي، وبذلك تقع العداوة والبغضاء بينهم وبين مُورثهم بهذا الدعِيِّ الذي تَبنَّاه وضيَّع به حقهم في التركة.
هذا. وقد قال بعض العلماء إجمالًا لتلك الحكمة: لو فُتح باب الانتفاء من الأب لأُهملت المصالح ولاختلطتِ الأنساب ولضاعت حِكمة الله في جعْل الناس شعوبًا وقبائلَ.
وبعدُ:
فهذا هو الوضْع الشرعي لمَن يريد أن يتقرَّب إلى ربه بضَمِّ ابن غيره إليه.(1/324)
يُربيه ويُنفق عليه ويُوصي له، دون أن ينسُبه إلى نفسه، ويَجعله ابنًا يَرِثُهُ وتَحرُم عليه حليلتُه، وذاك هو الوضْع الآخر الذي يَمْقُتُهُ الله ويُنكره: ينسب ولَدَ غيره إليه ويُثبت له حقوق البُنُوَّةِ الصادقة، ويمنع به المُستحقينَ حُقوقهم. وأرجو ألَّا يختلط أحدُ الوضعينِ بالآخر عند مَن يُريد التبنِّي ممَّن يُؤمنون بالله وشرْعه.(1/325)
المشروع في أمر الطلاق والرَّجْعَة في نظر الإسلام:
يقول السائل: هل تُوجد في القرآن الكريمة آيةٌ تأمر بالتحليل؟ وهذا منه مبنيٌّ على ما يقوله بعض الناس مِن أن الزوجة المُطلَّقة طلاقًا ثلاثًا تَحِلُّ لزوجها الأول بالتحليل، أي بواسطة المُحلِّل، ويَشترطون أن يذوق المُحلِّل عُسَيْلَتَهَا كما تذوقُ عُسيلته، ثم يُطلقها المُحلِّل ليتزوجها زوجُها الذي طلَّقها.
ويقول السائل: إن هذه المسألة سببتْ عند زملائه الاشمئزاز، وإنه هو أيضًا مُتحيِّر جدًّا من وجود هذه المسألة في الشريعة الإسلامية ويطلب بإزاء هذا بيان الحقيقة فيما يسمعه من الناس في هذه المسألة، وهل ذلك ـ حقيقةً ـ مشروع في الإسلام. ونحن نُكرر الجواب عن هذا الأمر، ونزيده إيضاحًا فنقول:(1/326)
إن الإسلام أباح الطلاق عندما تَسُوءُ العشرة بين الزوجين ويتحكم الشرُّ في نُفوسهما، بحيث تذهب الثمرات المَطلوبة من الزواج من السكن والمودة والرحمة، في تلك الحالة أباح للرجل أن يُعالج الأمر بإيقاع طلقةٍ واحدة، وله قبل أن تمضي العِدَّةُ أن يُراجع زوجته إليه بدون عقدٍ، فإذا ما عاد سوء العشرة إليهما أُبيح له أيضًا أن يُطلِّق مرة ثانية طلقةً رجعية، يُباح له أن يُراجعها أيضًا في أثناء العدة، فإن استقام أمرُهما وحسُنَتِ العِشْرة بينهما فبها ونعمتْ، وإنْ ساءت ولم ينفع العلاج بالطلقتينِ الماضيتينِ أُبيح له أن يُطلق المرة الثالثة وفي هذه المرة تَبِينُ منْهُ بَيْنُونَةً كُبْرَى. لا يَحِلُّ له أن يُراجعها كما راجعها في المرتين السابقتين، وإنما تحلُّ له بشيء واحد هو أن يُصادف أنها تتزوج غيره زوَاجًا شرعيًّا، لم يُقصد منه تحليلها للأول وإنَّما قُصد منه ما يُقصد من كل زواج: عيشةً دائمةً وتكوين أُسرة، فإذا اتَّفق ولم يُصاحب زواجها الثاني التوفيق وحُسن العشرة، بل ساءت العشرة بينهما، وطلَّقها زوجها الثاني ـ لسوء العشرة مثلًا ـ حلَّ لزوجها الأول بعد مُضِيِّ عدَّتُها من الثاني أن يتزوجها، ويكون زواجًا مبتدأ بعقد ومهرٍ جديدينِ، وهذا هو المشروع في الإسلام، والذي ورَد به نصُّ القرآن، ففي الطلقتينِ الرجعيتينِ، أيْ اللتينِ يملك فيهما الرجل مُراجعةَ زوجته، يقول الله ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مرَّتانِ فإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). (الآية: 229 من سورة البقرة)، وفي الطلْقة الثالثة يقول: (فإنْ طلَّقَها فلا تَحِلُّ لهُ مِن بعدُ حتَّى تَنْكِحُ زوْجًا غيْرَهُ). (الآية: 230 من سورة البقرة).(1/327)
الزواج بقَصْد التحليل حرام بالإجْماع:
والمقصود أنه إذا طلَّقها طلقةً ثالثةً بعد السابقتينِ لا تحلُّ حتى تتزوَّج غيره زواجًا شرعيًّا مقصودًا منه الدوام والاستمرار، ومن هنا يَتَبَيَّنُ أن الزواج بقصد التحليل لم يكن مُرادًا من الآية. وقد جاء النهْي عن زواج التحليل بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "لعَن الله المُحلِّل والمُحلَّل له" وبقوله: "ألَا أُخبركم بالتَّيْسِ المُستَعار، قالوا بلى يا رسول الله، قال هو المُحلِّل، لعَن الله المُحلِّل والمُحلَّل له" وصحَّ عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "لا أُوتَى بمُحلِّل ولا مُحلَّل له إلا رجمتهما". وقال الإمام ابن تيمية: "نِكاح المحلل حرام بالإجماع". وكيف لا يكون حرامًا وهو زواج يفعله أصحابه مع التستُّر والكتمان، خوْف الفضيحة والعار إذا عُلم واشتهر فهذا يدلُّ على أن مَقْتٍ ومُنْكر لا تتقبله النفوس، فكيف يكون مشروعًا، ويفعل باسم الدين؟؟(1/328)
أسباب كثرة الطلاق:
لقد عرف المسلمون مِن دينهم أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ومع هذا كثُر الطلاق في مجتمعنا كثرةً مُزعجة، فما أسباب هذه الحالة، وماذا ترون لعلاجها في ظلِّ تعاليم الإسلام؟
في هذه الأيام كثر الكلام حول الطلاق، وشغل الناس بمقترحات لعلاج هذه الظاهرة كادت تمسُّ أصل مشروعية الطلاق، وفي الواقع أن الشريعة الإسلامية حينما أباحت الطلاق نظرتْ إليه كآخر دواءٍ، وذلك بعد أن اتَّخذت من الوسائل الإيجابية ما يقِي الحياة الزوجية شرَّ التدهور والانحلال.
وحسُبنا في هذه الظاهرة أن نتفهَّم هذه الوسائل، وأن نأخذ أنفسنا بها، ونُربِّى أبناءنا عليها. ونحن إذا تعرَّفْنا الأسباب الواقعية التي ترجع إليها كثرة الطلاق المزعومة، ثم بذلنا الجهد في القضاء عليها بما وضعتْه الشريعة، لسلِمتِ الأسرةُ مما يُهدِّدها في بقائها وسعادتها، ولسلِمت الشريعة من النقد في تشريع الطلاق.
وإنَّ مَن يُمعن النظر في أسباب الطلاق ليَجدُها على كثرتها ترجع إلى سببين رئيسيينِ أحدهما: إهمالُ الوصايا الدينية فيما يتعلق بتكوُّن الأسرة وبسلامتها بعد تكونها من الشقاق بين الزوجين. وثانيهما: التزام مذاهبَ معينةٍ في الحكم بوقوع الطلاق بالنظر إلى ألفاظه وبالنظر إلى الحالة التي يكون عليها الزوجانِ، بينما نجد مذاهبَ أخرى قويةً لا ترى وقوعه في كثير من الحالات ولا بكثير من الألفاظ، أي أنها تُضيق دائرة وُقوعه إلى حدٍّ يجعله، كما شرعه الله، ضرورة لابد منها هي الإنقاذ.(1/329)
وصايا الإسلام تَحِدُّ من كثرة الطلاق:
أما الوصايا فمنها ما يرجع إلى اختيار الزوجية، والشريعة تُوصي باختيار ذات الخُلق والدين، وتُحذر من اختيار ذات المال، أو الحسَب لحسبها، أو الجاه لجاهها. ولا ريب أن الزواج الذي يكون أساسه هذه الشئون المادية فقط يتعرض للتدهور حينما يفوت الانتفاع بها، ومنها ما يرجع إلى أسلوب الخطبة والشريعة توصي برؤية كل من الطرفين لصاحبه على وجه تعرف به الاتجاهات القلبية، وتحذر الاكتفاء بوصف الوسطاء، أو خطبة الخاطبات المُستَأجرات تحذر الإسراف في المخالطة قبل العقد، ولا ريب أن الزواج الذي يكون أساسه المُفاجأة ليلة الزفاف دون رؤية سابقةٍ كما تَطلب الشريعة، أو يكون أساسُه الإسراف في الاختلاط قبل العقد ـ كما تحذر ـ هو زواجٌ كثيرًا ما يتعرض للتدهور والانحلال، ويُرشد إلى ذلك حوادث الخاطبين والمَخطوبات التي نَقرؤها كثيرًا في الصحف ونَسمع عنها في الأُسَر.(1/330)
ومن الوصايا: حُسْنُ المعاشرة المُتبادَل بين الزوجين بعد الزفاف، وذلك يكون بقيام كل منهما بحقِّ الآخر، فلا يتزمَّت الزوج في مُعاملة زوجته، ولا يُسرف في إساءة الظن بها إلى أن يُحكم عليها النوافذ والأبواب، ويَمْنَعُهَا حقَّ استنشاق الهواء وزيارة الأرحام. ولا يتحلَّل مِن صيانتها ويترك لها الحبل على الغارِب، فيُبيح لها حضور المَحافل والمُنتديات والمُقابلات والخلوات حسبما تشتهي، وقد يُسرف في هذا الجانب فيُقدمها بنفسه. ولا ريب أن هاتين الخطتين: خطة التزمُّت، وخطة التحلُّل لهما أثرهما السيئ في العلاقة الزوجية، كما نرى ونسمع، فبالتزمت والضغط يحصل الانفجار. وبالتحلُّل يحصل التحوُّل، وتَسُوءُ العلاقة ويثبت الشقاق. ومِن الوصايا أن يبتعد عن الزوجين تحكُّم الأهل والأقارب في عاطفة كل منهما نحو صاحبه، ولا ريب أن الحياة الزوجية التي يتحكَّم فيها الأهل، فتُغري الرجل بزوجه أو العكس، تسوء حالها وتتعرض للتدهور والانحلال، وهنا يجب أن يعرف الأهل والأقارب ـ وبخاصة الوالدانِ ـ أن سعادتهم بسعادة أبنائهم، وسعادة أبنائهم بالعمل على تقوية الروابط وتوثيق عُرَى المحبة بينهم، فإذا لم تفهم الأم أو الأب هذه الحقيقة وجَب على الزوجين ألَّا يستمعَا لهما فيما يُغضب الله، وأن ينصحاهما بوقف حمْلاتهما المتكررة المُنكَرة، التي مآلها حتمًا التفريق بينهما وخراب بيتهما.
وملاكُ الأمر في ذلك كله معرفة الحقوق والواجبات التي بيَّنتْها الشريعة، وطلبت تبادلها بين الزوجين، وبين الأسرتين، وسَبيل ذلك أن تُعْنَى الحكومة ورجال التريبة والتهذيب بتربية النشء على هذه الحقوق وتلك الواجبات، وأن تكون أول ما يغرس في نفوس الأبناء عن طريق البيت، وعن طريق المدرسة، وعن طريق الصحف، وعن طريق الإذاعات.(1/331)
وإذا اتَّخذت هذه الحقوق وتبادُلها أساسًا للحياة الزوجية ـ عن هذا الطريق الذي يغرسها في النفس ـ ظهر أثرها بعدُ في قوة الحياة الزوجية، وسلامتها من التدهور والانحلال، وفي إشاعة المحبة والمودة بين الزوجين وبين الأسرتين.(1/332)
فتاوى المُفْتِينَ المُقلدينَ وضَرَرُها:
هذه ناحية: أما الناحية الأخرى، وهي ناحية الفتوى بوقوع الطلاق. أو الحكم بوقوعه، فقد جرينا نحن المُفتين والقضاة على الإفتاء، أو الحكم بوقوع الطلاق على مذاهبَ مُعيَّنةٍ قد تشهد الحُجة القوية لغيرها في عدم وُقوعه. والرأي أنَّا لا نُفتي ولا نَحكم بوُقوع طلاق إلا إذا كان مُجْمَعًا مِن الأئمة على وقوعه، فإن الحياة الزوجية ثابتة بيقينٍ، وما يثبُت لا يُرفع إلا بيقينٍ مثله، ولا يقينَ في طلاقٍ مُختلَف فيه.
وعلى هذا فلا نحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان مرة، مرة، وكان مُنجزًا مقصودًا للتفريق، في طُهر لم يقع فيه طلاق ولا إفضاء، وكان الزوج بحالة تكمل فيها مسئوليته.(1/333)
وبهذا لا نحكم بوقوع الثلاث دفعةً واحدة إذا قال: أنت طالق ثلاثًا، ولا نحكم بوُقوع الطلاق إذا كان مُعلَّقًا، كأن يقول: إنْ فعلتِ كذا فأنتِ طالق، وهو لا يحب الطلاق ولا يُريده. ولا بوُقوعه في قول اللاعب الهازل مع زوجه أو غيرها: أنت طالق، أو هي طالق. ولا في قول البائع: عليَّ الطلاق أن هذه السلعة بكذا، أو امرأتي طالق إذا لم تكن السلعة من نوع كذا. أو عليَّ الطلاق لابد أن تأكل أو تفعل كذا. ولا يقع والمرأة في حيْض أو نِفاس أو طُهْر اتَّصل بها فيه، ولو أوقع عليها طلاق في طُهر لم يتصل بها فيه، ثم أوقع عليها طلقةً أخرى في الطهر نفسه، لا تقع تلك الطلقة الثانية. وكذلك لا يقع طلاقٌ وهو في حالة سكر أو غضب يملك عليه اختياره والذي يُؤسَف له أنه على الرغم من أن قانون المحاكم الشرعية الحالي ألغى وقوع الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث وجعله واحدةً رجعية، وألغى وقوع الطلاق المعلق إذا قُصد به الحمل على فعل شيء أو تركه، فإن أكثر العلماء، أو أكثر المُتصدِّين لفتوى الناس لا يفتون إلا بمذاهبهم الخاصة التي تعلموها ودانوا بها، فضلًا عن الحالات التي لم يأخذ بها القانون، "وترى المذاهب الأخرى عدم الوقوع فيها تضييقًا لدائرة الطلاق بقدر الإمكان". وكانت النتيجة لموقف هؤلاء المُفتين أن يأخذ المطلق الفتوى بالوقوع عن لسانهم، ويذهب مؤمنًا بها إلى المأذون فيحكي له أنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فلْيُبادر إلى إخراج قسيمة الطلاق، وفيها "حضر فلان وأقرَّ بأنه طلَّق زوجته طلاقًا مُكملًا للثلاث" وبهذه الورقة الرسمية تَبِينُ الزوجة من زوجها، ويقع الزوجان في ارتباكٍ، وتتمثَّل أمامهما مشاهد التشرُّد المؤلم للأبناء، وقد أدركهما سوء الحظ بالْتزام الإفْتاء على المذهب المُعيَّن، ثم بهذه الورقة الرسمية التي قد لا يكون لها واقع صحيح.(1/334)
إلى الفقه الإسلامي الواسع:
هذه هي الحالات والنواحي التي يجدر بالمُصلحين بحثها واستخلاص العلاج منها عن طريق الفقه المأثُور عن أئمتنا، وفيه من اليُسْر ورفع الحرج ما يُحقِّق سماحة الدين، ويُسْر الشريعة، وسيجدون فيه متى حسُن النظر الوقاية الكافية من ظاهرة كثرة الطلاق التي يزعمون ـ بحسب ما يذكرون من أرقام ـ أنها كثرةٌ تُهدِّد حياةَ الأُسر، وليس للأسر ما يُهددها في ظل الفقه الإسلامي الواسع إلا الجهل به، وإهمال الآداب والأخلاق، وإلَّا التَّزمُّت والجُمود على مذاهبَ معينةٍ تتخذ دينًا يُلتزم، وقانونًا يجب التحاكُم إليه، ويَحرم التحاكُم إلى غيره مما صحَّ دليله وقَوِيَتْ حُجَّتُه وفي المتعة التي جعلها الله من أحكام الطلاق إذا كان بباعثٍ من جهة الزوج، وفي الافتداء إذا كان الطلاق بباعث من جهة الزوجة ما يُجلي حقيقة الطلاق وأحكامه في نظر الشريعة الإسلامية، ويجعل خيره أكثر مِن شرِّه.
وإن الحياة الزوجية القائمة في نظر الشريعة على أُسس المودة، والمحبة، والرحمة، لتأْبَى الإباء كله أن تتدخل في حفظها ونظامها كلمة: "عقوبة" فضلًا عن معناها، وستجعلها العقوبة قائمةً على أساس من الإرهاب والخوف، فتُكوِّن مجتمعًا بغيضًا لا خير فيه، وفي جَوِّهِ المُظلم تكثر المكائد والتُّهَم، والإيذاء الخفي، بل لا يعجز الزوج مع هذا أن يُلصق بزوْجه تُهمة الخيانة أمام القاضي؛ ليتخلَّص منها ومن الحُكم بالعقوبة، وفي هذا من التَّشْنيع والتشهير بالأسر ما يربو على ضرر الطلاق وكثرته.
هذا هو الطريق لإصلاح الأُسرة، وهو الطريق الذي رسمه اللهُ لعباده، وبيَّنه في كتابه، وطبَّقه رسوله والأصحاب مِن بعده، فإن لم ينفع كان آخر الأمر: (وإنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كًلًّا مِن سَعَتِهِ وكانَ اللهُ واسِعًا حَكِيمًا).(1/335)
الطلاق مرة بعد مرَّة
ما تفسير قوله ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).؟
شرع الإسلام الطلاق حينما تشتدُّ الخُصومة بين الزوجينِ وتسوء بينهما العِشْرة إلى حدٍّ لا تُجدي فيه مُحاولة الإصلاح، وبه تسير الحياة الزوجية نارًا تلتهم مزايَا الزواج الاجتماعية من السكن والمَودَّة والرحمة والتعاون، على تكوين أُسرة يُصان فيها الحقوق، وتترعرع في أحضانها الأطفال الذينَ يكونون بعد رجالًا عاملينَ في الحياة. ولهذا شرع الإسلام الطلاق، وقد عرف الناسُ الطلاقَ من قديم، غير أنهم كانوا ـ بأهوائهم وبِطُغيانهم على المرأة وإذلالها ـ كثيرًا ما يقصدون به إيذاءها وإضرارها، فكان الرجل يُطلق زوجته ثم يُراجعها قبل انقضاء العدة، ثم يُطْلقها إلى غير حدٍّ: تطليق فمراجعة، ثم تطليق فمُراجعة وهكذا لا يتركها لتتزوَّج غيره فتستريح، ولا يثوب إلى رُشده فيُحسن عشْرتها فتستريح، وإنما يتَّخذها أُلعوبة بيده يُطلقها متى شاء على حسب ما يهوَى ويشتهي، فأنزل الله إنقاذًا للمرأة من هذا السوء قوله ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مَرَّتَانِ فإِمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ). والمعنى أن الطلاق المشروع عند تَحقُّق ما يُبيح الطلاق أن يكون على مرتين، مرة بعد مرة، أي دفعة بعد دفعة، فإذا ما طلَّق الرجل المرة الأولى أو الثانية كان عليه إما ردُّها إلى(1/336)
عِصْمَتِه ـ مع إحسان عشرتها فتستمر الحياة بينهما طيِّبة سعيدة ـ وذلك هو الإمساك بالمعروف، وإما ترْكُها حتى تنقضي عدَّتُها وتنقطع علاقتها به، ويزول سُلطانه عليها فتتزوَّج غيره إن شاءت وذلك هو التسريح بالإحسان. فإن عاد الزوج بعد أن راجعها من الطلاق الثاني وطلَّقها ثالثة حرمتْ عليه، ولا يملك مراجعتها إلا إذا تزوَّجتْ بغيره زواجًا صَحيحًا مقصودًا به ما يقصد بالزواج، وهو العِشْرة الدائمة بالسكن والمودَّة، لا يُجْدي في ذلك ما اخترعه بعض الناس من الزواج بغيره على قصد التحليل؛ فإن هذا مُنكَرٌ واحتيالٌ، لا تَحِلُّ به للأول، وقد لعَن الرسول فاعلَه وسمَّاه: "التَّيْسُ المُسْتَعَارُ".
وقد تضمَّن ذلك قوله ـ تعالى ـ بعد هذه الآية: (فإنْ طلَّقَهَا فلا تَحِلُّ لهُ مِن بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). ومن هذا يتبيَّن أن الطلاق الثلاث مرةً واحدة ليس مشروعًا، وأنَّ الطلاق المشروع إنما هو الطلقة بعد الطلقة. ويتبيَّن أن الطلاق الذي يملك الرجل فيه مُراجعة زوجه إنما هو الطلقة الأولى والثانية، أما الطلقة الثالثة فإنه لا يَملك مراجعتها، ولا تحلُّ له إلا إذا تزوجت غيره زواجًا غير مقصود منه التحليل، ثم يُطلقها ذلك الغير أو يموت عنها، وتمضي عدَّتُها منه، وعندئذ فقط تحلُّ لزوجها الأول بعَقْدٍ جديد ومهْر جديد، وهذا هو معنى الآية وما بعدها.(1/337)
فتاوَى تقْليدية لا يُعتدُّ بها:
من أسئلة الوقائع التي يَكثر حُدوثها ويكثر السؤال عنها حلِف الرجل بالطلاق على الشيء يُخبر به، أو على الشيء يفعله أو لا يفعله، أو يفعله غيره أو لا يفعله. وذلك كأن يقول: "عليَّ الطلاق" أو يقول: "الطلاق يلزمُني" إن لم يكن ثمن هذا الشيء كذا؛ أو يقول: إنْ كلمتِ فلانةَ أو إن فعلتِ كذا ـ فأنتِ طالق، ثم تبيَّن أن ثمنَ الشيء الذي حلَف عليه لم يكن كما قال، أو كَلَّمتْ زوجتُه فلانة، أو يفعل هو ما حلف عليه.
وفي هذا يسأل سائلٌ بمصرَ القديمة، ويقول: هل يكون ذلك طلاقًا له أثره في العلاقة الزَّوجية؟ وهل يكون حلِفًا بغير الله، فيصدُق على الحالف حُكم الحديث الوارد في شأن الحالف بغير الله، فيكون كافرًا أو مُشرِكًا؟ ويقول: إنه سمع في ذلك من العلماء فتاوى مُتناقضة: فبعْضهم يُفتى بأن الطلاق يقع به على الزوجة، وأنه إذا كان الحلف بالطلاق الثلاث حُرِّمَتْ عليه، ولا تحلُّ له إلا بعد أن تتزوَّج غيره، وبعضهم يُفتي بأنه لا يقع به طلاق، وبأنه حلَف بغير الله، وبه يكون الحالف كافرًا أو مُشركًا؛ ومِن لوازم ذلك أن تَبِينُ منه زوجته بكُفره أو شِرْكِهِ.(1/338)
والذي نراه في المسألة ـ مِن جهة الوقوع وعدمه ونُفتي به ـ هو الرأي الذي اختاره قانون المَحاكم الشرعية الصادر سنة: 1929، وهو أن الطلاق المُقترن بعدد ـ كأن يقول الرجل لامرأته: "أنت طالق بالثلاث" ـ لا يقع به إلا طلقةٌ واحدة رجعيةٌ؛ وأن الحلِف بالطلاق، كقول الرجل: "عليَّ الطلاق" أو: "يلزمُني الطلاق"، لَغْوٌ مِن الكلام لا يقع به شيءٌ، وأن الطلاق المعلَّق على فعل شيء أو ترْكه، والرجل لا يُريد الطلاق ولا وطر له فيه، وإنما يُريد التهديد والتخويف ـ كذلك لا يقع به شيء. وقد أذَعنا ذلك مِرارًا وأرشدْنا إليه كثيرًا، ومع ذلك لا يزال كثير من الناس يسمعون الفتوى بالموروث في كل ذلك: فيسمعون الفتوى بوقوعٍ في الحلِف بكلمة: "عليَّ أو يلزمني الطلاق" ويسمعون الفتوى بالوقوع في المعلَّق، كيفما كان قصْدُ الحالف، والحُكم بالوقوع في كل ذلك، لا يشهد له في نظرنا ولا في نظر واضعِي القانون المشار إليه شيءٌ من مصادر التشريع التي يُعْتَدُّ بها في النظر الصحيح.(1/339)
الحلِف بالطلاق حرامٌ وليس كُفْرًا:
والذي نراه من جهة أنه حلِف بغير الله، فيكون الحالِف به كافرًا تطبيقًا لقوله ـ عليه السلام ـ: "مَن حلَف بغير الله فقد كفَرَ". هو أن الحديث قُصِدَ به المبالغة في الزجْر عن الحلِف بغير الله؛ وقد كان العهد عهد تعظيم لغير الله مِن المخلوقات أو المصنوعات، وعلى هذا لا يكون الحلِف بالطلاق كُفْرًا؛ إذ ليس فيه معنى التعظيم الذي كان منظورًا إليه في ذلك العهد، وإنما هو عبَثٌ بألفاظ اليمين، وحلِف بغير ما شرع الله الحلِف به: "مَن كانَ حالفًا فلْيَحْلِفْ باللهِ أوْ لِيَصْمُتْ". (حديث شريف)، "إنَّ اللهَ ينهاكم أن تحلفوا بآبائِكم، فمَن كان حالفًا فليحلفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ". (حديث شريف).
وأصح الآراء في الحلف بغير الله ولو كان نبِيًّا مُرسلًا أو مَلَكًا مُقرَّبًا أنَّه حرامٌ، وأنه لا ينعقِد، وأن كفَّارته التوبة والاستعانة.(1/340)
ما نختاره للفتوَى:
ومُجمل القول في هذه المسألة هو:
أولاً ـ الطلاق بالثلاث لا يقع إلا واحدة رجعيةً، ويردُّ الرجل زوجه إليه بكلمة الرجعة، أو بالمُخالطة الخاصة.
وثانيًا ـ الحلف بالطلاق كعليَّ الطلاق لا يقع به طلاق أصلًا.
وثالثًا ـ الطلاق على فعل شيء أو تركه ـ منه أو منها أو من أجنبي ـ لا يقع به ـ أيضًا ـ شيء، ولو فعل المَحلوف عليه، متى كان القصد التهديد والتخويف، ولم يَقصد إلى الطلاق.
ورابعًا: الحلف بغير الله حرام ولا تنعقد به يمينٌ، ولا يكفر به المسلم إلا إذا كان بمَخلوق، يعتقد الحالف تعظيمه كتعظيم الله، أو أن له فعلًا كفعل الله وتأثيره. ويجدُر بالمؤمن ألا يقترب من الحرام فضلًا عن أن يقع فيه.
وهذه الأحكام هي التي صحَّت عندنا دلائلها، وهي التي نُفتي بها، وهي التي اختارها مُقَنِّنُو الأحوال الشخصية، وهي التي يجب أن يعلمها الناس جميعًا، فيُريحوا أنفسهم من هذه البلبلة التي يقعون فيها بالفتاوى المختلفة، فليس الإسلام ذا شغَف في التفريق بين الرجل وزوجه، ولا ذا شغف بتكفير المسلمين، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَعَ.(1/341)
نصيحة للأزواج:
يبعث إلينا المُواطنون برسائلَ تحتوي على أسئلةٍ تتعلق بجهات مُختلفة: فبعضها يتعلق بالطلاق والزواج، وبعضها يتعلق بالعبادات وشئونٍ أخرى عامة. ونتحدث اليوم فيما يتعلق منها بالطلاق.
وأودُّ قبل ذلك أن أعود فأُكرر نصيحتي لإخواني وأبنائي المسلمين، وأقول لهم، وأرجو أن نكون جميعًا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
أقول لهم: إن الحِلْم ـ وهو سيد الأخلاق، والإيمان ـ وهو مَجمع الفضائل ـ كلٌّ منهما سلاح يتَّقِي به الإنسان التسرُّع إلى ما يُوقعه في الندم وإلى ما يجلب عليه سخَط الله وغضبه، وإن الزواج قد شرعه الله لحِكَم سامية، هي في خيرنا وسعادتنا؛ فهي ترجع إلى تكوين الأُسَر، وتكوين الأسر إنما يكون بالمحافظة على سلامة الحياة الزوجية التي يجد الإنسان في ظلها الوارِف السَّكِينةَ القلبية، والتي يتبادل الزوجان في بَهْوِهَا الفسيح رُوح المودة والرحمة، والتي يزدهر في جَوِّهَا النقيِّ نَبْتُ البنينَ والبنات، فينمو، ويُثمر، فيكون أثرًا صالحًا للزوجينِ الوالدينِ، ينشرح به صدرُهما في الحياة ويُذْكَرَانِ به في الممات، يكون مع هذا لَبِنَاتٍ قويةً في بناء الأمة وعِزَّتِهَا.
أيها المسلمون:
هذه الحياة الروحية التي بَيَّنتُ لكم بعض أسرارها، وحُكم شرعها والحث عليها. تسقط عُمُدُها، ويَخِرُّ سقْفُها بنِزاعٍ تافهٍ ونزقة طائشة، فلا تسمع الزوجة فيه لرغبة زوجها، ولا يَصبِر هو على رغبته، فتندفع هي إلى المُشاكسة، ويندفع هو إلى سلاح التفريق: "الطلاق" ليَقطعَ ما أمر الله به أن يُوصل؛ ثم لا يَلْبثانِ أن يتملَّكهما الأسَى والندم، ويذهب بالقلب والشعور ما يَرَيَانِهِ على وُجوده أطفالهما، من النظر الشحوب والحيْرة، ومظهر اليُتْمِ والتشرُّد، وهما على قيْد الحياة، وصدق رسول الله: "إنَّ أبغَضَ الحلالِ إلى اللهِ الطلاقُ". فاللهَ اللهَ في الحياة الزوجية، واللهَ اللهَ في الأطفال، واللهَ اللهَ في الأُسَرِ.(1/342)
أيُّها الإخوانُ، هذه نصيحتي إليكم فيما يتعلق بالتسرُّع إلى الطلاق، وهي نصيحة الله لعباده المؤمنين: (فإنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شيئًا ويَجْعَلَ اللهُ فيهِ خَيْرًا كَثِيرًا). (الآية: 19 من سورة النساء) (وإنِ امرأةٌ خافتْ مِن بَعْلِهَا نُشوزًا أو إعراضًا فلا جُنَاحَ عليهِمَا أنْ يُصْلِحَا بيْنَهُمَا صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ وأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحُّ وإنْ تُحْسِنُوا وتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). (الآية: 128 من سورة النساء).(1/343)
الطلاق المُعلَّق:
ولنَعُدْ إلى الأسئلة التي تتعلق بالطلاق، وفيها السؤال عن الطلاق المعلَّق، ومثاله أن يقول الرجل لزَوجه: "إنْ خرجتِ بغيرِ إذْنِي، أو كلَّمْتِ الجارة، أو فعلتِ كذا، فأنت طالق". وحُكمة أنه إنْ كان يقصد تَخْوِيفَهَا ومنعها من الفعل، وهو في نفسه يكره طلاقها، ولا يرغب فيه، وليس لديه من الأسباب ما يجعله يقصد الطلاق ـ كان ذلك لغْوًا من القول لا أثَر له في الحياة الزوجية.
أما إذا كان مُنْطَوِيًا على بُغْضها غير راغب في عِشْرَتِهَا، واتَّخذ التعليق مُبررًا له في الطلاق أمام الناس ـ فإنه يقع إذا خالفتِ الزوجة، ويقع واحدةً رجعيَّةً لا غير ولو كان بلفْظ الثلاث أو الستين. وإلى هذا ذهب كثير من العلماء من سلف الأمة وخلفها، وبه أخذ قانون المَحاكم الشرعية المعمول به الآن.
