في مَن طُلِب لحَمْل السلاح هل يستجيب ويترك ارتباطاته؟
عملُك مع أبيك، وقيامك برعايته وبِرُّك به ورعاية أسرتك وبيتك الصغير إن كل ذلك واجب عليك لا يُعفيك منه ذهابُك للجهاد في سبيل الله والوطن؛ فإن الجهاد بالعمل الجاد هو نَوْع من الجهاد في سبيل الله، وفي الحديث الشريف: "إن أحدَ المجاهدين في سبيل الله، سألَه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أحواله، وقال له: ألكَ أبوَان؟ قال: نعم، قال: فَفِيهما فجَاهِدْ".
وقال الله ـ تعالى ـ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا).
وكفى بهذا التوجيه الإلهي المحمدي بيانًا وإرشادًا، فمُباشَرة الطاعة مع الإخلال بتنفيذ أمر الله حسبَ ما تقتضيه ظروف الأحوال قد يكون مُحْبِطًا للعمل.
لهذا ننصح ببقائك مع والدك والقيام بما ينبغي عليك نحوه: اللهم إلا إذا طُلِبْتَ من أُولي الأمر لحمل السلاح، ففي هذه الحالة يجب عليك الاستجابة، وسيتولَّى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر الأسرة.(1/891)
في هل التطوُّع في الحرب فيه اعتداء على حق الوالدين؟
إننا نُحَيِّي في السائل هذه الروح الوطنية.. والدفاع عن الوطن واجب مُقَدَّس، والجهاد في سبيله فرض على كل واحد من أبنائه، وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن مات ولم يُجاهد ولم يكن له نية في الجهاد ماتَ مِيْتَةً جاهلية".
وحقوق الوالدين من الواجبات التي حثَّ عليها الإسلام ورغَّب فيها ودعا إليها، والعمل على كل ما يُرضي الوالدين ـ وخاصة في حالة الكِبَر وبلوغ السن الكبيرة ـ من الفرائض التي يجب أداؤها وعدم التقصير فيها، وهو جهاد في سبيل الله، سبحانه.
بيدَ أنه إذا كان العدو في أرض الوطن فإن الجهاد الحربي يُصبح فوق كل جهاد، ويصبح فرضًا على كل مَن يُمْكِنه حمل السلاح أن يضع نفسه تحت تصرُّف وُلاة الأمور في الدولة، حتى يتحرَّر الوطن من رِجْس المُعْتَدِين. وأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يتكفَّل بالأهل فإنه ـ سبحانه ـ كما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة: "لا يُضِيع أهلَه".(1/892)
هل مُواصَلة التعليم تُعفي من الجهاد؟
الجهاد في الجو الإسلامي من أسمى القُرُبات إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومن أفضل الأعمال، ولقد سُئِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أفضل الأعمال فقال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا وَجَاهِدُوا بأموالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سبيلِ اللهِ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تعلَمُونَ).
ويقول ـ سبحانه ـ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمنوا بالله ورسولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وجاهَدُوا بأموالِهِمْ وأنفُسِهِم في سبيلِ اللهِ أولئكَ همُ الصادِقُونَ).
والجهاد فرض إذا دخل العدو أرض الوطن يجب على كل قادرٍ أن يدفعه بما يستطيع ويُطَهِّر الوطن من رِجْسِه واستعمارِه، والجهاد أنواع: منه جهاد بحمل السلاح، وجهاد التعبئة الروحية، وجهاد بالدِّعاية لقضية البلاد، وجهاد بتخذيل الأعداء، وبثِّ رُوح التفرِقة بين صفوفهم، والتحصُّن بالعلم ـ أيضًاـ جهاد؛ لأن الوطن كما أنه في حاجة إلى السلاح، فهو في حاجة ـ أيضًاـ إلى العلم والتزوُّد منه، وقد يستطيع المُتَعَلِّم الجمع بين مُواصلة التعليم والانتظام في صفوف الفدائيين في أوقات العُطْلة، ويُفَضِّل ذلك الكثيرون من شبابنا المتعلم، ويكون بذلك قد جمع بين الحُسْنَيَيْنِ، ودافع في الميدانيين، وله بكل ذلك أجرُه وثوابه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).(1/893)
أحاسيس الإمام عبد الحليم محمود ـ رضي الله عنه ـ بالنسبة لحرب أكتوبر:
إنها أحاسيس الحمد لله والشكر لله، أحاسيس بالرضا والاعتزاز بفضل الله، أنا فخور بوطني وبأمتي، وبالقيادة المُوَفَّقة الحكيمة، وبالجيش المُظَفَّر الذي أيَّده الله برُوح من عنده ترعاه عنايته، وتَحُوطه حمايته، ويَمُدُّه بجندٍ من عنده، وصدق الله العظيم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا والذينَ آمنُوا في الحياةِ الدنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ).
وإن ما يجري اليوم في جميع جبَهات القتال في مصر وسورية من زحف مُقَدَّس وجهاد ديني وما تتحدَّث عنه الدنيا من بُطولات مُشَرِّفة، ومن صَلابة رائعة، ومن صعود في المواجهة، ومن صبر في اللقاء، ومن إصرار على الانتصار، لَمِمَّا يُبارِكُه الله، ويسجله التاريخ في أكرم صفحَاته لقواتنا المناضلة بكل فخار.
لقد زرتُ الجرْحَى ورأيتُهم وهم راضون لِما أصابَهم في سبيل الله وأحسستُ منهم مدى شوقهم إلى العودة إلى مواقعهم في الميدان لمُشاركة إخوانهم في شرَف العمل على أرض المعركة.
روح عالية تُذْكَر بكل تقدير.. إنهم جُنْد الله، الذين بشَّرهم بالنصر: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغالِبُونَ). صدق الله العظيم.
إنهم جند الله الذين بدَّدوا عارَ الهزيمة والخوف، وكسروا قُيود التفكُّك والضعف، وأزالوا الإحساس بالنفس والشعور بالذنب، وأعادوا الثقة بالنفس، والأمل في المستقبل، وهبوا إلى الرجال في جانب الله.
ولقد كنتُ في زياراتي المتعدِّدة لمواقع قُوَّاتِنا قُبَيْلَ المعركة أنظر إلى الدمار والخراب والغرور الإسرائيلي على ضفاف القناة، وأُشاهد البيوت المهجورة والمُعَطَّلة، وأرى علم إسرائيل يُرفرِف فوق أرض بلادي، وكان يُلِمُّ بي إحساس قاتم كئيب حزين مرير لا يُمكن بحال أن يُوصَف ولا أن يُسْتَهان به، ولكني ما فقدتُ يومًا الرجاء في الله ولا الثقة في جيشنا الباسل.(1/894)
ثم شاء الله أن نَعْبُر القناة، وأن نُحَطِّم خط بارليف المنيع، وأن نتقدم إلى الأمام في الجولان، وأن نَسْتَرِدَّ جزءًا عزيزًا من أرض الوطن ونُطَهِّره من رجس الأعداء.. وأن نُسقط أعلامهم، ويرفرف علمُنا من جديد، عاليًا، خفَّاقًا، مضيئًا، عزيز الجانب، موفور الكرامة.
إن ذكرى يوم العاشر من رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف يجب أن تبقى ـ مع مَثِيلاتها ـ حيةً في نفوسنا، ماثلةً أمام أعيُنِنا مذكورةً على كل لسان ـ لا نَغْفُل عنها ساعة من ليل أو نهار، لنتعلَّم منها كل ما يجب أن نتعلم من الدروس، ونأخذ منها العِظَة ليومنا وغدنا القريب والبعيد إن شاء الله، ولِتُذَكِّرنا بفضل الله ـ سبحانه ـ وبكريم رعايته لعباده المؤمنين.(1/895)
في الزواج:
في رؤية الخاطب مَن أراد أن يتزوج بها:
إذا أراد الإنسان الزواجَ بآنسة أو بأرملة فإن الشرع يَحُثُّه على أن يراها ويتحدث معها.
أما رؤيتها؛ فذلك لأن الأذواق تختلف فيما يتعلق بالجمال المرغوب فيه، وتختلف في القُبْح الذي يُنَفِّر الإنسان منه، وقد تكون المرأة لا بأس بها في نظر إنسان فيرضاها زوجةً، وقد لا يستريح إلى النظر إليها ـ هي نفسها ـ إنسان آخر، فيَعْدِل عن الزواج بها.
وحثَّ الشرع على الرؤية؛ لترى هي ـ أيضًاـ مَن ستُعاشره مُعاشرةً دائمة إذ إنه أن لا ترى فيه مثَلَها الأعلى فترفضه.
وحثَّ الإسلام على الرؤية؛ لأنه يُريد للعِشْرة الزوجية أن تكون رِبَاطًا مقدسًا دائمًا، ومن أجل ذلك يحكم أساسَها بالرؤية.
ويحكم أساسَها بشيء آخر؛ وذلك أن الرؤية شكل ومظهر، فكان لابد من الحديث حتى يتبين الاثنان عقل كل منهما وذكاءه، ومن أجل ذلك يَحُثُّ الشرع ـ أيضًاـ على الحديث مع مَن يُريد الإنسان أن تكون شريكةَ حياته.
وسواء أكُنَّا بصدد الحديث أم بصدد الرؤية فإن ذلك لا يكون في خَلْوَة خاصة؛ فإن الخلوة الخاصة قد حرَّمها الإسلام قبل العقد.
أما إذا زادت العلاقة عن الرؤية والحديث بأن كانت اتصالًا جنسيًّا أو لمسًا قريبًا من الاتصال الجنسي فإن ذلك مُحَرَّم تحريمًا مُطلَقًا في نظر الإسلام، وهو يُعْتَبَر زنى وعقوبة الزنى في الإسلام معروفة، وما دام لم يعقد العقد فإن كل علاقة غير الرؤية والحديث تكون مُحَرَّمة.(1/896)
في نصيحة للمُقْدِم على الزواج:
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تُنْكَح المرأةُ لأربع: لمالِها، ولحَسَبِها، ولجمالِها، ولدينها، فاظفرْ بذات الدِّين تَرِبَت يداك"، أي: أن زواج ذات الدِّين سعادة الأبد ـ سعادة الدنيا والآخرة ـ فهي بدينها تَبْتَعِد عن الحرام، وتُعين الزوج على الكسْب، وتُنَمِّي الشخصية لزوجها، وتُحَقِّق كل ما يُمكن أن يَجِدَه المرء نفسَه من آمال.
والفتاة غير الشرعية لن يكون في زواج المرءِ منها إلا همٌّ ونَصَب وغمٌّ وحزن، فساد الدنيا وفساد الدِّين، تَقْتُل المال بالتبذير، وتَهْدِم الحبَّ بالعبَث، وتقضي على الدين بالفساد والتهتُّك والفُجور.. وتُميت الجمال بالإسراف في التبرُّج والتزيُّن والانسياق مع الشهَوات.
والحكمة من النكاح في الإسلام أن يجد الزوج من الزوجة سكنًا يَطْمَئِنُّ إليه، وسنَدًا يعتمد عليه، ومُتْعةً يُنَفِّس بها عن تعَبِه وإرهاقه.
يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "خيرُ النساءِ مَن تَسُرُّكَ إذا أبصرتَ، وتُطيعكَ إذا أمَرْتَ".
ويقول ـ سبحانه ـ مُبَيِّنًا حكمة الزواج: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَّدَةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ولا يتحقَّق في الفتاة غير الشرعية شيء من ذلك.
ومع ذلك فإذا عُقِد النِّكاح على مِثْل تلك الفتاة فهو واقع، وعلى الزوج أن يُجبرَها جبرًا على اتباع الشرع، وأن يأخُذَها بالشِّدَّة، ويُرَوِّضها ما استطاع على ذلك..وإلا كان مُقَصِّرًا في حق نفسه ومقصرًا في حق ربه.. وكان زواجه وَبالًا عليه في الدنيا والآخرة.(1/897)
في أركان الزواج:
للزواج خمسة أركان عند الشافعية: زوج وزوجة ووَلِيٌّ وشاهدان وصيغة تدل على التراضي والقَبُول.
