س: نبدأ بأن نتعرف على صفات الماء الذي يصلح للوضوء أو الغسل ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإنه يجب أن يكون الماء طاهرا في نفسه طهورا [أي مطهرا لغيره] وهو الماء المطلق غير المقيد بقيد لازم ، وهو يشمل ماء البحر [أي الملح] في حديث أحمد وأصحاب السنن وقال الترمذي: حسن صحيح "أن رجلا سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به؛ عطشنا، أفلا نتوضأ بماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته". [أي السمك الذي يموت فيه من غير ذبح يحل أكله] ويشمل أيضا ماء النهر، وماء البئر، وماء العين التي تفور من الأرض، ويدخل فيه ماء زمزم، في حديث رواه أحمد " أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعا بسدل أي دلو مملوء من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ".
ويدخل فيه ماء البرك حتى لو تغير بطول المكث أو بسبب مقره أو ممره، [أي بما يخالطه، ولا ينفك عنه غالبا] كالطحلب وورق الشجر، والصدف، فهو ماء مطلق باتفاق العلماء، يجوز التطهر به، كما يشمل أيضا ماء المطر، والثلج والبرد، قال: تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} وقال {وأنزلنا من السماء ماء طهورا }.
والله أعلم .(1/1)
س:فضيلة الشيخ عطية، ورد إلينا سؤال يسأل فيه صاحبه، هل يصح استعمال الماء الفائض من الغسل في التطهر بعد ذلك ؟
روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، وروى مسلم وأحمد أنه كان يغتسل بفضل ميمونة، وفى روية لأحمد وابن ماجة أنه توضأ بفضل غسلها من الجنابة.
وروى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال حديث حسن صحيح، أن بعض أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اغتسلت في جفنة [أي إناء كبير] فجاء النبي ـ(صلى الله عليه وسلم ) ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبا فقال: "إن الماء لا يجنب".
في هذه الأحاديث تضارب في الظاهر، بعضها ينهى عن التطهر بفضل طهور المرأة، وبعضها يجيزه، وبعيدا عن الترجيح بين الروايات من جهة السند أقول: إن التطهر بفضل الماء الذي تطهر به الغير يطلق على معنيين.
الأول : التطهر بالماء الذي استعمل قبل ذلك في التطهر.
والثاني: التطهر بالماء الباقي من كمية الماء الذي سبق التطهر ببعضه، ويصور بأن كمية من الماء في جفنة أو إناء ـ مثلا ـ أخذ واحد منها بعضا وتطهر به، وبقي في الإناء بعض آخر دون استعمال له.
أما بالنسبة للإطلاق الأول فالماء الذي استعمل من قبل في الطهارة لا يجوز التطهر به في إزالة نجاسة أو وضوء أو غسل، وهو ما عليه جمهور الفقهاء وإن كان هو طاهرا في نفسه، لا يتنجس ما يصيبه وأجاز مالك في رواية عنه جواز استعماله مرة أخريى في الطهارة.(1/2)
وبالنسبة للإطلاق الثاني يجوز التطهر بالماء الباقي في الإناء بعد أن أخذ منه شخص بعضه وتطهر به؛ لأن الماء الباقي لا يجنب كما صرح به الحديث الأخير أي لا يصير جنبا، وبهذا التوضيح يمكن الجمع بين الأحاديث الناهية عن التطهر بفضل الماء، والأحاديث المجيزة له، وهذا ما قام به الخطابي وذكره الشوكاني في نيل الأوطار، وينبغي ألا تحمل أحاديث لنهي على احتقار المرأة التي تطهرت بماء، فلا يجوز التطهر بفضله ، فذلك شامل للرجال والنساء، غاية أمر أن الحادثة التي وردت فيها الأحاديث كانت بين الرسول وزوجاته.
وخلاصة الحكم أن الماء الذي استعمل مرة في الطهارة لرفع الحدث الأصغر بالوضوء أو الحدث الأكبر بالغسل، لا يجوز استعماله مرة أخري في الطهارة، وهو ما عليه جمهور الفقهاء، وأجازه مالك في رواية.
أما الماء الباقي بعد التطهر فيجوز التطهر به مرة أخرى ما دام باقيا على طهوريته.
والله أعلم .(1/3)
س:فضيلة الشيخ، يشاع بين كثير من الناس أنه لا ينبغي أن يقص الشعر أو الأظافر في حالة ما يكون الإنسان جنبا، وأيضا هل قص الشعر، أو تقليم الأظافر يفسد الوضوء ؟
جاء في شرح الإقناع في متن أبي شجاع في فقه الشافعية، قال في (الإحياء): [أي إحياء علوم الدين للإمام الغزالي] لا ينبغي أن يحلق، أو يقلم أو يستحد أو يخرج دما، أو يبين [أي يقطع من نفسه جزءا] وهو جنب إذ ترد سائر أجزائه في الآخرة فيعود جنبا، ويقال: إن كل شعرة تطالبه بجنابتها.
لكن هذا الكلام لا دليل فيه على منع ذلك أثناء الجنابة، ولا في مطالبة الجزء المفصول بجنابته يوم القيامة، وقد وجه مثل هذا السؤال لابن تيمية، فأجاب قد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه لما ذكر الجنب قال: "إن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا". قال: وما أعلم لكراهة إزالة شعر الجنب وظفره دليلا شرعيا.
بل قد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) للذي أسلم: "ألق عنك شعر الكفر واختتن".
فأمر الذي أسلم بذلك، ولم يأمره بتأخير الاختتان، وإزالة الشعر؛ حتى يغتسل.
فإطلاق كلامه يقتضي جواز الأمرين، وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر، فعلمنا عدم كراهة ذلك.
وأن ما يقال فيه مما ذكر لا أصل له.
قال عطاء: يحتجم الجنب، ويقلم أظفاره، ويحلق رأسه، وإن لم يتوضأ. رواه البخاري.
وعلى هذا فلا كراهة في قص الشعر، والظفر أثناء الجنابة، والقص لا يفسد الوضوء.
والله أعلم .(1/4)
س: فضيلة الشيخ عطية صقر، في بعض الدول التي ليست بها أنهار تستفيد هذه الدول من التقنية الحديثة، فتأخذ ماء المجاري، وتعيد تنقيته مرة أخرى. فهل هذا الماء يصلح للوضوء، أو الطهارة ؟
ماء المجاري مخلوط بنجسات حقيقية، كالبول، والروث، وبمياه تنجست بهذه النجاسات الحقيقية فتصير كلها نجسه، والبول نفسه لا يطهر، وإنما يطهر الثوب أو المكان الذي تنجس به؛وذلك بماء طاهر وطهور.
فهل إذا نقيت مياه المجاري من كل الشوائب، وذهب لونها وطعمها وريحها تصير طاهرة؟ ذلك يحتاج إلى نظر، واجتهاد جماعي من الفقهاء المختصين، وإن كان هناك اتجاه إلى القول بطهارته بعد النقاء الكامل، وعدم الضرر من استعماله.
والله أعلى وأعلم.(1/5)
س: فضيلة الشيخ عطية صقر، نسمع من البعض أن الماء المشمس الذي سخن بالشمس يضر بالإنسان صحيا. فهل يوجد سند شرعي يفيد هذا ؟
الماء المشمس الطاهر الطهور لا ضرر في استعماله شرعا في الوضوء والغسل، ولكن قال بعض العلماء بأن استعماله مكروه، واحتجوا بحديث يقول: "إن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) نهى عائشة عنه؛ لأنه يورث البرص".
وفى حديث ابن عباس أن الشافعية قالوا: إن كراهته مشروطة بشرطين:
الأول: أن يكون التشميس في الأواني المعدنية كالنحاس والحديد ما عدا الذهب والفضة.
والثاني: أن يكون التشميس في البلاد الشديدة الحرارة، ولا يكره المشمس في الحياض والبرك.
هذا ما ذكره صاحب (كفاية الأخيار) في فقه الشافعية، ولكن جاء فيما قال قيل: إن المشمس لا يكره مطلقا، وعزاء الرافعي إلى الأئمة الثلاثة، قال النووي في زيادة الروضة: وهو الراجح من حيث الدليل، وهو مذهب أكثر العلماء، وليس للكراهة دليل يعتمد، وهذا ما أراه.
وقد يكون هناك ملحظ لمن رأى كراهيته في البلاد الشديدة الحرارة؛ لأنه قد يضر الجلد، ولا يساعد على تقزيز** التطهر المندوب.
وبالله التوفيق .(1/6)
س: فضيلة الشيخ عطية،وصلنا خطاب من أحد المسلمين المسافرين إلى الخارج يقول: سافرت إلى البلاد القطبية، وتعذر علي وجود ماء سائل. فهل من الممكن أن أتطهر من الجنابة بمسح جسدي بالثلج، ومسح أعضاء الوضوء بالثلج أيضا في حالة عدم وجود الجنابة ؟
جاء في البخاري ومسلم قول النبي (صلى الله عليه وسلم ) في دعاء الاستفتاح في الصلاة: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". ومعروف أن الغسل بالماء يكون بإسالته أو نضحه ورشه. فهل الثلج البارد المتجمد يسيل وينضح؟
إنه بملامسته للجسم الدافئ سيسيل منه الماء، وإن كان لصورة بسيطة، ولا مانع من الاكتفاء بذلك للضرورة .(1/7)
س: فضيلة الشيخ، أحد الذين أرسلوا إلينا قال: قمت بالغسل، فخالط الماء الذي اغتسل به أجزاء من الصابون. هل يفسد ذلك الصابون الماء؛ فلا يصلح بعد ذلك للطهارة ؟
الماء الذي خالطه طاهر كالصابون، والعطور إن غلب المخالط بحيث لا يطلق عليه اسم الماء المطلق، لا يجوز التطهر به.
أما إن كان خفيفا جاز التطهر به، روى الخمسة [أي أحمد وأصحاب السنن الأربعة] أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أذن في غسل ابنته زينب عند الوفاة أن يكون بماء وسدر وهو ورق النبق وكافور.
وروى أحمد والنسائي وابن خزيمة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اغتسل هو وزوجته ميمونة من قصعة فيها أثر العجين.
والله ولى التوفيق .(1/8)
س: فضيلة الشيخ عطية صقر، هل لنا أن نعرف حكم الماء الذي وقعت فيه نجاسة. هل تنجسه حتى ولو كان هذا الماء كثيرا ؟
الماء المتنجس إذا غيرت النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه؛ لا يجوز استعماله في الطهارة إجماعا، وإذا لم تغير شيئا من أوصافه الثلاثة، فهو طاهر في نفسه ومطهر لغيره، سواء أكان الماء قليلا أم كثيرا، وبهذا قال الجمهور، ومنهم الإمام مالك، ودليلهم عموم الحديث الذي رواه أحمد والشافعي والنسائي والترمذي وحسنه: " الماء طهور لا ينجسه شيء". أما الإمام الشافعي فقال: إن كان الماء قليلا وغيرته النجاسة؛ فلا يجوز التطهر به.
أما إن كان كثيرا فهو طاهر وطهور، ودليله حديث رواه الخمسة: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث". ومفهومه أنه إذا كان أقل من قلتين يتنجس، وفى هذا الحديث نقاش يضعف الاستدلال به، ولهذا قال الإمام الغزالي: وددت لو أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب الإمام مالك0
وبمناسبة ذكر القلتين نقول: القلتان في الرطل أو الرطل المصري أربعمائة وستة وأربعون رطلا، وثلاثة أسباع الرطل، وبالمساحة ذراع وربع ذراع طولا وعرضا وعمقا بذراع الآدمي المتوسط، وفى المكان المجوف كالبئر تكون المساحة ذراعا عرضا، وذراعا ونصف ذراع عمقا، وثلاثة أذرع وسُبع ذراع محيطا، وفى المكان المثلث تكون: ذراعا ونصف ذراع عرضا، ومثل ذلك طولا، وذراعين عمقا0
ومهما يكن من الخلاف في تنجس الماء بما يلقى فيه من المواد النجسة، فإن عدم التطهر به أقرب إلى المحافظة على الصحة، وأبعد عن الضرر الذي نهى عنه الدين.
والله أعلم.(1/9)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر نتعرف معنا على أنواع النجاسات وعلى كيفية التطهر من كل نوع من هذه الأنواع ؟
النجاسات كثيرة منها الميتة التي ماتت بغير ذبح وكذلك ما قطع من الحي فهو كميتتا لحديث رواه أبو داود والترمذي وقال حسن ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميته وهي لا تقرب الغسل أما جلدها فيكفر بالدماء ويستثني من الميتة السمك والجراد بحديث مأخوذ رواه احمد والشافعي وابن ماجة وغيرهم أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكتف والطحال كما يستثنى ما له دم سائل كالنمل والنحل فإنها طاهرة إذا وقت في شيء وماتت فيه لا تنجسه ولا خلاف في ذلك إلا ما ورى عن الشافعي ومشهور من مذهبه انه نجس ويعف عنه إذا وقع في الماء ما لم يغيره كما يستثنى عظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وجلدها لان الأصل فيها الطهارة ولا دليل على النجاسة روى البخاري أن الزهري قال في عظام الموتى كالفيل ونحوه أدركت ناس من سلف العلماء تمتشفون بها ويتهمون فيها ولا يرون أن به بأسا وروى جماعة أن شاة لميمونة ماتت فقال الرسول صلى الله عليه وسلم هلا أخذتم ذهابها فدمغمتموه فانتفعتم به فقالوا إنها ميته فقال إنما حرم أكلها .
ومن النجاسات أن *** الميتة ولبنها فهو طاهر لان الصحابة لما فتحوا بلاد العراق اكلوا من جبن الماجوس وهو يعمل في الممسحة مع أن ذبائحهم تعتبر كالميتة وسئل سلمان عن شيء من الجبن والسمن والجراء فقال ... الحلال ما احل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه أما عفا عنه .
ومن النجاسات الدم ويعفى عن اليسير منه كقطرة أو قطرتين في الصلاة كما يعفى عن دم البراغيث وما يترشح من الدمامل لكن الأولى التبرؤ منه والتطهر يكون بغسله بالماء فان بقى اثر يشق زواله فهو معفوا عنه ففي الصحيحين سئل امرأة النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض الذي يصيب ثوبها كيف تصنع به فقال تحسه ثم تنتره بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه.(1/10)
ومن النجاسات الكلب والخنزير قال تعالى ( قل لا أحد في ما أوحى إلى محرما على طاعمين يطعمه إلا ميتتا أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس ) والتطهر من نجاسته يكون بالغسل سبع مرات أحدهن بالتراب أو ما يقوم مقامة من المطهرات كما قال بعض الفقهاء.
ومن النجاسات حيض الآدمي وبوله ورجيعه وذلك بالاتفاق وتطهيره يكون بالغسل ويكفي في بول الصبي الذي لم يأكل الطعام الرش في حديث الصحيحين أن صبي لام ** لم يبلغ أن يأكل الطعام بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فدعاء بماء ونضحه على ثوبه والنضح يعني الخمر والتكاثر دون جريان وتردد وتقاطر وروى احمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بول الغلام ينضح عليه وبول الجارية يغسل وذلك كله إذا لم يطعما.
ومن النجاسات الودن وهو ماء ابيض تخين يخرج بعد البول ولا خلاف في نجاسته والتطهير يكون بغسل ما أصابه بالماء ومنه المذي وهو ماء ابيض لذج يخرج عند التفكير في الجماع أو الملاعبة وربما لا يشعر الإنسان بخروجه وهو في الرجل والمرأة فهو نجس بالاتفاق لا غسل منه بل يطهر بالغسل بالماء فرواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح.
أما المني فالجمهور على انه طاهر لأنه اصل الإنسان ويجب الغسل منه قالت عائشة رضى الله عنها كنت افرق المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا واغسله إذا كان رطبا رواه الدار قطني والبزار وروى الدار قطنى عن ابن عباس سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب فقال إنما هو بمنزلة المخاط والبساق وانما يكفيك أن تمسحه بخرقه أو باظفرك وهو نوع من الغسل.
ومن النجاسات بول وروث ما لم يأكل لحمة لحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستجمر لروثه الحمار فقال إنها رجس إي نجس أما بول وروث ما يأكل لحمه فقال لطهارته مالك واحمد وجماعة من الشافعية وقال غيرهم بنجاسته والتطهير يكون بالغسل بالماء.(1/11)
ومن النجاسات الخمر عن جهور العلماء لقوله تعالى ( إنما الخمر والميسر والانصاب والاذلال رجس من عمل الشيطان ) وذهبت طائفة إلى القول بطهارتها وحملوا الرجس في الآية على الرجس المعنوي وهو الحرمة وتطهر الخمر عند من يقول بنجاستها بخيرورتها خلا.
ومن النجسات الكلب والخنزير والطهارة تكون بالغسل سبع مرات أحدها بالتراب أو بما يقوم مقامة بالمطهرات فيما قال بعض العلماء والله اعلم .(1/12)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، البعض أرسل إلينا يسأل: ننشر ملابسنا بعد غسلها فوق سطح المنزل، فتصاب ببعض من زرق الطيور، ولا نعرف هل هي طيور جارحة، أو مما يؤكل لحمه، وكذلك أحبال نشر الغسيل هل أصاب الحبل في هذه الحالة والملابس نجاسة ؟
الأفضل إن لم تكن هناك مشقة أن تغسل هذه النجاسة، وإذا لم توجد فرصة لغسل هذه الحبال فإن بعض العلماء، وهم المالكية قال: إن فضلات مأكول اللحم طاهرة، فلا حاجة إلى غسل ما يصاب بها،ولو تنجس الحبل بغير زرق الطيور المأكولة فإن جفافها بالشمس أو الريح تطهرها في بعض الأقوال، ولا حاجة لصب الماء عليها 0(1/13)
س: فضيلة الشيخ عطية صقر، أرسل إلينا بعض المسلمين يسألوننا ويقولون: نرجل أو نمشط شعرنا بمشط من العظم، فهل يجوز استعمال هذا المشط؟
روى الترمذى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة". وقال حديث حسن غريب، وبناء عليه قال جمهور الفقهاء: إن عظم الفيل نجس ولا يطهر بحال كما قال الشافعي ومالك وإسحاق، ورخص في الانتفاع به محمد بن سيرين، وابن جريج وغيرهم، فيما روى داود عن ثوبان أن "رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمره أن يشتري لفاطمة (رضي الله عنها) قلادة من عصب، وسوارين من عاج".
وروى البخاري عن الزهري قال في عظام الموتى نحو الفيل وغيره: أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها، ولا يرون به بأسا، والعَصْب [ثياب يمنية] أما العَصَب فهو سن بعض الحيوانات يتخذ منه الخرز.
وجاء في المغني لابن قدامة أن ما يتساقط من قرون الوعول في حياتها يحتمل أنه طاهر؛ لأنه أشبه بالشعر، وجاء في هامشه أطال شيخ الإسلام الكلام في تصويب طهارة العظم والقرن والظفر، وذكر أنه مذهب أبي حنيفة وقول لمالك وأحمد، هذا.
وقد قال الدنيري في كتابه" حياة الحيوان الكبرى السلحفاة البحرية" قال ما نصه: فائدة كان للنبي( صلى الله عليه وسلم) مشط من العاج، وهو شيء يؤخذ من ظهر السلحفاة البحرية يتخذ منه الأمشاط والأساور، وفى الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر ثوبان (رضي الله عنه) أن يشتري لفاطمة (رضي الله عنه) سوارين من عاج، أما العاج الذي هو عظم الفيل فنجس عند الشافعية، وطاهر عند أبى حنيفة، وعند مالك يطهر بصقله، فيجوز التسريح بمشط العاج، وما دام عظم الفيل طاهرا عند بعض الأئمة فلا بأس باستعماله، واختلاف الآراء رحمة بالأمة.(1/14)
س:فضيلة الإمام عطية صقر، ورد إلينا سؤال يقول فيه صاحبه: اضطررت لدخول حمام عام للاستحمام، وكان معي حقيبتي وبها المصحف الشريف، وأيضا كان معي سلسة فضية بها آيات من القرآن الكريم، وخشيت السرقة فدخلت الحمام، وهما معي فما الحكم في ذلك ؟
روى أصحاب السنن وصححه الترمذي عن أنس (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "إذا دخل الخلاء نزع خاتمة".
وقد صح أن نقش خاتمة كان "محمد رسول الله" وذلك أن بيوت الخلاء مستقذرة، وتأوي إليها الشياطين والحشرات والهوام، وذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أراد أن يدخلها يقول: "اللهم أنى أعوذ بك من الخبث والخبائث" . رواه البخاري ومسلم.
وليس من اللائق أن توضع الأشياء الكريمة أو يدخل بها في مثل هذه الأمكنة.
هذا هو حكم الدخول في إي شيء فيه اسم الله مثل: ما شاء الله، أما الدخول بالقرآن، أو بآية منه فقال الأحناف والشافعية بكراهيته.
وقال المالكية والحنابلة: بحرمته؛ وذلك لمجرد الدخول إذا كان حامله طاهرا، أما إذا كان غير طاهر من الحدثين، فإنه يحرم حمله بصرف النظر بالدخول، أو عدم الدخول به في بيت الخلاء، وذلك عند الشافعية، ثم قالوا: محل حرمة الدخول، أو كراهيه إذ لم يكن القرآن مستورا بما يمنع وصول الرائحة الكريهة إليه، ولم يخف الضياع عليه فإن اتخذ كحجاب مجلد، أو خاف ضياعه أو ضياع الحلية المكتوب عليها القرآن، جاز الدخول به، فالمرأة الحاملة للحلية فيها القرآن إن كانت فلا بيتها يجب أو يستحب أن تخلعها عند دخول بيت الخلاء؛ وذلك للأمن عليها أما إذا كانت في سفر أو في محل عام أو في محل عمل فيها غيرها وخافت عليها الضياع لو خلعتها فلا بأس بدخول بيت الخلاء وهي لابسة لها.
والله أعلم.(1/15)
س:فضيلة الإمام عطية صقر، وردت إلينا رسالة يسأل فيها صاحبها يقول: كيف يغتسل الرجل من الجنابة، وكيف يكون غسل المرأة، كما ورد في السنة المطهرة ؟
لا يتم الغسل من الجنابة إلا بأمرين: النية وغسل جميع الأعضاء، وتكفى مرة واحدة، ويسن ثلاث مرات.
ومن سننه غسل اليدين أولا ثلاثا، ثم الفرج، ثم التوضؤ ثم إفاضة الماء على الرأس ثلاثا، مع تخليل الشعر، ثم إفاضة الماء على سائر البدن، بدءا بالشق الأيمن، ثم الأيسر مع تعاهد الإبطين، وداخل الأذنين، والسرة، وأصابع الرجلين، ودلك ما يمكن دلكه كما رواه البخاري ومسلم في غسل النبي (صلى الله عليه وسلم).
وغسل المرأة كغسل الرجل؛ فلا يجب عليها نقض شعرها؛ ليصل الماء إلى أصله إن كان الدفر غير شديد لحديث مسلم، وغيره في قول امرأة للنبي (صلى الله عليه وسلم ) : إني أشد بطر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ فقال: "إنما يكفيك أن تحسي عليه ثلاث حسيات من ماء، ثم تصبين على سائر جسدك".
ويسن لها بعد الغسل أن تضع قطعة من قطن مع طيب تدعك بها أثر الدم.
والله أعلم.(1/16)
س:وهذا سؤال أرسلته أخت مسلمة تقول: انتظمت عندي العادة الشهرية أكثر من خمسة وعشرين سنة، وكانت مدتها ستة أيام، أما الآن فأصبحت أكثر من عشرة أيام، فهل هذه الأيام الزائدة تعد حيضا، أم استحاضة، وإذا كانت في حكم الاستحاضة، فماذا أفعل، وما هي الاستحاضة التي علمتها من الفقهاء؟
الأيام الزائدة على العشرة في الحيض تسمى استحاضة عند الحنفية، أما عند غيرهم فلا تسمى استحاضة؛ إلا إذا زادت على خمسة عشر يوما، وإذا كانت مدة الحيض معروفة قبل الاستحاضة، تعتبر هي الحيض، والباقي استحاضة، لحديث رواه مالك والشافعي عن أم سلمة أما إذا لم تعرف المدة قبل الاستحاضة، فيكون الحيض هو الغالب، وهو ستة أيام أو سبعة، وذلك في المرأة المبتدأة التي لم تسبق لها عادة، ولم تميز أيامها، وإذا لم تكن لها عادة سابقة ولكن ميزت دم الحيض من غيرة فتعمل بالتمييز.
ثم إن الاستحاضة لا تمنع من العبادة كالصلاة والصوم بعد الاغتسال منها، كما قال الجمهور: ويجب الوضوء لكل صلاة عند الجمهور في حديث البخاري، وعند مالك يستحب الوضوء لكل صلاة، ولا يجب ما دام لم ينتقض، ويجب غسل الفرج قبل الوضوء وحشوه بقطن أو خرقه، وأن يكون الوضوء بعد دخول الوقت.
والله أعلم.(1/17)
س: فضيلة الشيخ، يحدث أن الحائض أو النفساء ينقطع دمها بعض الأيام، ثم يعود، فهل تحتسب أيام الانقطاع طهرا ، أم حيضا ونفاسا؟
أقل مدة الحيض مختلف فيها بين لحظة ويوم وليلة وثلاث أيام بلياليها، وأكثرها عشرة أيام عند الحنفية، وخمسة عشر يوما عند غيرهم، وغالبه ستة أو سبعة، وأقل مدة النفاث لحظة، وأكثره عند بعضهم ستون يوما، وعند البعض الآخر أربعون وغالبه أربعون يوما.
وعند انقطاع الدم في أثناء الحيض أو النفاس هناك قولان للعلماء: قول يطلق عليه اسم السحب [أي سحب قطن الحيض والنفاس على مدة الانقطاع] وهو قول الحنفية.
بصرف النظر عن قصر مدة الانقطاع و طولها، وقول يطلق عليها اللقط [أي لقط أيام الطهر] وعدم سحب حكم الحيض، والنفاث عليها، وهو قول الشافعية والمالكية إذا بلغت مدة الانقطاع خمسة عشر يوما أو زادت فتكون طهرا، وما قبلها نفاس وما بعدها حيض فإن قلة مدة الانقطاع انتحب عليها حكم الحيض والنفاس، كما يقول الحنفية، والانقطاع في النفاس عند أحمد وأكثره أربعون يوما يعتبر طهرا، وإن تجاوز الحيض أكثره أو النفاس أكثره؛ كانت استحاضة لا يجري عليها حكم الحيض والنفاس، وإن تجاوز الحيض ما تعودته المرأة، ولم يتجاوز أكثر مدته فإن كانت عادتها ستة أيام فامتدت إلى ثمانية مثلا عند أبى حنيفة، أو إلى ثلاثة عشر عند غيرة كان ذلك كله حيضا، وكذلك إذا تجاوز النفاس ما تعودته النفساء، ولم يتجاوز أكثر مدته كان ذلك كله نفاسا هذا.
والدم الناشئ عن اللولب ليس حيضا.
والله أعلم.(1/18)
س:فضيلة الشيخ عطية، أرسل إلينا زوج يقول: هل يجوز لزوجتي الحائض أو النفساء أن تغسل لي ملابسي التي أصلي فيها، وقد سمعت أن ما تلمسه يدها يطهر سبع مرات ؟
هناك نظرة قديمة كانت عند بعض عرب الجاهلية تأثروا فيها باليهود الذين كانوا يقولون: إن أي شيء تمسه الحائض ينجس، ويجب غسله، فإن مست لحم القربان أحرق بالنار، ومن مسها أو مس شيئا من ثيابها؛ وجب عليه الغسل، وما عجنته أو طبخته أو غسلته، فهو نجس وحرام على الطاهرين حلال للحيض.
ذكر ذلك المقريزي في خططه، ولو أردت أن تعرف مقدار تحرجهم منها فاقرأ [صفر اللاويين إصحاح 15 كله] ففيه حديث طويل عن الدم أبطل الإسلام ذلك ، وكرم المرأة بما لم تكرم به من قبل، ولا من بعد.
وما دامت يد الحائض طاهرة من النجس فإن ما تمسه لا يتنجس أبدا، ودم الحيض لا ينجس إلا المكان الذي خرج منه، أو أصابه من الجسم أو الثياب، ولا داعي لتطهير ما لمسته لا مرة ولا سبع مرات.
روى مسلم وغيرة عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ناوليني الخمرة من المسجد فقلت: إني حائض فقال: إن حيضتك ليست في يدك".
وروى أحمد والنسائي عن ميمونة (رضي الله عنها) قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد، وهي حائض [والخمرة هي السجادة التي يضعها تحت جبهته عند السجود] هذا.
والمحرم على الحائض أو الجنب هو المكث في المسجد، أما العبور والزمن الخفيف بدون جلوس فلا حرمة فيه.
ومن هنا نقول: يجوز للحائض أن تذبح الطيور، وتذكر اسم الله وتغسل ملابس زوجها، وله أن يصلي فيها، وكل ذلك مع الاعتراف بأن الحائض تعتريها تغيرات فسيولوجية.
والله أعلم.(1/19)
س:فضيلة الشيخ، يشاع في بعض القرى أن الحائض إذا مست يدها اللبن يتجبن، وإذا نزلت إلى الأرض الزراعية تأثرت بها بعض المزروعات فلا تنضج ثمارا. فما صحة ذلك ؟
ذكر ابن قتيبة في كتابه:[ تأويل مختلف الحديث] أن المرأة الطامس أي الحائض تدنو من اللبن لتسوطه أي تخلطه، وهي منظفة الكف والثوب فيفسد اللبن، وقد تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس فيه من غير أن تمسها.
وجاء في كتاب [محاضرات الأدباء] للراغب الأصبهاني] أنهم قالوا :إن الطامس تدنو من إناء اللبن لتسوطه فتفسده ،ومن أجل ما عند الحائض من إفرازات ضارة
كان اليهود يقولون: إن أي شيء تمسه الحائض ينجس ويجب غسله، فإن مس لحم القربان أحرق بالنار، ومن مسها أو مس شيئا من ثيابها وجب عليه الغسل، وما عجنته أو طبخته أو غسلته فهو نجس حرام على الطاهرين حل للحيض.
ولعل مما يفسر هذه الظاهر ما نشرته [مجلة الحوادث اللبنانية] بتاريخ أول نوفمبر سنة 1974 أن المجلة الطبية البريطانية [زيلنشت] ذكرت القصة التالية: تسلم أحد الأطباء باقة زهور، فأمر الممرضة بوضعها في الماء فامتنعت، ثم أرغمها على وضعها، وبعد بضع ساعات ذبلت الزهور، وأخبرت الممرضة الطبيب؛ بأن هذا سبب امتناعها عن وضعها في الماء، فإن الزهور تذبل كلما مستها وهي حائض.
والتفسير العلمي لذلك أن جلد المرأة الحائض يفرز مادة تسمم النبات، وزعم بعض الأطباء أيضا، أنهم لاحظوا ظاهرة غريبة لدى بعض النساء وقت الحيض، وهي أن جلد الأصابع يكتسي ببقعة سوداء تحت محدث الزواج، ولاحظوا أن المرأة المنقبضة النفس أو النفس، قد تفرز مادة خاصة مضرة للأزهار أيضا.
وجاء في [عجائب المخلوقات] للقزويني غرائب مماثلة عن الحائض ،وذلك كله يفسر معني الأذى في الحيض والأمر باعتزال القربان حتى ينتهي.
والله أعلم .(1/20)
س:وهذه سيدة أرسلت إلينا تقول: أنا حامل في شهري الخامس وينزل علي بعض الدماء. فما الحكم في ذلك، وماذا أفعل لأحافظ على طهارتي؟
اختلف العلماء في الدم الذي ينزل من الحاِمل، هل هو دم حيض أو لا؟ فرأى أبو حنيفة ومن قبله عطاء والشعبي: أنه ليس حيضا، ولا يأخذ حكمه لقوله تعالى: { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد }. على معنى أن الغيض هو: انقطاع دم الحيض أثناء الحمل، والازدياد هو: دم النفاس بعد الوضع، وهو رأى الإمام أحمد أيضا.
ورأى مالك والشافعي في أحد قوليه أن الحامل تحيض، وهو تأويل ابن عباس للآية بأنه حيض الحبالى.
وكذلك روى عكرمة ومجاهد، وهو قول عائشة وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة، والصحابة إذ ذاك متواترون فلم ينكر منهم أحد عليها، فصارت كالإجماع كما قاله ابن الكسار.
وذكر القرطبي في تفسيره حادثة أيام عمر استدل بها على أن الحامل تحيض، ثم قال: احتج المخالف، وهو أبو حنيفة ومن معه بأن قال: لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض، وهو إجماع.
وروي عن مالك ما يقتضي أنه ليس بحيض.
هذا هو الحكم الشرعي في رأي الفقهاء في الدم الذي ينزل على الحامل. هل هو حيض أو لا. ولعل الطب له كلام في هذا الموضوع يمكن به التمييز بين دم الحيض والنزيف.
بناء على ما قيل: إن دم الحيض إعداد للرحم لاستقبال البويضة الملقحة، فإن استقرت فيه يقال: لا توجد فرصة لاستقبال بويضة أخرى ليوجد حملان في الرحم بينهما مدة، ولو وجدت بويضتان معا كان الحمل توءما، فهل يمكن أن تحل بالرحم بويضة ثم بعد فترة تحل بويضة أخرى، فيكون هناك حملان أحدهما قبل الآخر، وقد يولدان معا، أو يوجد فاصل بينهما في الوضع. لعل هناك جوابا يوضح ذلك عند المختصين.(1/21)
لكن جاء في كتاب (المغني) لابن قدامة: أن الحامل لا تحيض إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة ورأي جمهور التابعين.
وقال مالك والشافعي: ما تراه من الدم حيض إذا أمكن لأنه دم صادف عادة فكان حيضا كغير الحامل، واستدل بمذهب أحمد في الحديث "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل أي غير حامل حتى تستبرء بحيضة".
موجها بذلك بأن وجود الحيض علامة على براءة الرحم، فدل على أنه لا يجتمع مع الحمل، وقال: إن الحامل لا يعتادها الحيض غالبا، فلم يكن ما تراه فيه حيضا كالآيسة قال أحمد: إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم، وحمل رأي عائشة في أنه حيض على ما تراه الحامل من الدم قريبا من ولادتها فهو نفاس لا تصلي فيه.
ورأيي أن مذهب أبي حنيفة وأحمد أيسر في التطبيق، فلا يعد دم الحامل حيضا إلا ما يرى قبيل الولادة فيكون نفاسا لا تصلي ولا تصوم فيه. ولا يجب التعصب لرأي في الفروع ودين الله يسر.
والله أعلم.(1/22)
س:وهذه سيدة تقول: بلغت من العمر خمسين عاما، والعادة الشهرية عندي غير منتظمة، وقد يمر شهران وثلاثة دون أن أرى دما، وإذا نزل الدم كان بسيطا ثم ينقطع مدة طويلة. فما حكم الشرع في هذه الحالة ، وهل يعتبر الدم بعد هذا السن حيضا ؟
سن اليأس: هو السن الذي لا يكون معه للمرأة حيض ولا حمل، ومن الأحكام الشرعية الخاصة به، أن عدة المطلقة تنتهي بثلاثة أشهر مثلها مثل الصغيرة التي لم تر الحيض قال تعالى: { واللائى يأسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن }
واختلف الفقهاء في سن اليأس، فهو عند الحنفية خمس وخمسون سنة على المختار وعند الحنابلة خمسون سنة، وعند المالكية من خمسين إلى سبعين، بمعنى أنه يرجع في هذه المدة إلى ذوي الخبرة من النساء أو غيرهم فيما إذا كان الدم الذي ينزل من المرأة دم حيض، أو غيره.
وعند الشافعية لا آخر له، والغالب أن ينقطع الدم بعد اثنتين وستين سنة، فهو سن الإياس من الحيض غالبا، وفى فقه الحنفية الذي يجري عليه العمل في المحاكم المصرية أن القول قول المرأة في انقطاع الحيض أو نزوله عليها، وتصدق إذا ادعت رؤيتها دم الحيض مع هذه السن، ومع ذكر علاماته، وتحلف اليمين بطلب خصمها إذا لم يصدقها فيما ادعته.
والله أعلم.(1/23)
س:فضيلة الشيخ عطية، نعرف جميعا أن الإسراف بصفة عامة مذموما شرعا، والإسراف في الماء مذموما كذلك، فمتى أعد مسرفا كمسلم في استعمال الماء للغسل أو الوضوء ؟
من المعلوم أنه من السنة في الوضوء والغسل أن يكون ثلاث مرات؛ حتى يتأكد الإنسان من طهارة ما يغسله، مع العناية بالأماكن التي تحتاج إلى مزيد من النظافة، وما زاد عن المرات الثلاثة التي عمت العضو كله أو البدن كله كان إسرافا منهيا عنه في النصوص العامة المعروفة، ذلك إلى جانب نصوص خاصة بذلك.
فقد جاء في كتاب [ كشف الغمة ] للشعراني حديث يقول: "لا تسرف في الماء ولو كنت على طرف نهر جار".
وحديث: "لا تسرف قيل: يا رسول الله أوفى الوضوء إسراف قال: نعم وفى كل شيء إسراف". رواه الحاكم وابن عساكر مرسلا، وحديث: "لا تسرف". رواه ابن ماجة عن ابن عمر.
وجاء في (المغني) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مر بسعد بن أبي وقاص، وهو يتوضأ فقال: "ما هذا السرف فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار". رواه ابن ماجة.
وعن أبي بن سعد قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): "إن للوضوء شيطانا يقال له ولهان فاتقوا وسواس الماء". رواه أحمد وابن ماجة هذا.
وروى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، وروى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "كان يغسله الصاع من الماء من الجنابة، ويوضئه المد".
والمهم أن الزيادة على ما يعم العضو ثلاث مرات يعد إسرافا، وحكم هذا الإسراف أنه مكروه إذا كان الماء مملوكا أو مباحا، أما الماء الموقوف على من يتطهر، ومنه ماء المرافق العامة فإن الزيادة فيه على الثلاث حرام، لكونها غير مأذون فيها.(1/24)
أخرج أحمد والنسائي وابن ماجة وأبو داود وابن حزيمة من طرق صحيحة أن أعرابيا سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الوضوء فأرادوا ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم".
قال ابن المبارك لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم، فقال أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى.
والله أعلم .(1/25)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نحن نعلم أن ماء زمزم مقدس. فهل يجوز التطهر به في الوضوء أو الغسل، وهل تذهب قداسته أو طهارته إذا نقل إلى بلد آخر غير مكة؟
جاء في فتاوى النووي المسماة بـ (المسائل المنثورة) في المسألة الخامسة: لا تكره الطهارة بماء زمزم عندنا [أي الشافعية] وبه قال العلماء كآفة، إلا أحمد في رواية دليلنا أنه لم يثبت فيه نهي وثبت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "الماء طهور لا ينجسه شيء".
وأما ما يقال عن العباس من النهي عند الاغتسال بماء زمزم فليس بصحيح عنه هذا.
وقداسة ماء زمزم هي في الشرب عند أداء النسك في المسجد الحرام، أما ما بعد ذلك فهو ماء عادي كسائر أنواع المياة، حيث لم يرد في ذلك نص معتمد.
والله أعلم .(1/26)
س:فضيلة الشيخ، ملابس أصابتها نجاسة. هل يصح غسلها مع ملابس أخرى طاهرة، في غسلة واحدة، أو بوضعهما معا في غسالة مرة واحدة ؟
جاء في الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء ما يفيد أن الماء الكثير لا ينجس بملاقاة النجاسة له إلا إذا غيرت طعمه أو لونه أو رائحته، أما الماء القليل فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة له سواء غيرت شيئا من طعمه أو لونه أو رائحته أو لم تغيره.
والماء الذي يكون في الغسالة العادية في البيوت يعتبر ماء قليلا، وعليه فلو وضعت فيه ملابس متنجسة فإنه ينجس، وكذلك ينجس كل شيء أصابه هذا الماء.
والإمام الشافعي يرى أن الماء القليل ينجس إذا وضعت الملابس المتنجسة فيه [أي كانت واردة عليه]. أما لو وضعت الملابس قبل الماء ثم صب عليها كان الماء ورادا فإن الغُسَالة [وهو الماء المتخلف عن الغسل] لا يكون نجسا، وتكون الملابس قد تطهرت؛ إذا كان الماء خلايا من المنظفات التي تضاف إليه [أي كان ماء مطلقا لا يتغير بشيء آخر من الطاهرات] وزالت عين النجاسة ولونها ورائحتها.
وتيسيرا للغسل ووقاية من النجاسة، يمكن وضع الملابس المتنجسة ، وهي ملابس الأطفال في الغالب في البانيو أو في وعاء كبير، ثم يصب عليها الماء، وتزال عين النجاسة وتعثر بعد ذلك فتكون طاهرة من النجاسة، ولأجل التنظيف أكثر تغسل في الغسالة مع المنظفات مرة أو أكثر، وفى النهاية تشطف بماء صاف، فيتم غسلها وتطهيرها على هذه الصورة.
ومن الأفضل غسل ملابس الكبار إذا كانت طاهرة وحدها، ثم تغسل ملابس الأطفال على النحو الذي ذكرناه؛ لتستريح النفس ويبعد الوسواس.
والله أعلم .(1/27)
س:هذا سؤال يسأل فيه صاحبه هل يجوز الوضوء داخل الحمام في الوقت الذي يوجد حوض الغسيل إلى جانب قضاء الحاجة فيه ؟
من المعرف عند الفقهاء أن ضرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن الكراهة تراعى قبل الندب والاستحباب، كما تراعى الحرمة قبل الوجوب، وذلك للاحتياط على الأقل، ومعلوم أن المكان الواحد الذي يجمع هذه المرافق يغلب عليه التلوث والتعرض للنجاسة إن لم تكن هناك عناية بالغة بالنظافة.
والوضوء من الحنفية داخل الحمام مكروه؛ إن خشي الإنسان النجاسة من تساقط المياة على الأرض المتنجسة، ووجد مكانا آخر يتوضأ فيه غير هذا المكان، فإن أمن النجاسة، أو لو لم يوجد مكان آخر للوضوء فلا بأس بالوضوء في الحمام، ومن آداب قضاء الحاجة، عدم الكلام ومنه الذكر والدعاء وقراءة القرآن حتى لو عطس لا يحمد الله، ولو سلم عليه إنسان لا يرد عليه السلام، ولو سمع الآذان لا يجيب المؤذن [أي لا يقول مثل قوله].
وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن رجلا مر على النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، ورأى العلماء أن هذا المنع لا يقتصر على حالة قضاء الحاجة كالتبول والتغوط بل يشمل وجود الإنسان في هذا البيت المعد لقضاء الحاجة، وعليه فإن المتوضئ في الحمام لا يسمي ولا يذكر الله أثناء الوضوء، ولا قبله ولا بعده حتى يخرج منه، والحكم هو: الكراهة لا الحرمة، فليس في المخالفة عقوبة والأفضل عدمها مع التنبيه على أن النية الواجبة في الوضوء أو الغسل محلها القلب، ولا يجب التلفظ بها باللسان، فلا داعي لهذه النية القولية ما دام في الحمام، ويكتفى بالنية القلبية عند من يقول: بوجوبها.
ومحل كراهة الكلام إذ لم تكن هناك ضرورة أو حاجة تدعو إليه، كالتنبيه على خطر، أو الرد من ينادي ونحو ذلك، فإن وجدت فلا كراهة والضرورة تقدر بقدرها.
والله أعلم .(1/28)
س:فضيلة الشيخ، كنت متجها للمسجد لأداء الصلاة، ومرت سيارة على كمية مياة في الشارع فتطاير الماء وبلل ملابسي، ولا أعرف إذا كان هذا الماء نجسا، أم طاهرا فماذا أفعل ؟
قال العلماء: لا يجب غسل ما أصاب الإنسان من طين الشارع، فقد روي أن عليا (رضي الله عنه) كان يخوض طين المطر، ثم يدخل المسجد ويصلي ولم يغسل رجليه. قالوا: لو سقط شيء على الإنسان لا يدري هل هو ماء أو بول لا يجب أن يسأل، ولو سأل لا يجب على المسئول أن يرد حتى لو علم أنه نجس، ولا يجب غسل ذلك.
وروي أن عمر (رضي الله عنه) كان في الشارع فسقط عليه شيء من ميزاب ومعه صاحب له فقال: يا صاحب الميزاب أماؤك طاهر أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ومضى.
وعلى هذا ما دام الإنسان لا يعرف نجاسة ما أصابه من رشاش في الشارع فلا حرج عليه، وقد يكون ذلك مما تعم به البلوى في مثل المدن المزدحمة بالسكان.
والله أعلم.(1/29)
س:فضيلة الشيخ، ورد إلينا سؤال يقول فيه صاحبه: ما حكم الشرع في سؤر الآدمي و سؤر الحيوان الذي يؤكل لحمه، والذي لا يؤكل لحمه. هل من الممكن الاغتسال به، والوضوء كذلك، ونتفضل بمعرفة معنى السؤر أولا ؟
مبدئيا نقول:السؤر هو: ما تبقى بعد الشرب، و سؤر الآدمي طاهر؛ حتى ولو كان الآدمي مشركا، وقوله تعالى:} إنما المشركون نجس{. المراد نجاسة الاعتقاد. روى مسلم عن عائشة (رضى الله عنها) قالت: كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي( صلى الله عليه وسلم) فيضع فاه على موضع فِيَّ [أي يشرب من المكان الذي شربت منه] وسؤر الحيوان المأكول اللحم طاهر؛ لأن لعابه طاهر. قال أبو بكر بن المنذر: أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء منه، و سؤر ما لا يؤكل لحمه غير الكلب والخنزير طاهر، لحديث أخرجه الشافعي والدارقطني وله أسانيد تقويه، سئل النبي( صلى الله عليه وسلم): "أنتوضأ مما أفضلت الحمر؟ قال : نعم. وما أفضلت السباع كلها".
ولحديث الدارقطني أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) "خرج في بعض أسفاره ليلا فمروا على رجل جالس عند مغذاة [أي حوض يجتمع فيه الماء] فقال عمر للرجل: أولغت السباع عليك الليلة في مغذاتك؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): "يا صاحب المغذاة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقى شراب وطهور".
وروى مثله أو قريب منه الإمام مالك في الموطأ وسؤر الهرة طاهر؛ لحديث رواه الخمسة، وقال عنه الترمذي حسن صحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال عن الهرة: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات".
أما سؤر الكلب والخنزير فهو نجس لحديث البخاري ومسلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا". وفي رواية مسلم "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب".
أما سؤر الخنزير؛ فلخبثه وقذارته.
والله أعلم.(1/30)
س:وهذه رسالة من مستمع يقول فيها: أعمل راعيا للمواشي وأحيانا يصيبني بعض رشاش من بولها، وقد تشرب هذه الحيوانات من ماء وأحتاج للوضوء مما بقي منه. فما رأى الدين في ذلك ؟
ج : قال تعالى: {وثيابك فطهر}. وقال (صلى الله عليه وسلم): " الطهور شطر الإيمان" . رواه مسلم.
أكثر الفقهاء على أن طهارة الثوب والبدن شرط لصحة الصلاة، ونقل عن الإمام مالك قول: بأن إزالة النجاسة سنَّة وليست بفرض، وفى قول قديم للشافعي: أنها غير شرط لصحة الصلاة، فعلى هذين القولين تجوز الصلاة في الثوب إذا كانت فيه نجاسة، وهذا الحكم في النجاسة المتفق على أنها نجاسة كالبول والغائط، وهناك أشياء مختلف في نجاستها، منها:
أبوال الحيوانات التي يؤكل لحمها، وكذلك أرواثها مثل: البقر والإبل والغنم والدجاج والحمام والعصافير.
وقد قال الإمام مالك: إنها ليست نجسة. وعلى هذا يجوز لراعي المواشي أن يصلي بالملابس التي أصيبت ببعض البول أو الروث من مأكول اللحم، وليس منه الحمار والكلب، وإن كان الأفضل تطهيرها مراعاة للنظافة والصحة.
أما الوضوء من الماء المتبقي من شرب الحيوانات، فقد جاء فيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصغي إلى الهرة الإناء حتى تشرب [أي يميل الإناء الذي فيه ماء لتشرب منه القطة] ثم يتوضأ بفضلها [أي بما بقي في الإناء] وقال: "إنها ليست بنجس". رواه أحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح.(1/31)
وروي أنه سئل: "أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال : نعم، وبما أفضلت السباع كلها". أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي وقال: له أسانيد يقوي بعضها بعضا؛ بناء على هذا، قال العلماء: إن الحيوانات الطاهرة أي غير الكلب والخنزير إذا شربت من الماء وكان كثيرا لا ينجس مطلقا، أما إذا كان قليلا كملء دلو أو قدر فإنه لا ينجس أيضا ما دمنا لا نعلم أنها وضعت في فمها شيئا نجسا، وغالب حيوانات الحقل: كالبقر والغنم لا تأكل نجسا؛ وعلى هذا فإن الماء المتبقي من شربها تجوز الطهارة به، ومع ذلك لو وجد ماء غيره أنظف منه، يكون الوضوء منه أفضل.
والله أعلم.(1/32)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نود أن نعرف:
ماذا على المسلم من آداب عند قضاء الحاجة، وما حكم قضائها في مرحاض متوجه للقبلة بطبيعته حسب تصميم البناء ؟
من آداب قضاء الحاجة:
أولا:
إذا أراد الإنسان دخول بيت الخلاء يسن أن يقدم رجله اليسرى ويقول كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".
[أي ذكور الشياطين وإناثها لأنها تأوي كثيرا إلى هذه الأماكن]
وإذا كان قضاء الحاجة في خلاء لا يسنُّ له أن يقول ذلك .
ثانيا:
عدم الكلام أثناء قضاء الحاجة، فقد روى مسلم وغيره أن رجلا مر على الرسول (صلى الله عليه وسلم) "وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه" .
ثالثا :
ألا يتبول على شيء جامد خشية أن يتطاير منه الرزاز فينجِّس الثوب كما رواه أحمد وأبو داود.
رابعا :
إذا لم يجد ماء يستنجي به استجمر بالحجر أو بما يقوم مقامه من كل جامد طاهر طالع غير أملس، ويسن أن يكون الاستجمار ثلاثا، وذلك بعد التأكد من عدم بقاء بول في القبل، وهو ما يسمي بالاستبراق و حديث من يعذبان في القبر لذلك وللنميمة معروف، ويسن أن يكون الاستنجاء باليسار لا باليمين.
ومن الآداب عند الخروج: أن يقدم رجله اليمنى ويقول: "غفرانك". كما رواه أحمد وبعض أصحاب السنن عن عائشة مرفوعا.
وروي أنه كان يقول: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ منفعته. وأذهب عني أذاه".
وإذا لم يكن هناك بيت خاص لقضاء الحاجة يسن ما يأتي:
أن يقضي حاجته بعيدا عن أنظار الناس، كما كان يفعل النبي (صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
وأن يستتر بشيء كحائط أو جذع نخلة أو أي شيء آخر.
ثانيا :
أن يبتعد عن الملاعن الثلاثة الواردة في حديث أبي داود وابن ماجة، وهي:
الموارد المائية والطرق ومواقع الظل، ومثلها كل ما يؤذي ويضر البيئة.
ثالثا :(1/33)
أن يبتعد عن الحُجَر، والشقوق فقد تكون فيها حشرات مؤذية كما رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
أما استقبال القبلة عند قضاء الحاجة:
فقد روى مسلم وغيره أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها".
يدل هذا الحديث على احترام القبلة، فلا يكون الإنسان أثناء قضائها أو قضاء الحاجة المعروفة متوجها إليها، ولا موليا ظهره إياها، وذلك أمر مندوب إليه وليس واجبا، فلو لم يفعل ذلك لم يرتكب إثما، بدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يلتزمه، فقد روى الجماعة عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: "رقيت يوما بيت حفصة [وهي أخته أم المؤمنين] فرأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) على حاجته مستقبل الشام، مستدبر الكعبة".
ورأى جماعة من الفقهاء أن حرمة استقبال القبلة واستدبَارَها أو واستدبارِها أو الكراهة، إنما يكون في الصحراء، والخلاء حيث لا يوجد بناء ولا حواجز، أما إذا كان ذلك في البنيان، فلا حرمة، ولا كراهة، ومعلوم أن أماكن قضاء الحاجة في المدن وغيرها توجد في أفنية مستورة، فلا ينطبق عليها هذا الحديث، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم بسند حسن أن ابن عمر أناق راحلته مستقبل القبلة يبول إليها، فقال له مروان: أليس قد نُهِي عن ذلك قال: بلى، إنما نُهِي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس.
والله أعلم.(1/34)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتبول جالسا، وقد أوصانا بذلك، ونرى الآن الكثير من المراحيض العامة مجهزة بشكل يضطر المتبول إزاءها أن يبول قائما. فما الحكم في ذلك ؟
جاء في (زاد المعاد) لابن القيم أن أكثر ما كان يبول النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو قاعد، يرتاد لبوله الموضع اللين الرخو من الأرض، وإذا كانت هناك أرض صلبة أخذ عودا من الأرض فنكس به حتى يكون فيه ثرى ورماد.
وقالت عائشة (رضي الله عنها) : "من حدثكم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا".
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة "أنه بال قائما". فقيل: هذا بيان للجواز. وقيل: إنما فعله من وجعٍ كان في مأبضه [وهو باطن الركبة]. وقيل: فعله استشفاء.
قال الشافعي (رحمه الله): والعرب تستشفي من وجع الصلب بالبول قائما.
والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزها وبعدا من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم [وهي المكان الذي تلقى فيه الكناسة ويسمى المزبلة وهى تكون مرتفعة] فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله، وهو (صلى الله عليه وسلم) استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط فلم يكن بد من بوله قائما.
فالخلاصة:
أن التبول من قيام مكروه وليس بحرام، لما يترتب عليه من خوف التلوث من الرشاش واطلاع الغير على العورة.
والله أعلم .(1/35)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، المعروف عند أكثر المسلمين أن الكلاب نجسة نجاسة مغلظة، لكننا نرى بعضهم يداعبها دون حرج، بل أصبح بعض الناس يربيها معهم في شقتهم. فما رأي الدين في ذلك ؟
ذكر العالم الإسلامي كمال الدين الدميري المتوفى سنة 808هـ في كتابه الجامع (حياة الحيوان الكبرى) ذكر أن: الكلاب نجسة سواء منها المعلَّمة وغير المعلَّمة، والصغير والكبير، وبه قال الأوزاعي وأحمد وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور، وكذلك الإمام الشافعي. ثم قال: لا فرق بين المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين كلب البدوي والحضري وذلك لعموم الأدلة. أما في مذهب مالك فهناك أربعة أقوال:
الأول: طهارته.
الثاني: نجاسته.
الثالث: طهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره.
[والسؤر هو بقية الطعام والشراب] وهذه الأقوال مروية عن الإمام مالك.
الرابع: أنه يفرق بين البدوي والحضري.
فالأول: سؤره طاهر.
والثاني: نجس.
ويحكى هذا عن الحسن البصري وعروة بن الزبير محتجين إلى قوله تعالى: { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم من الطبيات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلموهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكنا عليكم }.
ولم يذكر غَسْل موضع إمساكها، كما احتجوا بحديث بن عمر الذي رواه البخاري حيث قال: "كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتبول فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك".
احتج الشافعية بنجاسة الكلب بحديث البخاري ومسلم الذي جاء في إحدى رواياته:
"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب".
قالوا: ولو لم يكن نجسا لما أمر بإراقته؛ لأنه حينئذ يكون إتلاف مال.
وأما حديث بن عمر قال البيهقي عنه: أجمع المسلمون على أن بول الكلاب نجس وعلى وجوب الرش من بول الصبي، والكلب أولى، فكان حديث بن عمر قبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب، أو أن بولها خفي مكانه، فمن تيقنه لزم غسله.(1/36)
ثم قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عن هذا الحديث: فيه وجوب غسل نجاسة ولوغ الكلب سبع مرات، وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجماهير.
وقال أبو حنيفة: يكفي غسله ثلاث مرات. ثم قال النووي: واعلم أنه لا فرق عندنا بين ولوغ الكلب وغيره من أجزائه. فإذا أصاب بوله، أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو من أعضائه شيئا طاهرا في حال رطوبة أحدهما؛ وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب.
وجاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة أن المالكية قالوا: كل حي طاهر العين ولو كلبا أو خنزيرا. ووافقهم الحنفية على طهارة عين الكلب ما دام حيا على الراجح. إلا أن الحنفية قالوا بنجاسة لعابه على الحياة تبعا لنجاسة لحمه بعد موته. هذا وجاء في كتاب (كفاية الأخيار في فقه الشافعية) قال النووي في أصل الروضة وفى وجه شاذ: أنه يكفي غسل ما سوى الولوغ مرة، كغسل سائر النجاسات، وهذا الوجه قال في شرح المهذب: إنه متجه وقوي من حيث الدليل؛ لأن الأمر بالغسل سبعا، إنما كان لينفرهم عن مؤاكلة الكلاب، ثم قال صاحب الكفاية [بعد ذكر نجاسة الخنزير وكيفية التطهير منها] قال: وهل يقوم الصابون والأشنان مكان التراب؟ فيه أقوال: أحدها: نعم. كما يقوم غير الحجر مقامه في الاستنجاء، وكما يقوم غير الشبِّ والقرر في الدباغ مقامه، وهذا ما صححه النووي في كتابه (رؤس المسائل) والأظهر في الرافعي والروضة وشرح المهذب أنه لا يقول: بأنها طهارة متعلقة بالتراب فلا يقوم غيره مقامه كالتيمم.
والقول الثالث:
إن وجد التراب لم يقم، وإلا قام وقيل: يقوم فيما يفسده التراب، كالثياب دون الأواني.(1/37)
بعد عرض هذه الأقوال، أنصح باتباع رأي الجمهور في نجاسة الكلاب وعند التطهر من نجاستها يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب، وذلك لم لا يحتاجون إلى معاشرة الكلاب، أما من يحتاجون إليها في الحراسة والصيد ونحوهما، فيمكن اتباع رأي المالكية في الاكتفاء بالغسل بالماء، كما يمكن أن يستبدل بالتراب مادة أخرى كالصابون، وذلك فيما يفسده التراب كالثياب، وقد رأيت في (فتح الباري) لاستدلال ابن حجر لحديث الإذن في اتخاذ الكلب للحراسة على طهارته؛ لأن في ملابسته مع الاقتراب منه مشقة شديدة، فالإذن في اتخاذه، إذن في مكملات مقصودة ، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه، وهو استدلال قوي لا يعارضه إلا عموم الخبر الوارد في الأمر من غسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل، وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل.
والله أعلم .(1/38)
س:وما حكم الإسلام فيمن يأكل الفسيخ والأسماك المملحة ؟
جاء في إجابة للمرحوم الشيخ [يوسف الدجوي] عن الأسماك المحفوظة بالتمليح جاء فيها أن السمك لا شك في طهارته حيا أو ميتا لحديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال". رواه أحمد والشافعي وابن ماجة والبيهقي والدارقطني وهو حديث ضعيف، وصحح الإمام أحمد وقفه على ابن عمر، كما قاله أبو زرعة وأبو حاتم، ومثل هذا له حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا كذا، وحرم علينا كذا مثل قوله أُمرنا ونُهينا، ولحديث الخمسة [أي أحمد وأصحاب السنن الأربعة].
وقد سئل الرسول عن الوضوء بماء البحر فقال:" هو الطهور ماؤه الحل ميتته" لكن الدم المسفوح نجس، وهو السائل عن مقره في حال الحياة، ونحو الفصد أو بعد الموت، ولو بعد التزكية الشرعية من سائر الحيوانات، ولو من السمك خلافا للقابسي وابن العربي حيث قالا: إن الدم المسفوح من السمك طاهر، فالسمك إذا ملح ووضع بعده على بعض صار فسيخا، فإن لم يتحلل منه دم مسفوح كان طاهرا وحل أكله، أما إن خرج منه دم مسفوح بواسطة الضغط عليه بشيء ثقيل مثلا فقد سار نجسا لا يحل منه إلا الصف الأعلى مع غسله قبل أكله، أما الطبقات السفلي فلا يحل أكلها على القول المشهور، وذلك بنجاستها بمرور الدم عليها، وعدم إمكان تطهيرها لامتزاجها بالدم، ويحل أكل جميعه على رأي القابسي وابن العربي.(1/39)
وعلى المشهور إن شك في كونه من الصف الأعلى أو غيره؛ جاز أكله؛ لأن الطعام لا يطرح بالشك، هذا هو حكم الفسيخ على مذهب الإمام مالك، ومذهب الحنفية أن السمك لا دم له فإذا ملح صار فسيخا وحل أكله، سواء أكان من الصف الأعلى أم من غيره، وذلك كله ما لم يخش ضرره أكله وإلا حرم أكله من أجل الضرر، لا من أجل النجاسة، بعد هذا العرض يكون أكل الفسيخ حلالا عند الأحناف، وبعض المالكية فليست الحرمة متفقا عليها والدين يسر، وذلك بشرط عدم الضرر من أكله، ويختم الشيخ الدجوي كلامه بقوله: والورع تركه.
والله أعلم .(1/40)
س:هل يجوز ما طبخ بدهن الخنزير للضرورة، كأن أن يكون الإنسان في طريق لا يوجد فيه أكل آخر، أو في عمل في الصحراء ؟
شحم الخنزير كلحمه محرم لقوله تعالى: { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير }. فلا يجوز أكل الحم أو الشحم أو ما طبخ به، وذلك بشرط الاختيار بأن يكون هناك طعام حلال آخر، ولم يكره على تناوله أحد، فإن لم يوجد إلا لحم الخنزير أو ما طبخ بشحمه، أو أكرهه على تناوله من هو أقوى منه جاز أكله؛ لأن هذه حالة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، بدليل قوله تعالى في الآية :{ فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} .
وحكم الاضطرار هذا راجع إلى جميع المحرمات المذكورة في الآية، والمخمصة هي: الجوع الشديد، والتجانف هو: تجاوز الحد الأدنى في الأكل، أو هو العصيان في السفر على اختلاف للفقهاء في ذلك، فالآية تدل على تناول لحم الخنزير أو شحمه عند الضرورة بشرط ألا يزيد على ما يمسك الرمق فإن الضرورة تقدر بقدرها.
... والحالة الواردة في السؤال هي: وجود الشخص في صحراء إن كان في الصحراء طعام آخر ليس فيه لحم أو شحم الخنزير ويمكن الحصول عليه ولو بالشراء لا يجوز أكل الخنزير، فإن لم يوجد إلا هو، ولا يمكن الحصول على غيره جاز له تناوله بقدر يسير، وكذلك من كان في طريق لا يوجد فيه غير لحم الخنزير، أو ما طبخ بشحمه يجوز له أن يأكل منه بقدر الضرورة، حتى يصل إلى مكان فيه طعام حلال.
والله أعلم .(1/41)
س:يقول أحد الناس: سمعت من أحد العلماء أن الرجل الذي في يديه وشم لا يصح أن يكون إماما في الصلاة فهل هذا صحيح ؟
قال الخطيب الشافعي: الوشم وهو غرز الجلد بالإبرة حرام للنهي عنه فتجب إزالته، وذلك إذا لم يخف ضررا من الأضرار، التي تبيح التيمم بإحداث مرض أو زيادته، فإن خاف لم تجب إزالته ولا إثم بعد التوبة، وهذا كله إذا فعله برضاه بعد بلوغه وإلا فلا تلزمه إزالته، وتصح صلاته وإمامته لغيره، ولا ينجس ما وضع يده فيه مثلا إذا كان عليها وشم.
ومن هذا يعلم أن الرجل المذكور في السؤال تجب عليه إزالة الوشم الذي فعله باختياره بعد البلوغ، وهذا إن كانت إزالته بطريقة لا تضر العضو الموشوم، فإن كانت الإزالة تضره فلا حرج، وتصح صلاته، أما من وشم صغيرا فلا تجب عليه إزالة الوشم وبالتالي تصح صلاته، وإمامته.
والوشم منهي عنه بحديث :" لعن الله الواشمة والمستوشمة ".
والصحيح أن حرمته مرتبطة بقصد الغش والتدليس، أو الفتنة أو الإغراء، وإن كان البعض حرمه لأن فيه تغييرا لخلق الله، ولأن الدم النجس انعقد بسبب اللون الموشوم به، ولا تزول نجاسته بالغسل كسائر النجاسات، ومن هنا حكم بعدم صحة الصلاة إلا بعد إزالته إن أمكن بدون ضرر.
وكان الوشم معروفا عند العرب قبل الإسلام وغيرهم من الأمم، وكان يقصد به الجمال إن كان في شفتي المرأة، ويعرف باللمى فاللمياء حسنة في أعين الرجال عندهم، كما قصد به في بعض البلاد تمييز القبائل بعضها عن بعض بخطوط ذات اتجاهات وأعداد متنوعة، كالموجود مثلا في بلاد جنوبي مصر، كما يعمل لأغراض أخرى في مواضع معينة على الجسم من أجل الجمال في عرف بعض القبائل، أو إظهار البأس والقوة، وغير ذلك من الأغراض.
والله أعلم .(1/42)
س:وما حكم استعمال الفرشاة التي تصنع من شعر الخنزير، أو يدخل شعر الخنزير في صناعتها ؟
معلوم أن الخنزير يحرم أكله، أما طهارته فالجمهور على أنه نجس، والبعض قال: إنه طاهر كالحمار والذئب يحرم أكلهما، ومع ذلك هما طاهران، وكل حيوان لم يذبح ذبحا شرعيا، أو كان مما يحرم أكله، حتى لو كان طاهرا حال حياته كالحمار فإنه يعتبر ميتة ولحم الميتة مع حرمة أكله نجس.
والنجاسة تشمل الجلد والشعر وكل ما يتصل به غير أن جلد الميتة جلد الميتة يطهر بالدباغ عند الجمهور إلا جلد الكلب والخنزير فلا يطهر بالدباغ، ومثله الفراء والشعر وعليه فلا يجوز استعمال جلد الخنزير وشعره في ملابس أو أحذية أو غيرهما، على رأى جمهور العلماء، هذا هو حكم شعر الخنزير إذا أخذ بعد موته، أما إذا أخذ حال حياته فإن حكمه كحكم ميتته، وميتته نجسة، فشعره بالتالي نجس، وذلك لحديث رواه الحاكم وصححه: " ما قطع من حي فهو كميتته". واستثنى العلماء من هذا الحديث شعر وصوف ووبر مأكول اللحم فهي طاهرة.
وعلى هذا لا يجوز استعمال شعر الخنزير إذا قص منه وهو حي في عمل الفراجيل [أي الفرش] حتى لو غلي هذا الشعر و عقم، سواء أخذ حال الحياة أو بعد الموت؛ لأن هذه الإجراءات الصحية لا تطهره، بل هي للتأكد من خلوه من الأمراض المعدية، والنجاسة باقية؛ لأنها نجاسة عين لا تطهر بهذه الوسائل مطلقا، بخلاف الشيء الطاهر الذي لاقته النجاسة فإنه يقال عنه: إنه متنجس، ويطهر بالغسل بالماء.
والله أعلم .(1/43)
س:بعض مصانع السكر تستعين بالعظام المحروقة لتكريره. فهل يكون السكر نجسا ؟
صدرت فتوى مصرية قديمة بأن العظم إذا كان من ميتة فهو طاهر في رواية، ما عدا ميتة الكلب والخنزير، وعلى هذا فلا مانع من الاستعانة بالعظام في مصانع السكر للتكرير.
والله أعلم .(1/44)
س:هل صحيح أن المشط المأخوذ من العاج، وهو سن الفيل يعتبر نجسا ؟
روى الترمذي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " وقال حديث حسن غريب، وبناء عليه قال جمهور الفقهاء: إن عظم الفيل نجس، ولا يطهر بحال، كما قال الشافعي ومالك وإسحاق، ورخص في الانتفاع به محمد ابن سرين وابن جريج وغيرهما، فيما روى أبو داود عن ثوبان" أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم )أمره أن يشتري لفاطمة (رضي الله عنها) قلادة من عصب وسوارين من عاج" .
وروى البخاري عن الزهري قال في عظام الموتى نحو الفيل وغيره: أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدَّهنون فيها، ولا يرون بها بأسا، والعَصْبُ: ثياب يمنية، والعَصَبُ: سن بعض الحيوانات يتخذ منه الخرز.
هذا وقد قال الدميري في كتابه (حياة الحيوانات الكبرى) ما نصه: كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) مشط من العاج، والعاج شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية ، يتخذ منه الأمشاط والأساور، وفى الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر ثوبان (رضي الله عنه) أن يشتري لفاطمة(رضي الله عنها) سوارين من عاج .
أما العاج الذي هو عظم الفيل فنجس عند الشافعي، وطاهر عند أبى حنيفة، وعند مالك يطهر بصقله، فيجوز التسريح بمشط العاج، وما دام عظم الفيل طاهرا عند بعض الأئمة، فلا بأس باستعماله واختلاف الآراء رحمة بالأمة. والله أعلم .(1/45)
س: هل صحيح أن السكينة التي عليها دم يمكن أن تطهر بمسحها بقطنة دون غسلها بالماء ؟
في مذهب الحنفية أن من وسائل تطهير النجاسة: المسح الذي يزول به أثر نجاسة كما كان الصحابة (رضي الله عنهم) يصلون وهم حاملوا سيوفهم، وقد أصابها الدم فكانوا ويمسحونها ويجتزئون بذلك، ويقاس عليها كل ثقيل لا مسام له كالسكين والمرآة والظفر والعظم والزجاج والآنية المدهونة وكذلك غيرها، وعندهم أيضا أن القطن إذا تنجس يطهر بنتفه ولا حاجة إلى غسله.
والله أعلم .(1/46)
س:فضيلة الشيخ عطية، أريد أن أعرف كيف أتوضأ وضوءا صحيحا مقبولا تصح به الصلاة، كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ ؟
معلوم أن الله قد فرض علينا الوضوء للصلاة لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين}. وبقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". رواه الشيخان وبالإجماع على ذلك وفرائضه الأساسية أولا ـ النية عند لمس الماء لأول عضو وهو الوجه لحديث " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمري ما نوى". رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وهي تكون بالقلب، ولا يشترط التلفظ بها بل التلفظ سنة عند بعض الأئمة.
ثانيا ـ غسل الوجه وحده من أعلى الجبهة عند منبت شعر الرأس إلى أسفل اللحيين طولا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا، ودليله الآية المذكورة. ثالثا ـ غسل اليدين إلى المرفقين والمرفق والمفصل الذي بين العضد والساعد ولابد من غسله مع اليد، ودليله الآية المذكورة.
رابعا ـ مسح الرأس [أي إصابته بالبلل بوضع اليد أو الإصبع على الرأس] ودليله الآية المذكورة.
والمطلوب هو مسح بعضه عند بعض الأئمة، أو مسح كله عند بعضهم الآخر فعند الشافعي يكفي مسح القليل ولو ثلاث شعرات، وعند أبى حنيفة لابد من مسح ربع الرأس، وعند مالك لابد من مسح كل الرأس، وأساس الاختلاف تفسير معنى الباء في قوله: {برؤوسكم} وما كان يفعله النبي (صلى الله عليه وسلم) أحيانا ولا بأس بالأخذ بأي رأي.
خامسا ـ غسل الرجلين إلى الكعبين ودليله الآية المذكورة.
والواجب غسل الكعبين أيضا كما هو الثابت المتواتر من فعل الرسول وقوله.(1/47)
سادسا ـ الترتيب كما جاء في الآية، ولعموم الحديث الصحيح: "ابدءوا ما بدأ الله به". وللثابت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولأن الله ذكر في الآية ممسوحا بين مغسولات فدل على وجوب الترتيب وهو ما رآه جمهور الفقهاء.
وروى الطبراني أن النبي (صلى الله عليه وسلم) "توضأ ثم قال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي".
والله أعلم .(1/48)
س:فضيلة الشيخ عطية، بعد ما علمنا الفروض الأساسية التي لا يصح الوضوء إلا بها، هل هناك سنن للوضوء يثاب الإنسان على القيام بها ؟
سنن الوضوء التي يصح بدونها، ولكن يثاب من فعلها كثيرة منها أولا ـ
التسمية في أوله للحث على التسمية في كل أمر ذي بال حتى يبارك الله فيه، كما رواه أبو داود وغيره.
ثانيا ـ السواك وهو دلك الأسنان بأي شيء خشن تنظف به، وأفضله عود الأراك المعروف، وجاء في فضلة حديث رواه مالك والشافعي وغيرهما "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء".
ويسن غسل السواك بعد استعماله لحديث رواه أبو داود والبيهقي عن عائشة (رضي الله عنها) كان النبي (صلى الله عليه وسلم): "يستاك فيعطيني السواك لأغسله فابدأ به، فأستاك ثم أغسله، وأدفعه إليه".
ثالثا ـ غسل الكفين ثلاثا في أول الوضوء لحديث رواه أحمد والنسائي في ذلك رابعا ـ المضمضة ثلاثا لحديث أبى داود والبيهقي في ذلك.
خامسا ـ الاستنشاق والاستنثار ثلاثا [أي إخراج ما في الأنف من أذى] لحديث رواه الشيخان في ذلك، والسنة أن يكون الاستنشاق باليد اليمنى، والاستنثار باليد اليسرى، وتسن المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم لحديث صححه الترمذي.
سادسا ـ تخليل اللحية كما كان يفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث رواه ابن ماجة والترمذي وصححه.
سابعا ـ تخليل الأصابع لأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك في حديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، ولفعله (عليه الصلاة السلام) كما رواه أصحاب السنن
ثامنا ـ تثليث الغسل كما علمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) للأعرابي في حديث رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وكما كان يفعله هو كما رواه مسلم وأحمد والترمذي.
وإذا صح أنه (صلى الله عليه وسلم) توضأ مرة أو مرتين فذلك لبيان الجواز.(1/49)
تاسعا ـ التيامن [أي البدء باليمين قبل اليسار في اليدين والرجلين] فقد كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يحب التيامن في تنعله وترجله [أي في لبس النعل وتسريح الشعر] وفى ظهوره كما رواه الشيخان عن عائشة (رضي الله عنها).
عاشرا ـ الدلك [أي إمرار اليد على العضو مع الماء أو بعده] كما كان يفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) رواه ابن خزيمة وأبو داود وأحمد وغيرهم.
أحد عشر ـ الموالاة [أي تتابع غسل الأعضاء بعضها في إثر بعض بحيث لا يتخلل الوضوء عمل أجنبي، أو فاصل طويل كما كان عليه المسلمون سلفا وخلفا].
اثنا عشر ـ مسح الأذنين كما كان يفعل الرسول ورواه أبو داود وغيره.
الثالث عشر ـ إطالة الغرة والتحجيل بأن يغسل الإنسان جزءا من مقدم الرأس عند غسل الوجه، وبأن يغسل ما فوق المرفقين عند غسل اليدين، وما فوق الكعبين عند غسل الرجلين لحديث البخاري ومسلم " إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء".
الرابع عشر ـ الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه.
الخامس عشر ـ الدعاء أثناء الوضوء فقد روى النسائي بإسناد صحيح أن أبا موسى الأشعري سمع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) يتوضأ ويدعو: "اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في دارى، وبارك لي في رزقي".
السادس عشر ـ الدعاء أو الذكر بعد الوضوء لحديث رواه مسلم "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
وفى رواية للطبراني والنسائي "من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق ثم جعل في صابع [أي خاتم] فلم يكسر إلى يوم القيامة.
السابع عشر ـ صلاة ركعتين بعد الوضوء، وفى ذلك عدة أحاديث منها حديث البخاري ومسلم " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه".(1/50)
هذه هي أهم السنن المطلوبة في الوضوء، أما مكروهاته فهي ترك هذه السنن، هذا.
ويستحب الوضوء في مواضع منها عند ذكر الله كما كان يفعل النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وكذلك عند النوم ويتأكد ذلك في حق الجنب، كما في الأحاديث الصحيحة، وأيضا عند الغسل، وعند الأكل مما مسته النار لحديث مسلم "توضئوا مما مست النار". [أي من أكله] ويسن تجديد الوضوء لكل صلاة لحديث "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وحديث أحمد "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك ".
والله أعلم.(1/51)
س:وما حكم أكل الطيور، والحيوانات التي تتغذى على النجاسات ؟
سار الجدل في هذه الأيام حول لحم الدجاج الذي يضاف إلى علفه بعض المواد النجسة، أو الكيماوية التي تسرع نموها، وتزيد حجمها، أو وزنها.
وقد اختلف ذوو الاختصاص والخبرة في تأثير ذلك على صحة الإنسان ما بين مثبت للضرر، وبخاصة في علاقته بأمراض كثيرة، وعلماء الإسلام تحدثوا عن هذا الموضوع من قديم الزمان بناء على نصوص وردت في ذلك كلها تنتهي إلى النهي عن أكل لحم الجلالة وشرب ألبانها، والجلالة هي: كل ما يتناول العذرة والأرواث، وهي تشمل: الإبل والبقر والغنم والدجاج والأوز، وغير ذلك من كل ما يتناول هذه المواد.
قال العلماء: ولا يطلق عليها وصف الجلالة إلا إذا كان غالب علفها من النجس، كما جزم به النووي في (تصحيح التنبيه) يؤخذ من هذا أن مناط النهي هو وجود رائحة النجاسة، وتغير اللحم أو اللبن أو البيض، وذلك تابع في الغالب إلى كثرة ما تعلف به الدابة من النجاسة، أو قوة تأثيره.
يقول الدميري: ثم إلا لم يظهر بسبب ذلك تغير في لحمها فلا تحريم، ولا كراهه وسئل سحنون، وهو من فقهاء المالكية عن خروف أرضعته خنزيرة فقال: لا بأس بأكله.
قال الطبري: العلماء مجمعون على أن الجدي إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيرة لا يكون حراما، ولا خلاف في أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة.(1/52)
بعد عرض هذه الأقوال نستخلص أن الدوآب التي يخلط علفها بمادة نجسة، ولم يظهر فساد في لحمها أو لبنها أو بيضها، ولا ضرر في تناوله لا يحرم أكل ذلك، ولا يكره؛ لزوال علة النهي، وهي الفساد، أما أن كان علفها كله من مادة نجسة، وظهر فساد اللحم واللبن والبيض، فالخلاف موجود بين الحكم بالحرمة، أو الكراهة [الكراهة التحريمية أو التنزيهية] وإن لم يكن فساد فلا حرمة، والأولى علفها بمادة طيبة مدة من الزمان حتى تقبل النفس عليها، فإن بعض النفوس لا تقبل الحلال الذي لا شك في حله، وكلام الأطباء والمختصين في هذا المقام له وزنه إن أجمعوا عليه. والله أعلم(1/53)
س:فضيلة الشيخ عطية ، نسمع البعض يقول دعاء مع كل عضو يغسله حين الوضوء. فهل هذا سنة أم بدعة، وإذا كان سنة فما هذه الأدعية التي تصاحب غسل كل عضو ؟
ليكن معلوما أن من لم يذكر الله أثناء الوضوء فوضوءه صحيح، ومن تكلم بكلام الدنيا فوضوءه أيضا صحيح، لكن هل الأفضل السكوت أو ذكر الله؟
قال جماعة: الأفضل السكوت، وذلك لاتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال جماعة: الذكر أفضل، وذلك للأمر بالذكر عموما، ولعدم ورود نهي عنه من النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلاف جاء بسبب الحديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "رواه البخاري ومسلم، فالقائلون بالسكوت قالوا: إن إحداث ذكر يعتبر إحداثا لأمر ليس من الدين.
والقائلون بالذكر قالوا: الذكر مطلوب بوجه عام دون التقيد بزمان أو مكان كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكر كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا}.
فالذكر أثناء الوضوء داخل تحت الأمر العام، وعليه فليس فيه إحداث أمر في الدين ليس منه.
ثالثا ـ تسن التسمية في أول الوضوء لحديث " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع". وفى رواية "بالحمد لله" رواه أبو داود وغيره وحسنة ابن الصلاح وغيره، ولحديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" رواه أبو داود وغيره.
ولأحاديث أخرى في سنن البيهقي، ومن تركها سهوا أو عمدا فوضوءه صحيح على رأي جمهور العلماء، وقال الحنابلة: بوجوبها لو تركت عمدا بطل الوضوء، ويسن بعد الانتهاء من الوضوء قول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ففي حديث مسلم أن من قالها فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". وفى رواية الترمذي زيادة: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.
وفى رواية ضعيفة للنسائي زيادة "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك". كما رويت أحاديث ضعيفة في تكرار الشهادة ثلاث مرات.(1/54)
أما الذكر أثناء الوضوء فقد ورد فيه حديث صحيح عن أبى موسى الأشعري أنه أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) بوَضُوءٍ [أي بماء يتوضأ به] فسمعه يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي".
وفيه اختلاف في مكان هذا الذكر فرواه ابن السني على أنه في خلال الوضوء، ورواه النسائي على أنه بعد الوضوء، وفيه أن أبا موسى قال: يا نبي الله سمعتك تدعو بكذا وكذا قال: "وهل تركنا من شيء".
أما الدعاء على أعضاء الوضوء فلم يرد فيه شيء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
يقول النووي: في كتابة [الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار] قال الفقهاء: يستحب فيه دعوات جاءت عن السلف، وزادوا ونقصوا فيها فالمتحصل مما قالوه: أن يقول بعد التسمية: الحمد لله الذي جعل الماء طهورا ويقول: عند المضمضة: اللهم اسقني من حوض نبيك (صلى الله عليه وسلم) كأسا لا أظمأ بعده أبدا، ويقول: عند الاستنشاق اللهم لا تحرمني رائحة نعيمك وجناتك.
ويقول: عند غسل الوجه اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. ويقول: عند غسل اليدين اللهم أعطيني كتابي بيميني، وحاسبني حسابا يسيرا. اللهم لا تعطيني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري.
ويقول: عند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري عن النار، وأظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، ويقول عند مسح الأذنين: اللهم اجعلني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ويقول عند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم.
فهذه الأدعية وإن لم يرد بها حديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا بأس بها، وبخاصة أنها وردت عن السلف، وداخلة تحت الأمر العام بذكر الله، ولم يرد نهي عنها .
والله أعلم .(1/55)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، هل مس الفرج للذكر أو للأنثى ينقض الوضوء ؟
عن بسرة بنت صفوان قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ". (رواه الخمسة وصححه الترمذى). قال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب.
ثانيا :
عن بسرة أيضا قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ويتوضأ من مس الذكر". (رواه أحمد والنسائي).
ثالثا :
عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضئون". (أخرجه الدار قطني).
رابعا:
عن أم حبيبة ( رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " من مس فرجه فليتوضأ". (رواه ابن ماجة وصححه أحمد)
خامسا :
سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) : "عن الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال: إنما هو بَضْعَة أو بضعة منك". (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد). وقال: هو عندنا أثبت من حديث بسرة (وصححه ابن حبان).
بناء على الأحاديث الأربعة الأولى، قال جماعة من الصحابة والتابعين بنقض الوضوء بمس الفرج، وعليه جمهور الفقهاء على أن يكون المس بغير حائل. لحديث (رواه أحمد وابن حبان و الحاكم وصححاه) "من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء".
وإليك بعض التفاصيل لأقوال الفقهاء:
قالت المالكية: ينتقض الوضوء بمس الإنسان ذكر نفسه المتصل به، فلو مس ذكر غيره يكون لامسا يجري عليه حكم اللمس، ويشترط أن يكون بدون حائل، وببطن الكف، أو باطن الأصابع أو جنبها أو رأس الإصبع، ولا ينتقض بمس امرأة فرجها، ولو أدخلت فيه إصبعها ولو التذت، ولا بمس حلقة الدبر، ولا بإدخال إصبعه فيه على الأصح، وإن كان حراما لغير حاجة.(1/56)
أما مس دبر غيره أو فرج امرأته فهو لمس يجري عليه حكم الملامسة، وقالت الشافعية: مس الذكر المتصل أو المنفصل الذي لم يتجزأ ينقض الوضوء بشرط عدم الحائل، وأن يكون ببطن الكف أو الأصابع، ولا فرق بين ذكر نفسه أو غيره، ولو صغيرا أو ميتا، ومثله مس حلقة الدبر وقبل المرأة.
وقالت الحنابلة: ينتقض الوضوء بمس ذكر الآدمي من نفسه ومن غيره، صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا، بشرط الاتصال وبغير حائل، وباليد ظهرا أو بطنا إلا الأظافر، وينتقض بمس حلقة دبره أو دبر غيره، وبمس فرج الأنثى، ولا ينتقض بمس امرأة فرج نفسها؛ إلا إذا أولجت إصبعها إلى الداخل.
وبناء على الحديث الخامس، ذهب بعض الصحابة والتابعين وعليه أبو حنيفة والثوري: إلى أن مس الذكر غير ناقض للوضوء، وردوا على رأي الجمهور: بأن الوضوء الوارد في الأحاديث الأولى هو: الوضوء اللغوي [أي غسل اليدين].
أما الجمهور، فردوا رأي الأحناف بأن: الحديث الخامس الذي اعتمدوا عليه، ضعفه الإمام الشافعي وأبو حاكم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادعى ابن حبان والطبراني وآخرون أنه منسوخ، وقالوا: إن راوي هذا الحديث وهو طلق بن على روى أيضا حديث "من مس فرجة فليتوضأ". كما (صححه الطبراني) فقيل: سمع أولا عدم النقض ثم سمع آخرا النقد، وبهذا يظهر رجحان رأى الجمهور وهو النقض.
والله أعلم .(1/57)
س:وهذا سؤال يقول فيه صاحبه: توضأت وبعد الوضوء انتصب الذكر. فهل هذا يفسد الوضوء ؟
لا يفسد الوضوء ولا الغسل بانتصاب الذكر، إلا إذا نزل منه شيء، فإن كان بشهوة وجب الغسل، وإلا فهو مذي لا يوجب الغسل بل ينقض الوضوء ويغسل موضعه.
والله أعلم .(1/58)
س:فضيلة الشيخ، هذه رسالة يقول صاحبها فيها: توضأت ثم أصابتني سنة من النوم، ثم أفقت. فهل أجدد وضوئي، أم أصلي بالوضوء الأول ؟
من نواقض الوضوء: النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك مع عدم تمكن المقعدة من الأرض، فالذي ينام على جنبه أو ظهره ينتقض وضوءه، أما الذي ينام جالسا، فإن كان متمكنا من الأرض لا يميل يمنة أو يسرة مثلا، فإن وضوءه لا ينتقض، وبهذا يمكن التوفيق بين النصوص التي فيها نقض الوضوء بالنوم مطلقا، والنصوص التي ليس فيها نقض الوضوء بالنوم، فمما جاء بالنقض مطلقا حديث أحمد والنسائي والترمذي وصححه، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمرنا إذا كنا سفرا ألا ننزع كتافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم.
ومما ما جاء بالنقض مقيدا، حديث مسلم وأبي داود والترمذى كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون، وفى رواية أخرى لقد رأيت أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوقظون للصلاة حتى لأسمع لأحدهم غطيطا، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون.
وبهذا نعلم أن نقض الوضوء بالنوم فيه قولان، وهذه هي الطريقة الصحيحة للجمع بين النصوص التي تقول: إن النوم ينقض الوضوء مطلقا والنصوص التي تقول: إن النوم ينقض الوضوء إن لم يكن النائم متمكنا من مقعده.
والله أعلم .(1/59)
س:فضيلة الشيخ عطية، هل يصح أن أصلي بالوضوء الواحد أكثر من فرض، وهل فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك ؟
إذا توضأ الإنسان ولم ينتقض وضوءه، يجوز أن يصلي به أكثر من فرض من فروض الصلاة، ولكن الأفضل أن يجدد هذا الوضوء الذي لم ينقض، أما إن نقض فالواجب أن يتوضأ للصلاة، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك " رواه أحمد بإسناد حسن.
ويقول: "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وأما الحديث الذي يروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "الوضوء على الوضوء نور على نور". فليس له أصل من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) ولعله من كلام بعد السلف كما قال الحافظ المنذري هذا.
وقد كان من عادة النبي (صلى الله عليه وسلم) تجديد الوضوء لك لصلاة، ولكن خالف هذه العادة يوم الفتح [أي فتح مكة] فصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، ولما سأله عمر عن ذلك قال: "تعمدته يا عمر، وذلك حتى لا يظن الناس أنه واجب فيشق عليهم". وفعل مثل ذلك في خيبر.
والله أعلم .(1/60)
س:فضيلة الشيخ عطية، وفى إطار حديثنا عن نواقض الوضوء جاءتنا رسالة يقول فيها صاحبها: هل خروج الدم ينقض الوضوء، وما الحكم في أنني مصاب بالرعاف، وقد أنزف وأنا أصلي، فهل هذا الحدث يبطل صلاتي، وينقض وضوئي؟
عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من أصابه قيء أو رعاف أو قلذ أو مذي فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبني علي صلاته وهو في ذلك لا يتكلم". رواه ابن ماجة والدار قطني وهو حديث ضعيف كما قاله غير واحد.
الرعاف: هو الدم الذي ينزل من الأنف. والقيء: ما يخرج من المعدة إلى الحلق. والقلذ: بفتح القاف وسكون الام أو فتحها ما خرج من الحلق أو الجوف ملء الفم أو دونه وليس بقيء. قاله الجوهري في الصحاح وابن الأسير في النهاية.
والمذي: هو الماء الأبيض الرقيق الذي ينزل من القبل عقب فوران الشهوة بدون لذة أو تدفق.
عن أنس قال احتجم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه وهو حديث ضعيف.
بناء على هذه المرويات اختلف الفقهاء في نقض الوضوء بالدم الخارج من الجسم، فقال الشافعي وأصحابه: في عدم نقض الوضوء بخروج الدم من غير السبيلين [أي القبل والدبر]، إلا إذا كان من ثقبة تحت المعدة تقوم مقام السبيلين في خروج الفضلات، وكذلك قال مالك: بعدم النقض بخروج الدم من غير السبيلين ألا إذا كان من ثقبة تحت المعدة، أو من الفم، إذا صار ذلك مخرجا للفضلات يقوم مقام السبيلين، مع بعض التوضيحات عندهما في الخارج من الثقبة، وسند هؤلاء في عدم النقض للوضوء للرعاف، والحجامة والجرح، أن الأصل عدم النقض للمتوضئ إلا بما يدل عليه دليل مقبول، ولا يوجد هذا الدليل.(1/61)
يقول الشوكاني: لا يصار إلى القول بأن الدم أو القيء ناقض إلا بدليل ناهض، والجزم بالوجوب قبل صحة المستند كالجزم بالتحريم قبل صحة النقل، والكل من التقول على الله بما لم يقل، ويؤيد قول هؤلاء حديث عباد بن بشر فإنه يبعد ألا يطلع النبي (صلى الله عليه وسلم ) على مثل هذه الواقعة العظيمة، ولم ينقل أنه أخبره بأن وضوءه بطل.
أما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: بنقض الوضوء بالرعاف وبنزول الدم من أي مكان في الجسم بشرط السيلان الذي يجاوز به الدم محل خروجه، أما المذي فهو ناقض للوضوء باتفاق؛ لخروجه من القبل، فإذا خرج بعض الدم من الأسنان أو من أثر الحلاقة أو من سكين أو غير ذلك، فالوضوء صحيح على مذهب جمهور الفقهاء، والواجب هو تطهير المحل الذي أصابه الدم.
والله أعلم .(1/62)
س: فضيلة الشيخ عطية صقر، مصافحة المرأة الأجنبية، هل حرام أم حلال ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المصافحة بين الجنسين الأجنبيين إذا كانت بحائل فلا مانع منها، وإن كان عدمها أولى لعدم الحاجة إليها، وقد تؤدى إلى ما هو ممنوع، أما إذا كانت بغير حائل فهي ممنوعة، والدليل على ذلك: ما ورد من امتناع النبي (صلى الله عليه وسلم) عن مصافحة النساء في البيعة والمعاهدة.
فقد روى مسلم عن عائشة (رضى الله عنها) أنها قالت: "والله ما مست يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يد امرأة قط غير أنه بايعهن بالكلام".
وجاء مثل ذلك في روايات مقبولة فهو (صلى الله عليه وسلم) لم يصافح النساء بدون حائل في أمر مهم جدا وهو المبايعة، مع سمو أخلاقه، وطهارة نيته والأمن من الفتنة، فمنع المصافحة أولى في غير ذلك وبين من هم دون ذلك، هذا إلى جانب التحذير من لمس المرأة الأجنبية بدون ضرورة أو حاجة.
فبالحديث الذي رواه البخاري ومسلم "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا". وفيه "واليد زناها البطش". وفسره النووي بأن يمس أجنبية بيده أو يقبلها، والفقهاء حين منعوا هذا اللمس اتفقوا على أنه محرم إذا كان عمدا وقصدت اللذة، أما إن كان غير عمد فلا حرمة فيه للتجاوز عن الخطأ، وإن كان عمدا ولم تقصد به شهوة قال بعضهم: إنه حرام. وقال آخرون: إنه مكروه فقط، كمصافحة الطاعن في السن لعجوز مثله، لكن الراجح هو التحريم.
والذين قالوا بعدم الحرمة استندوا إلى امتناع النبي (صلى الله عليه وسلم) عن مصافحتهن في البيعة والإذن لهن أن يذهبن إلى عمر ليبايعهن، فالإذن دليل على عدم الحرمة، لكن هذا الحديث ضعيف كما قال ابن العربي وذكره القرطبي في سورة الممتحنة بصيغة التمريض التي تدل على عدم صحته، فالمعول عليه هوالحديث الصحيح في منع المصافحة وإذا كانت فاشية في بعض المجتمعات كتقليد للأجانب، فالواجب التخلص من هذا التقليد.
والله أعلم .(1/63)
س: فضيلة الشيخ، وهل مس المرأة الأجنبية في زحمة الطريق أو زحمة المواصلات ينقض الوضوء، أو هذه المصافحة بشكل عام ؟
قال الله تعالى في آية الوضوء: { أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} وفى قراءة {أو لمستم} فسر الجماعة الملامسة: باللمس بدليل القراءة الثانية، والمراد باللمس: التقاء جلد الرجل بجلد المرأة فيما دون الجماع، وبذلك قالوا: إن لمس الرجل للمرأة الأجنبية بغير حائل ينقض الوضوء، سواء في ذلك أن يكون اللمس باختيار أو بغيره، بلذة أو بغيرها، وإلى هذا ذهب ابن مسعود وابن عمر والزهري واختاره الشافعي وأصحابه.
وفسر جماعة الملامسة في الآية بالجماع، وعلى هذا لا ينتقض الوضوء باللمس العادي حتى لو كان عمدا وبشهوة [أي بلذة] وإلى هذا ذهب علي وابن عباس وعطاء وطاووس واختاره أبو حنيفة وأبو يوسف.
فهناك في حكم المسألة ثلاثة اتجهات فقهية:
الاتجاه الأول: النقد بالمس مطلقا، ولو بغير قصد ولا لذة وهو مذهب الشافعية.
وجاء في تفصيلاتهم أنه يشترط أن يكون بدون حائل، وأن تكون المرأة الملموسة أجنبية [أي ليست محرما محرمة عليها تأبيدا] ومنها زوجته وأخت زوجته وعمتها وخالتها، كما يشترط أن تكون المرأة بلغت حد الشهوة عند أرباب الطباع السليمة، واستثنوا من بدن المرأة شعرها وسنها وظفرها فلا ينتقض الوضوء بلمس ذلك حتى لو كان بشوة، ويستوي في النقض كون المرأة حية أو ميتة.
والاتجاه الثاني: عدم النقض باللمس مطلقا حتى لو كان بلذة وهو مذهب الأحناف واستثنوا من ذلك المباشرة الفاحشة، وهي تلاصق الفرجين من شخصين مشتهيين بلا حائل، فإنها تنقض الوضوء حتى لو كان التلاصق بين امرأتين.
والاتجاه الثالث: ربط النقض بالشهوة، وهو مذهب المالكية والحنابلة.
والله أعلم .(1/64)
س:فضيلة الشيخ، شخص مصاب بسلس البول، وأحيانا يبدأ في الصلاة، وقبل أن يتمها يحس بنزول بعض قطرات من البول، فماذا يفعل، وماذا يفعل مرضى المسالك البولية ؟
قال العلماء: إن الوضوء ينتقض بالخارج من السبيلين إن كان خروجه في حال الصحة، فإن خرج حال المرض كالسلس كان صاحبه معذورا.
وللفقهاء في ذلك خلاف، فالشافعية قالوا: ما خرج على وجه السلس يجب على صاحبه التحفظ منه بأن يحشو محل الخروج ويعصبه، فإن فعل ذلك ثم توضأ، ثم خرج منه شيء فهو غير ضار في إباحة الصلاة وغيرها بهذا الوضوء، وذلك بشرط أن يقدم الاستنجاء على الوضوء، وأن يوالي بين الاستنجاء وبين الوضوء والصلاة، وأن تكون هذه الأعمال بعد دخول الوقت، ويصلي بهذا الوضوء فرضا وما شاء من النوافل، وتكون النية في الوضوء هي الاستباحة، لا رفع الحدث؛ لأنه لا يرفع بل مستمر.
والمالكية قالوا: لا ينتقض الوضوء بما خرج حال المرض كالسلس، بشرط أن يلازم أغلب أوقات الصلاة أو نصفها، وأن يكون غير منضبط، وألا يقدر على رفعه بعلاج ونحوه، وذلك على المشهور من مذهب مالك.
وهناك رأي عنده بأن السلس لا ينقض الوضوء، ولكن يستحب منه الوضوء إذا لم يلازم كل الزمن.
ومتى استوفى السلس هذه الشروط؛ ندب الوضوء منه، ويصلي صاحب السلس بوضوئه ما شاء، إلى أن ينتقض بناقض آخر.
فأما الحنفية قالوا: من به سلس بول أو ريح أو استحاضة مثلا، يقال له: معذور إذا استمر عذره وقتا كاملا لصلاة مفروضة، ويتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ما شاء من الفرائض والنوافل، وينتقض وضوءه بخروج الوقت على تفصيل في ذلك، وعلى المعذور أن يدفع عذره بكل ما يستطيع.
الحنابلة قالوا: لا ينتقض وضوء من به سلس؛ بشرط أن يغسل المحل، ويعصبه جيدا، وأن يكون الحدث دائما، وأن يكون الوضوء بعد دخول الوقت، وعليه أن يتوضأ لكل وقت، ويصلي بوضوئه مع الفرض ما شاء من فروض ونوافل.
والله أعلم .(1/65)
س:شخص أجريت له عملية جراحية، تحول بها مجرى البول إلى أنبوبة تصب في كيس يحمله، وقد تتسرب منه بعض النقط، فكيف يصلي ؟
معلوم أن الصلاة لا تقبل بغير طهارة من الحدث والنجس، وخروج شيء من السبيلين المعتادين وهما القبل والدبر من بول أو غائط أو ريح يبطل الوضوء، أما الخارج من غير السبيلين كفتحة في البطن، فقد اختلف فيه العلماء، فالشافعية والمالكية يقولون: إذا انقطع الخروج من السبيلين أو من أحدهما أو انسد المخرج المعتاد لعارض؛ فإن الخارج ينقض الوضوء. والحنابلة يقولون بالنقض في كل الأحوال.
أما الحنفية فيقولون: إن الخارج النجس من غير السبيلين ينقض الوضوء؛ إذا سال وتجاوز موضع خروجه واستمر نزوله وكان صاحبه معذورا، والحالة الواردة في السؤال ينطبق عليها حكم سلس البول، فصاحبها يوالي بين الاستنجاء والوضوء والصلاة، ويصلي بالوضوء في الوقت ما شاء من الفرائض والنوافل.
والله أعلم .(1/66)
س:وما حكم تجفيف الأعضاء بعد الوضوء ؟
في سنن الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال: كان (صلى الله عليه وسلم) إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه [أي يتنشف به] قال الترمذي: غريب وإسناده ضعيف، وبه جزم الحافظان العراقي والعسقلاني.
وفى السنن أيضا عن عائشة قالت: كانت له (عليه السلام) "خرقة يتنشف بها بعد الوضوء".
قال الترمذي: هذا الحديث ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا الباب شيء، وأبو معاذ سليمان بن أرقم الرازي البصري راويه عن الزهري عن عروة عن عائشة ضعيف عند أهل الحديث، وقد رخص قوم من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم في التمندل [أي التجفيف بالمنديل بعد الوضوء] ومن كرهه إنما كرهه لما قيل: إن الوضوء يوذن. روى ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري.
يقول الزرقاني: بعد الكلام السابق الذي ذكره القسطلاني: يجوز التنشف بلا كراهة، وعليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم، ومالك وغيره، وذهب آخرون إلى كراهته لحديث ميمونة أنها أتته (صلى الله عليه وسلم) بمنديل فرده، ولقول الزهري: إن ماء الوضوء يوذن، وأجاب الأولون: بأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، كما أجابوا بأجوبة أخرى.
ثم ذكر الزرقاني حادثة ميمونة التي ناولته ما يجفف به ماء الغسل فرده وانطلق وهو ينفض يديه من الماء، وبيَّن أن عدم أخذ الخرقة هو لأمر آخر، لا يتعلق بكراهة التنشف، بل يتعلق بالخرقة وبغير ذلك.
قال المهلب بن أحمد شارح البخاري: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يسيره عادة فيشق عند عدمه تركها.
وقال النووي: اختلف أصحابنا [أي الشافعية] في ذلك على خمسة أوجه أشهرها أن المستحب تركه، وأن فعله خلاف الأولى، وقيل: مكروه لأنه عبادة يكره إزالة أثرها كدم الشهيد وخلوف فم الصائم.(1/67)
وقال القرطبي: ولا يتم قياس ذلك على دم الشهيد؛ لأن إزالة دمه حرام، وإزالة الخلوف في السواك جائزة، وقال الزواوي: القياس على الشهيد غير بين؛ لأن الشهيد يسقط عنه التكليف بالموت، ولو جرح في سبيل الله وعاش لزمه غسل دمه مع أنه أثر عبادة، وقيل: مباح بلا كرهة، وهو مذهب مالك قال النووي في شرح مسلم: وهو الذي نختاره ونعمل به لاحتياج المنع والاستحباب إلى دليل، وقيل: مستحب للسلامة من غبار نجس ونحوه، وقيل: مكروه في الصيف للترفه، مباح في الشتاء؛ لضرورة البرد، وعن ابن عباس يكره في الوضوء دون الغسل؛ لأن الوضوء لا يكون إلا عبادة، بخلاف الغسل فيكون للتبرد والتنظف ونحو ذلك.
قال النووي: وهذا كله إذ لم تكن حاجة كبرد أو التقاء نجاسة فإن كان فلا كرهة قطعا، وحديث لا "تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مرواح الشيطان". قال ابن الصلاح: لم أجده وتبعه النووي، وأخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل، وبعد فهذا ما نقلته من الزرقاني على المواهب ورأيت كيف اختلف العلماء في كراهة التجفيف وعدم كراهته، وهي صورة من صور اهتمام العلماء بكل شيء حتى فيما هو مستحب لا واجب.
والأمر عند تغير الظروف لا يستحق الاختلاف الشديد والإنسان مخير في اتباع أي رأى يري فيه مصلحته والأعمال بالنيات.
والله أعلم .(1/68)
س:فضيلة الشيخ، في بعض الحمامات في الشركات وفى بعض البلاد الأجنبية توجد أوراق بدلا من المياه، فهل يصح أن يقوم الورق مكان المياه، وهل يعد في حكم الاستجمار ؟
قال العلماء: يزال الخارج من القبل والدبر بالماء أو بالحجر أو ما في معناه من كل جامد طاهر طالع للنجاسة، [يعني ليس أملس كالزجاج] وليس له حرمة، كالخبز، أو الورق الذي فيه قرآن، أو اسم مكرم، وذلك لحديث عائشة عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه" رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
فالخلاصة أنه يقوم مقام الأحجار، الأوراق المذكورة في السؤال، وكل طاهر جامد طالع.
والله أعلم .(1/69)
س:فضيلة الشيخ ما الأسباب التي يتيمم المسلم بسببها ؟
يقول الله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} .
تدل الآية على أن الإنسان إذا أراد أن يتطهر من الحدث، ولم يجد ماء؛ فعليه أن يتيمم بالتراب الطاهر، فالسبب المبيح للتيمم هو: عدم وجود الماء أصلا، أو وجود ما لا يكفيه منه للطهارة.
وفى الصحيحين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لرجل أصابته جنابة ولم يجد ماء: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك".
قال العلماء: عند فقد الماء يجب أن يطلب من مظآنه المتيسرة، فإن كانت في الطلب مشقة كبعد المكان الذي فيه الماء، أو غلاء ثمنه الذي لا يملكه؛ لا يجب عليه الطلب.
ومن الأسباب للتيمم أيضا أن يكون الماء قريبا، ولكن يخاف الإنسان على نفسه أو عرضه أو ماله، أو يخاف فوت الرفقة، أو كان بينه وبين الماء عدو، أو كان هناك ما يمنع الحصول على الماء، أو لو اغتسل من جنابة سيرمى بتهمة هو بريء منها، فإنه يجوز له التيمم، وكذلك لو وجد الماء للطهارة لكنه يحتاجه للشرب أو لإعداد طعام، أو إزالة نجاسة، فإنه يجوز له التيمم.
وكذلك يجوز له التيمم إن ضاق الوقت، وخشي فوات الصلاة إن اغتسل بالماء، فيصلي بالتيمم ولا إعادة عليه.
ومن الأسباب المبيحة للتيمم:
وجود مرض أو جراحة يخاف من استعمال الماء زيادة المرض أو تأخر الشفاء.
روى أبو داود وابن ماجة والدار قطني عن جابر أنه كان في سفر مع أصحاب فأصاب واحدا منهم حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل يجوز له التيمم؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة في التيمم وأنت تقدر على الماء.فاغتسل؛ فمات. فلما علم الرسول بذلك قال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكيفه أن يتيمم أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده".
ومن أسباب التيمم أيضا:(1/70)
شدة برودة الماء، وغلبة الظن أنه يضره ولا يجد ما يسخنه، فقد روى أحمد وأبو داود وغيرهما أن عمرو بن العاص احتلم في غزوة ذات السلاسل، وخاف إن اغتسل بالماء البارد، أن يهلك، فتيمم وصلى بالناس، ولما علم الرسول بذلك، سئل عمرا فقال: "صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: ذكرت قول الله (عز وجل): { ولا تقتلوا أنفسكم }. فتيممت، ثم صليت، فضحك الرسول ولم يقل شيئا".
وهذا إقرار لما فعل، وإقرار الرسول حجة.
والله أعلم .(1/71)
س: هذا عن الأسباب التي تبيح للمسلم أن يتيمم بسببها، فكيف يتيمم الإنسان المسلم؟
التيمم يكون بالتراب الطاهر، وكل ما كان من جنس الأرض كالرمل والحجر والجص، وكيفيته جاءت في حديث رواه البخاري ومسلم عن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) أنه لما أصابته الجنابة ولم يجد ماء تمرغ في التراب، فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) :" إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بكفيه الأرض، وتنفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه".
وجاء في رواية الدار قطني أنه قال له: "ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين".
يفيد هذا أن ضرب الأرض بالكفين كان مرة واحدة، وأنه مسح بهما وجهه وكفه إلى الرسغين وليس إلى المرفقين.
وجمهور الفقهاء: على أن الضرب يكون مرتين، مرة للوجه، ومرة لليدين، وذلك لورود حديث في ذلك، وهو: "التيمم ضربتان".
فنهاك رأيان في عدد الضربات:
أحدهما: يكتفى بضربة واحدة، والآخر يوجب ضربتين، وكذلك هناك رأيان في القدر الواجب مسحه من اليدين:
أحدهما: إلى الرسغ.
والآخر: إلى المرفقين.
ولكل أن يختار ما يشاء.
والله أعلم .(1/72)
س:شخص يعاني بصفة مستمرة من نزول المني، رغم عرضه على الأطباء وتناول العلاج، فهل هذا يوجب الغسل، أم يكتفي بالوضوء، وماذا يفعل إذا أحس بنزوله أثناء الصلاة ؟
قال العلماء: إذا خرج المني من غير شهوة، كأن نزل لمرض أو برد فلا يجب عليه الغسل، وذلك لحديث رواه أحمد عن علي (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال له: "فإذا صدخت الماء فاغتسل". [أي خرج منك المني بشدة].
ويروى عن مجاهد أنه كان في حلقة بالمسجد، ومعه أصحاب ابن عباس، فاروق وعكرمة وسعيد ابن جبير، وكان ابن عباس قائما يصلي، فسألهم رجل وقال: إني كلما بلت تبعه الماء الدافق [وهو المني] فقالوا: عليه الغسل. ولكن الرجل لم يقتنع، ولما انتهى ابن عباس من الصلاة استدعى الرجل، وعجب من إفتائهم إياه بما لم يرد في الكتاب والسنة، بل بالرأي، وذكر قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد". ثم سأل الرجل أرأيت إذا كان ذلك منك أتجد شهوة في قبلك؟ قال: لا. قال: فهل تجد خدرا في جسدك؟ قال: لا. قال: إنما هذه أبردة يذهيك منها الوضوء. [يعني هي إصابة بالبرد لا يجب منها الغسل] نقل هذا الحكم الشوكاني في كتابة [نيل الأوطار].
وحكم سلس المني وسلس البول والريح مقيس على حكم الاستحاضة التي تزيد على أكثر مدة الحيض، وهى عشرة أيام عند الحنفية، وخمسة عشر يوما عند غيره، وذلك لورود النص فيها، فالحنفية والحنابلة يكتفون بوضوء واحد لوقت كل صلاة.
والشافعية يوجبون الوضوء لكل فريضة، ولكل إنسان أن يختار من الآراء ما يشاء.
والله أعلم .(1/73)
س:سيد تسأل وتقول: ذهبت إلى طبيبة نساء فأدخلت جهاز كشف في الفرج، فهل يوجب ذلك الغسل أو الوضوء، وإذا كنت متوضئة هل أصلي بوضوئي ؟
قال الأئمة: خروج أي شيء من السبيلين ينقض الوضوء كالريح والبول، والجهاز الذي يكشف به على الفرج إذا دخل، فإنه يخرج ولا يبقى، وعليه فالوضوء ينتقض نص على ذلك الخطيب في شرح متن أبى شجاع في فقه الشافعية.
ولكنه لا يوجب الغسل؛ لأنه ليس معاشرة جنسية اللهم إلا إذا نزل بهذه العملية مني وذلك للشعور بالشهوة فيجب الغسل.
والله أعلم .(1/74)
س:سيدة تقول: أنا أم وأنجبت توأمين طفلا وطفلة وكلاهما يبولان علي كثيرا ولا أستطيع غسل ملابسي بصفة مستمرة، فماذا أفعل لأصلي ؟
جاء في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) "كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم بالتمر فأتته أم قيس بنت محصن بابن لها لم يأكل الطعام فبال في حجره (صلى الله عليه وسلم) فلم يزد على أن دعا بماء فنضحه أي رشه على ثوبه ولم يغسله غسلا".
وروى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي قوله (صلى الله عليه وسلم): "بول الغلام ينضح عليه، وبول الجارية يغسل".
قال قتادة: وهذا ما لم يطعما، فإن طعما غسل بولهما.
ذكر النووي في شرح صحيح مسلم اختلاف العلماء في كيفية طهارة بول الولد والبنت، وقال: إن القول بوجوب غسلهما، والقول بالاكتفاء بنضحمها شاذين ضعيفين، واختار القول الصحيح المشروع عند الشافعية والحنابلة وما ذهب إليه ابن وهب، من أصحاب مالك وروي عن أبي حنيفة وهو نضح بول الولد وغسل بول البنت، كما يدل عليه حديث أحمد ومن معه، وحكم بصحته الحافظ بن حجر في الفتح.
والنضح كما اختاره النووي من أقوال العلماء هو غمر الثوب بالماء غمرا كثيرا لا يبلغ درجة جريانه وتكاثره، ولا يشترط عصر، والشرط في الاكتفاء بالنضح كما قال قتادة: ألا يطعما الرضيع شيئا غير لبن المرضع، ولو تناول طعاما على جهة التغذية، فإنه يجب غسل بوله بلا خلاف.
وعليه فإن الأولاد الذين يعتمدون الآن على الغذاء الصناعي أكثر من لبن المرضع يجب غسل بولهم، ولا يكتفي بالنضح والرش، ولا يجوز المسح كما يقول من يقول بذلك.
والله أعلم .(1/75)
س:هل هناك فرق في بول الصبي وبول الصبية في النجاسة، وما الحكمة في هذا الفرق ؟
مبدئيا أقول: إن تنفيذ الأحكام الشرعية لا يشترط له النص على حكمة المشروعية ولا فهم هذه الحكمة، فإن كنت منصوصة فبها، وإلا كان علينا الاتباع ولا بأس من البحث لالتماس حكمة للتشريع، وسواء صح ما وصل إليه البحث أو لم يصح فذلك لا يؤثر على الحكم الشرعي.
وقد حاول العلماء أن يجدوا حكمة لهذا التفريق، فأتوا بوجوه ذكر صاحب (كفاية الأخيار) في فقه الشافعية عن الشيخ تفي الدين بن دقيق العيد: أنها ركيكة جدا، لا تستحق أن تذكر، وهي راجعة إلى اختلاف طبيعة البول لكل منهما تحتاج في تحقيقها إلى ذوي الخبرة، ومن أقرب الوجوه أن النفوس أشد تعلقا بالصبيان؛ ولذلك يميلون إلى حملهم كثيرا، فخفف الله عنهم في طهارة بولهم، وهذا المعنى مفقود غالبا بالنسبة للإناث فجرى الغسل فيهن على القياس، هذا ما قالوه في ذلك. والله أعلم .(1/76)
س:يقول بعض الناس: إن الكولونيا والعطور المحلولة في الكحول، نجسة، فهل هذا صحيح ؟
الحكم في استعمال الكولونيا والعطور المحلولة في الكحول متوقف على حكم الكحول نفسه، هل هو نجس أو طاهر؟ وقد اختلفت أنظار العلماء فيه بناء على أنه من قبيل المسكرات كالخمر، أو من قبيل المواد السامة، أو شديدة الضرر، والكل متفوقون على حرمة شربه، فهو مسكر، وكل مسكر خمر، وكل خمر حرام.
والإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار، كما جاء في السنة النبوية، والقائلون بأن: الكحول كالخمر، اختلفوا في نجاسته، فالأئمة الأربعة على أن: الخمر نجسة بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}.
حيث قالوا: إن الرجس و النجِس أو النجَس أو المستقذر والخبيث، وخالف في هذا الحكم، الإمام ربيعة شيخ الإمام مالك، والليث بن سعد، والمزني صاحب الإمام الشافعي، وبعض المتأخرين من العلماء، فقالوا: إن الخمر طاهرة، مستدلين بأنها لما حرمت سكبت في طرق المدينة، فلو كانت نجسة ما فعل الصحابة ذلك للنهي عن التخلي بالبول، والغائط في الطرق، وردوا دليل الجمهور وهو الآية، بأن الرجس إذا أريد به النجس، أو النجس، فالنجاسة حكميَّة، كنجاسة المشركين في قوله تعالى: {إنما المشركون نجس} [أي في الاعتقاد].
أما أجسامهم فغير نجسة، ويقوي هذا أن الأشياء المذكورة في الآية، وهى الميسر والأنصاب والأزلام [أي الأصنام والسهام التي يعرف بها الغيب عند العرب] ليست نجسة وإن كانت محرمة، فالدلالة اللفظية على النجاسة في الآية ليست قطعية.
فالخلاصة: أن الخمر نجسة عند الجمهور، فيكون الكحول والعطور المحلولة فيه نجسة.
أما عند غير الجمهور فهي طاهرة، وبالتالي يكون الكحول طاهرا، وكذلك العطور المحلولة فيه، وممن قال بالطهارة، الشوكاني في كتابة (نيل الأوطار) والصنعاني في كتابة (سبل السلام) ومحمد رشيد رضا في تفسيره.(1/77)
وما دام الأمر خلافيا فلعل من التيسير بعد شيوع استعمال الكحول، والعطور في التطهير، والعلاج أن يقال بالطهارة، وبخاصة إذا كان الكحول يستخرج الآن من مواد مختلفة غير العنب الذي تؤخذ منه الخمر.
والله أعلم .(1/78)
س:رجل يقول: تظهر في الأسواق بعض أنواع من الصابون يقال: إن فيها مادة نجسة، فما رأي الدين في ذلك ؟
الحكم في هذه المسألة وما يشبهها كالجبن والحلوى، يبنى على أن انقلاب العين وتحولها من حقيقة إلى أخرى يطهرها أو لا يطهرها، وهي مسألة اختلف فيها الإمامان: أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبى حنيفة، فذهب أبو يوسف إلى أن التحول لا يطِّهر، وذهب محمد إلى أنه يطهر، وقد اختار علماء المذهب قول الإمام محمد ونصوا على أنه المُفتَى به.
وعلى ذلك لا مانع من استعمال الصابون المضاف إليه مادة نجسة في الطاهرة على ما هو المختار من مذهب الحنفية.
والله أعلم .(1/79)
س: وهذا رجل يقول: أعاني من كثرة الغازات في بطني، ويستتبع ذلك كثرة خروج الريح مني، فهل يستلزم ذلك الاستنجاء. أم يكتفى بالوضوء ؟
شرع الاستنجاء؛ لإزالة النجاسة الخارجة من السبيلين، القبل والدبر، وهي البول والغائط وما في حكمهما من مائع وجامد، والريح الخارج من الدبر ليس نسجا، وبالتالي لا يجب الاستنجاء منه؛ حيث لم يرد نص فيه، والبلوى تكثر به، ولعدم حصر ما يصيبه من الجسم أو الثوب، بل قال بعض الأئمة: بكراهة الاستنجاء من الريح، والدين يسر. فلو خرج الريح بعد الاستنجاء، لا يجب الاستنجاء مرة ثانية، حتى ولو كان المحل لا يزال رطبا ويكتفى بالوضوء فقط.
جاء في كتاب (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع) للشربيني الخطيب ما نصه: نقل الماوردي، وغيره الإجماع على أنه لا يجب الاستنجاء من النوم، والريح.
قال ابن الرفعة: ولم يفرق الأصحاب بين أن يكون المحل رطبا أو يابسا، ولو قيل بوجوبه إذا كان المحل رطبا لم يبعد، كما قيل به في دخان النجاسة، وهذا مردود. وقد قال الجرجاني: إن ذلك مكروه، وجاء في المغني لابن قدامة ما نصه: وليس على من نام أو خرجت منه ريح، استنجاء، ولا نعلم في هذا خلافا.
قال أبو عبد الله: ليست للريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله إنما عليه الوضوء.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) "من استنجى من ريح فليس منا". رواه الطبراني في معجمه الصغير إلى أن قال: لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة هاهنا. [أي في النوم والريح].
والله أعلم .(1/80)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، هل لنا أن نتعرف على كل الأشياء التي تنقض الوضوء ؟
نواقض الوضوء إجمالا هي: ما خرج من السبيلين [أي القبل والدبر من بول وغائط وريح ومذي وودي ومني عند البعض، والنوم مع عدم التمكن وزوال العقل بجنون، أو غيره، ومس الفرج بدون حائل، ولمس الرجل المرأة بدون حائل.
وهناك أمور أخرى فيها خلاف كبير، كخروج الدم والقيء وأكل لحم الإبل، والقهقهة في الصلاة، هذا هو الإجمال.
والله أعلم .(1/81)
س:وهذا سائل يسأل، يقول: قمت قبل شروق الشمس بدقائق وإذا توضأت أو اغتسلت فات وقت الصبح، فهل يجوز لي أن أتيمم اختصارا للوقت ؟
إذا وجد الماء وكان الإنسان قادرا على استعماله، ولكنه خشي باستعماله خروج الوقت بحيث لو تطهر لا يدركه، ولو تيمم لأدركه فللعلماء في ذلك خلاف، فأبو حنيفة يقول: لا يجوز التيمم إذا خاف فوت الوقت؛ لأن لها بدلا، وهو القضاء. ويجوز إذا خاف فوت صلاة الجنازة، أو العيد.
والشافعي يقول: لا يتيمم مطلقا خوف خروج الوقت أو خوف فوات الجنازة، أو العيد؛ لأنه يكون قد تيمم مع فقد شرط التيمم، وهو عدم وجود الماء، فالجمعة لو فاتت تقضى ظهرا، والصلوات المفروضة لو فاتت تقضى في غير وقتها، والصلوات الأخرى غير واجبة، أو غير مؤقتة، فلا داعي لصلاتها بالتيمم.
وقال مالك: إذا خشي باستعمال الماء خروج الوقت، فإنه يتيمم ويصلي ولا يعيد الصلاة على المعتمد.
أما صلاة الجنازة فإنه لا يتيمم لها؛ إلا إذا تعينت عليه، وأما الجمعة ففي صحة التيمم لها قولان: والمشهور لا يتيمم لها.
وقال الحنابلة: قريبا من قول مالك، و لكل إنسان أن يختار الرأي الذي يستريح له.
والله أعلم .(1/82)
س:فضيلة الشيخ، من أكل لحم إبل أو لحما مشويا، هل سيستلزم ذلك الوضوء؟
روى مسلم أن رجلا سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) "أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ. قال الرجل: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. فتوضأ من لحوم الإبل. قال الرجل: أصلي في مرابض الغنم؟ قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): نعم. قال الرجل: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.". وروى مسلم أيضا: "إنما الوضوء مما مست النار، توضئوا مما مست النار".
وروى أبو داود عن جابر كان آخر الأمرين من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترك الوضوء مما مست النار.
ذهب أكثر العلماء إلى أن أكل لحوم الإبل لا ينقض الوضوء، قال النووي: ممن ذهب إلى ذلك: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود وأبي ابن كعب وابن عباس، وجماهير من التابعين ومالك وأبو حنفية والشافعي وأصحابهم، محتجين بحديث جابر المذكور وهو عام يشمل لحوم الإبل، وغيرها.
وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه، ويحي بن يحي و أبو بكر بن المنذر وابن خزيمة وحكي عن أصحاب الحديث، وعن جماعة من الصحابة إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل اعتمادا على الحديثين الأولين، والجمع بين أمر النبي في الوضوء من لحوم الإبل، كما كان عليه في آخر الأمر من ترك الوضوء مما مست النار، هذا الجمع فيه كلام كثير، وقد رأى بعض العلماء أن الأمر بالوضوء يراد به غسل اليدين [أي الوضوء اللغوي] وإن كان هذا الرأي فيه مناقشة عند إيراده للجمع بين الوضوء، وعدمه، والمختار للفتوى هو رأى جمهور الفقهاء من عدم نقض الوضوء بأكل لحوم الإبل، أو ما مست النار.
والله أعلم .(1/83)
س:يشاهد في بعض القرى التي تقع على الفروع وترع النيل أن بعض الأشخاص يتوضئون، وهم كاشفون لعوراتهم، وأيضا يتبولون في المياة الجارية. فما حكم الدين في ذلك ؟
أما كشف العورة عند الوضوء فلا حرمة فيه، فإن الذي يريد الغسل من الجنابة مثلا يخلع ملابسه، ثم يبدأ بالوضوء أولا على جهة الندب، ولم يقل أحد بوجوب ستر العورة عند الوضوء وإن كان ذلك مستحبا ما أمكن، وبخاصة إذا كان الوضوء في مكان عام، والناس ينظرون إلى الإنسان، فالمطلوب منه ستر عورته؛ وهي ما بين السرة والركبة؛ لأنه يحرم على غيره أن ينظر إليها، وهذا ما عليه الشافعية والحنفية مستدلين بحديث الدار قطني والبيهقي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) "عورة الرجل ما بين سرته وركبته". وفى حديث رواه أحمد والبخاري في تاريخه، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مر على معمَّر وفخذاه مكشوفتان، فقال: "يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة".
وقال الحنابلة والمالكية: عورة الرجل بالنسبة إلى الرجال هي: القبل والدبر فقط.
والدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كشف فخذه في بعض الأحيان، وذلك عندما دخل عليه أبو بكر، ثم عمر، ولما دخل عثمان ستر فخذه استحياء من رجل تستحيي منه الملائكة، وذلك مروي بعدة طرق. والرأي الأول أقوى، والستر مهما كان أفضل إن لم يكن واجبا. هذا لكشف العورة.
أما التبول في المياة الجارية فهو تلويث، وقد صح في الحديث النهي عن التبول والتغوط في الملاعن الثلاثة، وهي موارد المياة، ومواقع الظل، والطرق؛ لأن في ذلك ضرارا، والإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار كما في الحديث الشريف.
والله أعلم .(1/84)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نسمع عن صلاة تسمى صلاة فاقد الطهورين نرجو توضيح ذلك ؟
الطهوران هما: الماء والتراب، والذي يفقدهما يصلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه، ودليل ذلك ما رواه مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) أنها استعارت من أسماء قلادتها فهلكت، فأرسل الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) شكوا ذلك إليه؛ فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين منه بركة.
فهؤلاء الصحابة صلوا حين علموا ما جعل لهم طهورا، و شكوا ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم ينكره عليهم ولم يأمرهم بالإعادة قال النووي: وهو أقوى الأقوال دليلا ، والمعنى أن آية التيمم بالتراب لم تنزل إلا بعد أن صلوا بدون وضوء بالماء لعدم وجوده، ويفيد هذا أن فقد ما يتطهر به من الماء أو التراب يبيح الصلاة بدون تطهر.
ومثل ذلك من وجد في منطقة جليدية ليس بها تراب، ولم يتحمل أن يتطهر بالثلج لشدة برودته، وعدم وجود ما يدفئه به فيعتبر فاقد الطهورين يصلي حسب حاله دون إعادة عليه.
والله أعلم .(1/85)
س:فضيلة الشيخ عطية، ما حكم من أدركته الصلاة في السفر سواء أكان في قطار أو في أتوبيس أو غيرهما، وهو غير متوضئ. هل ينتظر إلي أن يصل إلي أقرب محطة أم يتيمم ويصلي ؟
إن كان السفر يجيز القصر والجمع فله جمع التأخير بأن يؤخر الوقت إلى وقت الصلاة الثانية، أن يؤخر صلاة الظهر ليجمعها مع صلاة العصر، أو يؤخر صلاة المغرب ليجمعها مع صلاة العشاء، وإن كان السفر قصيرا وخاف خروج الوقت، ولم يجد ماء فإنه يجب عليه إن وجد ترابا أن يتيمم ويصلي، وإن لم يجد ترابا ولا ماء في وسيلة السفر صلى كفاقد الطهورين، ولا إعادة عليه، أما إن لم يخف خروج الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل، وينتهي سفره، ثم يتوضأ ويصلي.
والله أعلم .(1/86)
س:سيدة تقول أحب طلاء أظافري، وأسبغ شعري بالحناء، وأستعمل الزيوت في شعري. هل يستلزم لصحة وضوئي، و طهارتي من الجنابة أن أزيل الطلاء والحناء والزيوت ؟
كان العرب قبل الإسلام يصطبغون بالحناء والكسم يلونون به الجلد والشعر والأظافر، وأقره الإسلام بل ندب إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) أحيانا، مع التحفظ في صبغ الشعر باللون الأسود، روى أبو داود بسند حسن أو صحيح أن امرأة أتت تبايع النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت، وله روايات متعددة، وجريا على سنة التطور وجدت أنواع كثيرة من الزينة مع قواعد منظمة لها، ومنها: الطلاء المعروف باسم مانيكير بأظافر الكفين، وباسم البديكير لأظافر القدمين، وهي مادة لها جرم قد يكون رقيقا، وقد يكون كثيفا، ولا يُزال بسهوله، فقد يقشط بآلة حادة، وقد يذاب في بعض الأحماض، وقد أجمع العلماء على وجوب إيصال الماء إلى جسم الإنسان مباشرة في الوضوء والغسل؛ إلا لضرورة كجرح يضره الماء، ومن هنا قالوا بتخليل الأصابع، وتحريك الخواتم؛ ليصل الماء إلى الجلد، فلابد من وصول الماء إلى كل ما يجب غسله، ومما اتفق عليه علماء المذاهب الأربعة في شروط صحة الوضوء:
عدم الحائل المانع من وصول الماء إلى البشرة كشمع ودهن وعجين ونحوها، ومنه <عماص> العين والأوساخ المتجمدة على العضو، ولا شك أن طلاء الأظافر مادة لها جرم كالشمع والعجين فلابد من إزالتها ليصل الماء إلى ما كان مستورا بها.
ولا يصح أن يقاس الطلاء على الجبيرة فيكتفى بالمسح عليه دون ضرورة إزالته، ذلك لأن الجبيرة وضعت لعذر وهو تضرر العضو من الماء، أما الأصابع فلا يوجد عذر يخول المسح عليها، هذا.
وإذا كانت هناك أظافر صناعية فلابد من نزعها؛ لتغسل الأظافر الأصلية.(1/87)
وأنبه إلى كراهة تطويل الأظافر، وتشكيلها بحيث تتفق مع الموضة، فإن من السنة التي يشترك فيها الرجال والنساء جميعا قص الأظافر، فهو من سنن الفطرة في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم، وقد جعلها أبو بكر بن العربي من الواجبات.
والله أعلم .(1/88)
س: فضيلة الشيخ عطية، من غسل الميت هل يجب عليه أن يغتسل ؟
الغسل لمن غسَّل أو غَسَل ميتا مستحب وليس بواجب كما قاله جمهور العلماء؛ وذلك لحديث رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". وقد طعن جماعة في صحة هذا الحديث لكن الحافظ ابن حجر قال: حسنه الترمذي وصححه ابن حبان وهو بكثرة طرقة أقل أحواله أنه حسن يحتج به، والأمر في ذلك للندب لا للوجوب لما روي عن عمر (رضي الله عنه) قال: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. رواه الخطيب بإسناد صحيح.
ولما غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) حين توفي خرجت فسألت مَنْ حضرها من المهاجرين فقالت: إن هذا يوم شديد البرد، وأنا صائمة فهل عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا. رواه الإمام مالك.
من هنا نعلم: أن الغسل من غسل الميت سنة وليس فرضا.
والله أعلم .(1/89)
س: رجل احتلم عند ضيفه وخشي من الشك. فماذا يفعل ؟
إذا علم الضيف من صلته القوية وصداقته المتينة لصاحب البيت أنه لا يظن به سوءا كان عليه أن يطلب الاستحمام للصلاة.
أما إذا تيقن أو غلب على ظنه أنه سيتهمه بسوء؛ فإنه يمكنه بأسلوبه اللبق أن يطلب ذلك، كان يدعي أنه يريد النظافة لطول عهده ـ مثلا ـ بالاستحمام، أو يريد التبرد من شدة الحر ـ مثلا ـ وذلك لمحاولة أن يصرف ذهن صاحبه عن الظن السيئ، وذلك على مثال ما قال العلماء للمصلي الذي يخرج منه ناقض للوضوء وهو في الصلاة، فإنه ينصرف منها واضعا يده على أنفه لإيهام الناس أن به رعافا لا أنه أحدث في الصلاة.
على أن جماعة من العلماء قالوا: يجوز له التيمم عند ضيق الوقت، ويصلي حتى لا تفوته الصلاة، ثم يتصرف في الغسل بعد ذلك بطريقة تنقذه من هذا الحرج هذا.
وخوف اتهام الضيف بالسوء يكون لو نام في الدور أو المسكن الذي فيه حريم، أما لو كان نائما في مكان منعزل عن الحريم، فالواجب عليه أن يغتسل في البيت أو خارجه، ولا يعبأ بشك صاحب البيت؛ لأنه حينئذ يكون متجنيا عليه وظالما له، وبخاصة إذا كان الضيف معروفا بالخلق الطيب، واستقامة السلوك فلا يخشى بأسا من الاغتسال، فالمؤمن المستقيم جدير بأن يدفع الله عنه قالة السوء، وإذا أعيته الحيل لدفع الشكوك والظنون السيئة عنه، قال بعض العلماء: إنه صار كالسجين في بيت صديقه؛ فيسقط عنه الغسل اتقاء للتهمة، ولأن الضرورات تبيح المحذورات، وهنا يقول بعض علماء الحنفية: يجب عليه أن يصلي بدون غسل في الوقت، لحرمة والوقت ولكنها صلاة غير حقيقية، بل يتشبه بالمصلين في الحركات ولا ينوي ولا يقرأ ولا يصلي إماما، ثم يعيد الصلاة بعد التمكن من الغسل، وقال بعض المحققين يستحسن له أن يتوضأ عقب الاحتلام، ويصلي الصلاة الصورية رمزا لمواظبته على طاعة الله، ثم يعيدها بعد الغسل.
والله أعلم .(1/90)
س:بعض النساء يلبسن فراء قد يكون من حيوان نجس فما الحكم في ذلك ؟
الفراء الذي يتخذ من جلود بعض الحيوانات اختلف العلماء في طهارته ونجاسته تبعا لاختلافهم في حل أكل الحيوان المأخوذ منه وحرمته وفي حكم طهارة جلد الميتة عن طريق الدباغ. فقال الشافعي: يحل أكل الثعلب ولكن إذا ذبح ذبحا شرعيا، فلو مات بدون ذلك فلحمه نجس، وكذلك جلده ولكنه يطهر بالدباغ وحرمه أحمد بن حنبل، وكرهه أبو حنيفة ومالك، على أن بعض القائلين بحرمة أكله أجازوا استعمال فروه للبس لا للصلاة فيه، وقد ذكر النووي في شرح صحيح مسلم سبعة مذاهب في طهارة جلد الميتة بالدباغ، وجاء في أحد الأقوال: أنه يطهر كل الجلود حتى جلود الخنازير والكلاب، وذلك ظاهرا وباطنا أي يستعمل للصلاة عليها والصلاة فيها.
وعلى هذا فلا مانع من لبس الفراء والصلاة فيه.
والله أعلم .(1/91)
س:رجل كسرت رجله فتم جبرها بعظم حيوان نجس. فما الحكم في ذلك ؟
جاء في مجموع النووي:
إذا انكسر عظم الإنسان ينبغي أن يجبر بعظم طاهر، قال أصحابنا [أي الشافعية]: ولا يجوز أن يجبره بنجس مع قدرته على طاهر يقوم مقامه، فإن جبره بنجس نُهر، وإن كان محتاجا إلى الجبر ولم يجد طاهرا يقوم مقامه فهو معذور، وإن لم يحتج إليه أو وجد طاهرا يقوم مقامه أثِم ووجب نزعه إن لم يخف منه تلف نفسه ولا تلف عضو، ولم يوجد أحد الأعذار المذكورة في التيمم، فإن لم يفعل أجبره السلطان، ولا تصح صلاته معه، ولا يعذر بالألم إذا لم يخف منه سوءا.
وسواء اكتسى العظم لحما أم لا، هذا هو المذهب. وهناك قول: إذا اكتسى العظم لحما لا ينزع، وإن لم يخف الهلاك. حكاه الرافعي، ومال إليه إمام الحرمين والغزالي، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وإن خاف من النزع هلاك النفس أو هلاك عضو أو فوات منفعة عضو لم يجب النزع على الصحيح من الوجهين، ثم قال في مداواة الجرحى بدواء النجس و خياطته بخيط نجس: إنه كالوصل بعظم نجس، يؤخذ من هذا أن جبر العظم بعظم نجس لا يجوز إلا عند الضرورة، وإن لم توجد ضرورة وجب نزعه إلا إذا خاف من نزعه تلف نفس أو عضو، أو فوات منفعة عضو، فإنه لا ينزع.
والله أعلم .(1/92)
س:رجل يقول: أنا دائم السفر، وأعلم أن المسح على الجورب من الرخص المباحة للمسلم بصفة عامة. فما شروط المسح على الجورب، وقياسا على الجورب هل يجوز المسح على العمامة بالنسبة للرجل، أو المسح على الخمار بالنسبة للمرأة ؟
المسح على الخفين بدل غسل الرجلين في الوضوء ثابت بالسنة الصحيحة سواء أكان لحاجة أم لا، وجعله بعض العلماء من المتواتر الذي لا يجوز إنكاره، والخف: حذاء مصنوع من الجلد، أو من مادة أخرى تشبهه كالجوخ والقطن، ويسمى المتخذ من هذه المواد: جوربا، والمسح على الجورب ثابت أيضا عن كثير من الصحابة، وعن المغيرة بن شعبة:" أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) "توضأ ومسح على الجوربين والنعلين". رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، وقال حديث حسن صحيح، لكن ضعفه أبو داود.
قال العلماء: ويشترط في صحة المسح على الجورب أن يكون ثخينا، فلا يصح المسح على الرقيق الذي لا يثبت على الرجل بنفسه من غير رباط، ولا على الرقيق الذي لا يمنع وصول الماء إلي ما تحته، ولا على الشفاف الذي يصف ما تحته رقيقا كان أو ثخينا، ولم يخالف أحد من الأئمة الأربعة في ذلك، بل زاد المالكية في الجورب أن يُجلَّد ظاهره وهو ما يلي السماء، وباطنه وهو ما يلي الأرض.
وعلى هذا فلا يجوز المسح على الجوارب المعروفة الآن ما دامت لا تمنع وصول الماء؛ لأن القصد الأساسي من المسح هو عدم وصول الماء إلى الجسم، فإن كانت بالمواصفات المذكورة فلا بأس بالمسح عليها، ولا ينبغي أن يؤخذ جواز المسح على إطلاقه، ولا أن تكون التسمية لمجرد الشبه كافية في الإلحاق بالمشبه به في الحكم، فكم في التسميات من تجاوزات، وكم فيها من الاعتماد على أدنى ملابسة مع المخلفات في الأمور الجوهرية.(1/93)
أما المسح على غطاء الرأس، فقد روى مسلم والترمذي عن المغيرة بن شعبة أنه قال:" توضأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فمسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى الخفين". وروى مسلم وغيره عن بلال قال : مسح رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) على الخفين والخمار، والمراد بالخمار: كل ما يغطي الرأس من الرجل أو المرأة، ومنه العمامة للرجل، والطرحة وما يماثلها للمرأة
قال جمهور الفقهاء [أبو حنيفة ومالك والشافعي]: لا يجوز الاقتصار في مسح الرأس في الوضوء على العمامة أو الخمار، ويجوز تبعا يعني: أن يمسح الناصية المكشوفة، ثم يكمِّل على غطاء الرأس بالمسح، ولا يجب خلعه، وحجة هؤلاء أن الله فرض المسح على الرأس، والحديث الوارد في العمامة محتمل التأويل، وأحمد بن حنبل الذي قال بجواز الاكتفاء بالمسح على العمامة والخمار، اعتمد على الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان قال:" بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي (صلى الله عليه وسلم ) شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب أي العمائم". وهذا الحديث كما قال النقاد: حديث ضعيف لا يعارض القوي، والقائلون بالجواز بعضهم اشترط ما يشترط في المسح على الخفين من لبسه على طهارة، وألا يتجاوز يوما وليلة للمقيم، أو ثلاثة أيام للمسافر.
ومهما يكن من شيء فإن المسح على الرأس هو الواجب كما قال الجمهور، وليس فيه مشقة؛ لأن بعضهم قال: يكفي مسح ثلاث شعرات لا جميع شعر الرأس، ومن كان شعره يتأثر بمسحه كله فليمسح قليلا منه فهو كاف، على أن ذلك كله في الوضوء، أما الغسل فلابد فيه من غسل الشعر كله. والله أعلم .(1/94)
س:نسمع كثيرا عن سنن الفطرة فما هي، وخصوصا أننا نعلم أن الإسلام دين الفطرة ؟
سنن الفطرة: جاء في حديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم ):" خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب". وحديث "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء [أي الاستنجاء] والمضمضة". وهي غير محصورة في ذلك بل هي كثيرة، والختان: هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة من القبل بالنسبة للرجال، وقطع جزء من أعلى الفرج بالنسبة للنساء، وهو سنة قديمة صح في البخاري حديث:" اختتن إبراهيم خليل الرحمن وسنه ثمانون سنة، وكان بالقدوم [أي آلة أو مكان]".
وآراء العلماء فيه مختلفة فقيل: واجب للرجال والنساء، وقيل: سنة لهما، وقيل: واجب للرجال سنة للنساء أو مكرومة، فهو مشروع ليس بحرام، وينبغي ألا يترتب عليه ضرر كبير.
والاستحداد هو: حلق العانة أي الشعر الذي يحيط بعضوي التذكير والتأنيث. ونتف الإبط [أي الشعر النابت عند ملتقى الذراع بالكتف من أسفل] ويمكن إزالة الشعر عن هذين الموضعين بأية وسيلة: بالحلق أو القص أو النتف أو النيرة.
تقليم الأظفار هو أيضا للرجال والنساء، وفى حديث أحمد وأبي داود وقَّت النبي (صلى الله عليه وسلم ) قص الشارب وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة ألا يترك أكثر من أربعين ليلة.
قص الشارب أو إعفاؤه وهو للرجال، وإعفاء اللحية وهو للرجال أيضا، وفى الحديث المتفق عليه:" خالفوا المشركين وفروا اللحى وأعفوا الشوارب" .(1/95)
والسواك وفيه حديث " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ". وهو يسن في مواضع كثيرة، والمضمضة، ثم الاستنشاق، ثم الاستنجاء، ثم غسل البراجم وهي: عقد الأصابع ومفاصلها، ويلحق بها معاصف الأذن بمسح الصماغ، إكرام الشعر بدهنه أو تسريحه إذا طال لحديث أبى داود:" من كان له شعر فليكرمه". وعند حلقه يحلق كله أو يترك كله، فقد صح في البخاري ومسلم نهي الرسول عن القَذَع وهو: حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه عدم نتف الشيب من الرأس أو اللحية، ويجوز تغييره بالحناء وغيرها.
وفى الحديث المتفق عليه:" إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". والتغيير بالسواد للرجال فيه كلام، وبخاصة إذا قصد به التغرير والتدليس، التطيب بالروائح الجميلة، ففى صحيح مسلم:" من عرض عليه طيب فلا يرده؛ فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة".
وبعد فإن هذه بعض سنن الفطرة، ومعظمها ليست بواجبة، وفى بعضها خلاف في وجوبه، وكما قال النووي في شرح مسلم: لا يمتنع قرن الواجب بغيره كما قال الله تعالى:{ وكلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } فالإتيان واجب، والأكل ليس بواجب.
والله أعلم .(1/96)
س:فضيلة الشيخ عطية، الدين الإسلامي دين يحض على النظافة، فكما نعلم أن النظافة من الإيمان، فالنظافة إما أن تكون شخصية، وإما تكون أن تكون نظافة للبيئة المحيطة، فما الذي فرضه الدين الحنيف في هذين المجالين ؟
جاء في (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي في أول كتاب (أسرار الطهارة) قوله قال النبي (صلى الله عليه وسلم ): " بني الدين على النظافة". وقال" "الطهور نصف الإيمان". وعلق العراقي على الأول فقال: لم أجده هكذا، وفى الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة " تنظفوا فإن الإسلام نظيف ". والطبراني في الأوسط بسند ضعيف جدا من حديث ابن مسعود النظافة تدعو إلى الإيمان، وعلق على الثاني بقوله بالرمز (رواه الترمذي) من حديث رجل من بني سليم وقال: حسن، ورواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري بلفظ: شطر.