وإني أرى هنا أن عبارات الطلاق الواردة في القرآن لا تَصْدُقُ لغةً إلا على من نَجَّزَ الطلاقَ وأوقعه بالفعل غير معلِّقٍ له على شيء: فقوله ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مَرَّتَانِ). (الآية: 229 من سورة البقرة)؛ وقوله: (فإنْ طَلَّقَهَا). (الآية 230 من سورة البقرة)؛ وقوله: (وإذا طَلَّقَهَا). (الآية: 231 من سورة البقرة). كل هذا لا يُفهم منه إلا شيءٌ واحد، هو إيقاع الطلاق بالفعل.
أما مَن علَّق الطلاق على فعْل غيره زوجة أو غيرها فإنه لا يَصْدُقُ عليه أنه طلَّق، وفي العُرف يُقال في مثله: إن المرأة ـ مثلًا ـ أوقعت الطلاق على زوجها.
وإلى هذا الرأي ذهبت طائفةٌ من الفقهاء، فلو توسَّع القانون، ووحَّد الحكم بين النوعين في الطلاق المعلَّق لكان مُتَمَشِّيًا مع رُوح الشريعة في تضييق دائرة الطلاق، وأرجو أن ينال ذلك حَظَّهُ من النظر.(1/344)
الحلف بالطلاق لا أثَر له:
هذا ومن الأسئلة المتعلقة بالطلاق السؤال عن الحلف بالطلاق، ومثاله: الطلاق يلزمني إن فعلتُ كذا، أو عليَّ الطلاق لا أُكلم فلانًا، أو لا أتصل به؛ أو لا أعيش مع أخي، أو أن ثمن السلعة كذا، أو أن الخَبر الفلاني صحيح، أو غير ذلك مما يجري بين الناس وهم في الأسواق يَبيعون ويشترون، أو وهم في النوادي والمقاهي يتحدثون ويتناظرون، وواضح أن معنى هذا هو التزام الرجل الطلاق؛ والتزام الطلاق ليس إيقاعًا للطلاق، ولا تعليقًا لوُقوعه، وإنما هو يَمينٌ وحلف، ولا أثر له في الحياة الزوجية وهو في بُعده عن ذلك أشد بُعْدًا من الطلاق المعلَّق الذي قصد به التخويف، وقد ألغاه القانون أيضًا، تبعًا لكبار العلماء الذين ذهبوا إلى إلغائِه.(1/345)
لعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لهُ:
ومن الأسئلة المتعلقة بالطلاق: أن رجلاً أوقع على امرأته ثلاث طلقاتٍ مُتفرقاتٍ، فأفتاه بعض الناس بالتحليل، وأرشده فيه إلى أن يتزوجها رجلٌ غيره ويَمْكُثُ معها ليلةً واحدة يخلو بها وقتًا، ثم يُطلِّقها هذا المستعار؛ وبهذا تَحِلُّ لزوجها الأول بعقدٍ ومهر جديدينِ! ولا يزال في الناس من يُفتي بالتحليل! ولا يزال في الناس من يستمع لقول المُحلِّلين! ولا يزال في الناس مَن يستمع لقول المحللين! وقد قال فيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "لعن الله المُحَلِّلَ، والمُحَلَّلَ لهُ". وقال: "ألا أُخْبركم بالتَّيْسِ المُستعارُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المُحَلِّلُ، لعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ، والمُحَلَّلَ لهُ).
وصحَّ عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "لا أُوتَى بمحلِّلٍ ولا محلَّل إلا رجمتُهما".
وقال الإمام ابن تيمية: "زواج المُحلل حرام بإجماع الصحابة". وقال الشيخ محمد عبده: "إن نكاح التحليل شَرٌّ مِن نِكاحِ المُتْعة وأشدُّ فسادًا وعارًا"، كيف لا يكون كذلك وهو زواج لم يُقصد فيه المُحلِّل إلى تكوين أُسرة، ولم يقصد منه دوامًا ولا استمرارًا، ولا سكنًا ولا مودةً؟ وكيف لا يكون كذلك وهو زواج يفعله أصحابه مع التستُّر والكتمان خوْفَ الفضيحة والعار إذا عُلِم واشتهر، فهو أمرٌ يدلُّ على أنه في النفوس لا يقلُّ عن اختلاط المَقْتِ والفاحشة، بل يزيد عليه لفعله باسم الشرع والدين! ثم كيف بعد هذا كله تكون هذه العملية الحمْقاء تفسيرًا أو امتثالًا لقول الله في كتابه: (فإنْ طلَّقَهَا فلا تَحِلُّ لهُ مِن بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). (الآية: 230 من سورة البقرة). فاللهمَّ هدايةً لعبادك.(1/346)
احتيالٌ آخر أبْشَعُ من التحليل:
ومن الفتاوَى الماجنة هذه الفتوى الأخرى التي أُشيرَ بها على رجلٍ طلَّق زوجته ثلاث مرات مُتفرقات اتقاءً لهذا التحليل المُنكَر وبُعدًا عن التُّيُوسَة المُستعارة، هذه الفتاوى هي اعتبار أن الزواج الذي انتهى بهذا الطلاق كان زواجًا باطلًا؛ لأنه كان بغيرِ وَلِيٍّ، أو كان في شُهوده مَن يترك الصلاة، أو يُؤَخِّرُها عن وقتها، وبذلك يكون الطلاق قد وقع على غير زوجة! فيَصحَّ للرجلِ الذي كان معها أن يُعقد عليها عقْدًا جديدًا مبتدءًا غير العقد الأول الذي وقع باطلًا، وهذه مسألة يُسميها بعض الناس "إسقاط التحليل" وهو نوع من الاحتيال أبشع من الاحتيال بالتحليل نفسه، واتَّقاء التحليلِ به ـ اتقاء الرِّجْس بالرِّجْس، بل بِرِجْسٍ أشد! وفيه يقول ابن تيمية: "مَن أخذ ينظر بعد الطلاق في صِفَةِ عقْد الزواج ولم ينظر في صفتِه قبل ذلك، ويقول: أنا تزوجتُ بوليٍّ وشُهود فُسَّاقٍ، فلا يقع طلاقي؛ لأن زواجي كان باطلًا، كان من المُتعدينَ لحُدود الله، وهو يُريد أن يستحلَّ محارم الله قبل الطلاق وبَعْدَهُ"!(1/347)
ثم كيف يكون هذا وقد صدر العقد الأول على وجهٍ شرعيٍّ مُعتبر، يُقرِّر صحته قبل وُقوعه جماهير العلماء، ويُقرر استمراره بعد وقوعه ـ حفظًا للنِّظام العام ـ كلُّ العلماء؟ زواج أخذ حظَّه في الوُجود، وتعاشر فيه الزوجانِ وكان لهما منه الأولاد، وثبتت به الحُرمات التي تترتَّب على حُرمة المصاهرة ـ كيف نعود إليه بعد ذلك كله، ونُفتي أو نَحكم ببُطلانه احتيالًا وتضليلًا؟ ثم ماذا تكون الحال لو عرَف الناس هذا، وأن له قيمة عند الفقهاء الذين يُحللون ويُحرمون، والذين تتلقى عنهم أحكام الله، وذهبت به المرأة التي تزوَّجت بغير وليٍّ، أو بشاهد تارك للصلاة، وتزوَّجت غير زوجها دون أن يُطلقها أو يحكم قاضٍ بفَسْخِ زواجها، أو ذهب الرجل الذي تزوَّج هذا الزواج دون أن يُطلق زوجته، وتزوَّج أختها أو ابنتها مِن غيره؟ ثم ماذا تكون حال أولادِها بالنسبة إلى تلك الوصْمة التي أُلْصِقَتْ بجَبينهم؟ وماذا تكون الحال إذا تمسَّك زوجها الأول؛ لأنه عقد عليها، واتَّصل لعَقده عليها دُخوله بها، وعشرته لها، ونسْله منها، وتمسكت هي بزَوجها الآخر بحُجة أن زواجها للأول كان الشاهد فيه تاركًا للصلاة: ماذا تكون الحال في كل ذلك؟ أَلَا فلْيَتَّقِ اللهَ هؤلاء المُفتون، وليتَّقِ اللهَ الناسُ في دينهم وأعراضهم. ولْيَخْشَ الجميع يومًا لا تنفعهم فيه زوجةٌ ولا دِرْهمٌ ولا دينار.(1/348)
لابدَّ من تحديد معاني الألفاظ:
قال الله ـ تعالى ـ: (واللهُ جَعَلَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْواجًا وجَعَلَ لكمْ مِنْ أزْواجِكُمْ بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقُكمْ مِن الطيِّبَاتِ أفَبِالْبَاطِلِ يُؤمِنُونَ وبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ). صدق الله العظيم.
كثيرًا ما عرض علماؤنا ـ على اختلاف اختصاصهم مِن شرعٍ واقتصاد، ونفس
وطِبٍّ ـ لمسألة "تحديد النسل" وطالعتْنا الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية ببُحوث تطول وتقصر في تأييد الرأي والدعوة إليه، وفي إنكاره والردِّ عليه، والبحث في ذاته، وعلى وجه عام حركة فكرية تدلُّ على نشاط ذهني، وحيوية علمية، وهو مع هذا يستتبع كثيرًا الكشْف عن صالحٍ، له نفعُه في الحياة، فنُقبل عليه، وننتفع به، أو ضارٍّ له أثَرُهُ السيئ فنُعرض عنه ونتقيه.
ولكن ليصلَ البحث إلى فائدته ـ وتوفيرًا للقُوى والجهود، واحتفاظًا بالوقت لمَا ينفع ويُفيد، وبُعْدًا عن الخلاف بقدر الإمكان ـ يلزم قبل الخوض في الحِجاج، والانتصار للآراء تحديد المراد من موضوع البحث، وبعبارة أخرى، يلزم كما يقول علماؤنا "تحرير محل النزاع"؛ فإنَّ الألفاظ التي يَعنون بها الموضوع قد يكون لها دلالاتٌ متعددة إذا جُليت وحُدِّدت تبيَّن منها ما يكون محلَّ اتفاق فيُستبعد، وما يصحُّ أن يكون محل اختلاف فيُقصر عليه الكلام، وفي دائرته يَرِدُ الحِجاج، وعليه يتوارد النفْيُ والإثبات، وحينئذ يكون الخلاف بين الباحثين خلافًا حقيقيًّا مثمرًا، ويكون البقاء للرأي الذي تقوم حُجته، وتظهر للناس وِجْهَتُه، وقد يكون للألفاظ معانٍ إذا حُددت، وظهر المراد منها، يتبيَّن أن الموضوع محلُّ اتفاق، ولا يقبل بطبيعته أن تَختلف فيه الأنظار وتتعدد الآراء، ويُصبح البحث فيه بعد ذلك اشتغالًا بما لا يُفيد، بل اشتغالًا بما يُفسد على الناس تصورهم للحقائق. وبما يُوقع بينهم النزاع والتفرُّق دون أن يكون في الواقع ما يُبرر النزاع والتفرُّق.(1/349)
ولو أن الباحثينَ على اختلاف اختصاصهم التزموا هذا الأصل، الذي تقضي به طبيعةُ البحث المُوفَّق، وقرره علماء المُناظرة، لضاقت دائرة الخلاف بين علمائنا، ولمَا ظهرت الآراء المختلفة في كثير من المسائل، التي أُلبست ثوب الاختلاف في العقائد والأحكام بغير حق، وشاعت بين الناس على أنها آراء ومذاهب، وانتصر لكل رأي منها أو مذهب فريقٌ من الأتباع والمُقلدين، وأحدثت في جماعة الأمة التشيع المَمقوت، والعصبية الفاسدة، وقضت على الوحدة، التي جعلها الله أساسًا لحياة الأمة وسعادتها.(1/350)
تحديد النسل بالمعنى العام تأْبَاهُ طبيعة الحياة وحِكمة الله وشريعة الإسلام:
وإذا كنا نجِدُ في علومنا مُثُلًا كثيرة لهذه المسائل، التي لم يُحرر فيها محل النزاع، فإني أرى أن مسألة: "تحديد النسل" التي عُرضت للبحث في أيامنا الأخيرة من أوضح المُثل التي تناولها النظر واختلاف الرأي، دون أن يُحرَّر بين الباحثين المعنى المراد من كلمة: "تحديد النسل" فقد تبادر أن المقصود منها هو إصدار قانون عام، يُلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حدٍّ معين لا فرق في ذلك بين سيدةٍ يَسُوغ إليها الحمل، فتُرضع ولدَها السابق لبَن الحمل، وأخرى يُبطئ حملها، وتُمضي مدة الرضاع أو أكثر في تربية السابق دون حمل. ولا إرضاع في زمن حمل، ولا بين قَوِيٍّ سليم من الأمراض المُتنقلة، يَلِدُ أقوياء أصحَّاء، وضعيف مريض بمُتنقِّل، يلد ضعفاء مرضى، ولا بين غنيٍّ في سَعة من الرزق يستطيع تربية أبنائه مهما بلغ عددهم، وفقير في ضَيِّقٍ لا يستطيع القيام بتربية أبنائه الكثيرين فيضعف احتماله، وتخور أعصابه، وتَفسد حياته، وقد تتشرَّد مع هذا أبناؤه.
وتحديد النسل بهذا المعنى العام لا يُمكن أن يقصده أحدٌ ما، فضْلًا عن أُمة تُريد لنفسها البقاء، وتعمل جاهدةً، وبخطوات سريعة في المشروعات الإنتاجية التي بها تُنافِس الأمم الأخرى، وتردُّ عنها كيْد المستعمرين عن طريق الإنتاج والاقتصاد، وهو بعد هذا تفكير تأْباهُ طبيعة الكون المستمرة في النموِّ، وتأْباهُ حكمة الحكيم الذي خلَق في الإنسان والحيوان مادةَ التوالُد والتناسُل، وخلَق مقابل ذلك في الأرض وسائر ما خلَق قوة الإنتاج الدائم المُضاعَف.
إلا أن المائدة التي أعدَّها الله لعباده في ظاهر الأرض وباطنها، لا يُمكن أن تَضيق عن حاجتهم وحاجة نسْلهم مهما أكثروا ومهما عاشوا، اللهم إلا إذا خانَ صواب الحكمة الإلهية في تقدير المائدة مع تقدير الآكلينَ. سبحانك اللهمَّ. تعالت حِكْمتُك عن ذلك عُلُوًّا كَبِيرًا.(1/351)
وإذا كانت طبيعة الحياة تأبَى هذا التحديد العام. وحِكمة الحكيم تأْباه وتَنَبُّهُ الوعي القومي في الأمة يأْباهُ، فإن الشريعة الإسلامية، وهي شريعة الحكيم، العليم بطبيعة ما خلَق ـ لا يُمكن إلا أن تأباه، ومن هنا حثَّتِ الشريعة على مبادئ القوة واتساع العمران وكثرة الأيدي العاملة وعلى تهيئة ما تعمل فيه تلك الأيدي، وحثَّت على الزواج وامْتَنَّ الله على الناس بنِعمة البنين والحفَدة كأثر من آثار الزواج، وطمأن النفوس على الرِّزْق، فقال: (واللهُ جعلَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا وجَعَلَ لكمْ مِن أزواجِكمْ بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكُمْ مِنَ الطيِّبَاتِ). (الآية: 72 من سورة النحل) وجاء في وصايا الرسول: "تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فإِنِّي مُبَاهٍ بكمُ الأمَمَ يومَ القِيامةِ". و"سوداء وَلُودٌ خيرٌ مِن حَسناءَ عَقِيمٍ"، "ومَن تَرَكَ الزواجَ مَخَافَةَ العِيَالِ فليسَ مِنَّا".
وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أبناءهم مَخافة الفقر فنزل قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خشيةَ إمْلاقٍ نحنُ نَرْزُقُهُمْ وإيَّاكُمْ). (الآية: 31 من سورة الإسراء). وفي آية أخرى (نحنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُمْ). (الآية: 151 من سورة الأنعام).
وإذنْ: فتحديد النسل بهذا المعنى العام، المُلزم للجميع خروجٌ عن هذه الوصايا، وسَيْرٌ في جو الذينَ حَذَّرَهُمُ اللهُ قتْل الأولاد، خشية الإملاق، وأعتقد أن الذين يدعون إلى تحديد النسل لا يُريدونه بهذا المعنى، فإنْكاره ـ إذن ـ محل اتفاق ويجب أن يكون محل اتَّفاق بين جميع الباحثين.(1/352)
تنظيم النسل للحالات الخاصَّة:
أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتِي يُسرع إليهن الحملُ وبالنسبة لذوي الأمراض المُتنقلة، وبالنسبة للأفراد القلائِل الذين تضعُف أعصابهم عن مُواجهة المسئوليات الكثيرة ولا يجدون من حُكوماتهم أو المُوسرين من أمتهم ما يُقويهم على احتمال هذه المسئوليات، إن تنظيم النسْل بشيء من هذا وهو تنظيم فرديٌّ لا يتعدَّى مجالَه شأنٌ علاجي، تدفع به أضرار مُحققة ويكون به النسل القوي الصالح، والتنظيم بهذا المعنى لا يُجافي الطبيعة ولا يأباهُ الوعي القومي، ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحثُّ عليه.
فقد حدَّد القرآن مدة الرضاع بحولينِ كاملين وحذَّر الرسول ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ أن يرضع الطفل من لبَن الحامل، وهذا يقضي إباحة العمل على وقْف الحمل مدةَ الرضاع. وإذا كانت الشريعة تتطلَّب كثرةً قوية لا هزيلةً، فهي تعمل على صيانة النسل مِن الضعف والهُزال وتعمل على دفع الضرر الذي يلحق الإنسان في حياته ومِن قواعدها: "الضرر مدفوعٌ بقدْر الإمكان".
ومِن هنا قرَّر العلماء إباحة منْع الحمل مُؤَقَّتًا بين زوجينِ أو دائمًا إن كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن يتنقل في الذُّرِّيَّةِ والأحْفاد.
فتنظيم النسل بهذه الأسباب الخاصة التي مِن شأنها ألا تعمَّ الأمة، بل ولا تكون فيها إلا بنسبة ضئيلةٍ جدًّا، تنظيمٌ تُبيحُه الشريعةُ أو تُحتِّمُه على حسب قوة الضرر وضعفه، ولا أظن أن أحدًا يُخالف فيه فهو ـ إذن ـ محل اتفاق، وإذن ففِيمَ الاختلاف؟ وعلامَ نختلف؟
اللهمَّ إلا إذا كان مجرد الاختلاف والجدَل شهوةً ورغبة، وهذا ليس من شأن الباحثين الحريصين على خير أمتهم، وأخيرًا فاسمعوا أيها السادة قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْمِ كافَّةً ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشيطانِ إنَّهُ لكمْ عَدُوُّ مُبِينٌ). (الآية: 208 من سورة البقرة).(1/353)
إسقاط الحمل بعد نفْخ الروح:
مسألتان تشغلان أذهان كثير من الناس، ويتجهون بهما في كل وقت إلى أهل الشرع والدين، ملتمسينَ حكم الله فيهما.
وإحداهما تشغل على الخصوص بال كثير من السيدات اللاتي يحمْلن، وتحدث في أنفسهن رغبةً مُلِحَّةً ـ باعتبارات مختلفة ـ عن استدامة الحمْل وترْكه حتى تكمل مدتُه الطبيعية، فيضعْنَه إنسانًا يعمل في الحياة، إما شاكرًا وإما كَفورًا، وأمام هذه الرغبة يسألْنَ: هل يجوز إسقاط الحمل بعد تيقُّنه؟
والمسألة الثانية ـ التي تَثُورُ بين الحين والحين، ويتكلَّم في شأنها رجال من مختلف الثقافات والاتجاهات، وتَصطرع فيها الآراء وتختلف الأقوال ـ هي مسألة تحديد النسل.
أما إسقاط الحمل فقد تكلم في حكمه فقهاؤنا، وتمَّ اتفاقهم على أن إسقاطه بعد نفخ الروح فيه ـ وهو كما يقولون لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ـ حرامٌ وجريمةٌ، لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يفعله؛ لأنه جنايةٌ على حيٍّ متكامل الخَلْق، ظاهر الحياة، قالوا: ولذلك وجبتْ في إسقاطه "الدِّيَةُ" إنْ نزل حيًّا، وعُقوبةٌ ماليَّةٌ أقلُّ منها إن نزل ميتًا.
ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق مَوثوق به أن بقاءه بعد تحقُّق حياته هكذا، يُؤدي لا محالة إلى موت الأم؛ فإن الشريعة بقواعدها العامة، تأمر بارتكاب أخفِّ الضررين، فإنْ كان في بقائه موت الأم، وكان لا مُنقذ لها سوى إسقاطه، كان إسقاطه في تلك الحالة مُتَعَيِّنًا، ولا يضحي بها في سبيل إنقاذه؛ لأنها أصله، وقد استقرت حياتها ولها حظٌّ مستقل في الحياة، ولها حقوق، وعليها حقوق، وهي بعد هذا وذاك عماد الأسرة، وليس من المعقول أن نُضحي بها في سبيل الحياة لجنينٍ لم تستقلّ حياتُه، ولم يحصل على شيء من الحُقوق والواجبات.(1/354)
قبل نفْخ الروح:
أما إسقاطه قبل نفْخ الروح فيه ـ أي قبل تمام أربعة أشهر كما يقولون ـ فقد اختلفوا فيه، فرأْى فريق أنه جائزٌ ولا حُرمة فيه، زاعمًا أنه لا حياة فيه فلا جِناية، فلا حُرمة. ورأى آخرون أنه حرامٌ أو مكروه؛ لأن فيه حياةَ النمو والإعداد. وقد عرض الإمام الغزالي لهذه المسألة، وفرَّق بينها وبين مسألة "منْع الحمل" وهذه عبارته. قال ـ بعد توجيه رأيه في منْع الحمل: "وليس هذا ـ يُريد منع الحمل ـ كالإجهاض والوأْد؛ لأن ذلك جنايةٌ على موجود حاصل، وله مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النُّطفة في الرَّحِم وتُخلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جنايةٌ، فإن صارت نُطفة فعلقة كانت الجناية أفْحَش، وإنْ نُفخ فيه الروح واستوت الخِلْقَةُ ازدادت الجناية تفاحُشًا، ومنتهى التفحُّش في الجناية بعد الانفصال حيًّا".
ومن لطائف توجيهه في هذا المقام أن اختلاط ماء الرجل بماء المرأة بمثابة "الإيجاب والقبول" في الوُجود الحُكمي في العقود، فمَن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيًا على العقد، ومتى اتصل القبول بالإيجاب كان الرجوع بعد اتصالهما ويكون العقد بهما رفعًا للعقد وفسخًا وقطعًا، فهذا قياس ذاك.(1/355)
الفقهاء يعترفون بحياة مادة التلقيح:
ومن توجيه الغزالي ومَن وافقه في حُرمة إسقاط الحمْل بعد اتصال النطفة بالبُويضة، نرى أن علماء الشريعة يرون كما يرى علماء الطب ـ وإن اختلفت كلماتهم في التعبير ـ أن مادة التلقيح ذات حياة ذاتية، تخُوض بها الميدان، وتُكافح في سبيل الاتصال بهدفها: "البويضة" حتى تعتنقها، وتطرد عنها ما سواها، وقد رتَّبوا على هذه الحياة أحكامًا وآثارًا، منها الحكم بالضمان على كاسر بيْض الصيد غير المذر؛ لأنه ـ كما يقولون ـ أصل الصيد ومادته.
أما الحياة التي لا تكون إلا في الشهر الرابع فهي الحياة الظاهرة التي تُحِسُّها الأم بحركة الجنينِ، والتي عبَّر عنها الحديث بنفْخ الروح.(1/356)
التقاء النظرة الشرعية بالنظرة الطبية:
ولعل العلماء الذين نَفَوُا الحياة قبل نفْخ الروح، يُريدون هذه الحياة الظاهرة، وهم في الوقت نفسه لا يُنكرون أن المادة حيَّة، وأن حياتها تُمكنها من الاتصال بماء المرأة "البويضة". ومن هنا نستطيع أن نُقرر أن اختلاف العلماء في جواز الإسقاط في مبدأ الحَمْل مبنيٌّ على عدم التنبه لهذه الدقائق والإحاطة بها، أو أن حُرمة الإسقاط في تلك الحالة ليست كحُرمته عند تكامل الخلق والإحساس بالحمل، وإذنْ تكون المسألة ذات اتفاق بينهم على حُرْمة الإسقاط أي وقت من أوقات الحمل، وللضُّرورات تقديرها وحُكمها كذلك في أي وقت مِن أوقاته، وبذلك يتبيَّن بوُضوح التقاء النظرتين الشرعية والطبية، وكفى الله المؤمنين القتال.(1/357)
المُحرَّمات بالرَّضاع:
يسأل كثيرٌ من الناس عن حكم الشريعة في حالات تتصل بالرَّضاع، فمنهم من يسأل عن زواج فتًى بفتاةٍ رضَع على أختها التي تكبُر عنها ولم يرضع عليها نفسها، ويظنون أن الرضاع المُحرَّم هو رضاع الفتى على الفتاة التي يُريد التزوُّج بها خاصة، ومنهم مَن يسأل عن حكم ما إذا رضع الفتى على فتاة وأمها تحت زوج ثم طلقت الأم وتزوجت برجلٍ آخر، وأتت منه بفتاة أخرى وهي تحت الزوج الثاني، فهل يجوز لهذا الفتى الذي رضع من تلك السيدة، وهي تحت زوجها الأول، أن يتزوج بالفتاة التي هي من الزوج الثاني؟.. وهنا يقول السائل: قد سألت بعض العلماء فقال: إن لبَن المرأة يُعتبر ملكًا لزوجها، وبما أن السيدة أرضعتْ الفتى وهي تحت الزوج الأول، ولم تُرضعه وهي تحت زوجها الثاني فإنه يجوز لهذا الفتى أن يتزوج بالبنت الثانية التي هي من الزوج الثاني، فهذا لبَنٌ وذاك لبنٌ آخر!!(1/358)
ويجدُر بنا قبل الإجابة على هذين السؤالين أن نُبيِّن أن القرآن الكريم ذكر التحريم بالرضاع بعد أن ذكر التحريم بالنسب؛ فقال أولاً: (حُرِّمَتْ عليكمْ أُمَّهاتُكمْ وبناتُكمْ وأَخواتُكمْ وعمَّاتُكمْ وخالاتُكمْ وبناتُ الأخِ وبناتُ الأُخْتِ). ثم قال: (وأُمَّهَاتُكمْ اللاتي أرْضَعْنَكُمْ وأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ). فَصَّلَ مُحرَّمات النسب وحصرها في سبعة أصناف. ثم أجمل في المُحرمات بالرضاع، وذكَر منها صنفينِ هما: "الأمهات والأخوات". وجاء الحديث الصحيح المشهور، وهو قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحرُمُ مِنَ النَّسَبِ". مُبيِّنًا أن الصنفينِ اللذينِ ذُكرَا في التحريم بالرضاع يتناولان الأصناف السبعة التي ذُكرتْ في التحريم بالنسب، فالأمهات يَلْحَقُ بِهِنَّ العَمَّاتُ والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. ومعنى هذا أن كل ما تحقَّق بينهما بالرضاع عنوان صنف مِن هذه الأصناف، كان الرضاع محرمًا بينهما، وعليه يحرُم بالرَّضاع الأمهاتُ والبنات والأخوات والعمَّات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأُخت.(1/359)
القدْر المُحَرِّمُ من الرضاع:
وكذلك يجدر بنا أن نُجمل مذاهب العلماء في قدْر الرضاع الذي يُحرم الزواج بين الرضيعينِ. وقد كثُرت المذاهب في هذه المسألة تبعًا لاختلاف النظر في الآية مع الأحاديث التي وردتْ في قدْر الرضاع، فمِن الأئمة مِن رأَى أن قليل الرضاع ـ ولو قَطْرة واحدة تصل إلى الجوْف ـ وكثيرُه سواء في التحريم، ومنهم مَن رأى أن المُحرِّم ثلاث رضعات فأكثر، ومنهم من رأى أن المحرِّم خمس رضعات فأكثر، ومنهم مَن رأى أن المُحرِّم سبْع رضعات، وهكذا إلى خمس عشرة رضعة، وكان مَنْشَأُ هذا الخلاف كثرة الأحاديث المُتعارضة في هذا الشأن، وحُكم كل ذي رأيٍ في الرضاع ما صحَّ عنده من الأحاديث.(1/360)
دلالة كلمة أمهاتكم في الآية:
ولكن لم نَرَ منهم مَن عرَّج نحو دلالة كلمة: (وأُمَّهَاتُكمْ اللاتي أرْضَعْنَكُمْ).
على قدْر الرضاع المُحرم. ولا شك أن عنوان: "الأمهات" يُعطي أن مدة الرضاعة امتدت وقتًا شعرت منه المُرضعة بمَعنى الأُمومة للرضيع، ولا شك أن هذا الوقت ـ الذي يتحقَّق به معنى العطف والحُنُوُّ والشوْق من المُرضعة للرضيع ـ ليس هو وقت "القطرة" ولا هو "وقت ثلاث رضعات"، ولا هو وقت: "خمس رضعات"، وخاصة إذا قدَّرنا أن الرضاع المُحرم هو ما يكون في حولينِ أو أكثر، كما يذهب إليه بعض العلماء.
فالخمس رضعات، أو الرضعات المعدودات، لا يُمكن أن تُحدث معنى الأمومة عند المُرضعة، متى لُوحظ تفرُّقها على الحولينِ أو أكثر منهما. وهذه ناحية أَعرضها للبحث الذي يُستعان فيه برأي الأطباء الواقفينَ على المقدار الذي يَنْبُتُ فيه اللحم، وينشز العظم. ونرجو أن يصل العلماء إلى ما يَرفع اختلاف المعنيينِ في هذه المسألة التي كثيرًا ـ كما رأيت بنفسي ـ ما تُحدث عُقَدًا نفسية بين الزوجين، حينما يُخبَرانِ بأن فلانةً أرضعتهما. وإذا كان جمهور العلماء اليوم يُفتون برأي الشافعية ـ نظرًا إلى أنه المتوسط بين الآراء، وهو أن المقدار المُحرِّم "خمس رضعات فأكثر" ـ فإن كثيرًا من المُفتين الذين يَسألون يُزعجون الأُسر الهادئة بأن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم، والواقع أن مسألة التحريم بالرَّضاع على الوجه المذكور به في الكتب في حاجة إلى التمحيص، واختيار الأوْفق والأيسر والأبعد عمَّا يُثير في نفوس الأسَر الزعزعة والاضطراب.(1/361)
اتِّحادُ زمن الرضاعة
وإذا تجاوزنا المقدار المُحرِّم في الرضاع أو اخترنا مذْهب الشافعي فيه، وقلنا: إن المُحرِّم هو خمس رضعات فأكثر، فإن التحريم يثبت بين الرضيعينِ من المرضعة الواحدة، سواء اتَّحَد زمنُ رضاعتهما منها أم اختلف، وسواء أكان زوج المرضعة واحدة بأن أرضعتهما وهي تحت زوج واحد أم تعدَّد، بأن أرضعت الولد وهي تحت زوج، ثم مات عنها أو طلقها، وأرضعت البنت وهي تحت الزوج الثاني فهي في الحالتينِ أُمهما معًا، وهما أخوانِ لأمٍّ من الرضاعة، والأخوات بجميع نواحيها رَضاعًا كالأخوات نَسَبًا في تحريم الزواج. وإذنْ، فلا قيمةَ لاختلاف الزوج في التحريم وعدمه. ومن المعروف أن كل اثنينِ اجتمعَا على ثَدْيٍ واحد لم يجز لهما أن يتزاوجَا.(1/362)
الإخبار بالرضاع:
وكثيرًا ما يتَّفق أن يحصل الزواج والدخول بين اثنينِ، وهما لا يَعلمانِ رَضاعًا بينهما، ثم تُخبر به امرأة، وتقول لهما: قد أرضعتُكما، والحُكم في هذه الحالة على تصديقهما إيَّاها أو عدمه، فإنْ صدَّقاها ولم يُنكرا عليها فسد الزواج ووجب عليهما أن يفترقَا، أو التفريق بينهما وإنْ لم يفترقَا بأنفسهما، أما إن كذَّباها وأنْكرَا قولها، أو تشكَّكا في صحته فإن الرضاع لا يثبت إلا إذا قامت عليه حُجة شرعية، وهي "شهادة رجلين أو رجل وامرأتين" وبدون هذه الشهادة لا يثبت الرضاع شرعًا، ولا يفسد الزواج ولا يجب التفريق.(1/363)
المبادئ العامة:
1 ـ لا يَحرُم من الرَّضاع إلا خمس رضعاتٍ فأكثر.