ومن شروط النكاح أن يَتَمَكَّن الشاهدان من رؤية العقد، وأن تتوافَر الشروط المطلوبة في كل من هؤلاء.
فإذا لم يتمكَّن الزوج والزوجة والشاهدان من الحُضور في مجلس واحد، وحاوَلا الاستعاضة عن ذلك بوسيلة من وسائل الاتصال كالتليفون المَرْئي مثلًا، وإذا اتسع مجال الرؤية في هذا التليفون، بحيث يُمكن للجميع رؤية كل منهم الآخر، ويتيسر سماع الأقوال وتبادُل الآراء بين بعضهم وبعض، كان النكاح جائزًا وواقعًا إذا عَوَّضت الرؤية المُتبادِلَة والأقوال المسموعة الواضحة ما يُخْشَى من آثار بُعْد المكان من الافتراق وعدم التمييز.
أما إذا لم يتسع التليفون إلا لصورة فرد من الأفراد كزوج أو زوجة أو شاهد.. فإن أمكن التأكُّد من رؤية كل منهم للآخر وتَعَرُّفه على أقواله وأحواله بالتعاقُب، وتمَّ النكاح على أساس من الإيجاب والقَبُول بين الزوج والزوجة أو وَلِيِّها، وتأكَّد الشاهدان كل على حِدَة من ذلك، واجتمع رأيهما عليه فإن ذلك فيما نرى جائز، أيضًا. وإذا لم يتيسر ذلك ـ أيضًاـ فلا يجوز.
والمقصود من ذلك أن يتأكَّد أطراف النكاح، كل منهم من الآخر، وألا يحصل اختلاط أو إبهام، وأن يقوم النكاح على أساس قَوِيٍّ متين.(1/898)
في حكمة الزوج:
الأصل في الزواج أن يكون بين الزوجين مودَّة ورحمة، وتعاطُف وتعاوُن، ومُعاشرة بالمعروف، يقول الله ـ تعالى ـ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أزواجًا لِتَسْكُنُوا إليها وجَعَلَ بينَكُمْ مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرُونَ)، فكان لزامًا على المرأة أن تُطيع زوجها وتلتزم بأوامره، وأن تَكُفَّ عن كل ما يُغْضِبه ويُؤذيه؛ لأنه صاحب القِوَامة عليها، وهو الذي يَعُفُّها عن الحرام، ويسعى عليها وعلى أولادها، ومُخالَفة أوامره وعدم إطاعته معصية لله ـ سبحانه، وتعالى ـ لقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها لعِظَمِ حقِّهِ عليها".
فالمرأة التي تسيء إلى زوجها أو تشتُمه هي امرأة سيئةُ الخلُق، عاصِيَةٌ لربها بعيدة عن تعاليم الدين، ويُحبط هذا العمل السيئ حسناتها ـ إن كان لها حسنات ـ وهي بهذا العمل سيئة العِشْرة، ولزوجها الأجر الكبير والثواب العظيم على تَحَمُّل إساءتها وحُسْن مُعاشِرَتِها.(1/899)
في الأُلْفَة والمحبة بين الزوجين:
إن الشرع الشريف يعمل دائمًا على دوام الألفة والمحبة، وخاصة بين الزوجين؛ ولهذا أمر الرجل عند إرادة الزواج أن ينظُر إلى الوجه والكفَّيْن؛ لأنهما المنظر الظاهر لجمال المرأة غالبًا، ولأن ذلك أدْعَى للاطمئنان.
وأمر أن يَسْتَأْذِن البِكْر عند الرغبة في زواجها، حتى تَعْرِف رغبَتَها، وذلك كي لا تسوء العِشْرة فيما بعدُ، كما يُشاهَد ذلك كثيرًا لعدم اتخاذ ترتيب الشرع الشريف طريقًا للزواج.
نَعَم للوالدين أن ينصحَا البنت والولد؛ لأنهما أعرف بالحياة وبالناس أكثر، ولكن ليس لهما الإكراه على الزواج فذلك جريمة وجِنايَة كبيرة على الأولاد، فليست المرأة التي تُعجِب الوالِدَ تُعْجِب ولدَه؛ لأن الأرواح جنود مُجَنَّدة، ما تعارَفَ منها ائتَلَفَ، وما تَناكَرَ منها اختَلَفَ".
ولكن لو أَكْرَه والدٌ ولدَه على الزواج من امرأة لا يُحبها، وحاول الولدُ تعليل نفسه ومُعالجتها في أن يُحبَّها فلم يَحْظَ، بذلك وجب على الولد أن يُخبِر والده بذلك، ورحمة الوالد كفيلة بحل المشكلة، إما بإزالة أسباب الكراهية، والعمل على تلاشيها، وإما بالتفريق عند اليأس.
فإذا استبدَّ الوالد، وجب على ابنه أن يجعل مجلسًا عُرْفيًّا يحكم ويدرس ويُخاطب الوالد ويُقنعه بتبرير الفِراق والطلاق.
مع مُلاحظة أن الشرع لا يتهم الوالد؛ لأن المفروض فيه أنه أحرص الناس على مصلحة ابنه.
ولكن فُرِض ذلك وشُكِّل مجلس من أجل الزوجين واستحالة العشرة الهادئة السعيدة فلا حل لذلك إلا بالفراق والطلاق، ولا شيء على الولد.
قال ـ تعالى ـ: (وَإِنِ امْرَأةٌ خافتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشوزًا أو إِعْرَاضًا..) (النساء: 128).
وقال ـ تعالى ـ: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا من أهلِهَا إِنْ يُريدَا إِصلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا) (النساء: 35).(1/900)
في الإجبار على الزواج:
الزواج عَقْد بين طَرَفين لابد فيه من رِضا كلِّ طرَف ومُوافقته عليه، ولا يَصِح فيه الإجبار أو الإكراه، ويلزم الوالد أو الولي أن يَسْتَأْمِر ابنتَه في الزواج ويتعرَّف على رغبتها؛ لقوله ـ عليه السلام ـ: "البِكْرُ تُسْتَأْمَر وإِذْنُها صُماتُها والثَّيِّب تُعرِب عن نفسها".
فمَن تزوَّجت وهي مُجبَرَة أو مُكْرَهة من حقها شرعًا أن تَعْتَرِض على هذا الزواج؛ لِمَا ورد من أن فتاةً أتت إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت له: "يا رسول الله، أبي زوَّجني ابن أخيه لِيَرْفَع خسيستَه وأنا له كارِهة. فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ اذهبي فانكحي نفسَكِ مَن شِئْتِ، فقالت: لا رغبةَ لي عمَّا صنع أبي، ولكن أحببتُ أن أُعَلِّم النساءَ أنه ليس للآباء من أُمورِهِنَّ شيء".(1/901)
في التغالي في المُهور:
قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يا معشرَ الشبابِ، مَن استطاعَ منكم الباءةَ فَلْيَتَزَوَّج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وُجاء".
"والباءة": تكاليف الزوجة من مأكل ومسكن.. إلخ. إذن لم يشترط الإسلام في الراغب في الزواج إلا القُدْرة على تكاليف الأسرة الجديدة، حتى تعيش في كرامة وعِزَّة، أي إنه لم يشترط الغِنَى أو الثراء العريض.
إن المهر أَوْجبَه الإسلام لمصلحة المرأة نفسها، وصَوْنًا لكرامتها، وعزة لنفسها، فلا يصح أن يكون عائقًا عن الزواج أو مُرْهِقًا للزوج.
وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن المهر لشخص أراد الزواج: "التَمِسْ ولو خاتمًا من حديد".
فإذا كان خاتم الحديد يَصْلُح مهرًا للزوجة فالمُغالاة في المهر ليست من سنَّة الإسلام.
والمهر الفادح عائق للزواج، فهو عائق بذلك للغرَض الأصلي من الزواج، وهو عِفَّة الفتى والفتاة؛ مُحافَظة على الطُّهْر للفرد وللمجتمع.
ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أقلُّهُنَّ مَهْرًا أعظَمُهُنَّ بَرَكةً".
والإسلام، وإن لم يضع حدًّا أعلى للمهر، فإن السنة المُطَهَّرة دعَتْ إلى تيسير المهر وتيسير الزواج والحض عليه ـ عند الاستطاعة ـ بكل وسيلة مُمْكِنة، وكان الصدر الأول من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتزوَّجون، ومهر الزوجة أن يُعَلِّمها آيات من القرآن الكريم.
يقول ـ عليه الصلاة ـ لرجل أراد الزواج: "تَزَوَّجْها على ما معك من القرآن"، فتعليم بعض آيات كان هو المهر.
فمن الواجب عدم المُغالاة في المهر، وأن يُيَسِّر الأب لِبَناتِه الزواج بكل السبُل إذا وُجِد الزوج الصالح حتى نُحافِظ على شبابنا وفَتَياتِنا من الانحراف، والحكمة كل الحكمة إنما هو في النصيحة الشريفة التي قالَها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا أتاكم مَن تَرْضَوْنَ دينَه وأمانتَه فزَوِّجُوه إِلَّا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ".(1/902)
إن هذه النصيحة من جوامع كَلِمِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي من الدُّرَر الغالِيَة التي يجب أن تكون شعارَ كل أب في موضوع الزواج.
ونحن خالَفْنَا تعاليم الإسلام وتيسيره للزواج، وحثَّه على التقلُّل من المهر وإباحة الزواج مع تأجيل المهر، فصِرْنا إلى الفتنة والفساد الكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/903)
في التوكيل في الزواج:
الزواج عقد من العقود التي يجوز التوكيل فيها بشرط أن يكون الوكيل من أهل العقود الذين تَصِح عبارتهم.
وعلى هذا يجوز للابن أن يُوَكِّل والدَه في عقد زواجه ويُضيف الأب العقد إلى ابنه؛ لأنه الأصيل فيه، والوالد ما هو إلا سفير معبر عن رأي ابنه فقط، ويكون قَبُوله الزواج لابنه وعقده له كعقد الابن سواءً بسواء.
وهذا التوكيل يجوز سواء أكان الابن غائبًا أم كان حاضرًا، وفي ذلك تيسير كبير لأمور الزواج في حالة غيبة المُوَكِّل.(1/904)
في نكاح المُحرَّمات:
قال ـ تعالى ـ: (وَلَا تَنْكِحُوا ما نكَحَ آباؤُكم من النساءِ إلا ما قد سَلَفَ إنه كانَ فاحشةً ومقتًا وساءَ سبيلًا. حُرِّمتْ عليكم أمهاتُكم وبناتُكم وأخواتُكم وعماتُكم وخالاتُكم وبناتُ الأخِ وبناتُ الأختِ وأمهاتُكم اللَّاتي أرضَعْنَكم وأخواتُكم من الرَّضاعة وأمهاتُ نِسائكم وربائِبُكم اللَّاتي في حُجورِكُمْ مِنْ نِسائكم اللاتي دَخَلْتُمْ بهنَّ فإن لم تكونوا دخلتُم بهِنَّ فلا جناحَ عليكم وحلائِلُ أبنائِكم الذينَ من أصلابِكم وأن تَجْمَعُوا بين الأختينِ إلا ما قد سلَفَ إن الله كان غفورًا رحيمًا. والمحصناتُ من النساءِ إلا ما ملَكَتْ أيمانُكم كتابَ الله عليكُم).
وروى الإمام البخاري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الرَّضاعة تُحَرِّم ما تُحَرِّم الولادة".
قال القرطبي: في الحديث دلالة على أن الرَّضاع يَنْشُر الحرمة بين الرضيع والمرضعة وزوجها، يعني الذي وقع الرضاع بلبن ولدِه منها.
وروى البخاري عن جابر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن تُجْمَع المرأة على عمتها أو خالتها. قال الشافعي: تحريم الجمع بين المذكورين هو قول مَن لَقِيتُه ممَّن لا اختلاف بينهم في ذلك.