فاللفظ المذكور في السؤال، والجاري على الألسنة وهو النظافة من الإيمان ليس واردا عن النبي (صلى الله عليه وسلم )، وإنما الوارد عنه تقدير النظافة بعبارات أخرى، ولا شك أن النظافة لها تقديرها الكبير في التشريع الإسلامي؛ لأنها من العوامل الأساسية في المحافظة على الصحة، التي هي من أكبر نعم الله على الإنسان، كما صح في الحديث:" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". رواه البخاري
وللنظافة مجالات كثيرة ففي نظافة البدن شرع الوضوء للصلوات الخمس في اليوم والليلة لما فيه من تعهد للأعضاء، التي يكثر تعرضها للتلوث، وبما فيه للحث على العناية بالاستنشاق والمضمضة، مع استعمال السواك، وتأكيد استحبابه، وشرع الغسل لأسبابه المعينة، وندب في مناسبات عدة، وبخاصة عند الاجتماع والازدحام كما في صلاة الجمعة والعيدين.(1/97)
وفى الحديث الذي (رواه البخاري ومسلم): حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده، وروى مسلم حديث:" إن الله جميل يحب الجمال ". وندب إلى التزين والتعطر، وحسن الهندام، وتسوية الشعر، وقص الأظافر، وإزالة شعر الإبطين والعانة، وما إلى ذلك من ضروب النظافة وشرع غسل اليدين قبل تناول الطعام وبعده، وعدم غمسهما في الماء قبل غسلهما إذا استيقظ من نومه، فإنه لا يدري أين باتت يده، وبخاصة من ينامون في العراء، ويفترشون الرمال بجوار الإبل والحيوانات الأخرى، وحذر من النوم قبل غسل اليدين من أثر الطعام، وبخاصة إذا كان به دسم تجذب رائحته الهوام والحشرات؛ فتضره، وكل ذلك وردت به الأحاديث.
وفى نظافة الملبس والمسكن والشارع والأمكنة العامة يقول سبحانه: {وثيابك فطهر}. وباب النجاسات وإزالتها واشتراط طهارة الثوب والمكان في الصلاة واضح، ومفصل في كتب الفقه.
وفى الحديث "أصلحوا رحالكم ولباسكم حتى تكونوا في الناس كأنكم شامة".رواه أحمد.
وفى مسند البزار أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفناءكم وساحتكم، ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكب في دورهم". والأكب هي: الزبالة. وإصلاح الرحال [أي المساكن] عام يشمل كنسها وتهويتها وتعريضها للشمس، وتطهيرها من الحشرات المؤذية وما إلى ذلك.
وحث الإسلام على إماطة الأذى من الطريق وعدها صدقة كما، رواه البخاري ومسلم .
وفى الحديث: " اتقوا الملاعن الثلاث: البراز على قارعة الطريق، وموارد المياة، ومواقع الظل".رواه ابن ماجة وأبو داود.
وندب إلى تغطية أواني الطعام والشراب؛ حفظا لها من التلوث أوالفساد بما ينقل بالريح أو بالذباب ـ مثلا ـ كما رواه مسلم.(1/98)
هذه بعض التشريعات التي تدل على عناية الإسلام بالنظافة في كل شيء، وليس النظافة في الماديات فقط؛ بل في المعنويات أيضا من العقائد والأفكار والأقوال والأفعال والضمائر والنيات وما إليها، والذين يهملون فيها مخطئون لا نحب أن يكونوا كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولا ننسى في هذا المجال حرمة تلويث البيئة بأي ملوث حتى بالرائحة الكريهة: كالدخان والثوم والبصل والعرق، وحتى بالأصوات المزعجة المقلقة للراحة، ولو كانت بذكر الله وكل ذلك وردت به الآثار، والمقصرون مخطئون.
والله أعلم .(1/99)
س:فضيلة الشيخ عطية، تحدثنا سابقا عن نواقض الوضوء، فهل تحدث أمور يظنها البعض أنها تنقض الوضوء وهى لا تنقضه، نود التعرف عليها ؟
نعم، هناك بعض الأمور التي يظن الناس أنها تنقض الوضوء منها:
القيء، ولم يرد في نقضه حديث يحتج به، ومنه أكل لحم الإبل وما مسته النار، ومنه شك المتوضئ في الحدث، لا يضر، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم ) لمن شك في خروج الريح وهو يصلي: "هل ينصرف؟ فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". رواه أحمد وبعض أصحاب السنن، وروى مسلم وغيره مثله أو قريبا منه، والمراد: التأكد من خروج شيء.
كذلك القهقهة في الصلاة قال بها الأحناف، ولم يصح فيها شيء.
هذه بعض الأشياء التي يُظن أنها تبطل الوضوء؛ ولكنها لا تبطله.
والله أعلم .(1/100)
س: هل ما ينقض الوضوء ينقض التيمم، وهل تصح صلاة أكثر من فرض بتيمم واحد ؟
الذي ينقض الوضوء ينقض التيمم؛ لأنه بدل منه، ومما ينقض التيمم:
وجود الماء، والشفاء من المرض الذي يتيمم الإنسان من أجله، وانتهاء السبب الذي ألجأ إلى التيمم: كاعتدال الجو بعد البرودة، أو غياب العدو المتربص مثلا.
ولو زال السبب بعد الصلاة لا يعيدها بالوضوء، أما إن زال بعد دخوله في الصلاة فالوضوء ينتقض.
والتيمم يكون لصلاة فرض واحد، وما شاء من النوافل وذلك عند الشافعية. وغيرهم يجيزون ما شاء من الفرائض والنوافل، كالوضوء تماما، وحجة الشافعية: أن الوضوء كان لكل فرض كما في الآية، ونسخ ذلك بفعل النبي (صلى الله عليه وسلم ) حيث صلى عدة فروض بوضوء واحد، وأن البيهقي روى بإسناد صحيح عن ابن عمر قوله: يَتَيَمَّمُ لكل صلاة ولو لم يُحْدِثْ.
وكذلك لا يجمع بالتيمم بين صلاة فرض وطواف فرض، ولا بين خطبة الجمعة وصلاتها.
والله أعلم .(1/101)
س: فضيلة الشيخ عطية صقر، بعد أن تحدثنا في أمور الطهارة والاستعداد للصلاة لابد قبل أن ندخل إلى الصلاة أن نتكلم عن الآذان، فما معنى الآذان، وهل كان الآذان وحيا من الله إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم ) أم كان لأمر النبي (صلى الله عليه وسلم ) أم كان اجتهادا من بعض الصحابة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد،
فإن الآذان في اللغة معناه: الإعلام. وفى الشرع معناه: الإعلام بدخول وقت الصلاة.
والآذان واجب، أو مندوب، وهو شعار لإسلام المؤذن وبالبلد الذي يؤذن فيه، وكان من هدي الرسول وأصحابه في الغزو، أنهم إذا سمعوا آذانا في قوم لا يغيرون عليهم، كما رواه البخاري.
لقد شرع الآذان في السنة الأولى من الهجرة، وسببه كما قال البخاري وأحمد: أن عبد الله بن عمر كان يقول: كان المسلمون يجتمعون فيتحينون للصلاة [أي يقدرون أحيانها ليأتوا إليها] وليس ينادي بها أحد. فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل قرنا [أي نثيرا مثل قرن اليهود]. فقال عمر: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ): "يا بلال، قم فناد بالصلاة".(1/102)
وجاء في حديث رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود وابن خزيمة والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، جاء أن عبد الله بن زيد رأى في المنام رجلا يحمل ناقوسا في يده، فطلب منه أن يبيعه له؛ ليدعو به إلى الصلاة، فدله على خير منه؛ وهو صيغة الآذان المعروفة، فلما أصبح عبد الله أخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بما رأى، فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله. فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك، ففعل ما أمر به الرسول. وأذن بلال. فلما سمع عمر بذلك وهو في بيته خرج يجر رداءه وهو يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم ): فلله الحمد".
فالآذان إلهام من الله لبعض الصحابة وأقره النبي (صلى الله عليه وسلم ) كما أقره رب العزة.
فكان مشروعا من الله والرسول، ولم يكن اجتهادا من الصحابة، أو اقتراحا.
فقد أقره الرسول (عليه الصلاة والسلام).
والله أعلم .(1/103)
س: فما هي صيغة الآذان و الإقامة أو كيفيتهما كما وردتا في كتب السنة، لأنه أحيانا يوجد بعض الاختلافات في بعض البلاد حول صيغة الآذان، والإقامة ؟
معلوم أن الآذان الذي هو الإعلام بدخول وقت الصلاة سنَّة، وكذلك الإقامة لاستنهاض الحاضرين لأداء الصلاة سنة أيضا.
وألفاظ الآذان هي: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله، ويمكن أن تؤدى بإحدى كيفيات ثلاثة هي:
الأولى : تربيع التكبير الأول [أي يقال أربع مرات] وتثنية باقي الكلمات [أي تقال مرتين] بلا ترجيع [أي قول أشهد ألا الله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله سرا قبل الجهر بهما ما عدا كلمة التوحيد وهي الآخرة، فتقال مرة واحدة فيكون عدد الكلمات خمس عشرة كلمة كما جاء في حديث عبد الله بن زيد الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
الكيفية الثانية: تربيع التكبير الأول مع ترجيع الشهادتين، كل شهادة تقال مرتين سرا، والباقي كالكيفية الأولى، فيكون عدد الكلمات تسع عشرة كلمة، كما جاء في حديث أبي محظورة، الذي رواه الخمسة أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
الكيفية الثالثة: تثنية التكبير الأول مع ترجيع الشهادتين، والباقي كالكيفية الأولى، فيكون عدد الكلمات سبع عشرة كلمة كما في جاء في حديث أبى محظورة الذي رواه مسلم.
وألفاظ الإقامة هي ألفاظ الآذان بزيادة: قد قامت الصلاة قبل التكبير الأخير ويمكن أن تؤدى بكيفيات ثلاثة هي: الأولى تربيع التكبير الأول مع تثنية جميع كلماتها ماعدا الكلمة الأخيرة وهي: كلمة التوحيد، فيكون عدد الكلمات سبع عشرة كلمة كما جاء في حديث أبى محظورة، الذي رواه الخمسة وصححه الترمذي.(1/104)
الثانية: تثنية التكبير الأول والأخير، وقد قامت الصلاة وإفراد سائر الكلمات فيكون عددها إحدى عشرة كلمة، كما في حديث عبد الله بن زيد المتقدم، وفيه ثم تقول إذا أقمت: الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
الكيفية الثالثة للإقامة: هذه الكيفية كالكيفية الثانية ماعدا كلمتي: قد قامت الصلاة، فتقال مرة واحدة، فيكون عدد الكلمات عشرة كلمات وقد أخذ مالك بهذه الكيفية؛ لأنه عمل أهل المدينة وإن لم يصح عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إفراد كلمة قد قامت الصلاة كما قال ابن القيم.
من هذا العرض نرى أن كيفيات الآذان والإقامة مختلفة، وكلها صحيحة، ولا داعي للتعصب لأية كيفية .
والله أعلم.(1/105)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نود أن نعرف فضل الآذان، ونحن نعرف أن المؤذنين لهم فضل عظيم عند الله ـ عز وجل ـ وقد يؤدي ذلك إلى بعض الاختلافات في المساجد؛ لأن البعض يريد أن يستأثر بهذا الفضل لنفسه. ما حكم الدين ذلك ؟
وردت في فضل الآذان أحاديث كثيرة منها أولا ـ
قوله (صلى الله عليه وسلم ) كما رواه البخاري وغيره:" لو يعلم الناس ما في الآذان والصف الأول [أي في صلاة الجماعة] ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا". [أي عملوا قرعة].
ثانيا :
قوله (صلى الله عليه وسلم ) كما رواه مسلم، وغيره: "إن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة".
ثالثا:
قوله (صلى الله عليه وسلم ) بالمعني فيما رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد "المؤذن يغفر الله له مد صوته، أو مدى صوته ويصدقه من يسمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه ".
رابعا:
قوله (صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن راعي الغنم في الجبل يؤذن ويصلي يقول الله ـ عز وجل ـ : "انظروا لعبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة".
أما التنافس على الآذان، فليس من المعقول أن يمكَّن أكثر من واحد من الآذان على مئذنة واحدة، أو مكبر صوت واحد، فيكفي واحد لإقامة هذه السنة، ورعاية لحرص الكثيرين على الآذان؛ لنيل فضله؛ أوجب لهم الرسول (صلى الله عليه وسلم ) مخرجا من التنافس والتزاحم؛ فندب إلى ترتيب إلى ما يقول المؤذن، إلا عند حي على الصلاة، وحي على الفلاح، فيقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فقد روى الطبراني حديثا حسنا يقول: "من سمع المؤذن فقال مثل ما يقول، فله مثل أجره".(1/106)
وروى مسلم، وغيره أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة؛ صلى الله بها علي عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة؛ حلت له الشفاعة".
والله أعلم .(1/107)
س:ما الحكمة في أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) لم يؤذن بنفسه للصلاة و لا مرة واحدة ؟
جاء في كتاب (نور الأبصار) للشبلنجي قال النيسابوري: الحكمة في كونه (صلى الله عليه وسلم ) كان يؤم ولا يؤذن؛ أنه لو أذن لكان من تخلف عن الإجابة كافرا. وقال أيضا: ولأنه كان داعيا فلم يجز أن يشهد لنفسه.
وقال غيره: لو أذن وقال: أشهد أن محمدا رسول الله؛ لتوهم أن هناك نبيا غيره.
وقيل: لأن الآذان رآه غيره في المنام فوكله إلى غيره. وأيضا ما كان الرسول يتفرغ إليه من أشغاله. وأيضا قال الرسول(صلى الله عليه وسلم ) : "الإمام ضامن والمؤذن أمين". رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فدفع الأمانة إلى غيره .
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إنما لم يؤذن؛ لأنه كان إذا عمل عملا أثبته [أي جعله دائما] وكان لا يتفرغ لذلك؛ لاشتغاله بتبليغ الرسالة. وهذا كما قال عمر: لولا الخلافة؛ لأذنت.
وأما من قال: إنه امتنع لأن لا يعتقد أن الرسول غيره فخطأ؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم ) كان يقول في خطبته: "وأشهد أن محمدا رسول الله". هذا.
وجاء في (نيل الأوطار) للشوكاني: خلاف العلماء بين أفضلية الآذان، والإمامة، وقال في معرضه استدلال على أن الإمامة أفضل، قال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم ) والخلفاء الراشدين بعده أمُّوا ولم يؤذنوا، وكذا كبار العلماء من بعدهم.
والله أعلم .(1/108)
س:فهل للآذان سنة ؟
للآذان سنن كثيرة منها:
أن يكون المؤذن طاهرا من الحدث الأصغر، والأكبر وأن يكون قائما غير قاعد ومتوجها للقبلة، وأن يلتفت برأسه، وعنقه وصدره يمينا عند قوله: حي على الصلاة ويسارا عند قوله: حي على الفلاح، أو يدور على المنارة؛ ليسمع أهل الجهات وإن كان مكبر الصوت يغني عن ذلك في هذه الأيام، وأن يدخل إصبعيه في أذنيه، وأن يرفع صوته بقدر ما يستطيع، ومكبرات الصوت تساعد على ذلك ليشهد له كل ما ومن يسمعه يوم القيامة كما رواه البخاري.
وأن يترسل في الآذان [أي يتمهل] ويفصل بين كل كلمتين بسكتة، وأن يسرع في الإقامة وألا يتكلم أثناء الآذان والإقامة، وأن يؤذن في أول الوقت ما عدا الفجر، فيؤذن قبله أولا، ثم يؤذن في وقته، وأن يفصل بين الآذان والإقامة في وقت يتسع للتأهب للصلاة بالطهور، أو الحضور إلى المسجد. وليس هناك تحديد لهذا الفصل. فقد روى مسلم، وغيره أن مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كان يؤذن، ثم يمهل فلا يقيم حتى إذا رأى رسول (صلى الله عليه وسلم ) قد خرج من بيته وهو ملاصق للمسجد، أقام الصلاة حين يراه.
ويسن لمن يؤذن أن يكون هو الذي يقيم للصلاة، كما يسن للمؤذن التثويب [وهو أن يقول في آذان الصبح بعد الحي علتين: الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم، كما رواه أحمد وأبو داود في تعليم النبي (صلى الله عليه وسلم ) لمؤذنه أبي محظورة.
كما يسن الترجيع في الآذان [وهو أن يأتي بالشهادتين سرا قبل أن يأتي بهما جهرا].
والله أعلم.(1/109)
س:وهذا رجل يقول: أستمع إلى الآذان ولا أعلم ماذا أقول حينما يؤذن المؤذن فماذا أقول أو أفعل إذا سمعت المؤذن ؟
يسن لسامع الآذان أن يقول مثلما يقول المؤذن، إلا في الحي علتين، فإنه يقول عقب كل كلمة: لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن من فعل ذلك دخل الجنة كما رواه مسلم وأبو داود عن النبي (صلى الله عليه وسلم ).
كما يسن أن يصلي علي النبي (صلى الله عليه وسلم ) عقب الآذان، وذلك لحديث رواه مسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة؛ صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة؛ حلت له شفاعتي".
وروى البخاري قوله (صلى الله عليه وسلم ): "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التآمة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة". وعند تثويب المؤذن يقول السامع: صدقت وبررت.
كما يستحب الإكثار من الدعاء بعد الآذان وقبل الإقامة، وهو مرجو الإجابة؛ لحديث رواه أبو داود والنسائي والترمذي "لا يرد الدعاء بين الآذان والإقامة".
وفى رواية: "ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة".
كما يستحب لمن يسمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول المقيم، إلا عند قوله: قد قامت الصلاة. فيقول: أقامها الله وأدامها، وجعلني من صالح أهلها.
والله أعلم .(1/110)
س:يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم ): "الفجر فجران". ويقول البعض: فجر كاذب، وفجر صادق. فهل هذا، كان يؤذن بلال مرة، وعبد الله بن أم مكتوم مرة أخرى. ولماذا لا يعمل بهذا الآن في الكثير من المساجد ؟
يقول الله (سبحانه) في شأن الصيام: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}.
ويقول في شأن الصلاة: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}.
روى البخاري ومسلم عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا يمنعنكم آذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا آذان بن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر".
وروى الحاكم عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال: "الفجر فجران فأما الفجر الذي يكون كذنب الترحال [أي الذئب] فلا يُحل الصلاة، ويُحل الطعام، وأما الذي يذهب مستطيلا [أي ممتدا في الأفق] فإنه يُحل الصلاة، ويُحرم الطعام".
ومن رواية البخاري أنه (صلى الله عليه وسلم ) "مد يده عن يمينه وعن يساره". يؤخذ من هذا، أنه كان هناك آذانان للفجر أيام النبي (صلى الله عليه وسلم ) الآذان الأول: كان للتنبيه والاستعداد للصيام، والثاني: كان للامتناع عن الطعام والشراب، وبدأ الصوم، وحل صلاة الفجر، ويا ليت المساجد تأخذ بذلك؛ إحياء لسنة النبي (صلى الله عليه وسلم ).
كما يؤخذ أن هناك ضوءين في آخر الليل، أحدهما يظهر في الأفق من أعلى إلى أسفل كالعمود، والثاني كان يظهر بعده ممتدا في الأفق عرضا يمينا ويسارا، والثاني هو: الفجر الصادق المعول عليه في الصيام وصلاة الفجر.
وجاء في رواية لمسلم عن المدة التي بين الأذانين جاء ما نصه: "ولم يكن بينهما [أي بلال وابن أم مكتوم] إلا أن ينزل هذا، ويرقى هذا".(1/111)
وبدء الأول مختلف فيه، لكن قد يؤخذ تعيين مبدئه من رواية النسائي والصحابي من حديث عائشة، أنه لم يكن بين آذان بلال، وابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل هذا وكانا يؤذنان في بيت مرتفع، كما أخرجه أبو داود.
فيكون الآذان الأول قبل الفجر بقليل، لكن جاء في شرح النووي في صحيح مسلم قال العلماء: معناه أن بلالا كان يؤذن قبل الفجر، ويتربص بعد آذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل، فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة، وغيرها، ثم يرقى ويشرع في الآذان مع أول طلوع الفجر.
وهذا يدل على أن الآذان الأول كان قبل الوقت بوقت طويل لا يمكن تحديده، هذا.
وقد خالفت بعض الجماعات التقويم المعمول به لأوقات الصلاة، وبخاصة الفجر. وقالوا: إنه بعد التوقيت المنشور بالمسائل بثلث ساعة، ورد على ذلك الإدارات الفنية المتخصصة، وقد أفتت دار الإفتاء المصرية بتاريخ 22 من نوفمبر سنة 1981بما نصه:
إن الحساب الفلكي بمواقيت الصلاة الذي تصدره هيئة المساحة المصرية عرض على لجنة متخصصة من رجال الفلك والشريعة، وانتهت إلا أن الأسلوب المتبع في حساب مواقيت الصلاة في جمهورية مصر العربية يتفق من الناحية الشرعية، والفلكية مع رأي قدامى علماء الفلك المسلمين، واستئنافًا لذلك ستشكل لجنة أخرى لمتابعة البحث.
ويجب الالتزام بالمواقيت المذكورة؛ لأنها موافقة لما جاء في الأحاديث التي رواها أصحاب السنن، مما علمه جبريل للنبي (صلى الله عليه وسلم ) هذا.
ومن الطريف أن القرطبي في تفسيره ذكر طائفة تقول: إن حل الصلاة، وتحريم الطعام يكون بعد طلوع الفجر، وتبينه في الطرق، والبيوت.
وذكر في رواية للنسائي أن حذيفة تسحر مع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بالنهار إلا أن الشمس لم تطلع، وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة.(1/112)
وقال الطبري: والذي دعاهم إلى هذا الكلام، أن الصوم إنما في بالنهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، فالأولى والواجب أن نتبع ما صدر عن الجهات الرسمية في الاعتماد على المواقيت المذكورة في النتائج الرسمية.
والله أعلم .(1/113)
س:رجل يقول: صليت صلاة الجمعة في مساجد عديدة، فوجدت في بعض المساجد المؤذن يؤذن آذانين والبعض الآخر يؤذن آذانا واحدا. فأيهما على صواب؟
للجمعة كبقية الفرائض آذان واحد، ثم زاد عثمان (رضي الله عنه) في خلافته آذانا ثانيا.
روى البخاري ومسلم، وغيرهما عن السائب بن يزيد أنه قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس؛ زاد النداء الثالث على الزوراء، ولم يكن للنبي (صلى الله عليه وسلم ) مؤذن غير واحد.
وفى رواية: فلما كانت خلافة عثمان وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالآذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك.
وفى رواية لابن خزيمة: كان الآذان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وأبي بكر وعمر آذانين يوم الجمعة، و فسر الآذانين بالآذان والإقامة، تغليبا للآذان.
وجاء في بعض الروايات، فأمر عثمان بالنداء الأول، وفى رواية: التأذنين الثاني أمر به عثمان، ولا منافاة في ذلك؛ لأنه سمي ثالثا باعتبار كونه مزيدا على الآذان والإقامة، وسمي أولا باعتبار كون فعله مقدما على الآذان والإقامة، وسمي ثانيا باعتبار الآذان الحقيقي الأول لا الإقامة والزوراء كما في رواية البخاري [موضع بسوق المدينة].(1/114)
قال الطبراني: فأمر بالنداء الأول على دار يقال لها: الزوراء، فكان يؤذن عليها، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، وإذا نزل؛ أقام الصلاة. قال ابن حجر: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد بالذات؛ لكونه خليفة مطاع الأمر، وما قيل من أنه بدعة يراد أنه لم يكن زمن النبي (صلى الله عليه وسلم ) وليس كل ما لم يكن في زمانه مذموما، وما دام قد أمر به عثمان، وهو من الخلفاء الراشدين وأقره الصحابة كان مشروعا، لحديث " وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضدوا عليها بالنواجذ ". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ومن هنا لا يجوز الطعن في الآذان الأول للجمعة، ولا يجوز التعصب ضده، فقد مضى المسلمون على ذلك أربعة عشر قرنا دون نكير مما يعتد بإنكاره.
وعليه فلا وجه للاعتراض على من يصلي ركعتين بعد الآذان الأول، قبل خروج الإمام للخطبة، وهناك فسحة لصلاتهما لحديث "بين كل أذانين صلاة".
والله أعلم .(1/115)
س:فضيلة الشيخ عطية، وضع الإسلام شروطا للإمام. فهل للمؤذن شروط ينبغي أن تتوافر فيه، أو صفات يجب أن يتصف بها ؟
نعم، من الشروط الأساسية للمؤذن أن يكون مسلما مميزا، ذكرا كما يشترط لصحة الآذان، الترتيب، والموالاة بين كلامته، ورفع الصوت إذا كان في جماعة، ودخول وقت الصلاة، إلا في آذان الصبح، فمن نصف الليل.
وهناك شروط للكمال لا للصحة، منها أن يكون المؤذن عدلا، حسن السلوك، عالي الصوت، حسنه، بالغا حد التبليغ، وطاهرا من الحدث الأصغر والأكبر، فيكره الآذان من الفاسق، ورديء الصوت، ومن والصبي ومن المحدث حدثا أصغر، أو أكبر، وإن حصلت السنة.
والله أعلم .(1/116)
س:يقول البعض: إن المؤذن إذا رفع الآذان وهو غير طاهر؛ أصيب بالمرض. فما صحة هذا القول ؟
لم يقل أحد من الفقهاء: إن المؤذن إذا كان غير متطهر من الحدث والنجس، يكون آذانه باطلا، فآذانه صحيح، لكن الطهارة أفضل، وما يقال بأن الآذان بغير وضوء يكثر الآفات، والأمراض فلا أصل له، وهو كلام يقصد منه الحث على الطاهرة.
والله أعلم .(1/117)
س:سيدة تقول: أحيانا أستمع إلى الآذان وأنا حائض فهل أجيب المؤذن، وزوجي يستمع إليه، وهو على جنابة. فهل يجيبه أيضا ؟
إجابة المؤذن لا يشترط لها الطهارة، فتصح من طاهر ومحدث وجنب، وحائض وكبير، وصغير؛ لأنها ذكر، وكل هؤلاء من أهل الذكر، ولكن تكره الإجابة للمؤذن؛ إذا كان الإنسان في بيت الخلاء، أو في عمل يسن فيه عدم الكلام.
والله أعلم .(1/118)
س:يقال: إن من يسمع الآذان ويقبل إصبعه، ويمسح بها عينيه عند ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم ) فلا تصاب عينه بالمرض. فما صحة هذا القول ؟
مسح العينين بالأصابع عند سماع الشهادة برسالة النبي (صلى الله عليه وسلم ) في الآذان، وقول: مرحبا بحبيبي محمد بن عبد الله، وقرة عيني، والدعاء بالشفاعة لم يرد به نص صحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) وقد عدا الديلمي في (الفردوس) هذا الفعل لأبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وأن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال لما رآه فعل ذلك: "من فعل مثل ما فعل خليلي فقد حلت له شفاعتي". وهو غير صحيح. كما قال الحافظ السخاوي.
بل اخترعت أحاديث تذكر أن من فعل ذلك لم تصب عيناه بالرمد أبدا، منها:
ما ذكره أحمد بن أبي بكر في كتابه (موجبات الرحمة وعزائم المغفرة) بسند فيه انقطاع ومجاهيل، أن الذي قال ذلك هو: الخضر (عليه السلام) وما ذكره شمس الدين محمد بن صالح المدني في تاريخه مرويا عن الحسن (رضي الله عنه).
وكذلك ما ذكره صاحب المسائل الملقوطة، أن نور الدين الخرساني، العالم المشهور في مدينة فيران، كان يفعل ذلك من غير رواية حديث، ولما تركه؛ مرضت عيناه، وهو قائم على التجارب، وأمور غير ثابتة بحديث صحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) ومع ذلك فهي ليست محرمة. والله أعلم .(1/119)
س:رجل يقول: دخلت المسجد والمؤذن يؤذن،فجلست؛ فنصحني أحد الجالسين بألا أجلس؛ حتى يتم المؤذن آذانه. فما السند في قوله ؟
إذا سمع الإنسان الآذان وهو واقف لا يلزم الاستمرار في الوقوف حتى ينتهي الآذان، فله أن يجلس ويتحرك كما يشاء، ولم يرد بذلك حديث صحيح ولا ضعيف. كما أنه لا يشرع له الجلوس عند سماع الآذان؛ إذا كان مضطجعا، فله أن يحكي ألفاظ الآذان مع المؤذن وهو مضطجع؛ لأن الآية وردت في جواز ذكر الله على كل حال، قال تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض}.
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يذكر الله على كل أحيانه، لكن إذا دخل المسجد، وسمع الآذان يظل واقفا ويردد ما يقوله المؤذن، ثم يصلي تحية المسجد، فيكون قد حاز فضيلتين قبل الجلوس. أما إذا جلس أثناء الآذان فقد فاتته فضلية تحية المسجد.
والله أعلم .(1/120)
س:فضيلة الشيخ عطية، نرى بعض المؤذنين يضعون أصابعهم في آذانهم وهم يرفعون الآذان. هل هذه سنة أم بدعة. وما فائدتها، وما الحكمة منها ؟
جاء في (المغني) لابن قدامة، وشرحه أن المشهور عن أحمد بن حنبل:
أن المؤذن يجعل إصبعيه في أذنيه وعليه العمل عند أهل العلم وهو مستحب.
قال الترمذي: لما روى أبو جحيفة أن بلالا أذن ووضع إصبعيه في أذنيه، وهو متفق عليه.
وعن سعد مؤذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن رسول ( صلى الله عليه وسلم ): "أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال: إنه أرفع لصوتك".
وروى أبو خالد عن أحمد أنه قال: أحب إلي أن يجعل يديه على أذنيه لحديث أبي محظورة، وضم أصابعه الأربع، ووضعها على أذنيه.
وحكى أبو حفص عن ابن بطة قال: سألت أبا القاسم عن صفة ذلك فأرانيه بيديه جميعا، فضم أصابعه على راحتيه ووضعهما على أذنيه، واحتج بذلك القاضي لما روى أبو حفص بإسناده عن ابن عمر: أنه كان إذا بعث مؤذنا يقول له: اضمم أصابعك مع كفيك، واجعلهما مضمومة على أذنيك.
وبما روى الإمام أحمد عن أبي محظورة أنه كان يضم أصابعه والأول أصح؛ لصحة الحديث وشهرته، وعمل أهل العلم به، وأيهما فعل؛ فحسن، وإن ترك الكل فلا بأس.
هذا ما جاء في المغني عن استحباب وضع الإصبعين في الأذنين، أو وضع الأصابع الأربع كلها على الأذنين، وكما قال ابن قدامة: وضع الإصبعين في الأذنين هو الأصح.
والحكمة في ذلك أنه أرفع للصوت، والعلاقة بين رفع الصوت، وسد الأذنين بالإصبعين تحتاج إلى تأصيل من المختصين [أي إن الموضع لا يحتاج إلى أكثر من هذا] ولا ينبغي الجدل فيه كما كتم ابن قدامة به الإجابة، أيهما فعل؛ حسن، وإن ترك الكل، فلا بأس.
والله أعلم .(1/121)
س:كثير من المؤذنين يؤذنون ثم يصلون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الآذان. فما رأي الدين في ذلك ؟
الصلاة على النبي (عليه الصلاة والسلام) بعد الآذان مشروعة؛ بل مطلوبة بعموم قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. ومطلوبة عقب الآذان للحديث الصحيح الذي رواه مسلم وأصحاب السنن: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله بها عليه عشرا".
وإذا كان الأمر في هذا الحديث لمن يستمعون الآذان، فإنه لم يرد نهي عنها للمؤذن، فيبقى طلبها منه مؤكدا كطلبها من غيره، كما قال بعض العلماء.
غير أن مشروعيتها، أو طلبها من المؤذن فيه رأيان لرفع صوته بها قوله بها أو عدم رفعه.
فرأى جماعة أن نحافظ على ما كان عليه العمل أيام الرسول وصحابته من عدم رفع المؤذن صوته بها؛ لأن رفع الصوت بدعة ضلالة، وإن لم يمنعه أن يقولها سرا، فهي قربة في كل وقت.
ورأى آخرون جواز رفع المؤذن صوته بها، حيث لا يوجد ضرر، ولا نص يمنعه، أو يخشى معه الاعتقاد بأنها جزء من الآذان.
قال ابن حجر في (الفتاوى الكبرى): قال المشايخ: الأصل سنة، والكيفية بدعة، فهناك اجتهادان أو رأيان في الجهر بها وعدم الجهر؛ ولهذا لا يجوز التعصب لأحد الرأيين، فالتعصب لغير القطعي في الثبوت أو الدلالة منهي عنه؛ لأنه يحدث فتنة نحن في غنًى عنها.
فالخلاصة أن الجهر بها بعد الآذان فيه رأيان الجواز، والمنع، ولا يجوز التعصب لرأي من الآراء وإن جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: أن بعض الخلف زاد عقب الآذان وقبله أمورا منها:
الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عقبه.
ومنها:
التسابيح والاستغاثات قبله بالليل ونحو ذلك، وهي بدع مستحسنة؛ لأنه لم يرد في السنة ما يمنعها وعموم النصوص يقتضيها.
وقال الشافعية والحنابلة: إن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عقب الآذان سنة.(1/122)
قال المؤرخون: كان بلال إذا فرغ من الآذان يقف على باب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول: السلام عليك يا رسول الله، حي على الصلاة. فلما ولي أبو بكر كان المؤذن سعد يقف على بابه، ويسلم عليه ويدعوه إلى الصلاة، وحدث مثل ذلك أيام عمر وعثمان، ومن بعدهم أيام الدولتين الأموية والعباسية، كان المؤذنون يسلمون على الخلفاء، والأمراء ويدعونهم إلى الخروج للصلاة بالناس.
وانتشر ذلك في أيام الفاطميين؛ تعظيما لعلي ولآل البيت، ثم أبطله صلاح الدين، واقتصر السلام على رسول الله، ولم يجعله قاصرا على المسجد السلطاني، بل أمر كل المؤذنين أن يقولوا ذلك في بعض الأوقات، ثم في الأوقات الأخرى ما عدا المغرب.
والخلاصة أن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الآذان مشروعة للسامع والمؤذن، وأن الجهر بها للمؤذن فيه رأيان:
الجواز والمنع وأن صيغة: يا أول خلق الله . لا داعي لها، وأن ذكر الأولياء والصالحين بعد الآذان، أرجو عدم الإكثار منه مع التوصية بعدم التعصب لرأي من الآراء.
والله أعلم(1/123)
س:ونرى البعض الآخر يدعو للخلفاء والصحابة والأولياء. فما حكم الدين في ذلك؟
قال المؤرخون: كان بلال إذا فرغ من الآذان يقف على باب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول: السلام عليك يا رسول الله، حي على الصلاة. فلما ولي أبو بكر كان المؤذن سعد يقف على بابه، ويسلم عليه ويدعوه إلى الصلاة، وحدث مثل ذلك أيام عمر وعثمان، ومن بعدهم أيام الدولتين الأموية والعباسية، كان المؤذنون يسلمون على الخلفاء، والأمراء ويدعونهم إلى الخروج للصلاة بالناس.
وانتشر ذلك في أيام الفاطميين؛ تعظيما لعلي ولآل البيت، ثم أبطله صلاح الدين، واقتصر السلام على رسول الله، ولم يجعله قاصرا على المسجد السلطاني، بل أمر كل المؤذنين أن يقولوا ذلك في بعض الأوقات، ثم في الأوقات الأخرى ما عدا المغرب.
فخلاصة الإجابة:
أن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الآذان مشروعة للسامع والمؤذن، وأن الجهر بها للمؤذن فيه رأيان:
الجواز والمنع وأن صيغة: يا أول خلق الله . لا داعي لها، وأن ذكر الأولياء والصالحين بعد الآذان، أرجو عدم الإكثار منه مع التوصية بعدم التعصب لرأي من الآراء.
والله أعلم .(1/124)
س:هل من شروط الآذان أن يرفعه شخص، وهل من الممكن الاستفادة من أجهزة الإعلام مثل: الراديو والكاسيت والتليفزيون والفيديو في بث الآذان من خلالها، وخاصة أن من يرفعون الآذان فيها يتمتعون بأصوات جميلة ؟
لا يكتفى بالآذان المسجل أو المذاع، فإن المسلمين مطالبون به كما صح في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أقرأكما". رواه البخاري ومسلم.
والآذان سنة مؤكدة كما رآه أبو حنيفة والشافعي، وقال أبو بكر بن عبد العزيز: هو من فروض الكفاية، وهو قول أكثر أصحاب أحمد بن حنبل، وقول بعض أصحاب مالك، ويدل على فرضيته أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به والمداومة منه ومن الخلفاء عليه.
والأمر هنا للوجوب، والمداومة عليه تدل عليه؛ ولأنه شعار الإسلام ومن أوجبه من الحنابلة، أوجبه على أهل المصر، وقال مالك: يجب في كل مساجد الجماعة ويكتفى بالمصر بآذان واحد؛ إذا كان يسمعهم.
وبهذا يعلم أن الآذان واجب، أو سنة بالنسبة للفرد، أو بالنسبة للجماعة، ويكره تركه، ويأثم من تركه على رأي من يوجبه، ولابد أن يكون من مسلم، ولا يكتفى بإذاعة تسجيله.
والله أعلم .(1/125)
س:إذا أقيمت جماعة بدون إقامة، وكان أحد الأشخاص يصلي منفردا، ثم جاء شخص فصلى خلفه، ثم كثرت الصفوف، ولم يكن قد أقيم للصلاة. فهل يؤثر ذلك على الصلاة، سواء أكان المصلي في جماعة أو منفردا ؟
معلوم أن الإقامة سنة كالآذان لو تركها الإنسان، أو الجماعة عمدا فإن ذلك لا حرمة فيه، وإن كان مكروها، والصلاة صحيحة على أي حال بدون الإقامة.
والله أعلم .(1/126)
س:قال الله تعالى في سورة (الأعراف):
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}. فما المقصود هنا بالمسجد، وما المقصود بالزينة ؟
أمر الله المؤمنين إذا ذهبوا للصلاة أن يستروا عوراتهم بالملابس خلافا لما كان عليه العرب من خلع ملابسهم، والطواف حول البيت عراة، وقيل: إن المراد بالزينة هو ما زاد على ستر العورة، كالتطيب وحسن الهندام، واختيار الملابس النظيفة ذات اللون الأبيض بالذات الذي حث عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض الأحاديث، أو أي لون آخر.
كما يتزين الإنسان بتقليم الأظفار، وتهذيب الشعر وتنظيمه حسب العرف الذي لا يخالف الشرع.
وفى هذا التشريع، وهو اتخاذ الزينة جمع بين مطالب الروح و الجسد في اعتدال وتوسط، وقد أنكر الله على من يحرمون التزين، والتمتع بالمباحات في الحدود المعقولة من أكل وشرب، ولبس وغير ذلك والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه كان على رقة حاله أنموذجا صالحا في التزين بما يتاح ويباح، ومأثوراته في ذلك كثيرة، ويكفي من ذلك حديث صلاة الجمعة: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت حتى يصلي كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى".
فالمهم أن التزين في حدود المشروع عند الذهاب إلى المساجد أمر مطلوب.
والله أعلم .(1/127)
س:قال الله (تعالى) في سورة التوبة:
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}. فما المقصود بعمارة المساجد؟
عمارة المساجد يقصد بها: إقامتها وتهيئتها بالنظافة، والخدمة، وغير ذلك لأداء العبادة، كما قال سبحانه: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}.
وقد كان العرب يعمرون المسجد الحرام بالخدمة والسقاية والحجابة، ويعتقدون أنها أفضل من الإيمان برسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال الله تعالى:{أجعلتم سقاية الحآج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين}.
وهذه عمارة في المبنى، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة ترغب فيها.
أما عمارة المعنى، فتكون بالتردد عليها، و إقام الجماعات، والجمع، والاعتكاف فيها، وبغير ذلك من الأنشطة الدينية كما قال تعالى:{ إنما يعمر مساجد من آمن بالله واليوم الآخر و أقام الصلاة وآت الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}.
وقد نهى الإسلام عن تخريب المساجد؛ إما بهدمها وإما بإغلاقها؛ حتى لا تقام فيها الشعائر، وإما بإهمال نظافتها قال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}.
وفى الحديث الشريف: "ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة وإخراج القمامة منها مهور الحور العين". كما رواه الطبراني.
والتخريب للمساجد بمعنييه المادي والأدبي أشار إليه القرطبي في تفسيره، فقال: خراب المساجد قد يكون حقيقيا؛ كتخريب <بختنصر>، وغيره لبيت المقدس، ويكون مجازا؛ كمنع المشركين للمسلمين حين صدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسجد الحرام.
وعلى الجملة؛ فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب، وهذا ممنوع.(1/128)
والله أعلم .(1/129)
س:بنى أحد المحسنين مسجدا، وحدث خلاف في المسجد بينه، وبين بعض المصلين في أمور فقهية، فقال: أنا بنيت هذا المسجد لي ولأولادي. فهل هذا القول صحيح، أم جانبه الصواب؟
إذا تحققت المسجدية في أرض؛ وذلك بالبناء والصلاة، أصبح المسجد ملكا لله، لا يجوز لأحد أن يتملكه، أو يتصرف فيه بما يخرجه عن مهمته الدينية، لكن لو تخرب المسجد، ولا يوجد ما يعمره، أو هاجر الناس من حوله، فقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: يعود المسجد إلى ملك المتبرع إن كان حيا، وإلى ورثته إن كان ميتا؛ لأنه عينه لقربة مخصوصة، فإذا انقطعت، رجع إلى المالك.
وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: على الرغم من ذلك فهو ما يزال مسجدا إلى يوم القيامة ولا يعود إلى ملك أحد من الناس لأنه صار ملكا لله وحده.
فالخلاصة:
أن المسجد إذا بناه أحد من الناس، وأديت فيه الصلاة، خرج عن ملكية من بناه وصار ملكا لله وحده حتى لو تخرب.
والله أعلم .(1/130)
س:قال الله تعالى في سورة التوبة:
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل}. صدق الله العظيم. فما هو مسجد الضرار، وهل يوجد له شبيه في مساجد هذا العصر ؟
هذه الآية نزلت في جماعة من المدينة أرادوا أن يبنوا مسجدا يصلى فيه الرسول ويباركه، كما صلى في مسجد قباء وباركه، فلما بنوه دعوا الرسول للصلاة فيه، وكان خارجا لغزوة تبوك، فوعدهم إن عاد.
فأخبره الله بأن المسجد ليس خالصا لله؛ بل بني للضرار والانصراف عن الصلاة في مسجد الرسول، واستقبال أبي عامر الراهب؛ الذي فر إلى الروم، وتنصر وطلبوا عودته، فأمر الرسول بإحراق المسجد وهدمه.
يقول القرطبي في تفسيره: قال علماؤنا: [أي المالكية] لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه لأن لا يصرف أهل المسجد الأول عنه، فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة أو المكان كبيرا، فلا يكفي أهل هذه المحلة مسجد واحد، فيبنى حينئذ؛ إذ لم يتيسر له مكان بعيد ينبى فيه.
وقالوا: كل مسجد بني على ضرار، أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه.
ثم ذكر القرطبي أن من فعل أي شيء بقصد الإضرار بالغير؛ وجب منعه.
وهدم مسجد الضرار له حيثيات: وهي الإضرار، والكفر، والتفريق، وإيواء المحاربين لله ورسوله.
ومن هنا إذا بني مسجد في منطقة، وبخاصة إذا كانت مساجدها كافية يراد بذلك تفريق كلمة المسلمين، أو الإضرار بالناس بأي لون من ألوان الضرر، عقيدة أو سلوكا، وتجتمع فيه بعض الجماعات الخارجة عن حدود الدين؛ لأنهم يكفرون غيرهم مثلا، أو يستحلون حرماتهم، أو يريدون بذلك رياء وسمعة، فهو في حكم مسجد الضرار، لا تجوز الصلاة فيه على ما رآه علماء المالكية كما ذكره القرطبي.(1/131)
وبهذا، لابد من اعتبار النية، والنظر إلى الأثر المترتب على بناء هذه المساجد، والأمر يحتاج إلى دقة وحكمة في المعالجة، والتوعية لها دخل كبير في هذا الموضوع.
والله أعلم .(1/132)
س:فضيلة الشيخ عطية، إن بعض أصحاب المهن الغير شريفة، أو الحرام مثل: السارقين، وتجار المخدرات، وبائعي الخمور، وأصحاب الملاهي الليلية، والراقصات، يقومون ببناء بعض المساجد، وتوجد شبة كبيرة في مصادر أموالهم. فهل تصح الصلاة في مثل هذه المساجد، وما حكم الدين في ذلك ؟
بعيدا عن ثواب بناء المساجد؛ لأنه لا يكون إلا للمؤمن المطيع صاحب الكسب الحلال، بعيدا عن ذلك، قال العلماء: إن تبرُّع الكافر لبناء مسجد، أو لتجهيزه يقبل منه في الدنيا، وتصح الصلاة فيه، وإن لم يكن له ثواب عند الله في الآخرة، فثوابه في الدنيا بمثل تكريم الناس له، قال الله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنا ه هباء منثورا}.
وصرح الإمام الشافعي بجواز وصية غير المسلم لبناء مسجد للمسلمين حتى ولو كان المسجد الأقصى.
وفى كتب الأحناف أن بناء غير المسلم مسجدا لقوم من المسلمين، أو جعل داره مسجدا لهم، وأذن لهم بالصلاة في هذه المساجد؛ جازت الصلاة.
وإذا كان هذا الحكم هو صحة الصلاة في مساجد بناها غير المسلمين فهي صحيحة من باب أولى؛ إذا بناها أو تبرع لها أحد المسلمين حتى لو كان عاصيا، مرتكبا لكل أنواع المعاصي؛ لأنه ما زال مؤمنا على الرغم من عصيانه، ما لم يشرك بالله، ثم نترك ثوابه لله (تعالى) هذا.
وقد قرر العلماء: أن التوبة من المال الحرام تكون برده إلى أصحابه؛ إن عُلموا فإن لم يُعلموا؛ وضع ذلك المال في منفعة عامة للمسلمين، ومنها المساجد، وهذا يؤكد القول بصحة الصلاة في المساجد التي بنيت بأموال غير حلال.
والله أعلم .(1/133)
س:بنى رجل مسجدا وأوصى بأن يدفن فيه. فهل هذه الوصية صحيحة من وجهة نظر الشرع ؟
يرى الإمام أحمد الذي أخذ به ابن تيميه، وابن القيم: أن الدفن في المسجد حرام؛ فلا يجتمع في الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق.
وعلى هذا لا تجوز الوصية بالدفن في المسجد، ولو أوصى أحد بذلك لا تنفذ الوصية.
وإذا كان الشافعي يرى أن الدفن في السجد مكروه كراهة تنزيه؛ فإن الوصية بالدفن فيه مكروهة، ولا يجب تنفيذها، وهذا إذا كان الدفن في داخل المسجد، أما لو كان بجواره وخارجا عنه، فلا حرمة ولا كراهة في الوصية والتنفيذ.
والله أعلم .(1/134)
س:كثر بناء المساجد أسفل العمارات. فما حكم الصلاة فيها وفوقها العديد من الطوابق المأهولة بالسكان، وما الحكم إذا أراد صاحب العمارة هدمها وإقامة غيرها ؟
مما اختص الله به الأمة الإسلامية؛ أنه جعل الأرض كلها مسجدا، فأينما أدركت الإنسان الصلاة؛ صلى، وما دامت الأرض قد خصصها صاحبها للصلاة وصلى الناس فيها؛ صارت مسجدا وله أحكام كل المساجد، وتكون الصلاة فيه أفضل من الصلاة في أية بقعة أخرى من الأرض، والمساجد نفسها بينها تفاضل، وأفضلها المسجد الحرام بمكة؛ لأن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه، ثم مسجد المدينة؛ لأن الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه، ثم المسجد الأقصى؛ لأن الصلاة فيه بخمس مائة صلاة .وفى كل ذلك وردت الأحاديث.
أما باقي المساجد فهي سواء في الثواب، وبعض العلماء قال: المسجد الكبير أولى من المسجد الصغير للصلاة. وقال البعض: المسجد البعيد أولى؛ لكثرة الخطى إليه وكل ذلك خلاف في الأفضلية.
أما الصلاة في أي مسجد منها، فهي صلاة صحيحة لا غبار عليها، وتقام فيها الجماعات والجُمَع والأعياد، وغيرها على رأى الجمهور الذي يسوي بين المساجد في صحة الجمعة، لا فرق بين القديم والجديد.
وإذا أراد صاحب العمارة هدمها، فما يزال المسجد ملكا لله، ويبنى من جديد ولا يخرَّب، ولا ينتفع فيه في غير الصلاة.
والله أعلم .(1/135)
س:أقيم في بلدتنا مسجد لصلاة النساء فقط. فهل يصح أن تؤذن فيه امرأة وتقيم الصلاة، أم يستلزم ذلك وجود الرجل؟
يكره للمرأة رفع صوتها بالآذان؛ إذا سمعه رجل أجنبي، فإن كانت تؤذن لنساء فلا مانع؛ بحيث لا يسمعه أجنبي، وكذلك لو أذنت لنفسها.
جاء في (المغني) لابن قدامة أنه لا خلاف في أنه لا آذان ولا إقامة على المرأة، لكن هل يُسَنُّ لها ذلك؟ قال أحمد: إن فعلن فلا بأس، وإن لم يفعلن فجائز.
وعن عائشة (رضي الله عنها) "أنها كانت تؤذن وتقيم". كما رواه البيهقي.
روى أبو داود والحاكم وابن خزيمة، وصححه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "جعل لأم ورقة مؤذنا، وأباح لها أن تؤمَّ أهل بيتها".
فالخلاصة:
أن للمرأة أن تؤذن لنفسها أو لنساء مثلها، ولا ترفع صوتها؛ حتى لا يسمعه أجنبي.
والله أعلم .(1/136)
س:فضيلة الشيخ، هل يصح أن يقيم الصلاة شخص غير الذي أذن، أم لابد أن يقيم الصلاة من رفع الآذان ؟
تحدث القرطبي في تفسيره عن اختلاف العلماء في هذه المسألة فقال: ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: إلى أنه لا بأس أن يؤذن شخص ويقيم غيره.
لحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "أمره إِذْ رأى النداءَ في النوم أَنْ يلقيه على بلال، فأذن بلال، ثم أمر عبد الله بن زيد فأقام". رواه أحمد وأبو داود.
وقال الثوري والليث والشافعي: من أذن؛ فهو يقيم. لكن الحديث الوارد في ذلك ضعيف.
ثم انتهى القرطبي إلى قوله: ومع هذا فإني أستحب إذا كان المؤذن واحدا راتبا أن يتولى الإقامة، فإن أقامها غيره؛ فالصلاة ماضية بإجماع.
وإلى جانب المناقشات الطويلة في كتاب (نيل الأوطار) للشوكاني، العلماء فريقان وذك كله في الأفضلية.
أما الصحة فهي متفق عليها، سواء أقام المؤذن، أم أقام غيره.
والأمر لا يحتاج إلى تعصب ولا إلى طول بحث.
والله أعلم .(1/137)
س:هل يصح أن يؤذن للصلوات الفائتة، وإذا صح ذلك هل يكون على مسمع من الجميع، أم يكون لمن سيصلي صلاة فائتة فقط ؟
يسن الآذان لقضاء الصلاة الفائتة، وإذا كان المصلي منفردا؛ [أي وحده] كان الآذان بحيث يسمعه هو؛ حتى لا يحصل ارتباك لمن يسمعه إذا رفع صوته.
أما إذا كان هناك جماعة يقضون صلاة فالمؤذن يرفع صوته؛ ليسمعهم.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر، فاستيقظوا بحر الشمس فارتفعوا قليلا حتى استقلت الشمس [أي ارتفعت] ثم أمر مؤذنا فأذن وصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، ثم صلى الفجر".
والله أعلم .(1/138)
س:فضيلة الشيخ، دخل شخص المسجد والمؤذن يرفع الآذان، وانتظر حتى انتهى المؤذن، ثم خرج من المسجد. فهل هذا يصح ؟
روى مسلم عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودا في المسجد فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم.
وروى أحمد بإسناد صحيح "إذا كنتم في المسجد فنودي للصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي".
وروى ابن ماجة أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من أدركه الآذان في المسجد، ثم خرج لم يخرج لحاجة لا يريد الرجعة فهو منافق".
قال العلماء: إن الخروج من المسجد بعد الآذان لعذر وفى نيته الرجوع لصلاة الجماعة لا حرمة فيه ولا كراهة. أما الخروج بغير عذر أو لعذر وفى نيته عدم الرجوع فهو مكروه، ومن فعل ذلك عبَّر عنه الحديث بالمنافق الذي يظهر الإيمان أو الطاعة ليرائي بذلك الناس وهو يخفى الكفر أو العصيان، وهذا مذموم.
مع العلم بأن عصيان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كما في قول أبى هريرة، ليس دائما حراما، فذلك يكون فقط في الواجب.
أما عصيانه في السنة فهو مكروه فقط. والحديث دليل على الاهتمام بصلاة الجماعة في المسجد.
على الرغم من الاختلاف في أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة، أو فرض عين، أو فرض كفاية.
والله أعلم .(1/139)
س:تصرف مبالغ كبيرة على تشييد وإقامة المآذن، مع العلم أن مكبرات الصوت تقوم بمهمة الإعلام خير قيام. فهل الأنفع أن يوجه ثمن بناء المآذن إلى شيء آخر ينفع المسلمين، أم أنها مظهر له أهميته ؟
من أجل كثرة من يستجيبون للآذن فيصلون، وكثرة من يستمعون ليشهدوا للمؤذن؛ كان من السنة رفع الصوت بأقصى ما يمكن؛ ولهذا استعان الأولون عليه بأن يؤذن المؤذن على مكان مرتفع، وحدث في أيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن بلالا كان يؤذن من فوق بناء مرتفع بجوار المسجد.
روى أبو داود و البيهقي "أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر".
وجاء في كتاب (خلاصة الوفا) للسمهودي: أن دار عبد الله بن عمر كان فيها أسطوانة في قبلة المسجد يؤذن عليها بلابل، يرقى إليها بأقتاب والقتب هو: رحل البعير الذي يوضع على ظهره ليركب الراكب.
فاتخاذ مكان عال للآذان عليه أمر مشروع ومستحب.
وتبعا لسنة التطور؛ بنيت أبراج عالية في المساجد للآذان، وهي التي تسمى بالمآذن أو المنارات؛ لأن الأنوار كانت ترفع عليها في مناسبات الأفراح، أو لأنها منارات وعلامات تدل على المساجد أو على إسلام أهلها.
ومهما يكن من شيء، فإن لم تكن فيها فائدة، فليس فيها ضرر، وإذا كانت للمشيدين لها نيات؛ فالله يجزيهم بما نووا.
لكنها على كل حال مظهر من المظاهر الإسلامية، وبخاصة في هذه الأيام التي تحتاج إلى تكثيف للدعوة للإسلام بكل الوسائل الممكنة.
والله أعلم .(1/140)
س:رجل يسأل: في قريتنا صبي عمره ست سنوات، وصوته ندي وجميل، وهو الذي يرفع الآذان على الرغم من وجود أكثر من شخص أصحاب أصوات جميلة، ولكن ليست بدرجة جمال صوت الصبي. فأيهما أحق برفع الآذان ؟
من المعلوم أن الصوت الجميل في القراءة والذكر والتبليغ محبب إلى كل النفوس، وإذا كان الآذان هو لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، ففيه دعوة لهم للإقبال على الصلاة، حي على الصلاة، والصوت الجميل من الداعي يساعد على إجابة دعوته؛ ولذلك لما رأى عبد الله بن زيد كلمات الآذان، وأقرها الرسول ( عليه الصلاة والسلام ) أمره أن يلقنها لبلال؛ لينادي هو بها، وقال في سبب ذلك: "فإنه أندى صوتا منك".
وروى ابن خزيمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما علم أن أبا محظورة حسن الصوت؛ علمه الآذان.
وإذا كان المطلوب من الجماعة من يؤذن فيهم واحد؛ فإن المطلوب يحصل بأي شخص مسلم عاقل، لا يشترط فيه أن يكون بالغا و لا فقيها، بل ولا متطهرا من الحدث، وإن كان يستحسن ذلك.
لكن الصوت الجميل من الصبي المميز له دخل كبير في تحقيق هذا المطلوب؛ ولذلك عني الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بجمال الصوت، وبه يكون الترجيح.
والله أعلم .(1/141)
س:هل المسافر في طائرة أو باخرة أو قطار، أو عبر طريق بري إذا علم بدخول الوقت. عليه أن يؤذن ؟
قلنا: إن الآذان سنة. وإذا كان الآذان له فقط؛ ليصلي، فلا مانع أن يؤذن.
وإذا كان هناك جماعة معه رفع صوته بالآذان؛ حتى يعلم به الحاضرون، وحتى يدخلوا في الصلاة.
والله أعلم .(1/142)
س:أمطرت الدنيا مطرا شديدا قطع الطريق إلى المسجد؛ فلم نتمكن من الآذان لصلاة الظهر. فهل بعد زوال السبب نؤذن للصلاة، أم نصلي بغير آذان ؟
قلنا: إن الآذان سنة. وهو للواحد وللجماعة، فإذا كان الإنسان سيصلي وحده، أذن بصوت يسمعه هو، وإذا كان يؤذن في جماعة؛ رفع صوته بالآذان، إن لم يكن هناك مسجد آخر، لأنه لو أذن بعد آذان المسجد الآخر؛ حصلت بلبلة، وذلك ممنوع.
والله أعلم .(1/143)
س:فضيلة الشيخ عطية، انتشرت المساجد التي يقام فوقها مشاريع خيرية مثل: تحفيظ القرآن أو العيادات الطبية، وغير ذلك.
فما حكم الدين في هذه المساجد وفي مشاريعها ؟
جاء في فتوى رسمية: أنه بعد تمام المسجدية، لا يجوز البناء على المسجد ولو لمصالحه، حتى صرحوا بأنه لا يوضع الجذع على جدار المسجد، وإن كان من أوقافه.
وجاء في فتوى أخرى أن ظاهر الرواية عند الحنفية أنه: لو بني فوق المسجد أو تحته بناء لينتفع به لم يصر بهذا مسجدا، وله أن يبيعه ويورث عنه.
أما لو كان البناء لصالح المسجد فإنه يجوز، ويصير مسجدا، وهذا قبل أن يصير مسجدا.
أما بعده فلا يمكن أحد من البناء عليه مطلقا.
ونقل عن الصاحبين [يعني محمد وأبى يوسف] أنه يجوز أن يكون سفل المسجد أو علوه ملكا في كل حال ينتفع به الباني أو يخصص لصالح المسجد؛ إذا اقتضت الضرورة ذلك، كما في البلاد التي تضيق منازلها بسكانها.
وعلى هذا، إذا كانت هناك ضرورة تدعوا إلى المشروع المذكور في السؤال، فلا بأس بأخذ الصاحبين في الرواية المذكورة عنهما؛ لأنها تتفق مع قواعد المذهب، كقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وهذا مقرر في قول الله تعالى: { وما جعل عليكم في الدين من حرج }.
والله أعلم .(1/144)
س:نعلم أن الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي تفضل أية صلاة في المساجد الأخرى في ثواب الأجر، ولكن هل الزيادات التي زيدت على المسجدين لها نفس الفضل، أم أن الثواب والفضل في أصل المسجدين [أي في المساحة القديمة] ؟
صح في الحديث "أن الصلاة في المسجد الحرام بمكة بمائة ألف صلاة فيما سواه". كما رواه الطبراني وابن خزيمة. "وفى المسجد النبوي بالمدينة بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". كما رواه مسلم.
وهذا واضح في مساحة المسجد التي كانت موجودة في أيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
لكن طرأت على المسجدين زيادات في عصور متعددة، كما كثر عدد المترديين عليهما للصلاة، فكيف يكون الأمر لمن لم يستطع أن يجد له مكانا في المساحة المحدودة؟
اختلف العلماء في فضل الصلاة في الزيادة الطارئة على الأصل، فقال النووي: الفضل خاص بالأصل دون الزيادة، مستدلا بقول النبي: ( صلى الله عليه وسلم ): "في مسجدي هذا" .
فالإشارة إلى ما بناه هو وحدده، لا ما بناه غيره فيما بعد، لكن قد يرد عليه بأن الحديث قال هذه العبارة؛ ليخرج المساجد الأخرى، لا ليخرج الزيادة في مسجده، والنووي وحده صاحب هذا الرأي، وقيل: رجع عنه.
أما جمهور العلماء فقالوا: إن كل زيادة في المسجدين لها هذا الحكم، فقد سئل مالك ـ رحمه الله ـ عن ذلك فقال: النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تحدث بما سيكون بعده، فزويت له الأرض؛ فرأى مشارقها ومغاربها، ولولا تحدثه بما يكون بعده؛ ما استجاب الخلفاء أن يزيدوا في مسجده بحضرة الصحابة دون أن ينكر عليهم أحد.
قال ابن تيميه ـ وهو الذي يدل عليه الكلام المتقدمين وعملهم: وكان الأمر عليه زمن عمر بن الخطاب وزمن عثمان، فزادوا في قبلة المسجد، وكان وقوفهما في الصلوات وفى الصف الأول في الزيادة، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا.(1/145)
ويشهد له روايات وإن كانت ضعيفة مثل: "لو مد هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي". وقول عمر (رضي الله عنه): لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجدا للرسول (عليه الصلاة والسلام).
هذا فضل الصلاة في المسجد وزياداته.
أما الصلاة خارج هذه الزيادات، فلا تعطي هذا الثواب؛ وإلا لصلى الناس في بيوتهم، وبخاصة أن الحرم يتجاوز مكة التي قد يتسع عمرانها ويدخل فيه المزدلفة وله حدود معينة.
وأرى: أن صفوف المصلين خارج المسجد لو اتصلت بالصفوف التي داخله، يرجى لها ثواب الصلاة بالمسجد، وإن كان الحرص على الصلاة داخل المسجد يجعل الإنسان يبادر بالذهاب إليه؛ حتى يجد مكانا فيه والمبادرة لحضور الصلاة مطلوبة.
والله أعلم .(1/146)
س:وهل يجوز هدم مسجد آيل للسقوط؛ خوفا من سقوطه على المصلين، مع العلم أن الاستعدادات المادية لإعادة بنائه غير موجودة، وهل يجوز التصرف في الأرض ببيعها والاستفادة بأموالها في مشاريع أخرى بدلا من تركها خرابا ؟
إذا كان المسجد آيلا للسقوط وأريد ترميمه أو هدمه وبناء غيره، فلا مانع من ذلك.
لكن لو كان المسجد صالحا للصلاة فيه بدون ضرر؛ فلا يجوز هدمه ولا بيعه ولا تعطيله؛ وإن خربت المحلة كما يقول علماء المالكية.
ويجوز منع بناء المسجد، كما يجوز منع هدمه بعد بنائه إذا قصد به الشقاق، والخلاف.
يؤخذ من قول الفقهاء: أنه يجوز الانتفاع بالمسجد القديم الآيل للسقوط في إعادة بنائه، أو بناء مسجد آخر في مكان آخر.
أما استعماله في غير ذلك، فلا يجوز ويبقى متعطلا.
والله أعلم .(1/147)
س:في مبنى كبير في أحد المصالح الحكومية، أقام العاملون فيه مسجدا صغيرا واستمر على ذلك عدة سنوات، ثم ألغي هذا المسجد، وأقيم مكانه دورة مياه. فما حكم الشرع في هذا التصرف ؟
يؤخذ من أقوال الفقهاء: أنه ما دام المسجد قد بني، وأقيمت الصلاة فيه؛ خرج عن ملك مَنْ بناه، ولا يجوز هدمه إلا لمصلحة، ولابد من بناء غيره في مكانه أو في مكان آخر.
والله أعلم .(1/148)
س: على شاطئ ترعة من ترع النيل، أصلح بعض الأهالي مساحة وفرشوها بأعواد الأرز، وليس لها حوائط، ويطلق عليها: (مصلى). فهل تصح صلاة الجمعة والجماعة فيها ؟
جاء في فقه المذاهب الأربعة أن المالكية قالوا: لا تصح الجمعة في البيوت ولا في الفضاء؛ بل لابد أن تؤدى في الجامع ويشترط في الجامع شروط أربعة:
الأول:
أن يكون مبنيا، فلا تصح في مسجد حوِّط عليه بأحجار أو طوب من غير بناء. والثاني:
أن يكون بناؤه مساويا على الأقل للبناء المعتاد لأهل البلد، فلو كان البلد أخصاصا صح بناء المسجد من البوص.
أما إذا كانت عادتهم البناء بالطوب المحروق ـ مثلا ـ وبنوا المسجد بالطوب <النيِّئ أو النِيء>؛ فلا تصح الجمعة فيه.
والثالث:
أن يكون في البلد أو خارجا عنها قريبا منها، بحيث يصل إليها <دخالها>.
والرابع:
أن يكون متحدا فلو تعددت البلد الواحد؛ فلا تصح الجمعة إلا في الجامع القديم وهو: الذي أقيمت فيه الجمعة أولا في البلد، ولو تأخر بناؤه، ولا تصح في المسجد الجديد الذي لا حاجة إليه ما دام القديم موجودا، ولم يحكم بصحتها فيه حاكم. هذا في مذهب المالكية.
أما المذهب الأخرى فلا تشترط لصحة الجمعة أن تكون في مسجد، بل تصح في أي مكان داخل البلد أو خارجها.
ومما يدل على مذهب الجمهور، وهو صحة صلاة الجمعة وغيرها في أي مكان: ما رواه ابن أبى شيبة أن عمر (رضي الله عنه) كتب إلى أهل البحرين: أن جَمِّعُوا حيث ما كنتم. وإسناده جيد، كما قال أحمد.
وروى عبد الرازق بسند صحيح: أن ابن عمر كان يرى أهل المياة بين مكة والمدينة يُجَمِّعون فلا يعتب عليهم.
فالخلاصة:
أن إقامة الجمعة والجماعة في هذا المكان المسئول عنه جائزة على رأي الجمهور.
والله أعلم .(1/149)
س: كثرت الزخرفة في المساجد بما قد يشغل عين وقلب المصلي. فهل هي بدعة حسنة. أم سيئة، وهل هي من علامات الساعة ؟
روى أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد".
قال العلماء: تكره زخرفة المساجد باللونين: الأحمر والأصفر، كما يكره نقشه وتزيينه، كما أمر عمر بذلك. ورواه البخاري معلقا.
وذلك لأن لا تشغل هذه الزخارف قلب المصلي. وهذا واضح في الزخرفة من الداخل.
أما من الخارج. فقد تدخل تحت التباهي بمظهرها، والتباهي بفعل الخير حرام يبطل الثواب.
وهذا الحكم بالكراهة مكرر عند المالكية والحنابلة، وأجاز الحنفية نقش المسجد بالماء الحلال، ما عدا المحراب، فيكره؛ لأنه يلهي المصلي.
وما دامت العلة هي الإلهاء، فيكره النقش في أي مكان فيه إلهاء.
وروي عن أبي حنيفة الترخيص في ذلك كما، روي عن أبي طالب المكي عدم الكراهة في تزيين المحاريب.
فالمنع من التزيين لا يتعدى الكراهة إلى الحرمة، وذلك من أجل توفير الجو المناسب للمصلي والمتعبد؛ لتحقيق الخشوع.
أما الشكل الخارجي للمسجد فإن كان القصد به مجرد الفخر، والتباهي كان ممنوعا، لكن لو كان لإظهار عناية المسلمين بمساجدهم في مقابل تنافس غيرهم في ذلك، فلا مانع.
كما أثر أن عمر (رضي الله عنه) لما زار الشام وقابله عامله معاوية بحفاوة غير معهودة، سأله عن ذلك؟ فقال: نحن في بلد يهتم بهذه المظاهر. فقال: لا آمرك ولا أنهاك.
من هنا نعرف أن للظروف دخلا في بعض أنواع السلوك.
فأما الكتابة على جدران المسجد، و على سقفه، فهي داخلة ضمن الزخرفة، وكرهها الجمهور؛ من أجل شغل المصلي عن الخشوع.
والله أعلم.(1/150)
س:فضيلة الشيخ عطية، المنبر الذي في مصلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على يمين المصلي. فهل يجب وضع المنابر كلها على يمين المصلى، أو يمين القبلة ؟
تحدث العلماء عن مصلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) [أي المكان الذي كان يلازم فيه الصلاة أو يكثر فيه الصلاة] وكان كثير من الناس ـ وبخاصة بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم ) يحرصون على الصلاة في مصلاه.
أما المنبر: فنحن نعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخطب أول الأمر واقفا، وإذا تعب استند إلى جذع نخلة، ثم انتهى الأمر إلى بناء منبر له يستريح عليه، وحدث تطور في هذا المنبر.
ولكن أين وُضع، هل على يمين مصلى الرسول (عليه الصلاة والسلام)؟
يقول المطري [أحد المؤرخين للمسجد النبوي]:
ورد أن الواقف في مصلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تكون رمانة المنبر الشريف حزو منكبه الأيمن.
وجاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: أن المصليَ في مصلى الرسول (عليه الصلاة والسلام) يجعل عمود المنبر حزو منكبه الأيمن.
من هنا نرى: أن منبر الرسول (عليه الصلاة والسلام) كان على يمين المصلى [أي القبلة] أو [المحراب].
لكن هل هذا الوضع واجب الالتزام؟ لم يرد نص بالالتزام، وإنما الكلام الوارد هو بيان موضع المنبر، وهو لا يدل على الوجوب، وإن كان يدل على الندب اقتداء لما كان عليه الحال في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم) وليس بحرام أن يوضع المنبر في أي مكان.
والمهم هو وجود شيء مرتفع يساعد الخطيب على إسماع الناس، وقد يُسْتَغْنَى عنه بمكبر الصوت، وتؤدى الخطبة من وقوف على الأرض، أو جلسة على كرسي كما يحصل أحيانا في بعض المساجد في خطبة العيد.
إن الأمر سهل لا ينبغي أن يشتد فيه الخلاف، وإن كان من الأوفق أن يراعى المأثور عن السلف في ذلك؛ وهو وضع المنبر على يمين المحراب.
والله أعلم .(1/151)
س:مثل محاريب أهل الكتاب؟ لا؛ لأنها ليست غرفا وليست مرتفعة عن أرض المسجد، ولم يتميز بالجلوس فيها جماعة من المسلمين، وإنما هي علامات على اتجاه القبلة، وقد تكون مجوفة وغير مجوفة؛ تبين مقام الإمام من المأمومين؛ لأن السنة أن يقف الإمام إزاء وسط الصف.
فالحكم بكراهة اتخاذ المحاريب أساسه:
إما اختفاء الإمام عن المأمومين وإما ارتفاعهم عليه بدون مبرر، وكان الصحابة يكرهون أن يكون الإمام مرتفعا عليهم؛ لأنه يوحي بالكبر.
ومحاريب المسلمين الآن لا صلة بهذه الأسباب، فهي علامة على القلبلة وتعليم جهتها أمر مشروع.
وقد غرز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خشبة في مسجد قوم أسامة بعد أن خطه لهم؛ ليكون دليلا على القبلة، فدل هذا على إرشاد المصلي إلى القبلة.
ولم يكن لمسجد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في زمنه محراب، وأحدثه عمر بن عبد العزيز؛ فهو ليس بدعة مذمومة.
بعد هذا أقول: إن محاريب المساجد اليوم ليست هي المحاريب والمقاصير التي في معابد أهل الكتاب.
وعلى هذا، فلا كراهة في عملها ولا في الصلاة فيها، وتوجد في بعض الكتب حملة عنيفة على المحاريب.
لكن المقصود منها محاريب أهل الكتاب بأوصافها التي لا توجد في محاريب المساجد.
والله أعلم .(1/152)
س:انتشرت في بعض المساجد منابر ذات درجات ثلاثة. فهل المنابر العالية بدعة منكرة ؟
صح في البخاري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر نجارا أن يعمل له منبرا يجلس عليه إذا خطب، فلما عُمِلَ مِنْ طَرْفَاءِ الغابة، يقول سهل بن سعد الساعدي: رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلى عليها وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها، ثم نزل <القهقر> فسجد في أصل المنبر، ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس فقال: "أيها الناس إنما صنعت هذا؛ لتأتموا ولتعلموا صلاتي".
لقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب الناس بجوار جزع من النخل، يستند إليه، ولما كان طول الوقوف شاقا عليه؛ أمر بصنع المنبر؛ وكان ثلاث درجات إلى أن زاد فيه مروان ست درجات، وجُدِّدَ أكثر من مرة عند احتراق المسجد.
وكان لأمراء مصر فضل كبير في تجهيز المنابر واستمر الناس يخطبون على هذه المنابر بدرجاتها التسع دون أن ينكر عليهم أحد، وحاول الخليفة العباسي سنة 160هـ أن يعيد المنبر كما كان على عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فنصحه الإمام مالك بعدم التغيير فيه، ولو كانت المنابر الجديدة بدعة وضلالة ما؛ كان للإمام مالك أن يقرها وينهى الخليفة عن تغييرها.
إن درجات المنبر لم يرد في تحديدها قول من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نلزم به الناس، وحتى نعصي عند مخالفته، فالأمر يدور على المصلحة، وإذا وجدت المصلحة فثم شرع الله، كما قال المحققون.
إن درجات المنبر في أيامنا الحاضرة تَسَاوَى قليلها بكثيرها بوجود مكبرات الصوت التي وفرت على الخطيب كثيرا من الجهد ومكنت من الاستماع إلى الخطبة أكبر عدد من المسلمين.
فهل نحكم على هذه المكبرات بأنها بدعة وضلالة في النار وهي تؤدي الغرض الذي من أجله أمر رسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقام له المنبر!!(1/153)
إن الدين يحتاج إلى من يفهمه على وجهه الصحيح، وليس العبرة بالمنابر ودرجاتها الصامتة؛ إنما العبرة بما يُلْقَى من فوقها من علم يجب أن يرقى عشرات الدرجات في الصدق والإجابة والإتقان.
والله أعلم .(1/154)
س:فضيلة الشيخ عطية، كثرت المساجد التي بها قبور أو أضرحة، وكثر الجدل في صحة الصلاة فيها من عدمه. فما رأي الدين في تلك المسألة ؟
لقد تحدث القرآن الكريم عن أهل الكهف الذين كانوا قبل الإسلام بأن من عثروا عليهم بنوا مسجدا على قبورهم كما قال تعالى: { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا }.
وصح في البخاري ومسلم "أن أم حبيبة وأم سلمة ـ وكانتا من المهاجرين إلى الحبشة ـ ذكرتا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كنيسة رأتاها في الحبشة فيها تصاوير للرسول، فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
وجاء في صحيح مسلم عن عائشة أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال في مرضه الأخير: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قالت عائشة: فلولا ذلك؛ أُبْرِزَ قَبْرُه غير أنه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدا.
وفى بعض الروايات أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ذلك قبل أن يموت بخمسٍ. كما قاله جندب.
ولما احتاج الصحابة إلى الزيادة في مسجده، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة [وهي مدخل الرسول وصاحبيه أبي بكر وعمر] بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله؛ لأن لا يظهر في المسجد؛ فيصلي إليه العوام .
إن اتخاذ القبر مسجدا يصور بصورتين:
إحدهما:
جعل مكان السجود على القبر ذاته.
والثانية:
جعل القبر أمام المصلي؛ ليتجه إليه بالعبادة، وبذلك يُفسر قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه مسلم: "لا تصلوا على القبور ولا تجلسوا عليها".
وللحيلولة دون تقديس القبور وأصحابها والصلاة عليها؛ أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعدم البناء على القبور أو رفعها.(1/155)
ففي صحيح مسلم عن علي (رضي الله عنه) أن الرسول قال له لما بعثه: "لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته ولا صورة إلا طمستها".
ومما ورد في النهي عن اتخاذها مساجد:
قول ابن عباس (رضي الله عنهما): "لعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زوارت القبور والمتخذين عليها المساجد و……؟… ". رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
قال القرطبي: قال علماؤنا: هذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد.
وروى الأئمة عن أبي مرقد الغنوي أنه قال: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "لا تصلوا على القبور ولا تجلسوا عليها".
وحكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، إذا كان القبر في مكان منعزل عن المسجد [أي لا يصلى فيه] فالصلاة في المسجد الذي يجاوره صحيحة ولا حرمة ولا كراهية فيها.
أما إذا كان القبر في داخل المسجد؛ فإن الصلاة باطلة، ومحرمة على مذهب أحمد بن حنبل، لكنها جائزة وصحيحة عند الأئمة الثلاثة.
غاية الأمر أنهم قالوا: يكره أن يكون القبر أمام المصلي؛ لما فيه من التشبه بالصلاة إليه.
لكن إذا قصد بالصلاة أمام القبر تقديسه واحترامه؛ كان ذلك حراما، وربما أدى إلى الشرك، فليكن القبر خلفه أو عن يمينه أو عن يساره.
من هذا نعرف:
أن المساجد التي في داخلها قبور، الصلاة فيها صحيحة عند الأئمة الثلاثة، باطلة وحرام عند الإمام أحمد بن حنبل
والله أعلم .(1/156)
س:يشترط بعض الفقهاء استقبال عين الكعبة في الصلاة. فكيف يعرفها من كان بعيدا عنها؟ وأولا: نود معرفة ما المقصود بعين الكعبة ؟
من كان في القرى والأمصار التي فيها مساجد، وبها محاريب قبلة لمعرفة القبلة، كان عليه أن يلتزم الاتجاه إلى حيث تتجه المحاريب ـ وذلك خاص بالمحاريب التي نصبها الصحابة والتابعون ـ ولا يجوز الاتجاه إلى غيرها؛ وإلا بطلت الصلاة.
ومثلها المساجد التي اعتمد المسلمون محاريبها، كما قال جمهور الفقهاء. والمالكية: خصصوا المحاريب التي لا يجوز التحري مع وجودها بأربعة؛ التي هي مسجد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة، ومسجد بنى أمية بالشام، ومسجد القيروان بشمالي إفريقيا، ومسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة.
أما غير هذه المحاريب فإن كانت باليسر [أي بالمدينة] وأقرها العارفون بالقبلة؛ جاز لمن كان أهلا للاجتهاد والتحري أن يقلدها.
أما من لم يكن أهلا لذلك؛ فيجب عليه أن يقلدها، وإن كانت المحاريب بالقرى؛ فلا يجوز لمن كان أهلا للاجتهاد والتحري أن يقلدها.
أما غيره فيقلدها وجوبا؛ إن لم يجد مجتهدا يقلده.
والشافعية يجوزون مع وجود المحاريب الاستدلال على القبلة بالطرق المعروفة.
هذا الحكم هو بالنسبة للمحاريب الموجودة في المساجد فإذا لم توجد محاريب قال جمهور العلماء: يجب عليه أن يسأل أهل الثقة والخبرة إن وُجدوا، وإلا اجتهد هو بنفسه.
ولعل من أهل الثقة والخبرة البوصلة الحديثة المعتمدة من الخبراء.
والاجتهاد مهما كانت وسيلته ظني لا يقيني، ولو تبين خطؤه بعد الصلاة؛ فلا إعادة، ولو كان التبين يقينا عند الجمهور، وتجب الإعادة عند الشافعية.
أما تبين الخطأ أثناء الصلاة فإنه يضر.
وهل يبطل الصلاة أو يلزم إتمامها على الظن الجديد؟ خلاف في ذلك.
ثم قال العلماء: من ترك الاجتهاد وهو قادر عليه؛ فصلاته باطلة عند الجمهور
هذا ملخص ما قاله العلماء في فقه المذاهب.(1/157)
قال أحمد بن حنبل: ما بين المشرق والمغرب قبلة، فإن انحرف عن القبلة قليلا لم يعد، ولكن يتحرى الوسط، وبهذا قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي في أحد قوليه كقولنا: والآخر الفرض إصابة العين كقول الله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }. ولأنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة، فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين.
الكلام كثير في هذا الموضوع، والمراد بالتوجه إلى عين الكعبة: التأكد من أن وجهه سيكون دائما متوجها إلى جسم الكعبة، وهذا أمر قد يسهل إذا كان الإنسان بجوار الكعبة كالذين في مكة.
أما الذين هم بعيدون عنها، فالتوجه يكون إلى جهة القبلة، ولا يضر الانحراف البسيط، وذلك تيسير وتخفيف من الله.
والله أعلم .(1/158)
س:ما المراحل التي تم بها تحديد القبلة حتى استقرت على الوضع الأخير ؟
روى أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن اليهود لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام: آمين".
لقد أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) باستقبال بيت المقدس في الصلاة، وظل على ذلك نحو سنة ونصف السنة بالمدينة، ثم صرفه الله عن هذه القبلة إلى استقبال الكعبة.
إن القبلة الحقيقة للصلاة في كل الشرائع هي الكعبة، كما قال تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين }.
وبيت المقدس لم يتخذه بنو إسرائيل قبلة بوحي من الله؛ بل باختيار منهم على ما ذكره المحققون. ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية.
ولما فرضت الصلاة واستقر خمس مرات بمكة ليلة الإسراء، قيل: إنه لم تكن هناك قبلة معينة على ما فهمه البعض من قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}.
وإن كان هناك ميل إلى التوجه إلى الكعبة؛ لأنها البيت المقدس عند العرب، وأثر سيدنا إبراهيم جدهم.
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحب أن يصلي بين الركنين: اليماني وركن الحجر الأسود، متوجها إلى الكعبة، وإلى بيت المقدس في بيت واحد، وكان هذا الاستقبال إما بوحي من الله، وإما باجتهاد من الرسول (صلى الله عليه وسلم ).
ولما هاجر الرسول إلى المدينة؛ صلى إلى بيت المقدس كما كان يصلي اليهود، لكنه كان مشتاقا إلى التوجه إلى الكعبة، وبعد نحو سنة ونصف السنة، صرفه الله إلى القبلة الأولى، وهي الكعبة كما قال تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }.
هذه هي مراحل التحويل باختصار.(1/159)
والله أعلم .(1/160)
س:فضيلة الشيخ، هل يمكن لنا أن نعين الشهر أو اليوم الذي تم فيه التحويل ؟
هناك ثلاثة أقوال في تعين الشهر و اليوم الذي حولت فيه القبلة إلى الكعبة، فقيل: في منتصف شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة، وكان ذلك في يوم الاثنين. رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس، وجزم به الجمهور.
وقيل: كان في شهر جمادى الآخرة .
وقيل: في نصف شعبان، في يوم الثلاثاء.
وجاء التحويل في أثناء صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للظهر، فاتجه إلى القبلة وهو يصليها في بني سلمة.
ولما علم الناس بالتحويل وهم في صلاة العصر؛ تحولوا وأتموا الصلاة. كما رواه البخاري ومسلم.
وقيل: غير ذلك.
والله أعلم .(1/161)
س:نود أن نعرف حكمة التحويل ولماذا لم يعين الله القبلة مرة واحدة ؟
حكمة التحويل تظهر في تحويلها من الكعبة أولا إلى بيت المقدس، كما تظهر في العودة ثانيا من بيت المقدس إلى الكعبة، ففي التحويل الأول قيل: إن الحكمة هي تأليف اليهود في المدينة؛ لعلهم يؤمنون بالرسول الذي يتجه إلى قبلتهم في الشام.
وقيل: تنبيه الله للرسول أن بيت المقدس له منزلته وقداسته فتجب المحافظة عليه.
أما الحكمة في التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة، فقيل: امتحان المؤمنين الصادقين في ثباتهم و امتثال أمر ربهم كما قال تعالى:{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}.
وقيل: تنبيه للرسول بعد استقبال قبلة اليهود، تنبيه على عدم الرجاء في إيمانهم. وقيل: الحكمة هي: العودة بالدعوة إلى أصلها، وهو العالمية القائمة على قواعد إبراهيم أبي الأنبياء.
وقيل: الحكمة هي: الإيحاء بأن مكة لابد أن تعود إلى الإسلام بعد الهجرة، وعلى المسلمين أن يجاهدوا لإخضاع الكعبة للمسلمين، وفى ذلك بشارة <بنفر> الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على قريش واستخلاص البيت منهم؛ لتطهيره من الأصنام وجعل الدين خالصا لوجه الله.
ذلك كله إلى جانب تجميع أهل الدين على قبلة واحدة؛ لتوحيد اتجاههم ومشاعرهم وتقوية الرابطة بينهم.
والله أعلم .(1/162)
س:معلوم أن تحية المسجد واجبة، ولكن إذا دخل الإنسان فوجد جماعة أو جماعتين جالسين في المسجد، فهل يسلم عليهم أولا، أو يحي المسجد ثم يسلم عليهم ؟
يقول النووي في كتابه (الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار) يقول: السنة أن المسلم يبدأ بالسلام قبل كل كلام.
والأحاديث الصحيحة وعمل سلف الأمة وخلفها على وفق ذلك مشهورة.
فهذا هو المعتمد في دليل الفصل يعني: البدء بالسلام قبل كل شيء.
ثم قال مالك: وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي عن جابر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): "السلام قبل الكلام". فهو حديث ضعيف.
يقول ابن علام [شارح كتاب الأذكار في تعليل البدء بالسلام] أي لأنه تحية يبدأ به فيفوت بالافتتاح في الكلام كتحية المسجد، فإنها قبل الجلوس وتفوت به.
يؤخذ من هذا أن الداخل للمسجد الذي فيه شخص أو جماعة مطلوب منه سنتان: تحية المسجد، وتحية المسلمين، فبأيهما يبدأ. فلو صلى تحية المسجد فلا معنى بتحية المسلم بالسلام بعدها؛ لأنها فاتت.
ومن هنا يكون الأفضل البدء بتحية السلام، ثم يأتي بتحية المسجد؛ لأنها لا تفوت إلا بالجلوس، والداخل ما زال قائما لم يجلس، فيسلم على الحاضرين، ثم يصلي تحية المسجد.
وهنا يكون قد جمع بين التحيتين والأساس كما ذُكر:
أن تحية السلام تفوت في الانشغال بأي شيء. أما تحية المسجد فلا تفوت إلا بالجلوس.
والله أعلم .(1/163)
س:هل الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وهل المقصود به مطلق الكلام ؟
جاء في كتاب (غذاء الألباب) للسفاريني قوله: وأما ما شاع وكثر على الألسنة من قولهم: إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: الحديث في المسجد، وبعضهم يزيد: المباح يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. فهو كذب لا أصل له.
قال في المختصر: لم يوجد. ذكره القاضي في موضوعاته، كما ذكر العراقي على الإحياء أنه لا أصل له.
لكن روى ابن حبان في صحيحه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة".
وظاهر الحديث أن الكلام في المسجد أيا كان نوعه ممنوع، لكن المحققين من العلماء قالوا: إنه يجوز في الأمور المهمة في الدين والدنيا من كل ما لا حرمة فيه ولا باطل.
وقد رأى الإمام النووي جواز الحديث العادي وإن صحبه ضحك خفيف. لما رواه مسلم كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام وقال: كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية؛ فيضحكون ويبتسم".
وفى رواية لأحمد عن جابر: "شاهدت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما يبتسم معهم". وهو حديث صحيح.
فالحديث الممنوع هو: الباطل أو الذي يشوش على المصلين، أو الذي يذهب كرامة المسجد إذا تناوله جماعة في شكل حلقات كما نص عليه.
وقد أذن النبي (صلى الله عليه وسلم ) لحسان بن ثابت أن يقول الشعر في المسجد؛ ليرد على الكافرين ما يفترونه من كذب على الله ورسوله، كما ثبت في الصحيحين.
وعليه فالكلام المباح غير محرم في المساجد، وإن كنا ننصح بأن يكون في أضيق الحدود، وليكن شغل الجالسين فيها ذكر الله، والعبادة فذلك ما بنيت له المساجد.
والله أعلم .(1/164)
س:انتشرت الآن ظاهرة قد تكون في أكثر المساجد، وذلك أن بعض الناس يدخلون المسجد ويعلنون عن حاجتهم إلى المال لمرض أو خلافة، وخاصة في الأيام التي تمتلئ فيها المساجد بالمصلين مثل: الجمعة والعيد. فهل يصح هذا، وهل يجوز لنا أن نتصدق عليهم ؟
لقد ألف الإمام السيوطي رسالة في هذا الموضوع بعنوان (بذل العسجد لسؤال المسجد) ولخص الحكم في قوله: السؤال في المسجد مكروه كراهة تنزيه وإعطاء السائل قربة يثاب عليها، وليس بمكروه، فضلا عن أن يكون حراما. هذا هو المنقول والذي دلت عليه الأحاديث.
وأورد حديثا رواه أبو داود بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل فوجدت كسرة في يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه". فبه دليل على أن السؤال في المسجد ليس بحرام، وأن الصدقة عليه ليست مكروهة؛ حيث اطلع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك بإخبار أبي بكر، ولم ينكره، ولو كان حراما لم يقر عليه؛ بل كان يمنع السائل، بل كان يمنع السائل من العود إلى السؤال في المسجد.
ولو ثبت أن هناك نهيا عن السؤال بالمسجد؛ لكان محمولا على الكراهة التنزيهية،وكان حديث أبي بكر صارفا له عن الحرمة.
وقد نص النووي في (شرح المهذب): على أنه يكره رفع الصوت بالخصومة في المسجد، ولم يحكم عليه أحد بالتحريم، وكذلك رفع الصوت بالقراءة والذكر إذا آذى المصلين والنيام، نصوا على كراهته لا تحريمه.
فالحكم بالتحريم يحتاج إلى دليل واضح صحيح الإسناد وغير معارض، ثم إلى نص من أحد المذاهب، وكل من الأمرين لا سبيل إليه.(1/165)
ومن الأدلة: حديث آخر رواه الطبراني في (الأوسط) عن عمار بن ياسر قال: "وقف على علي بن أبي طالب سائل وهو راكع في تطوع فنزع خاتمة فأعطاه للسائل". فنزلت الآية { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }.
وذكر السيوطي طرقا أخرى لنزول هذه الآية، وفيها تصدق علي وهو راكع، ثم ذكر حديثا للحافظ والبيهقي عن خذيفة بن اليمان قال: قام سائل على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم ) فسأله، فسكت القوم، ثم إن رجلا أعطاه؛ فأعطاه القوم، فقال ( صلى الله عليه وسلم ): "من سن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقص من أجورهم".
وذكر أن الحديث الذي ذكره ابن الحاج في كتابه (المدخل) "من سأل في المسجد فاحرموه". لا أصل له. وقال: إن حكمنا بالكراهة مأخوذ من حديث النهي عن <النشدان> الضآلة في المسجد، إن المساجد لا تنبي لهذا.
وجاء للسفاريني: أن ابن سليم سئل عن السؤال في المسجد؟ فقال: أصل السؤال في المسجد و في خارج المسجد إلا لضرورة، فإن كانت هناك ضرورة، وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدا كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه *** ولم يجهر جهرا يضر الناس مثل: أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علما يشغلهم به ونحو ذلك؛ جاز السؤال.
فالخلاصة:
إن السؤال أن السؤال إن لم يكن فيه شيء من هذه المضار؛ ليس بحرام وإن كان مكروها.
والله أعلم .(1/166)
س:فضيلة الشيخ عطية، نسمع أن بعض التجار يجلسون لأداء الصلاة في المسجد، ثم يعقدون بعض الصفقات تبركا بوجودهم في المسجد. فما حكم الدين في ذلك ؟
جاء في تفسير القرطبي في المسألة السادسة قوله: وفصال المساجد أيضا عن البيع والشراء، ذكر حديث مسلم "إنما بنيت المساجد لما بنيت له". وقال: وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات، وقراءة القرآن كما جاء منصوصا عليه في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، وذكر أيضا من رواية الترمذي أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نهى أيضا عن تناسب الأشعار، وعن البيع والشراء في المسجد، ثم قال: وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق، ثم قال بعد ذلك أيضا.
وقد روي عن بعض أهل العلم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد.
وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غير حديث رخصة لإنشاد الشعر في المسجد.
هذا ما جاء في القرطبي وجاء في فقه المذهب الأربعة: أن الحنفية لو كرهوا لو كرهوا عقود المبادلة في المسجد: كالبيع والشراء والاذاره.
أما عقد الربا ونحوها فإنه لا يكره.
والمالكية قالوا مثل الحنفية تقريبا.
أما الحنابلة فقالوا: يحرم البيع والشراء في المسجد وإن وقع؛ فهو باطل.
والشافعية قالوا: يحرم اتخاذ المسجد محلا للمبيع والشراء على الدوام وأما إن وقع ذلك نادرا، فهو خلاف الأولى إلا إذا أدى إلى التضييق على مصل؛ فيحرم.
فالخلاصة:
أن عقد الصفقات في المسجد في بعض الأحيان مكروه، أو خلاف الأولى عند الجمهور، وحرام وباطل عند أحمد، واتخاذه بذلك على الدوام حرام عند الشافعية والحنابلة، وكذلك إذا أدى على التضييق على المصلي.
وأرى حرمته إذا أخل بحرمة المسجد، سواء أن كان أحيانا أو على الدوام.(1/167)
روى النسائي والترمذي وحسنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك".
والله أعلم .(1/168)
س:تستخدم أحيانا مكبرات الصوت التي في المساجد للإعلان عن شيء ضائع أو موت أحد، وغير ذلك. فما حكم الدين في ذلك ؟
يقول الله سبحانه: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة }.
وروى مسلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من سمع رجلا يلفظ ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا".
وجاء في شرح النووي في صحيح مسلم أن أبا حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك: أجازا رفع الصوت في المسجد؛ للعلم والخصومة [أي التقاضي] وغير ذلك، مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجتمعهم ولابد لهم منه.
فالحكم مبني على عدم التشويش على المصلين والمتعبدين، وعدم الإخلال بحرمة المسجد.
ولا شك أن ما سمح به الرسول كان مراعا فيه هذه الحكمة.
أما ما منعه كالتجارة و <نشدان> الضآلة وكان مراعا فيه أنه يتنافى مع هذه الحكمة.
ومعروف أن البيع والشراء فيه مساومة وكلام يشوش على من في المسجد، وكذلك نشدان الضالة فيه مساومة على الجُعل الذي يدفع عند إحضار الضالة، وفيه استفسار عن مواصفاتها.
والاستلال على المنع من قوله تعالى: { و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا}. لا محل له هنا؛ لأن الآية واردة في من يشركون مع الله غيره في العبادة، كما كان المشركون يفعلون ذلك في المسجد الحرام عندما كان مملوءا بالأصنام.
بعد كل هذا يمكن أن نقول:
إن الإعلان عن الوفاة ليس مصلحة شخصية بقدر ما هو مصلحة عامة، فإذا كان مكبر الصوت وهو: الميكرفون، لا يشوش على المصلين والمتعبدين؛ فلا وجه لمنع الإعلان فيه عن الوفاة.
أما إذا كان فيه تشويش؛ فيكون ممنوعا، ودرجة المنع هي: الكراهة لا الحرمة.
والله أعلم .(1/169)
س: هل يجوز النوم في المسجد، وما الحكم في ذلك ؟
معروف أن بيوت الله جعلت للعبادة ومزاولة أعمال الخير التي لا تخل بحرمتها ولا تؤذي من يتعبد فيها.
ومعروف أيضا أن الملائكة تحب التردد على المساجد؛ لما فيها من ذكر لله وقراءة القرآن، ومدارسته، كما ثبت في الحديث، وأنها تحب الرائحة الطيبة، وتنفر من الرائحة الكريهة.
ومعروف أن الحديث نهى من أكل ثوما أو بصلا أن يؤذي من في المسجد برائحته.
ومن المعروف أن النائم في المسجد قد يخرج منه ما يؤذي ويضايق، وقد تبدو منه في نومه بعض مواضع يستحيى من كشفها، أو أصوات شخير، وغير ذلك مما فيه إيذاء.
ومن هنا تحدث العلماء عن حكم النوم في المسجد من واقع ما ورد من الآثار في ذلك.
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "رئي في المسجد مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى".
كما صح أن عمر وعثمان كانا يسلتقيان أحيانا بالمسجد النبوي.
وروى البخاري وغيره أن ابن عمر كان ينام في المسجد النبوي وهو أعزب ومعه بعض الشبان ينامون ليلا ويقيلون وقت الظهيرة.
كما أخرج البخاري "أن عليا غاضب فاطمة فذهب إلى المسجد، ونام فيه وسقط رداؤه عنه وأصابه تراب وجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يمسحه، ويقول: قم أبا تراب".
وكان في المسجد النبوي صفة [أي مكان مظلل يأوي فيه المساكين وينزل فيه ضيوف الرسول ( صلى الله عليه وسلم )].
وصح في البخاري ومسلم أنه ضرب قبة [أي خيمة] في المسجد على سعد بن معاذ لما أصيب يوم الخندق؛ وذلك ليمرض فيها، وأنه جعل خيمة في المسجد للمرأة السوداء التي ترفع القمامة منه، ولما أسر ثمامة وهو مشرك ربط مدة بسارية في المسجد النبوي.
وبناء على هذا، قال العلماء:(1/170)
إذا كانت هناك حاجة إلى المبيت بالمسجد فلا حرج، ومن ذلك المعتكف، وكذلك ما لم يستدام كبيوتة الضيف الذي لا أهل له، والمريض والمسافر والفقير الذي لا بيت له، ومن يشرف على المسجد من نظافة وخدمة وآذان وإمامة، إذا لم تكن لهم بيوت خاصة.
وعلى هذا الحكم جمهور العلماء، وإن كان ابن مسعود كره النوم في المسجد مطلقا.
وسئل ابن عباس عن المبيت في المسجد؟ فقال: إن كان لحاجة كالغريب الذي لا أهل له، أو الفقير الذي لا بيت له إذا كان يبت بمقدار الحاجة، ثم ينتقل؛ فلا بأس.
وأما من اتخذه مبيتا ومقيلا فينهى عن ذلك.
والإمام مالك أباح النوم في المسجد لمن ليس له مسكن. أما من له مسكن فيكره نومه في المسجد.
فالخلاصة:
أن النوم في المسجد ليس بحرام، ولكنه مكروه لغير حاجة، فإن كانت هناك حاجة سواء أكانت دائمة أو مؤقتة فلا كراهة.
الله أعلم .(1/171)
س:سائل يسأل: في قريتنا مجموعة من الشباب يصلون ـ والحمد لله ـ ولكن يجتمعون لتناول الطعام، ثم يعقبه شرب شاي، وبعضهم يدخن السجائر. فهل يصح فعل هذا في المسجد ؟
تناول الطعام في المسجد لا مانع منه ما لم يكن هناك تلويث له أو انبعاث رائحة كريهة بسببه.
والذين يعتكفون في المساجد يتناولون طعامهم فيها ويقدم الإفطار للصائمين في كثير من المساجد دون نكير ولا اعترض.
جاء في فتاوى الإمام النووي أن الأكل في المساجد جائز ولا يمنع منه، لكن ينبغي أن يبسط الآكل شيئا ويصون المسجد ويحترز من سقوط الفتات والفاكهة وغيرها في المسجد، وذلك فيما ليس له رائحة كريهة: كالثوم والبصل، وإلا كره.
والتدخين في حد ذاته يتلخص حكمه في أنه حرام إن حصل منه ضرر كبير على الصحة والمال وإلا كان مكروها.
والأولي صرف ثمنه في مصالح الخير، ولما كان التدخين يؤذي غير المدخن برائحته والملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان؛ كان التدخين في المسجد بالذات مكروها بل أشد كراهة كالثوم والبصل اللذين جاء النهي عن دخول من يأكلهما المسجد؛ حتى لو حرم من ثواب صلاة الجماعة. كما رواه البخاري ومسلم .
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "يخرج من يأكلهما ويأمر بنفيه إلى البقيع". وهو: المقبرة التي يقبر فيها الأموات. كما رواه مسلم وغيره.
فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار، والمسجد ينبغي أن يصان عن كل خبيث، كما ينبغي أن نحرص على حضور الملائكة، وهم ملائكة الرحمة ففي ذلك خير كثير.
والله أعلم .(1/172)
س:رجل يقول: أصطحب أبنائي الصغار معي إلى المسجد؛لأعودهم على الصلاة ولكن بحكم سنهم الصغير قد يصدر منهم بعض التشويش مما يجعل بعض الناس يعترضون على ذلك. فماذا أفعل؟
نحن مأمورون بأن نعود أولادنا منذ الصغر على الصلاة والصيام وسائر أعمال الخير حتى إذا بلغوا حد التكليف كانت ممارستها سهلة عليهم.
وفى ذلك يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع".
وثبت أن الصحابة عندما فرض الصيام كانوا يصومون أطفالهم ويحضرون لهم كرات الصوف ليتسلوا بها حتى يحين وقت الإفطار. كما رواه البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوض.
وكما يندب تدريب الأولاد على الصلاة والطاعات في المنازل، ينتدب تدريبهم على الأعمال الجماعية؛ لتقوية روح الاجتماع في نفوسهم.
ومن ذلك شهودهم لصلاة الجمع والجماعات في المساجد، وتحدث الفقهاء عن ترتيب صفوف الجماعة فقالوا: يكون الرجال في الصفوف الأولى، ثم يليهم الصبيان، ثم يليهم النساء.
ومع ذلك جاء حديث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجملوها في الجمع". رواه ابن ماجة عن واكلة ابن الأدفع.
وإذا كان في الحديث ضعف فإن هناك مرويات قوية بخصوص ما جاء فيه، ويمكن قبول الحديث الضعيف في فضائل الأعمال التي منها المحافظة على نظافة المساجد، وتوفير الجو الهادئ الذي يليق بمكانتها، ويساعد المتعبدين على آداء عبادتهم في خشوع.
ومن أجل هذا نهى الحديث عن الأمور المذكورة فيه.
وقد جاء فيه تجنيب الصبيان والمجانين للمساجد؛ لأن الغالب منهم ظهور أعمال تتنافى مع كرامة المسجد، وتؤذي المتعبدين، وحتى لا يكون هناك تعارض بين صلاة الصبيان في المساجد وبين الأمر بإبعادهم عنها.(1/173)
قال العلماء: إن التجنيب يكون للأطفال غير المميزين الذين يكثر منهم العبث.
أما المميزون العقلاء فلا بأس باصطحابهم إلى المساجد ومشاركتهم للكبار في الصلاة والعبادة وأعمال الخير، مع متابعة تنبيههم على المحافظة على آداب المساجد والآداب الاجتماعية بوجه عام.
وقد حدث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الحسن معه إلى المسجد فكان يركب على ظهره وهو ساجد في الصلاة، فيطيل السجود؛ رحمة به".
كما جاء في رواية لأحمد والنسائي والحاكم.
وحمل العلماء ذلك على ضمان ألا يكون في دخولهم للمسجد تشويش وعبث.
أما ترك الأطفال يعبثون بدون رقابة فهو الممنوع، وكذلك لم يكن اصطحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للأطفال اعتياديا ومستمرا؛ بل كان على ثلاثات أو في بعض الأحيان.
ومن الخير أن أسوق هنا فقه المذاهب الأربعة:
فالحنفية قالوا:
إذا غلب على الظن أنهم ينجسون المسجد يكره تحريما إدخالهم، وإلا يكره تنزيها.
والمالكية قالوا:
يجوز إدخال الصبي المسجد إذا كان لا يعبث، أو يكف عن العبث إذا نهي عنه، وإلا حرم إدخاله كما يحرم إدخاله وإدخال المجانين؛ إذا كان يؤدي إلي تنجيس المسجد.
والشافعية قالوا:
يجوز إدخال الصبي الذي لا يميز والمجانين المسجد إن أومن تلويثه، وإلحاق ضرر بمن فيه.
وأما الصبي المميز، فيجوز إدخاله فيه إن لم يتخذه ملعبا وإلا حرم.
والحنابلة قالوا:
يكره إدخال الصبي غير المميز المسجد لغير، فإن كان لحاجة كتعليم للكتابة فلا يكره، ويكره إدخال المجانين فيه أيضا.
والله أعلم(1/174)
س: بعض المساجد تستعمل مكبرات الصوت في الآذان، وهذا شيء حسن، ولكن بعضها الآخر تستخدمها في كل صلاة سواء أكانت جهرية أو غير جهرية مما يسبب إزعاجا للسكان المجاورين للمسجد. فما رأى الدين في ذلك ؟
مكبرات الصوت في المساجد من أجل الآذان مشروعة؛ ليعلم أكبر عدد ممكن من الناس دخول وقت الصلاة، ويحافظوا على صلاة الجماعة في المسجد.
ولما هو معروف من فضل الآذان في الإعلان عن إسلام أهل البلد ومغفرة ذنوب المؤذن بمقدار بلوغ صوته وشهادة من يستمع إليه.
أما استعمالها في الصلوات السرية أو الجهرية فإن كان عدد المصلين كبيرا يحتاج المأمومون فيه إلى معرفة ما يقوله الإمام ويفعله، فلا حرج فيه إذا اقتصر على المصلين وكان بقدر من الارتفاع في الصوت لا يضر غيرهم وبخاصة إذا تقاربت المساجد وتعددت مبكرات الصوت التي تحصل منها البلبلة عند المأمومين في هذه المساجد، إلى جانب أن يكون بجوار المسجد أو قريبا منه من هم في حاجة إلى الراحة كالمرضى وذوي الأعذار الأخرى وارتفاع صوت المكبرات يضرهم.
فالأولى انخفاضه وتناسبه مع المصلين؛ لأن الإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار، مع الإشارة إلى أن الإمام النووي ذكر في (الفتاوى) عن رفع الصوت بالقرآن في المسجد ـ وبخاصة قبل صلاة الجمعة ـ ذكر: أنه إذا كان المنتفعون بسماع القرآن أكثر من غيرهم ممن يتعبدون كان الرفع مشروعا.
فالحكم مرهون بالنتيجة كما هو مرهون بالنية في رفع الصوت والأعمال بالنيات كما في الحديث.
والله أعلم .(1/175)
س:فضيلة الشيخ عطية، هل رفع الأصوات في المساجد من العلامات الصغرى للقيامة ؟
جاء النهي عن رفع الأصوات في المساجد بغير ذلك الله والعبادة مثل: نشدان الضآلة والبيع والشراء.
وجاء في (مشارف الأنوار) حديث نقله عن المعارف للشعراني رواه الترمذي عن علي مرفوعا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) يقول: "إذا فعلت أمتي خمسة عشر حل بها البلاء". ومنها: ارتفاع الأصوات في المساجد.
وذكر الكتاب بقية العلامات الصغرى للقيامة وقال عن رفع الأصوات في المساجد: إنه من علامات الساعة حتى لو كان بالعلم. لقول الإمام مالك: ما للعلم رفع الصوت والمراد: ما يكون فيه تشويش على المتعبدين أو كان للرياء والفخر.
روى أحمد بسند صحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) "خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: إن المصلي ينادي ربه ـ عز وجل ـ فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن".
وجاء في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة): أن الحنفية قالوا:
يكره رفع الصوت بالذكر في المسجد إن ترتب عليه تشويش على المصلين أو إيقاظ للنائمين، وإلا فلا يكره؛ بل قد يكون أفضل إذا ترتب على إيقاظ قلب الذاكر وطرد النوم عنه وتنشيط للطاعة.
أما رفع الصوت بالكلام فإن كان بما لا يحل؛ فإنه يكره تحريما.
وإن كان بما يحل فإن ترتب عليه تشويش على المصلي، أو نحو ذلك كره، وإلا فلا كراهة.
ومحل عدم الكراهة إذا دخل المسجد للعبادة.
أما إذا دخله لخصوص الحديث فيه فإنه يكره مطلقا.
والشافعية قالوا: يكره رفع الصوت بالذكر في المسجد إن هوش على مصل أو قارئ أو مصانع أو نائم لا يسن إيقاظه، وإلا فلا كراهة.
أما رفع الصوت بالكلام فإن كان بما لا يحل كمطالعة الأحاديث الموضوعة ونحوها؛ فإنه يحرم مطلقا، وإن كان لا يحل لم يكره إلا إذا ترتب عليه تهويش ونحوه.
والمالكية قالوا: يكره رفع الصوت في المسجد ولو بالذكر والعلم، واستثنوا من ذلك أمورا أربعة:
الأول:(1/176)
ما إذا احتاج المدرس إليه لإسماع المتعلمين، فلا يكره.
الثاني:
ما إذا أدى الرفع إلى التهويش على مصل فيحرم.
الثالث:
رفع الصوت بالتلبية في مسجد مكة أو منى فلا يكره.
الرابع:
رفع صوت المرابط بالتكبير ونحوه فلا يكره. والمراد بالمرابط: من يكون في الجهاد للحراسة، وغيرها.
والحنابلة قالوا: رفع الصوت بالذكر في المسجد مباح؛ إلا إذا ترتب عليه تهويش على المصلين؛ وإلا كره.
أما رفع الصوت في المسجد بغير الذكر فإن كان بما يباح فلا كراهة؛ إلا إذا ترتب عليه تهويش فيكره، وإن كان بما لا يباح فهو مكروه مطلقا.
هذا ما جاء في كتاب فقه المذاهب الأربعة.
والخلاصة:
أن رفع الصوت في المسجد بالذكر والقراءة والعلم لا مانع منه؛إلا إذا شوش على المتعبدين، أو غيرهم فيكون مكروها.
أما رفعه بغير ذلك كالكلام العادي فهو مكروه.
والله أعلم .(1/177)
س:هل يجوز اجتماع الناس في المسجد لعقد قران، مع العلم أن بعض الناس يفضلون المساجد التي بها أضرحة من باب البركة ؟
روى الترمذي عن عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف".
قال الترمذي حديث حسن وضعفه البيهقي.
عقد النكاح بالمسجد مظهر من مظاهر إعلانه، وكذلك ضرب الدف عليه وذلك أمر مشروع، وأقل درجاته أنه مباح. وقيل: سنة وكل هذا إذا لم يترتب على عقده بالمسجد أمر محظور: كإخلاله بحرمة المسجد، أو التشويش على المصلين، أو حضور إنسان جنب، أو امرأة حائض، أو إخلال بالآداب الاجتماعية: كاختلاط الجنسين، أو كشف ما يجب ستره، أو غناء مثير، أو غير ذلك.
وتسوي كل المساجد في هذا الحكم، لا فضل على أحدها على الآخر ولا شأن لمن دخل فيها أو قريبا منها في مباركة هذا العقد، فالأمر يدور على الإشهار والإعلام في الأماكن التي يكثر فيها اجتماع الناس، وكانت المساجد بالذات هي أحسن فرصة لذلك.
والله أعلم .(1/178)
س:وهذا رجل يقول: أحب التردد على المساجد والمكوث فيها بعض الوقت استشعارا للروحانية المفقودة في هذا العصر، ويتهمني البعض بأن هذا يتنافى مع وجود العمل والسعي لكسب العيش. فماذا أفعل ؟
وردت نصوص في فضل التردد على بيت الله كقوله تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح لها فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } وكقوله (صلى الله عليه وسلم ) في السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل قلبه معلق بحب المساجد". رواه البخاري ومسلم.
وإخباره عن الذين يخرجون من بيوتهم لصلاة الجماعة في المسجد: أن بكل خطوة حسنة وأنهم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسهم في المسجد منتظرين الجماعة. كما رواه البخاري ومسلم.
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ): "فيما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات؟ انتظار الصلاة بعد الصلاة". كما رواه مسلم.
وكما قال أيضا: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح". رواه البخاري ومسلم.
والغرض من هذه النصوص أولا:
المحافظة على الصلوات.
وثانيا:
أداؤها في جماعة؛ لتقوية الرابطة الاجتماعية.
وثالثا:
تعمير المساجد وعدم هجرها.
ورابعا:
البعد عن أماكن اللهو واستغلال وقت الفراغ في الخير.
فإذا ما كان هناك ما يشغل الإنسان من جهاد في سبيل الله، أو كسب عيش، أو عمل خير، فالأفضل له أن يمضي أكثر وقته في بيوت الله؛ لأنها خير البقاع كما جاء في صحيح مسلم وغيره.
ولا يقصد بذلك ترك الواجبات الدينية الأخرى والدنيوية التي تحقق الخير للفرد والمجتمع من أجل دوام الصلاة في المساجد، فهو سبحانه القائل: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله }.
والرسول (علية الصلاة والسلام) لم يعجبه لزوم أبى أمامة للمسجد في غير أوقات الصلاة؛ بسبب همومه وديونه، ولكن علمه ذكرا يقوله وهو يسعى حتى يحقق الله له ما يريد. رواه أبو داود.(1/179)
ولا يعني فضل التردد على المساجد أن كل من يتردد عليها يكون مكرما عند الله، فإن العبرة بالنية كما نص الحديث، وكم من الناس يلازمونها ولهم أغراض غير مشروعة، كما كان المنافقون أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم ) والله قد قال فيمن يعمر مساجد الله قال: { ولم يخش إلا الله }.
وقال في المرائين بها: { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون } أي: لم يستفيدوا منها شيئا من الأخلاق الحسنة؛ لأنهم لم يحسوا معناها الحقيقي وسهوا عن سر تشريعها كما قال رب العزة: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }.
فالخلاصة:
أن التردد على المساجد لا يمنع مزاولة الأعمال الدينية والدنيوية الأخرى.
وإذا تردد على المساجد يكون ذلك إخلاصا لله.
والله أعلم .(1/180)
س:سيدة تقول: أنا امرأة مثقفه وأحب أن أتفقه في ديني وأتابع الدروس العلمية في مسجد قريب لي، وتعقد فيه مرتين في الأسبوع. فماذا أفعل كي أحرص عليها وقت العادة الشهرية التي تستمر معي عشرة أيام ؟
الحائض والنفساء ومن عليه جنابة ولم يغتسل؛ يحرم عليه المكث في المسجد.
أما العبور فلا حرج فيه. بناء على قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}.
ولحديث عائشة (رضي الله عنها) الذي رواه أبو داود قالت: "جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ولم يصنع القوم شيئا؛ رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم، فقال: وجهوا هذه البيوت بعيدا عن المسجد فإني لا أحل السجود لحائض ولا لجنب".
ولحديث أم سلمة (رضي الله عنها) الذي رواه ابن ماجة والطبراني قالت: "دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) طرحة هذا المسجد أي: فناءه فنادي بأعلى صوته: إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب".
وعن جابر (رضي الله عنه) قال: كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا". رواه ابن أبي شيبة.
وجاءت روايات تدل على أن الذين كانت تصيبهم جنابة و لا يجدون طريقا إلى الماء إلا المسجد، فكانوا يمرون منه.
ويؤكد أن المحرم هو المكث فقط، وليس العبور، ما رواه مسلم وغيره عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ناوليني الخمرة من المسجد. فقلت : إني حائض. فقال: إن حيضتك ليست في يدك" يعني: لم تلوث المسجد؛ لأن يدك التي تتناولين بها الخمرة ليس بها دم.(1/181)
وما رواه أحمد والنسائي عن ميمونة (رضي الله عنها) قالت: "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدنا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض".
والخمرة هي: السجادة التي يضعها تحت جبهته عند السجود.
فهذه النصوص تدل على أن حرمة دخول الحائض والنفساء ومن به جنابة المسجد لسماع درس علم وغيره، فالمكث لذلك ممنوع والعبور فقط لحاجة لا مانع منه.
ولم يجوز مكث الحائض في المسجد إلا زيد بن ثابت؛ إذا أمن تلويثها للمسجد.
والخلاصة:
أن دخول الحائض والجنب للمسجد والمكث فيه ممنوع ممنوع مع لم تدع ضرورة إلى ذلك.
والله أعلم .(1/182)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نشاهد بعض السائحين يدخلون المساجد القديمة مثل: الجامع الأزهر والحسين والرفاعي، وغيرها، وبعضهم كتابي والبعض الآخر من الكفار. فهل يسمح لهم بدخول المساجد وهم على نجاسة ؟
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }.
وقال: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }.
تفيد الآية الأولى: أن المشرك لا يدخل المسجد الحرام في مكة؛ لأنه نجس أو نجس.
وهذا رأي إمام أهل المدينة مالك، وغيره، وعليه الإمام الشافعي.
أما الكتابي وهو اليهودي والنصراني، فلا مانع من دخوله.
والمراد بالمسجد الحرام: الحرم كله.
وقال أبو حنيفة: بجواز دخول غير المسلم مطلقا المسجد الحرام والحرم وحمل نجاسته على أنها نجاسة معنوية، وحمل كربان المسجد على المكث فيه، كما حمل دخول الحرم على الاستيطان، حيث لا يجتمع في جزيرة العرب دينان.
كما في الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه أحمد عن عائشة.
أما مساجد الحل أي: غير الحرم، فمنع أهل المدينة دخولها لغير المسلم أيضا؛ لأنه نجس بنص القرآن؛ ولأن الآية الثانية تفيد: أن الجنب لا يمكث في المسجد وإنما يكون له العبور فقط، والكافر جنب، فلا يجوز له المكث في أي مسجد وفي الحديث "لا أحل المسجد لحائض و لا جنب". رواه أبو داود.
ويؤيد هذا ما روي أن أبا موسى الأشعري دخل على عمر (رضي الله عنه) ومعه كتاب كتب فيه حساب عمله فقال له عمر: ادع الذي كتب ليقرأه. فقال: إنه لا يدخل المسجد؛ لأنه نصراني.
فدل هذا على أنه كان حكما معروفا لديهم. وهو رواية عن أحمد.
وفى رواية عنه أيضا: أنه لا يجوز له الدخول إلا بإذن المسلمين، ويؤديها أن عليا (رضي الله عنه) رأى مجوسيا وهو على المنبر وقد دخل المسجد؛ فنزل وضربه، وأخرجه من أبوب كندة.(1/183)
فإن أذن له المسلمون جاز دخوله؛ بدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنزل أهل الطائف في المسجد قبل أن يسلموا.
وقال سعيد بن المسيب: كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه.
واستقبل النبي (صلى الله عليه وسلم ) نصارى نجران في مسجد المدينة، ولما حان وقت صلاتهم صلوا في المسجد إلى المشرق، وقال فيهم (عليه الصلاة والسلام): "دعوهم". أي: اتركوهم".
وقد ترجم البخاري في صحيحه دخول المشرك للمسجد، وأورد حادثة ربط ثمامة بسارية من سواري المسجد النبوي، وكان ثمامة كافرا من بني حنيفة.
وعلى هذا الرأي أكثر الأئمة، وقطره الشافعي على الضرورة، أو الحاجة وليس بصفة مستمرة ولعل هذا هو الرأي المناسب للفتوى.
قال ابن حجر في كتابه (فتح الباري) عن هذه المسألة قال: فيها مذاهب فعن الحنفية: الجواز مطلقا.
وعن المالكية والمزني: المنع مطلقا.
وعن الشافعية: التفصيل بين المسجد الحرام وغيره.
وقيل: يؤذن للكتابي خاصة، لا في الحديث الباب يرد عليه.
وأرى أنه لا مانع من دخول الزوار الأجانب غير المسلمين لمساجد المسلمين إذا كانوا في برنامج سياحي أو لعمل مهم؛ ما دام ذلك بإذن المسلمين؛ وذلك مراعاة للظروف، واختلاف الآراء فيه رحمة، وننبهه إلى وجوب احترامهم للمساجد وعدم التبذل فيها أو عمل شيء لا يوافق عليه الدين.
والله أعلم .(1/184)
س:هل يجوز لأحد من المسئولين أن يمنع أحدا من الخطابة والوعظ في المساجد ؟
تحدث الماوردي المتوفى سنة 450 هـ في كتابه (الأحكام السلطانية) تحدث عن أهمية التدريس والفتوى بالمساجد ذاكرا حديثا مرسلا رواه الدارمي "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار".
وقال: إن المساجد نوعان:
مساجد سلطانية.
ومساجد عامية. أي: أهلية.
فالأولى: رسمية يرعاها السلطان، ولا يجوز أن يؤم الصلاة فيها ولا يعظ إلا من عينه من أهل الخبرة، حتى لو كان غيره أعلم منه، لأن من عينه ولي الأمر نائب عنه فلا <…………….> عنه غيره في ولايته.
أما المساجد الأهلية التي لم يعين فيها السلطان إماما، فلمن هو أهل للإمامة والوعظ أن يؤم ويعظ بدون إذن منه؛ إذا رضي أهل المسجد به ـ اللهم إلا إذا كان المسجد كبيرا و مهما فلابد من الإذن في ذلك.
وذكر الماوردي: أن حلقات الدرس في المساجد إن حصل فيها خلاف فيما يسوغ فيه الاجتهاد فلا يعترض عليها.
أما غير ذلك فللسلطان منع من يريد فرض رأيه بعد بيان الحق فيه له.
من هذا نرى أن:
حرية الرأي مكفولة فيما يسوغ فيه الاجتهاد ممن هم أهل له، وأن لولي الأمر رقابة على المساجد الحكومية والأهلية وله أن يمنع منها ما يثير فتنة محافظة على وحدة الصف، وعدم تفرق الجماعة، وأن إمام المسجد هو المسئول عن ذلك.
والله أعلم .(1/185)
س:ما موقف الدين من نظافة المساجد وعدم تلويثها بما ينفر الناس عن التردد عليها ؟
إن هذه المساجد كما جاء في حديث رواه مسلم "لا تصلح لشيء من البول ولا القذر".
وجاء في حديث رواه البخاري ومسلم "النهي عن البصاق في المسجد؛ لأنه خطيئة وكفارتها إزالة الأثر".
ومن أجل أهمية النظافة للمساجد كان لمن يقوم بذلك أجر كبير عند الله ـ سبحانه.
ففي حديث رواه الطبراني "أن إخراج القمامة من المساجد مهور الحور العين".
وفي الصحيحين أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) "صلى على امرأة بعد دفنها؛ لأنها كانت تقم المسجد". وأخبر كما في رواية الطبراني "أنه رآها في الجنة".
فليحرص المشرفون على المساجد على نظافتها؛ فثوابهم كبير عند الله، وليتعاون المسلمون معهم على بقاء المساجد صورة مشرفة ومكانا طيبا يغري بالتردد عليها والتقرب إلى الله فيها.
والله أعلم .(1/186)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نحن مسلمون على ملة سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة السلام، فما العبادة التي كان يتعبد بها، ولماذا ذكر اسمه في التحيات دون باقي الأنبياء ؟
إن الصلاة كتبت على الأنبياء السابقين كما كتبت على المسلمين وكذلك الصيام والزكاة قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}.
وقال: { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}.
إلى غير ذلك من النصوص التي تبين عبادة الأنبياء السابقين ومنهم إبراهيم عليه السلام الذي قال الله على لسانه: { رب اجعلني مقيما الصلاة ومن ذريتي }.
إلا أن تفاصيل هذه العبادات لم تعرف كلها على وجه التأكيد.
وليست هناك فائدة كبيرة معرفتها، فكل نبي وكل أمة له ولها ما يناسبها كما قال رب العزة:{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.
ومن الصيغ التي وردت في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم ) بعد التشهد في الصلاة: الصلاة الإبراهيمية التي يذكر فيها سيدنا إبراهيم؛ لأن إبراهيم أب لأكثر الأنبياء فدينه أصل لهم، يدعون إليه جميعا، ويسيرون على نهجه.
ولقد قال الله لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم ): { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا}.
وقال تعالى:{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} كما أن الله أنعم على إبراهيم وعلى آل بيته بالرحمة والبركات فقال: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.
فنحن في صلاتنا على النبي (صلى الله عليه وسلم ) ندعو له بالرحمات والبركات كما رحم الله أباه إبراهيم وباركه ولا شيء في ذلك أبدا.
والله أعلم .(1/187)
س:في الإسراء والمعراج صلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) بالأنبياء جماعة قبل المعراج في المسجد الأقصى. فما هذه الصلاة، مع أن الصلاة التي نصليها الآن لم تكن قد فرضت بعد ؟
ثبت في صحيح مسلم من طريق ثابت البناني عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) "صلى ليلة الإسراء ببيت المقدس ركعتين".
كما ثبت أنه صلى بالأنبياء إماما [أي بعد صلاة الركعتين] وأنكر حذيفة بن اليمان صلاته (عليه الصلاة والسلام) ببيت المقدس محتجا بأنه لو صلى فيه؛ لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق، ولكن تعقبه البيهقي وابن كثير بأن المثبت وهم جمهور الصحابة مقدم على النافي.
يقول القسطلاني في كتابه (المواهب اللادينية) وشرحه للزرقاني: اختلف في هذه الصلاة التي صلاها الرسول (عليه الصلاة والسلام) بالأنبياء هل هي فرد أم نفل؟
قال بعض العلماء: إنها فرض بناء على ما قاله النعماني.
وقال البعض: إنها نفل.
وإذا قلنا: إنها فرض. فأي صلاة هي؟
قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح ويتحمل أن تكون العشاء.
وإنما يتأتى على قول من قال: إنه (صلى الله عليه وسلم ) صلى بهم قبل عروجه إلى السماء.
وفي النعماني إنما يتأتى على أن الإسراء من أول الليل.
لكن قال رواة حديث الإسراء أنه بعد صلاة العشاء.
وأما على قول من قال صلى بهم بعد العروج؛ فتكون الصبح.
والاحتمالان كما قال الشامي: ليس بشيء. سواء قلنا: صلى بهم قبل العروج أم بعده؛ لأن أول صلاة صلاها النبي (صلى الله عليه وسلم ) من الخمس مطلقا الظهر بمكة باتفاق.
ومن حمل الأولية على مكة؛ فعليه الدليل. قال: والذي يظهر أنها كانت من النفل المطلق، أو كانت من الصلاة المفروضة عليه قبل ليلة الإسراء.
وفى فتاوى النووي ما يؤيد الثاني.
بعد هذه أقول:
إن الصلاة كانت مفروضة قبل ليلة الإسراء، وكانت ركعتين أول النهار وركعتين آخره.(1/188)
وأما التي فرض ليلة الإسراء فهي كونها خمسة فروض بركعاتها المعروفة.
وعليه فيجوز أن تكون صلاة الرسول ببيت المقدس ركعتين تحية للمسجد صلاهما وحده.
والتي صلاها إماما بالأنبياء يجوز أن تكون نافلة من صلاة الليل، وقد كانت مشروعة له (صلى الله عليه وسلم ).
وجاء في بعض الروايات أنه (عليه الصلاة والسلام) وجد الأنبياء يصلون عند دخوله المسجد، ولما حان وقت الصلاة أذن مؤذن، ثم أقيمت وقدمه جبريل عليهم بعد أن تبين فضله من واقع ما أثنى به كل على نفسه.
ولكن مثل هذه الروايات لا ينبغي التعويل عليها في صورتها الجزئية بعد أن كرم الله رسوله، وأخذ على الأنبياء الميثاق إن أدركوه أن يؤمنوا به وينصروه.
ومهما يكن من شيء فالخلاف في هذا الموضوع ليست له نتيجة عملية.
والله أعلم .(1/189)
س:ما حكم تارك الصلاة. هل يعد كافرا أم مسلما عاصيا ؟
الصلاة ركن من أركان الإسلام ومنزلتها من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد والنصوص كثيرة في وجوب المحافظة عليها، وفى التحذير من تركها أو التهاون فيها.
ومن أخطر ما ورد في تركها حديث رواه مسلم "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة"
وهذا الحديث يدل بظاهره على ما ذهب إليه من قال: إن الإيمان عقيدة وعمل.
يقول النووي في شرح هذا الحديث ما ملخصه:
تارك الصلاة إن كان منكرا لوجوبها؛ فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه، وإن كان تركه تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه.
فذهب مالك والشافعي وجماهير السلف والخلف: إلى أنه لا يكفر بل يفسق، ويستتاب فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن، ولكنه يقتل بالسيف.
وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر. وهو مروي عن علي وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، وهو وجه ببعض أصحاب الشافعي.
وذهب أبو حنيفة وجماعة من الكوفة والمزني صاحب الشافعي:
إلى أنه لا يكفر ولا يقتل، بل يعذر ويحبس حتى يصلي.
ثم ذكر النووي حجة القائلين بكفره وهي ظاهر الحديث والقياس على كلمة التوحيد، وذكر حجة القائلين بعدم قتله، وهي حديث "لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث". وليس فيه ترك الصلاة.
ومن قال: لا يكفر احتج بقوله تعالى:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }.
وبحديث "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة".
وحديث "حرم على النار من قال لا إله إلا الله".
وهناك أحاديث أخرى تدل على أن من ترك شيئا من الواجبات كسلا لم يكن كافرا ولم يخلد في النار.
والله أعلم .(1/190)
س:وهذا سائل يقول: صليت ركعتي الفجر، وقبل الإقامة لصلاة الصبح قمت لأصلي ركعتين أشغل بهما الوقت، فقال لي أحد الجالسين: إن الصلاة قبل الصبح ممنوعة. فما رأى الدين في هذا ؟
معلوم أنه إذا دخل وقت الصبح بطلوع الفجر كان المطلوب صلاتين: صلاة الفريضة وهي: الصبح، وصلاة السنة وهي: الفجر، التي قال بعض الأئمة بوجوبها.
وأي صلاة أخرى غير هاتين الصلاتين كالتنفل، والقضاء اختلف في جوازها، فكره جماعة التطوع بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر.
بناء على حديث رواه أحمد وأبو داود وهو ضعيف، لكنهم أخذوا به؛ لتعدد طرقه فيقوى بها.
وذهب الشافعي إلى جواز التنفل مطلقا بلا كراهة، وقصر مالك الجواز لمن فاتته صلاة الليل لعذر؛ لأنه بلغه أن عبد الله بن عباس وغيره أوتروا بعد الفجر.
وكما قلنا كثيرا:
ما دام خلاف في الرأي يج وز الأخذ بأحد الآراء دون تعصب له أو ضده.
والله أعلم .(1/191)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، هذا سائل يسأل ويقول: أعمل في القطاع الخاص وينتهي عملي بعد صلاة العصر، ويمنعنا صاحب العمل من أداء صلاة الظهر ويهددنا إذا صلينا بخصم جزء من راتبنا فماذا نفعل ؟
لا يجوز لصاحب العمل منع أحد من العمال من أداء فرض الله ـ تعالى ـ سواء أكان صلاة أم غيرها ما دام أداء الفريضة ممكنا في وقت العمل، وغير ضار به، فإذا جاء وقت الظهر ـ مثلا ـ ووقته معروف يمتد حوالي ثلاث ساعات إلى العصر في فصل الصيف، وصلاة الظهر تقع أداء في أي وقت من هذه الساعات كما بينه النبي (صلى الله عليه وسلم ) للأمة من واقع بيان جبريل له.
وإن كانت المبادرة بأدائها في أول الوقت أفضل للحديث الوارد في ذلك.
فإذا أمكن للعامل أن يصلي الظهر في وقتها حاضرا قبل العصر سواء أكان في أثناء العمل، أو بعد الانصراف منه؛ وليس في ذلك ضرر للعمل؛ لم يجز لصاحب العمل أن يمنعه من الصلاة.
أما إذا كان أداء العامل للصلاة يضر بالعمل، فلابد من إذن صاحب العمل فإن أذن، فبها ونعمت، وإن لم يأذن؛ جاز للعامل تأخير صلاة الظهر حتى يصليها مع العصر عند الانصراف من العمل.
وذلك على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومثل ذلك إذا كان صاحب العمل متشددا وهدد العامل بالفصل أو بخصم جزء من أجره يتضرر منه إذا ذهب إلى الصلاة، جاز جمع الصلاتين جمع تأخير.
ولي رجاء حتى تكون العلاقة طيبة بين صاحب العمل والعاملين أن يقتصر العاملون على أداء الصلاة في أقل وقت، وألا ينتهزوا فرصة ترك العمل للصلاة بقضاء بعض مصالحهم، أو تضييع بعض الوقت في راحة أو تناول طعام أو شراب ـ مثلا ـ فإن الوقت ثمين وصاحب العمل يعطيهم الأجر على كل الوقت المخصص للعمل، ومن حقه أن يستوفي منهم العمل كاملا في كل الوقت.(1/192)
لكنه إن كان طيبا يسمح ببعض الوقت للصلاة، فلا يجوز أن يكون هناك ضرر لأحد الطرفين، والتفاهم ورقابة الضمير والإحساس بحاجة الوطن والأمة للعمل وزيادة الإنتاج، كل ذلك يساعد على تعاون الطرفين على الخير المشترك.
وصاحب العمل إذا علم أن أداء الصلاة ومثلها طاعة الله تساعد على إخلاص العامل في عمله وعلى إتقانه وإجادته؛ سيسمح بسخاء نفس ببعض الوقت لأداء الصلاة.
وبالتالي ينبغي أن يشكر العامل صاحب العمل على ذلك، وأن يرد الله المعروف زيادة في الإخلاص في العمل واستغلال كل الوقت للإنتاج المثمر الذي ينتفع به الجميع.
والله أعلم .(1/193)
س:فضيلة الشيخ عطية، يقول الله سبحانه وتعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين }. فما الصلاة الوسطى، ولماذا المحافظة عليها بوجه خاص ؟
اختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى على عشرة أقوال وهي موجودة في التفسير.
ومن أصح الأقوال: أنها صلاة العصر، وعليه جمهور الفقهاء محتجين بأحاديث رواها مسلم وغيره، ومنها حديث الترمذي الذي قال: إنه حديث حسن صحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) "الصلاة الوسطى صلاة العصر".
وسائر الأقوال أدلتها استنباطية وليست منصوصة؛ ولهذا قال ابن عمر والربيع بن هيثم: إنها غير معينة خبأها الله في الصلوات كما خبأ ليلة القدرفي رمضان، وساعة يوم الجمعة، وساعات الليل التي يستجاب فيها الدعاء.
روى مسلم في صحيحة عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية وهي: {حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى } نزلت { حافظوا على الصلوات وصلاة العصر } فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله فنزلت: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى }. فقال رجل: هي إذن صلاة العصر.
قال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله تعالى.
وقد ارتضى القرطبي في تفسيره: أنها مبهمة؛ لتعارض الأدلة، ولعدم الترجيح فلم يبق إلا المحافظة على جميع الصلوات، وأدائها في أوقاتها.
والله أعلم .(1/194)
س:فضيلة الشيخ عطية، نرى بعض السيدات يصلين بملابس تكشف عن القدم، وعن بعض الذراع ويدعين أن صلاتهن صحيحة على بعض المذاهب. فنرجو بيان حقيقة هذا الأمر ؟
ستر العورة مطلوب لصحة الصلاة باتفاق العلماء، حتى لو كان الإنسان يصلي وحده لا يراه أحد فهو حق لله سبحانه.
وعورة الرجل هي ما بين السرة والركبة تبطل الصلاة بانكشاف أي جزء منها عند الأئمة الثلاثة.
أما عند مالك فتبطل الصلاة إذا انكشفت السوءتان وهما: القبل والخصيتان وحلقة الدبر، ولا تبطل إذا انكشف سواهما مما هو بين السرة والركبة، ولا تسن إعادة الصلاة إلا إذا انكشفت العانة أو الإليتان، أو ما بينهما حول حلقة الدبر، فيعيد في الوقت. وان كان كشف العورة حراما أو مكروها.
وقد جاء في عورة المرأة قوله (صلى الله عليه وسلم ): "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". رواه أحمد وأصحاب السنن. والمراد بالحائض: المرأة البالغة حد التكليف.
وروى أبو داود عن أم سلمة (رضي الله عنها) أنها سألت النبي (صلى الله عليه وسلم ) "أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها". والخمار هو: غطاء الرأس. والإزار: ما يستر الجزء الأسفل من الجسم. والدرع: ما يستر أعلاه، وهو للمرأة ما يغطي بدنها ورجليها.
وهذه هي آراء الفقهاء في تحديد عورتها.
مع العلم بأنه لا مانع من الأخذ بأحد هذه الآراء:
فعورة المرأة الحرة في الصلاة عند الحنفية جميع بدنها، ويستثني من ذلك باطن الكفين فإنه ليس بعورة، بخلاف ظاهرهما، كما يستثنى ظاهر القدمين، فإنه ليس بعورة، بخلاف باطنهما فإنه عورة وذلك عكس الكفين وعورتها عند الشافعية: جميع بدنها، ويستثنى من ذلك الوجه والكفان فقط، ظاهرهما وباطنهما، وعورتها عند الحنابلة: جميع بدنها ويستثنى فقط الوجه وما عداه منها فهو عورة.(1/195)
وعورتها عند المالكية قسمان: مغلظة ومخففة ولكل منها حكمة؛ فالمغلظة جميع بدنها ما عدا الأطراف والصدر وما حازاه من الظهر.
والمخففة لها هي: الصدر وما حازاه من الظهر والذراعين والعنق والصدر ومن الركبة آخر القدم.
أما الوجه والكفان ظهرا وبطنا فهما ليس من العورة مطلقا، فإن انكشف شيء من العورة المغلظة عند مالك؛ بطلت الصلاة إن كانت قادرة وذاكرة، وأعادتها وجوبا.
أما إن انكشف شيء من العورة المخففة؛ فلا تبطل الصلاة وإن كان كشفها حراما أو مكروها،ويحرم النظر إليها.
ولكن يستحب لها أن تعيد الصلاة بعد ستر العورة إذا كان الوقت باقيا.
والساتر للعورة لابد أن يكون كثيفا لا يصف لون البشرة التي تحته ولا يضر إن كان محددا لها لاصقا بها عند الجمهور.
وتبطل باللاصق عند المالكية، وتعاد الصلاة في الوقت هذا.
وستر العورة من دوامه إلى آخر الصلاة، فلو انكشف شيء منها قبل إتمام الصلاة وكان بقصد؛ بطلت الصلاة.
أما إن كان بغير قصد؛ فلا تبطل إن كان يسيرا وسترها في الحال بدون عمل كثير وذلك عند بعض الأئمة، ودين الله يسر.
والله أعلم .(1/196)
س:سيدة تقول: أن غير محجبة ولكن أصلي وأصوم وحججت بيت الله الحرام. فهل يقبل الله صلاتي ؟
العبادة إذا صحت يرجى أن يقبلها الله إذا كانت خالصة لوجه، ولا ينبغي أن نجزم بالقبول، فالأمر مفوض إلى الله ـ تعالى ـ وهو القائل: { إنما يتقبل الله من المتقين }.
والراجح أن المراد بالمتقين هنا: المؤمنون لا المشركون؛ لأنها وردت في قصة هابيل وقابيل.
أما المتقون من المؤمنين فهم الذين لا يعصون الله، وإن عصوه بادروا بالتوبة وهؤلاء أعمالهم الصالحة مقبولة، كما أخبر الله وذلك من باب التفضل منه وليس من باب الوجوب عليه،وهم بالدرجة العليا من القبول.
أما المؤمنون الذين يعصون الله فإن أعمالهم الصالحة لا يحرمهم الله من قبولها كما قال سبحانه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا }.
إلى جانب أن يعاقبهم الله على سيئاتهم كما قال سبحانه: { ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }.
فالتي تصلي وتصوم صوما صحيحا خالصا لوجه الله يرجى قبول عملها، ومع ذلك تعاقب على خلع الحجاب؛ لأنه معصية، وإذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: { إن الحسنات يذهب السيئات }. هو أعلم بحجم المعصية، وهل يمكن لثواب الطاعة أن يذهب عقابها؟ ذلك أمر موكول له ـ سبحانه.
والمؤمن لا ينبغي أن يركن إلى العفو ويأمن المغفرة وينزع من قلبه الخشية والخوف من الله؛ حتى لا يتمادى في العصيان، بل الواجب عليه إذا فعل معصية أن يبادر بالاستغفار والتوبة؛ حتى يغفر الله له.
قال تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى }.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن".
وأنبه إلى أن المتمردة على الحجاب غير خائفة من الله، لا تبالي بأمره ولا تخشى عقابه. فهل إذا صلت أو صامت تكون خائفة من عقاب الله؟(1/197)
إذا لم تصلي ولم تصم لو كانت صلاتها وصيامها مع هذا الخوف اللازم للقبول؛ لكان لهذا الخوف أثره على سلوكها؛ فالتزمت الحجاب.
فتمردها على الحجاب أمارة على أنها كانت تصلي وتصوم بدون خوف من الله؛ وبالتالي لا يقبل الله منها صلاتها ولا صيامها.
قال ـ تعالى: { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }.
وفى المأثور: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا.
روي من حديث الحسن مرسلا بإسناد صحيح ورواه الطبراني وأسنده [ابن مردوية] في تفسيره بإسناد لين والطبراني من قول ابن مسعود "من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد من الله إلا بعدا". وإسناده صحيح.
وفى الحديث الصحيح "أن امرأة ذكرت عند الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بكثرت صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فأخبر أنها لا خير فيها وأنها في النار".
فالخلاصة:
أن علامة قبول الطاعة: استقامة السلوك مع العلم بأن قبول العبادة شيء، وصحتها شيء آخر.
فقد تكون الصلاة صحيحة بأركانها وشروطها ولكنها غير مقبولة من عند الله، ولا يحكم عليها أنها باطلة، فليس هناك ربط بين الصحة والقبول.
وقد جاء في الحديث "إن الرجل لينصرف فما كتب له إلا عشر صلاته أو تسعها أو ثمنها أو سبعها أو سدسها أو خمسها أو ربعها أو ثلثها أو نصفها". رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه.
ومع كل ما تقدم، لا ننسى قول الله ـ تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }.
لكن لا ينبغي أن نرتكن على المشيئة، فربما لا يشاء الله المغفرة للإنسان كما لا ينبغي للارتكان على قوله ـ تعالى: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم }.
بل ينبغي أن نبادر بالتوبة من المعصية رجاء أن يختم الله لنا بالخير.
والله أعلم ؟(1/198)
س:فضيلة الشيخ عطية، هل من الحديث الصحيح ما يقال: "من صلى العشاء في جماعة كأنه قام نصف الليل". وهل منه أيضا "لم أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء". وهل هناك تعارض بينهما ؟
الحديث الأول رواه مسلم، وغيره وهو يدل على فضل صلاة العشاء في جماعة وأنه يعدل في الثواب قيام نصف الليل، حتى لو كانت صلاتها في أول وقتها أو في آخر وقتها قرب طلوع الفجر.
أما الحديث الثاني فيدل على فضل التأخير لصلاة العشاء عن أول وقتها؛ وذلك ليتثنى للناس بعد الانتهاء من أعمالهم بعد غروب الشمس أن يجتمعوا ليصلوها في جماعة مع النبي (صلى الله عليه وسلم ). والحديث رواه أحمد وابن ماجة والترمذي "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو إلى نصفه".
والنبي (صلى الله عليه وسلم ) لم يواظب على التأخير؛ لما فيه من المشقة على المصلين.
فأحيانا كان يعجل وأحيانا كان يؤجل، فقد روى البخاري ومسلم عن جابر (رضي الله عنه) "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يصلي أحيانا ويؤخرها وأحيانا يعجل وإذا رآهم أي: الصحابة اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطئوا أخر ".
فالأمر متروك للظروف ووقت العشاء يدخل بمغيب الشفق الأحمر، وينتهي بطلوع الفجر، ووقت الاختيار هو ثلث الليل أو نصفه، ووقت الجواز ممتد حتى طلوع الفجر.
فقد روى مسلم أنه (صلى الله عليه وسلم ) قال: "أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".
وهذا الحديث يدل على كل أوقات الصلاة المفروضة ما عدا صلاة الصبح فإن وقتها ينتهي بطلوع الشمس لا بوقت الظهر وذلك بالإجماع.