2 ـ إذا اجتمع اثنانِ على ثدي بخمس رضعات فأكثر في مدة الرضاع، وهي حولانِ كاملان، حرُم التزاوُج بينهما.
3 ـ لا تتوقف حُرمة الزواج بالرضاع على اختلاف زوج المُرضعة.
4 ـ الإخبار بالرضاع إنْ صدَق وجَب التفرُّق وفسد الزواج، وإن كذب لا يحرم إلا بالشهادة الكاملة "شهادة رجلين أو رجل وامرأتين".
وبعدُ:
فهذه هي المبادئ التي أحب وأرجو أن يعرفها السائلون عن الرضاع وأن يُعلموها الناس حتى تخفَّ البلبلة التي تحدث في الأسر من جرَّاء هذه المشكلة، والله يتولى هدايتنا أجمعين.(1/364)
في الرَّضاع
جاءني من فتاة هذا السؤال: رضعتْ خالتي من زوجة عمِّي، ثم أرضعتْني هذه الخالة. فهل يجوز أن أتزوج من ابن عمي الذي أرضعتْ أمُّه خالتي؟
أحب أن نُعرف قبل الجواب عن السؤال. أن القرآن الكريم ذكر التحريم بالرضاع بعد أن ذَكر التحريم بالنسب فقال أوَّلاً: (حُرِّمَتْ عليكمْ أُمهاتُكمْ وبناتُكمْ وأَخواتُكمْ وعمَّاتُكمْ وخالاتُكمْ وبناتُ الأخِ وبناتُ الأُخْتِ). فبيَّن بهذا المُحرمات بالنسب وحصَرها في سبعة أصناف.
ثم قال ثانيًا: (وأُمَّهاتُكمُ اللاتِي أرْضَعْنَكُمْ وأَخواتُكم مِنَ الرَّضَاعَةِ). فأجمل في المُحرمات بالرضاع وذكر منها صنفينِ هما؛ الأمهات والأخوات. وجاء الحديث الصحيح المشهور، وهو قوله ـ عليه السلام ـ: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ مِن النَّسَبِ". مُبَيِّنًا أن الصنفين اللذينِ ذُكِرَا في التحريم بالرضاع يتناولانِ الأصناف السبعة التي ذُكرت في التحريم بالنسب، فالصنف الأول وهو: "الأمهات" يتناول "الأمهات والبنات"، والصنف الثاني وهو "الأخوات" يتناول "الأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت".
ومعنى هذا أن كل مَن تحقق له بالرضاع عنوانُ صنف من هذه الأصناف بالنسبة لغيره كان مُحرَّمًا عليه. وعليه يحرم بالرضاع: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخِ، وبنات الأخت. وينبغي أن يُلاحظ هنا أن الأُختية من الرضاع تتحقق بمجرد رضاع الصبي من الأم، سواء أكان رضاعه مع ابنتها أم قبلها أم بعدها، ولا تتوقف كما يظنُّ كثيرٌ من الناس على اتِّحاد زمن الرضاعة.(1/365)
وإذا عُرف هذا فبالنظر في حادثة السؤال يعلم أن خالة الفتاة صاحبة السؤال صارت برَضاعها من زوجة عمها "أم الفتى" أختًا للفتى. وإلى هنا لم يتحقق بهذا الرضاع عنوانٌ من عناوين التحريم السبعة بالنسبة للفتى؛ وإذن لا تحرم عليه ولكن لمَّا أرضعت الخالة الفتاة المذكورة، صارت الخالة ـ التي هي أخت رضاعية للفتى ـ أُمًّا للفتاة، وصار الفتى الذي هو أخ رضاعي للخالة خالاً لها وهي بنت أُخته، وبذلك تحقَّق لها عنوانٌ من عناوين التحريم وهو بنت الأخت فلا يَحِلُّ لها ـ إذنْ ـ أن تتزوجه.
ومما ينبغي التنبُّه له بعد هذا أن التحريم بالرضاع، أو تحقَّق العنوان المُحرم لا يكفي فيه ـ بناء على ما اخترناه في الفتوى رِفْقًا بالناس ـ مُطلقُ الرضاع، بل لابد أن يكون أوَّلاً، في مدة الرضاع وهي الحوْلانِ المذكورانِ في قوله ـ تعالى ـ: (والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ). (الآية: 223 من سورة البقرة). وأن يكون ثانيًا: خمس رضعات مُشبعات. وعلى هذا لا يُحرم الرضاع إذا كان بعد الحولين، أو كان فيهما وكان أقل من خمس رضعات، وبهذا وذاك صحَّت الأحاديث واتصلت بالآية، بيانًا لقدْر الرضاع المُحرِّم ولمُدته التي يثبُت التحريم بالرضاع فيها.(1/366)
الزواج الأفضل:
وَجَّهَتْ إلينا جريدةُ: "الشعب" أسئلةً كثيرة من القراء يطلبون فيها بإلْحاح رأينا في زواج المسلم بغير المسلمة لِيَسْتَرِيحُوا من هذا اللَّغَطِ الذي يُثار بين الحين والحين حول هذا الموضوع، فكتبنا ما يلي:
إن أفضل أنواع الزواج ما تلاقتْ عليه الرغبات، وخلُصت له القلوب وتناجَتْ به الأرواح. ومِن ضرورة ذلك أن تتَّفق العقيدة وتتناسَب الأخلاق، وتتَّحد الأهداف. وفي ظل ذلك التناسُب يَبْسط الزواج على الحياة الزوجية نَسيج السكن والمودة والرحمة، فتَطيب الحياة، وتُسعد الأبناء والأسرة.
ولا يتحقَّق ذلك على الوجه الأكْمل في نظر الإسلام إلا إذا اتَّفق الزوجانِ في الدين والعقيدة، وكانَا مسلمينِ يأتمرانِ بأمر الإسلام، ويَنتهيانِ بِنَهْيِهِ، ويشدُّ الإسلام ما بين قلبيْهما مِن رباط.
أما إذا كان الزوج غير مسلم والزوجة مسلمة، أو كانت الزوجة غير مسلمة والزوج مسلمًا، فإن الحُكم في الإسلام له وجهٌ آخر. فهو بالنسبة للفرْض الأول، وهو أن يكون الزوج غير مسلم والزوجة مسلمة، الحُرْمة القطعيَّة والمنْع الباتُّ، وهو من الأحكام التي أجمعتْ عليها الأمة من عهد الرسول إلى يومنا هذا، وصار منْعه في الإسلام مِن الأحكام التي يقول عنها الفقهاء: "إنَّ العلْم بها ضروريٌّ" يُحكم على مَن أباحه بالخُروج عن الدين، وهذا ليس موْضع حديث اليوم، ولا ممَّا يتعلَّق لنا غرْض الآن ببحْثه، وإنما غرضنا الكلام على الفرْض الثاني وهو تزوُّج المسلم بغير المسلمة. ولبيان الحُكم في هذا الفرض يجب أن نُفرق أوَّلاً في غير المسلمة بين المُشركة التي لا تُقِرُّ بإِلَهٍ، ولا بكتاب سماويٍّ، والكتابيَّة التي تُقِرُّ بالأُلُوهِيَّة وتعترف بمبدأ رسالاتِ الله إلى خلقه، وتُؤمن بيوم البَعْث والجزاء. والإسلام يرى بالنسبة للمشركة أن زواجها باطل، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يبني معها حياة زوجية.(1/367)
وقد جاء ذلك المنْع في صريح الآن الذي لا يحتمل أفهامًا ولا آراء، ومن هنا كان محلَّ إجماعٍ ـ أيضًا ـ بين علماء الإسلام، ولم يُعرف لأحدٍ منهم رأيٌ بحِلِّهِ، وذلك قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَنْكِحُوا المُشركاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ ولَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ ولوْ أَعَجَبَتْكُمْ). (الآية 221 من سورة البقرة).(1/368)
التزوُّج بالكتابية:
أما تزوُّج المسلم بالكتابية، ذات الدين السماوي، والكتاب الإلهي ـ وهو موضع حديثنا اليوم ـ فقد اختلف فيه علماء الإسلام، فمنهم من أباحه مستندًا إلى ظاهر قوله ـ تعالى ـ: (والمُحْصَنَاتُ مِن المُؤمناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ مِن قَبْلِكُمْ). (الآية: 5 من سورة المائدة). قالوا: فرَّقت هذه الآية بين المشركة التي حَرَّمَ التزوُّج بها قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حتَّى يُؤْمِنَّ). وبيْن الكتابية، فأباحت التزوُّج بها.
ومنهم مَن طرَد المنْع ورأي حُرمة التزوج بالكتابية، شأنها شأن المشركة، ونسب ذلك الرأي إلى عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وبعض التابعين، ودرج عليه بعض الأئمة، وحُجتهم في ذلك أن الكتابية إذا غَيَّرت وبدلت وأنكرت رسالة محمد ـ عليه السلام ـ كانت داخله تحت عنوان: "المُشركات" وإيمانها بالله فقط لا يُخرجها عن دائرة الشرك، فإن الله يقول: (وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ باللهِ إلاَّ وهُمْ مُشْرِكُونَ). (الآية: 106 من سورة يوسف). ويستندوا ـ أيضًا ـ في هذا المنع إلى الآيات الدالة على وُجوب المُباعدة عن الكفَّار كقوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا لا تَتَّخِذُوا اليهودَ والنَّصارَى أولياءَ بعضُهمْ أولياءُ بعْضٍ). (الآية: 51 من سورة المائدة). (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِن دُونِكُمْ). (الآية: 118 من سورة آل عمران) (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعدُوَّكُمْ أوْلياءَ تُلقونَ إليهمْ بالمَوَدَّةِ وقد كَفَرُوا بمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ). (الآية الأولى: من الممتحنة) ولهم في تخريج قوله ـ تعالى ـ: (والمُحْصَنَاتُ مِنَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ مِن قَبْلِكُمْ). وُجوهٌ وآراءٌ ليس هذا الحديث مَوْضِعًا للكلام فيها.(1/369)
الأصل الذي لا خلافَ فيه:
وسواء أصحَّ رأي هؤلاء بالحُرمة والمنع، أم صحَّ رأي الأولين بالإباحة والجواز من وجهة النظر في مصادر التشريع، فإن رأي الذين أباحوا مبنيٌّ على القاعدة الشرعية الطبيعية وهو أن الرجل صاحب القِوامة على المرأة، وصاحب السلطان والتوجيه في الأسرة والأبناء، ومن شأن الزوج المسلم أن يُنشِّئ ـ بما له من قوامةٍ ـ أبناءه وأسرته على الأخلاق الإسلامية، وقد أُبيح له أن يتزوَّج بغير المسلمة الكتابية، ليكون ذلك التزوُّج بمَثابة رسول من رُسل المحبة والأُلْفة؛ فيزول ما في صدرها للإسلام من جَفْوَةٍ؛ وتتلقى مِن حسن مُعاملة زوجها المسلم لها ـ وهي كتابية تُخالفه في دينه ـ محاسنَ الإسلام وفضائله عن طريقٍ عملي مباشر، تجد أثره في راحتها وحريتها الدينية وحصولها على حقوق الزوجية كاملة غير منقوصة، وهذا هو حُكمة الإسلام في إباحة التزوُّج بالكتابية على رأي هؤلاء الذين يَرون إباحته من جهة المصادر التشريعية.(1/370)
المنْع المُتَّفق عليه:
أما إذا انسلخ الرجل المسلم عن حقِّه في القوامة، وألقى بمقاليد نفسه وأسْرته وأبنائه إلى زوجته الكتابية، فتصرَّفتْ فيه وفي أبْنائه بمُقتضَى عقيدتها وعادتها، ووضع نفسه تحت رأيها واتخذها قُدوة له يتبعها، وقائدًا يسير خلفها، ولا يَرى نفسه إلا تابعًا لها، مُسايرًا لرَأيها ومَشورتها، فإن ذلك يكون عكْسًا للقضية وقلبًا للحكمة التي أحلَّ الله لأجلها التزوُّج من الكتابيات.
وهذا هو ما نراه اليوم في بعض المسلمين الذين يرغبون التزوُّج بنساء الإفرنج، لا لغايةٍ سوى أنها إفرنجية تنتمي إلى شعب أُوروبي، بزعم أن له رُقِيًّا فوق رُقيِّ المسلمين الذين ينتسب هو إليهم، ويَعُدُّ نفسه واحدًا منهم. فيتركها تذهب بأولاده إلى الكنيسة كما تشاء، وتُسميهم بأسماء قومها كما تشاء، وتربطهم في صدورهم شعار اليهودية أو النصرانية، وترسم في حِجْر منزلها وأمام أعيُن أولادها ما نعلم وما لا نعلم، ثم بعد ذاك كله تُنشئهم على ما لها من عادات في المأكل والمشرب والاختلاط وغير ذلك ممَّا لا يعرفه الإسلام ولا يرضاه.
أو ممَّا يعتبر الرضا به والسكوت عليه كُفْرًا وخُروجًا عن المِلَّةِ والدِّينِ.(1/371)
إذا ضعُف الرجال وَجَبَ المنْع.
إذا كان الله قد حرَّم على المسلمة أن تتزوج بالكتابي، صوْنًا عن التأثُّر بسلطان زوجها وقِوامته عليها، فإن الإسلام يرى أن المسلم إذا شذَّ عن مركزه الطبيعي في الأسرة ـ بحُكم ضعفه القومي، وألْقَى بمقاليد أمره بين يدي زوجته غير المسلمة ـ وجب منعه من التزوج بالكتابية، ويُوجب في الوقت نفسه على الحكومة ـ التي تَدِينُ بالإسلام ومبادئه في الزوجية، وتَغار على قوميتها وشعائرها في أبنائها ـ أن تضع لهؤلاء، الذين ينسلخون عن مركزهم الطبيعي في الأسرة، حدًّا يردُّهم عن غيهم، ويكفي في المنع العام أن ترى الحكومة أكثريةَ الذين يتزوَّجونَ بأجنبيات يضعون أنفسهم من زوجاتهم هذا الوضع الذي يُفسدون به أُسَرَهُمْ وقوْمِيَّتَهُم.
إن حِفْظَ مبادئ الدين، وحفظ سِياج القومية، لمِن أوجب الواجبات على الحكومات الإسلامية، وما ضعُف المسلمون وانحلَّت روابطهم إلا بهذا الذوبان الذي كثيرًا ما كان مَنْشَؤُهُ الافتتان برُقِيِّ الأجنبية وتقدمها في تنظيم البيوت وتربية الأبناء، وهي في الواقع تعمل على هدْم الكيان وتقويض القومية وقد كاد يتمُّ لها الأمر على أيدي هؤلاء السفهاء، ضِعاف الإيمان والقومية، يُؤازرهم في ذلك مَن يقرءون عليهم ـ مِن غير فهْم ولا تدبُّر، ولا إدراك لحكمة التشريع ـ قوله ـ تعالى ـ: (والمُحْصِنَاتُ مِنَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ مِن قَبْلِكُمْ). وكم لعبت الزَّوجة الكتابية من أدوار في خِدمة أُمَّتِهَا وحكومتها، وهي مُقيمة في بلاد الإسلام، تُرزق بخيراتها، وتنعم بحياتها تحت رجل مسلم غِرٍّ، خَدَعْتَهُ واتَّخذت منه جِسْرًا تخطو على ظهره إلى نَكْبَةِ بلاده، والعمل على تركيز قومها فيها.(1/372)
التقييد أو المنْع لازم:
إن العمل على تقييد هذا الحُكم في التشريع الإسلامي أو منْعه منعًا باتًّا لأَلزمُ وأوجب ممَّا يُنادي به بعض المسلمين ويَرجون تشريعه مِن تحديد سِنِّ الزواج للفتاة، وتقييد تعدُّد الزوجات وتقييد الطلاق، والحديث اللَّغْو فيما لا يفهمون من كلمةِ: "بيت الطاعة"، وما إلى ذلك من النداءات النادرة التي ينشط لها كثيرٌ من أبناء المسلمين سَيْرًا وراء مدنيَّة الغرب المُظلمة.
ألَا إن انحلال الكثْرة الغالبة ممَّن يَميلون إلى التزوُّج بالكتابيات لممَّا يُوجب الوقوف أما هذه الإباحة التي نتلقاها مُطْلَقًة جهْلًا بغير علم، والتي أصبحت حالتنا تُنادي بإلغائها وأنها لا تتفق والغرض المقصود منها، ولا تتناسب مع نهضتنا الحالية التي قِوامها الاحتفاظ بالقومية الإسلامية وصوْنها عن عبث العابثين، وهدف المُغرضين الكائدين.
وبعدُ:
فهذا يا أخي حُكم الإسلام في تزوُّج المسلم اليوم بغير المسلمة. والسلام على مَنِ اتَّبع الهُدى.(1/373)
أساس الزواج في القرآن:
ما زواج المتعة؟ وهل هو مباح الآن، كما يُشِيعُ بعضُ الكاتِبِينَ؟
زواج المتعة ـ ومنه الزواج إلى أجلٍ ـ هو أن يَتَّفِقَ رجلٌ مع امرأة خاليةٍ من الأزواج على أن تُقيم معه مدةً ما، مُعيَّنة أو غير معينة، في مُقابَلَةِ مالٍ معلوم.
وهذا زواج لا يُقصد به سوى قضاء الحاجة، وينتهي دون طلاقٍ بمُضيِّ مدته، أو بالمُفارقة إن لم تضرب له مدة. ولا ريب في أن هذا الزواج ليس هو الزواج الذي شرَعه الإسلام ونزل به القرآن.
فالقرآن يُرشد إلى أن أساس الزواج السكن والمَودة والرحمة المُتبادَلة بين الزوجينِ، وإلى أن ثمراته تكوين الأُسَرِ وتحصيلُ الأبناء والأحفاد والتعاون على تربيتهم، وما أبعدَ زواج المتعة عن هذا الأساس وهذه الثمرات.
والقرآن قد ربط بعنوان الزوجية أحكامًا كثيرةً كالتوارث، وثُبوت النسب، والنَّفَقة، والطلاق، والعِدَّة، والإيلاء، والظَّهار، واللّعَان، وحُرمة التزوُّج بالخامسة وغير ذلك مما يعرفه الناس جميعًا، وليس شيء من هذه الأحكام بثابت فيما يُعرف بزواج المُتعة.
والقرآن قد عرَض للزواج بلَفْظه تارةً وبلفظ النِّكاح أُخرى في آيات كثيرة، ولا يَفهَمُ منها ناطقٌ بالضاد سِوى الزواج الذي جعل أساسه الدوام، وتكوين الأُسَر، وربطت به تلك الأحكام التي أشرنا إليها، واقرأ في ذلك مثل قوله ـ تعالى ـ: (وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ). (الآية: 228 من سورة البقرة). (ولَهُنَّ مثلُ الذي علَيْهِنَّ بالمَعْرُوفِ). (الآية: 228 من سورة البقرة) (حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). (الآية: 230 من سورة البقرة). (وأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ والصَّالِحِينَ مِن عِبادِكُمْ وإمَائكمْ). (الآية: 32 من سورة النور). (وكَيفَ تَأْخُذُونَهُ وقدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). (الآية: 21 من سورة النساء).(1/374)
اقرأْ هذه الآيات وأمثالها لتعلم أنها ـ على رغم ما يُحاول المَفتونون بمشروعية زواج المتعة من تحريفها عن مواضعها ـ بعيدة كل البُعد عن زواجهم الذي يُعلنون أنه مشروع لغاية في نفوسهم، أو تَعَصُّبًا لآراء لا تعرفها حُجة.(1/375)
أُبِيحتِ المتعة لحِكْمة ثم حُرِّمَتْ:
نعم ثبُت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أباحه للمُحاربين في بعض الغزوات.
وثبت ـ أيضًا ـ بما لا شكَّ فيه أنه نهَى عنه نهْيًا عامًّا وحرَّمه تحريمًا مُؤَبَّدًا.
وقد جمع مسلم في صحيحه، والحافظ ابن حجر في شرح البُخاري أحاديثَ النهْي، فلْيرجع إليها مَن شاء.
وما كان نهْيُ عمر عنها ـ وتوَعُّدُه فاعلَها أمام جمْع من الصحابة، وإقرارهم
إياه ـ إلا عملًا بهذه الأحاديث الصحيحة، واقتلاعًا لفكرة مشروعيته من بعض الأذهان. وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتَّخِذُ قُرْب عهد الناس بالإسلام في أوقات الضرورة سبيلًا للترخيص فيما يُخَفِّفُ عنهم تلك الضرورة، حتى إذا ما أنِسُوا أحكامه عاد فحرَّمه التحريم الذي يُريده الله، وهو التحريم العام المُؤَبَّدِ.
وبهذا القدْر من البيان يتضح أن الرأييْنِ في زواج المتعة لا يُمكن أن يُوضعَا في ميزان واحد فضلًا عن تساوي كفَّتيْهما. وأن الترخيص في زواج المتعة لم يخرج عن أن يكون ترخيصًا بأخفِّ المُحرمينِ في وقت الضرورة، وحداثة عهد الناس بالإسلام، ومثل هذا الترخيص لا يصلح دليلًا على المشروعية.
وإنَّ الشريعة التي تُبيح للمرأة أن تتزوَّج في السَّنة الواحدة أحدَ عشرَ رجلًا، وتُبيح لرجل أن يتزوج كل يوم ما تمكَّن من النساء، دون تحميله شيئًا من تبِعات الزواج، إن شريعةً تُبيح هذا لا يُمكن أن تكون هي شريعة الله رب العالمين، ولا شريعة الإحْصان والإعْفاف.(1/376)
الزواج السري:
وردَت إلينا بعضُ رسائلَ، يتحدث أصحابها عن نوعينِ من الزواج، يلجأ إليهما بعْض الناس بظروفهم الخاصة، يرون أنهما مَشروعان لا يُعقبانِ إثْمًا ولا ضررًا! ويسأل آخرون عن حُكم الله فيهما، وهما: الزواج السري، والزواج العُرفي.
أما الزواج السِّرِّيُّ فهو نوع قديم من الزواج افترضه الفُقهاء، وبيَّنوا معناه، وتكلَّموا في حُكمه، وقد أجمعوا على أن منه العقد الذي يتولَّاه الطرفان دون أن يحضره شهود، ودون أن يُعلَنَ، ودون أن يُكتب في وثيقةٍ رسمية، ويعيش الزوجان في ظله مكتومًا، لا يَعرفه أحدٌ من الناس سواهما. وأجمعوا على أنه باطل لفقْده شرط الصحة، وهو الشهادة؛ فإذا حضره شهودٌ، وأُطلقت حريتهما في الإخبار به لم يكن سِرًّا، وكان صحيحًا شرعًا، تترتب عليه أحكامه، أما إذا حضره الشهود وأُخذ عليهم العهْد بالكتمان، وعدم إشاعته والإخبار به، فقد اختلف الفقهاء في صِحَّتِهِ بعد أن أجمعوا على كَراهَته:
فرأتْ طائفة أن وُجود الشهود يُخرجه عن السرية؛ والشهادة وحدها تُحقِّق العلانية؛ وإذنْ فلا تأثير في صحة العقد للتوصية بالكتمانِ، ويرى الإمام مالك وطائفة من أن التوصية بالكِتْمان تَسلب الشهادة رُوحَها، والقَصْدَ منها، وهو الإعلان الذي يَضمن ثبوت الحقوق، ويُزيل الريبة، ويَفصل في الوقت نفسه بين الحلال والحرام ـ كما جاء في الحديث الصحيح ـ "فَصْلُ ما بيْنَ الحلال والحرامِ الدُّفُّ والصَّوْتُ". والشهادة التي تُحقق الإعلان المَقصود هي التي لم تقترن بالتوصية على الكتمان، ومُجرد العدد لا يُزيل السِّرِّيَّة؛ وكم من سِرٍّ بين أربعة وبين عشرة لا تزول سريته ما دام القوم قد تواصوا بها وبُني العقد عليها؛ ولعلَّ المجالس الخاصة التي يعرفها اليوم أرباب الفُجور المشترك من أوضح ما يدل على أن كثيرًا ما يكون بيْن أكثر من اثنينِ.(1/377)
وإذا كان الزواج السريُّ بنوعيْه الذي لم يحضره شهود، أو حضروه مع التوصية بالكتمان دائرًا بين البطلان والكراهة، وأنه يَحمل السرية التي هي عنوان المُحرم كان جديرًا بالمسلم ـ الذي شأنُه أن يترك ما يُريب إلى ما لا يُريب ـ أن يمتنع عنه، ولا يقدم عليه، ولا يزجُّ بنفسِه في مداخله الضيِّقة التي لا تُحمد عاقبتُها.(1/378)
زواجُ رُعْبٍ وقلَقٍ لا سَكَنٍ ورَحْمة:
إن الزواج الذي لا يُفارق صاحبه الاضطراب القلبي ـ والرُّعب والخوْف من الأهل والأقارب والناس إذا ظهر واشتهر ـ لا يُمكن أن يكون هو الزواج الشرعي الذي امْتَنَّ الله به على عباده، وجعله سَكَنًا ومودةً ورحمةً! لا يمكن أن يكون هو الزواج الذي يُكون الأُسَرَ، ويحفظ الأنساب، ويُنشئ علاقة المُصاهرة بين الناس! لا يُمكن أن يكون هو الزواج الذي رغَّبتْ فيه شريعةٌ، أساسُها ـ في العقائد والأخلاق والأعمال ـ الوضوحُ والعلانيةُ، ومُوافقة الظاهر للباطن؛ وإن الشهادة لم تُعتبر شرطًا في صحة الزواج إلا لأنها طريق في العادة لإعلانه وإشاعته بين الناس، وبها يعمُّ خبرُه، ويشتهر ويَستفيض؛ فإذا لم تكن الشهادة طريقًا لإعلانه كان اتِّخاذها مجردَ احتيالٍ بشهادة صورية على تحليل ما حرَّم الله! وكانت لا قيمةَ لها في نظر الشرع والدِّين.
وإذا كان شأن المؤمن أن يستبرئَ لدِينه وعِرْضه فإن الزواج السريَّ يُعرِّضه لريبة دينية، من جهة الإعراض عن الأحاديث الكثيرة المَرويَّة عن الرسول، القاضية بإعلان الزواج، ولريبة عِرْضِيَة يُحسُّها في قرارة نفسه حينما يتخيَّل أو يقدر ظهور الأمر بين الناس، ولا سبيل للتخلُّص من هاتينِ الريبتين ـ وهما من أقوى ما يُفسد على المؤمن إيمانه ـ إلا بمُكافحة الدواعي التي تُزَيِّنُ له هذا النوع من الزواج، وإنَّ هذه الدواعي ـ مهما بلغت قيمتها في نظره ـ لا قيمة لها أمام هاتينِ الريبتينِ. هذا ما يجب أن يعرفه الناس فيما يختصُّ بالزواج السريِّ.(1/379)
الزواج العُرْفي:
أما الزواج العرفي فهو الزواج الذي لا يُكتب في الوثيقة الرسمية التي بيَد المأذون، وقد تصحبه توصيةُ الشهود بالكتمان؛ وبذلك يكون من زواج السِّرِّ الذي تكلمنا عنه، ورُبما لا تصحبه توصيةٌ بالكتمان، فيأخذ اسمه الخاص وهو الزواج العرفي، وقد يعلم به غير الشهود من الأهل والأقارب والجيران.
وهو عقد قد استكمل الأركان والشروط المُعتبرة شرعًا في صحَّة العقد، وبه تثبت جميع الحقوق مِن حَلِّ الاتصال، ومِن وُجوب النَّفَقَةِ على الرجل، ووُجوب الطاعة على المرأة، ونسَب الأولاد من الرجل؛ وهو العقْد الشَّرْعي الذي كان معهودًا عند المسلمين إلى عهد قريب. وقد كان الضمير الإيماني كافيًا عند الطرفينِ في الاعتراف به، وفي القيام بحُقوقه الشرعية على الوجه الذي يقضي به الشرع، ويتطلبه الإيمانُ.(1/380)
السِّرُّ في اشتراط القانون توثيق عقد الزواج:
ظلَّ الأمر كذلك بين المسلمين من مبدأ التشريع إلى أن رَأَى أولياءُ الأمر أن ميزان الإيمان في كثير من القلوب قد خفَّ، وأن الضمير الإيماني في بعض الناس قد ذبُل، فوجد مَن يَدَّعِي الزوجية زُورًا، ويعتمد في إثباتها على شهادة شهودٍ هم من جنس المدعي، لا يتَّقون الله ولا يرعون الحقَّ؛ فما تشعر المرأة إلا وهي زوجة لمُزَوِّرٍ، أراد إلباسها قَهْرًا ثوب الزوجية وإخراجها من خِدْرها إلى بيته تحقيقًا لشهوته، أو كيْدًا لها ولأسرتها! كما وجد مَن أنكره تَخَلُّصًا من حقوق الزوجية، أو التماسًا للحرية في التزوُّج بمَن يشاء، ويعجز الطرف الآخر عن إثباته أمام القضاء؛ وبذلك لا تصل الزوجة إلى حقِّها في النفقة، لا يصل الزوج إلى حقه في الطاعة، وقد يضيع نسب الأولاد، ويلتصق بهم وبأُمِّهم العار فوق حِرمانهم حقوقهم فيما تركه الوالدان؛ وقد رأَى المُشرِّع المصري ـ حفظًا للأُسَرِ، وصَوْنًا للحياة الزوجية، والأعراض من هذا التلاعُب ـ أن دعاوى الزوجية لا تُسمع إلا إذا كانت الزوجية ثابتةً بورقةٍ رسميةٍ؛ وبذلك التشريع صار الذين يُقدمون على الزواج العُرفي، ويَلْحقُهم شيءٌ من آثاره السيئة، هم وحدهم الذين يتحملون تبِعات ما يتعرضون له من هذه الآثار، كما يتحملون إثْم ضياع الأنساب للأولاد وحِرمانهم عند الإنكار، وهم وهم المسئولون عن تصرُّفاتهم أمام الله، وأمام الناس.(1/381)
قانون الضمير:
أما بعدُ:
فهذا هو الزواج العرفي، وذاك هو الزواج السري؛ ولْيعلمِ الناس أنه لا سلطان عليهم في ترك هذين النوعين من الزواج، ولا وِقاية لهم من شرِّهما إلا الضمائر الحيَّة التي تتوخَّى أكمل ما شرع الله، وتزِن الأعمال بنتائجها، ولْيعلموا ـ أيضًا ـ أنه ليس في استطاعة قانون ما أن يَرُدَّهُمْ عمَّا يُؤذيهم ويُشهر بهم ما دامت القوانين بطبيعتها لا تتناول إلا ما ظهر واتَّصل بها، وهذا نوع من قانون الضمير وَكَلَ الله المؤمن إليه؛ ليَشعر بمكانته عنده، وأنه عنده ليس يُقاد بالزمام دائمًا؛ فلْيضعِ المؤمنُ نفسه حيثُ وَضَعَهُ اللهُ.(1/382)
عقولٌ تَرْسُفُ في قيود الجهل:
كلما اقترب شهر المُحرم وتهيَّأ الناس للدخول فيه اتجه كثيرٌ منهم إلى أهل العلم "بالحلال والحرام" يسألونهم عن حكم عقد الزواج فيه: أحلالٌ هو، فيُقدموا عليه أم حرام فيُرجئوه حتى يَمضي؟
ويقول أحدهم فيما كتب إليَّ: إني قد اعتزمتُ إجراء عقد الزواج على خَطيبتي في شهر أغسطس، نظرًا إلى أنه الشهر الذي أحصل فيه على إجازتي السنوية من التدريس ومُلحقاته؛ وكذلك هو الشهر الذي تحصل فيه خطيبتي "المُدرسة" ـ أيضًا ـ على إجازتها. فقيل لنا: إن عقْد الزواج في شهر المُحرم حرام! وإنه نذير سُوءِ الحياة الزوجية التي تُعقد فيه! وإذا صحَّ هذا فسنضطرُّ إلى تأخير الزواج إلى العام المقبل، بل إلى عامٍ لا يجتمع فيه شهر الإجازة مع شهر المُحرم، وبذلك تضيع علينا في حياتنا الأسرة أكثر من سَنة، فنرجو إفادتنا عن رأي الشرْع فيما يقولون!