وباستقراء هذه الأوامر الصريحة والتحديدات القاطعة فيما يتصل بتحديد المحارم لا نجد امرأة العم أو الخال داخلة فيهنَّ. فليس إحداهما من المُحَرَّمات بالقرآن أو السنة، بشرط أن تكون خالِيَة من الموانع كزواج أو عدة من زوج، وزواج بأختها أو بنت أختها، أو بنت أخيها، ونحو ذلك.
فزوجة الخال داخلة في قوله ـ تعالى ـ عند ذكر المُحَرَّمات من النساء: (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما ورَاءَ ذلكَ). ولم يَرِد في السنة ما يُحَرِّمها.(1/905)
في الشروط الواجب توافرُها في المرأة التي يُعْقَد عليها:
يُشْتَرط في المرأة التي يُعْقَد عليها الزواج أن تكون خالِيَة من الموانع الشرعية، ومن الموانع الشرعية أن تكون في عدة زوج آخر، أو حاملًا، فمَن عقَد على امرأة لا يَعْلَم حقيقة أمرها ثم اكتشف بعد ذلك أنها حامل فالعقد عليها باطل ويجب فسخه؛ لأنها عند العقد لم تكن خالية من الموانع الشرعية، والحمل شاهد على ذلك، وهذا الحمل إن كان شرعيًّا، أي إن كان الحمل من زوج كان قد تزوَّجها فإن العقد يقع في أثناء العدة فيكون باطلًا، أما إن كان الحمل ليس شرعيًّا فإنه فضلًا عن الحمل باعتباره مانعًا فإنها فعلت ما يَتَنافَى وحياةَ الطُّهر والفضيلة، ويقتضي في أعراف المؤمنين الصادقينَ الانفصال دون تشهير أو مُحاولة لإثارة ضَجَّة أو فضيحة، وفي كِلْتا الحالتين يُفْسَخ العقد.(1/906)
في الولاية في الزواج:
أصل الحديث قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أيُّما امرأةٍ نُكِحت بغير إذنِ وَلِيِّها فنِكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن كان دخل بها فلها صَدَاقُها بما استَحلَّ من فَرْجِها، ويُفَرَّق بينهما. والسلطان وَلِيُّ مَن لا وليَّ له".
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم عن عائشة، ورواه الإمام الشافعي ـ أيضًا ـ فيما نقلَه الربيع.
والمُراد بالسلطان هنا الحاكم أو مَن يَنُوب عنه، وهو عند الشافعية في المرتبة الأخيرة من مراتب الأولياء، حيث يبدأ الأولياء في النِّكاح على الترتيب الآتي:
الأب، ثم أبوه، ثم أبوه، ثم أبوه، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب، ثم تنتقل الولاية إلى الحاكم عند فَقْد الأولياء من النسب.
وهذا الترتيب عند الشافعية بين الأولياء شرط لابد منه، ولا تَنْتَقِل الولاية من الولي الأقرب إلى الولي الأبعد إلا في أحوال يُمكن إجمالُها في عدم توفُّر شروط الولاية فيه لصِغَر أو جنون أو فسق أو سفَه ونحو ذلك.
وينتقل حق مباشرة الزواج للسلطان بالولاية العامة في أمور منها:
الإحرام بالنسُك، فإذا كان الولي مُحْرِمًا امتنع من مُباشَرة العقد، وانتقلت الولاية للسلطان ، دون غيره من وليٍّ أبعدَ..
ومنها أن يغيب الولي الأقرب مسافة قصر، ولم يوكِّل عنه وكيلاً.
ومنها أن يكون الولي محبوسًا حبسًا يمنع من مباشرة العقد.
ويُعْتَبَر السلطان عند الشافعية وليًّا غير مُجْبَر، يختص بتزويج الكبيرة العاقلة البالغة بإذنها ورِضاها، فإن كانت بكرًا بالغًا فرضاها يُعرَف بسكوتها عند الاستئذان ما لم تقم قرينة على عدم رضاها كصياح ونحوه، وهذا بالنسبة لرأيها في الزوج.(1/907)
أما في المهر فلابد من رضاها صريحًا إذا كان دون مهر المِثْل، وقال بعض الشافعية: لابد في الرضا عن الزوج من تصريح البِكْر، ولا يكفي سُكوتها بالنسبة للولي غير المُجْبَر.
ولا يجوز له أن يُزَوِّج الصغيرة العاقلة بحال. فإن كانت يتيمة لا أب لها صحَّ له تزويجها بشرطين: أن تبلغ، وأن تحتاج إلى النفقة والخدمة، بحيث لا تَنْدَفِع حاجتها بغير الزواج.
والسفير نائب عن الحاكم الذي يَتْبَعه، ويَصِحُّ له أن يُزَوِّج المرأة الموجودة تحت ولاية بلد إسلامي آخر، إذا لم يكن أبوها أو أحد من أوليائها المُجْبَرين موجودًا معها.(1/908)
في العقد الشرعي:
العقد الشرعي الذي يُكْتَب عن طريق المأذون أو الذي يُسَجَّل في المحكمة على الطريقة المعروفة في أغلب البلاد الإسلامية عمَلِيَّة توثيق. المقصود بها إثبات الزواج كتابة، والرجوع إلى هذه الكتابة عند النِّزاع. وليس هذا التوثيق من شرط العقد، أو من شروط صحة الزواج.
ولم يكن هذا التوثيق قائمًا في عهود الإسلام الأولى، وكان العقد القائم على الإيجاب والقَبُول هو الصورة الوحيدة من صُوَر الزواج.
ولكن المشاكل والاختلافات، والنِّزاع والشِّقاق، والتنصُّل من مسئوليات النكاح وما إلى ذلك دفع الحكومات إلى اشتراط توثيق العقد، وإلا صار الزواج غير مُعْتَرَف به رسميًّا من المحاكم أو الحكومة.
ومن هنا وجب مُراعاة هذا التسجيل للرجوع إليه عند الاختلاف.
فإذا كانت حكومتُهم تشترط في الاعتراف بالنكاح توثيقه بعقد شرعي مكتوب من المحكمة فإن الزواج بدون هذا العقد لا يُعْتَبَر رسميًّا، وإن كان من ناحية الشرع ـ ما دام قد استوفى الشروط ـ مقبولًا.
وإذا لم تشترط حكومتهم ذلك صحَّ الزواج، ولا شيء فيه، وليس من شك في أن الإسلام يَعْتَبِر كل ما يَحْفَظ الأعراض ويَدْعَم الحقوق مطلبًا من مطالبه، ومقصدًا من مقاصده التي راعَى بها إصلاح نظام الحياة. ومن أجل ذلك نَنْصَح بتسجيل العقد وإعلان الزواج والشهادة بصورة لا يَتَأَتَّى فيها الإنكار أو التنصُّل من المسئولية.(1/909)
هل الزواج العُرْفي يُوجِب ما يُوجِبُه الزواج الرسمي؟
إننا لا نُحَبِّذ الزواج العرفي؛ فإن في الزواج الرسمي ما يُغني، وأبواب الزواج الرسمي مُفَتَّحة، فلا حاجة ـ إذن ـ للزواج العُرْفي، وعلى كل حال إذا استكمل الزواج العرفي شروط الزواج في الإسلام فإنه يُوجِب شرعًا ما يُوجِبه الزواج العادي من نفقة والتزام بمقتضيات الزوجية، وإذا ما حصل الانفصال فإنه يُوجِب العدة والنفقة بحسب القواعد المُتَّبَعة.
وهذه الشروط:
الشهود: وهذا الشرط أعلنَه ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ولا مُخالِف له من الصحابة، كما يقول صاحب كتاب بداية المجتهد.
ولقد أوصى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعلان الزواج فيما رواه أبو داود، بل إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُوصي بالوليمة في الزواج.
وأقلُّ درَجات الإعلان الإشهاد، ولا يَقِلُّ الشهود عن رجلين أو رجل وامرأتين، فإن كان الشهود رجلًا وامرأة فقط أو امرأتين فقط؛ فإن النكاح يكون فاسدًا.
فعن ابن الزبير المكي قال: إن عمر بن الخطاب أُتِي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال: هذا نكاح السر ولا أجيزُه.
وهناك شروط أخرى غير الشهود، وهي:
الصداق: "أي المهر".
لقد قال ـ تعالى ـ: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، وقال ـ تعالى ـ: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).(1/910)
وقال ابن يزيد: النِّحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تَسْمِيَته الصداق كَذِبًا بغير حق، ومضمون كلامهم أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتمًا، وأن يكون طيِّب النفس بذلك، يجب أن يُعطي المرأة صداقها طيبًا، فإن طابت نفسُها به بعد تسميته أو عن شيء منه فلْيأكل حلالًا طيبًا، وذلك لقول الله ـ تعالى ـ: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ منه نفسًا فكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) فإذا توافَر في الزواج العُرْفي الشهود والصدَاق فإنه يكون زواجًا شرعيًّا يُلزِم الزوج بكل ما أمر به الشرع، وإن لم يُسَجَّل عند المأذون.
أما إذا لم يتوافَر فيه ذلك فإنه لا يكون زواجًا شرعيًّا.(1/911)
في السن الشرعي للزواج:
لم يشترط الإسلام للزواج سنًّا معينة، ولقد ترك تحديد السن إلى التقاليد المستقيمة، والعُرْف السليم، دون أن يُبطل العقد في أي سِنٍّ كان، ودون أن يُحَرِّمه في أية مرحلة من مراحل العمر.
ولكن الإسلام مع ذلك حرَّم الضرر الذي يُلحقه شخص بآخر متعمدًا.
والقاعدة الإسلامية العامة الشاملة هي: لا ضرَر ولا ضِرار.
وبحسب هذه القاعدة يَحْرُم تزويج البنت الصغيرة في السن إذا ألحق ذلك بها ضررًا دون أن يُبْطِل ذلك العقد، ويَصِح تزويج البنت التي لم تبلُغ الخامسة عشرة، من الناحية الشرعية سواءً أكان والدها حيًّا أم ميتًا.
بيد أن العُرْف السليم، والأوضاع المستقيمة، التي لا يَأْبَاها الشرع، ترى أن حكمة الزواج تتمثَّل في أمور، منها:
1ـ عِفَّة النفس وصَوْنها عن الإثم بالنسبة للفتى والفتاة.
2ـ قيام الزوجة على تدبير شئون المنزل الداخلية.
3ـ ومنها: إنجاب الذرية والقيام على تربيتها تربية تجعل منها لَبِنات صالحة في بناء المجتمع. وكل ذلك، بل بعض ذلك، لا يتأتَّى أبدًا حينما تكون الفتاة في سِنٍّ صغيرة.
وقد حدَّدت المجتمعات الناهضة سنَّ الزواج بستَ عشرةَ سنة، وهي سن مناسبة.(1/912)
في الكفاءة في الزواج:
يجب في الإسلام على والد البنت أو وَلِي أمرها أن يَتَخَيَّر لها الزوج الصالح الكُفْء، وهذه الكفاءة مَرَدُّها إلى الدِّين والصلاح والتقوى؛ فقد ألغى الإسلام الفروق بين الناس في الجنس، وجعل مردَّ القُرْب من الله إلى التقوى. فقال ـ سبحانه ـ: (يا أيُّها الناسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنثَى وجعلناكُمْ شُعوبًا وقبائلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكرمَكُمْ عندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ).
وقد روى أبو داود عن الزهري في سبب نزول هذه الآية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بني بياضة أن يُزَوِّجوا أبا هند امرأة منهم. فقالوا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَنُزَوِّج بناتنا موالِيَنا؟ يَرَوْنَ أن ذلك غير مُسْتَسَاغ فنزلت الآية تُبَيِّن أن درجة القرب من الله إنما هي بالتقوى. وقد قال الله ـ سبحانه ـ: (أتْقَاكُم) ولم يقل أكثركم مالًا، ولا جاهًا، ولا أحسنكم صورة، ولا غير ذلك من الأمور التي تَفْنَى وتَزُول. ويقول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: "لا فضلَ لعربي على عجَمي إلا بالتقوى".