والله أعلم .(1/199)
س:هل صحيح أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا حضر العشاء فقدموه على العشاء ؟
روى مسلم وغيره أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء".
وروى البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) كانا يوضع الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه يسمع قراءة الإمام.
يقول الخطابي: إنما أمر النبي (صلى الله عليه وسلم ) أن يبدأ بالطعام؛ لتأخذ النفس حاجتها منه، فيدخل المصلي في صلاته، وهو ساكن الجأش أي: القلب، لا تنازعه نفسه شهوة الطعام؛ فيعجزه ذلك عن إتمام ركوعها وسجودها وإيفاء حقوقها.
فالحديث ليس خاصا بصلاة العشاء، وإنما هو عام في كل صلاة ينبغي أن يدخلها الإنسان خاليا من المؤثرات التي تشده عن الخشوع فيها.
والله أعلم .(1/200)
س:هل يجوز الإنسان أن يقطع صلاته إذا ناداه أبوه أو أمه لأمر مهم. أو هل يرد عليهما أثناء الصلاة: بأنه يصلي أو يخبرهما بشكل أو بآخر أنه يصلي ؟
لا يجوز عند جمهور الفقهاء قطع الصلاة المفروضة لإجابة أحد والدي المصلي.
أما صلاة النافلة فيجوز قطعها لإجابة الأم اعتمادا على حديث جريج العابد الذي نادته أمه في الصلاة فلم يجبها؛ فدعت عليه.
والأب كذلك إذا نادى ولده وهو في الصلاة، بل قال إمام الحرمين:
يجيبهما حتى ولو كان في الفريضة ما دام في الوقت متسع لها، ولا يجوز الرد عليه أثناء الصلاة بقوله: أنا أصلي؛ وإلا بطلت صلاته.
والدليل عليه حديث مسلم "إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس وإنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
والله أعلم .(1/201)
س:وما الأوقات التي تحرم فيها الصلاة أو تكره الصلاة فيها ؟
روى البخاري ومسلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس".
وروى مسلم أن عمرو بن عبسة "سأل النبي (صلى الله عليه وسلم ) عن الصلاة؟ فقال له: صل صلاة الصبح ثم اقعد عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محظورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقعد عن الصلاة فإنه حينئذ تزجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محظورة حتى تصلي العصر ثم اقعد عن الصلاة حتى تغرب فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار".
وروى الجماعة إلا البخاري عن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أن نصلي فيهن وأن نقبر فيها موتانا:
حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة وحين تضيفوا أي: تميل للغروب حتى تغرب.
فالأوقات المذكورة في الأحاديث خمسة:
بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعند طلوعها حتى ترتفع قدر رمح، وعند استواء الشمس في وسط السماء، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، وعند غروبها.
وهناك وقت آخر جاء في صحيح مسلم وهو عند إقامة الصلاة؛ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.
والصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات هي: النافلة عند الجمهور وقصرها الشافعي على النافلة التي لا سبب لها، أو التي لها سبب متأخر كالاستخارة.
أما أبو حنيفة فمنع كل أنواع الصلاة حتى المفروضة ما عدا عصر اليوم، وماعدا صلاة الجنازة.
هذا هو الحكم إجمالا وهناك تفصيلات في المذاهب.
والله أعلم .(1/202)
س: وهذا سؤال يقول صاحبه: أنا طالب في الجامعة وعندي محاضرة لمدة ساعتين، تبدأ قبل صلاة المغرب وتنتهي بعد صلاة العشاء. فهل أترك المحاضرة لأصلي، أم أحرص على المحاضرة، وهي من العلم الذي دعا إليه الإسلام ؟
وقت الصلاة موسع بين أوله وآخره وإن كان التعجيل في أول وقتها أفضل.
لكن محل ذلك إذا لم يكن الإنسان مشغولا بشيء مهم يفوت منه لو تركه وذهب إلى الصلاة في أول الوقت، وهنا يمكن أن يؤخر الصلاة إلى قبيل دخول وقت الصلاة الثانية.
أما إذا كان زمن المحاضرة يشغل الوقت كله بحيث لو استوعبها الطالب فاتت منه الصلاة، فيجب عليه أن يتركها ويؤدي الصلاة.
ويمكن تدارك ما فات منه بوسيلة أو بأخرى، وبخاصة إذا كانت المحاضرة في موضوع ليس واجبا حتما تعرف به الواجبات الأساسية على الإنسان نحو ربه ونحو مجتمعه، بل هو موضوع من الدرجة الثانية التي يكون تعلمها نافلة، وليس فرضا.
ثم أقول لصاحب السؤال الذي يجب عليه أن يترك المحاضرة ليؤدي الصلاة حتى لا تفوت منه: يجب عليه أيضا أن ينبه الأستاذ إن كان مسلما، كما ينبه الطلاب إلى حرمة تضييع الصلاة وإلى وجوب ترك المحاضرة؛ حتى يؤدوا الصلاة، لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن يجب أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
وأرجو أن يمكن الأساتذة الطلاب من أداء الصلاة في وقتها، كما يجب عليهم هم أن يصلوا وأن يؤجلوا ما بقى من المحاضرات إلى وقت آخر؛حتى يبارك الله لهم جميعا فيما يتعلمون فتقوى الله أكبر عامل على السعادة في الدنيا والآخرة.
وأؤكد أن وقت الصلاة متسع ولا يتحتم على الطالب أن يترك المحاضرة ليؤدي الصلاة في أول وقتها، فأداؤها في أول وقتها سنة وطلب العلم سنة.
وبهذه المناسبة ذكر ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة ): أن كثيرا من الأئمة صرحوا بأن أفضل الأعمال بعد الفرائض: طلب العلم.
فقال الشافعي: ليس شيئ بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.(1/203)
وهذا الذي ذكر أصحابه عنه أنه مذهبه، وكذلك قال سفيان الثوري، وحكاه الحنفية عن أبي حنيفة.
وأما أحمد فحكيت عنه ثلاث روايات:
إحداهن أنه: العلم، فأنه قيل له: أي شيء أحب إليك؟
أجلس بالليل أنسخ، أو أصلي تطوعا قال: تعلم به أمور دينك فهو أحب إلي.
وذكر الخلال عنه في كتاب (العلم) نصوصا كثيرة في تفضيل العلم.
وأما مالك فقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: إن أقواما ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم فخرجوا على أمة محمد (صلى الله عليه وسلم ) بأسيافهم ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك.
وذكر ابن القيم أيضا: أن أبا نعيم وغيره نقلوا عن بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال: "فضل العلم خير من نفل العمل وخير لدينكم الورع".
وقد روي هذا مرفوعا من حديث عائشة (رضي الله عنها) وفى رفعه نظر.
هذا الكلام هو فصل الخطاب في هذه المسألة، فالعلم يعم نفعه صاحبه والناس معه، والعبادة يختص نفعها بصاحبها، ولأن العلم تبقى فائدة بعد موته والعبادة تقطع.
والحديث في ذلك معروف " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ".
والله أعلم .(1/204)
س:يتعمد بعض الشباب دخول المساجد بالأحذية والصلاة بالنعال ويقولون: إن ذلك سنة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ). فما مدى صحة هذا القول ؟
سئل أنس (رضي الله عنه) هل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي في نعليه؟ قال: نعم. رواه البخاري.
قال ابن حجر في (فتح الباري): قال ابن بطال: إنه محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، وهي من الرخص لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة ـ يقصد ما جاء في قوله ـ تعالى: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد }.
إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تكثر عن هذه الرتبة، وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين، ومراعاة إزالة النجاسة قدمت الثانية؛ لأنها من باب دفع المفاسد، والأخرى من باب جلب المصالح.
وقال: إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل به، فيرجع إليه ويترك هذا النظر.
قال ابن حجر بعد إيراده كلام ابن بطال: قد روى أبو داود والحاكم من حديث شداد بن أوس "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم". فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة.
وورد في قول الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف جدا نرى من هذا:
أن الصلاة في النعال لا تجوز إذا كانت متنجسة، أما إذا كانت طاهرة، فلا مانع من الصلاة فيها.
وأرجح جانب الرخصة، وليس الاستحباب من جهة التقرب بالعبادة فلم يصح في ذلك دليل.
وأنصح إذا كان المسجد مفروشا بفراش نظيف أن نصونه عن التلوث حتى لو كان بالشيء الطاهر.
ومراعاة الذوق والعرف الذي فيه خير مما يؤيده الدين هذا.
والصلاة في النعال غير في الصلاة في الخف الممسوح عليه، فذلك مشروع بشروطه ومنها الطهارة.
والله أعلم .(1/205)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، يختلف البعض في تغطية رأس المصلي. فهل يجوز الصلاة والرأس عارية، وما الحكم إذا كان المصلي إماما ؟
تغطية الرأس في الصلاة لم يرد فيها حديث صحيح يدعو إليها؛ ولذلك ترك للعرف تقديرها، فإن كان من المتعارف عليه أن تكون تغطية الرأس من الآداب العامة، كانت مندوبة في الصلاة؛ نزولا على حكم العرف فيما لم يرد فيه نص.
وإن كان العرف غير ذلك فلا حرج في كشف الرأس، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ربما نزع قلنصوته فجعلها سترة بين يديه وهو يصلي؛ حتى لا يمر أحد أمامه والقلنصوة هي: غطاء الرأس.
وعند الأحناف:
لا بأس بصلاة الرجل حافر الرأس أي: مكشوفا، واستحبوا ذلك إذا كان الكشف من أجل الخشوع.
والله أعلم .(1/206)
س:يصلى بعض الناس بملابس لاصقة جدا بالجسد. هل تصح الصلاة بها إذا كان المصلي رجلا أو امرأة ؟
ستر العورة في الصلاة لا يقصد منه بالذات منع الفتنة، فقد يصلي الإنسان وحده دون رؤية أحد له، بل القصد من ستر العورة هو: الأدب مع الله ـ سبحانه ـ وتنفيذ لقوله تعالى: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد }.
وبالمأثور عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك.
ومن هنا قال جمهور العلماء: لا مانع من ستر العورة في الصلاة بما يحدد شكلها بالملابس اللاصقة ما دامت العورة لا تراها العين.
وقال مالك: تعاد الصلاة في الوقت بثوب غير محدد.
والله أعلم .(1/207)
س:المعروف أن الجبهة يجب أن تكون مكشوفة عند السجود. فما الحكم إذا جاء طرف قم الجلباب في موضع السجود، وسجد عليه الرجل، أو جزء من الخمار فسجدت عليه المرأة ؟
الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان سبعة:
اليدان والركبتان والقدمان والجبهة وهي كلها من العورة في الصلاة بالنسبة إلى المرأة يجب سترها على خلاف في القدمين عند بعض الفقهاء، وذلك فيما عدا الجبهة فلا يجب سترها؛ لأن الوجه ليس بعورة في الصلاة.
لكن هل يجوز سترها أو لا يجوز؟
الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل قالوا:
يجوز سترها بحيث لا تلمس موضع السجود وهي مكشوفة.
والإمام الشافعي قال:
يجب كشفها ولا يجوز أن يحول بينها وبين موضع السجود حائل.
وعلى رأي الجمهور:
يجوز السجود على جزء من الملبوس الذي يتحرك بحركة المصلي كالكم وطرف الخمار وكور العمامة التي يلبسها الرجال، ودليلهم على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أنس قال: كنا نصلي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم) فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود.
كما قاسوا الجبهة على بقية أعضاء السجود حيث يصح السجود وهي مستورة.
ودليل الشافعي على وجوب كشف الجبهة:
حديث رواه مسلم عن خباب قال: "شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يسكنا يعني: لم يزل شكونا بالترخيص بالسجود على حائل يقينا حرارة الأرض".
كما قال في الاستدلال على ذلك: لو سجد على ما هو حامل له لأشبه ما إذا سجد على يديه أي وضع جبهته على يديه، وهو ممنوع.
فالخلاصة:
أن الجمهور على جواز السجود على طرف الثوب والكم والخمار وكور العمامة، ولكن يكره إلا عند الحاجة: كشدة الحر وشدة البرد في موضع السجود.
أما الشافعي فلا يرى جواز ذلك أبدا، ورخص في المنديل الذي يحمله في يده أن يضعه ليسجد عليه، كما رخص في ستر الجبهة لعذر كجراحة يخاف من نزع العصابة أو الساتر أصول مشقة.(1/208)
أما السجود على اليد أو اليدين فلا يجوز وتبطل الصلاة به عند الجمهور.
وأبو حنيفة رخص فيه مع الكراهة.
وكما قلت: إن الأحكام إذا كان فيها خلاف لا يجوز التعصب لأي رأي من الآراء.
والله أعلم .(1/209)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، يقول البعض: إن التلفظ بالنية في الصلاة بدعة، فالنية محلها القلب. فهل لو تلفظ المصلي بها تبطل صلاته، أو يضيع جزء من ثوابها ؟
النية معناها: القصد والقصد عمل قلبي، فلا يجب التلفظ بالنية في الصلاة وغيرها ولا يتوقف قبول الصلاة على التلفظ بها سرا أو جهرا.
وقد قال الشافعية: لا بأس بالتلفظ بها بل يسن؛ وذلك ليساعد اللسان القلب فلو ترك التلفظ بها؛ فالصلاة صحيحة ومقبولة ـ إن شاء الله ـ إذا توافرت فيها عوامل القبول بعد الأداء الشكل، ومنها الخشوع والإخلاص.
جاء في فقه المذاهب الأربعة: أن المالكية قالوا: التلفظ بالنية خلاف الأولى إلا للموسوس فإنه مندوب دفعا للوسوسة.
وقال الأحناف: إن التلفظ بدعة إذ لم يثبت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عن أصحابه، ولكن يستحسن دفعا للوسوسة.
فالخلاصة:
أن النية في الصلاة محلها القلب، ولا يشترط التلفظ بها، بل قال الأحناف:
إنها بدعة.
وقال المالكية:
إنها خلاف الأولى وذلك لغير الموسوس، فيكون التلفظ مندوبا أو مستحسنا.
وقال الشافعية:
إنه سنة، هذا.
وابن القيم في كتابه (زاد المعاد) نعى بشدة على من يقول بجواز النطق بالنية، وصحح رأي الشافعية في ذلك لعمل من الإعمال التي رآها.هذا هو رأي ابن القيم.
وللائمة آراؤهم، والحكم على ما ذكر بأنه بدعة ليس مسلما على طول الخط أنه ضلالة، فقد قال به علماء أفاضل، وجعلوه سنة أو مستحبا و مندوبا في بعض الحالات كالوسوسة، مع العلم بأن التلفظ بها لا يضر وقد ينفع.
والله أعلم .(1/210)
س:في معنى الحديث الصحيح "لا صلاة لمن لم يقرأ الفاتحة". فما حكم من نسي الفاتحة في ركعة من الركعات، وما نص الحديث الصحيح ؟
قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء للحديث الصحيح "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، ومن تركها عمدا؛ بطلت صلاته".
فإن تركها ناسيا وتذكر قبل أن يصل إلى مثلها من الركعة الثانية؛ وجب عليه أن يعود إلى القيام ويقرأها، فإن تذكر وهو يقرأها في الركعة الثانية؛ ضاعت عليه الركعة السابقة، وعليه أن يأتي ببدلها.
وعند أبي حنيفة لو تركها سهوا؛ يجب عليه أن يسجد للسهو فإن لم يسجد؛ وجبت عليه إعادة الصلاة، فان لم يعدها؛ كانت صحيحة، وعليه بالإثم. هذا.
وإذا كانت الصلاة باطلة فهي غير مقبولة، ولو صحت عند أبي حنيفة، عند عدم إعادتها أو عدم سجود السهو، كان عليه ذنب يذهب ثواب الصلاة أو يقلله، كل هذا في الإمام والمنفرد.
أما المأموم فإن نسيان الفاتحة، أو تركها عمدا لا يبطل الصلاة عند أبي حنيفة؛ لتحريمه قراءتها خلف الإمام، وكذا عند بعض الأئمة.
والله أعلم .(1/211)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، وإذا أردنا أن نتحدث عن الصلاة، فلنعرف أولا حكمة فرض الله ـ تعالى ـ الصلاة على عباده المسلمين ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إن التكاليف الشرعية كلها وضعها رب العزة بحكمته وبرحمته؛ ليستطيع آدم أن يحقق خلافته في الأرض، ويدل على ذلك قوله ـ سبحانه ـ عندما أهبطه من الجنة: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى }.
وإذا كان في بعض التكاليف مشقة بدنية أو مالية أو غير ذلك، فهي لمصلحة العبد حتى لو لم يعرف حكمتها قال ـ تعالى: { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }.
والأوامر والنواهي التي تقوم عليها التكاليف تأكيد لمبدأ أن حرية الإنسان ليست مطلقة، بل هي مقيدة ولو إلى حد ما، ولذلك لما أدخل الله آدم وحواء الجنة أباح لهما أن يتمتعا بكل خيراتها ما عدا شجرة واحدة، ولعلم الله ـ سبحانه ـ أن العبد إذا كلف بشيء يحد من حريته لا ينشط للامتثال إلا إذا عرف الفائدة منه؛ بين في كثير من التكاليف فوائدها كما في الصلاة والصيام والزكاة والحج، والنصوص في ذلك معروفة، وإن كان قد أخفى بيان الحكمة في بعض التكاليف فذلك امتحان يعرف به مدى إيمان المؤمن بربه، والثقة بكل ما يصدره من أوامر ونواه كما في الأمور التعبدية.
والله أعلم .(1/212)
س:فضيلة الشيخ عطية، ما السر وراء تكليف الله لنا بالصلاة أكثر من مرة في اليوم والليلة الأمر الذي قد يشغلنا عن الكفاح لطلب الرزق، أو الاستمتاع الكامل بالحياة. وهل يمكن لنا توضيح ذلك ؟
لا يوجد تعارض أبدا بين تكليف الإنسان بالصلاة أكثر من مرة في اليوم والليلة وبين سعيه وكفاحه لطلب رزقه والانطلاق في التمتع بحياته، ذلك أن الصلوات الخمس من مميزاتها:
أولا: أنها موزعة على اليوم كله، وليست مجموعة في وقت واحد وأي أمر فيه بعض الثقل والكلفة يخف إذا كان على فترات.
وثانيا: أنها إذا أديت أداء متوسطا لا يستغرق من وقت اليوم كله إلا جزاء بسيطا جدا لا تتعدى فيها الركعات السبعة عشر أكثر من ساعة بواقع ثلاث دقائق أو أكثر أو قليلا لكل ركعة، والباقي من اليوم ليله ونهاره ثلاث وعشرون ساعة ينعم الإنسان بما ينعم ويعمل ما يعمل كما يشاء في الحدود الشرعية.
فلماذا يعترض على هذه النسبة البسيطة التي خصصت؛ لتقوية علاقة الإنسان بربه بالصلاة؟
وثالثا: لابد أن ننظر إلى الدقة في التنسيق والتوزيع التي جعل الله به لكل صلاة في موعدا محددا من الوقت، فالصبح: ركعتان فقط، ينبهك الله بهما للقيام من نومك مبكرا؛ حتى تزاول نشاطك الدنيوي قبل أن تشرق الشمس، وقد بارك الله لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم ) في البكور، كما قال في الحديث.
وترك الله لك فترة طويلة تباشر فيها نشاطك الدنيوي بعد الراحة الطويلة بالنوم ليلا، ولم يطلب منك صلاة إلا بعد مرور فترة طويلة من النهار تعدل نصفه تقريبا فيعطيك راحة من تعبك، ونشاطك المضني في كسب العيش، ويدعوك إلى شحن بطارية قلبك في الاتصال بالله وطلب العون منه، والهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك بصلاة الظهر أربع ركعات تكفي لتقوية الروح، وتعويض التعب الجسمي براحة نفسية هي من ألزم ما يكون للنجاح في كل عمل.(1/213)
فلو أحب الإنسان أن يواصل نشاطه بعد الظهر، أو يستريح بعض الوقت، عاود شحن روحه بالاتصال بربه لصلاة العصر، وعند الفرار من النشاط النهاري تكون صلاة المغرب وعند التهيؤ والسكن والراحة ينام الإنسان وهو على صلة أيضا بربه، فربما يكون هذا النوم هو وفاة صغرى آخر عهد الإنسان بهذه الحياة، ويختم الله له بالحسنى؛ ليلقاه سعيدا مرضيا عنه. هذا.
وللنظر أن نشاط الإنسان لكسب عيشه هو نفسه تكليف من الله؛ لأن الحياة تحتاج إلى حركة، ولأجل الحرص على أداء النشاط الدنيوي الذي لابد منه للحياة الدنيا والنشاط الأخروي الذي لابد منه للحياة الباقية عند الله قال الله في ترك البيع والشراء عند سماع الآذان لصلاة الجمعة وفي العودة عند الانتهاء منها إلى النشاط الدنيوي قال:{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}.
وفي هذا القول الكريم إشعار بأن معاودة النشاط الدنيوي بعد صلاة الجمعة، لابد أن يكون مصحوبا بضمانات تساعد على النجاح فيه وهي ذكر الله، وتذكر المعاني والقوة الدينية التي حصل عليها من الصلاة، وبالتعاون بين قوة الروح وقوة البدن يكون النجاح والفلاح.
والله أعلم .(1/214)
س:وهل هناك نصوص تبين قيمة العمل وأنه لا يتعارض مع الصلاة ؟
إن النصوص كثيرة في عدم التعارض بين عمل الدنيا والآخرة، وفى إيثار عمل الآخرة؛ لأنه الباقي الخالد.
أما عمل الدنيا فهو مؤقت وزائل قال ـ تعالى: { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا }.
وقال (صلى الله عليه وسلم ): "إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا ولولدك عليك حقا ولأهلك عليك حقا و لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه". كما جاء في روايات متعددة.
وعندما قام الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ليلا بالصلاة والقرآن الذي كان يطيل فيه، كان يأتم به بعض الصحابة، فنبهه الله إلى التخفيف؛ لأن المأمومين وراءهم تكاليف أخرى تحتاج إلى راحة وقوة {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه}.
وفي الحديث أن السعي لكسب العيش للنفس والذرية، وغيرهم جهاد في سبيل الله، وبالفهم الصحيح للنصوص، وأسرارها يهون الأمر وتخفى الاعتراضات.
والله أعلم(1/215)
س: فضيلة الشيخ عطية، لو أردنا أن نتعرف على منزلة الصلاة في الإسلام ؟
منزلة الصلاة في الإسلام لا تعدلها منزلة؛ لأنها عماد الدين كما في الحديث "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله".
وبيان ذلك فيما يأتي:
أولا: أن الصلاة أول ما فرضه الله من العبادات في الإسلام كما كانت مفروضة من قبل في الأديان السابقة.
وثانيا: على الرغم من أنها خمس صلوات في اليوم والليلة، كانت في أول فرضها ليلة الإسراء خمسين، ثم خففت إلى خمس فقط، جعلها الله بخمسين، كما في رواية أحمد والنسائي والترمذي.
وثالثا: أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله، كما في حديث رواه الطبراني.
ورابعا: أنها آخر وصية وصى بها الرسول (صلى الله عليه وسلم ) أمته عند مفارقته للدنيا حيث كان يقول: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم". كما في رواية. وخامسا: هي آخر ما يفقد من الدين وإن ضاعت ضاع الدين كله، كما في حديث ابن حبان.
وسادسا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) لم يرخص في تركها أبدا حيث لم يرض لوفد الطائف أن يتنازل عنها، كما تنازل عن تكاليف أخرى لهم: كالزكاة والجهاد بصفة مؤقتة، كما رواه أحمد حيث قال: "لا خير في دين لا ركوع فيه".
ولما قبلوا ذلك أخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنهم سيزكون ويجاهدون؛ لأن الصلاة ستدعوهم إلى ذلك. كما في رواية أبي داود
وسابعا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) حتم أداءها مهما كانت الأعذار، فمن لم يستطع أداءها من وقوف قعد وصلى، فإن لم يستطع اضطجع وصلى، وهكذا حتى لو لم يقدر إلا بالإشارة برأسه أو إمرارها على فكره وجبت عليه.
وكذلك لو كان في معركة يجاهد في سبيل الله، فلابد من أدائها، وهي صلاة الخوف.(1/216)
وثامنا: أنها أكبر العوامل المؤثرة في استقامة السلوك إذا أديت بخشوع، ودقة وإتقان كما قال ـ تعالى: { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }.
وتاسعا: أن الله حظر من تركها كما قال ـ سبحانه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } وحذر الرسول (صلى الله عليه وسلم ) كما في الحديث "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة". كما رواه مسلم وأحمد، وغيرهما.
وعاشرا: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أن يجعله هو وذريته مقيما للصلاة، كما في قوله سبحانه: { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء}.
هذه بعض المظاهر التي تبين منزلة الصلاة في الإسلام إلى جانب ما ورد من فضائلها العظيمة، والثواب الجزيل لمن يحافظ عليها، وأنها كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم ): "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وكان إذا حجبه أو حزنه أمر فزع إلى الصلاة، كما رواه أحمد.
والله أعلم .(1/217)
س: هل للصلاة أثر في جعل الإنسان إنسانا مثاليا ؟
مثالية الإنسان تكون في قيامه بالواجب نحو ربه، والواجب نحو نفسه، والواجب نحو غيره من الناس، والصلاة كفيلة بكل ذلك، ففي مجال الواجب نحو الله:
فيها ذكر لله من تكبير وإقرار بالوحدانية والصفات العالية حين يقرأ الفاتحة والقرآن ويسبح راكعا وساجدا وداعيا.
ويكفي في بيان ذلك حديث مسلم فيما يرويه الرسول عن ربه: "قسمت الصلاة [أي: الفاتحة] بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال العبد: الرحمن الرحيم. قال الله: أثنى علي عبدي. وإذا قال العبد: مالك يوم الدين. قال الله: مجدني عبدي. وإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. وإذا قال العبد: اهدنا الصراط المستقيم. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
وفى مجال الواجب نحو النفس:
الصلاة فيها إشراق للروح وأنس بالله وطمأنينة للنفس وفسح للصدر بالأمل وبعد عن العقد النفسية، وقوة للعزيمة، ولذلك كانت قرة عين الرسول يلجأ إليها كلما حزنه، أو حزنه أمر، وفيها تصفية للنفس من الكبر والغرور وإشعار بعزة الإنسان بالله وكرامته بالدين، فلا يذل لمخلوق، ولا يخشى أحدا غير الله ـ سبحانه.
والصلاة بما اشتملت عليه من أقوال وأفعال تعود الإنسان أن يقرن العلم بالعمل، كما يظهر ذلك في ركوعه وسجوده، كما أن فيها تعويدا على الإخلاص في العمل، وعلى النظام في الحياة بما فيها من ضبط للأوقات، وتنسيق لأداء أركانها، كما أن فيها تعويدا على النظافة بما يشترط لها من طهارة، وغير ذلك.
وفى مجال الواجب نحو الغير:(1/218)
نرى الصلاة ترقق قلب الإنسان وتهذب غرائزه؛ ليخرج منها عف اللسان، لين الكلام، خافضا للجناح رحيما بالضعفاء بعيدا عن اقتراف المنكرات فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، كما قال رب العزة: { و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
وذلك إذا أديت على الوجه الصحيح لما فيه من خشوع وخضوع، ولم تكن كما قال رب العزة:{ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يرآءون ويمنعون الماعون }.
وكما في الحديث القدسي الذي رواه البذار: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يستطل على خلقي ولم يبت مصرا على معصيتي وقطع النهار في ذكري ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب".
وفى الصلاة مع الجماعة تطبيق عملي للديمقراطية السلوكية فما فيها من مساواة وتعديد لطاعة الرؤساء وتمرين على النظام بربط حركات المأمومين بحركات الإمام وتسوية الصفوف وسد الفرج بين المصلين، وفيها دعوة عملية للاتحاد والتعاون وفرصة للتجمع والتعارف، وما ينشأ عن ذلك من تبادل الآراء والمنافع، وفيها تقوية لرابطة الألفة والمحبة بين الناس.
ولهذا العرض الموجز لحكمة الصلاة نجد أن أثرها كبير لجعل الإنسان إنسانا مثاليا من كل الوجوه.
والله أعلم .(1/219)
س:ما الشروط التي تتقدم الصلاة، ويجب على المصلي أن يأتي بها بحيث لو ترك شيئا منها تكون صلاته باطلة ؟
الشروط التي يجب أن تتقدم الصلاة، ويجب على المصلي أن يأتي بها حتى تصح صلاته هي:
أولا: العلم بدخول الوقت أو غلبة الظن بدخوله، فكل صلاة لها وقتها.
وقد قال ـ سبحانه: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا }. فمن صلى قبل الوقت بطلت صلاته، ومن صلاها بعد خروجه كانت قضاء، ولابد منه.
ثانيا: الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر قال ـ تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق }. إلى آخر الآية التي فيها، التطهر من الجنابة أيضا، وعند عدم وجود الماء أو تعذر استعماله كان التيمم بالتراب، وفى الحديث "لا يقبل الله صلاة بغير طهور".رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن.
ثالثا: طهارة البدن والثوب والمكان الذي يصلى فيه، طهارته من النجاسة الحسية إن أمكن، ودليل طهارة البدن أحاديث الاستنجاء من البول والغائط وهي كثيرة.
أما طهارة الثوب ففيها قوله تعالى:{ وثيابك فطهر }. إلى جناب أحاديث أخرى.
وأما طهارة المكان فلحديث البخاري، وغيره وفيه أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم ) أن يصب الماء على البول الذي باله الأعرابي في المسجد، والحق أن هذه الطهارة واجبة، وليست سنة.
رابعا: ستر العورة كقول الله ـ تعالى: { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}. والمراد بها: ستر العورة. والمراد بالمسجد: الصلاة. وعورة الرجل: ما بين السرة والركبة. وعورة المرأة: كل جسدها ما عدا الوجه والكفين على رأي الجمهور، وهي عند مالك مغلظة يجب سترها، وتبطل الصلاة بدونه، ومخففة تصح بدونه مع ندب إعادتها في الوقت، وساتر العورة لابد أن يكون كثيفا لا يشف عما تحته، ولا يضر إن كان محددا لها، ويحرم على المرأة أن يطلع عليه رجل أجنبي منعا للفتنة.(1/220)
خامسا: استقبال القبلة وهي: الكعبة، والجمهور على وجوب استقبال جهتها لا عينها ما دام لا يستطيع ذلك قال ـ تعالى: { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }.
ولا يسقط هذا الشرط إلا عند العجز، كالمريض والمكره والخائف، وذلك لقوله (صلى الله عليه وسلم ): "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وكذلك لا يشترط عند صلاة النافلة للمسافر، الراكب للدآبة، ولا يستطيع أن يتم الركوع والسجود فيومئ بهما، وقبلته هي: حيث اتجهت دابته، ودليله ما فعله النبي (صلى الله عليه وسلم ). كما رواه البخاري ومسلم.
وقِيس على الراحلة وسائر السفر الأخرى التي يصعب استقبال القبلة في صلاة النافلة عليها.
هذه هي أهم الشروط.
والله أعلم .(1/221)
س:فضيلة الشيخ عطية، للصلاة فرائض وأركان لا تصح الصلاة إلا بهما. فما هذه الفرائض، وما تلك الأركان ؟
الصلاة لها أركان أو فرائض لو تخلف واحد منها؛ تبطل، ولا يعتد بها شرعا وهي:
الأول: النية، ودليلها عموم قول الرسول (صلى الله عليه وسلم ): " إنما الأعمال بالنيات". كما رواه البخاري. ولا يشترط التلفظ بها، وإن كان التلفظ سنة عند الشافعي.
الثاني: تكبيرة الإحرام، لحديث رواه الشافعي وأحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وهو: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم". ولفعل النبي (صلى الله عليه وسلم ) ويتعين لفظ: الله أكبر كما فعله الرسول، ورواه ابن ماجة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
الثالث: الوقوف، أو القيام وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع، وذلك عند الاستطاعة وفي الفروض.
أما النوافل فيمكن أداؤها بغير وقوف، والثواب على النصف، إن كان قادرا على الوقوف، وهو كامل إن لم يقدر على الوقوف، وفى ذلك حديث البخاري ومسلم "صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة".
الرابع: قراءة الفاتحة في كل ركعة، والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله (صلى الله عليه وسلم ): "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". رواه الجماعة أي: البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة.
ومنها: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن". وفى رواية: "بفاتحة الكتاب فهي خداج". هي غير تمام. رواه البخاري وأحمد. ومعنى خداج: ناقصة وباطلة.
ومن لم يحسن قراءة الفاتحة، ويحسن غيرها من القرآن، قرأ بمقدار سبع آيات وإن لم يكن في وسعه القراءة، يسبح ويحمد ويهلل ويكبر.
ففي حديث رواه أبو داود والنسائي والبيهقي والترمذي وحسنه قوله (صلى الله عليه وسلم ) لمن علمه الصلاة: "إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فأحمد وكبر وهلل ثم اركع".(1/222)
الخامس: الركوع قال ـ تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } وهو يتحقق بمجرد الانحناء بحيث تصل اليدان إلى الركبتين ولابد من الطمأنينة فيه ومن لا يطمئن يعتبر سارقا.
السادس: الرفع من الركوع والاعتدال قائما مع الطمأنينة. كما رواه البخاري من فعل النبي (صلى الله عليه وسلم ).
السابع: السجود الأول مع الطمأنينة فيه.
الثامن: الرفع من السجود والجلوس مع الطمأنينة.
التاسع: السجود الثاني بعد الجلوس، والرفع من السجود الأول، وقدر الطمأنينة زمن يسع تسبيحة: سبحان الله. أو: الحمد الله.
العاشر: الجلوس الأخير وقراءة التشهد فيه؛ لأنه وارد لحديث تعليم النبي (صلى الله عليه وسلم ) للمسيء صلاته.
وأصح ما ورد في التشهد ما رواه الجماعة وهو:
"التحيات لله والصلوات والطيبات". مع بعض تغيير في بعض الروايات، وأقل الواجب كلمة: "التحيات لله". ثم يقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".
الحادي عشر: السلام، وله عدة صيغ أقلها: "سلام عليكم" وهو مرة واحدة.
أما الثانية، فسنة، ويسن أن تكون التسليمة الأولى على اليمين، والثانية على اليسار.
الثاني عشر: الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم ) بعد التشهد، وقبل السلام وذلك عند الإمام الشافعي.
هذا ما أقره الجمهور من العلماء بأركان الصلاة.
والله أعلم .(1/223)
س:صفة الصلاة وكيفيتها لم يذكرها القرآن الكريم، ولكن جاءت الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) مبينة كيفية الصلاة، وصفتها. فكيف كان النبي (علية الصلاة والسلام) يصلي ؟
معلوم أن كيفية الصلاة لم تذكر بالتفصيل في القرآن؛ وإنما بينها الرسول (صلى الله عليه وسلم ) بفعله وقوله، وهو القائل: "صلوا كما رأيتموني أصلي". كما رواه البخاري.
وجاء في حديث المسيء صلاته الذي رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". كما روى أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن أن أبا مالك الأشعري جمع قومه وعلمهم صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم ) بعد أن علمهم الوضوء، وكيف يصف المأمومون خلف الإمام، الرجال أولا، ثم الأولاد، ثم النساء.
وجاء في الصلاة أنه رفع يديه، وكبر وقرأ بالفاتحة وسورة لم يجهر بها، ثم كبر فركع، فقال: سبحان وبحمده ثلاث مرات، ثم قال: سمع الله لمن حمده، واستوى قائما، ثم كبر، وخر ساجدا ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائما، فكان تكبيره في أول ركعة ست تكبيرات، وكبر حين قام إلى الركعة الثانية.
هذه الكيفية المروية فيها أركان وفيها سنن، وكل ذلك يحتاج إلى تفصيل.
والله أعلم .(1/224)
س:فضيلة الشيخ عطية، الصلاة كأية عبادة لها فرائض، وسنن وقد تعرفنا على الفرائض. فما سنن الصلاة ؟
سنن الصلاة كثيرة منها ما يسمى: أبعاضا إذا ترك يجبر بسجود السهو عند بعض الأئمة، وهي التشهد الأول، والقنوت، ومنها ما لا يجبر بسجود السهو ويسمى: هيئات، وهي ما عدا ذلك.
ومن السنن التي لو تركت عمدا لا تبطل الصلاة:
الأولى: رفع اليدين عند التكبير، وذلك عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه، وفي مواضع أخرى.
والرفع في هذه المواضع هو عند الجمهور.
والثانية: وضع اليمين على الشمال.
والثالثة: دعاء الاستفتاح والمرويات في كيفيته كثيرة.
الرابعة: الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة في قوله ـ تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }.
ويسن الإتيان بها سرا، وذلك في كل الركعات.
وقيل: في الركعة الأولى فقط، كما رواه مسلم.
الخامسة: التأمين بعد قراءة الفاتحة.
السادسة: القراءة بعد الفاتحة.
السابعة: التكبيرات عند الانتقال من ركن إلى ركن، وهي فقط عند كل رفع وخفض، وقيام وقعود ما عدا الرفع من الركوع، فيقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
وذلك لمرويات صحيحة عند البخاري ومسلم.
الثامنة: الذكر في الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين.
التاسعة: الهوي إلى السجود بدأ بالركبتين.
العاشرة: جلسة الاستراحة بعد الرفع من السجود، وقبل القيام لركعة تالية.
الحادية عشرة: التشهد الأول.
الثانية عشرة: الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم ) بعد التشهد عند غير الشافعي فهي عنده ركن.
الثالثة عشرة: الدعاء بعد التشهد الأخير وقبل السلام.
الرابعة عشرة: رفع الإصبع في التشهد.
الخامسة عشرة: التسليمة الثانية وكون الأولى على اليمين والثانية على اليسار. هذه بعض السنن وفى بعضها كلام طويل.
والله أعلم .(1/225)
س:ولماذا كان الانتقال بين أركان الصلاة بالتكبير [أي: بأن نقول: الله أكبر] أما في الرفع من الركوع فنقول: سمع الله لمن حمده ؟
جاء في (حاشية) الشيخ: عبد الله الشرقاوي على شرح التحرير للشيخ: زكريا الأنصاري في فقه الشافعية عند قوله: سمع الله لمن حمده، جاء ما نصه:
والحكمة في مشروعية ذلك أن الصديق (رضي الله ـ تعالى ـ عنه) لم تفته صلاة خلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قط. فجاء يوم في وقت صلاة العصر وظن أنه فاتته معه، فاغتم لذلك، وهرول وكان ذلك قبل النهي عن الهرولة لها، ودخل المسجد فوجده (صلى الله عليه وسلم ) مكبرا في الركوع فقال: الحمد لله، وكبر خلفه (صلى الله عليه وسلم ) أي: كبر أبو بكر خلف الرسول (عليه الصلاة والسلام) فنزل جبريل والنبي (صلى الله عليه وسلم ) في الركوع فقال: يا محمد سمع الله لمن حمده، فقل: سمع الله لمن حمده، فقالها عند الرفع من الركوع، وكان قبل ذلك يركع بالتكبير، ويرفع بالتكبير، فصارت سنة من ذلك الوقت ببركة أبي بكر (رضي الله عنه).
هذا ما جاء في هذا الكتاب، ولم يذكر مرجعا لما قاله، ولم أعثر على حديث صحيح في ذلك.
والله أعلم .(1/226)
س: فضيلة الشيخ عطية، هل توجد فروق بين صلاة الرجل، وصلاة المرأة، وهذه الفروق هل توجد في الفرائض فقط، أم في السنن كذلك ؟
لا يوجد فرق كبير بين الرجل، والمرأة في كيفية الصلاة، وإنما هي أمور قليلة ذكر منها العلماء ما يأتي:
أولا: لا ترفع صوتها بالقراءة في الصلاة الجهرية، إذا وجد رجل أجنبي يسمعها ولا بالتأمين خلف الإمام.
ثانيا: إذا نابها شيء في الصلاة كتنبيه الإمام إلى خطأ، تصفق ولا تسبح حتى لا يفتن الرجال بصوتها، كما رواه البخاري ومسلم.
ثالثا: عدم التفريج بين يديها في السجود والركوع بل تضم بعضها إلى بعض. رابعا: عند صلاة الجماعة مع الرجال تكون في الصف الأخير بعد الصبيان، ولا تكون في أول الصفوف.
هذه هي بعض الفروق.
والله أعلم .(1/227)
س:يقول البعض: صليت الفجر. ويقول الآخر: صليت الصبح. فما الفرق بينهما، وكيف تكون نية الصلاة فيهما ؟
الفجر في اللغة العربية يطلق على: النور الذي يشق ظلام الليل، فيبدأ به النهار والفترة التي بين ظهور هذا النور، وطلوع الشمس تسمى: فترة الصباح.
والمطلوب منا في هذه الفترة: ركعتان فريضة فيهما عند بعض الأئمة قنوت أي: دعاء في الركعة الثانية. كما تطلب ركعتان نافلة أي: سنة داوم عليهما النبي (صلى الله عليه وسلم ) كثيرا، لكن لو تركهما الإنسان لا يعاقب، كما لو ترك سنة أخرى.
الركعتان المفروضان أطلق عليهما في القرآن، والسنة اسم: صلاة الفجر. كما أطلق عليهما في السنة اسم: صلاة الصبح. قال تعالى:{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}. أي: أد الصلاة عندما تميل الشمس عن خط الزوال جهة المغرب إلى ظلام الليل.
ويمكن أن تؤدى في هذه الفترة صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
إذا قلنا: إن الغاية إلى غسق الليل داخلة فيها، وأد صلاة الفجر وبهذا تتم الصلوات الخمس المفروضة.
وعبر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر؛ لأن قراءة القرآن هي أكثر ما في الركعتين؛ لأنها صلاة جهرية يسمع فيها القرآن جيدا، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطيل القراءة في صلاة الفجر بالقدر الذي لا يتضرر به المأمومون، وكان صلاة الفجر مشهودة؛ لأن ملائكة الليل وملائكة النهار الذين يتعاقبون حفظ الإنسان، ومراقبة سلوكه يتم التعاقب بينهم في فترة الصباح، حيث يتلى القرآن في صلاة الفجر، كما يتعاقبون في فترة العصر، وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة.
فنرى من الآية أن صلاة الصبح المفروضة أطلق عليها اسم الفجر.(1/228)
وجاء في السنة الصحيحة أيضا بهذا الإطلاق، فقد روى البخاري ومسلم "لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس". والمراد بالفجر هنا: الصبح. بالتصريح بذلك في رواية أخرى لمسلم "صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، وترتفع".
وجاء في السنة قول عائشة (رضي الله عنها): "كنا نساء المؤمنات يشهدن مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الفجر متلفعات بمروطهن". رواه البخاري ومسلم.
وقال (صلى الله عليه وسلم ): "أكثروا في الفجر فإنه أعظم للأجر". رواه الخمسة أي: أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
وفى تسمية الركعتين المفروضتين في الصبح إلى جانب الحديث المتقدم في رواية مسلم جاء قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لبلال: "سود في صلاة الصبح حين يبصر القوم موقع نبذهم من الإسفار". أخرجه ابن أبي شيبة.
وعن أبي محظورة قال: "قلت: يا رسول الله علمني سنة الآذان فعلمه، وقال: فإن كانت صلاة الصبح قل: الصلاة خير من النوم". رواه أحمد وأبو داود.
ومن هنا نعلم: أن الركعتين المفروضتين يطلق عليهما اسم الفجر واسم الصبح.
أما ركعتا السنة: فقد جاء فيهما الحديث الشريف "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".
وروى البخاري ومسلم أن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "لم يكن ( صلى الله عليه وسلم ) على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر".
فالذي يتلفظ بالنية إذا صلى ركعتي السنة يقول: نويت أصلي ركعتي الفجر، أو أصلي ركعتين سنة الفجر، أو ركعتين سنة الصبح. أي: سنة الصلاة المفروضة وهي الصبح. كما يقول: أصلي ركعتين سنة الظهر أي: سنة الصلاة المفروضة وهي: الظهر.
والذي يصلي فريضة الصبح لابد أن ينص في النية إذا تلفظ بها على الفرضية فيقول: نويت أصلي ركعتين فرض الصبح، أو فرض الفجر، ولا يصح أن يقول: أصلي ركعتي الفجر بدون ذكر كلمة فرض.هذا.
وليكن معلوما: أن النية محلها القلب وليست باللسان فقط.(1/229)
فالمعول عليه هو من عقد عليه القلب من كون الذي يصليه هو الفرض أو السنة وخطأ اللسان لا يضر.
كما أن التلفظ بالنية مستحب عند بعض الأئمة، وغير مستحب عند بعضهم الآخر، والدين يسر.
والله أعلم .(1/230)
س:يقول المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ): "من صلى الصبح فهو في ذمة الله". فهل للحديث بقية، وما المقصود بـ: ( ذمة الله ـ تعالى.) ؟
هذا الحديث جاء لقوله ( صلى الله عليه وسلم ): "من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يخرجنه الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء فهو على وجهه في نار جهنم". هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
والرسول (علية الصلاة والسلام) قال فيه في رواية أخرى: "من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار بوجهه".
والذمة هي: الأمان والعهد والضمان، والذي يصلي الصبح في جماعة هو: في ضمان الله، وفي وقايته.والحديث يبين فضل صلاة الصبح، وبخاصة إذا كانت في جماعة.
والذي يحرص عليها يستيقظ مبكرا؛ ليدركها قبل فوات وقتها بطلوع الشمس، والبكور فيه الخير والبركة، وهو فترة النشاط التي يجب أن تستغل استغلالا طيبا.
وقد دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأمته أن يبارك الله لها في بكورها.
فالذي يبكر ويصلي الصبح، يكون في حماية الله وحراسته من السوء جزاء محافظته على الصلاة التي يعارضها هوى النفس بالكسل والتباطؤ، وعدم مغادرة الفراش.
ومن جاهد نفسه أول النهار استطاع أن يجاهد ما يعترضه طول النهار من فتن ومغريات والله ـ سبحانه ـ يقول:{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}. والله سبحانه يحذر أي إنسان أن ينال هذا الشخص بسوء؛ لأنه في حماية الله، ومن تعدى عليه طعن في حراسة الله له ولم يحترم حماه والله يغضب لذلك غضبا شديدا، ومن غضب عليه؛ أنزل به عليه عقابه، ولن يفلت منه فهو يتعقبه كما يتعقب صاحب الدم من قتل قريبه؛ ليثأر له أو من هان شرفه؛ ليغسل العار عنه، وعقاب الله لمن *** ذمته بالتداعي على من صلى الصبح فيكون بإذلاله وإهانته، وكبه على وجهه في النار.(1/231)
واحتراما لهذا الحديث وخوفا من التاهون فيما جاء به، ذكر التاريخ أن الحجاج بن يوسف الثقفي، وهو المعروف بشدة بطشه، وجبروته أمر سالم بن عبد الله بن عمر أن يقتل رجلا، فسأل سالم هذا الرجل، فقال له: هل صليت الصبح؟ قال: نعم. فقال: انطلق فلن أمسك بسوء، فلما سأله الحجاج لما لم تقتله؟ قال: لأنه صلى الصبح؛ فكان في جوار الله، فكرهت أن أقتل رجلا أجاره الله".
والحديث إذا كان يحثنا على المحافظة على الاستيقاظ المبكر لأداء صلاة الصبح في وقتها، فهو يحثنا أيضا على أداء كل الصلوات في أوقاتها ويحثنا على احترام من يحافظون على الصلوات، فأولئك هم المؤمنون، والله يقول: { إن الله يدافع عن الذين آمنوا }.
والله أعلم .(1/232)
س:فضيلة الشيخ، هل صحيح أن من صلى الصبح، ثم جلس يذكر الله ـ تعالى ـ حتى تطلع الشمس يكون له ثواب حجة أو عمرة ؟
عن أنس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): "من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة. قال: قال ( صلى الله عليه وسلم ) تامة تامة تامة". رواه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. أي: رواه راو واحد فقط.
وجاء في رواية أخرى كما جاء في روايات فيها مقال، لكن تقبل في فضائل الأعمال في هذا الثواب، وفي غيره.
والثابت كما رواه مسلم وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس".
من هنا نعلم: فضل صلاة الصبح جماعة في المسجد، وفضل المكث فيه مع الاشتغال بذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلاة الضحى التي أقلها ركعتان، ولا يستبعد أحد أن يكون ثواب ذلك كثواب حجة وعمرة، ففضل الله واسع يقبل القليل ويعطي الجزيل، وذلك له نظائر كثيرة.
وإذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد أخبر أن العمرة في رمضان تعدل حجة معه. كما رواه مسلم؛ فليس معنى ذلك أنها تكفي عن الحج، إذا كان قادرا عليه؛ بل لابد من أدائه، وذلك إن كانت صلاة الفريضة في رمضان تعدل سبعين فريضة فيما سواه، فليس معنى ذلك أن من ترك سبعين صلاة تكفي عنها صلاة واحدة في رمضان؛ بل لابد من قضاء كل ما فات.
وكذلك إذا صح الحديث كما رواه مسلم "أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
فليس المراد: أن الصلاة الواحدة تكفي عن ألف صلاة تركها.
ومثل ذلك ما رواه أحمد وابن ماجة بإسنادين صحيحين "أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه". لا يعني: أن يهمل الإنسان في الصلاة سنوات طويلة، ثم يعوض كل ما فات بصلاة واحدة أو أكثر قليلا في المسجد الحرام.
والله أعلم .(1/233)
س:يتأخر البعض في صلاة الفجر حتى الإسفار، معللين ذلك بأنه ورد فيه حديث وهو: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". هل هذا الحديث صحيح، وإذا كان صحيحا هل يتعارض مع الحديث "الصلاة على وقتها". وما معنى الإسفار ؟
روى أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان أن النبي( صلى الله عليه وسلم ) قال: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر".
الإسفار هو: الانكشاف والظهور.
وروى أبو داود و البيهقي بسند صحيح أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "صلى صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ولم يعد أن يسفر".
وعن عائشة قالت: "كنا نساء مؤمنات يشهدن مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الفجر متلفعات بمروطهن [أي: الأكسية] ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس. والغلس هو: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
من المعلوم أن من أفضل الأعمال كما ثبت في الحديث الصحيح "الصلاة لأول وقتها". والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان حريصا على ذلك.
وفى صلاة الصبح كان في بعض الأحيان يبادر بها في أول الوقت [أي: بغلس].
وفي بعضها يؤخرها قليلا؛ حتى يظهر النهار بالإسفار صلاتها بغلس أي: في أول الوقت.
والحديث الذي فيه الأمر بالإسفار وهو: التأخير قليلا عن أول الوقت قال بعض العلماء: إن المراد به الانتهاء من الصلاة حين يظهر الضوء لا أن يبدءوها وقت ظهور الضوء؛ لأنه (عليه الصلاة والسلام) كان يطيل القراءة في صلاة الصبح من ستين آية إلى مائة آية.
فالدخول في صلاتها كان بغلس [أي: في أول وقتها] والانتهاء منها كان بالإسفار.(1/234)
وقال بعضهم: لما أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتغليس صلاة الفجر في أول وقتها، كان الصحابة يبادرون فيصلون عند الفجر الأول وهو: الكاذب. حرصا ورغبة؛ فأمرهم النبي بالإسفار. أي: التأخير إلى أن يطلع الفجر الثاني، ويتحققوه ويقوي ذلك: أنه قال لبلال: نور في الفجر قدر ما يبصر القوم مواقع نبلهم.
وقيل: إن الأمر بالإسفار خاص بالليالي المقمرة؛ لأن أول الصبح لا يتبين فيها فأمروا بالإسفار احتياطا. قال ذلك ابن الأثير في النهاية، وهو توفيق جميل بين الأحاديث التي فيها الأمر بالتغليس والأمر بالإسفار.
والله أعلم(1/235)
س:سيدة تقول: طهرت من الحيض في وقت العصر أو في وقت العشاء. فهل أصلي معهما الظهر والمغرب كاعتبارهما يجمعان معا ؟
إذا كانت المرأة حائضا وقت الظهر، ثم طهرت منه في وقت العصر، كان الواجب عليها صلاة العصر وما بعده، ولا تجب عليها صلاة الظهر، وكذلك لو طهرت في وقت العشاء؛ لا تجب عليها صلاة الظهر، ولا العصر ولا المغرب.
لكن يجب التنبه إلى أن الطهارة من الحيض قد تطلق على مجرد انقطاع الدم، حتى لو لم يكن بعد ذلك غسل، وقد تطلق على الغسل نفسه، فإذا انقطع الدم وقت الظهر ولم تغتسل حتى دخل وقت العصر؛ فات منها الظهر وعليها أن تصليه قبل أن تصلي العصر.
وبالمثل لو انقطع الدم وقت الظهر ولم تغتسل إلا وقت العشاء؛ فاتت منها صلوات الظهر والعصر والمغرب وعليها أن تصليها قبل أن تصلي العشاء.
والله أعلم .(1/236)
س:فضيلة الشيخ عطية، نشاهد بعض الناس في هذه الأيام يقصر ثوبه، ويطيل سراويله. فما ترون في ذلك ؟
روى البخاري تعليقا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة".
وقال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة.
يدل هذا على: أن الممنوع هو ما كان فيه إسراف وما قصد به الخيلاء، وإذا انتفا هذان الأمران؛ فلا حرج.
وقد ورد في ذلك عدة أحاديث منها:
"ما كان أسفل الكعبين من الإزار ففي النار". رواه البخاري وغيره. والإزار هو: ما يستر أسفل البدن. ومنه البنطلون والجلباب: "من جر إزاره بطرا لن ينظر الله له يوم القيامة".
أحاديث كثيرة في هذا الموضوع.
والخلاصة:
أن للرجال حالين: حال استحباب وهو: أن يقتصر بالإزار على نصف الساق.
وحال جواز وهو: إلى الكعبين.
وكذلك للنساء حالان: حال استحباب وهو: ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر.
وحال جواز: بقدر ذراع، وأن البطر والتبختر مذموم؛ حتى لو كان لمن شمر ثوبه، ومن قصد من الملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله، لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة.
وفى صحيح مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا. فقال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس".
والغمط معناه: الاحتقار.
والحديث الذي أخرجه الطبري "إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه". محمول على من أحب ذلك ليتعظم به على صاحبه لا من أحب ذلك ابتهاجا بنعمة الله.
لقد أخرج الترمذي وحسنه "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".(1/237)
وأخرج النسائي وأبو داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "قال لرجل رآه رث الثياب: إذا أتاك الله مالا فلير أثره عليك". أي: بأن يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة؛ ليعرفه المحتاجون إلى الطلب منه مع مراعاة القصد، وترك الإسراف.
هذا وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة، وعن المعتاد في اللباس من الطول، والسعة والثوب الطويل الذي ليس فيه خيلاء يكره إذا لم يأمن الإنسان اللابس له من تعلق النجاسة به.
فقد أخرج الترمذي عن عبيد بن خالد أنه قال: "كنت أمشي وعلي برد أجره فقال لي رجل: ارفع ثوبك فإنه أنقى وأبقى، ونظرت فإذا هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت: إنما هي بردة ملحاء أي: فيها خطوط سود وبيض فقال: أما لك فيَّ أسوة قال: فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه".
وروى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة".
فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه): يا رسول الله إن إزاري يسترسي إلا أن أتعاهده". فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): إنك لست ممن يفعله خيلاء".
أرجو أن نتفهم النصوص وألا نبادر بالحكم على الشيء إلا بعد الفقه الصحيح.
والله أعلم .(1/238)
س:يختلف البعض حول قراءة البسملة مع سورة الفاتحة، فالبعض يجهر بها، والآخر يسر. فما الحكم الصحيح في ذلك، وأيضا يختلفون في قراءتها قبل الآيات التي تقرأ بعد الفاتحة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن الكريم باتفاق العلماء وهي آية من سورة النمل { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم }. أما كونها آية من كل سورة، ومن الفاتحة بالذات ففيه خلاف بين الفقهاء:
بعضهم جعلها فاصلة بين كل سورتين.
وبعضهم جعلها آية من كل سورة.
وعلى هذا، لو لم يقرأها المصلي مع الفاتحة هل تصح صلاته أو لا تصح؟
هناك ثلاثة مذاهب مشهورة في هذه المسألة:
المذهب الأول:
أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة، فقراءتها واجبة في الفاتحة، وحكمها حكم الفاتحة في السر والجهر، وأقوى دليل لهذا المذهب: حديث قال صاحبه وراويه "صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن". أي: الفاتحة.
وجاء في آخر الحديث قوله: "والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ". رواه النسائي وابن خزيمة، وقال الحافظ بن حجر هو أصح حديث ورد في البسملة.
المذهب الثاني: أنها آية مستقلة نزلت للتبرك والفصل بين السور وقراءتها في الفاتحة جائزة بل مستحبة، لكنها غير واجبة، وتصح الصلاة بدونها، وهذا المذهب يقول: لا يجهر بالبسملة، ولكن تقال سرا، والدليل عليه قول أنس: صليت خلف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي بكر، وعمر وعثمان، وكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم". رواه النسائي وابن حبان بإسناد على فرض الشيخين.
والمذهب الثالث: أنها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها، وتصح الصلاة بدونها وقراءتها مكروهة في الفرض دون النافلة، وليس لهذا المذهب دليل قوي.
ويمكن أن يقال: أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجهر بها أحيانا وأحيانا كان يسر بقراءتها.
وما دام الأمر خلافيا فلا يجوز التعصب لرأي من الآراء.(1/239)
وأرى أن الإتيان بها ينفع ولا يضر وأن عدم الإتيان بها لا يبطل الصلاة.
والله أعلم .(1/240)
س:فضيلة الشيخ عطية، لم ترد كلمة: آمين في نص سورة الفاتحة. فهل يجب على من يقرأ صور الفاتحة في الصلاة أن يقول: آمين. وما الدليل الشرعي على ذلك ؟
كلمة: آمين. معناها: اللهم استجب. وفيها لغتان مشهورتان: المد على وزن: فاعيل مثل: ياسين. والقصر على وزن: يمين وهي: ليست من القرآن، ويسن قولها بعد كل دعاء.
روى أبو داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "وجد رجلا يلح في المسألة أي: الدعاء فوقف يسمع منه ثم قال: أوجب إن ختم".
وسئل عن الختم؟ فقال: بآمين.
وفى الخبر "لقنني جبريل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب، وقال: إنه كالخاتم على الكتاب".
وثبت في الحديث "إذا أمن الإمام فآمنوا فإنه من وافقه تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري ومسلم، وغيرهما بعبارات مختلفة.
ويستحب التأمين في الصلاة للإمام والمأموم والمنفرد.
قال النووي في كتابه (الأذكار): ويجهر به الإمام والمنفرد في الصلاة الجهرية، والصحيح أن المأموم أيضا يجهر به سواء، كان الجمع قليلا، أو كثيرا، ويستحب أن يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام لا قبله، ولا بعده، وليست الصلاة موضع يستحب فيه قول المأموم بقول الإمام إلا في قوله: آمين.
وأما باقي الأقوال فيتأخر قول المأموم.
جاء في تفسير القرطبي: أن العلماء اختلفوا؛ هل يقولها الإمام، وهل يجهر بها؟
فذهب الشافعي، ومالك في رواية إلى ذلك، وقال الكوفيون وبعض المزنيين: لا يجهر بها.
وروى ابن قاسم عن مالك: أن الإمام لا يقولها؛ بل يقولها المأمومون.
والدليل حديث مسلم: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضآلين فقولوا: آمين يجبكم الله".
والصحيح قول الإمام لها بحديث أبي داود والدارقطني عن وائل بن <حدر> "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ: ولا الضآلين قال: آمين يرفع بها صوته".(1/241)
وقال عطاء: آمين دعاء أمَّن ابن الزبير ومَنْ وراءه حتى إن للمسجد للجة أي: صوتا ودويا. قال الترمذي: وبه يقول أكثر من واحد من أهل العلم من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن بعدهم يرون: أن يرفع الرجل صوته بالتأمين لا يخفيها. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق.
وفى الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب: وكان رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "آمين".
وفى سنن ابن ماجة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان إذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضآلين قال: آمين حتى يسمعها هل الصف الأول فيرتج بها المسجد".
يقول القرطبي: قال أصحاب أبي حنيفة: الإخفاء بآمين أولى من الجهر؛ لأنه دعاء، وقد قال الله ـ تعالى: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية }. وَرُدَّ عليه بأن: إخفاء الدعاء أفضل لما يدخله من الرياء.
أما صلاة الجماعة فشهودها إشهار، وشعار الظاهر، وإظهار حق عنده العباد إلى إظهاره.
وقد ندب الإمام إلى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها.
فإذا كان الدعاء ممن يسن الجهر به، فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه، وهذا بين.
وذكر الحافظ المنذري حديثا قال: رواه ابن ماجة بإسناد صحيح وأحمد، ولفظه أن رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرت عنده اليهود فقال: "إنهم لم يحسدونا على شيء كما حسدونا على الجمعة هدنا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدنا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين".
يؤخذ من هذا أنه:
يندب قول: آمين لكل مصل بعد قراءة الفاتحة، كما يندب الجهر بها للإمام والمأمومين.
وتحري موافقة المأموم للإمام فيها، وذلك على رأي جمهور الفقهاء، وفيه إظهار لشعيرة الصلاة والاجتماع عليها، وهو أولى بالاتباع من رأي الآخرين لأنه؛ رأي الأغلبية الذي تؤديه النصوص القوية وفيه إشهار وإعلام بشعيرة إسلامية وفيه مظهر من مظاهر الوحدة.
والله أعلم .(1/242)
س:ورد في معنى الحديث الصحيح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "لا صلاة لمن لم يقرأ الفاتحة". فما حكم من نسي الفاتحة في ركعة من الركعات، وما نص الحديث الصحيح ؟
قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء، للحديث الصحيح "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ومن تركها عمدا؛ بطلت صلاته فإن تركها ناسيا، وتذكرها قبل أن يصل إلى مثلها من الركعة التالية؛ وجب عليه أن يعود إلى القيام، وأن يقرأها فإن تذكر، وهو يقرأها في الركعة التالية؛ ضاعت علية الركعة السابقة، وعليه أن يأتي ببدلها.
وعند أبي حنيفة: لو تركها سهوا؛ يجب عليه أن يسجد للسهو، فإن لم يسجد؛ وجبت عليه إعادة الصلاة، فإن لم يعدها؛ كانت صحيحة، وعليه بالإثم هذا.
وإذا كانت الصلاة باطلة فهي غير مقبولة؛ ولو صحت عند أبي حنيفة عند عدم إعادتها أو عدم سجود السهو؛ كان عليه ذنب يذهب بثواب الصلاة، أو يقلله.
كل هذا في الإمام والمنفرد.
أما المأموم فإن نسيان الفاتحة، أو تركها عمدا لا يبطل الصلاة عند أبي حنيفة؛ لتحريمه قراءتها خلف الإمام، وكذا عند بعض الأئمة.
والله أعلم .(1/243)
س:سائل يقول: وقف بجواري أحد الإخوة المصلين، فلما قرأ الإمام: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: استعنت بالله. ولما قرأ الإمام: سورة التين وفي آخرها: {أليس الله بأحكم الحاكمين} فقال: بلى. فهل هذا مبطل للصلاة، أم جائز ؟
روى الترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: "من قرأ سورة التين والزيتون فقرأ: { أليس الله بأحكم الحاكمين }. فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
وكان علي وابن عباس يفعلان ذلك، هذا في خارج الصلاة.
أما فيها فقد اتفق الفقهاء على أن ذكر الله في الصلاة لا تبطل به إذا قصد الذكر؛ لأن الصلاة كلها محل لذكر الله.
ومثل الأحناف في ذلك بالصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذكره وقول: جل جلاله، عند ذكر اسم الله، وقول: صدق الله العظيم عند فراغ القارئ من القراءة.
ومثله ما لو أخبر بخبر سيئ وهو في الصلاة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ما دام يقصد مجرد الذكر والدعاء.
وكذلك قال بقية الفقهاء، وجاء في أمثلة الشافعية قول المأموم: استعنا بالله عند قراءة الإمام {إياك نعبد وإياك نستعين}. ما دام يقصد الدعاء.
وعليه فإن قول المأموم: بلى. عند قول الإمام: { أليس الله بأحكم الحاكمين }. لا يبطل الصلاة وكلمة: بلى تفيد الإثبات بعد النفي، وهي هنا إثبات أن الله أحكم الحاكمين.
وبعد مراجعة ما جاء في فقه المذاهب الأربعة نرى أن:
قول المأموم: استعنا بالله ما دام يقصد به ذكر الله أو الدعاء فإن صلاته لا تبطل باتفاق الأئمة.
أما إذا لم يقصد الذكر، ولا الدعاء فصلاته باطلة عند بعضهم، ويقاس على هذا ما يقوله المأمومون حين قيام الإمام بالقنوت مثل: آمين، أشهد، حقا، يا الله، وقول المأمومين عقب انتهاء الإمام من قراءة الفاتحة: اللهم اغفر لي.
ليكون تأميمه بعده موافقا لتأميم الإمام، وثواب ذلك عظيم.(1/244)
وجاء في كتاب (الأذكار) للنووي: أنه يسن لكل من قرأ في الصلاة، أو في غيرها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله ـ تعالى ـ من فضله وإن مر بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب، ومن الشر، ومن المكروه أو يقول: اللهم إني أسألك العفو والعافية ،أونحو ذلك.
وإذا مر بآية تنزيه لله ـ سبحانه ـ نزهه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك الله رب العالمين، أو جلت عظمة ربنا، أو قال نحو ذلك.
ثم ساق الدليل على ذلك بحديث مسلم عن حذيفة بن اليمان وهو يصلي خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالليل وقرأ في الركعة الأولى سورة البقرة، ثم آل عمران، ثم النساء، يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. قال أصحابنا أي: الشافعية: يستحب هذا التسبيح والسؤال والاستعاذة للقارئ في الصلاة وغيرها، وللإمام والمأموم والمنفرد؛ لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأميم.
ويستحب لمن قرأ {أليس الله بأحكم الحاكمين } أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}. قال: بلى أشهد، فإذا قرأ {فبأي حديث بعده يؤمنون} قال: آمنت الله. وإذا قال: {سبح اسم ربك}. قال: سبحان ربي الأعلى، ويقول كل هذا في الصلاة وغيرها.
وأدلة ذلك موجودة في أماكن كثيرة.
والله أعلم .(1/245)
س:بعض العمال يؤخرون صلاة الظهر والعصر إلى الليل، معللين ذلك؛ بأنهم منشغلون بأعمالهم أو أن ثيابهم نجسة أو غير نظيفة. فما الحكم في ذلك ؟
الرخصة في جمع الصلوات تكون لعذر السفر أو المرض أو المطر أو غير ذلك مما قرره الفقهاء، وهي تكون فقط بين الظهر والعصر تقديما أو تأخيرا، وبين المغرب والعشاء تقديما أو تأخيرا.
ولم يقل أحد منهم أبدا بجواز جمع كل الصلوات في وقت واحد، لا تقديما ولا تأخيرا مهما كانت الأعذار.
وبخصوص العمل والارتباط به وقتا طويلا لم يجز أحد منهم الجمع في الصلاة، إلا أحمد بن حنبل؛ لظروف ضاغطة كالخوف على العمل نفسه من خطر كبير، أو الخوف على العامل نفسه من ضرر كبير.
وحصره أحمد في الظهر والعصر فقط، وفى المغرب والعشاء فقط.
وعليه فلا يجوز لأحد مهما كانت أعذاره أن يجمع الصلوات كلها في وقت واحد معتذرا بكثرة العمل، أو باحتياج ثيابه إلى تطهير يأخذ وقتا طويلا، ولا يتيسر ذلك أثناء العمل.
ولو أخذ العامل برخصة الإمام أحمد، فجمع بين الظهر والعصر تقديما في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء تأخيرا في وقت العشاء؛ لكانت عنده فسحة كبيرة من الوقت تبدأ من أول الظهر إلى آخر الليل قرب طلوع الفجر.
وأنبه إلى أن الحريص على طاعة الله وعلى أداء الصلاة في أوقاتها، يحاول أن ينسق نشاطه بحيث يحافظ على أداء الصلاة في أوقاتها.
ولا ينبغي أن يتعلل بعلل للتملص من ذلك، والله أعلم بالنيات { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرى }.
والله أعلم .(1/246)
س:يقول الله ـ تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }. فكيف تكون الصلاة حسب نص الآية، وما الصلاة الجهرية، وما الصلاة السرية، وما الحكمة في ذلك ؟
يقول الله ـ تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا }. قال بعض المفسرين: إن المراد بالصلاة هنا: الدعاء. بدليل الفقرة السابقة عليها.
{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيما تدعوا فله الأسماء الحسنى }.
والمراد أن يكون الدعاء وسطا بين الجهر الذي يوقظ النائم ويزعجه، أو يجر إلى الرياء، وبين الإسرار الذي لا يسمعه الداعي، ويكون أشبه بالهمس غير المفهوم. وهذا ما رواه مسلم.
وأخرج البخاري ومسلم أن هذه الآية نزلت ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه، ورفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون؛ سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به. فقال الله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك }. فيسمع المشركون قراءتك، ولا تخافت بها عن أصحابك. [أي: أسمعهم القرآن] ولا تجهر ذلك الجهر، وابتغ بين ذلك سبيلا، وبين الجهر والمخافتة.
وهذان السببان أصح ما ورد في نزول الآية.
وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مر ليلة باب بكر وهو يصلي يخفت صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته، فلما اجتمعا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال: يا أبا بكر ممرت بك وأنت تصلي تخفت صوتك، فقال له: يا رسول الله قد أسمعت من ناجيت. وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك فقال يا رسول الله: أوقظ الوثنان وأطرد الشيطان. فقال ( صلى الله عليه وسلم ): يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا. وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئا".
ولعل هذه الحادثة كانت بعد نزول الآية، فأراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرشدهما إلى تطبيقها.
أما الصلاة المفروضة التي يجهر فيها فهي: الصبح والجمعة والركعتان الأوليان من المغرب والعشاء.(1/247)
والتي يسر فيها ما عدا ذلك، وهي: الظهر والعصر والركعة الثالثة من المغرب، والركعتان الأخيرتان من العشاء.
والجهر يكون في قراءة الفاتحة، وفى السورة، أو الآية التي تليها.
أما الأذكار والأدعية فيها فهي سرية إلا في قنوت الصبح والذي يجهر هو المنفرد، وكذا الإمام.
أما المأموم فهو يسر أبدا في قراءته.
والحكمة في السر في الصلاة ما كان عليه الحال في مكة لإيذاء المشركين لمن كان يصلون ويجهرون في القراءة فيها، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين، فبقيت في السفر على ذلك، وزيدت في الحضر.
والكفار كانوا مشغولين عن المصلين قبل طلوع الشمس؛ لأنهم نائمون فبقي الجهر في صلاة الصبح كما كان.
وكذلك كانوا مشغولين بعد غروب الشمس بالنوم أو السهر الخاص فبقي الجهر في المغرب والعشاء كما كان.
وصلاة الظهر وصلاة العصر في وضح النهار، فشرع السر فيهما؛ خشية إيذاء الكفار.
أما الجمعة، فشرعت صلاتها في المدينة أو بعد الهجرة، وكان شرعها في قوله {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
والنداء لها وللصلوات الأخرى في الآذان شرع في المدينة، على أن كثرة المصلين للجمعة فيها قوة ترهب عدوهم أن ينالهم بسوء كما كان الحال في مكة.
وإذا كان الأمن قد استتب في المدينة، ولم يعد هناك خوف من المشركين عند الجهر بالقراءة نهارا فإن التشريع بقى تسجيلا لفترة من التاريخ.
وشكرا لله على النعمة كلما تذكرنا ما كان عليه المسلمون في مكة، وما آل إليه الإسلام بعد ذلك من نصر وقوة.
والله أعلم .(1/248)
س:هل يجوز لنا في الصلاة أن نقرأ سورة بعد سورة عكس ترتيب المصحف ؟
ورد في الصحيح أن حذيفة صلى خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة "فسمعه قرأ في الركعة الأولى البقرة، ثم افتتح النساء، ثم افتتح آل عمران، ثم ركع". رواه مسلم وغيره.
قال القاضي عياض: إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم، وإنه لم يكن من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك نص، ولا تحرم مخالفته، ثم قال: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة واحدة، ولمن يتلوا في غير الصلاة قال القاضي عياض: وقد أباحه بعضهم وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوثا على من يقرأ من آخر السورة.
ولا خلاف في أن ترتيب آيات في كل سورة بتوقيت من الله ـ تعالى ـ على ما بني عليه الآن في المصحف، وكذلك نقلته الأمة عن نبيها ( صلى الله عليه وسلم).
وبهذا يعلم أن مخالفة ترتيب المصحف في قراءة السور ليست محرمة؛ بل هي مكروهة فقط. والكراهة مرتبة أقل من الحرمة بمعنى: أنها لا مؤاخذة عليها.
أما مخالفة الترتيب في قراءة الآيات فلم أر حديثا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيها؛ بل الوارد إنما هو عن السلف.
وقد جاء في (النهاية) لابن الأثير، وفى حديث ابن مسعود قيل له: إن فلانا يقرأ القرآن منكوثا فقال: ذلك منكوث القلب. قيل: هو أن يبدأ من آخر السورة حتى يقرأها إلى أولها. وقيل: هو أن يبدأ من آخر القرآن، فيقرأ السور، ثم يرتفع إلى البقرة. هذا ما قاله ابن الأثير.
وقد علمنا أن الثاني ليس بمحرم وأن الأول هو المنهي عنه.
والله أعلم .(1/249)
س: رجل يقول: رأيت بعض المصلين يمسكون المصحف الشريف بأيديهم ويقرءون منه، ثم يغلقونه ويضعونه في جيوبهم أو على كرسي، ثم يأخذونه مرة أخرى. فما رأي الدين في ذلك، وهل يصح هذا في صلاة الفرض، أم في النفل ؟
معلوم أن قراءة بعض القرآن بعد الفاتحة سنة في الركعتين الأوليين من الصلاة وذلك للإمام والمنفرد، ولو تركت القراءة فالصلاة صحيحة، وإن قل ثوابها.
وإذا أحب المصلي أن يقرأ، فليقرأ ما يحفظه، ولو كرره في الركعات والصلوات ولا يلزمه تغيير ما يحفظه، فإذا أراد أن يقرأ ما لم يحفظ احتاج إلى مصحف أو شيء مكتوب فيه قرآن، فهل يجوز ذلك؟
أخرج الإمام مالك أن زكوان مولى السيدة عائشة (رضي الله عنها) كان يؤمها في رمضان ويقرأ من المصحف".
ولا بأس في ذلك كما ذهب إليه الشافعي، والشرط ألا يفعل حركات تبطل الصلاة كوضع المصحف، ثم حمله وفتحه؛ ليقرأ منه، فإن ثلاث حركات ليس بينهما فاصل كبير تبطل الصلاة.
وقد يستعان على عدم كثرة الحركات بوضع المصحف بالخط الكبير على شيء مرتفع أمام المصلي ليقرأ منه الصفحة والصفحتين، ولا يحتاج إلى تقليب الأوراق كثيرا، والقيل من التقليب لا يبطل الصلاة.
قال النووي في (المجموع): ولو قلب أوراق المصحف أحيانا في صلاته لم تبطل.
من هذا نرى:
أن القراءة في الصلاة من المصحف جائزة عند المالكية، ولكن محل ذلك هو في التراويح والنوافل.
أما في صلاة الفرض فمكروهة؛ لكن الصلاة صحيحة، وكذلك جائزة عند الشافعية والحنابلة كالمالكية في الجواز في النفي والكراهة في الفرض مع صحة الصلاة.
أما الحنفية فقد نقل عن الإمام أبي حنيفة أنها تبطل الصلاة إذا لم يكن حافظا؛ لأنه عمل طويل ولأن التلقن من المصحف كالتقلن من غيره.
ومثل الحنفية الظاهرية في البطلان ومن أدلة الموجزين ما سبق ذكره عن مولى السيدة عائشة. وأخرجه مالك.
وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف؟
فقال: كان خيارنا يقرءون في المصحف.(1/250)
ومن أدلة المانعين ما رواه ابن أبي داود في كتاب (المصاحف) أن ابن عباس قال: نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصاحب.
وروي عن بعض التابعين كراهته والشرط عند الجواز عدم الفعل الكثير.
والأولى أن يكون ذلك لغير الحافظين، وفى النوافل واختلافهم رحمة.
والله أعلم .(1/251)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، المسلمون الذين لا يعرفون اللغة العربية، هل يجوز لهم قراءة القرآن الكريم مترجمة في الصلاة ؟
من المعلوم أن قراءة شيء في الصلاة ركن من أركانها لا تصح بدونه.
وقد حدد جمهور الفقهاء هذا الركن بقراءة الفاتحة لعدة نصوص منها قوله: (صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الجماعة "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وإلى جوار هذا الركن تسن القراءة لما تيسر من القرآن بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين.
وقال العلماء لابد أن تكون القراءة باللغة العربية لمن قدر عليها، فإن عجز عن القراءة باللغة العربية، فلا يجوز أن يقرأها مترجمة بلغة أخرى، فلو فعل ذلك بطلت صلاته عند جمهور الفقهاء.
يقول: النووي في كتابه (المجموع): ترجمة القرآن ليست قرآنا بإجماع المسلمين، ومحاولة التدليل لها تكلف، فليس أحد يخالف في أن المتكلم بمعنى القرآن بالهندية ليس قرآنا، وليس ما لفظ به قرآنا، ومن خالف في هذا كان مراغما جاحدا، وتفسير شعر امرئ القيس ليس بشعره. فكيف تفسير القرآن يكون قرآنا.
ولا خلاف في أن القرآن معجز، وليس في الترجمة معجزة.
ونقل عن أبى حنيفة جواز القراءة بالترجمة في الصلاة لمن كان قادرا على القراءة باللغة العربية، أو غير قادر، مستدلا ببعض الآيات ليست نصا في المدَّعَى وقال المحققون: إن أبا حنيفة رجع عن رأيه، فلم يجز القراءة بغير العربية إلا لمن عجز عنها.
وعلى هذا فلا يكون عند الأحناف إلا قول واحد وهو جواز قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة للعاجز عن العربية.
أما القادر عليها فلا يجوز له باتفاق الفقهاء، وقال أحد الكبار المعاصرين من العلماء: إن الأئمة الأربعة اتفقوا على أن القادر على العربية إذا قرأ بغيرها في الصلاة فسدت صلاته.
وعلى أن العاجز عنها إذا قرأ بغيرها ما كان قصة أو أمرا أو نهيا فسدت صلاته؛ لأن من أتى به ليس قرآنا وهو من كلام الناس فيفسد الصلاة.(1/252)
ولم يختلفوا إلا فيما إذا كان المقروء ذكرا أو تنزيها.
فالأئمة الثلاثة قالوا: بفساد الصلاة، وأبو حنيفة وأصحابه قالوا: بجواز الصلاة؛ لأن العاجز عن العربية حكمه حكم الأمي، فلا قراءة عليه وإذا أتى بذكر بأية لغة؛ لا تفسد صلاته، فكذلك من كان في حكمه.
والله أعلم .(1/253)
س:فضيلة الشيخ عطية، ما حكم المرور بين يدي المصلي، وما حكم اتخاذ ساتر أو سترة أمامه، وبما يتحقق هذا الساتر، وهل للمصلي أن يدفع المار أمامه حتى لا يمر ؟
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه".
وفي رواية البزار بسند صحيح "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفا خير له من أن يمر بين يديه".
قال المحققون: إن التحريم يكون إذا صلى الإنسان أما ساتر اتخذه أمامه، أما إذا لم يتخذ ساترا فلا يحرم المرور، وإن كان الأولى تركه.
ومن ذهبوا إلى تحريم المرور، سواء اتخذ المصلي ساترا أو لم يتخذ، قالوا: إن المنطقة المحرمة هي التي بين قدمي المصلي إلى موضع سجوده، أما ما بعد ذلك،فلا حرمة في المرور فيه هذا.
وحرمة المرور أمامه من الكبائر، والأربعون التي جاءت في الحديث تحتمل أربعين يوما أو شهرا أو سنة؛ لأن الراوي لم يستفسر ممن سمع الحديث.
وقال الحافظ بن حجر: ظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا، ولو لم يجد مسلكا؛ بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته.
وقد استثنى الحنابلة من الحرمة ما لو كان ذلك في المسجد الحرام بل في مكة كلها والحرم، وذلك لحاجة الناس إلى المرور وبخاصة من يريدون الصواب وخصه المالكية بمن لم يتخذ سترا.
ومما يشفع لهذا ما رواه ابن حبان في صحيحه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) حين فرغ من الطواف صلى ركعتين عند حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطوافين أحد هذا.
ويستحب للمصلي أن يجعل بين يديه ساترا يمنع المرور أمامه واستحباب جعل الساتر يستوي فيه؛ خشية مرور أحد وعدم الخشية كما قال الشافعية والحنابلة.
وقال الحنفية والمالكية: إذا أمن مرور أحد فلا يستحب.
ويشرع للمصلي الذي اتخذ ستارا أو ساترا أن يدفع المار بين يديه؛ إذا كان مروره بينه وبين الساتر.(1/254)
أما إذا كان بعد الساتر فلا يدفعه ولا يضر المرور.
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى، فليقاتله فإنما هو شيطان".
والله أعلم .(1/255)
س:فضيلة الشيخ عطية، يقول البعض إن مرور الكلب أو الحمار أو المرأة أمام المصلي يبطل الصلاة. هل يوجد نص قرآني أو حديث شريف يؤيد هذا القول، وإذا وجد، فلماذا هؤلاء الثلاثة، دون غيرهم؟
روى مسلم وغيره عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل".
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود".
قال عبد الله بن الصامت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا بن أخي، سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان".
وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة".
ورويا عن ابن عباس أنه قال: أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي فمررت على بعض الصف، ونزلت وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف فلم ينكر على أحد.
وروى أبو داود عن الفضل بن عباس قال: أتاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونحن في بادية، فصلى في صحراء، ليس بين يديه ساتر، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه فما بالا ذلك".
أمام هذه الأحاديث التي وردت في كتب الصحاح من رواية البخاري ومسلم.
رأى الأئمة الثلاثة أن: الصلاة لا تبطل بمرور شيء من هذه الثلاثة المذكورة، ولا من غيرها.
وقد روى أبو داود عن أبي سعيد قوله (صلى الله عليه وسلم): "لا يقطع الصلاة شيء".
ورأى أحمد بن حنبل بطلان الصلاة بها استنادا إلى حديثي أبي هريرة وأبي ذر.
ورد على حديث عائشة: بأن البطلان بالمرور لا باللبس، وهو في التطوع بصلاة الليل و هو أسهل.(1/256)
وعلى حديث ابن عباس بأن: سترة الإمام سترة لمن خلفه، وعلى حديث أبى سعيد بأنه ضعيف، وإن كانت تفرقته بين الفرض والنفل لم يسلم بها أتباعه.
وتمسك الحنابلة بهذا الحكم بشدة لدرجة أنهم رووا حديثا عن أبي داود عن ابن عباس قال الراوي: أحسبه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر فيه غير الثلاثة وهو: "إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير والمجوسي واليهودي والمرأة ويجزي عنه إذا مروا بين يديه قذفة بحجر".
لكن ابن قدامة رفض هذا الحديث؛ لعدم الجزم برفعه، وفيه ما هو متروك بالإجماع، وهو ما عدا الثلاثة المرأة والكلب والحمار.
وفي (هامش المغني) عن هذا الحديث إن زيادة الخنزير والمجوسي واليهودي فيها نكاره.
وأرى أن: الحديث الخاص بهذه الثلاثة لا يقصد منه إبطال الصلاة؛ بل قد يكون المقصود إبطال الخشوع فيها، أو إبطال الكمال لما يحدث للمصلى من خوف من هذه الحيوانات، واشتهاء للمرأة، وفيه حس على اتخاذ السترة ؛حتى لا تسمح بمرور هذه الأشياء أمامه.
ولفت نظري ما ذكره ابن قدامه أن عائشة قالت معترضة على هذا الحكم: عدلتمونا بالكلاب والحمر!! مع أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي وهي معترضة أمامه".
وأقول: ليست التسوية في التحقير أبدا، فالفرق كبير.
ولكن الموضوع أساسه الاحتياط؛ لعدم الانشغال في الصلاة رهبا في مثل الكلب الأسود والحمار، ورغبا في مثل المرأة وأثرها في الانشغال لا ينكر، ومقام والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يأبى الانشغال بمثل ذلك، فما كان يبالي كما تذكر الروايات.
ولكن غيره يتأثر في أغلب الأحوال على الوجه المذكور.
والله أعلم .(1/257)
س:هل يجوز للإنسان أن يقطع صلاته إذا ناده أبوه أو أمه لأمر مهم، أو هل يرد عليهما أثناء الصلاة: بأنه يصلي، أو يخبرهما بشكل أو بآخر أنه يصلي ؟
لا يجوز عند جمهور الفقهاء قطع الصلاة المفروضة لإجابة أحد والدي المصلى.
أما صلاة النافلة فيجوز قطعها؛ لإجابة الأم اعتمادا على حديث جريج العابد الذي نادته أمه في الصلاة فلم يجبها؛ فدعت عليه.
والأب كذلك إذا نادى ولده وهو في الصلاة، بل قال إمام الحرمين: يجيبهما حتى لو كان في الفريضة، ما دام في الوقت متسع لها.
ولا يجوز الرد عليه أثناء الصلاة بقوله: أنا أصلي وإلا؛ بطلت صلاته.
والدليل عليه حديث مسلم "إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير و قراءة القرآن".
والله أعلم .(1/258)
س: إذا تعرض المصلي لخطر من حيوان مؤذ أو مفترس مثل: الأسد أو الثعبان أو العقرب، أو رأى من سيسرق متاعه. هل يجوز له قطع الصلاة، وهل يجوز له أن يكملها بعد التخلص من الخطر، أو عليه أن يصليها من جديد، وهل يجب لقطعها أن يسلم حتى لو كان واقفا؟
من رأى عقربا تقترب وهو مصل ويخشى أن تلدغه وجب عليه أن يقتلها؛ لحديث "اقتلوا الأسودين في الصلاة". وهما: الحية والعقرب. رواه أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح.
ولا تبطل الصلاة بهذا العمل؛ لأنه للضرورة.
وجاء في (نيل الأوطار) للشوكاني: أن الحديث يدل على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة من غير كراهة.
وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء كما قال العراقي.
وعن قتادة أنه قال: إذا لم تتعرض لك فلا تقتلها.
بل روي عن ابن عمر أنه رأى ريشة وهو يصلي، فظن أنها عقرب فضربها بنعله.
ومنع بعض العلماء ذلك محتجين بحديث "اسكنوا في الصلاة".
وفى الحديث "إن في الصلاة لشغلا". رواه أبو داود.
ولكن الجمهور ردوا عليهم بأن:
هذه الأحوال مخصصة لعموم هذا الحديث.
وهكذا يقال في كل فعل كبير ورد الإذان به كحديث حمده ( صلى الله عليه وسلم) لأمامة في الصلاة، وكذلك خلعه لنعله، وصلاته على المنبر، ونزوله للسجود، ورجوعه بعد ذلك.
وحديث أمره بدرء المار أمام المصلي، وإن أفضى إلى المقاتلة.
وحديث مشيه لفتح الباب لعائشة، وكان مغلقا، وكان الباب جهة القبلة، وبعد الفتح عاد إلى مقامه.
والله أعلم(1/259)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، إذا كان الإنسان في الصلاة فما الأصح، أن ينظر في السماء، أم ينظر أمامه، أم ينظر محل سجوده ؟
تحدث القرطبي في تفسيره لقوله ـ تعالى: { فول وجهك }(1/260)
س: فضيلة الشيخ عطية صقر، يشكو كثير من الناس ظاهرة شرود ذهنهم وهم في الصلاة، فيفكرون في أمور كثيرة لم يكن يفكرون فيها قبل دخولهم في الصلاة. فهل هناك من سبب لذلك ؟
شرود الذهن وعدم تركيز الفكر فيما يؤديه المصلي في صلاته من أقوال وأفعال، أمر يعرض لكل الناس، وإن كان بمقادير مختلفة، وفى موضوعات متنوعة، وذلك في حكم التكوين الطبعي للإنسان في تداعي المعاني والأفكار، والذي هو من مظاهر النشاط العقلي؛ حيث يشتد وينشط كلما كثرت المشكلات وتعقدت الأمور.
ولا تكاد تنقطع سلسلة التفكير عن الإنسان حتى في نومه، حتيث تكون الرؤى والأحلام التي هي في الغالب انعكاس لما يجري في اليقظة.
ومن المواقف التي تفرض على المؤمن أن يحصر ذهنه ويستجمع فكره فيها مناجاته لربه في الصلاة، وعند الدعاء، وذلك لمقام من يصلي له أو يدعوه، ولدقة المجازاة على ما يصدر منه وقت ذاك، وهو ما يشير إليه معنى الخشوع الذي مدح الله به المؤمنين في مثل قوله ـ تعالى: { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}.
ولكن هل يستطيع كل إنسان أن يحقق في صلاته كلها الخشوع التام؟
إن هذا الخشوع إذا أمكن أن يتحقق عند بعض الصفوة من المؤمنين، أو في بعض الصلوات دون بعضها الآخر، فإنه صعب عند غيرهم من الناس. وما أكثرهم.
والدليل على ذلك إلى جانب الواقع الذي يحسه كل الناس، ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) من قول، وما ثبت عنه من فعل.
فقد روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ما معناه: "إذا نودي بالصلاة يعني: بالآذان أدبر الشيطان وله صوت يخرج منه حتى لا يسمع الآذان فإذا قضي الآذان، أقبل فإذا ثوب أي: أقيمت الصلاة، أدبر فإذا قضي التثويب، أقبل، حتى يكون بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا لما لم يكن يذكره من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى".(1/261)
وقد ثبت في الصحيحين تعرض الشيطان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليقطع عليه صلاته، فرده الله خاسئا.
وكذلك روى الجماعة إلا الترمذي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في ضمن ما قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني".
وروى البخاري ومسلم وغيرهما أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى إحدى الصلوات الرباعية ركعتين وسلم ونبهه ذو اليدين بقوله: يا رسول الله أنسيت أم كصرت الصلاة؟ فقال: "لم أنس ولن تقصر".
ولما استوثق من القوم دخل في الصلاة، وأتمها.
فالحديث الأول يدل على أن الإنسان معرض في صلاته للسهو بسبب الشيطان، والحديثان الآخران يدلان على وقوع السهو منه ( صلى الله عليه وسلم ) "وأما ما ورد من قوله: "إني لا أنسى ولكن أنسا لأسن". فقد قال الحافظ بن حجر عنه: لا أصل له.
إن شرود الفكر في الصلاة أمر جائز وواقع، وينبغي أن يحاول المصلي التخلص من الاسترسال فيه بقدر ما يستطيع.
وقد صح في الحديث الترغيب في ذلك "من صلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري ومسلم.
وقد علق النووي عليه بأن المراد عدم تحديث نفسه بشيء من أمور الدنيا وما لا يتعلق بالصلاة.
ومما جاء في عدم خطورة التفكير الدنيوي في الصلاة ما ذكره ابن القيم في كتابه (زاد الميعاد) أن عمر (رضي الله عنه) قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
ووضح ذلك بقوله: فهذا جمع بين الجهاد والصلاة.
ونظيره في التفكير في معاني القرآن الكريم، واستخراج كنوز العلم منه في الصلاة فهو جمع بين الصلاة والعلم.
والله أعلم .(1/262)
س:هذه الأفكار التي تشد الإنسان عن صلاته. هل تبطلها، أو تقلل من ثوابها ؟
انشغال الفكر أثناء الصلاة بأمور الدنيا وإن كان مذموما، لا يبطل الصلاة؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سها في الصلاة وخرج منها، دخل فيها وأكملها بعد أن تذكر ولم يستأنفها من الأول.
وبين أن من حدث له ذلك يتم الصلاة، ويسجد للسهو، فقد جاء في الحديث "وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين". رواه الجماعة إلا الترمذي.
كما أن شعائر الإسلام مبنية على الظاهر، أما الباطن فموكول إلى الله يثيب أو يعاقب عليه.
والله ـ سبحانه ـ لم يأمر المنافقين بإعادة الصلاة مع أنها كما قال الله في وصفهم: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }.
وإذا صحت سورة الصلاة من المنافقين فإن صحتها من المؤمنين الساهين أولى، نعم الثواب متروك أمره إلى الله، ولكن لا نلزم نحن بإعادتها.
فمن أراد أن يعيدها لتحصيل الثواب؛ فشأنه ذلك.
وأرجو ألا يسهو في المرة الثانية، ثم يستولي عليه الوسواس؛ فيعيدها مرات.
فهذا هو المختار للفتوى؛ لأن إبطال الصلاة للسهو فيه عسر وحرج والإسلام دين اليسر.
وإن كان الإمام الغزالي، وغيره من رجال التصوف يحكمون ببطلانها موجهين رأيهم بأن السهو ينافي الخشوع، والخشوع روح الصلاة، فكيف يعتد بصلاة لا روح فيها!!
وهذا الرأي مبني على أن:
الخشوع في كل الصلاة ركن من أركانها، وأن السهو ينافيه فتبطل، وقد أجاب أصحاب الرأي الأول بأن: الخشوع المفروض الذي يستطيعه كل إنسان هو عند الدخول في الصلاة بتوجه القلب إلى فعلها.
وأما ما ذكر؛ فهو لكمال الثواب فقط.
والله أعلم .(1/263)
س:هل هناك من وسيلة يمكن بها التخلص من هذه الأفكار ؟
والذي يساعد المصلي على عدم السهو والغفلة هو: استشعاره عظمة الله ـ سبحانه ـ والخوف منه إذا سها عنه.
ودفع الخواطر يكون بدفع أسبابها ومصادرها، وهذه قد تكون عارضة خارجية: كالأصوات الشديدة من الإذاعة والسيارات في الشوارع والأسواق وما إليها.
والعلاج هو: البعد عن مصادرها، وكالمناظر الخلابة: كالفراش المنقوش، والصور المعلقة أمام المصلي.
والعلاج يكون بالتنحي عنها، ويساعد عليه تركيز النظر إلى موضع السجود، والقرب من الجدار؛ حتى لا يكون أمامه ما يشغله، وعدم الالتفات وما إلى ذلك مما يصرف عن التركيز.
وثبت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لبس خميصة أتاه بها أبو جهم، وعليها علم وصلى بها، ثم نزعها بعد صلاته وقال: "اذهبوا بها إلى أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنافا عن صلاتي وأتوني بأنبجانية أبي جهم". رواه البخاري ومسلم.
ولم يثبت أنه أعاد الصلاة التي ألهته فيها الخميصة.
وقد تكون أسباب الخواطر في داخل الإنسان نفسه، وليست عارضة من الخارج، وأكثرها رواسب أو ذيول لمؤثرات سبقت الدخول في الصلاة.
والعلاج يكون بطرح الهموم والشواغل قبل القيام إلى الصلاة، وذلك يحتاج إلى فترة مناسبة، وقد يكون الاشتغال بالوضوء لونا من التمرس على نسيان هذه الشواغل، أو التقليل من أثرها.
روى أبو داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعثمان بن طلحة: "إني نسيت أن أقول لك: تخمر القدر الذي في البيت؛ ذلك أنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الناس عن صلاتهم".(1/264)
ومع العمل على طرح هذه الهموم قبل الصلاة؛ ينبغي أن يحل محلها تفكير آخر، وهو يكون بفهم ما يقوله المصلي ويفعله، وبقدر ما يدرك من ذلك يكون خشوعه وثوابه وإحساسه بحلاوة الصلاة وخفتها، وعدم الشعور بثقلها، يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقوم في صلاته فيعلم ما يقول؛ إلا انفتل وهو كما ولدته أمه". رواه مسلم وغيره.
ومعنى انفتل: خرج من الصلاة.
والله أعلم .(1/265)
س:رب قائل يقول: ما دام الإنسان لا يستطيع طرد أفكاره الدنيوية وهو في الصلاة، ويضيع ثوابه أو يقل، فلا داعي للصلاة التي لا ثواب فيها. فهل هناك من جواب على ذلك ؟
إن الخشوع في الصلاة يحتاج إلى مجاهدة قوية، ومهما يكن من نتائجها فإن للمصلي نصيبا وإن لم يبلغ الغاية، والله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يمرن بخيال أحد أن الإخفاق في هذه المجاهدة يوحي باليأس، أو يوعذ بالقعود عن الصلاة ما دامت لا ترجى منها فائدة لتحقيق الخشوع الذي يفلح به المؤمنون.
فإن الصلاة مع المجاهدة ولو قل شأنها فيها فائدتان:
أولاهما ـ الثواب على ما جرى على لسان المصلي من ذكر وقراءة وعلى حبس نفسه في الصلاة عن عمل الدنيا من أجل الآخرة.
وثانيتهما ـ رجاء النجاح في المجاهدة؛ فإن كثرة المحاولة قد تؤدي إلى الخشوع المطلوب، أو تقرب منه كما يقال: الحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم.
وأول الغيث قطر، ثم ينهمر، والميسور لا يسقط بالمعسور.
ويعجبني في هذا المقام: ما جاء في حكم ابن عطاء الله السكندري المتوفى سنة 707 هـ وفى شرح ابن عجيبة: لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره؛ أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غفلة عما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز.
والله أعلم(1/266)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، قد يعطس الإنسان وهو في الصلاة. فهل يحمد الله، وإذا عطس غيره، هل يقول له: يرحمك الله ؟
العطاس: أمر قهري في الغالب لا يتحكم فيه إنسان، وهو نعمة يسن حمد الله عليها حتى لو كان في الصلاة، ويسمع نفسه بالحمد، كما قال النووي في كتابه (الأذكار) وذلك على مذهب الإمام الشافعي.
وبالتالي لا تبطل الصلاة بالحمد، فهي كلها موضع لذكر الله.
وقال النووي: لأصحاب مالك ثلاثة أقوال:
أحدها ـ هذا، واختاره ابن العربي.
والثاني ـ يحمد في نفسه.
والثالث ـ قاله سحنون: لا يحمد جهرا ولا في نفسه.
روى البخاري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله؛ فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم". وهذا في خارج الصلاة.
أما في أثناء الصلاة، فلا يسن تشميته، وإن شمته؛ بطلت صلاته عند جمهور الفقهاء، سواء قال: يرحمك الله، أو يرحمه الله، أو يرحمنا الله.
والشافعي يبطل الصلاة؛ إذا كان التشميت بكاف الخطاب أي: بالصيغة الأولى من هذه الصيغ الثلاثة، ولا تبطل بالصيغتين الأخرين والأولى اتباع رأي الجمهور.
والله أعلم .(1/267)
س:فضيلة الشيخ عطية، لو أردنا أن نتعرف على الأفضل بالنسبة للمرأة. هل صلاتها في بيتها، أم في المسجد ؟
ورددت عدة أحاديث ترغب المرأة في صلاتها في بيتها منها:
أولا ـ قالت أم حميد، امرأة أبي حميد الساعدي: "يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك. فقال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي. وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك. وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك. وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك. وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي". قال الراوي: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، وكانت تصلي فيه، حتى لقيت الله (عز وجل). رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وبوب عليه ابن خزيمة باب (اختيار صلاة المرأة في حجرتها على صلاتها في دارها، وصلاتها في مسجد قومها على صلاتها في مسجد النبي) ( صلى الله عليه وسلم ).
وإن كانت الصلاة في مسجد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد ما عدا المسجد الحرام.
وفيه دليل على أن قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد". إنما أريد به: صلاة الرجال دون صلاة النساء.
وثانيا ـ جاء حديث "خير مساجد النساء مقر بيوتهن". رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم وصححه.
حديث آخر: "ما صلت المرأة من صلاة أحب إلى الله من أشد مكان في بيتها ظلمة". رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه.
أيضا حديث يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن". رواه أبو داود عن ابن عمر.
هذه الأحاديث، وغيرها تدل على:
جواز صلاة المرأة في المسجد، لكن صلاتها في بيتها أفضل، وكلما كانت بعيدة عن العيون كان أفضل، هذا في الصلاة.(1/268)
أما ذهابها إلى المسجد، وتعلم العلم وسماع خطبة الجمعة ـ مثلا ـ فهذا شيء آخر، فإذا لم يتيسر لها التعلم في بيتها عن طريق: القراءة، أو سماع الأحاديث الدينية أو مشاهدتها في الإذاعة المسموعة والمرئية، كان لها أن تذهب إلى المسجد أو المدرسة للتعلم.
وعليه يحمل الحديث الأخير في النهي عن منع النساء من الذهاب إلى المساجد.
ومثله حديث رواه مسلم "إذا استأذنت نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن". وكل ذلك بشرط إذن الزوج، وعدم الخوف عليها من الفتنة، والتزامها الآداب الشرعية المعروفة.
وكانت المرأة أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ملتزمة ذلك، لكن بعد وفاته قصر بعضهن؛ ولذلك قالت السيدة عائشة (رضي الله عنها) كما رواه مسلم: "لو أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ما أحدث النساء؛ لمنعنهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل".
ويفسر النووي ما أحدثه النساء بالزينة والطيب، وحسن الثياب؛ ولذلك جاء في حديث رواه أحمد وأبو داود "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن كسيلات أي: غير متزينات".
وفى حديث مسلم "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا". وفى حديث ابن خزيمة في صحيحه "لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغسل".
والله أعلم .(1/269)
س:يقول الله ـ سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد }. فهل يجوز للمرأة أن تصلي بالمكياج عملا بما في الآية باعتباره من الزينة ؟
جاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه مسلم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني <كطوافا> تجعله على نفسها؛ فنزلت هذه الآية الكريمة.
ومن زينة المرأة ما تستعمله من أصباغ ودهون وعطور. فهل يجوز لها أن تصلي بها؟
نعم يجوز ما دامت صلاتها في بيتها أو في مكان ليس فيه رجال أجانب، بشرط أن يكون المكياج بعد الوضوء أو الغسل.
أما قبل ذلك فلابد من إزالته؛ حتى يصح التطهر، ولا يجوز بعد الصلاة أيضا أن تظهر للأجانب بهذه الزينة؛ حتى لا يضيع ثواب الصلاة أو يقل.
والله أعلم .(1/270)
س:رجل يقول: طبيعة عملي تلزمني كثرة السفر عن طريق ركوب الطائرات و البواخر والقطارات. فكيف أصلي في هذه الوسائل، وإذا جاز لي الصلاة في الطارئة ـ مثلا ـ فالمعروف أنها تحلق في الجو، وهي غير ملامسة للأرض، فيصبح السجود على الهواء. هل يجوز ذلك ؟
الصلاة جائزة في الطائرة وهي محلقة في الجو، وبالأولى إذا كانت رابضة على الأرض.
والمالكية لا يجوزونها فيها وهي في الجو؛ لأن شرط السجود عندهم: أن يتصل المسجود عليه بالأرض اتصالا حقيقيا.
ورأي الجمهور أقوى، والإنسان يضطر إلى الصلاة في الطائرة إذا لم يأخذ برخصة الجمع بين صلاة الظهر والعصر، وبين صلاة المغرب والعشاء، أو كان تحليقها في وقت الفجر الذي لا يجمع مع غيره.
ومهما يكن من شيء: فإن التطهر للصلاة لابد منه إن أمكن بالماء فيها، وإلا فيكون بالتيمم، ويتحرى اتجاه، والملاحون يعرفون ذلك بالتقريب، إن لم تكن معه بصلة يتعرف بها القبلة.
وزمن أداء الصلاة قصير؛ لأن الرباعية تصلى ركعتين قصرا فإن لم يستطع الصلاة من وقوف لحصول دوار ـ مثلا ـ فليصل قاعدا.
والمهم أن الصلاة ممكنة في الطائرة؛ إذا أراد أن يحافظ على الصلاة، وليست فيها مشقة حتى يجوز تأخيرها إلى حين الهبوط وانتهاء الرحلة.
والله أعلم .(1/271)
س:فضيلة الشيخ عطية، نرى بعض المصلين أثناء السجود يكون أحد قدميه نائما غير منتصب، وأحيانا يكون القدمان نائمين. فهل الصلاة بأي وضع تكون صحيحة، وما شكل السجود الصحيح ؟
السجود في الصلاة ركن من أهم أركانها، وهو فرض بالنص، والإجماع، ولابد فيه من الطمأنينة كما علم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة لرجل رآه يسيء صلاته، وأجمعت الأمة على هذا.
والطمأنينة أقلها زمن يسع: سبحان الله.
ولم يقل بفرضيتها أبو حنيفة؛ لعدم ذكرها في القرآن، والحد الأدنى في السجود أن يضع جزءا من جبهته على الأرض عند الجمهور.
وأوجب أبو حنيفة وضع أكثر الجبهة مع التحامل عليها من الحديث الذي رواه أبو حبان في صحيحه "إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض، ولا تنقر نقرا، ولابد أن تكون الجبهة مكشوفة غير مغطاة". وهل يجب السجود على أعضاء أخرى غير الجبهة؟
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ): "أمرت بالسجود على سبعة أعظم: اليدين والركبتين والقدمين والجبهة".
هناك للشافعية قولان:
الأظهر عند الرافعي: لا يجب السجود على غير الجبهة والأظهر عند النووي: الوجوب.
وعلى ما صححه النووي: الاعتبار بباطن الكف في اليدين، وببطون الأصابع في القدمين، ولا يكفي ظهر الكف ولا ظهر الأصابع، ويكفي وضع جزء من كل هذه الأعضاء كإصبع واحدة.
والحنفية قالوا: الواجب هو: إحدى اليدين وإحدى الركبتين وإحدى القدمين، والسنة أن يكون السجود بالكل.
والمالكية قالوا: السجود على غير الجبهة سنة غير واجب.
والحنابلة قالوا مثلما قال الشافعية: فإن عجز عن السجود عن بعض هذه الأعضاء سجد على بقيتها، وفى السجود على طرف الأنف خلاف. فالجمهور على عدم الوجوب.(1/272)
وعند أحمد روايتان: إحداهما ـ بالوجوب بدليل حديث البخاري ومسلم بالأمر بالسجود على سبعة أعظم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذكر الجبهة أشار بيديه إلى أنفه والثانية ـ بعدم الوجوب.
من هنا:
نرى الاتفاق على وجوب السجود على الجبهة، وما عدا ذلك من الأعضاء فيه خلاف. قيل: بالندب. وقيل: بوجوب إحدى اليدين وإحدى الركبتين وإحدى القدمين.
والدين يسر. والله أعلم .(1/273)
س:فضيلة الشيخ عطية، سمعت بعض الناس يقول: إن الصلاة بين أعمدة المسجد مكروهة. فما صحة هذا القول ؟
الصلاة بين أعمدة المسجد ليست مكروهة، لا للإمام ولا للمنفرد.
فقد صح في حديث البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين، وكان كثير من التابعين يؤمون قومهم وهم بين الأعمدة في المساجد.
وأما المؤتمون فتكره صلاتهم بين الأعمدة ،إذا كان في المسجد سعة؛ حتى لا تقطع الصفوف.
أما عند الزحام والضيق فلا مانع من أن يصلي المأمومون بين الأعمدة.
روى الحاكم وصححه عن أنس قال: كنا نُنهى عن الصلاة بين السواري، ونطرد منها.
وروى ابن ماجة في إسناد فيه مجهول: كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونطرد عنها طردا.
وروي سعيد بن منصور في سننه: النهي عن ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة.
فالخلاصة:
أن الصلاة بين الأعمدة مكروهة ما دامت هناك سعة في المسجد، وإلا فلا كراهة.
والله أعلم .(1/274)
س:هل تجوز صلاة الجنازة، وكذلك صلاة الفرائض بين المقابر، أو بالقرب منها؟
صلاة الجنازة بين المقابر صحيحة، وإن كانت مكروهة على رأي الجمهور.
وفي رواية لأحمد أنه لا بأس بها؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى على قبر وهو في المقبرة، وصلى أبو هريرة على عائشة وسط قبور البقيع، وحضر ذلك ابن عمر وفعله عمر بن عبد العزيز.
وصلاة الفرائض وسط المقابر صحيحة أيضا، وإن كانت مكروهة إذا كانت على التراب مباشرة دون فراش طاهر يصلي عليه خشية أن يكون التراب متنجسا، وكذلك لكراهة جعل القبر أمام المصلي حيث نهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم) عن اتخاذ القبور مساجد.
والله أعلم .(1/275)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نود أن نعرف: ما حكم الصلاة في المسجد الذي به قبر ؟
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وروى مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك.
وروى جماعة إلا البخاري وابن ماجة قوله: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها".
تحدث العلماء عن هذه الأحاديث، وقال بعضهم: محل الذنب أن تتخذ المساجد على القبور بعد الدفن، وليس ذلك مذموما إذا بني المسجد أولا وجعل القبر في جانبه يدفن فيه واقف المسجد، أو غيره.
لكن العراقي قال: الظاهر أنه لا فرق، وأنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد، فهو داخل في اللعنة بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدا.
وإذا كان بعض العلماء قد حمل النهي على التحريم، فإن البعض الآخر حمله على الكراهة بمعنى: أن الصلاة إلى القبر صحيحة لكن مع الكراهة.
والذين قالوا بصحتها مختلفون. فقال بعضهم: هي مكروهة سواء أكان القبر أمام المصلي أم خلفه أم عن يمينه أم على يساره.
وقال آخرون: محل الكراهة إذا كان القبر أمامه؛ لأن هذا الوضع والذي يراد من اتخاذه مسجدا، ومن الصلاة فيه أو إليه.
أما إذا كان القبر خلفه أو عن يمينه أو عن يساره فلا كراهة.
والأئمة الثالثة قالوا بصحة الصلاة وعدم كراهتها، اللهم إلا إذا كان القبر أمام المصلي فتكون مكروهة مع الصحة.
أما أحمد بن حنبل فهو الذي حرم الصلاة، وحكم ببطلانها.
ومحل هذا الخلاف إذا كان القبر في المسجد.
أما إذا كان مفصولا عنه والناس يصلون في المسجد لا في الضريح أو الجزء الموجود فيه القبر، فلا خلاف أبدا في الجواز وعدم الحرمة أو الكراهة.(1/276)
وأختار أنه إذا كان القصد من الصلاة إلى القبر تعظيمه فهي حرام وباطلة بصرف النظر عن وضع القبر، وإذا انتفى هذا القصد كانت مكروهة مع الصحة إذا كان القبر أمام المصلي، وإلا فلا كراهة.
والله أعلم .(1/277)
س:فضيلة الشيخ، هل يشترط في صحة السجود ألا يكون مكان الجبهة أعلى من مستوى الركبتين ؟
قال الحنفية: ارتفاع موضع الجبهة يكون ضارا إذا زاد على نصف ذراع، إلا لضرورة، كسجود المصلي على ظهر المصلي الذي أمامه عند الزحام، وذلك بشرط ألا يجد مكانا خاليا لوضع جبهته على الأرض، وأن يكون في صلاة واحدة وأن تكون ركبتاه على الأرض.
والشافعية قالوا: إن ارتفاع موضع الجبهة عن موضع الركبتين مبطل للصلاة إلا إذا رفع عجيزته وما حولها عن رأسه وكتفيه فتصح الصلاة.
فالمدار عندهم على تنكيس البدن وهو: رفع الجزء الأسفل من البدن على الجزء الأعلى منه في السجود، وذلك حيث لا عذر كالحامل، فالتنكيس غير واجب عليها إذا خافت الضرر.
والمالكية قالوا: إذا كان الارتفاع كبيرا ككرسي متصل بالأرض، فالسجود لا يصح على المعتمد وإن كان قليلا فلا يضر.
والله أعلم .(1/278)
س:وعند النزول للسجود، هل الأفضل أن نقدم اليدين. أم الركبتين ؟
أخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه ثم ركبتيه".
وروى الخمسة إلا أحمد عن وائل بن خضر قال: رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.
جمهور الفقهاء على وضع الركبتين قبل اليدين.
ومالك والأوزاعي والشيعة يميلون إلى وضع اليدين قبل الركبتين.
قال ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) حديث أبي هريرة انقلب متنه على بعض الرواة ولعله: "وليضعْ ركبتيه قبل يديه".
وقد جاء مرويا في مسند أبي بكر بن أبي شيبة: "إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل". هذا.
وما دام الأمر خلافيا بين الفقهاء، فلا يصح التمادي في التعصب لرأي من الآراء.
والله أعلم .(1/279)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نرى بعض المصلين يفرجون بين أقدامهم بدرجة كبيرة، وإذا كانوا في جماعة ألصقوا أرجل بعضهم بأرجل البعض الآخر فتتسع المسافة بين قدمي المصلي بصورة لافتة للنظر. فما رأي الدين في ذلك ؟
إذا كان الإنسان يصلي إماما أو منفردا كان من السنة ألا يضم قدميه عند القيام في الصلاة، بل يفرج بينهما، وذلك باتفاق الأئمة.
أما المسافة بين القدمين، فقدرها الحنفية بأربعة أصابع، فإن زاد أو نقص كان مكروها.
وقدرها الشافعية بشبر. وقال المالكية والحنابلة: يكون التفريج متوسطا بحيث لا يضم القدمين، ولا يوسعهما كثيرا؛ حتى يتفاحش عرفا.
وإذا كان المصلي مأموما في صف، فمن السنة سد الفُرَج وتراص الصفوف.
وجاء في ذلك حديث رواه البخاري ومسلم "أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري".
وجاء من رواية في البخاري فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه.
وجاء في رواية أبي داود عن النعمان بن بشير قوله: ولقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه. والكعب هو: العظم الناتئ في جانب الرجل عند ملتقى الساق بالقدم؛ لأنه هو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه.
والقول بأن الكعب هو: مؤخر القدم قول شاذ. وإلزاق أو لزق المناقب يتبعه بسهولة إلزاق الكعوب.
لكن لو تباعدت المناكب اقتضى إلزاق الكعوب التفريج بين الأقدام بمسافة كبيرة تتفاحش عرفا كما يقول المالكية والحنابلة.
وتزيد على الشبر كما يقول الشافعية، وعلى الأصابع الأربعة كما يقول الحنفية،
وذلك مكروه.
وقد يحرص بعض الأشخاص على إلزاق الكعوب على الرغم من تفاحش المسافة بين قدميه، فهو يريد فعل سنة فيقع في مكروه إلى جانب مضايقته بمن بجواره الذي حاول ضم قدميه لكنه يلاحقه ويفرج بين قدميه بصورة لافتة للنظر وقد يضع رجله ويضغط عليها .(1/280)
ومضايقة المصلي تذهب خشوعه أو تقلله، والإسلام نهى عن الضرر والضرار وتضرر بعض المصلين من إلزاق جاره رجله برجله، ذكره أحد رواة الحديث فيما أخرجه الإسماعيلي حيث قال: و لو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس.
فأرجو التنبه لذلك إبقاء على المودة وعلى المساعدة على الخشوع في الصلاة.
والله أعلم .(1/281)
س:ما الحكمة في جعل السجود ضعف الركوع في الصلاة. بمعنى: أن المصلي في الركعة الواحدة يسجد مرتين ويركع مرة واحدة ؟
العبادات نظام اختاره الله ووضحه الرسول؛ لنتقرب به إلى رب العزة سبحانه؛ ولذلك يجب فيها الاتباع والالتزام وإن كانت هناك حكمة منصوص عليها لهذا النظام كان بها، وإلا فإن عقل المؤمن يمكن أن يفكر ويستنبط الحكمة، وقد يصيب فيها وقد يخطئ، وذلك لا يغير من الحكم شيئا، ومن أجل ظهور الخضوع لله بقوة في السجود لكونه مرتين كان فضل الله عظيما للساجدين، جاء فيها الحديث الذي رواه مسلم " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء ".
ويؤكد أن تكرار السجود فيه إغاظة للشيطان قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه مسلم أيضا: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد. وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار".
وإذا كان هذا حال الشيطان عندما يسجد ابن آدم لله سجدة واحدة إذا قرأ آية فيها سجدة، فربما لا تتيسر له هذه القراءة إلا في فترات متباعدة. فكيف يكون حاله الشيطان في ذلته وحسرته إذا تكرر سجود ابن آدم في اليوم الواحد أربعا وثلاثين مرة في الصلوات المفروضة، بل يتكرر أكثر من ذلك إذا صلى النوافل!!
ومن هنا نعلم أهمية السجود الذي جاء التعبير به أحيانا عن الصلاة كلها.
فقد روى مسلم وغيره، أن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأله عن أحب الأعمال إلى الله؟ أو عن عمل يدخله الجنة؟ فقال له: عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك خطيئة".
وروى مسلم أيضا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لربيعة بن كعب لما سأله الدعاء لله بمرافقته في الجنة؟ فأعني على ذلك بكثرة السجود". والمراد الصلاة.(1/282)
وإذا كان الركوع مرة واحدة فهي كسائر أركان الصلاة يكون مرة واحدة في كل ركعة، وذلك كله من أجل الاقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) القائل: "صلوا كما رأيتموني أصلي" . رواه البخاري.
والله أعلم .(1/283)
س:فضيلة الشيخ عطية، ما جلسة الاستراحة. وهل تصح الصلاة بدونها ؟
الصلاة بأقوالها وأفعالها تشتمل على أركان واجبة الأداء، لا تصح الصلاة إذا ترك واحد منها، وذلك كالركوع والسجود كما تشتمل على سنن يندب، ويستحب فعلها، وتصح الصلاة بدونها كالتسبيحات وتكبيرات الانتقال من ركن لآخر.
فالأركان أساسية، والمندوبات كمالية، وقد قسم العلماء المندوبات الكمالية إلى أقسام بعضها أهم من بعضها الآخر.
ورأى بعضهم أن الأهم منها يعوض عند عدم الإتيان به في سجود السهو، وذلك كالقنوت في الصبح، والتشهد الأول.
ومنها ما لا يعوض إن ترك كدعاء الاستفتاح ورفع اليدين عند التكبير للركوع، وعند الرفع منه.
وذلك كله مأخوذ من أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم ) وأفعاله، وهو القائل: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
والجلوس في الصلاة قد يكون ركنا أساسيا كالجلوس بين السجدتين، والجلوس للتشهد الأخير.
وقد يكون غير أساسي، ومنه جلسة الاستراحة، وهذه الجلسة تكون بعد الرفع من السجدة الثانية عند القيام للركعة التالية.
وقد اختلف العلماء في حكمها بناء على اختلاف الأحاديث الواردة بشأنها، فقال بعضهم: إنها من سنن الصلاة فيستحب للمصلي أن يأتي بها؛ لينال ثوابا، ومن لم يأت بها لا تبطل صلاته.
وقال بعضهم الآخر: ليست من سنن الصلاة، فلا ثواب على فعلها، ولكنها مباحة لمن يحتاج إليها، كالمتعب لمرض، أو لكبر سن أو لسبب آخر.
والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأمر بها قولا، ولكن كان يفعلها أحيانا ويتركها أحيانا أخرى بدليل أن الذين رووا صفة صلاته ذكرها بعضهم، ولم يذكرها بعضهم الآخر، ولو كانت هي من عادة النبي دائما في صلاته؛ ما أهمل هؤلاء الرواة ذكرها.
من هذا نرى أن جلسة الاستراحة مرخص فيها لمن احتاج عليها.
أما ترتب ثواب على فعلها، أو عدم ترتبه فليس فيه نص يعتمد عليه.
وعلى هذا لا يجوز التعصب لها، ولا عيب يتركها؛ لأنه مخالف للسنة.(1/284)
ولعل ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لها أحيانا دليل على سماحة الإسلام، ويسره ما دامت الأساسيات مؤداة ولكل أن يزداد من الخير بما يشاء مما شرعه الدين.
والله أعلم .(1/285)
س:نرى بعض المصلين إذا سجدوا باعدوا بين اليدين وأخذوا مساحة كبيرة لدرجة يتضايق بها من يصلون بجوارهم في صلاة الجماعة. فهل هذا من السنة ؟
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن ضحينة قال: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سجد يجنح في سجوده حتى يُرى وضح إبطيه والتجنيح هو: التفريج.
والمراد: أن ينحي كل يد عن الجنب، ولا يلصقها به، ومن هنا يُرى بياض إبطيه.
يقول القرطبي: والحكمة في استحباب هذه الهيئة أن يخف اعتماده على وجهه، ولا يتأثر أنفه ولا جبهته.
وقال غيره: هو أشبه بالتواضع مع مغايرته لهيئة الكسلان*.
والمهم أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفرج بين يديه عند السجود ويجافيهما عن جنبه، وينبغي أن يكون التفريج و المجافاة بحيث لا يتأذى أحد، كمن يصلي بجواره في الجماعة مثلا.
فالضرر منهي عنه وذلك على غرار ما جاء في التفريج بين القدمين عند الوقوف في الصلاة حيث اتفق الجميع على أنه إذا كان متفاحشا أي: واسعا جدا، كان مكروها .
والله أعلم .(1/286)
س:رجل يقول: بعض المساجد تتكون من عدة أدوار، والمأموم لا يرى الإمام، ولكن يعلم بأعماله من خلال مكبر الصوت، وأنا أسكن فوق مسجد. فهل يصح لي الصلاة في شقتي خلف الإمام، وسوف أعلم من خلال مكبر الصوت بأعماله ؟
صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، وقد بين الحديث سبب مضاعفة الثواب بقوله، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، وإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ينتظر الصلاة.
فالحديث يحث على صلاة الجماعة في المسجد حتى يضاعف الثواب بالخطوات، والانتظار فيه حتى تقام الصلاة، وبعد الصلاة لختامها.
وهذه المضاعفة لا توجد في صلاة المنفرد في بيته، بل لو صلاها جماعة في بيته سيضيع منه ثواب الخطوات، والمكث في المسجد، وإن كان للجماعة أيا كان ثواب إن شاء الله.
وقد شرط العلماء لصحة صلاة الجماعة: التمكن من ضبط أفعال الإمام إذا كان المأموم خارج المسجد الذي يصلي فيه الإمام، وألا تزيد المسافة بينهما على ثلاث مائة ذراع، وألا يكون بينهما حائل يمنع وصول المأموم إلى الإمام لو أراد بدون انحراف عن القبلة. بمعنى: أن الذي يريد أن يصلي جماعة في مسكن بالعمارة التي في أسفلها مسجد فيه إمام يصلي هل يستطيع النزول إليه على السلم دون انحراف عن القبلة؟
إن أمكن صحت الجماعة، وإلا فلا. هكذا قال الإمام الشافعي.
ولكن الإمام مالكا يحكم بصحة الجماعة مادام المأموم متمكنا من ضبط أفعال الإمام عن طريق مكبر الصوت، والإمام أحمد يشترط رؤية المأموم للإمام، أو مَنْ وراء الإمام، وهذا لا يحصل في السورة الواردة في السؤال.
فالخلاصة:
إن صلاة الجماعة في صورة السؤال صحيحة عند الإمام مالك باطلة عند غيره.
والله أعلم .(1/287)
س:فما الحكم في أن بعض العاملين يصلون في مكان العمل مع قرب المسجد إليهم؟
هناك حديث يقول: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد".
ولكن هذا الحديث ضعيف، ولو صح لكان المراد به: لا صلاة كاملة، وذلك عند عدم الخوف، فإن وجد خوف، أو مصلحة أخرى، فالصلاة في البيت أو في أي مكان آخر.
النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "وجعلت لي الأرض مسجدا".
وفى بعض الروايات: "فأينما أدركتك الصلاة فصل".
والدين يسر.
والله أعلم .(1/288)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، سمعنا من يقول: لا صلاة لحابس. فهل هو حديث شريف، وإن كان صحيحا، فما نصه، وما معنى الحابس ؟
روى أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن عن ثوبان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "ثلاث لا تحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤم رجل قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن، فإن فعل فقد دخل، أي: صار في حكم الداخل بلا إذن، ولا يصلي وهو حاقن حتى يتخفف".
وروى مسلم، وغيره عن عائشة قالت: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يقول: "لا يصلي أحد بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبسان". ومعنى حاقن: حابس البول، والأخبسان هما: الغائط والبول.
وجاء في (الإقناع) في فقه الشافعية: تكره الصلاة حاقنا بالبول أو حاقبا بالغائط أو حاذقا بالريح أو حاقما بالبول والغائط.
والمقصود: أن يكون الإنسان في صلاته خاشعا متفرغا لفهم معنى ما يقول ويفعل، ومدركا مقام الوقوف أمام الله، لا يُشغل عن ذلك بأي شاغل من هذه الأمور؛ حتى لا يتوزع فكره، ويذهب خشوعه، أو يقل، بل ينبغي التخفف بإزالة هذه الضواغط والشواغل.
والله أعلم .(1/289)
س:وما الحكم إذا تبين للمصلي: أن صلاته تمت إلى غير القبلة بعد الاجتهاد ؟
معلوم أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة كما قال تعالى: { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }.
وكما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة وكبر". رواه مسلم.
وقد انعقد الإجماع على ذلك، والقبلة لمن كان بمكة، أو قريبا منها هي عين الكعبة، أو هواؤها المحاذي لها من أعلاها، ومن أسفلها.
فيجب عليه أن يستقبل عينها يقينا إن أمكن، وإلا اجتهد في إصابة عينها، ولا يكفيه استقبال جهتها، ومثله من كان بمدينة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قبلته هي عين الكعبة، لأن محراب مسجده وضع مسانتا لعين الكعبة بالوحي، فيجب استقبال عين المحراب.
والقبلة لمن كان بعيدا عن مكة هي جهة الكعبة عند الجمهور، ما عدا الشافعي الذي يوجب استقبال عينها يقينا إن كان قريبا، وظنا إن كان بعيدا.
فيجوز الانتقال عن عين الكعبة يمينا أو شمالا، ولا بأس بالانحراف اليسير عندهم بحيث لا تزول به المقابلة بالكلية أي يبقى شيء من سطح الوجه مسانتا للكعبة.
والاستدلال في الأمصار والقرى على القبلة يكون بالمحاريب التي نصبها الصحابة والتابعون، ولا يجوز الاجتهاد مع وجودها، وكذلك المحاريب المعتمدة في مساجد المسلمين كما عليه الجمهور، فإن لم توجد محاريب معتمدة وجب سؤال العارفين الثقاة، وإن لم يوجد عارفون استعملت وسائل أخرى كالشمس والنجوم إن كان عالما بدلالتها، فإن لم يستطع وجب الاجتهاد، والتحري وصلى إلى ما ترجح عنده من الجهات، لكن لو اجتهد، وصلى ثم بان بعد ذلك خطأ الاجتهاد، هل وقعت صلاته صحيحة، ولا يعيدها، أو وقعت باطلة، ووجبت إعادتها؟ جمهور الفقهاء على صحة هذه الصلاة وعدم وجوب الإعادة.
والشافعي هو الذي قال: لا عبرة بالظن البين خطؤه، وعليه إعادة هذه الصلاة ولو كانت بمدة طويلة.(1/290)
يقول ابن قدامة في المغني: وإذا صلى بالاجتهاد إلى جهة، ثم علم أنه قد أخطأ القبلة لم تكن عليه إعادة، وذلك المقلد الذي صلى بتقليده، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه.
وقال في القول الآخر: تلزمه الإعادة؛ لأنه بان له الخطأ في شرط من شروط الصلاة فلزمته الإعادة، كما لو كان بان له أنه صلى قبل الوقت أو بغير طهارة أو ستار.
ولنا أي دليل الحنابلة ومعه الجمهور، ما روى عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله}. رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن، إلا أنه من حديث أشعث السمان، وفيه ضعف.
وجاء مثله عن عطاء عن جابر بسند ضعيف، وذكر ابن قدامة حديث مسلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام }. فمر رجل ببني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو البيت.
ومثل هذا لا يخفى على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يترك إنكاره إلا وهو جائز.
وقد كان ما مضى من صلاتهم بعد تحويل القبلة إلى الكعبة، وهو الصحيح.
ويزيد ابن قدامة في التدليل لعدم الإعادة بأنه صلى إلى غير الكعبة للعذر، فلم تجب عليه الإعادة، كالخائف يصلي إلى غيرها، ولأنه شرط عجز عنه فأشبه سائر الشروط.
فالخلاصة:
أن المخطئ في ظنه في استقبال القبلة صلاته صحيحة، ولا إعادة عليه إذا تبين الخطأ، وذلك على رأي جمهور الفقهاء، ومنهم الشافعي في أحد قوليه.
فيكاد يكون الحكم باتفاق الفقهاء الأربعة.
والله أعلم .(1/291)
س:إذا كان على شخص صلاة فائتة كالظهر مثلا، فذكرها، وقد أقيمت صلاة العصر، فهل يدخل مع الجماعة بنية العصر، أم بنية الظهر، أم يصلي الظهر منفردا أولا، ثم يصلي العصر ؟
اتفق الفقهاء سواء منهم الجمهور الذي يوجب الترتيب بين القضاء والأداء، ومن لا يوجبه، اتفقوا على أنه: إذا خاف من الترتيب ضياع وقت الأداء، كان الترتب ممنوعا، بل يجب تقديم الصلاة الحاضرة صاحبة الوقت؛ حتى لا يترتب على ذلك ضياع وقت الصلاتين.
أما إذا خاف من الترتيب ضياع الجماعة في صلاة الأداء، فلا يعد ذلك عذرا، بل يصلي الفائتة أولا، وبعد الانتهاء منها قد يدرك بعض الجماعة للحاضرة، وإذا لم يدرك صلاها منفردا.
والإمام الشافعي هو الذي قال في هذه الحالة: يجوز أن يصلي الحاضرة جماعة، ثم يصلي الفائتة، بل يجوز أن يصلي الفائتة خلف إمام يصلي الحاضرة، وذلك كله يسر.
والله أعلم .(1/292)
س:يقول قائل: أدركت الإمام في الركعة الثالثة في صلاة الظهر، وسوف أتم ركعتين بعد تسليم الإمام. فهل أقرأ في الركعتين الفاتحة، وما تيسر من القرآن، لأن الإمام لم يقرأ في الركعتين الثالثة والرابعة قرآنا، أم أكتفي بالفاتحة فقط ؟
الإجابة على هذا السؤال مبنية على سؤال يقول: هل ما أدركه المسبوق مع الإمام يعد أول صلاته أو آخرها؟
هناك رأيان في هذه المسألة: رأي يقول: إن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاة المأموم.
وعلى هذا الرأي: من أدرك من صلاة الظهر الركعة الثالثة والرابعة مع الإمام يكون قد أدرك معه ركعتين هما: الأولى والثانية بالنسبة له، فإذا قام ليكمل الصلاة بركعتين فلا يقرأ فيهما قرآنا بعد الفاتحة، لأن القرآن لا يقرأ إلا في الركعتين الأولى والثانية، وهو الآن يصلي الثالثة الرابعة.
والرأي الثاني يقول: إن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو آخر صلاته كما أنه آخر صلاة الإمام.
وعلى هذا الرأي: من أدرك من صلاة الظهر الركعة الثالثة والرابعة مع الإمام، يكون قد أدرك معه ركعتين هما: الثالثة والرابعة بالنسبة له أيضا، فإذا قام ليكمل الصلاة بركعتين فله أن يقرأ فيهما قرآنا بعد الفاتحة؛ لأنهما بالنسبة له الأولى والثانية، والقرآن يقرأ فيهما.
وللمصلي أن يختار ما يشاء من الرأيين مع العلم بأن قراءة القرآن بعد الفاتحة سنة وليست فرضا، لو تركها عمدا لا تبطل صلاته.
والله أعلم .(1/293)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، حضرت لأصلي صلاة الظهر، فوجدت صلاة الجنازة. فهل أصلي الظهر، أم أصلي الجنازة، مع العلم أن الانشغال بصلاة الجنازة في ذلك الوقت قد يضيع صلاة الظهر مني ؟
من المعلوم أن صلاة الجنازة فرض كفاية، من قام بها البعض سقط الطلب عن الباقين، ولا تكون فرض عين إلا إذا لم يوجد إلا واحد فقط.
كما أن من المعلوم أن صلاة الظهر محدودة الوقت يحرم إخراجها عنه، وصلاة الجنازة ليس لها وقت محدود.
فإذا كان الوقت متسعا فمن السنة تقديم صلاة الجنازة؛ لأن الإسراع بدفن الميت سنة، سواء أكانت الصلاة للجنازة فرض كفاية أم فرض عين.
أما إذا ضاق الوقت وخيف فوت صلاة الظهر إن اشتغل بصلاة الجنازة وجب تقديم صلاة الظهر حتى لو كانت صلاة الجنازة فرض عين بأن لم يوجد غيره.
وبالأولى إذا كانت فرض كفاية فهي بالنسبة له سنة، والفرض وهو صلاة الظهر يقدم علي السنة.
والله أعلم .(1/294)
س:قد يصاب البعض بفقدان الوعي لفترة بسبب ارتجاج في المخ، أو بسبب مرض آخر، ثم يفيق فهل عليه قضاء الصلاة في الأيام التي فقد فيها الوعي ؟
إن من فقد عقله وغاب عن الوعي سقط عنه التكليف ما دام كذلك، وعليه إذا صدرت منه ألفاظ حسنة أو سيئة لا يعتد بها ولا يترتب عليها أثر دنيوي أو أخروي، اللهم إذا حصل منه إتلاف مال، أو شيء من حقوق الغير، فإنه يطالب بالتعويض، وإن ارتفع عنه إثم العدوان، فالضرر لابد أن يزال ويستوي في فقدان العقل أن يكون ساعات أو أياما أو شهورا.
وبخصوص ترك الصلاة فإنه وإن كان معذورا بفقد الوعي، لابد بعد الإفاقة من قضاء ما فاته قياسا على النوم، والنسيان للصلاة، لابد من قضائها من عظم شأنها على الرغم من الحديث الذي يقول: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". رواه ابن ماجة وغيره.
والحديث الذي يقول: "رقع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". رواه البخاري، وغيره بألفاظ متقاربة، ذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك". رواه البخاري ومسلم.
فقد أمر بقضائها، وجعل تركها مع النسيان والنوم كأنه ذنب لابد من كفارة له، وذلك كله لعظم شأن الصلاة، كالقتل الخطأ يوجب دية لإزالة الضرر، ويوجب كفارة عظمى مع أنه لا عقاب عند الله على الخطأ، هذا فيمن فقد الوعي لعارض طرأ عليه.
أما الذي بلغ سن التكليف مجنونا، أو فاقد العقل، فلا تكليف عليه ولو شفي، وأفاق يبدأ التكليف، ولا يقضي ما فات من العبادات.
والله أعلم .(1/295)
س:رجل ترك الكثير من الصلوات عمدا، وقد وفقه الله للتوبة. فهل يقضي الصلاة التي تركها، وإذا كان عليه قضاؤها وهو لا يعرف عددها، فكيف يقضيها؟
يقول جمهور العلماء: إن الصلاة إذا خرج وقتها دون أن يؤديها المسلم المكلف وجب عليه أن يقضيها، وخروجها عن الوقت إن كان لعذر كالنوم و السهو يوجب قضائها لحديث البخاري ومسلم "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك".
وفي رواية "إذا رقض أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها".
والله يقول: { وأقم الصلاة لذكري }.
ولذلك يجب القضاء؛ لأنها صارت دينا عليه. وقد روى الشيخان أن رجلا سأل النبي (صلى الله عليه وسلم ) عن أمه التي ماتت وعليها صوم شهر، هل يقضيه عنها؟ فقال له: "نعم، فدين الله أحق أن يقضى".
أما خروج الصلاة عن الوقت بغير عذر فهو يوجب القضاء أيضا كما قال جمهور العلماء؛ لأن القضاء إذا كان واجبا على الناسي والنائم فهو على المتعمد أولى، وقول الحديث: فليصلها إذا ذكرها يدل على ذلك، لأنه وإن كان تعمد تركها فقد تذكر ذلك بعد عندما أراد أن يتوب؛ لأن المراد بالذكر: العلم.
أما رأي غير الجمهور، ومنهم أهل الظاهر فهو عدم قضائها إذا تركت عمدا؛ لأن القضاء هو على الناس بنص الحديث، ولا يقاس عليه المتعمد، وعليه أن يتوب توبة نصوحا فقط، وعليه الإقبال على أداء الصلاة بعدها قال تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى }.
وهناك قول عند الحنابلة بعدم وجوب القضاء على من تركها عمدا، إذا طلبها منه الحاكم ودعاه إلي فعلها؛ لأنه في هذه الحالة يكون مرتدا عندهم.
لكن هذا الرأي مقيد بحالة مخصوصة وهي: طلب الحاكم.
والخلاصة: أن تارك الصلاة سهوا يجب عليه القضاء باتفاق العلماء. أما تاركها عمدا فيجب عليه القضاء عند الجمهور، وهو الصحيح والإنسان حر في كيفية القضاء من حيث الترتيب وعدمه على ما رآه بعض الفقهاء، ونختار هذه الرأي للتيسير.(1/296)
كما أنه يقضي ما علم أو غلب على ظنه أنه ترك بعد الاجتهاد في حصر المتروك، ولا معنى لانشغاله بالنوافل التي لا يحاسب عليها مع الإهمال في القضاء.
وعلى تارك الصلاة عمدا مع وجوب القضاء أن يتوب إلى الله ويحافظ عليها، ويندم على تقصيره، ويعزم عزما صادقا على عدم التهاون فيها.
كما يسن له أن يبادر بالقضاء قبل مباغتة الأجل أو تغير الظروف التي يعجز معها عن القضاء، ومن مات وهو يقضي ولم يتم الوفاء فأمره مفوض إلى ربه، وبحسب نيته تكون آخرته، والرجاء في رحمة الله كبير.
والله أعلم .(1/297)
س:ما صورة المتكاسل عن الصلاة كما رآها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكيف نعامله ؟
الحديث الذي رأى فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تارك الصلاة يعذب، كان في رؤيا رآها مناما، ورؤيا الأنبياء حق.
وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مما يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم من رؤيا فيقص عليه ما شاء الله أن يقص". وأنه قال لنا ذات غداة: "أنه أتاني الليلة آتيان وأنهما استتبعاني وأنهما قال لي: انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة برأسه فيسلغ رأسه فيتدهده الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصلح رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى قال: قلت: سبحان الله ما هذا؟ وبعد تمام قصة الرؤيا قال له: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يسلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام على الصلاة المكتوبة".
فهذه الصورة كانت في رؤيا وكانت بعد فرض الصلاة، لكن هناك رواية للبذار وغيره عن أبي هريرة أن ذلك كان في قصة الإسراء والإسراء كان في مكة، وحديث الرؤيا كان في المدينة حيث لم تكن في مكة فرصة لحكاية ذلك في جمع من أصحابه.
وعليه فتقدم رواية البخاري على رواية البذار والبيهقي والطبراني ولو فرضنا أن ذلك كان ليلة الإسراء فقد تؤول على المستقبل يعني: عندما تفرض الصلاة بعد.
وقد تؤول على أن الصلاة كانت مفروضة قبل الإسراء ركعتين أول النهار، وركعتين آخره وما كان ليلة الإسراء فهو تحديدها بخمس صلوات.
وفى حديث البذار عذاب من يبخلون بالزكاة، ويأكلون الربا وكل ذلك شرع في المدينة بعد حادث الإسراء الذي وقع بمكة فيؤول على المستقبل عندما تفرض هذه الأمور إن قبلنا هذه الروايات.
فهناك كلام كثير في الصلاة التي صلاها الرسول بالأنبياء.(1/298)
أما معاملة هذا الإنسان الذي يتكاسل عن الصلاة، فيصدق عليه حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم ) "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
فإن لم يكن للإنسان سلطان على هذا الإنسان المتكاسل في الصلاة كان التغيير باللسان بحكمة، وموعظة حسنة، فإن استجاب، وإلا كان الإنكار بالقلب الذي يترجم إلى عمل كمقاطعته وعدم احترامه؛ لعله يتوب.
والله أعلم .(1/299)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، هل القنوت في الصلاة مشروع، وإذا كان مشروعا فهل يكون في كل الصلوات، وهل له صيغة محددة؟
القنوت وهو: الدعاء مشروع في الصلوات الخمس عند النوازل، لحديث ابن عباس (رضي الله عنهما) "قنت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلوات الخمس مدة شهر يدعو على حي من بني سليم؛ لأنهم قتلوا بعض الصحابة الذين أرسلهم؛ ليعلموهم". رواه أبو داود وأحمد.
كما روى البخاري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع". وجاء فيه قال: "يجهر بذلك، ويقول في بعض صلاته، وفى صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا". وهما حيان من أحياء العرب حتى أنزل الله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون }.
والقنوت في الصبح على هذا مشروع عند النوازل كبقية الصلوات أو غير النوازل، فللفقهاء فيه أقول: خلاصتها:
قال الحنفية والحنابلة: بعدم مشروعيته، مستدلين بما رواه ابن حبان وابن خزيمة عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان لا يقنت في صلاة الصبح إلا إذا دعا لقوم أو دعا عليهم".
وقال المالكية والشافعية: بمشروعيته، ودليلهم: ما رواه جماعة إلا الترمذي أن أنس بن مالك سئل: هل قنت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في صلاة الصبح؟ فقال: نعم.
وما رواه أحمد والبذار والدارقطني عن أنس قال: "ما زال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا".
ومناقشة هذه الأدلة وبيان الأرجح من الأقوال يمكن الرجوع في كتاب (زاد المعاد).
ويمكن الجمع بين روايات الإثبات، وروايات النفي بأن هؤلاء المروي عنهم كانوا يقنتون أحيانا، ولا يقنتون أحيانا أخرى؛ لأنه بسنة وليس بفرض، ولا واجب، والمثبت مقدم على النافي كما هو معلوم.(1/300)
وإذا كان بعض الصحابة لم يقنت؛ لأنه لم يره من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن عدم الرؤية لا يدل على النفي المطلق، هذا في قنوت الصبح.
أما في قنوت الوتر فهو سنة عند الشافعية في النصف الثاني من شهر رمضان.
أما في غير ذلك فهناك خلاف، فعند الحنابلة: أن القنوت مسنون في الوتر في الركعة الواحدة في جميع السند.
وعند المالكية والشافعية: لا يسن، ووافقهم الحنابلة في رواية عن أحمد.
وعند الحنفية مسنون في كل أيام السنة، وقنوت النوازل مشروع في غير صلاة الصبح أيضا.
قال النووي ـ وهو شافعي المذهب: فيه ثلاثة أقوال: والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور: أنه مشروع في كل الصلوات؛ ما دامت فيه نازلة، وإلا فلا، ولم يقل بمشروعيته غيرهم.
ورأي المالكية: أنه إن وقع لا تبطل به الصلاة، وهو مكروه.
القنوت عند الشافعية، يحصل بأية صيغة فيها دعاء وثناء مثل: اللهم اغفر لي يا غفور. وأفضله: اللهم اهدني فيمن هديت. وعافني فيمن عافيت. وتولني فيمن توليت. وبارك لي فيما أعطيت. وقني شر ما قضيت. فإنك تقضي ولا يقضى عليك. وإنه لا يذل من واليت. ولا يعز من عاديت. تباركت وتعاليت".
وقد روي عن الحسن بن علي "أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) علمه إياه". كما رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال الترمذي: حديث حسن، ولا يعرف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيء أحسن من هذا.