كنت أظن أن هذا النوع من الابتداع في "الحلال والحرام"، أو من "التشاؤم" بالزمان والمكان، قد عَفَّى عليه عصر "الإدراك والثقافة"، وضيَّق عليه دائرة الوجود حتى صار لا يجد له مُستَقرًّا إلا في عقول تعاصتْ على الوعْي العصري والتنبُّه الزمني، وظلَّتْ ترسُفُ في أغلال الجهل والتقليد الخُرافي في صرْفها عن الحقائق الواضحة، وحال بينها وبين أقلِّ تفكير في معنى "الحلال والحرام" فنَسبت إلى الدِّين ما ليس منه وتقوَّلت على الله الأقاويل: (ولا تَقُولُوا لمَا تَصِفُ ألْسَنَتِكُمْ الكذِبَ هذا حلالٌ وهذَا حرامٌ لِتَفْتَرُوا على اللهِ الكذِبَ إنَّ الذينَ يَفْتَرُونَ على اللهِ الكذِبَ لا يُفْلِحُونَ).(1/383)
وفي المُعلمينَ أيضًا:
كنتُ أظنُّ هذا وكان خطبْه سهلًا، ولكني عجبتُ حينما جاءني ذلكم "الخطاب من مدرسٍ" يُباشر مهمة "التربية والتثقيف" بالنسبة إلى عقد زواجه على خَطيبته، التي هي الأخرى "مدرسة" تُباشر كذلك مهمة التربية والتثفيف! ثم اشتدَّ عجبي حينما أكَّد لي أحد إخواننا "القضاة الشرعيين" أن هذه "الفرية" لها شيوعٌ واضح وأثر بارز في بعض "المُديريات"، يُرشد إليه السجل الخاص بعُقود الزواج حينما نرى خُلُوَّهُ من التوثيق في شهر المُحرم، بينما نرى كثرةَ التوثيق فيما قبله وفيما بعده! فقلنا: وليس لتلك الظاهرة مِن تفسير سوى شدة تأثر أهالي تلك "المديريات" بهذه البدعة، وإحْجامهم عن عقود الزواج في ذلك الشهر، وبذلك كان شهر المحرم شهر "أزمة وشكوى" عند المُوثِّقينَ.(1/384)
شهر المُحرم أحد الأشهر الحُرم:
والواقع أن الإسلام لا يعرف لشهر المُحرم سوى أنه أحد الشهور الأربعة المُحرمة من قديم الرسالات، والمعروفة فيها باسم: "الأشهر الحُرم" (إنَّ عِدَّةَ الشهور عند الله اثنا عشرَ شهرًا في كتابِ اللهِ يومَ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ منها أربعةٌ حُرُمٌ ذلك الدِّينُ القَيِّمُ فلا تَظلموا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ). ومُقتضى هذا أن شهر المحرم شهر لا يَضيق صدره ـ على الأقل ـ بفِعل الخير إن لم يتَّسع له، ويعظم التفاؤل به، وأنه إنما يأبَى المعاصي والمَظالم أن تقع فيه، وأنها فيه أشدُّ نُكْرًا عند الله منها في غيره.
وليس من شكٍّ في أن الزواج مِن أبرز أعمال الخير، به تُعصم النفوس، وبه تنشأ الأُسَر، وبه يستمر التناسُل، وبه السَّكَن والمَودة والرحمة. وإذن فالإسلام بريءٌ من هذه الفِرْية مما يُمكن أن يكون مُنشأً لها فيه!(1/385)
جهلٌ وعصبية:
ولم يَبْقَ بعد هذا سوى أن هذه "الفِرْية" مَحْضُ ابتداعٍ جرَّه: إما جهل واندفاع به في تيَّار فكرة "التشاؤم" العامة التي يُنكرها الإسلام أشد الإنكار، والتي ـ على الرغم من ذلك الإنكار الواضح ـ تسلَّطتْ بالوهْم الفاسد على بعض العُقول فيما يختصُّ بالزمان والمكان والكلماتِ المَسموعة والأشياء المَرْئية، كما هو مَعروف عند الناس جميعًا، وإما عصبية خاصة نَبَتَتْ في أحضان "فِرْقَةٍ إسلامية" عُرفت بآرائها ومبادئها من أواخر عهد الخلافة الإسلامية الحقَّة، وكان ذلك لديها بمناسبة حادثٍ وقع في شهر المُحرم، وفي العاشر منه (هو مَقْتَلُ الحسين ـ رضي الله عنه). واشتدَّ له أسف المسلمينَ جميعًا، ولكن هذه الفِرْقة أسرفت بعَصبيتها! فاتَّخذت الشهر كله زمنَ حزنٍ تُعلن فيه حدادها، وتجمع فيه ما تتخيَّل من مظاهر المأْتمية في مجتمعاتها ومآكلها وملابسها وسائر شُئونها، وتُحرم فيه كل مظاهر الفرح والزينة والمتعة.
وفي هذا الجو الملَّبد بغُيوم الفِتَنِ التي أُلْبست ثوب الدين نبتْت هذه الفكرة واتَّسع نطاقُها وتسرَّبت إلى جميع الأرجاء الإسلامية، التي تولَّت هذه الفرْقة حُكمها والسلطان فيها، وقد كانت مصر من هذه الأرجاء، وكان مِن آثارها فيها "توارُث تحريم عقد الزواج في شهر المُحرم" ولا تزال فكرة "الحزن المُحرمي" متأصلةً إلى اليوم في بعض الجهات الإسلامية، بصفةٍ عامة شاملة، كما لا تزال شعائر الحزن تُقام كل عام في تلك الجهات على قدمٍ وساق.
وواضح جدًّا في أن عقد الزواج مِن أعظم ما يتخذ له الناس مظاهر الفرح والسرور، وإذن فلْيُحرم عقد الزواج كما يُحرم كل مظهر من مظاهر الزينة والمتعة.(1/386)
العصبية تعمل في الجانب الآخر:
ومن عجيب العصبية ـ التي تأخذ بالناس عن الحقائق الواضحة ـ أنها نَشرت أجنحتَها في الجانب الآخر ـ أيضًا ـ وابتدعت في يوم عاشوراء "يوم الحزن عند هؤلاء" مشروعيةَ الفرح والسرور والتجمُّل والتزيُّن وأدخلت كل ذلك على الناس "بمَرويات" عن الرسول ـ عليه السلام ـ وآثارٍ عن أصحابه، كما صنعت "العصبية" عكس ذلك في الطرف الآخر، فكرةً بفكرةٍ، وحديثًا بحديث، وابتداعًا بابتداع، فيا للهِ لِلمسلمينَ!
وبالمنازع العصبية المُتعاكسة صار الناظر إلى المسلمين، وفي كُتبهم الدينية، يرى ويقرأ أن الإسلام يطلب من المسلمين مظاهر الفرح والحزن في يوم واحدٍ لشهر واحد، وأن مَظاهر الفرح تُرْوَى فيها أحاديثُ وآثارٌ، ومظاهر الحزن تُروى فيها كذلك أعمال وآثار! وهكذا فعل المسلمون بالإسلام! وهكذا تَفرَّقوا في دينهم وكانوا شِيَعًا، والله ـ تعالى ـ يقول في كتابه: (إنَّ الذينَ فرَّقُوا دِينَهمْ وكانُوا شِيَعًا لسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ).
إن أشد ما يُبْغِضُه الإسلام ويُحرمه على أهله تجديد الأحزان وإثارة بواعث الفِتَنِ والتفرُّق، وكذلك مِن أشد ما يبغضه الافْتِيَات على الله والقول بشرع ما لم يأذن به، والحقُّ أن الفريقينِ قد انحرفَا عن الصراط المستقيم، وخاضَا فيما يُحرم الإسلام الخوض فيه.(1/387)
واجب المسلمين اليوم:
وإنَّ واجب عقلاء المسلمين اليوم لَيُحَتِّمْ عليهم ـ وقد بدت البغضاء لهم جميعًا من أعدائهم المُتربِّصين بهم ـ أن يُطَهِّروا أنفسهم من هذه العصبية التي فرَّقَتْهم، والتي احترَبُوا بها فيما بينهم وتسلَّط بها عليهم عدوُّهم، وأن يجتمعوا على كلمةٍ سواءٍ بينهم، وأن يُمَحِّصُوا دِينهم وكُتبهم من آثار "العصبية الجارفة الهدَّامة"، وأن يَقِفُوا صفًّا صَفًّا واحدًا وقلبًا واحدًا يُرهبون به عدوَّ اللَّه وعدوَّهم. إنهم إنْ فعلوا ذلك طابت حياتُهم، وسلِم دينهم، وكانوا عند الله كما قال: (خيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ). وإلَّا يَفعلوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.(1/388)
التشاؤم:
هذا هو أصل فكرة "تحريم عقد الزواج" كما نرى، وقد أُلْبستْ هذه الفكرة عند مَن لم يَعرفوا هذا الأصل ثوب "التشاؤم"، والتشاؤم هو الآخر قد أخَذ مجالًا واسعًا عند الناس بدافع الهوى والدجَل، ولم يعدم هو الآخر مَن يُؤَيِّدُه ويُبرِّره "بمَرويَّاتٍ" تُنسب إلى الرسول ظلمًا وبُهتانًا، بل لم يعدم مَن يُؤيده بالقرآن نفسه. (ارجع إلى ما كتبناه عن: "استطلاع الغيب والتشاؤم" من هذا الكتاب).(1/389)
عبَث الدَّجَّالِينَ:
وبعدُ:
فإن واجب المؤمنين أن يتنبهوا إلى عبث الدجالين بإشاعة فكرة التشاؤم بينهم، هذه الفكرة التي يصير بها الإنسان أسيرًا لوهم في كلمة يسمعها، أو يوم يمرُّ عليه، أو منظر يراه، وأن يُطهِّروا قلوبهم من هذه الأوهام، وأن يَقدُموا على أعمالهم وتصرُّفاتهم، وقضاء مصالحهم في أوقاتها التي تتطلبها، مُعتمدين في ذلك على إيمانهم النَّقِيِّ وعلى توفيق الله لهم، غير عابئينَ بوهمٍ أو خُرافة، فتَسلم حياتهم وتستقر شُئونهم، والله وليُّ التوفيق والهداية.(1/390)
ما الخطبة وحقيقتُها؟
تلقيتُ رسالةً مِن طالب حُقوقيٍّ يسأل فيها عن حُكم الرجوع عن الخطبة، ويقول في خطابه: من المتفق عليه في الشريعة الإسلامية أن قراءة الفاتحة عقْد، فإذا ما اتَّضحَ بعد ذلك لأهل العروس سوء سلوك الزوج، وشراسة طباعه بأدلة قاطعة لا يرقى إليها الشك، وفُسخت بذلك "الخطوبة"، فهل هناك مسئولية دينية في ذلك؟
يَعتقد السائل أن قراءة الفاتحة عقْدٌ، ويسأل عن حكم فسْخ الخطبة إذا ما اتَّضح أن الخاطب سيِّئُ السلوك. ونظرًا إلى أن كثيرًا من الناس يفهمون الخطبة على غير وجهها الشرعي ـ ويرتب الخاطبانِ عليها تصرُّفات لا تَسمح بها الشريعة، ولا تُقِرّها ـ رأيتَ تَعميمًا للفائدة، وإرشادًا لحُكم الله في ذلك أن أتَّخِذَ من هذا السؤال حديثًا عن الخِطبة، وعن وضْعها الشرعي، وعن حكم الرجوع فيها. وكلنا يعلم أن الخطبة هي أن يطلب الرجل التزوج بالمرأة، وأن هذا الطلب قد يُوجَّه إليها مباشرة، وقد يوجه إلى أحد من أسرتها، كأبيها، أو أمها، أو أخيها، على حسب المُتعارف بين الناس في ذلك.
وقد جاءت الخِطبة في القرآن الكريم بعد بيان عدَّة المتوفَّى عنها زوجُها (ولا جُنَاحَ عليكمْ فيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِّسَاءِ أو أَكْنَنْتُمْ في أَنْفُسِكُمْ). (الآية: 235 من سورة البقرة).
ومِن هنا كانت الخِطبة مجرد اتفاق مبدئي على الرضا بالتزويج، وكثيرًا ما يقصد الطرفان بعد تحقُّق الرضا إعلانه بإقامة حفل صغير أو كبير، ويحضره الأهل والأقارب والأصدقاء، وتُقدم فيه للمَخطوبة الهدية المعروفة باسم: "الشبكة" ويقتصر الأمر في الحفل على ذلك، وقد تقرأ فيه الفاتحة تأكيدًا لهذا الاتفاق، وينتهي الحفل وينصرف الناس دون أن يدور في نفس أحدٍ أن العقد قد حصل، أو أن فلانًا تزوَّج بفلانة. وقد أخذ هذا الحفل في ألْسنة الناس اسم: "حفلة الخُطوبة".(1/391)
وقد ذكر الله العقْد في آية تالية للآية التي ذُكرت فيها الخطبة، فقال: (ولا تَعْزِمُوا عُقدةَ النِّكَاحِ حتَّى يَبْلُغَ الكتابُ أجَلَهُ). (الآية: 235 من سورة البقرة) والمعنى إرجاء العقد حتى تخلُص المَخطوبة من تَبِعَاتِ الزواج السابق إذا كانت قد سبق لها زواج.(1/392)
العقد غير الخطبة وُجودًا وشرْعًا وعُرْفًا:
وبهذا كان الوضع الوُجودي والشرعي والعرفي للخِطبة غير الوضع الوجودي الشرعي والعرفي للعقْد، فهي إذا كانت طلبَ الزواج والاتفاق عليه، فإن عقدة الزواج هي الحالة الشرعية التي تنشأ بين الزوجينِ بالإيجاب والقَبول عن طريق تبادُل الكلمتينِ المعروفتين وما ماثلهما، وهي: زَوَّجْتُكَ، وقَبِلْتُ. وبالإيجاب والقبول هكذا، وأمام الشهود يتمُّ العقد، ويحصل الارتباط الشرعي بين الزوجين، وتقوم بينهما الحياة الزوجية بجميع آثارها وأحكامها.
ومن هنا لم تكن الخطبة، ولا الفاتحة المُقترنة بها، عقدًا يُبيح للخاطبينَ ما يُبيحه العقد الشرعي بين الزوجين. وقد ذكرنا من قبلُ أن كثيرًا من الناس أساءوا فهم الخطبة ووضعها الشرعي، فجعلوها عقدًا أو كالعقد، واستباح بها الطرفان، وأُبيح لهما أن يختلط اختلاطًا ترفع فيه الحُجب، وتحل القيود، وكثيرًا ما جرَّ هذا التصرُّف الويْلات على الفتيات وأُسرهِنَّ.
وكثيرًا ما أعقبه إعراض الخاطبين عن المخطوبات، وعُنِّسَتْ به الفتياتُ.(1/393)
التعرُّف المَشروع:
إن الإسلام دين الخُلق والكرامة، ودين الأُلْفة والمحبة، وقد أباح للخاطبين أن يتعرف كل منهما على صاحبه بما لا يجرُّ هذه الويْلات، ويُحقق في الوقت نفسه لكل منهما ما يُحب في صاحبه، أباح ذلك بالرؤية الكريمة، والمُحادثة المُؤدبة، والاجتماعات المُهذبة في ظلٍّ من الأهل والأرحام. وقد جاء ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يَرَ الإسلام أن تظلَّ المخطوبة في خِدْرِها وألَّا يراها خاطبها إلا ليلةَ الزفاف، ولم يَرَ أن ترفع بالخطبة حواجز الحُرمات، وكان بهذا وذاك حَدًّا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط، وهكذا يجب أن يفهم الناس الخِطبة، فيسلم الزوجانِ من نَكْسَةِ المُفاجأة ليلة الزفاف، وتسلم المخطوبة من شَرِّ الإسراف في المُخالطة.(1/394)
العُدول عن الخِطْبَة:
أما العدول عن الخطبة وفسْخها بعد تمامها، فإنْ كان كما يقول السائل لتبيُّن سوء السلوك، وشراسة الطِّباع، فإنه يكون أمرًا مطلوبا شرعًا، حرصًا على سلامة الحياة الزوجية من عبث الأخلاق الفاسدة، وإنَّ مراعاة الأخلاق، وبناء الزواج عليها لمِن أهم ما يُعنَى به الشارع في تكوين الأسرة، وكثيرًا ما حثَّتْ الشريعة على تخيُّر أرباب الخُلق والدين.
وإنْ فسْخ الخِطبة في هذه الحالة، اتقاءً لضررٍ، قد يَعْسُرُ العمل على زواله، وتنشأ به الأسرة وفي جسمها عناصر الزَّعْزَعة والاضطراب، والكيْد والانتقام، وبذلك يكون الزواج جحيمًا لا سكنًا، وبُغضًا لا مودةً، ونِقْمَةً لا رحمة. وقد أباح الشارع، بل طلب أن يحنِث الإنسان في يَمينه إذا تبيَّن له أن المصلحة والخير في نقْضه، وفي ذلك يقول الرسول: "مَن حَلَفَ على يَمينٍ فرأى غيرها خَيْرًا منها، فلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِه، ولْيَفعلْ الذي هو خَيْرٌ".
وإذا جاء ذلك في اليمين فإنه ـ من بابٍ أولى ـ يجوز في الاتفاق المجرد عن اليمين متى تبيَّن أن الخير في نقْضه.(1/395)
الفَسْخُ المُحرَّم:
أما فسْخ الخطبة لمُجرد ظهور خاطب ماليٍّ، أو صاحب مركز عظيم، فهو حرام عند الله، وهو في الوقت نفسه مُخِلٌّ بالشرف والكرامة، ويَنزل بالفتاة إلى مستوى السِّلَع، تُعرض في الأسواق لتُباع بأغلى الأثمان، وهو بعد هذا وذاك نقْضٌ للعهد الذي حرَّمه الله والذي يقول فيه: (وأَوْفُوا بالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولًا). (الآية: 34 من سورة الإسراء).
ونصيحتي لهؤلاء الذين يعتبرون الخِطبة عقدًا يُبيح لهم ما يبيحه عقد الزواج. ولهؤلاء الذين لا يَعنيهم في زواج فتياتهِنَّ سوى المال الزائل، والجاه الزائف، نصيحتي لهؤلاء وهؤلاء أن يقفوا في تزويج أبنائهم وبناتهم عند حُكم الله وإرشاده، وأنْ يتخيَّروا لهم رضَى الدِّين والخُلُق.(1/396)
آثار الخِطْبة في الشريعة:
ما هو الحدُّ الذي يُبيحه الشرع للخاطب ليتمتع بمَخطوبته قبل أن يُعقدَ القَران. وهل يجوز له تقبيلها؟
الخِطبة هي أن يطلب الرجل من المرأة أو وَلِيِّها أن يتزوجها، فإذا وافقت أو وافق وليها تَمَّتْ الخِطبة، وكانت بمَثابة اتِّفاق مبدئي على أنها تكون له ويكون لها.
ومِن آثار هذا الاتفاق أنه يُحرِّم على غير الخاطب أن يَخطبها على خطبته، وفي ذلك قال ـ عليه السلام ـ: "المؤمنُ أخو المُؤمن فلا يَحِلُّ للمُؤمن أن يَبْتَاعَ على أخيهِ ولا يخطبُ على خِطْبَةِ أخيهِ حتَّى يَذَرَ".
وقد أخذ بعض الأئمة من هذا النهْي أن زواج الخاطب الثاني باطل، لا تحلُّ به المرأة، ويجب فسْخه، ولكن مع هذا لا تحلُّ المخطوبة للخاطب إلا بإجراء العقد الشرعي المُستوفِي لشروط الصحة الشرعية، وجملة ما يُعتبر فيه أن يحصل إيجابٌ وقَبولٌ منهما، أو من وَكِيلَيْهِمَا، أو من أحدهما ووكيل الآخر، وأن يكون ذلك مُعلنًا بمحضر شاهدينِ رجلينِ أو رجل وامرأتين على الأقل، فإذا لم يَجْرِ بينهما العقدُ، أو جرى بينهما فقط دون إعلانٍ بالشهود ظلت المرأة أجنبيةً من الرجل، وظلَّ الرجل أجنبيًّا عن المرأة، لا يحل لأحدهما من صاحبه شيء مما يحلُّ بين الرجل وزوجه، فتَحرم القبلة وتحرم الخُلْوَة ويحرم أن يتبادلَا نظرات الشهْوة والمُتعة.(1/397)
إساءة فَهْمِ الخِطْبة:
وليست الخِطبة أكثر مِن وَعْدٍ بالتزوُّج، وحِلَّ التمتُّعِ إنما هو من آثار العقْد، فما لم يحصل العقد لا يحصل الحلُّ.
وقد أساء قوم فهْم الخطبة وقالوا إنها مُقدِّمةُ الزواج فيُباح بها مقدمةُ ما يُبيحُه الزواج، وبذلك استباح الخاطبانِ أن يختليَا وأن ينفردَا في التنزُّه والسينما، بل استباحَا تبادُل القُبَلِ، وجعلوا كل ذلك من دلائل الوئام والمحبة، وكثيرًا ما اقترفَا في ظلمة هذا الفهم الفاسد ما لم يُبِحْهُ الشرع والدِّين، وظهر أمرهما فيه، فانفصمت بينهما العُروة، وفسدت الخِطبة، وعدَل الخاطب عن خطبته، وعادت المخطوبة إلى بيتها تحمل إثْمها في أحشائها، وتحمل من أوزار الخِزْيِ ما يَنُوءُ به شرَفُها وشرف أسرتها. وكانت وصْمةَ عارٍ أبدي لا يُمحَى أثرُها مِن الجبين، ولعل فيما نقرؤه ونعلمه من حوادث الخاطبينَ والمَخطوبات التي يَجُرُّهَا الاختلاط ورفع الحُجب ما يُضيء لنا السبيل في قُبح هذه العادة المَمقوتة، التي تسرَّبت إلينا من عادات قوم لا يؤمنون بدِين، ولا يكترثون بشرَف، ولا يفهمون من سعادة بناتِهم سوى أن يَحصلْنَ على طريق يجمعْنَ به المال.(1/398)
تعارُف لا اختلاط:
نعم. نظرت الشريعة الإسلامية إلى أن الزواج مِيثاقٌ غليظ وعهد قويٌّ، به ترتبط القلوب، وتسكن النفوس، ويتعاونُ الزوجان على تكوين أُسرة عِمادها المودة والرحمة، ومن هنا ندبتِ الطرفينِ إلى التعارُف الذي يُرشد إلى اتجاه القلوب، فأباحت أن ينظر كل منهما إلى صاحبه نظرةَ التعارُف فقط، وأباحت أن يجتمعَا المرة والمرات ومعهما الأهل والأقارب، وفي ذلك يقول ـ عليه السلام ـ: "إذا خطَبَ أحدُكم المرأة فقُدر أن يَرَى منها بعض ما يدعو إلى زواجها فلْيفعلْ". وقال للمُغيرة بن شُعبة وقد خطب امرأة: "انظرْ إليها، فإنه أحْرَى أن يُؤْدَمَ بينكما". ومعناه أنه أجدر أن يحصل بينكما المُوافقة والملاءمة، فالأرواح جنودٌ مُجندة ما تعارَف منها ائتلفَ، وما تَناكَر منها اختلفَ.(1/399)
السمسرة تَوَسُّطٌ بين البائع والمشتري:
ما حكم الشرع في عملية السمسرة، هل هي حلال أم حرام؟
السمسرة، كما يعرفها الناس، وهي التوسُّط بين البائع والمُشتري لتسهيل البيع، وهي شيء مقصود للناس في حياتهم، وكثيرًا ما يحتاجون إليه، فكمْ من أُناس لا يعرفون طُرق المساومة في البيع والشراء، ولا يعرفون طرق الوصول إلى شراء أو بيْعِ ما يُريدون شراءه أو بيْعه، وكم من أُناس لا تسمح مراكزهم بالنزول إلى الأسواق، والاتصال بالبائعينَ والمشترين، ولا يجدون مَن يقوم لهم بالبيع والشراء حِسْبَةً لوجه الله. ومن هنا كانت السمسرة عملًا شَرْعِيًّا نافعًا للبائع وللمشتري وللسمسار، يُحتاج إليه ككل عملٍ آخرَ يحتاج إليه الناس وينفعهم، وليس فيه ما يُوجب التحريم.(1/400)
إجارة شرعية تخضع للاتِّفاق أو العُرف:
غير أنه يجب على السمسار، ليكون ما يأخذه حلالًا، الإخلاص في التوسُّط، والبُعْد عن التغرير والتدْليس، مما يَحْرُم كسْبه وأُجرته، وبذلك كان الاستئجار عليها إجارةً شرعيةً صحيحة، منفعة معلومة، وأجرة معلومة، وعمل له قيمته بين الناس، وطريقُ كسْبٍ لا شُبهة فيه، فكيف تَحْرُمُ ولا تَحِلُّ؟ وعلى هذا فإن تعاقُد إنسان مع آخر، ليَبيع له أو ليشتري، واتَّفقا على أجر مُعيَّنٍ أو لم يتَّفقَا على الأجر، ولكن كان ببلد التعامُل قانونٌ عام يُحدِّد أُجرة السمسرة، صحَّ ولزِم الأجر المُتَّفق عليه أو المُقرَّر بحُكم القانون، أما إذا أعان شخصٌ شخصًا على البيع أو الشراء دون تعاقُد، ثم طلب منه أجرًا فإن المُحكَّم في ذلك هو العُرف، فإن كان أهل السوق أو البلد الذي يجري فيه التعامُل يعملون بأجرٍ لزِم الأجر، وكما يُحَكَّمُ العُرف في أصل الأُجرة، يُحَكَّمُ في قدْرها. وإنْ كان العُرف لا يجري بذلك في مثل هذه المنفعة، وإنما يجري بالتبرُّع والتعاون. فإنه لا يجب فيه أجر.(1/401)
السمسار معروف في كُتب الفقهاء:
هذا. وقد جاء ذِكْرُ السمسار بعنوانه المعروف به عند الناس في كتب المالكية، ضِمْن الأُجراء الذين لا يضمنون ما تحت أيديهم بالتَّلَفِ أو الضياع دون تَعَدٍّ أو تقصير، قالوا: "ولا يضمنُ سِمْسَار خَيِّر" أي ذو أمانة. وجاءت كلمة سمسار مع كلمة "سمسر" في المعاجم اللغوية، وفي بعضها ما يدلُّ على أن هذه العملية كانت معروفة في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا العنوان نفسه: "سمسرة وسماسرة".(1/402)
الاستئجار على الحرام حرام:
وبهذه المناسبة تُقرر الشريعة حُرمة الاستئجار على كل ما يُحرمه الإسلام، وتبيحه فيما يُبيحه الإسلام وكان فيه نفع للناس، مع تحديد المنفعة والأجر، فالاستئجار على شراء الخمر أو حملها حرام. والاستئجار على رعْي الخنزير وشرائه حرام. والاستئجار على البِغاءِ والرقْص حرام. والاستئجار على النِّياحة وضرْب الدف لمجرد التلَهِّي، الذي يَصُدُّ عن العمل النافع والواجبات الدينية، حرام.
فعلى المسلمين التحرِّي في عُقودهم ومُعاملاتهم، حتى يَسْلَموا من غضب الله وسخطه، ولهم فيما أباحه الله مُتَّسَعٌ عظيم.(1/403)
الربا الذي نزل فيه القرآن:
ضرورة الأفراد وضرورة الأُمَّة
من المشاريع الهامة التي تَعود بالخير على المسلمين ما يحتاج إلى قرْض من المَصرف، يتقاضَى عنه المَصرِف رِبْحًا، فهل يُحجم المسلمون عن ذلك على أنه ربًا، ويترك المجال لغير المسلمين؟ وما حُكم الشرع في الأسهم والسندات؟
لا شك في أن القرآن حرَّم على المؤمنين التعامُل بالربا، والربا حُدِّد بالعُرف الذي نزل فيه القرآن، بالدَّيْنِ يكون لرجل على آخر، فيُطالبه به عند حُلول أجله فيقول له الآخر: أخِّر دَيْنَكَ وأزِيدُك على مالك، فيَفعلانِ ذلك "وهو الربا أضعافًا مُضاعفة" فنَهاهم الله عنه في الإسلام.
وواضح أن هذا الصنيع لا يجري عادةً إلا بين مُعْدَمٍ غير واجدٍ، ومُوسر يستغل حاجة الناس، غير مُكترث بشيء من معاني الرحْمة التي يبني الإسلامُ مُجتمعه عليها، والتي لو عُدمت في المجتمعات، لأَصبحت كفايات الحيوانات المُفترسة، وهذا النوع من الربا لا تقبل إنسانيةٌ فاضلةٌ الحُكمَ بإباحته، وقد قابل القرآن الكريم حُرمته في جميع الآيات التي وجد فيها بالصدَقة التي تُبذل في مساعدة الفقير المحتاج، وتُشير هذه المُقابلة إلى أن تلك الحالة كان جديرًا بها أن تجري فيها الصدَقة، وهي التبرُّع المَحْضُ، فإنْ لم تكن صدقة فلا أكثر من الردِّ بالمثل ومن النَّظِرَة إلى المَيْسَرَةِ: (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصدَقاتِ). (الآية: 276 من سورة البقرة). (لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ . وإنْ كانَ ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأنْ تَصَدَّقُوا خيرٌ لكمْ إنْ كُنتمْ تَعلمُونَ). (الآيتان: 279 ـ 280 من سورة البقرة). أما الزيادة والمُضاعَفة فيها، فهما ظُلْمٌ وعُدوان، وهما من مُوجباتِ المَقْتِ والغضب عند الله (واتَّقُوا النارَ التِي أُعِدَّتْ للكَافِرِينَ).(1/404)
الضرورات والحاجات:
والفقهاء تَمَشِّيًا مع توسيع نطاق التراحُم، والبُعد عمَّا يفتح على الناس باب التزاحُم المادي في الضغط على أرباب الحاجات، توسَّعوا كثيرًا فيما يتناوله الرِّبَا، وكان لهمْ في ذلك مشارب مُختلفة وآراء مُتعددة. ورأى كثيرٌ منهم أن الحُرمة فيما يُحرِّمُون تتناول المتعاقدَينِ معًا المُقرِض والمُقترض. وإنِّي أعتقد أن ضرورة المُقترض وحاجته مما يرفع عنه إثْم ذلك التعامُل؛ لأنه مُضطرٌّ أو في حكم المضطر، والله يقول: (وقدْ فَصَّلَ لكمْ ما حَرَّمَ عليكمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إليهِ). (الآية: 119 من سورة الأنعام).
وقد صرَّح بذلك بعض الفقهاء فقالوا: يجوز للمُحتاج الاستقراض بالربْح.