من كل ذلك نعلم أن مرَدَّ الكفاءة إلى التقوى. وأنه إذا تقدَّم الكفءَ لخطبة فتاة فليس لولي الأمر ـ بحسب الإسلام ـ أن يَرُدَّه.(1/913)
في العصمة في يد المرأة:
إذا اشترطت المرأة في عقد الزواج أن تكون عِصْمتُها بيدها فلها ذلك، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون للرجل حق الانفصال عنها بالطلاق، وإنما يكون هناك مُساواة بينهما في وُقوع الانفصال، إذا أحبَّ.(1/914)
في نكاح المرأة، وهي في العِدَّة من رجل آخر:
لا يجوز نكاح المرأة، وهي في العِدَّة من رجل آخر، وعدة الحامل حتى تضع حَمْلَها، قال ـ تعالى ـ: (وأُولَاتِ الأحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). ولا يصح النكاح إذا وقع في العِدَّة.
وعلى ذلك فعقد الزواج الذي يدخل به الرجل على هذه المرأة الحامل غير مُسْتَوْف لشروطه. وهو عقد غير صحيح.
قال مالك والأوزاعي والليث: يُفَرَّق بينهما ولا تَحِل له أبدًا.
قال أبو حنيفة والشافعي والثوري فيمَن دخل على امرأة في عِدَّتها كما هو الأمر هنا: "يُفَرَّق بينهما، وإذا انقضت العِدَّة فلا بأس في تزويجه إياها مرة أخرى. وعلى كلٍّ فلها الصداق بما استَحَلَّ منها..".
ولكن لمَن يُنْسَب الولد؟
الراجح عدم تأثير مائه في نسب الولد، وانتساب الولد إلى والده الأصلي.
ونَخْلُص من ذلك إلى أن هذه المرأة آثِمَةٌ بهذا الزواج، على الزوج مُفارَقَتُها حتى تنقضي العدة ـ فإذا انقضت العدة تَقَدَّم إليها بمهر جديد وعقد جديد، وعلى القول بأنها تَحِلُّ له ولا تحرم عليه بهذا النكاح، وهو ما نُرَجِّحه، ولا تأثير لهذا الزواج الباطل في نسب الولد إلى أبيه الأصلي.(1/915)
في آداب الزواج:
يقول الله ـ تعالى ـ في موضع الامتنان والتفضُّل، وفي موضع إظهار آياته وحكمته السارية في الكون: (وَمِنْ آياتِهِ أنْ خلَقَ لكُمْ من أنفسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
وما من ريب في أن الزواج من سُنَن الإسلام، ولقد كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يَعْرِضُون بناتهم وقريباتهم على الصالحين الأكْفَاء دون مُغالاة في مهر أو تكلُّف أيًّا كان، وهذا هو طريق الرشاد، أما وُقوف الأب أو وَلِي الأمر عقَبَةً في سبيل زواج ابنته أو إحدى قريباته، وامتناعه عن إتمام ذلك عند وُجود الكُفء فإنه حرام، ومَن فعل ذلك كان آثمًا من الوجهة الدينية، وكان آثمًا من الوِجْهة الخُلُقية، وذلك أن الزواج أغضُّ للبصر، وأصوَنُ للعِرْض، وهو قانون الفطرة، فإذا منع الولد ابنتَه من الزواج تعسفًا ففي إمكان الإخوة التحايُل على أن يَتِمَِّ الزواج دون حاجة إلى مُوافقة الأب، ويكفي أن تُوَكِّل الأخت أخاها أمام اثنين من الشهود في تزويجها.
أما خُضوع الرجل لزوجته خضوعًا يُخالف فيه آداب الدين والإنسانية فإنه ليس من الدين، وليس من الرجولة.(1/916)
في احترام أهل الزوج:
يُطالِب الإسلام الزوجات باحترام أهل أزواجهنَّ، ومعاملتهم بالحسنى.
وتختلف أساليب المعاملة بأخلاق البيئات. فإذا كان مِثْل هذا النداء فيه استهانة بأهل الزوج، أو تحقير لهم فهو حرام وإساءة أدب، وقد قال ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا يسخَرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيرًا منهنَّ).
وفي الحديث الصحيح: "المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمه ولا يُسلمه. بحسب امرئٍ من الشر أن يُحَقِّر أخاه المسلم".
ويتأكد هذا الحق بتلك الصلة الوثيقة صِلَة المصاهرة.
وإن كان مِثْل هذا النداء على وجه التخفُّف والتلطُّف ورَفْع الكُلْفة فلا شيء فيه مع مَن هم في سِنِّهِنَّ أو في مرتَبَتِهِنَّ، أما مع الكِبار فلابد أن يكون مسبوقًا بما يُشعر بالاحترام.
وقد جعل الإسلام زوجة الابن كالابنة في تحريم نكاحها، وجعلها بالنسبة إلى الأب كالمحرمات من النسب، قال ـ تعالى ـ في ذِكْر المُحَرَّمات من النساء: (وَحلائِلُ أبنائِكُمُ الذينَ من أصلابِكُم).
على مِثْل هؤلاء الزوجات أن يُراعِين آداب الإسلام العالِيَة، وإرشاداته السامِيَة، رفعًا لمستوى الأخلاق، وتحسينًا لمظهر الأسرة.(1/917)
في طاعة المرأة لزوجها:
طاعة المرأة لزوجها واجبة، وامتثالها لأمره حثَّ عليه الإسلام ورغَّب فيه، ولا تملك أن تُحَرِّم زوجها على نفسها؛ فإن العصمة بيده، هو الذي يَملِك مُفارَقَتَها أو تحريمها على نفسه.
فإذا حَرَّمت المرأة زوجَها على نفسها فمعنى ذلك أنها أرادت هُجْرانه والابتعاد عنه، وهو معصية.
وتحريم الحلال ـ كما يقول الفقهاء ـ يَمِين، فكأنها في هذه الحالة قد حلفت أن لا تُكَلِّمه أو تُعاشِرَه، وهذا معصية لله.
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَن حلَف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها فلْيَأْتِ الذي خير ولْيُكَفِّر عن يمينه".
فوجب على هذه الزوجة أن تَحْنَث في هذا اليمين وتَرجِع إلى مُكالمة زوجها واستماع كلامه وامتثال طاعته، ووجب عليها كذلك كفارة اليمين، وهي ـ كما ورد في القرآن ـ: (إِطْعَامُ عشرةِ مَساكينَ من أوسطِ ما تُطعِمُونَ أهليكُمْ أَوْ كِسوتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبةٍ فمَنْ لَمْ يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلكَ كفَّارة أيمانِكُمْ إذا حَلَفْتُم).(1/918)
في حكم تعدُّد الزوجات:
حكم تعدُّد الزوجات "في الإسلام" جائز بشرط أن يَعْدِل بينهنَّ في الطعام والشراب والمَبِيت وما إلى ذلك، وأن يستطيع القيام بحقوق الزوجات.
قال ـ تعالى ـ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا في اليتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لكمْ منَ النساءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فوَاحِدةً).
أي أن تعدد الزوجات جائز فيكون للرجل زوجة أو زوجتان أو ثلاث أو أربع نسوة، ولا تصح الزيادة على ذلك. وقد فرَّق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الرجل وزوجاته الأكثر من أربع عند إسلامه.
وكان الكثيرون من السلَف الصالح يجمع أحدُهم عن طريق الزواج بين اثنين أو ثلاث أو أربع.
وفي مصر قليل ممَّن يجمعون بين زوجتين، ومن النادر جدًّا أن نجد في مصر مَن يجمع بين ثلاث زوجات، ولا نكاد نجد مَن هو متزوج بأربع.
وعلى كل حال فإن الحكم الشرعي لا يتوقَّف على عمل المسلمين به.
ويجب أن يكون مستقرًّا في الأذهان أن تعدد الزوجات جائز بشروطه المعروفة، وأنه ليس بواجب.(1/919)
في وجوب العدل بين الزوجات:
العدل بين الزوجات واجب؛ لقوله ـ تعالى ـ: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فواحدةً أو ما ملَكَتْ أيمانُكم).
ولِمَا ثبت من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أراد السفر أقرع بينهن. وهذا العدل مُقَيَّد بحُضورهما عنده.
فإذا كانت إحداهما في مُستشفى فلا بأس من الإقامة عند الأخرى؛ فقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأخذ إحدى زوجاته في السفر ويترك الأخريات، ولم يكن يدَع المُكوث عندها في حصة الأخْرَيَات، فالعدل بينهما مُقَيَّد بما إذا لم تمنع منه موانع غير مقصودة.
ولو استأذن الزوج زوجتَه المريضة في ذلك لكان جبرًا لخاطرِها وأرضى لربه، ومع ذلك فله أن يَبِيت عند الأخرى دون أن يَسْتَأْذِن المريضة.(1/920)
في الزواج من الأمَةِ:
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حتى يُؤْمِنَّ وَلَأمَةٌ مُؤْمِنةٌ خيرٌ من مُشركةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ).
يُؤخَذ من هذه الآية أنه يجوز التزوُّج بالأمة، ولكن هذا الجواز أو هذه الإباحة من الشرع مشروطة بشروط، وقد بيَّن القرآن بعض هذه الشروط فقال ـ سبحانه ـ في سورة النساء في الآية رقم 25: (ومَن لم يستطعْ منكم طَوْلًا أن يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المؤمناتِ فمِنْ ما ملكَتْ أيمانُكم من فتَياتِكُمُ المؤمناتِ). والطَّوْل هو القدرة على تزوُّج الحرة، والآية تنص صراحةً على أن إباحة الزواج بالأمة، إنما تكون عند العجز عجزًا تامًّا عن الزواج بالحرة.
وقد تَبَيَّن أئمتنا الفقهاء ـ رضي الله عنه ـ أن الزوج بالأمة مشروط بشرطين:
الشرط الأول: العجز عن الزواج بحرة.
الشرط الثاني: أن يخشى الرجل على نفسه الوُقوع في الزنى.
من هذا نَتَبَيَّن رأي الإسلام في هذا الموضوع.(1/921)
في مَن يريد طلاق زوجته لمرضه:
ليس مرض الزوج من الأسباب التي تُوجِب عليه أن يُطلِّق زوجته. وقد تجد زوجة المريض التي أنجبت منه أولادًا شيئًا من راحة الضمير، ومن الشعور بلذَّة التضحِيَة ـ وللتضحية لذة ـ حينما تُوَطِّن النفس على تخصيص حياتها لرعاية أولادها والعطف على زوجها الذي لم يسئ إليها صحيحًا سليمًا، والذي سيعرف لها جميل عنايتها وهو مريض.
وأمر الطلاق ـ إذن ـ في هذه الحالة ليس مردُّه إلى واجب ديني، وإنما مردُّه إلى رغبة الزوجة نفسها، وإلى ضمير الزوج بالنسبة لها.
فإذا رَغِبت الزوجة في استمرار الحياة فلْيَحْمَد الزوج الله ويحمد زوجته على مَوْقِفِها الكريم، أما إذا رَغِبَت في الطلاق فلْيُسَرِّحْها سراحًا جميلًا معتذرًا عنها في نفسه، راضيًا بقضاء الله، صابرًا عليه، مُحْتَسِبًا له.
والله لا يُضيع أجر الصابرين، وإن الله مع الصابرين.(1/922)
هل يجوز الزواج ممَّن لا دِين لها؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حتى يُؤْمِنَّ ولَأَمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتْكُم ولا تُنكحوا المشركينَ حتى يُؤمنوا ولَعَبْد مؤمن خير من مشركٍ ولو أعجبَكم أولئكَ يَدْعُون إلى النارِ واللهُ يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنِه ويُبَيِّن آياتِه للناسِ لعلَّهم يَتَذَكَّرونَ).