ولفظه المختار عند الحنفية كما رواه ابن مسعود وعمر: اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يهجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
يقول النووي: يستحب الجمع بين قنوت عمر، وما روي عن الحسن، وإلا فليقتصر على رواية الحسن.
وتسن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد القنوت.
والله أعلم .(1/301)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، هناك مسألة اختلف الكثيرون حولها وهي: وضع اليدين أثناء القيام في الصلاة. فما الوضع الصحيح، نرجو توضيح ذلك ؟
اتفق العلماء على أنه لم يرد ما يوجب على المصلي أن تكون يداه في وضع معين وهو في قيام الصلاة، فليس ذلك ركنا ولا شرطا من شروط صحة الصلاة، وحجتهم في ذلك: حديث المسيء صلاته، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما علمه كيفية الصلاة، لم يتعرض فيها لوضع اليدين، فدل ذلك على عدم وجوبه، ولكن اختلفوا بعد ذلك في الوضع المختار لليدين أثناء القيام بالصلاة. فقيل: يسن وضع إحدى اليدين على الأخرى، وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وروي عن الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وحكاه المنذر عن مالك.
وقيل: يسن إرسال اليدين أي: تركهما إلى الجانبين. رواه ابن المنذر عن ابن الزبير، كما نقله النووي عن الليث بن سعد، ونقله ابن القاسم عن الإمام مالك وهو ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه.
وقيل: يخير المصلي بين وضع يديه وبين إرسالهما دون ترجيح واحد منهما. نقله ابن سيد الناس عن الأوزاعي، وجاء في كلام الشافعي ما يشير إليه.
وأصحاب الرأي الأول الذين قالوا بسنية وضع اليدين إحداهما على الأخرى قالوا: إن ذلك يكون بوضع اليد اليمنى على اليد اليسرى. وأصحاب هذا القول اختلفوا في أمرين:
الأمر الأول: في كيفية وضع اليمنى على اليسرى.
والأمر الثاني: في مكان وضعهما على الصدر.
وخلاصة الموضوع: أن أرجح الأقوال هو: استحباب قبض اليد اليمنى على رسغ اليد اليسرى، ووضعهما على أسفل الصدر فوق السرة.
ويجوز إرسالهما عند السكون، وذلك هو قول الشافعية هذا.
وليس هناك دليل صحيح على أن اليدين يسن وضعهما أعلى الصدر عند العنق، وإن أخذ بعض الناس من قوله تعالى: { فصل لربك وانحر }. ذلك بأن المراد: ضع يدك اليمنى على اليسرى تحت النحر.(1/302)
هذا تفسير لا أصل له، يعتمد عليه. يقول ابن كثير، ويروى هذا عن علي، ولا يصح كما ذكره الشوكاني؛ لأن المعنى الصحيح للآية: اجعل يا محمد صلاتك وتقربك بنحر الإبل لله لا للأصنام كما يفعل المشركون.
وأنبه إلى أن الأمر واسع كما قال ابن قدامة، ولا يجوز التعصب لرأي من الآراء، والخلاف والتنازع في هذه الهيئة البسيطة مع عدم الاهتمام بالخشوع الذي هو روح الصلاة، والأساس الأول في قبولها عند الله هو ظاهرة مرضية لا صحية، والإسلام قد نهى عن الجدل، وبخاصة في هذه الهيئات البسيطة.
والله أعلم .(1/303)
س:فضيلة الشيخ، ما المواضع التي يجب فيها رفع اليدين في الصلاة، وهل هذا فرض أم سنة ؟
التكبير في الصلاة إما واجب، وإما مندوب، فالواجب أو الفرض، أو الركن هو: تكبيرة الإحرام في الدخول في الصلاة.
أما في غير ذلك فمندوب عند الركوع، والهوي إلى السجود، والرفع منه والقيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة.
أما رفع اليدين فهو: سنة في كل الأحوال وليس بواجب، وذلك في أربع حالات: الأولى: عند تكبيرة الإحرام، وذلك لفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي رواه خمسون صحابيا منهم: العشرة المشهود لهم بالجنة.
والثانية والثالثة عند الركوع وعند الرفع منه، وذلك لفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه اثنان وعشرون صحابيا.
ففي البخاري ومسلم عن بن عمر (رضي الله عنهما) كان "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد".
قال البخاري: ولا يفعل ذلك أي: رفع اليدين حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود.
وقال مسلم مثل ذلك. أي: لا يرفع يديه حين يرفع رأسه من السجود ولا بين السجدتين.
وقال البيهقي: فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى.
وأما الحالة الرابعة فعند القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة كما رواه البخاري وغيره.
والخلاصة: أن رفع اليدين عند التكبير سنة وليس فرضا، وذلك في الحالات المذكورة.
والله أعلم .(1/304)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، نرى البعض يختلفون في تحريك إصبعهم عند التشهد في الصلاة. فما الصحيح في هذا الأمر حسب ما ورد من السنة ؟
جاء في صحيح مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة".
وجاء في مسند أحمد وسنن النسائي وأبي داود: "ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها".
وفي رواية له عن ابن حبان: "كان يشير بالسبابة ولا يحركها". الإشارة بالسبابة حديثها أصح من حديثي التحريك وعدم التحريك.
ومن هنا قال الفقهاء: تكون الإشارة بالسبابة: إما عند النطق بلفظ: لا. إشارة إلى النفي، ثم يخفضها، وعليه أبو حنيفة (رضي الله عنه).
وإما عند لفظ الجلالة: (الله). إشارة إلى الوحدانية، ثم يستمر رفعها دون تحريك إلى الانتهاء من الصلاة، وعليه الشافعي (رضي الله عنه).
ولا يرى الإمامان: تحريك هذه الإصبع غير هذه الحركة.
وأما قول وائل: فرأيته يحركها. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك: الإشارة بها لا تكرير تحريكها؛ حتى لا يعارض حديث ابن الزبير، ولا يحركها.
لكن الإمام مالكا أخذ بحديث وائل، واستحب أن تحرك الإصبع من أول التشهد.
وروي في ذلك حديث ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "تحريك الإصبع في الصلاة مذعرة للشيطان".
لكن نقاد الحديث قالوا: إن هذا الحديث ضعيف فقد تفرد به الواقدي، والأرجح: أن التحريك الوارد يحمل على الإشارة حتى لا يتعارض مع ما ورد ناهيا للتحريك.
وأقول: إن تحريك الإصبع أو عدم تحريك الإصبع هيئة من الهيئات ليست من الأركان، ولا من الواجبات، فأية كيفية تؤدى بها هذه الهيئة كافية.
والمهم أن نكون مخلصين خاشعين في صلاتنا محافظين على الأركان الأساسية فعلى ذلك يدور القبول.
والله أعلم .(1/305)
س:بعد التشهد الأخير، هل هناك دعاء مخصوص كان يقوله المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وهل ذلك من أساسيات الصلاة، أي: هو فرض أم سنة، وإذا لم يكن الإنسان يحفظ الدعاء المخصوص، هل له أن يجتهد بأدعية أخرى ؟
الدعاء بعد التشهد الأخير في الصلاة وقبل السلام ليس ركنا ولا فرضا ولا واجبا، بل هو سنة فقط لو ترك لا تبطل الصلاة.
وقد وردت أحاديث كثيرة ترغب فيه منها: ما جاء عن ابن مسعود أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) علمه التشهد ثم قال في آخره: "ثم لتختر من المسألة ما تشاء". رواه مسلم.
وإذا استحب الدعاء بما يشاء الإنسان، فالأفضل أن يكون بالمأثور في القرآن والسنة مثل: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
وما جاء في الحديث الذي رواه مسلم "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قام إلى الصلاة يكون آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت".
وما رواه أيضا: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيخ الدجال".
أما الدعاء بغير المأثور، فإليك ما قاله الفقهاء: قال الأحناف: لا يجوز أن يدعو بما يشبه كلام الناس كأن يقول: اللهم زوجني فلانة. أو: أعطني كذا من الذهب والفضة.
وقال المالكية: له أن يدعو بما شاء بخيري الدنيا والآخرة.
وقال الشافعية: يسن الدعاء بخيري الدين والدنيا، ولا يجوز أن يدعو بشيء محرم أو مستحيل أو معلق، فإن دعا بشيء من ذلك؛ بطلت صلاته.
وقال الحنابلة: له أن يدعو بما ورد، أو بأمر الآخرة، ولو لم يشبه ما ورد وله أن يدعو لشخص معين بغير كاف الخطاب، وتبطل الصلاة بكاف الخطاب مثل: اللهم أدخلك الجنة يا والدي.
أما إذا قال: اللهم أدخله الجنة. فلا بأس.(1/306)
وليس له أن يدعو بما يقصد منه ملاذ الدنيا وشهواتها، كأن يقول: اللهم ارزقني جارية حسناء أو طعاما لذيذا، ونحو ذلك، فإن فعل؛ بطلت صلاته.
ولا بأس بإطالة الدعاء ما لم يشق على المأمومين.
والله أعلم .(1/307)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، هل لنا أن نعرف أحسن الأدعية التي وردت؛ لنقولها في الصلاة ؟
الصلاة التي نصليها فيها إلى جانب الأفعال كالركوع، والسجود فيها أقوال: كقراءة الفاتحة، والتشهد، والتسبيح، والتكبير، والدعاء.
فهناك علاقة وثيقة بين الدعاء، والصلاة؛ لأنها مناجاة لله مع حركات تشهد بالإخلاص في هذه المناجاة.
وقد بين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة بما فيها من أقوال وأفعال بينها بفعله وبقوله، وكتب السنة مملوءة بما كان يقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ركن من أركان الصلاة وفى السجود بالذات حث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على كثرة الدعاء، وقال في سبب ذلك كما رواه مسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء".
لكن هناك دعاء بغير سجود منه: دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، وصح منه: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما بعدت بين المشرق والمغرب. اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس".
وفي الركوع ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي". رواه البخاري ومسلم.
وفى الاعتدال من الركوع دعاء هو: قنوت الصبح، وقنوت الوتر، وفى الجلوس بين السجدتين كان يقول: "رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وعافني". كما رواه البيهقي.
وفى التشهد الأخير ثبت أنه كان يقول: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". رواه البخاري ومسلم.
وهناك أدعية أخرى جمعها كتاب (الأذكار) للنووي.
فالصلاة من أولها إلى آخرها محل للدعاء، وأولى بالدعاء المواطن التي بينها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما سبق.
وقد ثبت "أنه في صلاة طويلة كان يقرأ القرآن فإذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". ومع ذلك لو دعا الله في أي مكان فصلاته لا تبطل.(1/308)
غير أني أنبه إلى أن بعض الفقهاء قال: إن الصلاة تبطل؛ لو دعا الإنسان بما يشبه كلام الناس مثل: اللهم زوجني فلانة.
فالأولى أن يقول بغير ذلك، سواء أكان مأثورا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم غير مأثور، مع مراعاة الخشوع في الصلاة كلها فهو أرجى لقبولها وقبول ما فيها من دعاء.
والله أعلم .(1/309)
س:نرى بعض المصلين يحرك يديه كثيرا في صلاته، فهل يبطلها ذلك، وما عدد الحركات التي تبطل الصلاة ؟
المفروض في المصلي أن يحس بأنه واقف بين يدي الله يناجيه بالمدح والثناء، ويدعوه بالهداية والمغفرة، ويظهر له عمليا خضوعه وخشوعه وتواضعه بالركوع والسجود، ولا يوجد موقف للإنسان يستحق الاهتمام كهذا الموقف.
ومن هنا كان عليه أن يكون ساكن الجوارح في غير ما شرع له، لا يعبث بلحيته ولا ينسق من ملبسه مثلا، ولا يبرح مكانه، ولا يعمل إلا ما أذن له فيه من مثل: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع والرفع منه.
وللفقهاء كلام في ضبط الأفعال التي تبطل الصلاة، فاتفقوا على أن من المبطلات: العمل الكثير الذي ليس من جنس الصلاة، وهو ما يخيل إليه أن فاعله ليس في الصلاة، وهذا العمل الكثير مبطل للصلاة سواء وقع عمدا أو سهوا، وأما ما دون ذلك فلا يبطلها.
جاء في كتاب (الفقه) على المذاهب الأربعة: أن الشافعية حدوا العمل الكثير بنحو ثلاث خطوات متواليات يقينا، وما في معنى هذا: كوثبة كبيرة ومعنى تواليها: ألا تعد إحداها منقطعة عن الأخرى على الراجح.
وأن الحنفية قالوا: العمل الكثير ما لا يشك الناظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة فإن اشتبه الناظر وهو قليل على الأصح.
وأن المالكية قالوا: ما دون العمل الكثير قسمان: قسم متوسط: كالانصراف من الصلاة، وهذا يبطل عمده دون سهوه.
وقسم يسير جدا: كالإشارة، وحك البشرة، وهذا لا يبطل عمده ولا سهوه.
تلك هي المذاهب. وللإنسان أن يختار منها.
والله أعلم .(1/310)
س:رجل يقول: كنت أصلي في بيتي، ولم يكن معي أحد، وطرق الباب، فهل يجوز لي أن أرفع صوتي بالتكبير بالركوع أو غيره؛ ليعلم الشخص الطارق أنني موجود ؟
في فقه المذاهب الأربعة قال الحنفية: تبطل الصلاة؛ إذا رفع صوته بالتكبير أو التهليل يريد ذلك زجر الغير عن أمر من الأمور.
أما إذا رفع صوته بالقراءة قاصدا الزجر لرفع الصوت لا بالقراءة، فإن صلاته لا تفسد، وكذلك لو سبح للإعلام بأنه في الصلاة لا تبطل الصلاة.
وقال المالكية: لو استأذن شخص في الدخول عليه وهو يصلي فأجابه بالتكبير أو التهليل أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فإن صلاته لا تبطل بذلك في أي محل من الصلاة.
وقال الحنابلة: لا تبطل الصلاة بأي ذكر أو بأي آية من القرآن الكريم كقوله: {أدخلوها بسلام آمنين }. لمن يستأذنه.
وقال الشافعية: إذا استأذنه شخص في أمر فسبح له يعني قال: سبحان الله. لا تبطل الصلاة إن قصد الذكر، ولو مع ذلك الغرض، فإن قصد إعلام المستأذن فقط؛ بطلت صلاته.
من هذا يعلم: أن رفع الصوت لإعلام من يطرق الباب أنه يصلي؛ لا تبطل به الصلاة عند الجمهور.
والله أعلم .(1/311)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، بعد أداء الفريضة، نجد بعض المصلين يغيرون أماكنهم إذا أرادوا صلاة السنة، فما الحكم في ذلك، وهل له شاهد من الدين ؟
روى أحمد وابن خزيمة وابن حبان، وغيرهم "أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير".
تحدث العلماء عن هذا الحديث وقالوا: يكره للرجل أن يتخذ له مكانا خاصا في المسجد لأداء الصلاة فيه، بحيث يمنع غيره أن يصلي فيه، وقد يكون هذا المكان مفضلا: كالروضة الشريفة في المسجد النبوي، فلا يصح استئثار جماعة أو واحد به، بل يدع الفرصة لغيره أن ينال شرف الصلاة فيه.
والذي يغير مواضع صلاته في المسجد ولا يلتزم مكانا معينا قد يخشى أن يقع تحت طائلة هذا الحديث.
ولكن المعقول: أن تنقل المصلي في عدة أماكن في المسجد يقصد منه كثرة ما يشهد له يوم القيامة بعمل الخير، فإن الثابت أن أشياء كثيرة تكون شاهدة للإنسان أو عليه يوم القيامة كما قال ـ تعالى: { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون }.
وقال: { وقالوا لجلودهم لما شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء }.
صح في الحديث الذي رواه البخاري، وغيره "أن المؤذن لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة".
والرجل الذي يريد أن يصلي في مواضع متعددة من المسجد، أو من غيره، يريد أن تكثر الشهود له يوم القيامة بالصلاة، والإنسان في هذا اليوم محتاج إلى كل شاهد يشهد له بالخير ويشفع له. قال ـ تعالى: { إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدت أخبارها بأن ربك أوحى لها }. يقول المفسرون: أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يوم القيامة.(1/312)
وروى الترمذي بسند حسن صحيح "أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ هذه الآية قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا". هذا.
وقد روى أبو داود وابن ماجة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه".
كما رويا أنه قال: "أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله". يعني: في النفل.
وفى إسناد هاذين الحديثين مقال.
ولكن تغيير مكان الصلاة للنوافل مشروع رجاء تعدد مواضع السجود التي تشهد للمصلي.
والله أعلم .(1/313)
س:بعد أداء الصلاة يصافح المصلون بعضهم بعضا عقب الانتهاء من الصلاة، ويقول البعض: حرما. والبعض الآخر يقول: تقبل الله. فهل هذا سنة أم بدعة، وإذا كان بدعة هل يوجد البديل الصحيح من السنة ؟
مصافحة المسلم لأخيه عند اللقاء أصلها مستحب، وذلك لتوكيد الألفة والمحبة بين المسلمين، وقد وردت في ذلك نصوص تدل على أنها كانت عادة جارية فعلها الصحابة، كما أخرجه البخاري، وغيره، وأقرها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بل حبب فيها لمثل قوله: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا".
ولم تكن المصافحة عقب الانتهاء من صلاة الجماعة معروفة أيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن حدثت بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بتأويل: أن المصلين جماعة كانوا مع الله في رحلة روحية حطوا الرحال منها بالتسليم الذي برره البعض بأنه تحية لمن على يمين المصلي من الملائكة، وغيرهم؛ لأنه كان منصرفا عنهم أثناء الصلاة ومع السلام عليهم كانوا يتصافحون بهذا المفهوم، ويدعو بعضهم لبعض أن يكون اللقاء في الصلاة في الحرم الشريف الذي تشد الرحال إليه لمضاعفة ثواب الصلاة وغيرها من الطاعات، ويختصرون هذا الدعاء بقولهم: حرما. كما يدعون لبعضهم بعد الوضوء: أن يمن الله عليهم بالوضوء من ماء زمزم في حج أو عمرة.
وتضاربت الأقوال في هذا العمل الذي لم يكن أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم) والصحابة، وهم من يؤخذ عنهم التشريع.
وقال بعضهم: إنه بدعة بالمعني المذموم وهو كل بدعة ضلالة.
وقال بعضهم: إنه بدعة، ولكن لا يوجد ما يصفها بأنها مذمومة، وضلالة حيث لم يرد نهي عنها.
وكم من الأمور الحسنة حدثت بعد عهد التشريع، ورأى الناس حاجتهم إليها فأخذوا بها وحرصوا عليها.(1/314)
جاء في كتاب (غذاء الألباب) للسفاريني أن ابن تيمية سئل: عن المصافحة بعد العصر والفجر. هل هي سنة مستحبة أم لا؟ فأجاب بقوله: أما المصافحة عقب الصلاة فبدعة لم يفعلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يستحبها أحد من العلماء.انتهى.
قال السفاريني: ظاهر كلام العز بن عبد السلام من الشافعية أنها: بدعة مباحة، وظاهر كلام الإمام النووي أنها: سنة.
قال الحافظ بن حجر في (شرح البخاري) قال النووي: وأصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال، لا يَخْرُجُ ذلك عن أصل السنة. أو لا يُخْرِجُ ذلك عن أصل السنة.
قال الحافظ: وللنظر فيه مجال، وبعضهم أطلق تحريمها.
والوجه المختار: أنها غير محرمة، وقد تدخل تحت ندب المصافحة عند اللقاء الذي يكفر الله به السيئات.
وأرجو ألا يحتد النزاع في مثل هذه الأمور التي تفيد ولا تضر، وحديث مسلم صريح في "أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
والله أعلم .(1/315)
س:رجل يقول: دخلت المسجد، فرأيت الإمام يقرأ في الركعة الأولى، وأردت أن أدركها؛ فرفعت صوتي وقلت: إن الله مع الصابرين؛ فأطال الإمام قراءته؛ حتى أدركته. فما حكم الدين في صلاتي، وفي صلاة الإمام ؟
لا مانع من إطالة الإمام في الركعة الأولى؛ حتى يدركه من يريدون الاقتداء به عند شعوره بقدومهم أو سماع قولهم: إن الله مع الصابرين.
ففي حديث أبي قتادة "أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يطول في الأولى قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى".
وعن أبي سعيد قال: "لقد كانت الصلاة تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الركعة الأولى مما يطولها". رواه مسلم، وغيره.
والله أعلم .(1/316)
س:فضيلة الشيخ عطية صقر، رأينا في بعض المساجد بعد انقضاء الصلاة تقرأ آية الكرسي بصوت عال، ثم يبدأ المصلون في ختم الصلاة بصوت عال أيضا. فهل الأفضل ختم الصلاة سرا أو جهرا ؟
وردت نصوص في فضل الإسرار بالذكر والدعاء عامة، كما وردت نصوص في فضل الجهر بالذكر عامة.
وقد جمع النووي بين نصوص الجهر ونصوص الإسرار فقال:إن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر أفضل لغير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم، ويزيد النشاط، وما سبق هو في الذكر والدعاء عامة.
أما بخصوص ما بعد الصلاة، فقد وردت نصوص في الجهر منها: قول ابن عباس كما رواه البخاري ومسلم: "كنت أعرف إنقضاء صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالتكبير". وفى رواية لمسلم: "كنا". وفى رواية لهما عنه أيضا "أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله
ـ صلى الله عليه وسلم" .
وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا إذا سمعته". ومعنى هذا: أن الناس الذين كانوا يصلون خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبخاصة من يكونون في الصفوف الخلفية لا يسمعون عبارة: السلام عليكم التي ينتهي بها الرسول من الصلاة فيظلون منتظرين حتى يفرغ الرسول منها، ويشرع في ختام الصلاة بالتكبير، والتسبيح، والتحميد، وما إلى ذلك أي: أن صوته كان مرتفعا فسمعوه.
وورد في (الأسرار) في ختام الصلاة ما رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: "اعتكف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسمعهم يجهرون بالقراءة وهم في قبة لهم، فكشف الستور، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة، أو قال في الصلاة".
وبناء على هذه النصوص؛ اختلف الفقهاء في حكم الجهر بالذكر عقب الصلوات فمنهم من قال: لا بأس به بناء على ما رواه ابن عباس.(1/317)
ومنهم من قال: بكراهته بناء على مارواه أبو سعيد الخدري.
والذي أختاره بعد عرض هذا الكلام المبني على النصوص العامة والخاصة بالذكر بعد الصلاة هو الإسرار بالذكر؛ لأنه أعون على الإخلاص، وفيه عدم تشويش على المصلين الآخرين، وذلك في الأوساط الإسلامية العارفة بختام الصلاة.
أما في المجتمعات الإسلامية الحديثة العهد بالإسلام فإن الجهر يكون أفضل للتعليم، وذلك بصفة مؤقتة، ثم يكون الإسرار بعد ذلك هو الأفضل، وليس المراد بالسر أن يكون همسا لا يسمع الإنسان نفسه، ولكن المراد ألا يشوش به على غيره.
والله أعلم .(1/318)
س:هل يفضل ختم الصلاة بعد أداء الصلاة مباشرة أم بعد ركعتي السنة ؟
ختم الصلاة جاءت فيه أحاديث بعبارة: دبر الصلاة أو: خلف الصلاة.
وجمهور العلماء على أن ختم الصلاة بالذكر الوارد فيه هذه العبارة يكون عقب الانصراف من الصلاة المكتوبة بالتسليم مباشرة؛ لدلالة العبارة عليه، ويقويها فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث كانت الصفوف الأخيرة في صلاة الجماعة تعرف انتهاء النبي منها بالتكبير أي: بالذكر بعد الصلاة.
ورأى بعض العلماء أن الختم يكون له فضله إذا كان بعد الانتهاء من السنة الراتبة التابعة للفريضة.
جاء في فتح الباري في باب الذكر بعد الصلاة قوله: ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة فلو تأخر ذلك عن الفراغ، فإن كان يسيرا بحيث لا يعد معرضا أو كان ناسيا أو متشاغلا بما ورد أيضا بعد الصلاة كآية الكرسي، فلا يضر، ثم قال: هل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلا بين المكتوب والذكر أو لا؟
محل نظر. وجاء في فقه المذاهب الأربعة:
أن الحنفية قالوا:
يكره تنزيها أن يفصل بين الصلاة والسنة إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
أما بقية المذاهب فتفضل أن يكون الذكر عقب الصلاة المفروضة وقبل الإتيان بالسنة.
والله أعلم.(1/319)
وهل كان على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) مسبحة، أم أن السنة هو التسبيح علي الأيدي، وما الحكم فيمن سبح علي المسبحة ؟
جاء الإسلام فأمر بذكر الله، كما أمر بسائر العبادات والقربات والطاعات، وإذا كان الأمر بالذكر قد ورد مطلقا بدون حصر لعدد معين أو حالة خاصة، فليس في الإسلام وسيلة معينة أمرنا بالتزامها؛ حتى لا يجوز غيرها، والأمر متروك لعرف الناس وعاداتهم في ضبط أمورهم، وحصرها.
والإسلام لا يمنع من ذلك إلا ما تعارض مع ما جاء به، والمأثور أن النبي (صلى الله عليه وسلم) "كان يعقد التسبيح بيده". كما رواه أبو داود والترمذي، وأرشد الرسول أصحابه إلي الاستعانة بالأنامل عند ذلك.
فقد روى أبو داود والترمذي والحاكم عن أسرة وكانت من المهاجرات أنها قالت: :قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين التوحيد واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات".
غير أن الأمر بالعد بالأصابع ليس علي سبيل الحصر، بحيث يمنع العد بغيرها.
صحيح أن العد بالأصابع فيه اقتداء بالنبي (صلى الله عليه وسلم) لكنه هو نفسه لم يمنع العد بغيرها، بل أقره وإقراره من أدلة المشروعية.
أخرج الترمذي والحاكم والطبراني عن صفية (رضي الله عنها) قال:" دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بهن، فقال: "ما هذا يا بنت حيي؟ قلت : أسبح بهن. قال: قد سبحت منذ قمت أكثر من هذا. قلت :علمني يا رسول الله. قال:قولي: سبحان الله عدد ما خلق من شيء".
والحديث صحيح.
وإلى جانب إقرار النبي (صلى الله عليه وسلم) لهذا العمل، وعدم الإنكار عليه قد اتخذ عدد من الصحابة والسلف الصالح النوى والحصى وعقد الخيط، وغير ذلك وسيلة لضبط العدد في التسبيح، ولم يثبت إنكار عليهم.
ففي مسند أحمد في (باب الزهد) أن أبا صفية ـ وهو رجل من الصحابة ـ كان يسبح بالحصى.(1/320)
وروى أبو داود أن أبا هريرة (رضي الله تعالى عنه) كان له كيس فيه حصى أو نوى يجلس علي السرير فيسبح.
وأخرج أحمد أيضا في (باب الزهد) أن أبا الدرداء كان له نوى من نوى العجوة في كيس، فإذا صلى الغداة أي: الصبح أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن.
وأخرج ابن أبي شيبة أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى والنوى، وأن أبا سعيد الخدري كان يسبح أيضا بالحصى.
و بناء على هذه الأخبار، لم تكن المسبحة المعهودة لنا معروفة عند المسلمين حتى أوائل القرن الثاني الهجري.
ولما شاعت بين المسلمين استعملها بكثرة العامة من المشتغلين بالعبادة، ولم يستحسنها علماؤهم، وبقي استعمالها بين المسلمين بين راض عنها، وكاره لها، حتى كان القرن الخامس.
ولم يصح في مدحها خبر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من عد الذكر بالمسبحة، ولا يعدون ذلك مكروها.
و قد سئل بعضهم وهو يعد التسبيح أتعد على الله ؟ فقال: لا. ولكن أعد له.
وبناء على ما سبق ذكره يكون التسبيح بغير عقد الأصابع مشروعا.
لكن أيهما أفضل؟ جاء في كتاب للسيوطي قال بعض العلماء: عقد التسبيح بالأنامل أفضل من المسبحة ؛ لحديث ابن عمرو، ولكن يقال: إن المسبح إن أمن الغلط، كان عقده بالأنامل أفضل، وإلا فالمسبحة أولى.
والسنة أن يكون باليمين كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وجاء ذلك في رواية لأبي داود وغيره.
وأقول: إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :"واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات". فإن حبات المسبحة لا تحركها في يد الإنسان إلا الأنامل وهي ستسأل وتستنطق عند الله؛ لتشهد أنه كان يسبح بها، ولا يجوز التوسع في إطلاق اسم البدعة على كل ما لم يكن معروفا في أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم).
ولا أن يجر الخلاف في المسبحة إلى جدل عقيم قد يضر.(1/321)
والأهم من ذلك هو الإخلاص في الذكر، ولا تضر بعد ذلك وسيلته والله ينظر إلى القلوب كما صح في الحديث .
والله أعلم.(1/322)
لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يحمل الحسن والحسين ابني السيدة فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) وكان يحمل أمامة بنت العاص بن الربيع بنت السيدة زينب (رضي الله عنها) فإذا صح هذا. فهل يصح أن يصلي المسلم وهو يحمل طفلا، والطفل لا يعي أمر الطهارة والنجاسة، وإذا ركب الطفل على المصلي وملابسه نجسة، فهل تصح صلاة هذا المصلي ؟
قال العلماء: يشترط في صحة الصلاة طهارة الثوب والبدن، والمكان، فلو حمل المصلي شيئا نجسا، أو أمسك بشيء نجس، وكان يتحرك بحركته بطلت صلاته.
والحديث موضوع السؤال صحيح.
ففي صحيح مسلم أن "النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها".
يقول النووي: فيه دليل لصحة صلاة من حمل آدميا، أو حيوانا طاهرا من طير وشاة، وغيرهما، وأن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة؛ حتى تتحقق نجاستها، وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وأن الأفعال إذا تعددت ولم تتوال بل تفرقت، لا تبطل الصلاة، وفيه تواضع مع الصبيان وسائر الضعفة، وفيه رحمتهم وملاطفتهم ثم يقول: هذا يدل بمذهب الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ ومن وافقه أنه يجوز: حمل الصبي والصبية وغيرهما، من الحيوان الطاهر في صلاة الفرض، وفي صلاة النفل، ويجوز ذلك للإمام والمأموم، والمنفرد، وحمله أصحاب مالك (رضي الله عنه) على النافلة، ومنعوا جواز ذلك في الفريضة.
وهذا التأويل فاسد؛ لأن قوله يؤم الناس صريح، أو كالصريح في أنه كان في الفريضة.
وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وبعضهم أنه كان لضرورة.
وكل هذه الدعاوى باطلة ومردودة فإنه لا دليل عليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه من النجاسة معفو عنه، لكونه في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة.(1/323)
ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا كان للجواز، وتنبيها به على هذه القواعد التي ذكرت، وهذا ما يرد على الإمام أبي سليمان الخطابي أن هذا الفعل يشبه أن يكون حصل بغير تعمد فحملها في الصلاة؛ لكونها كانت تتعلق به (صلى الله عليه وسلم) فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه قال : ولا يتوهم أنه حملها مرة بعد أخرى عمدا لأنه عمل كثير، ويشغل القلب. هذا كلام الخطابي. وهو باطل، ودعوى مجردة.
ومما يردها قوله في صحيح مسلم: فإذا قام حملها. وقوله: فإذا رفع من السجود أعادها، ثم انتهى النووي إلى قوله: إن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلي يوم الدين هذا.
ويلاحظ في كلام النووي أن المفروض في ثياب الطفل وبدنه: الطهارة حتى تتحقق النجاسة، ومعنى هذا: أن النجاسة إذا تحققت لا يجوز حملها وهو المعقول المتفق مع قول العلماء باشتراط الطهارة للصلاة.
مع مراعاة أن هذا الرأي ينبغي ألا يستغل استغلالا سيئا بكثرة حمل الصبيان في الصلاة؛ لأن ذلك يشغل القلب عن الخشوع.
فأرى أنه يكون عند الضرورة أو الحاجة أي في حدود ضيقة مع التأكد أن جسم الصبي وثوبه طاهران.
والله أعلم.(1/324)
س: أعرف رجلا يقوم بخدمات جليلة، وخيرية ويمتاز بحسن الخلق، ولكنه لا يصلي. هل نتعامل معه أو نبتعد عنه، وعن خدماته. وأعرف أيضا رجلا يصلي ويحافظ على الصلاة، ورزقه الله مالا كثيرا، ولكنه بخيل وسيئ الخلق. هل نتجنبه لسوء خلقه، أم ماذا نفعل ؟
كلا الرجلين مخطئ، وتارك الصلاة معروف حكمه إن تركها حجدا وإنكارا، أو استهزاء؛ فهو كافر، وأعماله الطيبة لا تنفعه في الآخرة كما قال سبحانه:{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا }.
وإن كانت خيراته عادت عليه بالخير، فهو في الدنيا فقط، وإن تركها كسلا وتهاونا فقد حكم بعض العلماء بكفره، وحكم بعضهم بفسقه، وإن مات على ذلك، ولم يتب فأمره مفوض إلى ربه، وإن عذبه في النار فمصيره في النهاية الجنة، وذلك كله بناء على حديث مسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة".
والذي يصلي، ولا يستقيم سلوكه مؤمن عاص أضاع ثواب صلاته، وردها الله عليه؛ لأنها لم تثمر طيبا في أخلاقه.
والله سبحانه يقول:{ وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. والصلاة كبقية العبادات ليست علاقة خاصة بين العبد وربه، بل لابد أن ينعكس أثرها على السلوك الشخصي والاجتماعي، وقد نعى الله على من يسهو عن الصلاة فيقصر في أدائها، أو من يسهو عن معناها، وحكمة مشروعيتها، فلا يكون لها أثر في حياته مع الناس، قال تعالى:{ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون }.
وقد أكدت الأحاديث هذا المعنى، فقد صح أن رجلا قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: "هي في النار". رواه أحمد والبذار وابن حبان في صحيحه.(1/325)
ومن هنا نعلم أهمية الصلاة فهي أهم أركان الإسلام وأفضلها، والحديث يقول: "لا دين لمن لا صلاة له إنما موضع الصلاة من الدين موضع الرأس من الجسد". وبهذا يكون التارك للصلاة أو المتهاون فيها والمستغني عنها بعمل البر مغرورا مخدوعا، وكذلك الذي يؤدي الصلاة شكليا دون الإحساس، بروحها غير خاشع فيها ولا فاهم لمعناها، ولا لهدفها هو مغرور بظاهره يخدع الناس برؤيتهم له محافظا على الصلاة حتى يثقوا فيه.
وبعد، فإن العبادات فرضت؛ لتقوية العلاقة بين العبد وربه وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، فإن لم تثمر هذه العلاقات لم يكن لها عند الله وزن.
وفى تقديري أن من يصلي على الرغم من سوء معاملته أقل خطرا ممن لا يصلي على الرغم من حسن معاملته، فالأول مع الله ولو بسب ما، فعسى أن يتوب الله عليه، والثاني منقطع عن الله فهل يصل نفسه به .
والله أعلم .(1/326)
س:وهذا زوج يسأل ويقول: زوجتي مسلمة، ولكنها لا تصلي ولا تلتزم بالزي الشرعي، وكلما نصحتها بالصلاة ولبس الملابس الشرعية ترفض. فهل أطلقها ؟
ثبت في الحديث "أن الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته".
فعلى الزوج أن ينصح زوجته بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال رب العزة لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها }. ذلك لأنها مقصرة في حقوق الله (سبحانه) ويهددها بما يستطيع من التهديد إن ظن أن في ذلك فائدة كالهجر وعدم الاستجابة لرغباتها الكمالية.
يقول الإمام الغزالي في كتابه (الإحياء) : له حملها على الصلاة قهرا.
ورأى (صاحب الفروع) أن الزوج لا يملك حق تعزيرها عن الحقوق المتمحضة لله (تعالى) فذلك من اختصاص الحاكم.
وجاء في (معجم المغني) لابن قدامة الحنبلي: أن للزوج ضرب امرأته على ترك الفرائض، وإن لم تصلي يحتمل أن لا يحل له الإقامة معها.
ومن هذا نعرف: أن الرأي الغالب أن يعظها باللسان، فإن لم يفلح أنكر عليها تهاونها في الواجب لله، وعاملها معاملة تدل على كرهه وبغضه لها، ولا يتحتم عليه أن يطلقها من أجل ترك الصلاة؛ لأن المسلمة المقصرة ليست أقل شأنا من الكتابية التي يباح للمسلم أن يتزوجها، وتركها للحجاب كذلك لا يحتم عليه طلاقها إلا إذا تأكد أن عدم التزامها بالزي الشرعي سيؤدي إلى الفاحشة وهي مصرة على ذلك، فمن الخير أن يفارقها.
والله أعلم .(1/327)
س:مات أحد الجنود في معركة إسلامية، ولكنه لم يكن يصلي، فهل يغفر الله له وهل يعد من الشهداء ؟
تارك الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها يسأل عن تركه لها، فإن قال: تركتها لنسيان، أمر بها قضاء في وقت ذكرها. قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): "من نام عن صلاة أو سهى عنها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك". رواه مسلم.
وإن تركها لمرض صلاها بحسب طاقته من جلوس أو اضطجاع قال (تعالى) :{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }.
وإن تركها جاحدا لوجودها كان كافرا، حكمه حكم المرتد: يقتل بالردة إذا لم يتب. وإن تركها استثقالا لفعلها مع اعترافه بوجوبها، فقد اختلف الفقهاء في حكمه: فذهب أبو حنيفة: إلى أنه يضرب في وقت كل صلاة ولا يقتل.
وقال أحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب الحديث: يصير بتركها كافرا يقتل بالردة.
وذهب الشافعي: إلى أنه لا يكفر بتركها، ولا يقتل حدا، ولا يصير مرتدا، ولا يقتل إلا بعد الاستتابة، فإن تاب وأجاب إلى فعلها ترك وأمر بها، فإن قال: أصليها في منزلي، وكلت إلى أمانته، ولم يجبر على فعلها في مشهد من الناس، وإن امتنع من التوبة ولم يجب إلى فعل الصلاة قتل بتركها في الحال على أحد القولين، وبعد ثلاثة أيام في القول الثاني.
ويقتل بسيف صبرا.
وإذ قد عرفنا حكم ترك الصلاة؛ لأنه يجول بين الكفر والفسق، فإن الشهيد لو تركها جحدا كان كافرا، ولا تفيده الشهادة شيئا، فالجنة ونعيمها للمؤمنين خاصة، وإن تركها كسلا كان فاسقا آثما يمكن أن يدخل تحت قوله (تعالى) : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }.
وإذا لم يشأ الله له المغفرة يعاقب على ترك الصلاة، وبخاصة إذا علمنا أنها دين له أي: حق له، والحقوق لا تسقط فلابد من قضائها كما قال الترمذي.
وقد صح في الحديث الذي رواه مسلم "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين فهل هو عام في دين لله وللعباد أو خاص بدين العباد لا يغفر إلا برده إليهم".(1/328)
قال النووي في شرح صحيح مسلم: وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : "إلا الدين". ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة، وغيرهما من أعمال البر، لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى.
فنرجو أن يغفر الله للشهيد ترك الصلاة؛ لأنها ليست دينا وحقا للآدميين، ولعموم مغفرة ما دون الشرك لمن يشاء.
والله أعلم .(1/329)
س:يتهاون كثير من المسلمين اليوم في أداء صلاة الجماعة، وحتى بعض طلبة العلم، ويتعللون أن بعض العلماء قال بعدم وجوبها. فما حكم صلاة الجماعة وبماذا ننصح هؤلاء ؟
وردت عدة أحاديث صحيحة في صلاة الجماعة، وللعلماء إزاءها ثلاثة آراء: الرأي الأول يقول: بأنها فرض عين على كل قادر عليها. وبه قال أحمد بن حنبل. ومع القول بالفرضية، هل هي شرط في صحة الصلاة فتبطل بدونها، أو ليست شرطا في الصحة ولكن في تركها إثم.
ومن أدلة هذا الرأي حديث مسلم في رجل أعمى وابن أم مكتوم يحتاج إلى من يقوده إلى المسجد ويستأذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة في بيته، ولما أذن له أمره أن يحضر إلى الصلاة في المسجد؛ ما دام يسمع الآذان.
وكذلك من الأدلة حديث مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزما من الحطب، ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليس بهم علة فأحرقها عليهم".
والرأي الثاني يقول: إن صلاة الجماعة سنة مؤكدة. وبه قال مالك وأبو حنيفة وكثير من الشافعية.
ومن الأدلة حديث رواه أحمد، وأصحاب السنن: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجدا جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة".
وهو يفيد أن الصلاة الأولى كانت صحيحة، والثانية زيادة.
وحديث الصحيحين: "والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام في جماعة أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام".
فصيغة التفضيل تدل على أن الصلاة المنفردة صحيحة، وأن الجماعة أفضل.
والرأي الثالث: أن صلاة الجماعة فرض كفاية لابد أن تقام في المحلة ولو بعدد قليل. وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وكثير من المالكية والحنفية.
وهذا الرأي له وجاهته من أنها فرض كفاية على المجموع، وسنة مؤكدة في حق الجميع، أي: في حق كل واحد على حدة.(1/330)
وأداؤها في المسجد أفضل من أدائها في البيت، لحديث الصحيحين: "صلاة الرجل في جماعة تفضل صلاته في بيته وفى سوقه بضعا وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، وما تزال الملائكة تصلي عليه؛ ما دام في مجلسه الذي صلى فيه: اللهم اغفر له. اللهم ارحمه. ما لم يحدث فيه".
وقد اخترنا الرأي الثالث جمعا بين الأحاديث التي يشعر ظاهرها بالوجوب، وبين الأحاديث التي تدل على الندب، والجمع أفضل من إهدار بعضها، وهذا كله في حق الرجال.
أما صلاة الجماعة للنساء في المسجد فليست واجبة ولا مندوبة؛ لأن صلاتها في بيتها أفضل، ولو صلتها في بيتها جماعة كان أفضل.
والله أعلم .(1/331)
س:وهل يشترط في الإمامة نية الإمامة، وإذا دخل رجل فوجد آخر يصلي، فهل يأتم به، وهل يشرع الإتمام بالمسبوق ؟
لا يجب على المنفرد إذا صلى خلفه جماعة أن ينوي الجماعة؛ لأنها لا تجب إلا في مثل الجمعة.
والصلاة تعتبر جماعة بغير النية، وصلاة المأمومين صحيحة حتى لو كان الإمام يصلي نافلة، وذلك عند الإمام الشافعي.
أما عند أبي حنيفة ومالك: فالجماعة باطلة؛ لعدم اتحاد الصلاتين.
والله أعلم .(1/332)
س:يوجد خلاف كثير في حكم قراءة المأموم خلف الإمام. نود توضيح ذلك ؟
قراءة المأموم خلف الإمام فيها خلاف كبير للفقهاء، وخلاصته:
أن القراءة إما أن تكون للفاتحة أو للسورة والآية، فقراءة المأموم للفاتحة واجبة عند الإمام الشافعي؛ إلا إذا كان مسبوقا بجميع الفاتحة أو بعضها، فإن الإمام يتحمل عنه ما سبق به في الركعة الأولى، إن كان الإمام أهلا للتحمل، ودليله حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". رواه البخاري ومسلم.
وعند الحنفية مكروهة كراهة تحريم في الصلاة السرية و الجهرية لحديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له". لكنه حديث ضعيف.
وقد أثر هذا المنع عن ثمانين من كبار الصحابة، وإعمالا للنصين قال الشافعي: إن عدم قراءة المأموم خاص بالسورة لا بالفاتحة.
وعند المالكية: أن القراءة خلف الإمام مندوبة في الصلاة السرية، مكروهة في الصلاة الجهرية، إلا إذا قصد مراعاة الخلاف فتندب.
وكذلك قال الحنابلة: إنها مستحبة في السرية وفى سكتات الإمام في الجهرية وتكره حال قراءة الإمام في الصلاة الجهرية. هذا حكم قراءة الفاتحة.
أما قراءة غيرها فهي: سنة عند الشافعية؛ إذا لم يسمع المأموم قراءة الإمام. أما إذا سمع فلا تسن له.
وقال الحنفية: لا يجوز للمأموم أن يقرأ خلف الإمام مطلقا لا الفاتحة ولا السورة.
وقال المالكية: تكره القراءة للمأموم في الجهرية، وإن لم يسمع أو سكت الإمام.
وقد روي في ذلك حديث عبادة بن الصامت قال: "صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني أراكم تقرءون وراء إمامكم. قال: قلنا: يا سول الله إي والله. قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". رواه أبو داود والترمذي.
وفى لفظ: "فلا تقرءون بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن". رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وكلهم ثقاة. هذا.(1/333)
وروى أبو داود وأحمد والترمذي، وقال: حديث حسن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان يسكت سكتتين إذا استفتح الصلاة يعني: بعد تكبيرة الإحرام. وإذا فرغ من قراءة الفاتحة".
قال الخطابي: إنما كان يسكت في الموضعين؛ ليقرأ من خلفه فلا ينازعونه القراءة إذا قرأ.
وفى الحديث المتقدم الذي رواه أبو داود، وغيره قال: قال النووي عن أصحاب الشافعي: يسكت قدر المأمومين للفاتحة.
وقد ذهب إلى استحباب هذه السكتات الثلاثة قبل دعاء الاستفتاح، وبعد الفاتحة وقبل الركوع: الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال أصحاب الرأي وهم: أبو حنيفة وأصحابه ومالك: السكتة مكروهة، وللمأموم أن يختار من هذه الآراء ما يشاء دون تعصب ضد ممن يختار رأيا آخر.
والله أعلم .(1/334)
س:وجدنا طفلا رضيعا ملقى على الطريق، فوضعناه في ملجأ بجوار مسكننا، وتربى الطفل حتى تخرج في بعض المدارس، ونال قسطا وفيرا من التعليم،وأراد بعض أهالي الحي أن يجعلوه إماما في المسجد الذي بني حديثا، فقال البعض: هذا لا يجوز. فما رأي الدين ؟
اللقيط يغلب أن يكون نتاج علاقة جنسية غير مشروعة، وأوجب الفقهاء التقاطه ورعايته؛ لأنه لا ذنب له في هذا المصير، و قد يكون له شأن في التاريخ.
والقرطبي في تفسيره أثار مسألة إمامته في الصلاة، وقال: إن الإمام مالكا يكره أن يكون راتبا أي: إماما دائما معينا لذلك، وكذلك كرهه عمر بن عبد العزيز، وكان عطاء بن أبي رباح يقول: له أن يؤم إذا كان مرضيا. وهو قول الحسن البصري، وقول أحمد بن حنبل، وإسحاق.
و تجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي وهم: أبو حنيفة وأصحابه، وغيره أحب إليهم والشافعي قال: أكره أن ينصب إماما راتبا من لا يعرف أبوه، ومن صلى خلفه أجزأه.
وقال عيسي بن دينار: لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنا، وليس عليه من ذنب أبويه شيء، ونحوه قال ابن عبد الحكم: إذا كان في نفسه أهلا للإمامة.
قال ابن المنذر: يؤم بدخوله في جملة قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "يؤم القوم أقرأهم".
وقال أبو عمر: ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الإمامة ما يدل على مراعاة النسب، وإنما فيها الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين.
بعد هذا العرض لآراء الفقهاء أرى:
أن إمامته جائزة، وأن الصلاة خلفه صحيحة بالاتفاق، وأن الجمهور على ذلك إذا كان حسن السيرة والسلوك متفقها في الدين، فليست العبرة في الإمامة بالأنساب، بل بالفقه والصلاح، وهو متفق مع قوله ـ تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }.
ومع عموم الحديث الذي يقدم في الإمامة من هو أفقه وأقرأ.
والقليلون كرهوا أن يكون إماما راتبا، ولم يكرهوا أن يؤم الناس في بعض الأحيان، وهو إحساس عاطفي أكثر منه عقليا.(1/335)
والله أعلم .(1/336)
س:فكم العدد اللازم لقيام الجماعة ؟
الجماعة تنعقد بواحد مع الإمام، ولو كان أحدهما صبيا، أو امرأة.
والدليل ما رواه الجماعة أن "ابن عباس صلى بالليل في بيت خالته ميمونة خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يصل معهما أحد".
وكلما كثر المصلون كان ذلك أفضل.
والله أعلم .(1/337)
س:كيف يبدأ المصلون في إتمام الوقوف للصلاة، وهل يكون إتمام الصف من اليمين أو من المنتصف ؟
قال العلماء: إذا كان المأموم واحدا وقف عن يمين الإمام ندبا لا وجوبا، وإن كان المأمومون اثنين فأكثر وقفوا خلف الإمام.
ويندب أن يكون في وسط القوم، فإن وقف عن يمينهم أو يسارهم فقد خالف السنة، وإن كانت الصلاة صحيحة، وإذا جاء مأمومون للصلاة ووجدوا الصف الأول ناقصا صف بعضهم عن اليمين والبعض عن الشمال؛ ليكون الإمام في الوسط، وإذا وجدوه كاملا قال جماعة: يبدءون الصف من جهة اليمين؛ لحديث أبي داود وابن ماجة "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف".
وقال جماعة آخرون: يبدءون الوقوف خلف الإمام، ثم يكمل من اليمين أولا، ثم اليسار.
أما إذا حضر الشخص، ولم يجد سعة ولا فرجة في الصف الأول، فإنه يقف منفردا، ويكره له جذب أحد.
وقيل: يجذب واحدا من الصف.
وأنبه إلى أن الأمر سهل لا تنبغي زيادة الخلاف فيه.
والله أعلم .(1/338)
س:لقد ورد حديث بصحيح البخاري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها". نرجو توضيح ذلك ؟
هذا الحديث رواه البخاري، وغيره فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورد عنه حديث أيضا رواه البخاري يقول: "لو يعلم الناس ما في الآذان والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا". أي: لو يعلم الناس ثواب الصف الأول لحكموا القرعة بينهم عند كثرة من يرغبون فيه.
وروى مسلم، وغيره أنه قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ فقال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف".
وروى أحمد بإسناد جيد أنه قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول". وصلاة الله رحمة، وصلاة الملائكة استغفار.
وروى مسلم، وغيره أنه قال: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وروى أحمد وأبو داود عن أنس قال: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب أن يليه المهاجرون، والأنصار؛ ليأخذوا عنه".
تدل هذه الأحاديث على فضل الصفوف الأولى للرجال في صلاة الجماعة، وعلى فضل الصفوف الأخيرة للنساء، وعلى أفضلية الصف الأول من هذه الصفوف، وعلى أفضلية أن تكون الصفوف الأولى من ذوي العقول المستنيرة، والمتفقهين في الدين.
والحكمة في كون هؤلاء أولى بالصفوف الأولى تظهر في أمور منها:
أنهم أقدر على الأخذ والفهم لما يقوله الرسول ويفعله، وأقدر على تعليم غيرهم ما تعلموه منه، وأنهم يستطيعون تنبيهه إذا حدث ما يدعو إلى التنبيه، أو الفتح عليه عند التوقف عن القراءة، وأنهم أولى بالإمامة إذا أراد استخلاف أحد لعذر من الأعذار.
والحكمة في جعل النساء في الصفوف الخلفية تظهر في أمور: منها:
أولا: أن المرأة ليست في مستوى الرجال، وبخاصة أولو الأحلام، والنهى فيما يتميزون به مما سبق ذكره.(1/339)
ثانيا: أن تقدمها أمام الرجال فيه صورة إمامتها لهم، وهي ممنوعة باتفاق الأئمة.
ثالثا: أنها تشغل الرجال عن الخشوع في الصلاة بمجرد وجودها أمامهم، وذلك أمر طبيعي، وعند ركوعها وسجودها يكون الانشغال أشد، وهو ما يفسر به حديث "قطع الصلاة إذا مرت المرأة أمام المصلي". عند جمهور الفقهاء.
رابعا: ألا تختلط صفوف الرجال بالنساء إذا تخللن صفوفهم فيكون انصرافهن بعد انتهاء الصلاة أيسر.
وكان من المأثور أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان لا ينصرف عقب الصلاة مباشرة؛ بل ينتظر هو وأصحابه حتى ينصرف النساء أولا". هذا.
وكان من المتبع في ترتيب الصفوف في الجماعة: أن يكون الرجال في الصفوف الأولى، ثم يليهم الصبيان، ثم يليهم النساء". كما رواه أحمد، وتوسط الصبيان فيه شدة حيطة من انشغال الرجال بالنساء.
فمن الجائز أن بعض من في الصف الذي يليه صف النساء إذا ركع لمح بنظره بعض النساء.
ولا شك أن الخشوع في الصلاة هو أساس قبولها كما قال الله تعالى: { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون }.
والله أعلم .(1/340)
س:حضرت إلى الصلاة فوجدت كل الصفوف التي أمامي مكتملة؛ فصليت منفردا وحدي في صف. فما حكم الدين في ذلك، وما الحكم إذا وجدت صبيا لم يبلغ الحلم فهل يصح الوقوف معه ؟
لو دخل المصلي فوجد الجماعة مقامة، وأن الصف الأول غير تام، أو فيه فرجة، فانفراده بصف مكروه، ولا خلاف في ذلك.
لكن هل مع الكراهة تصح صلاته أو تبطل وعليه إعادتها؟
اختلف السلف في ذلك: فقال طائفة ومنهم أحمد: لا يجوز ذلك ولا تصح صلاته.
وعلى قولهم هذا: يكون الحكم من باب أولى على من تمكن من الدخول في الصف الأول، ولم يدخل بل صلى وحده.
وطائفة أخرى ومنهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي: تجوز صلاته، ولا إعادة عليه.
وعلى هذا، من لم يجد فرجة ولا سعة في الصف فما الذي يفعله؟
قيل: يقف منفردا ولا يجذب إلى نفسه أحدا، لأنه لو جذبه إليه؛ لفوت عليه فضيلة الصف الأول ولأوقع الخلل في الصف، وبهذا قال الطبري وحكاه عن مالك.
وقال أكثر أصحاب الشافعي: يجذب إلى نفسه واحدا، ويستحب للمجذوب أن يساعده.
وروي عن عطاء: أن الداخل إلى الصلاة والصفوف قد استوت واتصلت، يجوز أن يجذب إلى نفسه واحدا؛ ليقوم معه.
واستقبح ذلك أحمد وإسحاق، وكرهه الأوزاعي ومالك.
وقال بعضهم: جذب الرجل في الصف ظلم. واستدل القائلون بالجواز مما رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي من حديث وابصة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) قال لرجل صلى خلف الصف: "أيها المصلي هلا دخلت في الصف أو جررت رجلا من الصف أعد صلاتك". لكن هذا الحديث ضعيف، ورواه أبو داود مرسلا.
وما رواه الطبراني عن ابن عباس في جذب رجل إليه، إسناده واهن.
هذا ملخص ما قيل في هذا الموضوع.
والله أعلم .(1/341)
س:وإذا أم رجل صبيين فأكثر فهل يجعلهما خلفه، أو عن يمينه، وهل البلوغ شرطا لمصافة الصبي ؟
قال العلماء في ترتيب صفوف الجماعة: يقف الرجال أولا، ثم الصبيان، ثم النساء وإذا لم يوجد من المأمومين إلا صبي، أو صبيان أو أكثر، فالحكم كالحكم مع الرجال البالغين تماما؛ يقف الصبي الواحد عن يمين الإمام كما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع ابن عباس.(1/342)
س:يقول البعض: إنه لا يجوز إقامة جماعة أخرى في المسجد بعد انتهاء جماعة المصلين. فهل لهذا أصل، وما الصواب ؟
جاء في تفسير القرطبي عند الكلام على مسجد الضرار الذي يفرق بين جماعة المسلمين أن الإمام مالكا قال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين خلافا لسائر العلماء.
وقد روي عن الشافعي: المنع، حيث كان تشكيكا للكلمة.
وجاء في فقه المذاهب الأربعة عن تكرار الجماعة في المسجد الواحد، أن الحنابلة قالوا: إذا كان الإمام الراتب يصلي بجماعة فيحرم على غيره أن يصلي بجماعة أخرى وقت صلاته، كما يحرم أن تقوم جماعة قبل صلاة الإمام الراتب، بل لا تصح صلاة جماعة غير الإمام الراتب في تلك الحالتين، ومحل ذلك إذا كان بغير إذن الإمام الراتب.
أما إذا كان بإذنه لا يحرم.
والشافعية قالوا: تكره إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن إمامه الراتب مطلقا قبله، أو بعده أو معه، إلا إذا كان المسجد مفروقا، أو ليس له إمام راتب، أو له إمام راتب وضاق المسجد عن الجميع، أو خيف خروج الوقت وإلا فلا كراهة.
والمالكية قالوا: تحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب؛ لأن القاعدة عندهم أنه متى أقيمت الصلاة للإمام الراتب فلا يجوز أن تصلى صلاة أخرى فرضا أو نفلا، لا جماعة ولا فرادى، ويتعين على من في المسجد الدخول مع الإمام؛ إذا كان لم يصل هذه الصلاة المقامة أو صلاها منفردا.
أما إذا كان قد صلاها جماعة؛ فيتعين عليه الخروج من المسجد لأن لا يطعن على الإمام، وإذا وجد بمسجد واحد أئمة متعددون مرتبون، فإن صلوا في وقت واحد حرم؛ لما فيه من التشويش،وإذا ترتبوا بأن يصلي أحدهم، فإذا انتهى من صلاته صلى الآخر وهكذا، فهو مكروه على الراجح.
والله أعلم .(1/343)
س:هل الجماعة تدرك بإدراك السلام مع الإمام، أم أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة، وإذا دخل جماعة والإمام في التشهد الأخير، هل الأفضل لهم الدخول مع الإمام، أم ينتظرون سلامه ويصلون جماعة ؟
الجماعة تدرك بإدراك أي جزء منها قليلا كان أو كثيرا مع الإمام قبل أن يسلم، وأفضلها أن يدركها من أولها إلى آخرها معه، وأولها هو: إدراك تكبيرة الإحرام، ولا تحسب للمأموم ركعة حتى يدرك ركوعها مع الإمام، وإذا كان مسبوقا ولم يتمكن من قراءة الفاتحة، ثم ركع مع الإمام، تحمل الإمام عنه الفاتحة، وحسبت له ركعة عند جمهور الفقهاء.
ولو دخل جماعة والإمام في التشهد الأخير فالأفضل لهم الدخول مع الإمام وهو أفضل من انتظارهم حتى يفرغ الإمام ثم يصلون جماعة وحدهم؛ لأن إقامة جماعة ثانية قد يحدث ارتباكا بالنسبة للمسبوقين من الجماعة الأولى، وهم يؤدون ما فاتهم منها.
والدين يحب النظام ويكره كل ما يخل به، ومع ذلك لو صلوا جماعة وحدهم فصلاتهم صحيحة، ولهم الثواب إن شاء الله، والكلام هو في الأفضلية فقط.
والله أعلم .(1/344)
س:فما الشروط الواجب توافرها في الإمام، أو ما صفات الإمام ؟
يشترط لصحة الجماعة شروط: منها في الإمام: الإسلام، البلوغ عند الجمهور، بالفرض، وبالاتفاق في صلاة الجمعة، والعقل والذكورة إذا كان المأمومون ذكورا، والقراءة الحسنة إذا كان في المأمومين من يحسنونها، والسلامة من الأعذار: كالسلس، إذا كان المأمومون لا عذر بهم.
وإذا اختل شرط من هذه الشروط؛ بطلت الجماعة.
والله أعلم .(1/345)
س:رجل يقول: يؤمنا في الصلاة إمام عرفنا أنه يدخن ويتعاطى المخدرات. هل يجوز أن يكون إماما، وما حكم صلاتنا خلفه ؟
روى البخاري أن عبد الله بن عمر كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي.
وروى مسلم أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد، وصلى عبد الله بن مسعود خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، وفي مرة صلى الصبح بالمصلين أربع ركعات، فجلده عثمان بن عفان على ذلك.
وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف بن عبيد، وكان متهما بالإلحاد وداعيا إلى الضلال.
فكل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره ما لم يكن أقل منه.
ولكن الصلاة خلف المنحرفين مكروهة، فإذا وجد شخص مستقيم، كانت الصلاة خلفه أولى.
أما إذا تحتم المشبوه أو المنحرف، لأن وظيفته الإمامة مثلا، جازت الصلاة خلفه مع القيام بواجب نصحه؛ ليرضى عنه الناس ويستريحوا لإمامته.
فقد جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: إمام قوم وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوان متصارمان". هذا.
ومع كون الصلاة خلف الفاسق مكروهة، فهي صحيحة، وغير باطلة، ويؤيد ذلك إلى جانب ما سبق في روايات البخاري ومسلم حديث البيهقي: "صلوا خلف كل بر وفاجر وجاهدوا مع كل بر وفاجر".
جاء في تفسير القرطبي قول: وأما أهل البدع من أهل الأهواء المعتزلة والجهمية وغيرها.
فذكر البخاري عن الحسن: صل وعليه بدعته.
وقال أحمد: لا يصلي خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه.
وقال مالك: ويصلى خلف أئمة الجور، ولا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم.(1/346)
وقال ابن المنذر: كل من أخرجته بدعة إلى الكفر لم تجب الصلاة خلفه، ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة، ولا يجوز تقديم من هذه هي صفته ثم قال القرطبي: وأما الفاسق بجوارحه مثل: الزاني، وشارب الخمر، ونحو ذلك، فاختلف المذهب أي: المالكي فيه، وقال ابن حبيب: من صلى وراء من شرب الخمر، فإنه يعيد أبدا يعني: حتما إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة، فلا إعادة على من صلى خلفه، إلا أن يكون حينئذ سكرانا قاله من لقيت من أصحاب مالك.
ثم ذكر القرطبي حديثا فيه: "ولا يؤمن فاجر برا إلا أن يكون ذا سلطان". وحكم بأنه ضعيف.
والله أعلم .(1/347)
س:شخص يتمتع بحسن الخلق، ويحفظ القرآن الكريم كاملا، وتخرج في إحدى كليات الأزهر الشريف، ثم أصيب في حادثة؛ فقطعت يده، وتقدم ليؤمنا في الصلاة ـ صلاة العشاء ـ فمنعه بعض المصلين، وقالوا: إنه لا يجوز إمامته. فما حكم الدين في هذا ؟
الصلاة خلف إمام مقطوع اليدين صحيحة، وإن كانت مكروه، إذا وجد غيره.
جاء في تفسير القرطبي ما نصه: ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشل والأقطع والخصي والعبد إذا كان كل واحد منهم عالما بالصلاة.
وقال ابن وهب: لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل؛ لأنه ناقص عن درجة الكمال وكرهت إمامته؛ لأجل النقص وخالفه جمهور أصحابه، وهو الصحيح؛ لأنه عضو لا يمنع فقده فرضا من الصلاة؛ فجازت الإمامة الراتبة مع فقده: كالعين.
وقد روى أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استخلف ابن أم متكوم يؤم الناس وهو أعمى، وكذلك الأعرج والأقطع والأشل والخصي قياسا ونظرا.
وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في الأعمى: وما حاجتهم إليه، وكان ابن عباس وعبان بن مالك يؤمان، وكلاهما أعمى.
وعليه عامة العلماء.
والله أعلم .(1/348)
س:إذا أصيب الإمام أثناء الصلاة بمغص شديد جعله لا يستطيع أن يكمل الصلاة، فسلم وخرج فهل يكمل المصلون صلاتهم، أم يصلون مثله، أو كان من الواجب أن يختار من يحل محله لإتمام الصلاة، ومثله أيضا إذا انتقض وضوءه فماذا يفعل ؟
قال العلماء: يجوز للإمام إذا أحس بألم أن يستخلف أحد المأمومين؛ ليكمل الصلاة بدليل ما رواه البخاري أن عمر (رضي الله عنه) لما ضرب وهو يصلي أخذ عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فصلى بهم صلاة خفيفة.
وكذلك روى سعيد بن منصور أن عليا (كرم الله وجهه) صلى ذات يوم فرعف أي: نزل دم من أنفه، فأخذ بيد رجل فقدمه، ثم انصرف.
فالإمام إذا كان به أي عذر، يجوز أن يخرج من الصلاة وأن يستخلف واحدا من المأمومين.
والله أعلم .(1/349)
س:نرى بعض الأئمة بعد الانتهاء من الصلاة يظل جالسا متجها إلى القبلة ويختم الصلاة، ونرى البعض الآخر بعد الانتهاء من الصلاة يتجه نحو المصلين بوجهه. فأيهما أصح في فعله ؟
روى أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يؤم الناس فينصرف على جانبيه جميعا على يمينه، وعلى شماله".
وعن عائشة أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة.
وروى البخاري وأحمد عن أم سلمة قالت: "كان رسول ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مكانه يسيرا قبل أن يقوم قالت: فنرى ـ والله أعلم ـ أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال".
من هذا نرى: أن بقاء الإمام بعد السلام على هيئة استقبال القبلة؛ ليختم الصلاة لا مانع منه، وأن تحوله عن القبلة جهة اليمين أو الشمال جائز أيضا لا مانع منه، ولا يصح أن نتعصب لحالة من الحالات.
وقال العلماء: من السنة بعد سلام الإمام أن يلتزم مجلسه مستقبلا للقبلة بعد صلاة المغرب والصبح، وذلك ليقول: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وذلك عشر مرات كما في الحديث؛ لأن الفضيلة المترتبة على ذلك مقيدة بقولها قبل أن يثني رجله.(1/350)
والحديث هو ما رواه الترمذي وغيره عن أبي ذر (رضي الله عنه) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من قال في دبر صلاة الصبح وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات؛ كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك أو وكان يومه في ذلك في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله تعالى". قال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي بعض النسخ صحيح.
وفى سنن أبي داود عن مسلم بن الحارث التميمي الصحابي أن "رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أسر إليه فقال: إذا انصرفت عن صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت من ليلتك؛ كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك، فإنك إن مت من يومك؛ كتب لك جوار منها". هذا. والقصطلاني في (المواهب اللدنية) وفى شرح الزرقاني أطال الكلام في وضع الإمام بعد الانتهاء من الصلاة، وبين وجهات النظر في اختلاف الأقوال فيه.
ولا أرى فائدة كبيرة، وبخاصة في ظروفنا الحاضرة في الاهتمام بهذا الموضوع.
والله أعلم .(1/351)
س:الإمام الراتب لمسجدنا يعد عالما حافظا لكتاب الله فقيها، وتأخر مرة عن صلاة المغرب ؛ فأمنا من هو أقل منه في العلم، ثم حضر ونحن في الركعة الأولى. هل يجوز للإمام الذي يصلي بنا أن يتأخر للإمام الراتب أم يستمر في صلاته، وإذا جاز أن يتأخر له وقد صلى ركعة. فهل يتم المصلون الصلاة معه؟
إن صلاة الجماعة تصح خلف كل من تصح صلاته لنفسه؛ بشرط ألا يكون أنقص من المأمومين بعيب يتجاوز عنه بتعذر إصلاحه، كالألفق أوالفأفاء الذي لا يحسن القراءة، فإن إمامته لا تجوز إلا لمن هو مثله، ولا تجوز للسليم من هذه الحالة.
وبخصوص ما جاء في السؤال، روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد أن "رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذهب إلى بني عمرو بن عوف؛ ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم. قال: فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والناس في الصلاة <فتخلط> حتى وقف في الصف فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق؛ التفت، فرأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأشار إليه رسول الله: أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه، وحمد الله على ما أمره به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى، ثم انصرف فقال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق، ما نابه شيء في صلاته، فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء".(1/352)
وجاء في (نيل الأوتار) للشوكاني: أن هذا الحديث فيه من العلم أن المشي من صف إلى صف يليه، لا يبطل الصلاة، وأن حمد الله لأمر يحدث، والتنبيه بالتسبيح جائزان، وأن الاستخلاف في الصلاة لعذر جائز من طريق أولى، لأن <قصاراه> وقوعها بإمامين.
ومن فوائد الحديث: جواز كون المرء في بعض صلاته إماما، وفى بعضها مأموما،وجواز رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء، وجواز الالتفات للحاجة، وجواز مخاطبة المصلي بالإشارة، وجواز الحمد والشكر على الوجاهة في الدين، وجواز إمامة المفضول للفاضل، وجواز العمل القليل في الصلاة، وغير ذلك من الفوائد.
والله أعلم .(1/353)
س:وماذا يفعل المصلون خلف الإمام إذا سقط مغشيا عليه، أو أصابته الوفاة فجأة؟
إذا توفي الإمام أثناء الصلاة كان حكمه حكم من انتقض وضوءه، ووجب على المأمومين أن يتموا صلاتهم، إما فرادى، وإما بأن يتقدم أحدهم؛ ليكمل الصلاة جماعة.
ولا يجوز لهم قطع الصلاة، ولا الخروج منها، فإنهم لن يستطيعوا أن يردوا إليه الروح وذلك بخلاف ما إذا كان هناك خطر يهدد حياة المصلي، فإنه يجوز له أن يخرج من الصلاة.
والله أعلم .(1/354)
س:كنت أصلي منفردا، وجاء شخص ووقف بجانبي، ثم زاد الناس فكانت جماعة. فهل يجب عليَّ تغيير النية من الصلاة الفردية إلى صلاة الجماعة، وهل تصبح صلاتي جماعة، أم منفردة، وهل تصح صلاة المأمومين حتى لو كنت أصلي النوافل؟
في صلاة الجماعة تجب نية الجماعة على المأمومين؛ لأنهم ربطوا صلاتهم بصلاة الإمام.
أما الإمام فهو كالمنفرد لا يجب عليه أن ينوي الجماعة حتى لو صار إماما بعد أن بدأ الصلاة منفردا، وهذا كله في غير الصلاة التي تتوقف على الجماعة كالجمعة.
جاء في (فقه المذاهب الأربعة) أن:
الحنابلة قالوا: يشترط في صحة الاقتداء نية الإمام الإمامةَ في كل صلاة، فلا تصح صلاة المأموم إذا لم ينو الإمام الإمامة.
وأن الشافعية قالوا: يشترط في صحة الاقتداء: أن ينوي الإمام الجماعة في الصلوات التي تتوقف صحتها على الجماعة: كالجمعة والجمع للمطر والصلاة المعادة.
وأن الحنفية قالوا: نية الإمامة شرط لصحة صلاة المأموم؛ إذا كان إماما لنساء، فتفسد نية الإمام؛ إذا لم ينو إمامهن الإمامة. وأما صلاته هو فصحيحة، ولو حازته امرأة.
وأن المالكية قالوا: نية الإمام ليست شرطا في صلاة المأموم، ولا في صحة صلاة الإمام إلا في أربعة مواضع: صلاة الجمعة، والجمع ليلة المطر، وصلاة الخوف، والمستخلف الذي قام مقام الإمام لعذر.
أما المسبوق إذا قام بعد سلام الإمام ليكمل صلاته، ثم اقتدى به جماعة آخرون، صلاته صحيحة ما دام إمامه قد سلم، وقام هو لإتمام صلاته، وهو يعتبر منفردا، وذلك عند الشافعية والحنابلة.
أما الحنفية فقالوا: لا تصح إمامته، وكذلك قال المالكية: إذا كان المسبوق قد أدرك ركعة مع إمامه، لكن لو أدرك أقل من ركعة؛ صح الاقتداء به.
وما دام هناك خلاف في الرأي، فلا يصح التعصب لأي رأي من الآراء.
والله أعلم .(1/355)
س:هل يجوز أن يصلي الإمام قاعدا، ويصلي المأمومون وقوفا، وفى هذه الحالة لا يتحقق اتباع المأموم للإمام، فهل تصح صلاتهم ؟
روى البخاري ومسلم عن عائشة وأنس (رضي الله عنهما) أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اشتكى من إصابة فذهب بعض الصحابة لعيادته، ولما حضرت الصلاة صلى بهم قاعدا، وهم واقفون، فلما انتهى من الصلاة بين لهم: أن الإمام إذا صلى قاعدا قعدوا، وإذا صلى قائما صلوا قياما، وبين العلة في ذلك في رواية لمسلم، وغيره: "أن صلاتهم قياما وهو قاعد يشبه فعل أهل فارس بعظمائها، وقد نهى عن الوقوف لأي شخص تعظيما له وهو جالس".
وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وجد خفة في نفسه وهو مريض؛ خرج إلى الصلاة بين رجلين فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والناس يصلون بصلاة أبي يكر والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قاعد". وهذا آخر الأمرين من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
إيزاء هذه النصوص اختلف الفقهاء في صلاة القائم خلف القاعد:
فقال بعضهم: بالجواز بناء على الحديث الأخير.
وقال بعضهم: بالمنع، فيجب عليه القعود بناء على الحديث الأول، وأحاديث أخرى.
وقال بعضهم: إن ابتدأ الإمام الصلاة جالسا؛ جلسوا.
وإن ابتدأها واقفا وقفوا، فإن طرأ عليه عذر بعد ذلك فجلس صلوا هم قياما، والنقاش بين أصحاب الآراء في هذه المسألة طويل.
جاء في (فقه المذاهب الأربعة) أن:
المالكية قالوا: لا يصح اقتداء القائم بالقاعد العاجز عن القيام، ولو كانت الصلاة نفلا، إلا إذا جلس المأموم اختيارا في النفل، فتصح صلاته خلف الجالس فيه.
وأن الحنفية قالوا: يصح اقتداء القائم بالقاعد الذي يستطيع أن يركع ويسجد.
أما العاجز عن الركوع والسجود، فلا يصح اقتداء القائم به إذا كان قادرا.(1/356)
وأن الشافعية قالوا: تصح صلاة القائم خلف القاعد والمضطجع العاجز عن القيام والقعود، ولو كانت صلاتهما بالإيحاء.
وأن الحنابلة قالوا: لا يصح اقتداء القائم بالقاعد الذي عجز عن القيام إلا إذا كان العاجز عن القيام إماما راتبا وكان عجزه عن القيام بسبب علة يرجى زوالها.
وما دام الأمر فيه خلاف؛ فيجوز الأخذ بأي رأي دون تعصب كما هو الشأن في الأمور الخلافية.
والله أعلم.(1/357)
س:نرى بعض الأئمة ينتظر الداخل خلفه؛ لإدراك الركعة، وبعضهم يقول: لم يشرع الانتظار. فما الصواب في ذلك ؟
لا مانع من إطالة الإمام في الركعة الأولى؛ حتى يدركه من يريدون الاقتداء به عند شعوره بقدومهم أو سماع قولهم ـ مثلا: إن الله مع الصابرين.
ففي حديث أبي قتادة أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يطول في الأولى قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى".
وعن أبي سعيد قال: "لقد كانت الصلاة تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الركعة الأولى مما يطولها". رواه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة.
فلا مانع من انتظار الإمام للمأموم.
والله أعلم .(1/358)
س:في قريتنا مسجد صغير، ومعظم المصلين فيه غير متعلمين، ويؤم المصلين فيه صبي متعلم هل تجوز إمامته ؟
روى البخاري وغيره أن عمرو بن سلمة نقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال: "فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني؛ فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين".
وجاء في رواية النسائي "ابن ثماني سنين".
وجاء في رواية أحمد وأبي داود أنه قال: "فما شهدت مجمعا من جرم، وهم قومه إلا كنت إمامهم إلى يومي هذا".
بناء على ما تقدم: يجوز للصبي أن يكون إماما لمن هم أكبر منه سنا، وبخاصة إذا كان متميزا عنهم بالتفقه في الدين، وهذا ما قال به الإمام الشافعي (رضي الله عنه).
أما الإمام مالك فقد كره أو منع ذلك في الفرائض.
وأما أبو حنيفة وأحمد فقد اختلفت الرواية عنهما.
والمشهور عنهما، كما قال ابن حجر في كتابه (فتح الباري): أنهما يجوزان أن يكون الصبي إماما في النوافل: كالتراويح والعيدين دون الفرائض.
لكن هذه التفرقة لا معني لها؛ لأن حديث عمرو فيه آذان للصلاة، ثم الإمامة، والآذان لا يكون إلا للفريضة دون النافلة.
والذين منعوا إمامة الصبي، أو كرهوها في الفريضة استندوا إلى أثر عن ابن مسعود بأنه: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود أي: حتى يكلف بالبلوغ.
وكذلك أثر مثله عن ابن عباس رواهما الأصرم في سننه، وليسا مرفوعين إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) بل هما رأيان لهما.
وفى مثل هذا المقام يقدم الحديث المرفوع على الكلام الموقوف على الصحابي والموضوع موضح في كتب كثيرة، وخلاصته:
أن إمامة الصبي في الفرائض جائزة وصحيحة عند الشافعي، ويمكن الأخذ به فالصبي يصلي بوالدته وإخوته وأخواته، والتلميذ يصلي بزملائه، لكنها غير جائزة عند الأئمة الآخرين، والبالغ إن وجد هو أولى من الصبي.
والله أعلم .(1/359)
س:أمنا رجل فسلم تسليمه واحدة عن يمينه، فهل يجوز الاقتصار على واحدة، وهل ورد في السنة شيء من ذلك؟
الخروج من الصلاة بعد انتهائها يكون عند جمهور العلماء بالسلام، ويكفي فيه أن يكون مرة واحدة، وتسن أن تكون على اليمين.
أما الثانية فهي سنة، ويستحب أن تكون على اليسار، والأصل في السلام: حديث أحمد والشافعي وأبي داود وابن ماجة والترمذي وهو: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم".
وذلك يتحقق بتسليمة واحدة .
والله أعلم .(1/360)
س:في بعض البلاد التي لا يسلم أهلها من الشرك مع دعواهم الإسلام؛ لغلبة الجهل والطرق البدائية عليهم مثل: التيجانية، أو في بلاد غير المسلمين يذبحون مع اعتقادهم في غير الله، فذبائحهم كذبيحة المشركين والوثنيين. فما الحكم في الصلاة خلف إمام يأكل من ذبائحهم ؟
ذبائح غير المسلمين لا يحل أكلها، ما عدا ذبائح أهل الكتاب، وهم: اليهود والنصارى، فيحل أكلها لقوله ـ تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم}.
وعليه فالذي يأكل من ذبائح غيرهم قد ارتكب إثما كبيرا، ولإن كان فاسقا بذلك فإمامة الفاسق صحيحة، وإن كانت مكروهة.
وإذا ذكر عند الذبح اسم غير الله، سواء من المسلمين، أو من غيرهم، فالذبيحة ميتة لقول الله (تعالى) في المحرمات: {وما أهل لغير الله به}.
ومنه ما لو قيل عند الذبح: بسم الشيخ الفلاني، أو السيد الفلاني.
والله أعلم .(1/361)
ما الحكم في الإمام الذي نسي أنه غير متوضئ، هل تفسد صلاته وصلاة المأمومين، وما الحكم إذا تذكر أثناء الصلاة، أو إذا تذكر بعد السلام وقبل تفرق الجماعة، أو إذا تذكر بعد تفرق الجماعة ؟
رأى جمهور الفقهاء: أن الإنسان إذا اكتشف أنه لم يغتسل من الجنابة أو لم يتوضأ من الحدث، وصلى، فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها؛ لأن من شروط صحة الصلاة: الطهارة من الحدث والنجس.
وأبو حنيفة يقول: بصحة الصلاة مع نسيان الطهارة بناء على حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وإذا كان المحدث إماما ناسيا أنه محدث، ولم يعلم المأمومون حتى انتهت الصلاة، فصلاة المأمومين صحيحة، وصلاة الإمام باطلة.
وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر من الصحابة (رضي الله عنهم).
ومن الأئمة روي عن مالك والشافعي.
أما أبو حنيفة فيقول: بإعادة الصلاة للإمام والمأمومين، ودليل جمهور الأئمة كما يقول ابن قدامة: إجماع الصحابة.
و روي عن عمر: أنه صلى بالناس الصبح ، ثم خرج إلى مكان فأهراق الماء، فوجد في ثوبه احتلاما، فأعاد ولم يعد الناس. وحدث مثل ذلك لعثمان (رضي الله عنه).
وروي عن علي أنه قال: إذا صلى الجنب بالقوم، فأتم الصلاة بهم، آمره أن يغتسل، ويعيد، و لا آمرهم أن يعيدوا.
وابن عمر صلى بهم الصبح بغير وضوء، فأعاد ولم يعيدوا. رواه كله الأصرم، وهذا في محل الشهرة، ولم ينقل خلافه، فكان إجماعا، ولم يثبت ما نقل عن علي في خلافه.
وعن البراء بن عازب أن النبي ( صلي الله عليه وسلم ) قال: "إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم".
ثم قال ابن قدامة: والحكم في النجاسة كالحكم في الحدث سواء؛ لأنها إحدى الطهارتين فأشبهت الأخرى؛ ولأنها في معناها في خفائها على الإمام والمأموم، بل حكم النجاسة أخف وخفاؤها أكثر، إلا أن في النجاسة رواية أخرى:
أن صلاة الإمام تصح أيضا إذا نسيها.
هذا هو الحكم فيما لو علم بالحدث بعد الصلاة.(1/362)
أما لو علم الإمام بحدث نفسه في الصلاة، أو علم المأمومون؛ لزمهم استئناف الصلاة.
وفيه رواية أخرى عن أحمد أنهم يبنون على صلاتهم، ويستأنف هو.
وقال الشافعي: يبنون على صلاتهم سواء علم بذلك أو علم المأمومون، كما لو قام بخامسة فسبحوا به فلم يرجع. هذا.
والله أعلم .(1/363)
س:نرى بعض الناس إذا دخلوا المسجد لصلاة الفجر، وإذا أقيمت الصلاة يصلي ركعتي الفجر، ثم يلحق بالإمام. فما الحكم في ذلك ؟
ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة".
وجاء في رواية أخرى لمسلم أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر برجل يصلي، وقد أقيمت صلاة الصبح فقال: "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعا".
يقول النووي: فيها النهي الصريح عن افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة سواء أكانت راتبة: كسنة الصبح والظهر والعصر، أو كانت غير ذلك،.
وهذا مذهب الشافعي والجمهور.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا لم يكن صلى ركعتي سنة الصبح، صلاهما بعد الإقامة في المسجد ما لم يخش فوات الركعة الثانية.
وقال الثوري: ما لم يخش فوت الركعة الأولى.
وقالت طائفة: يصليهما خارج المسجد، ولا يصليهما بعد الإقامة في المسجد.
والحكمة في هذا النهي: أن يتفرغ الإنسان للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام، وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها.
وقيل: إن الحكمة: ألا يتطاول الزمان على النافلة؛ فيظل وجوبها، وهو رأي ضعيف.
ثم قال النووي بعد ذكر رواية للحديث قال: فيه دليل على أنه لا يصلي بعد الإقامة نافلة وإن كان يدرك الصلاة مع الإمام.
وفيه رد على من قال: إن علم أنه يدرك الركعة الأولى أو الثانية يصلي النافلة.
أما إذا شرع في صلاة النافلة، ثم أقيم للصلاة، فهل يجوز له أن يخرج من الصلاة أو لا يجوز؟
ذلك أمر يرجع فيه إلى حديث المتطوع أمير نفسه.
والله أعلم .(1/364)
س:وإذا سهى المأموم، هل يسجد سجود السهو، وإذا سهى المسبوق، هل يسجد للسهو، ومتى يسجد له ؟
المأموم متابع لإمامه؛ حتى يفرغ من صلاته، فلو سهى المأموم، وهو مع الإمام لا يسجد للسهو ما دام الإمام لم يسجد.
والمسبوق ما دام مع الإمام لا يسجد؛ فإن قام ليكمل صلاته صار منفردا، ولو سهى في شيء يسجد له، فلا مانع من أن يسجد وهو منفرد.
والله أعلم .(1/365)
س:هل يجوز لمن صلى الفرض، أن يؤم جماعة أخرى بالفرض نفسه ؟
روى الترمذي وأبو داود والنسائي أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجلين: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنهما لكما نافلة".
قال ابن عبد البر: قال جمهور الفقهاء: إنما يعيد الصلاة مع الإمام في جماعة من صلى وحده في بيته أو في غير بيته.
وأما من صلى في جماعة، وإن قلت، فلا يعيد في أخرى قلت أو كثرت.
وممن قال بهذا: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم.
ومن حجتهم قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "لا نصلي صلاة في يوم مرتين".
وقال أحمد ابن حنبل: بالجواز؛ لأنها سنة.
ورد على هذا الحديث: بأن المنع إذا صلاها مرة ثانية على أنها فريضة.
أما صلاتها على أنها نافلة فجائز؛ لأن الحديث الأول جعلها نافلة، وفى لفظ لأبي داود: "إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الصلاة مع الإمام، فليصلها معه فإنها له نافلة". وروى مسلم عن أبي ذر حديثا جاء فيه: "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها". وفيه: "فإن أدركتها معهم فصلي فإنها لك نافلة". والحديث صريح في أن الصلاة المعادة تكون نافلة.
والأولى هي الفريضة بصرف النظر عن كون الأولى جماعة أو فرادى.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن حبان، والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد قال: "صلى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدخل رجل فقام يصلي الظهر فقال:
ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه".
فهناك شروط لجواز إعادة الصلاة فيها اختلاف بين الفقهاء منها:
عند المالكية: أن يصلي الثانية مأموما، وليس إماما، لمن لم يصل هذه الصلاة.
ومن هنا يعرف جواب السؤال.
والله أعلم .(1/366)
س:متى يقوم المسبوق للصلاة ليتم صلاته ؟
إذا كان المصلي مأموما مسبوقا وسلم الإمام؛ وجب عليه أن يقوم ليكمل صلاته، والقيام يكون بعد التسليمة الأولى؛ لأن الإمام خرج بها من الصلاة.
أما التسليمة الثانية فسنة، ومع ذلك فالأفضل ألا يقوم المسبوق إلا بعد تسليم الإمام للتسليمة الثانية، وذلك للخلاف في أن الصلاة تنتهي بتسليمة واحدة، أو بتسليمتين، فمن قال: بأن الصلاة تنتهي بتسليمة واحدة، يبيح للمأموم المسبوق أن يقوم ليكمل صلاته بعد تسليم الإمام للمرة الأولى.
ومن قال: لا تنتهي إلا بتسليمتين يمنع أن يقوم المسبوق لتكميل صلاته إلا بعد أن يسلم الإمام التسليمتين.
ومن أخذوا بالرأي الأول وهم الجمهور قالوا: يسن انتظار المسبوق حتى يسلم الإمام التسليمة الثانية مراعاة للخلاف.
والله أعلم .(1/367)
س:وما حكم الصلاة وراء إمام يعتقد في صاحب القبر النفع والضر ؟
معلوم أن إمامة الكافر حرام؛ لأن صلاته باطلة من أساسها، وفي إمامته ولاية والله يقول:{ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا }.
ومن الكفر أن يعتقد الإنسان أن بعض الأولياء في قبورهم يضرون وينفعون بأنفسهم دون تدخل لإرادة الله (تعالى) وإنما يمكن التوسل بحبهم وزيارتهم يتوسلون إلى الله أن ينفعهم؛ لأنه توسل إلى الله بعمل صالح كما قاله بعض العلماء.
والله أعلم .(1/368)
س:يوجد في المسجد إمام، ويوجد ما يسمى بالمبلغ على الرغم أن مكبرات الصوت الآن تغني عنه. فما رأي الدين في ذلك. وهل كان هذا موجودا في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ؟
من السنة أن الإمام يجهر بالتكبير والتسميع، والسلام؛ وذلك لإعلام المأمومين حتى يتابعوه، فإن كان المأمومون يسمعون ذلك منه، كان التبليغ من غيره مكروها؛ لعدم الحاجة إليه، فإن كان صوته ضعيفا لا يسمعهم؛ فيسن لأحد المأمومين أن يقوم بالتبليغ.
ففي حديث البخاري "لما مرض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي بالناس وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا كبر؛ كبر أبو بكر وكبر الناس بتكبيرة أي: يقتدون بصوته".
وجاء مثل ذلك في رواية لمسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى قاعدا وأبو بكر يسمع الناس تكبيره.
وفي رواية له "فإذا كبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كبر أبو بكر؛ ليسمعنا".
وذكر النووي في شرحه: أن رفع الإمام صوته بالتكبير ليسمعه الناس ويتبعوه، وأن اتباع المقتدي صوت المكبر جائز في مذهب الشافعية، ومذهب الجمهور ونقلوا فيه إجماع الصحابة والتابعين عليه.
وجرى العمل على هذا قديما، ويجب أن يقصد المبلغ سواء أكان إماما، أم غيره الإحرام للصلاة بتكبيرة الإحرام، فلو قصد الإعلام والتبليغ فقط، لم تنعقد صلاته، بل قال الشافعية: لا تنعقد صلاته لو قصد الإعلام والإحرام. هذا في تكبيرة الإحرام.
أما التكبيرات الأخرى وقول: سمع الله لمن حمده، والتحميد، فإن قصد بها التبليغ فقط؛ فلا تبطل صلاته، لكن فاته الثواب لأن التبليغ مكروه.
والشافعية يقولون في غير تكبيرة الإحرام: إن قصد بهذه الأشياء مجرد التبليغ، أو لم يقصد شيئا؛ بطلت صلاته.
أما إن قصد التبليغ مع الذكر؛ فصلاته صحيحة.(1/369)
وللحنفية ملحظ آخر في هذا التبليغ فقالوا: إذا رفع المبلغ صوته بذلك وكان لصوته نغم وتفنن فيه قاصدا بذلك إعجاب الناس به؛ فصلاته تفسد على الراجح. هذا.
والله أعلم .(1/370)
س:رجل يقول: دخلت المسجد فوجدت الجماعة في حالة ركوع، وأدركتهم في الركوع، هل تحسب لي ركعة رغم أني لم أقرأ الفاتحة والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "لا صلاة بدون الفاتحة" ؟
ثبت في الحديث الذي رواه الجماعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". قال الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد: قراءة الفاتحة لابد منها لصحة الصلاة، فلو تركت كلها أو ترك بعضها؛ بطلت الصلاة.
وعند أبي حنيفة: الفرض هو قراءة ما تيسر من القرآن، ولا يتحتم أن يكون الفاتحة.
وقراءة الفاتحة مفروضة في كل ركعة، كما علم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المسيء لصلاته.
وكما رواه البخاري أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأها في كل ركعة.
فرأى أبو حنيفة: أنها تقرأ في الركعتين الأوليين.
وفيما زاد: تجوز قراءتها أو التسبيح أو السكوت.
هذا هو الحكم بالنسبة للمنفرد وللإمام.
أما المأموم فخلاصة الحكم:
أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم عند الشافعية، ومكروهة كراهة تحريم عند الحنفية في الصلاة السرية والجهرية، ومندوبة في السرية مكروهة في الجهرية عند المالكية.
وكذلك قال الحنابلة: إنها مستحبة في السرية وفى سكتات الإمام من الجهرية.
وتكره حال قراءة الإمام في الصلاة الجهرية.
والجمهور على: أن المسبوق إذا لم يقرأ الفاتحة في أول ركعة له، وأدرك الركوع مع الإمام أدرك الركعة.
وعند غير الجمهور: لا يدرك الركعة بمجرد الركوع؛ لأن الفاتحة وهي ركن فاتت منه.
وقد تحمس الشوكاني لهذا الرأي الأخير المخالف لرأي الجمهور.
ومن المعلوم أن رأي الجمهور من الأئمة المجتهدين مقدم على رأي غيرهم.
والله أعلم .(1/371)
س:وما حكم صلاة المصلين الذين يسبقون الإمام في الركوع والسجود ؟
في حديث رواه أحمد وأبو داود: "إنما الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا قبل أن يركع، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد".
وفى حديث رواه الجماعة: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يحول الله صورته صورة حمار".
وللفقهاء خلاف في حكم <السبق>:
ففي مذهب الحنفية: لو ركع المأموم قبل الإمام وانتظر حتى ركع الإمام وشاركه معه في الطمأنينة؛ لا تبطل الصلاة.
أما إذا رفع المأموم رأسه من الركوع قبل أن يرفع الإمام ولم يركع معه؛ بطلت صلاته.
وكذلك قال المالكية والشافعية قالوا: إن السبق المبطل لصلاة المأموم يكون بركنين لا بركن واحد، فلو سجد المأموم، وكان الإمام ما يزال قائما للقراءة؛ بطلت صلاته إن كان متعمدا، فإن كان ناسيا أو جاهلا؛ وجب أن يعود لموافقة الإمام عند التذكر أو العلم؛ وإلا بطلت صلاته.
واختر لنفسك من هذه الأقوال ما يطمئن إليه قلبك.
والله أعلم .(1/372)
س:نسمع كثيرا عن فتح المأموم على الإمام. فما هو، وهل هو جائز أو غير جائز؟
معنى فتح المأموم على الإمام: تنبيهه إلى ما يقرأه من السور أو الآيات بعد قراءة الفاتحة.
وهذا التنبيه قد يكون تصحيحا لخطأ في القراءة، وقد يكون تذكيرا له بما يريد أن يقرأه، وهو مشروع.
والأصل في ذلك حديث رواه أبو داود عن مصور بن يزيد المالكي قال: "صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فترك آية فقال له رجل: يا رسول الله آية كذا وكذا قال: فهلا ذكرتنيها".
وفى رواية له عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "صلى صلاة فقرأ فيها فاختلط عليه، فلما انصرف، قال لأبي : أصليت معنا؟ قال: نعم. قال: فما منعك". وإسناده جيد كما قال الخطابي. والمعنى: أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ترك آية، فظن مصور أنها نسخت، فذكر له النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنها لم تنسخ، وكان يود أن يذكره إياها.
جاء في فقه المذاهب الأربعة ما خلاصته:
أن الحنفية قالوا: إذا نسي الإمام الآية كأن توقف في القراءة، أو تردد فيها، فإنه يجوز للمأموم الذي يصلي خلفه أن يفتح عليه.
ولكن ينوي إرشاد إمامه لا التلاوة؛ لأن القراءة خلف الإمام مكروهة تحريما.
ويكره للمأموم المبادرة بالفتح على الإمام، كما يكره للإمام أن يُلْجِئ المأموم على إرشاده، بل ينبغي له أن ينتقل إلى آية أخرى، أو سورة أخرى، أو يركع إذا قرأ القدر المفروض والواجب.
والمالكية قالوا: يفتح المأموم على إمامه إذا وقف عن القراءة، وطلب الفتح، بأن تردد في القراءة.
أما إذا وقف ولم يتردد، فإنه يكره الفتح عليه، ويجب الفتح عليه في الحالة الأولى؛ إن ترتب عليه تحصيل الواجب لقراءة الفاتحة.
ويسن إن أدى إلى إصلاح الآية الزائدة عن الفاتحة، ويندب إن أدى إلى إتمام السورة الذي هو مندوب.(1/373)
والشافعية قالوا: يجوز للمأموم أن يفتح على إمامه بشرط أن يسكت عن القراءة. أما إذا تردد في القراءة فإنه لا يفتح عليه ما دام مترددا.
ولابد لمن يفتح على إمامه أن يقصد القراءة وحدها، أو يقصد القراءة مع الفتح.
أما إن قصد الفتح وحده أو لم يقصد شيئا أصلا، فإن صلاته تبطل على المعتمد.
والحنابلة قالوا: يجوز للمصلي أن يفتح على إمامه؛ إذا أركز عليه. أي: منع من القراءة أو كان في قراءته غلط.
ويكون الفتح واجبا إذا منع الإمام من القراءة أو حصل له غلط في الفاتحة لتوقف صحة الصلاة على ذلك. هذا.
واختلاف الآراء رحمة؛ لأنه يتيح الفرصة للأخذ بأحدها دون تعصب.
والله أعلم .(1/374)
س:في بعض المساجد التي لا تتسع للمصلين ـ وخاصة في مواسم الزحام والتجمعات مثل: معرض الكتاب الدولي ـ يصلي المأمومون خارج المسجد متقدمين على الإمام؛ لكثرة الزحام فهل تصح صلاتهم ؟
تقدم المأموم على الإمام في المكان يبطل الصلاة عند الأئمة الثلاثة، ولا يبطلها عند الإمام مالك.
جاء في فقه المذاهب الأربعة ما نصه:
المالكية قالوا: لا يشترط فيه اقتداء عدم تقدم المأموم على الإمام، فلو تقدم المأموم على إمامه، ولو كان المتقدم جميع المأمومين؛ صحت الصلاة على المعتمد.
وعلى هذا، فلا مانع من الصلاة في أي مكان حتى لو تقدم المأمومون على الإمام، وبخاصة عند الزحام وذلك على رأي الإمام مالك (رضي الله عنه).
والله أعلى وأعلم .(1/375)
س:ما رأي الدين في صلاة المفترض خلف صلاة المتنفل ؟
لو صلى المأموم الظهر خلف إمام يصلي العصر ـ مثلا ـ أو صلى خلف إمام يصلي نافلة، أو صلى أداء خلف قضاء. فهل تصح صلاته؟
الإمام الشافعي أجاز الاقتداء بأي إمام يصلي أية صلاة: فرضا كانت أو نافلة، قضاء أو أداء؛ ما دامت صلاة الإمام ذات ركوع وسجود.
والممنوع هو: صلاة فرض أو نفل خلف من يصلي صلاة الجنازة؛ لخلوها من الركوع والسجود، وخلف صلاة الخسوف.
أما عند غير الشافعي فقد جاء في فقه المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل إلا عند الشافعية.
وأن من شروط صحة الإمامة: اتحاد فرض الإمام والمأموم، فلا تصح صلاة ظهر خلف عصر، ولا صلاة ظهر أداء خلف ظهر قضاء، ولا العكس.
ولا تصح صلاة ظهر يوم السبت خلف ظهر يوم الأحد وإن كان كل منهما قضاء، وذلك عند الأحناف والمالكية.
أما الشافعية والحنابلة فقالوا: يصح الاقتداء في كل ما ذكر.
إلا أن الحنابلة قالوا: لا يصح ظهر خلف عصر ولا عكسه، ونحو ذلك.
والشافعية قالوا: يشترط اتحاد صلاة المأموم، وصلاة الإمام في الهيئة والنظام.
ولا يصح ظهر ـ مثلا ـ خلف صلاة جنازة؛ لاختلاف الهيئة.
ولا صلاة صبح خلف صلاة خسوف؛ لأن صلاة الخسوف ذات قيامين وركوعين.
ومذهب الشافعية أيسر المذاهب في هذا الموضوع.
والأحسن أن يصلي الظهر الفائتة أولا منفردا، ثم يصلي العصر، ولو أدرك مع الإمام بعضا منها كان، وإلا صلاها منفردا.
أما أن يصلي جماعة أولا صلاة العصر، ثم يصلي الظهر، فذلك باطل وممنوع، إلا عند الشافعية، أو أن يصلي الظهر مع الإمام الذي يصلي العصر فهو باطل أيضا عند الأئمة الثلاثة.
والله أعلم .(1/376)
س:كنت على سفر، ودخلت المسجد؛ فوجدت صلاة العصر مقامة. فهل يصح لي أن أصلي الظهر خلف إمام يصلي العصر، أم أصلي العصر في جماعة، ثم أصلي الظهر، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "لا صلاة بعد العصر". ؟
خلاصة ما قيل في اقتداء المسافر بالمقيم: أن المسافر الذي يجوز له قصر الصلاة لو صلى خلف إمام لا يقصر الصلاة وهو المقيم أو المسافر الذي يختار أن يتم، فإن المأموم المسافر يجب عليه الإتمام، ويمتنع القصر، وذلك عند جمهور الفقهاء.
حتى قال الشافعي: لو صلى المسافر الظهر خلف إمام يصلي الجمعة يحب عليه الإتمام.
أما الإمام مالك فيقول: لو أدرك المسافر مع الإمام المقيم ركعة من الظهر أتم الظهر أربعا، ولو أدرك أقل من ركعة جاز له أن يقصر ويصليها ركعتين.
وهناك رأي لبعض التابعين يقول: لو أدرك مع الإمام ركعتين قصر، ولا يجب عليه الإتمام.
ورأي الجمهور أقوى ولا يلجأ إلى غيره إلا لعذر.
والله أعلم .(1/377)
س:كثيرا ما نسمع القول: [المسيء لصلاته] فمن هو، وكيف يسيء لصلاته ؟
المسيء لصلاته: رجل دخل المسجد، فصلى، ثم جاء يسلم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرد عليه السلام، وقال له: "ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم علمه الرسول الصلاة الصحيحة: بالتكبير وقراءة الفاتحة والركوع مع الاطمئنان، ثم الرفع، ثم السجود مع الاطمئنان، ثم الجلوس مع الاطمئنان، ثم السجود ثانيا مع الاطمئنان". رواه البخاري ومسلم.
ويطلق على هذا الحديث: حديث المسيء لصلاته.
والله أعلم .(1/378)
س:رجل يقول أحس بخشوع عظيم وأنا أصلي منفردا، وفى صلاة الجماعة لا يكون هناك خشوع، فهل الأفضل لي أن أكون في صلاتي منفردا أو في الجماعة ؟
جاء في (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع) في فقه الشافعي ما نصه:
أفتى الغزالي: أنه لو كان إذا صلى منفردا خشع، وإذا صلى في جماعة لم يخشع فالانفراد أفضل.
وتبعه ابن عبد السلام قال الزركشي: والمختار بل الصواب خلاف ما قالاه.
وهو كما قال: يعني أن صلاة الجماعة أفضل حتى لو كانت بدون خشوع والله أعلم .(1/379)
س:هل يمكن أن نأخذ فكره عن سجود السهو من نواحيه المختلفة ؟
الكلام في سجود السهو والخلاف فيه كثير فهو يتناول حكمه وحكمته وكيفيته واسبابه أما الحكم فاسهل ما قيل فيه هو رأى الإمام الشافعي من انه سنة وليس فرد أو واجب يعني لو ترك لا عقاب فيه ولا تبطل الصلاة واما غير الإمام الشافعي فقال بعضهم بوجوبه وقال بعضهم بندبه ولكلا من ذلك أسباب فيه خلاف كبير واما حكمة فهي جبر خلل وقع وهذا الخلل قد يكون بترك شيء وقد يكون بزيادة شيء وقد يكون بالاخلال بالترتيب بين افعال الصلاة والترب قد يكون بواجب أو لركن وقد يكون لسنة وكذلك زيادة وهذا الخلل قد يكون عمدا وقد يكون سهوا ولكل من ذلك حكم واما كيفيته فهو سجدتان وموضعهما احسن ما قيل فيه هو رأى الإمام الشافعي انه يكون قبل السلام بصرف النظر عن السبب واما أبو حنيفة يقول موضعه بعد السلام ومالك قال أن كان السبب زيادة يكون بعد السلام وان كان نقصا فقط أو نقصا مع زيادة يكون قبل السلام والشوكاني قال الاحسن أن يسجد قبل السلام إذا كان سببه قبل السلام وان يسجد بعده إذا كان سببه بعد السلام وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيرا فيه بين السجود قبل السلام وبعده واما اسبابه فاكثر اجتهاديا لا نص فيها ولذلك كثر الخلاف والوارد من الحديث أما عام واما خاص فمن العام حديث مسلم إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين ومن الخاص حديث الصحيحين في قصة ذي اليدين للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة رباعية ركعتين ثم سلم حيث دخل فيها واتمها ثم سجد بعد ما سلم وكذلك من الخاص إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدري كم صلي ثلاث أو اربعة فليكره الشك وليبني على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم وايسر ما قيل في أسبابه ما ذهب إليه الشافعي وأسبابه هي أولا ترك سنة مؤكدة وهي عنده القنوت والتشهد الأول ثانيا الشك في عدد الركعات ثالثا فعل شيء سهوا تبطل به الصلاة عمدا كالكلام رابعا نقل ركنا قوليا غير مبطل(1/380)
للصلاة إلى غير محله مثل إعادة قراءة الفاتحة وهو جالس خامسا الاقتداء بمن في صلاته خلل ولو في اتقاد المأموم كالاقتداء بمن ترك قنوت الصبح هذه صورة إجمالية عن سجود السهو من نواحيه المختلفة والله أعلم .(1/381)
س:بناء على ما سمعناه من فضيلتكم في سجود السهو. هل يشرع سجود السهو في المواضع الآتية: إذا قرأ الإمام في الركعتين الأخيرتين مع الفاتحة ما تيسر من القرآن الكريم ؟
إذا قرأ الإمام في الركعتين الأخيرتين مع الفاتحة ما تيسر من القرآن الكريم فقد خالف السنة.
والقراءة مكروهة كما نص عليه المالكية، ولا يسجد للسهو بسببها كما قال الإمام الشافعي .(1/382)
س:وإذا قرأ في سجوده، أو قال: سبحان ربي العظيم بين السجدتين مثلا ؟
قراءة القرآن في السجود منهي عنها، والتسبيح في الجلوس بين السجدتين بقول: سبحان ربي العظيم مخالف للسنة، وفي هذه الحالة يسجد للسهو كما قال الشافعية .(1/383)
س:وإذا جهر في السرية أي: الصلاة السرية أو أسر في الصلاة الجهرية ؟
لو جهر في السرية، أو أسر في الجهرية يسجد للسهو عند المالكية والأحناف، ولا يسجد عند الشافعية.
والله أعلم .(1/384)
س:وإذا شك الإمام في صلات هل صلى ثلاث أم أربع ماذا يفعل وكذلك ماذا يفعل المنفرد ؟
صح في الحديث عن أبى سعيد الخضري مرفوعا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انه قال إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدري كم صلى ثلاث أو أربع فليطرح الشك وليبني على ما استيقن أي ثلاث ثم يسجد سجدتين رواه مسلم وهذا دليل على من شك في عدد الركعات وهو ما يزال في الصلاة فليخذ باليقين وهو الأقل ثم يأتي بما يكمل الصلاة ثم يسجد للسهو والله أعلم(1/385)
إذا دخل المسبوق مع الإمام فصلى معه ركعتين، ثم تبين له أن الإمام قد صلى خمسا. هل يعتد بالركعة الزائدة التي صلها مع الإمام حيث يأتي بركعتين فقط، أم لا يعتد بها ويأتي بثلاث فقط ؟
معلوم أن الإمام لو شك وهو في الركعة الرابعة ـ مثلا ـ هل هي الرابعة أو الثالثة، يقوم ويصلي ركعة.
والمأموم المسبوق لابد أن يتابع الإمام، وهذه الركعة الزائدة هل تحسب من عدد الركعات التي أدركها المأموم مع الإمام لأنه صلاها بالفعل، أو لا تحسب لأنها قد تكون زائدة؟
رأيان في ما يجب على المسبوق أن يأتي به بعد سلام الإمام:
إما أن يعتد بما أدركه فعلا مع الإمام.
وإما أن يعتد باليقين وهو الأقل.
وليس في هذه المسالة نص، بل الأمر قائم على الاجتهاد ولكل إنسان أن يختار من الرأيين ما يشاء.
والله أعلم .(1/386)
تصر بعض النساء على الذهاب إلي المسجد لصلاة الجمعة. فهل صلاة الجمعة واجبة عليها لو لم تصلها تعاقب عليها ؟
صلاة الجمعة ليست واجبة علي النساء، وهذا أمر متفق عليه لا خلاف فيه. روى أبو داود بإسناد على شرط الشيخين قوله (صلى الله عليه وسلم): "الجمعة واجبة على كل مسلم إلا على أربعة: عبد مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض".
فلو لم تصلها المرأة لا عقوبة عليها، ولكن إذا صلتها؛ صحت وأغنت عن الظهر.
ويجب عليها في هذه الحالة أن تستأذن زوجها في ذلك، وهذا شأنها في كل شيء لا يجب الخروج من بيت الزوجية كما يجب أن تكون محافظة على كل الآداب الشرعية المعروفة.
والله أعلم .(1/387)
هل تصح إمامة المرأة للنساء ؟
يصح أن يكون الرجل إماما للنساء حتى لو كان فيهن من تصلح للإمامة؛ لأنها ممنوعة عند الإمام مالك.
وقد كان النساء يصلين في مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) في الصفوف الخلفية وهو إمام لهن كما كن يحضرن الجمعة أيضا.
وحادث رد المرأة على عمر في خطبته عن التغلي في المهور معروف.
وروى أبو يعلى والطبراني أن أبي بن كعب صلى إماما بنسوة معه في الدار؛ لعدم وجود من تقرأ فيهن، ولما أخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك سكت، ولم ينكر عليه.
ويستوي في إمامة النساء الرجل والصبي المميز اللهم إلا إذا خيفت الفتنة أن يشغلن بالرجل أو يشغل هو بهن،فالصبي أفضل من الرجل.
والله أعلم .(1/388)
إذا أردنا أن نتحدث عن صلاة الجمعة، فقد وردت أحاديث نبوية صحيحة تبين فضل يوم الجمعة. نود من فضيلتكم إلقاء الضوء عليها ؟
وردت أحاديث كثيرة في فضل يوم الجمعة. منها ما يأتي: حديث رواه مسلم وغيره: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم (عليه السلام) وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة".
وحديث أحمد وابن ماجة " سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عند الله (تعالى) وأعظم عند الله (تعالى) من يوم الفطر ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله (تعالى) فيه آدم (عليه السلام) وأهبط الله (تعالى) فيه آدم (عليه السلام) إلى الأرض، وفيه توفى الله (سبحانه وتعالى) آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه الله (تعالى) إياه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلاهن يشفقن من يوم الجمعة".
هذه بعض الأحاديث الواردة في فضل يوم الجمعة إلي جانب الثواب العظيم على صلاتها والاستماع إلي الخطبة، وكثرة الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم).
والله أعلم.(1/389)
صلاة الجمعة هل هي فرض مثل باقي الصلوات المفروضة، أم أنها سنة ؟
أجمع العلماء على أن صلاة الجمعة فرض عين وأنها ركعتان.
ومن الأدلة على ذلك قوله ـ تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وزروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".
وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه مسلم وغيره: "لقد هممت أن آمر رجلا ليصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم".
وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه مسلم وغيره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أي: تركها أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين".
وقوله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه الخمسة أي: أحمد وأصحاب السنن الأربعة: "من ترك ثلاث جمع تهاونا؛ طبع الله على قلبه".
تلك أدلة تدل على أن صلاة الجمعة واجبة على كل قادر عليها، وليست سنة.
والله أعلم.(1/390)
س:فمتى فرضت صلاة الجمعة على المسلمين ؟
يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية: يوم العروبة، والعروبة معناها: الرحمة.
وجاء في (الروض الأنف) للسهيلي على سيرة بن هشام: أن كعب بن لؤي ـ أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وسلم ) هو أول من جمع يوم العروبة، ولم تسم العروبة: الجمعة؛ إلا منذ الإسلام في قول بعضهم.
وقيل: هو أول من سماها الجمعة، فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم،فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويخبرهم: أنه من ولده، ويأمرهم باتباعهم والإيمان به.
وقد ذكر الماوردي هذا الخبر في كتابه [ الأحكام السلطانية].
وصلاة الجمعة فرضت في مكة قبل الهجرة كما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس.
ولم يتمكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من إقامتها بها؛ وذلك لقلة عدد المسلمين أو لضعف شوكتهم أمام قوة المشركين، فلما هاجر من هاجر من الصحابة إلى المدينة كتب لمصعب بن عمير وهو أول من أوفده النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة مع المسلمين من الأنصار؛ ليعلمهم، ثم قدم بعضهم عبد الله بن أم مكتوم.
كتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ):
"أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور بسبتهم فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين".
وعلى هذا يكون مصعب أول من صلى بهم الجمعة في المدينة، وكان عددهم اثنا عشر رجلا كما في حديث الطبراني. وهذا الحديث ضعيف.
وهناك قول آخر بأن: أول من جمع بهم هو أبو أمامة أسعد بن زرارة الذي نزل عليه مصعب بن عمير.
يقول عبد الرحمن بن كعب بن مالك الذي كان يقود أباه كعبا إلى المسجد يقول: كان أبي إذا توجه لصلاة الجمعة وسمع الآذان استغفر لأبي أمامة، ولما سأله لماذا يستغفر له؟ قال: كان أول من جمع بنا في المدينة في هدم المبيت من حرة بني بيضة في نقيع يقال له: نقيع الخدمات وكانوا يومئذ أربعين رجلا .(1/391)
والقول بهذا رواه أبو داود وابن حبان وابن ماجة والبيهقي وصححه، وقال ابن حجر إسناده حسن.
والهزم هو: المكان المطمئن من الأرض، والمبيت: أبو حي من اليمن اسمه عمر بن مالك، وحرة بني بياضة هي قرية على ميل من المدينة. وبنو بياضة: بطن من الأنصار. والبقيع: بطن من الأرض يستنقع فيها الماء مدة، فإذا نضب نبت الكلأ.
وقد جمع بين الحديثين على فرض صحة الأول بأن مصعب يقال: أنه أول من جمع باعتباره كان إماما للمصلين، وبأن أسعد هو أول من جمع؛ لأنه الأمير للقوم.
وكان مصعب في ضيافته، فنسب الأمر إليه وبخاصة أنه أطعم المصلين غداء وعشاء كما في رواية أخرى.
واجتماع المسلمين في يوم من أيام الأسبوع قيل: كان باجتهادهم قبل أن تفرض عليهم صلاة الجمعة.
فقد جاء في حديث مرسل عن ابن سرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يأتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك، فهلما فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله (تعالى) ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها وذلك لقلتهم؛ فأنزل الله (تعالى) في ذلك: { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وزروا البيع}.
قال ابن حجر: رجال هذا الحديث ثقات إلا أنه مرسل أي: سقط منه الصحابي وقيل: كان اجتماع المصلين ليوم الجمعة بأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما يدل عليه كتابه إلى مصعب بن عمير الذي أخرجه الدارقطني عن بن عباس.
ولما هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزل قباء عند بني عمر بن عوف، ثم توجه إلى المدينة يوم جمعة، فأدركته صلاتها في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وسمي مسجد الجمعة وهي أول جمعة صلاها بأصحابه وكانوا مائة، وقيل: أربعون.(1/392)
والله أعلم .(1/393)
س:وما العدد الذي تصح به صلاة الجمعة ؟
العدد المشرط لإقامتها فيه أقوال كثيرة:
أوصلها الحافظ بن حجر إلى خمسة عشر قولا، ونقلها الشوكاني في (نيل الأوطار) وعلق عليها.
وتبين لي من هذه الأقوال: أن بعض الأئمة كمالك حكيت عنه عدة روايات في هذا العدد.
وأن بعضها ليس له دليل، والبعض الآخر دليله مناقش غير مسلم تماما.
وأرى انعقادها بأي عدد يوجد محافظة على الشعيرة، وكلما كان العدد كبيرا كان أفضل.
ففي انعقادها بالعدد الكبير إظهار لاهتمام المسلمين بالعبادة، وفيها تقوية للروح الجماعية، وإعطاء مظهر رائع له تأثير نفسي على من يشاهد هذا الجمع الكبير في صلاته المنظمة، ووحدته الروحية القوية.
والله أعلم .(1/394)
س:وهل يشترط لإقامتها مسجد ؟
قال أبو حنيفة "الجمعة لا تقام إلا في المدن دون القرى". والدليل ما روي عن علي مرفوعا: "ولا جمعة ولا تشريق إلا في مصرٍ جامع". وقد ضعف أحمد رفع هذا الحديث، وللاجتهاد فيه مجال فلا ينتهض للاحتجاج به.
وعن ابن عباس: "أول جمعة بعد جمعة جُمعت في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك في مسجد عبد القيس </بجؤافى/> من البحرين". رواه البخاري وأبو داود.
وقال /جؤافى/: قرية من قرى البحرين.
وروى ابن أبي شيبة عن عمر: أنه كتب إلى أهل البحرين: أن جمعوا حيثما كنتم.
وهذا يشمل القرى والمدن وصححه ابن خزيمة.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر في إسناد صحيح: أنه كان يرى أهل المياة بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعتب عليهم، ويؤيد عدم اشتراط المدن حديث الدوسية الذي جاء في بيان العدد الذي تصح به صلاة الجمعة.
أما المسجد فذهب أبو حنيفة والشافعية وأحمد إلى أنه غير شرط؛ إذ لم يكن هناك دليل على ذلك، وهو قوي إن صحت صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بطن الوادي.
وقد رويت صلاته في بطن الوادي، ولو لم يسلم بصحته فإن فعلها في المسجد لا يدل على اشتراط المسجد.
وجاء في (المجموع) للنووي: أنه لا يشترط إقامتها في مسجد، ولكن تجوز في ساحة مكشوفة بشرط: أن تكون داخلة في القرية، أو البلدة وأن تكون معدودة في خطتها، أو في خطتها فلو صلاها خارج البلدة؛ لم تصح بلا خلاف سواء كان بقرب البلد أو كانت بعيدا عنها، وسواء صلوها في ركن أم في ساحة.
أما المالكية فذهبوا إلى: اشتراط المسجد للوجوب وللصحة، أو للصحة فقط، ولا تصح في براحل أحيط بأحجار من غير بناء؛ لأنه لا يسمى مسجدا، فالمسجد ما له بناء وسقف.
وبناء على ما تقدم في بيان العدد والمكان لإقامة صلاة الجمعة نرى:(1/395)
وجوب الحرص على إقامتها بأي عدد كان لمن وجدوا في محلة لا يتوفر فيها العدد الكبير، ولا يشترط أن تكون المحلة مستوفية لمقومات القرية أو المدينة والأرض كلها مسجد.
والله أعلم .(1/396)
س:توجد بعض الفئات التي لا تجب عليهم صلاة الجمعة. فمن هم ؟
الجمعة لا تجب على العبيد المملوكين، ولا على الصبيان الذين لم يبلغوا حد التكليف الشرعي، كما لا تجب على المرأة، وكذلك لا تجب على المسافر، ولا تجب أيضا على الشخص المدين المعسر الذي يخاف الحبس والمختفي من الحاكم الظالم، وكذلك لا تجب على المريض.
فذلك لحديث وارد في ذلك رواه أبو داود بإسناد صحيح وهو: "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر. قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض".
وكذلك لا تجب الجمعة على من عندهم عذر يبيح ترك صلاة الجماعة التي هي أساس في صحة صلاة الجمعة، وذلك لحديث رواه أبو داود وابن ماجة: "أن صحابيا شهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في يوم جمعة، وأصابهم مطر لم تبتل أسفل نعالهم؛ فأمرهم أن يصلوا في رحالهم".
وكل هؤلاء لا تجب عليهم الجمعة، وعليهم أن يصلوا بدلها الظهر، ومن صلى منهم الجمعة؛ صحت منه وسقط عنه فريضة الظهر.
وقد كان النساء في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يحضرن المسجد ليصلين معه الجمعة.
والله أعلم .(1/397)
س:فعلى من تجب صلاة الجمعة ؟
قال العلماء: تجب صلاة الجمعة على المسلم الحر البالغ المقيم القادر على السعي إليها الخالي من الأعذار المبيحة للتخلف عنها.
والله أعلم .(1/398)
س:وإذا أطال أحد الخطباء يوم الجمعة، فصفق أحد المصلين؛ لينبهه إلى أنه أطال الخطبة. فما حكم الدين في ذلك ؟
مبدأ الاعتراض على الخطيب بأي وجه من الوجوه ليس ممنوعا، ولكن ينبغي أن يكون بأسلوب حكيم.
وقد ثبت أن امرأة اعترضت على عمر (رضي الله عنه) في خطبته وهو ينهى عن المغالاة في المهور، وأن رجلا قال له: والله ما سمعنا قولك ولا أطعنا أمرك عندما قال لهم: اسمعوا قولي وأطيعوا أمري. إلى غير ذلك من الحوادث.
ومن هنا: لا نجد مانعا من تصحيح خطأ أو وضع وقع فيه الخطيب، سواء أكان ذلك بالكلام أو التصفيق، أو غيرهما، بشرط ألا يترتب عليه لغط أو تشويش يتنافى مع جلال الموقف، فإن استجاب الخطيب فبها، وإلا فلا يجوز الإلحاح في التنبيه، فقد يكون لذلك رد فعل سيئ بأي وجه يكون.
ونوصي الخطيب بتقصير الخطبة كما هو هدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ففي صحيح مسلم حديث يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته /مئنة/ من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة".
وليس للتطويل ولا للتقصير حد معين، فهما يرجعان إلى أهمية الموضوع، والى الظروف الأخرى: كالحر والبرد والمطر والسفر، وغيرهما.
مع العلم بأن في المستمعين ذوي أعذار، فالتقصير أفضل، وإذا كان للموضوع توضيح فليكن بعد الصلاة لمن أراد أن يستزيد من المعرفة.
والله أعلم .(1/399)
س:ذات مرة رأيت خطيب الجمعة خطب خطبة واحدة، ولم يجلس على المنبر كما يجلس الخطباء. فهل هذه الخطبة صحيحة ؟
من المعروف أن خطبة الجمعة خطبة واحدة ولها ركن واحد عند أبي حنيفة، وهو مطلق الذكر قليلا كان أو كثيرا، وكذلك عند مالك لها ركن واحد، وهو نصيحة تشتمل على تحذير أو تبشير.
أما عند الشافعية: فخطبتان ولهما أركان خمسة معروفة: الجلوس بين الخطبتين. جاء فيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه مسلم عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس، ثم يقوم".
وعن جابر قال: "كانت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويذكر الناس، وكان أيضا: كان يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا، فقد كذب".
يقول النووي في شرحه لصحيح مسلم: في هذه الرواية دليل لمذهب الشافعي والأكثرين: أن خطبة الجمعة لا تصح من القادر على القيام إلا قائما في الخطبتين، ولا تصح حتى يجلس بينهما، وأن الجمعة لا تصح إلا بخطبتين قال القاضي عياض: ذهب عامة العلماء إلى اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة.
وعن الحسن البصري، وأهل الظاهر ورواية ابن المجاسون عن مالك أنها تصح بلا خطبة.
وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن أطاقه. وقال أبو حنيفة: يصح قاعدا وليس القيام بواجب، وقال مالك: هو واجب لو تركه أساء وصحت الجمعة.
وقال أبو حنفية ومالك والجمهور: الجلوس بين الخطبتين سنة ليس بواجب ولا شرط.
ومذهب الشافعي: أنه فرض وشرط لصحة الخطبة.
قال الطحاوي: لم يقل هذا غير الشافعي، ودليل الشافعي أنه ثبت هذا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
ثم ذكر النووي ما تتحقق به الخطبة على النحو الذي جاء من قبل.
واختلاف العلماء رحمة في هذا الموضوع وغيره.(1/400)
والله أعلم .(1/401)
س:وما فضل قراءة سورة الكهف وسورة يسن في يوم الجمعة ؟
الأحاديث المروية عن قراءة سورة الكهف بعضها ورد بفضلها مطلقا بصرف النظر عن كونها في يوم الجمعة أو في غيره.
كحديث أبي سعيد الخضري مرفوعا "من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا يوم القيامة من مقامه إلى مكة". رواه الحاكم وصححه.
وبعضها ورد بفضلها يوم الجمعة، في حديث أبى سعيد أيضا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". رواه النسائي والبيهقي مرفوعا، ورواه الحاكم مرفوعا وموقوفا أيضا، وقال: صحيح الإسناد.
وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين". رواه أبو بكر ابن مردوية في تفسير بإسناد لا بأس به.
ومن مجموع هذه الروايات نرى:
أن الثواب على سورة الكهف سيكون نورا وهذا النور يوم القيامة، وكونه يقدر بالمسافة التي بين قدمي القارئ ومكة لمن قرأها في أي يوم.
أما من قرأها يوم الجمعة فيقدر بالمسافة التي بين قدميه وعنان السماء أي أن التقدير إما بالامتداد الأفقي، وإما بالامتداد العمودي.
وقد يكون المراد: عدم التحديد، بل المراد هو الإشارة إلى طول المسافة التي يغمرها النور الذي ربما يكون هو المشار إليه بقوله تعالى: { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم }.
والثواب الثاني لقرأ الكهف يوم الجمعة هو: مغفرة الذنوب التي وقعت بين الجمعتين وهي الصغائر ولعل ذلك هو المراد بإضاءة النور ما بين الجمعتين، فنور الطاعة يمحو ظلام المعصية {إن الحسنات يذهبن السيئات}.
وقراءة الكهف مشروعة لكل مسلم يقرأها في المسجد أو في غيره بصوت منخفض أو مرتفع ما لم يترتب على رفع الصوت ضرر أو إضرار.(1/402)
أما قراءة يسن فقد ورد في فضلها أحاديث مقبولة في أي يوم من الأيام.
أما قراءتها في يوم الجمعة فلا يوجد حديث خاص بها.
والله أعلم .(1/403)
س:وهل يجوز شرعا أن يجلس قارئ قبل صلاة الجمعة يقرأ القرآن، ويستمع إليه الناس، أم يفضل أن يقرأ كل شخص بنفسه ؟
قراءة الكهف أو غيرها من قارئ بصوت مرتفع يوم الجمعة في المسجد لم يكن أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا في عهد السلف الصالح، وإنما ذلك أمر حدث منذ قرون في بعض المساجد، كمساجد مصر والشام.
ويدل عليه وجود الدكك في المساجد الأثرية التي يجلس عليها القارئ وأمامه حامل يوضع عليه مصحف كبير، وكان يعين من قبل المسئولين.
وقد رأى العلماء منع قرأتها على هذا النحو؛ لأنها بدعة وكل بدعة ضلالة، ولم يمنعها آخرون.
فليس كل ما لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) ممنوعا بل منه ممنوع وغير ممنوع، كما صح في البخاري أن عمر (رضي الله عنه) قال في صلاة التراويح خلف أبي بن كعب: نعمت البدعة هذه.
وحيث لم يرد نهي عن قراءتها على هذا النحو، فالأصل الجواز.
لكن الجميع متفقون على أنها لو قرأت بألحان غير مشروعة؛ كانت القراءة محرمة.
وإذا حدث بها إيذاء لمصل أو قارئ تمنع أيضا "فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام". كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما أخرجه الإمام مالك في الموطأ.
جاء في (فتاوى النووي) في المسائل المنثورة مسألة:
جماعة يقرءون القرآن في الجامع جهرا، وينتفع بسماع قراءتها الناس، ويشوشون على بعض الناس، فهل قراءتهم أفضل، أم تركها؟
والجواب: إن كانت المصلحة فيها وانتفاع الناس بها أكثر من المفسدة المذكورة؛ فالقراءة أفضل.
وإذا كانت المفسدة أكثر؛ كرهت القراءة.
وفى المسألة التي تليها وهي: قراءة القرآن في غير الصلاة هل الأفضل فيها الجهر أم الإسرار؟
قال: الجهر في التلاوة في غير الصلاة أفضل من الإسرار، إلا أن يترتب على الجهر مفسدة كرياء أو إعجاب أو تشويش على مصل أو مريض أو نائم أو معذور أو جماعة مشتغلين بطاعة أو مباح.
فالخلاصة أن هناك:
رأيين في قراءة قرآن في يوم الجمعة:(1/404)
بعض يقول: إنها ليست بدعة.
وبعض يقول: إنها بدعة.
ورأي الإمام النووي في ذلك معقول وهو:
أنه إذا كان المستفيدون من القراءة أكثر من غيرهم؛ كانت مباحة ومشروعة ولا ضرر في ذلك.
والله أعلم.(1/405)
س: من الأعمال المستحبة في يوم الجمعة: غسل الجمعة. فهل من الحديث ما يقال: "من بكر وابتكر وغسل واغتسل ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يتكلم فله بكل خطوة يخطوها درجة وأجر سنة كاملة صيامها وقيامها".؟
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أوس بن أوس الثقفي وقال: حديث حسن. ورواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم، وصححه.
قال الخطابي: قوله (عليه الصلاة والسلام): "غسل واغتسل وبكر وابتكر ". اختلف الناس في معناه: فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المتظاهر الذي يراد به التوكيد، ولم تقع المخالفة بين المعنيين؛ لاختلاف اللفظين وقال: ألا تراه يقول في هذا الحديث: "ومشى ولم يركب". ومعناهما واحد؛ ولهذا ذهب الأشرم صاحب أحمد بن حنبل وقال بعضهم: قوله: "غسل". معناه:غسل الرأس خاصة؛ وذلك لأن العرب لهم لمم وشعور واللمم جمع: لمه، وهي: الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن، وفي غسلها مؤنة، فأراد غسل الرأس من أجل ذلك.
وإلى هذا ذهب مطحون.
وقوله: "واغتسل". معناه: غسّل سائر الجسد.
وزعم بعضهم: أن قوله: "غسل". معناه: أصاب أهله بالجماع قبل خروجه إلى الجمعة؛ ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره.
وقوله: "وبكر وابتكر". زعم بعضهم أن معنى بكر: أدرك باكورة الخطبة وهي أولها. و معنى "ابتكر" : قدم في الوقت.
وقال ابن الأنباري :معني "بكر". أي: تصدق قبل خروجه.
وتأول في ذلك ما روي في الحديث من قوله (صلى الله عليه وسلم): "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها.
والله أعلم .(1/406)
س: نود أن نعرف الوقت الذي تصلى فيه صلاة الجمعة؟
ذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى أن وقت الجمعة هو وقت الظهر.
فقد روى البخاري وغيره أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي الجمعة إذا مالت الشمس. وجمهور الفقهاء على ذلك.
أما أحمد بن حنبل فيرى: أن وقت الجمعة مثل وقت صلاة العيد أي بعد طلوع الشمس بنحو ثلث ساعة إلى آخر وقت الظهر، ودليله حديث رواه مسلم وغيره "كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلي الجمعة، ثم نذهب إلي جمالنا فنريحها حين تزول الشمس".
وهذا تصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس.
ومن الأدلة أيضا على مذهب أحمد ما رواه الدارقطني وأحمد في روايته: "أن أبا بكر كان يخطب ويصلي قبل نصف النهار، وكذلك عمر وعثمان ولم ينكر عليهم أحد فكان إجماعا".
لكن الجمهور قالوا: إن هذه المرويات محمولة على المبالغة في تعجيل الصلاة بعد الزوال من غير انتظار لسكون شدة الحر.
وما روي عن الخلفاء من الصلاة قبل الزوال ضعيف لا يعارض ما هو أقوي وهو: أن الوقت: هو من زوال الشمس لا ما قبله، وزوال الشمس معناه: ميلها عن وسط السماء واتجاهها إلى الغرب في الظاهر وهو وقت الظهر .
والله أعلم .(1/407)
س: يري بعض الناس أن صلاة ركعتين بعد أذان الجمعة ... بدعة. فهل هذا صحيح؟
صلاة النافلة المطلقة قبل صلاة الجمعة متفق على مشروعيتها؛ لحديث البخاري ومسلم وغيرهما.
أما صلاة ركعتين سنة قبلية للجمعة فالخلاف فيها قديم.
قال بمشروعيتها أبو حنيفة وأصحاب الشافعي في أظهر الوجهين عندهم.
والحنابلة في غير المشهور.
ولم يقل بمشروعيتها مالك والحنابلة في المشهور عنهم.
وأنبه إلى أن الأمر الخلافي لا يجوز التعصب فيه، وإذا كان كل من الرأيين استدل بأدلة فإن القاعدة تقول: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال وبخاصة في الواجب والمحرم.
ومن حجة القائلين بمشروعية سنة الجمعة القبلية حديث بن حبان وصححه: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان ".
وحديث البخاري ومسلم: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة لمن يشاء".
والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة، والصلاة بينهما لمن يشاء هي تطوع من رواتب الصلاة المفروضة التي يؤذن ويقام لها.
وهناك حديث فيه كلام رواه والطبراني: "أن النبي (صلى الله عليه مسلم) كان يصلي ... قبل الجمعة ركعتين وبعدها ركعتين".
ومن الأدلة فعل بن مسعود وبن عمر بسند صحيح، وأيضا الجمعة بدل الظهر في هذا اليوم فهي مثلها في أن لها سنة، وهذا ما يدل عليه صنيع البخاري في كتابه.
أما الذين يقولون بعدم مشروعية السنة القبلية للجمعة فحجتهم ما رواه البخاري وغيره:أن النداء يوم الجمعة كان أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد الرسول وأبي بكر وعمر، فلما جاء عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، وسمي ثالثا؛ لأن الإقامة تسمى:أذانا كما في الحديث: "بين كل أذانين صلاة ".
وهذا الحديث وإن كان قويا، إلا أنه ليس قطعي الثبوت، كما أنه ليس قطعي الدلالة على أن سنة الجمعة القبلية غير مشروعة.(1/408)
وبخاصة إذا علمنا أن الجمعة كانت تؤخر أحيانا عن أول وقتها، وهو الزوال، وهو ممتد إلى وقت دخول العصر.
فالفرصة سانحة للناس أن يصلوا بعد الزوال وقبل خروج الإمام للخطبة.
وعلى العموم فإن أدلة الطرفين ليست قطعية، ولكل مجتهد أن يرى ما أداه إليه اجتهاده من غير نكير على الآراء الأخرى.
ويعجبني في هذا قول بن تيمية في فتاويه: إن صلاة ركعتين قبل الجمعة جائزة وحسنة وإن لم تكن راتبة، ثم قال: فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال.
وكلام الإمام أحمد يدل عليه .
والله أعلم.(1/409)
س: في بعض المساجد، إذا أذن المؤذن بين يدي الخطيب ـ خطيب الجمعة ـ نصح الناس بالإنصات والخشوع وتلا حديثا في ذلك. فهل هذا بدعة حسنة أم سيئة؟
لم يثبت أن ذلك كان أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) أو في عهد التشريع، ويدخل في باب النصيحة، وذلك قبل أن يشرع الخطيب في الخطبة، ولا أجد نصا ينهى عن ذلك، فالإنصات المطلوب هو عند إلقاء الخطبة عند الجمهور.
جاء في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة): أن أبا حنيفة قال: إن الترقية مكروهة كراهة تحريم؛ لأن الكلام ممنوع بعد خروج الإمام من خلوته إلى أن ينتهي من الصلاة، حتى ولو كان ذكرا.
أما صاحباه فقالا: لا يكره الكلام إلا حال الخطبة.
وعليه فالترقية جائزة عندهما.
والشافعية قالوا: إن الترقية بدعة حسنة؛ لأنها لا تخلو من حث على الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن تحذير من الكلام أثناء الخطبة.
والمالكية قالوا: إنها بدعة مكروهة لا يجوز فعلها، إلا إذا شرطها الواقف في شرطه فتجوز.
والحنابلة قالوا: إنه لا بأس بالكلام مطلقا قبل الخطبتين.
وعليه فالترقية جائزة.
والخلاصة أن:
الترقية جائزة عند صاحبي أبي حنيفة وعند الشافعي وأحمد ومكروهة عند المالكية إذا لم يشرطها الواقف، فالجمهور على الجواز، وابن الحاج تعجب من مالك حيث يعمل بعمل أهل المدينة مع أنهم كانوا يقلدون فيها أهل الشام، تعجب كيف ينكرها هو وهم يجيزونها!!
وبعض المجتهدين المحدثين حمل حملة عنيفة على من يقولون بجوازها مع أنها بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة.
ولا عبرة بمن يقول: إن البدعة قد تكون حسنة، يقولون هذا، ولكن لما هذا التعصب وجمهور الأئمة قال بالجواز وليس فيها ضرر!!
والله أعلم. ... ...(1/410)
س: وهل خطبة الجمعة شرط أساس في صحتها؟
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وزروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.
وقال بعد ذلك: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}.
يؤخذ من هذا: أن من مقاصد تشريع صلاة الجمعة: الاستماع إلى ذكر الله بالخطبة التي تلقى، أو ذكر الله في الصلاة نفسها، ففيها ذكر كثير.
وذم الله جماعة تركوا الرسول يخطب، وانصرفوا عنه إلى اللهو والتجارة.
وكانت الخطبة بعد الصلاة، ثم جعلت قبلها؛ حتى يحبس الناس لسماعها.
وكل اجتماع سابق قبل الإسلام عند العرب في المواسم والأسواق، كان لا يخلو غالبا من خطابة نثرية أو شعرية، فهو فرصة لعرض الآراء وطرح المشكلات واقتراح الحلول.
وكعب بن لؤي أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يخطب في قريش يوم العروبة وهو: يوم الجمعة، ويذكرهم بمبعث الرسول.
ولأهمية خطبة الجمعة؛ حرص عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) لأنها وسيلة من وسائل التبليغ الجماعي.
وقال جمهور العلماء: بأنها واجبة، لا تصح صلاة الجمعة بدونها بناء على هذا الأمر بالسعي إلى ذكر الله إذا نودي لصلاة الجمعة، وعلى مواظبة النبي (صلى الله عليه وسلم) عليها، ولقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". رواه البخاري.
لكن، قال الحسن البصري وداود الظاهري وبعض علماء المالكية قالوا: إنها سنة لا واجبة. أي: تصح صلاة الجمعة بدون خطبة؛ لأن أدلة الوجوب ليست قاطعة الدلالة عليه، فلا تفيد أكثر من النفي.
ومهما يكن من شيء فلا ينبغي تركها، وهي في بعض المذاهب يسيرة جدا.
فالحنفية اكتفوا فيها بمجرد ذكر الله كقول الخطيب: الحمد لله. قاصدا بذلك الخطبة.
والمالكية قالوا: يكفي اشتمالها على موعظة من ترغيب وترهيب مثل:اتقوا الله حتى يرضى عنكم ولا تعصوه فيعذبكم.(1/411)
ولا داعي إلى التمسك بمذهب الشافعي الذي يحتم أن تكون مشتملة على خمسة أمور وهي: حمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، والأمر بالتقوى في كل من الخطبتين، وقراءة آية في إحداهما، والأولى أولى، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية.
ودين الله يسر، ومن شروط صحتها أن تؤدى من وقوف وأن يكون بين الخطبتين جلوس عند بعض الأئمة .
والله أعلم. ... ... ...(1/412)
س:وهل يشترط أن يكون خطيب الجمعة هو الذي يؤم الناس في صلاة الجمعة، أم يجوز أن يؤمهم غيره ؟
جمهور العلماء على:
أنه لا مانع أن يكون الخطيب غير الإمام حيث لا يوجد نص يمنع ذلك، ولا يجوز عند المالكية كما في كتاب: (الفقه على المذاهب الأربعة).
والله أعلم.(1/413)
س:وهل يجوز للخطيب أن ينزل عن المنبر وهو يخطب الجمعة، وإذا جاز له ذلك، فما السبب الذي يدفعه إلى ذلك ؟
لا مانع من نزول الخطيب من فوق المنبر لأي حادث مهم، ثم يعود إلى مكانه.
وقد روى الخمسة وهم: أحمد وأصحاب السنن الأربعة: أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعسران، فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت وهذين الصبيين يمشيان ويعسران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما".
وروى مسلم أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخطب، ولما علم بأن رجلا غريبا يريد أن يسأل عن دينه؛ ترك الرسول الخطبة، وجلس على كرسي من خشب، وجعل يعلم الرجل ما يريد، ثم أتى الخطبة فأتم آخرها".
والله أعلم .(1/414)
س:وهل يجوز للخطيب ـ مثلا ـ أن يطلب كوب ماء إذا شعر بالتعب فوق المنبر أو أن يأكل شيئا ؟
لا مانع من طلب الخطيب ماء؛ ليشربه أو دواء ليتناوله.
وقد ثبت أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزل من فوق المنبر وأخذ الحسن الذي كان يتعسر في قميصه، وأجلسه إلى جواره وهو يخطب".
فالخطبة لا تبطل بشيء من ذلك، لا بالأكل ولا بالشرب، ولا بالكلام العادي، ولا بالحركة مطلقا.
والأولى: أن يكون ذلك عند الحاجة وفى أضيق الحدود، وللعرف دخل كبير في هذا الموضوع.
والله أعلم .(1/415)
س:فإذا دخل رجل المسجد والإمام يخطب الجمعة. فهل يجوز له أن يصلي تحية المسجد مع أن الاستماع للخطبة واجب ؟
روى مسلم أن سليكا الغطفاني جاء يوم الجمعة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يخطب، فجلس فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما، ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". وفيه عدة روايات.
يقول النووي في (شرح صحيح مسلم): هذه الأحاديث كلها صريحة في الدلالة بمذهب الشافعي وأحمد وفقهاء المحدثين أو المحدثين أنه: إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب استحب له أن يصلي ركعتين تحية للمسجد، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما، وأنه يستحب أن يتجوز فيهما؛ ليسمع بعدها الخطبة.
وحكي هذا المذهب أيضا عن الحسن البصري، وغيره من المتقدمين.
قال القاضي عياض: وقال مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين: لا يصليهما. وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) وحجتهم: الأمر بالإنصات للإمام، وتأولوا هذه الأحاديث على أنه يعني: سليكا كان عريانا، فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالقيام؛ ليراه الناس ويتصدقوا عليه.
يقول النووي: هذا تأويل باطل يرده صريح قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما".
وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل أي: لأنه عام لا يخص سليكا وحده، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه.
قال النووي: وفي هذه الأحاديث أيضا جواز الكلام في الخطبة لحاجة، وفيها جوازه للخطيب، وغيره وفيها الأمر بالمعروف، والإرشاد إلى المصالح في كل حال، وموطن.
وفيها أن: تحية المسجد ركعتان وأن نوافل النهار ركعتان، وأن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق الجاهل بحكمها.
وقد أطلق أصحابنا أي: الشافعية فواتها بالجلوس، وهو محمول على العالم بأنها سنة.
أما الجاهل فيتداركها عن قرب، ودليله هذا الحديث.(1/416)
والمستنبط من هذه الأحاديث أن:
تحية المسجد لا تترك في أوقات النهي عن الصلاة، وأنها ذات سبب تباح في كل وقت، ويلحق بها كل ذوات الأسباب كقضاء الفائتة، ونحوها؛ لأنها لو سقطت في حال؛ لكان هذا الحال أولى بها، فإنه مأمور باستماع الخطبة، فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لها الخطبة، وأمر بها بعد أن قعد وكان هذا الجالس جاهلا حكمها دل على تأكدها، وأنها لا تترك بحال، ولا في وقت من الأوقات.
وبعد، فقد تحدث العلماء قديما وحديثا في هذا الموضوع.
وقد علمنا فيما تقدم أنه من الأمور الخلافية، فلا ينبغي التعصب لرأي خلافي، فمن صلى تحية المسجد قبل أن يجلس والإمام يخطب، لم يرتكب إثما، وكذلك من دخل وجلس ولم يصل التحية لم يرتكب إثما.
ومن جلس ولم يصل، ثم قام يصلي أثناء الخطبة، وكان جاهلا بذلك فيوجه برفق لا شوشرة فيه.
والله أعلم .(1/417)
س:أحيانا نرى في بعض البلدان أن خطيب الجمعة يمسك بيده سيفا. فهل لذلك أصل في الدين ؟
جاء في (زاد المعاد) لابن القيم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خطبة الجمعة لم يكن يأخذ بيده سيفا، ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس وعصا قبل أن يتخذ المنبر. وكان في الحرب يعتمد على قوس، وفى الجمعة يعتمد على عصا، ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائما، وأن ذلك إشارة إلا أن الدين قام بالسيف، فمن فرط جهله.
فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ولا قوس، ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفا البتة، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس.
وجاء في شرح الزرقاني عن (المواهب اللدنية) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخطب متوكئا على قوس تارة، أو عصا تارة أخرى.
وفى سنن أبي داود "كان إذا قام يخطب؛ أخذ عصا فتوكأ عليها، وهو على المنبر".
وفى سنن ابن ماجة والبيهقي "كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا".