وإذا كان للأفراد ضرورة أو حاجة تُبيح لهم هذه المُعاملة، وكان تقديرها ممَّا يرجع إليهم وحدهم، وهم مُؤمنون بَصيرونَ بدِينهمْ، فإن للأمة أيضًا ضرورة أو حاجة، كثيرًا ما تدعو إلى الاقْتراض بالرِّبْح، فالمزارعون كما نعلم تشتدُّ حاجتُهم في زراعاتهم وإنتاجهم إلى ما يُهيئون به الأرض والزراعة. والحكومة كما نعلم تشتدُّ حاجتها إلى مصالح الأمة العامة، وإلى ما تُعِدُّ بِهِ العُدَّة لمُكافحة الأعداء المُغيرين. والتجار تشتدُّ حاجتهم إلى ما يَستوردون به البضائع التي تحتاجها الأمة وتُعمر بها الأسواق، ونرى مثل ذلك في المصانع والمُنشآت التي لا غنى لمَجموع الأمة عنهاس، والتي يَتَّسِعُ بها ميدان العمل، فتُخفِّف عن كاهل الأمة وطْأةَ العمال العاطلين. ولا ريب أن الإسلام الذي يبني أحكامَه على قاعدة اليُسْرِ ورفْع الضرر، والعمل على العزَّة والتقدُّم وعلاج التعطُّل، يُعطي للأمة في شخص هيئتها وأفرادها هذا الحق، ويُبيح لها ـ ما دامت مَواردها في قلَّة ـ أن تقترض بالربح تحقيقًا لتلك المصالح التي بها قيام الأمة وحفْظ كيانها.(1/405)
تقدير الحاجة والمَصلحة لأُولي الرأي:
غير أني أرى أن يكون تقدير الحاجة والمَصلحة ممَّا يُؤخذ عن "أُولي الرأي" من المؤمنين القانونيين والاقتصاديين والشرعيين، ويكون ذلك في ناحيتينِ: ناحية تقدير الحاجة، وناحية تقدير الأرباح، واختيار مصادر القروض، فلا يكون قرضٌ إلا حيثُ تكون الحاجة الحقيقية، ولا يكون قرضٌ إلا بالقدْر المحتاج إليه، وتدفع إليه الضرورة والحاجة، ولا يكون قرض إلا من جهةٍ لا تُضمر استغلالنا واستعمارنا. ولو أن الأمم الإسلامية تكاتفتْ على وضْع أساس اقتصادي يُحقِّق مصالَحها، ويَقِيهَا شَرَّ التحكُّم الأجنبي، لوجدوا من مبادئ الإسلام الاقتصادية ما يجعلهم في مقدمة الأمم اقتصادًا وقوة وحضارةً.
أما الفرق بين الأسهُم والسندات، فهو أن الأسهم من الشركات التي أباحها الإسلام باسم المُضاربة، وهي التي تتبع الأسهم فيها ربْح الشركة وخَسارتها.
وأما السندات، وهي القرْض بفائدةٍ مُعينة لا تتبع الربْح والخسارة، فإن الإسلام لا يُبيحها إلا حيثُ دعت إليها الضرورة الواضحة التي تفوق أضرار السندات التي يَعرفها الناس ويُقررها الاقتصاديون.(1/406)
رأيُ بعض العلماء:
هل يحلُّ للمسلم شرعًا أن يأخذ نصيبَه من أرباح صندوق التوفير؟
رأى بعض علماء الحلال والحرام أن الربْح الذي تدفعه مَصلحة البريد لأصحاب الأموال المودعة في صندوق التوفير حرامٌ؛ لأنه إما فائدة رِبوية للمال المودع أو منفعة جرَّها قرضٌ، وكِلا الأمرين حرامٌ في نظر الشريعة. وعلى هذا يجب ردُّه ويَحرم أخذُه والانتفاع به.(1/407)
رأيُنا أنه حلال:
والذي نراه ـ تطبيقًا للأحكام الشرعية، والقواعد الفقهية السليمة ـ أنه حلالٌ ولا حُرمة فيه.
ذلك أن المال المُودع لم يكن دَيْنًا لصاحبه على صندوق التوفير، ولم يقترضه صندوق التوفير منه، وإنما تقدَّم به صاحبُه إلى مصلحة البريد من تلقاءِ نفسه، طائعًا مُختارًا، مُلتمسًا قَبول المصلحة إيَّاه، وهو يعرف أن المصلحة تستغل الأموال المُودعة في مواد تجاريةٍ ويندر فيها ـ إنْ لم يُعدم ـ الكساد أو الخُسران.
وقد قصَد بهذا الإيداع أولًا: حفْظ ماله من الضياع. وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد. وقصَد ثانيًا: إمداد المصلحة بزيادة رأس مالها، ليتسع نِطاق مُعاملاتها، وتكثر أرباحها فينتفع العُمال والمُوظفون، وتنتفع الحكومة بفاضل الأرباح.
ولا شك أن هذينِ الأمرينِ ـ تعويد النفس على الاقتصاد، ومُساعدة المصلحة الحكومية ـ غرضانِ شريفانِ كِلاهما خير وبركة ويستحق صاحبها التشجيع، فإذا ما عَيَّنَتِ المصلحة لهذا التشجيع قدْرًا من أرباحها منسوبًا إلى المال المودع أي نِسبةٍ تُريد، وتقدمت به إلى صاحب المال، كانت دون شكٍّ مُعاملة ذات نفع تعاونِيٍّ عام، يشمل خيرُها صاحبَ المال والعمال والحكومة، وليس فيها مع هذا النفع العام أدنَى شائبةٍ لظلم أحدٍ، أو استغلالٍ لحاجة أحدٍ، ولا يتوقف حلُّ هذه المُعاملة على أن تندمج في نوع من أنواع الشركات التي عرَفها الفقهاء وتحدثوا عنها وعن أحكامها.(1/408)
مُعاملة جديدة:
وفي الواقع أن هذه المعاملة بكيفيتها، وبظروفها كلها، وبضمان أرباحها لم تكن مَعروفة لفقهائنا الأولينَ وقت أن بحثوا الشركة ونوَّعُوها، واشترطوا فيها ما اشترطوا.
وليس مِن رَيبٍ في أن التقدم البشري أحدث في الاقتصاديات أنواعًا من العقود والاتفاقات المُركزة على أسسٍ صحيحة لم تكن معروفة مِن قبل، وما دام الميزان الشرعيُّ في حِلِّ التعامل وحُرمته قائمًا في كتاب الله: (واللهُ يعلمُ المُفسدَ مِن المُصْلحِ) (الآية: 220 من سورة البقرة). (لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ). (الآية: 279 من سورة البقرة). فما علينا أن نحكمه، ونسير على مُقتضاه. ومن هنا يتبيَّن أن الربح المذكور ليس فائدة لدَيْنٍ حتى يكون رِبًا، ولا منفعة جرَّها قرضٌ حتى يكون حرامًا على فرض صحة النهي عنه، وإنما هو كما قلنا تشجيع على التوفير والتعاوُن اللذينِ يستحبهما الشرْع.(1/409)
رأْي بعض العلماء:
تُحدد الشركات التعاونية للمُساهمين فيها أرباحًا سنويةً بنسب ثابتة. فهل هذا حرام؟ ثم إن هذه الشركات تُخصص جزءًا من أرباحها للخيرات. فهل يجوز أن يَعتبر المُساهم نَصيبه في هذا الجزء من الزكاة؟
يرى بعض العلماء أن هذه الشركات مِن المُعاملة المعروفة عند فُقهائنا بالمُضاربة أو القراض، وهي تعاقُدٌ بين اثنين أو أكثر على أن يكون المال من جانب، والعمل من جانبٍ آخر، وإنَّ مِن شرط صِحَّتِها ألَّا يجعل فيها لأحدِ الشركاء نصيبٌ مُعيَّنٌ ثابت من الربْح، لجواز ألَّا تُخرج الشركة سواه، فلا تَطيب نفس الآخرين بالحِرمان مع قيامهم بالمال أو العمل، وبذلك تنقطع الشركة.
وإذا كانت هذه الشركات مِن المضاربة، وهذا شرط صحَّتها ـ وهو لم يتحقق فيها ـ فإنها تكون مُضارَبة فاسدة، وحُكمها أن يكون الرِّبْح كله لربِّ المال وللعامل أجرٌ مثله.(1/410)
تخريج غير مُسلَّم:
هذا رأيُهم وهكذا يقولون. وفي رأيي أن تَخريجها على أنها مِن المُضاربة وتطبيق ما قالوا في المضاربة وتطبيق ما قالوا في المُضاربة عليها يحتاج إلى كثير مِن النظر؛ ذلك أن هذه الشركات، تجاريةً كانت أم صناعية، يتكوَّن رأسُ مالها من جملة أفراد على طريقة الأسهم، ويُديرها ويُباشر عملها التِّجاري أو الصناعي موظفون بمُرتبات مُعيَّنة شهرية أو يومية على حسب قيمة العمل الذي يُضاف إليهم، وقد لا يكون واحدٌ منهم من أرباب الأسهم المُكونة لرأس مالها. والذي يكون منهم مُساهمًا، لا يعمل بمُقتضى المُساهمة، وإنما يعمل بمُقتضى التوظُّف كغيره الذي لم يكن مُساهمًا. وإذن فَهُمْ، باعتبارهم عمالًا، لا شأن لهم برأس المال ولا بالربح، وإنما يَتقاضَون مرتباتٍ معينةً في مُقابلة عملهم في الشركة. وبهذا التكليف الواقعي تكون هذه الشركات قد فقدتْ عنصر المُضاربة التي تكلَّم عليها الفقهاء: وهو: أن يكون المال مِن جانب والعمل مِن جانب آخر، فلا تكون منها، وإنما هي نوعٌ جديد من الشركة أحدثه أهل التفكير في طريق الاقتصاد والاستثمار، ولم يكن معروفًا للفقهاء من قبلُ.(1/411)
لا ظُلم ولا اسْتغلال:
وإذا كانت هذه الشركات إنما تنشأ للبقاء والاستمرار، ورأَى مُؤسسوها لذلك أن تُوَزَّعُ أرباحُها بنِسَبٍ للأسْهُم، ثابتة على مُرتبات العمال وعلى دعم رأس المال وجهات الخير وأرباب
الأسهُم ـ كان كل ذلك خيرًا لا ظلم فيه لأحد ولا استغلال فيه لحاجةِ أحدٍ، بل كله نفْعٌ وفائدة، وفيه تهيئةُ عملٍ لعمال ومُوظفين قد تَضيق بهم السُّبُل لولا هذه الشركات. وفيه توسيعُ نِطاق التجارة والصناعة بما يحتاج الناس إليه، ويُغْنِيهم عن مدِّ يَدِهُم إلى تجارة الأجانب وصناعتهم.
هذا ولابد أن تكون هذه الشركات قد ضَمَّنتْ قانونَها الأساسي فرْضَ الاحتمالات من جهة عجْز الإنتاج عن قيامها بتلك الجهات وجِهة الخسارة، التي قد تلْحق رأس المال ووضعت لها أحكامًا خاصة يعرفها المساهمون ويطمئنون إليها دون أن تنقطع الشركة بينهم.
ومِن هذا يتبيَّن أن هذه الشركات ليست رِبَوِيَة تستغل حاجة المُحتاجين، وليست مُضاربة الفقهاء، حتى تكون فاسدةً بتحديد الرِّبْحِ على فرْض تسليم شُروطهم في المضاربة.(1/412)
اعتبار جزء الخيرات مِن الزكاة:
أما حُكم اعتبار نَصيب المُساهم في جزء الخيرات مِن الزكاة الواجبة عليه في أمواله، فإنه متى كان مِلْكًا له والشركة نائبةٌ عنه في صرْفه إلى جهات الخير، التي هي المَصارف الشرعية للزكاة، كان مِن الجائز للمساهم أن يَنْوِيهِ عن تلك الزكاة، ولا يلزم أن تعلم الشركة بهذه النِّيَّةِ؛ لأنه صاحب الزكاة، ونِيَّةُ العبادة ترجع إليه لا إلى غيره.
وإذن، فما مضى إخراجه قبل هذه النِّيَّة يقع على النية الأولى وهي نية التطوُّع، لا يصحُّ احتسابه بعد إخراجه من الزكاة الواجبة، وإنما يصحُّ ذلك في المستقبل وبعد وُجود هذه النيَّة، فإن ساوى الزكاة الواجبة فقد أُدِّيتْ به، وإنْ كان أقلَّ وجَب عليه ما يُكَملها، وإن كان أكثر كان الباقي تطوُّعًا، له به ثوابُ المُتطوِّعين.
والله أعلم.(1/413)
حِكْمة الرَّهن في نظر الشريعة:
يسأل كثيرون ـ وخاصة من إخواننا الرِّيفِيِّينَ ـ عن حُكم الشرع فيما هو شائع عندهم من رهْن الأطيان، وهل يُباح للدائنِ أن يستغل الأرض المَرهونة بزراعتها أو إيجارها لحسابه مدةً تَطول أو تقصُر حتى يُؤدي المَدِينُ دَيْنَهُ، ويفكُّ الرهْن، مع العلم بأن هذا بإذن الراهن ورِضاه؟
تنظر الشريعة إلى المال نظرةً واقعيةً، تطلب تحصيله من الطرق التي لا اغتيال فيها ولا استغلال، وتطلب المُحافظة عليه مِن الضَّيَاع. وقد أرشدتْ في حِفْظه ـ إذا كان دينًا ـ إلى كتابته والإشهاد عليه، وإلى أن يأخذ به رهنًا يقوم مقام الكتابة في الاستيثاق والحفظ، ونزلتْ في ذلك أطولُ آية في القرآن، وهي قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إذا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجلٍ مُسَمَّى فَاكْتُبُوهُ). (الآية 281 من سورة البقرة) إلى أن يقول: (وإنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ ولمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ). (الآية: 282 من سورة البقرة). وصحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه اشترى، وهو في المدينةِ، طعامًا مِن يَهُودِيٍّ ورهَنَهُ دِرْعًا مِن حديدٍ.
ودَلَّ هذا على أن مشروعية الرهْن ليست خاصة بحال السفر، وأنه مشروع في السفر والحضر معًا. والرهْن بعُمومه يشمل المَنقول كالمتاع والدابَّة، والعقار كالدار والأرض.(1/414)
الرهن عقد استيثاق لا استثمار:
وعلى هذه المشروعية العامة اتَّفق الفقهاء، كما اتَّفقوا أيضًا على أن عقد الرهن ليس عقد استثمار واسترْباحٍ وإنما هو عقد استيثاق وضمان للدَّيْنِ.
وهو في ذلك بمعنى الصَّكِّ والكفيل. وقد كان منه ضرورة اتَّفاقهم على أن طبيعة عقد الرهن كما ذكرنا اتِّفاقهم على أنه ليس للدائن بمُقتضاه أن ينتفع بشيء من العيْن المَرْهونة.(1/415)
الانتفاع بالعيْن المرهونة إذا أذِن الراهن:
ولكنْ هناك شيء آخر وراء عقد الرهن وطبيعته وهو: هل يحلُّ للدائن أن ينتفع بالعين المرهونة إذا أذِن له صاحبها وهو المَدين؟. وقد عرَض الفقهاء لهذه المسألة وكان لهم فيها رأيانِ: فغيرُ الحنفية يرون أنه لا يحلُّ له أن ينتفع بها وإن أذِن له صاحبها؛ لأنه يكون انتفاعًا جَرَّهُ قَرْضٌ، وهو مَنْهِيٌّ عنه بالحديث: "كلُّ قرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فهوَ رِبًا". أمَّا الحنفيَّة فقد جاء في مُعتبرات كُتبهم التصريحُ بجواز انتفاعه بها إذا أذِن له صاحبها؛ لأنها مِلْكُه، وللمالك أن يأذن لمَن يشاء في الانتفاع بملكه. ويقولون: إن الانتفاع بالرهْن انتفاع جَرَّهُ الإذْن ولم يَجُرَّهُ القرْض فلا يكون حرامًا.(1/416)
الإذْن الصُّوريُّ لا قيمة له في رأينا:
وما دام كلامنا في الحلال والحرام، فالذي نراه أن هذا الإذْن إنْ كان منشؤه مَحْضَ التبرُّع المبني على مَحبَّة مُقابلة الجميل بالجميل، وتبادُل التعاون على الخير، حَلَّ للدائن أن ينتفع به. وإنْ كان منشؤه اضطرار المَدِين إليه دفعًا لضغطِ الدائن عليه، وهو في عُسْرةٍ مالية يستحقُّ بها المَعونة مِن أخيه كان إذنًا صوريًّا لا يدلُّ على الرضا وطِيبِ النفس.
وإذنْ. فلا يحلُّ للدائنِ أن يستند إلى هذا الإذْن الصُّوريِّ في استغلال أخيه المُضطر المَقْهور.
ولا شكَّ أن انتهاز فُرَصِ الضرورة، لاستغلال المُعْدم، هو الروح الخبيث الذي لأجلهِ حَرَّمَ الله الربا (وإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ). (الآيتان: 279 ـ 280 من سورة البقرة).
كيف وقد تمتدُّ عُسرة المدين الواقع في الضرورة مدةً تَصِلُ فيها منفعة العيْن المرهونة إلى أضعاف الدَّيْنِ المُضاعفة، يستغلُّها الدائن باسم الإذْن القَهْرِي مع بقاء دينه كاملًا على المَدين، وكثيرًا ما خَرِبتْ به بيوتٌ وافتقَر مُلَّاكٌ.
وفي الحق أنه إذا دار الأمر بين الانتفاع بالرهْن على هذا الوجه، وبين الفائدة للدَّيْنِ التي يسمح بها القانون كانت تلك الفائدة أقلَّ ضررًا وحُرمةً مِن هذا الرهن، الذي يجب منْعه، قطعًا لأطماع المُستغلينَ لضرورات الناس، ومُحافظةً على بيوت المُضطرينَ من الخراب.
وبما أن أكثر ما يجري بين الناس الآنَ في رهن الأرض هو من هذا النوع ـ الاستغلالي ـ فإنه ولا شك يكون حرامًا، ويَمْقُتُهُ دِينُ الرحمة والتعاون.(1/417)
في كتب الفقه:
ومِن قبلُ شَكَا العلماء في مصر من انتشار هذه المُعاملة المَحظورة، قال الصاوي من المالكية: "وممَّا عمَّتْ به البَلْوَى في مصرَ جميعِها ـ حتى لم يقدر أحدٌ من أهل العلم على رفعه ـ أن يبذل الرجلُ لآخرَ دراهمَ، ثم يأخذ منه أرضًا زراعيةً أو حائطًا: "بستانًا" رَهْنًا، على أن يزرع الأرض أو يأخذ ثمر الحائط ما دامت الدراهم في ذمة آخذِها، ثم زادوا في الضلال إلى أنه إذا ردَّ آخذُ الدراهم ما في ذِمَّته ليأخذ أرضه أو حائطه توقَّف مُعطيها في القبول، فتارةً يشتكيه إلى أُمرائها ليَنصروا الباطل، وتارةً يُصالحوه على دفع شيء له ليستمر على ذلك السَّنةَ أو السنتينِ أو الأكثر. فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون". (ص: 103 الشيخ الصاوي).
"قوله: على أن يزرع الأرض إلخ" وقال الدردير: مسألة رهن الأرض والحائط هي المسماة بين الناس بالفاروقة، وهي مَمنوعة مطلقًا ولو شرط المنفعة في مدة معينةٍ؛ لأنها في قرْض لا بيعٍ. ولا ينفعه أن يقول: وهَبْتُكَ المنفعة ما دامت دراهمكُ عليَّ؛ لأنها حيلةٌ باطلة عندنا وهي من الربا، فيجب على واضع اليد على الطين في نظير دراهمه الإقلاع عنه وترْكه لصاحبه. والاستمرار عليه مُحرَّم. ولكن إذا دَفع وزَرع الأرض يكون الزرع له وعليه أُجرة مثل الأرض لصاحبها، فيُقاصِصه بها مِن أصل الدَّيْنِ الذي عليه، فإن كان يدفع الخراج للمُلتزم وكان قدْر أُجرة الأرض لا يلزمه أجرة لربها كما قدَّره الأشياخ. (103 ـ 104 من الشرح الصغير للشيخ: الدردير).(1/418)
حرِص النبي على تميُّز المسلمينَ:
يبلغ الثامنة والثلاثين مِن عُمره وقد ابْيَضَّ شعرُه كله، فهل لو صبغ شعره تكون في ذلك حُرمةٌ؟
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شديد الحِرْص على تميُّز المسلمين عن غيرهم في شخصيتهم الظاهرة. وبذلك يحتفظون بتميُّزهم في الشخصية الباطنة، فلا تقترِب العقائد من العقائد، ولا الأخلاق من الأخلاق، ولا التقاليد مِن التقاليد. ذلك أن التشابُه في الأمور الظاهرة سبيل لمُسارقة النفوس للتشابُه في الأمور الباطنة، ومِن ذلك نرى المسلمين الذين تكثُر مُعاشرتهم للأجانب أضعف اهتمامًا بشئون الدِّين مِن غيرهم، ونرى غير المسلمين الذين يُكثرون من مُعاشرة المسلمين أقرب إلى احترام المسلمين واحترام دِينهم من غيرهم.
هذا وجه. ووجه آخر هو أن المشابهة في الظاهر تُحدث ألْفةً ومودةً. ومن ذلك نرى الرجلين إذا اجتمعَا في بلد غريبٍ، وكانَا من بلد واحد تقوى بينهما الأُلْفة، وإن لم يكونَا مُؤتلفينِ في بلدهما. وكذلك نرى الألفة تربط بين الرجلين متى كانت بينهما مُشابهة، ولو في العِمامة أو الثياب أو الشعر، ويَعرف كلَّ ذلك الشرقيون المُحافظون على زِيِّهِمْ الشرقي إذا تَلاقَوْا في بلد غربيٍّ، لأهله زيٌّ غير زِيِّهم.
ومِن هنا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في الدور الأول لتكوين أمته، ولمُساكنِيهم في المدينة عاداتٌ خاصة عُرفوا بها ـ كان يأمر أصحابه بمُخالفة غيرهم في كثيرٍ من الشئون الظاهرة، احتفاظًا بتميُّز الشخصية التي يرتبط بها كثيرٌ من الأحكام، كإعفاء اللِّحْيَة، وقصِّ الشارب، والصلاة في النعال، وقيام الإمام في المِحراب، وغير ذلك مما نرى تعليل الأمر به والإرشاد إليه بكلمة: "خَالِفُوهُمْ".(1/419)
صَبْغُ الشَّعر:
وكان مما أرشدَ النبيُّ إلى فعله، بناء على هذا الأصل في التشريع الشعاري للجماعة، أمرُه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بصَبْغِ الشعر في اللِّحْية أو الرأس إذا اشتعلَ شيبًا، كشأن هذا السائل. وقد ثبَت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إنَّ اليهود والنصارى لا يَصبغون فخَالِفُوهمْ". وقال: "إنَّ أحسنَ ما غيَّرْتُمْ به هذا الشيْب الحِنَّاءُ والكَتَمُ". والكتَم: نبْتٌ يظهر في الجبال يخرج منه صبْغٌ أسودُ يميل إلى الحُمرة.
ومن هنا قال العلماء: إن الصبْغ سُنَّةٌ أو مُستحب. وقد كثُر اشتغال السلف به، ونرى المُؤرخين في تراجم الصحابة والأئمة يقولون عن فلان: كان يُخضِّب، وعن غيره كان لا يُخضب، وقالوا: إن في الخضاب فائدتينِ: تنظيفُ الشعر، وتحقيق المُخالفة التي يخشى من تركها.(1/420)
الصبْع بالسواد:
غير أن بعضهم قال بكراهة الخِضاب السَّواد أو حُرْمته؛ أخذًا من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأْن أبي قُحافة؛ والد أبي بكر ـ وكان شعرُ لِحْيَتِهِ ورأسِه شديدَ البياض: "غيِّروهما وجنِّبُوهُ السَّوَادَ". ولكن جمهور الفقهاء رأوا أن هذا خاصٌّ بمَن كان كأبي قُحافة طاعنًا في السِّنِّ، وشديد بياضِ الشعر، أما مَن لم يكن كذلك فلا بأسَ أن يَصبِغ السواد، وقد صبَغ به جماعةٌ من الصحابة والتابعين، صبغ به عثمان والحسن والحسين، وعُقبة بن عامر، وصبغ به ابن سِيرين وأبو برَدة وغيرهم، واستحبَّه الجميع عند مُلاقاة الأعداء في الحروب.
ومُجمل القوْل أن الأمر في الصبْغ ولونه أيْسر مِن أن يتشدَّد فيه مُتشدِّد، فيرى منعه أو إباحته، أو يرى منعه بلون خاصٍّ وإباحته بلون آخر. فللسِنِّ والهيئة والتناسُب والبواعث والإلْف. لكلِّ ذلك دخل في حُسن الاختيار في الصبْغ أو عدمه، وفي اللون الذي يُصبغ به، وهو على وجهٍ عام من الشئون الزمنية البشرية التي لا يُحتمها أو يمنعها الدِّين.(1/421)
الأغذية المُحرَّمة في القرآن مكيِّة ومدنيِّة:
ما هي المُحرمات من الطيور والحيوان في القرآن والسُّنة، وما أسباب هذا التحريم؟
لم يُحرم القرآن شيئًا من الغذاء والحيوان سوى أنواع أربعة:
أولاً: الميتة: وهي التي ماتت حتْفَ أنْفها، ومنها "المُنخنقة" و"المَوقوذة" و"المُتردية" و"النَّطيحة" و"أكِيلة السبُع" التي لم تُدرَك بالتذكية وبها حياةٌ.
ثانيًا: الدم المَسفوح: وهو الدم المَصبوب الذي يجري من المَذبوح "وليس منه الدم الباقي في اللحْم والعُروق).
ثالثًا: لحْم الخنزير: والمراد به كل ما فيه من لحْم وشحم.
والسبب في حُرمة هذه الثلاثة أنها ـ كما ثبت طبيًّا وأخلاقيًّا ـ ضارة بالأبدان، مولِّدةً للأمراض، مُفسدة للأخلاق.
رابعًا: المذبوح الذي ذُكِر عليه اسمُ غير الله، والسبب في تحريم هذا قصد المُحافظة على عقيدة التوحيد والإيمان بالله وحده.
وقد جاء تحريم هذه الأنواع أولاً في سورتين مكيتين: سورة الأنعام وفيها: (قُلْ لا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّمًا علَى طاعمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أنْ يكونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ أو فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ). (الآية: 145 من سورة الأنعام).
وفي سورة النحل وفيها: (إنَّمَا حرَّمَ عليكمُ الميْتةَ والدَّمَ ولحمَ الخِنْزِيرِ ومَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللهِ بِهِ)؟ (الآية: 115 من سورة النحل) ثم جاء ثانيًا في سورتين مدنيتين: سورة البقرة وفيها: (إنَّمَا حرَّم عليكمُ الميتةَ والدَّمَ ولحْمَ الخِنزِيرِ وما أُهِلَّ بهِ لغَيْرِ اللهِ). (الآية: 173 من سورة البقرة). وسورة المائدة وهي من أواخر ما نزل من القرآن وفيها قيل: أحِلُّوا حلالَها وحرِّمُوا حرامَها ـ (حُرِّمَتْ عليكمْ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنزِيرِ ومَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللهِ بِهِ). (الآية: 3 من سورة المائدة). ثم فُصِّلتْ أنواع المَيتة: المُنخنقة وأخواتها.(1/422)
دلالة الآيات على حِلِّ ما عدَا الأربعة المذكورة:
ويُلاحظ أن الآيات كلها جاءت بطريق الحصْر الذي يدلُّ على أن هذه الأربعة مُحرمة، وعلى أنه لم يُحرم غيرها، كما يُلاحظ أن مَجيئها في مكِّيِّ القرآن ومدنيِّه بصيغةٍ واحدة يدلُّ على أن تحريمها وعدم تحريم غيرها هو شرْع الله الدائم المُستقر المؤكد، الذي لا يَطرأ عليه نسْخ ولا تقييد. وقد رَوى ذلك ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: "ليس مِن الدوابِّ شيءٌ حرامٌ إلَّا ما حرَّم اللهُ في كتابِه: (قُلْ لا أجِدُ فيمَا أُوحِيَ إليَّ مُحرَّمًا على طاعمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً..). كما رُوي مثله عن ابن عمر وعائشة والشعبي حينما سُئلوا عن حُكم هذه الأربعة من الحيوانات.
وإلى هذا ذهب جمهورٌ مِن الفقهاء، ووقفوا في التحريم عند ما تضمَّنتْه هذه الآيات.(1/423)
أحاديث واردة في الموضوع:
نعم. ورَد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهَى أو حرَّم لُحوم الحُمر الأهلية، وأنه نهى عن أكْل كل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مِخلب من الطيور، وأنه نهى عن أكل الهِرَّةِ وأكل ثمنها. وقد أخذ بهذا جماعة من الفقهاء فحكموا بحُرمة ما ورد أن النبي نهَى عنه أو حرَّمه. وقد أخذ بعضهم من الأمر بقتْل بعض الحيوانات ـ كالحيَّة والعقرب والفأر والكلب العَقُور ـ حُرمة أكلها.(1/424)
الأحاديث تُفيد الكراهية لا الحُرْمة:
والحق الذي نراه أن الأمر بقتْل الحيوان ليس دليلًا على حُرمة أكْله، وأن الآيات الواردة في مكيِّ القرآن ومدنيِّه لا تنهض حكايةُ النهي أو الحرمة على تغيير معناها، وأن غاية ما تُفيده تلك الأحاديث إنما هو الكراهة لا الحُرمة، وثُبوت الحرمة يقتضي أن يكون الدليل قطعيًّا في وُروده ودلالته، وليس في هذه الأحاديث شيءٌ بهذه المثابة. وإذنْ فالحق أن الحُرمة قاصرةٌ على ما تضمنتْه الآيات من الأنواع الأربعة، وأن ما عداها ـ مما وردت حكايةُ تحريمه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس إلا مَكروهًا على الأكثر.(1/425)
آراء العلماء في التبْغ الدخان:
إن التبْغ لم يُعرف في بلاد المسلمين إلا في أوائل القرن الحادي عشر من التاريخ الهجري، أيْ مِن نحو: أربعة قرونٍ تقريبًا. ومِن هنا لم يُؤثر عن أحدٍ من الأئمة المُجتهدينَ ـ فضلًا عمَّن تقدَّمَهم ـ رأيٌ في حُكمه، لا بالحِلِّ ولا بالحُرمة.
وقد تكلَّم في حُكمه علماء الوقت الذي ظهر فيه، ولم يتَّفقوا في نظرتهم إليه شأنهم في كل جديدٍ لم تُعرف حِكمتُه وقت التشريع.
فحَكم بعضهم بحِلِّهِ؛ نظرًا إلى أنه ليس مُسكرًا، ولا مِن شأنه أن يُسكر، ونظرًا إلى أنه ليس ضارًّا لكلِّ مَن يتناوله. والأصل في مثله أن يكون حلالًا ولكن تطرأ عليه الحُرمة بالنسبة فقط لمَن يضرُّه ويتأثَّر به.(1/426)
رأيُ القائلينَ بالحُرْمة أو الكراهة رأيٌ قويٌّ:
وحَكم بعضٌ آخر بحُرمته أو كراهته؛ نظرًا إلى ما عُرف عنه من أنه يُحدث ضعفًا في صحة شاربه، يُفقده شهوةَ الطعام، ويُعرِّض أجهزته الحيوية أو أكثرها للخلل والاضطراب. وخاصةً جهاز القلب والرئتينِ. ومِن قواعد الإسلام العامة أنه يُحرِّم ما يُحرِّم حِفْظًا للعقيدة أو للعقل أو للمال أو للعِرْض. وأنه بِقَدْر ما يكون للشيء مِن إضعاف ناحية من هذه النواحي، يكون تحريمه أو كراهته.
فما عظُم ضرَرُه عظمت حُرمته، وما قلَّ ضررُه قلَّتْ حُرمتُه. والإسلام يرى أن الصحة البدنية لا تقلُّ في وُجوب العناية بها عن ناحية العقل والمال.
وكثيرًا ما حرَّم الإسلام المباح إذا كان مِن شأنه أن يَغلب ضررُه، بل نراه يُحرِّم العبادة المَفروضة إذا تيقَّن أنها تَضُرُّ أو تُضاعِفُ الضَّرَرَ.(1/427)
أضرار الدخان في الصحة والمال تقتضي حظْره:
وإذا كان التبْغ لا يُحدث سُكرًا، ولا يُفسد عقلًا، غير أنَّ له آثارًا ضارة، يُحِسُّها شاربه في صحته، ويُحسها فيه غيرُ شاربه. وقد حلَّل الأطباء عناصره وعرفوا فيها العنصر السامَّ الذي يقضي ـ وإنْ كان ببطء ـ على سعادة الإنسان وهنائه. وإذنْ فهو ولا شك أذًى وضارٌّ. والإيذاء والضرر خُبْثٌ يُحظر به الشيء في نظر الإسلام. وإذا نظرنا مع هذا إلى ما يُنفَق فيه من أموال، كثيرًا ما يكون شاربه في حاجة إليها، أو يكون صرْفها في غيره أنفع وأجدَى.