وقد حرم الله نكاح المُشركات لبُطلان عقيدتهن بُطلانًا تامًّا فيُؤَثِّر على الذرية، إذ تخرج مُشْرِكة مُتَأَثِّرة بالأم، وكذلك الحكم في المرأة التي لا دين لها؛ فإن الأبناء منها يَنْشَئون متأثرين بها فينشئون غير متدينين.
أما الكِتابِيَّات فإن الإسلام يُبِيح الزواج منهن، يقول الله ـ تعالى ـ: (وَطعامُ الذينَ أُوتوا الكتابَ حِلٌّ لكم وَطعامُكمْ حِلٌّ لهم والمُحْصَناتُ من المؤمناتِ والمحصناتُ من الذين أُوتوا الكتابَ من قبلِكم إذا آتَيْتُموهُنَّ أُجورَهُنَّ مُحصِنِينَ غيرَ مُسَافِحينَ ولا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ).
والجو الإسلامي كله يدل على أن زواج المسلم لا يجوز إلا من مسلمة، وهذا هو الأولى، ويَصِح عند الضرورة أن يكون من كِتَابِيَّة، أما المُشْرِكة والتي لا دين لها فلا يجوز الزواج منها.(1/923)
في تحديد النسل وعلاقته بالزواج:
إذا كانت المرأة تُعاني آلامًا عند الوضع لا تُطيقها وتَتَضرَّر منها وتخاف على نفسها من الهلاك، وذلك بتقرير طبيب مسلم حاذق فلها أن تُحَدِّد نسلها لهذا السبب؛ لأن المحافظة على حياتها وعلى صحتها أولى من النسل وأحق؛ لأنها حياة مُتَحَقِّقة ولها منافعها، فلا تتعرض للأخطار في سبيل حمل قد ينزل حيًّا أو ميتًا.
ولا شيء في ذلك عليها من ناحية الشرع، والإسلام يُبِيح لها ذلك.(1/924)
في ثمرة الزواج:
إن ثمرة الزواج الأصلية هي النسل والإنجاب، وهو الذي امتن الله ـ سبحانه، وتعالى ـ به على عباده في قوله: (واللهُ جعلَ لكم من أنفسِكم أزواجًا وجعلَ لكم من أزواجِكم بَنِينَ وحَفَدةً ورزَقَكُم من الطيِّباتِ).
ومن حق الزوج على زوجته أن تُحقِّق له نعمة البُنُوَّة ليَسْعَد بأن يكون أبًا ويرى امتداد حياته وذِكْراه في ابنه.
ومن حق الزوجة لذلك أن تشعُر بنعمة الأمومة التي تدعوها إليها فطرتُها وطبيعتها. هذا إذا كان في الزوجين صلاحِيَة الإنجاب.
أما إذا كانت الزوجة لا تُنْجِب فَلِزَوْجها أن يتزوَّج بأخرى طلَبًا للذرية والنسل مع وجوب إحسان مُعاشرة زوجته الأولى وأداء حقِّها كاملًا، إلا إذا رغبت هي في الطلاق ورَضِي أن يُطَلِّقها فلها ذلك برضاهما.(1/925)
في حكم المسلم الذي يضرب زوجته:
يقول الله ـ تعالى ـ: (واللاتي تَخافُونَّ نُشوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهجُروهنَّ في المضاجعِ واضْرِبوهنَّ فَإِنْ أطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عليهنَّ سبيلًا إن الله كانَ عَلِيًّا كبيرًا).
وهذه الآية تُبَيِّن مدى حِرْص الإسلام على بقاء الصِّلة الزوجية، وأن لا يكون الانفصال نتيجة لخلاف ولو كان يسيرًا.
لقد بيَّن الله ـ سبحانه، وتعالى ـ في هذه الآية القواعد التي تُتَّبَع، وذلك أنه إذا نشزت المرأة أي عصت وساءت عِشْرَتُها وتَرَفَّعت عن الطاعة، يُقال في اللغة: "نَشَزَت المرأة بزوجها وعلى زوجها: استعصت عليه، وارتفعت عليه، وأبغضتْه، وخرجت عن طاعته".
إذا فعلت ذلك فإنه ـ سبحانه، وتعالى ـ يُبَيِّن أن العلاج لذلك ليس هو الطلاق، وإنما هو في درجته الأولى النصيحة والوَعْظ، يقول ـ سبحانه ـ: (فَعِظُوهُنَّ) أي: بَيِّنوا لهنَّ سوء أفعالهنَّ، والنتيجة السيئة التي تَتَرَتَّب على ذلك، وأن ذلك خلاف القواعد المُرَغِّبة في الدين الذي أوجب حق الزوج على الزوجة، وحرَّم عليها معصيَتَه، فإن استمرت الزوجة في عِصْيانها وإساءتها لزوجها فإن المرحلة الثانية في العِلاج هي هَجْرُها في المضجع.
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَاهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ).
أي: في النوم والصلة الجنسية، والكلام ـ أيضًاـ فإذا لم يُفِد ذلك بعدُ تأتي المرحلة الثالثة قبل الانفصال، وهو أن يَضْرِبَها ضربًا غير شديد ولا شاقٍّ، ولقد سأل أحد الصحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: يا رسول الله، ما حقُّ زوجة أحدِنا عليه؟ قال: "أن تُطعمها إذا طَعِمْتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرِب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تَهْجُر إلا في البيت".(1/926)
كل هذا من أجل عدم الانفصال في الزوجية، وكل ذلك علاج لسوء العشرة بين الزوجين، ومع ذلك فإن الإسلام يُوصي دائمًا بالنساء، وفي حِجَّة الوداع يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اتقوا اللهَ في النساء، فإنهن عوانٌ عندكم، ولكم عليهن أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكْرَهُونه"، ويختم الله ـ سبحانه، وتعالى ـ بقوله: (فإِنْ أطعْنَكم فلا تَبْغُوا عليهنَّ سبيلًا. إن الله كانَ عليًّا كبيرًا).
وعلى هذا فإن الضرب الخفيف يأتي بعد استنفاد مراحل العلاج الأخرى، وكل ذلك حرصًا على دوام العلاقة الزوجية، وليس على الزوج من إثم إذا التزم قواعد الدِّين في ذلك، أما الزوجة التي لا تَلْقَى إلا الظلم من زوجها والإهانة والضرب ظلمًا وعُدوانًا فلها أن تطلب الطلاق من زوجها والانفصال عنه، وزوجها يكون مُخالِفًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال: "استَوْصُوا بالنساء خيرًا".(1/927)
في الواجب على الزوج بالنسبة لزوجته:
إن الواجب على الزوج الذي يَنْشُد السعادة الزوجية، ويفوز برضا الله ـ تعالى ـ يوم القيامة أن يُحسن إلى زوجته، ويُعطيها حقَّها كاملًا غير منقوص من نفقة ومئونة وكسوة، عن طيب نفس، ولين من القول. وهو مسئول عن ذلك وآثِمٌ في تقصيره.
ففي الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه والنسائي عن أنس مرفوعًا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن اللهَ سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أَحِفَظ أم ضيَّعَ حتى يسأل الرجلَ عن أهلِ بيتِه.
وإن من واجب الزوج ـ أيضًاـ أن يقوم بتعليم زوجته، قال أهل العلم: "ومتى كان الرجل قائمًا بتعليم ما يجب لزوجته، امتنع عليها الخروج لسؤال العلماء، وكذا إن ناب عنها في السؤال وعرَّفها الجواب، فإن لم يكن ذلك فلها الخُروج للسؤال، بل واجب عليها ذلك، ويعصي الرجل بمنعها، ومهما أهملت المرأة حُكْمًا من الأحكام الواجبة، ولم يُعَلِّمها الرجل إياه شاركَها في الإثم، وصدق الله العظيم إذ يقول: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا قُوا أنفسَكم وأهليكم نارًا). فالزوج مُكَلَّف بتعليم زوجته جميع ذلك.(1/928)
في زوج سافَر وترك زوجته لمدة سنتين، وبعد عودته وجد أن قاضيًا قد حكم بطلاق الزوجة، فهل يَصِح مثل هذا الحكم؟
الزواج عقد يُقْصَد منه سكن كلٍّ من الزوجين إلى الآخر وتمتُّعه وإيناسُه به، فإذا غاب الزوج عن زوجته مدة لا تحتملها عادةً؛ فخشية وُقوع الفتنة للزوجة من أجل هذا الغياب أجازت بعض المذاهب طلب التفريق للضرَر، ويقوم بهذا التفريق القاضي رفعًا للضرر عن الزوجة.
والغياب المُجيز للتفريق هو الذي يكون بغير عُذْر مقبول، أما إذا كان بعذر مقبول فلا تفريق؛ لأنه لا يَقْصِد بذلك الأذى.
وهذا هو مذهب مالك وأحمد؛ لأن المرأة قد تقع في جريمة دينية بإهمالها وتَرْكها تعيش من غير عَشِير يُؤْنِسُها، "ولا ضررَ ولا ضِرارَ في الإسلام".
وقد جعل الإمام أحمد أدنى مدة يجوز أن تطلب التفريق بعدها ستة أشهر؛ لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان لا يجعل الجُنْدَ يَغِيبون عن أزواجهم أكثر من ستة أشهر.
ومذهب مالك قدَّر في رأي له سنة، وبهذا أخذ القانون.
مادة 12: إذا غاب الزوج سنةً فأكثر بلا عُذْر مقبول جاز لزوجته أن تَطلُب إلى القاضي تطليقها بائنًا إذا تضرَّرت من بُعْدِه عنها. ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
والحالة التي في السؤال: أن الزوج غاب سنتين فتطليق القاضي عليه زوجتَه صحيح، ولا اعتراض عليه.(1/929)
في الدخول الخاطئ:
هذا الدخول الخاطئ لجهل كلٍّ من العريس والعروس بصاحبه ـ يَعْتَبِر كل منهما معذورًا فيما يَنْتُج عنه من الجماع... إذا ظن كل واحد منهما أنه مع مَن تَزَوَّج.
وعلى ذلك فإذا ما تَبَيَّن الخطأ.. توقَّف كلٌّ من الزوجين عن مُقارَبة مَن دخل عليها خطأ حتى تستَبْرِئ أي تَمُرَّ فترة العِدة.. وهي ثلاثة قروء.
فإن لم يظهر حمل حلَّت كل منهما من هذا الوَطْء وأصبحت بالخِيَار. إما أن تعود إلى صاحب العقد.. وإما أن تستَمِرَّ مع مَن دخلَت عليه ولها صداق المِثْل. ويُعَوَّض صاحب العقد الأصلي عما بَذَل من صداق.
وإن ظهر حمل.. استمرَّت العدة إلى حين الولادة، وينتسب الولد إلى أبيه الذي دخل على أمه.. وبعد الولادة: لها الخِيَار في أن تستمر مع أبي الولد ولها صداق المِثْل، أو تعود إلى زوجها الذي عقَد عليها.
هذا، ومن الواجب على كل مسلم أن يَتَثَبَّت ممَّن يُريد مُباشرَتَها ويتحقق من أنها زوجته، وذلك الواجب ـ أيضًاـ على كل مسلمة فعليها أن تَتَثَبَّت ممَّن يُحاول الاتصال بها، ومِثْل هذه المسألة في كتُب الفقه افتراض بعيد عن واقع الحياة افترضه العلماء سعيًا لحصر المسائل المُمْكِنة الحدوث، كما يتصوَّرها عقل الإنسان وموقف الدين منها.(1/930)
في هل تعتدُّ الزوجة بعد وفاة زوجها مباشرةً، أم تبدأ العدة من يوم الجمعة؟
عدة الزوجة المتوفَّى عنها زوجُها تبدأ من حين الوَفاة مُباشرة؛ لقول الله ـ تعالى ـ: (والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا يَتَرَبَّصْنَ بأنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهرٍ وَعَشْرًا فإذا بَلَغْنَ أجلَهنَّ فلا جُناحَ عليكُمْ فيما فَعَلْنَ في أنفُسِهِنَّ بالمعروفِ واللهُ بما تَعْملونَ خبيرٌ).