وأشار إلى ما ذكره ابن القيم من رفض التعليل بأن الإسلام قام بالسيف.
وجاء في مصادر أخرى: أن بعض العلماء قال: إن الخطيب يتقلد السيف، ولا يسكه كما عليه خطباء زماننا، وبعض العلماء قال: إنه يمسكه بيساره أي: يتقلده ويمسكه في يساره عند الحنفية.
وعند الأئمة الثالثة السنة الاعتماد وقت الخطب على سيف أو عصا أو قوس أو نحو ذلك، ولا يتعين السيف عندهم.
هذه صورة من آراء العلماء وفي إمساك الخطيب بسيف أو عصا أو اعتماده على أي شيء، وذلك كله؛ لمعاونة الخطيب وشد أزره وذلك بأي شيء يحقق ذلك، ولو بالإمساك بحرف المنبر، وربما لا يحتاج إلى الاعتماد على أي شيء.
والأمر أيسر وأهون من أن نختلف فيه أو نتعصب له.(1/418)
والمهم أن ننفي فكرة أن الإسلام انتشر بالسيف، وإذا كان لحمل السلاح أهمية في الدعوة في الأيام الأولى، فإن الدعوة الآن تحتاج إلى أسلحة مناسبة للعصر، ومنها سلاح العلم، وتطبيقه في كل المجالات على أساس من العقيدة الصحيحة والخلق الكريم.
والله أعلم .(1/419)
س:سائل يقول: ذهبت مبكرا لصلاة الجمعة، وجلست متكئا على أحد أعمدة المسجد، فأخذني النوم فلم أسمع من الخطبة شيئا. فهل تصح صلاتي أم تبطل ؟
قال الله ـ تعالى: {وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} تأمرنا الآية بالاستماع والإنصات لخطبة الجمعة؛ لأن القرآن يتلى فيها.
ووجوب الإنصات قال به جمهور العلماء، وجعله بعضهم سنة من آكد السنن.
ومن هنا قالوا: إن الغفلة أو النوم وقت الخطبة منهي عنه.
يقول ابن سرين ـ وهو من كبار التابعين: كانوا يكرهون النوم والإمام يخطب، ويقولون فيه قولا شديدا.
يقولون: مثلهم كمثل سرية أخفقوا يعني: كمن رجعوا من الغزو بدون فائدة من قتال أو غنيمة.
وروي في الحرص على اليقظة من الخطبة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا نعس أحدكم فليتحول إلى مقعد صاحبه، وليتحول صاحبه إلى مقعده".
ويؤخذ من هذا: أن الذي ينبه جاره في المسجد بغير كلام إذا غفل عن سماع الخطبة لا حرج عليه في ذلك؛ لأنه لم ينصرف عن سماع الخطبة، ولم يشوش على أحد، بخلاف من يقول لغيره: أنصت فإن في الكلام تشويشا، وربما أثار عنادا عند الآخر فيكثر اللغو.
والله أعلم .(1/420)
س:المسلمون في بلاد غير المسلمين لا يتكلمون اللغة العربية. فهل لصحة صلاة الجمعة أن تكون الخطبة باللغة العربية، أو باللغة القومية التي يفهمها المصلون، وإذا كان الخطيب لا يجيد اللغة العربية، هل يخطب بلغته القومية ؟
اشتراط كون الخطبة باللغة العربية قال عنه أبو حنيفة: تجوز بغير اللغة العربية حتى لو كان قادرا عليها سواء كان السامعون عربا أو غيرهم.
أما أحمد: فاشترط اللغة العربية إن كان الخطيب قادرا عليها، فإن عجز عن الإتيان بها أتى بغيرها مما يحسنه سواء كان القوم عربا أو غيرهم.
لكن الآية التي هي ركن من أركان الخطبتين لا يجوز أن ينطق بها بغير العربية فيأتي بدلها بأي ذكر شاء باللغة العربية، فإن عجز سكت بقدر قراءة الآية.
والشافعي اشترط أن تكون أركان الخطبتين باللغة العربية إن أمكن تعلمها، فإن لم يمكن خطب بغيرها.
هذا إذا كان السامعون عربا أما إن كانوا غير عرب فإنه لا يشترط أداء الأركان بالعربية مطلقا، ولو أمكنه تعلمها ما عدا الآية، فلابد أن ينطق بها بالعربية إلا إذا عجز فيأتي بدلها بذكر أو دعاء عربي، فإن عجز عن هذا أيضا وقف بقدر قراءة الآية، ولا يترجم.
أما غير أركان الخطبة، فلا يشترط لها اللغة العربية بل ذلك سنة، والإمام مالك يشرط في الخطبة أن تكون باللغة العربية، ولو كان السامعون لا يعرفونها فإن لم يوجد خطيب يخطب بالعربية؛ سقطت عنهم الجمعة.
هذا ما قاله الأئمة، وإذا كان أكثرهم حريصا على اشتراط اللغة العربية؛ لأن فيه تشجيعا على تعلمها، ونشرها وتيسيرا لفهم القرآن والحديث، فإن بعضهم والإمام مالك بلغ الذروة في الحرص؛ حتى أسقط الجمعة عن من لا يوجد فيهم من يخطب بالعربية.
وأنا اختار التوسط في هذه الآراء الاجتهادية، فأميل إلى مذهب الشافعي في تمسكه باللغة العربية في الأركان فقط.
أما باقي الخطبة فتؤدى بأية لغة ولو تعذرت العربية في الأركان خطب بغيرها للعرب.(1/421)
أما غيرهم فيخطب بلغتهم حتى لو أمكنته الخطبة بالعربية.
وكما كررت كثيرا أن التعصب لرأي اجتهاديا لا يجوز، ويختار الرأي المناسب للظروف.
والله أعلم .(1/422)
س:في قريتنا عدد من المساجد بعضها كبير، وبعضها صغير، ويقام في جميعها صلاة الجمعة. فأي المساجد تصح فيها الصلاة دون غيرها ؟
قال العلماء: الأفضل أن تكون في المسجد البعيد والذي يؤمه كثير من الناس، وذلك لكثرة الخطى إلى المساجد، ففي كل خطوة حسنة كما قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لمن تركوا بيوتهم البعيدة عن مسجد المدينة وأرادوا أن يسكنوا بجوار المسجد قال لهم: "دياركم تكتب آثاركم".
ولتأكيد الروح الاجتماعية بين كثير من الحاضرين على أنه إذا كان للمسجد القريب ميزة في إحسان خطبة الجمعة ـ مثلا ـ وإلقاء الدروس الدينية فإن الصلاة فيه أفضل؛ لكثرة الفائدة.
والله أعلم .(1/423)
س:جماعة من الناس في قرية صغيرة، ويوجد بها مسجد واحد، والخطيب في أحيان كثيرة يتغيب؛ فيقعون في حيرة. فهل يصح لهم أن يستمعوا إلى الخطبة من التلفزيون أو الراديو أو الفيدو، ويصلي بهم أحد المصلين بعد ذلك ؟
عرفنا أن بعض الأئمة لا يشترط أن تكون للجمعة خطبة، ولكن الجمهور يقول: لابد من خطبة الجمعة؛ لصحة الصلاة، فلا يجوز الاكتفاء بسماع خطبة الجمعة من شريط مسجل، أو من الإذاعة أو التلفزيون، ثم تقام الصلاة، بل لابد من خطيب يودي الخطبة.
وإذا تعذر من يجيدها أو من لا يخطئ في القرآن؛ فإن الخطبة عند بعض الأئمة تحصل بمجرد صيغة فيها ذكر لله حتى بقراءة: {قل هو الله أحد}.
وبعضهم اكتفى بعبارة فيها ترهيب وترغيب.
فالخلاصة:
أن الخطبة أمرها سهل، ولابد أن يؤديها واحد من الناس؛ حتى تصح صلاة الجمعة.
ومن أراد بعد ذلك ثقافة دينية بسماع شريط مسجل مثلا، فليكن بعد الانتهاء من الصلاة أو قبل الصلاة.
والله أعلم .(1/424)
س:أمام بعض المساجد توجد أكشاك للبيع، ويتم البيع وقت سماع نداء الجمعة. فهل هذا البيع حرام ؟
عقد الصفقات عند النداء لصلاة الجمعة جاء فيه قول الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وزروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون }.
جاء في تفسير القرطبي لهذه الآية: أن البيع عند النداء لصلاة الجمعة حرام على من كان مخاطبا بفرض الجمعة.
أما من لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء.
ثم قال: وفي وقت التحريم قولان:
الأول: أنه من بعد الزوال إلى الفراغ من صلاة الجمعة.
والثاني: أنه من وقت آذان الخطبة إلى وقت الصلاة، كما قاله الشافعي.
ومذهب مالك: أن يترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك في البيع في ذلك الوقت.
ويرى ابن العربي: فسخ كل العقود، فكل أمر يشغل عن الجمعة حرام شرعا، مفسوخ وذلك ردعا.
وقال الشافعي: إن البيع في هذا الوقت ليس حرام، لكنه مكروه، وهو ينعقد ولا يفسخ.
ثم أنهى القرطبي ذلك بقوله: قلت والصحيح فساده وفسخه لقوله ( صلى الله عليه وسلم ):"كل علم ليس أمرنا فهو رد" أي: مردود.
وجاء في (فقه المذاهب الأربعة):
أن الحنفية قالوا: يحرم البيع عند الآذان الواقع بعد الزوال إلى انتهاء الصلاة.
وقال المالكية: إن العقد للبيع فاسد، ويفسخ.
وقال الحنابلة: لا ينعقد.
فالخلاصة:
أن عقد الصفقات بعد آذان الجمعة حرام عند الجمهور، والمال خبيث ولا ينعقد عند بعضهم، وهو مكروه عند الشافعية وينعقد.
والله أعلم .(1/425)
س:رجل يقول: طبيعة عملي تجعلني كثير السفر، وفى كثير من الأحيان أسافر يوم الجمعة. فهل تجب على المسافر صلاة الجمعة ؟
لقد استثنى الله من وجوب صلاة الجمعة، المسافر؛ ما دام مسافرا، حتى لو كان نازلا للاستراحة وقت إقامة الجمعة، اقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي "كان في سفر فصلى الظهر والعصر جمع تقديم، ولم يصل الجمعة".
وكذلك فعل الخلفاء، وغيرهم.
ويستمر سقوطها عن المسافر ما دام مسافرا، ولم يقطع سفره بالعودة إلى وطنه أو الإقامة أربعة أيام فأكثر عند الشافعية، والحنابلة، حيث لا يشترط عندهم الاستيطان الدائم إلا للانعقاد.
وأوجبها المالكية على المستوطن المقيم بنية التأبيد كما لا تصح إلا بذلك، فلو نزل جماعة كثيرة في مكان نووا فيه الإقامة شهرا ـ مثلا ـ فلا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم.
والأحناف قالوا: الاستيطان ليس شرطا للوجوب، وإنما الشرط هو الإقامة، ولو من مسافر خمسة عشر يوما.
ومن هنا تحدت العلماء عن حكم السفر يوم الجمعة، وهو: الخروج من البلد حتى لو كان السفر قصيرا، وبينوا حكمه: إن كان قبل طلوع الفجر، أو بعد طلوع الفجر.
فقال الشافعية: إن كان سفره قبل الفجر فهو مكروه؛ وذلك لسقوط الجمعة عنه وضياعها منه دون وجود مبرر للسفر، وضربوا لذلك مثلا بالخصابين ونحوهم من العمال الذين يخرجون للعمل في الحقول والمنشآت قبل الفجر، فلا تجب عليهم الجمعة؛ إلا إذا كانوا في مكان يسمعون فيه النداء من بلدهم.
وإن كان سفره بعد الفجر فهو حرام إلا أنه ظن أنه يدركها في طريقه، أو كان السفر واجبا كالسفر للحج الذي ضاق وقته وخاف الفوات، أو كان للضرورة كخوفه فوات رفقة يلحقه ضرر بفوتهم.
والمالكية قالوا: يجوز السفر قبل الفجر، ويكره بعد الفجر إذا كان لا يدركها في طريقه، وإن كان يدركها في طريقه؛ فلا كراهة.(1/426)
الحنابلة قالوا: يكره السفر قبل الفجر؛ إذا لم يأت بالجمعة في طريقه، ويحرم بعد الزوال إلا عند خوف الضرر، كتخلفه عن الرفقة.
وقال الحنفية: لا يكره السفر قبل الزوال.
وهذا ما قاله العلماء في حكم صلاة الجمعة بالنسبة للمسافر.
وعن السفر في هذا اليوم يتلخص في: عدم وجوبها على المسافر الذي أنشأ السفر قبل يوم الجمعة حتى لو كان سفرا قصيرا.
أما من أنشأ السفر بعد الفجر فأوجبها بعضهم ولم يوجبها البعض الآخر.
وأرى الحرص عليها في السفر حتى لو كانت غير واجبة على المسافر، فثوابها عظيم، وهي إن سقطت عن المسافر فلا تسقط عنه صلاة الظهر للسفر القصير أو السفر الطويل.
وعليه أن يصلي قصرا أو جمعا إذا كان السفر طويلا كما هو مكرر في الفقه.
والله أعلم .(1/427)
س:توجد بعض مؤسسات أو منشآت لا يدخلها أحد إلا بتصريح، والذين يصلون الجمعة فيها هم العاملون بها دون غيرهم إلا من يحمل تصريحا بالدخول، هل صلاة الجمعة تصح في هذه الأماكن الخاصة ؟
الأئمة الثلاثة قالوا: تصح الجمعة في أي مكان يجتمع فيه العدد الذي تنعقد به الصلاة على اختلافهم في هذا العدد، سواء أكان هذا المسجد عاما لكل من يريد الصلاة فيه، أم خاصا بجماعة معينة.
والإمام أبو حنيفة هو الذي اشترط أن يكون المسجد عاما.
جاء في (فقه المذاهب الأربعة) ما نصه:
الحنفية قالوا: لا يشترط في صحة الجمعة أن تكون في مسجد؛ إنما يشترط فيها الإذن العام من الإمام، فلو أقام الإمام الجمعة في داره بحاشيته، وخدمه، تصح مع الكراهة، ولكن بشرط أن يفتح أبوابها، وأن يأذن للناس بالدخول فيها، ومثلها الحصن والقلعة، على أنه لا يضر إغلاق الحصن، أو القلعة؛ لخوفه من العدو.
فتصح الصلاة فيها مع إغلاقها متى كان مأذونا للناس بالدخول فيها من قبل.
وبناء على هذا تصح الجمعة في المعسكرات الخاصة، والمؤسسات التي لا تسمح بدخولها إلا للعاملين بها، وذلك على رأي جمهور الفقهاء.
والله أعلم .(1/428)
س:هل صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركعات بعد صلاة الجمعة أم لم يصل، وما الحكم في صلاة النفل بعدها ؟
صلاة النافلة بعد صلاة الجمعة لم يختلف في أنها مندوبة وراتبة للجمعة، كراتبة الظهر، لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات".رواه مسلم.
ولقول عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما): "كان النبي (صلى الله عليه وسلم ) لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف من المسجد إلى بيته، فيصلي فيه ركعتين". رواه البخاري.
وابن عمر كان إذا صلى في المسجد: صلى أربعا، وإذا صلى في بيته صلى ركعتين. رواه أبو داود.
يؤخذ من هذا: أن صلاة النافلة بعد صلاة الجمعة مشروعة ولا حرمة فيها.
والله أعلم .(1/429)
س:وهل من الواجب قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة الصبح من كل يوم جمعة ؟
من السنة أن يقرأ المصلي في الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة سورة {ألم}: السجدة. وفى الثانية {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}.
ومن السنة أن يسجد عند تلاوة الآية التي فيها السجدة، وهى: { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون }.
وبعد السجود يقوم ليكمل القراءة والصلاة.
وعند الإمام الشافعي لا يجوز أن يقرأ غيرها من آيات السجدة في صبح يوم الجمعة، وتبطل الصلاة إن قرأ عامدا عالما بالحكم، ولو قرأها في صبح غير يوم الجمعة، لا يسجد ولو سجد؛ بطلت الصلاة.
والله أعلم .(1/430)
س:وما حكم خروج بعض الناس وخاصة العاملين في وظائف إلى التنزه في يوم الجمعة، بدعوى: أنهم لا يتوافر لهم وقت للرحلات إلا في يوم الجمعة ؟
خروج الناس يوم الجمعة من أجل التنزه وبخاصة العاملون في وظائف، هذا الخروج لا مانع منه شرعا، ما دام القصد هو الترويح، وما دام الترويح بوسائل مشروعة، ليس فيه خروج على الآداب، ولا ارتكاب محرم، ولا تقصير في واجب، وبخاصة المحافظة على صلاة الجمعة، لأن السفر المضيع لها ممنوع في بعض الأحوال.
والترويح عن النفس أمر مشروع، لأنه يعطي نشاطا يساعد العاملين والموظفين على استئناف أعمالهم بسهولة.
والأصل في ذلك حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ): "إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا فأعط كل ذي حقا حقه". والله (سبحانه وتعالى) يقول: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }.
وقال: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعدوا إن الله لا يحب المعتدين }.
ومما يذكر في اتفاق المسلمين على أن تكون إجازتهم الأسبوعية يوم الجمعة: أن عمر (رضي الله عنهم) لما شجع الكتاتيب لتحفيظ القرآن ومدراسته وذلك بإنشاء أول كتاب بجوار الحرم النبوي، لما خرج إلى الشام وغاب شهرا، خرج المسلمون للقائه ومعهم الصبيان، وكان ذلك في يوم الخميس، فتأخر عنهم إلى الغروب، ثم تعبوا يوم الجمعة؛ فلم يحضروا إلى الكتاب، فلم علم عمر بذلك، أجازهم هذين اليومين من كل أسبوع.
والله أعلم .(1/431)
س:وهل هناك فرق بين خطبة الجمعة، وخطبة العيد ؟
الفرق بين خطبة الجمعة وخطبة العيد أن:
خطبة الجمعة ركن. أما خطبة العيد فسنة.
وخطبة الجمعة تكون قبل الصلاة، وخطبة العيد بعد الصلاة، وخطبة العيد يسن افتتاحها بالتكبير.
أما خطبة الجمعة فلا.
وخطبة العيد يندب لمن استمع إليها أن يكبر عند تكبير الخطيب.
أما خطبة الجمعة فيحرم الكلام في أثنائها.
وخطبة الجمعة يشترط لها الطهارة وستر العورة بخلاف خطبة العيد على خلاف للفقهاء في ذلك.
والله أعلم .(1/432)
س:وما الحالات التي يجوز فيها جمع الصلوات؟ وكيف تؤدى ؟
لا يجوز جمع الصلوات كلها في وقت واحد. وإنما الجائز هو: جمع صلاة الظهر مع العصر فقط، وجمع صلاة المغرب مع العشاء فقط، تقديما في وقت الأولى منهما، أو تأخيرا في وقت الثانية منهما.
وذلك يكون بسبب السفر الطويل كما يكون الجمع في يوم عرفة للحجاج حيث يصلون الظهر مع العصر في وقت الظهر تقديما، وحيث يصلون المغرب مع العشاء في المزدلفة تأخيرا.
وإذا أراد تأخير الظهر؛ ليصليها مع العصر، نوى في وقت الظهر أنه يؤخرها حتى لا يكون تأخيره لها إهمالا أو سهوا.
وإذا أراد تقديم العصر؛ ليصليها مع الظهر نوى في قلبه وهو يصلي الظهر أنه سيجمع معها العصر، كما قال الشافعية.
وعند الشافعية: لو أراد المسافر تأخير الظهر ـ مثلا ـ ليجمعها مع العصر، يشترط أن يكون السفر موجودا في وقت صلاة العصر أيضا.
أما لو انتهى السفر قبل انتهاء صلاة العصر كان صلاة الظهر قضاء، ويقال مثل ذلك في المغرب والعشاء.هذا.
وهناك أسباب أخرى للجمع بين الصلاتين: كالمرض والمطر عند بعض العلماء.
والله أعلم .(1/433)
س:إذا كان ذلك بالنسبة لجمع الصلوات، فمتى يجوز قصرها ؟
يجوز قصر الصلاة في السفر لا في الحضر والإقامة. وذلك بصلاة رباعية أي: الظهر والعصر والعشاء ركعتين. قال (تعالى): { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }.
وإذا كان السبب هو الخوف من العدو، فعند عدمه وهو الأمن، بقيت هذه الرخصة صدقة من الله (سبحانه)، فلنقبل صدقته كما قال الرسول (عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الجماعة.
ولا يجوز القصر في غير السفر إلا في الحج، فتقصر الظهر والعصر وتجمعان في عرفة، وتقصر العشاء وتجمع مع المغرب في المزدلفة.
والله أعلم .(1/434)
س:يزعم بعض الناس أن: أي سفر ولو كان عشرة كيلو مترات يجيز للإنسان قصر الصلاة. فهل هذا صحيح، وإذا كان غير صحيح، فما المسافة التي تجيز قصر الصلاة للإنسان ؟
السفر المبيح للقصر اختلف في تقديره العلماء.
جاء في (فقه المذاهب الأربعة): أن المسافة التي تقصر فيها الصلاة في السفر، هي: ستة عشر فرسخا ذهابا فقط، والفرسخ: ثلاثة أميال والميل: ستة آلاف ذراع بذراع اليد.
وهذه المسافة تساوي: ثمانين كيلو ونصف كيلو ومائة وأربعين مترا، مسيرة يوم وليلة بسير الإبل المحملة بالأثقال سيرا معتادا، ولا يضر نقصان المسافة عن المقدار المبين بشيء قليل كميل أو ميلين.
وأبو حنيفة لم يقدر المسافة بهذه المقاييس، بل قدرها بالزمن وهو: ثلاثة أيام من أقصر أيام السنة، يكفي أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال. والمعتبر: السير الوسط.
والمالكية قالوا: إن نقصت المسافة عن القدر المبين بثمانية أميال وقصر الصلاة ؛ صحت صلاته، ولا إعادة عليه على المشهور.
ويستثنى من اشتراط المسافة: أهل مكة ومنى ومزدلفة، إذا خرجوا في موسم الحج للوقوف بعرفه، فإنه يسن لهم القصر في حال ذهابهم، وكذلك في حال إيابهم إذا بقي عليهم عمل من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا أتموا.
ثم قال العلماء: لا يشترط قطع المسافة المذكورة في المدة المذكورة والمقدرة بالأيام. فلو قطعها في أقل منها ولو في لحظة؛ صح القصر، كما هو الشأن في السفر بالطائرات والقطارات والسيارات.
يؤخذ من هذا أن:
الرأي المتفق عليه بين الأئمة الأربعة أن يكون السفر طويلا، لا يقل عن ثمانين كيلو تقريبا.
والله أعلم .(1/435)
س:خطيب صعد المنبر ليخطب الجمعة، وبعد مدة حدث له مرض، ونزل ولم يستطع أن يكمل الخطبة، ثم أغمي عليه، فهل يمكن أن يصعد خطيب غيره؛ ليكمل الخطبة، وهل يستلزم ذلك أن يؤذن بعد صعوده المنبر، ويبدأ الخطبة من بدايتها، أم يكمل ما بدأه الآخر، وبعد إفاقة الخطيب الأول من مرضه، هل عليه أن يقضي الجمعة أم يصلي صلاة الظهر ؟
الواجب في هذه الحالة:
أن يقوم واحد بالخطبة، ويبدأها من أولها، مراعيا ما اشترطه العلماء فيها، وبخاصة الإمام الشافعي: الذي اشترط أن تشتمل على: حمد الله، والصلاة على النبي، والأمر بالتقوى، وقراءة آية في إحدى الخطبتين، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية. وإذا لم يستطع ذلك: يخطب بأي قدر فيه موعظة مشتملة على أمر ونهي مثل: "اتقوا الله ولا تعصوه". أو بقراءة آية قاصدا بذلك الخطبة. وفى هذه الحالة البسيطة في غير مذهب الشافعي، لا يقال: إن الخطيب الثاني يكمل أو يستأنف، ولا حاجة بأن يقوم مؤذن ليؤذن مرة ثانية من أجل صعود الخطيب الثاني على المنبر.
وعندما يفيق الخطيب الأول من مرضه، إن أدرك معهم الجمعة بإدراك ركعة على رأي الجمهور، أو أدرك بعضها، على رأي بعضهم: حسبت له الجمعة. وإن لم يدرك الجمعة مع الجماعة؛ صلى ظهرا.
والله أعلم .(1/436)
س:سائل يقول: لم أستطع الاستيقاظ مبكرا، وقمت والخطيب يخطب الخطبة الثانية ولما اغتسلت ولبست ونزلت إلى المسجد، كان الإمام يصلي في الركعة الثانية، وجاء بعدي شخص والخطيب في التشهد الأخير. فهل أصلي ركعة أخرى وتصح صلاة الجمعة على الرغم من أنني لم أستمع إلى الخطبة، وهل الشخص الذي حضر والإمام في التشهد يصلي ركعتين أم يصلي أربع ركعات ؟
للإجابة على هذا السؤال نقول:
إن سماع الخطبة ليس شرطا في صحة صلاة الجمعة لمن لم يسمعها، سواء كان غائبا أو حاضرا، نائما متمكنا، أو أصم لا يسمع شيئا.
والغائب الذي يدرك مع الإمام ركعة، أدرك الجمعة، وعليه بعد سلام الإمام أن يصلي ركعة ثانية.
فقد روى النسائي وغيره بإسناد صحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته".
وروى الجماعة: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها كلها".
أما الذي لم يدرك مع الإمام إلا التشهد فإن الجمعة فاتت منه، وعليه بعد سلام الإمام؛ ليصلي الظهر بدل الجمعة، ويصدق عليه ما يقال:
نوى ولم يصل وصلى ولم ينو. يعني: نوى الجمعة ولكنه لم يصلها، وصلي الظهر ولكنه لم ينوه.
وهذا على رأي جمهور الفقهاء.
أما أبو حنيفة فيكتفي بأن يقوم هذا المسبوق ويصلي ركعتين، وبهذا يكون قد أدرك الجمعة.
والله أعلم .(1/437)
س: تصر بعض النساء على صلاة الجمعة في المسجد. فهل صلاتها الجمعة في هذا المسجد واجبة بحيث لو لم تصلها تعاقب عليها ؟
صلاة الجمعة غير واجبة على المرأة، وذلك للحديث الذي رواه أبو داود والحاكم وصححه غير واحد "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة وهم: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض".
ولحديث أم عطية الذي أخرجه ابن خزيمة "نهينا عن اتباع الجنائز ولا جمعة علينا".
لكن مع ذلك لو صلت الجمعة صحت وأغنتها عن صلاة الظهر باتفاق الفقهاء.
وهل يستحب لها صلاتها؟
قال الأحناف: الأفضل لها أن تصلي في بيتها ظهرا؛ لمنعها عن الجمعة سواء أكانت عجوزا أم غيرها.
وقال المالكية: إن كانت عجوزا لا أرب للرجال فيها؛ جاز حضورها الجمعة، وإن كان فيها أرب؛ كره حضورها.
أما الشابة فإن خيف حضورها الفتنة؛ حرم عليها الحضور، وإلا كره.
وقال الحنابلة: يباح لها الحضور لصلاة الجمعة إن كانت غير حسناء، وإن كانت حسناء كره.
وقال الشافعية: يكره للمرأة حضور الجماعة إن كانت مشتهاة ولو في ثياب بالية، وكذا غير المشتهاة إن تزينت أو تطيبت، وكل ذلك إذا أذن لها وليها بالحضور، وإلا حرم عليها حضور الجماعة، كما يحرم حضورها؛ إذا خيفت الفتنة.
والله أعلم .(1/438)
س:واحد من الناس يقول: كنت مسافرا إلى تركيا وصلينا صلاة الجمعة، ثم أقاموا صلاة الظهر بعدها. فهل لهذا سند من الدين ؟
المعروف أن صلاة الجمعة هي بدل من صلاة الظهر، فلو أديت الجمعة على وجهها الصحيح أغنت عن صلاة الظهر وإذا لم تؤد أو أديت على غير وجهها الصحيح؛ وجبت صلاة الظهر.
والأصل أن تقام جمعة واحدة في مكان واحد؛ لسماع الخطبة الموحدة من الإمام حيث يستمعون إلى نصائحه وتوجيهاته، وحيث تبلغهم دعوة الدين فلا يكون لهم عذر في التخفيف.
وكان العمل على ذلك أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والخلفاء الراشدين في المدينة، حيث كان المسجد النبوي يسع المصلين، وحيث كان الخليفة هو الذي كان يؤمهم ويخطبهم.
ولما اتسع العمران وانتشر المسلمون، وضاق المسجد الجامع في الأمصار عن استيعاب كل المصلين؛ أقيمت جمعة أخرى في مسجد آخر.
وهنا اختلف العلماء في هذا الوضع. هل هو جائز أو لا؟
وإذا جاز هل صحت الجمعات، أو صحت جمعة واحدة؟
وعلى فرض الصحة، أو صحة إحدى الجمع. هل هناك محل لصلاة الظهر أو لا؟
جاء في كتاب: "الفقه على المذاهب الأربعة":
الحنفية قالوا: تصح إقامة الجمعة في مواضع كثيرة في المصر، أو في فنائه على الأصح.
فتعدد الجمعة في المساجد لا يضر، ولو سبق أحدها الآخر في الصلاة على الصحيح.
إلا أن الأحوط:
أن يصلي أربع ركعات بنية آخر ظهر، والأفضل أن يصليها في منزله؛ حتى لا يعتقد العامة فرضيتها، فإن تيقن أنه سبق للصلاة في مسجد آخر كانت هذه الصلاة واجبة، وإن شك كانت هذه الصلاة مندوبة.
الشافعية قالوا: إن تعددت الجمعة لحاجة: كضيق المسجد الواحد عن استيعاب عدد المصلين فكلها صحيحة، وتسن مع ذلك صلاة الظهر ولا تجب.
أما إن تعددت الجمعة لغير حاجة؛ فإن تيقن سبق واحدة؛ صحت وبطل غيرها.
وعلى من بطلت صلاتهم أن يصلوها ظهرا إن لم يمكنهم أداؤها خلف الجمعة السابقة.(1/439)
والعبرة في السبق بتكبيرة الإحرام، وإن تيقن أن الجمع كلها متقارنة، ليس فيها سبق واحدة على الأخرى؛ بطلت الجمع كلها، ويجب عليهم الاجتماع لإعادتها إن أمكن، وإلا صلوها ظهرا.
وكذلك الحكم لو حصل الشك في السبق والمقارنة.
و المالكية قالوا: لا تصح الجمعة إلا في الجامع القديم، وتصح في المسجد الجديد الذي ينشأ بعد القديم بشرط؛ ألا يهجر القديم وأن تكون حاجة لبناء هذا المسجد الجديد: كضيق القديم وعدم إمكان توسعته، وكعداوة في ناحيتين من البلد، يخشى من اجتماع الناس في مسجد واحد أن تكون فتنة.
وكذلك تصح في المسجد الجديد إن حكم الحاكم بصحتها فيه، ولو اختل شرط؛ بطلت الجمعة ووجبت صلاة الظهر.
والحنابلة قالوا مثلما قال الشافعية أو قريبا منه.
وعلى هذا، لو تعددت الجمعة لحاجة فهي صحيحة، ومع ذلك قال الحنفية: الأحوط صلاة الظهر بعدها في المنزل.
وقال الشافعية: تسن صلاة الظهر.
ولم يقل أحد: تبطل صلاة الظهر وتحرم في هذه الحالة.
فمن شاء صلاها ومن شاء تركها.
هذا هو ما في كتب الفقه، وهو اجتهاد غير منصوص عليه في قرآن أو سنة، فمتى صحت الجمعة بالشروط المنصوص عليها في القرآن والسنة وما تركه الخلفاء الراشدون؛ لا تجب صلاة الظهر عند تعدد الجمعة\، ولا عند عدم تعددها.
والله أعلم .(1/440)
س:نرى في كثير من المساجد في أثناء خطبة الجمعة يمر أحد الناس أو أكثر بصندوق لجمع التبرعات والصدقات، حتى أصبحت ظاهرة عامة. فهل يجوز هذا التصرف ؟
روى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغى".
قال العلماء: لقد نهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن اللغو حال خطبة الجمعة، وحكمته أن فيه تشويشا على الخطيب بالكلام أو بأي عمل آخر، وأن فيه انصرافا عن الاستماع إليه.
قال أبو حنفية ومالك والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة وبخاصة إذا تلي فيها قرآن. قال ـ تعالى: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }. وقال أيضا: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}.
وقال أبو حنيفة: يجب الإنصات حتى قبل الخطبة، من حين خروج الإمام إليها. وقول الحديث: "ومن مس الحصى فقد لغى".
يشير إلى أن كل ما يصرف الإنسان عن الاستماع إلى الخطبة؛ يبطل ثواب الجمعة، وذلك كمس الحصى الذي كان يفرش به المسجد النبوي، ومثله اللهو بالمسبحة، وبأي شيء آخر فهو لغو أي: باطل مذموم.
فلما كان حامل صندوق التبرعات منصرفا عن الاستماع ومشوشا علي غيره بصوت النقود المعدنية التي تقرع قاع الصندوق، وبمشيه بين الصفوف الذي قد يكون معه تخط للرقاب وهو منهي عنه نهيا شديدا، وقد يشغل المتبرع بإخراج النقود؛ فينصرف عن سماع الخطبة.
لما كان ذلك كان جمع التبرعات بهذه الطريقة منافيا لواجب الاستماع إلى الخطبة، وليست هذه حالة ضرورة حتى يباح لها المحظور.
فإن جمع التبرعات ممكن بعد الانتهاء من الصلاة.
والله أعلم .(1/441)
س:يشيع بين كثير من العامة أن في يوم الجمعة ساعة نحس. فهل هذا صحيح ؟
وردت أحاديث كثيرة تبين أن يوم الجمعة قد هدانا الله إليه وأضل عنه من قبلنا، وأن له فضلا على غيره من أيام الأسبوع، ولم يرد دليل يعتد به أن فيه ساعة نحس بل العكس هو الصحيح؛ فقد وردت الأحاديث الصحيحة "بأن فيه ساعة إجابة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه". كما رواه مسلم.
وهذه الساعة ليست ساعة زمنية يعني: ليست ستين دقيقة بل هي فترة من الزمن لا يعلم قدرها إلا الله.
وقد كثرت الأقوال في تعيينها بناء على النصوص الواردة فيها حتى أوصلها ابن القيم إلى: أحد عشر قولا.
ومن أقوى النصوص: أنها ما بين أن يجلس الخطيب على المنبر إلى انتهاء صلاة الجمعة، كما رواه مسلم.
ولعل الحكمة في النص على هذه الفترة التنبيه على وجوب الإنصات والاستماع للخطبة التي قد يكون فيها دعاء يطلب له التأمين فترجى الاستجابة.
وقيل: إنها بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. كما رواه الترمذي.
أو آخر ساعة بعد العصر، كما رواه أبو داود والنسائي.
وقيل: بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقيل: غير ذلك.
ولعل الحكمة في عدم تعيينها بالضبط؛ أن نجعل يومنا كله طاعة لله ودعاء، وهذا يتنافى تماما مع اعتقاد بعض العامة: أن في يوم الجمعة ساعة نحس يفتعلون فيها الغضب والمشاجرات ويلصقون سببها بيوم الجمعة، وذلك غير صحيح.
والله أعلم .(1/442)
س:وبعض الناس يعتقدون: في أن بعض الإعمال حرام يوم الجمعة مثل: عدم تمشيط النساء شعورهن أو النظر في المرآة، وغير ذلك. فهل هذا صحيح ؟
لا يوجد دليل صحيح على حرمة هذه الأمور.
والله أعلم .(1/443)
س:وإذا وافق أول أيام العيد يوم جمعة. فهل يسقط أداء الجمعة على من صلى العيد ؟
روى أحمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي أن زيد بن أرقم شهد مع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) عيدين اجتمعا، فصلى العيد أول النهار، ثم رخص في الجمعة، وقال: من شاء أن يجمع فليجمع". لكن في إسناده مجهول وهو حديث ضعيف.
وفى رواية لأبي داود وابن ماجة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون". أيضا في إسناده كلام.
وإن كان بعض العلماء صحح أنه مرسل.
وجاء في رواية لأبي داود أنه في عهد ابن الزبير اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر فجمعهما جميعا، فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر. رجالهما رجال الصحيح.
إزاء هذه النصوص الخاصة باجتماع يوم الجمعة والعيد قال الأحناف والمالكية: لا تجزئ صلاة منهما عن صلاة الأخرى.
فكل منهما مطلوب، ولا تجزئ صلاة عن صلاة، بل لا يجوز الجمع بينهما، فالجمع رخصة خاصة في الظهر مع العصر، وبالمغرب مع العشاء.
والحنابلة يقولون: من صلى العيد؛ سقطت عنه الجمعة، إلا الإمام فلا تسقط عنه إذا وجد العدد الكافي لانعقاد الجمعة.
أما إذا لم يوجد فلا تجب صلاة الجمعة.
والشافعية قالوا: إن صلاة العيد تغني عن صلاة الجمعة لأهل القرى التي لا يوجد فيها عدد تنعقد بهم الجمعة ويسمعون الآذان من البلد التي تقام فيها الجمعة فيذهبون لصلاتها، ودليلهم قول عثمان في خطبته: أيها الناس إنه قد اجتمع عيدان في يومكم فمن أراد من أهل العالية ـ وهي قريبة من المدينة من جهة الشرق ـ أن يصلي معنا الجمعة فليصل، ومن أراد أن ينصرف فليفعل".
الموضوع خلافي، لكن القول بالاكتفاء بصلاة العيد عن صلاة الجمعة أقوى ويستوي في ذلك أهل القرى والأمصار، والإمام وغير الإمام.(1/444)
فالمقصود من الصلاتين قد حصل وهو صلاة ركعتين مع الخطبة، اجتمع الناس لأداء صلاة الجماعة، وسماع الموعظة فبأي من الصلاتين حصل ذلك كفى.
والله أعلم .(1/445)
س:نود أن نعرف حد السفر، أو الموضع الذي يقصر فيه في الصلاة، هل هو مغادرة المنزل، أو مغادرة الحي، أو مغادرة المدينة، أو الوصول إلى المكان المسافر إليه ؟
وضع الفقهاء لقصر الصلاة في السفر شروطا منها:
مجاوزة محل الإقامة وذلك لتحقيق السفر الذي بني قصر الصلاة على أساسه.
وكلهم متفقون على ذلك، مع اختلافهم في تحديد المجاوزة، هل تكون بمجاوزة سور البلدة، أو عمرانها أو مينائها البحري، أو الجوي، أو خيام البادية، أو الملاعب، و المرافق المتصلة.
ولم يقل واحد من الفقهاء الأربعة بجواز قصر الصلاة عند نية السفر، وهو يجهز أدواته في بيته، أو عند مغادرة بيته قبل أن ينفصل عن العمران.
فالمسافر من القاهرة ـ مثلا ـ لا يجوز له قصر الصلاة وهو منتظر في محطة السكة الحديد أو في المطار، بل ولا هو راكب للقطار أو للطائرة قبل التحرك.
فلابد من تحقق ما يطلق عليه في العرف اسم: السفر وذلك إلى جانب الشروط الأخرى: ككون السفر طويلا، وكونه مباحا. هذا.
وقد جاء في (نيل الأوطار) للشوكاني ما نصه:
وقد اختلف أيضا فيمن قصد سفرا يقصر الإنسان في مثله الصلاة على اختلاف الأقوال من أين يقصر؟
فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن من يريد أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفوا فيما قبل الخروج من البيوت، فذهب الجمهور إلى: أنه لابد من مفارقة جميع البيوت.
وذهب بعض الكوفيين إلى: أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو في منزله، ومنهم من قال: إذا ركب قصر، إن شاء.
ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت، واختلفوا فيما قبل ذلك.
فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه؛ حتى يثبت أن له القصر قال: ولا أعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة.
والله أعلم .(1/446)
س:رجل يقول: أنا مهمتي دوام السفر سواء أكان ذلك من مسكني بالقرية والذي يبعد عن مقر عملي بالمدينة بأكثر من تسعين كيلو مترا، فهل يجيز ذلك لي قصر الصلاة والإفطار في رمضان؟
من المعلوم أن: قصر الصلاة رخصة للمسافر، وأن الإفطار رخصة للمسافر كما قال ـ سبحانه:{ ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }. كما روى أبو داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة".
وذلك كله مع الشروط التي اشترطها الفقهاء لاستعمال هذه الرخصة.
والسفر قد يكون مؤقتا وقد يكون دائما. والسفر الدائم يطلق على معنيين أولهما:
أن يكون معه أهله وكل ما يحتاجه.
وثانيهما: ألا يكون معه أهله، ولكنه كثير الأسفار أو مهنته هي السفر: كسائقي القطارات والطيارين والبحارين.
والسفر المؤقت يرخص في القصر والفطر. أما مديم السفر الذي معه أهله، وكل حاجاته فهو كالمقيم؛ لا يجوز له القصر ولا الفطر في رمضان، اللهم إلا إذا كان الصيام يضره فله الفطر.
وقد يجب؛ إذا كان الضرر بالغا يؤدي إلى هلاك له.
جاء في (المغني) لابن قدامة في فقه الحنابلة أن الأشرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل: عن الملاح أيقصر ويفطر في السفينة؟
فقال: أما إذا كانت السفينة بيته فإنه يتم ويصوم. قيل له: وكيف تكون بيته؟
قال: لا يكون له بيت غيرها معه فيها أهله، وهو فيها مقيم.
وجاء في (شرح الشرقاوي على التحرير في فقه الشافعية) أنه: لا يباح الفطر لمديم السفر؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط الوجوب كلية، إلا أن يقصد القضاء في أيام في آخر سفره.
أما الذي يسافر كثيرا بحكم عمله، وليس معه أهله فله قصر الصلاة، وله الفطر ؛ لأنه ستكون له أيام يقيم فيها فيقضي الصيام. هذا.
والقصر عزيمة عند الحنفية، ومن أتم لا يجوز له الجمع.
والله أعلم .(1/447)
س:ومتى يتم المسافر صلاته ؟
يتم المسافر الصلاة ولا يقصرها؛ إذا انتهى سفره، وذلك بالعودة إلى محل إقامته، أو بنية الإقامة في بلد أكثر من أربعة أيام عند الجمهور، وأكثر من خمسة عشر يوما عند أبي حنيفة، وهذا إذا حدد هذه الإقامة بهذا الحد، فإن لم يستطع تحديد الإقامة كأن كان ينتظر قضاء حاجته ولكن لم يحدد له موعد قضائها، فله القصر حتى تنتهي حاجته ولو مكث مدة طويلة.
والله أعلم .(1/448)
س:وما حكم صلاة المقيم خلف المسافر، هل يقصر صلاته، وما حكم صلاة المسافر خلف المقيم، هل يتم صلاته ؟
لو اقتدى المقيم بالمسافر، لا يقصر؛ لأن رخصة القصر وهي السفر ليست موجودة عنده، فإذا صلى خلفه الظهر ـ مثلا ـ والإمام المسافر سيسلم من ركعتين، يقوم المأموم المقيم ليكمل الظهر أربع ركعات.
ولو اقتدى المسافر بالمقيم؛ وجب عليه أن يتم صلاته.
والله أعلم .(1/449)
س: فإذا صلى المسافر خلف المقيم، هل يجوز له بعد فراغه من الصلاة أن يجمع معها ما يجوز له جمعه منفردا أو بجماعة ؟
رخصة الجمع غير رخصة القصر، فللجمع أسباب غير السفر، فلو لم يقصر المسافر؛ لأنه اقتدى بإمام متم، جاز له أن يجمع الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء ما دام مسافرا أو له عذر آخر.
والجمع إما أن يكون جماعة أو منفردا مع مراعاة الأحكام في ذلك.
والله أعلم .(1/450)
س:وهل الأفضل أن يصلي المسافرون مع الإمام الراتب في المسجد صلاة الظهر، ثم يصلون العصر جمعا بعد ذلك، أم يصلون الظهر والعصر ولا ينتظرون الإمام؟
إن المسافرين إذا صلوا الظهر جماعة خلف إمام راتب مقيم في المسجد؛ نالوا ثواب الجماعة، ولزمهم إتمام الظهر أربعا، وبعد انتهاء صلاة الظهر يجمعون معها العصر وحدهم، ويصلونها مقصورة، ولو صلوها جماعة مع بعضهم كانت لهم ثواب الجماعة، ولو صلوها منفردين؛ صح الجمع وضاع أجر الجماعة.
ومعلوم أن الجماعة الكثيرة أفضل من الجماعة القليلة، فالأفضل للمسافر أو للمسافرين القلائل أن يدركوا الجماعة في الظهر مع الإتمام بدل أن ينتظروا انتهاء الإمام ليصلوا وحدهم الظهر والعصر جمعا وقصرا؛ لأن تعدد الجماعة في المسجد مكروه، والجماعة الأولى أفضل من الثانية.
والله أعلم .(1/451)
س:اختلف البعض في أفضلية فعل السنن الرواتب أو صلاة التطوع، أو النفل مع القصر في السفر، فمن قائل: يستحب فعلها. ومن قائل: لا يستحب. وقد قصرت الفريضة. فما رأي الدين في ذلك، وكذلك من فعل النوافل المطلقة كصلاة الليل ؟
ذهب جمهر العلماء إلى: عدم كراهة التنفل لمن يقصر الصلاة في السفر، لا فرق بين السنن الراتبة وغيرها.
فقد روى البخاري ومسلم أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اغتسل يوم فتح مكة في بيت أم هانئ، وصلى ثماني ركعات، وكان الصحابة يسافرون ويصلون التطوع قبل الفرائض وبعدها".
لكن ابن عمر كما رواه البخاري يكره الجمع بين الفرائض، والنوافل إلا قيام الليل.
وقال: صحبت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك صحبت أبا بكر وعمر وعثمان فلم يزيدوا على ركعتين.
فترك النوافل عند ابن عمر لا بأس به، وصلاتها لا بأس بها أيضا.
وقد ترجح رواية البخاري ومسلم على رواية البخاري وحده اقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم ) في صلاة النافلة في السفر.
والكلام على كل حال في بيان الأفضلية. وكلا الأمرين جائز.
والله أعلم .(1/452)
س:يتصور البعض: أن الجمع والقصر متلازمان، فلا جمع بلا قصر، ولا قصر بلا جمع. فما رأي فضيلتكم في ذلك، وهل الأفضل للمسافر القصر بلا جمع أو الجمع والقصر ؟
لا يوجد تلازم بين القصر والجمع، فكل منهما رخصة عند الجمهور.
فمن أحب أن يقصر فقط ولا يجمع فلا مانع، ومن أحب أن يقصر و يجمع فلا مانع.
وكما قيل: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
فعمل الرخصتين أفضل.
والله أعلم .(1/453)
س: وهل النية شرط لجواز الجمع، فكثيرا ما يصلي المسافرون المغرب بدون نية الجمع، وبعد صلاة المغرب يتشاورن فيما بينهم، فيرون الجمع، ثم يصلون العشاء؟
جاء في فقه الشافعية أن:
جمع التقديم يجوز بشروط ثلاثة:
الأول: أن يبدأ بالصلاة الأولى صاحبة الوقت، بأن يصلي الظهر قبل العصر والمغرب قبل العشاء، لأن الوقت للأولى، أما الثانية فتبع لها، والتابع لا يتقدم على المتبوع، فلو بدأ بالثانية؛ لم تصح، ويعيدها بعد الأولى.
الشرط الثاني: نية الجمع عند الدخول بتكبيرة الإحرام في الأولى أو في أثنائها على الأظهر، فلا تجوز النية بعد السلام من الأولى.
وبهذا الشرط تعلم الإجابة على السؤال وهي: عدم جواز الجمع لأن نيته لم تكن في أول صلاة المغرب ولا في أثنائها.
الشرط الثالث: المولاة بين الأولى والثانية؛ لأن التابع لا يفصل عنه متبوعة، ولأنه الوارد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث لم يصل الرواتب بين الصلاتين المجموعتين.
فلو وقع الفصل امتنع الجمع ويتعين تأخير الثانية إلى وقتها، ولا يضر الفصل القصير، وتقديره مختلف فيه. والأولى اعتبار العرف في تقديره.
وفى جمع التأخير يجب أن ينوي المصلي في وقت الأولى أن التأخير هو لأجل الجمع، فإن لم ينو عصى وصارت الأولى قضاء.
والله أعلم .(1/454)
س:فما رأي فضيلتكم في الجمع بسبب المطر بين المغرب والعشاء في الوقت الحاضر، وخصوصا في بعض المدن والشوارع فيها معبدة ومرصوفة ومنارة إذ لا مشقة ولا وحل ولا عوائق ؟
الجمع من أجل المطر وارد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه البخاري وهو جمع تقديم لا تأخير، وهو لمن يريد أن يصلي في المسجد لا في بيته ولا في عمله، وصورته: أن يكون الإنسان في المسجد في وقت الظهر أو في وقت المغرب، ولو انتهى من الصلاة وأراد أن يعود إلى بيته والمطر نازل؛ سيجد مشقة وكذلك يجد المشقة عند ما يخرج من البيت؛ ليصلي العصر أو يصلي العشاء، وهنا يجوز له أن يصلي العصر تقديما مع الظهر، وأن يصلي العشاء تقديما مع المغرب لتكون المشقة من المطر خفيفة.
واشترط العلماء بجواز هذا الجمع أن تقع الصلاة الأولى والمطر موجود من أولها بحيث لو خرج من المسجد؛ ابتل ثوبه ونعله.
كما يشترط أن يستمر المطر حتى يحرم بالصلاة الثانية، كما يشترط وجود المطر عند السلام من الأولى على الصحيح. وقيل: لا يشترط.
وبعض العلماء أجاز الجمع للمطر بين المغرب والعشاء فقط، ولم يجزه بين الظهر والعصر.
وبعضهم أجاز الجمع تقديما وتأخيرا؛ بسبب الثلج والجليد والوحل والبرد الشديد.
وقال العلماء: هذه الرخصة وهي الجمع للمطر لمن يصلي جماعة في المسجد ويتأذى بالمطر في طريقه.
أما من يصلي في بيته جماعة أو يمشي إلى المسجد مستترا بشيء كالمغلف أو الملابس الواقية أو كان المسجد بجوار داره، فلا يجوز له الجمع.
والمطر في المدن النظيفة غيره في القرى ـ مثلا ـ فيتغير الحكم من مكان إلى مكان ومن ظرف إلى ظرف.
والله أعلم .(1/455)
س:في حالة توافر شروط جمع الصلاة في المطر، قد يحصل أن يحضر بعض الناس الجماعة والإمام يصلي العشاء، فيدخلون مع الإمام ظانين أنه يصلي المغرب. فماذا عليهم ؟
الإجابة على هذا السؤال مذكورة في الإجابة على سؤال في صلاة الجماعة وهو: ضرورة اتفاق صلاتي الإمام والمأموم عند الجمهور؛ حتى تصح الصلاة.
ومن هنا نعلم أن:
الذين يصلون المغرب خلف إمام يصلي العشاء صلاتهم باطلة عند الجمهور. والإمام الشافعي يقول: صلاتهم المغرب خلف إمام يصلي العشاء صحيحة.
ورأي الجمهور قوي.
والله أعلم .(1/456)
س:إذا كان الأفضل أن يصلي الإنسان في جماعة، فأنا في أحيان كثيرة أسافر منفردا. فهل أصلي في جماعة، أم أصلي منفردا؛ لأنني أحب أن أقصر الصلاة ؟
لو صلى المسافر الظهر خلف إمام مسجد مقيم؛ وجب عليه الإتمام، ونال ثواب الجماعة.
أما إذا صلى منفردا وقصر الصلاة فقد عمل بالرخصة، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
فماذا يفعل؟
عند الإمام أبي حنيفة:
يجب أن يصلي منفردا؛ لأن القصر عزيمة واجبة وليس رخصة.
فالواجب مقدم على السنة وهو صلاة الجماعة.
وكذلك المالكية يقولون: إن القصر سنة مؤكدة، آكد من صلاة الجماعة.
والشافعية يقولون: القصر أفضل من الإتمام.
وعليه، فالأفضل لصاحب السؤال أن يترك الجماعة ويصلي منفردا قصرا وجوبا عند الأحناف، وندبا عند غيرهم.
والله أعلم .(1/457)
س:نرى بعض الناس يجمعون بين الصلاتين بدون سفر ولا مرض ويقولون: إن الدين يسر. فهل لذلك أصل في الدين ؟
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: صلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء".
وفى لفظ الجماعة إلا البخاري وابن ماجة: جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر".
وعند مسلم في هذا الحديث قال: "فقلت لابن عباس لما فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته".
وأخرج الطبراني مثله عن ابن مسعود "جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. فقيل له في ذلك فقال: صنعت ذلك لأن لا تحرج أمتي".
والحديث ورد بلفظ: "من غير خوف ولا سفر". وبلفظ: "من غير خوف ولا مطر".
ولم يقع مجموعا بالثلاثة في شيء من كتب الحديث أي: بلفظ: "من غير خوف ولا سفر ولا مطر".
والمشهور: من غير خوف ولا سفر.
هذا بعض ما ورد من الأحاديث والآثار في الجمع بين الصلاتين .
والعلماء في ذلك فريقان:
فذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر حديث ابن عباس فجوزوا الجمع في الحضر أي في غير السفر للحاجة مطلقا، ولكن بشرط ألا يتخذ عادة وخلقا.
وذهب جمهور الأئمة إلى: منع الجمع بين الصلاتين إلا لعذر.
وحكى البعض:
أنه إجماع ولا عبرة لمن شذ بعد الإجماع الأول، وحجتهم في ذلك أخبار المواقيت التي حددت أوقات الصلاة، ولا يخرج عنها إلا لعذر.
ومن الأعذار ما هو منصوص عليه كالسفر.
وقد ورد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه "جمع بين الصلاتين في السفر وكالمرض.
وأجاب هذا الجمهور على حديث ابن عباس الذي يقول بالجمع من غير عذر بأجوبة لا يسلم بعضهما من المناقشة وعدم التسليم.
لكن أحسنها هو أن:(1/458)
الجمع بين الظهر والعصر،وبين المغرب والعشاء الذي فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة من غير سفر ولا مرض ولا مطر، كان جمعا صوريا بمعنى أنه أخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها فصلاها، ثم جعل صلاة العصر في أول وقتها ليس بينهما إلا قدر يسير، فيظن الرائي أنه: جمع بين الصلاتين في وقت واحد لإحداهما.
والحقيقة أن: كل صلاة وقع في صلاتها المحدود لها لأن لكل صلاة وقتا له أول وله آخر.
ولما كان أداء الصلاة في وقتها له فضله كان يحرص عليه الصحابة، لكن ربما تكون هناك أعذار تمنع من المبادرة إلى الصلاة أول الوقت، ففعل النبي ( صلى الله عليه وسلم) ذلك أحيانا؛ ليرفع الحرج عن أمته؛ وليعرفوا أن الصلاة في آخر وقتها وقعت أداء ولا حرج في التأخير؛ ما دامت هناك حاجة.
وهذا الجواب ارتضاه ابن حجر في الفتح، واستحسنه القرطبي ورجحه إمام الحرمين.
ومما يدل على أن هذا الجمع بالمدينة لغير عذر كان صوريا:
ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ جاء فيه: "صليت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا، أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء".
فابن عباس راوي الحديث صرح بأنه: جمع صوري.
هذا بعض ما قيل في بيان أن الجمع كان صوريا، وأنه لا يجوز تقديم صلاة على وقتها ولا تأخيرها عن وقتها إلا لعذر.
والله أعلم .(1/459)
س:هل من ترك الصلاة عمدا يقبل قضاؤه لها، وهل يقبل القضاء ممن تركها كسلا؟
يقول جمهور العلماء: إن الصلاة إذا خرج وقتها دون أن يؤديها المسلم المكلف كان عليه قضاؤها وخروجها عن الوقت إن كان لعذر: كالنوم والسهو يوجب قضاءها لحديث البخاري ومسلم "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك".
وفى رواية:"إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها".
فالله يقول: {وأقم الصلاة لذكري}.
وكذلك يجب القضاء؛ لأنها صارت دينا لله.
وقد روى الشيخان أن "رجلا سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أمه التي ماتت وعليها صوم شهر هل يقضيه عنها؟ فقال له: نعم. فدين الله أحق أن يقضى".
أما خروجها عن الوقت بغير عذر، فهو يوجب القضاء أيضا كما قال جمهور العلماء: بأن القضاء إذا كان واجبا على المعذور: كالناسي والنائم فهو على المتعمد أولى.
وقول الحديث: "فليصلها إذا ذكرها". يدل على ذلك؛ لأنه وإن كان تعمد تركها فقد تذكر ذلك بعد لأن المراد بالذكر هو: العلم.
أما رأي غير الجمهور، ومنهم أهل الظاهر فهو: عدم قضائها، إذا تركت عمدا؛ لأن القضاء هو على الناسي كما في ظاهر الحديث.
ولا يقاس عليه المتعمد وعليه التوبة النصوح فقط، والإقبال على أداء الصلاة بعدها كما قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى}.
والخلاصة أن:
تارك الصلاة سهوا يجب عليه القضاء باتفاق العلماء، وأن تاركها عمدا يجب عليه القضاء عند الجمهور، وهو الصحيح.
والإنسان حر في كيفية القضاء من حيث الترتيب وعدمه على ما رآه بعض الفقهاء فيما زاد على صلاة يوم واحد.
ونختار هذا الرأي؛ للتيسير كما أنه يقضي ما علم أو غلب على ظنه تركه بعد الاجتهاد في حصر المتروك.
ولا معنى لانشغاله بالنوافل التي لا يحاسب عليها مع الإهمال في القضاء.(1/460)
وعلى تارك الصلاة عمدا مع وجوب القضاء أن يتوب إلى الله ويواظب عليها ويندم على تقصيره ويعزم عزما صادقا على عدم التهاون فيها.
كما يسن له أن يبادر بالقضاء قبل مباغتة الأجل أو تغير الظروف التي يعجز عنها على القضاء.
ومن مات وهو يقضي ولم يتم الوفاء، فأمره مفوض إلى ربه، وبحسب نيته تكون آخرته. والرجاء في رحمة الله كبير.
والله أعلم .(1/461)
س:رجل يقول: أنا كثير السفر. فما حكم الدين في أن صلاة الظهر قد فاتت مني قبل السفر، هل أقضيها قصرا، وما الحكم في صلاة الظهر وقد فاتت مني أثناء السفر، فبعد عودتي، هل أقضيها قصرا أم أتمها ؟
إذا كان الإنسان مسافرا سفر قصر ـ وهو حوالي ثمانين كيلو مترا تقريبا ـ وفاتته صلاة الظهر ـ مثلا ـ وأراد أن يقضيها إذا أراد أن يقضيها وهو مسافر؛ قضاها مقصورة أي: صلاها ركعتين فقط،لأن رخصة القصر وهي السفر كانت موجودة أثناء وجوب الظهر عليه، وهي أيضا موجودة عند قضائها.
أما إذا أراد أن يقضيها بعد أن انتهى من سفره فهناك رأيان للعلماء:
رأي يقول: بقضائها مقصورة أي: ركعتين فقط، نظرا لأن الرخصة وهي السفر كانت موجودة عندما فاتت منه. وعليه الحنفية والمالكية.
ورأي يقول بقضائها تامة أي: أربع ركعات؛ نظرا لأن الرخصة وهي: السفر غير موجودة عند القضاء، وعليه الشافعية والحنابلة. ولا مانع من الأخذ بأحد الرأيين.
وإذا فاتت صلاة الظهر في الحضر أي: في غير السفر، ثم سافر سفر قصر وأراد أن يقضيها وهو مسافر؛ وجب عليه أن يصليها تآمة أي: أربع ركعات وذلك باتفاق الأئمة؛ لأنها دين والدين لابد أن يقضى بتمامه دون نقص منه.
والله أعلم .(1/462)
س:وهل يجوز لأهل الميت الذي كان لا يواظب على الصلاة أن يصلوا عنه، أو يعملوا ما يسمى: بإسقاط الصلاة، ونود أولا أن نعرف: ما هو إسقاط الصلاة ؟
إسقاط الصلاة معناها: أن يقوم بعض الناس بعمل من الإعمال؛ لتسقط الصلاة عنه إذا مات ولم يكن قد صلاها.
معلوم أن الصلاة عبادة بدنية محضة لم يرد نص خاص عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في جواز قضائها عن الميت.
والوارد هو عن بعض الصحابة، فقد روى البخاري أن ابن عمر (رضي الله عنهما) أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني: ثم ماتت. فقال: صل عنها.
وروى ابن أبو شيبة بسند صحيح أن: امرأة قالت أيضا لابن عباس: أن أمها نظرت مشيا إلى مسجد قباء أي: بالصلاة. فأفتى ابنتها أن: تمشي لها. وأخرجه مالك في الموطأ.
والصلاة المراد هنا: صلاة نفل نذر أداؤها في قباء فلزمت ووجبت.
ومن هنا: رأى بعض العلماء جواز قضاء الصلاة عن الميت، سواء أكانت مفروضة أصلا أم منذورة.
لكن الجمهور قال: بعدم جواز قضاء المفروضة، ونقل ابن بطال الإجماع على ذلك.
جاء في موطأ مالك أنه: بلغه أن عبد الله ابن عمر كان يقول: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد.
وأخرج النسائي عن ابن عباس مثل ذلك القول.
وبهذا يعلم أن: ما يعمله بعض الناس مما يسمى: بإسقاط الصلاة عن الميت غير مشروع.
والواقع أن الله (سبحانه وتعالى) جعل أداء الصلاة من اليسر بحيث تصح بأية كيفية من الكيفيات عند العجز، حتى إنه لم يسقطها عن المجاهد وهو في ساحة القتال أثناء المعركة وعن المقيد بالأغلال، واكتفى بما يستطاع ولو بالإيماء.
فقول الجمهور بعدم جواز قضائها عن الميت هو المختار للفتوى.
ولا يصح غيره حتى لا يكون هناك تهاون بعمود الدين.
أما حكم الصلاة للميت، فقد جاء في رواية للدارقطني: أن من البر بعد الموت أن نصلي لهما أي: للوالدين مع صلاتنا، وأن نصوم لهما مع صيامنا، وذلك في النوافل المهداة لا في الفروض من حيث القضاء.(1/463)
والله أعلم .(1/464)
س:نود أن نعرف من فضيلتكم: معنى الحديث القدسي الذي يقول الله (عز وجل) فيه: "يا ابن آدم اركع لي من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره " ؟
روى أحمد والترمذي وغيرهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: قال الله (عز وجل): " يا ابن آدم صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره".
وجاء بألفاظ أخرى متقاربة، والمراد بذلك: الترغيب في صلاة الضحى.
وجاء في مثل ذلك حديث رواه مسلم "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة وكل تسبيحه صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف، ونهي عن منكر صدقة ويجزئ عن ذلك ركعتان تركعهما من الضحى".
وصلاة الضحى أقلها ركعتان، ويمكن أن نصلي أربع ركعات، وست ركعات وثماني ركعات على بعض المذاهب.
وقد يوضح هذا الحديث الحديث الأول، بل يوضح أكثر رواية أحمد وأبي داود وابن خزيمة وابن حبان في الإنسان ستون وثلاث مائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل صدقة قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟
قال: النخامة في المسجد تدفنها، ولعدم جرح شعور الآخذين ولا بأس بإعطائها علنا وجهرا إذا كان الموقف يستدعي ذلك: كالدعوة(1/465)
س:فما أقسام التطوع، وما الفرق بينها ؟
التطوع في الصلاة قسمان: تطوع مطلق وتطوع مقيد، والمطلق قد تكون النية فيه محدودة بعدد الركعات كواحدة أو ثنتين أو أكثر، وقد تكون مطلقة بدون عدد كأن ينوي أن يصلي لله، فأنت حر في التسليم بعد أي عدد يصليه من الركعات كما قال النووي.
والتطوع المقيد بركعات معلومة ينقسم إلى ما كان تابعا للفرائض كسنة الفجر. وإلى ما هو غير تابع للفرائض مثل صلاة الضحى ولكل من ذلك حكمه.
والله أعلم .(1/466)
س:وما الفرق بين السنن الراتبة، والسنن المؤكدة،وما هي؟
يطلق على السنن التابعة للفرائض اسم: السنن الراتبة، وهذه السنن الراتبة منها مؤكدة أي: حافظ عليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وغير مؤكدة أي: لم يحافظ عليها.
فالمؤكد من الرواتب هو: سنة الفجر. وقيل: إنها واجبة. وركعتان قبل الظهر وقيل: أربع. وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
وغير المؤكد من الرواتب هو: ركعتان أيضا قبل الظهر. وركعتان أيضا بعد الظهر. وأربع ركعات قبل العصر. وركعتان قبل المغرب. وركعتان بعد العشاء. والسنن المؤكدة قد تكون من الرواتب التابعة للفرائض، وقد تكون من غيرها، ومنها صلاة الضحى، وصلاة الوتر على رأي الجمهور.
وقيل: إن الوتر واجب.
وصلاة التراويح في رمضان، وصلاة الكسوف للشمس والخسوف للقمر.
والله أعلم .(1/467)
س:ما معنى كلمة: القنوت. وهل يجوز للإنسان أن يقنت في كل الصلوات، أم أنه يجوز في صلاة و لا يجوز في غيرها ؟
كلمة: قنوت تطلق على عدة معان هي: الطاعة و الصلاة والدعاء والعبادة وطول القيام والسكوت.
والآيات والأحاديث كثيرة في ذكر القنوت، ويفسر بحسب ما يناسب المقام، والذي ورد فيه قوله ـ تعالى: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين }.
جاء في حديث زيد ابن أرقم " كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين}. فأمسكنا عن الكلام.
والقرطبي في تفسيره لهذه الآيات ذكر كل هذه المعاني، كما ذكر النصوص الواردة فيها، وذكر العلماء الذين حدودها.
والقنوت بمعنى: الدعاء يجوز في الصلوات الخمس عند النوازل، لحديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وأحمد "قنت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلوات الخمس مدة شهر يدعو على حي من بنى سليم؛ لأنهم قتلوا بعض الصحابة الذين أرسلهم ليعلموهم".
أما في غير النوازل، فهو مشروع فقد في صلاة الصبح عند بعض الأئمة، وفى صلاة الوتر في رمضان، وفى غير رمضان أيضا عند بعض العلماء.
والله أعلم .(1/468)
س:وهل القنوت يكون جهرا أم سرا ؟
روى البخاري أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت بعد الركوع يجهر بذلك".
والجهر هو في دعاء النوازل كما في الحديث.
قال العلماء: الجهر بالقنوت يكون للإمام إذا صلى الوتر أو الصبح، وذلك ليسمع المأمومون ويأمنوا.
أما للمنفرد فيسن الإسرار به؛ حتى لا يكون في الجهر رياء أو تشويش أو ضرر بالغير. كما جاء في الحديث أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمن يرفعون أصواتهم بالقرآن في المسجد: "كلكم مناجى ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة". كما رواه أحمد.
وقال ـ تعالى: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين }.
وقال: { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال } والله أعلم .(1/469)
س:جاء في كتب الفقه أن: الحنفية قالوا: الوتر واجب لقوله ( صلى الله عليه وسلم) "الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني". والمذاهب الأخرى قالت: إنه سنة. فهل معنى ذلك أن السنة تلغي الفرض، وأن من لم يوتر ليس من أتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟
إذا قال أبو حنيفة: بوجوب الوتر، وقال غيره: بأنه سنة، فليس معنى هذا أن السنة تلغي الفرض، وإنما المعنى أن: الوتر مطلوب في كل المذاهب إلا أن درجة الطلب عند أبي حنيفة أقوى من عنده غيره من فقهاء المذهب، على معنى: أن التقصير في أدائه عند أبي حنيفة موجب للمسئولية أمام الله معتمد على الحديث المذكور.
أما عند غيره: فإن الوتر ليس بالدرجة في الطلب وحيث يكون التقصير فيه مفضيا للمسئولية كالفرد بل هو مطلوب طلبا مؤكدا لمحافظة النبي ( صلى الله عليه وسلم).
لكنه ليس من الفروض المحتمة، فليس بعد الصلوات الخمس المعروفة، صلاة مفروضة كل يوم، والأحاديث الدالة كثيرة من أقواها: قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن سأله عما افترضه الله عليه: "خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع". فولى الرجل وهو يقول: والله لا أزيد عليهن ولا أنقص. فقال ( صلى الله عليه وسلم ): "أفلح إن صدق". رواه مسلم.(1/470)
وقد حمل الحديث فمن لم يوتر فليس مني على الترغيب الشديد في الإتيان به، وأن من قصر فيه لا يكون من عداد المسلمين الكاملين، فهو مسلم وليس بكافر، وهو من أتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وليس من أتباع غيره، وذلك على نحو ما قالوا في حديث: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". على معنى لا صلاة كاملة لجار المسجد إلا في المسجد، وليس المعنى أن: صلاته باطلة إذا صلاها في بيته فإن الأرض كلها مسجد، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، ولا شك أن الصلاة في المسجد أكمل بما فيها من صلاة الجماعة وكثرة الثواب بالخطى إلى المسجد وبانتظار الصلاة، وبدعاء الملائكة، وهذا الحديث رواه الدارقطني بسند ضعيف.
أما حديث: "فمن لم يوتر فليس منا". فقد رواه أحمد وأبو داود وفى إسناده راو ضعفه النسائي، وقال البخاري: عنده مناكير، ووثقه بعضهم.
والله أعلم .(1/471)
س:إذا استيقظت بعد طلوع الشمس فهل يجب علي أن أصلي ركعتي الفجر مع قضاء صلاة الصبح، وهل أسر فيها أم أجهر ؟
الصلوات المفروضة هي: التي يجب قضاؤها؛ إذا خرج وقتها سواء أكان ذلك عن سهو ونسيان ونوم، أم عن قصد وتعمد.
أما قضاء النوافل وهي: الصلوات غير المفروضة فإن قضاءها غير واجب؛ لأنها في الأصل غير واجبة الأداء.
ولكن إذا لم يكن قضاؤها واجبا، فهل يكون مندوبا يثاب عليه؟
للفقهاء في ذلك خلاف خلاصته:
أنهم أجمعوا على ندب قضاء ركعتي الفجر وذلك؛ لأهميتهما فقد ورد فيهما حديث "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". رواه مسلم.
وحديث عائشة "لم يكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر". رواه البخاري ومسلم.
ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في قضائهما: "من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما". رواه البيهقي وإسناده جيد.
وروى الشيخان أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر فاستيقظوا بحر الشمس، فارتفعوا قليلا حتى استقلت الشمس أي: ارتفعت، ثم أمر مؤذنا فأذن، فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، ثم صلى الفجر".
أما غير ركعتي الفجر فقال الحنفية والمالكية: لا يقضى.
وقال الشافعية: كل صلاة لها وقت إذا خرج وقتها يسن أن تقضى.
والحنابلة قالوا: تقضى الرواتب فقط، والوتر.هذا.
والسنن الراتبة تقضى سرا سواء أكان ذلك ليلا أم نهارا وذلك كصلاتها أداء.
والله أعلم .(1/472)
س:يقول قائل: لا يجوز قضاء صلاة صلوات النهار بالليل، أو صلوات الليل بالنهار. فهل تؤجل كل صلاة فائته إلى وقتها في اليوم التالي مثل: صلاة العصر مع العصر، والصبح كذلك وصلاة العشاء ؟
القضاء على الفور عند الجمهور، وعليه فلا يجب أن يؤخر الإنسان قضاء صلاة الظهر إلى اليوم التالي؛ ليصليها في وقت الظهر، ولا أن يؤخر صلاة العشاء؛ ليصلها في وقت العشاء من اليوم التالي، بل تقضى أية صلاة في أي وقت من ليل أو نهار ما عدا الأوقات المكروهة عند بعض العلماء: كصلاة الظهر تقضى في وقت المغرب، أو العشاء ـ مثلا ـ فذلك جائز حيث لا يوجد دليل على وجوب تحري الوقت المماثل؛ لتقضى فيه الصلاة.
وإذا كان على الإنسان فوائت يوم واحد رتبها عند القضاء فيصلي الصبح أولا، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء.
فإن كانت الفوائت أكثر من خمس فهو حر في قضائها بأي نظام يكون و له أن يصلي مع كل فرض فرضا أو فرضين من القضاء، كأن يصلي مع الظهر ظهرا أو ظهرين أو أكثر، ويستوي في ذلك أن يكون القضاء قبل أداءٍ أو بعده إلا في أوقات الكراهة عند بعض العلماء، فيكون القضاء قبل الأداء: كقضاء العصر ـ مثلا ـ قبل أداء العصر الحاضر وهكذا.
والله أعلم .(1/473)
س:سائل يقول: فاتتني صلاة العيد يوم النحر. فهل يجوز لي قضاؤها منفردا وهل يجوز قضاء صلاة العيد منفردا بشكل عام ؟
صلاة عيد الأضحى كعيد الفطر وقتها محدود لما بعد الشروق بقليل عند بعض الأئمة إلى الزوال أي: وقت الظهر فتكون صلاتها في هذه الفترة أداء ولو فاتته هل يقضيها أو لا؟
قال الأحناف: الجماعة شرط لصحة صلاة العيدين فمن فاتته مع الإمام فليس مطالب بقضائها لا في الوقت ولا بعده، وإن أحب قضاءها منفردا صلى أربع ركعات بدون تكبيرات الزوائد، كالذي تفوته صلاة الجمعة يقضيها ظهرا.
والمالكية قالوا: الجماعة شرط لكونها سنة، فمن فاتته مع الإمام ندب له فعلها إلى الزوال ولا تقضى بعد الزوال.
والشافعية قالوا: الجماعة فيها سنة لغير الحاج، ويسن من فاتته مع الإمام أن يصليها في أي وقت قبل الزوال، وتكون أداء.
أما بعد الزوال فيسن صلاتها وتكون قضاء؛ لأن قضاء النوافل سنة عندهم إذا كان لها وقت. هذا.
فقد روى أحمد والنسائي وابن ماجة بسند صحيح أن: "هلال شوال غم على الصحابة وأصبحوا صياما فجاء جماعة آخر النهار وشهدوا أمام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يخرجوا إلى عيدهم من الغد".
وهذا الحديث حجة للقائلين بأن: الجماعة إذا فاتتها صلاة العيد بسبب عذر من الأعذار فلها أن تخرج من الغد لتصلي العيد.
هذه هي أقول العلماء، والأمر اجتهادي يجوز فيه تقييد أي قول منها مع العلم بأن صلاة العيد سنه غير واجبة لا أداء ولا قضاء عند الشافعية والمالكية، وواجبة عند الأحناف، في الأصح مع الجماعة، وفرض كفاية عند الحنابلة، وسنة لمن فاتته مع الإمام حيث يسن له أن يصليها.
والله أعلم .(1/474)
س:معلوم أن صلاة الجمعة لا تصح إلا بخطبة وجماعة. فكيف يكون قضاؤها لمن لم يستطع صلاتها ؟
صلاة الجمعة إذا فاتت من الإنسان بعذر أو غير عذر لا تقضى جمعة، بل تقضى ظهرا؛ لأنها بدل من الظهر.
ومن فاته الظهر يقضيه ظهرا، ولا حاجة لخطبة وجماعة عند القضاء؛ لأن الخطبة والجماعة هما للجمعة، وليستا للظهر الذي هو بدل عنه.
ولو أراد قضاءها جماعة، فينظر إلى من يصلي معه سواء كان إماما أو مأموما.
واختلاف الصلاتين في الأداء والقضاء باطل عند جمهور الفقهاء، فعليه أن يقضيها منفردا.
والله أعلم .(1/475)
س:كثيرا ما نسمع عن صلاة التطوع أو صلاة النوافل أو صلاة السنة. فهل توجد فروق بينهم ؟
التطوع والنافلة والسنة ألفاظ تطلق على شيء مطلوب طلبا غير جازم.
بمعنى أن: من فعله كان له أجر ومن لم يفعله لا عقوبة عليه، وقد يعبر عنه بالمستحب والمندوب والفضيلة، ويشمل ذلك كله أنه ما يثاب المرء على فعله، ولا يعاقب على تركه.
والله أعلم .(1/476)
س:ولماذا شرع التطوع، هل لأن الفرائض كعبادة لا تكفي ؟
شرع التطوع؛ ليكون جبرا لما عسى أن يكون قد وقع في الفرائض من نقص، في مثل ترك السنن فيها: كقراءة السورة والتسبيح والتكبير وعدم الخشوع.
فقد روى أبو داود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن أول ما يحاسب الناس عليه يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك".
كما شرع التطوع؛ لأن الصلاة لها منزلة كبيرة لا ينبغي أن يقتصر المكلف على أداء الصلوات الخمس المفروضة؛ بل يستحب أن يزيد على ذلك؛ لأن الحديث يقول: "الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر". رواه الطبراني والله أعلم .(1/477)
س:وهل الأفضل للمسلم أن يصلي التطوع في المسجد أم في بيته ؟
وردت عدة أحاديث تدل على أن صلاة التطوع في البيت أفضل من صلاتها في المسجد منها: ما رواه مسلم وأحمد: "إذا صلى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله (عز وجل) جاعل في بيته من صلاته خيرا".
وما رواه أحمد: "صلاة الرجل في بيته تطوعا نور. فمن شاء نور بيته".
وما رواه أحمد أيضا: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا".
ومنها ما رواه أبو داود بإسناد صحيح: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة".
وقد قال النووي في حكمة الأفضلية في صلاة التطوع في البيوت: أنها تكون أبعد عن الرياء وهو ما يحبط العمل، وأن البيوت تتبرك بنزول الملائكة والرحمة وتبتعد عنها الشياطين.
هذا ما جاء في حكمة أفضلية التطوع في البيوت.
والله أعلم .(1/478)
س:وهل يجوز صلاة النوافل في جماعة، وهل تكون القراءة فيها سرا أم جهرا ؟
صلاة السنة أو التطوع أقسام: قسم مطلق: كصلاة ركعة أو ركعتين لله.
وقسم مقيد، والمقيد قسمان: قسم تابع للفرائض ويسمى: الراتبة.
وقسم غير تابع لها: كالتراويح والعيدين والكسوف والاستسقاء، وهذا القسم الأخير يجوز أن يُصلَّى فرادى، ويجوز أن يصلى جماعة، بل قد تكون الجماعة فيه سنة مؤكدة: كالجماعة في صلاة العيدين والتراويح.
أما الرواتب التابعة للفرائض كركعتي الفجر، فلا تسن فيها الجماعة، ففي رجوع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من خيبر، والنوم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، أمر بلال بالآذان، ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقام بلال وصلى بالناس جماعة". كما رواه أحمد، فلم يثبت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى الفجر جماعة، وكذلك بعد صلاة الجمعة كان يصلي ركعتين في بيته". كما رواه الجماعة.
والنفل المطلق لا تسن فيه الجماعة.
ومع ذلك، لو صُلِي فيه الجماعة صحت. ثبت أن حذيفة بن اليمان دخل المسجد النبوي ليلا فوجد "الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي فصلى وراءه، والرسول لا يحس به، فأطال في الصلاة". كما رواه مسلم.
وعن ابن مسعود قال: "صليت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء. قيل وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه". رواه البخاري ومسلم.
والجهر في الصلاة النافلة يكون في العيدين والكسوف والاستسقاء، وبقيه النوافل إذا كانت بالنهار لا جهر فيها، وإذا كانت بالليل يخير بين الجهر والإسرار، والأفضل هو التوسط.
روى أحمد وأبو داود أن "الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مر بأبي بكر يصلي ليلة خافضا صوته، كما مر بعمر فوجده رافعا صوته، فقال لهما: عند اجتماعهما: يا أبا بكر: ارفع من صوتك شيئا، ويا عمر: اخفض من صوتك شيئا.
قال تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا }.
والله أعلم .(1/479)
س:وهل توجد بعض سور القرآن الكريم يستحب قراءتها في الوتر دون غيرها، وإذا وجدت فما هي ؟
يقول النووي في كتابه: (الأذكار المنتخبة في كلام سيد الأبرار ): يسن في الوتر قراءة سورة: الأعلى في الركعة الأولى، وقراءة سورة: {قل يا أيها الكافرون} في الركعة الثانية، وسورة: {قل هو الله أحد} والمعوذتين في الثالثة. كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه.
وهذا هو الأفضل وإن كانت السنة بأية قراءة من القرآن الكريم تحصل، كما قال علي (رضي الله عنه): ليس من القرآن شيء مهجور، فأوتر بما شئت.
والله أعلم .(1/480)
س:وهل صحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا وتران في ليلة واحدة". وهل يقضى الوتر إذا فات ؟
نعم روى أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن أن عليا (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "لا وتران في ليلة".
وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن أم سلمة: "أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يركع ركعتين بعد الوتر وهو جالس".
قال العلماء: من صلى الوتر بعد صلاة العشاء، ثم أراد أن يقوم الليل فليصل ما شاء، ولكن لا يجوز له أن يوتر؛ لأنه أوتر قبل ذلك.
ومن المعلوم أن: الوتر يمكن أن يصلى في أي جزء من الليل بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر.
وإذا خشي الإنسان أن تفوته صلاة الوتر؛ يستحب له أن يصليها في أول الليل وذلك لحديث رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة: "من ظن منكم ألا يستيقظ آخره أي: الليل؛ فليوتر أوله، ومن ظن منكم أنه يستيقظ آخره فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل محضورة وهي أفضل". ومعنى محضورة: تحضرها الملائكة.
ولم سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر (رضي الله عنه) متى توتر؟ قال: أوتر أول الليل بعد العتمة أي: العشاء.
ولما سأل عمر (رضي الله عنه) قال: أوتر في آخر الليل.
فقال ( صلى الله عليه وسلم ): "أما أنت يا أبا بكر: فأخذت بالثقة. أي: الحزم والحيطة. وأما أنت يا عمر: فأخذت بالقوة. أي: العزيمة على القيام في آخر الليل". رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم. هذا.
وإذا فاتت صلاة الوتر يمكن قضاؤها كما ذهب إليه جمهور العلماء، وذلك لحديث رواه البيهقي وصححه الحاكم: "إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر".
وروى أبو داود قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره". وإسناده صحيح.
ووقت القضاء مفتوح ليلا ونهارا عند الشافعي، ومنعه أبو حنيفة في أوقات النهي عن الصلاة.
وقال مالك وأحمد: يُقضَى بعد الفجر ما لم تصل الصبح.(1/481)
والله أعلم .(1/482)
س:وما محل القنوت في صلاة الوتر، هل يكون قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة أم بعد الرفع من الركوع، وهل يلزم التكبير في تلك الحالتين ؟
يجوز أن يكون القنوت قبل الركوع بعد الفراغ من القراءة، كما يجوز أن يكون بعد الرفع من الركوع.
والدليل على ذلك حديث إسناده قوي كما قال الحافظ ابن حجر، رواه ابن ماجة عن أنس عندما سئل عن القنوت: هل هو قبل الركوع أو بعده؟ فقال: كنا نفعل قبل وبعد.
وإذا قنت قبل الركوع كبر رافعا يديه بعد الفراغ من القراءة، وكبر كذلك بعد الفراغ من القنوت، وهذا مروي عن بعض الصحابة.
وأما رفع اليدين عند القنوت، فقد استحبه بعض العلماء، وبعضهم لم يستحبه.
وأما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء فقيل: الأولى عدمه اتباعا للسلف.
والله أعلم .(1/483)
س:وهل توجد أدعية يستحب الدعاء بها بعد السلام من الوتر، وما هذه الأدعية ؟
يستحب أن يقول المصلي بعد السلام من الوتر: "سبحان الملك القدوس ثلاث مرات. يرفع صوته بالثالثة، ثم يقول: رب الملائكة والروح". كما رواه أبو داود والنسائي من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
وبعد التسبيح يدعو بما رواه أحمد وأصحاب السنن من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "اللهم إني أعوذ بك برضاك من سَخَطِك أو من سُخْطِك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
والله أعلم .(1/484)
س:رجل دخل مع الإمام بنية صلاة الوتر، ثم تذكر وهو في الصلاة أنه لم يصل العشاء، فقلب صلاته عشاء. فما الحكم في ذلك ؟
إذا دخل الإنسان في صلاة نفل مع الإمام، فلا يجوز له مطلقا أن يقلب النية إلى صلاة فرض.
والذي يصلي الوتر خلف الإمام، ثم تذكر أنه لم يصل العشاء فصلاته باطلة؛ لأن وقت صلاة الوتر يدخل بعد صلاة العشاء، وهو لم يصلها، فصلاته للوتر باطلة وعليه أن يخرج من الصلاة مع الإمام؛ ليصلي العشاء.
والله أعلم .(1/485)
س:يقول الله (تعالى) بسم الله الرحمن الرحيم: { والشفع والوتر }. صلاة الوتر قد عرفناها. فما الشفع، وهل توجد صلاة تسمى: صلاة الشفع ؟
كلمة الشفع معناها: عدم الوتر. بمعنى: أنه العدد الذي ينقسم على اثنين بدون باق مثل: اثنين وأربعة وستة إلى آخره.
ويطلق اسم الشفع على: الصلاة التي يصليها من يريد صلاة الوتر، ذلك أن الوتر يحصل ولو بركعة واحدة، ولكن يسن أن يكون قبل ركعة الوتر ركعات شفع، إما مستقلة في نيتها عن ركعة الوتر، وإما مجموعة مع الوتر.
وركعتا الشفع غير الركعتين اللاتين هما سنة للعشاء، فالعشاء بفرضها وسنتها عبادة مستقلة عن الوتر بشفعه الذي يتقدمه.
وقد أقسم الله (سبحانه) بالشفع والوتر في سورة الفجر، وجاء في تفسير الرسول (صلى الله عليه وسلم ) كما رواه عمران ابن حصين أن: "الصلاة منها شفع ومنها وتر".
وأما معنى الشفع في الآية: في غير الصلاة.
فقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن: "الشفع يوم النحر، والوتر هو يوم عرفه".
وفى رواية أن: "الشفع هو: يوم عرفة ويوم النحر، والوتر: ليلة يوم النحر".
وقد أطال القرطبي في تفسيره في ذكر الأقوال في المراد من الشفع والوتر ومن أراد فليراجعه.
والله أعلم .(1/486)
س:إذا قرأ الإنسان القرآن وقابلته آية فيها سجدة، هل يترك المصحف ويقوم ليسجد أم يفعل ذلك بعد الانتهاء من القراءة، وإذا كان الإنسان في الطريق العام ثم قرأ آية سجدة أو سمعها، فماذا يفعل ؟
من قرأ آية فيها سجدة، أو سمعها يسن له عند جمهور الفقهاء أن يسجد سجدة التلاوة، فإن لم يسجد فلا عقوبة عليه، وأوجبها أبو حنيفة، فلو تركها عوقب عليها، وعلى رأيه: إن كان طاهرا حين سمعها أو قرأها؛ وجب عليه أن يسجد، وإن لم يكن طاهرا فهي في ذمته يجب عليه أن يسجدها بعد أن يتطهر، ولو طال الفصل؛ لأن وجوبها موسع عنده في هذه الحالة، والعمر كله فرصة لأدائها.
ويرى جمهور الفقهاء أن: السجود يكون عقب القراءة أو السماع مباشرة، فإن أخر السجود وقال: الفصل؛ سقطت السجدة ولا تقضى، وإن كان الفصل قليلا شرعت السجدة.
وعليه، فالقارئ لآية السجدة يترك المصحف ويسجد، ثم بعد ذلك يتم قراءته إذا أراد.
وعلى رأي الجمهور: إن لم يسجد لا ذنب عليه، ويقوم مقامها عند الشافعية أن يقول: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" أربع مرات فذلك يجزئه عن السجود حتى لو كان طاهرا.
ودليل الجمهور على أن سجود التلاوة سنة وليس فرضا: ما جاء في البخاري أن عمر (رضي الله عنه) قرأ على المنبر يوم الجمعة: سورة النحل حتى جاءت سجدة يعني: الآية التي فيها السجدة وهي: رقم تسع وأربعين من السورة؛ فنزل وسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه.هذا.
ويشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة من الطاهرة واستقبال القبلة وستر العورة، وذلك ما رآه جمهور الفقهاء.
وكان ابن عمر يسجد بدون وضوء كما رواه البخاري، ولم يوافقه عليه إلا الشعبي كما قال صاحب الفتح.(1/487)
أما الطهارة من الجنابة فلازمة؛ لأن القراءة بدونها ممنوعة.
وما يقال في سجدة التلاوة من الذكر لم يصح فيه إلا حديث رواه الخمسة إلا ابن ماجة فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم ) يقول في سجود القرآن: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين".
والله أعلم .(1/488)
س:يقول الله (تعالى) بسم الله الرحمن الرحيم: { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا}. هل هذا أمر للرسول (صلى الله عليه وسلم ) خاصة أم للمسلمين كآفة، ولماذا حدد الله (تعالى) هذا الوقت خاصة دون غيره، وهل هذا الوقت مفضل لقيام الليل ؟
هذا النداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قيام الليل واجبا عليه أول الأمر وقيل: بقي النسبة له على الوجوب.
وقيل: نسخ وصار قيام الليل سنة للجميع كما قال ـ تعالى:{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه }.
فليس هناك فرض على المسلمين إلا الصلوات الخمس.
وهذا التقدير في الزمن تخيير من الله للرسول أن يقوم نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه وما يستطيع أن يقومه دون إجهاد "إن لربك عليك حقا، ولبدنك عليك حقا".
جاء في تفسير القرطبي أن: الراجح أن قيام الليل كان فرضا، واختلف هل على الرسول فقط أو عليه وعلى أمته؟
والصحيح ما ورد عن عائشة أن الله (عز وجل) افترض قيام الليل في أول سورة المزمل، فقام هو وأصحابه حوله، وأمسك الله خاتمة السورة التي فيها:{ إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى آخره.
اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله (عز وجل) في آخر السورة التخفيف؛ فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. رواه مسلم وهذا.
وقيام الليل يعبر عنه بالتهجد؛ لأن التهجد لغة: رفع النوم بالتكلف، وأقله ركعتان وقيل: ركعة.
ولا حد لركعاته بناء على حديث ابن حبان: "الصلاة خير موضوع استكثر أو أقل وقيل: حده ثنتا عشرة ركعة.
والله أعلم .(1/489)
س:هل لقيام الليل آداب ينبغي على المسلم أن يتمسك بها ؟
قال العلماء يسن لمن أرد قيام الليل ما يلي أولا أن ينوي عند نومه أن يقوم الليل في حديث رواه النسائي وابن ماجة بسند صحيح من آتى فراشة وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه ثانيا أن يمسح النوم عن وجهه إذا استيقظ وان يتسوك وينظر إلى السماء ويدعوا بما جاء عن الرسول كما رواه مسلم لا اله إلا أنت سبحانك استغفرك بذنبي واسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذا هديتني وهب لى من لدنك رحمه انك أنت الوهاب الحمد لله الذي أحيانا بعد أن اماتنا واليه النشور ثم يقرأ الآيات العشر من اواخر سورة ال عمران { أنى في اختلاف الليل والنهار لايات لاولى الالباب إلى أخر السورة } ثم يقول اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاءك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك اسلمت وبك أمنت وعليك توكلت واليك انبت وبك خاصمت واليك حكمت فاغفر لي ما قدمت وما اخرت وما أسررت وما أعلنت أنت الله لا اله إلا أنت وثالثا أن يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ثم يصلي بعدهما ما شاء رواه مسلم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رابعا أن يوقظ أهله لحديث أبى داود وغيره بإسناد صحيح إذا ايقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلي ركعتين جميعا كتب من الذاكرين والذاكرات خامسا إذا تعب من السفر يسن له أن يترك الصلاة ويرقد حتى يذهب عنه النوم وما رواه مسلم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وروى البخاري ومسلم انه ( صلى الله عليه وسلم ) دخل المسجد وحبل ممدود بين السياريتين ربطته زينب لتمسك به وهي تصلي فامر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بحله وقال ليصلي أحدكم نشاطه فإذا فطر فليرقد سادسا إلا يشق على نفسه بل يقوم من الليل بقدر طاقته(1/490)
حتى لا تمل نفسه وحتى لا يتركه ففي البخاري ومسلم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) خذوا من الإعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا ذلك أن افضل الإعمال ادومها واتقنها هذا ويسن إلا يظهر في قيامه بالقرآن حتى يبتعد عن مظنة الرياء وحتى لا يؤذى أحدا كما قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر وعمر بعد نزول قوله تعالى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغي بين ذلك سبيلا هذه بعض الآداب والله أعلم .(1/491)
س:قيام الليل كما علمن: من النوافل وليس من الفرائض، ولكن بعض العلماء يرى أن: له قضاء ويمكن أن يُقضى بالنهار. فما الحكم الصحيح في ذلك ؟
جاء في الإجابة على هذا السؤال ما رواه مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة".
وروى الجماعة إلا البخاري أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل".
والله أعلم .(1/492)
س:هل نعتبر أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ؟
هذا القول ليس حديثا مرفوعا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما هو من قول الإمام الشافعي (رضي الله عنه) فقد أثر عنه أنه قال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله.
جاء ذلك في عدة مراجع وهذا في الجهاد المندوب.
أما المفروض فهو داخل في الفرائض لا يقدم عليها النفل كطلب العلم.
والله أعلم .(1/493)
س:نود أن نعرف: ما هي صلاة الضحى، وما فضلها، وما عدد ركعاتها، وهل يجوز صلاتها في جماعة ؟
صلاة الضحى هي: صلاة النافلة التي تؤدى في القوت الذي بعد شروق الشمس بنحو ثلث ساعة إلى وقت الظهر، وفضلها عظيم جاء فيه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه مسلم : "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".
وأقلها ركعتان. وأكثرها قيل: ثماني ركعات. وقيل: ثنتا عشرة ركعة.
أما صلاتها جماعة فجائزة وليست ممنوعة كسائر النوافل.
فقط ثبت أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى ركعتين تطوعا وصلى معه أنس عن يمينه، كما صلت أم سليم وأم حرام خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتكرر هذا ووقع أكثر من مرة.
والله أعلم .(1/494)
س:ما صلاة الاستخارة، وكم عدد ركعاتها، وما الدعاء الخاص بها، وأين مكانه في الصلاة، هل هو بعد السلام، أم قبله، ومتى يصليها المسلم، وهل بعد صلاتها توجد علامات لقبول أو رفض الموضوع المستخار فيه ؟
صلاة الاستخارة: ركعتان والدعاء الذي يقال بعدها جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر (رضي الله عنه) قال: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر هو خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم ربني به قال: ويسمي حاجته". يعني: يقول بدل عبارة: أن هذا الأمر. يعين هذا الأمر مثل: السفر والزواج أو نحو ذلك.
وسيحس أمور وعلامات يدرك بها النتيجة، إما أن يكون ذلك بعد الانتهاء من الصلاة والدعاء في حالة اليقظة، أو برؤيا منامية.
وربما تتأخر العلامات بعض الوقت فإن لم ير شيئا من ذلك يكرر الصلاة كما يقول البعض، ويحاول أن يؤديها تامة وبخشوع.
وكذلك الدعاء يكون بتضرع وحضور ذهن، فقبول الصلاة والدعاء وترتب آثارهما مرتبط بذلك.(1/495)
قال (تعالى) بعد ذكر أيوب وذي النون وزكريا ودعائهم الذي استجابه الله لهم قال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغدا ورهبنا وكانوا لنا خاشعين} والمسارعة في الخيرات تستلزم الطاعة، والحرص عليها والتسابق إليها، والبعد عن كل ما حرم الله، وبالتالي لا تقبل صلاة الاستخارة ولا دعاؤها من المقصر في حق الله، ولا يعرفه إلا عندما يحتاج إليه ليعرف المشروع الذي يقدم عليه إن كان خيرا أو شرا فمن المقرر أن اللقمة من الحرام في بطن الإنسان؛ تمنع قبول الدعاء وما صح في حديث رواه مسلم. هذا.
والاستخارة أو صلاة الاستخارة تؤدى في غير الأوقات التي تكره فيها الصلاة، وأنسب الأوقات لها: بعد منتصف الليل، فالدعاء يكون أقرب إلى الإجابة، ويسن أن يبدأه بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وأن يختمه بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم ).
ولا تتعين قراءة بعد الفاتحة مع مراعاة أن الاستخارة لا تكون إلا في الأمور المباحة.
أما الواجبات والمندوبات فلا استخارة في عملهما، وكذلك المحرمات والمكروهات لأن المطلوب تركهما، ومع مراعاة أن قلب الإنسان إذا مال إلى فعل الشيء أو الانصراف عنه قبل صلاة الاستخارة، فلا معنى لهذه الصلاة، بل ينبغي ترك الاختيار لله (سبحانه) ويصلي من أجل ذلك.
وهذه الصلاة تغنينا عما يتورط فيه بعض الناس من قراءة الكف، وضرب الرمل، والوسائل الأخرى التي حظر الإسلام منها، أو لم يشرعها.
فالعلم الحقيقي عند الله (سبحانه).
والدعاء مع العبادات خير وسيلة لمساعدة الإنسان على ما يريد.
والله أعلم .(1/496)
س:وسمعت عن صلاة تسمى صلاة التوبة فما هذه الصلاة وما عدد ركعتها وكيف تصلي ولماذا تصلى ؟
روى أبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي والترمذي وقال حديث حسن عن أبى بكر رضى الله عنه قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ما من رجل يذنب ذنب ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي أي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له ثم قراء هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم اجر العالمين } وروى الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن عن أبى الدرداء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال من توضأ فاحسن الوضوء ثم قام وصلى ركعتين أو أربع مكتوبة أو غير مكتوبة يحسن فيهن الركوع والسجود ثم استغفر الله غفر له هذه هي صلاة التوبة والمهم فيها أن تكون التوبة والاستغفار عقب آية صلاة فان الدعاء وطلب المغفرة إذا كان بعد طاعة فصلاة أو قراءة قرآن كان مرجوا القبول والله أعلم .(1/497)
س:قرأت حديثا عن صلاة الحاجة، وفيها قراءة للقرآن الكريم أثناء السجود مع أنني قرأت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن القراءة في الركوع والسجود، فما صلاة الحاجة وما مشروعيتها ؟
إن الله (سبحانه وتعالى) هو خالقنا والمنعم علينا لا نعبد إلا إياه، ولا نستعين بأحد سواه، وقد أمرنا أن ندعوه؛ ليحقق مطلبنا ووعدنا بالإجابة كما قال (سبحانه): {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }.
وللدعاء أوقات وأماكن تكون فيها أقرب إلى الاستجابة ومنها: وقت السجود في الصلاة كما صح في الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء".
ومن الخير أن نقدم للدعاء بعلم صالح: كصدقة أو صلاة كما دعا أصحاب الغار دعوا ربهم بصالح أعمالهم؛ ففرج الله عنهم.
فقد صح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال كما رواه أحمد: " من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله ما سأل معجلا أو مؤخرا".
وفى حديث عثمان بن حنيف أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال للأعمى الذي طلب منه أن يدعو الله؛ ليكشف عن بصره: "انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين". وعلمه الدعاء الذي يدعو الله به.
وقد رويت أحاديث في كيفية صلاة الحاجة تتناقض مع الأحاديث الصحيحة، منها حديث ابن مسعود الذي جاء فيه: "صلاة ثنتي عشرة ركعة يقرأ في السجود فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات مع ذكر ودعاء". وقد جرب الناس هذه الصلاة فوجدوها حقا.
والناظر في هذا الحديث يجده متعارضا مع النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.
فقد روى مسلم وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء <فقمنن> أن يستجاب لكم".
وروى مسلم وغيره أيضا عن علي (رضي الله عنه) قوله: "نهاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا".(1/498)
يقول الشوكاني: هذا النهي يدل على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود.
وفى بطلان الصلاة بذلك خلاف.
وما دام الحديث الصحيح ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، فهو مقدم على حديث: صلاة الحاجة الذي تقدم ذكره عن ابن مسعود.
وقال الحاكم الذي رواه: تفرد به عامر وهو ثقة مهموم.
بعد هذا أنصح بالتثبت مما يعبد الإنسان به ربه، وأنصح بعدم الجري وراء أي شيء يظن أن فيه تحقيق رغبته، فالله لا يعبد إلا بما شرع، ولا يطلب ما عنده إلا بما صح في القرآن والسنة وهو كثير.
والله أعلم .(1/499)
س:نسمع كثيرا عن صلاة التسابيح. فما هي، وما عدد ركعاتها، ومتى تصلى، وما حكمها ؟
حديث صلاة التسابيح رواه أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه والطبراني، وقد روي من طرق كثيرة، وعن جماعة من الصحابة، وما قاله الحافظ بن حجر، ومن أمثاها:
حديث عكرمة بن عباس الذي قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للعباس بن عبد المطلب: "إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، وإن لم تستطع ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة".
وقد صحح هذا الحديث جماعة من <الحفاظ>.
وقال بعض الرواة: إن صح الخبر فإن في القلب من هذا الإسناد شيئا.
وذكر الإمام النووي في كتابه: (الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار) أن الترمذي قال: قد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير حديث في صلاة التسابيح، ولا يصح منها كبير شيء.
ورأى ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم: صلاة التسابيح. وذكروا الفضل فيها.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي أحاديث صلاة التسابيح، وطرقها، ثم ضعفها كلها وبين ضعفها، وقال النووي: فقد نص جماعة من أئمة أصحابنا الشافعية على استحباب صلاة التسابيح.
بعد عرض هذه الأقوال والآراء يمكن أن يقال:
إنه لا مانع من صلاتها فإنها فضيلة، والأحاديث الضعيفة تقبل في فضائل الأعمال كما قاله كثير من العلماء: وهي من جنس الصلوات، وفيها ذكر الله ولم تشتمل على ما يتعارض مع الأصول الثابتة.
أما كيفيتها فهي: أربع ركعات تصلى ركعتين ركعتين، أو تصلى أربعا بنية واحدة، يقرأ المصلي في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، وبعد السورة وقبل الركوع يسبح خمس عشرة مرة، وفى الركوع يسبح عشرا، وفى الاعتدال منه يسبح عشرا، وفى السجود الأول كذلك، وبين السجدتين كذلك، وفى السجود الثاني كذلك، وعقب السجود الثاني كذلك، فالجملة في الركعة الواحدة خمس وسبعون تسبيحة، وفي الركعات الأربعة ثلاث مائة تسبيحة.(1/500)
وليست هناك صيغة معينة للتسبيح ومن أمثلها: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وأؤكد أن صلاتها ليست بدعة ضلالة فهي كصلاة أي تطوع زيدت فيه هذه التسبيحات، وتسبيح الله مأمور به بكرة وأصيلا، والصلاة خير موضوع، وما دام بعض الفقهاء قال بها، فلا وجه للإنكار عليها.
وفضل هذه الصلاة كما في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للعباس فيه: "يا عماه: ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل لك عشر خصال، إذا أنت فعلت ذلك؛ غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، وقديمه وحديثه وخطأه وعمده، وصغيره وكبيره، وسره وعلانيته، تلك عشرة خصال: أن تصلي أربع ركعات إلى آخره".
وينبغي أن نعلم:
أن الذنوب التي تكفرها صلاة التسابيح هي: الصغائر. أما الكبائر، فلابد لتكفيرها من التوبة النصوح، ويقال مثل ذلك في الصلوات النافلة، التي يجاز الله عليها بالمغفرة.
والله أعلم .(1/501)
س:وهل توجد صلاة تسمى: صلاة الكفارة، وإذا وجدت فما عدد ركعاتها، وكيف ومتى تصلى ؟
قام بعض الناس بتوزيع ورقة مكتوب فيها: صلاة الكفارة، مع حديث طويل في كيفيتها منسوب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جاء فيه: أن من فاتته صلاة في عمره، ولم يحصها يصلي في آخر جمعة من رمضان أربع ركعات بتشهد واحد يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب، وسورة القدر خمسة عشر مرة، وسورة الكوثر كذلك، وهي كفارة أربعمائة سنة في رواية أبي بكر، وألف سنة في رواية علي، ولما كان ابن آدم يعيش ستين أو مائة سنة، فالصلاة الزائدة تكون لأبويه، وزوجته وأولاده وأقاربه، وأهل البلد، وبعد الصلاة يصلي على النبي ( صلى الله عليه وسلم) مائة مرة، ويدعو بهذا الدعاء، وهو دعاء بطلب المغفرة. فهل هذا الحديث بما جاء فيه صحيح، وما الذي يكفر السيئات؟
لم أعثر على هذا الحديث في الكتب الصحيحة، وعلامة الوضع فيه ظاهرة؛ فالصلاة التي تفوت الإنسان لا يكفرها إلا قضاؤها.
إن الكلام المذكور يغري الناس بترك الصلاة، حيث يكفيهم عنها صلاة واحدة في آخر جمعة من رمضان، ولم يقل بهذا أحد من العلماء، بل إنهم على الرغم من قبولهم الأحاديث التي تقول: "إن الصلاة الواحدة في مسجد مكة بمائة ألف صلاة فيما سواه، وفى مسجد المدينة بألف، وفى المسجد الأقصى بخمس مائة، يقولون: بأنها لا تغني عن الصلوات المفروضة، ولا تقوم مقام الصلوات الفائتة، وإنما المراد: كثرة ثواب الصلاة في هذه الأماكن المقدسة.
وأحذر بمن يقومون بترويج هذه المنشورات من تبعة العمل بما يروجونه وهو أولا: كذب على الله، وعلى رسول الله، والله يقول: { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون }.
والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". كما رواه البخاري ومسلم.(1/502)
وهو ثانيا: سيتحمل وزر من يتهاونون في الصلاة اكتفاء بصلاة الكفارة المزعومة {وليحلمن أقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون}.
"ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". رواه مسلم.
والذين وضعوا هذا الكذب، والمشاركون في طبعه وتوزيعه داخلون في هذه المسئولية.
والله أعلم .(1/503)
س:ومن الصلوات التي نسمع عنها: صلاة الشكر. فكيف ومتى تصلى ؟
المشروع عند الجمهور هو: سجود الشكر إذا حصل للإنسان نعمة ينبغي أن يشكر الله عليها، ومن مظاهر الشكر: السجود لله (سبحانه) وهو سجود واحد.
وعن أبي بكرة (رضي الله عنه) أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خرَّ ساجدا شكرا لله ـ تعالى". رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه.
وروى أحمد والحاكم: "أنه سجد شكرا لله عندما بشره جبريل بأن الله يصلي ويسلم على من يصلي ويسلم عليه".
ويشترط لسجود الشكر ما يشترط لسجود الصلاة من: طهارة، واستقبال للقبلة وستر للعورة، وذلك عند جمهور الفقهاء، وهي تكبيره مع النية، ثم سجود، ثم سلام.
والمالكية قالوا: ليس هناك سجود للشكر، ولكن المستحب هو: صلاة ركعتين عند حدوث نعمة أو اندفاع نقمة. هذا.
ولم يشترط بعض العلماء لسجود الشكر ما يشترط لسجود الصلاة. قال في فتح العلام: وهو الأقرب.
وقال الشوكاني: ليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراط الوضوء، وطهارة الثوب والمكان لسجود الشكر، وليس فيه ما يدل على التكبير.
وقال بعضهم: يكبر.
ولا مانع من الأخذ بأحد هذه الآراء، مع العلم بأن سجود الشكر لا يكون في الصلاة أبدا.
وبالله التوفيق .(1/504)
س:هناك ظواهر طبيعة تحدث في الكون: ظاهرة كسوف الشمس وكسوف القمر. فهل لكل منهما صلاة نصليها، ولماذا نصليها، وإذا لم نصل فهل هناك ذنب يقع على المسلمين من عدم صلاتها ؟
صلاة الخسوف للقمر والكسوف للشمس من السنن المؤكدة باتفاق العلماء، وليست واجبة ولا مفروضة، وذلك في حق الرجال والنساء، والأفضل أن تصلى جماعة وهي: ركعتان عند الجمهور، في كل ركعة ركوعان، كما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث رفع رأسه من الركوع، ثم قرأ قريبا مما قرأ من قبل الركوع، ثم ركع قريبا مما ركع من قبل، ثم رفع وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، وفعل بالركعة الثانية ما فعل بالأولى، ثم خطب الناس وقال في خطبته: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله (عز وجل) لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة". رواه البخاري ومسلم.
وهذه الكيفية هي مذهب مالك والشافعي وأحمد.
أما أبو حنيفة فقال: صلاة الخسوف ركعتان كصلاة العيد والجمعة. لحديث رواه أحمد والنسائي. هذا.
وقراءة الفاتحة واجبة في الركعتين، ويتخير المصلي بعدها ما شاء من القرآن، والجهر بالقراءة أفضل من السر كما قال البخاري.
ووقتها من حين الكسوف إلى التجلي، ويستحب التكبير والدعاء والتصدق والاستغفار لهذه الظاهرة، لحديث البخاري ومسلم عن عائشة عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).
والله أعلم .(1/505)
س:صلاة الاستسقاء، متى يجب صلاتها، وما عدد ركعاتها، وكيف تصلى، وهل من الأفضل أن تكون في جماعة، أم تصلى منفردة، وهل لها دعاء مأثور ؟
الاستسقاء هو: طلب سقي الماء من الله (سبحانه) عند حصول الجدب وانقطاع المطر، وهي سنة وليست مفروضة، وتؤدى على عدة أوجه: الأول:
أن يصلي الإمام بالمأمومين ركعتين في أي وقت في غير أوقات الكراهة يجهر في الأولى بالفاتحة، وسبح اسم ربك الأعلى.
وفى الثانية: الفاتحة، وسورة الغاشية، ثم يخطب بعد الصلاة أو قبلها، فإذا انتهى من الخطبة، حول المصلون جميعا ملابسهم بتغيير وضعها الطبيعي، ثم يستقبلون القبلة، ويدعون الله رافعين أيديهم مبالغين في ذلك كما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الخمسة وصححه الترمذي. وكانت الصلاة بدون آذان ولا إقامة.
الوجه الثاني: في صلاة الاستسقاء: أن يدعو الإمام في خطبة الجمعة وأن يوأمن المصلون على دعائه كما رواه البخاري ومسلم: من "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة، والرسول يخطب وذكر له هلاك الأموال، وانقطاع السيل فدعا الرسول (صلى الله عليه وسلم ) حتى أمطرت السماء".
الوجه الثالث: أن يدعو الإمام دعاء مجردا في غير يوم الجمعة، وبدون صلاة في المسجد كما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرة. ورواه ابن ماجة عن ابن عباس.
والدعاء في الاستسقاء أفضله المأثور: ومنه: اللهم أغثنا غيث مغيثا غدقا مجللا عاما طبقا سحا دائما، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا.
وعند الدعاء يستحب رفع ظهور الأكف كما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
والله أعلم .(1/506)
س:الأعرابي الذي جاء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسأله: عن الإسلام؟ فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ): لا أزيد ولا أنقص.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ما ذهب الرجل: "أفلح إن صدق".
هل كان هذا إقرار من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له بالفرائض دون التطوع، أم كان ذلك رخصة خاصة بهذا الأعرابي فقط ؟
هذا الحديث صحيح رواه مسلم وغيره.
والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حلف: أن الأعرابي مفلح إن صدق أنه لا يزيد على الفرائض التي تعلمها منه، ولا ينقص.
لا ينبغي أن يفهم من هذا أن: النوافل بعد الفرائض لا أهمية لها ما دام الإنسان مفلحا بالفرائض، والفلاح معناه: عدم الدخول في النار، أو عدم الخلود فيها، والمصير هو: الجنة.
وإنما الذي ينبغي أن يفهم من عبارة: أفلح إن صدق. الذي ينبغي أن يفهم هو: وجوب المحافظة على الفرائض؛ لأنها الحد الأدنى في الفلاح، وهو عدم النقص منها.
وهذا أسلوب حكيم في الدعوة فالأعرابي المعروف بطبعه يجب استعمال الأسلوب المناسب له، وهو التخفيف في التكاليف التي جاء يسأل عنها المسلم أو يتعلم ما يطلب منه، فلو أثقل الرسول عليه التكاليف بفرائضها وسننها؛ ربما رفض الأعرابي الدخول في الإسلام.
ولهذا الأسلوب في حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نظائر.(1/507)
فقد روى أحمد وأبو داود أن وفد ثقيف جاءوا من الطائف؛ ليسلموا، ومعروف أن موقفهم كان شديدا ضد الدعوة في أولها، وبعد فتح مكة حيث حاصرهم الرسول ولم يفتح بلادهم، ثم تركهم، فلما وفدوا كغيرهم من الوفود كانوا يتحدثون مع الرسول من موقع القوة المألوفة عندهم، فاشترطوا عليه: إن أسلموا ألا يخرجوا الزكاة، وألا يشاركوا في الحرب والجهاد، وألا يصلوا، فحط النبي عنهم الزكاة والجهاد، ولم يقبل أن يحط عليهم الصلاة قائلا: "لا خير في دين لا ركوع فيه". ولما انصرفوا، وحافظوا على الصلاة جاءوا إليه بزكاتهم واستعدادهم للجهاد كما أخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك، فليس معنى هذا أن: الزكاة والجهاد أهمية لهما، ولكنه الأسلوب في الدعوة.
وفى موقف آخر رواه أبو داود كان هذا الأسلوب: جاءه رجل يتعلم الصلاة، فأخبره بالصلوات الخمس المفروضة، فتعلل الرجل بأنها كثيرة، وتشغله عن أعماله فلو أن الرسول تمسك بها؛ لرفض الرجل وقال له: يكفيك صلاتان: الصبح والعصر، وذلك بصفة مؤقتة.
هكذا كان أسلوب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الدعوة مراعيا للظروف فاهما لطباع الناس، فلم يثقل عليهم بالتكاليف، بل يسر.
وبهذا كثر الراغبون في دخول الإسلام، وهو تعليم للدعاة في استعمال الحكمة التي أمر الله بها رسوله في قوله:{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
والله أعلم .(1/508)
س:صلاة العيد فرض أم سنة ؟
صلاة العيدين سنة مؤكدة على رأي الجمهور، لو تركت عمدا أو نسيانا لا حرمة في ذلك.
والله أعلم(1/509)
س:جاء في كتب الفقه أن الحنفية قالوا الوتر واجب لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني والمذاهب الأخرى قالت انه سنة فهل معنى ذلك أن السنة تلغي الفرض وان من لم يوتر ليس من اتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟
إذا قال أبو حنيفة بوجوب الوتر وقال غيره انه سنة فليس معنى هذا أن السنة تلغي الفرض وانما المعنى أن الوتر مطلوب في كل المذاهب إلا أن درجة الطلب عند أبى حنيفة أقوى من عند غيره من فقهاء المذهب على معنى أن التقصير في ادائه عند أبى حنيفة موجب للمسئوليه إمام الله معتمد على الحديث المذكور أما عند غيره فان الوتر ليس بالدرجة في الطلب بحيث يكون التقصير فيه مؤدي للمسئولية كالفرض هو مطلوب طلبا مؤكدا لمحافظة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكنه ليس من الفروض المحتمة فليس بعد الصلوات الخمسة المعروفة المفروضة كل يوم والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة من اقوها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن سأله عما افترضه الله عليه خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة قال هل على غيرها قال لا إلا أن تطوع فولى الرجل وهو يقول والله لا ازيد عليهن ولا انقص فقال ( صلى الله عليه وسلم ) افلح أن صدق رواه مسلم وقد حمل الحديث فمن لم يوتر فليس مني على الترغيب الشديد في إتيانه وان من قصر فيه لا يكون من عداد المسلمين الكالمين فهو مسلم وليس بكافر وهو من اتباع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وليس من اتباع غيره وذلك على نحوا ما قالوا في حديث لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد على معنى لا صلاة كاملة لجار المسجد إلا في المسجد وليس معنى أن صلاته باطلة إذا صلاها في بيته فان الأرض كلها مسجد كما ورد في الأحاديث الصحيحة ولا شك في أن الصلاة في المسجد اكمل لما فيها من صلاة الجماعة وكثرة الثواب بالخطي إلى المسجد بانتظار الصلاة بدعاء الملائكة وهذا الحديث رواه الدارقطني بسند ضعيف أما حديث فمن لم يوتر فليس منا فقد رواه(1/510)
أحمد وأبو داود وفى إسناده راوي ضعفه النسائي وقال البخاري عنده مناكير ووثقه بعضهم والله أعلم .(1/511)
س:رجل يقول: ذهبت إلى المسجد لأصلي العيد وأردت أن أصلي ركعتين تحية للمسجد، فمنعني بعض الناس وقالوا: لا تجوز أية صلاة قبل العيد. فهل هذا صحيح ؟
هناك خلاف بين الفقهاء في جواز التنفل قبل صلاة العيد، هذا الخلاف يتلخص فيما يلي:
أولا: قال المالكية:
يكره ذلك قبل صلاة العيد وبعدها إن أديت الصلاة في الصحراء كما هو السنة.
وأما إذا أديت بالمسجد على خلاف السنة، فلا يكره التنفل لا قبلها ولا بعدها.
ثانيا: الحنابلة قالوا:
بكراهة التنفل قبلها وبعدها بأي مكان صليت فيه صلاة العيد أي: في المسجد وفى غيره.
ثالثا: الحنفية قالوا:
يكره قبل صلاة العيد في المصلى وغيره، ويكره بعدها إذا كانت في المصلى فقط، أما في البيت فلا يكره.
رابعا: الشافعية قالوا:
بالتفصيل بين الإمام والمأموم، فيكره للإمام أن يتنقل قبلها وبعدها، سواء أكانت الصلاة في الصحراء أم في غيرها، ولا يكره للمأموم التنفل قبلها مطلقا ولا بعدها إن كان ممن لم يسمع الخطبة؛ لصمم أو بعد وإلا كان التنفل له مكروها.
إن سبب الخلاف هو روايات لم يرد فيها أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن ذلك.
وإنما الثابت: ما رواه ابن عباس أنه (عليه الصلاة والسلام) لم يصل قبل العيد ولا بعده، والذين قالوا: بالمنع كان دليلهم: فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا قوله، والذين قالوا: بالجواز استندوا إلى أنه لم يرد نهي عنه ذلك.
والحكم على الروايات وبيان وجهات النظر في التنفل مشروح في كثير من الكتب مع الاتفاق على أنه لم تشرع سنة قبل صلاة العيد ولا بعدها.
إنما الخلاف في صلاة التطوع، أو سنة الوضوء أو تحية المسجد أو قضاء، أو غير ذلك في الوقت الذي لا تكره فيه الصلاة.
ومن أحسن ما يقوي رأي القائلين بالجواز: ما قاله العراقي في شرح الترمذي من أنه: ليس فيها نهي عن الصلاة في هذه الأوقات.(1/512)
ولكن لما كان الرسول (عليه الصلاة والسلام) يتأخر في مجيئه إلى الوقت الذي يصلي بهم فيه، ويرجع عقب الخطبة، روى عنه من روى من أصحابه أنه: كان لا يصلي قبلها ولا بعدها، ولا يلزم من تركه لذلك؛ لاشتغاله بما هو مشروع في حقه من التأخر إلى وقت الصلاة، أن غيره لا يشرع ذلك له ولا يستحب.
فقد روى عنه غير واحد من الصحابة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن يصلي الضحى، وصح ذلك عنهم وكذلك لم ينقل عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى سنة الجمعة قبلها؛ لأنه إنما كان يأذن للجمعة بين يديه وهو على المنبر.
قال البيهقي: يوم العيد كسائر الأيام، والصلاة مباحة إذا ارتفعت الشمس حيث كان المصلي.
ويدل على عدم الكراهة: حديث أبي ذر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء استقل". رواه ابن حبان في صحيحه.
قال الحافظ في الفتح والحافظ: أن صلاة العيد لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافا لمن قاسها على الجمعة.
وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا أن كان ذلك في وقت الكراهة في جميع الأيام.
بعد هذا نقول: لم يرد حديث بمنع مطلق النفل قبل صلاة العيد، ولا بمنع ما ورد فيه دليل يخصه كتحيه المسجد إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد.
وبهذا يعلم جواب السؤال.
والله أعلم .(1/513)
س:هل الأفضل صلاة العيد داخل المسجد أو خارجه ؟
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) "أنهم أصابهم مطر في يوم عيد؛ فصلى بهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة العيد في المسجد" رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري.
وأكثر الأحاديث الواردة في صلاة العيد تذكر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعلها في المصلى.
والمراد به غير المسجد، وعبر عنه أحيانا بالجبانة، وهذا الحديث على الرغم من ضعفه يفيد أن: الرسول (عليه الصلاة والسلام) صلاها في المسجد لعذر المطر حيث لا يوجد في المصلى ما يتقي به.
ومن هنا اختلف العلماء في أفضلية صلاة العيد: هل تكون في المصلى، أو في المسجد؟
فالإمام مالك يقول: إن فعلها في الجبانة أي: في غير المسجد أفضل. واستدل بما ثبت من مواظبته (عليه الصلاة والسلام) على الخروج إلى الصحراء، فإن كان هناك عذر: كمطر، فالأفضل المسجد.
والإمام الشافعي ذهب إلى أن المسجد أفضل؛ لأنه خير البقاع في الأرض. والأحاديث ورادة بكثرة في فضل التردد عليها، والصلاة فيها.
قال في (فتح الباري) قال الشافعي في الأم: بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وهكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه وكذا عامة أهل البدلان إلا أهل مكة".
ثم أشار الشافعي إلا أن سبب ذلك؛ سعة المسجد، وضيق أطراف مكة، قال: فلو جاء بلد وكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد، لم أر أن يخرجوا منه، فإن لم يسعهم؛ كرهت الصلاة فيه ولا إعادة.
قال الحافظ: ومقتضى هذا: أن العلة تدور على الضيق والسعة، لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب: حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أولويته كان أولى.
فأنت ترى أن حجة الأولين هي: فعله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قدوة حسنة.(1/514)
لكن يقال: إن الفعل واقعة حال لا تنفي غيرها، ولم من يرد من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بفعلها في غير المسجد عند الاختيار ولا نهي عن فعلها في المسجد.
ولعل اختيار الرسول فعلها في غير المسجد كان لأمرين:
الأول: ضيق المسجد؛ لأنه دعا النساء أيضا لشهود صلاة العيد كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما حتى الحيض منهن، والحيض لا يدخلن المسجد.
والثاني: إظهار شعيرة من شعائر الإسلام وإعلال الفرح بيوم العيد لما فيه من فضل الله على المسلمين، والاجتماع الواسع شعار كل الناس في أعيادهم، والتوجيهات التي يلقيها على الحاضرين تعم أكبر عدد من المسلمين لم يكن ليوجد لو حضروا بالمسجد.
وأرى أنه: إن كان مسجدا واحدا كبيرا في محلة يسع كل الناس بما فيهم من لا يصلون العيد؛ كانت صلاتها فيه أفضل؛ وذلك لأفضلية المسجد على غيره، ولحصول التجمع وفرصة التلاقي وتبادل التهاني بين كل أهل البلدة.
فإذا تعددت المساجد وضاق مسجد واحد عن استيعاب أهل البلد؛ كان فعلها في الخلاء أفضل، وذلك؛ لأن التعارف وتبادل التهاني، وشهود التوجيهات العامة الموحدة يحدث في المصلى بشكل لا يوجد في كل مسجد على حدة، حيث لا يتم التعارف الشامل.
والإسلام يحب من المسلمين أن يظهروا وحدتهم وتعاونهم، وفى تجمعهم على شكل واسع إعلان عن قوة الإسلام، ودعاية تجتذب لها القلوب الأخرى، والمظاهر إذا كانت تستهدف خيرا كانت مشروعة وشواهد ذلك كثيرة.
والله أعلم .(1/515)
س:معروف أن صلاة العيدين صلاة جامعة. فهل لها من آذان وإقامة ؟
لم يشرع لصلاة العيدين آذان ولا إقامة وإنما كان ينادى بمثل: الصلاة جامعة.
والله أعلم.(1/516)
س:لم يتساو التكبير في صلاة العيدين ففي عيد الأضحى يكون التكبير أكثر من عيد الفطر. فما الحكمة في ذلك ؟
التكبير في العيدين سنة عند جمهور الفقهاء، وهو في الصلاة وفى غير الصلاة، وجمهور العلماء على أن: التكبير في عيد الفطر من وقت الخروج إلى الصلاة إلى ابتداء الخطبة. وبه قال مالك وأحمد.
وقال قوم: إن التكبير يكون من ليلة الفطر حتى يخرج الإمام إلى الصلاة أو حتى يدخل في الصلاة.
ووقت التكبير في عيد الأضحى: من صبح يوم عرفه إلى العصر من آخر أيام التشريق وهي: الحادي عشر والثاني والثالث عشر من ذي الحجة.
ولم يثبت في ذلك تحديد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
وأصح ما ورد فيه عن الصحابة: قول علي وابن مسعود أنه: من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام منى. وبهذا أخذ الشافعي وأحمد.
وإذا كان أصل التكبير في عيد الأضحى هو للحجاج؛ لأنهم يذبحون الهدي والفداء، ويكبرون الله ويذكرونه عند الذبح وكذلك عند رمي الجمرات، فإن غير الحجاج يكبرون أيضا كما هو وارد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
ففي حديث مسلم عن أم عطية في خروج النساء إلى مصلى العيد في الفطر والأضحى تقول: "والحيض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس".
وللبخاري عنها أيضا: "كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهن".
يؤخذ من هذا أن: التكبير في العيدين سنة، وكانت مدته في الفطر أقل من الأضحى؛ لأن القربة إلى الله في عيد الفطر، كان أهمها الصلاة وإخراج زكاة الفطر.
أما في عيد الأضحى فالقربة برمي الجمار والذبح ممتدة إلى ثلاثة أيام بعد يوم العيد.
والله أعلم .(1/517)
س:وما المقصود بأيام التشريق، ولماذا سميت بذلك؟
أيام التشريق هي: الأيام الثلاثة التي تلي يوم عيد الأضحى، وسميت بذلك الاسم؛ لأن العرب كانوا يشققون اللحم لكثرته، ويعرونه لحرارة الشمس؛ حتى يجف، ثم يحملونهم معهم بعد عودتهم من الموسم.
وتلك كانت طريقة حفظ اللحوم إذا ذاك، وقيل: سيمت بهذا الاسم أخذ من قولهم: أشرق ثبير كيما نغير. وثبير: جبل بمنى، كما يقول ابن الأثير في النهاية.
والمعنى: أدخل أيها الجبل في الشروق، وهو ضوء الشمس كيما نغير أي: ندفع للنحر.
وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.
وقيل. غير ذلك.
والله أعلم .(1/518)
س:ولماذا أخرت خطبة العيد بعد الصلاة، وهل شرط لصحة الصلاة أن يستمع المسلم إلى الخطبة ؟
كانت الخطبة لصلاة الجمعة في الأصل بعد الصلاة، و لكن لما ترك الناس الرسول (عليه الصلاة والسلام) يخطب وذهبوا إلى التجارة، وفى ذلك نزل قوله تعالى:{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}. إلى آخر الآية. شرعت الخطبة قبل صلاة الجمعة؛ حتى يحبس الناس لسماعها.
أما في العيد فبقيت الخطبة على الأصل من أنها بعد الصلاة، والاستماع إلى الخطبة ليس شرطا لا في صحة صلاة الجمعة، ولا في صحة صلاة العيد، وإنما هي سنة فقط، لو تركت فالصلاة صحيحة.
والله أعلم.(1/519)
س:ما حكم صلاة الجنازة على رجال ونساء ماتوا معا ؟
إذا اجتمع أكثر من ميت وكانوا ذكورا أو إناثا، يصفون واحدا بعد واحد بين الإمام والقبلة، ليكونوا جميعا بين يدي الإمام، ووضع الأفضل مما يلي الإمام، وصلى عليهم جميعا صلاة واحدة.
وإذا كانوا رجالا ونساء، جاز أن يصلي على الرجال وحدهم وعلى النساء وحدهن، وجاز أن يصلي على الجميع صلاة واحدة، يجعل الرجال أمام الإمام، ويجعل النساء مما يلي القبلة.
فعن نافع عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام، وجعل النساء مما يلي القبلة، وصفهم صفا واحدا، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي زوجة عمر وابن لها يقال له: زيد والإمام يومئذ هو: سعيد بن العاص، وفي الناس يومئذ ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، فوضع الغلام مما يلي الإمام. قال رجل: فأنكرت ذلك، ونظرت لابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة وقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة. رواه النسائي والبيهقي وقال الحافظ: إسناده صحيح.
وفى الحديث: "أن الصبي إذا صُلي عليه مع امرأة كان الصبي مما يلي الإمام، والمرأة مما يلي القبلة، وإن كان فيها نساء ورجال وصبيان تقدم الرجال، ويليهم الصبيان ثم الناس".
والله أعلم .(1/520)
س:وما حكم صلاة الجنازة على السقط والمولود المكتمل والطفل الصغير ؟
صلاة الجنازة على الميت تكريم له كإنسان ودعاء له بالرحمة ورفع الدرجات، ولابد من أدائها على كل ميت مسلم صغيرا كان أو كبيرا، إلا ما استثناه الشرع: كالشهداء.
وهي فرض كفاية، إذا قام بها البعض سقط الطلب عن الباقين، وقد رغب فيها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فيما رواه مسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان". والقيراط: مثل أحد ويرجى من كثرة عدد المصلين انتفاع الميت.
ففي حديث رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة: "ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب". أي: وجبت له الجنة.
وإذا كان الميت طفلا يصلى عليه، والدعاء بعد التكبيرة الثالثة لا يكون بالرحمة والمغفرة؛ لأنه غير مكلف، وليست عليه ذنوب، بل يكون الدعاء بمثل: اللهم اجعله فرسا وسلفا وذخرا لأبويه، واجعله شافعا لهما يوم القيامة.
وهذه الصلاة واجبة ليست بالنسبة للطفل الميت فقط، بل للسقط الذي لم يتم الأشهر التسعة، ونزل بعد نفخ الروح فيه وظهرت فيه حياة بالاستهلال وهو: الصراخ أو: العطاس، ونحوهما وذلك باتفاق العلماء.
أما إذا لم يستحل صارخا ـ كما يعبرون ـ فإن الأحناف والمالكية: لا يقولون بوجوب الصلاة عليه، وذلك لحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي: "إذا استهل السقط صلي عليه". ففي الحديث اشتراط الاستهلال في الصلاة عليه.
وذهب أحمد إلى أنه: يصلى عليه بناء على حديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، والسقط يصلى عليه ويدعي لوالديه بالمغفرة والرحمة، ولأنه نسمة نفخ فيها الروح فيصلى عليه كالمستهل.
وأجاب أحمد بأن: الحديث الذي اشترط الاستهلال مضطرب، ومعارض بما هو أقوى منه فلا يصلح بالاحتجاج به.
أما إذا نزل سقط لم تنفخ فيه الروح فلا يغسل ولا يصلى عليه ويلف في خرقة ويدفن من غير خلاف بين جمهور الفقهاء.(1/521)
والله أعلم .(1/522)
س:وهل الشهيد يصلى عليه أم يدفن بدون صلاة ؟
الشهيد هو: الذي قتل في معركة بين المسلمين والكافرين، وقد وردت أحاديث صحيحة تصرح بعدم الصلاة عليه منها: ما رواه البخاري أن: النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم ولم يصل عليهم". كما قال جابر.
كما وردت أحاديث أخرى صحية تصرح بأنه: يصلى عليهم. منها: ما رواه البخاري أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء، والأموات".
لكن يرد على هذا الحديث بأن: الكلام في الصلاة على الشهيد هو قبل الدفن.
وروى البيهقي حديثا مرسلا أي: سقط منه الصحابي عن أبي مالك قال: "كان قتلى أحد يؤتى منهم بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلي عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة فيصلي عليهم، وحمزة مكانه حتى صلى عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ". وحديث جابر أصح من حديث أبي مالك الغفاري.
ومن هنا قال ابن حزم: يجوز أن يصلى على الشهيد وألا يصلى عليه، فإن صلي عليه، فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن، وهو إحدى الروايات عن أحمد.
واستصوب ابن القيم هذا الرأي وقال: والأظهر من أمر شهداء أحد أنه لم يصل عليهم عند الدفن، وقد قتل بأحد سبعون نفسا فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم.
وحديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح؛ لأن أباه عبد الله كان أحد القتلى يومئذ فعنده من الخبرة ما ليس عند غيره.
ويرجح أبو حنيفة: وجوب الصلاة على الشهداء.
ويرجح مالك والشافعي وأحمد في روايةٍ: عدم وجوب الصلاة على الشهداء.
ومع كون الصلاة على الشهيد غير واجبة، فإنها تجوز ولا تحرم؛ لعدم الدليل على المنع وللحديث الذي رواه البيهقي.
هذا في الشهيد الذي قتل في المعركة بين المسلمين والكافرين.
أما الشهيد في غير ذلك: كالمبطون وبقية شهداء الآخرة المذكورين في الأحاديث، فيغسلون ويصلى عليهم.(1/523)
والله أعلم .(1/524)
س:وهل يجوز أن نصلي على من قتل نفسه أو انتحر ؟
صلاة الجنازة فرض كفاية على كل من مات مسلما حتى لو كان عاصيا، ولا تجوز على الكافر ولا على المرتد، ومن الردة: استحلال ما حرمه الله تحريما قاطعا، والانتحار محرم قطعا بالقرآن والسنة، قال ـ تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم }.
وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الصحيح:"أن من قتل نفسه بحديدة أو سم أو إلقاء من مكان عال فهو يعذب في النار خالدا فيها أبدا على الطريقة التي قتل بها نفسه".
وإذا علمنا من المنتحر بكلامه أو بورقة مكتوبة بخطه ـ مثلا ـ أنه يستحل الانتحار؛ كان مرتدا، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وإن لم نعلم فيحمل أمره على الظاهر وهو الإسلام ونصلي عليه وندفنه في مقابر المسلمين.
والحديث المذكور محمول على: من استحل الانتحار فهو مخلد في النار، أو محمول على: التغليظ والتنفير كما جاء فيمن قتل مؤمنا متعمدا: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}. ومما يدل على أن المنتحر الذي لم يستحل الانتحار مؤمن وإن كان عاصيا: ما رواه مسلم أن: "رجلا هاجر إلى المدينة فمرض لعدم ملائمة جوها له فجزع فقطع مفاصل أصابعه؛ فسال دمه بقوة ومات فرآه الطفيل الدوسي في هيئة حسنة مغطيا يديه فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه. فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت. فقص الرؤيا على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فدعا له وقال: اللهم وليديه فاغفر".
يقول النووي في التعليق على هذا الحديث: فيه حجة بقاعدة عظيمة لأهل السنة أن: من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة أي: في حكم قوله تعالى:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }.(1/525)
يؤخذ من هذا أن: المنتحر الذي لم يعلم استحلاله للانتحار مؤمن ويصلى عليه صلاة الجنازة.
لكن ورد نص يمنع الصلاة عليه: ففي مسلم عن جابر قال: "أتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) برجل قتل نفسه بمشاقص أي: سهام عريضة فلم يصل عليه".
قال العلماء: هذا الحديث محمول على التنفير من الانتحار لعدم صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم ) الجنازة على من عليه دَين، وقد صلت الصحابة على المَدين بأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك للتنفير من الدَين، وليس لأنه كافر، وتكره عند مالك الصلاة على المرجوم بحدٍ والفسَّاق وذلك زجرا لهم.
والله أعلم .(1/526)
س:إذا غرقت سفينة ـ مثلا ـ ولم تنتشل الجثث. هل تصلى عليهم صلاة الغائب؟
صلاة الغائب هي: صلاة الجنازة على ميت غائب عن المصلي.
وقد اختلف في مشروعيتها فقال الشافعي وأحمد وابن حزم: إنها مشروعة. ولهم في ذلك أدلة: ما رواه البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى على النجاشي حين نعي إليه، وصلى معه أصحابه.
وصلاة الجنازة قوامها الدعاء، والدعاء لا يشترط فيه حضور المدعو له، وما قاله ابن حزم من أنه: لم يرد عن الصحابة منع منها.
وقال أبو حنيفة ومالك وآخرون: بعدم مشروعيتها.
والحجة عندهم أنه: لا يدل عليها دليل.
لكن كيف يعملون برواية الصحيحين في حادث النجاشي؟
أولوها بأنه: يجوز أن النجاشي لم يصل عليه أحد فصلى عليه النبي، أو بأن هذه الصلاة على الغائب من خصوصيات النبي، أو بأنه لم يصل على غائب، بل رفعت له الجنازة فشاهدها، وصلى عليها صلاة الحاضر.
لكن الأولين ردوا على ذلك بأن: الدليل ثابت وبعدم التسليم بهذه التأويلات فإن عدم صلاة أحد عليه لا يمنع من صلاتها لمن صلى عليه.
والدعاء خصوصية النبي للصلاة على للغائب لا دليل عليه، وكونها رفعت له وشاهدها لا دليل عليه أيضا.
ويتبين من هذا: رجحان القول بمشروعيتها، وما دام لم يثبت نهي عنها فتبقى على جوازها بأن المقصود منها: الدعاء.
والله أعلم .(1/527)
س:وما أفضل الأماكن للصلاة على الميت ؟
الصلاة على الجنازة جائزة غير محرمة في أي مكان من الأرض لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم ): "جعلت لي الأرض مسجدا فأينما أدركتك الصلاة فصل".
لكن الخلاف هو في المكان الأفضل لها.
وقال الشافعية: تندب الصلاة على الجنازة في المسجد؛ لأنه خير بقاع الأرض.
وروى مسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "ما صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد".
وصلى الصحابة على أبي بكر وعمر في المسجد بدون إنكار من أحد؛ لأنها صلاة كسائر الصلوات.
والحنفية والمالكية قالوا: بكراهتها في المسجد، واستدلوا بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه أبو داود: "من صلى على جنازة بالمسجد فلا شيء له". أي: ليس له ثواب.
لكن هذا الحديث ضعيف ومعارض لفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولأصحابه.
وصحح بعضهم هذا الحديث؛ لأنه جاء في بعض النسخ فلا شيء عليه يعني: من الوزر، وكما كرهوا الصلاة عليه في المسجد؛ كرهوا إدخاله ولو من غير صلاة.
والحنابلة أباحوها في المسجد إن لم يخش تلويثه، وإلا حرمت، وحرم إدخاله ولو لغير الصلاة عليه.
يقول ابن القيم: ولم يكن من هدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الراتب: الصلاة على الميت في المسجد، وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، فربما صلى أحيانا على الميت كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه، وكلا الأمرين جائز.
والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد.
والله أعلم .(1/528)
س:هل يجوز أن نصلي على الميت أكثر من مرة ؟
تكرار الفرد لصلاة الجنازة على الميت غير حرام؛ لعدم وجود دليل يحرمه، وإنما هو مكروه فقط بمعنى: أن من صلى على جنازة يكره له أن يصلي عليها مرة أخرى.
أما من لم يصل على جنازة، فيجوز له أن يصلي عليها بعد أن يصلي عليها غيره.
جاء في (فقه المذاهب الأربعة) ما نصه: يكره تكرار الصلاة على الجنازة، فلا يصلى عليها إلا مرة واحدة، حيث كانت الصلاة الأولى جماعة، فإن صلي عليها أولا بدون جماعة أعيدت ندبا في جماعة ما لم تدفن.
والشافعية قالوا: تسن الصلاة على الجنازة مرة أخرى لمن لم يصل عليها أولا ولو بعد الدفن.
وقال الحنابلة: يجوز تكرار الصلاة على الجنازة لمن لم يصل أولا ولو بعد الدفن، ويكره التكرار لمن صلى أولا. هذا.
وفي وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ابن عباس ـ كما رواه ابن ماجة: لما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء ـ هو توفي يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء ليلا أي ليلة الأربعاء ـ وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس عليه أرسالا أي: جماعات متتابعين يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحد.
يقول ابن كثيرا: هذا أمر مجمع عليه وهو عدم الصلاة عليه جماعة.
وعلل الشافعي ذلك كما في كتابه: (الأم) بأنه: لعظم أمره ( صلى الله عليه وسلم) وتنافسهم فيمن يتولى الصلاة عليه.
والله أعلم .(1/529)
س:رأيت بعض الناس يصلون على ميت بعد دفنه. فهل يجوز ذلك ؟
المفروض في صلاة الجنازة أن تكون قبل دفن الميت، فلو دفنت بدون صلاة عليها؛ وجب إخراجها من القبر إن لم تتحلل، ولم تنتهك حرمتها، فإن تعذر إخراجها لذلك؛ وجبت الصلاة عليها وهي في القبر، وتكون أمام المصلي كما لو كانت قبل الدفن.
أما الصلاة عليها بعيدة عن القبر فقيل: بعدم جوازها، وما حصل من صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على النجاشي فهو خصوصية له. وقيل: بالجواز. ونفي الخصوصية إن كانت بعد الموت بشهر فأقل. كما رآه الحنابلة.
وقيل: بالجواز مطلقا. كما رآه الشافعية.هذا.
وصلاة الجنازة في المقبرة بين القبور كرهها جماعة لحديث: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام".
وقال آخرون: لا بأس بها لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صلى على قبر وهو في المقبرة، وصلى أبو هريرة على عائشة وسط قبور البقيع، ولم ينكره ابن عمر.
والله أعلم .(1/530)
س:يستحب التهنئة يوم العيدين. فهل وردت صيغة للتهنئة في السنة المطهرة ؟
جاء في كتاب: (المواهب اللدنية) للقصطلاني في شرح الزرقاني أن القموني في كتابه: (الجواهر) قال: لم أر لأحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس.
لكن نقل الحافظ المنذري عن الحافظ أبي الحسن المقدسي: أن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه: أنه مباح لا سنة ولا بدعة.
لكن المنذري ذكر أن: البيهقي عقد بابا لذلك وساق أخبارا ضعيفة يحتج بمجموعها في جواز ذلك، وساق تهنئة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة لكعب بن مالك حين تاب الله عليه؛ لتخلفه عن غزوة تبوك.
وذكر أن: الحافظ السيوطي وضع وريقات سماها: (أصول الأماني بأصول التهاني) جاء فيها أن: ما اعتاده الناس من التهنئة بالعيد والعام والشهر والولايات، ونحو ذلك له أصل في السنة.
بناء على هذا أقول:
لا مانع من هذه التهاني، بل قد تكون مندوبة يثاب الإنسان عليها؛ إذا قصد بها إدخال السرور على أخيه المسلم لمشاركته فرحته بهذه المناسبة.
وقد روى والطبراني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل: أي الأعمال أفضل قال: "إدخالك السرور على مؤمن".
كما ثبت أن: النية الطيبة تحول العادة إلى عبادة.
والحديث يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
والله أعلم .(1/531)
س:وما حكم الدين في: اللهو واللعب والسهر في أيام الأعياد ؟
في الأعياد المشروعة: كعيد الفطر وعيد الأضحى، لا بأس بالتمتع بالطيبات المشروعة، وإظهار الفرح والسرور على تمام النعمة بالصيام وبالحج.
ومن المتع المشروعة: الغناء الطيب العفيف الذي لا يثير فتنة عقلية أو خلقية.
وقد صح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استمع وأجاز لعائشة أن تسمع الأغاني في يوم العيد، ولما استنكر أبوها أبو بكر ذلك؛ بين له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن: "اليوم عيد ولكل قوم عيد".