إذا نظرنا إلى هذا الجانب عرفنا له جهة ماليةً تقضي في نظر الشريعة بحظره وعدم إباحته.
ومن هنا نعلم ـ أخذًا من معرفتنا الوثيقة بآثار التبغ السيئة في الصحة والمال ـ أنه ممَّا يَمْقُتُهُ الشرع ويكرهه، وحُكم الإسلام على الشيء بالحُرمة أو الكراهة لا يتوقف على وُجود نصٍّ خاص بذلك الشيء، فلعلَّ الأحكام وقواعد التشريع العامة قيمتُها في معرفة الأحكام، وبهذه العلل وتلك القواعد كان الإسلام ذا أهليةٍ قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حُكْمَه مِن حِلٍّ أو حُرْمةٍ. وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء، فحيث كان الضرر كان الحظْر، وحيث خلُص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفْع والضرر كانت الوقاية خيرًا من العلاج.(1/428)
واجب الحكومات:
وإذا كان واجب الحكومات الساهرة على مصلحة شعوبها أن تَسُدَّ ذرائع الفساد على وجهٍ عام، فإن منْع الأحداث مما يُفسد عليهم صِحَّتَهم ألْزم وأوجب، ولا ريب أن أجهزة الأحداث غضَّةٌ تقبل التأثُّر أكثر من أجهزة غيرهم، ولا تقدر على مُكافحة هذا السُّمِّ البَطيء.
هذا هو حُكم التبْغ في شربه، وهو حُكمه في زراعته وصناعته ما لم تُعرف له فوائد أخرى غير شُربه.(1/429)
الصلاة في حقل الدخان صحيحة:
وينبغي أن يُعرف أنه لا تَلازم في الإسلام بين حُرْمَةِ تناوُل الشيء أو كراهته وبين نجاسته، فكم مِن ضارٍّ يُحرم تناوُله وهو طاهر لا تفسد صلاةُ حاملِه فضلًا عن الصلاة في مكانه. بهذا يتبيَّن أن الصلاة في حقل الدخان أو مَخزنه صحيحة لا فساد فيها ولا كَراهة.(1/430)
الإسلام إنما حرم الخبائث في حالة الاختيار:
مِن العقاقير المَصنوعة في بلادٍ غير إسلامية ما يحتوي على غُدَدٍ أو عُصارات مأخوذةٍ مِن الخنزير. فما حُكم الشرع في تَعاطيها؟
حرم الإسلام شُرب الخمر حفظًا للعقول، وحرم الدم المسفوح، والميتة والخنزير، حفظًا للصحة. وقد جاء كل ذلك صريحًا في القرآن الكريم: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصاب ُوالأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشيطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفْلِحُونَ). (الآية: 90 من سورة المائدة). (قُلْ لا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّمًا علَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أنْ يَكونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّهُ رِجْسٌ). (الآية: 144 من سورة الأنعام).
وقد جاء عقب تحريم هذه المَطعومات قوله ـ تعالى ـ: (فمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فإنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رحيمٌ). (الآية 145 من سورة الأنعام). وفي تعبير آخر: (فلا إثْمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ). (الآية: 173 من سورة البقرة).
ودلَّ هذا التعقيب، الذي هو بمَثابة الاستثناء، على أن تحريم ما حرَّمه اللهُ مِن هذه المعلومات إنما هو في حالة الاختيار؛ حيث لا ضرورة تُلجئ إلى تناوُل شيءٍ منه. ودلَّ على أنه إذا وُجدت الضرورة التي تدعو إلى تناوُل شيء منه أُبيح تناول ما تدعو إليه الضرورة، إبقاءً للحياة وحفظًا للصحة ودفعًا للضرر.
ومِن هنا يُؤخذ أن شريعة الإسلام تُبيح للمسلم أن يُزيل الغُصَّة بتناوُل الخمر إذا لم يجد ما يُزيلها سوى الخمر.(1/431)
الإسلام إنما حرم الخبائث في حالة الاختيار:
مِن العقاقير المَصنوعة في بلادٍ غير إسلامية ما يحتوي على غُدَدٍ أو عُصارات مأخوذةٍ مِن الخنزير. فما حُكم الشرع في تَعاطيها؟
حرم الإسلام شُرب الخمر حفظًا للعقول، وحرم الدم المسفوح، والميتة والخنزير، حفظًا للصحة. وقد جاء كل ذلك صريحًا في القرآن الكريم: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصاب ُوالأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشيطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفْلِحُونَ). (الآية: 90 من سورة المائدة). (قُلْ لا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّمًا علَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أنْ يَكونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّهُ رِجْسٌ). (الآية: 144 من سورة الأنعام).
وقد جاء عقب تحريم هذه المَطعومات قوله ـ تعالى ـ: (فمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فإنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رحيمٌ). (الآية 145 من سورة الأنعام). وفي تعبير آخر: (فلا إثْمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ). (الآية: 173 من سورة البقرة).
ودلَّ هذا التعقيب، الذي هو بمَثابة الاستثناء، على أن تحريم ما حرَّمه اللهُ مِن هذه المعلومات إنما هو في حالة الاختيار؛ حيث لا ضرورة تُلجئ إلى تناوُل شيءٍ منه. ودلَّ على أنه إذا وُجدت الضرورة التي تدعو إلى تناوُل شيء منه أُبيح تناول ما تدعو إليه الضرورة، إبقاءً للحياة وحفظًا للصحة ودفعًا للضرر.
ومِن هنا يُؤخذ أن شريعة الإسلام تُبيح للمسلم أن يُزيل الغُصَّة بتناوُل الخمر إذا لم يجد ما يُزيلها سوى الخمر.(1/432)
التداوي بالمُحرمات:
وتكلَّم الفقهاء بمناسبة ذلك على التداوي بالمُحرَّم، والصحيح مِن آرائهم ما يلتقي مع هذا الاستثناء الذي صرَّح به القرآن في آيات التحريم: (فمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثْمَ عليهِ). ونُزولًا على حُكم قوله: (غيرَ باغٍ ولا عادٍ) كانت الإباحة مَقصورة على القدْر الذي يزول به الضرر، وتعود به الصحة ويتمُّ به الصلاح، ومِن ذلك اشترطوا شرطينِ:
أحدهما: في الطبيب الذي يُعالج ويصف الدواء، وهو أن يكون طبيبًا إنسانيًّا حاذقًا مَعروفًا بالصدق والأمانة.
والآخر: ألا يُوجد مِن غير المُحرَّم ما يقوم مقامه في العلاج ليكون مُتَعَيِّنًا، ولا يكون في متناوله أو الإشارة بتناوله بغْيٌ على التشريع، ولا عدوان يتجاوز به قدْر الضرورة، وهذا هو الصحيح الذي نُفتي به، ولا فرق فيه بين مُحرَّمٍ ومُحرَّم، فالخمر والميتة والغدد أو العصارات المتخذة من الخمر وهي محل السؤال، كل ذلك سواءٌ في حِلِّ التداوي به متى تعيَّن دواء من مثل الطبيب الذي وصفناه.(1/433)
يُسْرُ الإسلام:
ومِن هنا. المُقرَّر في الإسلام أن الضروراتِ تُبيح المَحظورات. وقد كان مِن يُسر الإسلام وسماحته ـ في الفروض والواجبات ـ جواز ترْكها أو تأخيرها عن وقتها إذا ترتَّب على فعلها للإنسان ضررٌ أو خِيفَ بغلبة الظن ـ أخذًا من التجارِب ـ أن يترتَّب على ذلك ضررٌ.
نرى ذلك في استعمال الماء للطهارة، وفي الصوم، بل وفي الصلاة، إذا خيفَ الضررُ مِن شيء منها (يُريدُ اللهُ بكمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكمُ العُسْرَ). (وما جَعَلَ عليكمْ في الدِّينِ مِن حَرَجٍ).
وهذا هو أصلٌ مِن أصول التشريع في الإسلام يَبني عليه، حينما يُحرم ما يحرم، وحينما يُبيح ما يُبيح.(1/434)
لعنة شارب الخمر وعاصرها:
رجل يعمل في نقل الخمور مِن السفن إلى الميناء وبالعكس، ويسأل إذا كان هذا العمل لعنةً على حدِّ قوْل العلماء: "شارب الخمر، وعاصرها، وبائعها وحاملها مَلعونونَ"؟
لنا مع صاحب هذا السؤال ومع جميع المسلمين كلمتانِ:
أُولاهما: أن لعنة شارب الخمر وعاصرها وبائعها وحاملها ليست مِن قول العلماء، وإنما هي مِن قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد رَوى ذلك عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أربعةٌ من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهم ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وأنَسٌ. واللفظ الوارد في رواية ابن عمر هو: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لعنَ اللهُ الخمرَ وشاربها، وساقيها وبائعَها، ومُبتاعها وعاصرها، وآكلَ ثَمَنِها، ومُعتصرها وحاملَها والمَحمولَة إليه". والمراد بمُبتاعها: مشتريها. والمراد بمُعتصرها: طالِب عصْرها، أي عصْر عنَبِهَا مَثَلًا.(1/435)
إذا حرَّم الإسلامُ شيئًا حرَّم الوسيلة إليه:
أما الكلمة الثانية فهي الجواب عن السؤال، وليعلمْ أولاً: أن الشريعة الإسلامية إذا حَرَّمَتْ شيئًا على المسلم حرَّمت عليه أن يفعل وسائله التي تُفضي إليه، ومِن هنا حرَّم النظر إلى مَحاسن المرأة الأجنبية ومَفاتنها، وحرَّم الخَلْوَةَ بها في مكان خاص؛ لأن النظرة والخلوة وسيلتانِ إلى الوقوع في المُحرم، وهو المُخالطة الشرعية. وحرَّم الخطوات التي يخطوها المسلم في سبيل وصوله إلى مكان الشراب المحرم بقصد أن يشربه، وهكذا يُحرم الإسلام على المسلم كلَّ وَسيلة يَصلُ بها إلى مُقارفة شيءٍ مُحرَّمٍ عليه، وهذا بالنظر إلى الشخص الواحد.(1/436)
فاعل الوسيلة إذا لم يَقصد الإعانة على المَعصية:
أما إذا فعل الوسيلةَ شخصٌ، وفعل المُحرم شخص آخر، فإن فاعل الوسيلة إذا كان يقصد بفعلها تمكين الآخر من فعْل المُحرَّم كان فعلها مُحرَّمًا عليه، وكانت اللعنة لاحقةً به ولا شك، ومثال هذا: أن يُعطي إنسانٌ لإنسانٍ آخر سلاحًا ليقتلَ به بريئًا، أو يُهيئَ له مكانًا ليقتله فيه، فهو شريكٌ بالإعانة على المُحرَّم، وبتهيئة وسائله. أما إذا فعل الوسيلة دون أن يدخل في حسابه قصد تمكين غيره من المعصية، وإنما قَصَد فقط أن يقوم بعملٍ يستأجر عليه ويأخذه غيره ولا علاقة له ولا تفكير في فعل المُحرَّم، ولا فيمَن يفعل المحرم، كانت الحُرمة واللعنة خاصتينِ بمَن باشر المُحرم دون أن يلحقه شيءٌ منها، واستحقَّ هو الأجر وكان له حلالًا طيِّبًا، وهذا هو تخريج الإمام أبي حنيفة لهذا الحديث وأمثاله، مما تضمَّن لعنةَ مَن يفعلون وسائلَ المُحرَّمات التي يفعلها غيرهم.(1/437)
هؤلاء العمال لا يقصدون إعانةً على مُحرم:
ونحن نرى هذا الرأْي ونُفتي به بالنسبة إلى هؤلاء العمال، الذين يشتغلون في تفريغ السفن وشحْنها، وإنْ كان التفريغ والشحن لصناديق الخُمور، أو لقِطعان الخنازير، فإنه مِن الواضح جدًّا أن هؤلاء لا يَقصدون، ولا يدخل في حسابهم أن يُعينوا أحدًا على شرب الخمر أو أكل الخنزير؛ وإنما يقصدون فقط أجرَ عملهم الذي لا علاقة له بالشاربينَ ولا بالآكلينَ، والمعصية تحصل بعد ذلك بفعل فاعل مُختار، هو شارب الخمر، وآكل الخنزير. والحكم بحِلِّ أُجور هؤلاء العمال وعدم لُحوق اللعنة لهم هو ما يَقتضيه اليُسْر، ودفْع الحرَج عن الناس الذي بُنِيَتْ عليه الشريعة الإسلامية: (يُريدُ اللهُ بكمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُمُ العُسْرَ). (الآية: 185 من سورة البقرة). (وما جَعَلَ عليكمْ في الدِّينِ مِن حَرَجٍ). (الآية 78 من سورة الحج).(1/438)
ليس التحريم خاصًّا بالسائل المشروب:
هذه الأضرار التي ظهرت للخمر وعَرفها الناس، والتي لم تظهر ويعلمها الخبير بطبائع الأشياء، هي مناط تحريمها، وإذا كانت هذه الآثار المتعددة النواحي هي مناط التحريم كان من الضروري لشريعة تبنى أحكامها على حفظ المصالح ودفْع المضار أن تُحرم كل مادة من شأنها أن تُحدث مثل تلك الأضرار أو أشد، سواء أكانت تلك المادة سائلًا مَشروبًا، أو جامدًا مأكولًا، أو مَسحوقًا مشمومًا، وهذا طريق من طُرق التشريع الطبيعية، عرَفه الإنسان منذ أدرك خواص الأشياء، وقارن بعضها ببعض، وقد أقرَّه الإسلام طريقًا للتشريع، وأثبتَ به حُكم ما عُرف للذي لم يُعرف؛ لاشتراكها في الخواص.
ومِن هنا لزِم ثُبوت تلك الأحكام في كل مادة ظهرت بعد عهد التشريع، وكان لها مثل آثار الخمر أو أشد. ومن الواضح أن قوله ـ عليه السلام ـ: "كلُّ مُسكرٍ حرامٌ". لا يُقصد به مجرد التسمية؛ لأن الرسول ليس واضعَ أسماء ولُغات، وإنما القصد منه: أنه يأخذ حُكم الخمر في التحريم والعقوبة.
وإذا كان من المُحَسِّ المشاهَد، والمعروف للناس جميعًا، أن المواد المعروفة الآن "بالمخدرات"، كالحشيش والأفيون والكوكايين، لها من المَضار الصحية والعقلية والروحية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية فوق ما للخمر كان من الضروري حُرمتها في نظر الإسلام، إن لم يكن بحَرْفِيَّةِ النصِّ فبرُوحه ومعناه، وبالقاعدة العامة الضرورية التي هي أول القواعد التشريعية في الإسلام، وهي دفْعُ المَضَارِّ، وسَدُّ ذرائعِ الفساد.(1/439)
حُرْمة المُخدِّرات:
وبذلك أجمع على حرمة "المخدرات" فقهاءُ الإسلام، الذين ظهرت في عهدهم، وتبيَّنوا آثارها السيئة في الإنسان وبيئته ونَسْله، وعرفوا أنها فوق آثار الخمر الذي حرَّمته النصوص الصريحة الواضحة في كتاب الله وسُنة رسوله، وحرَّمه النظرُ العقلي السليم.
قرَّروا حرمتها، وقرروا عقوبة تناولها، كما قرروا حرمة الاتِّجار بها وعقوبة المُتجرين. وقرروا أن استحلالها كاستحلال الخمر، وقد جاء في كُتبهم: "ويحرم أكْل البنْجِ والحشيش والأفيون؛ لأنها مفسدة للعقل، وتصدُّ عن ذِكْرِ الله وعن الصلاة، ويجب تعزير آكلِها بما يَرْدَعُه".
وقال ابن تيمية: "إن فيها مِن المفاسد، ما ليس في الخمر، فهي أولَى بالتحريم، ومَنِ استحلَّها، وزعم أنها حلالٌ فإنه يُستتاب، فإنْ تاب وإلا قُتِلَ مُرتدًّا، لا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين". وقال تلميذه ابن القيم: "يدخل في الخمر كل مُسكر، مائعًا أو جامدًا، عصيرًا أو مطبوخًا، واللقمة المَلعونة، لقمة الفِسْقِ والفُجور التي تُحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن". ويَعني باللقمة الملعونة "الحشيشة"، هذه اللقمة التي تذهب بنَخْوَةِ الرجال، وبالمعاني الفاضلة في الإنسان، وتجعله غير وفيٍّ إذا عاهد، وغير أمينٍ إذا اؤْتُمِنَ، وغير صادقٍ إذا حدَّث. تُميت فيه الشعور بالمسئوليات، والشعور بالكرامات، وتَملؤه رُعبًا ودناءةً وخيانة لنفسه ولمَن يُعاشر، وبذلك يُصبح ـ كما ترون ـ عضوًا غير صالح في المجتمع الفاضل، بل عضوًا فاسدًا موبوءًا يسري وباؤه وفساده إلى المجتمع الفاضل فيُوبئه ويفسده. وإذنْ، فمِن أوجب الواجبات العمل على ردْعه، وِقايةً للمجتمع مِن شَرِّهِ.(1/440)
الحكومات الساهرة على مَصلحة شُعوبها:
وقد أدركت الأمم التي وصلت إليها تلك المواد وما لها مِن آثار سيئة تُقوِّض المجتمع، وقامت الحكومات الساهرة على مصلحة شعوبها بمُكافحتها، فرصدت الأموال الطائلة، وبذلتِ الجهود المُضنية في سبيل القضاء عليها وعلى المُتجرين بها، وقد أحسنتْ حكومتنا صُنْعًا بتشديد عقوبتها بما جعلها في مصافِّ الجرائم الكبرى التي تفتك بالمجتمع، وتقضي على معاني الإنسانية فيه.(1/441)
انحرافٌ آخرُ في حكم المخدرات:
ومِن هنا يكون الذين نسمع عنهم، أو يسمع الناس منهم، أن "الحشيشة وما إليها" لم يُحرمها القرآن، ولم تُحرمها سُنة الرسول، ولم يرِد عن الأئمة الأوائل شيء في تحريمها، من الذين يفترون على الله الكذب، ومِن الذين يقولون على الله بغير علْم، ومِن الذين يعملون على إفساد المجتمع الإسلامي، عن طريق دَسِّ السمِّ في الدَّسَم، وبذلك تكون جريمتهم مُضاعفة، جريمة إفساد المجتمع، وجريمة الافتراء على الله، وجريمة استخدام الدِّين في الشهْوة والهوى وإفساد المسلمين.
نعم. لم يرِد في القرآن ولا في أقوال الرسول ـ عليه السلام ـ ولا أقوال الأَئمة المُتقدمينَ شيء خاص بتلك المواد، لا في حِلِّهَا ولا في حُرمتها؛ لأنها لم تكن معروفة في زمَنهم جميعها، وإنما ظهرت كما قال الإمام ابن تيمية فيما بين المائة السادسة والمائة السابعة من الهجرة، حينما ظهرت دولة التتار. وإذا كانت قواعد التشريع في الإسلام معروفة، وأن تحريم الخمر ليس تعبديًّا، وإنما كان محرمًا لمَا فيه من الضرر، كانت تلك المواد ـ ولا شكَّ ـ مُحرمة في نظر الإسلام، وكان تحريمها مِن نوع تحريم الخمر إنْ لم يكن أشدَّ.(1/442)
أملٌ ورجاء في منْع الخمور:
أما بعدُ:
فهذا هو حُكم الإسلام في كل ما أسْكر، وفي كل ما يَخرج بالإنسان عن إنسانيته. وإذا كانت حكومتنا قد وُفِّقت فاتَّخذت العدة القوية لحفظ المجتمع من "اللقمة الملعونة"، وكان تحريمها في نظر الشرع والدين أثرًا ضروريًّا من آثار تحريم الخمر، فإني أعتقد أنها تُقدر ما للخمر من آثار مفجعة في الصحة، وفي العقل، وفي المال، وفي الأسر وفي الأبناء والأحفاد، وأَعتقد أيضًا أن نهضتنا الإصلاحية ـ التي ستتناول بإذن الله وتوفيقه جميع فروع الحياة ـ لابد أن يكون من عُمُدِها ووسائلها مُحاربة الخمر بجميع أنواعه، كما حاربت الحشيشة وأخواتها، محاربةً تُطهر المجتمع من آثارها السيئة.
ونرجو أن نرى قريبًا أن قوى المُكافَحة ـ التي تُوجهها وتُرسل شُواظها نحو المخدرات ـ اتَّجهت أيضًا إلى مكافحة "أم الخبائث" شُرْبًا وتجارةً واستيرادًا.
(يا أيُّها الذينَ آمنوا اسْتَجِيبُوا للهِ وللرَّسُولِ إذَا دَعَاكمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).(1/443)
قيمة العقل في حياة الإنسان:
يُشكك بعض الناس في حُرمة الخمر، مُستندينَ إلى أنها لم تذكر في القرآن بلفظ التحريم الصريح؛ فهل لنا أن نعرف جوابًا شافيًا في هذا الموضوع؟
نحن لا نشكُّ ولا يشك أحدٌ مِن الناس أن سعادة الإنسان مَعقودة بحِفظ عقله، والعقل من الإنسان كالقُطب من الرَّحَى، أو الشمس من الكون، أو الروح من الجسد، به يَعرف الخير من الشر، والضارَّ من النافع، والهُدى من الضلال، وبه رَفَع الله شأن الإنسان، ففضَّله وكرمه على كثير من خلْقه: خاطبه وكلَّفه واستخلفه في الأرض، وجعله مسئولًا أمامه عمَّا يأتي وعما يَذَرُ، وحِفْظًا لهذه النعمة الكبرى حرَّم الله عليه أن يندفع مع شهْوته الفاسدة إلى تناوُل ما يُفسد تلك النِّعْمة أو يُضعفها، فيُحرم من آثارها الطيبة، وينزل عن المكانة السامية التي وضَعه الله فيها.(1/444)
حُرْمة الخمر قطعية لا شك فيها:
ومِن أجل ذلك علَّق الإسلام بالخمر جملةً من الأحكام، تتلاقَى جميعُها وتتعاون على إنقاذ العقل المُؤمن مِن شَرَكِ تلك المادة الخبيثة، وبالاستقراء كان للخمْر في الإسلام عدة أحكام.
فأولها الحُرمة القطعية، وقد ثبتت بالقرآن، والقرآن هو المصدر الأول لتشريع الأحكام. وثبتت بالسُّنة، والسنة: هي المصدر الثاني لتشريع الأحكام، تُبيِّن مُجمل القرآن، وتُثبت ما لم يَعرض له القرآن. وثبتت بالإجماع، والإجماع: اتفاق أهل الدِّراية ومعرفة المصالح من الأمة، وهم أُولو الأمر المذكورون في الآية التي أشارت إلى مصادر التشريع الإسلامي، وهي قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ). (الآية: 59 من سورة النساء) والإجماع، كما جاء في هذه الآية، هو المصدر الثالث لتشريع الأحكام، وهو مبنيٌّ على الاجتهاد، وبذْل الوُسْعِ في تَحَرِّي المَصلحة التي تتوقف عليها حياة الأمة وانتظام شأنها وتقدُّمها. وهذه المصادر الثلاثة: القرآن، السنة، الإجماع مرتبة في العمل، كما هي مرتبة في الآية، فلا سُنة ولا إجماع فيما يُخالف القرآن، ولا إجماع فيما يُخالف السُّنة، فإن وُجد الحكم في القرآن فهو المصدر ولا مصدر سواه، وإن وجد في السُّنة، فهي المصدر، ولا مصدر سواها، وإن لم يوجد في القرآن ولا في السنة، فعلى الفقهاء أهل الدِّراية بقواعد التشريع العامة، وبجهات المصالح، أن يجتهدوا، فما اتَّفقوا عليه فهو الحكم ولا حُكم سواه ما دام أساس الحُكم عند أهل النظر والشورى.(1/445)
القرآن وتحريم الخمْر:
وقد ثبتتْ حُرمة الخمر بالمصادر الثلاثة وهي مما لا يقبل التغيير لتعلُّقها بلازم لا ينفك، ثبتت بتلك الآية الصريحة: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخمْر والمَيْسِر والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشيطانِ فاجتنبُوه لعلَّكم تُفلحون إنما يُريد الشيطانُ أنْ يُوقعَ بيْنكمُ العَداوةَ والبَغضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصلاةِ فهَلْ أنتمْ مُنْتَهُونَ). (الآيتان: 90 ـ 91 من سورة المائدة) وقد احتوتِ الآية على جُملة من أساليب التحريم القوية:
فأولاً: نظَّمتْ الخمر مع مظاهر الشِّرْك في توحيد الله وعبادته، وهي الأنصاب والأزلام في سلك واحد: (إنَّمَا الخمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزلامُ).
وثانيًا: وصفتْ الجميع بأنه: "رِجْسٌ" واستخدمت كلمة إنما الدالة على أنه لا صفة لها سوى الرجسيَّة، وبتتبُّع كلمة: "رجْس" في القرآنِ لم نجدها إلا عنوانًا على ما اشتدَّ قُبْحُهُ، وعظُم عند الله تحريمه: (فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ). (الآية: 30 من سورة الحج). (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وماتُوا وهُمْ كَافِرُونَ). (الآية: 215 من سورة التوبة) (كذلكَ يجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ على الذينَ لا يُؤمنونَ). (الآية: 125 من سورة الأنعام). (فأَعْرِضُوا عنهمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ ومَأْوَاهُمْ جَهنَّمُ جزاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ). (الآية: 95 من سورة التوبة) (أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ). (الآية: 145 من سورة الأنعام). وهكذا اندرج شُرْب الخمر مع الكُفْر والكافرين، وعبادة الأوثان تحت كلمة: "رِجْسٌ".
وثالثًا: وَصفتِ الآيةُ الخمْرَ بأنها مِن عمل الشيطانِ، وهو كنايةٌ في اللسان العربي، وفي الأسلوب القرآني، على غايةِ القُبْحِ، ونهاية الشرِّ.(1/446)
ورابعًا: أمرتِ الآيةُ باجتنابه (فَاجْتَنِبُوهُ). ومعناه: أن تكون الخمرُ في جانب، والمُؤمن في جانب منها، بحيث لا يَقرَبُها، فضلًا عن أن يتَّصِلَ بها، فضلًا عن أن يتناولها.
وخامسًا: علَّقت الآية على اجتنابه رجاءَ الفلاح، والفلاح يتضمَّن السلامة من الخسران والحصول على خيرَيِ الدنيا والآخرة، وأرشد ذلك إلى أن الاقتراب من الخمر يُوقع في الخسران العام المُطلق.
وسادسًا: أرشدتِ الآية إلى أثره السيئ في علاقة الناس بعضهم مع بعض، يقطع الصلات، ويُعد لسفك الدماء وانتهاك الحُرمات (إنَّما يُريد الشيطانُ أن يُوقِعَ بينكم العداوةَ والبَغضاءِ في الخمْرِ والمَيْسِرِ).
وسابعًا: سجلت الآية من آثار الخمْر، بعد هذا الضرر الاجتماعي، ضرَرًا آخر رُوحيًّا، يقطع صلة الإنسان بربِّه، وينزع من نَفْسه تَذَكُّرَ عظمة الله عن طريق مُراقبته بالصلاة الخاشعة، وتذَكُّرَ جلاله وجماله، وذلك بما يترك في القلب من قَسْوَةٍ، وفي النفس من دَنَسٍ. (ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصلاةِ). وأخيرًا. تَختم الآية هذه الجهاتِ كلَّها بهذا الاستفهام التقْريعي، الدالِّ على غاية التهديد: (فهلْ أنتمْ مُنْتَهُونَ)؟ تلك أساليب التحريم التي تَضَمَّنَتْهَا آيةُ الخمر، وإنه لفِي الواحد منها ما يملأ قلب المؤمن بربِّه رهبةً من غضبه، إذا ما حدَّثتْه نفسه أن يقترب من الخمْر.(1/447)
السُّنَّة والإجْماع:
وعلى هذا المبدأ، الذي قررته الآية بتلك الأساليب المختلفة في تحريم الخمر، جاءت عن الرسول الأحاديث الصحيحة بروايات مُتعددة، وأسانيدَ مختلفة: "كلُّ مُسكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ". "لعَنَ اللهُ الخمرَ، وشارِبَهَا، وساقِيَها، وبائعَها، ومُبتاعها، وعاصرَها، ومُعتصرَها، وحاملَها، والمَحمولَةَ إليه". والأحاديث في تحريمها، وتحريم صُنعها، والاتصال بها على أيِّ نحوٍ من الأنحاء أكثر من أن تُحصَى، حتى قال العلماء: ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمَجموعها رُتْبةَ التواتُر، وأجمعت الأمة من لَدُنِ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومنا هذا على تحريمها، وبذلك استقرت الحُرْمة حُكْمًا للخَمْر في الإسلام، وصارت حُرمتُها من المعلوم من الدِّين بالضرروة، ومن لوازم ذلك أن مَن استحلَّها وأنكر حُرمتها يكون خارجًا عن الإسلام، وأن مَن يتناولها طائعًا مُختارًا يكون فاسقًا عن أمر الله، خارجًا على حُدوده، عاصيًا لأحكامه.(1/448)
منكر تحريم الخمر فهو خارج عن الإسلام:
وهذا هو الحكم الأول من أحكام الخمر في الإسلام، بيَّنه الله في كتابه، وشرحه الرسول في سُنته، وأجمع عليه سلف الأمة وخلفها إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين إن شاء الله.
فمَنِ استحلَّ الخمر بعد هذا التحريم الذي تعددت مصادره وتنوعت طرقه، وقويت أساليبه، وانتشر أمره انتشارًا لا يُمكن أن يَخفَى على مسلم في بلاد الإسلام فهو مُرتدٌّ عن الإسلام؛ لإنكاره مَعلومًا من الدِّينِ بالضرورة.(1/449)
الحكم الثاني تحريم بيْع الخمر:
مِن سُنة الإسلام في الأحكام أنه إذا حرَّم شيئًا حرم ما يكون ذريعةً إليه، ومن هنا حرَّم على المسلم بيْع الخمر والانتفاع بثمنها، وقد جاء ذلك صريحًا واضحًا في المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهو السُّنَّة الصحيحة، التي بلغت بمَجموعها حدَّ التواتر، وانعقد عليه المصدر الثالث وهو الإجماع.
وبذلك كان بيْع الخمر باطلًا عند جميع الأئمة، لا يترتب عليه ملكها للمشتري، ولا ملك ثمنها للبائع، وكان أكْل ثمنها أكلًا للأموال بالباطل، أيْ بوسيلة مُحرمة غير مشروعة، وقد روى ذلك مسلمٌ في صحيحه: "يا أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ يُبْغِضُ الخمْرَ، ولعلَّ اللهَ سيُنزلُ فيها أمرًا، فمَن كان عنده منها شيء فلْيَبِعْهُ، ولْيَنْتَفِعْ بِهِ". وما لَبِثُوا إلا يَسِيرًا حتى قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنَّ اللهَ حرَّم الخمر، فمَن أدركتْه هذه الآية يُريد: (إنَّما الخمرُ والمَيْسِرُ). وعنده منها شيء فلا يشربْ ولا يَبِعْ، فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طُرُقَ المدينة فسَفَكُوهَا" وكذلك رواه أحمد ومسلم والنسائي: لقِيَ النبي رجلًا يوم الفتح براوية من خمر فقال له: أما علمتَ أن الله حرَّمها؟ فأقبل الرجل على غلامه وقال له اذهب: فبِعْهَا، وكأن الرجل فهم أن التحريم قاصر على شربها، فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها، حرم بيْعها، فأمر بها، فأُفْرِغَتْ في البطْحاء".(1/450)
تحريم إهدائها والانتفاع بذاتها:
وكما حرَّم الله بيعها على المسلم حرم عليه أيضًا إهداءها إلى غير المسلم، وقد قيل للرسول بعد أن بيَّن حُرْمة بيْعها: "أفلا أكارم بها اليهود؟ فقال: إن الذي حرَّمها حرم أن يُكارَم بها اليهود".