وعلى هذا جرى العمل منذ نزلت الآية الكريمة إلى وقتنا هذا..
وهذه العدة التي أشارت إليها الآية الكريمة هي للَّتي لم تكن حاملًا حال وفاة زوجها.
أما مَن كانت حاملًا فعدتها بوضع الحمل لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: (وأولاتُ الأحمالِ أجلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). والقول بأن العدة تبدأ من يوم الجمعة لا أصل له.(1/931)
في عدة الوفاة:
يقول الله ـ سبحانه، وتعالى: (والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا يتربصْنَ بأنفسِهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا فإذا بَلَغْنَ أجلَهُنَّ فلَا جُناحَ عليكُمْ فيما فَعَلْنَ في أنفُسِهنَّ بالمعروفِ والله بما تعملونَ خَبيرٌ).
فالزوجة التي يُتَوَفَّى عنها زوجُها تعتدُّ عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرًا بمقتضى هذه الآية، ولا فرق في ذلك بين المدخول بها وغير المدخول بها؛ لعموم الآية، وكذلك لها الحق في الميراث من زوجها المُتَوَفَّى.
روى الإمام أحمد أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوَّج امرأة فمات عنها، ولم يدخل بها ولم يَفْرِض لها، فتردَّدوا إليه مرارًا في ذلك فقال: أقول فيها برأيي فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بَرِيئان منه. لها الصداق كاملًا، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: "سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى به في بروع بنت واثق"، ففرح عبد الله بذلك فَرَحًا شديدًا.(1/932)
في الزوجات الصالحات في الدنيا يكنَّ مع أزواجهنَّ في الجنة:
إذا مات الرجل على الإسلام وكانت زوجته مسلمة ودخلَا الجنة فإن زوجته تكون له في الجنة، وإن تعدَّدت الزوجات فهنَّ زوجاته ـ أيضًاـ لا فرق بين الأولى وغيرها، وستُنْزَع الغَيْرة منهن في الجنة؛ لأن الجنة دار صفاء لا كدر فيها كما قال ـ تعالى ـ: (ونَزَعْنَا ما في صدورِهم من غِلٍّ إخوانًا على سُرُرٍ مُتقابلينَ. لا يَمَسُّهم فيها نَصَبٌ وما هم منها بمُخرَجينَ).
وإذا كانت المرأة قد تزوَّجت برجلين فإنها تكون زوجة لمَن ماتت، وهي على ذمته، فهو زوجها الأخير الذي سيكون زوجًا لها في الآخرة. وذلك أنها ماتت وهي في عصمته، فهي زوجته عند موتها، ولو كان هو الذي مات قبلها فإنها تَرِثه وتستمر مُنْتَسِبة إليه ما دامت لم تتزوج غيره.(1/933)
في الحامل تنتهي عدتها بالوضع، فهل يكون الأمر كذلك إذا وضعت بعد وفاة زوجها بيومين أو ثلاثة أيام.. وإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز لها أن تتزوج رجلًا آخر؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذَرُون أزواجًا يتربصنَ بأنفسِهِنَّ أربعةَ أشهر وعشرًا فإذا بَلَغْنَ أجلَهُنَّ فلا جُناحَ عليكم فيما فعلْنَ في أنفُسِهِنَّ بالمعروفِ واللهُ بما تَعْمَلُونَ خبيرٌ).
ويُؤْخَذ من الآية أن التي يُتَوَفَّى عنها زوجُها تَعْتَدُّ بأربعة أشهر وعشر ليالٍ، وهذا حكم عام في جميع الزوجات إلا الزوجة التي تُوفِّي عنها زوجُها وهي حامل، فإن عِدَّتها بوَضْع الحمل، لعموم قوله ـ تعالى ـ: (وَأُولاتُ الأحمالِ أَجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ولو لم تَمْكُث سوى لحظة، وبهذا تكون قد انقضت عِدَّتها وحُلَّ لها أن تتزوَّج رجلًا آخر بعد أن تَطْهُر من نِفاسها.
أخرج الصحيحان أن سبيعة الأسلمية تُوفِّي عنها زوجُها سعد بن خولة، وهي حامل فلم تَنْشب أن وضعت حملها بعد وفاته بلَيال، فلما تَعَلَّت من نِفاسها تَجَمَّلت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال لها: ما لي أراكِ مُتَجَمِّلةً، لعلكِ تَرْجِين النكاح؟ والله ما أنتِ بناكح حتى يَمُرَّ عليك أربعة أشهر وعشر.
قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ فأتيتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألتُه عن ذلك فأفتاني بأني قد حللْتُ حين وضعتُ حملي وأمرني بالتزوج إن بدَا لي.(1/934)
في الحكمة من عدة المُتَوَفَّى عنها زوجُها:
الحكمة في أن الله ـ عز وجل ـ جعل عدة الحرة المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، أنها المدة التي تَزُول في نهايتها عادة آلام فِراق الزوج، فجُعِلَت عدة للحرة تلبس فيها ثياب الحِداد التي تُناسب ما ينتابُها من آلام لموت زوجها الذي عاشرتْه بالزواج فكان سكَنًا لها، وكانت سكَنًا له، وقد ربط الله بينهما برباط المودة والرحمة، حتى إذا ما انتهت هذه الآلام بانتهاء تلك المدة، أصبحت تَصلُح لأن تكون زوجة لزوج آخر، لا تُنَغِّص عيشته، بما كان يَنْتَابُها من آلام وفاة الزوج الأول.
وليس المُراد براءة الرحِم بعِدَّة الوفاة، وإنما المراد الحِداد؛ لأن براءة الرحم عُلِمت قبل ذلك بعدة المُطَلَّقة ثلاثة قروء، إن كانت من ذوات الحيض، وثلاثة أشهر إذا كانت لا تحيض.
وعدة الحامل المُتَوَفَّى عنها زوجُها بوضع الحمل طالت المدة أو قصرت، فإن فَرَحها بمولودها يُخَفِّف عنها من آلام وفاة زوجها، وإذا خفَّت الآلام وعلم بالولادة براءة رَحِمها إن قصرت مدة الحمل ـ فإنها وهذه حالتُها تصلُح للزواج مرة أخرى.
أما طُول مدة الحمل ولو زادت عن أربعة أشهر وعشرًا فذلك لأن بها من زوجها ما يمنعها من أن تكون فِراشًا لغيره، وما دامت هذه حالتُها، فإنها تظل في عدة وفاة زوجها الأول إلى وضع حملِها.(1/935)
هل يجوز لرجل طلق زوجته أن يتزوج أختها؟
لقد اهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بالزواج، فرسم له طرُقًا مشروعة، وحدَّد له حدودًا لا يجوز لإنسان أن يتجاوز حِماها، ولا أن يَضِلَّ طريقها نحوه.
من هذه الطرُق وتلكم الحدود أن الإسلام حرَّم على الإنسان الجمع بين الأختين في مسألة الزواج في عقد واحد وحالة واحدة، وجعل الجمع بينهما من الأمور التي حرَّمها الشارع الحكيم، بحيث لا يَصِح لمسلم مهما عظُم أمرُه إباحة هذا الجمع: (وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الأختَيْنِ).
بهذا النص القرآني الكريم، نهى الله ـ سبحانه ـ أن يجمع الإنسان بين الأختين في حالة واحدة من العَقْد والعِشْرة وغير ذلك مما تَقْتَضِيه مصالح الزواج، ولكن بالنسبة لمَن طلَّق زوجته، ثم أراد أن يتزوَّج بأختها فالواقع أن شأن هذا الأمر ظاهر لا خفاء فيه، لا دليل يمنعه، ولا نص يُحَرِّمه، حيث إنه لم يكن جمع بين الأختين، وإنما هو المقصود والمعنى في قوله ـ سبحانه ـ: (إلا ما قد سلَفَ)، أي: كما لا يجوز الجمع بين الأختين، بنص الآية التي تضمَّنت ـ التحريم والنهي ـ وهي: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بين الأختَيْنِ) فقد أباح الإسلام للرجل أن يتزوَّج بأخت زوجَتِه المُطلَّقة بعد طلاق الأولى وانقضاء عدتها، وذلك بنص الآية الكريمة، التي اعتبرت ذلك الأمر أنه قد سلَف ولم يكن جمع بين الأختين: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بينَ الأختَيْنِ إلا ما قدْ سَلَفَ).(1/936)
في جواز أن يتزوَّج الإنسان بزوجة شقيق أبيه:
نَعَم يجوز للإنسان أن يتزوَّج بزوجة شقيق أبيه، ويجوز له ـ أيضًاـ أن يتزوَّج بزوجة شقيقه "أخيه"، ما دامت موانِع الزواج كالرَّضاع مَنْفِيَّةً.
أما جواز الزواج بهما فلأنهما ليستا من المحارم اللاتي ذكرهُنَّ الله في قوله ـ تعالى ـ: (حُرِّمَتْ عليكم أمهاتُكم وبناتُكم وأخواتُكم وعماتُكم وخالاتُكم وبناتُ الأخِ وبناتُ الأختِ وأمهاتُكم اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتُكم من الرَّضاعة...).
واللاتي ذكرهُنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "يَحْرُم من الرَّضاع ما يَحْرُم من النسَبِ".(1/937)
في المُعاشَرة الجنسية دون عَقْد شرعي:
إن المُعاشرة الجنسية دونَ عَقْد شرعي لا تُسَمَّى زواجًا، وإنما هي مُعاشرة يُحَرِّمها الله ورسوله، لا تُبِيحها شريعة، ولا يعترف بها قانون.
ومَن اجتمع بامرأة دون عقد شرعي وظل كذلك حتى أنجبَتْ له أطفالًا تُعْتَبَر حياته معها حياة سِفاح، يُطَبَّق عليها ما يُطَبَّق على حياة السِّفاح من أحكام.
فيكون الأولاد أولاد سِفاح، ولا قيمة لنِسْبَتِهم إلى أبيهم، حيث لا يَعْتَبِر الإسلام السِّفاح سببًا في إقامة حكم شرعي وصلة نسَب بين الوالد ومَن وُلِد له، بل إن ماء السفاح هدَر وما يَنْتُج من الأولاد يُعْتَبَر لقيطًا، حُكْمُه حكم اللقيط، يرعاه أهل الخير وترعاه الدولة، أو يرعاه مَن تَسَبَّب فيه إن فلت من العقاب.. وعليهما إشهار زواجهما شرعًا ليتسنَّى لهما العيش في ظل حياة كريمة في نظر الإسلام ولِيَخْرُجا من الزنى الواقعان فيه باستمرار وعلى الدوام.(1/938)
في الشبهة في الزنى:
مَنْ زُفَّت إليه غير زوجته، وقيل له: هذه زوجتُك فَوَطِئَها يعتقدها زوجته فلا حدَّ، ولا نعلم فيه خلافًا.
وإن لم يَقُل له: هذه زوجتُك أو وَجَد على فراشه امرأةً ظنَّها المدعُوَّة أو اشتبه ذلك لعَماه يعتقدها زوجته فلا حدَّ عليه، وبه قال الشافعي. وحُكِي عن أبي حنيفة أن عليه الحدَّ.
لا يجب الحد بالوَطْء في نكاح مختلف في صحته:
كنكاح المتعة، والنكاح بلا ولي، والتحليل، والنكاح بغير شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها، والخامسة في عدة الرابعة، والبائن، ونكاح المجوسية.
لا يجب الحد على مَن لم يعلم بتحريم الزنى، فإن ادَّعى الجهل بالتحريم، وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بإسلام، أو ناشئ ببادية؛ لأنه يجوز أن يكون صادقًا، وإن كان ممَّن لا يخفى عليه ذلك لم يُقْبَل.
وكذلك إن ادَّعى الجهل بفساد نكاح باطل قُبل قوله؛ لأنه عَلِم قبل قول المُدَّعِي الجهل بتحريم النكاح في العدة.