وفى بعض الروايات: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني بعثت بحنيفية سمحة".
وفى رواية لمسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله ـ عز وجل".
وثبت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) "نظر هو والسيدة عائشة إلى لعب الحبشة بالحراب في مسجده في يوم عيد".
وفى الحديث: "إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا".
وقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لحنظلة: "الذي يكون عنده في روحانية فإذا خرج من عنده شغل بأهله وماله. قال له: يا حنظلة: ساعة وساعة ساعة وساعة".
وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يمزح ولا يقول إلا حقا.
فالمتعة إذا كانت في حدود المشروع لا مانع منها أبدا على أن تكون بقدر.
أما الخروج على الآداب والانطلاق في التمتع بما يتنافى مع الدين والأدب فهو ممنوع قطعا.
والله أعلم .(1/532)
س:وما فضل العشر الأولى من ذي الحجة، وما قيمة العمل فيها؟
الليالي العشر التي أقسم الله بها في أول سورة الفجر، قيل: إنها العشر الأول من شهر الله المحرم، ونسب هذا إلى ابن عباس.
وقيل: إنها عشر ذي الحجة.
ونسب هذا إلى مجاهد والسدي والكلبي، بل نسب إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من رواية أبي الزبير عن جابر. وإن لم تثبت هذه الرواية، وهذا القول رجحه الكثيرون، وبخاصة أن الليالي العشر ذكرت مع الفجر، وكثيرون من المفسرين قالوا: إنه فجر يوم النحر، وهي كما قالوا: ليالي أيام عشر، ويؤكد هذا القول أحاديث وردت في فضلها، فقد ورد البخاري وغيره عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني: أيام العشر. قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
هذا أصح ما ورد في فضل هذه الأيام.
ولكن ما هو العمل الصالح، هل هو نوع معين من العمل، أو هو كل قربة يتقرب بها إلى الله؟
جاء في بعض الأحاديث: النص على بعض القرب، ففي رواية الطبراني بإسناد جيد: "ما من أيام أعظم إلى الله ولا أحب العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من: التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير". فالعمل هو: الذكر.
لكن جاء في حديث غريب أي: رواه راو واحد فقط للترمذي جاء قوله: "يعدل صيام كل يوم صيام سنة، وقيام كل ليلة منها قيام ليلة القدر، فالعمل هو الصيام والقيام.
ولهذا أرى أن:
أي عمل صالح له ثوابه المضاعف وبخاصة ما نص عليه في بعض الروايات من الذكر والصيام والقيام.
وكان سعيد بن جبير يجتهد فيها اجتهادا كثيرا حتى ما كان يقدر عليه.(1/533)
ولعل الفضل سببه: أن هذه الأيام هي التي يكثف فيها الذهاب إلى المسجد الحرام لأداء فريضة الحج والعمرة، ويعيش الناس فيها في ظلال الروحانية والشوق إلى الأماكن المقدسة سواء منهم من سافر؛ ليحج ومن لم يسافر.
والعمل الصالح إذا وقع في ظل هذه الروحانية كان أرجى للقبول، ومضاعفة الثواب، وبخاصة أن هذه الأيام فيها يوم عرفة الذي جاء فيه حديث رواه ابن خزيمة وابن حبان: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة".
وفيها العيد والحج الأكبر، وهي أيام يتوفر فيها الأمن في البلاد الإسلامية بتهيئة الجو للمسافرين للحج، ولمن خلفوهم وراءهم، وذلك بالانشغال بالعبادة والذكر يقول ابن حجر في كتابه: (فتح الباري): والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج.
ولا يتأتى ذلك في غيره.
وعلى هذا: هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟
فيه احتمال.
انتهى ما قاله ابن حجر. والمعنى أن: هذه الأيام يسن للإنسان أن يكثر فيها من العبادة بأي لون من ألوان العبادة، فالثواب مضاعف ـ إن شاء الله.
والله أعلم .(1/534)
س:وهل تختلف الطهارة لصلاة الجنازة عن الصلوات الأخرى ؟
صلاة الجنازة كأي صلاة لابد لها من شروط لصحتها ومنها: الطهارة من الحدث والنجس في البدن والثوب والمكان وذلك باتفاق العلماء.
روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) كان يقول: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر.
لكن جاء في كتاب: (الزواجر) لابن حجر أنه: حكي عن الشعبي وغيره من السلف جواز صلاتها بغير وضوء.
ونسب إلى الشافعي وهو غلط.
وفى حاشية الشرقاوي على التحرير في فقه الشافعية أن: هذا القول حكي أيضا عن ابن جرير، كما حكي عن أبي حنيفة الاكتفاء بالطهارة لها بالتيمم حتى لو كان بجوار النهر.
ومن هذا يعلم أن:
من يصلي على الجنازة وهو لابس للحذاء ـ مثلا ـ إن كان الحذاء طاهرا؛ صحت صلاته، وإن كان متنجسا؛ فلا تصح صلاته عند جمهور العلماء.
أما الدعاء للميت بدون طاهرة فلا مانع منه.
والله أعلم .(1/535)
س:وما ثواب صلاة الجنازة بالنسبة للمصلي ؟
صلاة الجنازة فرض كفاية بمعنى: أنه لو صلاها بعض الناس سقط الطلب عن الباقين. أي: لا يعذبون، ولكن فاتهم ثواب كبير.
والمؤمن الصادق لا ينبغي أن تفوت منه فرصة يكسب فيها ثوابا مهما كان حجمه.
فقد جاء: أن كل مؤمن سيندم يوم القيامة إن كان مسيئا ندم ألا يكون قد أحسن، وإن كان محسنا؛ ندم ألا يكون قد ازداد إحسانا.
ومع مراعاة أن كل المشيعين ربما لا يكونون متطهرين للصلاة، وفى التطهر بعض المشقة، أو تأخير لدفن الجثة، فإن المتطهر ينبغي أن يشارك في الصلاة.
فقد روى الجماعة عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من تبع جنازة وصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان: أصغرهما أو أحدهما مثل أحد".
وروى مسلم عن خباب (رضي الله عنه) قال: يا عبد الله بن عمر: ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ وذكر هذا الحديث، فأرسل ابن عمر (رضي الله عنهما) خبابا إلى عائشة (رضي الله عنها) يسألها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع فيخبره، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة. فقال ابن عمر (رضي الله عنهما): لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
معنى هذا: أن صلاة الجنازة لها ثواب عظيم لمن صلاها.
والله أعلم .(1/536)
س:وما شروط صلاة الجنازة ؟
صلاة الجنازة كأية صلاة إلا أنها ليس لها وقت، ولو في الأوقات المكروهة عند الأحناف والشافعية.
وكره أحمد الصلاة وقت التطوع والاستواء والغروب، إلا إن خيف عليها التغيب فالخلاصة أن:
شروط صلاة الجنازة هي كشروط أية صلاة أخرى في عمومها.
والله أعلم .(1/537)
س:وماذا عن أركانها ؟
أركان صلاة الجنازة:
أولا: النية. وذلك لحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
الثاني: القيام للقادر عليها عند جمهور الفقهاء.
الثالث: التكبيرات الأربع.
قال ابن عبد البر في (الاستذكار): كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا حتى جاء موت النجاشي، فخرج فكبر أربعا، ثم ثبت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك وهو: أربع حتى توفاه الله.
وكان الصحابة يكبرون على عهد الرسول أربعا وخمسا وستا وسبعا.
فجمع عمر أصحاب الرسول فأخبر كل بما رأى، فجمعهم على أربع تكبيرات.
خلاصة هذا أن: جمهور الفقهاء مشروعية التكبيرات الأربعة.
وعليه أكثر أهل العلم من أصحاب الرسول، وغيرهم وبه قال مالك والشافعي و
أحمد وغيرهم.
وانعقد الإجماع عليه، ولا يلتفت إلى ما سواه حيث كان هو آخر ما فعله الرسول، وجمع عليه عمرُ الناس.
وأرجو ألا يثار نزاع في ذلك والمدار ……(1/538)
س:وهل ينتفع الميت بصلاة الجنازة ؟
نعم الميت يستفيد من صلاة الجنازة، وكذلك يستفيد من كثرة المصلين عليه، لأن المهم فيها هو: الدعاء له بعد التكبيرة الثالثة، وذلك إذا استجاب الله الدعاء، وكلما كان عدد الداعين في الصلاة كبيرا كانت فرص الاستجابة أكثر.
وفي هذا جاءت الأحاديث التي منها ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي: "ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له".
فكان مالك بن زبيرة يتحرى إذا قل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف.
وأخذ بظاهر الحديث أحمد بن حنبل وقال: أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. قالوا: فإن كان ورآه أربعة كيف يجعلهم؟
قال: يجعلهم صفين في كل صف رجلين، وكُره أن يكونوا ثلاثة فيكون في كل صف رجل واحد.
وما رواه مسلم وأحمد والترمذي عن عائشة (رضي الله عنها):"ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا".
وما رواه مسلم وأحمد وأبو داود: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه أي:قبل الله دعاءهم وشفاعتهم". هذا.
وكثرة المصلين على الجنازة يدفع إليها حب الميت، أو تكريمه ومحاولة عمل شيء ينفعه.
والغالب أن ذلك لا يكون إلا من استقامته، وحسن معاملته للناس، فهم يترحمون عليه، ويذكرونه بالخير، وذلك أمارة على حب الله له، والحديث يشهد بذلك.
فقد مرت جنازة أمام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأثنى الصحابة عليها خيرا فقال: وجبت. ثم مرت جنازة أخرى فتحدثوا عنها شرا فقال: وجبت. ولما سأوله عن الإجابتين المتحدتين مع اختلاف حديثهم عن الجنازتين قال: من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض". رواه البخاري ومسلم.(1/539)
وحدث مثل ذلك لعمر (رضي الله عنه) حين مرت عليه ثلاث جنازات واختلف الناس في الكلام عليها، فقال كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "أيما مسلم شهد له أربعة نفر بخير أدخله الله الجنة. قال: فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة. وقلنا: واثنان؟ قال: واثنان. ثم لم نسأله عن الواحد". رواه البخاري.
وروى أبو يعلى وابن حبان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أهل أبيات من جيرانه الأدنين أنهم لا يعملون إلا خيرا إلا قال الله: قد قبلت علمكم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون".
كل هذا يؤكد قيمة ثناء الصالحين على الميت ويدعو إلى كثرة المصلين على الجنازة.
والله أعلم .(1/540)
س:لماذا حث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على الغسل والتطيب ولبس أجمل الثياب في العيدين ؟
روى الشافعي والبغوي أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يلبس في كل عيد بردة من برود اليمن".
وروي عن الحسن أنه قال: "أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأثمن ما نجد".
ذلك لأن العيد مظهر للفرح، وفيه اجتماع للصلاة، ويسن أن يكون الإنسان في مثل هذه المناسبات على أحسن ما يكون من النظافة والرائحة الطيبة والهيئة الحسنة، وكذلك في يوم الجمعة، لمن أراد أن يصليها يكون على هذه الحال كما جاء في حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والله يقول:{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.
والله أعلم .(1/541)
س:ولماذا يستحب الأكل قبل الخروج إلي صلاة عيد الفطر دون عيد الأضحى ؟
إقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما رواه أحمد وغيره: يسن للإنسان أن يأكل تمرات وترا يعني: ثلاثة أو خمسة ـ مثلا ـ وذلك قبل أن يخرج لصلاة عيد الفطر، ذلك لأنه بالأمس كان صائما، ولم يتسحر ليلة العيد، وهو في هذا اليوم في ضيافة الرحمن، ويحرم الصوم في هذا اليوم، فيسن التعجيل بالفطر، أما في عيد الأضحى فيسن تأخير الفطر، حتى يصلي العيد ويذبح الأضحية، ويأكل منها إن كانت له أضحية.
والله أعلم .(1/542)
س:وما حكم خروج النساء والصبيان إلى صلاة العيدين، وإذا جاز ذلك ـ خروج النساء ـ فما حكم خروج الحائض والنفساء ؟
خروج النساء والصبيان لصلاة العيدين أمر مشروع، فقد روى البخاري أن امرأة سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الخروج لصلاة العيد ماذا تعمل لو لم يكن عندها……………(ليس لبقيته صوت)……………………………(1/543)
س:وما الحكمة في أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يخرج إلى صلاة العيد من طريق ويعود من طريق آخر ؟
روى البخاري عن جابر (رضي الله عنه) أنه قال: "كان النبي ( صلى الله عليه وسلم) إذا كان يوم عيد خالف الطريق".
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة(رضي الله عنه) أنه قال: "كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج فيه".
والحكمة في ذلك كما قال العلماء: أن يشهد له الطريقان.
ومن المعلوم أن الإنسان يوم القيامة ستشهد له الأرض، أو تشهد عليه كما قال رب العزة: {وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها}.
وهو في عمل الخير محتاج إلى من يشهد له من إنسان، وغيره، كما يشهد للمؤذن كل من يسمعه من إنس وجن وحجر وشجر ومدر.
والحكمة في مخالفة الطريق في يوم العيد أن يشهد الطريق للإنسان أو يشهد الطريقان للإنسان، وذلك خير له يوم القيامة.
والله أعلم .(1/544)
س:وكيف لنا أن نحدد وقت صلاة العيدين ؟
وقت صلاة العيد هو: من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال وهو وقت الظهر، والارتفاع قدر الرمح قدر بالزمن بما بين ربع الساعة وثلث الساعة.
وجاء في حديث رواه أحمد "أن البني ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح واحد يعني كان يعجل صلاة الأضحى؛ ليتسع وقت عمل الأضحية لأنها تكون بعد صلاة العيد.
وكان يؤخر صلاة الفطر؛ ليتسع الوقت لإخراج زكاة الفطر فالسنة التعجيل بها قبل الصلاة.
والله أعلم .(1/545)
س:ومن الذين تصح منهم صلاة العيدين ؟
صلاة العيدين تصح من كل مسلم عاقل من الرجال والنساء والصبيان والمقيمين والمسافرين، تصح جماعة، أو انفرادا، تصح في البيت، أو في المسجد، أو في المصلى.
والله أعلم .(1/546)
س:هل توجد سنة للعيدين، أو هل يجوز أن يصلي الإنسان ركعتين بعد صلاة العيدين ؟
للعلماء في ذلك أقوال:
خلاصته: أن المالكية قالوا: يكره التنفل قبل صلاة العيد، وبعدها إن أديت في الصحراء.
أما إن أديت في المسجد فلا يكره التنفل، لا قبلها ولا بعدها.
والحنابلة قالوا: يكره التنفل قبلها وبعدها سواء صليت في المسجد أو في الصحراء.
والشافعية قالوا: يكره مطلقا بالنسبة للإمام.
أما المأموم: فلا تكره الصلاة قبل العيد مطلقا، ولا تكره له بعد صلاة العيد إن كان ممن لم يسمع الخطبة.
إما لصمم أو لبعد عن الخطيب، فإن سمعها تكره الصلاة.
والحنفية قالوا: تكره الصلاة النافلة قبل صلاة العيد في المصلى وغيرها.
وتكره بعد صلاتها إن كانت في المصلى فقط.
أما في البيت فلا تكره.
هذه هي الآراء ولكل أن يختار ما يشاء.
والله أعلم .(1/547)
س:وهل من السنة رفع اليدين في صلاة الجنازة ؟
رفع اليدين عند التكبير في صلاة الجنازة: سنة مع كل تكبيرة عند الشافعي وأحمد.
أما عند أبي حنيفة: لا يجوز الرفع إلا عند التكبيرة الأولى فقط.
وعند مالك ثلاث روايات: الرفع في الجميع، وعدم الرفع في الجميع، والرفع في الأولى فقط.
هذه هي الأقوال ولكل أن يختار منها ما يشاء.
والله أعلم(1/548)
س:وما الأدعية التي تقال في الصلاة، وأين موضعها في الركعات؟
الدعاء في الصلاة على الجنازة: ركن، لحديث أبي داود وغيره: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء".
وهو يتحقق بأية صيغة، والسنة أن يكون بالمأثور ومنه: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت رزقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء له فاغفر له ذنبه". هكذا رواه أحمد وأبو داود عن النبي (صلى الله عليه وسلم).
وفى رواية لمسلم: "اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله، ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار".
وجاء في رواية لأحمد وأصحاب السنن: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا اللهم إن أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده". كما رواه أحمد وأصحاب السنن.
وإذا كان طفلا استحب أن يقول المصلي: "اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وذخرا". هذا.
ولم يرد تعيين لموضع هذه الأدعية، فيجوز أن يقولها كلها أو بعضها بعد أية تكبيرة والأكثرون على أن: الدعاء بعد الثالثة.
كما يسن الدعاء بعد التكبيرة الرابعة، وإن كان المصلي قد دعا بعد التكبيرة الثالثة كما كان يفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ورواه عنه أحمد.
وقال الشافعي: يقول بعدها أي: بعد التكبيرة الرابعة: "اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده".
وكان المتقدمون يقولون: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
قال النووي: إن كان الميت صبيا أو صبية اقتصر على ما في حديث: "اللهم اغفر لحينا وميتنا".(1/549)
ويضم إليه قوله: "اللهم اجعله فرطا لوالديه وسلفا وذخرا وعظة واعتبارا وشفيعا وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلبوهما ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره".
والله أعلم(1/550)
س:و أين يقف الإمام إذا كان المتوفى رجلا، وإذا كان المتوفى امرأة ؟
ليس هناك تحديد واجب لموقف الإمام أو المصلي على الجنازة، و إن كان من السنة أن يقوم عند رأس الرجل، و عجيزة المرأة، كما رواه أبو داود في صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) و كما رواه مسلم في صلاته على أم كعب.
و الله أعلم .(1/551)
س:وإذا حضر شخص صلاة الجنازة بعد التكبيرة الأولى. هل يسلم مع الإمام أم يكمل الصلاة بعده ؟
هناك رأيان في هذا الموضوع: قال بعض العلماء: لا يسلم مع الإمام بل يستمر حتى يكمل التكبيرات، والبعض الآخر قال: يسلم مع الإمام ولا يقضي.
والرأيان يمكن أن نأخذ بواحد منهما ولا حرج في ذلك.
والله أعلم.(1/552)
س:وهل تجوز صلاة المرأة على الجنازة ؟
لا مانع أبدا أن تصلي المرأة على الجنازة كما صلت النساء على جنازة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) فلم ينكر عليهن أحد.
والله أعلم .(1/553)
س:هل تجوز الصلاة على من أقيم عليه الحد ؟
من قتل حدا يغسل ويكفن ويصلى عليه، والدليل على ذلك ما رواه البخاري أن رجلا اعترف بالزنا أمام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، ولما عرف أنه محصن وعاقل عند الاعتراف؛ أمر به فرجم بالمكان الذي يصلى فيه حتى مات ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنه خيرا وصلى عليه.
وهناك حديث رواه مسلم وهو حديث المرأة الجهنية التي اعترفت بالزنا للنبي (صلى الله عليه وسلم ) ورجمها حتى ماتت، ثم صلى عليها، ولما صلى عليها أو أراد أن يصلي عليها سأله عمر: يا رسول الله: كيف تصلي عليها وقد زنت؟
فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله".
فالخلاصة أن:
الذي يقام عليه الحد ويموت، يغسل ويكفن ويصلى عليه.
والله أعلم .(1/554)
س:هل للدعاء شروط حتى يستجيب الله (تعالى) لصاحب الدعاء ؟
قال الله ـ تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }.
أمرنا الله في آيات كثيرة بالدعاء وودعنا بالاستجابة كما جاءت بذلك أحاديث كثيرة، والدعاء عبادة، أو مخ العبادة كم صرح به في بعض الأحاديث، ولكل عبادة أركان وشروط وآداب حتى تصح وتقبل.
قال العلماء: من شروط قبول الدعاء: حضور الذهن و القلب عند الدعاء، فلا يكتفي الإنسان بمجرد تحريك اللسان بالدعاء، وذهنه منصرف عن الله، ولا يكفي حضور الذهن، مع خمود العاطفة، بل لابد من الرغبة في الإجابة والرهبة من عدمها واستحضار عظمة الله (سبحانه).
ويؤكد هذا ما جاء في نهاية الآيات التي ذكرت دعاء أيوب وذي النون و زكريا،حيث قال رب العزة:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين }.
و الداعي لا بد أن يكون مطيعا لله غير مقصر، و مقبلا على الطاعة بحب ومسارعة راغبا في الاستجابة راهبا من الطرد و الحرمان خاشعا حاضر الذهن و القلب.
و صح في الحديث "أن أكل الحرام يمنع استجابة الدعاء حيث ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم ) "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب. يا رب. ومطعمه حرام، و ملبسه حرام و مشربه حرام فأنى يستجاب له". كما جاء في الحديث "نصح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد أن يطيب مطعمه؛ ليستجاب دعاؤه".
هذه بعض الأمور التي لابد منها لاستجابة الدعاء.
ومن المندوبات: الطهارة واستقبال القبلة، والدعاء بالمأثور وتحري الأوقات، والأماكن المباركة، كالنصف الثاني من الليل، وما بين الآذان والإقامة، وعند رؤية الكعبة، و في ساعة الاستجابة يوم الجمعة.
كما يسن: افتتاح الدعاء بالبسملة، و حمد الله و الصلاة و السلام على رسول الله، والختام بالصلاة عليه أيضا.
فالله أكرم من أن يقبل الصلاتين ويترك ما بينهما، وهناك كتب وضعت في الدعاء يمكن الرجوع إليها.(1/555)
والله أعلم.(1/556)
س:وهل يوجد فرق بين الابتهال والدعاء ؟
مفهوم الابتهال في نظر الشرع لا يختلف عن مفهومه في اللغة العربية، فالبهل والابتهال في اللغة: الاسترسال والاجتهاد.
قال لبيد:
في كهول سادة من قومه نظر الدهر إليهم فابتهل
أي: اجتهد الدهر في إهلاكهم.
والابتهال في الدعاء معناه: الاسترسال، والاجتهاد فيه، ومنه قوله ـ تعالى: { ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين}. أي: نجتهد بالدعاء باللعن على الكاذبين.
ومن هنا يعلم أن: الدعاء طلب من العبد لله، وأن الابتهال: اجتهاد في هذا الطلب. أي: أن الابتهال أخص من مطلق الدعاء.
والابتهالات المعروفة الآن هي: مزيج من دعاء وثناء ومديح وذكر لله (تعالى) ونغمة التضرع في ذلك كله واضحة.
والله أعلم .(1/557)
س:ما حكم الدين فيما نقرأه في بعض الكتب الدينية من عبارات على لسان الصوفية: كمدح الخمر والوصال والعشق ؟
تحدث الإمام الغزالي في كتابه: (إحياء علوم الدين) عن هذا الكلام، وعبر عنه بالشطح، وقال: إنه يعني: صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية.
أحدهما: الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله، والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤيا والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا: كذا، وقلنا: كذا، ويتشبهون فيه بالحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله: (أنا الحق) وبما حكي عن البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني.
وهذا فن من الكلام عظيم برره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى.
فإن هذا الكلام يستلذ بالطبع، إذا فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات، والأحوال.
فلا تعجز الأغنياء عن دعوى ذلك لأنفسهم، ولا عن تلقف كلمات مزخرفة، ومهما أنكر عليهم ذلك، لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكارا مصدره العلم والجدل، والعلم حجاب والجدل عمل النفس.
وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق فهذا، ومثله مما قد استطار في البلاد شرره، وعظمت العوام ضرره، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة.
وأما أبو يزيد البسطامي ـ رحمه الله ـ فلا يصح عنه ما يحكى، وإن سمع ذلك منه، فلعله كان يحيكه عن الله (عز وجل) في كلام يردده في نفسه، كما لو سمع وهو يقول: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.
والصنف الثاني من الشطح: كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءها طائل، وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله، بقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه، وهذا هو الأكثر.(1/558)
وإما أن تكون مفهومه له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره؛ لقلة ممارسته، للعلم وعدم تعلمه طريقة التعبير عن المعاني للألفاظ الرشيقة.
ويعلق الإمام الغزالي على ذلك: لا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان، أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه، وعلى مقتضى طبعه وقد قال: ( صلى الله عليه وسلم ) "ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كانت فتنة عليهم".
وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) "كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله".
وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع. فكيف فيما لا يفهمه قائله؟
فإن كان يفهمه القائل دون المستمع؛ فلا يحل ذكره.
و قد قال (عليه السلام) "لا تضع الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء".
وفى لفظ آخر: "من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل، ومن منعها أهلها فقد ظلم إن للحكمة حقا، وإن لها أهلا فأعط كل ذي حق حقه".
انتهى ما قاله الإمام الغزالي، ولعله يكون: مجيبا على السؤال بقدر الإمكان.
والله أعلم.(1/559)
س:يشعر الإنسان أحيانا بالضيق وتكثر عليه الأزمات، ويحاول أن يتناول مهدئات ويتردد على بعض الأطباء، فلا يجد الشفاء المطلوب، فهل توجد آيات في القرآن الكريم، أو أحاديث نبوية أو ذكر لله (تعالى) يمكن أن يعالج هذه الأزمات ؟
روى أبو داود أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل المسجد في غير وقت الصلاة، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فسأله عن جلوسه في غير وقت الصلاة فقال: هموم لزمتني، وديون لحقتني. قال: أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. يقول أبو أمامة: ففعلت ذلك فأذهب الله (تعالى) همي وغمي وقضى عني ديني".
وروى الترمذي حديث حسن يقول: لو كان عليك مثل جبل دينا أداه الله عنك. قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك.
وأما عند المرض فقد روى مسلم أن عثمان بن أبي العاص (رضي الله عنه) شكا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وجعا يجده في جسده فقال له: ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا يعنى: ثلاث مرات وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر".
وروى مسلم وغيره أن جبريل أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: يا محمد: اشتكيت قال:نعم. قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك".
هذا ما ورد في الأحاديث الصحيحة.
والله أعلم(1/560)
س:لماذا يحثنا الله (تعالى) في كتابه الكريم وفي سنة حبيبه المصطفى ( صلى الله عليه وسلم )على الذكر والدعاء، وهل لذكر الله (تعالى) هيئة معينة أو جلسة خاصة يكون عليه الذاكر لله ـ تعالى ؟
المقصود الحقيقي بالذكر هو: التذكر؛ ليكون الله حاضرا دائما في ذهن الإنسان وبهذا الحضور يخلص في طاعته ويخاف من التقصير والعصيان؛ لأن هذا التذكر الحقيقي يسيطر على هوى النفس ويطهر وسواس الشيطان.
يقول النووي في كتابه: (الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار) المراد من الذكر: حضور القلب.
فينبغي أن يكون هو المقصود للذاكر، فيحرص على تحصيله ويتدبر ما يذكر ويتعقل معناه.
فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة؛ لاشتراكهما في المعنى المقصود.
ومن هنا حس عليه القرآن، والحديث لأن من ذكر الله ذكره الله، وكان معه بالتوفيق والرعاية والوقاية، وكان هذا الذاكر حيا غير ميت، وضمن النجاة، قال ـ تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا }. وقال: {فاذكروني أذكركم }.
وقال في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه".
وفى حديث رواه البخاري أيضا: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر، مثل الحي والميت". إلى غير ذلك من الأحاديث.
ولأهمية ذكر الله كان موجودا في العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من الطاعات حتى تؤدى على الوجه الأكمل.
وذكر الله ليست له هيئة معينة خاصة كما قال ـ تعالى: { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم }.
فهو مشروع ومطلوب في كل زمان، ومكان وفى أي حال يكون عليه الإنسان إلا ما ورد الشرع بالنهي عنه كبيوت الخلاء، وغيرها.
والله أعلم.(1/561)
س:وما فضل الذكر بصفة عامة، وهل يفضل أن يذكر الإنسان ربه منفردا أم يذكره في مجلس ذكر ؟
جاء في فضل الذكر نصوص كثيرة منها: قوله ـ تعالى: { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر }. وقوله: { ألا بذكر الله تطمئن القلوب }. وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الترمذي وأحمد والحاكم وقال صحيح الإسناد: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق أي: الفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ذكر الله".
وقوله فيما رواه أحمد "ما عمل آدمي قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله (عز وجل).
وذكر الله مطلوب في كل حال إذا كان الإنسان منفردا أو في جماعة.
وجاء في فضل مجالس الذكر حديث: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر. فإن لله (تعالى) سيارات من الملائكة يطلبون حلق أو حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم".
وحديث "لا يقعد قوم يذكرون الله (تعالى) إلا حفتهم الملائكة وخشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده".
والله أعلم.(1/562)
س:نسمع عن: التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، فنود أن نعرف معنى كل نوع وفضله وكيفيته ؟
معنى التسبيح: قول: سبحان الله. وهو تنزيه لله عن كل ما لا يليق به.
ومعنى التهليل: قول: لا إله إلا الله. وهو إقرار بوحدانيته.
ومعنى التحميد: قول: الحمد لله. أي: وصف الله بكل صفات الكمال أو شكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
ومعنى التكبير: قول: الله أكبر. أي: أعظم من كل عظيم، والكل مخلوق له ومتحاج إليه { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز }.
وقد جاء في فضل ذلك أحاديث مثل حديث البخاري ومسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".
وحديث مسلم: "لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس".
وحديث مسلم: "ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر".
وحديث: "أحب الكلام إلى الله أربع، لا يضرك بأيتهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".
وحديث البخاري ومسلم: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك.
والله أعلم.(1/563)
س:نسمع أن الذكر يحل عقد الشيطان. فكيف يعقد الشيطان عقده، وكيف يحلها الذكر، وهل يشعر الإنسان بذلك ؟
جاء التعبير عن ذلك في حديث رواه البخاري ومسلم: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم أي: على آخر الرأس إذا نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ، وذكر الله (تعالى) انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، وهو أسلوب من أساليب إغواء الشيطان يحبب إليه الكسل والتراخي عن طاعة الله، وكم له من أساليب لا يفطن لها إلا العارفون.
والله أعلم.(1/564)
س:عند الاستيقاظ من النوم توجد أدعية يجب أن يقولها المسلم. فما هذه الأدعية ؟
من الأدعية عند الاستيقاظ من النوم ما جاء في حديث البخاري "كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) إذا أوى إلى فراشه قال: "بسمك اللهم أحيا وأموت".
وإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".
وحديث أبي داود جاء فيه "كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك بذنبي وأسألك رحمتك. اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني. وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب".
وفى حديثه أيضا: "كان إذا هب من الليل كبر عشرا، وحمد عشرا وقال: سبحان الله وبحمده عشرا، وقال: سبحان القدوس عشرا، واستغفر عشرا، وهلل عشرا، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا، ومن ضيق يوم القيامة عشرا، ثم يفتتح الصلاة".
وفى كتاب ابن السني بإسناد صحيح حديث: "ما من عبد يقول عند رد الله (تعالى) روحه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلا غفر الله (تعالى) له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر".
إلى غير ذلك من الأحاديث.
والله أعلم .(1/565)
س:وما الذي يقوله الإنسان إذا تعرى بالليل و أحس بذلك ؟
معنى تعرى بالليل: استيقظ من النوم، وتقلب على الفراش، ولا يستطيع العودة إلى النوم.
جاء في ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "من تعار من الليل وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا؛ استجيب له فإن توضأ وصلى؛ قبلت صلاته وقال ( صلى الله عليه وسلم ): إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التآمات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره".
وفى رواية مسلم: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه".
والله أعلم.(1/566)
س:رجل يقول: لي جار سيئ الخلق، ويؤذيني كثيرا هل أدعو عليه، وماذا أقول ؟
في رواية للترمذي بطريق حسن "كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعلم الناس كلمات من الفزع: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه و شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون".
وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بينيه، ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه.
وفى رواية لأبي داود والنسائي بسند صحيح: "أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا خاف قوما قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرهم".
وفى كتاب ابن السني قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): "إذا خفت سلطانا أو غيره، فقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم لا إله إلا أنت عز جارك وجل ثناؤك.
والله أعلم .(1/567)
س:وما الحكمة من رفع الأيدي إلى السماء عند الدعاء ؟
يقول الله (سبحانه): { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}.
ومن العبادات التي يتقرب بها إلى الله الدعاء، فالتوجه إلى الله به في أي اتجاه جائز؛ لأنه (سبحانه) حاضر لا يغيب وقريب غير بعيد.
ومعنى رفع اليدين عند الدعاء: الطلب والاستجداء لخيره وبره، كأنه (سبحانه) وهو الأعلى أمام الداعي وهو الأدنى يمد يديه إليه، فاليد المعطية هي العليا والآخذة هي السفلى، فمد اليدين عند الدعاء تعبير عن المعتاد عن الناس عند طلب الأدنى من الأعلى مستجديا متضرعا.
وثبت في عدة أحاديث أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رفع يديه عند الدعاء في مثل الاستسقاء، وهي أكثر أن تحصر". كما رواه النووي.
من ذلك ما روه البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: "دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه".
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا أو خائبتين".
فيندب رفع اليدين اقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ).
ومن كره رفع اليدين، كره الرفع البليغ الزائد عن الحد. هذا.
ويكره عند الدعاء: النظر إلى السماء. لحديث مسلم وغيره في ذلك.
ومسح الوجه باليدين، جاء عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض روايات في مجموعها يحكم عليها بالحسن.
وفى كتاب: (الأذكار) للنووي: اختلف أصحابنا أي: الشافعية في رفع اليدين في دعاء القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه:
أصحها أنه: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه.
والثاني: يرفع ويمسح الوجه.
والثالث: لا يمسح ولا يرفع.
والله أعلم .(1/568)
س:يقول الله (تعالى): بسم الله الرحمن الرحيم { ادعوني أستجب لكم }. فلماذا يدعو الناس ربهم كثيرا، ولا يستجاب لهم، هل يوجد سبب لذلك ؟
من المعروف: أن الطبيب إذا وصف دواء قد يكون مركبا من عدة مواد، ولا يكتفي بذلك، بل يبين للمريض كيفية الاستعمال لتحديد المواعيد، وتحديد ما يتناول من طعام، وما يمتنع عنه، ولو نفذ المريض كل ذلك كان هناك أمل كبير في الشفاء، وبخاصة إذا كان الطبيب مختصا، وثقة المريض به قوية.
لابد من امتثال أوامر الله كلها من عبادات، وغيرها مع إقبال النفس عليها، والحب لها، ولابد من كون الدعاء خالصا صادرا من أعماق النفس مع استشعار عظمة الله ولطفه، ورحمته ومع خوفه العظيم أن يرده خائبا، وأن يكون ذهنه حاضرا غير شارد، مركزا غير مشتت.
ومن تمام المسارعة في الخيرات: البعد عن الحرام، فالحرام من أخطر العوائق التي تحول دون استجابة الدعاء، وإذا كان الداعي على هذه الصفة المطلوبة ولم يستجب له حالا لما دعا إليه فلا يقل: دعوت فلم يستجب لي، فالحديث يقول "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي". رواه البخاري ومسلم.
وإذا تأخرت الاستجابة بالمطلوب، فقد تكون الاستجابة ببديل خير منه، وقد تدخر ليوم القيامة، وذلك أفضل من متعة الدنيا الزائلة.
وقد روى أحمد والبذار وأبو يعلي بأسانيد جيدة عن أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذن نكثر. قال: الله أكثر".
وروى أحمد والترمذي وقال حسن صحيح قريبا من ذلك.
والله أعلم .(1/569)
س:وردت بعض الأحاديث تفيد أن الدعاء يرد القضاء، وأن صلة الرحم تزيد في العمر. فكيف يكون ذلك، مع أن قضاء الله واحد، وأن علمه لا يتغير ؟
روى الحاكم وصححه وابن حبان في صحيحه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر". رواه الترمذي وقال: حسن غريب. أي: رواه راو واحد فقط.
وجاء في حديث البذار، والطبراني، والحاكم: "لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء ينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة". ومعنى يعتلجان: يتصارعان ويتدافعان.
قال العلماء في هذا: إن القضاء نوع من علم الله (تعالى) بما سيكون عليه حال العبد قبل خلقه، ومنه قضاء مبرم لابد من وقوعه لا يدفعه، ولا يرفعه شيء، ومنه قضاء معلق في وقوعه، أو رفعه على شيء، فالموت ـ مثلا ـ قضاء مبرم لابد منه ولا يدفعه شيء، وطول العمر قضاء معلق على فعل، مثل: صلة الرحم، وعمل خير آخر، كما في حديث: "من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه". رواه أحمد، وغيره.
ومن هذا النوع المعلق أن يعلم الله (سبحانه وتعالى) أن شيئا سيحصل للعبد عند دعائه، وأن مرضا سيصيبه لا يبرأ منه إلا بالدعاء وبالعلاج، وكل حركات العبد و الكون معلومة مكشوفة لله (تعالى) ولكنها مغيبة عنا، ولذلك أمرنا الله بطاعته، ومن الطاعة: الدعاء الذي يؤكد الإنسان فيه إيمانه بضعفه، وإيمانه بحاجته إلى الله.
وقد عبر عن هذا في الحديث بأنه العبادة أو مخ العبادة، فإذا حصل الدعاء، وتم ما أرد الله كانت إرادته مرتبطة بدعاء العبد، كما علمها الله من قبل، وما دام قضاء الله مغيبا، فعلينا امتثال أمر الله في الدعاء وغيره.
ولو علمنا ما قدر لنا ما كان هناك معنى للتكليف، ولرقدت حركة الحياة.
والله أعلم .(1/570)
س:هل من الممكن أن يتوسل الإنسان إلى ربه بصالح عمله، أو برسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أو بالصالحين لإجابة دعائه، وتحقيق مطالبه؟
قال الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة }.
الوسيلة في اللغة: هي ما يتقرب به إلى الغير.
وفى الشرع: هي ما يتوسل به إلى رضوان الله (تعالى) ومنه الأعمال الصالحة، كالتي توسل من انطبقت عليهم الصخرة في الغار ودعوا ربهم بأعمالهم الصالحة: من بر الوالدين، والعفة عن الفاحشة، وعدم أكل مال الغير.
أما التوسل بالرسول وبالأولياء والتوسل الصحيح هو: بحبهم والاقتداء بهم، فذلك عمل صالح للإنسان تقرب به إلى الله؛ ليقبل الدعاء.
أما التوسل بأشخاص الأنبياء، والصالحين؛ ليدعو لمن توسلوا بهم، أو ليعلموهم فذلك مشروع.
أما في غير ذلك ففيه كلام للعلماء ما بين مجيز، ومانع، وبخاصة إذا كان هؤلاء أمواتا غير أحياء.
وتوضيح ذلك في كتاب صدر عن الأزهر الشريف بعنوان: (بيان للناس).
والله أعلم .(1/571)
س:ما اسم الله الأعظم الذي إذا دعا به الإنسان ربه أجاب دعاءه ؟
يقول الله ـ سبحانه: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها }. ويقول:{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فأيما تدعوا فله الأسماء الحسنى }.
الإنسان مخير في أن يدعو ربه بأي اسم من أسمائه التي ذكرت في القرآن الكريم، ويزيد عددها على التسع والتسعين التي ذكرت في الحديث الذي رواه الترمذي: "من أحصاها دخل الجنة" أي: من حفظها وعمل بما فيها.
وهناك من الأسماء ما هو أقرب للاستجابة عند الدعاء به وهو: اسم الله الأعظم، وهو الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
والراجح من أقوال العلماء: أنه مؤلف من عدة أسماء بناء على الأحاديث الواردة فيه.
وقد روى أصحاب السنن أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمع رجلا يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال: والذي نفسه بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى".
كما رووا أيضا أنهم سمعوا رجلا بقوله: "اللهم أنت الله لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ): لقد دعا الله باسمه الأعظم".
وفى بعض الروايات أن: اسم الله الأعظم موجود في آية: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }. وفى فاتحة سورة آل عمران:{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم }. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
الظاهر من تعدد الروايات أن: القاسم المشترك بينها هو: توحيد الله (سبحانه) والدعاء بالتوحيد فيه إخلاص، وثقة بالله ونفي للشريك عنه، وتقرير أنه لا يستحق أحد سواه أن يلجأ إليه، فلابد لكل دعاء أن يصحبه هذا الشعور؛ حتى يكون في موضع الرجاء والقبول.(1/572)
من هذا نرى أن: اسم الله الأعظم موجود في القرآن الكريم على أن هناك أسماء لله لم ينزل بها قرآن، ولم يثبت بها حديث، وقد جاءت في بعض أدعية النبي (صلى الله عليه وسلم ) "أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي". رواه ابن السني، وذكره النووي في كتابه (الأذكار).
والله أعلم .(1/573)
س:وما أوفق الدعاء كما جاء في السنة المطهرة ؟
روى البخاري ومسلم: كان أكثر دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار".
وفى مسلم كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى".
وفى مسلم: "علم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا دعاء جامعا وهو: "اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني، فإن ذلك يجمع لك دنياك وآخرتك".
وفي الصحيحين: "تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير".
وجاء في صحيح مسلم: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها".
وفيه أيضا: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر".
وهناك غير ذلك كثير.
والله أعلم .(1/574)
س:رجل يقول: أحب التهجد وقيام الليل. هل يوجد دعاء يقوله المسلم إذا قام لذلك، وهل يوجد دعاء مخصوص يقوله المسلم في صلاة الليل ؟
في الصحيحين أنه: ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، واليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
أما الأدعية والأذكار أثناء قيام الليل فكثيرة.
والله أعلم.(1/575)
س:سمعت أن الإنسان إذا سمع صياح ديك يقول دعاء، وإذا سمع نهيق حمار يقول دعاء آخر. فما هذان الدعاءان، وهل يوجد دعاء يقوله المسلم إذا سمع نباح الكب؟
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأيت شيطانا، وإذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا".
وعند أبي داود: "إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله منهن فإنهن يرون ما لا ترون". وليست هناك صيغة مخصوصة.
والله أعلم .(1/576)
س:ذكر الله (عز وجل) عند دخول البيت من الأمور المستحبة. فهل يوجد دعاء مخصوص يقوله المسلم ؟
يسن عند دخول البيت أن يلقي السلام؛ لقوله ـ تعالى: { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة }.
وفى حديث رواه الترمذي: "إذا دخلت على أهلك فسلم؛ تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك".
وفى سنن أبي داود: "إذا ولج الرجل بيته فليقل: "اللهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى ربنا توكلنا، ثم يسلم على أهله".
وفي حديث مسلم: "إذا دخل الرجل بيته وذكر الله (تعالى) عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل ولم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء".
والله أعلم .(1/577)
س:توجد أدعية يقولها المسلم إذا خرج من بيته. فما هذه الأدعية ؟
إذا خرج الإنسان من بيته، يسن أن يقرأ خواتيم آل عمران، ابتداء من قوله (تعالى): { إن في خلق السماوات والأرض }.
وقد كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل ذلك كما الصحيحين.
وروى أبو داود أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ بسم الله توكلت على الله، ولا حول، ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت وهديت وتنحى عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي".
وروى أهل السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح.
إنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما خرج من بيته إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: "اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل، أو أذل أو أذل، أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي".
والله أعلم .(1/578)
س:إذا أكلنا لابد وأن نسمي الله (تعالى) على الأكل. فلماذا نفعل ذلك، وما دليل ذلك من الكتاب أو السنة ؟
في سنن أبي داود وابن ماجة أن أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا له: إنا نأكل ولا نشبع. قال: فلعلكم تفترقون. قالوا: نعم. قال: فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله؛ يبارك لكم فيه".
وفي كتاب ابن السني عن عائشة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "أزيدوا طعامك بذكر الله (عز وجل) والصلاة، ولا تناموا عليه فتقسوا قلوبكم".
والله أعلم.(1/579)
س:رجل يقول: دعيت إلى حفلة صغيرة عند جار لنا، وبعد الطعام ردد الحاضرون بعض الأدعية. فهل وردت أدعية يقولها المسلم في مثل هذه المواقف؟
في حديث رواه مسلم أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ما أكل في بيت عبد الله ابن بسر دعا له فقال: "الله بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم، وارحمهم".
وفى حديث صحيح رواه أبو داود أنه "دعا بعد تناول طعام عند سعد بن أبي عبادة أفطر عندكم الصائمون، وأكل عندكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة".
وفى سنن أبي داود أنه ( صلى الله عليه وسلم ) "لما أكل مع أصحابه طعاما عند أبي الهيثم قال لهم: أثيبوا أخاكم. قالوا: وما إثابته يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا دخل بيته، فأكل طعامه وشرب شرابه، فدعوا له فذلك إثابته".
وفي صحيح مسلم عن المقداد (رضي الله عنه) أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم) رفع رأسه إلى السماء فقال: "اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني".
والله أعلم .(1/580)
س:سمعنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "الدعاء هو العبادة". فهل هذا الحديث صحيح، وإذا كان صحيحا نود توضيح ذلك، وهل في الدعاء صلاة وذكر، وغير ذلك من العبادات ؟
إذا كان من معاني الدعاء: النداء، وبخاصة من الأدنى للأعلى، فإن الدعاء يراد به: عبادة الله (سبحانه) و(تعالى) بكل أنواعها.
روى أحمد وأصحاب السنن أنه( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن الدعاء هو العبادة. ثم قرأ قوله ـ تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }.
فالمراد بالدعاء هنا في هذه الآية: العبادة بكل أنواعها: من صلاة وزكاة وحج وذكر وقراءة قرآن، وغير ذلك؛ لأن الكفار أو العاصين المستكبرين عن عبادة الله مصيرهم جهنم.
والله أعلم.(1/581)
س:وهل للدعاء آداب يجب أن يلتزم بها المسلم في دعائه ؟
جاء في كتاب: (الأذكار) للنووي نقلا عن الغزالي في كتابه: (إحياء علوم الدين): أن آداب الدعاء عشرة:
الأول: أن يترصد الأزمان الشريفة كيوم: عرفة وشهر رمضان ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار.
الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة: كحالة السجود، والتقاء الجيوش ونزول الغيث، وإقامة الصلاة، وبعد إقامة الصلاة .
الثالث: استقبال القبلة، ورفع اليدين ويمسح بهما وجهه في آخره.
الرابع: خفض الصوت بين المخافتة والجهر.
الخامس: ألا يتكلف السجع، وقد فسر به: الاعتداء في الدعاء.
السادس: التضرع، والخشوع والرهبة، كما قال ـ تعالى:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبنا وكانوا لنا خاشعين }.
وقال: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } .
السابع: أن يجزم بالطلب، ويوقن بالإجابة، ويصدق رجاءه فيها، يقول سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه، وإن الله (تعالى) أجاب شر المخلوقين وهو إبليس إذ قال: { رب أنظرني ليوم يبعثون فقال إنك من المنظرين} الثامن: أن يلح في الدعاء وأن يكرره ثلاثا ولا يستبطئ الإجابة.
التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله (تعالى) أي: وبالصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الحمد لله والثناء عليه، وأن يختمه بذلك.
العاشر :التوبة ورد المظالم والإقبال على الله ـ تعالى.
والله أعلم .(1/582)
س:هل الاستغفار يعد من الذكر، أو من الدعاء، وما أفضل صيغة للاستغفار ؟
الاستغفار معناه: طلب المغفرة من الله، والطلب دعاء، وفى الوقت نفسه ذكر لله، قال ـ تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة }.
فالذكر أعم من الدعاء؛ لأن كل دعاء فيه ذكر حيث إنه يتوجه به إلى الله، وليس كل ذكر فيه دعاء، وقد يكون خاليا منه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
والنصوص كثيرة في القرآن والسنة في الأمر بالاستغفار والإكثار منه فجزاؤه جنات تجري من تحتها الأنهار، ويمنع عذاب الاستئصال، كما قال ـ تعالى: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
وهو سبب الخير الكثير قال ـ تعالى: { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}. وقد ثبت في مسلم أن: "الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستغفر في اليوم مائة مرة".
وفى البخاري: "أنه يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
وصيغ الاستغفار كثيرة، ولكن أحسنها ما رواه البخاري وهو: سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبو لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها بالنهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقنا بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة".
والله أعلم .(1/583)
س:وماذا يقول المسافر إذا خرج من بيته، وركب دابته، وإذا عاد إلى بيته ؟
يسن بعد العزم على السفر صلاة ركعتين والدعاء بمثل ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لم يرد سفرا إلا قال حين ينهض من جلوسه: "اللهم إليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم اكفني ما أهمني، وما لا أهتم به، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير أينما توجهت، وإذا ركب الدآبة يقول: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون}.
وفى بعض الروايات الصحيحة، زيادة: "اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، ووحشة الطريق، وسوء المنقلب، فإذا ركب السفينة قال: بسم الله مجريها ومرساها".
وإذا عاد من سفره قال: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون".
والله أعلم .(1/584)
س:وهل يوجد دعاء يقوله المسلم إذا أراد النوم ؟
روى البخاري أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أوى إلى فراشة قال: "باسمك اللهم أحيا وأموت، وأمر أن يقول للمضطجع: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، وأمر أن يقال: "اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت، مت على الفطرة".
وكان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة "جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ {قل هو الله أحد}. { قل أعوذ برب الفلق} { قل أعوذ برب الناس}. ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات".
وأخرج البخاري حديث الشيطان الذي كان يسرق الزكاة التي كان يحرسها أبو هريرة وأنه علمه كلاما يحرسه من الشيطان، فعرضه أبو هريرة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأقره، وقال: "صدقك وهو كذوب".
وهذا كلام الشيطان: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فلن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان.
وروى البخاري ومسلم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة من أول {آمن الرسول} قال: من قرأ بهما في ليلة كفتاه أي حفظتاه من الآفات، أو كفتاه عن قيام الليل".
والله أعلم .(1/585)
س:ما معنى تشميت العاطس، وكيف يشمت، ومتى ؟
جاء في نهاية ابن الأثير أن: تشميت العاطس معناه: الدعاء له بالخير، والبركة وهو مشتق من الشوامت، وهي: القوائم بأنه دعا للعاطس بالثبات على طاعة الله (تعالى). وقيل: معناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنبك ما يشمت به عليك.
والشماتة هي: فرح العدو ببلية تنزل بمن يعاديه.
جاء في صحيح البخاري عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) "إن الله (تعالى) يحب العطاس ويكره التثاؤب، إذا عطس أحدكم، وحمد الله (تعالى) كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول: يرحمك الله. وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثآءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثآءب ضحك منه الشيطان".
وفى البخاري أيضا في شأن العاطس بعد أن يشمته إنسان بقوله: يرحمك الله، أن يقول له: "يهديكم الله ويصلح بالكم".
ويقول أيضا: "ويغفر لنا ولكم". كما في رواية مالك في الموطأ.
وإذا تكرر العطاس أكثر من ثلاث مرات، يدعو له بالعافية والسلامة.
والله أعلم .(1/586)
س: حث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على الدعاء عند لبس ثوب جديد، فما هذا الدعاء، وهل لا يقوله المسلم إلا عند لبس الثوب الجديد فقط، أم ماذا يقول عندما يلبس ثيابه بصفة عامة ؟
يسن لمن يلبس أي ثوب أن يقول: بسم الله، ثم يدعو: "اللهم إني أسألك من خيره، ومن خير ما هو له، وأعوذ بك من شره، وشر ما هو له".
وفي بعض الأحاديث: "من لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه".
والله أعلم.(1/587)
س:إذا أصيب الإنسان بكرب أو غيره، يقوم الليل متقربا إلى الله (تعالى) فهل يوجد دعاء مخصوص يقوله المسلم ويكرره في قيام الليل حتى يقضي الله حاجته ؟
روى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله (تعالى) خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا وأعطاه الله إياه وذلك كل ليلة".
وفى البخاري ومسلم "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له".
وروى الترمذي بسند صحيح قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله (تعالى) في تلك الساعة فقم).
وليس هناك دعاء مخصوص لقضاء الحاجات في هذه الأوقات المباركة، فادعو الله بما تريد.
والله أعلم.(1/588)
س:نرى بعض الطرق الصوفية يتمايلون في ذكرهم ويقولون: إن الصحابة كانوا يتمايلون كما يتمايل الزرع كلما سمعوا ذكر الله، فما وجه الصحة في قولهم ؟
يقول الله ـ تعالى:{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون }.
ذكر القرطبي عند تفسير هذه الآية أن: وجل القلوب خوف من الله، وفيه أيضا اطمئنان عند ذكر الله، كما قال:{ تقشعر منهم جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله }.
وليس منه ما يفعله الجهال والأرذال من الزعيق، والزئير، والنهاق، ثم ذكر حديث الترمذي، وعظنا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت القلوب، ولم يقل العرباض بن سارية راوي الحديث: زعقنا، ولا رقصنا.
والإمام الغزالي في كتابه: (الإحياء) تحدث عن الوجد والتأثر بالقرآن، وذكر الله، ولذلك مظاهر: إما بكاء وإما تشنج، وإما غير ذلك.
وذكر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "شيبتني هود وأخواتها".
وذكر حديث بكاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عندما قرأ عليه ابن مسعود: {فكيف إذا جئنا من أمة كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }.
ثم ذكر بعض نقول عن وجد الصحابة والتابعين عند سماع القرآن، فمنهم صعق ومنهم من غشي عليه، ومنهم من مات، وكلها أخبار بدون سند يعتمد عليه.
ولكن يمكن أن تحدث، فالطبيعة البشرية تتأثر بأشياء كثيرة، وبعض الشعوب الآن أو بعض الأفراد عندما يسمعون شعرا أو كلاما أو غناء أو موسيقى يتحركون حركات مختلفة، إما بهز الرؤوس أو تمايل الجسم، أو الرقص، أو غير ذلك.
فلا مانع أن يكون بعض الصحابة، وأن يكون غيرهم قد تحرك جسمه عند سماع آيات من القرآن تؤثر بقوة على وجدانه، وأعصابه { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم }.(1/589)
وعند قشعريرة الجلد تظهر على الأعصاب أثره، وعلى الأعضاء بأية حركة، ومع ذلك فالإسلام لا يقر شيئا يتنافى مع الآداب، ومع الرجولة، ومع الكرامة، كما لا يقر الرياء عند ذكر الله وعند الطاعة بوجه عام.
والله أعلم .(1/590)
س:وما الحكم في ذكر بعض الطرق الصوفية للفظ: آه ؟
مع التسليم بأن غاية التصوف: تصفية النفس ممن يبعدها عن الله، فإن الوسيلة المشروعة لذلك هي: السير على منهج الله الذي وضعه لأوليائه، وأعد لهم ثواب الأمن، والسعادة، ومن المنهج الديني لتصفية النفس: ذكر الله، فقد حث الله عليه ووسع مجالاته الله وحدوده، وبصرف النظر عن قصر أسماء الله، وعن اختلاف العلماء في جواز ذكره بالاسم المفرد، فإن لفظ: آه لم يثبت بسند صحيح أنه اسم من أسماء الله (تعالى).
وعليه، فلا يجوز الذكر به على ما رآه جمهور الفقهاء.
وما يروى من أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "زار مريضا كان يئن، وأن أصحابه (عليه الصلاة والسلام) نهوه عن الأنين، وأنه قال لهم: دعوه يئن فإنه يذكر اسما من أسماء الله (تعالى) لم يرد في ذلك حديث صحيح، ولا حسن، كما قرره الثقات.
وما قيل في بعض الحواشي من أن: لفظ: آه. هو: الاسم الأعظم، لا سند له.
والله أعلم .(1/591)
س:وما حكم الدين فيما نراه في بعض حلقات الذكر من: الضرب بالدفوف، والمزامير، وغيرها ؟
نقل القرطبي عن أبي بكر الطرطوشي (رحمهم الله تعالى) أنه سئل: عن قوم يجتمعون في مكان يقرءون شيئا من القرآن، ثم ينشد لهم منشد شيئا من الشعر، فيرقصون، ويطربون، ويضربون بالدف والشبادة. هل الحضور معهم حلال أم لا؟
فأجاب: مذهب الصوفية أن هذا بطالة، وجهالة، وضلالة،إلى آخر كلامه. قلت: وقد رأيت أنه أجاب بلفظ غير هذا، وهو أنه قال: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة. وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والتواجد فأول من أحدثه: أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار، وعباد العجل.
وإنما مجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد، وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يحضر معهم وألا يعينهم على باطلهم.
هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين.
والله أعلم.(1/592)
س:هل هناك فضل لليلة النصف من شعبان تمتز بها عن الليالي الأخرى ؟
ورد في فضلها أحاديث صحح بعض العلماء بعضا منها وضعفها آخرون، وإن أجازوا الأخذ بها في فضائل الأعمال، ومنها حديث رواه أحمد والطبراني: "إن الله (عز وجل) لا ينزل إلى سماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لأكثر من شعر غنم بني كلب". وهي: قبيلة فيها غنم كثير.
وقال الترمذي: إن البخاري ضعف هذا.
ومنها حديث عائشة (رضي الله عنها) "قام رسول ( صلى الله عليه وسلم ) من الليل فصلى، وأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه، فتحرك فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود، وفرغ من صلاته قال: يا عائشة: أو يا حميراء: ظننتي أن النبي قد قسا بك أي: لم يعطيك حقك. قلت: لا والله يا رسول الله، ولكن ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، فقال: أتدرين أي ليلة هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله (عز وجل) يطلع على عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد". كما هم رواه البيهقي عن طريق العلاء بن الحارث عنها. وقال: هذا مرسل جيد.
وروى ابن ماجة في سننه بإسناد ضعيف عن علي (رضي الله عنه) مرفوعا أي: إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله (تعالى) ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتل فأعفيه، ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر".
بهذه الأحاديث، وغيرها يمكن أن يقال: إن لليلة النصف من شعبان فضلا، وليس هناك نص يمنع ذلك، فشهر شعبان له فضله.(1/593)
روى النسائي عن أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين. وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". والله أعلم .(1/594)
س:وهل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحتفل بليلة النصف من شعبان ؟
ثبت أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) احتفل بشهر شعبان، وكان احتفاله بالصوم.
أما قيام الليل فالرسول (عليه الصلاة والسلام) كان كثير القيام بالليل، في كل الشهر وقيامه ليلة النصف، كقيامه في كل ليلة.
ويؤيد ذلك ما ورد من الأحاديث السابقة وإن كانت ضعيفة، فيؤخذ بها في فضائل الأعمال، وقد أمر بقيامها، وقام هو بالفعل على النحو الذي ذكرته عائشة، وكان هذا الاحتفال شخصيا يعني: لم يكن في جماعة، والصورة التي يحتفل بها اليوم، لم تكن في أيامه، وفى أيام الصحابة، لكن حدثت في عهد التابعين يقول: القصطلاني في كتاب: "المواهب اللدنية" أن التابعين من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول كان يجتهدون ليلة النصف من شعبان في العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلم اشتهر ذلك عنهم، اختلف الناس فمنهم من قبلهم منه، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم: عطاء وبن أبي ملكية، ونقلهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك، وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة، وخلاصة كلام القصطلاني، أن إحياء ليلة النصف جماعة، قال به بعض العلماء، ولم يقل به البعض الآخر، وما دام الأمر خلافيا فيصح الأخذ بأحد الرأيين دون تعصب ضد الرأي الآخر، والإحياء شخصيا أو جماعيا يكون بالصلاة والدعاء وذكر الله (سبحانه).
وقد رأى بعض المعاصرين أن يكون الاحتفال في هذه الليلة ليس على هذا النسق، وليس لهذا الغرض وهو التقرب لله بالعبادة، وإنما يكون بتخليد ذكرى من الذكريات الإسلامية، وهي تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى مكة مع عدم الجزم بأنه كان في هذه الليلة، وهناك أقوال بأنه كان في غيرها، والاحتفال بالذكريات له حكمه والذي أراه هو: عدم المنع ما دام الأسلوب مشروعا، والهدف خالصا لله (سبحانه).(1/595)
والله أعلم .(1/596)
س:وهل هناك أسلوب معين لإحياء هذه الليلة، وهل الصلاة بنية طول العمر أو سعة الرزق مشروعة، وهل الدعاء له صيغة خاصة ؟
إن الصلاة بنية التقرب إلى الله لا مانع منها فهي خير موضوع، ويسن التنفل بين المغرب والعشاء عند بعض الفقهاء، كما يسن بعد العشاء، ومنه قيام الليل، أما أن يكون التنفل بنية طول العمر، أو غير ذلك، فليس عليه دليل مقبول يدعو إليه، أو يستحسنه، فليكن نفلا مطلقا.
قال النووي في كتابه (المجموع): الصلاة المعروفة بصلاة: الرغائب وهي ثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أو جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا تغتر بذكرهما في كتاب:(قوت القلوب) لأبي خالد المكي و(إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي، ولا بالحديث المذكور فيهما، لأن كل ذلك باطل، والدعاء في هذه الليلة لم يرد فيه شيء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن مبدأ الاحتفال ليس ثابتا بطريق صحيح عند الأكثيرين.
ومما أثر في ذلك أن عائشة (رضي الله عنها) سمعته يقول في السجود: "أعوذ بعفوك من عقابك، و أعوذ برضاك من سخطك، و أعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". رواه البيهقي.
والدعاء الذي يكثر السؤال عنه هذه الأيام هو: "اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول، والإنعام، لا إله إلا أنت، ظهر الناجين، وجار المستجيرين، وأمان الخائفين، اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيا أو محروما، أو مطرودا، أو مقترا علي في الرزق، فامح اللهم بفضلك شقاوتي، وحرماني وطردي وقتار رزقي إلى آخره.
وجاء فيه: إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شهر شعبان المعظم التي يسرف فيها كل أمر حكيم ويبرم، وهي من زيادة الشيخ ماء العينين الشنقيطي في كتاب: [ نعت البدايات ] وهو دعاء لم يرد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ).(1/597)
قال بعض العلماء: إنه منقول بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين هما: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود (رضي الله عنهما).
ومهما يكن من شيء فإن أي دعاء بأية صيغة، يشترط فيه ألا يكون معارضا، ولا منافيا للصحيح من العقائد، والأحكام، وقد تحدث العلماء عن نقطتين هامتين في هذا الدعاء أولهما:
ما جاء فيه من المحو والإثبات في أم الكتاب واللوح المحفوظ، وهو سجل علم الله (تعالى) الذي يتبدل ولا يتغير، فقالوا: إن المكتوب في اللوح هو ما قدره الله على عباده، ومنه ما هو مشروح بدعاء أو عمل، وهو المعلق والله يعلم أن صاحبه يدعو أو يعلم، وما هو غير مشروط وهو المبرم، والدعاء والعمل ينفع في الأول؛ لأنه معلق عليه.
وأما **في الثاني فهو: التخفيف كما يقال: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، بل أسألك اللطف فيه.
فقد جاء في الحديث :"إن الدعاء ينفع فيمن نزل وما لم ينزل".
والنفع هو على النحو المذكور، ولم يرتض بعض العلماء هذا التفسير للمحو والإثبات في اللوح المحفوظ، فذلك يكون في صحف الملائكة لا في علم الله (سبحانه) ولوحه المحفوظ.
والله أعلم .(1/598)
س:وهل صحيح ما يقال: إن ليلة النصف من شعبان هي: التي يفرق فيها كل أمر ويبرم؟
ما جاء فيه من أن ليلة النصف من شعبان هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم ليس بصحيح.
فقد قال عكرمة: من قال ذلك فقد أبعد الندعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان فالليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم، نزل فيها القرآن، والقرآن نزل في ليلة القدر، وفى شهر رمضان.
ومن قال هناك حديث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له، وقد أخرجت له في الموتى". الحديث مرسل، ومثله لا تعارض به النصوص، وإن حاول بعضهما التوفيق بينهما بأن ما يحصل في شعبان هو نقل ما في اللون المحفوظ، إلى صحف الملائكة، ولا داعي لذلك، فالدعاء المأثور في الكتاب والسنة أفضل.
والله أعلم .(1/599)
س:ما معنى القدر، ولماذا سميت به ليلة القدر ؟
الأقوال كثيرة في معنى القدر المتصل بهذه الليلة، فقيل: إن القدر هو: الحكم أو التقدير بمعنى: أن الله يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القادمة أي: يسلم ذلك إلى الملائكة مكتوبا من اللوح المحفوظ، وهو: أم الكتاب.
وقيل: معنى القدر في هذه الليلة هو: الشرف، والعظمة من قولنا: فلان له قدر أي: شرف، ومنزلة.
والقدر والشرف هو للعبادة فيها، حيث إنها تكون خيرا من ألف شهر، أو هو للقرآن الذي نزل فيها، وهو أعظم كتاب نزل من عند الله (سبحانه).
أو الشرف هو لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه في هذه الليلة حيث جاءته الرسالة التي عظم بها قدره، كان من قبلها شخصا عاديا، لا يتمتع في قوله لما يتمتعون به من سلطان، ومال، وما إلى ذلك.
هذا أحسن ما قيل في معنى القدر المنسوب لهذه الليلة.
والله أعلى وأعلم.(1/600)
س:وبعد أن انتهينا من فريضة الصلاة بكافة أنواعها، نأتي إلى فريضة الزكاة، فما معنى الزكاة، وما تعريفها، وما الفرق بينها وبين الصدقة؟
الزكاة في اللغة: النمو والبركة، وزيادة الخير.
يقال: زكا الزرع إذا نمى، وزكت النفقة إذا بورك فيها، وفلان زاك أي كثير الخير، وتطلق على التطهير قال ـ تعالى: { قد أفلح من زكاها } أي: طهرها من الأدناس.
وتطلق أيضا على المدح قال ـ تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم } أي: لا تمدحوها.
وشرعا: الزكاة اسم لقدر مخصوص من مال مخصوص يجب صرفه إلى أصناف مخصوصة بشرائط مخصوصة، وسميت بذلك؛ لأن المال ينمو ببركة إخراجها وببركة دعاء الآخذ لها، ولأنها تتطهر مخرجها من الإثم، وتمدحه حتى تشهد له بصحة الإيمان.
أما الصدقة فقد تطلق على الزكاة، والصدقة تشمل: الواجب وغير الواجب، وليس لها وعاء معين، ولا قدر معين، ولا مصرف معين، فكل ما يخرج من الإنسان من قول، أو فعل فيه خير لنفسه، أو لغيره يطلق عليه اسم الصدقة.
وفى الحديث: "كل معروف صدقة".
وفي الحديث أيضا: "كل تسبيحة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، فكل هذه الأمور التي فيها خير تسمى صدقة".
والله أعلم .(1/601)
س:وهذا سائل يقول: مات عمي، وترك مالا ولم يخرج زكاته. فهل يخرج ورثته زكاة المال قبل تقسيمه، أم أن الزكاة سقطت عنه بموته ؟
من مات وعليه زكاة لا بد من إخراجها قبل توزيع التركة، كما قال ـ تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين }.
والزكاة دين لله، وهو أحق بالقضاء، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم "أن رجلا قال للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ فقال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى".
معنى هذا أن الزكاة التي لم يخرجها الميت لابد أن يخرجها الورثة قبل أن يأخذوا أي شيء من التركة.
والله أعلم .(1/602)
س:هل توجد آداب من آخذ الزكاة تجاه المزكي ؟
الذي يأخذ الزكاة من المزكي يستحب أن يدعو له، وأن يشكره بمثل قوله: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وذلك من منطلق قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الطبراني، وغيره: "من اصطنع إليكم معروفا فجازوه فإن عجزتم عن مجازاته فادعوا له حتى تعلموا أن قد شكرتم فإن الله شاكر يحب الشاكرين".
وفى حديث أحمد وغيره: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس".
والله أعلم .(1/603)
س:نعرف أن التكليف بالعبادات يكون عند البلوغ، فلو ترك والد لولده الصغير مالا يبلغ النصاب. هل تجب في ماله الزكاة، وما حكم المجنون الذي يرث مالا أو أصابه الجنون وعنده مال يستحق الزكاة ؟
العلماء فريقان في حكم الزكاة في مال الصبي الذي لم يبلغ حد التكليف:
فريق لا يرى وجوب الزكاة، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه، وقصدوا الزكاة في الزروع و الثمار في هذا الحكم، وحجتهم في ذلك أن: الزكاة عبادة محضة كالصلاة تحتاج إلى نية، والصبي لا تتحقق منه النية، وقد سقطت عنه الصلاة؛ لفقدان النية، فتسقط الزكاة كذلك، كما احتجوا بحديث: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ إلى آخره".
وفى قوله ـ تعالى: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }.
لكن أوجبوا في ماله الغرامات والنفقات؛ لأنها حقوق العباد، وكذلك صدقة الفطر أيضا، لكن هذه الأدلة تصلح لمن لا يوجب الزكاة على الصبي أصلا، ولا تصلح لمن أوجبها في بعض المال.
والفريق الثاني من العلماء يرى: وجوب الزكاة في مال الصبي، ومنهم مالك والشافعي وأحمد، ومن أدلتهم عموم النصوص الدالة على وجوب الزكاة في مال الأغنياء دون استثناء صبي أو غيره، وحيث إن الصبيان يعفون من الزكاة إذا كانوا فقراء، فتؤخذ منهم إذا كانوا أغنياء، كما يدل عليه حديث معاذ، لما أرسله النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن حيث قال لهم: أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم.
ومن أدلتهم حديث رواه الطبراني مرفوعا: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
ومثله حديث الترمذي، وإن كان فيه مقال غير أن معناه صحيح، وهو موقوف على عمر، وقد صحح البيهقي عنه: "ابتغوا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة". والمراد بها: الزكاة.
وكما صح الحكم عن عمر صح عن غيره من عدد من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف، إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس لا يحتج بها.(1/604)
وإلى جانب هذه الأدلة قالوا: إن مقصود الزكاة سد خلة الفقراء من مال الأغنياء، شكرا لله، وتطهيرا للمال، ومال الصبي قابل لأداء النفقات، والغرامات، فلا يضيق عن الزكاة.
فعلى هذا القول، ولى الصبي يخرج الزكاة عنه من مال هذا الصبي، وتعتبر نية الولي في الإخراج.
وبعض المالكية قال: يخرجها الولي إذا أمن أن يطالبه، وجعل له ذلك، وإلا فلا. يؤخذ من هذا أن: الجمهور قالوا: تجب الزكاة في مال الصبي ومثله المجنون الذي بلغ مجنونا أو أصابه الجنون بعد ذلك.
والله أعلم .(1/605)
س:وسائل يقول: عندي جار غير مسلم وأخي يعمل في الخارج، وجيرانه كفار فهل يجوز إخراج الزكاة لهؤلاء وإذا لم يجز هذا، فما العمل ؟
اتفقت الأئمة على عدم جواز إعطاء الزكاة لغير المسلمين، فيما عدا المؤلفة قلوبهم وهم: الذين يرجى إيمانهم، أو يخشى شرهم، وإن كان هناك خلاف في وجودهم الآن، وفي جواز إعطائهم إن كانوا والدليل على عدم إعطاء الكفار من الزكاة قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".
وذلك في حديث معاذ، لما أرسله إلى اليمن، والمقصود بهم: أغنياء المسلمين وفقراؤهم دون غيرهم". رواه البخاري ومسلم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا.
واختلفوا في زكاة الفطر، فجوزها أبو حنيفة.
وعن عمر بن ميمون، وغيره أنهم كانوا يعطون منها الرهبان، وقال مالك والليث وأحمد وأبو ثور: لا يعطون.
ونقل صاحب (البيان) جواز صرف الزكاة إلى الكفار، وهذا موجود في كتاب: (المجموع) للنووي.
لكن صدقة التطوع يجوز أن يعطى منها غير المسلم، لما صح من إجازة النبي (صلى الله عليه وسلم ) لأسماء بنت أبي بكر أن تبر أمها، وكانت مشركة، وقال لها: "صلي أمك".
ويؤيد هذا قوله ـ تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم }.
وقال ـ تعالى: { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأثيرا }.
فالآية مطلقة، والأثير بالذات قد يبقى على دينه ولا يسلم، قالوا: ومنه: إعطاء عمر صدقة لليهودي الذي وجده يسأل.
وأختار أنه لا يجوز للسائل أن يعطي من زكاته لغير المسلم، لكن يجوز له أن يساعده بصدقة تطوع رعاية لحق الجوار ـ مثلا.
والله أعلم.(1/606)
س:هل توجد آيات قرآنية، وأحاديث نبوية شريفة تأمر بالزكاة، وترغب في أدائها؟ النصوص كثيرة في الأمر بإخراج الزكاة، وفى الترغيب فيها، منها قوله ـ تعالى: { وآتوا الزكاة }. وقوله: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }. وقوله ـ تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه }.
وحديث: "بني الإسلام على خمس، وفيه: "وإيتاء الزكاة".
وحديث البخاري ومسلم: "أن رجلا سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن عمل يدخله الجنة؟ فقال: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم }.
وحديث البذار وابن خزيمة وابن حبان الذي جاء فيه: "أن رجلا قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فمن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء".
وحديث البخاري ومسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
هذه بعض النصوص التي جاءت في الأمر بالزكاة وفى فضلها.
والله أعلم .(1/607)
س:وما الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي ترهب من منع الزكاة ؟
النصوص في ذلك كثيرة منها قوله ـ تعالى: { وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى } وقوله ـ تعالى:{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}.
وقوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجلودهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }.
وحديث البخاري ومسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا".
وحديث الطبراني والبيهقي بألفاظ متقاربة: "وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا".
إلى غير ذلك من النصوص الواردة بطرق مقبولة.
والله أعلم .(1/608)
س:منع الزكاة هو إلغاء لركن من أركان الإسلام الخمسة. هل مانع الزكاة يخرج من ملة الإسلام ؟
مانع الزكاة كالمقصر في أي ركن من أركان الإسلام، يسأل عن سبب منعه لها، فإن قال: إنها غير مفروضة أو استهزأ بها، فهو كافر لا محالة، لأنه أنكر ما علم من الدين بالضرورة.
أما إن قال هي مفروضة، ولكن نفسي لا تطاوعني، أو أريد أن أتمتع بمالي الذي جمعته بجهدي، ولا أريد أن يأخذه مني غيري، فهو مسلم، ولكنه عاص مرتكب لكبيرة من الكبائر.
وعلينا في الحالة الأولى أن نستتيبه، حتى يؤمن بفرضيتها، فإن لم يتب؛ أقيم عليه الحد.
وفي الحالة الثانية: ننصحه قياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن استجاب فبها، وإلا قاطعناه كترجمة للإنكار بالقلب، ولا نقيم له وزنا، ولا احترما لعله يعود إلى الصواب.
وهذا ما يجب أن نفعله مع كل مقصر في واجبات الدين، والكل يعرف ما قام به أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) في حرب المرتدين الذين منعوا الزكاة، كما جاء في الصحيحين حيث قال: "والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقاتلتهم عليه".
يقول العلماء: على الحاكم أن يأخذ الزكاة قهرا ممن امتنع عنها ويعزره أي: يعاقبه.
وقال بعضهم: له أن يأخذ أزيد من الزكاة، كما قال أحمد والشافعي في قوله القديم: وهذه الزيادة تبلغ نصف ماله عقوبة له، والدليل ما رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي من حديث جاء فيه: "ومن منعها فإنا أخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا (تبارك وتعالى) أي: حقا واجبا لا يحل لآل محمد منها شيء.
ومن المعلوم أن الموسرين إذا لم يواسوا المعترين ستكون العداوة، وقد يؤدي ذلك إلى الثورات، والحروب وللحاكم أن يأخذها قصرا منعا للفتنة، فلو كانت لهم منعة وقوة قوتلوا عليها كما فعل أبو بكر (رضي الله عنه). والله أعلم .(1/609)
س:فعلى من تجب الزكاة، ومتى تجب ؟
تجب الزكاة على كل مسلم حر مالك ملكا تاما لما عنده، وعنده النصاب الفائض عن حاجاته الضرورية.
وإذا توافرت هذه الشروط؛ وجب إخراج الزكاة عند تمام الحول في زكاة النقدين، والتجارة، والثروة الحيوانية.
أما في الثروة الزراعية، فتجب الزكاة عند الحصاد كما قال ـ تعالى: { وآتوا حقه يوم حصاده }.
كما يشترط في زكاة الثروة الحيوانية التي لا يقصد بها التجارة، يشترط <السوم> ومعناه: أن يكون غذاء الحيوانات بغير ثمن، بل في الرعي في الصحارى، وغيرها، وأن يكون الزرع مما يستنبته الآدميون ويقتات ويدخر على ما رآه جمهور الفقهاء.
والله أعلم .(1/610)
س:جعل الله (سبحانه وتعالى) من مصارف الزكاة مصرف المؤلفة قلوبهم. فما مواصفاتهم ؟
المؤلفة قلوبهم منهم مسلمون، ومنهم كافرون، والمسلمون أقسام أربعة:
القسم الأول: قوم من سادات المسلمين لهم نظراء من الكفار، إذا أعطيناهم من الزكاة، يرجى إسلام نظرائهم، كعلي بن حاتم، والزبرقان بن بدر، حيث أعطاهما أبو بكر مع حسن إسلامهم.
القسم الثاني: زعماء ضعفاء الإيمان، لكنهم مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم من الزكاة، تثبيت الإيمان في قلوبهم، كمن أعطاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة حنين، وهم: مسلمة الفتح أي: فتح مكة، دخلوا في الإسلام حديثا عندما فتحت مكة التي كانت عزوة حنين عقب الفتح قبل أن يعود النبي (صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة.
القسم الثالث: قوم من المسلمين يخشى أن يستميلهم العدو لمصلحته وهم العملاء الذين ينشطون حين يرون الفائدة ميسرة لهم.
القسم الرابع: قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة؛ لأنهم ذوو نفوس في أقوامهم لا تجبى إلا بسلطانهم، أو بقتالهم، فيرتكب أخف الضررين، ويعطون شيئا من الزكاة بدل أن تضيع كلها.
أما الكافرون من المؤلفة قلوبهم فهم قسمان:
القسم الأول: من يرجى إيمانه: كصفوان بن أمية الذي أعطاه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من غنائم حنين.
القسم الثاني: من يخشى شره، ويعطى من الزكاة؛ ليكف شره عن المسلمين: كأبي سفيان وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، ويقال: إن هؤلاء أسلموا في فتح مكة قبل أن يعطيهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من حنين، فهم داخلون في القسم الثاني من المسلمين.
والإمام الشافعي قال: لا تعطى الزكاة إلى المؤلفة قلوبهم إلا إذا كانوا مسلمين، فلا تعطى لكافر.
أما الفاسق فلا مانع من إعطائه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بانتشار الإسلام، كما فعل عمر (رضي الله عنه) فلا تعطى الزكاة لأحد منهم مسلما كان أو كافرا.(1/611)
والمختار الآن: عدم إعطاء الكفار من هذا السهم لدفع شرهم، وإن جاز إعطاؤهم من سهم سبيل الله؛ لأنه جهاد، والجهاد وسائله كثيرة منها: المال.
والله أعلم .(1/612)
س:الزكاة عبادة من العبادات. هل يشترط فيها النية ؟
لابد من النية عند إخراج الزكاة؛ لأنها عبادة، والحديث يقول: "إنما الأعمال بالنيات". وهذه النية تكون عند أداء الزكاة يعني: عند إعطائها لمن يستحقها، وذلك عند مالك والشافعي.
وتكون عند أبي حنيفة عند الأداء، أو عند عزلها، وقبل توزيعها.
وجوز أحمد تقديم النية على الأداء بزمن يسير، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية فقد يكون في ذلك جرح لشعور البعض ممن يأخذونها.
والله أعلم .(1/613)
س:وهذا رجل يقول: قال الله (تعالى) بسم الله الرحمن الرحيم { يمحق الله الربا ويربي الصدقات }. والله (تعالى) صادق في قوله، وعندي عشرة آلاف جنيه، وبعد عشر سنوات من إخراج الزكاة ستنقص ألفان وخمسمائة من الجنيهات. فكيف يستقيم هذا مع قول الله (تعالى) ومع رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في حديثه الذي يقول فيه: "ما نقص مال من صدقة" ؟
حديث: "ما نقص مال من صدقة". لا يتعارض أبدا مع نقص المال ماديا عندما نأخذ منه الزكاة، فإن كان النقصان ماديا، فإن الزكاة تجبره معنويا، وذلك بالبركة بناء على قوله ـ تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}.
والإخلاف إما في الدنيا بمثل قناعة: النفس، وحفظ المال من السرقة، أو الهلاك بالآفات وغيرها، وإما بتيسير الإنفاق على المال، وعلى تكاليفه كحديث مسلم: "للرجل الذي يخرج ثلث حديقته صدقة، فكافأه الله بسوق السحاب الممطر لري حديقته دون جهد كبير في الحصول على الماء، وإما في الآخرة بالثواب العظيم كما جاء في بعض الأحاديث: "أن الله يتقبلها بيمينه ويربيها كما يربي الإنسان مهره، وتكون كالجبل في كبرها وعظمها".
وهذه النصوص يراد منها الترغيب في عمل الخير، وهي صادقة، لأن وعد الله حق، ومن أصدق من الله حديثا.
والله أعلم .(1/614)
س:نقرأ في كتب الفقه أن: الزكاة يقدر نصابها بالمكاييل والأوزان القديمة. فهل يمكن لنا أن نقدر ذلك بالمعايير الحديثة ؟
في حديث رواه البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "ليس فيما هو أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا فيما هو أقل من خمسة من الإبل الزود صدقة، ولا هو فيما أقل من خمس أواق من الورق صدقة، والزود من الإبل: ما بين ثلاث إلى العشر.
وفى حديث رواه البخاري، وغيره أن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: "فرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير الأوسق جمع: وسق، والوسق ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بالرطل العراقي وهو مائة وثلاثون درهما، فيكون المد: مائة وأربعة وسبعين ردهما، ويكون الصاع بالدراهم ستمائة وستة وتسعين درهما، والصاع يقدر بالكيلو جرام، هكذا. الصاع يساوي ستمائة وستة وتسعين درهما، والكيلو جرام تساوي: ثلاثمائة وأربعا وعشرين درهما، وبقسمة دراهم الصاع وهي: ستمائة وست وتسعون على دراهم الكيلو جرام، وهي: ثلاثمائة وأربعة وعشرون يساوي الصاع: اثنين من الكيلو جرامات، وثمانية وأربعين درهما أي: أربع أوقيات، والوسق: ستون صاعا في اثنين من الكيلو جرامات، وأربع أوقيات فيكون الوسق: مائة وتسعة وعشرين كيلو جراما تقريبا، والنصاب وهو خمسة أوسق يضرب في مائة وتسعة وعشرين كيلو جراما، فيكون ستمائة وخمسة وأربعين كيلو جراما.
وهذا هو الذي عليه العمل الآن بمصر بالنسبة لغالب الحبوب: كالقمح.
وتقدير النصاب بالتقدير المصري هو: خمسون كيلة أي: أربعة أرادب وكيلتان، وبالنسبة للنقود المعبر عنها في الحديث بالورق أي: الفضة وهي تقدر بالدراهم، فالنصاب خمس أواق، والأوقية: أربعون درهما، كما ثبت في كتب السنة، فيكون النصاب: مائتي درهم أي: حوالي ستمائة جرام.
وجاء في بعض التقديرات أنه: ستمائة وأربعة وعشرون جراما، هذا في نصاب الفضة.(1/615)
أما نصاب الذهب فهو: عشرون مثقالا يساوي بالجرامات حوالي: خمسة وثمانين جراما، وهذا التقدير تقريبي، وذلك لكثرة الاختلاف بين الأوزان في البلاد، وعلى سواري العصور.
وقد جاء في بعض التقديرات أنه: سبعة وثمانون جراما، والفروق البسيطة في الوزن أو الكيل ينبغي أن يؤخذ فيها بالأحوط؛ ليطمئن الإنسان على إبراء ذمته من هذه الحقوق التي كثر الوعيد في عدم الوفاء بها.
والله أعلم .(1/616)
س:وهل من الممكن أن توجه أموال الزكاة لتصرف في مصارف أخرى مثل: بناء المساجد والمستشفيات والمدارس وخلافه ؟
المتفق عليه بين الفقهاء أن: سبيل الله هو الجهاد، وذلك من مصارف الزكاة، مع الاختلاف في اشتراط الفقر وعدمه، وفى تمليكها للشخص أو عدم تمليكه، وفى قصرها على المتطوعين، أو تعميمها على جميع المجاهدين.
هناك بعض العلماء توسعوا في معنى: سبيل الله؛ ليشمل جميع أنواع القربات منهم: الفخر الرازي حيث نقل عن القفان في تفسيره: أن بعض الفقهاء أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه البر من: تدفين الموتى وعمارة المساجد، وغيرها.
ولم يعين من هم هؤلاء الفقهاء المجيزيون، وإن كان لا يوصف بالفقيه إلا المجتهد.
ونسب ابن قدامة في كتابه: (المغني) هذا الرأي إلى أنس بن مالك، والحسن البصري، ولكن المحققين بينوا أن هذه النسبة خطأ.
ومن المتوسعين في سبيل الله: السيد صديق حسن خان في كتاب: (الروضة الندية) الذي يقول: ليس هناك دليل على تخصيص سبيل الله بالجهاد، فليبقى على معناه اللغوي واسعا، وكونه انصرف إلى الجهاد في العهود الأولى، لا يمنع من شموله لكل ما يوصل إلى رضاء الله، من أنواع القربات، ومال إلى هذا الرأي جمع من العلماء المتأخرين والمعاصرين.
وعلى هذا الرأي يجوز صرف جزء من الزكاة في بناء المساجد، والمعاهد وتحفيظ القرآن، وإيواء اللاجئين، ونشر الثقافة الدينية، وفى كل عمل يعز الإسلام ويقوي شوكة المسلمين، ويدفع عنهم غائلة الاستعمار والسيطرة بأي شكل من الأشكال.
والله أعلم .(1/617)
س:وهل يصح أن يعطي المسلم زكاته لأخته الأرملة، أو لزواج أحد أقاربه الفقراء؟
الزكاة للأخت الأرملة الفقيرة جائزة، بل هي أولى من الفقير الغريب؛ لأنها صدقة أي: زكاة وصلة رحم، وذلك على رأي الجمهور، لأن الأخت عندهم لا تجب نفقتها على الأخ، فتأخذ منه الزكاة.
أما دفع الزكاة للزواج، فلا يجوز لا للقريب، ولا للبعيد، كما قال المحققون؛ لأن الزواج ليس ضروريا في كل الأحوال، بل هو مستحب لمن يستطيعه، كما في حديث الصحيحين: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".
والله (سبحانه وتعالى) قال: { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله }.
لكن لو تعين الزواج على شخص ليعصمه من المنكر؛ وجب أن يتزوج بقدر يناسب وضعه الذي هو فيه ما دام يقصد الخير من العفة، والشرف، ولا يعجب أي مجتمع أن يكون فيه من يحقق له رغبته.
أما الزواج في هذه الأيام ـ بالذات ـ الذي أخذ صورة مظهرية أكثر منها أدبية ودينية، فلا يجوز أن توجه الزكاة إليه أبدا.
والله أعلم .(1/618)
س:وهذا رجل يسأل ويقول: أبي وأمي فقيران، وقد أصبحت ميسور الحال. هل يصح أن أعطيهما زكاة أموالي ؟
لا يجوز أبدا أن يعطي الإنسان زكاته لأبيه ولا لأمه، ولا للأصول وإن علت، ذلك أن نفقتهم واجبة عليه، وكل من وجبت على الإنسان نفقته، لا يجوز أن يعطيه من الزكاة؛ لأن الواجب عليه أن يجعلهم أغنياء غير محتاجين إليها ولا مستحقين، وبخاصة أنه يقول: إنه ميسور الحال، وهذا أمر اتفق عليه جميع الفقهاء، واستثنى مالك الجد والجدة فقط، فأجاز دفع الزكاة لهما لسقوط نفقتهما عنه في رأيه، ومنع دفع الزكاة للوالدين مرتبط بالفقر، فإن كانوا من الغزاة المجاهدين في سبيل الله فله أن يعطيهم من سبيل الله حتى لو كانوا أغنياء، وكذلك إذا كانوا غارمين، لأنه لا يجب عليه أداء ديونهم فيعطيهم من الزكاة.
والله أعلم .(1/619)
س:إذا رزقني الله (تعالى) مالا وأصبحت ميسور الحال، وقبل حلول وقت إخراج الزكاة، وجدت من يستحق الصدقة. فهل يجوز لي أن أخرج الزكاة قبل وقت وجوبها ؟
ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد إلى جواز إخراج الزكاة قبل وقت وجبوها، وهو: الحول في النقود، والتجارة، والأنعام.
والدليل على ذلك: ما ورد عن علي (رضي الله عنه) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استسلف صدقة العباس قبل محلها، وإن كان في السند ما قال.
وسئل الحسن عن رجل أخرج ثلاث سنين هل يجزيه؟ قال: يجزيه.
وعن الزهري أنه كان لا يرى بأسا أن يعجل الإنسان زكاته قبل الحول.
وقال مالك: لا يجزي إخراجها حتى يحول الحول.
وقال بذلك ربيعة، وسفيان الثوري، وداود.
وسبب الخلاف: هل الزكاة عبادة، أو حق للمساكين؟ فمن قال: إنها عبادة، وشبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالحقوق الواجبة الموجلة أي: التي لها أجل أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع، ومثل الزكاة العامة: زكاة الفطر، فالجمهور على جواز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين، كما كان يفعل عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما).
وأما قبل ذلك ففيه خلاف: فعند أبي حنيفة: يجوز إخراجها قبل شهر رمضان. وعند الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان.
أما عند مالك وأحمد: فلا يجوز إلا قبل العيد بيوم أو يومين.
وعلى هذا نقول: لا مانع من التعجيل بإخراج الزكاة قبل وقت وجوبها؛ تيسيرا لمصالح المسلمين.
والله أعلم .(1/620)
س:وهل يجوز إخراج الزكاة لمسلمين محتاجين في قطر آخر غير القطر الذي يعيش فيه المزكي ؟
روى الجماعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له فيما قال: "فإن هم أطاعوك، فأعلمهم أن الله (تعالى) افتفرض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد إلى فقرائهم".
وروى أبو داود وابن ماجة عن عمران بن حصين: "أنه استعمل على الصدقة، فلما رجعت قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ووضعناه حيث كنا نضعه".
وروى الترمذي وحسنه أن أبا جحيفة قال: "قدم علينا مصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي: عامله على الصدقة، فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا".
استدل الفقهاء بهذه المرويات على أنه: يشرع صرف زكاة كل بلد في فقراء أهل هذا البلد، واختلفوا في نقلها إلى بلد آخر، بعد إجماعهم على أنه: يجوز نقلها إلى من يستحقها إذا استغنى أهل بلد الزكاة عنها.
قال الحنفية: يكره نقلها، إلا إذا كان النقل إلى قرابة محتاجين، لأن في ذلك صلة رحم، أو إلى جماعة هم أشد حاجة من فقراء البلد، أو كان النقل أصلح للمسلمين، أو كان من دار حرب إلى دار إسلام، أو كان النقل إلى طالب علم، أو كانت الزكاة معجلة قبل أوان وجوبها، وهو تمام الحول، ففي جميع هذه الصور: لا يكره النقل.
أما الشافعية قالوا: لا يجوز نقل الزكاة من بلد فيه مستحقون إلى بلد آخر، بل يجب صرفها في البلد التي وجبت فيها على المزكي في تمام الحول، فإذا لم يوجد مستحقون؛ نقلت إلى بلد فيه مستحقون، وحجتهم في ذلك حديث معاذ المذكور.
والمالكية لا يجيزون نقلها إلى بلد آخر إلا إذا وقعت به حاجة؛ فيأخذها الإمام ويدفعها إلى المحتاجين، وذلك على سبيل النظر والاجتهاد كما يعبرون.(1/621)
والحنابلة لا يجيزون نقلها إلى بلد يبعد مسافة القصر، بل تصرف في البلد الذي وجبت فيه، وما يجاوره فيما دون مسافة القصر.
يقول ابن قدامة الحنبلي: إن خالف ونقلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم، وإذا كان الشخص في بلد وماله في بلد آخر صرفت في بلد المال؛ لامتداد نظر المستحقين إليه، ولو تفرق ماله في عدة بلاد؛ أدى زكاة كل مال في بلده، وهذا الحكم في زكاة المال.
أما في زكاة الفطر، فتوزع في البلد التي وجد فيها المزكي حين وجبت عليه؛ لأنها زكاة عن شخصه لا عن ماله.
ومن هنا أقول إجابة على السؤال: إذا وجد مستحق للزكاة في البلد الذي يعيش فيه؛ صرفت إليه على رأي جمهور الفقهاء، ولا يجوز نقلها إلى أقاربه المحتاجين.
أما أبو حنيفة، فيجيز النقل للمبررات المذكورة ومنها: صلة الرحم، أو شدة الحاجة، ولا مانع من الأخذ برأيه فهو ينظر إلى المصلحة الراجحة.
والله أعلم .(1/622)
س: رجل يقول: الحمد لله حالي ميسور، ويلجأ إلي كثير من الناس؛للاقتراض مني، فأقرضهم، و قد يتقاعس أحدهم في السداد، والبعض الآخر لا يسدد، وبعض القروض، وكلها بدون فائدة يكون سدادها بعد عدة سنوات. فهل هذه الأموال عليها زكاة ؟
الدين الذي للإنسان على غيره له حالتان:
الأولى: أن يكون المدين معترفا بالدين، وباذلا له، وفيه عدة آراء:
الرأي الأول: رأي الأحناف والحنابلة أن: على الدائن ـ وهو صاحب المال ـ عليه الزكاة، إلا أنه لا يلزمه إخراجها؛ حتى يقبض هذا الدين، فيؤدي الزكاة عن كل السنوات التي مضت.
والرأي الثاني: يلزمه إخراج الزكاة كل عام، وإن لم يقبض الدين، وهو مذهب الشافعي.
والرأي الثالث: لا زكاة على الدين؛ لأن ملكيته غير تامة، وهو رأي بعض السلف.
والرأي الرابع: أنه يزكيه إذا قبضه ولكن عن سنة واحدة، كما قال سعيد بن مسيب وعطاء بن أبي رباح هذه هي الحالة الأولى.
أما الحالة الثانية للدين: أن يكون الدين على معسر، أو جاحد أو مماطل.
فقيل: لا تجب فيه الزكاة، وهو رأي الحنفية؛ لأنه مال غير مقدور على الانتفاع به.
وقيل: يزكيه إذا قبضه كالدين على الموسر، وهو رأي للشافعي.
وله رأي كرأي الحنفية: لا زكاة عليه.
وقيل: يزكيه إذا قبضه، وذلك لعام واحد فقط. وعليه المالكية.
ولكل أن يختار ما يشاء من هذه الآراء.
والله أعلم .(1/623)
س:رجل يقول: جار لي مدين وتراكمت عليه الديون. هل يصح أن نساعده من مال الزكاة في سداد دينه ؟
قال الله (تعالى) في مصارف الزكاة:{ والغارمين }.
يقول القرطبي عنهم: هم الذين ركبهم الدين، ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه اللهم إلا من ادان في سفاهة، فإنه لا يعطى منها، و لا من غيرها، إلا أن يتوب.
ويعطى منها من له مال، وعليه دين محيط به، ويعطي ما يقضي به دينه يعني: دين مستغرق لما يملكه، فإن لم يكن له مال، وعليه دين، فهو فقير وغارم، فيعطى بالوصفين.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم): "تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول (صلى الله عليه وسلم ) لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك".
ويجوز لمن تحمل مالا في إصلاح وصلاح أن يعطى من الصدقة ما تحمل به إذا وجب عليه، حتى لو كان غنيا، إذا كان ذلك يجحف بماله كالغريب، واختلفوا هل يقضى منها دين الميت أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا، ولا يعطى منها من عليه كفارة، ونحو ذلك من حقوق الله، وإنما الغارم: من عليه دين يسجن فيه.
وقال علماؤنا وغيرهم: يقضى من الزكاة دين الميت؛ لأنه من الغارمين قال (صلى الله عليه وسلم ): "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا يعنى: عيالا فإلي وعلي".
الماوردي في كتابه: (الأحوال السلطانية) قال: إن الغارمين صنفان: صنف منهم استدانوا في مصالح أنفسهم، فيدفع إليهم مع الفقر دون الغنى، يدفع إليهم ما يقضون به ديونهم، وصنف منهم استدانوا في مصالح المسلمين، فيدفع إليهم مع الفقر والغني، يدفع إليهم قدر ديونهم من غير فضل، ولا زيادة.
والله أعلم .(1/624)
س:وإذا كان على هذا المدين للسائل مال و أسقطه عنه. فهل يصح أن يحسب هذا من الزكاة ؟
يقول النووي في كتابه: (المجموع) لو كان على رجل معسر دين فأراد الدائن أن يجعله من زكاته وقال له: جعلته عن زكاتي، فهناك وجهان صحيحان:
أصحهما: أنه لا يجزئه، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة؛لأن الزكاة في ذمة صاحبها فلا يبرأ إلا بإقباضها.
والوجه الثاني: يجزئه، وهو مذهب الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه؛ جاز، فكذلك إذا لم يقبضه، كما لو كانت له دراهم وديعة ودفعها عن الزكاة، فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لم يقبضها، وإذا دفع إليه الزكاة، وشرط عليه أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع، ولا تسقط الزكاة، ولا يصح قضاء الدين بذلك، لكن لو نويا ذلك، ولم يشترطاه؛ جاز وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برئ منه.
هذه هي الصورة من الصور التي اختلف فيها الفقهاء، وعلى ذلك يمكن أن نختار الرأي الذي يقول: إسقاط الدين عن المدين يمكن أن يكون من الزكاة.
والله أعلم .(1/625)
س:هل يجوز للحاكم أو ولي الأمر أن يجمع أموال الزكاة ويدفعها إلى الأعداء نظير الإفراج عن جنود المسلمين من أسرى الحرب، أو تسديد ديون على بلده، أو شراء مستلزمات ضرورية للشعب ؟
كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأمر بجباية الزكاة، ويقوم بتوزيعها في مصارفها. وفعل ذلك أبو بكر وعمر من بعده.
ثم رئي أن يتولى كل إنسان إخراج زكاة أمواله الباطنة وأن يوزعها بنفسه على المصارف الثمانية المعروفة التي منها سبيل الله، وسبيل الله وإن كان العلماء السابقون قد قصروه على الجهاد في سبيل الله، بنشر الدين وحماية المقدسات، فقد رأى العلماء المحدثون سعة مجاله، وتعدد ميادينه تبعا لتطور الظروف؛ ليشمل كل خير تعم منفعته المسلمين.
والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها: فداء الأسرى على التفسير القديم، والحديث فهم داخلون في سبيل الله، أو هذا العمل داخل في سبيل الله؛ لأنه مرتبط بالجهاد الذي يدفع به العدو عن الوطن، فلا مانع من دفع حصة من الزكاة من أجل ذلك، ومن أجل الأعمال الأخرى التي فيها تقوية للمسلمين ضد غيرهم، حتى ينعموا بحريتهم واستقلالهم.
والله أعلم .(1/626)
س:رجل يقول: مر بي أكثر من سائل، فظننت أنهم من المحتاجين؛ فدفعت لهم قسطا كبيرا من زكاتي، ثم تبين لي بعد ذلك أنهم من محترفي التسول، ويملكون مالا كثيرا. فهل زكاتي عليهم صحيحة، أم أدفع ما دفعته لهم مرة أخرى ؟
جاء في حديث رواه البخاري: "أن معن بن الصحابي يزيد أخذ صدقة أبيه، وكان أبوه ينوي إعطاءها لغيره، فالرسول (عليه الصلاة والسلام) قال: لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن".
وكذلك حديث الصحيحين في من ظهر أن صدقته وقعت في يد سارق ويد زانية، ويد غني وأن الله (سبحانه وتعالى) تقبلها، وإذا حمل ذلك على صدقة التطوع، وهي النافلة فهل يصدق هذا على الزكاة الواجبة، إذا ظهر أنها وقعت في غير موقعها.
جاء في كتاب: (المغني) لابن قدامة قوله: وإذا أعطى من يظنه فقيرا فظهر أنه غني، فعن أحمد فيه روايتان إحداهما: يجزئه وذكر أنه مذهب أبي حنيفة، واستشهد بحديث رواه النسائي، وأبو داود أن رجلين طلبا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صدقة مما كان يوزعه في حجة الوداع، فرآهما قويين، فقال لهما: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ لغني ولا لقوي مكتسب، قال الخطابي: هذا الحديث أصل في أن من لم يعلم له مال، فأمره محمول على العدم.
كما استشهد بحديث الصحيحين بالرجل الذي تصدق، فظهر أن المتصدق عليه غني، وتحدث الناس بذلك، وأن الرسول أخبره أن صدقته قبلت لعل الغني يعتبر.
فالرواية الثانية لأحمد وهي لا تجزئ وهو قول أبي يوسف.
وأما الشافعي فله قولان: كالروايتين الواردتين عن أحمد وذكر ابن قدامة تعليلا للرواية بالجواز: أن الفقر والغنى مما يعسر الاطلاع عليه، والمعرفة بحقيقته.
قال الله ـ تعالى:{ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم } فاكتفي بظهور الفقر ودعواه، وأقول في جواب هذا السؤال: الزكاة وقعت موقعها على رأي أبي حنيفة، وعلى أحد قولين لأحمد والإمام الشافعي.
والله أعلم.(1/627)
س:وقد يمر على هذا المبلغ سنة أو أكثر دون أن يقدم منه شيء. فهل أخرج الزكاة عنه، مع العلم أنني لا أملكه ولكني مؤتمن عليه ؟
لا زكاة على هذا المال؛ لأنه ليس مملوكا لمن وضع أمانة عنده.
والله أعلم.(1/628)
س:لي صديق يهوى جمع العملات المختلفة: القديمة منها والحديثة، وإذا أحصينا ما عنده؛ نجده مبلغا كبيرا من المال من عملات شتى. هل مجموع ما عنده يستحق الزكاة ؟
إذا بلغ مجموع هذه النقود النصاب المعروف؛ وجبت عليه الزكاة، ولا ضرر أبدا في اختلاف هذه العملات، فكلها مال مملوك لصحابه، فيزكى زكاة النقدين وهو: ربع العشر في آخر العام.
والله أعلم.(1/629)
س:إذا كان لي جار فقير ويستحق الزكاة، لكنه لا يصلي. هل يصح أن أدفع له من الزكاة أو أتصدق عليه ؟
وجه هذا السؤال، وذكرت إجابته في فتاوى الإمام النووي عن المسألة 104: فقال: إن كان بالغا تاركا للصلاة واستمر على ذلك إلى حين دفع الزكاة لم يجب دفعها إليه؛ لأنه محجور عليه بالسفه، فلا يصح قبضه، ولكن يجوز دفعها إلى وليه؛ فيقبضها لهذا السفيه، وإن كان بلغ مصليا رشيدا، ثم طرأ ترك الصلاة، ولم يحجر القاضي عليه؛ جاز دفعها إليه، وصح قبضه لنفسه، كما تصح جميع تصرفاته.
هذا ما جاء في فتوى للإمام النووي، لكن هذا الحكم فيمن ترك الصلاة كسلا وهو معتقد وجوبها عليه.
أما من تركها عمدا جاحدا لوجوبها، فهو كافر، والكافر لا يعطى من الزكاة، ومهما يكن من شيء فإن دفع الزكاة للفقير المستقيم المواظب على الصلاة والطاعة أولى من دفعها إلى غير المستقيم، وذلك تشجيعا على الطاعة، ومقاومة للعصيان.
والله أعلم .(1/630)
س:هل الضمان الاجتماعي، أو المعاش الذي يعطي للعامل أو الموظف بعد بلوغه سن التقاعد يعتبر زكاة تدفعها له الدولة، وإذا كانت زكاة، فهل يأخذه ميسور الحال، وخاصة أنه لم يحدث ذلك في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو في عهد الخلفاء الراشدين ؟
يجب أن نعلم أنه لا زكاة تجب على الدولة لأحد، وإنما هي بين الأفراد بعضهم مع بعض وإن كان الوالي له أن يجمعها، ويوزعها على مصارفها، ولكن ذلك لا يوجد الآن في كثير من البلاد الإسلامية، والمعاش وغيره مساعدة، أو مكافأة من الدولة للموظف، سواء أكان ميسور الحال، أو محتاجا، فإذا أخذه؛ صار ملكا له، ويجري عليها ما يجري على زكاة المال، فإن مر على ملكه له حول أي: سنة، وبلغ النصاب؛ وجبت فيه الزكاة.
وكانت هناك في أيام الخلفاء الراشدين أموال من خزينة الدولة الآتية من الغنائم، والفيء، وغير ذلك تعطى لشخصيات فيهم مواصفات يستحقون بها ذلك، لكنها لا تعتبر زكاة واجبة على الدولة.
والله أعلم .(1/631)
س:هذا فيما عداها ما عدا قوله ـ تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}.
وقد رأى الأئمة الثلاثة عدم وجوب الزكاة في غير ما حدده بخصوصه القرآن والسنة، وحملوا هذه الآية على الانفاق العام الذي يدخل فيه صدقة التطوع، والأمر فيها للإرشاد، والاستحباب أو منصب على اختيار الصالح، والجيد بدليل مقابلته بالنهي عن الإنفاق من الخبيث بأسلوب قوي مؤثر {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }. والصدقة من الطيب المحبوب للنفس فيها جهاد للنفس، وإيثار للغير، وإن كان الإنسان آخذا شيئا من الغير لا يقبل إلا الطيب منه.
أما الرديء فلا يقبله إلا مع امتعاض، وعند شدة الحاجة إليه، والإيمان الصادق يدفع إلى أن يحب الإنسان للناس ما يحبه لنفسه.
أما الإمام أبو حنيفة فقد أخذ بظاهر العموم في الآية، وأوجب الزكاة في كل ما ينبت في الأرض، حتى الخضر وذلك من غير قيد بالأنواع الواردة في الحديث كما أوجبها في كل ما يكتسبه الإنسان من وجوه الحلال.
وعلى هذا تجب الزكاة عنده في عائد الممتلكات من العمارات والسيارات، وفى الرواتب والأجور، ولو وجبت الزكاة اشترط فيها الحول والزيادة عن الحاجة، كما اشترطه في زكاة المال، فلو استغلت العمارات والسيارات للتجارة ـ مثلا ـ وجبت فيها زكاة التجارة، ولو استغلت في الإيجار ونتج عن ذلك مال مدخر فائض وحال عليه الحول، وجبت الزكاة باتفاق الأئمة؛ لأنها زكاة كالنقدين هذا في الوجوب.
أما التطوع بالصدقة، وأما شكر الله على النعم، فلا حد لنصابه، ولا لقدره ولا لزمنه، بل إن ميدان البر يتسع، فيتجاوز حدود المال، كما صح في الحديث "تعدل بين اثنين صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وكل معروف صدقة".(1/632)
والخلاصة أن الراتب عند جمهور الفقهاء لا زكاة عليه إلا إذا جمعت قدر كبير يصل إلى النصاب، وحال عليه الحول هنا تجب الزكاة.
أما الصدقة بمعناها العام فإنها مشروعة في أي جزء من المال يملكه الإنسان.
والله أعلم .(1/633)
س:وهذه سيدة أخرى تقول: أخذت صداقي بالكامل، وكان عندي مال يقل عن النصاب، فضممت الصداق إليه، فأصبح أكثر من النصاب. فهل عليه زكاة ؟
الصداق: مال تملكه الزوجة ملكا تاما، فيضم إلى مالها، وإذا بلغ المجموع نصابا: وهو ثمن حوالي خمسة وثمانين جراما من الذهب، وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة وهي: ربع العشر.
والله أعلم .(1/634)
س:وبالنسبة لحلي المرأة. هل تجب الزكاة فيه، وما مقدارها ؟
إذا تحلت المرأة بأي نوع من أنواع الحلي غير الذهب والفضة، فلا زكاة عليه مهما بلغ قدره ما دام متخذا للحلية لا للتجارة، وذلك كالماس واللؤلؤ، وهذا باتفاق الفقهاء.
أما حلية الذهب والفضة، ففي حكم الزكاة فيها خلاف، فذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة فيما يبلغ نصابا، وحال عليه الحول، وهو من الذهب حوالي: خمسة وثمانين جراما، ومن الفضة حوالي: ستمائة جراما، وذلك لعموم الأدلة الواردة بالذهب والفضة، ولأحاديث خاصة بالحلي.
ومن هذه الأحاديث: "أن امرأتين جاءتا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي أيديهما سوران من ذهب فقال لهما: أتحبان أن يسوركما الله يوم القيامة أساور من نار؟ قالتا: لا قال: فأديا حق هذا الذي في أيديكما". رواه الترمذي والدارقطني وأحمد وأبو داود بألفاظ متقاربة.
وعن أسماء بنت يزيد قالت: "دخلت أنا وخالتي على النبي ( صلى الله عليه وسلم) وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته؟ قالت: فقلنا: لا. قال: أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار أديا زكاته". رواه أحمد بإسناد حسن.
وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "دخل علي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرأى في يدي فتخات من ورق ـ خواتم كبار من الفضة ـ فقال لي: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا. أو ما شاء الله قال: هي حسبك من النار". رواه أبو داود والدارقطني. والمعنى: لو لم تعذبي في النار إلا من أجل عدم زكاته لكفى.
وذهب الشافعي إلى عدم وجوب الزكاة في حلي المرأة المعد للاستعمال، إذا كان حد المعقول أي: لا إسراف فيه، وتحمل الأحاديث السابقة على ما كان فيه إسراف.
لكن الإمام مالكا قال: لعدم وجوب الزكاة فيه مهما بلغ قدره، على شرط أن يكون معدا لاستعمالها أي: ليس معدا لنوائب الدهر، ولا لحلية بنتها عندما تتزوج، ولا للتجارة.(1/635)
والدليل على ذلك عند مالك ما رواه البيهقي عن أن "جابر بن عبد الله سئل عن الحلي أفيه زكاة؟قال:لا،وإن كان يبلغ ألف دينار فقال جابر: أكثر".
وروى البيهقي أيضا أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحلي بناتها بالذهب، ولا تزكيه نحوا من خمسين ألفا.
وروى مالك في الموطأ أن عائشة كانت تلي بنات أخيها .(1/636)
س:فمتى شرعت زكاة الفطر، وما مقدارها ؟
شرعت زكاة الفطر في السنة الثانية من الهجرة مع فرض صيام رمضان، وقد روى البخاري، وغيره عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: "فرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد، والحر والذكر، والأنثى والصغير، والكبير من المسلمين.
كما روى أبو داود وابن ماجة أن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: "فرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
وهي واجبة على الإنسان، وعن نفسه، وعن كل من تلزمه نفقته إذا كان عنده من المال ما يخرجه زائدا عن حاجاته في يوم العيد، وليلته.
وعند أبي حنيفة: لا تجب زكاة الفطر إلا إذا كان مالكا للنصاب.
وأما مقدارها فهو: نصف صاع من القمح عن كل فرد عند أبي حنيفة.
أما من الأصناف الأخرى، فصاع كامل، وهو: قدحان، وثلث القدح، وعند الشافعية، صاع من أي صنف من الأقوات، وهو قدحان.
وعند المالكية: صاع أيضا، لكن مقداره عندهم قدح وثلث القدح بالكيل المصري، فتكفي الكيلة عن ستة أشخاص.
ورأي الجمهور في كونها صاعا من أي قوت أقوى من رأي أبي حنيفة في المفاضلة بين القمح، وغيره، فإن معاوية هو الذي قال عند قدومه من الشام إلى الحجاز إني أرى أن مدين من سمراء الشام أي القمح تعدل صاعا من تمر فأخذ بعض الناس برأيه.
لكن الأكثرين بقوا على ما كان عليه أيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رواه الجماعة عن أبي سعيد الخدري.
ولا مانع من الأخذ برأي أبي حنيفة في إخراج القيمة مع مراعاة عدم التقيد بالسعر الرسمي، فإن الفقير ربما لا يستطيع أن يحصل على القوت بهذا السعر، فيؤخذ بالسعر العادي الجاري بين الناس، وكلما زاد عليه كان أفضل. هذا.(1/637)
والصاع يساوي: اثنين من الكيلو جرامات، وثمانية وأربعين درهما أي: أربع أوقيات.
والله أعلم .(1/638)
س:وما الحكمة من مشروعية زكاة الفطر ؟
مشروعية زكاة الفطر أشار إليها الحديث الثاني فهي تتمثل في فائدتين:
فائدة تعود على المزكي، وفائدة تعود على من يأخذون الزكاة.
أما الأولى: فهي تطهير الصائم عما عساه يقول: قد وقع فيه مما يتنافى مع حكمة الصوم وآدابه: كالسباب، والنظر المحرم، والغيبة والتمتع ما دون الاتصال الجنسي حتى من زوجته كاللمس، والقبلة.
وقليل من الناس من يسلم له صومه من كل المآخذ، فتكون زكاة الفطر بمثابة جبر لهذا النقص، أو بمثابة تكفير له إلى جانب المكفرات الأخرى: من الاستغفار والذكر والصلاة، وغيرها.
وهي في الوقت نفسه برهان على أن المزكي استفاد من دروس الجوع والعطش، واستفاد رحمة لمن يعانون منهما من الفقراء والمساكين، فقد قاسى كما يقاسون، وهنا لا يجوز له أن يقسوا وتجمد عاطفته عندما يرى غيره ممن لا يجدوا ما يسد به جوعه أو يطفئ ظمأه، يسأله شيئا من فضل الله عليه، وكأن هذه الزكاة، وهي رمز المتواضع، بمثابة الرمز المفروض على الصائم؛ ليتسلم جائزة التقدير من الله يوم القيامة وذلك التقدير وهذه الجائزة تكون في يوم العيد، كما جاء في حديث ابن عباس بسند مقبول بمثل هذه المواطن، حيث يشهد الله (تعالى) ملائكته على رضائه وعلى مغفرته لعباده جزاء صيام رمضان وقيام لياليه، ومن قسا قلبه ولم يخرجها على الرغم من يسرها، دل أنه لم يستفد من دروس الصيام رحمة، وكان صيامه صياما شكليا قد يكون مرغما عليه حياء لا من الله، ولكن من الناس وهو عمل مرفوض مردود عليه، وذلك ما يشير إليه الحديث الذي رواه أبو حفص بن شاهين في فضائل رمضان وقال: إنه حديث جيد الإسناد، هذا الحديث هو: "صوم شهر رمضان معلق بين السماء والأرض ولا يرفع إلا بزكاة الفطر".(1/639)
وأما الفائدة الثانية من زكاة الفطر فهي للمحتاجين إلى المعونة وبخاصة في يوم العيد؛ كي يشعروا بالفرح والسرور كما يفرح غيرهم من الناس، ولذلك كان من الأوقات المتخيرة لإخراج زكاة الفطر كان صبيحة يوم العيد، وقبل الاجتماع للصلاة حتى يستقبل الجميع يومهم مسرورين، وحتى لا يحتاج الفقراء من التطواف على أبواب الأغنياء؛ ليعطوهم ما يشعرهم ببهجة هذا اليوم، وقد جاء ذلك في حديث رواه البيهقي والدارقطني: "أغنوهم عن طواف هذا اليوم".
ولهذه الفائدة التالية التي تتصل بأشعة الفرح والسرور والتخفيف على البائسين كانت الزكاة مفروضة حتى على من لم يصم شهر رمضان؛ لعذر أو لغير عذر فإن كان قد قصر في واجب، فلا يجوز أن يقصر في واجب آخر وإن كان قد حرم من الفائدة الخاصة للصيام، فلا يجوز أن يؤثر ذلك على واجبه الاجتماعي.
والله أعلم .(1/640)
س:رجل يقول: أنا كثير السفر وقد تضطرني ظروف عملي أن أحضر العيد في بلد غير بلدي. فهل يجوز أن أخرج الزكاة لأهل البلد الذي أكون فيه ؟
يجوز إخراج زكاة الفطر من أول يوم من رمضان على ما رآه الشافعية، ويجوز أن تؤدى قبل يوم العيد بيوم أو يومين عند بعض الأئمة، بل يجوز ذلك قبل رمضان.
أخرج البخاري عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: فرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر إلى أن قال: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد، والأفضل إخراجها قبل صلاة العيد، كما روى البخاري ومسلم أن "رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة".
قال ابن عباس ومن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة.(1/641)
س:وما حكم من يضطر إلى إخراج زكاة الفطر مالا، وهل يجزئ المال عن إخراج الحبوب والطعام ؟
الزكاة واجبة في أصناف حددها القرآن والسنة، حدد أوعيتها كما حدد مقاديرها ومن أوعيتها: الإبل والغنم والبقر والزروع والثمار، فهل تخرج الزكاة من جنس هذه الأوعية، أو يجوز إخراج قيمتها نقدا أو من نوع آخر؟
جمهور الفقهاء على أن الزكاة تخرج من جنس المال المزكى، لكن أبا حنيفة أجاز إخراج القيمة بدل العين.
كما أجازه مالك في رواية، وكذلك الشافعي في قول له، وفى قول آخر هو مخير بين الإخراج من قيمتها، وبين الإخراج من عينها.
ومن الأدلة على ذلك: أن زكاة الإبل قد تخرج من غيرها، وهي الغنم ففي خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان كما هو معروف.
النص على جواز القيمة النقدية، أو نوع آخر في حديث البخاري: "من بلغت عنده من الإبل صدقة جزعة وليست عنده الجزعة وعنده الحقة فإنه يؤخذ منه وما استيسرتا من شاتين أو عشرين درهما.
والدارقطني وغيره روى أن معاذ بن جبل قال لأهل اليمن: اتوني بخميس أو لبيس، وهو نوع من القماش آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة، فإنه أيسر عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عندما قال في زكاة الفطر: "أغنوهم بالزكاة عن السؤال في هذا اليوم، أراد أن يغنوا بما يسد حاجتهم فأي شيء سد حاجتهم جاز.
هذه أدلة جواز إخراج القيمة بدل العين في الزكاة كما ذكرها القرطبي في تفسيره: فما استيسر من أي شيء بدل ما نص عليه، فلا مانع منه؛ لأنه صدقة خرجت من ماله لا تنقص عن قيمة ما نص عليه، وقد تكون القيمة أنفع للفقير أو من يستحق الزكاة.
وأجاز أبو حنيفة إخراج الزكاة من عين السلع وسائر الأموال.
بناء على هذه الأقوال أرى: أن تراعى المصلحة، والدين يسر وحيث توجد المصلحة فثم شرع الله، فلا مانع من إخراج زكاة الفطر نقودا بدل الحبوب.
والله أعلم .(1/642)
س:وهل يجوز للمزكي أن يوكل أحدا غيره في دفع الزكاة عنه، و هل يجوز أيضا للفقير أن يوكل غيره في أخذ الزكاة ؟
كل ذلك جائز، فلا مانع من توكيل أحد في دفع الزكاة للمستحقين، ولا في توكيل أحد لأخذ الزكاة؛ إذا كان مستحقا لها، حيث لا يوجد نص يمنع ذلك.
والله أعلم .(1/643)
س:هل يجوز لأهل المراعي والصحراء في زكاة الفطر أن يذبحوا من المواشي، ويوزعوا لحومها على الفقراء بدلا من الطعام والحبوب ؟
ما دام يوجد نص في نوع الزكاة التي تدفع بمناسبة العيد، وهو غالب قوت البلد: كالقمح والشعير والتمر، فلا يعدل عنه إلى طعام آخر، وإذا كان أبو حنيفة أجاز إخراج القيمة بدل الطعام؛ لأن الفقير يمكنه أن يشتري بالقيمة طعاما أو غيره، فإنه لا يجوز إخراج لحم بدل القوت الغالب، اللهم إن كان اللحم القوت الغالب لأهل هذه البادية، فلا مانع من إخراجه، كما قال مالك.
والله أعلم .(1/644)
س:تزوج مسلم من مسيحية، وله منها أولاد. هل يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عنها ؟
زكاة الفطر تجب على الرجل عن نفسه، وعن ما من تلزمه نفقتهم، ومنهم: الزوجة. والزوجة غير المسلمة، وإن وجبت على الزوج نفقة الزوجية لها باتفاق العلماء فإن إخراج زكاة الفطر عنها فيه خلاف:
فالجمهور من الأئمة وهم: مالك والشافعي وأحمد يرون: عدم وجوب إخراجها عنها؛ لأنها لم تجب عليها أصلا لعدم إسلامها، بناء على الرأي القائل: بأن الكافر غير مكلف بفروع الشريعة، وللحديث "فرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زكاة الفطر على كل حر وعبد وذكر وأنثى وصغير وكبير من المسلمين".
ولأن من حكم زكاة الفطر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، كما رواه أبو داود بإسناد حسن عن ابن عباس.
والكافر لم يصم، فلا معنى لتطهير الزكاة له، والقيد المذكور في الحديث، وهو من المسلمين يحتمل أن يقصد به المؤدى عنه، وليس المؤدي، فلا يجب على الرجل إخراج زكاة الفطر عن عبده غير المسلم مع وجوب نفقته عليه، وكذلك عن زوجته غير المسلمة.
ويرى أبو حنيفة وأصحاب الرأي إخراج الزكاة عن الابن الصغير، إذا ارتد مع مراعاة أن الردة تكون من المكلف البالغ، كما يخرجها عن عبده الذمي أي: غير المسلم، بناء على وجوب إنفاق الوالد على ولده الصغير، وإنفاق السيد على عبده، ورووا في ذلك حديث يقول: أدوا عن كل حر وعبد صغير، أو كبير يهودي أو نصراني أو ماجوسي نصف صاع من بر، ورد عليهم الجمهور برفض هذا الحديث حيث لم يذكره أصحاب الدواوين، وجامعو السنن، وقد يقال: إن زكاة الفطر إن لم تكن طهرة للصائم من اللغو والرفث، والكافر لم يصم، فهي طعمة للمساكين كما نص عليه حديث أبي داود، فتخرج عمن لم يصم كصاحب الأعذار، ومنهم الكفار كالزوجة، والعبد، لكن يرد عليهم بأن المسلم إذا لم يصم، ولو بغير عذر هو مكلف بأمرين: الصيام والزكاة، فإذا قصر في أحدهما طولب بالآخر.(1/645)
فالخلاصة أن الزكاة عن الزوجة غير المسلمة غير واجبة على رأي الجمهور وواجبة عند أبي حنيفة وأصحابه، ولكل أن يختار ما يشاء من الرأيين.
والله أعلم .(1/646)
س:سيدة تقول: زوجي مريض ويحتاج إلى علاج لا يملك نفقته. فهل يجوز لي أن أساعده على العلاج من زكاة مالي ؟
جاء في حديث البخاري أن: زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق به، فزعم زوجي ابن مسعود أنه: هو وولده أحق من تصدقت به عليهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) "صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم".
فإعطاء الزكاة للزوج جائز عند الشافعي، وأبي يوسف، ومحمد صاحبي أبي حنيفة، وعند أحمد بن حنبل في رواية.
أما أبو حنيفة فذهب إلى أنه: لا يجوز للزوجة أن تدفع لزوجها من زكاتها، وحمل حديث زينب على صدقة التطوع، لا على الزكاة المفروضة.
ومالك قال: إن كان الزوج يستعين بزكاة امرأته على نفقتها، فلا يجوز، أما إن كان يستعين بها على غير الإنفاق عليها، فيجوز.
ومن هنا نقول: ما دام الزوج يحتاج لنفقة، لعلاج نفسه؛ فيجوز أن يأخذ من زكاة زوجته عند الأئمة الثلاثة.
والله أعلم .(1/647)
س:وهل تجب زكاة في أوراق النقد، أو أوراق البنكنوت، والسندات، وإذا كانت الزكاة واجبة فيهما، فما نصابها، وما قيمة الزكاة ؟
تحدث العلماء عن الأوراق التي تحمل قيمة مالية، وقالوا: إنها سندات دين لحاملها، وهي ليست ذهبا ولا فضة ولا عروض تجارة، فهي من قبيل الدين القوي الذي تجب فيه الزكاة إذا بلغ نصابا، وحال عليه الحول، والورقة ضامنة لقيمتها عند أي شخص فعوملت معاملة النقدين في وجوب الزكاة؛ لجريان التعامل بها، إلا أنه بمقتضى النص المرقوم عليها، وعدم دفع قيمتها نقدا ممن يطلبها، وهو المدين اعتبرت حوالة على الغير بقيمتها، فيراعى في التعامل بها شروط الحوالة، وأركانها.
فمن يرى جواز المعاملة بالمعاطاة كالصيغة المخصوصة، يوجب فيها الزكاة بشروطها، وذلك لصحة الحوالة، وهذا رأي الحنفية والمالكية والحنابلة.
و من يرى تحتم الصيغة في الحوالة وأنها ركن فيها وأنه لا تجوز الحوالة بالمعاطاة كما هو الأصح عند الشافعية، يكون بعدم صحة الحوالة في الأوراق المالية والبنكنوت.
وعلى هذا القول: لا تجب فيها الزكاة إلا إذا قبضت قيمتها ذهبا أو فضة، وبلغت نصابا وحال عليه الحول، فقد نشرت فتوى للمرحوم الشيخ/ محمد بخيت المطيعي من أن المعاملة بهذه الأوراق تتخرج على الحوالة بالمعاطاه من غير اشتراط صيغة الحوالة كالبيع، فهي من الدين القوي الذي هو في حكم العين المقبوضة بتمكنه من استبدالها في أي وقت شاء.
والحوالة بالمعاطاة جائزة عند الأئمة الثلاثة، ومن هنا تجب فيها الزكاة.
ويجوز أن يدفع ربع العشر من عينها على طريق الحوالة للفقير بما يأخذه، هذا في الأوراق التي يكتب عليها التعهد بدفع قيمتها.
أما الأوراق التي تكتب عليها القيمة، فهي عملة غير ذهبية، ولا فضية ولا سند حوالة، والزكاة في غير النقدين غير واجبة إلا في مذهب الإمام مالك، حيث جعلها بمنزلة النقدين وهو رأي فيه مصلحة للفقير، فيرجح العمل به فتجب الزكاة في أوراق النقدين.(1/648)
والله أعلم .(1/649)
س: وكيف تقوم السلع التجارية عند إخراج زكاتها، هل تقوم هل تقوم بثمنها عند الشراء، أم بقيمتها عند انتهاء الحول ؟
إن الزكاة ركن من أهم الأركان التي بني عليها الإسلام، وهي واجبة في كل ما فيه نماء من النقد والثروة الحيوانية، وغيرها.
والتجارة إحدى وسائل التنمية؛ لأنها تقليب للمال بالمعاوضة لغرض الربح، ويكاد يكون الإجماع منعقدا على وجوب الزكاة فيها، والدليل على وجوبها قبل الإجماع مع القياس على ثروات نامية، ما رواه أبو داود والبيهقي: "كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي ذر:" في الإبل صدقتها وفى الغنم صدقتها وفى البقر صدقتها وفى البز صدقتها". والبز: الثياب المعدة للبيع.
وكذلك ما رواه الشافعي وأحمد والدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق عن أبي عمر عن أبيه قال: كنت أبيع الأدم أي: الجلود والجعاب أي: أوعية السهام والجفان أي: أوعية الطعام، فمر بي عمر بن الخطاب فقال: أد صدقة مالك. فقلت: يا أمير المؤمنين إنما هو الأدم. قال: قومه ثم أخرج صدقته.
يقول صاحب (المغني): وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم تنكر فيكون إجماعا، وقول عمر عن الأدم: قومه، يدل على أن زكاة التجارة ليست في عين السلع والعروض، وإنما في قيمتها.
وعلى ذلك عند إخراج زكاة التجارة، تقوم السلع، وتخرج الزكاة من قيمتها وهي: ربع العشر أي: اثنين ونصف في المائة.
وتقويم السلعة لا يكون بالسعر الذي اشتريت به، وإنما بالسعر الذي يكون عند انتهاء الحول، وهو وقت وجوب الزكاة، ولا عبرة بالنقص أو الزيادة عن ثمنها الأصلي، ولا تجب زكاة التجارة إلا بعد مرور الحول، وبعد أن تبلغ قيمتها نصابا وهو ما يساوي خمسة وثمانين جراما من الذهب تقريبا، وهو نصاب الذهب، على أن يضم إليها الربح الذي حققته التجارة أثناء الحول، وبقي متداولا إلى آخر الحول، وتخصم الديون التي عليه.(1/650)
أما التي له عند الغير فلا تزكى إلا عند قبضها، على ما يراه الإمام مالك (رضي الله عنه) وذلك عن سنة.
وفي ذلك تيسير على من يبيعون بالأجل مع النصيحة بالرحمة والقناعة. هذا.
وندعو للتجار الحريصين على إخراج الزكاة، ندعو لهم بالبركة، والنماء، ونذكرهم بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه الترمذي وحسنه: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".
والله أعلم .(1/651)
س:نسمع كثيرا عن زكاة النقدين. فما هما، وما نصابهما، وما المقدار الواجب فيهما ؟
النقدان هما: الذهب والفضة، وعليهما يقوم النشاط الاقتصادي من زمن بعيد، والزكاة واجبة فيهما؛ لمقتضى قوله ـ تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }.
والزكاة واجبة فيهما في أي شكل يكونان عليه يعني: لو كانا نقودا أي: عملة مضروبة أو سبائك أو تبرا أي: مادة خاما.
ولا تجب إلا عند البلوغ بالنصاب، وذلك شأن كل وعاء للزكاة، وإلا بعد تمام الحول أي: السنة من التملك.
ويشترط أن يكون هذا المال زائدا عن الحاجات الأصلية خاليا من الدين، ونصاب الذهب هو: عشرون دينارا كما ثبت في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والبيهقي عن علي (رضي الله عنه): "ليس عليك شيء يعني: في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا، وإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وقال مالك في (الموطأ): السنة التي لا خلاف فيها عندنا أن: الزكاة تجب في عشرين دينارا أي: في الذهب كما تجب في مائة درهم أي: من الفضة.
وجاء ذلك في حديث رواه أصحاب السنن عن علي مرفوعا.
معنى هذا أن: الدنانير عملة ذهبية نصابها: عشرون، ويساوي بالدراهم: ثمانية وعشرين أي: حوالي خمسة وثمانين جراما من عيار: واحد وعشرين، والدراهم عملة فضية نصابها: مائتان تساوي بالجرام تقريبا: من ستمائة.
والواجب في الزكاة: هو: ربع العشر أي: اثنين ونصف في المائة، وبتقدير السعر يؤخذ عن كل ألف جنيه خمسة وعشرون جنيها، ولو كان عند الشخص دنانير ذهب أقل من عشرين، ودراهم فضة أقل من مائتين، لا زكاة عليه، ولا يضم أحدهما إلى الآخر، كما رآه بعض العلماء.
وقيل: يضمان لأنهما نقد يتعامل به.
وتجب الزكاة عند بلوغ النصاب. هذا.
والزكاة تخرج وزنا: من الذهب والفضة، أو تخرج بالسعر الذي يكونان عليه عند تمام الحول.(1/652)
والله أعلم .(1/653)
س:الله (سبحانه وتعالى) خص الذين يكنزون الذهب والفضة بالكي في جباههم وجنوبهم وظهورهم. فلماذا هذا الاختصاص بنوعية هذا العذاب، دون مانعي أنواع الزكاة الأخرى ؟
يقول الله ـ تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم }. هاتان الآيتان من سورة: التوبة.
وقال القرطبي في التفسير: الكي في الوجه أشهر وأشنع، وفى الجنب والظهر آلم و أوجع؛ فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء.
وقال علماء التصوف: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا من الفقير إذا جالسهم، كويت جلودهم، والكشح: هو الجنب.
ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادا عليها، كويت ظهورهم، وقال علماء الظاهر: أي: غير الصوفية إنما خص هذه الأعضاء لأن الغني إذا رأى الفقير ذوى ما بين عينيه وقبض وجهه، وإذا سأله طوى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاه ظهره.
رتب الله العقوبة على حال المعصية.
وهذه آراء اجتهادية لا مانع من قبولها في تفسير هذه الآية، وفي عذاب مانع الزكاة نصوص كثيرة في القرآن والسنة يسهل الرجوع إليها.
والله أعلم .(1/654)
س:كما عرفنا فالذهب والفضة عليهما زكاة. فهل الماس واللؤلؤ والمرجان وسائر الأحجار الكريمة عليها زكاة ؟
روى الجماعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "المعدن <جوار> وفي الركاز الخمس". الركاز هو: المكنوز من كنوز الجاهلية، ولا يحتاج العثور عليه إلى نفقة، وكبير عمل كالذهب والفضة والحديد والياقوت والماس والزبرجد.
والواجب على من وجده أن يخرج عنه زكاة، ومقدارها: الخمس وهو قول جمهور الفقهاء.
وهناك قول للشافعي أن: الخمس لا يجب إلا في الذهب والفضة فقط.
أما المعدن وهو كل ما استخرج من الأرض مما له قيمة ببذل جهد كبير، وإنفاق مال، ومعنى <جبار> في الحديث أن: من استأجر شخصا ليحفر له حتى يستخرج المعدن، فسقط عليه شيء منه فمات، فلا دية له، والمعدن لا زكاة فيه عند بعض الفقهاء؛ لأنه استخرج بجهد بدني ومالي.
فقال أحمد بن حنبل: كل ما استخرج من الأرض فيه زكاة إذا بلغ نصابا بنفسه أو بقيمته، وجعل منه الياقوت والزبرجد والنفط والكبريت، وكذلك منه الماس.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الذي تجب فيه الزكاة هو ما يدق عليه ويتمدد ويذوب بالنار كالذهب والحديد.
أما المائع: كالنفط والجامد الذي لا يذوب بالنار: كالياقوت، وكذلك الماس فلا زكاة فيه.
والزكاة في النوع الأول عنده: كالحديد لا يشترط فيها النصاب، بل تجب في القليل والكثير عنده.
والزكاة الواجبة هي: الخمس.
وذهب مالك والشافعي إلى أن: الزكاة في المعدن لا تجب إلا في الذهب والفضة، فلا تجب في الماس ولا في غيره من الأحجار الكريمة والمعادن.
والزكاة الواجبة عند مالك والشافعي وأحمد هي: ربع العشر. هذا.
وليس هناك دليل خاص من قرآن أو سنة على وجوب الزكاة في المعادن والأحجار الكريمة، وغيرها مما يستخرج من الأرض بجهد وبنفقة، وإنما هي آراء اجتهادية، ولذلك اختلفت أقوال الفقهاء فيها ولا بأس بالأخذ من الآراء بما فيه المصلحة وللحاكم أن يختار منها ما يحقق هذه المصلحة.(1/655)
هذا هو حكم استخراجها.
أما التجارة فيها فهي كسائر التجارات، لابد فيها من إخراج الزكاة.
والله أعلم .(1/656)
س:وهذا رجل يقول: عندي مال أدخره لمشروع ينفذ بعد سنتين ولو أخرجت عنه الزكاة نقص المال وتعطل المشروع. فما رأي الدين في ذلك ؟
ما دام المبلغ وصل إلى حد النصاب، وحال عليه الحول؛ وجبت فيه الزكاة ما دام فائضا عن حاجة الإنسان، الحالية.
أما المستقبلة فلا عبرة بها لأن المستقبلة غيب، لا يعلمه إلا الله والزكاة نسبتها قليلة جدا وهي: اثنين ونصف في المائة لا تؤثر على المشروع تأثيرا واضحا والمبادرة إلى أداء حق الله، يبارك الله بها المال قال ـ تعالى: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا }.
هذا ولو نقص المال المدخر في أثناء الحول عن النصاب، لا تجب فيه زكاة حتى يكمل النصاب، وهنا يبدأ حول جديد ولو كان النقص مقصودا به سقوط الزكاة كان ذلك من الحيل المحرمة.
أما إذا زاد المال المدخر في أثناء الحول، فإن الزيادة تأخذ حول النصاب حتى لو وضعت في آخر الحول على رأي بعض الفقهاء، وهو يدخل تحت جواز إخراج الزكاة قبل موعدها.
ورأى بعضهم أن يبدأ بالزيادة حول جديد يزكى عند آخره أي في موعدها هي والرأي الأول أسهل في الحساب.
والرأي الثاني أدق وأضبط ولا مانع من الأخذ بأحد الرأيين.
والله أعلم .(1/657)
س:وهذا مالك يقول: عندي عدة عمارات أؤجرها للسكن. فهل عليها زكاة أم لا ؟
العمارات المملوكة كأبنية لا زكاة فيها، ولكن الزكاة تكون الريع الناتج من تأجيرها فإن بلغ الريع نصابا زائدا عن الحاجات الضرورية، وحال عليه الحول؛ وجبت الزكاة، فإن كان الريع يصرف أولا بأول، ولا يبقى منه نصاب يحول عليه الحول، فلا تجب فيه زكاة.
والله أعلم .(1/658)
س:ولو كانت عندي قطعة أرض اشتريتها على أمل أن أنبي عليها بيتا. فهل عليها زكاة أم لا ؟
الأرض المشتراة على أمل أن يبنى عليها بيت لا زكاة عليها مهما مر عليها من السنوات قبل البناء، وكذلك بعد البناء؛ لأن الأرض كأرض لا زكاة عليها.
لكن إذا زرعت، فالزكاة على الزروع، وإذا اشتريت لتباع كتجارة ففيها زكاة التجارة في كل عام، إذا بلغ الثمن نصابا كنصاب الذهب.
والله أعلم .(1/659)
س:وهذا صيدلاني يقول: عندي صيدلية دواء. فهل يجوز إخراج الزكاة عنها في صورة أدوية للمحتاجين أو للمستشفيات التي تعالج غير القادرين ؟
الصيدلية التي تشتري وتبيع الأدوية نشاطها تجاري، فتجب فيها الزكاة في آخر الحول بمقدار ربع العشر.
وجمهور العلماء يقول: تقوَّم الأدوية والسلع التي هي موضع التجارة وتخرخ الزكاة من القيمة، وليس من عين السلع للخبر المشهور عن عمر وهو يفرض الزكاة على تاجر الجلود بأن يقومها، ويخرج من ثمنها، وعلى رأيهم: لا يجوز إخراج الزكاة من الأدوية والسلع نفسها فقد يكون الفقير غير محتاج إلى السلعة.
وعند أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه: جواز إخراج الزكاة من عين السلع التي يتاجر فيها، ولا مانع من الأخذ بهذا الرأي.
والأولى: اعتبار ما فيه مصلحة المحتاج من نقود أو دواء كما أشار إليه ابن تيمية في فتاويه، أو مصلحة التاجر إذا كانا الحالة راقضة، وإذا كنا نعتبر المستشفيات من سهم سبيل الله المنصوص عليه في آية: { إنما الصدقات }.
فإن العلماء قالوا: لابد أن تصرف الزكاة للمسلمين؛ لأن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء من المسلمين.
فإذا كان هناك مريض مسلم أو جماعة مرضى منهم يعالجون في مستشفى علاجا تلزمه أدوية خاصة لا طاقة لهم بشرائها، كان صرف الأدوية لهم قد وقع موقعا صحيحا من الزكاة.
والله أعلم .(1/660)
س:إذا كان عندي مكتبة لبيع الكتب، وعند جردها تبين أن قيمة الجرد مائة ألف جنيه، ولي ديون عند بعض الناس تقدر بحوالي: عشرة آلاف جنيه، وعلي ديون للآخرين تقدر بستين ألف جنيه، علما بأن الديون التي لي لم يحل عليها الحول. فكيف أدفع زكاة عن هذه المكتبة ؟
هذه المسألة تجارة، والواجب أن تسعر الكتب الموجودة آخر العام، ويضاف إلى ثمنها الديون التي لصاحب المكتبة على الآخرين، وما دام عليه ديون للغير فتخصم هذه الديون من مجموع ثمن الكتب، والديون المستحقة عند الغير، والباقي إن بلغ نصابا، وهو ثمن خمسة وثمانين جراما من الذهب تخرج الزكاة، وهي ربع العشر، فإن لم يبلغ الباقي نصابا، فلا زكاة عليه.
والله أعلم .(1/661)
س:يقول الله ـ تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم }.
والدولة الآن تحصل الضرائب على جميع المواطنين على حد سواء بنسبة أكبر من نسبة الزكاة بكثير جدا. فهل يظل فرض الزكاة على وجود الضرائب هكذا بنسبة كبيرة ؟
الضرائب فرضها ولي الأمر؛ لحاجة البلد إليها، وطاعته في المصلحة واجبة، ولا تجوز مخالفته قال ـ تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }.
على أن تكون عادلة في تقديرها وجبايتها، وإنفاقها.
جاء في تفسير القرطبي قوله: اختلف علماؤنا في السلطان: يضع على أهل بلد مالا معلوما يقصدهم به، يؤدونه على قدر أموالهم. هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل؟ قيل: لا، وهو قول سحنون من علمائنا.
والضرائب لا تغني عن الزكاة؛ لأن الزكاة فرض الله، وإحدى الدعائم الخمسة للإسلام، ولها مصالح معينة، ووعاء معين.
أما الضرائب فتشريع وضعي قابض للخفض والرفع والإلغاء، ولا يختص بوعاء معين ولا مصرف معين، وقد ذم ابن حجر الهيثمي التجار الذين يحسبون المكس أي: الضريبة من الزكاة، وإن كان قد ذم المكس إذا كان بغير حاجة، وقرر المؤتمر الثاني في مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في مايو سنة 1965 أن ما يفرض من الضرائب لمصلحة الدولة لا يغني القيام بها عن أداة الزكاة المفروضة.
والله أعلم.(1/662)
س:و هؤلاء جماعة يقولون: نحن خمسة أفراد، دفع كل فرد منا مبلغا من المال؛ لتكوين مشروع صغير يدر بعض الربح. فهل تدفع الزكاة على المبلغ الإجمالي، أم تدفع على كل مبلغ بمفرده ؟
ذهب الأحناف إلى أن: الزكاة في هذه المسألة تجب على نصيب كل واحد من الشركاء، فإذا بلغ نصيبه النصاب، وحال عليه الحول؛ وجبت زكاته وإن لم يبلغ النصيب نصابا فلا زكاة عليه، ولا أثر للخلطة في ذلك.
وذهب المالكية إلى أن: الزكاة تكون على مجموع الأنصبة، إذا كان كل نصيب يبلغ نصابا. أما نصيب إذا لم يبلغ نصيب كل واحد نصابا فلا زكاة على المجموع.
فالشافعية قالوا: إن الشركة المال المخلوط تخرج الزكاة على مجموع المال إن بلغ نصابا، وكذلك قال الحنابلة.
فهناك في المسألة رأيان:
رأي يقول: الزكاة على الفرد إن بلغ نصبيه نصابا.
ورأي يقول: الزكاة على المجموع، فيعامل المجموع كشخص واحد، ومن كان نصيبه أقل من نصاب تجب عليه الزكاة؛ بسبب هذه الخلطة.
والأمر الخلافي لا يتحتم اتباع مذهب معين منه، اللهم إذا اختار ولي الأمر فيلزم؛ لأن من قواعد التشريع: أن حكم الحاكم يرفع الخلاف.