ومِن هذا الحكم ـ وهو حُرمة بيعها والانتفاع بثمنها ـ تقرَّرتْ حُرْمَةُ الانتفاع بذاتها على أيِّ نحو من أنحاء الانتفاع عن طريق الخلط بغيرها، أو عن طريق الاستقلال فيَحرم أن تدخل في الطعام بأيِّ قدْر كان، ويحرم أن يُصَفَّفَ بها الشعر، كما تفعله بعض السيدات، ويَحرم تقديمها في موائد المسلمين مُجاملة لغير المسلم. وقد استثنى الإسلام مِن حُرمة الانتفاع بذاتها مواضع الضرورة التي تُبيحُ أكل الميتة، كإحياء النفس المُشرفة على الموت بِغُصَّة أو عطش، والاستعانة بها في الدواء إذا تعيَّنت ولم يُوجد غيرها بإشارة الطبيب الحاذق، الغَيور على شرع الله ودينه، الأمين في علْمه وطِبِّه.(1/451)
إهدار قيمتها:
ومِن حُرمة بيعها، وحرمة الانتفاع بها أيضًا، سقوط تقوُّمها في حق المسلم، بمعنى أنها لا تضمن بالإتْلاف. وما يجب معرفته هنا أن حقَّ إتلافها إنما أعطاه الإسلام للحاكمِ خاصة. ولم يُعط شيئًا منه للأفراد، دفعًا للفِتَنِ، وحَسْمًا للخُصومات، وبذلك كان للحاكم حقُّ تعزير الأفراد الذين يبيعونها دون إذْن الحاكم، حفظًا للنظام العام، ولمباشرتهم شأنًا خصَّه الشرْع بالحاكم. فعلى الحاكم وحده إتلافُ خمر المسلم، وعلى الحاكم وحده منْع المسلم من بيْعها، وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يَحرق على الخمَّارينَ بُيوتهم، قطعًا لمادة الإفساد، ومُحافظة على الشخصية الإسلامية:(1/452)
عُقوبة شاربها:
وكما قرَّر الإسلام حق إتلاف خمر المسلم، وجعله قاصرًا على الحاكم، قرر أيضًا عقوبة شاربها، وقصَرها على الحاكم، وقد أجمعتِ الأمة سلفًا وخلفًا على مشروعية العِقاب لشارب الخمْر، وعلى أنه حقٌّ واجب على الحاكم المسلم، وقد ثبت ذلك بالمصدر الثاني من مصادر التشريع، وهو السُّنة التي لا سبيل في الإسلام إلى إهدارها وعدم الاعتداد بها، ومِن ذلك ما رَوى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُتِيَ برجل قد شرب الخمر، فجُلد بجريدتينِ نحو أربعينَ، وفعله أبو بكر، فلمَّا كان عمر استشار الناس، فقيل: أخفُّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر، فجَلد ثمانين.
ومِن ذلك ما رَوى أحمد والبخاري عن السائب بن يزيد قال: كُنَّا نُؤتَى بالشارب في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي إمْرة أبي بكر، وصدْرٍ من إمارة عمر، فنَتقدم إليه فنضربه بأيدينا ونِعالنا وأرْدِيَتِنَا، حتى إذا عَتَوْا فيها وفَسَقُوا، جَلَدَ عمرُ ثمانين.(1/453)
بهذا وغيره أجمعتِ الأمة على تقرُّر عقوبة شرب الخمر، ولا نعلَم خلافًا في تقرُّر المبدأ، وإنما الخلاف في قدْرها وكيفيتها وآلتِها، وبذلك كانت نوعًا من التعزير الواجب، وقد انتقل به عمرُ إلى الزيادة والمضاعفة نظرًا لاختلاف أحوال الناس، وعملًا على أن تُثمر العقوبة ثمرتها، وهي الردْع والزَّجْرُ، وتطهير المجتمع من مادة الفساد. وقد بلغ الاعتداد بعقوبة شُرب الخمر أن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ لم يقف بها عند خصوص الشارب، بل أوقعها على من شهِد مجلس الشراب وإنْ لم يشرب، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: "رُفع إلى عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ قومٌ شَرِبُوا الخمر فأَمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانًا وقد كان صائمًا؟ فقال: به ابدءوا. أما سمعتم الله يقول: (وقد نَزَّلَ عليكمْ في الكتابِ أنْ إذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بهَا ويُستهزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا معهمْ حتَّى يَخُوضُوا في حديثٍ غيرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ). (الآية: 140 من سورة النساء).
وهكذا كانت غَيْرَةُ المؤمنين الصادقين على أحكام الله وحرماته، فاعتبرُوا يا أُولي الأبصار.
أما بعدُ:
فهذه هي أحكام الإسلام في الخمر: حرمة تناولها، حرمة الانتفاع بذاتها، حرمة إهدائها، حرمة بيعها والانتفاع بثمنها، إهدار قيمتها، وُجوب العقوبة عليها، قد بيَّناها كما أمر الله، وبيَّنَّا مصادرها، وهي مصادر التشريع الإسلامي التي أرشد إليها القرآن وصرحت بها السنة، وانعقد عليها الإجماع (فَلْيَحْذَرِ الذينَ يُخالفونَ عَن أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصيبَهمْ عذابٌ أليمٌ). (الآية: 63 من سورة النور).(1/454)
أمرانِ يرتبطانِ بالخمر:
يستبيح بعض الناس ألوانًا من النبيذ المُسكر زاعمينَ أنه ليس من الخمر المُحرمة، كما يستبيح آخرون تناول المواد المعروفة بالمُخدرات، مُستندينَ إلى مثل هذا الزعْم، فما رأيُ الإسلام؟
أمرانِ يرتبطانِ بالخمر وأحكامه تمام الارتباط، ولابد للمسلمين مِن معرفتهما حتى يكونوا على بيِّنة مِن أمر دِينهم بالنسبة لمَا تَلَوكُهُ بعض الألْسنة المُنحرفة، ذات القلوب الفاسدة، والأفكار الزائفة ـ فيما يتعلق بمعنى الخمر ومُلحقاته ـ إمَّا جهلًا وإغراقًا في الجهالة بأساليب التحريم القرآنية، والقواعد التشريعية في الإسلام، وإمَّا مُحاولةً لطمْس الحقائق الدينية الواضحة عن طريق الخداع وإلباس الحق بالباطل، انتزاعًا للمسلمين من دِينهم وطمْسًا لشعائرهم، وتحريضًا لهم على اقتحام حُرمات الله باسم الفهْم والرأي، وما هو في واقعِه إلا كيْدٌ للإسلام وخديعةٌ للمسلمين.(1/455)
الخمر كلُّ ما أسكر:
وأول هذينِ الأمرينِ هو أن الخمر في لسان الشرْع واللغة اسم لكل ما يُخمِّر العقل ويغطيه، ولا عِبرة بخصوص المادة التي يُتخذ منها، فقد يكون من العنب، وقد يكون من غيره، والأحاديث الصحيحة الواردة في الخمر واضحة في أن ذلك هو معناها: "كل مُسكرٍ حرامٌ"، "إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن العسل خمرًا، وأنا أَنْهِي عن كل مُسكر".
بيَّن الرسول معنى الخمر هكذا، وهكذا فهم الأصحاب من كلمة خمر، وبادر ـ حين نزل تحريمها المؤكد بأساليب التحريم القوية المتعددة ـ كل مَن كان عنده شيءٌ منها بإراقته دون أن ينظر إلى المادة التي اتَّخذ منها، وهكذا خطب عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: "أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمس: من العنب، والتمْر، والعسل، والحِنطة، والشعير، والخمرُ ما خامَر العقل". وكان ذلك في مَحضر كبار الصحابة وغيرهم ولم يُنكِر عليه أحدٌ منهم.(1/456)
انحرافٌ في معنى الخمر:
ومن هنا نعلم أن الذين يُعلنون في مجالسهم الخاصة ـ انقيادًا لشهواتهم، وعبثًا بالدِّين والعقول ـ أن المُحرَّم هو خصوص المُتخذ من العنب، أو منه ومن التمر لا غير، وأن المُتخذ من غيرهما لا يَحْرُم تناوُله، قومٌ لا يكترثون بلُغة الألْفاظ ودلالتها، ولا ببيان الرسول، ولا يَركنون إلى فهْم أصحابه الذين تحدَّثوا عمَّا شاهدوا وسمعوا، وهم بعد هذا كله يُغالطون أنفسهم، ويَخدعون غيرهم في سِرِّ تحريم الخمر الذي حرَّمها الله لأجله، ودِين الله بيِّنٌ واضحٌ، ولا ينبغي أن تُتَّخذَ آياته سبيلًا للهْوِ واللعب، وليس تحريم الخمر من التكاليف "التعبديَّة" التي لا يُدرك المؤمن سِرَّ تكليفه بها، وإنما هو من التكاليف المعقولة التي يلْمس الإنسان سِرَّ تحريمها، ويراه واضحًا في نفسه، وفي نفس غيره عقلًا، وصحةً، ومالًا، وكرامةً.(1/457)
سرُّ تحريم الخمْر:
أما الأمر الثاني من الأمرينِ: "موضوع الفتاوى" فهو أن الإسلام حين قرَّر حُرمة الخمر وعقوبة شاربها، لم ينظر إلى أنها سائلٌ يُشرب وإنما نظر إلى الأثر الذي تُحدثه في شاربها مِن زوال العقل الذي يُفسد عليه إنسانيته، ويَسلبه مكانة التكريم التي منحه الله إيَّاها، ويُفسد عليه أيضًا ما يجب أن يكون بينه وبين الناس من صِلات المَحبة والصفاء، ويُطوع له مع هذا انتهاك الأعراض، وقتْل النفوس، ويُعكِّر عليه صفْو المعرفة بالله، الناشئة عن مُراقبته وتَذَكُّرِ عظمتِه.
وذلك عنوانُ أضرارها الرُّوحية والاجتماعية التي حُرِّمَتْ لأجلها، كما تضمنها وأشار إليها بأساليب التحريم المتعددة القوية قوله ـ تعالى ـ من سورة المائدة: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصاب ُوالأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشيطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفْلِحُونَ . إنَّما يُريد الشيطانُ أنْ يُوقعَ بيْنكمُ العداوةَ والبَغضاءَ في الخمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصلاةِ فهَلْ أنتمْ مُنْتَهُونَ)؟.
وقد كشف البحث الإنساني، في ضوء هذا الوحي الإلهي الكريم، أنَّ للخمر مع هذه الأضرار أضرارًا أخرى، أجمع عليها الأطباء، في الكبِد والمعدة، وسائر الأجهزة، وأنَّ هذه الأضرار كان لها في القضاء على الإنسان أشدُّ ما عُرف للأمراض الفتاكة من القضاء عليه.(1/458)
الخمر أشدُّ فتْكًا بالإنسان من السُّلِّ:
وفي مُذاكراتي الخاصة بهذا الشأن نبأٌ لوكالة من وكالات الأنباء من باريس في شهر مايو سنة: 1956 جاء فيه: أذاع معهد الإحصاء القومي في فرنسا اليوم: "25 مايو" أن الخمور بدأت تقتل من الفرنسيين أكثر مما يقتل مرض السل وقال المعهد: إن 17.400 فرنسيٍّ ماتوا في العالم الماضي من الخمر، بينما لم يمت سوى 12.000 بالسُّل، ومنذ خمس سنوات كانت ضحايا السل 26.000 وضحايا الخمر 13,000.
هذا تقريرٌ رسميٌّ، عماده إحصاء المعهد القومي في فرنسا لضحايا كل من الخمر ومرض السل، وحسب الذين يميلون إلى الخمر، أو يُحاولون خديعة الناس عن حُكمها في الإسلام، أن يعرفوا ذلك ليتبيَّن لهم كيف يرحمهم الله الحكيم بتحريم الخمر، وكيف يُصورها لهم بأنها: "رِجْسٌ مِن عملِ الشيطانِ". وأي رجس بعد هذا؟
وهذا كله فوق ما يُحدثه شُربها من الأضرار الاقتصادية، التي تَذهب أموال شاربها سفهًا بغير علمٍ، إلى خزائنِ الذينَ اصطنعوها وصَدَّرُوها، وتفنَّنوا في سُبل الإعلان عنها والإغراء بها، وفوق ما تُحدثه من الأضرار الأدبية في الذهاب بالحِشْمة والوقار، واحترام الأهل والأبناء والأصدقاء، وفوق التوارُث لرِجْسيَّتها بين الآباء والأحفاد، ولهذا كله حرَّم الإسلام الخمر.(1/459)
القتْل في تقدير الإنسانية:
لا زال بعض الناس في ريفنا وصعيدنا يستهينون بجريمة القتل، ويُقْدمون عليها من أجل ثأرٍ أو عصبية أو أسباب واهية.
ومِن عَجَبٍ أن نرى في المدن ـ وخاصة بين الشباب المثقفين ـ ظاهرةً سيئة انتقلت العدوى بجراثيمها من مجتمعات أخرى، تلك هي ظاهرة الانتحار.
نرجو كلمةً شافية في بيان حكم الإسلام في مَن يعتدي على الحياة الإنسانية بقتل نفسه أو غيره.
بعث الله الرُّسل، وأنزل الكُتب، وشرع الأحكام، توجيهًا للإنسان نحو معرفته ومعرفة أسراره، التي خلق عليها العالَم، ونحو انتفاعه بما سخَّر له في الأرض والسماء على وجه لا تَطغَى فيه الشهوات ولا تتحكَّم الأهواء. وبذلك تكمل سعادتُه ويَستتب أمْنَهُ، ويعيش مع أخيه الإنسان، مُتعاونينَ مُتعاطفينَ مُتراحمينَ في ظِلِّ رحمة الله بهما، وعطفه عليهما، وهدايته لهما.
والسعادة على هذا النحو إنما تكون بسلامة جُملة من العناصر، لابد منها في أصل الحياة وقيامها، وأول هذه العناصر الأرواح، فحِفْظها حفظٌ لمَا سواها، وهدْمها هدْمٌ لمَا سواها. ولا يستقيم نِظامٌ لأموالٍ ولا لأعراضٍ ولا لعقولٍ ولا لاجتماعٍ، والأنفس مُعرَّضَةٌ للأخطار والهلاك والدمار، وهذا شأنٌ قد قَرَّ في طبائع النفوس ومُدرَكات الإنسانية الأُولى.(1/460)
ومن هنا لم يَفْتَأ الناس، منذ أن عرفوا الحياة وتكونوا جماعاتٍ، يرون ـ على رغم ما ظهر بينهم من تعارُض الرغبات والشهوات، وتمكَّن في نفوسهم من بواعث الحقد والغضب ـ أن جريمة القتل من أكبر الجرائم، يَرونها سَلْبًا لحياة المَجْنِيِّ عليه بغير حق، وتَيتيمًا لأطفاله، وتَرْميلًا لنسائه، وحرمانًا لأهله وذَوِيهِ منه، وحرمانًا له من حظِّه المُقدَّر له في الحياة. يرونها مُصادمة لإحساس الجماعة البشرية، الذي فُطرت عليه في اعتقاد أن الحياة حقٌّ لكلِّ حي، يتمتع به، وينفع، وينتفع في ظله، ولا يجوز الاعتداء عليه فيه، ولا انتزاعه منه. يرون أنها زعزعة لمَا ترجو هذه الجماعة من هدوء الحياة واستقرارها كي تنتفع بأسرارها، وتصل بها إلى سُبُلِ العِزَّةِ والكمال. وأنها فوق ذلك كله هدْم لعِمارة شادها الله بيده، وجهَّزها بما جهَّز، وسخَّر لها ما سخَّر بحِكمته ورحمته.
وبهذا استَكملت الحكمة الإلهيةُ العمارةَ الكبرى، التي تجعل الإنسان خليفةً فيها، يُعمِّرها ويُنَمِّيهَا.
ولا نكاد لهذا نعثر في التاريخ ـ مهما أغرَق في القدم ـ على جماعة إنسانية هانت عليها الأرواح، وغضَّت أبصارها عن الآثار السيئة لهذه الجريمة، فلم تغضب لها ولم تكترث بشأنها. ومِن هنا كانت حُرمة النفس البشرية من الحرمات التي تقضي بها طبيعة الإنسان في خلقه وتكوينه، وكانت قارَّةً في نفسه بمُقتضى هذه الطبيعة، وأن الشرائع السماوية، حينما جاءت بحُرمتها، لم تكن إلا مؤيدة ومؤكدة لمَا تُمليه الطبيعة على الإنسان في اعتقاد حُرْمتها.(1/461)
جريمة القتل الأولى:
وهذا هو القرآن الكريم يُحدثنا عن أول اعتداء وقع من الإنسان على أخيه الإنسان بالقتل: (واتْلُ عليهمْ نبَأَ ابني آدم بالحق إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا ولمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ لأَقْتُلَنَّكَ قالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ). (الآية: 27 من سورة المائدة) ويُصوِّر لنا القرآن في ذلك أن كُلًّا من القاتل والمقتول كان يرى ـ بمجرد عقله وتقديره ـ أن القتل جريمةٌ مُنْكَرةٌ وظُلْمٌ فَادِحٌ واعتداء مُوجب للندم، موجب لغضب الله. فالمَقتول يقول: (لَئِنْ بَسَطْتَ إليَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إليكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ . إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِن أصحابِ النارِ وذلكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ). (الآيتان: 28 ـ 29 من سورة المائدة). والقاتل يُعالج في نفسه الإقدام على الجريمة علاجَ الكاره لها، المتحرِّج منها، الواقع تحت ضغط آخر مُقابل (فَطَوَّعَتْ لهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ). (الآية: 30 من سورة المائدة). ثم نظر فوجد جُثَّةَ أخيه بجواره هامدة، فوقع في حَيْرَةٍ مِن أمرها، وماذا يصنع بها فعظمت حسْرتُه، واشتدَّ ندمه (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ في الأرْضِ لِيُرِيَهُ كيفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هذَا الغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). (الآية: 31 من سورة المائدة).(1/462)
جريمة القتْل في نظر الشرائع:
قصَّ اللهُ علينا بهذه الآيات جريمة القتل الأُولى التي وقعت بين بنِي الإنسان، وربط بها أول إرشاد سماوي ـ فيما نعلم ـ إلى قبْحها وبشاعتها، فقال ـ عز وجل ـ بعد هذه القصة: (مِن أَجْلِ ذلكَ كَتَبْنَا علَى بَنِي إسْرَائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسَادٍ في الأرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناسَ جَمِيعًا ومَن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحْيَا الناسَ جَمِيعًا). (الآية: 32 من سورة المائدة). ودرجتْ على استفظاع الجريمة جميع الشرائع السماوية والأرضية، وجاءت كلها تُقرر وتؤكد ما أدركه الإنسان بفِطْرته من حُرمة النفس البشرية، وأن قتْلها عمدًا ـ بغير حقٍّ يُبَرِّرُهُ ـ جريمةٌ فوق الجرائم كلها، جريمة لا يُقرها شرْع، ولا يتقبَّلها وضْع، ولا يَسْتَسِيغُها اجتماعٌ.
ثم جاءت الشريعة الإسلامية فعُنيت بهذه الجريمة أيَّما عناية، وأوْلَتْها كثيرًا من الاهتمام فكررتِ النهْي عنها، وشدَّدت التنفير منها، والنَّكِير لها، وبيَّنت بوَجه خاصٍّ حُكْمَهَا الدنيوي، وفصلت أهم نواحيه، وحُكمها الأُخروي، وأفاضت فيه، وكان من آيات النهي قوله ـ تعالى ـ في الوصايا العشر التي خُتمت بها سورة الأنعام المكية، والتي لم تَخْلُ منها شريعةٌ سماوية، والتي قال فيها ابن مسعود: مَن سَرَّهُ أن يَنظر إلى وصيةِ محمد التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعَالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عليكمْ ألَّا تُشْرِكُوا بهِ شيئًا وبالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا ولا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ مِن إمْلاقٍ نحنُ نَرْزُقُكمْ وإيَّاهمْ ولا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إلَّا بالحَقِّ). (الآية: 151 من سورة الأنعام).(1/463)
ثم اقرأ هذا النهْي عيْنه مع بعض تفصيلٍ لحُكم الجريمة في وصايا سورة الإسراء التي سبقت بعنوان القضاء: (وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وبالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). (الآية: 23 من سورة الإسراء). (ولا تَقْتُلُوا النفسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلَّا بالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظلومًا فقدْ جَعَلْنَا لوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فلا يُسرفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنْصُورًا). (الآية: 33 من سورة الإسراء).(1/464)
توْبةُ القاتل:
وقد جاء في الوعيد الأخروي لتلك الجريمة من سورة النساء المدنية قوله ـ تعالى ـ: (ومَن يَقُتُلْ مُؤمنًا مُتعمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جهنمُ خَالِدًا فيها وغَضِبَ اللهُ عليهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لهُ عَذَابًا عَظِيمًا). (الآية: 93 من سورة النساء). وعيدٌ تنْخلعُ لهوْله القلوب المؤمنة، وَعِيدٌ لم يُرَ مثله في جريمة غير القتْل: جهنم! وخُلودٌ فيها! وغضب الله ولعنته، وعذاب عظيم أُعِدَّ وهُيِّئَ للقاتل، كل ذلك دون أن يُردف في الآية بما يدلُّ على الغُفران عند التوبة، كما نرى في وعيد غيرها من الجرائم.
وقد أخذ بعض العلماء مِن هذا أن توبةَ القاتل غير مَقبولة، ونُقل ذلك عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وغيرهما من الصحابة. ولهؤلاء مع مُخالفيهم كلام طويل في هذه المسألة، وسواء أصحَّ رأيُهم وكانت توبته غير مقبولة أم لم يصحّ، كما هو مُقتضى النظر الصحيح في المُوازنة بين حُجج الفريقين وما يتعلق بها، فحسبنا في عِظم الجريمة عند الله أن يُذكر وعيدها على النحو الذي ذُكر في الآية، دون أن يُرْدفَ بما يدلُّ على قَبُول توبة القاتل.(1/465)
جريمة الانْتحار:
تَعَلَّقَ النهْي في آيات النهي بقتْل "النفس"، وليس مِن ريب في أن النفس التي تَكرَّر النهي في القرآن عن قتْلها بغير حق، تتناول بإطلاقها كل نفسٍ بشرية، ونفس القاتل ونفس غيره سواء، وإذا كان المألوف في الطباع البشرية أن يثور الإنسان على غيره ويغضب ويحقِد، ويشتدَّ غضبه وحقده على ذلك الغير، فتُسوِّل له نفسه أن يقتله، شفاءً لحِقْده وذات صدْره، ويكون كل ذلك من الإنسان نقصًا في إنسانيته، وشذوذًا عمَّا استقر في ضمير الإنسانية من حُرمة النفس البشرية، فإن مِن الشذوذ الفادح المُزري بالإنسانية، الذي لم تنزل إليه الحيوانات العُجْم، أن يثورَ الإنسان على نفسه بفَقْرٍ ضاقت به يدُه، أو مرض طالت به زِمَانَتُهُ، أو إخفاقٍ في مَرْغوب، أو فِتْنَةٍ مِن لَعُوبٍ، أو أيِّ ضيق كان نوعه وكان مبعثه، فلا يجد لديه عزمًا، ولا إرادةً يدفع بها الثورة على نفسه، وتعجز مواهبه الإنسانية الأُولى ـ وفساد تصوُّره لسُنن الله في الحياة عن المُكافحة، وعن الصبْر والمُصابرة ـ فيَفِرُّ من الميدان فرارَ الجبان الذي خارت عزيمتُه، وتلاشت إنسانيته. ليس مِن ريب في أن نكْبة الإنسانية بقاتلِ نفسه أثقل في الميزان مِن نكْبتها بقاتل غيره.
نعم، كلاهما قاتلٌ لنفسٍ حرَّم الله قتلها، وكلاهما هادمٌ لعمارةٍ شادَها الله، ولكن الأول قتل غيْره ليَحْيَا، والثاني قتل نفسه ليموت. وإذا كانت فكرة القتل بغير حق جُرثومةَ إفسادٍ في الإنسانية، فإن فكرة قتْل الإنسان نفسَه أشدَّ فسادًا وأعظمَ خَطَرًا، تنهال الإنسانية منها بيدها. وعلى المُصلحين أن يتكاتفوا بكل ما يَرَوْنَ مِن وسائلَ على تطهير الإنسانية في أيِّ مجتمع كان، ديني أو غير ديني، من هذه الجرثومة التي تحملُ في صُورتها ومعناها سقوط الإنسان مِن رُتبة التكريم ومقام الخلافة التي وُضِعَ فيها منذُ خُلِقَ وكُوِّنَ.(1/466)
العقاب الأُخرويُّ لقاتل نفسه:
وإذا كان القرآن قد أهمل النصَّ الصريح الخاص بالعقاب الأُخروي لقاتل نفسه فإن ذلك لم يكن تهوينًا لأمر الجريمة، ولا عنوانًا على عدم استحقاقها الجزاء، وإنما كان إسقاطًا لصاحبها عن درجة الاعتبار، وعن مكانة الاعتداد به، وإيحاءً في الوقت نفسه بأنها من الجرائم التي لا ينتظر أن يَعرفها الإنسان ولا أن يُفكر فيها، حتى تحتاج في التحذير منها إلى نهْيٍ تشريعيٍّ خاصٍّ، أو ذِكْرِ وَعِيدٍ بيِّنٍ تُتلى عبارتُه في كتاب جاء مُنظِّمًا لشئون البشرية في درجات رُشدها واكتمالها الإنساني.
ومِن هنا جاءت أحاديث الرسول ـ عليه السلام ـ الواردة في شأن الانتحار، تُسجل فقط العاقبة السيئةَ، والعذاب الأليم لقاتل نفسه، دون أن يكون من بينها نهيٌ عن ارتكاب الجريمة نفسها، وقد جاء الوعيد عليها في هذه الأحاديث ـ على نحو ما جاء في القرآن مِن وعيدِ قاتل "المُؤمن المُتَعَمِّدِ" ـ حِرْمانًا من الجنة، وخُلودًا مُؤيَّدًا في النار.
ومن ذلك ما رواه البُخاري ومسلم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كان فِيمَنْ قبلَكمْ رجلٌ بهِ جُرْحٌ فجَزِعَ فأَخذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بهَا يَدَهُ، فمَا رَقَأَ الدَّمُ حتَّى مَاتَ. قال الله ـ تعالى ـ: بَادَرَنِي عبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عليهِ الجَنَّةَ".
ومنه ما روياه ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة قال: شهِدنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه(1/467)
وسلم ـ فقال لرجلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإسلام: هذا من أهل النار، فلمَّا حضَر القتالُ، قاتلَ هذا الرجل قتالًا شديدًا، "أيْ: مع المسلمين" فأصابتْه جِراحٌ، فقيل يا رسول الله: الذي قلتَ آنفًا إنه مِن أهل النار، قد قاتلَ قتالًا شديدًا، وقد مات، فقال ـ عليه السلام ـ إلى النارِ!! فكاد بعض المسلمين يرتابُ، وقالوا: كيف يكون هذا في النار؟! فبينما هم على ذلك إذ قيلَ لهم: إنَّه لم يَمُتْ، ولكن أصابته جراحٌ شديدة، فلمَّا كان من الليل لم يصبر على الجراح، فأخذ ذُبابَ سيْفِهِ فتَحامَل عليه فقتل نفسه، فأَخبر بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: الله أكبرُ. أشهدُ أنِّي عبد الله ورسولُه، ثم أمرَ بِلالًا فنَادَى في الناس، أنَّه لا يدخلُ الجنة إلا نفسٌ مسلمة، وإنَّ الله ليُؤَيِّدُ هذا الدِّين بالرجلِ الفاجِر.
هذه نظرية الإسلام وتقديره لجريمة الانتحار. وجدير برجال التربية والتهذيب أن يُعِدُّوا لمُكافحتها في نفوس الشبان ما استطاعوا من وُجوه التقويم، وغرْس مبادئ الكفاح لمَا لا تخلو منه الحياة من الآلام، ومُصادمات الرغائب. وإن الشأن في هذه الجريمة لأكبر من أن نشغل أنفسنا بذكاء مُرتكبها أو غباوته!! فهي جُرثومة مُحقّقة، وجُرثومة مفسدة للإنسانية، وعَدْوَى نرى ميدان تَفَشِّيهَا يتَّسِعُ مِن عام إلى آخر، بل من شهر إلى شهر.
فعلينا أن نُعْنَى بمُكافحتها وأن نَسُدَّ مَنابِعَهَا، فنتَّقِي شرَّها، ونسلم مِن وَيْلِهَا، ونُؤَدِّي بذلك ما علينا من حق لأبناء مُجتمعنا الإنساني الكريم، فيَطمئن الخاطرُ، ويأمَن العاثرُ. واللهُ المُسَدِّدُ والمُعِينُ.(1/468)
حَيْرة بين المُحلِّلين والمُحرِّمين:
جاءتْني رسالةٌ من شاب يقول فيها: إنه يهوَى الموسيقى منذ نُعومة أظفاره، وأنه يَدرسها، ويجتهد في تعلُّمها، وقد فاجأه أحدُ أصدقائه بأنها حرامٌ؛ لأنها لهْوٌ يَصْرف عن الصلاة وعبادة الله، وكل لهْوٍ حرام، فقال لصديقه: إني أُصلي الصلواتِ الخمس في أوقاتها وأعبدُ اللهَ تمامًا، وأذهب إلى النادي في أوقات الفراغ لأُسَرِّي عن نفسي عناءَ العمل نهارًا والمذاكرة ليلًا، فلم يقتنع صاحبه بذلك، وأصرَّ على أن الموسيقى حرام، وأخيرًا اتَّجَهَا إلى التحكيم، وبعث إليَّ الشابُّ هذه الرسالة ملتمسًا بيان الحُكم الشرعي في الموضوع.
أرجو أن يجدَ إخواننا المسلمون في هذه الفتوى ما ينفعهم في معرفة حُكم الله بالنسبة لكثير من الأشياء التي يجرى على بعض الألْسنة أن حُكمها الشرعي هو التحريم، ويجري على البعض الآخر أن حكمها هو الحِلُّ، وبذلك وقع الناس في حَيْرَةٍ نفسية وارتباك ديني، ولم يجدوا ما يُرجح لهم أحد الجانبين، وظلوا في تردُّد بين الحِلِّ والحُرْمَة، وفيه من البلبلة ما لا يتَّفق وشأنَ المؤمنين.
ومن أمثلة ذلك هذه الرسالة التي جاءتني في شأن "تعلُّم الموسيقى وسماعها"، فهي كما سمعتم تُصوِّر رأيينِ مُختلفينِ في حكم الموسيقى، يستند أحدهما إلى كلمات تُقرأ في بعض الكتب الشرعية، أو تسمع من بعض الناس الذين يلبَسون ثوب الورَع على غير الوجه الذي يُلبس عليه، وينبع الرأي الآخر من العاطفة الإنسانية المحكومة بالعقل الديني السليم: يرى الأول ـ بالكلمات التي قرأها، أو التي سمعها ـ أن تعلُّم الموسيقى وسماعها حرام.
ويرى الثاني ـ بعاطفته الإنسانية البريئة ـ أن تعلُّمها وسماعها حلالٌ لا حُرمة فيها.(1/469)
فِطْرة الإنسان تميل إلى المُستلذَّات:
والأصل الذي أرجو أن يُتنبَّه إليه في هذا الشأن وأمثاله، مما يختلفون في حِلِّهِ وحُرمته، هو أن الله خلَق الإنسان بغريزة يَميل بها إلى المستلذات والطيبات التي يَجِدُ لها أثرًا طيبًا في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه؛ فتراه ينشرح بالمناظر الجميلة، كالخُضرة المُنَسَّقَة والماء الصافي الذي تلعب أمواجه، والوجه الحسَن الذي تنْبسط أساريرُه.
ينشرح صدرُه بالروائح الزكيَّة التي تُحدث خِفَّةً في الجسم والروح، وينشرح صدره بلَمْسِ النُّعومة التي لا خُشونة فيها، وينشرح صدره بلذَّة المَعرفة في الكشف عن مجهول مَخْبُوءٍ، وتراه بعد هذا مَطبوعًا على غريزة الحب لمُشتهيات الحياة وزينتها من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرْث.(1/470)
الشرائع لا تَقضي على الغرائز بل تنظمها:
ولعلَّ قيام الإنسان بمُهمته في هذه الحياة ما كانت لِتَتِمَّ على الوجه الذي لأجله خلَقه الله إلا إذا كان ذا عاطفة غريزية، تُوجهه نحو المشتهيات، وتلك المُتَع التي خلقها الله معه في الحياة، فيأخذ منها القدْر الذي يحتاجه وينفعه.