لا يجب الحد على مُكْرَهة على الزنى. وأما الرجل إذا أُكْرِه على الزنى فلا يُحَدُّ ـ أيضًاـ على أصحِّ الأقوال.
إذا تزوَّج ذات محرم من نسب أو رضاع فوَطِئَها فعليه الحدُّ في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة والنووي: لا حد عليه.
كل عقد أُجْمِع على بُطلانه ـ كنكاح الخامسة أو مُزَوَّجة أو مُعْتَدَّة، أو نكاح المطلقة ثلاثًا ـ إذا وطئ فيه عالمًا بالتحريم فهو زِنًى مُوجِب للحد المشروع فيه قبل العقد، وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة: لا حد فيه.(1/939)
في زواج المسيحي بمسلمة:
من شروط النكاح أن يكون الزوج مسلمًا، فلا يجوز زواج المسيحي بمسلمة، ولا ينعقد هذا الزواج إذا وقع ويجب فسخه.
وإذا أسلم المسيحي وتزوَّج مسلمة، ثم رجع إلى المسيحية فُرِّق بينه وبين زوجته ومنع الأب ابنتَه منه دون طلاق، كما فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالكافرين.
وقد فرَّق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين ابنته زينب وزوجها أبي العاص بن الربيع، ثم ردَّها إليه حين أسلم.
والأصل في ذلك قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا إذا جاءَكُمُ المؤمناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أعلمُ بإيمانِهِنَّ فإن علمتُموهنَّ مُؤمناتٍ فلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لهم ولا هُمْ يَحِلُّون لهنَّ)، وقوله ـ تعالى ـ: (وَلَنْ يجعلَ اللهُ للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلًا).
فمثل هذا الزواج لا يقع شرعًا، ويجوز لأي مسلم أن ينكحها، ولو مع الكافر الذي تزوجها، بشرط أن يَسْتَبْرِئَها أي أن يتوقَّف عن جماعها فترة العدة.
وعلى هذا الوالد ـ إذا لم يُفَرِّق بين بنته وزوجها الذي ارتد عن الإسلام ـ إثم مُخالفة الدين وإيذاء بنتِه، والخروج على ما يجب التمسُّك به من عِزَّة الإسلام وحُرْمة المسلمين.(1/940)
لماذا يمنع الإسلام زواج المسلمة من غير المسلم؟
يمنع الإسلام زواج المسلمة من غير المسلم كي لا يكون لغير المسلم ولاية على مسلمة فيُقِرُّها على فِعْل ما لا يَتَّفِق وتعاليم دينها، أو يُزَيِّن لها ذلك.
وقد حصر الله وِلاية المؤمن له ـ جل جلاله ـ ولرسوله وللمؤمنين دون سواهم، فقال ـ تبارك وتعالى ـ: (إنما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورسولُهُ وَالذينَ آمَنُوا الذينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤتُونَ الزكاةَ وهُمْ رَاكِعُونَ).
وقال ـ عزَّ مِن قائل ـ: (والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعضٍ). ولما كان الزواج يجعل للزوج وِلاية على زوجته بحكم الشرائع والطبائع؛ إذ إن رغبة الزوجة في الغالِب تابعة لرغبة الزوج ونابعة من إرادته، وكانت الزوجة المِثالِيَة تعمل دائمًا على راحة زوجها بتوفير كل ما يُرضيه كي تحظى بإقباله عليها وتعيش معه عيشة مَرْضِيَّة ـ لما كانت حال الزوجة مع زوجها كذلك ـ إلا ما شذَّ، ويخشى على المسلمة أن تُبَدِّل دينها أو تُفَرِّط في شيء منه تَبَعًا لرغبة زوجها غير المسلم ـ مُنِعت من الزواج لذلك حِفاظًا على دينها، وعليها من إلحاق الضرَر بها؛ لِما يرى من مُخالَفَتِها له في عقيدتها التي تُناقض عقيدته، أو حفاظًا على الذرية التي يُخشَى من تَبَلْبُل أفكارها بين كل من الزوجين.(1/941)
في الأحوال الشخصية ومجلس الشعب:
(ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بعدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
من آنٍ لآخر يُثار في المجتمع الإسلامي قانون الأحوال الشخصية، ويختلف الكتَّاب تَبَعًا لأهوائهم، فبعضُهم يستجيب للنص القرآني لا يُريد به بديلًا، وبعضُهم يأخذ في مُحاولة الالتواء بالنص ليُقَرِّبه مما يَجرِي العمل به في الغرب، أو لِيُقَرِّبَه من أهوائه التي يَنْحَرِف بها تَلْبِيَة لرغبة مُنْحَرِفة أو لهوًى جامح.
ولكنك إذا سألتَ الجميعَ فإنهم يقولون لك: نحن مع الوحي ومع الرأي الإسلامي. ولا يُمْكِنهم أن يقولوا غير ذلك حتى لا يُثيروا الرأي العام عليهم. وأحبُّ أن أقول: إن النتيجة الحتمية التي ينتهي إليها كل باحث مُخلص: ينتهي إليها تاريخيًّا، وينتهي إليها إسلاميًّا، أمران بديهيان، وهما من البداهة بحيث لا يُماري فيهما مَن كان في قلبه حبةُ خردل من إيمان.
أما أولهما: فإن الطلاق بيد الرجل، يُوقعه حينما يشاء لحكمة يَراها لا قيد عليه في ذلك ولا تحديد، ذلك هو الأمر الذي سار عليه التشريع الإسلامي منذ أن نشأ التشريع الإسلامي، وهو الأمر الذي يلجأ إليه الغرب الآن حتى في إيطاليا نفسها.
فإذا كان الغرب قد أخذ بمبدأ الطلاق، وبالتالي في التقرُّب إلى الإسلام فهل نحاول نحن الابتعاد عن الإسلام للتقرُّب من الغرب القديم في الوقت الذي يتخلى فيه الغرب عن مبادئه القديمة؟ إنك مهما حاولت، حتى ولو مُتَعَسِّفًا، فلن تجد مناصًا من القول بأن الطلاق بيد الرجل يُوقِعه متى شاء حسْب حكمةٍ يراها. على أنه من المُباح الجائز أن تشترط المرأة عند العقد أن يكون لها حق تطليق نفسها إذا أُضِيرت، فيكون الطلاق بيدها تُوقِعُه حينما ترى أن مصلحتها تقتضي ذلك.
وعن الطلاق يقول المستشرق الفرنسي "إتيين دينيه":(1/942)
"وهل أشدُّ من الحكم على زوجين شابَّين لم يستطيعا لبعضها صبرًا وقد خاب ظنُّهما في الزواج، ولم يُدركا السعادة التي طلَباها من وراء ذلك، هل أشد من الحكم عليهما بأن يُخَلَّدًا يقضيان بقية أيامهما في عذاب ونكَد وشقاء؟ كذلك إذا كان أحدهما عاقرًا؟ أو كان غير كفء لزميله؟ هل يُحرَم الآخر من أن يبني لنفسه بآخر، وأن يُقيم له عائلة من جديد؟ هذا ما يقوله مستشرق غربي".
ويقول الله ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مرتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تَسريحٌ بإحسانٍ). أما عن تعدد الزوجات فإنه من الواضح أن الإسلام يُبِيحه: ذلك واضح نصًّا، وذلك واضح من الوجهة التاريخية، إن ذلك ـ أيضًاـ بدهي، ومهما حاوَل ذوو الأهواء فإنه لا يُمكن للدارس إلا أن يقول: إن التعدُّد مُباح في الإسلام، فعله الخلفاء الراشدون، وفعله الصحابة: كِبارهم وصِغارهم، وفعلَه التابعون، وتابعو التابعين، قرنًا بعد قرن، والقرآن الكريم يَنُصُّ عليه، والأحاديث الشريفة تدل عليه، ثم إن الوضع الاجتماعي يُوجِبُه، وربما يُدهَش بعض الناس لقولنا: إن الوضع الاجتماعي يُوجِبه، ونحن في ذلك نُورِد أمورًا:
1ـ في أحد الأقطار منع زعيم القطر تعدد الزوجات، وحصلت حادثة أمام سمعه وبصره، هذه الحادثة تتلخَّص في أن شخصًا من الأشخاص مُتَزَوِّج، وعنده أولاد من زوجته، ثم أصبحت زوجته هذه في وضع غير صالح من الناحية الجنسية، فكان هو بين أمرين: إما أن يزني، وإما أن يتزوج، ولكن التعدد ممنوع، فماذا يصنع؟
إن امرأته الأولى ليست مسئولة عما حدث لها، هذا قضاء الله بالنسبة لها، فما ذنبُها لتُطَلَّق؟ ولم يُطَلِّقْها؟(1/943)
إنها لم تسئ إليه، لم يُطَلِّق، وإنما ذهب وعقد عقدًا شرعيًّا، على امرأة وتزوجها بحسب الشرع، وأسكنها في مسكن، وكان يذهب إليها ويَبِيت عندها، وبُلِّغ عنه أنه تزوج امرأة أخرى، والقانون لا يَتساهل، وذهبت الشرطة وضبطوه مُتَلَبِّسًا بالجريمة: جريمة الزواج بامرأة أخرى، وأُتِي به للتحقيق، وقالوا له: هل تزوَّجْتَ امرأة أخرى؟ قال... كلَّا..
فقيل له: ولكنكَ كنتَ عندَها.
قال: نَعَم.
وتُنْفِق عليها؟ قال: نعم.
قالوا: وقد استأجرتَ لها هذا المسكن؟
قال: نعم.
قالوا: وتَبِيت عندها؟
قال: وأبيتُ عندها.
قالوا: ماذا تكون إذن؟
قال: إنها عشيقة.
فقالوا له: اذهب لا مَلامَ عليك، لا لوم عليك.
حرَّموها زوجةً بالفعل والتحقيق، تحقيق البوليس، وأباحوها عشيقةً وخَدِينة.
2ـ ويأتي ـ أيضًاـ فيما يتعلق بالتعدُّد أن "إتيين دينيه" مستشرق فرنسي كان قد ذهب إلى الجزائر، في عهد الفرنسيين ـ وهو فرنسي ـ وأقام في الجزائر في بلدة اسمها "بوسعادة" استراح إلى الجو، واستراح إلى الناس، واستراح إلى الخلْق، وكلها أغرتْه: الجو، الطبيعة، الصحراء، الناس، كلها أغرته بأن يُقيم في الجزائر فأقام.
أقام في عهدين: عهد كان فيه عدم التعدُّد، أو الدعوة إلى عدم التعدد، أو الإقلال من التعدد.
فلاحَظ ثلاثَ مُلاحَظات، كتبها باللغة الفرنسية في أحد الكتُب، كتب يقول: حينما مُنِع التعدد والطلاق، وُجِدت ظواهِرُ لم تكن موجودة، أيام إباحة التعدد والطلاق. ما هي هذه الظواهر التي وُجِدَت عند مانع التعدد؟
الأمر الأول: كثرةُ العوانس، هذا أمر.
الأمر الثاني: كثرة الُّلقطاء.
الأمر الثالث: كثرة الأمراض السِّرِّية.
هذه المسائل الثلاثة، حدثت بعد أن مُنِع التعدد، وبعد أن مُنِع الطلاق، وليس معنى إباحة التعدد أنه مفروض، وليس معنى ذلك أنه لابد من التعدد.(1/944)
كلَّا، وأنتم تعلمون أنه مع إباحة التعدد الآن في القاهرة فإنه لا يَزِيد عن نصف في الألف، إن هذا النصف في الألف من الناس فقط هو الذي يُعَدِّد الزوجات، إنه يعدد الزوجات إلى اثنتين.
أما الثلاث والأربع فلا وجود له.. وهكذا الأمر، نعني: يكاد يكون التعدد ـ مع إباحته ـ معدومًا.
ولكن من الوِجْهة النظرية وفي حالات النُّدرة، وفي حالات الحاجة لو فرضنا أن شخصًا من الأشخاص، إما أن يتزوج، وإما أن ينحرف، يُباح له الزواج.