والله أعلم .(1/663)
س:وهل تجب الزكاة في المضاربة على صاحب المال، أو على العامل، أو عليهما معا، ونرجو أولا توضيح معنى: المضاربة ؟
المضاربة: أن يدفع شخص مالا لشخص آخر يتاجر فيه على أن يقسم الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها كالنصف أو الثلث ـ مثلا ـ والعامل في المضاربة ليس شريكا في رأس مال التجارة، فهو كله لصاحب المال، ولا يشاركه إلا في الربح الناتج من رأس المال، فهو بمثابة الأجير الذي يؤدي عملا لصاحب المال، وبدل أن يحدد له أجرا معلوما كل شهر أو كل سنة، أو كل صفقة، جعل له نسبة من الربح أيا كان قدرها، ولئن كان في ذلك بعض الجاهلة من جهة المقدار، فالأجر معلوم من جهة النسبة، ويغتفر ذلك لحاجة الناس إلى هذه المعاملة، فقد يملك الشخص مالا ولا يعرف كيف يستثمره، ويملك شخص آخر المعرفة والخبرة، ولكن لا يملك المال، فيتعاون على خيرهما، وخير المجتمع، وكانت هذه المعاملة معترف بها أيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
ومن هنا تكون الزكاة على صاحب المال زكاة التجارة، يخرج ربع العشر على الأصل والربح بعد خصم الديون والمصاريف التي منها حصة العامل، على ما رآه ابن عباس و ابن عمر (رضي الله عن الجميع).
وأخذ به ابن حزم في خصم القرض، والنفقة من محصول الزروع والثمار، فتكون الزكاة على ما بقي، وهذه الزكاة تكون في آخر الحول.
أما العامل فليست عليه زكاة؛ لأنه لا يملك شيئا من رأس المال، وإنما زكاته على حصته من الربح إن بلغت نصابا، وحال عليها الحول.
والله أعلم .(1/664)
س:قال الله ـ تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض }. هل النفقة هنا هي: الزكاة، ولماذا لم يذكر الله (عز وجل) لفظ الزكاة، مع علمنا أنه توجد زكاة على الزروع والثمار ؟
آية:{ أنفقوا ما كسبتم} إلى آخره، الأمر في الآية بالإنفاق يشمل الإنفاق الواجب والإنفاق المندوب، يعني: يشمل الزكاة وصدقة التطوع، ولكن الظاهر أن المقصود بالأمر هو: أن يكون الإنفاق من الطيب لا من الرديء، سواء أكان ذلك في الزكاة أو الصدقة، ولذلك جاء النهي في الآية نفسها عن تعمد إخراج الرديء، وذلك بأسلوب قوي حكيم وهو قوله ـ تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }.
وإذا كان لا يرضى أن يأخذ الرديء الخبيث إلا مع امتعاض نفس، فلا ينبغي أن يعطي الخبث في الزكاة أو الصدقة لغيره من الناس؛ تحقيقا لحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وإذا كانت هناك زروع أو زكاة لهذه الزروع والثمار، وهي مما يخرج من الأرض، فإن الأمر بإنفاق الطيب يشمل: الزروع والثمار، ويشمل غيرها من كل ما يكسبه الإنسان من أي مصدر من المصادر.
والله أعلم .(1/665)
س:وما أحب الأمور في إخراج الزكاة ؟
من أحب الأمور في إخراج الزكاة:
أن يخرجها الإنسان من الطيب من ماله لقوله ـ تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }.
وهذه الآية نزلت فيمن كانوا يتصدقون بالخبيث من محصولهم، ومن أحبها أن يعطيها سرا لمستحقيها منعا للرياء، ولعدم جرح شعور الآخذين، ولا بأس بإعطائها علنا وجهرا إذا كان الموقف يستدعي ذلك، كالدعوة إلى التبرع، أو تمويل شيء هام؛ حتى يتنافس الناس في السبق و الكثرة قال ـ تعالى: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم }.
وللنية دخل كبير في مثل هذه الأمور.
ومن الأفضل التعجيل بإخراج الزكاة، ما لم يوجد ما يدعو إلى تأخيرها: كوصول الغائب الذي يستحقها.
كما أن من الأفضل أن يخرج أكثر من القدر الواجب؛ ليتأكد القيام بالحد الأدنى، وما زاد على ذلك فله أجره عند الله.
والله أعلم .(1/666)
س:أحد المزارعين يقول: عندي منحل. فهل ما يرزقنا الله من عسله عليه زكاة، أم نتصدق بما يسر الله لنا به ؟
معلوم أن عسل النحل من نعم الله على عباده، قال ـ تعالى: { فيه شفاء للناس }. أما الزكاة فيه:
فقد جاء في تفسير القرطبي أن: الإمام مالكا و أصحابه ذهبوا إلى أنه: لا زكاة فيه، وإن كان مطعوما مقتاتا.
واختلف فيه قول الشافعي، ففي القديم أن: فيه زكاة، وفى الجديد قطع بأنه: لا زكاة فيه.
وقال أبو حنفية: بوجوب الزكاة فيه، قليله، وكثيره؛ لأن النصاب عنده ليس بفرض.
وقال محمد بن الحسن: لا شيء فيه حتى يبلغ ثمانية أفراق والفرق: ستة وثلاثون رطلا، أو رطلا عراقيا.
وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) "في العسل في كل عشرة أزقاق زق". قال أبو عيسى في إسناده مقال.
ولا يصح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الباب كبير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء. هذا ما جاء في تفسير القرطبي.
فالخلاصة أن:
جمهور العلماء لا يوجبون الزكاة في عسل النحل؛ لعدم وجود الدليل الصحيح قال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت، ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور، والذي قال بالزكاة فيه: أحمد وأهل الرأي، وهم: أبو حنيفة وأصحابه، على خلاف في نصابه، وفى مقدار الزكاة.
وإذا لم تجب الزكاة فيه على رأي الجمهور، فصدقة التطوع مندوبة.
والله أعلم .(1/667)
س:جاءت الأحاديث الصحيحة مصرحة في إيجاب الزكاة في الإبل والبقر والغنم. و أجمعت الأمة على العمل بها. فما الشروط العامة الواجبة للزكاة فيها ؟
يشترط لوجوب الزكاة في الإبل والبقر والغنم التي صحت النصوص فيها، وأجمعت الأمة عليها يشترط شروط منها:
أن تبلغ نصابا، وأن يحول عليها الحول، وأن تكون سائمة، أي: ترعى من الكلأ المباح أكثر العام.
وهذه الشروط قال بها جمهور الفقهاء، ولم يخالف فيها إلا الإمام مالك، فلم يشترط أن تكون سائمة، بل تجب الزكاة وإن كانت هذه الحيوانات معلوفة.
والله أعلم .(1/668)
س: وما نصاب زكاة الإبل، وكيف يحسب ؟
نصاب الإبل: خمس، ولا تجب الزكاة في أقل من ذلك، والخمس زكاتها: شاة. فإذا بلغت الإبل عشرا، فزكاتها شاتان، وهكذا، كلما زادت خمسا؛ زادت خمسا، حتى تصل إلى خمس وعشرين فيها بنت مخاض، وهي: التي لها سنة، ودخلت في الثانية، أو ابن لبون، وهو: الذي له سنتان، ودخل في الثالثة، وإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون، وإذا بلغت ستا وأربعين، ففيها حقة، وهي: التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، وإذا بلغت إحدى وستين، ففيها جزعة وهي: التي لها أربع سنين ودخلت في الخامسة، وإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون، وإذا بلغت إحدى وتسعين، ففيها حقاتان إلى مائة وعشرين، وإذا زادت، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
هذه هي زكاة الإبل التي عمل بها أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) بمحضر من الصحابة، ولم يخالفه أحد في ذلك.
والله أعلم .(1/669)
وما العدد من البقر الذي يحسب عليه نصاب الزكاة ؟
لا تجب الزكاة في البقر والجاموس، إلا إذا بلغت ثلاثين، ففيها تبيع أو تبيعة، وهو: ما له سنة، وإذا بلغت أربعين، ففيها مسنة وهي: ما لها سنتان، و إذا بلغت ستين، ففيها تبيعان، وإذا بلغت سبعين، ففيها مسنة وتبيع، وإذا بلغت ثمانين، ففيها مسنتان، وإذا بلغت تسعين، ففيها ثلاثة أتباع، وإذا بلغت مائة، ففيها مسنة وتبيعان، وإذا بلغت مائة وعشرا، ففيها مسنتان وتبيع، وإذا بلغت مائة وعشرين، ففيها ثلاث مسنات، أو أربعة أتباع، وهكذا ما زاد ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
والله أعلم .(1/670)
س:وما العدد الذي تبلغ به الغنم حد النصاب ؟
لا زكاة في الغنم، ومنه: المعز؛ حتى تبلغ أربعين، وفيها: شاة، حتى إذا بلغت مائة وعشرين، ففيها: شاتان، وإذا بلغت مائتين وواحدة، ففيها: ثلاث شياة، وإذا بلغت ثلاثمائة وواحدة، ففي كل مائة: شاة.
ويؤخذ الجزع من الضأن، والثني ومن المعز.
والله أعلم .(1/671)
س:نسمع عن الأوقاص. فما هي، وهل عليها زكاة ؟
الأوقاص جمع: وقص. وهو: ما بين الفريضتين أي: العددين. وهو: باتفاق العلماء عفو لا زكاة فيه.
كما جاء في كلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمثلا: زكاة الغنم إذا بلغت أربعين هي شاة واحدة، ولا شيء إذا زادت إلى خمسين أو تسعين أو مائة وعشرين، وإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين، ففيها: شاتان، فالأعداد الزائدة بين الفريضتين تسمى: وقصا.
والله أعلم .(1/672)
س:وما الشروط الواجب توافرها في الحيوان المأخوذ للزكاة ؟
يشترط في الحيوان المأخوذ للزكاة ألا يكون معيبا عيبا يعتبر نقصا عند ذوي الخبرة بالحيوان، ما لم تكن كلها معيبة، فيؤخذ في الزكاة أقلها عيبا، كما جاء في كتاب: أبي بكر من عدم أخذ الهرمة التي سقطت أسنانها، ولا العوراء.
وفي تعليمات عمر عدم أخذ الأكولة أي: العاقر من الشياة، ولا التي تربى في البيت من أجل لبنها، والماخض أي: التي حان وقت ولادتها، والفحل أي: الذكر المعد لتلقيح الإناث.
وكما في حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي رواه أبو داود والطبراني بإسناد جيد: "النهي عن أخذ الدرنة أي: الجرباء والشرار الصغار، والبخيلة باللبن".
والله أعلم .(1/673)
س:رجل يقول: أعمل راعيا للماشية، وعندي ـ والحمد لله ـ عدد كبير من البقر والغنم والماعز، والكل يلد خلال العام، وقد يكون المولود عددا كبيرا. فهل عليه زكاة ؟
كل ما ينتج من الإبل والبقر والغنم من الصغار تجب فيه الزكاة، كما تجب في الأصول، وذلك على رأي الجمهور، كما جاء في تعليمات عمر (رضي الله عنه) أن السخلة التي يحملها الراعي تعد عليه، لكنها لا تؤخذ كزكاة.
ويرى أبو حنيفة والشافعي أنه: لا يحسب النتاج، ولا يعتد به إلا أن تكون الكبار نصابا.
وقال أبو حنيفة: الصغار تضم إلى الكبار، سواء أكانت مولودة منها، أو مشتراة، واشترط الشافعي أن تكون متولدة من نصاب في ملكه قبل الحول.
أما من ملك نصابا من الصغار فلا زكاة عليه عند أبي حنيفة، وأحمد في رواية، وعند مالك وأحمد في رواية: تجب الزكاة في الصغار كالكبار، ويجب في الصغار واحدة صغيرة منها.
هذه هي الآراء، ولك أن تختار ما تشاء.
والله أعلم .(1/674)
س:وهذا راع يقول: عند خليط من الماشية: أبقار وغنم وماعز، وخلافه. فهل يتم حساب الزكاة عن كل نوع، أو على جميع الأنواع ؟
ورد حديث للبخاري فيه أن: أبا بكر نهى في زكاة الأنعام عن الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع خشية الصدقة، وأن الخليطين يتراجعان بينهما بالسوية. هذا ما ورد.
واختلف الفقهاء في تفسير ذلك، وهل هو موجه للمالك أو للساعي؟
وأرى في السؤال المطروح أن: المالك الواحد لخليط من البقر والإبل والغنم، لا تجب عليه الزكاة إلا إذا بلغ كل نوع منها نصابا.
والله أعلم .(1/675)
س:وما أصناف الزروع والثمار التي كانت تؤخذ منها الزكاة على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ؟
كانت الزكاة على الزروع والثمار تؤخذ أيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أصناف مخصوصة وردت في هذا الحديث، وهو ما رواه الدارقطني والحاكم والطبراني والبيهقي، وقال: رواته ثقاة، وهو متصل.
فعن أبى بردة عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل (رضي الله عنهما) أن "رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فأمرهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب".
وهذه الأصناف الأربعة، لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الزكاة فيها، وقال موسى بن طلحة: جاء الأثر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في خمسة أشياء: "الشعير والحنطة والسلت وهو: نوع من الشعير، والزبيب والتمر وما سوى ذلك مما أخرجت الأرض، فلا عشر فيه.
وقال: إن معاذا لم يأخذ من الخضر صدقة.
بناء على هذه الآثار: كان وعاء الزكاة في الزروع والثمار على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم ) هو: الحنطة أي: القمح والشعير ونوع منه وهو: السلت والتمر والزبيب، والذي لم يأخذ منه زكاة هو: الخضر.
والله أعلم .(1/676)
س:أحد الفلاحين يقول: عندي مزرعتان للطيور يربي فيها الدجاج والبط، والأوز والرومي، وغيره، وأيضا مزرعة للأرانب. فهل على هذه الأنواع زكاة ؟
المزرعة التي تربى فيها الطيور إن كانت لغرض التجارة، فالواجب فيها زكاة التجار كأية سلعة يُتَاجَرُ فيها.
وأما تربية هذه الدواجن للأكل، وكذلك الأرانب فلا زكاة عليها، ذلك لأن زكاة الحيوان اشترط الجمهور فيها أن تكون سائمة، تعيش على الرعي دون علف ونفقة.
والمزارع المذكورة تكاليفها كبيرة، فلا تُزكَّى زكاة الحيوان، وإنما تزكى كسلعة للتجارة.
والله أعلم .(1/677)
س:أحد التجار يقول: أعمل تاجرا للخيل، والبغال والحمير، وقد يمر العام على عدد كبير منها عندي، حتى يتم بيعها. فهل على هذه الأنواع من الحيوانات زكاة ؟
الخيل والبغال والحمير كحيوانات للتربية والمِلْك لا زكاة فيها، إنما الزكاة فيها كتجارة، وفى آخر الحول تُقَوَّمُ الحيوانات التي لم يتم بيعها، ثم يضاف إليها الربح، وتخصم الديون، وما بقي إن بلغ نصابا؛ وجب فيه ربع العشر، وإلا، فلا.
والله أعلم .(1/678)
س:وهل هذه الأصناف هي المعمول بها الآن في إخراج الزكاة، أم استجد شيء في فقه زكاة الزروع والثمار ؟
أوجب الله (سبحانه وتعالى) الزكاة على الثروة الزراعية بقوله ـ تعالى:{ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وبقوله ـ تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } بناء على ما ذكر، وما جاء من أنواع جديدة من الزروع والثمار؛ اختلفت آراء الفقهاء الأربعة، وهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الأصناف التي تجب فيها الزكاة، فأوجبها أبو حنيفة في كل ما تنبته الأرض، ما دام قد قصد بزراعته استغلالها، ولم يستثن من ذلك إلا أنواعا قليلة: كالحطب والشجر الذي لا ثمرة له.
وعلى رأيه: تجب الزكاة في القصب والموز والطماطم والخضر.
أما صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: ما يبقى سنة بلا علاج كبير فيه زكاة، وما لا يبقى سنة كالبطيخ والخيار فلا زكاة فيه.
والإمام مالك حصر الزكاة فيما يبقى وييبس ويستنبته الآدميون، ولم يوجب الزكاة في الخضراوات، والفواكه الطرية: كالتين والرمان والموز.
وقال الشافعي كقول مالك في عدم الزكاة في هذه الأصناف.
وأحمد بن حنبل: لا يوجب الزكاة فيما لا يبقى ولا ييبس، فلا زكاة في الخضر والفواكه الطرية.
بعد عرض هذه الأقوال نرى أن:
جمهور الفقهاء لا يوجبون الزكاة في القصب والموز والطماطم والخضر، وأوجبها أبو حنيفة بناء على عموم قوله (تعالى) في الآية السابقة: {ومما أخرجنا لكم من الأرض}.
وبناء على عموم الحديث الذي رواه البخاري وهو: " فيما سقت بالسماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر".
واستند الجمهور إلى أحاديث وآثار تحصر الزكاة في أصناف معينة مما يقتات ويدخر.(1/679)
وإذا كانت زراعة الخضراوات والفواكه الأخرى غير التمر والزبيب قد كثرت وصارت تدر ربحا كبيرا، فهل من سلطة ولي الأمر أن يفرض فيها الزكاة مراعاة للصالح العام؟
إن وعاء الزكاة على النحو المذكور موضع اجتهاد من الفقهاء، وللفرد أن يختار منها ما يشاء.
لكن لو رأى ولي الأمر اختيار مذهب أبي حنيفة في جمع الزكاة من الخضراوات وسائر الفواكه، وسائر الزروع مراعاة للمصلحة العامة؛ جاز له ذلك، وعلينا أن نطيع أمره فهو ليس معصية، وهو يحقق المصلحة التي يراها الخبراء والمختصون على أساس من الشورى واستهداف الخير العام.
والله أعلم.(1/680)
س:وكيف نحسب نصاب الزروع والثمار ؟
رأى جمهور الفقهاء أن: النصاب هو: خمسة أوسق يعني: حوالي خمسين كيلة.
وذلك لحديث أحمد والبيهقي بسند جيد: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة".
وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة في القليل والكثير، وذلك لعموم الحديث وهو: "فيما سقت السماء العشر". وعموم الآيتين.
والقدر الواجب إخراجه هو: العشر فيما يسقى بدون تعب: كالمطر والعيون.
أما ما يسقى بتعب كالآلات ففيه: نصف العشر.
والله أعلم .(1/681)
س:كما نعرف: فإن الزراعة تحتاج إلى مصاريف كثيرة في الري والتسميد والحصاد، وغير ذلك. فهل تخصم هذه المصاريف من جملة المحصول، وتخرج الزكاة من الباقي بعد الخصم ؟
من المعلوم حقا أن: المحاصيل قد تصرف عليها مصاريف في الري والتسميد والتنقية والحصاد، وغير ذلك. فهل تخصم هذه المصاريف من المحصول، وتخرج الزكاة عن الباقي؟
لا يجوز هذا الخصم عند جميع الأئمة المعروفين وهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد (رحمهم الله تعالى).
لكن جاء عن عبد بن عمر، وعن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهم أجمعين) جاء أن: الزكاة تكون على ما بقي بعد استقطاع التكاليف، ونقله ابن حزم عن عطاء بن يسار من التابعين، ولعل وجهة نظرهم أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جعل الزكاة على الزروع والثمار التي تسقى بماء السماء العشر.
أما التي تسقى بتعب ومصاريف بالسواقي والماكينات، وغيرها، فالزكاة نصف العشر.
ويحصل في بعض المناطق التي تعتمد على المطر في زراعة القمح والشعير أن يستبقى الأعمال المدربون على أعمال الزراعة في تقدير أجرهم كنصف المحصول، وهو لا يمكن العمل برأي ابن عمر، وابن عباس هو عطاء في هذه الحالة، وكل هذا مع مراعاة قول الله ـ تعالى:{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم }. وقوله ـ تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين }.
والله أعلم .(1/682)
س:أفاض الله علينا بأرض واسعة، نزرعها ثمارا وحبوبا، ونحن أسرة كبيرة نأكل منها الكثير قبل الحصاد، ونهدي إلى أقاربنا. هل يحسب هذا من الزكاة، أم تحسب الزكاة على ما تبقى بعد الجمع أو الحصاد ؟
يجوز لصاحب الزرع أن يأكل منه، ولا يحسب عليه ما أكله قبل الحصاد؛ لأن العادة جارية به، والذي يؤكل شيء يسير.
وقد سئل أحمد بن حنبل عما يأكله أرباب الزروع من الفريك؟ فقال: لا بأس أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج إليه. وكذلك قال الشافعي.
أما مالك وأبو حنيفة: فيجعلان ما أكل من الزرع محسوبا من النصاب.
ومن هنا نرى أن:
بعض الفقهاء لا يوجب الزكاة على ما أخذ من الثمار قبل جنيها وحصادها، وبعضهم يوجبها على ما أكل، وليس في ذلك نص من كتاب أو سنة، والخلاف هو في فهم قوله ـ تعالى: { كلوا من ثماره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا }.
ولكل إنسان أن يختار من الرأيين ما يشاء.
والله أعلم .(1/683)
س:نسمع عن الأرض الخراجية. فما هذه الأرض، وهل عليها زكاة ؟
الأرض الخراجية هي: الأرض التي فتحها المسلمون عنوة وقهرا، وتركت في أيدي أهلها نظير خراج معلوم، وكما تجب الزكاة في الأرض التي فتحت سلميا وأسلم أهلها، تجب الزكاة في التي فتحت عنوة، وذلك لعلوم النصوص الواردة في الزكاة، والاستدلال ومناقشة الأدلة موجود في كتب الفقه، وربما لا يحتاج إلى ذلك في وقتنا الحاضر.
والله أعلم .(1/684)
س:أحد الفلاحين يقول: استأجرت قطعة أرض من مالكها لزراعتها. فهل تجب الزكاة على المالك أو المستأجر ؟
لو استأجر إنسان أرضا من مالكها وزرعها، فهل تجب الزكاة على المستأجر أو على المالك؟
يرى جمهور الفقهاء أن:
الزكاة على المستأجر؛ لأنه هو الزارع، وليست على المالك زكاة الزرع، وإنما تجب عليه زكاة المال الذي أخذه من المستأجر، إذا بلغ نصابا زائدا عن ضرورياته، وحال عليها الحول.
وقال أبو حنيفة: الزكاة على صاحب الأرض، ورأي الجمهور أقوى.
والله أعلم .(1/685)
س:رجل يقول: عندي مزرعة بها نخيل وعنب وبعض الفواكه، ونحب بيع المحصول للتجار قبل نضجه بقليل. فهل الزكاة علينا أم على المشتري؛ لأنه هو الذي جمع المحصول بعد نضجه ؟
قال العلماء في بيع المحصول قبل نضجه:
إن الزكاة تجب في الزروع إذا اشتد الحب، وتجب في الثمار إذا بدا صلاحها.
ويعرف ذلك باحمرار البلح، وجريان الحلاوة في العنب، ولا تخرج الزكاة إلا بعد تصفية الحب، وجفاف الثمر، وإذا باع الزارع زرعه بعد اشتداد الحب، وبدو صلاح الثمر فزكاة الزرع والثمر عليه دون المشتري.
والله أعلم .(1/686)
س:أعمل صيادا في البحر، وعندي عدة مراكب معدة للصيد. هل عليها زكاة، وهل ما يرزقنا الله به من خيرات البحر عليه زكاة ؟
مراكب الصيد لا زكاة فيها، أما ما يصاد من سمك، وغيره كل ذلك إذا عرضه للبيع فهو تجارة، وتجب فيه زكاة التجارة بشروطها المعروفة .
والله أعلم.(1/687)
س:كثيرا ما أتكاسل عن دفع زكاة المال، وقد يمر سنتان أو ثلاث سنوات دون أن أقوم بدفعها. فهل يلزم علي دفعها كلها، أم أن السنوات التي مرت تسقط عني ؟
من كان يملك النصاب، ولم يؤد زكاته بعد تمام الحول، يجب عليه أن يخرجها في أي وقت شاء، وعليه أن يبادر بالقضاء، ولا تسقط عنه مهما مر عليها من سنوات، غير أن بعض العلماء قال: يخرج زكاة عام واحد، والبعض الآخر قال: يخرج زكاة عن كل عام مضى، وهذا هو الراجح.
والله أعلم.(1/688)
س: رجل يقول: كلفت من قبل أحد المحسنين بحمل مبلغ من الزكاة لتوصيله إلى مستحقيه، ففقد مني في الطريق. فهل هذا دين علي ؟
مادام المبلغ الذي سيخرج زكاة قد عزل عن أصل المال؛ فيجب إعطاؤه لمستحقيه فلو ضاع وجب إخراج مبلغ آخر؛ لأن الزكاة استقرت في ذمته، فلا يبرأ حتى يوصلها إلى من يستحقونها.
وعليه فلو وكل المزكي شخصا يدفع الزكاة فضاعت من الوكيل، لم تسقط ووجب إخراجها، والوكيل إن كان قد قصر في حفظ هذه الأمانة، ضمنها، وإن لم يكن قد قصر فلا ضمان عليه، هذا في تلف الزكاة.
أما في تلف المال الذي ستخرج عنه الزكاة: فإن كان التلف كحريق أو وباء بعد الحول والتمكن من إخراجها، فقد استقرت الزكاة في ذمة صاحبها، ويجب إخراجها سواء كان التلف بتفريط أو غير تفريط، ويمكن إنذاره إلى ميسرة لكي يتمكن من أدائها.
أما إذا كان التلف قبل الحول والتمكن من الأداء؛ فقد سقطت الزكاة .
والله أعلم.(1/689)
س:نسمع عن الهروب من الزكاة. كيف يكون ذلك، وما عقوبة هذا الهارب ؟
الفرار أو التهرب من الزكاة يكون بحيلة يعملها من يملك النصاب؛ حتى لا يزكي، وذلك بمثل: بيع النصاب أو بعض النصاب من الحيوانات أو السلع، أو هبة ذلك للغير، أو إتلاف هذا المال قبل حلول الحول؛ حتى تسقط عنه الزكاة، فإذا مضى الحول استعاد ما باعه أو وهبه، وذلك ليبدأ حول جديد، وهكذا،…….
قال مالك وأحمد: إذا كان هذا التصرف بقصد الفرار من الزكاة؛ حرم ذلك، ووجبت عليه الزكاة عقابا له، وردعا لمثله أن يحتال مثل حيلته، فيؤثر ذلك على المتحصل من الزكاة.
واستدلوا على ذلك بقصة أصحاب الحديقة، الذين صمموا على جني ثمارها
قبل طلوع النهار، حتى لا يراهم الفقراء؛ فينقص المحصول، فعاقبهم الله بإرسال نار، أو عذاب من عنده أهلك الحديقة وهم نائمون قال ـ تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون }. يعني: لم يقولوا إن شاء الله {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم } وقاسوا الفرار من الزكاة على تطليق الرجل امرأته وهو في مرض موته، حتى لا ترث منه.
أما أبو حنيفة والشافعي فقال :بسقوط الزكاة، لكن يكون مسيئا وعاصيا لله بهروبه منها، وبحسب نيته كما قال الحديث: "إنما الأعمال بالنيات" .
والله أعلم.(1/690)
س: حصر الله (تعالى) مصارف الزكاة في الآية الكريمة: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم }. فعدد الذين يستحقون الزكاة ثمانية كما جاء في الآية الكريمة، وأول هؤلاء: الفقراء. فما صفات الفقير الذي يستحق الزكاة، وما مقدار ما يُعطَى من الزكاة، وهل تعطى للقوي المكتسب من الزكاة؟
الفقراء والمساكين هم: المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم، وإن كان هناك تفاوت في هذا الاحتياج.
ورأى بعضهم أن الفقير أو المسكين: من لا يملك النصاب من المال.
أما من يملكه زائدا عن ضرورياته فهو غني، ومن ليس بغني له الحق في أخذ الزكاة، كما في الحديث: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ". والقدر الذي يعطى للفقير والمسكين هو ما يسد حاجته الضرورية، أو يكفيه ما يحتاجه؛ ليكون غنيا وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال.
والإمام مالك لم يضع لذلك حدا فقال: يعطى من له المسكن والخادم والدآبة، القدر الذي لا غنى له عنه.
وقد جاء في حديث مسلم ما يدل على أن المسألة تحل للفقير حتى يأخذ ما يقوم بعيشه ويستغني به مدى الحياة.
والإنسان القوي الذي يقدر علي الكسب هو كالغني لا يستحق الزكاة، وقد جاء ذلك في حديث رواه أبو داود والنسائي حيث جاء رجلان قويان يطلبان الصدقة من الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات "فرفع بصره فيهما وخفضه ثم قال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب". وفى حديث رواه أبو داود والترمذي وصححه: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". أي: قوي الجسم سليم الأعضاء. وهذا مذهب الشافعي.
أما أبو حنيفة: فيجوز للقوي أن يأخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدا، وهو نصاب الزكاة.(1/691)
قال: النووي سئل الغزالي عن القوي من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم في التكسب بالبدن سئل: هل له أخذ الزكاة من سهم الفقراء؟
قال: نعم. وهذا صحيح جار على أن المعتبر حرفة تليق به، وإذا كان هذا هو رأي بعض العلماء.
فالذي أختاره أنا:
أن الظروف لها دخل في مثل هذا الموضوع، والحالة الاقتصادية الضاغطة تدعو كل إنسان ليعمل ويكسب قوته بعرق جبينه؛ ليكف نفسه عن المسألة ولا يوصف بالتعطل، وليزيد في الإنتاج.
والله أعلم.
حصر الله تعالي مصارف الزكاة في إلا ية الكريمة{ إنما ا لان صدق
ة ف ي ...(1/692)
س: رب أسرة يقول: أنا أملك نصابا من المال يوجب علي الزكاة، ولكن لكثرة عيالي وغلاء المعيشة لا يقوم بكفايتي، فأنا غني من حيث ملكي للنصاب، فقير من حيث أن ما أملكه لا يقوم بكفايتي. فهل يحق لي أن أحصل على الزكاة ؟
من ملك نصابا من أي نوع من أنواع المال، وهو لا يكفيه؛ لكثرة عياله ـ مثلا ـ أو للغلاء في الأسعار، فهو غني؛ لأنه يملك النصاب، فتجب عليه الزكاة، ومع ذلك هو فقير؛ لأن ما يملكه لا يكفي حاجته، فيعطى من الزكاة كفقير.
يقول النووي: من كان له عقار ينقص دخله عن كفايته، فهو فقير يعطى من الزكاة، ولا يكلف بيعه.
وسئل أحمد بن حنبل عن: من يملك النصاب، أويملك الضيعة ولكن ذلك لا يكفيه هل يعطى من الزكاة؟
قال نعم . والله أعلم.
س:و هل هناك فرق بين الفقير والمسكين ؟
رأى بعض الفقهاء أن: الفقير: من لا يملك شيئا يكفي حاجته، أو يملك نصف ما يكفيه، أو أقل من ذلك.
أما المسكين فهو: من يملك بعض المال أكثر من النصف، ولكن يجد ما يكفيه حاجته كلها، فالفقير أسوأ حالا من المسكين.
وقيل: العكس، فيكون المسكين أسوأ حالا من الفقير.
وقيل: إن الفقير أو المسكين: من لا يملك النصاب. أما من يملكه ما هو زائد عن ضرورياته فهو غني، ومن ليس بغني يأخذ من الزكاة، كما في الحديث: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".
فالفقير والمسكين واحد من حيث الاحتياج والجمع بينهما في الآية لا يناقض ذلك، فالمسكين قسم من الفقراء، وقد يدل على ذلك حديث البخاري ومسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يتفطن له فيصدق عليه" .
والله أعلم.(1/693)
س:و هل هناك فرق بين الفقير والمسكين ؟
رأى بعض الفقهاء أن: الفقير: من لا يملك شيئا يكفي حاجته، أو يملك نصف ما يكفيه، أو أقل من ذلك.
أما المسكين فهو: من يملك بعض المال أكثر من النصف، ولكن يجد ما يكفيه حاجته كلها، فالفقير أسوأ حالا من المسكين.
وقيل: العكس، فيكون المسكين أسوأ حالا من الفقير.
وقيل: إن الفقير أو المسكين: من لا يملك النصاب. أما من يملكه ما هو زائد عن ضرورياته فهو غني، ومن ليس بغني يأخذ من الزكاة، كما في الحديث: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".
فالفقير والمسكين واحد من حيث الاحتياج والجمع بينهما في الآية لا يناقض ذلك، فالمسكين قسم من الفقراء، وقد يدل على ذلك حديث البخاري ومسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يتفطن له فيصدق عليه" .
والله أعلم.(1/694)
س: من مصارف الزكاة الثمانية قول الله ـ تعالى:{وفي الرقاب}. هل يوجد أمثال لهم الآن في العصر الحديث ؟
الرقاب جمع: رقبة وهو العبد المملوك، وهم يعطون من الزكاة؛ لفك رقابهم وتحريرهم، ومنهم المكاتب الذي يطلب منه سيده مبلغا من المال؛ ليعتقه، فيساعد من الزكاة ليدفع إلى سيده ما يطلبه، وكذلك شراء العبيد لإعتاقها يبيح دفع ثمن الشراء من الزكاة.
روى أحمد والدارقطني برجال ثقاة أن: "رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وسلم) دلني على عمل يقربني من الجنة، ويبعدني من النار، فقال: أعتق النسمة، وفك الرقبة، فقال: يا رسول الله: أليسا واحدا؟ قال: لا. عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها".
وإذا كان الرق قد ألغي في العصر الحديث باتفاقية دولية، فإن بعضا منه قد يكون عند الدول التي لم توقع على هذه الاتفاقية، والزكاة يمكن أن تصرف في سبيل تحرير هؤلاء الأرقاء، وإذا كان النصر في الحرب بين المسلمين والكافرين قديما وسيلة من وسائل ضرب المسلمين الرق على الكافرين الأسرى، فإن الأسرى الذين يقعون في يد الكفار يجوز تخليصهم من الأسر من سهم سبيل الله؛ لأن الجهاد الذي فسربه قديما سبيل الله من أعماله: تخليص الأسرى سواء ضرب عليهم الرق،أو لم يضرب.
والله أعلم.(1/695)
س:من المستحقين للزكاة: الغارمون، فمن الغارم، وكيف يستفيد من للزكاة ؟
الغارمون هم: الذين تحملوا الديون، وتعذر عليهم أداؤها، ومن أنواعهم: من تحمل مبلغا لإصلاح ذات البين، أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله، أو استدان لحاجته إلي الاستدانة، أو دفع الدية في القتل عن قريبه، أو صديقه القاتل إلى أولياء القتيل، بحيث لو لم يدفع اقتص من القاتل بقتله، وفي مثل هذه الحالة يأخذ ما دفعه لأهل القتيل حتى لو كان هو غنيا.
روي مسلم أن: "رجلا أصيب في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) في ثمار ابتاعها، فكثر دينه؛ فأمر الناس أن يتصدقوا عليه، فلم تكف الصدقة بالدين، فقال: لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" .
والله أعلم.(1/696)
س:ومن هم العاملون على الزكاة المذكورون في آية: {إنما الصدقات} ؟
العاملون على الزكاة هم: الذين يوليهم الإمام أو نائبه للعمل على جمعها من الأغنياء، وهم الجباة، ويدخل فيهم الحفظة والحراس، ورعاة الأغنام، والكتبة، وغيرهم.
ويجب أن يكونوا من المسلمين، وألا يكونوا ممن تحرم عليهم الصدقة من آل رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقد صح في حديث مسلم "أن بعضا منهم طلب من الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يؤمرهم على الصدقات فقال: "إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوثاق الناس".
ويجوز أن يكون العاملون من الأغنياء، لأن أخذهم من الزكاة أجر على أعمالهم. وقد جاء ذلك في حديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة: "لا تحل صدقة لغني إلا لخمسة وهم: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تُصِدِّقَ عليه منها، فأهدى منها لغني.
وكان الرسول يعطي عمر المال، فيقول عمر له: أعطه من هو أحوج إليه مني، فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): "ما آتاك الله (عز وجل) من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس، فخذه فتموله أو تصدق به، وما لا، فلا تتبعه نفسك". رواه البخاري.
والأجرة تكون بقدر الكفاية. جاء في حديث رواه أحمد وأبو داود وسنده صالح: "من ولي لنا عملا وليس له منزل، فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم، فليتخذ خادما، أو ليست له دآبة، فليتخذ دآبة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال أي: خداع أو سارق.
وقد فسر بعض العلماء ذلك: بأن العامل على الزكاة له أن يتزوج ويسكن ويأتي بخادم من عمالته التي هي أجر مثله، ولا يزيد علي ذلك أو بأنه إن لم يكن له مسكن ولا خادم، فيستأجر له المسكن والخادم مدة مقامه في عمله .
والله أعلم .(1/697)
س: أنا أقدر زكاة مالي عند آخر العام، وأعرف فقراء هم أولى بدفعها إليهم، لكنني أعرف أنهم إذا أخذوها دفعة واحدة؛ أنفقوها بسرعة، واشتدت حاجتهم بعد ذلك، ورأيت أن من المصلحة أن أعطيهم كل شهر مقدارا منها حتى ينتهي العام، وقد برأت ذمتي من الزكاة تماما. فهل في هذا ما يخالف الشرع ؟
عندما يحين وقت وجوب الزكاة؛ يجب إخراجها، ومن الخير التعجيل بإعطائها إلى الجهات المستحقة.
فقد روى البخاري وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عندما انصرف من صلاة العصر قام سريعا، ودخل بعض بيوت أزواجه، ثم عاد، فوجد في وجوه القوم تعاجبا لسرعته فقال: "ذكرت وأنا في الصلاة تبرا عندنا، فكرهت أن يمسي، أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته".
وروى الشافعي والبخاري في التاريخ عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم) قال: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته". رواه الحميدي، وزاد قال: "قد يكون قد وجب عليك في ملك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال". وهذا شأن كل دين واجب ينبغي التعجيل بأدائه، ومن هنا قال جمهور الفقهاء: بجواز تعجيل إخراج الزكاة قبل وقت وجوبها، لكن مع فصل الزكاة، أو تعيين قدرها إذا رأى الإنسان أن من المصلحة توزيعها على فترات، فلا مانع، كانتظار وصول المستحقين، أو السفر إليهم، أو كجعلها كراتب شهري لأسرة فقيرة، لو أخذتها مرة واحدة، أنفقتها في غير ما لا يلزم، وبعد ذلك تحتاج إلى مساعدة، وما دام الإنسان يبغي المصلحة فلا مانع من توزيعها على فترات، مع التوصية لأوليائه؛ بمعرفة ما يجب عليه، وما بقي من غير توزيع حتى يقوموا بتوزيعه عند اللزوم.
والله أعلم.(1/698)
س:يحرص الكثيرون على صيام شهر رجب وشعبان ووصلهما بصيام شهر رمضان، نود أن نعرف ما فضل الصيام في شهر رجب وشعبان، وغيرهما من الشهور، غير شهر رمضان، ثم نود أن نعرف: هل يشرع صيام شهري رجب وشعبان بتمامها، ثم صيام رمضان بعدهما، ونرجو توجيه النصح لمن أراد الصوم فيهما ؟
إن الصيام المفروض هو صيام شهر رمضان، وصيام النذر، والكفارات، وما عدا ذلك فمستحب، فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) رغب في صيام التطوع، بمثل ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم: "ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا".
ومن الصيام المستحب الصيام في الأشهر الحرم التي منها شهر رجب، فشهر رجب يسن فيه الصيام؛ لأنه من الأشهر الحرم، ولم يرد حديث صحيح ولا حسن بخصوص ذلك، وكذلك الصيام في شهر شعبان وردت فيه أحاديث صحيحة منها ما رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنها) كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصوم أكثر شهر شعبان، بل كان يصومه كله أحيانا".
وجاءت في رواية تقول في سبب ذلك تعظيما لرمضان، كما روى النسائي أن "أسامة بن زيد سأله ( صلى الله عليه وسلم ) لم أرك تصوم في شهر ما تصوم في شهر شعبان، فقال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
وصيامه كله أو أكثره لمن وصل النصف الثاني بالنصف الأول.
أما الذي لم يصله فيكره أو يحرم أن ينشأ صياما في النصف الثاني، لحديث رواه أبو داود وبه أخذ الشافعي، كما جاء النهي عن صوم يوم أو يومين قبل رمضان، لحديث رواه الجماعة: "لا تقدموا يعني: لا تتقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين إلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك اليوم".هذا.(1/699)
ولم يرد حديث مقبول يقول: إن صيام رجب وشعبان صيام الشهرين، ووصل هذين الشهرين برمضان لم يرد حديث مقبول أن ذلك بدعة مذمومة، فالصوم في رجب وفي شعبان مشروع كما قدمنا، الأول؛ لأنه من الأشهر الحرم، والثاني لفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير أن هناك توصية بعدم الإرهاق، وتكلف الإنسان ما لا يطيق.
وفى البخاري ومسلم عن عائشة عنها قالت: "لم يكن النبي ( صلى الله عليه وسلم) يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله، وكان يقول: خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، فإذا كان في صوم الشهرين إرهاق يؤثر على صيام رمضان، كان التتابع مخالفا للحديث، ويكره أن يكون ذلك عن طريق النذر، فقد يحصل العجز ويكون المحظور، ومن استطاع بغير إرهاق فلا مانع، مع مراعاة إذن الزوج، إذا أرادت الزوجة أن تصوم هذا التطوع.
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه".
والله أعلم .(1/700)
س: سمعنا بعض المتحدثين يصفون شهر رجب بالأصم. فما معنى هذه الكلمة ؟
العرب في زمانهم القديم كانوا يسمون أيام الأسبوع، وشهور السنة بأسماء تختلف عن المعهود لنا بعد مجيء الإسلام، وكان للجو الطبيعي والنظام القبلي دخل في تعيين هذه الأسماء، وشهر رجب كان يسمى قديما (أحلك) كما يقول المسعودي في كتابه (مروج الذهب) ويقول البيروني: إن رجب كان يسمى بالأصم، وهو أحد الأشهر الأربعة التي قال الله فيها: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم }.
وهذه الأشهر الحرم قد عينها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأسمائها في خطبته في حجة الوداع، وقال عنها: "ثلاثة سرد وواحد فرد". والثلاثة السرد هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، والفرد هو: رجب.
ولفظ رجب فيه معنى التعظيم حيث كان العرب في الجاهلية يعظمونه، ولا يستحلون فيه القتال، كما لا يستحلونه في الأشهر الثلاثة الأخرى.
غير أنه لما كان وحده بعيدا عن أشهر الحج أعطوه اسما فيه معنى التعظيم، حتى يتذكره الناس ولا ينسوه، وكان الكثيرون يعتمرون فيه قبل دخول موسم الحج، ولعل وصف رجل بالأصم مأخوذ من السكوت، حيث لا تسمع فيه قعقعة السلاح بالقتال، ولا الصيحة بالاستنفار إليه.
يقول القرطبي في تفسيره: كانت العرب تسميه أي: رجب موصل الأسنة أي: مخرجها من أماكنها، كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح، ونصال السهام إبطالا للقتل فيه، وقطعا لأسباب الفتن لحرمته.
وقد ورد ذكر ذلك في البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر وإذا وجدنا حجرا هو خير منه، ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حصوة من تراب، ثم جئنا بالشاة، فحلبنا عليه، ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب كنا نوصل الأسنة، فلم ندع رمحا فيه حديدة، ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناها، فألقيناه.(1/701)
وكان من عادة العرب النسيء، وهو تأخير بعض الأشهر الحرم إلى غير موعدها استعجالا للقتال، وكان للقلمس وأولاده زعامة النسيء لا يرد كلامهم وكانت ربيعة بن نزار تؤخر رجب، وتجعل بدله رمضان، وكان من العرب من يحلون رجبا، ويحرمون شعبان، لكن مضر كانت تحافظ على حرمة شهر رجب لا تستحله أبدا.
وجاء ذلك في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حجة الوداع، كما رواه الشيخان وهو يخبر أن: "الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض وعين الأشهر الحرم". وعند ذكر رجب قال: "ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". فأضافه إلى مضر؛ لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب.
قال ابن حجر في (فتح الباري): أضافه إليهم؛ لأنهم كانوا يتمسكون بتعظيمه، بخلاف غيرهم، وكان بين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) موضع رجب؛ لأنه ما بين جمادى وشعبان، وليس هو ما كان في نسيئهم الذي يؤخرونه به عن موضعه الحقيقي.
هذا هو شهر رجب الأصم الذي ندب الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صيام ما يستطاع منه، ومن غيره من الأشهر الحرم، ولم يرد فيه بخصوصه حديث باستحباب الصيام يرتقي إلى درجة الصحة.
والله أعلم .(1/702)
س:يحرص الكثيرون على صيام أول يوم من رجب أو صيام أيام معينة منه، فبعضهم يصومه، ويصوم شعبان ثلاثة أشهر متواليات. فهل هذا مشروع ؟
شهر رجب من الأشهر الحرم، والصيام فيها مندوب، كما ورد في حديث الباهلي الذي قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "صم من الحرم واترك". كما رواه أبو داود.
والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرغب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما في الصحيحين، بل كان يرغب في الصيام مطلقا، فصيام أيام من رجب مندوب بدليل هذه الأحاديث العامة.
ولكن لم يرد نص صحيح خاص بفضل الصيام في أول يوم منه، أو غيره من أيامه.
وفى غير الصحيح الوارد في ذلك حديث أنس: "إن في الجنة نهر يقال له: رجب ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، فمن صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر". وهو حديث ضعيف.
وحديث ابن عباس: "من صام من رجب يوما كان كصيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب الجحيم السبعة، ومن صام منه ثمانية؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام؛ بدلت سيئاته حسنات". وهو ضعيف أيضا كما ذكره السيوطي في كتابه: (الحاوي للفتاوي).
وصيام رجب كله مع شعبان ليكمل بهما مع رمضان ثلاثة أشهر لم يرد ما يمنعه وإن قال بعض العلماء: إن التزام ذلك لم يكن على عهد السلف، فهو مبتدع، والأولى الصيام بقدر المستطاع مع عدم الالتزام بنذر ونحوه، حتى لا يقع الصائم في محظور.
والله أعلم .(1/703)
س:ولماذا سمي رمضان بهذا الاسم، وما صحة القول بأن اسم رمضان من أسماء الله الحسنى ؟
جاء في كتاب: (المواهب اللدنية) للقصطلاني وشرحها للزرقاني أن: لفظ رمضان مشتق من الرمض وهو: شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر، كما سمي الربيعان؛ لموافقتهما زمن الربيع، أو لأنه يرمض الذنوب أي: يحرقها، وهذا القول ضعيف؛ لأن التسمية ثابتة به قبل الشرع الذي عرف منه أنه يرمض الذنوب.
وفى تفسير القرطبي قيل: هو من رمضت النصل رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق، ومنه نصل رميض ومرموض، وسمي الشهر به؛ لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان؛ ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم.
وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية ناتق.
وفى القرطبي أيضا أن مجاهدا كان يقول: بلغني أنه اسم من أسماء الله، وكان يكره أن يجمع لفظه بهذا المعنى يعني: لا يقال: رمضانات، ويحتج بما روي ورمضان اسم من أسماء الله (تعالى) وهذا ليس بصحيح، فإنه من حديث أبي معشر وهو ضعيف، وبذلك ينتفي قوله من أسماء الله الحسنى المنصوص عليها في السنة والمأثورات الإسلامية.
والله أعلم.(1/704)
س:في الحديث الشريف يقول المصطفى( صلى الله عليه وسلم ) "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". فهل يجوز أن تفسر الرؤية بالرؤية العلمية، لا البصرية حتى يمكن توحيد أوائل الشهور العربية ؟
موضوع توحيد بدء الصيام وبالتالي توحيد العيد في البلاد الإسلامية، موضوع ناقشه الفقهاء في القرون الأولى، وفي القرون الحديثة وهم جميعا متفقون على أنه لا تعارض بين الدين والعلم أبدا، فالدين نفسه يدعو إلى العلم وفى مسألتنا هذه علق الحديث الصوم والإفطار على رؤية الهلال، فإن لم تمكن الرؤية بالبصر لجأنا إلى العلم، والإرشاد إلى إكمال عدة شبعان إلى ثلاثين يوما، توجيه لاحترام الحساب الذي هو مظهر من مظاهر العلم، والراصدون للهلال يستعينون بالمناظير وهي أداوت علميه، كما يستعينون بمصلحة الأرصاد بأجهزتها وإمكاناتها الأخرى. والموضوع له بحث طويل علمي وديني واكتفي هنا بذكر أن مؤتمر مجمع البحوث الثالث المنعقد في سنة 1966 قرر بشأنه ما يأتي:
أولا: أن الرؤية هي الأصل في معرفة دخول أي شهر قمري، كما يدل عليه الحديث الشريف، فالرؤية هي الأساس، لكن لا يعتمد عليها إذا تمكنت منها التهم تمكنا قويا.
ثانيا: يكون ثبوت الرؤيا في الهلال بالتواتر، والاستفاضة، كما يكون بخبر واحد ذكرا كان أو أنثى، إذا لم تتمكن التهمة في إخباره لسبب من الأسباب، ومن هذه الأسباب مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به الصادر ممن يوثق به.
ثالثا: خبر الواحد ملزم له ولمن يثق به أما إلزام الكآفة، فلا يكون إلا بعد ثبوت الرؤية عند من خصصته الدولة الإسلامية للنظر في ذلك.
رابعا: يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية، ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر السابق ثلاثين يوما.(1/705)
خامسا: يرى المؤتمر أنه لا عبرة باختلاف المطالع، وإن تباعدت الأقاليم متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية وإن قل، ويكون اختلاف المطالع معتبرا بين الأقاليم التي لا تشرك في جزء من هذه الليلة.
سادسا: يهيب المؤتمر بالشعوب والحكومات الإسلامية أن يكون في كل إقليم إسلامي هيئة إسلامية يناط بها إثبات الشهور القمرية مع مراعاة اتصال بعضها ببعض والاتصال بالمراصد والفلكيين الموثوق بهم.
وبناء على هذه القرارات صار العمل في مصر على إعلان بدأ الصيام ونهايته بعد الاتصال بالدول الأخرى. هذا.
و أود أن يتنبه المسلمون إلى أن هناك عوامل أخرى لها أهميتها البالغة وأثرها القوي في وحدة الأمة الإسلامية من أهمها: توحيد التشريع والقضاء والنظم الدستورية والاقتصادية والثقافية على أساس من الدين الذي يدينون به جميعا فإن عدم توحيد هذه الأمور، وغيرها هو الذي باعد بين المسلمين وجعلهم نهبا لغيرهم من الدول، وجعل رابطتهم مفككة، وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه البيهقي عنه يقول: "ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم".
والله أعلم .(1/706)
س:وما المقصود بيوم الشك، ولماذا يحرم الصوم فيه ؟
يوم الشك هو يوم الثلاثين من شهر شعبان ذلك لأن قد يكون الشهر تسعة وعشرين يوما، وقد يكون ثلاثين يوما.
وقد صح النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وقد روى الجماعة عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا تقدموا أي تتقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين إلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك اليوم". وقال الترمذي حسن صحيح.
والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان بمعنى رمضان.
وروى أصحاب السنن أن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) قال: "من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد، وغيرهم.
ورأى أكثرهم إن صامه وكان من شهر رمضان لابد أن يقضي يوما مكانه؛ لأنه لا ينوي صيامه كيوم من رمضان حيث لا يعلم إن كان منه أو لا، فنيته غير جازمة والنية المعتبرة تكون جازمة صادرة عن يقين، فكأنه نوى صوم غد إن كان من رمضان، ولو تبين أنه منه لا تجزئ هذه النية، فيكون الصوم باطلا لابد أن يقضى، ولو صام هذا اليوم كعادة له كأن صادف ـ مثلا ـ يوم الاثنين وهو متعود صيام يوم الاثنين، فهو جازم بنيته، ولذلك كانت صحيحه فيصح صومه نقلا إن تبين أنه يوم الثلاثين، كما يصح فرضا إن تبين أنه أول رمضان، وذلك عند الحنفية.
وقد نقل عن جماعة من الصحابة جواز صيام يوم الشك منهم: علي وعائشة وعمر وابن عمر وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وغيرهم، كما نقل صيامه عن جماعة من التابعين يقول الشوكاني في كتابه: (نيل الأوطار): والحاصل إن الصحابة مختلفون في ذلك، وليس قول بعضهم بحجة على أحد. هذا.(1/707)
والحكمة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، الحكمة مختلف بها، والمعتمد ما ارتضاه ابن حجر في (فتح الباري): من أن الصيام الاحتياطي محاولة للطعن في حكم تعلق الصوم برؤية الهلال الذي ورد به الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.
ويلاحظ أن النهي عن صوم يوم الشك لا يمنع صحة صومه عن القضاء قبل دخول شهر رمضان، حتى لا تلزم الكفارة مع القضاء إن تأخر عن رمضان وكذلك من نذر صوم يوم معين فصادف يوم الشك، لا يحرم قوله.
والله أعلم .(1/708)
س:إذا كان لي ولد يبلغ من العمر أكثر من عشر سنوات، وصحته ضعيفة ويصر على الصوم، ولخوفي عليه أحاول منعه من الصيام. فهل علي في ذلك إثم ؟
الصوم كسائر التكاليف، لا يجب على المسلم إلا عند البلوغ، وذلك لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه.
لكن بعض العلماء أوجب على الصبي إذا بلغ عشرا أن يصوم، وذلك لحديث: "إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان". رواه ابن جريج.
وكذلك قياسا على الصلاة التي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بضرب الغلام عليها إذا بلغ عشرا.
لكن الرأي الأول هو الصحيح، وهو عدم وجوب الصوم إلا بالبلوغ، ومن هو دون العشر ليس هناك خلاف في عدم وجوب شيء عليه، من صلاة وصيام وغيرهما، ولكن مع ذلك يستحب أن يمرن على العبادات؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمرنا أن نأمر أولادنا لسبع سنين، كما رواه أبو داود بإسناد حسن.
وكان الصحابة يمرنون أولادهم على الصيام أيضا.
روى البخاري ومسلم عن الرهية بنت معوذ بن عفراء أنهم كانوا يصومون عاشوراء ويصومون صبيانهم الصغار، ويذهبون بهم إلى المسجد، ويجعلون لهم اللعبة من الصوف، فإذا بكى أحدهم من أجل الطعام أعطوه إياها حتى يحين وقت الإفطار، وكل هذا في الأولاد الذين يطيقون الصيام.
أما من كان فيهم مرض أو صحتهم ضعيفة يزيدها الصوم ضعفا، فليس على الآباء والأمهات أن يأمروهم بالصيام.
لكن لا ينبغي أيضا أن ينهوهم عنه بل يتركونهم يجربون ذلك بأنفسهم، وإن أطاقوا استمروا وإلا فإنهم سيتركونهم باختيارهم.
وعلى الآباء والأمهات أن يمدحوا في أولادهم عزمهم على الصيام وأن يبينوا لهم حكمة تشريعه بلباقة وكياسة، وسيكون استمرارهم في هذه التجربة أو عدولهم عنها باقتناع، وهذا منهج تربوي سليم.
والله أعلم .(1/709)
س:ماذا عن أثر الصيام في علاقة الإنسان بربه ؟
الصوم فيه تقديم رضى الله على النفس، وتضحية بالوجود الشخصي بالامتناع عن الطعام والشراب، وبالوجود النوعي بالإمساك عن الشهوة الجنسية، وذلك ابتغاء وجه الله وحده الذي لا يتقرب لغيره من الناس بمثل هذا الأسلوب من القربات.
ومن هنا كان ثوابه عظيما يوضح ويبين علته قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله ـ تعالى: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ليدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي". رواه البخاري ومسلم.
و في الصوم إحساس بنعمة الطعام والشراب والمتعة الجنسية عندما يحرم منها ونفسه تائقة إليها، فيكون شكره عليها بالإطعام المتمثل في كثرة الصدقات وفى كثرة الصيام، وفى توقيت الصيام بشهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن تذكير للإنسان بنعمة الرسالة المحمدية، ونعمة الهداية القرآنية التي يكون الشكر عليها بالاستمساك بها لعلكم تشكرون، وفي فترة إشراق الروح بالصيام، وتلاوة القرآن تتوجه القلوب إلى الله بالدعاء الذي لا يرده كقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر أو حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم". رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان وحسنه الترمذي.
ولعل مما يشير إلى الإغراء بالدعاء في الصيام توسط قوله ـ تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان }. بين آيات الصيام.
هذا بعض ما يبين حكمة الصيام في تقوية علاقة الإنسان بربه.
والله أعلم .(1/710)
س:وما أثر الصيام في تهذيب أخلاق الصائم ؟
الصيام فيه تخليص الإنسان من رق الشهوة والعبودية للمادة، وفيه تربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم، وهذا جهاد شاق يعود الصبر والتحمل ويعلم قوة الإرادة ومضاء العزيمة، ويعد الإنسان لمواجهة جميع احتمالات الحياة بحلوها، ومرها، وسائر متقابلاتها، ليجعل منه رجلا كاملا في عقله ونفسه وجسمه، يستطيع أن يتحمل تبعات النهوض بمجتمعه عن جدارة وقوة، وقد شرعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علاجا لقوة الشهوة لمن لم يستطع الزواج ففي الحديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء". أي: قاطع. رواه البخاري ومسلم.
والإنسان إذا تحرر من سلطان المادة؛ اتخذ لنفسه جنة قوية تحصنه ضد الأخطار التي ينجم أكثرها عن الانطلاق والاستسلام للغرائز والأهواء، يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "الصوم جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سآبه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم". رواه البخاري ومسلم.
والصائم الذي يمتنع عن المحرمات، وعن الحلالات التي تدعو لها الشهوة إنسان عزيز كريم، يشعر بآدميته، وامتيازه عن الحيوانات التي تسيرها الغرائز.
والصيام أيضا يعود التواضع، وخفض الجناح ولين الجانب، وبالتالي يعرف الإنسان قدره، ويحس بضعفه، ومن عرف قدر نفسه؛ تفتحت له أبواب الخير واستقام به الطريق.
إن الصيام إلى جانب ما فيه من صحة النفس، فيه صحة بدنية أسهب المختصون في بيانها وتأكيد آثارها الطبية.
ففي الحديث: "صوموا تصحوا". رواه الطبراني عن رواة ثقاة.(1/711)
والصوم يعود النظام والتحري والدقة، وذلك بالتزام الإمساك عند وقت معين، وحرمة الإفطار قبل حلول موعده، قال ـ تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل }.
كما أن في الصيام الصادق اقتصادا وتوفيرا يفيد الصائم وتفيد أسرته، وتفيد الأمة.
هذا بعض ما يكونه الصيام في أخلاق الإنسان.
والله أعلم .(1/712)
س:وهل للصيام أثر في تقوية العلاقة الاجتماعية بين الأفراد ؟
إن الصيام بما فيه من الجوع والعطش حين يحس بهما الصائم تتحرك يده فتمدد بالخير والبر للفقراء الذين عانوا مثل ما عانى من ألم الجوع وحر العطش، ومن هنا كانت السمة البارزة للصيام هي: المواساة والصدقات وعمل البر، وكانت شعيرة يوم العيد زكاة الفطر، وذلك للتوسعة على الفقراء، وهي بمثابة امتحان للصائم بعد الدروس الطويلة التي تلاقها في شهر رمضان، وبهذا كانت زكاة الفطر جوزا المرور لقبول الصوم كما يقول الحديث: "صوم رمضان معلق بين السماء والأرض لا يرتفع إلا بزكاة الفطر". رواه أبو حفص.
الصيام بهذا المظهر يعد للحياة القائمة على التعاون على البر والرحمة لعمل الخير عن طيب نفس وإيمان واحتساب.
ورد عن ابن عباس (رضي الله عنهما) "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أجود بالخير من الريح المرسلة". رواه البخاري ومسلم.
والصيام الكامل عن كل المشتهيات يكف الإنسان عن الكذب والزور والفحش والنظر المحرم والغش وسائر المحرمات.
وفى الحديث الشريف: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البخاري.
والزور هنا معناه: الباطل بكل مظاهره وألوانه.
وقد رأى بعض العلماء أن الغيبة والنميمة يفسدان الصوم كما يفسده تناول الطعام، لقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في شأن الصائمتين المغتابتين صامتا عما أحل الله يعني: الطعام وأفطرتا عما حرم الله". رواه أحمد وأبو داود.
وفى بيان أثر الصيام في العلاقات الاجتماعية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في شأن المرأة التي تؤذي جيرانها بلسانها: "إنها في النار بالرغم من كثرة صلاتها وصيامها". رواه أحمد والحاكم وصححه. هذا.(1/713)
والصيام يعود الإخلاص في العمل، ويعود مراقبة الله في السر والعلن، وإذا كان هذا طابع الإنسان في كل أحواله؛ أتقن عمله وأنجز كل ما يوكل إليه من المهام على الوجه الأكمل، وعف عن الحرام أيا كان نوعه، وعاش موفقا راضيا مرضيا عنه، وأفادت منه أمته إفادة كبيرة.
والله أعلم(1/714)
س:ولماذا يحرم صوم المرأة مع العادة الشهرية ؟
أجمع الفقهاء على أمرين بالنسبة للمرأة إذا كانت حائضا أو نفساء وهمها: عدم وجوب الصوم عليها، وعدم صحته إذا صامت بل على حرمة صومها.
يقول الخطيب الشافعي في كتابه: (الإقناع) قال الإمام: وكون الصوم لا يصح منها لا يدرك معناه؛ لأن الطهارة ليست مشروطة فيه، وهل وجب عليها، ثم سقط أو لم يجب أصلا، وإنما يجب القضاء بأمر جديد. وجهان: أصحهما الثاني.
قال في (البسيط): وليس لهذا الخلاف فائدة فقهية.
وقال في (المجموع): يظهر هذا وشبهه في الأيمان والتعاليق بأن يقول: متى وجب عليك صوم فأنت طالق. انتهى كلام الخطيب ليس.
ليس هناك دليل قولي من القرآن والسنة يحرم الصيام على المرأة عند وجوب الدم، فالإجماع فقط هو الدليل.
وحاول بعض العلماء أن يأخذ عليه دليلا من حديث الصحيحين عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "كنا نحيض على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. فقال: "الأمر بقضاء الصوم يستلزم بطلانه لو حدث منها في رمضان".
لكن ليس ذلك مطردا، فإن القرآن أوجب القضاء على المريض والمسافر، ومع ذلك يجوز أن يصوم كل منهما، وأن يقع الصوم صحيحا.
فلعل عدم وجوب الصوم على المرأة مع وجود ** لعله تشريع سابق متعارف عليه وأقره النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
والحكمة في ذلك ليست لوجود الجنابة، فالجنابة بغير الدم لا تمنع الصوم ولا تبطله، فلو حدثت جنابة باتصال جنسي قبل الفجر، أو باحتلام ليلا أو نهارا، ثم استمر من عليه الحدث طول النهار بدون غسل، فإن صومه صحيح، وإن كانت هناك حرمة لترك الصلاة التي تحتاج إلى طهارة.(1/715)
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة (رضي الله عنها) أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصبح جنبا وهو صائم، ثم يغتسل، كما أن الحكمة ليست المرض الذي يسببه نزول الدم فإن المرض لا يمنع من الصيام ويجزئ، لأن الفطر رخصة لا عزيمة، وفطر صاحبة الدم عزيمة لا رخصة.
والخلاصة أن:
دليل بطلان الصوم ممن عليها الدم هو الإجماع، والحكمة غير متيقنة، والمتيقن هو وجوب الإعادة عليها كما في الصحيحين من دلالة خبرهما على العلم اليقيني في أحكام الفروع.
والله أعلم .(1/716)
س:هناك نصوص تدعو إلى المبادرة بالإفطار عند غروب الشمس، ونصوص أخرى تدعو إلى المبادرة بصلاة المغرب. فكيف يمكن الجمع بين هذه النصوص ؟
روى البخاري ومسلم أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان في سفر مع أصحابه في رمضان، فلما غابت الشمس طلب من بلال أن يعد لهم طعام الإفطار، فلم أعده شرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أشار بيده، إذا غابت الشمس من هاهنا، وجاء الليل من هاهنا، فقد أفطر الصائم". أي: حل له الفطر.
فإذا غاب قرص الشمس؛ حل الفطر حتى لو كان الشفق مضيئا.
وروى أبو داود عن أنس (رضي الله عنه) أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفطر قبل أن يصلي المغرب، وفطره كان على رطبات، فإن لم يجد فتمرات فإن لم يجد فعلى ماء".
وهذا الإفطار الخفيف المحتوي على بعض السكريات له فوائده الطبية العظيمة.
يقول ابن القيم: وإنما خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفطر بما ذكر لأن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله، وانتفاع القوى به لا سيما قوة البصر.
وأما الماء فإن الكبد يحصل لها صوم نوع لبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى للظمآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعد ذلك.
وقد صح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه البخاري ومسلم أنه قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر".
وفيما رواه أحمد والترمذي يقول الله ـ عز وجل: "إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا".
فإذا تحقق الصائم غروب الشمس؛ بادر في الإفطار الخفيف المحتوي على مادة سكرية لأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة.
ويؤخذ من هذا أن: تقديم الفطر على صلاة المغرب هو هدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكن ليس معنى هذا أن يفطر الإنسان إفطارا كاملا وأن يستغرق فيه وقتا طويلا، ثم بعد ذلك يقوم لصلاة المغرب في آخر وقتها لأن الصلاة في أول وقتها من أفضل الأعمال.(1/717)
وصلاة المغرب بالذات وقتها ضيق، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه أحمد وأبو داود: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم".
فلأجل الحرص على الفضيلتين وهما: تعجيل الفطر، وتعجيل صلاة المغرب يكون الإفطار خفيفا جدا على شراب أو طعام حلو أو ماء، ثم تصلى المغرب، ثم بعد ذلك يكمل الإفطار في طمأنينة وراحة بال.
والله أعلم .(1/718)
س: معروف أن الصوم ركن من أركان الإسلام. فما الحكم فيمن صام رمضان وأقام هذا الركن، وأهدر ركنا آخر وهو الصلاة. فهل صومه صحيح، وينال عليه الأجر ؟
هناك فرق بين بطلان العبادة، وعدم قبلوها، فقد تكون صحيحة لا تجب إعادتها؛ لأنها مستوفية الأركان، والشروط، ومع ذلك تكون غير مقبولة عند الله، كمن يصلي رياء أو في ثياب مسروقة.
والذي يصوم وإن كان ممسكا عن المفطرات، وهو الطعام والشراب، والشهوة فصومه صحيح غير باطل، حتى لو ارتكب بعض المعاصي: كالكذب وكترك الصلاة، لكن مع صحة الصوم، هل يكون مقبولا يؤجر عليه من الله؟ إن الأحاديث صحت في حرمان هذا الصائم من قبول صومه، مثل حديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه الجماعة إلا مسلما.
وبالمثل: من يصوم ولا يصلي صومه صحيح، لا تجب إعادته لترك الصلاة.
أما قبوله، فالحديث يدل على عدم القبول، وعلى فرض القبول وأخذ الثواب عليه، فإن عقاب ترك الصلاة عقاب شديد، ويظهر ذلك في الميزان يوم القيامة، إذا لم يكن عفو من الله (تعالى) فنضع أمام أعيننا، وفى قلوبنا قول الله ـ سبحانه: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره } وقوله: { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد }.
والله أعلم .(1/719)
س:شخص بدأ الصيام في مصر طبقا لتحديد أول شهر رمضان فيه، فسافر إلى بلد آخر اختلف التوقيت فيه مع مصر. فماذا يفعل في نهاية شهر رمضان، هل يتبع مصر في الإفطار للعيد، أم يتبع البلد الذي هو فيه، وقد يؤدي ذلك إلى أن يكون صومه 28 يوم أو31يوم ؟
من بدأ الصيام في رمضان في بلد حسب الرؤية في يوم الجمعة ـ مثلا ـ ثم سافر إلى بلد بدأ الصيام فيه حسب الرؤية يوم الخميس، فمكث هناك حتى انتهى الشهر، فمن الجائز أن يكمل الشهر في البلد الثاني ثلاثين يوما، فيكون العيد يوم السبت، فليس هناك مشكلة إذاك، كما أن من الجائز أن البلد الثاني يجعل الشهر تسعة وعشرين يوما، فيكون العيد يوم الجمعة، وعليه أن يكون الشخص الذي بدأ الصيام في يوم الجمعة في البلد الأول قد صام ثمانية وعشرين يوما، فماذا يفعل والبلد الثاني الذي هو فيه عيدهم يوم الجمعة و الصيام يحرم يوم العيد؟
والشهر كما قال الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تسعة وعشرون يوما أو ثلاثون، ولا يكون أبدا ثمانية وعشرين يوما، وعلى هذا نقول لهذا الشخص:
لك الخيار في أن تفطر يوم العيد معهم، وعليك أن تصوم يوما آخر؛ ليكمل لك الشهر تسعة وعشرين يوما.
هذا ما أراه، والموضوع اجتهادي، وإن كنت أفضل موافقة البلد الثاني في الإفطار يوم العيد مع صيام يوم آخر.
والله أعلم .(1/720)
س:ما حكم السفر في نهار رمضان، وعلى أي توقيت يفطر المسافر بالطائرة ؟
قال الله ـ تعالى: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }.
قال أبو سعيد الخدري: "كنا نغزوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم أي: لا يعير بعضهم بعضا، ثم يرون أن من وجد قوة فصام فذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن". رواه مسلم وأحمد.
يؤخذ مما تقدم وغيره أن السفر مبيح للفطر من الصيام واشترط الفقهاء أن يكون سفرا طويلا حوالي ثمانين كيلو أو أكثر وفى غير معصية.
ويرى جمهورهم أن من نوى صيام ليلا، ثم شرع في السفر أثناء النهار لا يجوز له الإفطار، وعليه أن يتم صومه.
لكن الإمام أحمد يجيز الفطر لمن يسافر أثناء النهار، وذلك للحديث الحسن الذي رواه الترمذي عن محمد بن كعب قال: "أتيت في رمضان أنس بن مالك، وهو يريد سفرا، وقد وحلت له راحلته، فلبس ثياب السفر، فدعى بطعام، فأكل. فقلت له: سنة؟ فقال: سنة، ثم ركب".
والأولى اتباع رأي الجمهور ما دام قد طلع الفجر، وهو صائم غير مسافر، ثم إذا وجد مشقة أثناء السفر؛ جاز له الفطر لا من أجل السفر، بل من أجل المرض، والشعور بالمشقة يرجع إلى إحساس الإنسان بنفسه، فليتق الله ربه وهو بكل شيء عليم. هذا.
فإن كان مسافرا بالطائرة على ارتفاع كبير، فإن الشمس تغرب أحيانا على الأرض التي يمر فوقها، وهي ما تزال ظاهرة له لم تغرب.
فهل يجوز له الإفطار نظرا إلى غروبها على الأرض، أو يظل صائما حتى تغيب عن نظره، ولو طال النهار؟
يقول الله ـ تعالى: { ثم أتموا الصيام إلى الليل }.(1/721)
وروى البخاري ومسلم أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان في سفر مع أصحابه في رمضان، فلما غربت الشمس طلب من بلال أن يعد طعام الإفطار فلما أعده شرب منه، وقال مشيرا بيده: إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم".
يؤخذ من هذا أن الإفطار لا يحل للصائم إلا إذا جاء الليل، والليل يجيء إذا غربت الشمس، وما دام المسافر بالطائرة لم تغرب عنه الشمس، فلا يجوز له أن يفطر، وقد يحدث أن يكون متجها إلى الشرق فيقصر النهار، أو يكون متجها إلى الغرب فيطول النهار.
فالعبرة بغياب الشمس عنه من أي اتجاه، ولا عبرة بتوقيت المنطقة التي يمر عليها، ولا بتوقيت البلد الذي سافر منه، فإن شق عليه الصيام بطول النهار فله رخصة الإفطار للمشقة.
والله أعلم .(1/722)
س:وهل يشترط للمسافر الذي يريد السفر أن يكون سفره قبل الفجر، وهل يجوز للصائم أن يفطر إذا اضطر إلى سفر مفاجئ ؟
جمهور الفقهاء على أن: المسافر الذي يجوز له الفطر في رمضان، لابد أن يطلع عليه الفجر وهو مسافر، وأن يكون سفره طويلا، حتى ولو كان السفر مريحا، كالسفر بالطائرة، فيجوز له الفطر، فإن كان السفر قصيرا لا يجوز له الفطر، فإذا طلع عليه الفجر وهو غير مسافر وسافر بعده، فلا يجوز له الفطر عند جمهور الفقهاء.
وأجاز أحمد بن حنبل الفطر مطلقا، حتى ولو كان السفر بعد الزوال، ولا مانع من تقليد هذه المذهب إذا كان في الصوم مشقة.
ثم قال العلماء: إذا بيت نية الصيام في السفر؛ يجوز له الفطر، ولا إثم عليه وعليه القضاء، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
ومنعه المالكية وأوجبوا عليه القضاء والكفارة؛ إذا أفطر كما منعه الحنفية وأوجبوا عليه القضاء دون الكفارة.
أما الأفضلية للمسافر في الصوم أو الفطر، فقد قال الحنفية والشافعية: إن الصوم أفضل، وهو مندوب ما دام لا يشق عليه، فإن شق عليه؛ كان الفطر أفضل، وإذا ترتب على الصوم خطر على نفسه، أو تعطيل منفعة كان الفطر واجبا.
وقال المالكية: يندب للمسافر الصوم و لو تضرر كأن حصلت له مشقة.
وقال الحنابلة: يسن له الفطر ويكره الفطر ولو لم يجد مشقة، وذلك لحديث: "ليس من البر الصيام في السفر".
هذه هي الآراء ولكل أن يختار ما يشاء.
والله أعلم .(1/723)
س:إذا نسيت نية الصيام بالليل، ثم تذكرت بعد الفجر أنني لم أنو. هل يصح صومي ؟
النية للصوم لابد منها، ولا يضح بدونها، وأكثر الأئمة يشترط أن تكون لكل يوم نية، واكتفى بعضهم بنية واحدة في أول ليلة من رمضان عن الشهر كله، ووقتها من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا نوى الإنسان الصيام في أية ساعة من ساعات الليل كانت النية كافية، ولا يضره أن يأكل أو يشرب بعد النية، ما دام ذلك كله قبل الفجر.
روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي أن: رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له".
ولا يشترط التلفظ بالنية، فإن محلها القلب، فإن عزم بقلبه على الصيام؛ كفى ذلك، حتى لو تسحر بنية الصيام، أو شرب حتى لا يشعر بالعطش طيلة النهار كان هذا نية كافية، فمن لم يحصل منه ذلك في أثناء الليل لم يصح صومه، وعليه القضاء.
هذا في صوم رمضان.
أما صوم التطوع، فتصح نيته نهارا قبل الزوال.
والله أعلم .(1/724)
س:سائل يقول: طلع علي الفجر في رمضان وأنا في جنابة، ولم أغتسل إلا بعد طلوع الشمس. فهل صومي صحيح ؟
الجنابة إما حيض ونفاس، وهي خاصة بالنساء، وإما بالاتصال الجنسي، أو بنزول المني في اليقظة، أو النوم بالاحتلام، وهي مشتركة بين الرجال والنساء، فإذا طلع الفجر والحيض أو النفاس موجود؛ حرم الصيام، ولو صامت المرأة فالصوم باطل مع الإثم، لكن لو انقطع الدم قبل الفجر انقطاعا تاما ولم تغتسل إلا بعد الفجر، فالصوم صحيح، وذلك كالجنابة لشيء آخر غير الحيض والنفاس، فالصوم صحيح مع عدم الاغتسال، والاغتسال شرط للصلاة، ولأمور أخرى، وليس للصيام.
فقد ثبت أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصبح جنبا وهو صائم".
يعنى يطلع الفجر وهو لم يغتسل بعد، ثم يغتسل بسرعة ليصلي الصبح جماعة مع الناس، وذلك فيما رواه في البخاري ومسلم عن عائشة (رضى الله عنها).
والله أعلم .(1/725)
س:قد وردت أحاديث توضح فضل شهر رمضان، وفضل العلم فيه، فنود إلقاء الضوء على ذلك؟ .
مما ورد في فضل شهر رمضان حديث رواه أحمد أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما حضر رمضان قال: قد جاءكم شهر مبارك افترض الله فيه عليكم صيامه، تفتح فيه أبوب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم".
وحديث رواه أحمد والنسائي بسند جيد جاء فيه زيادة على ما جاء في الحديث السابق جاء قوله: "ينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر ويا باغي الشر أقصر حتى ينقضي رمضان".
وحديث رواه مسلم: "والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
وحديث رواه أحمد والبيهقي بسند جيد: "من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه؛ كفر ما قبله".
وحديث رواه أحمد وأصحاب السنن: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ومعنى إيمانا: عزيمة وتصديقا، ومعنى احتسابا: راغبا في ثواب الله مخلصا.
وهناك حديث مقبول رواه سلمان في خطبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لاستقبال شهر رمضان جاء فيه: "أن من أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، ومن تقرب فيه بسنة كان كمن تقرب بفريضة، وأنه شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار".
والله أعلم .(1/726)
س:تختلف البلاد باختلاف موقعها الجغرافي، وكذلك يختلف فصول الليل والنهار وتوجد بعض البلاد يطول النهار فيها فيصل إلى اثنين وعشرين ساعة. فما الحكم في صيام المسلمين في هذه البلاد، وكيف يصومون وقد يضرهم الصوم هذه المدة الطويلة ؟
اختلف الفقهاء في الصيام في بلد يطول نهاره ويقصر ليله، أو يطول ليله ويقصر نهاره.
فقال بعضهم: يكون التقدير على أقرب البلاد المعتدلة إليهم.
ويقول الآخرون: يكون التقدير بحسب البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع: كمكة والمدينة.
ومهما يكن من شيء فإن كان الصوم في النهار الطويل يشق؛ يجوز الإفطار ويجب القضاء في بلد معتدل إن كان ذلك ممكنا، وإلا كانت الفدية كما قال ـ تعالى: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين }. على معنى: يطوقونه أي: يتكلفونه بشدة، كما قال بعض المفسرين.
والله أعلم .(1/727)
س:وبما يثبت شهر رمضان، وإذا رأى شخص واحد الهلال دون غيره، هل يصوم هذا الشخص ؟
شهر رمضان يثبت برؤية الهلال كما في الحديث المعروف: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما، فمن رآه بنفسه؛ صام ومن لم يره ولم يخبره به أحد أكمل شعبان ثلاثين يوما".
فإن أخبره به أحد وصدقه لأنه عدل مأمون؛ وجب عليه أن يصوم، لحديث رواه الحاكم وابن حبان وصححاه أن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: "تراء الناس الهلال فأخبرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أني رأيته؛ فصام وأمر الناس بصيامه".
فشهادة الواحد برؤية الهلال ما دام عدلا مقبولة، وبذلك قال الشافعي وأحمد وقال النووي، وهو الأصح.
وإذا رأى الهلال أهل بلد؛ وجب الصوم على كل البلاد التي تشترك معهم في جزء من الليل، كما استقر عليه الرأي حديثا في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية السادس المنعقد سنة 1966.
والله أعلم .(1/728)
س:وما أركان الصوم ؟
الصوم له ركنان فقط هما: النية والإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس كما قال ـ تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل }.
وجاء في النية قوله ـ تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "إنما الإعمال بالنيات".
والله أعلم .(1/729)
س:وعلى من يجب الصوم ؟
أجمع العلماء على أن الصوم يجب على: المسلم البالغ العاقل الصحيح المقيم، ويجب على المرأة؛ إذا كانت طاهرة من الحيض والنفاس، فلا يجب الصوم على الكافر، ولا على المجنون، ولا يجب على الصبي، والمريض، والمسافر، لكن إن صاموا صح صيامهم، والحائض والنفساء لا يجب عليهما الصوم، بل يحرم.
جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي: "رفع القلم على ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ".
والله أعلم .(1/730)
س:وما الأيام التي نهينا عن الصيام فيها ؟
الأيام التي نهينا عن الصيام فيها قد يكون النهي للتحريم، وقد يكون للكراهة، وإذا كان للتحريم فالصوم باطل، وإذا كان للكراهة؛ فالصوم صحيح.
هذه الأيام هي: الأول، والثاني صوم يوم العيد الأصغر ويوم العيد الأكبر، وذلك بإجماع العلماء.
وقد روى أحمد وأصحاب السنن أن عمر (رضي الله عنه) قال: "إن رسول (صلى الله عليه وسلم ) نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم الفطر ففطركم من صيامكم، وأما يوم الأضحى فكلوا من نسككم". أي: الأضاحي.
والثالث والرابع والخامس أيام التشريق الثلاثة التي بعد يوم عيد الأضحى، لحديث أحمد عن أبي هريرة بإسناد جيد أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عبد الله بن حذافة يطوف بمنى ألا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله ـ عز وجل". وروى مثله الطبراني عن ابن عباس.
والإمام الشافعي: أجاز صيام هذه الأيام وهي أيام التشريق لسبب كالنذر أو الكفارة أو القضاء.
السادس: صوم يوم الشك وهو: يوم الثلاثين من شعبان، لحديث حسن صحيح رواه الترمذي: "من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم، إلا أن يكون عادة له".
السابع: صوم يوم الجمعة منفردا؛ والجمهور على أن النهي عن صومه وحده نهي كراهة، فإذا سبقه يوم أو جاء بعده يوم وهو صائم، فلا تحريم ولا كراهة في هذا الصيام، وكذلك إذا وافق عادة له، أو كان يوم عرفة أو عاشورا.
والدليل على ذلك حديث رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد أن: "رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على جويرية بنت الحارس وهي صائمة يوم جمعة فقال لها: أصمتي أمس؟ فقالت: لا. قال: أتريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا. قال: فأفطري
إذا".
وحديث الصحيحين: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم".
وفى لفظ لمسلم: "ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم".(1/731)
الثامن: صوم يوم السبت منفردا، لحديث رواه أحمد وأصحاب السنن، وحسنه الترمذي: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه". يعني: فليفطر.
قال بكراهة صومه وحده الأحناف والشافعية والحنابلة، وجوز صيامه مالك وحده.
ولا كراهة في صوم يوم السبت إذا وافق عادة أو كان يوم عرفة أو عاشورا أو كان قضاء أو نذرا.
وكما نهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن صيام هذه الأيام، نهى عن صيام الدهر كله بما فيها الأيام التي نهى الشارع عن صيامها، كيومي العيد وأيام التشريق.
والدليل على ذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "لا صام من صام الأبد". رواه البخاري ومسلم وأحمد.
فمن أفطر في هذه الأيام فقد خرج من حد الكراهة، هكذا روي عن مالك والشافعي وأحمد، والأفضل أن يصوم يوما ويفطر يوما.
ونهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الزوجة أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه، لحديث رواه البخاري ومسلم: "لا تصم المرأة يوما واحدا وزوجها شاهد إلا بإذنه إلا رمضان".
والنهي للتحريم، ولو صامت جاز للزوج أن يفسد صومها، وهذا في غير رمضان، ولو كان الزوج غائبا، فلها أن تصوم بغير إذنه، وكذلك لو كان مريضا عاجزا في هذه الناحية، فلا داعي لإذنه في الصيام.
وقد نهى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن وصال الصوم أي: لا يفطر عند الغروب، ويستمر صائما طول الليل حتى يصله باليوم الثاني.
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إياكم والوصال". قالها ثلاث مرات. قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله: قال: "إنكم لستم في ذلك مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، خذوا من الأعمال ما تطيقون".
وفى رواية للبخاري: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر".
والله أعلم .(1/732)
س:يضطر بعض المرضى إلى أخذ حقن في نهار رمضان. فهل الحقن تفسد صومهم ؟
الحقن الشرجية تبطل الصيام عند الجمهور، ولا تبطل عند الإمام مالك إلا إذا وصلت إلى المعدة، وإبر الدواء في الوريد أو العضل، أو تحت الجلد، لا يفطر بها الصائم؛ لأنها ليست غذاء يغني من جوع أو يروي من عطش.
لكن إبر التغذية الجليكوز ونحوه تعد أكلا عرفا؛ لأن من يأخذها يستغني بها عن الطعام مدة طويلة، وهي تشبعه كما يشبعه الأكل العادي ذلك أن الأكل الذي يصل إلى المعدة بعد هضمه، وامتصاصه، يوزعه الدم على الجسم، ويكفيه حاجته، وإبر التغذية أدخلت الغذاء إلى الدم، دون حاجة إلى إمراره على المعدة، والأجهزة الهاضمة الأخرى، ولكن كثيرا من العلماء يقولون: إن هذه الإبر وإن كانت للتغذية لا تفطر؛ لأنها دخلت من منفذ غير مفتوح، لكن العقل يؤكد هذا الحكم؛ لأنه مضاد بحكمة الصيام.
والله أعلم .(1/733)
س:سائل يقول: تقيأت في رمضان فما حكم صومي في هذا اليوم ؟
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من زرعه القيء أي: غلبه فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض". رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي.
قال الفقهاء: إن القيء وهو: ما يخرج من المعدة عن طريق الفم إن كان إخراجه اضطراريا، فلا يفسد الصوم وإن كان عن تعمد؛ فسد الصوم.
وقال ابن مسعود وعكرمة وربيعة: إن القيء لا يفسد الصوم على أي حال. محتجين بحديث فيه مقال.
وردوا على الفقهاء أن: الحديث الذي اعتمدوا عليه موقوف وليس مرفوعا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال البخاري: لا أراه محفوظا، وقد روي من غير وجه، ولا يصح إسناده، وأنكره أحمد واحتج الجمهور أيضا بحديث آخر، لكن في سنده اضطراب، لا تقوم به حجة، وإذا لم يوجد حديث متفق على رفعه وصحته فالأمر متروك للاجتهاد، وقد وجد من يخالف الجمهور، ويمكن أن يقال: إن القيء ليس فيه أكل ولا شرب بل فيه إخراج أكل وشرب لمنع ضرره بالجسم.
فهل يلحق بالحجامة التي هي: أخذ دم من الرأس، ومثله الفصد وهو: أخذ دم من غير الرأس.
إن الجمهور يقولون بعدم إبطال الصيام بالحجامة والفصد لأن حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم". لم يسلم من النقد إن لم يكن من جهة السند ومن جهة الدلالة.
والله أعلم(1/734)
س:هل نقل الدم يبطل الصيام بالنسبة للمنقول منه الدم، أو المنقول إليه ؟
هذا السؤال له طرفان: طرف يتصل بالمنقول منه، وطرف يتصل بالمنقول إليه.
أما المنقول منه فيقاس أخذ الدم منه في نهار رمضان على الفصد، وهو: أخذ الدم من غير الرأس وعلى الحجامة وهي: أخذ الدم من الرأس.
والجمهور يقولون: بعدم بطلان الصيام بهما، لأن حديث "أفطر الحاجم، والمحجوم". الذي أخذ به من قال: بالإفطار لم يسلم من النقد.
وأما المنقول إليه فيعطى نقل الدم حكم الحقنة، وإذا كان للعلاج لا للغذاء وأدخل عن طريق الوريد، فأختار عدم بطلان الصيام.
ومع ذلك أقول: إن هذا المريض الذي نقل إليه الدم يحتاج إلى ما يقويه، فله أن يفطر بتناول الأطعمة، وعليه القضاء عند الشفاء.
واختلاف آراء الفقهاء في مثل هذه الفروع رحمة، يمكن الأخذ بأيسرها عند الحاجة إليه.
والله أعلم .(1/735)
س:إذا نسيت وتناولت بعض الطعام وأنا صائم. فهل بطل صومي، وماذا يجب علي إذا حدث مثل هذا الأمر ؟
روى أصحاب السنن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". رجاله ثقاة. فليس فيه علة قادحة.
وروى الجماعة إلا النسائي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب؛ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه".
وروى الدارقطني بإسناد صحيح أنه قال: "إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه".
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن: الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا، فإن صيامه صحيح، وهذا موافق لقوله ـ تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }.
والنسيان ليس من كسب القلوب، وما دام صومه صحيحا فعليه أن يمسك عن الطعام، وعليه أن يتم صومه، وهذا واضح في صيام رمضان تعظيما لحرمة الشهر.
أما في غير أداء رمضان كالنذر المعين، أو غير المعين وكصيام الكفارات وقضاء رمضان، وصوم التطوع، فلا يجب عليه الإمساك بقية اليوم، ويجوز له أن يفطر عند الجمهور.
ولكن الإمام مالك قال: إن كان الصوم نفلا أو أفطر ناسيا؛ وجب الإمساك؛ لأنه لا يجب عليه القضاء للفطر نسيانا، فإن كان عمدا فلا يجب الإمساك؛ لوجوب القضاء عليه بالفطر عمدا.
وقد تحدث العلماء عن سند قول مالك في وجوب القضاء على من تعمد الفطر في صيام النفل، وعن وجوب الإمساك إذ أفطر ناسيا مع عدم القضاء ووجوده ضعيفا.(1/736)
والمهم أن نعرف أن: دليل الجمهور قوي في أن النسيان لا يؤثر على الصيام حتى لو كان الأكل كثيرا، ويؤيده ما أخرجه أحمد عن أم إسحاق أنها كانت عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأوتي بقصعة من ثريد، فأكلت معه، ثم تذكرت أنها صائمة، وهذا لم يكن في رمضان قطعا، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأكل معها، وقد يكون صيام نذر، أو قضاء أو نفل، فلما تذكرت أنها صائمة قال لها ذو اليدين: الآن بعدما سمعتي؟ فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "أتمي صومك، فإنما هو رزق ساقه الله إليك".
والخلاصة أن:
الأكل نسيانا، والصيام سواء أكان في رمضان أو في غير رمضان، النسيان في الأكل لا يبطل الصيام.
والله أعلم .(1/737)
س:وإذا أردنا أن نتحدث عن فريضة الصيام، فنود أولا أن نعرف: ما معنى الصيام في اللغة و في الشرع ؟
الصيام في اللغة معناه: الإمساك، ومنه قوله ـ تعالى: {إني نظرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا}.
فالصوم هنا معناه: إمساك عن الكلام. ومعناه في الشرع: إمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.
والله أعلم .(1/738)
س:وما فضل الصيام ؟
ورد في فضل الصيام عامة نصوص كثيرة منها: حديث البخاري: "الصيام جنة أي: وقاية. فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم. إني صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يقول الله ـ تعالى: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشرة أمثالها".
والرفث المذكور في الحديث هو: الجماع أو الحديث فيما يتصل به أو هو الفحش في القول عامة، وكذلك الجهل المذكور في الحديث المراد به هنا عدم إيذاء الغير بشتم أو غيره، والخلوف تغير رائحة الفم بسبب الصوم، والخلوف هو: الرائحة نفسها.
جاء في حديث رواه مسلم بعض أمور زائدة عن رواية البخاري وهي: "لا يصخب أي: لا يرفع صوته بصياح بسبب معاناته من الجوع والعطش ـ مثلا ـ ومن الزائد قوله: "للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
ومن الوارد في فضل الصيام حديث رواه أحمد بسند صحيح: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي ربي يعني: أي: يا ربي: منعته الطعام والشهوة بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان".
ومنه حديث رواه الجماعة إلا أبا داود: "لا يصوم عبدي يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفا".
وحديث رواه البخاري ومسلم: "إن للجنة بابا يقال له: الريان يقال يوم القيامة: أين الصائمون فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب". والله أعلم(1/739)
س:وما أقسام الصيام ؟
الصيام أقسام: فرض وتطوع.
والفرض ينقسم ثلاثة أقسام:
صوم رمضان. وصوم الكفارات. وصوم النذر.
والتطوع قسمان: تطوع مطلق. أي: ليس له وقت معين. وتطوع مقيد: بوقت معين، كصوم عاشوراء، ويوم عرفة.
وهذه هي الأقسام الرئيسية، وفروعها كثيرة، والمتصوفة يقسمون الصيام ثلاثة أقسام:
القسم الأدنى هو: صوم العموم القائم على الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة.
والقسم الأوسط هو: صوم الخصوص وهو القائم عن الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة، وعن جميع المحرمات: كالكذب والغيبة.
والقسم الأعلى هو: صوم خصوص الخصوص، وهو القائم عن الإمساك والطعام والشراب والشهوة، وعن جميع المحرمات بل وعن الحلالات، وعن المبيحات التي تلهي الإنسان عن ربه، وتقعد به عن بلوغ الغاية من رضاه وحبه.
والله أعلم .(1/740)
س:يقول الله ـ تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }. ويقول (سبحانه وتعالى) في نفس السورة: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه }. فما حكم صوم رمضان؟
صوم رمضان ركن من أركان الإسلام التي بني عليها، وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فالآيتان اللتان استمعنا إليهما، وأما السنة فقوله ( صلى الله عليه وسلم): "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت".
وأيضا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمن سأله عما افترضه الله عليه من الصيام؟ شهر رمضان. قال: هل علي غيره؟ قال: لا. إلا أن تطوع".
وأجمعت الأمة على وجوب صيام رمضان، وأنه من أركان الإسلام التي علمت من الدين بالضرورة وأن منكره كافر مرتد عن الإسلام، وكانت فرضيته يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة.
والله أعلم .(1/741)
س:سائل يقول: نمت وبعد نومي أعلن عن ثبوت رؤية هلال رمضان، ولم أكن بيت النية على الصوم، فأصبحت مفطرا، ثم علمت بعد تناول طعام الإفطار أن اليوم أول أيام رمضان. فماذا أفعل. وما الحكم في ذلك ؟
إذا لم يعلم بدخول رمضان، ونام ولم ينو الصيام، ثم بان بعد طلوع الفجر، وبعد إفطاره أن: اليوم يوم رمضان؛ وجب عليه الإمساك؛ لحرمة الشهر، وصومه غير صحيح؛ لأنه لم يبت النية، وبخاصة أنه تناول طعاما، وعليه قضاء هذا اليوم، ولا حرمة لإفطاره قبل علمه بدخول الشهر.
والله أعلم .(1/742)
س:وهل الإمساك عن الطعام يبدأ عند سماع المؤذن بالآذان، أم بعد الانتهاء من الآذان، والإفطار أيضا، هل يبدأ عند سماع المؤذن بقوله: الله أكبر. أم حتى ينتهي من آذانه ؟
معلوم أن المؤذن لا يؤذن إلا بعد أن يعلم أن وقت الفجر جاء، وعليه، فالذي يأكل أو يشرب والمؤذن يؤذن للفجر؛ بطل صومه، وكذلك لو أفطر آخر النهار عند سماع آذان المغرب فالآذان: إعلام بانتهاء النهار ودخول الليل وصيامه صحيح.
وإن كان الأفضل أن ينتظر حتى ينتهي المؤذن؛ ليوقن تماما أن الليل دخل، وفي الفجر يسن الإمساك قبل آذان الفجر؛ حتى يطلع النهار بالآذان، والإنسان مطمئن إلى انتهاء الليل، والذين يشكون في التوقيت الحالي للفجر، ويتعمدون الفطر مع الآذان حتى ينتهي، بل ويفطرون بعده بمدة، هؤلاء خرجوا عن الإجماع؛ لصحة التوقيت الحالي.
والله أعلم .(1/743)
س:كثير الناس يصومون رمضان صوما غير تعبدي، بمعنى: أنهم يصومون؛ لأن الناس تصوم. فما الحكم في ذلك ؟
من يمسك عن الطعام والشراب والمفطرات في نهار رمضان، إن كان يفعل ذلك اعتقادا بوجوب الصيام، ورجاء للثواب من الله؛ فثوابه صحيح، وثوابه عظيم ـ إن شاء الله ـ كما صح في الحديث: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
أما إن كان يفعل ذلك تقليدا للناس، وعدم إيمانه بوجوب الصوم، أو يمسك حياء أن يقول الناس عنه: إنه مخالف للعادة، فإن صومه في الظاهر صحيح؛ لأنه ممسك عن المفطرات، لكنه باطل عند الله لا ثواب له، بل هو فيه عقوبة، والله هو الذي يتولى ذلك، فالمنافقون كانوا أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يفعلون العبادات، لا إيمانا، ولكن رياء ودفعا لإيقاع الأذى بهم.
وجاء في وصفهم قوله ـ تعالى: { ولا يأتون الصلاة إلا وهو كسالى ولا ينفقون إلا وهو كارهون }. كما جاء قوله: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }.
فالرياء والكبرياء يحبطان العمل عند الله ـ سبحانه وتعالى.
والله أعلم .(1/744)
س:ومن الذين يرخص لهم بالفطر وتجب عليهم الفدية ؟
يرخص الفطر للشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى برؤه وأصحاب الإعمال الشاقة الذين لا يجيدون وسيلة للرزق إلا هذه الوسيلة.
هؤلاء يرخص لهم الفطر إذا كان الصيام يجهدهم في جميع السنة، ويجب عليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا، ولم يأت في السنة تقدير هذا الطعام، وأقله ما يكفي وجبتين من متوسط هؤلاء المفطرين، وليس من متوسط المساكين.
والدليل على هذا الحكم قوله ـ تعالى: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} على رأي ابن عباس في تفسير ذلك.
وقد روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية ويقول: ليست منسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان في كل يوم مسكينا.
وجاء قوله بعد ذلك: ولا قضاء عليه. في رواية الدارقطني والحاكم.
والمريض الذي لا يرجى برؤه، ويجهده الصوم، يقاس على الشيخ الكبير، وكذلك العمال المضطرون للعمل الشاق، ولا يجيدون غيره، ومنهم المحكوم عليهم بالسجن وبالأشغال الشاقة المؤبدة، إذا شق الصيام عليهم بالفعل، وكانوا يمكلون الفدية، ومن الذين يرخص لهم الفطر المرأة الحامل، والمرضع، إذا خافتا على أنفسهما أو على أولادهما، وعليهما الفدية دون القضاء، على رأي ابن عمر وابن عباس الذي قال لأم ولد له حبلى: أنت بمنزلة الذي لا يطيقه، فعليك الفدية، ولا قضاء عليك. رواه الدارقطني.
وروى مالك والبيهقي عن ابن عمر أنه قال مثل قول ابن عباس، وهو الاكتفاء بالفدية دون القضاء.
لكن عند الأحناف لابد من القضاء ولا داعي للفدية، وذلك للحبلى والمرضع.
أما الشافعي وأحمد فيقولان إن خافتا على الولد فقط، وأفطرتا فعليهما القضاء والفدية، وإن خافتا على أنفسهما فقط، أو على أنفسهما، وعلى ولدهما فعليهما القضاء لا غير، وهذه هي أقوال اجتهادية لا مانع من الأخذ بأي واحد منها.
والله أعلم .(1/745)
س:ومن الذين يرخص لهم الفطر وعليهم القضاء ؟
يرخص الفطر للمريض الذي يرجى برؤه وشفاؤه، وكذلك المسافر سفر قصر وعليهما القضاء فقط، كما قال ـ تعالى:{ ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}.
وقد جاء في رواية أحمد وأبي داود والبيهقي بسند صحيح أن: الصوم كان أولا بالاختيار بين الصوم وبين الفطر مع الإطعام كما فهم من قوله ـ تعالى: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم } يعني: من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينا، فأجزأ ذلك عنه. ثم أنزل الله الآية التالية وفيها:{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}.
فأثبت الصيام على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض، والمسافر، وأثبت الطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، والمرض المبيح للفطر هو ما كان فيه شدة يخشى منها تأخر الشفاء، وليس أي مرض كان، وهذا للمريض بالفعل.
أما الصحيح الذي يخشى المرض إذا صام، فقد ألحق بالمريض بالفعل، وكذلك من غلبه الجوع والعطش، وخاف الهلاك؛ لزمه الفطر وإن كان صحيحا مقيما، قال ـ تعالى:{ وما جعل عليكم في الدين من حرج}. وقال: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }. وقال: { ولا تقتلوا أنفسكم }.
ومع جواز الفطر للمريض، والمسافر إذا تحمل كل منهما الصيام وصام؛ صح صومه، ولكن يكره ذلك إذا كان سيلحقه ضرر أو كان معرضا عن الرخصة، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
روى مسلم أن حمزة الأسلمي قال: يا رسول الله: إني أجد مني قوة على الصوم في السفر. فهل علي جناح؟ فقال: هي رخصة من الله (تعالى) فمن أخذ بها، فحسن، ومن أحب أن يصوم، فلا جناح عليه".(1/746)
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أنهم كانوا في سفر إلى مكة مع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وهم صيام، فقال لهم: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا، فكانت عزمة، فأفطرنا، ثم رأيتنا نصوم بعد ذلك مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في السفر".
وفى رواية أخرى لمسلم عن أبي سعيد أنهم كانوا في الغزو مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في رمضان فمنهم الصائم، ومنهم المفطر، فلا يجد أي: يعيب أحدهم على الآخر، ثم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، وإن من وجد ضعفا فأفطر، فإن ذلك حسن، لكن أيهما أفضل: الفطر، أو الصيام؟
أبو حنيفة والشافعي ومالك يرون أن: الصيام أفضل للقوي وأن الفطر أفضل للذي لا يقوى على الصيام.
وقال أحمد بن حنبل: الفطر أفضل في كل حال.
والله أعلم .(1/747)
س:ومن الذين يكونوا عليهم القضاء والكفارة معا ؟
جاء في: (فقه المذاهب الأربعة) أن الحنفية: يوجبون القضاء والكفارة إذا حدث أمران:
الأول: تناول غذاء أو في معناه بدون عذر شرعي.
والثاني: قضاء الشهوة كاملة بالجماع.
والمالكية قالوا: الذي يوجب القضاء والكفارة؛ تناول أي شيء مفسد للصوم عمدا مختارا عالما، غير مبال بحرمة الشهر.
وكذلك رفع النية ورفضها، وعودة القيء إلى المعدة إن كان عمدا، والشافعية قالوا: ما يوجب القضاء والكفارة هو: الجماع فقط مع العمد والعلم بالتحريم.
يؤخذ من هذا أن الذي يوجب القضاء والكفارة معا هو: الجماع فقط عند الجمهور ودليله حديث رواه الجماعة أن: رجلا وقع على امرأته في رمضان، فأمره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بعتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا.
ومذهب الجمهور أن: المرأة والرجل سواء في وجوب الكفارة، وذلك بشرط التعمد والاختيار.
والشافعي يقول: بالكفارة فقط على الرجل، ومن جامع في يوم ولم يخرج الكفارة، ثم جامع مرة أخرى في يوم آخر، فعليه كفارة عن كل مرة عند جمهور الفقهاء.
واكتفى أبو حنيفة بكفارة واحدة.
أما إن كان قد كفر عن الجماع الأول فعليه كفارة عن المرة الثانية باتفاق، ومن جامع مرتين في اليوم، فهي كفارة واحدة عند الجمهور.
وهناك من الفقهاء من يوجب الكفارة العظمى أيضا على الفطر المتعمد بالأكل، ونحوه.
لكن رأي الجمهور أقوى.
والله أعلم .(1/748)
س:يقول البعض: إن وضع الإصبع في الأذن يبطل الصوم. فهل هذا صحيح، وما الحكم في وضع النقط الطبية في الأذن، وإذا كان المسلم الصائم في نهار رمضان وكان الجو حارا لا يطاق، واغتسل بالماء اتقاء لحرارة الجو، فهل هذا يفسد صومه ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال أقول: إن الفقهاء ذهبوا مذاهب شتى في تفسير الأكل والشرب، ثم فرعوا على ذلك تفريعات متعددة، والمتتبع لأقوالهم يرى أن معظمها مبني على اصطلاحات ومفهومات حافظت في نظرهم على الشكل الذي يتحقق به الأكل والشرب المبطلان للصوم دون الاهتمام بالحكمة المقصودة من الصيام، وهي كف النفس عن أسباب نزولها الشخصي، والنوعي مدة من الزمان؛ ليقوى سلطان العقل عليها، ولتصمد إرادته أمام المغريات والشهوات، وليتحقق معنى قوله ـ تعالى: { لعلكم تتقون }.
فقالوا: إن الأكل والشرب يتحققان بدخول أي شيء إلى الجوف، واختلفوا في هذا الشيء: هل هو عام أو خاص بما فيه غذاء، وما فيه تلبية لشهوة النفس، كما اختلفوا في المراد بالجو هل هو المعدة التي تتلقى الأكل والشرب؟ أو هو ما استتر من جسم الإنسان عند النظر إليه؟ أو هو ما يحيل الغذاء والدواء؟
وترتب على ذلك أن بعضهم قال: إن إدخال الإصبع في الأذن يبطل الصوم؛ لأنه أكل أو في معنى الأكل، في الوقت الذين يقولون فيه: لو وصل الغذاء إلى الجسم وتقوى به عن طريق غير مفتوح بالطبع، كالإبر الحديثة لا يبطل الصوم، ويجيء آخرون فيقولون: لو وصل دهن الشعر إلى الحلق من خلال المسام؛ بطل الصوم مع أنه وصل من منفذ غير طبيعي، في الوقت الذي يقولون فيه: إدخال حقنة في الإحليل لا يفسد الصوم، مع أن الإحليل منفذ مفتوح، وفي إهمال مراعاة الحكمة في الصوم وإطلاق الأكل على ما يشمل ما هو بعيد عن معناه لغة، وعرفا، جاءت الأحكام المختلفة.(1/749)
ولهذا أقول: لا يبطل الصوم بوضع الإصبع في الأذن أو تنظيفها بقطنة أو بمحلول، لأن الطبلة لا تسمح بوصول أو بوصول شيء من ذلك إلى داخل الدماغ، والدماغ ليس عضوا يتلقى الغذاء يستفيد منه الجسم، وكذلك ترطيب الجسم بالماء البارد أو ترطيب الفم بالمضمضة، لا يفسد الصوم؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "رؤى وهو يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم". كما رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
على أن الترطيب ليس فيه دخول الماء إلى الجوف، بل هو لمنع العرق الخارج لتلطيف حرارة الجسم، وإبقائه لحاجة الجسم إليه؛ لتقليل من الشعور بالعطش.
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يغتسل من الجنابة بعد الفجر وهو صائم.
والله أعلم .(1/750)
س:وهل وضع القطرة والكحل في العين يفسد الصوم ؟
وضع القطرة والكحل لا يفسد الصوم؛ لأن العين منفذ غير مفتوح، حتى لو وجد طعم ذلك في الحلق، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكتحل وهو صائم و هذا ما قال به الشافعية و الحنفية.
لكن المالكية والحنفية قالوا:
ذلك يفطر إذا وصل الطعم إلى الحلق.
والله أعلم .(1/751)
س:وهل يبطل الصوم بالاستنشاق من إصبع الربو ؟
قال العلماء: نقط الأنف والبخار الذي يشم من إصبع الربو يبطل بهما الصيام، وإذا كان المريض لا يستغني عنهما في الصيام؛ جاز له الفطر وعليه القضاء بعد الشفاء من المرض، وإن كان المرض مزمنا لا يرجى شفاؤه كان له الفطر، وعليه الإطعام عن كل يوم مسكينا.
والله أعلم .(1/752)
س: يقول البعض إن الدخان(1/753)
س: سائل يقول: أنا مريض بقرحة في المعدة وأخي مريض بالبول السكري، وهما مرضان لهما مشقة على النفس. فهل يباح لنا الفطر في هذه الأحوال ؟
أي مرض يشق الصوم معه الفطر معه يجيز الفطر، كما نصت عليه الآية الكريمة، وعلى من به هذا المرض أن يقضي فقط، ما دام يرجى برؤه، فإن كان لا يرجى البرء بإخبار الثقاة، فله الفطر، وعليه الفدية فقط، ولا قضاء لأنه لا يستطيعه مع هذا المرض.
والله أعلم .(1/754)
س:وهذه ثلاثة أسئلة في سؤال واحد: يقول الأول: أنا مريض بمرض البواسير المزمن ويستدعي ذلك وضع بعض أنواع الكريمات على هذا المكان. فهل هذا يبطل الصوم؟
ويقول الثاني: مرض مرضا استدعى عمل أشعة، ولزم لهذا عمل حقنة شرجية. فهل أخذ الحقنة الشرجية يبطل الصوم؟
ويقول الثالث: أتعاطى بعض الأدوية منها اللبوس الشرجي، ويستدعي ذلك أخذه مرتين في اليوم. فهل أخذه في رمضان يفسد الصوم ؟
معلوم أن الدبر منفذ من مفتوح لو دخله شيء من دواء، أو غيره؛ بطل الصوم، والشحم كالحقنة الشرجية تماما وهي تبطل الصيام عند الجمهور.
ومالك لا يقول بالبطلان؛ إلا إذا وصل ذلك إلى المعدة، والشحم لا يصل، فلا بطلان على رأيه.
ولا مانع من الأخذ برأي مالك إن اضطر إلى وضعه نهارا، وكذلك اللبوس الشرجي له هذا الحكم تماما: يبطل الصوم عند الجمهور ولا يبطله عند مالك.
والله أعلم .(1/755)
س:رجل يقول: اشتدت علي آلام الضرس وأنا صائم، وقد اضطرت إلى وضع بعض المواد الطبية عليه مثل: زيت القرنفل. فهل هذا يبطل الصوم ؟
قال العلماء في خلع الضرس: لا يضر ذلك في أثناء الصيام ما دام لا يدخل الحلق شيء من الأدوية، ولا من الدم، وكذلك وضع دواء على الضرس؛ ليسكن ألمه كالقرنفل، وغير ذلك إن تحلل منه شيء مع الريق، ووصل إلى الحلق؛ بطل الصوم.
لكن لو بصقه؛ لا يبطل الصوم.
وإذا كان لا يستغني عن وضع هذا المسكن، فهو مريض يجوز له الفطر وعليه القضاء.
والله أعلم .(1/756)
س:وهل يجوز للطالب أن يفطر في رمضان؛ ليقوى على المذاكرة والامتحان ؟
إذا كان الامتحان يعقد بالنهار، وفي وقت الحر الشديد يعني: قبيل الظهر إلى قبيل المغرب، ولو أصبح صائما أحس بالجوع أو أحس بالعطش الشديد الذي يؤثر على تفكيره، فله الفطر عند الإحساس بالتعب. بمعنى: أن ينوي الصيام ليلا، ويتناول سحوره ويستريح أو يذاكر، فإذا دخل الامتحان في الوقت المذكور، ولم يحس تعبا، فلا يجوز له الفطر. أما إذا أحس بالتعب فيفطر عند الإحساس به، أما ألا ينوي الصيام، ولا يتسحر، ويصبح مفطرا؛ ليستعد للامتحان في فترة الحر، فذلك لا يجوز مطلقا، التعب المتوقع متوهم غير واقع بالفعل، وكذلك لو كان الامتحان في الساعات الأولى من النهار حيث الجو يكون مناسبا، ولا يوجد إحساس بالجوع أو العطش، أو كان الامتحان في وقت الشتاء، أواعتدال الجو فلا يجز أن يصبح مفطرا. أي: لابد أن ينوي الصيام ليلا ويتسحر، ويبدأ الصيام، ويدخل الامتحان وهو صائم، حيث لا يكون هناك تعب.
وأقول لمن يذكر ويدخل الامتحان: عليك بتقوى الله واحرص على طاعته {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرى}.
والله أعلم .(1/757)
س:وهل استخدام معجون الأسنان لتنظيف الفم في نهار رمضان يفسد الصوم ؟
معجون الأسنان بالنهار إذا دخل منه شيء إلى الحلق؛ بطل الصوم، وإلا فلا، وأنصح باستعماله قبل الفجر إذا كان ضروريا.
والله أعلم .(1/758)
س:توجد أحاديث تمدح خلوف فم الصائم. فهل يتنافى ذلك مع استخدام السواك أو معجون الأسنان ؟
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في ضمن حديث: "والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
كما روى أبو داود والترمذي حديثا حسنا عن عامر بن ربيعة قال: "رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتسوك ما لا أحصي وهو صائم".
استنتج الشافعي من الحديث الأول: كراهة استعمال السواك للصائم، ومثله فرشات الأسنان، وخص ذلك بما بعد الزوال إبقاء على رائحة الفم التي مدحها النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
وتغير رائحة الفم ناتج عن عدم تناول الطعام و الشراب، ويظهر عادة بعد الزوال، ولم يعمل الشافعي بالحديث الثاني؛ لأنه أقل رتبة من الحديث الأول، ويؤيد رأيه حديث البيهقي: "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي".
والغداة أول النهار والعشي: آخر النهار.
وقال الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا يكره السواك للصائم للمسلم مطلقا، سواء قبل الزوال وبعده، ودليلهم في ذلك هو حديث: عامر بن ربيعة المذكور.
وحملوا الحديث الأول الذي يمدح الخلوف على الترغيب في التمسك بالصيام، وعدم التأذي من رائحة الفم، وليس على الترغيب في إبقاء الرائحة بذاتها، ثم قالوا: إن رائحة الفم تزول أو تقل بالمضمضة للوضوء، الذي يتكرر كثيرا، ولم يثبت نهي الصائم عنها، وقالوا أيضا: إن حديث البيهقي ضعيف كما بينه هو.
وإذا لم يكن من الأئمة الأربعة إلا الشافعي الذي قال: بكراهة تنظيف الأسنان أثناء الصيام بعد الزوال، فإن من كبار أئمة المذهب الشافعي من لم يرتضوا قوله، فقد قال النووي في: (المجموع): إن المختار عدم الكراهة.
وقال ابن دقيق العيد معقبا على قول الشافعي: ويحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت أي: بعد الزوال يخص به ذلك العموم وهو حديث الخلوف.(1/759)
وعلى هذا، فلا كراهة في استعمال السواك في رمضان وبعد استعراض ما قيل في السواك في الصيام، أختار القول بعدم كراهة تنظيف الأسنان بأية وسيلة شريطة ألا يصل إلى الجوف شيء من المعزول أو الدم، ونحوهما ومن الأحوط استعمال ذلك ليلا.
والله أعلم .(1/760)
س:سائل يقول: من الأمور المستحبة جدا لي أن أستخدم العطور. فهل إذا استخدمتها في نهار رمضان يفسد صومي ؟
يقول ابن تيمية: لا بأس بالعطور للصائم؛ لأنها كانت أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يثبت بأي طريق أنه نهى عنها، فلو كانت تفطر؛ لنهى عنها على الرغم من أن البخور يتصاعد إلى الأنف، ويدخل الدماغ.
لكن بعض الفقهاء قالوا: العطور المحلولة في الكحول، وهو مادة تتبخر، إن قصد الإنسان شمها بمثل وضعها على أنفه؛ بطل صومه؛ لأنها كالدخان الذي قالوا: بأنه مفطر؛ لأنه يعطي الجسم لذة كالكل والشرب، فكذلك هذه العطور.
أما الروائح الطبيعة كالورد والفل، فلا بأس بشمها في نهار رمضان، وإن كان الأولى عدم ذلك؛ تحقيقا لحكمة الصوم وكل ذلك عند قصد الشم وتعمد ذلك.
أما عند عدم القصد كالمرور أو الجلوس عند صانع العطور، أو في حدائق الزهور، فلا ضرر؛ لأنه هواء معطر، وتلافي ذلك فيه مشقة والدين يسر.
والله أعلم .(1/761)
س:رجل ينزف من أنفه لأنه مصاب بالرعاف، ولو بقي معتدل القامة؛ سيؤدي ذلك إلى كثرة الدم النازل من أنفه، وإذا استلقى على ظهره حسب نصيحة الطبيب يتسرب الدم إلى فمه وحلقه. فما حكم صومه شرعا ؟
الرعاف وهو: نزول الدم من الأنف، إن وصل منه شيء إلى الجوف؛ بطل الصوم فإن لم يصل فلا بطلان، وإذا شق على المريض حفظ الدم من الدخول إلى الجوف فله الرخصة في الفطر وعليه القضاء.
والله أعلم .(1/762)
س:إذا أفطرت أيام في رمضان ولم أتمكن من قضائها حتى دخل رمضان التالي فهل على كفارة لهذا التأخير، وعند القضاء هل يجب أن يكون الصوم متواليا أم يجوز أن يكون مفرقا ؟
جمهور العلماء يوجب فدية على من أخر قضاء ما فاته من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، وتتأكد هذه الفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم بما يكفيه غداء وعشاء، تتأكد إذا كان تأخير القضاء بغير عذر.
واستدلوا على هذا الحكم بحديث موقوف على أبي هريرة أي أنه من كلامه هو، ونسبة هذا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي: رفعه إليه هذه النسبة ضعيفة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا فدية مع القضاء، وذلك لأن الله (تعالى) قال في شأن المرضى والمسافرين: { فعدة من أيام أخر }. ولم يأمر بفدية.
والحديث المروي في وجوب الفدية ضعيف لا يؤخذ به.
قال الشوكاني منتصرا لهذا الرأي: ليس هناك حديث ثابت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الفدية.
وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجود الاشتغال بالتكاليف حتى يقوم الدليل الناقد عنها، ولا دليل هنا فالظاهر عدم الوجوب هذا ما قاله الشوكاني.
الشافعي قال: إن كان تأخير القضاء لعذر فلا فدية. أما إن كان لغير عذر فالفدية واجبة.
وهذا الرأي وسط بين الرأيين السابقين، لكن الحديث الضعيف أو الموقوف الوارد في مشرعية الكفارة، لم يفرق بين العذر وعدم العذر.
ولعل القول بهذا الرأي يريح النفس لمراعاته للخلاف بصورة من الصور، ثم إن قضاء رمضان واجب على التراخي لا على الفور وإن كان الأفضل التعجيل به عند الاستطاعة فدين الله أحق بالقضاء العاجل.
وثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد أن عائشة (رضي الله عنها) كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان، ولم تكن تقضيه فورا عند قدرتها على القضاء، ولا يلزم في القضاء التتابع والموالاة.(1/763)
فقد روى الدارقطني عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في قضاء رمضان: "إن شاء فرق وإن شاء تابع".
والله أعلم(1/764)
س:سيدة تقول: جاء علي رمضان في سنة من السنوات وأنا حامل، فنصحني الأطباء بالإفطار، ومرة أخرى جاء رمضان وكنت نفساء، فصمت عددا من الأيام، واختلط علي الأمر، فلا أعرف ما صمت، وما بقي علي من قضاء. فماذا أفعل ؟
عليها أن تجتهد في معرفة الأيام التي أفطرتها، وتعمل بهذا الاجتهاد، وتسن الزيادة على ذلك؛ لتكون مطمئنة على ما وجب عليها.
والله أعلم .(1/765)
س:رجل يقول: مات والدي بعد مرض ألم به منعه من الصيام نصف شهر رمضان، وقد أوصاني بصيام تلك الأيام. فهل يلزمني ذلك، أم أخرج فدية عنه ؟
جاء قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". رواه البخاري ومسلم.
وروى أحمد وأصحاب السنن أن: "رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) فقال: يا رسول الله: أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم. فدين الله أحق أن يقضى".
وبناء على هذا قال الشافعية والحنابلة: بجواز قضاء الصوم من الولي، بل قالوا باستحبابه، وبجوازه من الأجنبي، إن أذن الولي.
لكن الأحناف والمالكية قالوا: إن وليه لا يصوم عنه، بل يطعم مدا عن كل يوم.
وحجتهم أن: الصيام عبادة بدنية، كالصلاة لا تقبل النيابة.
لكن النووي قال في جواز القضاء: إنه هو الصحيح المختار، والنصوص تشهد له.
فالخلاصة أن هناك رأيين في هذا الموضوع، والرأي الصحيح القوي ما شهد له الحديث، وبخاصة إذا أوصى هذا الميت بأن ما تركة يقضى.
والله أعلم .(1/766)
س:شخص نوى الفطر في الغد، ولكنه أصبح صائما، ولم يفطر. فهل بطل صومه قياسا على حديث: "إنما الأعمال بالنيات". ؟
من نوى الفطر غدا لكنه أصبح صائما لم يفطر؛ صومه باطل؛ لأنه لم يبيت النية لحديث: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". رواه أحمد وأصحاب السنن.
هذا في الصوم المفروض. أما في صوم النفل، فيجوز له أن ينوي قبل الزوال.
والله أعلم .(1/767)
س:جاء في بعض الأحاديث أن الشياطين تصفد في رمضان. فكيف يتفق هذا مع وقوع جرائم وآثام كثيرة من الصائمين، وغير الصائمين في رمضان ؟
روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين".
وروى ابن خزيمة في صحيحة قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين مردة الجن".
إن الواقع يشهد بأن المعاصي ما زالت ترتكب في رمضان، وفي غير رمضان، ومن أجل التوفيق بين الحديث الثابت، وبين الواقع المشاهد، قال الشراح: إن المراد بتقييد الشياطين في رمضان عدم تسلطها على من يصومون صوما صحيحا كاملا روعيت فيه كل الآداب التي منها: عفة اللسان والنظر والجوارح عن المعصية.
واستجابة للحديث الذي رواه البخاري: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
أو المراد بالشياطين التي تصفد: المردة والجبابرة منهم. كما في رواية ابن خزيمة.
أما غيرهم فلا يقيدون، ولذلك تقع من الناس بعض المعاصي.
أو المراد أن: الشياطين كلها تغل بمعنى: يضعف نشاطها، ولا تكون بالقوة التي عليها بدون أغلال وقيود.
أو المراد أن: المعاصي التي تكون بسبب الشياطين تمنع، ولكن تقع المعاصي التي يكون سببها النفوس الخبيثة الأمارة بالسوء، أو العادات القبيحة، أو شياطين الإنس.
ومن هنا نرى أن:
الحديث لا يصطدم مع الواقع عند فهمه فهما صحيحا، وذلك ما نحب أن نلفت الأنظار إليه في فهم نصوص الدين؛ حتى لا تكون هناك ريبة في الدين أو انحراف في الفكر والسلوك.
والله أعلم .(1/768)
س:رجل يقول: أنا رجل مصاب بكثرة البلغم. فهل يفسد صومي إذا بلعته، وماذا أفعل في الصلاة، ويتعذر علي إخراجه ؟
الريق العادي الخالي من مواد غريبة، يجوز بلعه في نهار رمضان، وفي أي صيام، وذلك لمشقة الاحتراز عنه، وليس من الواجب بصقه كلما تجمع، فإن بصقه يزيد من الإحساس بالعطش وجفاف الحلق، إلى جانب أن ابتلاعه لا يعد أكلا ولا شربا، وليس غذاء يتنافى مع معنى الصوم وحكمته.
أما البلغم الخارج من الصدر ومثله النخامة النازلة من الرأس، فإن وصل إلى الفم، ثم بلعه الصائم؛ بطل صومه على مارآه الشافعية، إذا يصدق عليه أنه: شيء دخل إلى الجوف من منفذ مفتوح، ولا يشق الاحتراز عنه.
وقال بعض العلماء:
إن بلعه في هذه الحالة لا يضر، ما دام لم يتجاوز الشفتين، بل قاسه آخرون على الريق العادي فقالوا: إن بلعه لا يبطل صومه مطلقا، وفي هذا القول تيسير على المصابين بحالة يكثر فيها البلغم.
أما غير هؤلاء فيتبعون أحد القولين الأولين، وعلى القول بأن: بلعه يبطل الصوم ،يجب بصقه حتى لو كان في الصلاة، على ألا يطرحه في المسجد، فإن تلويث المسجد ممنوع، بل يكون ذلك في نحو منديل بحركة خفيفة لا تبطل الصلاة.
والله أعلم .(1/769)
س:يقول البعض: إن نوم الصائم عبادة. فهل هذا القول حديث شريف، أو ما مدى صحة هذا القول ؟
جاء في تخريج العراقي لأحاديث (إحياء علوم الدين) للغزالي أن هذا الحديث موجود في أمالي ابن منده من رواية ابن المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر بسند ضعيف، ولعله عبد الله بن عمرو، فإنهم لم يذكروا لابن المغيرة رواية إلا عنه.
ورواه أبو منصور الدينبي في مسنده من حديث عبد الله بن أبي أوفى وفيه سليمان بن عمرو النخعي أحد الكذابين.
يؤخذ من هذا أن الحديث ليس صحيحا، ولا حسنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم) فهو إما ضعيف، وإما موضوع، وبصرف النظر عن سند الحديث، فهناك وجهتا نظر عند تفسيره.
وجهة تقول: إن الصائم الذي يتعرض أثناء صيامه لأمور تتنافى مع حكمة الصيام بسبب اندماجه مع المجتمع كالكذب والغيبة، والنظر المحرم، وغير ذلك سيكفه نومه بالنهار عن هذه الأمور المنكرة.
وذلك صورة من صور العبادة فهو عبادة سلبية كالصدقة التي قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في وجوبها على كل مسلم لا يجد ما يتصدق به، ولا معونة من أي نوع كان قال: "فليمسك عن الشر فإن إمساكه عن الشر صدقة". رواه البخاري ومسلم. ومن هنا يكون نومه صوابا وعبادة.
ومن وجهة نظر أخرى:
الصائم الذي يؤثر النوم على العمل الإيجابي المنتج مخالف لأوامر الدين في وجوب استغلال طاقة الإنسان في عمل الخير، ومخالف كذلك للأوامر الدينية التي تنفر من العجز والكسل.
فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بالاستعاذة منهما أبا أمامة حتى يذهب الله همه ويقضي دينه". كما رواه أبو داود.
فالإسلام دين حركة، وعمل وإنتاج والصائم يمكنه ذلك في حدود الوسع والطاقة، ولم يقف الصحابة عن العمل، وهم صائمون بل وقعت كبريات الغزوات في شهر رمضان، وعلى رأسها غزوة بدر والفتح الأعظم بمكة المكرمة.(1/770)
وإذا كانت بعض الدول تخفف من العمل في شهر الصيام، فلا يجوز أن يستغل ذلك لمزيد من الكسل والتهاون، فالعمل الصالح في ظل الصيام له ثوابه الجزيل.
ومن هنا يكون نوم الصائم خطأ، وليس عبادة.
والله أعلم .(1/771)
س:ويقول البعض الآخر: إن كثرة النوم في رمضان تبطل الصوم، أو على الأقل تضعف من الثواب والأجر. فنود توضيح ذلك ؟
شهر رمضان شهر عبادة ليلا ونهار، أما بالليل فبالقيام بصلاة التراويح وقراءة القرآن، وأما في النهار فبالصيام.
والجزاء على ذلك وردت فيها نصوص كثيرة، وفى حديث واحد جمع ثواب الصيام والقرآن فقال ( صلى الله عليه وسلم ): "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: يا رب منعته الطعام والشهوة بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان".
ولو نائم الصائم طول النهار فصيامه صحيح وليس حراما عليه أن ينام كثيرا ما دام يؤدي الصلوات في أوقاتها.
وقد يكون النوم مانعا له من التورط في أمور لا تليق بالصائم، وتتنافى مع مشروعية الصيام، وهي جهاد النفس ضد الشهوات والرغبات التي من أهمها شهوتا البطن والفرج، ويدخل في الجهاد عدم التورط في المعاصي مثل: الكذب والزور والغيبة.
وقد صح في الحديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
ومن هنا لا تكون كثرة النوم في نهار رمضان مبطلة للصيام.
والله أعلم .(1/772)
س:وهذا زوج يقول: كنت صائما وأغواني الشيطان؛ فقبلت زوجتي. فهل بطل صومها أو صومي ؟
روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن حديث عائشة (رضي الله عنها) قالت: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبل بعض أزواجه وهو صائم، وكان أملككم لإربه".
وبعض الأزواج وعائشة أو أم سلمة لرواية الحادثة عن كل منهما، ومعنى أملككم لإربه أنه: أقدركم على منع نفسه عن المباشرة الجنسية.
وجاء في رواية البيهقي عن عائشة "أنه كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها". وروى مالك في الموطأ أن عائشة بنت طلحة، وكانت فائقة الجمال، وكانت ثقة كانت عند عائشة أم المؤمنين، فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقالت عائشة: ما يمنعك من أن تدنو من أهلك؟ يعني: من زوجتك، فتداعبها وتقبلها. قال: أو أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم.
وروي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: "هششت فقبلت وأنا صائم. فقلت: يا رسول الله: صنعت اليوم أمرا عظيما؛ قبلت وأنا صائم. قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به. قال: فمه". رواه أبو داود والنسائي، وقال: منكر. وصححه ابن خزيمة. ومعنى: فمه. يعني: اسكت. ورويت: ففيما يعني: ففيما السؤال؟.
بناء على هذه المرويات قال ابن المنذر: رخص في القبلة عمر وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وأخذ به أحمد وإسحاق، ومذهب الأحناف والشافعية: أنها تكره على من حركت شهوته، ولا تكره لغيره، لكن الأولى تركها.
وعند المالكية كما قال الزرقاني عن المواهب: أنها تحرم إن خاف الإنزال، وإلا كانت مكروهة.
وقال الحافظ بن حجر: إنها مباحة لمن يكون مالكا لنفسه من الوقوع فيما يحرم من الإنزال، والجماع، والظاهرية أخذوا من ظاهر الحديث، فجعلوا القبلة للصائم سنة وقربة من القرب اقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ).(1/773)
لكن هذا مردود بأن الرسول كان يملك إربه فهو ليس كغيره، وإن كان هذا في قبلة الزوجة، فإن القبلة لغيرها من الأجانب بالذات حرام.أما بطلان الصوم فهو كقبلة الزوج.
وعلى ذلك إذا كان الرجل أو المرأة يخشيان من القبلة الإفطار بنزول شيء من هذه اللذة، فالقبلة حرام أو مكروهة على الأقل، أما إذا كان هناك أمن من نزول شيء منهما، فلا حرمة في ذلك، والأولى تركها.
والله أعلم .(1/774)
س:وما حكم الدين فيمن يفتح مطعما للأكل في نهار رمضان ؟
صيام رمضان من أهم الأركان التي بني عليها الإسلام، وكان من رحمة الله (تعالى) أن خفف عن ذوي الأعذار فأباح لهم الفطر؛ ما دام العذر قائما على أن يصوموا قضاء ما أفطروه كما قال ـ سبحانه: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }.
ولذلك حذر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التهاون في أداء هذه الفريضة فقال فيما رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة: "من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه".
بل جاء التحذير من التعجل بالفطر قبل موعده، فقد روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما أن "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في النوم ورؤيا الأنبياء حق، رأى قوما معلقين بعراقيلهم، مشققة أشداقهم تسيل دما، وهم الذين يفطرون قبل تحلة الصوم أي: قبل وقت الإفطار.
والذي يساعد المفطر على فطره من غير عذر شريك له في الإثم، فما أدى إلى الحرام يكون حراما، كما أن تقديم طعام أو شراب له باختياره دليل رضائه عن فعله، والراضي بالمعصية عاص كما قرر العلماء، وكم نص الحديث على لعن شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، والذي يملك محلا لبيع مأكولات أو مشروبات قد تتناول بعيدا عنه، أو تعد لتناولها في وقت يحل فيه تناولها، لا وجه لمنعة من ذلك ما دام لم ير المنكر يرتكب أمامه بتناول المشتري له بنهار رمضان.
والواقع يقضي بتيسير حصول الناس على ما يحتاجون، والإثم عليهم في سوء استعمال ما يقع تحت أيديهم.(1/775)
أما الذي يملك مطعما يتناول فيه الناس غذاءهم أو مقهى يتناول فيه المشروبات، فإن كان ذلك التناول في نهار رمضان، وتأكد أن متناوله مفطر لا عذر له في الإفطار؛ كانت مساعدته على ذلك محرمة، وإذا كانت معرفة المعذور وغير المعذور متعسرة في المجتمع الكبير الذي يجمع أخلاطا متنوعة قد تنتحل فيه الأعذار.
فالأفضل عدم القيام بهذا العمل نهارا وفي ممارسة نشاطه ليلا متسع له دون حرج، ذلك أن تيسير تناول الطعام والشراب في هذه الأماكن في نهار رمضان فيه إغراء للفطر، وفيه تشويه لصورة المجتمع الإسلامي الذي يجب أن يراعي حرمة هذا الشهر الكريم.
والمتقون لربهم يستعدون قبل رمضان بما يغنيهم عن العمل فيه من أجل العيش ليفرغوا للعبادة أو مزاولة عمل آخر. والليل كله مجال واسع للعيش الكريم.
إن الأمر يحتاج إلى مراقبة الضمير وإلى يقظة المسئولين وتعاون المسئولين عن مقاومة المنكر والتمكين للخير. والمعروف، وبخاصة في هذا الشهر المبارك العظيم.
فالأولى للإنسان الذي يفتح محله للطعام والشراب، الأولى له أن يبتعد عن ذلك؛ حتى يبارك الله له ويزاول هذا النشاط في الليل وهو متسع له بأكبر قدر ممكن.
والله أعلم .(1/776)
س:سيدة تقول: ذهبت إلى طبيبة أمراض النساء، وقامت بفحصي فحصا مهبليا. فهل هذا الفحص أفسد صومي ؟
أنا أختار القول بأن: الفحص المهبلي ليس طعاما ولا شرابا لا يدخل الجوف، أختار أنه لا يبطل الصوم، وكذلك الكشف عن البواسير الداخلية، أو الكشف على اللوز بنحو ملعقة، أنا أختار أن كل ذلك لا يبطل الصوم.
والله أعلم .(1/777)
س:وما حكم الدين في المرأة التي تصر على أن تصوم، وعليها الدورة الشهرية مع العلم أنها تقضي هذه الأيام فيما بعد ؟
بعض ذوي الأعذار اللذين يجوز لهم الفطر، يجوز لهم أن يصوموا وإن كان في الصوم مشقة، وليس عليهم القضاء.
لكن المرأة في أثناء الدورة لا يجوز لها أن تصوم حتى ولو كانت قادرة على الصيام، فيحرم عليها ذلك ولا يصح منها ما صامته، وعليها أن تفطر؛ لأنها لو صامت كانت كالتي تصلي وهي غير متطهرة، حيث تلبثت بعبادة فاسدة، وذلك محرم باتفاق العلماء.
ودليل حرمة صيامها ليس نصا صريحا في كتاب أو سنة، وإنما هو إجماع الأئمة والمجتهدين.
بناء على ما أثر على العصر الذي يؤخذ منه التشريع.
أما القضاء فجاء في رواية البخاري ومسلم عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "كنا نحيض على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة".
قال بعض العلماء: مفهومة أنهن ما كن يصمن، ولا يصلين عند وجود الدم، ولو جازت صلاتهن وصيامهن؛ لنقل ذلك للحاجة إليه.
فالخلاصة أن:
صيام المرأة حرام إذا كان في دورة الحيض أو النفاس.
والله أعلم .(1/778)
س:بعض النساء يأخذن أدوية؛ لتمنع الدورة الشهرية؛ حتى يتممن صيام رمضان. فما الحم في ذلك ؟
ممن خفف الله عنهم في رمضان: المرأة في أثناء الدورة الشهرية، وفى مدة النفاس، فأوجب الإسلام عليها الفطر، كما أوجب عليها القضاء، والقضاء سيكون في أيام في غير رمضان.
والشهر الذي يجري فيه القضاء ليس له من الفضل، وليس فيه من النفحات ما في شهر رمضان، ولذلك يرى بعض النساء منع نزول الدم في رمضان؛ ليصح الصوم ويفزن بفضل رمضان من صيام ومن صلاة التراويح ومن قراءة القرآن.
لا يوجد ما يحرم ذلك لا في كتاب ولا سنة ولا في مأثور السلف الصالح، بل جاء في المأثور عنهم أنهم: كانوا يجيزون للنساء في موسم الحج أن يتعاطين ما يمنع نزول الدم؛ حتى لا يحرمن من أداء الشعائر التي تشترط فيها الطهارة كالطواف حول البيت و الصلاة في المسجد الحرام بمكة ومسجد الرسول بالمدينة وقراءة القرآن الكريم، وكان منقوع شجر الأراك الذي يؤخذ منه السواك مفيدا في هذا الموضع، فوصفوه للنساء. ولم ينقل اعتراض أحد عليه.
ننتهي من هذا إلى أنه:
يجوز للمرأة أن تأخذ دواء يمنع نزول الحيض في رمضان، و لكن أنصح باستشارة الطبيب.
والله أعلم .(1/779)
س:أثناء نهار الصوم اشتهت نفسي بعض الطعام حتى وددت أن أفطر، بل كان بيني وبين تناول هذا الطعام شعرة. هل أنقص هذا التشهي من درجة صومي ؟
هذه الحالة المذكورة مظهر من مظاهر جهاد النفس، وثوابها عظيم، وقد أشار إلى ذلك الحديث: "ليدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
فهو قد خالف هوى نفسه وآثر رضاء الله.
وأرجو أن يكون ثوابه عظيما ـ إن شاء الله.
والله أعلم .(1/780)
س:رغب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في صيام التطوع الذي منه صيام ستة أيام من شهر شوال، ويتردد بين كثير من الناس صيام الأيام البيض. فما هذه الأيام، وهل منها الستة من شوال ؟
مبدئيا: الأيام البيض موجودة في كل شهر قمري، وهي التي يكون القمر موجودا فيها من أول الليل إلى آخره 13 ، 14 ، 15 وسميت بيضا؛ لابيضاضها ليلا بالقمر، ونهارا بالشمس، والإسلام قد شرع صيامها وجعله مندوبا ومستحسنا.
جاء في الزرقاني على (المواهب) أن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر". رواه النسائي.
وعن حفصة أم المؤمنين: "أربع لم يكن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يدعهن أي: يتركهن: صيام عاشوراء، والعشر والأيام البيض من كل شهر، وركعتي الفجر". رواه أحمد.
وعن معاذة العدوية أنها سألت عائشة أم المؤمنين: "أكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم". رواه مسلم.
ثم قال الزرقاني: والحكمة فيها أنها وسط الشهر، ووسط الشيء: أعدله، ولأن الكسوف أي: كسوف القمر غالبا يقع فيها.
وقد ورد الأمر بمزيد من العبادة، إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد، وهو صيام الأيام البيض، فيتهيأ له بأن يجمع بين أنواع العبادات من: الصلاة والصيام والصدقة، بخلاف من لم يصمها، فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها. هذا ما جاء في صيام الأيام البيض الثلاثة من كل شهر.
أما الستة الأيام من شهر شوال فإن تسميتها بالبيض تسمية غير صحيحة، وبصرف النظر عن التسمية فإن صيامها مندوب مستحب، وليس واجبا.
وقد ورد في ذلك قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال؛ كان كصيام الدهر". رواه مسلم.(1/781)
كما جاء في فضلها حديث رواه الطبراني: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". ومعنى صيام الدهر: صيام العام.
وجاء بيان ذلك في حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في عدة روايات لابن ماجة والنسائي وابن خزيمة في صحيحه، ومؤداها أن: "الحسنة بعشر أمثالها، فشهر رمضان بعشرة أشهر، والأيام الستة من شوال بستين يوم أي: بشهرين، وهما تمام السنة اثنا عشر شهرا، وهذا الفضل بمن يصومها في شوال سواء أكان في أوله أم في وسطه، أم في آخره، وسواء أكانت الأيام متصلة أم متفرقة، وإن كان الأفضل أن تكون من أول الشهر، وأن تكون متصلة، وهي تفوت بفوات شوال.
والحكمة من صيام ست من شوال بعد الصيام الطويل في شهر رمضان هي عدم انتقال الصائم فجأة من الصيام بما فيه من الإمساك المادي، والأدبي إلى الانطلاق والتحرر في تناول ما لذ وطاب متى شاء، فالانتقال الفجائي له عواقبه النفسية والجسمية، وذلك أمر مكرر في الحياة.
والله أعلم .(1/782)
س:لو صام إنسان الستة أيام من شوال على أنها قضاء لأيام فاتته. هل يحصل له ثوابها، أم لابد من صيام الستة أيام بنية السنة ؟
يمكن لمن عليه قضاء من رمضان أن يصوم هذه الأيام الستة من شوال بنية القضاء، فتكفي عن القضاء، ويحصل لها ثواب الستة البيض في الوقت نفسه؛ إذا قصد ذلك، فالأعمال بالنيات.
وإذا جعل القضاء وحده، والستة وحدها كان أفضل، بل إن علماء الشافعية قالوا: إن ثواب الستة يحصل بصومها قضاء حتى لو لم ينوها، وإن كان الثواب أقل مما لو نواها.
جاء في حاشية الشرقاوي على التحرير في فقه الشافعية ما نصه: ولو صام فيه أي: في شوال قضاء عن رمضان أو عن غيره أو نذرا أو نفلا آخر؛ حصل له ثواب تطوعها، إذ المدار على وجوب الصوم في ستة أيام من شوال، وإن لم يعلم بها أو صامها على أحد مما مر أي: النذر أو النفل الآخر، لكن لا يحصل له الثواب الكامل المترتب على المطلوب إلا بنية صومها عن خصوص الست من شوال.
ولا سيما من فاته رمضان أو صام عنه شوال؛ لأنه لم يصدق عليه أنه صام رمضان وأتبعه ستا من شوال.
ويشبه هذا ما قيل في تحية المسجد وهي: صلاة ركعتين لمن دخل قالوا: إنها تحصل بصلاة الفريضة، أو بصلاة أي نفل وإن لم تنو مع ذلك؛ لأن المقصود وجوب صلاة قبل الجلوس، وقد وجدت بما ذكر، ويسقط بذلك طلب التحية، ويحصل ثوابها الخاص وإن لم ينوها على المعتمد كما قال صاحب البهجة.
وفضلها بالفرض والنفل قد حصل. والمهم أن ينفي نيتها فيحصل المقصود إن نواها، وإن لم ينوها.
وبناء على ما تقدم، يجوز لمن يجد تعبا في قضاء ما فاته من رمضان، وهو حريص على جعل هذا القضاء في شوال، ويريد أن يحصل على ثواب الأيام الستة أيضا، يجوز أن ينوي القضاء، وصيام الستة أو القضاء فقط دون نية الستة، وهنا تندرج الستة مع الفرض، وهذا تيسير وتخفيف لا يجوز التقيد فيه بمذهب معين ولا الحكم ببطلان المذاهب الأخرى.
والله أعلم .(1/783)
س:جاء في بعض الأحاديث أن: شهر المحرم هو شهر الله. فلماذا هذا التخصيص بهذا الشهر بالذات، مع العلم بأن الشهور كلها شهور الله ؟
روى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "أفضل الصيام بعض رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
قال الحافظ السيوطي: سئلت: لما خص الله المحرم بقوله: شهر الله دون سائر الشهور مع أن فيها ما يساويها في الفضل أو يزيد عليه كرمضان، ووجدت ما يجاب به، لأن هذا الاسم إسلامي دون سائر الشهور.
فإن اسمها كلها على ما كانت عليه في الجاهلية، وكان اسم المحرم في الجاهلية صفر الأول والذي بعده صفر الثاني.
فلما جاء الاسم سماه الله المحرم فأضيف إلى الله (تعالى) بهذا الاعتبار، وهذه فائدة عظيمة. هذا.
وشهر الله المحرم فيه عاشورا وهو يوم مبارك.
والله أعلم .(1/784)
س:من صيام التطوع أيضا صيام عشر ذي الحجة، وقد ذكرت أحاديث شريفة في فضل هذا الشهر، وفضل الصيام فيه، وخاصة في العشر الأوائل منه ؟
الليالي العشر التي أقسم الله بها في أول سورة الفجر، قيل: إنها العشر الأول من شهر الله المحرم، ونسب هذا إلى ابن عباس. وقيل: إنها عشر ذي الحجة، ونسب هذا إلى مجاهد و غيره، بل نسب إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من رواية أبي الزبير عن جابر، وإن لم تثبت هذه الرواية، وهذا القول رجحه الكثيرون وبخاصة أن الليالي العشر ذكرت مع الفجر، وكثير من المفسرين قالوا: إنه فجر يوم النحر، وهي كما قالوا: ليالي أيام عشر، ويؤكد هذا القول أحاديث وردت في فضلها.