ومن هنا قضت الحِكمة الإلهية أن يُخلق الإنسان بتلك العاطفة، وصار من غير المعقول أن يَطلب الله منه ـ بعد أن خلَقه هذا الخلْق، وأودع فيه لحِكمته السامية هذه العاطفة ـ نزْعها أو إِمَاتتها أو مُكافحتها في أصلها.
وبذلك لا يُمكن أن يكون من أهداف الشرائع السماوية ـ في أيِّ مرحلة من مراحل الإنسانية ـ طلبُ القضاء على هذه الغريزة الطبيعية، التي لابد منها في هذه الحياة.
نعم، للشرائع السماوية بإِزاءِ هذه العاطفة مَطلب آخر، يتلخص في كبْح الجماح ومعناه: مكافحة الغريزة عن الحدِّ الذي يَنسى به الإنسان واجباتِه، أو يُفسد عليه أخلاقه، أو يَحول بينه وبين أعمال هي له في الحياة ألْزمُ، وعليه أوجب.(1/471)
التوسُّط أصلٌ عظيم في الإسلام:
ذلك هو موقفُ الشرائع السماوية مِن الغريزة، وهو موقف الاعتدال والقَصْد، لا موقف الإفْراط، ولا مَوقف التفريط، هو موقف التنظيم، لا موقف الإماتة والانتزاع. هذا أصلٌ يجب أن يُفهم، ويجب أن تُوزَن به أهداف الشريعة السماوية، وقد أشار إليه القرآن في كثير من الجُزئيات (ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ). (يا بَنِي آدمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا). (واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واغْضُضْ مِن صَوْتِكَ).
وإذنْ فالشريعة تُوجِّه الإنسان في مُقتضيات الغريزة إلى الحدِّ الوسَط، فهي لم تنزل لانتزاع غريزة حُبِّ المال، إنما نزلت بتَعديلها على الوجه الذي لا جشَع فيه ولا إسراف، وهي لم تنزل لانتزاع الغريزة في حُبِّ المناظر الطيبة، ولا المسموعات المستلذة، وإنما نزلت بتهذيبها وتعديلها على ما لا ضرر فيه ولا شر. وهي لم تنزل لانتزاع غريزة الحُزن، وإنما نزلت بتعديلها على الوجه الذي لا هلَع فيه ولا جزَع. وهكذا وقفت الشريعة السماوية بالنسبة لسائر الغرائز.
وقد كلَّف الله العقل ـ الذي هو حُجته على عباده ـ بتنظيمها على الوجه الذي جاء به شرْعه ودينه، فإذا مال الإنسان إلى سماع الصوت الحسن، أو النغم المستلذ من حيوان أو إنسان، أو آلة كيفما كانت، أو مالَ إلى تعلُّم شيء من ذلك، فقد أدَّى للعاطفة حقَّها، وإذا ما وقف بها مع هذا عند الحدِّ الذي لا يصرفه عن الواجبات الدينية، أو الأخلاق الكريمة، أو المكانة التي تتَّفِق ومركزه، كان بذلك مُنظمًا لغريزته، سائرًا بها في الطريق السوي، وكان مَرْضِيًّا عند الله وعند الناس.(1/472)
بهذا البيان يتَّضِح أن موقف الشاب في تعلُّم الموسيقى ـ مع حرصه الشديد على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها وعلى أعماله المكلف بها ـ موقف ـ كما قلنا ـ نابعٌ من الغريزة التي حكَمها العقل بشرع الله وحكمه، فنزلت على إرادته، وهذا هو أسمى ما تطلبه الشرائع السماوية من الناس في هذه الحياة.(1/473)
رأْي الفقهاء في السماع:
ولقد كنتُ أرى أن هذا القدْر كافٍ في معرفة حكم الشرع في الموسيقى، وفي سائر ما يُحب الإنسان ويهوَى بمقتضى غريزته، لولا أن كثيرًا من الناس لا يكتفون، بل ربما لا يؤمنون بهذا النوع من التوجيه في معرفة الحلال والحرام، وإنما يقنعهم عرض ما قيل في الكتب وأُثِر عن الفقهاء. وإذا كان ولابد فليعلموا أن الفقهاء اتفقوا على إباحة السماع في إثارة الشوق إلى الحج، وفي تحريض الغُزاة على القتال، وفي مناسبات السرور المألوفة كالعيد، والعُرس، وقُدوم الغائب وما إليها. ورأيناهم فيما وراء ذلك على رأيينِ: يُقرر أحدهما الحُرْمة، ويستند إلى أحاديث وآثار، ويُقرر الآخر الحِلِّ، ويستند ـ كذلك ـ إلى أحاديث وآثار، وكان من قول القائلين بالحِلِّ: "إنه ليس في كتاب الله، ولا سُنة رسوله، ولا في مَعقولهما مِن القياس والاستدلال، ما يقتضي تحريم مُجرد سماع الأصوات الطيبة المَوزونة مع آلة من الآلات"، وقد تعقَّبوا جميع أدلة القائلين بالحُرمة وقالوا: إنه لم يصحَّ منها شيء.(1/474)
رأْي الشيخ النابلسي:
وقد قرأت في هذا الموضوع لأحد فقهاء القرن الحادي عشر المَعروفين بالورَع والتقوى رسالة هي: "إيضاح الدلالات في سماع الآلات". للشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي، قرر فيها أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم ـ على فرض صحتها ـ مُقيدة بذكر الملاهي، وبذكر الخمر والقيْنات، والفسوق والفجور، ولا يكاد حديث يخلو من ذلك. وعليه كان الحُكم عنده في سماع الأصوات والآلات المُطرِبة أنه إذا اقترن بشيء من المُحرَّمات، أو اتُّخذ وسيلةً للمُحرَّمات، أو أَوقعَ في المحرمات كان حرامًا، وأنه إذا سلِم من كل ذلك كان مباحًا في حضوره وسماعه وتعلُّمه. وقد نُقل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء أنهم كانوا يسمعون، ويحضرون مجالس السماع البريئة من المجون والمُحرَّم. وذهب إلى مثل هذا كثير من الفقهاء، وهو يُوافق تمامًا في المغزى والنتيجة الأصل الذي قرَّرناهُ في موقف الشريعة بالنسبة للغرائز الطبيعية.(1/475)
وَلَعُ الشيخ العطار بالسماع:
وكان الشيخ: حسن العطار ـ شيخ الجامع الأزهر في القرن الثالث عشر الهجري ـ ذا ولَعٍ شديد بالسماع وعلى معرفة تامة بأصوله، ومن كلماته في بعض مُؤلفاته: "مَن لمْ يتأَثَّرْ برَقِيقِ الأشْعَارِ، تُتْلَى بلسانِ الأوْتَارِ، على شُطوط الأنْهارِ، في ظلال الأشجار، فذَلك جِلْفُ الطبْع حِمارٌ".(1/476)
الأصل في السماع الحِلُّ والحُرْمة عارضة:
وإذن فسماع الآلات، ذات النغمات أو الأصوات الجميلة، لا يُمكن أن يحرم باعتباره صوت آلة، أو صوت إنسان، أو صوت حيوان، وإنما يُحرم إذا استُعين به على محرم، أو اتُّخِذ وسيلةً إلى محرم، أو ألْهَى عن واجب.
وهكذا يجب أن يعلم الناس حُكم الله في مثل هذه الشئون. ونرجو بعد ذلك ألا نسمع القول يُلقى جُزافًا في التحليل والتحريم؛ فإن تحريم ما لم يُحرمه الله أو تحليل ما حرَّمه الله كلاهما افتراء وقوْل على الله بغير علم: (قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلطَانًا وأنْ تَقُولُوا علَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (الآية: 33 من سورة الأعراف).(1/477)
معنى كلمة التقاليد:
هل تقاليد الإسلام تمنع من التطوُّر؟
الأصل في التقاليد وضْع القلادة في العُنُقِ، وهي ما تَتَزَيَّنُ به المرأة، أو يُعرف بها البعير ومنه قُلِّد البعير وقُلدت المرأة.
ثم قيل: قلَّده العمل: إذا أضافه إليه وطلبه منه، وقيل: قلَّد في الرأي إذا أخذ بقولِ غيره دون حُجة، ويُقال: تقلَّدتِ المرأة، وتقلَّد فلان العملَ، وتقلَّد مذهب فلان، والمعنى في كل ذلك الْتزم ما تقلَّده من عمل أو رأْيٍ أو قِلادة.
ومن هذا قيل: تقلَّدت الأَمَة كذَا: أيْ اتَّخذتْه كالقلادة إذا الْتزمتْه وسارت عليه، وأطلق "التقليد" على نفس الشيء الذي تقلَّدتْه. وبذلك انتقلت الكلمة إلى الصورة العملية التي تتقلَّدها وتتمسَّك بها الأُمم في نواحي حياتها الاجتماعية.
ومنْشأُ التقاليد في الأُمَّة: إمَّا عُرْفٌ نَبَتَ فيها ثُم عَمَّ وانتشر، وإما مُجاراة غيرها فيها وأخذها عنه، وعلى كل حال لم تعهد الكلمة إلا في العادات التي مصدرها العُرف أو التوارُث أو النقل من جماعة أُخرى مُجاورة.(1/478)
التقاليد تختلف من أمة لأخرى:
ومِن هنا اختلفت تقاليد الأمم في النواحي الاجتماعية باختلاف العُرف أو التوارث أو النقل، وكان لكل جماعةٍ تقليد يُغاير تقليد الجماعة الأخرى، فللعرب في زِيِّهِمْ تقليدٌ، وفي موائدهم تقليد، وفي أفراحهم ومآتِمِهم تقليدٌ، وللغرب في كل ذلك تقليد.(1/479)
الدين لا سُلطان لعُرف أو تقليد عليه:
وكثيرًا ما تختلف التقاليد مع اتِّحاد الدين ووحدة أحكامه؛ ودلَّ ذلك على أن التقاليد شيء والدين شيء آخر. ولو وُضِعَ الدِّين موضع التقاليد أو أُطلقت على الدِّين لمَا كان الدين دِينًا، ذلك أن الدين وضْعٌ إلهي، يُبين حُدود ما يسير عليه الناس ويلتزمونه في عقائدهم وعباداتهم، وما يحِلُّ لهم أن يفعلوه وما يَحْرُمُ عليهم أن يفعلوه، ولا سلطان عليه لعُرف أو توارُث أو نقْل؛ حتى لو اتُّخذت أحكام الدين باعتبارها عُرفًا أو توارثًا لما كانت دِينًا، وإنما تكون دينًا إذا أُخذت مُضافة إلى مَصدرها وهو الله ربُّ العالِمين.(1/480)
الدِّين يُقِرُّ الصالح ويُحارب الفاسد:
والدين هو الحاكم على التقاليد، فما كان منها لا يُخِلُّ بشيء من أحكامه ولا يترتب عليه ضررٌ يأْباه الدين، فإن الدين يُقره ويَسمح به، وما كان منها يخلُّ بشيء من أحكامه أو يستبيح ضررًا أو فسادًا يأباه الدين، فإنَّ الدين يُنكره ويُحاربه، ولقد جاء الإسلام ـ وفي جميع البلاد التي دخلها تقاليدُ وصورٌ عملية في نواحي الاجتماع ـ فأقرَّ الصالح منها وحارب الفاسد، وحقَّق تلاؤُمًا بين أهدافه وآثار التقاليد، وكان الدين قوةً للتقاليد الطيبة الصالحة، ومُطهِّرًا من التقاليد الخبيثة الفاسدة.(1/481)
الدين يحثُّ على النهوض والرُّقِيِّ:
ومما يجب أن نعرفه هنا أن الإسلام أطلق لأتباعه حقَّ اختيار ما يرونه مُحقِّقًا لنهوضهم العلمي والاقتصادي والخُلقي والاجتماعي، ولم يُقيدْهم فيما وراء العقائد والعبادات والحلال والحرام بشيء يَمنعهم من التقدُّم والنهوض، وهو يُبيح لهم بل يُحَتِّمُ عليهم أن يسلكوا في هذا الجانب أحدث ما يُنتجه العقل البشري من صور المُجتمعات الفاضلة. (راجع في هذا ما كتبناه عن: "الابتداع المذموم في الإسلام" من هذا الكتاب).(1/482)
لابد من تنقية تقاليدنا:
وليس من شكٍّ في أن جماعتنا ـ وهي إسلامية قبل كل شيء ـ نزعت في كثير من عصورها الماضية إلى كثير مِن التقاليد التي أنشأها العُرف، أو التي جرَّها إليهم تقليدُ الأمم المختلفة التي حكمتْها، واستغلت عقليتها وحياتها.
وليس من شك في أن كثيرًا من هذه التقاليد لا يتَّفقُ وأحكام الإسلام فتقاليد الأفراح والمآتم والأعياد، وتقاليد طُرق التصوُّف وزيارة الأضْرِحة تقاليدُ يأْبَاهَا الدِّينُ. وقد امتَدَّتْ التقاليد إلى دائرة العقيدة والعبادة والحلال والحرام. وإذنْ، فلابدَّ مِن تشخيص هذه التقاليد والنظر فيها من جهة مُوافقتها للدِّين أو مُخالفتها، ومن جهة ما تَغرسه في الأمة من خير أو شرٍّ، ثم نعمل على أخْذ الأمة إلى السبيل الذي يَحفظ لها شخصيتها الإسلامية أولًا، والذي ينهض بمستواها الاجتماعي نهوضًا يحفظ عليها كيانها وأخلاقها، وُيمهد لها سبيل السيْر في الكمال.(1/483)
القصْد من التطوُّر:
فإنْ كان هذا هو القصد من التطور فالدِّين لا يقف عند حدِّ إباحته بل يُوجبه ويُحتمه. وإنْ كان القصد مِن التطوُّر أن يدخل التغيير في الدوائر الدينية التي رسمها الإسلام، وبيَّن أحكامها فهذا ليس تطورًا في التقاليد، وإنما هو طيٌّ لصفحة الدين، وهو من تغليب التقاليد على الدِّين، وليس سيرًا بالتقاليد في جوِّ الدين.(1/484)
مصادر المعرفة اليقينية:
السؤال: هل يُعارض رجال الدِّين نظرية التطور على أساس سندٍ مِن الدين أم تَزَمُّتًا؟
رجال الدِّين، الذين هم رجال حقًّا، هم الذين يفهمون مبادئ الدِّين مِن مصادره اليقينية غيرَ متأثرينَ بتقليد غيرهم ولا بأوهامهم وظنونهم، ولا بمُقدمات البحث التي لا تعتمد على مصادر العلم الصحيح: وهي الحِسُّ السليم، والنظر العقلي الصحيح، والخبر الصادق الذي قامت على صدْقه الأدلة، التي يخضع لها العقل، ولا يجد مَناصًا من حُكمها. فهم بحُكم دينهم يرفضون الإيمان بشيء ما عن طريق التقليد والجرْي في مُعتقدهم على مجرد ما نُقِلَ عن الآباء والأجداد، لا لشيءٍ سوى أنه نقل عن الآباء والأجداد. وهم بحُكم دينهم يرفضون في مُعْتقدهم الاعتماد على الظنون والمَفروضات، التي لم تُؤَيَّدْ بسندٍ يشهد بصحته العقل أو الخبر الصادق.
ومِن هنا جاء القرآن الكريم بذمِّ التقليد، وجرَى الخلَف وراء السلف دون نظرٍ واستدلال. وفي هذا يقول: (وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عليهِ آبَاءَنَا). (الآية: 170 من سورة البقرة). (قُلْ هلْ عِنْدَكُمْ مِن علْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وإنْ أنتمْ إلَّا تَخْرُصُونَ). (الآية: 148 من سورة الأنعام). ويقول: (ومِن الناسِ مَن يُجادلُ في اللهِ بغيرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ). (الآية: 8 من سورة الحج).(1/485)
نظريةٌ تعارُض صريح القرآن:
هذا مبدأ الإسلام في قَبول الآراء والتسليم بالنظريات، وهو منهج رجال الدِّين، الذين هم ـ كما قلتُ ـ رجالُ الدِّين حقًّا. ونظرية التطوُّر ـ التي هي موضوع السؤال، والتي يُراد بها تطوُّر الإنسان عن نوعٍ آخر من أنواع الحيوانات بطريق النُّشوء والارتقاء ـ نظريةٌ لم يرفضها رجال الدين تَزَمُّتًا أو تَعَسُّفًا، وإنَّما رَفضوها على أساسٍ مِن الدين ونُصوصه الواضحة، وعلى أساسٍ ممَّا قرَّره الدين في رفْض ما لم يَدُلَّ عليه بُرهانٌ، أو يشهد بصِحَّته حِسٌّ أو تجربة.
ولقد جاء صريحًا في القرآن الكريم الحديثُ عن خلْق الإنسان، تحدَّث عن خلْق الإنسان الأول. ومِمَّ كانَ، وتحدث عن خلْق أبنائه، ومِمَّ كانوا وكيف كانوا. ففي خلْق الإنسان الأول يقول: (ولقدْ خَلَقْنَا الإنسانَ مِن صَلْصَالٍ مِن حَمَأٍ مَسْنُونٍ). (الآية: 26 من سورة الحجر). (وإذْ قالَ رَبُّك للملائكةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن صَلْصَالٍ مِن حَمَأٍ مَسْنُونٍ . فإذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فيهِ مِن رُوحي فَقَعُوا لهُ سَاجِدِينَ). (الآيات: 28 ـ 29 من سورة الحجر). وفي خلْق أبنائه يقول: (إنَّا خلَقْنَاكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى). (الآية: 13 من سورة الحجرات) ويقول: (فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن ماءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بينَ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ). (الآيات: 5 ـ 6 ـ 7 من سورة الطارق).
وفي تطوُّر خلْق الأبناء من هذا الماء يقول: (يا أيُّها الناسُ إنْ كُنتمْ في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فإنَّا خلَقْنَاكُمْ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لكمْ ونُقِرُّ في الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ). (الآية: 5 من سورة الحج).(1/486)
فهذا ونحوه خبَر الله الصادق، الذي قامت على صدقه المُعجزات، يُحدِّث بأن الإنسان خُلِق نوعًا مستقلًّا ليس متطورًا عن نوع آخر من أنواع الحيوانات، أيًّا كان ذلك النوع، وكيفما كان التشابُه بينه وبين الإنسان في بعض الخصائص، وبعض الأوضاع الجسمية. فلو كان خلْق الإنسان بطريق الارتقاء عن نوع آخر، لكان الحديث، الذي ساقه القرآن عن خلقه حديثًا، لا يُطابق الحقيقة ولا يتَّفق والواقع، وهو حديثٌ صريح لا يحتمل غير مَدلوله المفهوم من عباراته وألْفاظه.(1/487)
الوحْي وحده مصدر العلْم بالمسائل الغيْبية:
والمسألة بعدُ مسألةٌ غيبية لا يتناولها الحسُّ، ولا محل فيها للتجربة، وليس ثَمة مقدمات عقلية يصل بها العقل إلى معرفة واقعها. ومثل هذه المسألة من المسائل التي ينحصر مصدر العلم بها في خصوص الخبر الصادق المُؤيَّد بالمعجزات الواصل إلى الناس من عالم الغيْب، ومُكون الأنواع والمَخلوقات.
وقد نفَى القرآن أن يكون مبدأ الخلْق عامةً مما يعلمه الإنسان بنفسه، وما مُنِح من قُوَى الإدراك قال ـ تعالى ـ: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلَقَ السمواتِ والأرضِ ولا خَلْقَ أنْفُسِهِمْ ومَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا). (الآية: 51 من سورة الكهف).
أما بعدُ:
فهذا هو السند القويُّ الذي يعتمد عليه رجال الدين في رفْض نظرية التطور الفردي، ولم يكن رفضهم إيَّاها مجرد تَزَمُّتٍ كما عبَّر السائل في سؤاله.(1/488)
عقائد الإسلام:
يُقال: إن الإسلام عدوُّ الشيوعية، فما هو الدليل على ذلك، وكيف يعيش المسلمون في روسيا؟
يتكون الدين الإسلامي من نُظُمٍ ومبادئ، أساسها الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه، ورسله، واليوم الآخر، ومعنى هذا أنه يجب على الإنسان؛ ليكون مسلمًا، الإيمان بأن وراء هذا العالَم المادي، موجودًا بوُجود ذاتي غير مكتسبٍ، قادرًا، عالِمًا، مُدبرًا، هو مصدر الخلْق والإيحاء في هذا العالَم، مصدر الهداية البشرية: "لا إله إلا هو يُحيي ويميت".
وأنه كان من مُقتضيات حِكمته بعد أن خلَق الخلْق بنوازع الشهْوة والغضب، لحكمة سامية، ألاَّ يتركهم سُدًى يتخبَّطون بأهوائهم وشهواتهم، ويغتال قَوِيُّهم ضعيفَهم، فاصطفَى مِن خلْقه أُناسًا، أعدَّهم لتبليغ رسالاته وتعاليمه إليهم ليُبلغوها إيَّاهم في العقيدة والسلوك ونظام الحياة، وأسس الروابط الشريفة التي يجب أن تسود الناس، وأن يعتمدوا عليها في علاقتهم بخالقهم، وفي علاقتهم بعضهم مع بعض، وبذلك يتحقق في الإنسان معنى خلافته عند الله ـ سبحانه ـ في عمارة الكون وتنميته، على الوجه الذي يكون به العالم مظهرًا لرحمته ـ سبحانه ـ بعباده.
وكان من عناصر هذه التعاليم أن هذه الحياة الدنيا دارُ عملٍ، وأن وراءها حياةً أخرى، هي دار الحساب والمسئولية، يُجزَى فيها كل إنسان على عمله في الحياة الدنيا (وكُلَّ إنسانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لهُ يومَ القِيامةِ كِتابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَي بِنَفْسِكَ اليومَ عليكَ حَسِيبًا). (الآيتان: 13 ـ 14 من سورة الإسراء).(1/489)
الشيوعية كمذهبٍ ماديٍّ:
جاءت كل هذه التعاليم في كتبٍ أوحَى الله بها إلى أنبيائه ورسله بواسطة ملائكته ليُبلغوها للناس. ومن هنا كان الإيمان بالملائكة والكتب والأنبياء العمود الفقري للإسلام. فلو كانت الشيوعية مذهبًا اقتصاديًّا ـ لا يَمسُّ الإيمان بتلك الحقيقة، ولا يهتكُ حُرمة الإيمان لمَا تضمَّنه القرآن من أصول التعاليم الإلهية، ولا تَفَنَّنَ الناس في تديُّنهم بها ـ لأمكن ألا نقول بعَداوتها للإسلام، ولا بعَداوة الإسلام لها.
أمَّا واقعها كما يُنقل عن مُخترِعيها، ويقرأ في كتبها أنها لا تُؤمن إلا بالمادة، وأنها تُنكر الألوهية والوحي والبعْث، وأنها تَقتحم في سبيل مادتها كل ما قدَّسه القرآن، وقدَّسته الشرائع السماوية مِن حُرمات العقيدة والعبادة، والمال والعمل، والروابط الجنسية الشرعية، وما إلى ذلك مِن أُسس الإسلام، فإنها بلا شك تكون عدوة للإسلام، وعدوة لسائر الأديان السماوية، ويكون الإسلام وسائر الأديان السماوية عدوًّا لها عداوةً لا هوادةَ فيها.(1/490)
المسلمون في رُوسيا:
وعندئذٍ يتَّجه الجزء الأخير من السؤال وهو: كيف يعيش المسلمون في روسيا؟
إن هؤلاء المسلمين إنْ تمكَّنوا من إظهار إيمانهم وشعائرهم وأحكام دينهم، فيما يختصُّ بالصلاة الزوجية، وما رسم الله من أصول فيما حرَّم وفيما أحلَّ، كانت إقامتهم في بلادهم جائزة ولا تثريب عليهم فيها.
أما إذا كانوا يُحاربون ويَقتلون، كما ترامت الأنباء إلينا في بعض الأوقات بكثير من هذا، فإن واجب هؤلاء المسلمين أن يُهاجروا إلى بلدٍ يستطيعون فيها إظهار إيمانهم والقيام بأحكام دينهم، فإنْ رضوا بالمقام فيما بينهم مع قدرتهم على الهجرة كانوا ممَّن يصدقُ عليهم قوله ـ تعالى ـ: (إنَّ الذينَ تَوَفَّاهُمُ الملائكةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنتمْ قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهُ واسعةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جهنَّمُ وساءَتْ مَصِيرًا). (الآية: 97 من سورة النساء) فإذا لم يستطيعوا الهجرة وجَب عليهم التزامُ الإسلام بقدر الإمكان، وكانوا في نظر الدِّين من الذين (لا يَسْتطيعُونَ حِيلَةً ولا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولئكَ عَسَى اللهُ أنْ يَعْفُوَ عنهمْ وكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا). (الآيتان: 98 ـ 99 من سورة النساء) وواجب المسلمين بالنسبة إليهم حينئذٍ أن يعملوا جهدهم بكل ما يستطيعون على إنقاذهم من بيئة الكفر والإلْحاد. (وما لكمْ لا تُقاتلونَ في سَبيلِ اللهِ والمُستَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلدانِ الذينَ يَقُولونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِن هذهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجْعَلْ لنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيًّا واجْعَلْ لنَا مِن لَدُنْكَ نَصِيرًا). (الآية: 75 من سورة النساء).(1/491)
أنواع الرُّؤَى:
ما الرؤى والأحلام التي تُرى في النوم؟ وهل هي صادقة أم كاذبة؟ وهل هي من اللهِ أم من الشيطان"؟
ليس مِن شكٍّ في أن الإنسان قد يَرى في نومه أشياء: أقوالًا يسمعها، أو أحداثًا وصُورًا يراها، وليس مِن شك في أن ما يراه مِن ذلك قد يكون واضحًا مُتميِّزًا بعضه عن بعض، وقد يكون غامضًا يختلط بعضه ببعض، وتتغير صوره ولا يثبت على حال. وليس من شك في أن بعض ما يرى من النوع المتميز قد يقع في اليقظة تارة بنفس الصورة التي رُئِيَ عليها، وأخرى تكون الصورة المَرئية رمزًا لمَا يقع، وفي الحالتينِ تُسمَّى بالرؤيا الصادقة.
أما ما لا يتميَّز ولا يقع فإنه يُعرف باسم: أضغاثُ الأحلام.(1/492)
الرؤيا الصادقة:
والقسم الأول، وهو الرؤيا الصادقة، أكثر ما يقع لأرباب النفوس الصافية كالأنبياء والصالحين. ومنه رُؤيا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في المدينة أنه هو وأصحابه يدخلون المسجد الحرام، وقد ذكرها القرآن في سُورة الفتح بقوله ـ تعالى ـ: (لقدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بالحقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسجدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللهُ ءَامِنينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسكمْ ومُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ). (الآية: 27 من سورة الفتح).
ومِن الصادق الرَّمْزِيِّ ما رآه يوسف ـ عليه السلام ـ رمزًا لإخْوته وأبويه وهو ما حكاه القرآن: (يا أبَتِ إنِّي رأيتُ أحدَ عشرَ كوكبًا والشمسَ والقمرَ رأيتُهمْ لي ساجدينَ). (الآية: 4 من سورة يوسف). وجاء في آخر القصة حينما دخلوا عليه: (يا أبتِ هذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قبلُ قدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا). (الآية: 100 من سورة يوسف).
ومِن الرمز أيضًا ما حكاه الله عن صاحبَيْ يوسفَ في السجن: (قالَ أحدُهُمَا إنِّي أرانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وقالَ الآخَرُ إنِّي أرَانِي أَحْمِلُ فوقَ رأسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ). (الآية: 36 من سورة يوسف). وقد عبَّرهما يوسف ـ عليه السلام ـ بقوله: (أمَّا أحدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وأمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَأْسِهُ). (الآية: 41 من سورة يوسف). ومنه ما حكاه الله في السورة نفسها عن رُؤْيَا الملك التي استدعى لتعبيرها وتفسيرها يوسف من السجن: (إنِّي أرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وسَبْعَ سُنْبِلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يَابِسَاتٍ). (الآية: 43 من سورة يوسف) وقد عبَّرها يوسف بسَبْعِ سِنين مُخصِبة، يأتي بعدها سبعُ سنين مُجدِبة.(1/493)
وقد جاء في الصادقة فيما يختصُّ برَسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولُ عائشة: "أول ما بُدئ بهِ رسولُ اللهِ مِنَ الوحْي: الرُّؤْيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رُؤيَا إلا جاءت كفَلَق الصبح". وصحَّ في الرؤيا عامَّة قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الرؤيا الصادقة جزءٌ من سِتَّةٍ وأربعينَ جزءًا من النبوة". وفي بعض الروايات وصفَها بالمُبشرات.(1/494)
رُؤيَا غير الأنبياء:
والرؤيا الصادقة مِن غير الأنبياء ثابتةٌ، ولا شك في حصولها، وهي كما أشرنا لا تختصُّ بأهل الصلاح والتقوى، وفي صدْق رُؤيَا صاحبي يوسف ما يُرشد إلى أنها قد تقع لغير المؤمنين والصالحين، وهذا مما يشهد به الواقع الذي نعلمه مِن رُؤَى بعض الناس، حتى المَعروفين بالفِسْق والفجور، وهي في هذه الحالة تكون كما قال العلماء الشرعيون: إما بُشْرَى بالهداية إلى الإيمان والتوبة، أو إنذار من الاستمرار على الكُفْرِ أو الفِسق، أو استدراج.(1/495)
أسباب الرؤى والأحلام:
هذا وقد تكلَّم الناس قديمًا ـ دِينيون وغير دِينيينَ ـ في سبب الرُّؤى والأحلام، وقد اختلفت فيها آراؤهم على حسب اختلاف مَشاربهم، فلأهل الطبِّ تعليل، ولأهل الفلسفة تعليل. أما أهل الإيمان فإنَّهم ينْسُبونها إلى الله، إما بالمباشرة أو بناء على استعداد خاص في النفس، وعلى كلٍّ فهي من شُئون الروح التي لا وُثوق بشيءٍ مما يُقرِّرُه البشر فيها.
نعم. لا شك في أن منها ما يكون أثرًا لاشتغال النفس بأشياء خاصة في اليقظة. ومنها ما يكون أثرًا لفساد الأمْزجة واضطراب الأجهزة. أما الصادقة منها عينًا أو رمزًا فهي من فضل الله على الناس ولكن أكثرهم لا يعلمون.(1/496)
من شئون العقل البشري:
هل في القرآن ما يدلُّ أو يُشير إلى أن الإنسان يصل إلى القمر؟
والجواب أنه يكفينا في مثل هذا ـ على فرض تحقُّقه ـ أن القرآن ليس فيه ما يدل على عدم إمكان الوصول إلى القمر، وهو من الشئون التي تركها القرآن للعقل البشري عن طريق تفكيره فيما أودع الله في خلْقه من أسرار وسُنن، وعن طريق أن اللهَ سخَّر لنا ما في الأرض جميعًا، كما سخَّر لنا الشمس والقمر والليل والنهار، ومهَّد لنا طُرق المعرفة لمَا يُحيط بنا من عجائب الله في مَلَكُوته.
وليس بلازم ـ ومهمة القرآن هدايةٌ وإرشادٌ ـ أن يُصرِّح القرآن أو يُشير إلى هذه المُختَرعات البشرية أو إلى غاية ما تصل إليه.(1/497)
تحميل القرآن نظريات العلوم:
وليس مِن رأيي تحميل آيات القرآن هذه الإشارات، وإنما نأخذ القرآن بمعنى آياته الذي تُعطيه، بحسب سوقها، وبحسب اللغة التي نزل بها وهي: لُغة العرب، وكم من مُختَرعات جدَّت، وليس في القرآن ما يُشير إليها. نعم القرآن أمَر بالنظر في ملكوتِ السماواتِ والأرض وتعرُّف سُنن الله في كوْنه والانتفاع بها.
وهذا على عُمومه لا يُعطي حُكمًا من القرآن بإمكان الوصول إلى القمر أو بعَدمه.(1/498)