فقد ورد البخاري وغيره عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني: أيام العشر. قالوا: يا رسول الله: ولا الجاهد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء". هذا أصح ما ورد في فضل هذه الأيام.
ولكن ما هو العمل الصالح، هل هو نوع معين من العمل، أو هو كل قربة يتقرب بها إلى الله؟
جاء في بعض الأحاديث النص على بعض القرب، ففي رواية الطبراني بإسناد جيد: "ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إلى العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل و التكبير".
فالعمل هنا هو: الذكر.
لكن جاء في حديث غريب أي: رواه راو واحد فقط للترمذي جاء قوله: "يعدل صيام كل يوم بصيام سنة، وصيام كل ليلة منها بصيام ليلة القدر".
فالعمل هو: الصيام، والقيام.
وجاء في فضل هذه الأيام أيضا بوجه عام، كلام رواه البيهقي بإسناد لا بأس به، عن أنس بن مالك قال: كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم، إن النص على عمل في هذه الأيام، لا يلغي عملا آخر، ولهذا أرى أن:(1/785)
أي عمل صالح له ثوابه المضاعف، وبخاصة ما نص عليه في بعض الروايات من الذكر، والصيام، والقيام، وكان سعيد بن جبير يجتهد فيها اجتهادا شديدا حتى ما كان يقدر عليه.
ولعل الفضل سببه أن: هذه الأيام هي التي يكثف فيها الذهاب إلى المسجد الحرام؛ لأداء فريضة الحج والعمرة، ويعيش الناس فيها في ظلال الروحانية، والشوق إلى الأماكن المقدسة سواء منهم من سافر؛ ليحج، ومن لم يسافر.
والعمل الصالح إذا وقع في ظل هذه الروحانية كان أرجى للقبول، ومضاعفة الثواب، وبخاصة أن هذه الأيام فيها يوم عرفة الذي جاء فيه حديث رواه ابن خزيمة وابن حبان: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة".
وفيها العيد والحج الأكبر، وهي أيام يتوفر فيها الأمن في البلاد الإسلامية؛ لتهيئة الجو للمسافرين للحج، ولمن خلفوهم وراءهم، وذلك للانتظار بالعبادة و الذكر.
يقول ابن حجر في (فتح الباري): والذي يظهر أن السبب في امتياز عشرة ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره. وعلى هذا، هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟
فيه احتمال.
والله أعلم .(1/786)
س:وما حكم صوم يوم عرفة، وهل صيام هذا اليوم يعتبر سنة للحآج، ولغير الحآج ؟
صوم يوم عرفة: سنة.
روى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية".
وروى النسائي بإسناد حسن أن: "صيامه يعدل صيام سنة".
وفى رواية حسنة للطبراني أنه: "يعدل صيام سنتين".
وفي رواية حسنة للبيهقي أنه: "يعدل صيام ألف يوم".
تدل هذه الأحاديث على فضل صيام يوم عرفة، لكن هذا لغير الواقف بعرفة، وقد روى أبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه، والطبراني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "نهى عن صومه". وإن كان هذا النهي للكراهة، لا للتحريم.
ولذلك اختلف الفقهاء في حكم صيام هذا اليوم للواقف بعرفة:
فقال الشافعي: يسن الفطر فيه؛ ليقوى الحآج على الدعاء.
وقال أحمد: إن قدر الحآج أن يصوم؛ صام، وإن أفطر. فذلك يوم يحتاج فيه إلى القوة.
قال الحافظ المنذري في كاتبه: (الترغيب والترهيب): اختلفوا في صوم يوم عرفة بعرفة، فقال ابن عمر: لم يصمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وأنا لا أصومه.
وكان مالك الثوري يختاران الفطر، وكان ابن الزبير، وعائشة يصومان يوم عرفة.
وروي ذلك عن عثمان، وكان إسحاق يميل إلى الصوم، وكان عطاء يقول: أصوم في الشتاء، ولا أصوم في الصيف.
وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء. رواه أحمد والنسائي.
ومهما يكن من شيء، فإن الأولى الاقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ). فقد ثبت أنه: "لم يصم هذا اليوم في حجة الوداع".
روى البخاري ومسلم عن أم الفضل أنهم: "شكوا في صوم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في يوم عرفة؛ فأرسلت إليه بلبن فشرب، وهو يخطب الناس بعرفة". وثبت أنه قال: "إن يوم عرفة هو يوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب".(1/787)
وثبت عنه أنه: "نهى عن صيام عرفة بعرفات". كما رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه.
فالخلاصة أن:
صوم يوم عرفة لغير الحآج: مندوب. وأما في عرفة ففيه الخلاف.
وقد سمعنا ما حدث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
والله أعلم .(1/788)
س:علمنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر من الصوم في يومي: الاثنين والخميس. فلماذا هذان اليومان بالذات دون غيرهما، وما فضل الصوم فيهما؟
في حديث رواه أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "كان يصوم الاثنين والخميس. فقيل له: لماذا؟ فقال: "إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل مسلم إلا المتهاجرين فيقول: أخروهما".
وروى مسلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه". أي: نزل عليه الوحي، وجاءته الرسالة.
والله أعلم.(1/789)
س:يرى بعض الناس يكثرون من الصوم المتواصل. فهل رخص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك، أم يوجد في الأحاديث النبوية ما يحض على غيره ؟
روى أحمد وغيره عن عبد الله بن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له: "لقد أخبرت أنك تقوم الليل، وتصوم النهار، ثم قال له: فصم وأفطر، وصل ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك أي الزوار عليك حقا،وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام".
ولما طلب التشديد: "صم من كل جمعة ثلاثة أيام". ولما طلب التشديد أيضا قال: "صم صوم نبي الله داود، ولا تزد عليه". فقال: وما صيام داود؟ قال: "كان يصوم يوما ويفطر يوما".
وروي أيضا عن عبد الله بن عمر حديث: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصفه ويقوم ثلثه، وينام ثلثه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما".
والله أعلم .(1/790)
س:إذا نويت الصيام يوم الاثنين، وبعد الظهر أحسست بتعب؛ فتناولت طعاما. فهل على وزر في ذلك، وهل أثاب على نيتي أم لا ؟
روى أحمد والدارقطني والبيهقي والحاكم أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ناول أم هانئ (رضي الله عنها) يوم الفتح شرابا فقالت: إني صائمة. فقال: الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر".
وروى البخاري وغيره أن: سلمان الفارسي الذي آخى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بينه وبين أبي الدرداء، زار أبا الدرداء، ولما صنع له طعاما يأكل منه، وكان أبو الدرداء صائما قال سلمان: قال ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، ثم قال له بعد قيام آخر الليل: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حقا حقه".
ولما علم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما حدث بينهما قال: "صدق سلمان".
وروى البيهقي بإسناد حسن أن: أبا سعيد الخدري صنع طعاما للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه فقال واحد منهم: أنا صائم. فقال الرسول(عليه الصلاة والسلام): "دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم قال: أفطر، وصم يوما مكانه إن شئت".
من هذا يتبين أن صوم التطوع لا حرمة ولا كراهة في قطعه بالفطر إن أحس الإنسان بتعب، ونترك ثواب ما صام لتقدير الله (سبحانه). فعلى الأقل له ثواب نيته.
وقال أكثر العلماء:
يسن لمن أفطر في التطوع أن يقضي يوما بدله.
والله أعلم .(1/791)
س:من الأمور المستحبة في شهر رمضان: قيام رمضان أو ما يطلق عليه: صلاة التراويح. فما فضل قيام رمضان ؟
روى البخاري ومسلم قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ورويا أيضا قوله: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
ورويا أيضا أنه (عليه الصلاة والسلام) "كان يصوم إذا دخل العشر أي: الأواخر من رمضان أحيا الليل كله، و أيقظ أهله وشد المئزر".
يؤخذ من هذا أن:
قيام الليل في رمضان له فضله العظيم، والقيام يكون بصلاة التراويح التي يتلى فيها كثير من القرآن الكريم، وسميت بصلاة التراويح؛ لأن فيها ترويحة أي: استراحة بين كل ركعتين، أو أربع ركعات كانوا يستريحون.
والله أعلم .(1/792)
س:هل يجوز أن تصلى صلاة القيام بدون جماعة، وهل صلاتها في البيت أفضل، أم في المسجد ؟
يجوز أن تصلى التراويح في البيت؛ لأن الأرض كلها مسجد، ولكن صلاتها في المسجد أفضل؛ لأن المساجد خير البقاع في الأرض، كما يجوز أن تصلى بدون جماعة، و لكن الجماعة أفضل.
وقد صلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالصحابة جماعة، ولم يداوم على الخروج من بيته؛ ليصلي بهم، خشية أن تفرض عليهم، ثم كان أن جمعهم عمر على إمام.
جاء في البخاري أن عمر (رضي الله عنه) خرج ليلة في رمضان إلى المسجد فوجد الناس أوزاعا متفرقين فرأى أن جمعهم على إمام واحد أفضل، فجمعهم على أبي بن كعب، ولما رأى ذلك في إحدى المرات قال: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد أن الصلاة في آخر الليل أفضل من الصلاة في أول الليل، حيث كانوا يصومون في أول الليل.
والله أعلم .(1/793)
س:الذين يصلون صلاة التراويح في جماعة يرددون بعض الأذكار، يقولونها بعد كل ركعتين أو أربع ركعات، ويرى بعضهم أنها بدعة غير مشروعة. فما رأي الدين في ذلك ؟
ليس هناك نص يمنع من الذكر، أو الدعاء، أو قراءة القرآن في الفصل بين كل ركعتين من التراويح، أو بين كل أربعة منها ـ مثلا ـ وهو داخل تحت الأمر العام بالذكر في كل حال، وكون السلف الذين يؤخذ عنهم التشريع لم يفعلوه، لا يدل على منعه إلى جانب أن النقل عنهم لمنع الذكر المذكور غير موثوق به.
وهذا الفاصل يشبه ما كان يفعله أهل مكة من قيامهم بالطواف حول البيت سبعا بين كل ترويحتين.
الأمر الذي جعل أهل المدينة يزيدون عدد التراويح على عشرين تعويضا عن هذا الطواف، وهو أسلوب تنظيمي يعرفون به عدد ما صلون إلى جانب ما فيه من تنشيط للمصلين، فلا مانع مطلقا، وبهذا لا يدخل تحت اسم البدعة.
فالنصوص العامة تشهد له فضلا عن عدم معارضته لها، ولئن سمي بدعة، فهو على نسق قول عمر (رضي الله عنه): نعمت البدعة هذه، عندما رأى تجمع المسلمين لصلاة التراويح خلف أبي بن كعب.
والله أعلم .(1/794)
س:فضيلة الشيخ عطية نود أن نعرف معنى: الاعتكاف. وهل له دليل في القرآن والسنة يؤكد مشروعيته، وما الثواب عليه، وما حكمه ؟
الاعتكاف معناه: لزوم الشيء وحبس النفس عليه، سواء أكان خيرا أم شرا، قال (تعالى): {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون}. أي: مقيمون على عبادتها. والمراد بالاعتكاف شرعا: لزوم المسجد، والإقامة فيه بنية التقرب إلى الله، والإجماع منعقد على مشروعيته، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) "يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما". كما رواه البخاري.
"واعتكف أزواجه من بعده". كما روى البخاري ومسلم عن عائشة (رضي الله عنها). وحكمه أنه: سنة. ويكون واجبا عند النذر، ويتأكد فضله في رمضان، وفي العشر الأواخر منه.
والأحاديث التي وردت في فضله لم يتفق على صحتها، وإن كانت تقبل في فضائل الأعمال منها: ما رواه الطبراني والبيهقي والحاكم وصححه عن ابن عباس (رضي الله عنهما): "ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله، جعل الله بينه وبين النار ثلاثة <خنابق> أبعد مما بين الخافقين".
وما رواه البيهقي: "من اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين". وهناك ترغيب في الاعتكاف أقل من يوم.
وقد روى الخطيب وابن شهيد عن ثوبان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من اعتكف نفسه ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة وقرآن؛ كان حقا على الله (تعالى) أن يبني له قصرا في الجنة".
والله أعلم .(1/795)
س:هل وردت أحاديث نبوية شريفة تحض على قراءة معينة في صلاة القيام في رمضان ؟
ليس القراءة في التراويح شيء مسنون عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
وورد عن السلف أنهم كانوا بالمائتين يعني: مائتي آية يقومون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قرء بها اثنتي عشرة ركعة؛ عد ذلك تخفيفا. والأفضل عدم تطويل القراءة؛ حتى لا يشق على الناس.
وقال القاضي: لا يستحب النقصان من ختمة في الشهر؛ ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة؛ كراهية المشقة على المأمومين.
والتقدير بحال الناس أولى، فلو اتفق جماعة يريدون بالتطويل كان أفضل كما قال أبو ذر: قمنا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح أي: السحور، وكان القارئ يقرأ بالمائتين.
والله أعلم .(1/796)
س:هل للاعتكاف كعبادة قضاء، ومتى يجب ؟
الاعتكاف: عبادة إذا فاتت؛ يمكن قضاؤها، وإذا كان منذورا؛ وجب القضاء، وإلا فيكون القضاء سنة، وذلك كأي عمل غير واجب له أن يخرج منه ما عدا الحج والعمرة.
وإذا وجب القضاء على الإنسان ولم يقض حتى مات، فلا يجب القضاء عنه عند جمهور الفقهاء.
ولكن أوجبه أحمد بن حنبل.
والله أعلم .(1/797)
س:وهل يجوز للمعتكف ـ مثلا ـ أن يتصل بالتليفون من المسجد لقضاء حوائج الناس ؟
لا مانع من أن يتصل المعتكف بالتليفون؛ لقضاء حوائج الناس، فذلك عمل خير، بل السنة إذا طلب منه قضاء حاجة للناس؛ أن يخرج من المسجد؛ ليعطيه ذلك الأمر، كما فعل ابن عباس (رضي الله عنهما) حين استدعاه إنسان، وكان معتكفا في المسجد، فخرج من المسجد؛ ليقضيها له، ولما أمسك به أحد المعتكفين قال له: إني سمعت حديثا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "إن من قضى حاجة إنسان خير له من اعتكاف عشر سنين".
والله أعلم .(1/798)
س:رجل مريض بالشلل. هل يجوز له أن يعتكف في بيته؛ لمشقة اعتكافه في المسجد، وهل يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد، وهل الأفضل لها أن تعتكف في بيتها ؟
اتفقت المذاهب الأربعة على أن: الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد، كما قال (تعالى):{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }.
وإن كان الإخبار عن واقع الحال لا يفيد الشرطية، وأي مسجد من المساجد يجوز فيه الاعتكاف لعدم الدليل على تخصيص بعضها بالجواز.
قال العلماء: لا يصح للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها؛ لأنه لا يطلق عليه اسم المسجد عرفا، حيث يجوز بيعه، وهذا يصدق بالمكان المخصص في البيت للصلاة، أما المكان غير المخصص فلا يجوز فيه الاعتكاف من باب أولى، لكن الحنفية أجازوا للمرأة بوجه خاص أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصلاة وفيه قول قديم للشافعي.
وجاء في وجه للمالكية صحته للرجال، والنساء في مسجد البيت.
والمريض بالشلل يصح اعتكافه في مسجد بيته، على وجه للمالكية وأصحاب الشافعي، وكذلك على رأي محمد بن عمر بن لبابة المالكي، كما ذكره ابن حجر في كتابه: (الفتح) عند شرح حديث رواه أبو داود: "ولا اعتكاف إلا في مسجد الجماعة".
والله أعلم .(1/799)
س:إذا صحوت من النوم في رمضان، فظننت أن الفجر لم يطلع فأكلت، وشربت ثم تبين لي أن النهار قد طلع. فهل يصح صومي ؟
ذكر ابن قدامة في كتابه: (المغنى): أن من أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب، أن عليه القضاء، وذلك مع وجود الإمساك على من أكل ظانا عدم طلوع الفجر، وقال ابن قدامة: إن هذا الحكم هو قول أكثر أهل العلم، ثم حكى عن بعض التابعين أنه لا قضاء عليه، وذكر في ذلك أثرا عن عمر (رضي الله عنه).
ولكن الرأي الأول هو المعول عليه، وذلك لحديث البخاري "أنهم أمروا بقضاء يوم أفطروا فيه؛ لوجود غيم، ثم طلعت الشمس".
هذا في الظن وهو: إدراك الطرف الراجح.
أما الشك وهو: إدراك الطرفين على السواء، والطرفان هما: طلوع الفجر، وعدم طلوعه.
فقد قال فيه ابن قدامة أيضا: وإن أكل شاكا في طلوع الفجر، ولم يتبين الأمر، فليس عليه قضاء؛ لأن المدار على تبين طلوع الفجر، كما قال تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}.
وقال: إن هذا هو رأي الشافعي، وأصحاب الرأي أي: الحنفية.
ولكن مالكا أوجب القضاء؛ لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته، فلا يسقط بالشك، وذكر أن الأكل عند الشك في غروب الشمس، ولم يتبين الأمر يوجب القضاء، فعلى صاحب هذا السؤال أن يمسك بقية يومه ويقضي هذا اليوم، وهو الرأي المختار.
والله أعلم .(1/800)
س: نود أن نعرف عدد ركعات صلاة التراويح، وهل صلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عشرين ركعة ؟
روى البخاري وغيره عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثة".
وقولها: يصلي أربعا لا ينافي أنه كان يسلم ركعتين، وذلك لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "صلاة الليل مثنى مثنى".
وقولها: يصلي ثلاثا، معناه: أنه كان يوتر بواحدة، والركعتان شفع. روى مسلم عن عروة أن السيدة عائشة قالت: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة".
وجاء في بعض الطرق لهذا الحديث: "يسلم من كل ركعتين".
وروى ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن جابر (رضي الله عنه) أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بهم ثماني ركعات والوتر، ثم انتظروه في القابلة، فلم يخرج إليهم".
هذا هو ما صح من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يصح عنه شيء غير ذلك.
لكن صح أن الناس كانوا يصلون على عهد عمر، وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) عشرين ركعة. وهو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية، والحنابلة، وداود.
قال الترمذي: وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي، وغيرهما من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عشرين ركعة، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي، وقال: هكذا أدركت الناس بمكة يصلون عشرين.
وذهب مالك: إنها ست وثلاثون ركعة من غير الوتر.(1/801)
قال الزرقاني في: (شرح المواهب اللدنية) وذكر ابن حبان أن: التراويح أولا: كانت إحدى عشرة ركعة، وكانوا يطيلون القراءة؛ فثقل عليهم؛ فخففوا القراءة وزادوا في عدد الركعات، فكانوا يصلون عشرين ركعة، من غير الشفع والوتر بقراءة متوسطة، ثم خففوا القراءة، وجعلوا الركعات ستا وثلاثين، من غير الشفع والوتر، ومضى الأمر على ذلك. هذا.
وقد قال الحافظ في الجمع بين الروايات: إن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة، وتخفيفها، فحيث تطول القراءة تقل الركعات، وبالعكس، وبه جزم الداودي وغيره.
ثم ذكر الحافظ أن: أهل المدينة كانوا يصلونها ستا وثلاثين لمساواة أهل مكة فإنهم كان يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، وجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات.
والله أعلم .(1/802)
س:قد تجب على الإنسان كفارة هي: صيام شهرين متتابعين. فما الحكم لو أفطر في أثناء هذين الشهرين لعذر قهري: كالحيض عند المرأة، أو مصادفة يوم العيد. هل ينقطع بذلك التتابع، ويعيد الصوم من أوله ؟
جاء في القرآن الكريم النص على التتابع في صيام شهرين كفارة عن القتل، أو في الظهار الذي يحرم فيه الزوج زوجته بمثل قوله لها: أنت علي كظهر أمي، ثم يعود في سلام.
وجاء في السنة وجود التتابع في الصوم إذا فسد بالجماع في نهار رمضان، كما رواه مسلم.
وقد قال العلماء: إن أفطر الصائم أي يوم حتى لو كان قبل اليوم الأخير؛ انقطع التتابع، ووجب البدء بالصيام من جديد، وذلك من باب التغليظ عليه؛ حتى لا يعود إلى هذا الخطأ مرة أخرى. وهذا ظاهر في الإفطار لغير عذر.
أما إن كان الإفطار لعذر، فقد جاء في تفسير القرطبي: أن الحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف، ذلك لأنه عذر قهري يحرم الصوم.
أما المرض، فقد اختلف فيه على قولين:
فقال مالك: إنه عذر لا يمنع التتابع إن أفطر، حيث لا يستطيع الصيام، فإن برئ؛ صام وبنى على ما فات.
وقال أبو حنيفة: يستأنس.
وقال الشافعي قولين: أحدهما: كمالك.
والثاني: كأبي حنفية.
جاء في: (المغنى) لابن قدامة الحنبلي: الموافقة على عذر الحيض.
أما النفاس، ففيه وجهان:
الأول: كالحيض بالقياس عليه.
والثاني: لا يقاس عليه؛ لأنه أندر من الحيض، ويمكن التحرز منه، وفيه أن: المرض المخوف لا ينقطع التتابع بالفطر بسببه، كما قال مالك.
و أما أبو حنيفة فيقول: بالانقطاع.
والشافعي له قولان.
ثم ذكر أن المرض غير المخوف وإن كان يبيح الفطر؛ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقطع التتابع: كالمرض المخوف.
والثاني: يقطع؛ لأنه باختياره.
أما قطع التتابع بالعيد، وأيام التشريق، فأرجح القول بالقطع؛ لأنه باختياره حيث بدأ الصيام، وهو يعلم أنه سيتخلله العيد، وأيام التشريق، وكان عليه أن يتفادى ذلك.(1/803)
هذه هي الآراء، ولك أن تختار منها ما تشاء.
والله أعلم .(1/804)
س: من الأيام التي يندب صيامها يوم عاشوراء، ففي أي شهر يكون هذا اليوم، وما الحكمة في مشروعية صيامه، وهل كان ذلك معروفا قبل الإسلام ؟
يوم عاشوراء هو: اليوم العاشر في شهر الله المحرم، والحكمة في مشروعية الصيام فيه هي: شكر الله على نعمة كبيرة وقعت فيه، واهتم بها الناس من قبل رسالة الإسلام، ذلك هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى (عليه السلام) وجماعته الإسرائيليين وأغرق فرعون، وقومه الظالمين، كما قال (تعالى) مذكرا لليهود: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسمونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون }.
فكان اليهود يصومون هذا اليوم؛ شكرا لله على ذلك، واستمروا على صيامه حتى جاء الإسلام، وهم يحافظون عليه.
وجاء في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: "قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة فرأى اليهود يصومون عاشوراء، فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصمونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم، نجى الله فيه موسى، وقومه، وأغرق فرعون وقومه؛ فصامه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر بصيامه حتى فرض رمضان".
وجاء في بعض الروايات قوله: نحن أحق بموسى منه.
إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صدق اليهود في نعمة النجاة كانت في يوم عاشوراء، كما تقول كتبهم .
وكان الرسول (عليه الصلاة والسلام) يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء يعني أن صيامه معهم كان اجتهادا منه كما قيل في استقباله بيت المقدس بعد الهجرة لتأليف قلوبهم.
لكن جاءت روايته في الصحيحين عن عائشة (رضي الله عنها) أن: الرسول (صلى الله عليه وسلم ): "كان يصوم عاشوراء في مكة قبل هجرته إلى المدينة، وكان صيامه آنذاك اتباع لقريش في صيام هذا اليوم في الجاهلية".(1/805)
لكن ما هو السبب في صيامهم؛ يعلل عكرمة صيام قريش لهم بأنهم: أذنبوا ذنبا في الجاهلية؛ فعظم في صدورهم فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب، فهل كان ذلك تقليدا لليهود في صوم يوم الكفارة، أو بناء على شرع سابق؟ والمعروف أن شريعة إبراهيم وإسماعيل التي كانت في مكة، هي أسبق من الشرعية التي جاءت بها توراة موسى الذي نجاه الله من فرعون، وقومه.
من هذا يعلم أن: صيام يوم عاشوراء كان مشروعا قبل الإسلام، وصامه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في مكة، ولما هاجر إلى المدينة استمر على صيامه لما وجد اليهود يصومنه.
وهناك أسباب أخرى لأهمية هذا اليوم:
جاء في بعضها حديث رواه الترمذي بسند حسن: أنه هو اليوم الذي تاب الله فيه على قوم، ويتوب على آخرين، لكن ليس في الحديث تعيين لهذا اليوم، ولا لهؤلاء الأقوام.
كما جاء حديث غير مرفوع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "بأن الله تاب على آدم في هذا اليوم، ويندب فيه الصيام".
وجاء في مسند أحمد أنه: ربما يكون هو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي.
وجاءت روايات لها سند صحيح منها أن يوم عاشوراء هو مولد الخليل إبراهيم، ومولد موسى، ومولد عيسى، وأن النار بردت فيه على إبراهيم، ورفع العذاب عن قوم يونس، وكشف الضر عن أيوب، ورد البصر على يعقوب، وأخرج يوسف من الجب، وهو يوم الزينة الذي غلب فيه موسى السحرة.
ويهمنا من ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صامه وأمر بصيامه، وكان صيامه في المدينة، إما بوحي من الله، وإما باستدامة صيامه في مكة.
وزاد تأكيده بشكر الله على نجاة موسى، أو باجتهاد منه ( صلى الله عليه وسلم ) في موافقة أهل الكتاب في أول الإسلام، ثم لما فتحت مكة، وقوي الإسلام؛ خالف أهل الكتاب بل أمر بمخالفتهم في شكل الصيام، لا في أصله.
ودليل ذلك أن:
المخالفة كانت في أواخر حياته.
والله أعلم .(1/806)
س: وما حكم صيام يوم عاشوراء، هل هو الوجوب أو الندب، وما هو الثواب المترتب عليه إلى جانب الثواب على الصيام بوجه عام ؟
اختلف في حكم صوم يوم عاشوراء في أول الإسلام؛ حين شرع قبل رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا لظواهر الأحاديث.
ولأصحاب الشافعي وجهان: وجه كأبي حنيفة، والأشهر أنه لم يزل سنة حين شرع، لكن كان متأكد الاستحباب، فلما فرض رمضان؛ صار استحبابه أقل من الأول.
والمهم أنه استقر أخيرا على الندب، لا على الوجوب، وهو ما يفسر به فطر ابن مسعود يوم عاشوراء.
كما ثبت في الصحيحين أنه: لما فرض رمضان قال عن عاشوراء: من شاء صامه، ومن شاء تركه.
وجاء في ثواب قيامه ما رواه مسلم أنه: "يكفر ذنوب سنة". وهي سنة ماضية أو سنة آتية، إن وقعت ذنوب من الصائم.
والمراد بها: الذنوب الصغائر فإن لم تكن صغائر؛ خفف من الكبائر، فإن لم تكن كبائر؛ رفعت الدرجات.
أما الكبائر، فلا تكفرها إلا التوبة النصوح.
وقيل: يكفرها أيضا الحج المبرور.
والله أعلم .(1/807)
س:نشاهد في هذه الأيام اهتمامات مختلفة في بعض الدول بمناسبة يوم عاشوراء، بعضها فيه حزن شديد، وبعضها فيه فرح كبير. فهل هناك من تعليل لذلك، وهل صحيح أن هناك حديثا يأمر بالتوسعة على العيال في هذا اليوم ؟
لقد ظل اهتمام المسلمين بعاشوراء مقصورا على صيامه من أجل ثوابه العظيم، حتى كان يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة، وهو اليوم الذي استشهد فيه الحسين بن علي (رضي الله عنهما) في كربلاء، فدخل يوم عاشوراء التاريخ مرة أخرى من باب واسع، عمق الشعور بالتشيع لآل البيت في الوقت الذي فرح فيه بذلك آخرون؛ لعوامل سياسية أو غيرها.
وفى ظل هذه العواصف ظهرت بدع واخترعت أقاويل، وحكايات، بل وضعت أحاديث على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويكفينا أن نبين أن فضيلة الاغتسال في هذا اليوم والخضاب والادهان والاكتحال، ونحو ذلك ليس لها أصل في الدين من أجل عاشوراء فقط، بل هي مشروعة في كل الأيام.
وبخصوص التوسعة على العيال: جاء في شرح الزرقاني (للمواهب اللدنية) أن الحديث الذي يقول: "من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها". قال عنه البيهقي: إن أسانيده كلها ضعيفة، والدارقطني رواه موقوفا على عمر بسند جيد، وابن الجوزي أورده في الموضوعات، وهو حديث مختلف في قبوله، ورفضه.
وقد يقال: إذا كان الصوم شعيرة عاشوراء، والصوم يقوم على الزهد والتقشف، فكيف يتفق ذلك مع التوسعة على الأهل، والعيال.
إن التوسعة على العيال بوجه عام لا مانع منها، ما دامت في حدود الوسع والطاقة والمشروع.
وإذا كانت هناك توسعة مع الصوم، فهي على الفقراء.
لكن لا ارتباط لذلك بمقتل الحسين (رضي الله عنه).
والله أعلم .(1/808)
س:وهل من السنة أن نصوم يوما قبل عاشوراء ويوما بعده ؟
استمر تشريع الصيام لعاشوراء على أنه مندوب بعد أن فرض صيام شهر رمضان حتى لحق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالرفيق الأعلى أي: لمدة عشر سنوات.
لكن حدث كما رواه مسلم عن ابن عباس أن "الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود. فقال: إن كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع".
قال ابن عباس فلم يأت العام القابل حتى توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم).
وروى أحمد: "خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده".
وقد ذكر العلماء: أن صيام عاشوراء على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: صوم ثلاثة أيام: التاسع والعاشر والحادي عشر.
والمرتبة الثانية: صوم اليوم التاسع والعاشر.
والمرتبة الثالثة: صوم يوم العاشر وحده.
والله أعلم .(1/809)
س:وهل للاعتكاف زمن معين لا يجوز إلا فيه ؟
الاعتكاف الواجب بالنذر يؤدى حسب ما نذره الناذر يوما أو يومين ـ مثلا.
أما المستحب فليس له وقت محدود، فهو يتحقق بالمكث في المسجد مع النية، طال الوقت أم قصر.
ويثاب الإنسان ما دام في المسجد، فإذا خرج، ثم عاد جدد النية؛ إن قصد الاعتكاف.
وللمعتكف نفلا أن يقطع اعتكافه متى شاء قبل المدة التي نواها.
وقد أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، ولما رأى زوجاته ذلك؛ جعلت كل منهن مكانا خاصا فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإلغاء ذلك، وترك الاعتكاف، وأخره إلى العشر الأول من شهر شوال.
وفي ذلك دليل على جواز منع الزوج زوجته من الاعتكاف بغير إذن.
أما عند الإذن فقد رأى الشافعي وأحمد أنه: يجوز له منعها من اعتكاف التطوع.
والله أعلم .(1/810)
س:في أي شهر كانت ليلة القدر، وأية ليلة هي من الشهر ؟
تعيين هذه الليلة بليلة خاصة وفي شهر مخصوص، الأقوال في ذلك مختلفة.
فقد قيل: إنها في ليالي السنة كلها، وهي مبهمة غير معينة.
لكن، الذي عليه معظم العلماء أنها في شهر رمضان؛ ليتفق ذلك مع قوله ـ تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }.
ومع قوله:{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة }.
أما تعيين ليلة من هذا الشهر، ففيه خلاف.
وقد صح في ذلك حديث البخاري ومسلم: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان".
وهو ( صلى الله عليه وسلم ) كان حريصا على قيام هذه الليالي الأخيرة، كما يدل عليه الحديث المتفق عليه: "كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان؛ جد واجتهد وشد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا الليل كله". وأرجى ما تكون في الليالي العشر، وفى الوتر، كما في حديث البخاري: "التمسوها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان". وأشد هذا الوتر رجاء هو ليلة السابع والعشرين. لحديث رواه مسلم. وقيل: إنها تنتقل من عام لآخر بين هذه الليالي الأخيرة.
والله أعلم .(1/811)
س: وما فضل ليلة القدر، وما القربات التي تقرب بها إلى الله (سبحانه وتعالى) فيها ؟
يكفي في بيان فضل ليلة القدر، وثواب من صامها قوله ـ تعالى: { ليلة القدر خير من ألف شهر }. أي: العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر، ليس فيها ليلة قدر، وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وقوله عن شهر رمضان عن هذه الليلة: "من حرمها فقد حرم الخير الكثير".
وألف شهر لا يراد به: التحديد، بل المراد به جميع الدهر، فالتعبير عربي يراد به الكثرة، كما قال (تعالى) {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}.
والثواب المضاعف في هذه الليلة كما يقول كثير من العلماء، ورواه مالك في الموطأ هو: تعويض للأمة الإسلامية بهذا الثواب عن أعمارها القصيرة لتساوي أعمار السابقين الذين كانوا يعيشون أعمارا طويلة، وفضل الله واسع، وأمة محمد (صلى الله عليه وسلم ) هي خير أمة أخرجت للناس، وفضل الله عليها، وعلى نبيها عظيم، كما هو معروف.
أما إحياؤها فيكون بالصلاة، والقرآن، والذكر، والاستغفار، والدعاء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وصلاة التراويح في رمضان إحياء لها بذلك.
وجاء في بعض المرويات: "من صلى المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة، فقد أخذ بحظه من ليلة القدر".
وقالت عائشة (رضي الله عنها): يا رسول الله: إن وافقت ليلة القدر، فما أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
وفى حديث ابن عباس عن نزول الملائكة فيها أنهم يمرون على كل قائم وقاعد ومصلى وذاكر يسلمون عليهم ويأمنون على دعائهم فيغفر الله لهم، إلا أربعة: هم مدمن الخمر، وعاق الوالدين، وقاطع الرحم، والمشاحن أي: المخاصم".
والله أعلم .(1/812)
س: نود أن نعرف عدد ركعات صلاة التراويح، وهل صلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عشرين ركعة ؟
روى البخاري وغيره عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثة".
وقولها: يصلي أربعا لا ينافي أنه كان يسلم ركعتين، وذلك لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "صلاة الليل مثنى مثنى".
وقولها: يصلي ثلاثا، معناه: أنه كان يوتر بواحدة، والركعتان شفع. روى مسلم عن عروة أن السيدة عائشة قالت: "كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة".
وجاء في بعض الطرق لهذا الحديث: "يسلم من كل ركعتين".
وروى ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن جابر (رضي الله عنه) أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بهم ثماني ركعات والوتر، ثم انتظروه في القابلة، فلم يخرج إليهم".
هذا هو ما صح من فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يصح عنه شيء غير ذلك.
لكن صح أن الناس كانوا يصلون على عهد عمر، وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) عشرين ركعة. وهو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية، والحنابلة، وداود.
قال الترمذي: وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي، وغيرهما من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عشرين ركعة، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي، وقال: هكذا أدركت الناس بمكة يصلون عشرين.
وذهب مالك: إنها ست وثلاثون ركعة من غير الوتر.(1/813)
قال الزرقاني في: (شرح المواهب اللدنية) وذكر ابن حبان أن: التراويح أولا: كانت إحدى عشرة ركعة، وكانوا يطيلون القراءة؛ فثقل عليهم؛ فخففوا القراءة وزادوا في عدد الركعات، فكانوا يصلون عشرين ركعة، من غير الشفع والوتر بقراءة متوسطة، ثم خففوا القراءة، وجعلوا الركعات ستا وثلاثين، من غير الشفع والوتر، ومضى الأمر على ذلك. هذا.
وقد قال الحافظ في الجمع بين الروايات: إن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة، وتخفيفها، فحيث تطول القراءة تقل الركعات، وبالعكس، وبه جزم الداودي وغيره.
ثم ذكر الحافظ أن: أهل المدينة كانوا يصلونها ستا وثلاثين لمساواة أهل مكة فإنهم كان يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، وجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات.
والله أعلم .(1/814)
س:يقول أحد الشباب: كلي أمل أن أزور بيت الله الحرام، وقبر رسول ( صلى الله عليه وسلم ) في رحلة الحج المباركة، ومعي مبلغ من المال يكفي لحجي أو لزواجي،فأيها أفعل؟
لا شك أن الحج فرض لازم على كل مستطيع ووجوبه على الفور عند جمهور الفقهاء يحرم تأخيره عن أول فرصة له، والزواج مشروع ومرغب فيه بالآيات و الأحاديث الكثيرة غير أن الفقهاء قالوا: إنه قد يكون واجبا، وقد يكون مندوبا، فهو واجب على من وجد نفقته وقدر على كل تبعاته، وخاف العنت أي: الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج، ويكون مندوبا إن قدر عليه، ولم يخف العنت إن لم يتزوج، بأن كانت حالته طبيعية، وعنده من القدرة ما يكف به نفسه عن الفاحشة إن أخر الزواج، وعلى هذا أقول: إن كان الزواج واجبا قدمه على الحج؛ لأنه لو لم يتزوج؛ وقع في الفاحشة، والحج يكون واجبا على المستطيع، ومن الاستطاعة: وجود مال زائد على حاجاته الضرورية ومن حاجاته الضرورية الزواج في مثل هذه الحالة، وبخاصة أن الحج واجب على التراخي عند بعض الأئمة يعني: لو أخره سنة، لا يأثم.
أما إذا كان الزواج مندوبا؛ قدم الحج عليه ضرورة تقديم الواجب على المندوب.
والله أعلم .(1/815)
س:وهل هناك من شروط أو أركان للاعتكاف ؟
يشترط أن يكون المعتكف: مسلما مميزا طاهرا من الجنابة والحيض والنفاس، وأما أركانه فهي: المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله.
فلو لم يقع المكث في المسجد أو وقع ولم تحدث النية؛ فلا ينعقد الاعتكاف.
ودليل النية معروف بالحديث و هو:"إنما الأعمال بالنيات".
ودليل المسجد قوله ـ تعالى: { ولا تباشروهن وأنت عاكفون في المساجد }.
والله أعلم .(1/816)
س:والمسجد الذي يعتكف فيه. هل له مواصفات خاصة ؟
المسجد الذي يعتكف فيه، اختلف الفقهاء في مواصفاته: فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن: الاعتكاف يصح في كل مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس، وتقام الجماعة. وذهب مالك والشافعي إلى أنه: يصح في كل مسجد حتى لو لم تقم فيه جماعة وذلك لعدم ورود نص صريح في تخصيص مسجد بمواصفات معينة.
وقال الشافعي: الأفضل أن يكون في مسجد جامع يقام فيه الجمعة، والجماعة؛ لأن الجماعة فيه أكثر، ولا يعتكف في غيره إذا تخلل وقت الاعتكاف صلاة جمعة حتى لا تفوته.
والله أعلم .(1/817)
س:وهل يجوز الاعتكاف في غير رمضان ؟
الاعتكاف جائز ومندوب في أي يوم من أيام السنة، وليس خاصا بشهر رمضان وإن كان في رمضان أفضل.
والله أعلم .(1/818)
س:وهل يوجد وقت معين يدخل فيه المعتكف المسجد، ووقت آخر يخرج فيه، وخاصة إذا كان في رمضان ؟
لا يوجد نص في ذلك، والأمر يرجع إلى الإنسان نفسه، فيبدأ بما حدده ـ فمثلا ـ من نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، فإنه يدخل المسجد عقب غروب الشمس من يوم العشرين، لأن أول الليالي العشر هو: ليلة الحادي والعشرين، ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان، يخرج بعد غروب شمس آخر يوم من الشهر عند أبي حنيفة والشافعي.
وقال مالك وأحمد إن خرج بعد الغروب أجزأه، لكن الأفضل أن يبقى في المسجد حتى يخرج لصلاة العيد.
ومن أراد أن يعتكف ليلة يدخل قبل أن يتم غروب الشمس، ويخرج إذا تبين له طلوع الفجر.
ومن أراد أن يعتكف نهارا دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروب الشمس، وهكذا.
والله أعلم .(1/819)
س:هل توجد أمور يستحب للمعتكف أن يفعلها، وأمور أخرى يكره فعلها ؟
يستحب للمعتكف أن يكثر من نوافل العبادات، ويشغل نفسه بالصلاة، وقراءة القرآن والاستغفار، والصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والدعاء، ونحو ذلك من الطاعات، و من الطاعات دراسة العلم الديني ومذاكرته، أو تعليمه، ويستحب للمعتكف أن يتخذ ستارا في صحن المسجد اقتداء بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويكره له أن يشغل نفسه بما لا يعنيه، من قول أو عمل، كما يكره له الإمساك عن الكلام ظنا منه أنه قربة إلى الله، اللهم إلا إذا كان مستغرقا في فكر خلق الكون، أو تحضير مسائل تفيده أو تفيد غيره، فإن إمساكه عن الكلام ليس مكروها.
والله أعلم .(1/820)
س:وما الأمور التي يباح للمعتكف أن يفعلها ؟
يباح للمعتكف أن يخرج لتوديع أي إنسان كان معه ـ مثلا ـ كما حدث فيما رواه البخاري ومسلم أن: "صفية زوج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانت تزوره في معتكفه، فلما أرادت الانصراف؛ قام وودعها فمشى معها إلى مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال لهما: على رسلكما إنها صفية بنت حيي يعني: ليست امرأة أجنبية. ثم قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم؛ فخشيت أن يقذف في قلوبكما شرا".
وفيما رواه البخاري ومسلم عن عائشة (رضي الله عنها) أن: "الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان وهو معتكف في المسجد يناولها رأسه من خلل الحجرة؛ لتغسله".
كما يباح الخروج للحاجة التي لابد منها: كالغائط، والحيض، والبول، والطعام، والشراب إذا لم يوجد من يأتي به إليه، كما يخرج للغسل من الجنابة إذا احتلم ـ مثلا ـ وليطهر ثوبه أو بدنه من النجاسة، كما يخرج ليصلي الجمعة، ويحضر الجنازة، ويعود المرضى، ولكن لا يجلس معهم، وله أن يأكل ويشرب في المسجد وأن ينام مع المحافظة على النظافة والآداب، وله أن يعقد العقود، ويفعل ما يشاء من المباحات.
والله أعلم .(1/821)
س:فما الذي يبطل الاعتكاف ؟
الذي يبطل الاعتكاف هو: الخروج من المسجد لغير حاجة، وكذلك ذهاب عقله بجنون أو سكر، ومثله: الحيض والنفاس للمرأة، كما يبطله الوطء لقوله ـ تعالى: { ولا تباشروهن وأنت عاكفون في المساجد }. لأن المكث في المسجد للجنب حرام، ويبطله أيضا الردة لمنافاتها للعبادة.
والله أعلم .(1/822)
س:نود أن نعرف فضل الحج كما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة. وهل النفقة في الحج لها ثواب أكبر من النفقة في أمور الحياة العادية ؟
فضل الحج كبير يظهر في بيان حكمة المشروعية التي قال الله فيها:{ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }. والمنافع كثيرة: منافع دينيه ومنافع دنيوية تستفيد منها مكة وأهلها استجابة لدعاء إبراهيم ـ عليه السلام: { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون }. ويستفيد من المنافع الحجاج والمسلمون بوجه عام.
ومن هذه الفوائد: تقوية صلة العبد بربه بمثل: التلبية وذكر الله في المشاعر، والطواف حول البيت، وتقبيل الحجر الذي هو يمين الله يصافح بها خلقه، كما رواه أحمد.
وفيه التواضع الذي جاءت فيه رواية أحمد أن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة فيقول: "انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم".
وفيه ارتباط بمهد النبوة، وتذكر لحوادث ماضية قيمة، كما أن فيه عاملا من عوامل الوحدة بين المسلمين، ومن أجل ذلك جاء في بيان فضله ما يأتي:
أولا: أنه أفضل الأعمال أو من أفضل الأعمال، كما جاء في حديث أبي هريرة حينما سُئِلَ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم الحج المبرور، والحج جهاد، وفضل الجهاد عظيم، وهو ذروة سنام الإسلام".
وفى حديث الطبراني في شأن الرجل الضعيف الذي لا يستطيع أن يجاهد: "هلم إلى جهاد لا شوكة فيه: الحج".
وفى رواية النسائي: "جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج".(1/823)
وفى رواية البخاري ومسلم أن عائشة قالت للرسول ( صلى الله عليه وسلم ): "ترى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لَكُنَّ أفضل الجهاد: حج مبرور".
في الحج أيضا مغفرة الذنوب، لحديث البخاري ومسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
وفى رواية لمسلم: "عندما أسلم عمرو بن العاص: أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله".
وفى حديث النسائي والترمذي وصححه: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة ليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة، الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه؛ أجابهم، وإن استغفروه؛ غفر لهم". كما في حديث رواه ابن ماجة والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
أما النفقة فيه فقد جاء فيها حديث رواه أحمد، وغيره بإسناد حسن: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بسبعمائة ضعف".
والله أعلم .(1/824)
س:وهل هناك من شروط إذا اكتملت؛ وجب الحج، وما هذه الشروط، وبما تتحقق الاستطاعة التي هي من شروط وجوب الحج ؟
شروط وجوب الحج هي: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة، فمن لم تتحقق فيه هذه الشروط؛ فلا يجب عليه الحج، وإن كان يصح من الصبي والعبد وغير المستطيع.
أما الاستطاعة فتتحقق بأمور:
الأول: أن يكون المكلف صحيح البدن فإن كان عاجزا لشيخوخة أم مرض لا يرجى شفاؤه لزمه إحجاج غيره عنه إن كان له مال، وإلا فلا.
الثاني: أن تكون الطريق آمنة يأمن فيها الحاج على نفسه وماله.
الثالث: أن يكون مالكا للزاد وللراحلة أي: وسيلة السفر. والزاد هو: ما يكفيه، ويكفي من يعوله كفاية فاضلة عن الحوائج الأصلية؛ حتى يؤدي الفريضة، ويعود.
قال العلماء: إن وجد الزاد، ولكن عليه دين؛ لا يلزمه الحج.
الرابع: عدم المانع من السفر بمثل النظم الموضوعة من أولي الأمر للسفر.
والله أعلم .(1/825)
س:يقول الله ـ تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج }. فما معنى: الرفث. وما معنى: الفسوق. وما معنى: الجدال ؟
جاء في تفسير القرطبي: أن الرفث هو: الجماع، كما قاله ابن عباس، وغيره، ونهى الله عنه؛ لأنه يفسد الحج بإجماع العلماء؛ إذا حصل قبل الوقوف بعرفة، وجزاؤه الهدي وإعادة الحج.
وقال عبد الله بن عمر، وطاووس، وعطاء، وغيرهم: الرفث هو: الإفحاش للمرأة بالكلام، يقول الشخص لزوجته ـ مثلا: إذا أحللنا عاشرتك.
وقيل: هو التحدث عن النساء بما يتصل بالشهوة. وقيل: غير ذلك.
والمراد بالنهي عن الحديث عما يتصل بالشهوة الجنسية: إبعاد النفس عن هذه المتعة حتى لا يقع الشخص فيها؛ فيفسد الحج، فهو من باب الوقاية.
والفسوق هو: الخروج عن الطاعات من المعاصي أيا كان نوعها، كما قال ابن عباس، وعطاء، وغيرهما.
والمراد به في الحج: ارتكاب المحذورات التي نهى الله عنها الحآج: كقتل الصيد، وقص الظفر، وأخذ الشعر إلى آخره. وقيل: الفسوق هو: التنابز بالألقاب. فقال ابن عمر: هو السباب. واختار القرطبي القول الأول الشامل لكل المعاصي.
والمراد بالنهي عنه: تحذير الحآج من كل المعاصي؛ لأن العقاب مضاعف في الأماكن المقدسة، ومجرد التفكير في ارتكاب المعصية إثم كبير كما قال (تعالى) عن البيت الحرام:{ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }.
والجدال في المعنى المراد منه: أقوال ستة ذكرها القرطبي منها:
مجادلة الغير مجادلة تؤدي إلى السباب، واختلاف الناس في أيهم صادف موقف إبراهيم (عليه السلام) كما كانوا يفعلون في الجاهلية، واختلافهم في موعد الوقوف بعرفة و هو جدال في إصابة المكان وإصابة الوقت.
وقيل: المراد بالجدال: المفاخرة بالآباء.(1/826)
والمراد بالنهي عن الجدال بأي معنى هو: منع الاختلاف في أحكام الحج والتعصب للرأي، وبخاصة فيما لم يكن متفقا عليه، وكذلك عدم فرض الآراء في أي شيء آخر في هذا اللقاء الكبير الذي يجمع شتات الأجناس، والعادات، واللغات والأفكار، وذلك لتنافيه مع حكمة الحج من دعم التعاون، و التعارف بين المسلمين كآفة.
والله أعلم .(1/827)
س:وهل النهي عن الرفث والفسوق والجدال خاص بأيام الحج وحدها، أم ينهى عنه في غير أيام الحج ؟
هذه الأمور الثلاثة وهي: الرفث، بما يتعلق بالنساء، ولو بالحديث والفسوق بمعنى السباب أوالعصيان، والجدال بمعنى التخاصم بالرأي أمور منهي عنها في الحج وغيره.
ولكن النهي عنها في الحج آكد نظرا لحرمان الحجاج من المتعة النسائية والتعرض في الزحام للمضايقات، واهتمام كل شخص بنفسه، وتمسكه برأيه ليصح حجه الذي تعب فيه بماله، وصحته، فالظروف هي التي جعلت هذه الأمور المحرمة في كل حال أشد حرمة، وبخاصة عدم مناسبتها لشرف المكان، وحرمة الزمان، ومثل ذلك: نهي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصائمين عن الغيبة والكذب والزور، والذي يشمل كل باطل من قول أو فعل في مثل قوله، كما رواه البخاري: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
مع أن ذلك محرم أيضا على غير الصائمين؛ لأن من حكمة الصيام: كف النفس عن الشهوات التي رمز إليها بشهوتي البطن والفرج، وهما حلالان أصلا؛ ليمرن الصائم نفسه لترك المشتهيات المحرمة من باب أولى، وكف النفس عن الشهوات يظهر أثره واضحا في التعامل مع الناس أو في الأخلاق الاجتماعية، كما يقال، ومنها صيانة اللسان عن الكذب والزور، وكل ما يضر الغير.
والله أعلم .(1/828)
س:الحج كما نعرف مرة واحدة في العمر بشرط الاستطاعة، ولكن كثيرا من الناس يحجون أكثر من مرة، فأيهما أفضل: الحج أو الإنفاق على وجوه الخير الأخرى ؟
من المعلوم أن الحج فرض على المستطيع مرة واحدة في العمر، وذلك لحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: "أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثة، ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ): لو قلت: نعم. لوجبت؛ ولما استطعتم".
وفى رواية أحمد، وأبي داود والنسائي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن السائل هو: الأقرع بن حابس، وأن الرسول رد عليه بقوله: "الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع".
يعرف من هذا أن: تكرار الحج ليس واجبا، وإنما هو تطوع، والتطوع في كل شيء ينبغي أن يراعي فيه تقديم الأهم على المهم، وقد تكون هناك حالات في أشد الحاجة إلى المعونة لإنقاذ الحياة، أو تخفيف الويلات، وهنا يكون الإنفاق فيها أولى، وبخاصة بعد أن متع الله سكان الحرم بنعم زادت على ما كان يصبوا إليه سيدنا إبراهيم حين دعا ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وأن يرزقهم من الثمرات.
والشخص الذي يحب أن يتردد بيت الله بالحج أو العمرة، ورأى أن هناك أمرا مهما قعد به عن السفر للزيارة سيعطيه الله ثوابا عظيما على نيته.
وهناك مأثورات في هذا المقام، وإن كانت لا تعد تشريعا جاء فيها: أن الله كتب ثواب الحج لمن صادف في طريقه فقراء ألجأتهم الضرورة إلى أكل الميتة، فدفع إليهم ما معه، ورجع إلى بلده دون أن يحج، فأعطاه الله ثواب الحج.
وإذا لم يكن هناك نص في هذه المسألة، فإن التشريع بروحه وأهدافه لا يقر أن توجه أموال طائلة في مندوب من المندوبات في الوقت الذي فيه واجبات تحتاج إلى هذه الأموال. هذا.(1/829)
وما يروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "من حج حجة أدى فرضه، ومن حج ثانية داين ربه، ومن حجج ثلاث حرم الله شعره وبشره على النار". فليس ذلك بصحيح.
والله أعلم .(1/830)
س:رجل عنده مبلغ من المال يستطيع الحج به، ولكن عنده ولد يستحق الزواج أو يجب زواجه حتى لا يرتكب إثم الزنى. فأيهما يفضل: أن يحج الأب ولا يتزوج الابن، أو يتزوج الابن ويؤجل حج الأب ؟
من المعلوم أن الله (سبحانه وتعالى) فرض الحج على المستطيع، وحذر من قصر فيه كما يدل عليه قوله ـ تعالى: { ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا }.
وقال جمهور الفقهاء: إن الحج واجب على الفور، يأثم الإنسان بتأخيره، وقال الشافعي: هو واجب على التراخي، لو أخره لا حرمة عليه، ولكن يكون عالقا بذمته لا يبرأ حتى يؤديه، وإن مات وجب الحج عنه.
أما مساعدة الولد أو البنت على الزواج، فهي: سنة، وليست واجبة، وإذا تعارض الواجب مع السنة، قدم الواجب، وهذا محل اتفاق بين الجميع.
والله أعلم .(1/831)
س:يقول رجل: في أحد الأعوام كان عندي من المال ما يكفيني للحج، ولكن شغلت ببعض الأعمال وتأخرت عددا من السنوات، ثم أكرمني الله (تعالى) فحججت. فهل علي إثم في هذا التأخير ؟
ذهب بعض العلماء إلى أن: الحج واجب على الفور، وذهب بعضهم إلى أن وجوبه على التراخي.
ومن القائلين بالفورية: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وبعض أصحاب الشافعي، وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة في رواية عنه.
ومن القائلين بالتراخي: الإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن عن أصحاب أبي حنيفة، وهو تحصيل مذهب مالك فيما ذكره ابن <خويدمندان>.
أدلة الفورية قوله ( صلى الله عليه وسلم ): "من أراد الحج فليعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة وتكون الحاجة أي: الفقر". رواه أحمد والبيهقي وابن ماجة.
وقوله: "تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". رواه أحمد والبيهقي. وقال: ما يعرض له من حاجة أو مرض.
وأدلة التراخي أن الحج فرض في السنة السادسة التي نزلت فيها سورة آل عمران، وبها آية وجوب الحج، أو في السنة السادسة، ولم يحج النبي (صلى الله عليه وسلم ) إلا في السنة العاشرة.
يقول الشافعي: فاستدللنا على أن الحج فرضه مرة واحدة في العمر، أوله البلوغ وآخره أن يأتي به قبل موته، وكذلك من الأدلة: حديث ضمام بن ثعلبة السعدي الذي قدم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسأله عن الإسلام؟ فذكر فيه الحج وكان قدومه سنة خمس أو سبع أو تسع.
ورد القائلون أن ذلك: بأن من شروط وجوب الحج: الآمن، ولم يتوافر الأمن للرسول وأصحابه بعد صلح الحديبية في السنة السادسة إلا في السنة العاشرة.(1/832)
فمقتضى الصلح لم يسمح بزيارة البيت إلا في السنة السابعة؛ لقضاء العمرة التي لم يتمكن منها في السنة السادسة، وفى السنة الثامنة كان الحج في رمضان، وشغل الرسول بحرب من هم قريبون من مكة، وفى السنة التاسعة أرسل أبا بكر على الحج لتهيئة البيت بإعلان منع المشركين من الحج بعد هذا العام، ليحج الرسول (صلى الله عليه وسلم ) في السنة العاشرة، وليخطب خطبة الوداع مع اصطحاب زوجاته معه، كما رد القائلون بالتراخي على أدلة الآخرين بأنها تحتمل الترغيب في المبادرة، ولا تحتمل تحريم التأخير، ويظهر أثر الرأيين في أن من قدر على الحج ولم يحج؛ كان آثما على القول بالفورية لو مات قبل أن يحج، وليس آثما على القول بالتراخي مع الاتفاق بين الرأيين على أن من مات ولم يحج مع قدرته على الحج وجب أن يحج عنه غيره، ومع الاتفاق على أن من حج بعد التأخير لا يكون قاضيا لما فاته بل يكون مؤديا.
والله أعلم .(1/833)
س:وما رأي الدين في شخص يستطيع الحج ولكنه لم يحج. هل يعاقب على ذلك ؟
مع اختلاف العلماء في أن الحج واجب على الفور أو التراخي، فالأفضل التعجيل به، بناء على الأحاديث الواردة في ذلك.
ويضم إليها حديث رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: يقول الله (عز وجل): "إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم".
وعندما قال الله ـ تعالى: { ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا } قال بعد ذلك: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
قال الحسن البصري: المراد بالكفر هو: الترك. أي: عدم الحج فالحديث الذي رواه مسلم هو ينص على أن من ترك الصلاة فهو كافر.
لكن ابن عباس ومعه المحققون من العلماء قالوا: إن الكفر لا يكون إلا بإنكار الفريضة، وجحود أن الحج واجب.
لكن لو آمن الإنسان بأنه مفروض وواجب ولكنه تكاسل في الأداء فهو ليس بكافر، بل هو مؤمن عاص، لو لم يحج مع الاستطاعة يحاسبه الله بعد موته، ويدخله النار إن لم يغفر له، ويكون مصيره النهائي هو الجنة.
ويحمل على هذا حديث: "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". رواه الترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وروى مثله البيهقي.
فالحديث لا يدل قطعا على الكفر، ولئن صح، فالمراد به: الجاحد المنكر ويحمل على الترغيب في التعجيل فقط.
والله أعلم .(1/834)
س:رجل يقول: والدي عنده مبلغ من المال يكفيه للحج، ولكنه عاجز عن أداء الفريضة من الناحية الصحية. فهل يجوز لي أن أحج عنه، وما شروط الحج عن الغير ؟
من عجز عن أداء الحج بنفسه لمرض أو شيخوخة، أو غيرهما، وعنده القدرة المالية؛ يجب عليه أن ينيب غيره ليحج عنه، بدليل الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح عن الفضل بن عباس (رضي الله عنهما): "أن امرأة من خسعم قالت: يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم".
وكذلك إذا مات من استطاع أن يحج ولم يحج؛ يجب أن يحج عنه غيره، حتى لو لم يوص بذلك على ما راءه جمهور الفقهاء. وتخرج النفقات من التركة، وتقدم على الميراث؛ لأنها دين.
روى البخاري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن: "امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت. أفأحج عنها؟ قال: نعم. حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالوفاء". هذا عن الحج عن الغير أو الحج الواجب.
أما الحج للغير وهو الحج المندوب الذي يريد الحاج أن يهدي ثوابه لأحد أقاربه أو لغيره ممن ماتوا، ولم يكن الحج واجبا عليهم، فيجوز أيضا ويستوي في ذلك أن تكون نفقات الحج من الشخص نفسه، أو من شخص آخر أو جهة أخرى، وإن كان للمتبرع بهذه النفقات ثواب أيضا.
ويشترط في كلا الأمرين، وهما: الحج عن الغير، والحج للغير أن يكون القائم به قد سبق الحج عن نفسه، وسقطت عنه الفريضة، فإن لم يكن قد أداها حسبت الحجة له هو علي ما رآه جمهور الفقهاء، وليس للغير فيها نصيب من سقوط الحج عنه، أو وصول الثواب إليه.(1/835)
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي وصححه عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن: "الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال له: من شبرمة؟ فقال: أخ أو قريب لي. قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: فحج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة".
والله أعلم .(1/836)
س:يقول رجل: دعاني ابني الذي يعمل في السعودية للحج على نفقته. فهل يصح أن أجعل هذه الحجة لوالدتي مع أنها ليست من مالي ؟
إذا كانت الوالدة ميتة، فلا مانع من إهداء ثواب حجة لها، بصرف النظر عن كون المال منه، أو من غيره ما دام حلالا.
والله أعلم .(1/837)
س:رجل يقول: أعمل فلاحا، وعندي جاموستان، وأولادي يعملون، ولا يوجد معهم فائض يمكن أن يقدموه لي لأحج. فهل أبيع الجاموستين و أحج على الرغم من حاجتي الشديدة لهما في الطعام والعمل ؟
أجاب النووي في فتاويه أن: الأصح في مذهب الشافعي (رضي الله عنه) وجوب الحج عليه. والحالة هذه.
ومثله من له رأس مال يتَّجِر فيه، لكن هل يعود الرجل من الحج ليتسول!!
لقد رأى كثير من العلماء أن: رأس المال الذي يكفيه حاجته، وحاجة من تلزمه نفقته لا يجوز إنفاقه كله لأداء فريضة الحج، فإن ذلك سيترتب عليه ضرر كبير له، لمن يعوله، فمثل هذه الحالة تدخل في عدم الاستطاعة، فهو مسئول عن نفسه وأهله، والتقصير في ذلك منهي عنه أشد النهي.
لقد قال الحنفية والمالكية مثلما قال الشافعية، ولكن أحمد اشترط أن: يكون الفاضل عن نفقة الحج يكفي عياله على الدوام، وذلك ما جاء في كتاب: (الفقه على المذاهب الأربعة) وإن كان (المغني) فيه ما يفيد أن رأيه كرأي الأئمة الثلاثة، وعليه، فلا يجوز له أن يبيع أرضه أو حيواناته التي هي المصدر الوحيد لرزقه ليحج؛ لأنه سيعود معدما، وهو رأي أميل إليه؛ لأنه يتفق مع روح الشريعة الإسلامية التي لا تحب لأهلها أن يعيشوا فقراء ضعافا، وقد شرطت فيها الاستطاعة التي يجب أن تفسر بما يتفق والشريعة.
وأين هذا من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "إن لربك عليك حقا، ولبدنك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه".
ومن قوله أيضا: "أن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته". رواه ابن حبان في صحيحه.
وقوله: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت". رواه أبو داود، وغيره وصححه.
ولهذا أرى أنه:
لا يجوز له أو لا يجب عليه أن يبيع ما عنده؛ ليحج، ثم يعود بعد ذلك فقيرا.
والله أعلم .(1/838)
س:رجل يقول: كنت مريضا مرضا أقعدني في فراشي، وأنبت عني من قام بالحج، وبعد سنتين شفاني الله (عز وجل) فهل أقوم بالحج مرة أخرى ؟
رأي الجمهور أنه ما دام قد عوفي، فلابد من قيامه بالحج.
لكن أحمد بن حنبل قال: يسقط الفرض عنه، ولا تلزمه الإعادة لألا تفضي إلى إيجاب حجتين، والدين إذا قضي فلا يقضي مرة ثانية، ولم يرد نص من النبي (صلى الله عليه وسلم ) على وجوب الإعادة، وهذه وجهة نظر معقولة.
والله أعلم .(1/839)
س:وإذا كان هناك رجل صحيح الجسم، ميسور الحال، ويريد أن ينيب عنه من يحج. فهل يجوز هذا ؟
ما دام الرجل صحيحا، وميسورا، لا يجوز أن ينيب عنه غيره في الحج، فهو عبادة بدنية، ومالية معا.
والله أعلم(1/840)
س:بعض الحجاج يصطحبون أولادهم معهم في الحج، ويلبسونهم ملابس الإحرام، ويؤدون المناسك. فهل حج هؤلاء الأطفال صحيح، وهل يغني عنهم هذا الحج إذا بلغوا ؟
من المعلوم أن حد التكليف هو البلوغ، يثاب على ما يفعل، ويعاقب على ما يترك فيما أوجبه الله، وحرمه، وإذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد أمر الآباء بأمر الأولاد بالصلاة بسبع، وضربهم عليها لعشر، فذلك ليتمرنوا عليها حتى تكون سهلة عندما يكلفون بها.
وعلى هذا النحو كان الصحابة يمرنون صبيانهم على الصيام والحج على أنه لا يجب في العمر إلا مرة، ويشترط فيه الاستطاعة، وليس كل مكلف مستطيعا لم يكن فيه تمرين للصبي عليه؛ لعدم الكلفة فيه عندما يبلغ، فهو مرة واحدة ومع الاستطاعة.
لكن لو قام الصبي بالحج؛ صح منه حجه.
لكن قال العلماء: لا يغني حجه في صباه عن الحج إذا بلغ مستطيعا، ولأمر أو لآخر كان بعض الحجاج يصحبون صبيانهم معهم في رحلة الحج، وإذا كان الصبي مميزا كان يباشر عمل المناسك بنفسه، كالطواف والسعي ورمي الجمار، ما دام قادرا.
أما إذا كان ضعيفا أو كان غير مميز، كان آباؤهم يقومون بما لا يستطيعوا القيام به.
ومما جاء في ذلك، ما رواه الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، والحنث: هو الإثم. أي: بلغ مبلغا يكتب عليه إثمه وذنبه.
وروى مسلم، وغيره عن ابن عباس أن: "امرأة رفعت لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر".
وأكثر أهل العلم على أن: الصبي يثاب على طاعته، وتكتب له حسناته دون سيئاته، وهو مروي عن عمر، والحديث يثبت أن لأم الصبي أجرا؛ لأنها أمرته وعلمته إياه.
ثم قال العلماء: إذا بلغ الصبي قبل الوقوف بعرفة، أو فيها أجزأ عن حجه الإسلام، وذلك عند الشافعي، وأحمد.(1/841)
أما مالك فيقول: بعدم الإجزاء لأن الإحرام انعقد تطوعا، فلا ينقلب فرضا.
وأبو حنيفة يقول: إذا جدد الصبي الإحرام بعد البلوغ قبل الوقوف بعرفة أجزأه وإلا فلا.
والله أعلم .(1/842)
س:وبعض الناس يصطحبون خدمهم معهم في الحج، والبعض الآخر يصطحب عبيده معه. فهل إذا أدى هؤلاء العبيد أو هؤلاء الخدم المناسك يصح حجهم ؟
الخدم والعبيد الذين سافروا مع غيرهم للحج، يصح حجهم، وإن كان غير واجب عليهم؛ لفقرهم أو عدم حريتهم، ولو أعتقوا، وتحرروا لا يجب عليهم إعادة الحج.
والله أعلم .(1/843)
س:بعض الدوائر الحكومية والشركات تخرج عددا من عمالها يؤدون فريضة الحج. فما حكم الدين في أداء هذه الفريضة بهذا الشكل ؟
يجوز الحج على نفقة الدولة، وتسقط الفريضة، وكذلك يجوز الحج من خلال الفوز في المسابقات الدينية التي تنظمها الهيئات الحكومية.
لكن إذا تأكد الإنسان أن كل المال الذي يحج منه حرام؛ صح الحج مع ارتكاب الإثم عند أكثر العلماء.
لكن قال أحمد بن حنبل: لا يصح ولا يجزئ، وهو الأصح، للحديث الصحيح: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا".
وفى الحديث المرسل الذي سقط منه الصحابي: "أن الحاج إذا خرج بالنفقة الخبيثة، ونادى: لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأذور غير مأجور".
فإذا لم يكن هناك تحقق في أن هذا المال حرام؛ جاز الحج، ويقبل ـ إن شاء الله.
والله أعلم .(1/844)
س: رجل يقول: وهبني صديق لي بعض المال؛ لأحج. فهل حجي صحيح إذا أديت الفريضة ؟
لو وهب صديق لصديقة مالا؛ ليحج منه، فلا يجب الحج على هذا الإنسان الذي وهب له هذا المال؛ وذلك لوجوب المنة في الهبة، لكن لو قبلها وحج؛ صح الحج وأغنى عن الفريضة.
أما إذا وهب الابن أباه مالا يستطيع به الحج؛ وجب الحج لعدم وجود المشقة في المنة، كما قال الشافعية.
وإن كان أحمد يقول: لا يجب الحج بمال موهوب من قريب أو أجنبي، لكن ما دامت هناك آراء فيها فسحة، فليتبع الرأي الذي فيه يسر.
والله أعلم .(1/845)
س:وهل الحج يجب على المرأة مثل الرجل تماما، أم أن هناك فروقا بينهما ؟
الحج واجب على الرجل والمرأة ما دامت هناك استطاعة، ولكن بخصوص المرأة، روى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا، إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها، أو ذو محرم منها".
ورويا أيضا أن رجلا قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ): "إنه اكتتب في الغزو وإن امرأته قد خرجت للحج، فقال له: حج مع امرأتك".
إيذاء هذين النصين، وغيرهما؛ اختلف العلماء في اشتراط المحرم في وجوب الحج على المرأة، وبعيدا عن اختلافهم في تقدير المسافة قال الحنفية: لابد من وجود الزوج أو المحرم إلا أن يكون بينها، وبين مكة دون ثلاث مراحل.
وقال الشافعي في المشهور عنه ـ كما ذكره النووي: لا يشترط المحرم، بل يشترط الأمن على نفسها، وقال أصحاب الشافعي: يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقاة.
وقال بعضهم: يلزمها الحج بوجود امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن، ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة، وتكون آمنة يقول النووي: المشهور من نصوص الشافعي، وجماهير أصحابه هو الأول أي: الأمن على نفسها بالزوج أو المحرم أو النسوة الثقاة.
والإمام مالك لا يشترط الزوجة أو المحرم في سفر الفريضة.
وقال البادي من المالكية: إن الكبيرة غير المشتهاة يجوز سفرها بلا زوج، ولا محرم، ورفض القاضي عياض هذا القول؛ لأن المرأة مظنة للطمع، والشهوة حتى لو كانت كبيرة، ولوجود السفهاء الذين لا يتورعون عن الفحشاء في الأسفار.
والإمام أحمد اشترط وجود الزوج أو المحرم في وجوب الحج عليها.
وفى رواية أخرى: لا يشترط ذلك في سفر الفريضة.
يقول النووي بعد حكاية مذهب الشافعي: إن هذا الخلاف إنما هو في الحج الواجب. أما حج التطوع، وسفر الزيارة والتجارة، وما ليس بواجب فقال بعضهم: يجوز خروجها مع نسوة ثقاة.(1/846)
لكن قال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم، وهذا هو الصحيح.
ونوجه النظر إلى أن: من اشترط المحرم، أو الزوج اشترطه لوجوب الحج عليها، ولرفع الإثم والحرج عنها لو سافرت بدونه.
لكن لو خرجت للحج بدون ذلك، فإن حجها صحيح متى استوفى أركانه، وشروطه، وتسقط به الفريضة عنها، ولا تلزمها إعادته مع محرم وإن كانت قد أثمت لخروجها بدون الزوج، أو المحرم، أو ما يقوم مقامهما على الوجه المذكور.
وقد رأينا في استعراض آراء الفقهاء حتى بين علماء المذهب الواحد رأينا اختلاف وجهات النظر في حتمية المحرم، أو الزوج وإن كانت الاستعاضة عنهما بالرفقة المأمونة.
ولذلك أرى أن: المدار هو على توصل الأمن، والراحة لها، فإذا حصل ذلك بأية صورة من الصور: كزوج أو محرم أو رفقة مأمونة أو إشراف رسمي من مسئول أو غير ذلك؛ وجب عليها الحج، وسافرت.
أما في الحج المندوب، أو السفر لغير الواجب فلابد من الزوج، أو المحرم. هذا.
ويستحب لها استئذان زوجها في السفر للحج الواجب، فإن لم يأذن؛ خرجت بغير غير إذنه ولا حرج، كما لو لم يأذن لها بالصلاة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما في حج التطوع، فلابد من إذنه.
والله أعلم .(1/847)
س :يقول سائل: نذرت نذرا أن أحج إلى بيت الله الحرام، ولم أكن قد حججت من قبل. فهل الوفاء بالنذر يكفي عن الحج الواجب عليه، أو على الفريضة ؟
لم يأت في ذلك نص، ولكن أفتى ابن عباس وعكرمة بأن: من حج لوفاء نذر عليه، ولم يكن حج حجة الإسلام، أنه يجزئ عنهما، وأفتى ابن عمر وعطاء بأنه: يبدأ بفريضة الحج، ثم يفي بنذره.
ولك أن تختار من الرأيين أيهما شئت.
والله أعلم .(1/848)
س:رجل يقول: ادخرت مبلغا من المال لكنه لا يكفي للحج وأحتاج إلى تكملة المبلغ بقرض صغير. فهل أقترض وأؤدي فريضة الحج، أم أنتظر، علما بأنه قد يأتي أمر، وينصرف المبلغ المدخر ؟
إذا لم يجد الإنسان ما يزيد على نفقته، ونفقة أسرته، هل يقترض ليحج؟
لا يجب عليه الاقتراض لذلك، لكن يجوز له أن يقترض ويحج؛ إذا اطمأن إلى أنه سيرد القرض دون تأثير كبير على دخله، وعلى أسرته، وإن كان الاقتراض للحج منهي عنه بدليل الحديث الذي رواه البيهقي: "سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرجل لم يحج، هل يستقرض للحج؟ فقال: لا".
والنهي الذي تضمنه النفي قيل: للتحريم. وقيل: للكراهة، ومن صور الاقتراض: تكوين جمعية، أو إنشاء صندوق باشتراكات من الأعضاء، يأخذ حصيلتها شهريا أو سنويا بعض الأعضاء الذين يمكنهم الحج بهذه الحصيلة مع مداومة الاشتراك؛ ليؤدي ما عليه.
فالخلاصة أن:
الاستقراض ليس واجبا، ولكنه جائز، ما دام ناويا أن يؤديه.
والله أعلم .(1/849)
س:وهل الزوج ملزم بدفع تكاليف أداء زوجته لفريضة الحج، ولمن تكون الأولوية حينئذ، إذا توافر مع الزوج مال يكفي لقيام فرد واحد لأداء الفريضة، وهل للزوج أن يأخذ من مالها ليؤدي فريضة الحج ؟
لا يلزم الزوج بزوجته إلا بنفقتها الممثلة في الطعام والكسوة والمسكن، مع اختلاف العلماء في نفقة العلاج، وفي توفير خادم وتجهيز للموت.
أما أن يدفع تكاليف حجها، فليس بواجب عليه، فالحج فرض على القادر المستطيع، فإن كانت تملك هي مالا يكفي للحج؛ وجب عليها الحج من مالها هي، ولا يلزم الزوج بدفع أي شيء لها ولا يعاقب على التقصير.
أما إن تبرع بذلك فهو خير وله ثواب ـ إن شاء الله ـ وهو من المعاشرة بالمعروف والتعاون على الخير.
وإذا لم يوجد إلا مال يكفي أن يحج به فرد واحد فهو المقدم طبعا، ويجب عليه الحج لأول مرة، وكذلك إذا احتاجه لنفقته هو وحده.
والحديث واضح في ذلك: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول". رواه البخاري ومسلم.
وفى صحيح مسلم من حديث جابر أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك".
وإذا كان للزوجة مال خاص ورثته عن أهلها، أو ملكته من أي جهة كانت فهو حق خالص، ويجب عليها الحج منه لأول مرة، ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئا منه؛ ليحج إلا بإذنها، ورضاها قال ـ تعالى: { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فخذوه هنيئا مريئا }. وقال: { وآتيتم إحداهن قنطارا، فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا }.
وإذا كان هذا في الصداق الذي دفعه لها، فمن أولى لا يجوز أن يأخذ منها شيئا لم يأت عن طريقه هو، لكن لو استعان بمال الزوجة على سبيل الهبة، أو القرض ليحج فلا مانع منه، ولها ثواب مساعدتها لزوجها على الحج.
والله أعلم .(1/850)
س:وهل حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل حجة الوداع ؟
الحج كان معروفا عند العرب من أيام إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) واستمروا يحجون حتى جاء الإسلام والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو المولود في مكة والناشئ فيها إلا أن بعث وهاجر كان يمارس ما تمارسه العرب من الشعائر الباقية من دين إبراهيم، على الرغم مما حدث في بعضها من تغيير: كوقوف جماعة منهم يوم عرفة في الحرم، وليس في عرفة لأنها في الحل، وكالنسيء الذي أخروا به الحج عن موعده الحقيقي.
ولما جاء الإسلام كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يجتمع بالناس في موسم الحج؛ ليبلغهم الدعوة في منى ثلاث سنين متوالية.
يقول القرطبي: كان الحج معلوما عند العرب مشهورا لديهم، فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا و ألزموا بما عرفوا.
وقد حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة، ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا حين كانت قريش تقف بالمشعل الحرام، ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه ونحن الحمس أي: المتشددون في الدين.
ولكن الحج فرض في الإسلام لقوله ـ تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }.
وكان ذلك في السنة السادسة أو التاسعة للهجرة، ولم يحج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بعد فرض الحج، إلا حجة واحدة، هي حجة الوداع.
يقول القرطبي: من أغرب ما رأيته أن: النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حج قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك؛ لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له: وأذن في الناس بالحج، ولكن هذا بعيد.
وفى شرح الزرقاني عن (المواهب) أن ابن سعد قال: إن الرسول (عليه الصلاة والسلام) لم يحج غير حجة الوداع منذ تنبأ إلى أن توفاه الله (تعالى).
ولكن ابن حجر في (الفتح) قال: إنه حج قبل أن يهاجر مرارا.
بل الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط.
وأخرج الترمذي عن جابر أنه حج بمكة حجتين قبل الهجرة.(1/851)
وأخرج ابن مالك والحاكم أنه حج قبل أن يهاجر ثلاثة مرات، وهو مبني كما يقول ابن حجر على مقابلته للأنصار بالعقبة، وهذا بعد النبوة.
أما قبل النبوة، فلا يعلم عدد حجة أبدا، ولكن الذي يعلم ذلك هو الله (تعالى).
وكل هذا استصحاب للأصل الذي درج عليه العرب من أيام إبراهيم (عليه السلام).
وأما عدد عمره ( صلى الله عليه وسلم ) فيعلم من الكلام عن عدد الحجات، وهي من اليسر بحيث يحرص عليها.
فالعمرة طواف، وسعي، وحلق دون حاجة إلى أماكن أخرى، ومشاعر خارج مكة والذي وردت به الروايات كان بعد الإسلام، وبعد الهجرة.
فقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجة بسند رجاله ثقاة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اعتمر أربع عمر وهي: عمرة الحديبية التي أحصر فيها، وعمرة القضاء لعمرة الحديبية، والثالثة عمرة من الجعرانة، والرابعة مع حجته هذا ما ورد.
والله أعلم .(1/852)
س:أيهما أفضل في الحج الركوب أو المشي ؟
قال جمهور العلماء: الركوب أفضل؛ لفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكونه أعون على الدعاء، ولما فيه من المنفعة.
وقال إسحاق بن راهويه: المشي أفضل لما فيه من التعب والأجر على قدر المشقة. كما ورد في الحديث.
لكن الأولى أن يقال: أن ذلك يرجع إلى الإنسان نفسه، ويختار ما يحتاجه، ففي البخاري أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى شيخا كبيرا يعتمد في المشي على ولديه فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي. فقال ( صلى الله عليه وسلم ): إن الله (عز وجل) غني عن تعذيب هذا لنفسه، وأمره أن يركب".
لكن يبدو أن الخلاف في أفضلية المشي أو الركوب، إنما هو عند ممارسة الشعائر.
أما في السفر إلى الحج أو العمرة ففيه القصير، والطويل، وفيه الشاق، وفيه المريح، ولا داعي للخلاف في الوسيلة، فقد كثرت وتطورت في العصور الحديثة والمدار هو على الإخلاص، وتحري الحلال.
والله أعلم .(1/853)
س:سمعنا حديثا يقول: "لا صرورة في الإسلام". فهل هذا الحديث صحيح، وإذا كان صحيحا فنرجو شرحه وتفسيره ؟
في حديث رواه أحمد وأبو داود: "لا صرورة في الإسلام".
وفسرت الصرورة بتفسيرين:
أحدهما: الزهد في الزواج، وحب التبتل، والرهبنة.
والثاني: أنها الرجل الذي لم يحج.
والمعنى: أن من أحسن مظاهر الدين حرص المسلم على الحج، إذا استطاع، فالذي يستطيع أن يحج، ولا يحج مقصر، ويسمى صرورة.
وما دام هذا الصرورة لم يحج، فلا يصح حجه عن غيره.
والله أعلم(1/854)
س: وهل يوجد حديث يصف حجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟
روى مسلم في صحيحه عن جابر صفة حجة الوداع التي قام بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جاء فيها: أنه مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في السنة العاشرة، وخرج معه عدد كبير، وأحرموا من ذي الحليفة، وكانت أسماء بنت عميس قد وضعت فأحرمت بعد أن اغتسلت.
وصلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في المسجد، ثم ركب ناقته القصواء، ولبى، ولبى الناس معه، وكان الإحرام بالحج، فلما وصلوا البيت في مكة استلم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ركن الحجر الأسود، ثم طاف، ثم صلى ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، فهلل، وكبر حتى كان آخر سعيه عند المروة، فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة".
وكان ممن أحل فاطمة بنته، ولما كان يوم التروية توجهوا إلى المنى وأهلوا بالحج وصلى بها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وبعد طلوع الشمس أمر بقبة من شعر، فضربت بنمرة، ثم صار حتى وقف بعرفة، وخطب الناس، ثم صلى الظهر، والعصر جمع تقديم، وأفاض من عرفة بعد غروب الشمس، حتى وصل المزدلفة، وصلى بها المغرب والعشاء، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى، ثم آتى المشعل الحرام، وهلل وكبر، وقبل شروق الشمس توجه إلى منى، فرمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات، ثم نحر الهدي، ثم توجه إلى مكة، وطاف طواف الإفاضة، وصلى الظهر، وشرب من زمزم، ثم أتم النسك".
هذه صورة مصغرة لحج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع وفي ثنايا الحديث أمور كثيرة شرحها المفسرون.
والله أعلم .(1/855)
س:ما الميقات الزماني الذي يمكن للإنسان فيه أن يحرم بالحج ؟
قال ـ تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج }. وقال: { الحج أشهر معلومات }.
الحج عبادة كالصلاة والصوم له ميقات يؤدى فيه، ولا يصح قبله ولا بعده، وقد أجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج: شوال وذو القعدة، واختلفوا في ذي الحجة هل هو بكماله من أشهر الحج، أو هو عشرة منه فقط؟
والصحيح أن الشهر كله من أشهر الحج؛ لأن رمي الجمرات في مني يكون بعد العشر، وطواف الإفاضة يمكن أن يؤدى في الشهر كله بلا خلاف، ولو أحرم الإنسان بالحج قبل دخول شهر شوال، لا يصح حجه. قال بذلك ابن عباس، وابن عمر، وجابر. وذهب إليه الشافعي.
ورأى أبو حنيفة ومالك وأحمد صحة الإحرام مع الكراهة، ورجح الشوكاني الرأي الأول التزاما بالميقات: كالصلاة. هذا في الحج.
أما العمرة فليس لها ميقات زمني معين، فكل أشهر السنة ميقات لها.
والله أعلم .(1/856)
س:وما المواقيت المكانية للحج ؟
لقد بين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هذه المواقيت فجعل لأهل المدينة، ومن يمر عليها (ذا الحليفة)، وهو: موضع بينه وبين مكة 450كم. ويعرف بـ (أبيار علي).
وجعل لأهل الشام، ومن في طريقهم (الجحفة) بالشمال الغربي من مكة، بينه وبينها 178 كم. وهي قريبة من (رابغ) بينها وبين مكة 204 كم.
وقد صارت ميقات أهل مصر والشام، ومن يمر عليها بعد ذهاب معالم الجحفة، وجعل ميقات أهل نجد (قرن المنازل)، وهو: جبل شرقي مكة يطل على عرفات بينه، وبين مكة 94 كم.
وجعل ميقات أهل اليمن هي: (لملم) وهو: جبل جنوبي مكة، بينه وبينها 54 كم. وجعل ميقات أهل العراق (ذات عرق)، وهي: موضع في الشمال الشرقي لمكة بينه وبينها 94 كم.
هذه هي المواقيت التي عينها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال فيها: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن لمن أراد الحج، أو العمرة".
أي: أن هذه المواقيت هي لأهل هذه البلاد، ولمن مر بها، ومن كان بمكة وأراد الحج، فميقاته منزله، ومن كان في مكان لا يمر بهذه المواقيت أي: بين مكة، والمواقيت، فميقاته من مكانه، ومن كان من جهة غير جهة هذه المواقيت كأهل السودان ـ مثلا ـ الذين يمرون بجدة فهو حر يحرم من أي ميقات، أو من حيث شاء برا وبحرا وجوا، كما قال ابن حزم.
ومن أحرم قبل مروره بهذه المواقيت؛ صح إحرامه، وهي أيضا مواقيت لمن يريد العمرة إلا أهل مكة، فميقاتهم أدني الحل، يخرج من مكة هناك وأقربه هو (التنعيم) أو مسجد السيدة عائشة، ومن تجاوز الميقات دون إحرام؛ وجب عليه أن يعود ليحرم منه، وإلا وجب عليه دم فإن لم يجد فصيام ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
والله أعلم .(1/857)
س:وهل هناك أمور تجب على من يدخل الحرم المكي دون أن يكون مريدا للحج أو العمرة ؟
خلاصة الآراء في هذه المسألة ما يأتي:
الذي يقصد الحجاز أي: المنطقة التي فيها الحرم المكي إما أن يكون مريدا للنسك أي: الحج والعمرة.
وإما ألا يكون مريدا لذلك، كأن يريد زيارة صديق، أو قضاء أية مصلحة أخرى ولكل حكمه.
فالذي يريد النسك لا يجوز له أن يجاوز الميقات المعروف للقادمين لحج أو عمره إلا بالإحرام.
أما من لا يريد النسك فهو على قسمين:
قسم لا يريد النسك، ولا يريد دخول الحرم المكي، والحرم له حدود معينة غير المواقيت، بل يريد حاجة في غيره من المناطق: كجدة أو المدينة المنورة ـ مثلا ـ فهذا لا يلزمه الإحرام، ولا يجب عليه شيء في تركه. وهذا باتفاق العلماء.
والدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تجاوزوا ميقات المدينة، وهو: ذو الحليفة، أو أبيار علي أكثر من مرة لغير النسك في غزوة بدر وغيرها، وكانوا غير محرمين، ولم يروا بذلك بأسا.
وقسم لا يريد النسك ولكن يريد دخول الحرم، وهذا القسم طوائف:
أولا: طائفة تريد دخوله لقتال مشروع أو للأمن من الخوف، وهذه الطائفة لا يجب عليها الإحرام، والدليل ما رواه البخاري أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر". قال مالك: ولم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ محرما.
وكذلك ما رواه مسلم أن: "رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام".
فالثانية: طائفة تريد دخوله لحاجة متكررة تقتضي كثرة التردد على الحرم، ومثل العلماء لها: بالحطابين وناقلي المؤن، ومن له ضيعة أو تجارة داخل الحرم، أو خارجه، ومثلهم المدرسون والموظفون الذين يخرجون من الحرم، أو يدخلونه عدة مرات، وهذه الطائفة كالطائفة السابقة، لا يجب عليها الإحرام عند دخول الحرم.(1/858)
الطائفة الثالثة: تريد دخول الحرم لا لقتال ولا لحاجة متكررة كالطائفتين السابقتين، وهؤلاء كالسائحين والزائرين والمكلفين بمهمات مؤقتة، وفيهم ثلاثة أقوال:
قول: يلزم بالإحرام عند دخول الحرم.
وقول: يجعلهم كالحاطبين وأمثالهم، لا يوجب عليهم الإحرام.
وقول ثالث: وهو: التفصيل: فإن كان من يريد دخول الحرم في داخل المواقيت جاز دخوله بغير إحرام؛ لأنه يعد كأنه في داخل الحرم نفسه.
وإن كان خارج المواقيت يلزمه الإحرام لدخول الحرم.
ولكل أن يختار ما شاء من الأقوال، هذا، والحرم المدني ليس كالحرم المكي في هذا الحكم.
والله أعلم .(1/859)
س:علمنا من أحاديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الإنسان يعود من الحج كما ولدته أمه. فهل أداء الحج يسقط جميع الذنوب ؟
قال الله ـ تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وقال ( صلى الله عليه وسلم ): "من حج فلم يرفث، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وقال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
يقول العلماء إن الذنوب منها كبائر، ومنها صغائر، كما قال ـ تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }. وقال: { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم }.
والصغائر مكفراتها كثيرة فإلى جانب التوبة والاستغفار يكفرها الله بأي عمل صالح قال ـ تعالى: { إن الحسنات يذهبن السيئات}.
فقد نزلت في رجل ارتكب معصية فقال له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ): "أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم. قال له: اذهب فإنها كفارة لما فعلت. فقال ( صلى الله عليه وسلم ) "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تخشى الكبائر". رواه مسلم.
وقال: { وأتبع السيئة الحسنة تمحها". رواه الترمذي بسند حسن.
أما الكبائر فقد تكفرها التوبة النصوح كما قال ـ تعالى: { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم }.
وكما قال بعد ذكر صفات عباد الرحمن، وأن من يفعل الكبائر يضاعف له العذاب قال: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}.
أما الأعمال الصالحة غير التوبة فلا تكفر الكبائر؛ لأن هذه الأعمال الصالحة لا تؤثر في تكفير الذنوب الصغير إلا إذا اجتنبت الكبائر كما تقدم، وعلى هذا قالوا: إن النصوص العامة التي في فيها تكفير الأعمال الصالحة لكل الذنوب مخصوصة بالذنوب الصغيرة.(1/860)
أما الكبيرة فلا يكفرها إلا التوبة، وقد وردت نصوص تدل على أن التبعات والمظالم يكفرها الله بالحج، لكن هذه النصوص غير قوية، فلا تعارض ما هو أقوى منها، فالتوبة لا تكفر التبعات والمظالم، إلا ببراءة الذمة، وكذلك الحج لا يكفرها إلا بذلك أي: براءة الذمة، وكل ما تقدم محله إذا لم تتدخل مشيئة الله، فإذا تدخلت غفر الله كل شيء من الذنوب يقع من العبد ماعدا الإشراك بالله كما قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }.
وعلى هذا، فالرجل الذي يفعل المعاصي اعتمادا على أن الحج يكفرها، لا يجوز أن يرتكن على الحديث المذكور في الحج، ولا أن يرتكن على مشيئة الله الذي يغفر الذنوب جميعا، فربما لا يكون هو ممن يشاء الله المغفرة لهم.
والله أعلم .(1/861)
س:ولو افترضنا أن الله (تعالى) قد غفر للحاج تقصيره في حق الله (تعالى) من صلاة أو صيام أو غير ذلك. فهل حجه يسقط عنه حقوق العباد ؟
ليكن معلوما أن: التوبة لا تكفر الذنوب التي فيها حقوق العباد، لأن من شروطها: أو أركانها: أن تبرأ الذمة من هذه الحقوق، إما بردها لأصحابها، وإما بتنازلهم عنها، وبالتالي، فالحج أو غيره من الطاعات لا يكفر الذنب الذي فيه حق للعباد حتى تبرأ الذمة منه.
ويؤيد ذلك أن الشهادة في سبيل الله، وهي في قمة الأعمال الصالحة لا تكفر حقوق العباد، كما ورد في حديث مسلم: "يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين".
أما الذنوب التي هي حق لله فهي قسمان:
قسم فيه بدل وعوض.
وقسم ليس فيه ذلك.
فالأول: كمن أذنب بترك الصلاة أو الصيام، فلا يكفر إلا بقضاء ما فاته من صلاة وصيام، كما وردت بذلك النصوص الصحيحة.
والثاني: كمن أذنب في شرب الخمر فإن مجرد تركه والتوبة منه؛ يكفر الله (سبحانه وتعالى) والتوبة تكون بإقامة الحد عليه إن كانت الحدود تقام، وإلا فهي الإقلاع عن الذنب والندم عليه، والعزم الصحيح على عدم العود.
والله أعلم .(1/862)
س:أعرف رجلا يتاجر في المخدرات، وأعرف راقصة كل منهما يحج ويعتمر كل عام. فما حكم الدين في حجهما ؟
معروف أن الحج من المال الحرام يصح، وتسقط به الفريضة عند أكثر العلماء. لكنه فيه الإثم والعقوبة.
أما أحمد بن حنبل فيقول: بالحرمة وعدم الصحة، ورأيه قوي، وأميل إليه.
والله أعلم.(1/863)
س:بعض الناس يذهبون كثيرا للحج والعمرة، ويعودون بأحمال كثيرة من البضائع يتاجرون فيها. فما حكم الدين في هذا، وهل حجهم مقبول إذا كان بنية التجارة ؟
يقول الله (تعالى)في حكمة الحج الذي أذن به إبراهيم: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم }.
ويقول (سبحانه): {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}.
إن المنافع التي يشهدها الحجاج كثيرة متنوعة منها: منافع دينية، ومنافع دنيوية.
وابتغاء الفضل من الله في موسم الحج بالتجارة، والكسب الحلال ليس فيه حرج.
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: "إن الناس في أول الحج أي: في الإسلام كانوا يتبايعون بمنى وعرفه وذي المجاز وهو: موضع بجوار عرفة، ومواسم الحج، وهم حرم، فأنزل الله (تعالى) هذه الآية".
وما رواه أبو داود عن ابن عباس: "أن الناس كانوا لا يتجرون بمنى، فأمروا أن يتاجروا إذا أفاضوا من عرفات".
فالتكسب الحلال في أثناء الموسم لا حرج فيه بمعنى: أنه لا يفسد الحج، ولا يضيع ثوابه.
روى أبو داود وسعيد بن منصور: "أن رجلا قال لابن عمر (رضى الله عنهما): إني رجل أؤجر الرواحل للركوب في هذا الوجه، وهو الحج والعمرة وإن أناسا يقولن لي: إنه ليس لك حج، فقال ابن عمر: أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار؟ قال: بلى. قال: فإن لك حجا، جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم ) فسأله عن مثل ما سألتني، فسكت عنه حتى نزلت هذه الآية: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}. فأرسل إليه وقرأ عليه هذه الآية، وقال: لك حج".
وما رواه البيهقي والدارقطني: "أن رجلا سأل ابن عباس: أؤجر نفسي من هؤلاء القوم فأنسك معهم المناسك ألي أجر؟ فقال: نعم. أولئك لهم نصيب ما كسبوا والله سريع الحساب".(1/864)
تبين هذه المأثورات أن: الذين يحجون ويزاولن أعمالا تجارية حجهم صحيح، غير فاسد، ولا تجب عليهم إعادته، وتسقط عنهم الفريضة.
أم الثواب، فظاهر هذه الآثار أن الله لا يحرمهم منه،لكن يجب مع ذلك مراعاة الحديث الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
وإذا تعددت النوايا في عمل صالح؛ يمكن أن يرتبط الثواب بما غلب من هذه النوايا، والأمر كله لله من قبل ومن بعد، وهو (سبحانه) عليم بذات الصدور، ونيتك ستثاب عليها بقدر ما يغلب عليها.
والله أعلم .(1/865)
س:سأل يقول: أعاني من مرض جلدي معد، وقد نويت أداء فريضة الحج. فهل يجوز لي ذلك، رغم أنني قد أتسبب في العدوى لكثير من الحجاج ؟
من المعلوم الآن أن الدول تعمل احتياطات لمنع العدوى في السفر، وذلك بالتطعيم أو بوسائل أخرى، ومن عنده مرض معد، ستحول السلطات دون سفره، وإذا لم تكن هناك سلطات تقوم بالإجراءات الصحية. فهل يجوز له السفر لأداء الفريضة، مع احتمال أن يصيب غيره بالعدوى؟
إن كانت العدوى محققة، أو يغلب على الظن حصولها، كان هذا المرض مسقطا لوجوب الحج عن المريض، حتى يبرأ من مرضه، لأن القاعدة الفقهية تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وبخاصة أن المصلحة في الحج تعود على الشخص نفسه أكثر مما تعود على غيره.
أما المفسدة فتصيب كثيرين غيره، ومع سقوط الحج عنه أرى أن: مخاطرته بالسفر على الرغم من الظن الغالب للعدوى ممنوعة.
إما على سبيل الكراهة، أو التحريم تبعا لدرجة احتمال العدوى، والأحاديث تحذر من التعرض للعدوى، والتسبب فيها.
روى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل مجزوم جاء يبايعه: "ارجع فقد بايعناك".
وقال كما رواه البخاري: "فر من المجزوم فرارك من الأسد".
ومن أجل النهي عن الضرر، والضرار حرم الإسلام على حامل ميكروب المرض أن يخالط الأصحاء، أو يتسبب في الإصابة بالمرض بطريق مباشر، أو غير مباشر، ولذلك حرم البساق في الطريق وفي الأماكن العامة، وحرم التبول، والتبرز في موارد المياه، ومواقع الظل، وكل ما يرتاده الناس، وأمر بإبادة الحشرات والهوام، وكل ما يؤذي حتى لو كان ذلك أثناء الإحرام.
ومما يؤثر فيما يتصل بالسؤال: ما رواه مالك أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "رأى امرأة مجزومة تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله: لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك؛ ففعلت، ولم تشأ أن تخرج بعد موت عمر، وقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا".
والله أعلم .(1/866)
س:هل صحيح ما يقال: إن الحج في السنة التي يأتي فيها يوم عرفة مع يوم الجمعة يكون أفضل من سبعين حجة ؟
لا شك أن يومي عرفة والجمعة عظيمان، للأحاديث الواردة بذلك، ولو اجتمع الوقوف بعرفة مع يوم الجمعة، كان فضل اليوم مزدوجا، ولكن ما هو مدى هذا الفضل؟
جاء في البخاري، وغيره: "أن اليهود قالوا لعمر (رضي الله عنه): إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا، فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث أنزلت، يوم عرفة وأنا والله بعرفة. قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا. {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }.
وما وقع لسفيان من شك إن كان في الرواية فهو تورع، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك، أم لا، وإن كان شك في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا ما يظن أنه يصدر عن الثوري (رحمه الله) فهذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف يه أحد من أصحاب المغازي والسير، ولا من الفقهاء.
وقد وردت بذلك أحاديث لا يشك في صحتها.
وجاء في بعض الروايات نزلت في يوم الجمعة، وفى يوم عرفة، وكلاهما (بحمد الله) لنا عيد.
وفى بعض الروايات: "عشية عرفة وكان ذلك في يوم جمعة".
إن وقفة الجمعة تفضل غيرها من عدة وجوه فيما ذكرها ابن القيم في (زاد المعاد) وفيما نقله السيوطي عن القاضي بن جماعة ومنها:
أولا: اجتماع اليومين الذين هما أفضل الأيام، فيكون العمل فيه أفضل.
الثاني: إنه اليوم الذي فيه ساعة محققه الإجابة، وأكثر الأقوال أنها بعد العصر، وأهل الموقف كلهم واقفون للدعاء والتضرع.
الثالث: موافقته ليوم وقفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
الرابع: فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويوافق اجتماع أهل عرفة بعرفة.
الخامس: يوم الجمعة عيد، وعرفة عيد لأهل الموقف، وقد اتفق عيدان لذلك. والسادس: أنه موافق ليوم إكمال الله لدينه.(1/867)
السابع: أنه موافق ليوم الجمع الأكبر يوم القيامة، فهي تقوم يوم الجمعة كما في الصحيح.
الثامن: أن الطاعة يوم الجمعة وليلتها أكثر من غيرها عند المسلمين، كما اعتادوه، فللوقفة فيه مزية على غيره.
التاسع: أنه موافق ليوم المزيد في الجنة.
العاشر: جاء في رسالة السيوطي أن في الحديث الذي أخرجه رزين أفضل الأيام يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة ولم يبين السيوطي درجة هذا الحديث.
وقد قال ابن القيم: وأما ما استفاض على السنة العوام بأنها تعدل سنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عن أحد من الصحابة والتابعين.
والله أعلم .(1/868)
س:يقال: إن العمرة في رمضان تعدل حجة، وقد أتيح لي عمل عمرة في رمضان. فهل ذلك يغني عن الفريضة ؟
روى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة".
وفى رواية: "تعدل حجة معي".
ولا يسأل عن حكمة هذا الثواب فذلك فضل من الله والله واسع عليم وهو (سبحانه) يرغب في أداء العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج في الحرم الشريف، فثواب الطاعة فيه مضاعف.
ومثل ذلك ما ورد من أن: "الصلاة الواحدة في المسجد الحرام بمكة تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه".
فلا يجوز أن يتبادر إلى الذهن أن صلاة يوم فيه تغني عن صلاة مائة ألف يوم، ولا داعي للصلاة بعد ذلك، فالعدل أو المساواة هنا هي في الثواب فقط، فلا تغني العمرة عن الحج أبدا.
ومثل ثواب العمرة في رمضان ما رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب عن أنس (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "من صلى الصبح في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة. قال أنس: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): تآمة تآمة".
وروى الطبراني مثله عن أبي أمامة قال: المنذري إسناده جيد.
فالمراد من هذه الأحاديث هو: الترغيب في الثواب، وليس جواز الاكتفاء بفريضة عن فريضة.
والله أعلم .(1/869)
س: وما هي خطبة الوداع، وهل كانت في عرفة أم في منى ؟
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان له أكثر من خطبة في حجة الوداع، فقد خطب في مكة، وفى عرفه، وفى منى بين فيها مناسك الحج، كما بين الأصول العامة للدين، ونبه على التمسك للشريعة كآخر وصية له في هذا الجمع الحاشد، وفى يوم عرفة خطب في وادي عرنة، وكان فيما قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع، فاتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به، وكتاب الله، وأنت تسألون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فأشار بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس أي: يرددها ويقلبها وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، وخطب في منى في يوم النحر خطبة أكد فيها ما خطبه في عرفة، وبين أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فالسنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، وقال في هذه الخطبة: ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا فليبلغ منكم الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع".
هذا ما ورد من الخطبة في الأحاديث الصحيحة، وقد عني بدراستها علماء الدين، ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب الحديث.
والله أعلم .(1/870)
س:وما حدود الحرم المكي غير مواقيت الإحرام ؟
حدود الحرم المكي غير المواقيت، له حدود تحيط بمكة على مسافات غير متساوية، وقد نصبت عليها أعلام لمعرفتها، فحده من جهة الشمال: (التنعيم) وبينه وبين مكة حوالي: 6 كم.
وحده من جهة الجنوب: أضاء وبينها وبين مكة حوالي: اثني عشر كيلو مترا.
وحده من جهة الشرق: الجعرانة، وبينها وبين مكة حوالي: ستة عشر كم.
وحده من جهة الشمال الشرقي: وادي مكة وبينه وبين مكة حولي: أربعة عشر كيلو مترا.
وحده من جهة الغرب: الشميشي ـ الحديبية سابقا ـ وبينه وبين مكة حوالي: خمسة عشر كيلو مترا.
قال محب الدين الطبراني: نصب إبراهيم (عليه السلام) أنصاب الحرم يعني: أعلام الحرم يريه جبريل (عليه السلام) أي: أن الحدود توقيت من الله (تعالى) ثم لم تحرك حتى كان قصي وهو أحد أجداد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجددها، ثم لم تحرك حتى كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فبعث عام الفتح تميم بن أسيد الخزاعي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فبعث أربعة من قريش، فجددوها، ثم جددها معاوية، ثم أمر عبد الملك بن مروان بتجديدها.
وأما حرم المدينة فجاء فيه حديث متفق عليه رواه البخاري ومسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور".
ورويا أيضا عن أبي هريرة قال: "حرم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما بين لابتي المدينة، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى".
كما رويا أيضا حديثا: "أن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة".
ما رويا أيضا أن الرسول أشرف على المدينة فقال: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل: ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم، وصاعهم".
هذان الحرمان وهما: حرم مكة والمدينة، هما اللذان صحا فيهما الأحاديث.
ويقال: إن هناك حرما ثالثا له هذه الأحكام وهو: وجد الطائف، وفيه خلاف ولكل من هذه الأماكن أحكام.(1/871)
والله أعلم .(1/872)
س:نود أن نعرف معنى: الإحرام ونتعرف على آدابه ؟
معنى الإحرام هو: نية أحد النسكين: الحج أو العمرة أو نيتهما معا، وهذا الإحرام ركن لأنه نية، والنية ركن في العبادات، ومحلها القلب، ولا ضرر في التلفظ بها باللسان.
أما آداب الإحرام فكثيرة منها:
أولا: النظافة بمثل قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، والوضوء، أو الاغتسال وهو أفضل حتى أن الحائض والنفساء تغتسل، وتنظف نفسها قبل الإحرام، كما رواه أحمد والترمذي وحسنه.
ثم التجرد من الثياب العادية، ولبس ثياب الإحرام، وهي: رداء يلف النصف الأعلى من البدن دون الرأس، وإزار يلف النصف الأسفل.
ومن السنة: أن يكونا أبيضين، ثم بعد ذلك التطيب، وما دام التطيب قبل الإحرام لا يضر حتى لو بقي بعده.
فقد روى أحمد وأبو داود عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: "كنا نخرج إلى مكة مع الرسول فننضح جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدنا سال على وجهها فيراه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلا ينهانا".
وفى رواية للبخاري ومسلم عنها قالت: "كأني أنظر إلى وبيص الطيب أي: بريقه في مفرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو محرم".
ثم بعد ذلك صلاة ركعتين ينوي بهما سنة الإحرام، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قل يا أيها الكافرون}. وفى الثانية: {قل هو الله أحد}. وذلك ما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذي الحليفة، كما رواه مسلم.
وتجزئ عنها الصلاة المكتوبة كما تجزئ عنه تحية المسجد.
هذه هي بعض الآداب التي تسبق الإحرام.
والله أعلم .(1/873)
س:هل توجد أنواع للإحرام، وإذا وجدت فما هي، وما الفرق بينها، وما معنى كل منها ؟
قال ـ تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }. فالحج واجب على كل مستطيع في العمر مرة واحدة، كما أن العمرة واجبة عند الشافعي وأحمد، وسنة عند أبي حنيفة ومالك وأعمال العمرة تؤدى داخل مكة، فهي طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة، ثم تحلل منها بحلق الشعر، أو تقصيره.
أما أعمال الحج فتؤدى في مكة بالطواف، والسعي والحلق وفى خارج مكة بالوقوف بعرفة،و المبيت بمزدلفة، وبمنى، ورمي الجمرات فيها.
والذي يقصد بيت الله في أشهر الحج وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة، ويريد أن يؤدي الحج والعمرة له أن يختار في إحرامه إحدى الكيفيات التالية:
الأولى: أن ينوي أداء العمرة فقط، بعد أن يلبس ملابس الإحرام، وقبل أن يصل إلى الميقات، فإذا وصل مكة؛ طاف سبعا بالبيت، ثم سعى سعيا بين الصفا والمروة سبع مرات، ثم حلق بعض شعره أو قصره، وبهذا تمت عمرته، ويخلع ملابس الإحرام ويلبس ملابسه العادية، ويتمتع بما كان محظورا عليه أثناء الإحرام من مس الطيب، وقصر الشعر والأظافر، والاتصال الجنسي، وغير ذلك، وعليه في مقابل ذلك أن يذبح شاة لقوله ـ تعالى: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}.
وعندما يحيل الخروج إلى عرفات يحرم بالحج من المكان الذي هو فيه بعد أن يلبس ملابس الإحرام، ثم يقف بعرفة، ويفيض منها إلى المزدلفة بعد المغرب، ويمكث بها مدة بعد منتصف الليل، ثم يصبح يوم العيد في منى، ويرمي جمرة العقبة وهي الكبرى، ثم يقص بعض شعره، وهنا يجوز له أن يخلع ملابس الإحرام ويلبس الملابس العادية، وأن يمكث في منى ثلاثة أيام لرمي الجمار، أو يذهب إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة يوم العيد، ثم يعود إلى منى ليبيت فيها وليرمي الجمرات.
وهذه الكيفية وهي: تقديم العمرة على الحج في أشهره تسمى: بالتمتع.(1/874)
الكيفية الثانية: أن ينوي قبل الوصول إلى الميقات الإحرام بالحج فقط عند وصوله مكة يطوف طواف القدوم وهو: سنة. ويسعى بين الصفا والمروة إن أراد، ويمكث ملتزما بالإحرام حتى يقف بعرفة، ويتمم أعمال الحج بالمبيت بمزدلفة، ورمي الجمرات، والمبيت بمنى والطواف والسعي إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، وبالحلق أو التقصير، وهذه الكيفية من الإحرام تسمى الإفراد.
وبعد أن ينتهي من الحج يمكن أن يحرم بالعمرة من مسجد عائشة بالتنعيم، ويؤدي أعمالها المعروفة، وليس عليه في هذه الكيفية هدي.
الكيفية الثالثة: أن ينوي الحج والعمرة معا في إحرام واحد قبل الميقات، فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم وسعى ووقف بعرفة وبات بالمزدلفة ورمى جمرة العقبة وبات بعرفة صباح يوم العيد، ثم حلق ثم طاف طواف الإفاضة، وسعى إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، ثم كمل أعمال الحج: كرمي الجمرات، والمبيت بمنى وهذه الكيفية من الإحرام تسمى: القيران، وفيها هدي كهدي التمتع؛ لأنه طاف طوافا واحدا وهو: سبعة أشواط وسعى سعيا واحدا وهو: سبعة أشواط فعل ذلك عن الحج والعمرة معا ففي مقابل راحته بعدم تكرر الطواف والسعي يلزمه الهدي.
والله أعلم .(1/875)
س:وأي أنواع الإحرام هذه أفضل ؟
الإنسان حر في أن يختار أية كيفية من هذه الكيفيات حسب ظروفه، و حالته الصحية أو المالية، أوغيرها، والمهم أنه أدى النسكين في رحلة واحدة، وبرئت ذمته من أداء الواجب، وإن كان الفقهاء اختلفوا في أيها أفضل بناء على اختلافهم في حج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإن صحح بعضهم أنه كان قارنا لأنه ساق الهدي.
فذهبت الشافعية إلا أن: الإفاضة والتمتع أفضل من القران لأن المفرد، والمتمتع يأتي بكل من النسكين بكمال أفعاله.
أما القارن فيقتصر على عمل الحج وحده، وفى التفاضل بين التمتع والإفراد قولان:
والحنفية قالوا: القران أفضل من التمتع والإفراد، والتمتع أفضل من الإفراد.
والمالكية قالوا: الإفراد أفضل من التمتع، والقران.
والحنابلة قالوا: التمتع أفضل من القران ومن الإفراد؛ لأنه أيسر.
لقد تمناه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رواه مسلم عن جابر أن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حجهم معه أحرموا بالحج وحده أي: مفردين، فلما كان صبح الليلة الرابعة من ذي الحجة أمرهم أن يحلوا من الإحرام و أباح لهم أن يأتوا نساءهم قبيل الوقوف بعرفة، ثم خطب فيهم فقال: "قد علمتم أني أتقاكم وأصدقكم وأبركم، ولو لا هدي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا فحللنا، وسمعنا وأطعنا".
هذه هي الكيفيات، وهذا هو قول العلماء في الأفضلية.
ولكل إنسان أن يختار ما يشاء.
والله أعلم .(1/876)
س:وما الحكم إذا كان هناك شخص لا يعرف تفاصيل هذه النسك، وأحرم إحراما مطلقا بنية الحج. فهل يجوز ويصح إحرامه ؟
من أحرم إحراما مطلقا جاز هذا الإحرام وصح إحرامه وفعل واحدا من هذه الأنواع الثلاثة.
والله أعلم .(1/877)
س:رجل يقول: عزمت على الحج و أحرمت به، وفى أثناء الطريق عرض لي عارض يحول دون إتمامي الإحرام. فهل يلزمني الاستمرار على الرغم من ذلك، أم يجوز لي التحلل من الإحرام ؟
يقول الله ـ سبحانه: { وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }.
تحدث العلماء في الحصر والإحصار في المعني والأسباب، وكل ذلك يئول إلى المنع إلى وصول بيت الله الحرام للنسك في الحج أو العمرة، سواء أكان ذلك بسبب عدو أو بسبب مرض، أو غير ذلك من العوائق الخارجة عن إرادة الإنسان، ومنها: عدم إتمام إجراءات السفر حسب الأنظمة المحلية، أو الدولية، كقيام حرب أو انتشار مرض معد، أو تأخر وسائل النقل، أو ظهور تزوير في بعض الأوراق المطلوبة، أو غير ذلك من الموانع.
وقال العلماء: إن الحصر أو الإحصار يبيح التحلل من الإحرام؛ إذا ضاق الوقت، ولم توجد وسيلة للوصول إلى بيت الله الحرام، ولكن هل يجب مع التحلل هدي أو لا يجب؟
قال أكثر العلماء بوجوب الهدي كما نصت الآية، وكما فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حين صد عن البيت الحرام عام الحديبية.
وقال ابن القاسم: ليس عليه هدي إلا أن يكون ساقه معه كما كان الحال عندما منع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن مكة، وهو قول الإمام مالك.
والذين قالوا بوجوب الهدي على المحصر قالوا: إن لم يكن معه هدي، ولا يقدر عليه؛ صام عشرة أيام، ثم يتحلل.
ولم يوجب الصوم مالك، وكذلك أبو حنيفة لعدم ذكره في القرآن.
وعلى رأي الإمام مالك: يجوز لمن له عذر يمنع من الاستمرار في الإحرام أن يتحلل، ولا يجب عليه هدي، ولا صيام، والتحلل يكون بالحلق، أو التقصير؛ لأنه هو المستطاع.
والله أعلم .(1/878)
س:رجل يقول: خرجت من بلدي مصر ناويا الإحرام للحج مفردا، لأنني سأتوجه إلى مكة مباشرة من ميناء جدة، أو من المطار، ووجدت صعوبة في التزامي بالإحرام حتى أقف بعرفة وأكون في منى يوم العيد. فهل يجوز لي أن أغير الإحرام في الإفراد بالحج إلى التمتع بأداء العمرة أولا، ثم أحرم بالحج من مكة، أو لا يجوز لي ذلك ؟
اتفق العلماء على أنه: إذا لم يجاوز الميقات يجوز له تغيير النية حيث لم يشرع في شيء عملي من أعمال الحج والعمرة.
أما بعد تجاوز الميقات فقال بعض العلماء: لا. وأجاز بعضهم التغيير للنية حتى بعد تجاوز الميقات.
و استدلوا على ذلك بما حصل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه في حجة الوداع، على الخلاف في أنه مفردا أو قارنا أو متمتعا، كما جاء في عبارة جابر في رواية مسلم: "أنهم أهلوا مع رسول الله، وقال: "لسنا ندري أولسنا نرى إلا الحج، لسنا نعرف العمرة".
ولكن بعد انتهاء الرسول من الطواف، والسعي قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت وجعلتها عمرة".
هذا ما يظهر ترجيحه لوجود النص على ذلك، ولو مع عدم قطعية الدلالة، وعليه، فيجوز تغيير نية الإحرام، ولو جاوز الميقات.
والله أعلم .(1/879)
س:وهل يجوز للحاج أن يؤدي أكثر من عمرة، وهو في موسم الحج ؟
روى الترمذي وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "تابعوا بين الحج والعمرة".
قال بعض شراح الحديث: فيه دلالة على الاستكثار من الاعتمار خلافا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية.
ولمن قال: يكره أكثر من مرة في الشهر استدل المالكية على كراهة التكرار في العام بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة.
لكن يرد عليه بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يترك الشيء، وهو يستحب فعله، وذلك لدفع المشقة عن أمته.
وقال القاسم: إن عائشة اعتمرت في سنة ثلاث مرات فسئل: هل عاب ذلك عليها أحد؟
فقال: سبحان الله، أم المؤمنين!! يعني: هل يعيب عليها أحد ذلك؟
وهذا مذهب جمهور الفقهاء في عدم الكراهة، وهذا ظاهر في تكرار العمرة لنفسه، ولو أراد أن يهب ثواب العمرة للأموات، فلا مانع من ذلك أبدا، وكل قربة يهبها الإنسان، أو يهب ثوابها إلى الميت يرجى انتفاعه بها، ولم يرد ما يمنعه.
والله أعلم .(1/880)
س:لو فرضنا أن: شخصين قادمين للعمرة أحدهما: من مصر، والآخر من أبي ظبي، ولما يحرما إلا من جدة، فهل عمرتهما صحيحة، علما بأنهما لا يملكان إلا نفقات العمرة، والعودة ؟
قال العلماء: من تجاوز الميقات، ولم يحرم منه؛ وجب عليه ليعود ليحرم منه، وإلا وجب عليه دم، فإن لم يجد؛ فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
والذي جاء من مصر ميقاته: (رابغ) والذي جاء من أبي ظبي ميقاته: (قرن المنازل) وهو: جبل شرقي مكة.
وعلى كل حال، ما دام كل واحد منهما جاوز الميقات، ولم يحرم حجه صحيح ـ إن شاء الله ـ وعليه دم على الوجه الذي تقدم.
والله أعلم .(1/881)
س:سيدة فاجأتها الدورة الشهرية أثناء الإحرام أو العمرة فماذا تفعل ؟
ثبت في الصحيح عن عائشة (رضي الله عنها) أن: "رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل عليها وهي تبكي فقال: أنفستي؟ يعني: هل جاءتك الحيضة؟ فقالت: نعم. قال: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي". رواه البخاري ومسلم.
هذا تصريح من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن كل أعمال الحج يجوز أن تقوم بها المرأة، وهي حائض ماعدا: الطواف؛ لأنه أولا: كالصلاة؛ يشترط لكل منهما الطهارة من الجنابة بالذات.
وثانيا: كونه في المسجد، وممنوع عليها المكث فيه فلها أن تقف بعرفة وأن ترمي الجمرات بل لها أن تسعى بين الصفا والمروة إن فاجأها بعد الانتهاء من الطواف، والذي تمنع منه صاحبة العذر الشهري هو: الصلاة، والطواف، وقراءة القرآن، والمكث في المسجد، ومس المصحف، وحمله.
أما الذكر والدعاء، ومنه: التلبية، والتكبير، فلا يحرم شيء منه عليها.
وجمهور العلماء على أن: الطهارة من الحدث شرط لصحة الطواف.
و قال أبو حنيفة: إنها ليست شرطا فلو طاف الإنسان، وعليه نجاسة كان محدثا، ولو حدثا أكبر صح طوافه وإن حرم عليه دخول المسجد.
واختلف أصحابه في كون الطهارة واجبة مع اتفاقهم على أنها ليست بشرط، فمنهم من لزمها فقال: إن طاف محدثا لزمه شاة، وإن طاف جنبا لزمه بدنة.
وقالوا: و يعيد ما دام في مكة.
وعن أحمد بن حنبل روايتان أحدهما: كمذهب الشافعي ومالك.
والثانية: إن أقام بمكة أعاده، وإن عاد إلى بلده جبر بدم.
وأرى أن: العذر الشهري لو فاجأ المرأة أو كان واقعا لها أن تغتسل، ثم تحرم وتلبي، وتلتزم بكل واجبات الإحرام حتى ينتهي العذر، فتغتسل، ثم تطوف، وإن انتهت من أعمال الحج، وبقي عليها الطواف، وأرادت أن تسافر، فإن أمكن تأجيل السفر حتى تتطهر، وتغتسل، فالأولى: الانتظار حتى تتطهر وتطوف.(1/882)
أما إذا ضاق الوقت، وتكرر موعد السفر، وكانت هناك مشقة في التخلف، فلها أن تتطهر على الرغم من وجود العذر، وتطوف وعليها ذبح بدنة أي: جمل، وذبح شاة، ومثل صاحبة العذر الشهري: النفساء.
والله أعلم .(1/883)
س:أحيانا يكون الحج في الصيف، ويكثر العرق وتتغير رائحة الجسم، والإسلام كما نعلم دين النظافة. فما الذي يفعله الحاج في مدة إحرامه ؟
يظهر تغير الرائحة؛ إذا طالت مدة الإحرام، كالذي يحرم بالحج مفردا أو قارنا عند مروره بالميقات قبل يوم عرفة، بوقت طويل في موسم الحر حيث لا يحل من إحرامه إلا يوم العيد، أو بعده، وفى مواجهة تغير الرائحة شرع الغسل، والتطيب قبل الإحرام حتى لو بقيت آثار الطيب بعد الإحرام، كما أبيح الغسل المجرد عن الطيب، بل استحب أثناء الإحرام في عدة مواطن.
أما التطيب بعد الإحرام، فممنوع، ولا بأس بالاغتسال عند استعمال الصابون الذي له رائحة بقصد النظافة، لا بقصد التطيب، وكذلك يباح شم الفواكه ذات الروائح الطيبة: كالتفاح فإنه لا يقصد للطيب، ولا يتخذ منه.
أما شم الورد والريحان والنعناع متعمدا، فممنوع، وما جاء من الروائح عفوا بدون قصد، فلا ضرر فيه كالمرور بحديقة فيها أزهار، أو بدكان من يبيع العطر.
ويلاحظ أن استعمال المحرم للطيب تلزمه الفدية؛ إذا كان عالما بالحكم غير جاهل، وكان متعمدا غير ناس أنه محرم، وعند الجهل والنسيان لا فدية، والفدية عند تعمد التطيب والعلم بحرمته هي: ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين صاع أو صيام ثلاثة أيام، كما قال (تعالى) فيمن حلق شعره: {و من كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}. والنسك هو: الذبح.
وروى البخاري ومسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمن آذته هوام رأسه: "احلق، ثم اذبح شاة نسكا، فصم ثلاثة أيام، أو أطعم آصع من تمر على ستة مساكين".
والإمام الشافعي قاس غير المعذور على المعذور في وجوب الفدية، وأوجب أبو حنيفة الدم على غير المعذور إن صبر عليه.
والله أعلم .(1/884)
س:وإذا احتلم الحاج وأصابته الجنابة. هل يغتسل أو يتيمم ؟
إذا احتلم الحاج؛ يجب عليه أن يغتسل ما دام يوجد الماء ولم يضره، فإن فقد الماء أو كان استعماله ضارا؛ تيمم.
والله أعلم .(1/885)
س: وهل هناك أمور يستحب للإنسان فعلها إذا أراد أن يدخل مكة المكرمة، أو البيت الحرام ؟
يستحب لدخول مكة أمور منها:
الاغتسال، ومنها: المبيت بذي طوى في جهة الزاهر.
ومنها: أن يدخلها من السنية العليا، ومنها: أن يبادر إلى البيت بعد الاطمئنان على أمتعته ويدخل من باب السلام، ويقول: أعوذ بالله العظيم وبوجه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، اللهم صل على محمد وآله وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك.
ومنها: إذا رفع نظره إلى البيت دعا وقال: اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه، أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا، اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام.
ومنها: أن يقصد إلى الحجر الأسود ويقبله بدون صوت، فإن لم يتمكن استلمه بيده وقبله، فإن عجز عن ذلك أشار إليه بيده.
ومنها: أن يقف بحزائه، ويشرع في الطواف. هذا.
ولا يصلي عند دخوله تحية المسجد، فإن تحيته هي الطواف، إلا إذا كانت الصلاة المكتوبة قائمة فيصليها مع الإمام.
والله أعلم .(1/886)
س:الحجاج معظمهم يكونون على سفر. فكيف تكون صلاتهم، هل يقصرون طول فترة الحج، طالت أم قصرت، أم يتمون الصلاة؟
الحجاج ما داموا مسافرين متحركين، ولم يمكثوا في مكان أكثر من أربعة أيام، فلهم القصر، ولهم الجمع بين الصلاتين عند الجمهور.
وعند أبي حنيفة لهم القصر لمدة خمسة عشر يوما، وليس لهم جمع إلا في عرفة والمزدلفة.
والله أعلم .(1/887)
س: رجل يقول: أبي يحب استعمال الكحل. فهل يجوز له وهو يحج أو يعتمر أن يكتحل وهو محرم ؟
الكحل إذا كان للعلاج فهو جائز.
أما إذا كان للزينة فممنوع.
وإذا كان فيه طيب كذلك فيه فدية وهي: ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام.
والله أعلم .(1/888)
س:ما معنى: التلبية، وما حكمها، وما وقتها، وما المواطن التي تستحب فيها ؟
التلبية هي: قول: لبيك اللهم لبيك، كما أن التهليل هو: قول: لا إله إلا الله، والتسبيح قول: سبحان الله.
والتلبية تكون في الحج والعمرة عند الإحرام.
فقد روى أحمد وابن حبان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "يا آل محمد من حج منكم فليهل في حجه، أو في حجته". ومعنى: يهل: يرفع صوته بالتلبية فهي مشروعة بإجماع العلماء.
لكن، ما هو مدى مشروعيتها؟
لقد اختلفوا في حكمها، وفى وقتها، فقال الشافعي وأحمد: إنها سنة، ويستحب اتصالها بالإحرام، فلو أحرم دون أن يلبي؛ فإحرامه صحيح، ولا شيء عليه.
وقال الحنفية: إن التلبية وما يقوم مقامها: كالتسبيح شرط لصحة الإحرام، فمن أحرم، ولم يلب أو لم يسبح، أو لم يسق الهدي، فلا إحرام له.
والمشهور عند المالكية: أنها سنة. وقيل: واجبة، يصح الإحرام بدونها، ويلزم دم، ويبدأ وقتها بالإحرام، وينتهي برمي جمرة العقبة.
فقد روى جماعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة وهذا رأي جمهور العلماء.
ومالك يقول: تستمر حتى تزول الشمس من يوم عرفة، ثم يقطعها الحاج.
وقال أحمد: لا تنتهي حتى يرمي الجمرات كلها.
أما المعتمر فتنتهي تلبيته حتى يستلم الحجر الأسود كما فعله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) و كما رواه الترمذي بسند صحيح.
وتستحب التلبية في مواطن كثيرة: عند الركوب والنزول، وكلما علا مكانا عاليا أو نزل واديا أو لقي ركبا، ودبر الصلوات، وفى الأسحار، وفي كل حال، كما قال الإمام الشافعي.
والله أعلم .(1/889)
س:وما أحسن صيغ التلبية، وهل الجهر بها واجب، أم تصح جهرا، وما فضل التلبية ؟
أما صيغتها فقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر أن تلبية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك، والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
والاقتصار على ما كانت عليه تلبية الرسول مستحب، واختلف العلماء في الزيادة عليها، فذهب الجمهور في أن: الزيادة لا بأس بها، كما زاد ابن عمر: لبيك لبيك لبيك، وسعديك والخير يديك، وكما زاد الصحابة والرسول يسمع ولا ينكر، كما رواه أبو داود والبيهقي.
وكره مالك الزيادة على تلبية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتسن بعدها الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والدعاء، فقد كان النبي (عليه الصلاة والسلام) إذا فرغ من التلبية؛ سأل الله المغفرة والرضوان، كما رواه الطبراني وغيره.
التلبية يستحب أن تكون جهرا، فقد روى أحمد وابن ماجة وابن خزيمة، وغيرهم أن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال: "جاءني جبريل (عليه السلام) فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج".
وروى الترمذي وابن ماجة أن: "النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل: أي الحج أفضل؟ فقال: العج والسج. والعج هو: رفع الصوت بالتلبية. والسج هو: نحر الهدي.
وقال مالك: لا يرفع الملبي صوته في مسجد الجماعات، بل يسمع نفسه، ومن يليه، أما في مسجد منى، والمسجد الحرام، فإنه يرفع صوته فيهما.
وهذا الحكم بالنسبة للرجال.
أما بالنسبة للنساء، فيكره لهن رفع أصواتهن أكثر مما يسمعن أو يسمعن من يليهن فقط.
وقال عطاء: لا تسمع المرأة إلا نفسها فقط.
وقد ورد في فضل التلبية التي تعني: إجابة بعد إجابة أي: الطاعة على الدوام مأخوذة من لب بلمكان، أو المقام.
ورد حديث رواه ابن ماجة وهو: "ما من محرم يضحي يومه أي: يظل يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه فعاد كيوم ولدته أمه".(1/890)
وجاء حديث الطبراني: "ما أهل مهل قط إلا بشر، ولا كبر مكبر قط إلا بشر، قيل: يا نبي الله: بالجنة؟ قال: نعم".
وحديث رواه ابن ماجة والترمذي والبيهقي: "ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله، من حجر أو شجر أو مدر أو حصى حتى تنقطع الأرض من ها هنا و من ها هنا".
والله أعلم .(1/891)
س:وما معنى: الطواف، وما أنواعه، وما حكم كل نوع ؟
الطواف هو: الدوران حول الكعبة وهو أربعة أنواع:
النوع الأول: طواف القدوم. وهو: مشروع للقادم إلى مكة في حج أو عمرة، وهو سنة عند الجمهور، ويسمى: طواف التحية، وطواف الدخول، ويكون ركنا في العمرة للمتمتع، وغيره.
الثاني: طواف الإفاضة وهو: بعد الوقوف بعرفة، ويسمى: طواف الزيارة، وهو ركن في الحج، وركن في العمرة أيضا باتفاق، من فاته؛ بطل حجه، وعمرته، ولا يجبر بدم.
الثالث: طواف الوداع عند مغادرة مكة، وهو واجب عند الجمهور؛ إذا ترك صح؛ الحج، ووجبت الفدية، وهي ذبح شاة، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، وصيام الثلاثة في الحج لا يكون إلا في أيام التشريق، أو في أشهر الحج التي تنتهي بانتهاء شهر ذي الحجة، وهو: سنة عند مالك. وفى قول للشافعي، وتعفى منه النساء عند الحيض والنفاس.
الرابع: طواف التطوع وهو: يكون سنة عند دخول المسجد الحرام تحية للبيت وليس فيه رمل ولا اطباع.
والله أعلم .(1/892)
س:وما الشروط التي يجب توافرها في الطواف ؟
شروط صحة الطواف هي:
أولا: الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، ومن النجس، وفيه حديث عائشة حين حاضت ومنعها الرسول (عليه الصلاة والسلام) من الطواف حتى تطهر، ومثل الحيض: الجنابة، ولو طافت؛ صح الطواف، إذا تحتم عليها السفر قبل أن تطهر، وعليها بدنة، أو شاة على ما هو موجود في حديث عائشة، والحدث الأصغر الذي يوجب الوضوء ليس شرط صحة عند الحنفية، بل هو واجب يجبر تركه بدم.
والطهاة من النجس في الثوب، أو البدن سنة عندهم، لا يلزم بتركها شيء، ومن به سلس بول والمستحاضة دائما يطوفان بلا طهارة اتفاقا.
الشرط الثاني: ستر العورة لحديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: "بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها الرسول قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان".
والأحناف يقولون: إن ستر العورة واجب لو ترك؛ صح الطواف، وعليه الإعادة ما دام بمكة فإن غادرها؛ وجب دم.
الشرط الثالث: أن يكون الطواف سبعة أشواط كاملة لو ترك واحدا منها؛ بطل.
والأحناف يقولون: ركن الطواف أربعة أشواط فقط، والثلاثة الباقية واجب، لو تركت؛ وجب الدم.
الشرط الرابع: أن يبدأ من الحجر الأسود وينتهي إليه.
والشرط الخامس: أن يكون البيت عن يسار الطائف.
الشرط السادس: أن يكون الطواف خارج الكعبة، وخارج حجر إسماعيل؛ لأنه جزء من الكعبة، وكذلك الشاذروان وهو: البنيان الملاصق لبنيان الكعبة.
الشرط السابع: المولاة في الأشواط عند مالك وأحمد، ولا يضر التفريق اليسير ولو كان بغير عذر.
أما التفريق الكثير فيضر، إلا إذا كان بعذر.
والحنفية والشافعية قالوا: إن الموالاة سنة.
والله أعلم .(1/893)
س: وما الحكم إذا طاف الإنسان حول الكعبة وهو لابس حذاءه ؟
روى الترمذي والدارقطني وابن خزيمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "الطواف صلاة، إلا أن الله (تعالى) أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير".
يؤخذ من هذا: يشترط له ما يشترط للصلاة، ومن ذلك: الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، وطهارة الثوب، وطهارة المكان.
فإذا كان الحذاء الذي يلبسه الطائف طاهرا؛ صح طوافه بدون خلاف، ولا يعتبر لبسه للحذاء ذنبا، أو احتقارا لحرمة البيت، وذلك راجع إلى نيته.
أما إذا الحذاء نجسا، فلا يجوز، ولا يصح الطواف به، وذلك عند جمهور الفقهاء.
لكن الحنفية قالوا: إن الطهارة من النجاسة في الثوب أو البدن سنة فقط، وعلى ذلك: يجوز الطواف بالحذاء النجس، وبالثياب النجسة، ولا شيء على الإنسان.
وقالوا: إن الطهارة من الحدث الأصغر عند الطواف واجبة، لو تركها وطاف بدون وضوء صح طوافه، ولزمته شاة، وكذلك لو كان محدثا حدثا أكبر صح طوافه، ولزمته بدنة، ويعيده ما دام في مكة.
والأولى: اتباع رأي الجمهور، والتأكد من الطهارة عند الطواف، سواء في ذلك طهارة البدن، والثوب، والطهارة من الحدثين، ولا مانع من لبس النعل، إذا كان طاهرا، يكتفي به حرارة الأرض أو خشونتها ـ مثلا.
والله أعلم .(1/894)
س:سيدة تقول: طفت أربعة أشواط، ثم أغمي علي، ونقلت إلى المستشفى، وبعد العلاج، سافرت ولم أكمل الطواف. فهل حجي صحيح ؟
جمهور الفقهاء على أن الطواف حول البيت يكون: سبعة أشواط، وذلك لفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولقوله: "خذوا عني مناسككم".
فمن ترك شوطا منه؛ بطل، كمن يترك ركعة من إحدى الصلوات المفروضة فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: "الطواف حول البيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم، فلا يتكلم إلا بخير".
غير أن الإمام أبا حنيفة قال: إن ركن الطواف هو: أربعة أشواط، من نقص عنها؛ بطل الطواف، وبطل الحج.
أما الأشواط الثلاثة الباقية فهي من الواجبات التي لو تركت؛ صح الطواف، ووجب تقديم الهدي.
وعلى هذا المذهب: يكون طواف صاحبة السؤال صحيحا، وبالتالي يكون الحج صحيحا، وعليها تقديم الهدي.
والله أعلم .(1/895)
س:وهل للطواف من سنن يسن للطائف أن يفعلها ؟
نعم. هناك للطواف سنن منها:
أولا: استقبال الحجر الأسود عند بدء الطواف مع التكبير والتهليل ورفع اليدين، ومع استلامه وتقبيله إن أمكن، وإلا مسه بيده، و قبلها أو مسه بشيء معه، وقبله أو أشار عليه بعصا، كما فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبكى طويلا قائلا لعمر: "هنا تسكب العبرات".
وقال عمر عند تقبيله: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبلك ما قبلتك. كما رواه البخاري ومسلم.
ثانيا: الاضطباع وهو: جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، كما فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه. ورواه أحمد وأبو داود، وهو مذهب الجمهور؛ لأنه يعين على الرمل في الطواف.
وقال مالك: إنه لا يستحب.
ثالثا: الرمل، وهو الإسراع في المشي مع هز الكتفين، وتقارب الخطا لإظهار القوة والنشاط، وذلك في الأشواط الثلاثة الأولى. كما رواه مسلم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
وهو خاص بالرجال كالاضطباع أيضا، وليس على النساء، كما رواه البيهقي عن ابن عمر.
وشرع الرمل؛ لأن المسلمين قالوا عن المسلمين القادمين إلى مكة قالوا: قد وهنتهم وأضعفتهم حمى يثرب يعني: المدينة، فأطلع الله رسوله على ما قالوا، فأمرهم الرسول أن يرملوا، فلما رأوهم رملوا قالوا: هم أجلد وأقوى منا". رواه البخاري ومسلم.
وقد بدا لعمر أن يترك الرمل بعد ما انتهت حكمته، ومكن الله للمسلمين في الأرض، إلا أنه رأى إبقاءه لتبقى صورة ماثلة للأجيال بعده للعبرة.
رابعا: الدعاء.
خامسا: استلام الركن اليماني لحديث البخاري ومسلم، والحكمة في هذا الاستلام: أنه وضع على قواعد إبراهيم، كما أن استلام الحجر الأسود لذلك، ولأنه يمين الله في الأرض.
وروى ابن حبان أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال: "الحجر، والركن اليماني يحط الخطايا حطا".(1/896)
سادسا: من السنن: صلاة ركعتين بعد الطواف عند مقام إبراهيم.
والله أعلم .(1/897)
س:في أثناء الحج شاهدت أن الكل يزاحم على الحجر الأسود بشكل كبير. فهل يوجد إثم بسبب هذه المزاحمة، وخاصة أنها قد تؤذي الضعفاء، وهل من الواجب لمس الحجر أو تقبيله ؟
المزاحمة على الحجر لا بأس بها إن لم تؤذ أحدا، ولم ينحرف الحاج عن الاتجاه، كما كان ابن عمر يفعله والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمرـ كما رواه الشافعي في سننه: "يا أبا حفص إنك رجل قوي فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إذا وجدت خلوة فاستلم، وإلا فكبر وامض".
وهنا لا يشترط أن يكون الإنسان ملامسا للحجر، فيكفي إن لم يمكن ذلك أن يشير بيده أو يشير بعصا ثم يقبل ذلك.
وهذا تخفيف، وبخاصة في أثناء الزحام.
والله أعلم .(1/898)
س:رجل يسأل ويقول: إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن مخالطة المجزوم للناس، وقد أصابني الله (تعالى) بهذا المرض. فكيف أفعل في الطواف ؟
روى مالك أن عمر (رضي الله عنه) رأى امرأة مجزومة تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله لا تؤذي الناس، لو جلست في بيتك؛ ففعلت، ومر بها رجل بعد ذلك فقال لها: إن الذي مات قد نهاك فاخرجي فقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا.
فإذا كان المرض مغطى لا يمس أحدا فلا بأس، فأقول لصاحب السؤال: غط يدك بشيء يمنع لمس هذا المكان الضار، وحجك وطوافك صحيح.
والله أعلم .(1/899)
س:إذا انتهى الطائف من طوافه، هل عليه أمور يفعلها ؟
السنة بعد انتهاء الطواف: صلاة ركعتين، وقد أوجبهما أبو حنيفة، وذلك عند مقام إبراهيم، أو في أي مكان في المسجد، كما فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
وتسن فيهما قراءة سورة: (الكافرون) في الركعة الأولى، {وقل هو الله أحد} في الركعة الثانية بعد الفاتحة، كما فعل الرسول (عليه الصلاة والسلام) فيما رواه مسلم.
وهاتان الركعتان يصليان في أي وقت حتى في أوقات النهي عن الصلاة، فقد قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ): "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار". رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وهذا مذهب الشافعي، وأحمد، ولو صلى المكتوبات بعد الطواف أجزأ عن الركعتين في المذهبين، فقال مالك والأحناف: لا يقوم غير الركعتين مقامهما.
والله أعلم .(1/900)
س:وما مشروعية السعي بين الصفا والمروة، وما حكمه ؟
السعي بين الصفا والمروة مشروع، وهو في حقيقته تخليد لذكرى سعي هاجر بينهما تطلب غوثا لابنها إسماعيل؛ حين اشتد بهما العطش بعد أن تركهما إبراهيم وحيدين لأمر من الله، ونفذ ما كان معهما من زاد.
وترددت بين الصفا والمروة سبع مرات، ثم أنبع الله لهما زمزم.
وروى البخاري هذه الحادثة عن ابن عباس، وقال ابن عباس بعد ذلك: قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ): "فلذلك سعى الناس بينهما".
أما حكم السعي: فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: أنه ركن من أركان الحج، لو ترك؛ بطل الحج، ولا يجبر بدم ولا بغيره، وهو مذهب مالك والشافعي. وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
ومن أقوى الأدلة على هذا الرأي: حديث ابن ماجة وأحمد والشافعي، جاء فيه: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي".
والرأي الثاني: أنه سنة، لا يجب بتركه شيء، وهو رواية في مذهب أحمد.
والدليل عليها قوله ـ تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.
ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه، ونفي الحرج، وإن كانت رتبته الإباحة، لكن ثبتت السنية من قوله: {من شعائر الله}.
والرأي الثالث: أن السعي واجب، وليس بركن، فمن تركه؛ صح حجه، ووجب الدم، وهو مذهب أبي حنيفة، ورجحه صاحب (المغني) ودليله أن: حديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". دل على مطلق الوجوب، لا على كونه ركنا لا يتم الواجب إلا به؛ لأنه حديث ضعيف، لكن له طرق إذا انضمت إلى بعضها؛ قويت فيكتفى بالحكم بوجوبه، بحيث لو ترك؛ لا يبطل الحج، وإنما يجبر بدم.(1/901)
وبعد بيان حكمه، تحدث العلماء في قوله ـ تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما}. الذي لا يدل على أن السعي واجب، أو ركن، تحدثوا فقالوا: كان هناك صنمان على الصفا والمروة في الجاهلية، فلما فرض السعي في الإسلام كان الأنصار يتحرجون في السعي من أجل ذلك فأنزل الله هذه الآية؛ لرفع الحرج، وأقل رتب عدم الحرج هي: الإباحة.
ومن هذا المنطلق جاءت الآراء الثلاثة الاجتهادية المذكورة.
والله أعلم .(1/902)
س:وما الشروط الواجب توافرها لصحة السعي ؟
شروط صحة السعي هي: أن يكون بعد طواف، وأن يكون سبعة أشواط، وأن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، وأن يكون السعي في المسعى، وهو: الطريق الممتد بين الصفا والمروة، كما فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكما قال: "خذوا عني مناسككم".
ولو خالف هذه الشروط؛ بطل السعي.
والله أعلم .(1/903)
س:هل الصعود على جبل الصفا شرط لصحة السعي، وهل الموالاة في السعي واجبة ؟
لا يشترط لصحة السعي أن يرقى الإنسان على الصفا والمروة، ولكن يجب عليه أن يستوعب ما بينهما، ويلصق قدمه بهما في الذهاب، والإياب، فإن ترك شيئا لم يستوعبه؛ بطل سعيه.
وأما الموالاة بين الأشواط فغير شرط في صحة السعي بمعنى: أنه لو عرض للإنسان عارض يمنعه من مواصلة الأشواط، أو أقيمت الصلاة، فله أن يقطع السعي لذلك، فإذا فرغ مما عرض له؛ بنى على ما مر، وأكمله.
روى سعيد بن منصور أن: عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) كان يطوف بين الصفا والمروة فأعجله البول، فتنحى ودعاء بماء، فتوضأ، ثم قام وأتم على ما مضي.
كما روى سعيد أيضا أن: سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة الزبير سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها أي: سعيها في ثلاثة أيام، وكانت ضخمة.
ولا يشترط الموالاة بين الطواف في البيت، والسعي بين الصفا والمروة، فيمكن أن تكون بينهما استراحة، كما قال أحمد.
وكان عطاء والحسن من التابعين لا يريان بأسا لمن طاف بالبيت أول النهار أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي.
والإمام مالك فقط هو الذي قال: إن المولاة في السعي شرط لصحته، ويعفى عن الفاطن القصير. أما الطويل فيضر، وبخاصة إذا لم يكن عذر، وعند العذر لا يضر كالطواف.
والله أعلم .(1/904)
س:وهل الطهارة شرط من الشروط الواجبة لصحة السعي ؟
إذا انتقض الوضوء أثناء السعي فلا يضر؛ لأن الطهارة ليست شرطا لصحته.
والدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يمنع عائشة حين حاضت، إلا من الطواف، كما رواه مسلم.
وروى سعيد بن منصور أن عائشة وأم سلمة من أمهات المؤمنين قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت، وصلت ركعتين، ثم حاضت، فلتطف بالصفا والمروة.
فالطهارة سنة وليست واجبة.
والله أعلم .(1/905)