هذا رأي الكاتب الفرنسي الذي يقول، ويشاهد بالتعداد وبالتجربة ما حدث، وما كان.
ثم ماذا: ألم يتزوَّج الخلفاء الأربع كل منهم بأكثر من واحدة، والحسن، والحسين، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم؟ وكلهم: مثنى وثلاث ورباع؟
وبعد: فإن مما يُشبه اليقين عندنا: أن لا يَنْسَاق مجلس الشعب وراء أهواء تنحرف بالإسلام. إنه لا قيود على الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قُيود على التعدُّد إلا من ضمير المسلم.. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).(1/945)
في حكمة مشروعية الطلاق:
إن حكمة مشروعية الطلاق دفع الضرَر الذي يلحق بالزوجين؛ فإن الحياة الزوجية قد تفسد بينهما، فحينئذ يَصِير بقاء النكاح مَفْسَدَةً محضة، وإضرارًا بإلزام الزوج النفقة والسكن، وإمساك المرأة مع سوء العشرة ووقوع الخُصومة والشَّحْناء من غير فائدة. لذلك أباح الشارع الطلاق لإزالة النكاح لِتَزُول المَفْسَدة الحاصلة من النكاح.
قال ـ تعالى ـ: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بإحسانٍ). وقد أجمع العلماء المُجْتَهِدُون من أمة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن الطلاق جائز دفعًا للضرر الذي يعود على الزوجين: (لَا جُناحَ عليكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ).
وقول رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما جاء في سؤال السائل: "أبغضُ الحلالِ إلى الله الطلاقُ، لا يستلزم أن يكون الطلاق مكروهًا كراهيَة أصولية، بل إنه يعني: أن أقرب الحلال للبُغْض الطلاق.
فالمُباح لا يُبَغَّض بالفعل، لكنه قد يَقْرُب له إذا خالَف الأَوْلَى، والطلاق من أشد أفراد خلاف الأولى (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير جـ 2 صلى الله علية وسلم 361).
وكون الطلاق مبغوضًا لا يقتضي أن يترتَّب عليه لازم المكروه الشرعي، إلا إذا كان مكروهًا بالمعنى المُصْطلَح عليه، ولا يلزم أن يكون مكروهًا بالمعنى المصطلح عليه من حيث وصفه بالبُغْض، لكنه يكون كذلك إذ لم يصفه بالإباحة، لكنه وصفه بها، وغاية ما فيه أنه مبغوض إليه ـ سبحانه، وتعالى ـ ولم يترتَّب عليه ما رُتِّب عليه المكروه. (فتح القدير جـ 2 ص 22).(1/946)
وبعد: فيقول الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ في طلاق المرأة غير العفيفة: "لا ينبغي له إمساكها؛ وذلك لأن فيه نقصًا لدينه، ولا يأمَن فسادَها لفِراشه، وإلحاقها به ولدًا ليس هو منه، ولا بأس بعَضْلها في هذه الحال، والتضييق عليها، لتفتدي منه، قال الله ـ تعالى ـ: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا ببعضِ ما آتَيْتُمُوهنَّ إلا أن يَأْتِينَ بفاحشةٍ مُبَيَّنةٍ).(1/947)
في الطلاق وتعدد الزوجات:
إن الدين اتباع، ولا رأي لإنسان فيما أتى به الدين، والطلاق حق، وتعدد الزوجات حق، وكل مَن قال بغير ذلك فهو منحرف.
إن أمور الدين لا تُؤخَذ بالرأي، وإلا لَكانت الفلسفة تكفي عن الوحي، والفلسفة تُنَظِّم أمور المجتمع، ومبادئ اتصال الإنسان بأخيه الإنسان، وتزكِيَة الإنسان لنفسه، تُنَظِّم كل ذلك على أساس بشري فردي، ومنذ بدأت الفلسفة، وهي مختلفة.. وكان سبب اختلافها أنها تَنْبُع عن الإنسان باعتباره فردًا، ولو تُرِك أمر تنظيم المجتمع إلى الإنسان لَحَدث الاختلاف والاضطراب.
وقد أتى الوحي بتنظيم المجتمع: تنظيمه من ناحية الفرد في نفسه، وتنظيمه من ناحية صلة الأفراد بالحاكم. والدين اتباع، ولا رأي لإنسان فيما أتى به الدين، وإذا اختلفنا في شيء من النصوص فإننا نَرُدُّ أمر الاختلاف إلى عمل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى عمل الصحابة ومسلكهم، والله ـ سبحانه، وتعالى ـ يقول: (فلَا وَرَبِّكَ لا يُؤمنونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بينَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِمْ حَرَجًا ممَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
والآنَ نتساءل عن عمل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة فيما يتعلق بتعدد الزوجات، وفيما يتعلق بالطلاق؟(1/948)
إن الله ـ سبحانه، وتعالى ـ وقد بيَّن في كتابه العزيز أن للإنسان أن يتزوج في إطار العدد الذي ذكره، وهو أربع، وعلى أساس منهاج الإباحة فعلت الصحابة وتزوَّج بعضُهم واحدة، وتزوج بعضُهم أكثر من واحدة، وسار النسق على هذا الوضع، إلى أن أصبح المسلمون يشعرون بمُرَكَّب النقص بالنسبة للغرب المسيحي، فأخذوا يتحدثون في همس منذ عشَرات السنين ولا يَجرءون على التصريح؛ لأن الشعوب الإسلامية كانت قوية والإيمان كان عميقًا، ثم أخذ الهمس ينتشر ويَقْوَى شيئًا فشيئًا، إلى أن أصبح إعلانًا صريحًا في الصحف والمجلات وفي غير ذلك من الدوائر، وكل ذلك لا يَتَّفِق مع الدين في شيء، فالدين فيما يتعلق بتعدد الزوجات قولًا وسلوكًا إنما هو الإباحة المُطْلَقة في هذه الحدود التي حددها الله ـ سبحانه، وتعالى ـ وكل مُحاوَلة فيما يتعلق بتقييد التعدد إنما هي مُحاولة خارِجَة عن الدين.
وأذكر في هذا المجال أمرين ذكرتُهما آنفًا:
الأمر الأول: هو ما كتبَه الكاتب الفرنسي الكبير "إتيين دينيه".. لقد عاش في الجزائر فترة من الزمن في مدينة "بوسعادة" ثم كتب يقول: "إن مدينة "بوسعادة" كانت خالِيَة من ثلاثة جرائم حينما كان تعدد الزوجات فيها أمرًا عاديًّا، لقد كانت خالِيَة من العوانس، وخالية من اللقطاء، وخالية من الأمراض السرية.
ولمَّا بدأت في التفَرْنُج وتقييد التعدد انتشر فيها العوانس، وانتشر فيها اللقطاء، وانتشرت فيها الأمراض السرية.. ويأسف هذا الكاتب الفرنسي على أن هذه المدينة لم تتمسَّك بالإسلام تمسكًا يُعفيها من هذه الأوبئة الثلاثة.(1/949)
وحادثة أخرى: في قطر من الأقطار الإسلامية التي قَيَّدت تعدد الزوجات بواحدة، ولأول وجود هذا القانون وكان مُنَفَّذًا بشدة بحيث يُعاقِب عقابًا أليمًا كل مَن خالَفَه في الأيام الأولى لوجود هذا القانون، حدث ـ وكنتُ أنا في البلدة التي وقع فيها الحادث ـ أن رجلًا أصبحت امرأته لا تُصلُح للناحية الجنسية لطارئ من الطوارئ العادِيَة، وكان القانون الموجود يُحَرِّم التزوج مرة ثانية إلا إذا انفصل الشخص عن الزوجة الأولى بحكم القاضي، ولكن هذه الزوجة الأولى عند هذا الرجل زوجة كريمة على نفسِه، وهي أم لأولاده ولا ذنب لها في أن يَفْصِلها عنه بالطلاق، فاستبقاها وتزوَّج زواجًا شرعيًّا بأخرى، واستأجر لها شقة، وكان يَبِيت عندها..وبُلِّغ فيه بأنه تزوَّج بأخرى، وتربَّص البوليس به حتى قبض عليه في غرفة الزوجية، وقادَه مُكَبَّلًا في الحديد ليُعاقَب على الجريمة الشنعاء في نظرهم ـ وهي جريمة الزواج بأخرى ـ وذهب إلى القسم، وبدأ التحقيق، وكانت الأسئلة كما يلي:
هل أنتَ متزوج بأخرى؟
كلَّا، ويقصد في نفسه أنه لم يتزوج بها زواجًا رسميًّا حكوميًّا.
ولكنكَ ضُبِطْتَ الآنَ في غُرفة امرأة ليست لك بزوجة!
نعم.
والتحريات أثبتت أنكَ استأجرتَ هذه الشقة.
نعم.
والتحريات أثبتت أنك تُنْفِق على هذه المرأة.
نعم.
وتَبِيت عندها.
نعم.
إذنْ ماذا تكون هذه المرأة؟
عشيقة!
وهنا أُخْلِي سبيله باعتباره غير آثِمٍ ولا مُذْنِب، وتركوه ينصرف، ولو كان أقر بأنه زوج لهذه المرأة لَزُجَّ به في السجن.
أما فيما يتعلق بالطلاق، فيَكْفِينا في الاستئناس على حكمة مشروعيته ما فعلتْه إيطاليا أخيرًا من إباحة الطلاق، وإيطاليا المسيحية التي بها الفاتيكان.(1/950)
ويَكفينا ما تفعله أمريكا حيث يُسافر الذي يُريد الطلاق من ولاية إلى أخرى، أي من ولاية تُقَيِّد الطلاق إلى ولاية أخرى تُبِيحه لأجل أن يُطَلِّق.. ولعل في ذلك كله ما يُبَيِّن حكمة الله في تشريع التعدُّد، وفي تشريع الطلاق.
على أنه حتى، ولو لم تُفْهَم الحكمة لَوَجب علينا الاتباع، ما دام الوحي قد أتى بهذه المبادئ صريحةً لا لَبْس فيها، وما دام عمل الصحابة في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى مرأى ومسمَع منه، وعملهم بعد وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُرشد إلى الوضع الحقيقي في المسألة الصحيحة، فبعد ذلك كله لا قول لقائل.
وكل مَن قال بخلاف ما نص عليه الوحي الذي طبَّقه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطبَّقه الصحابة بعَمَلِهم، كل مَن قال بغير ذلك فهو منحرف، ونعوذ بالله أن يكون في العصر الحاضر انحراف عما سارت عليه الأمة الإسلامية وانطبق عليه الإجماع مدة أربعة عشر قرنًا.(1/951)
في الطلاق:
ذكر الله ـ سبحانه ـ أحكام الطلاق، وحدَّده في القرآن الكريم، وحدد عدد المرات التي يجوز فيها التطليق فقال ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مرتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ).
وجعل للطلاق سورة خاصة، فصَّل فيها أموره وتحدَّث فيها عن أخباره. أي أن الله ـ تعالى ـ تحدث عن الطلاق كأمر واقع، وضرورة من ضروريات الحياة، فنظَّم له الأحكام ووضع له المقاييس الشرعية اللازمة.
أما عن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أبغضُ الحلالِ إلى الله الطلاقُ" فالمقصود منه أن الطلاق أمر غير محمود، ولم تُجَوِّزه الشريعة إلا للضرورة، فيجب الاقتصار فيه على ما يقتضيه، وعدم الدخول فيه بلا سبب مقبول.
ومن المعلوم أن الشيء قد يكون حرامًا، ولكن الضرورة في نظر الشرع تُجَوِّزه كما في أكل المَيْتة للمُضْطَرِّ، وكما في التعرُّض للموت في الجهاد في سبيل الله، مع أن التعرض للموت مُطلَقًا حرام. قال ـ تعالى ـ: (وَلَا تُلْقُوا بأيدِيكُم إلى التَّهْلُكَةِ).
ونحو ذلك، ثم إن الحديث قد بيَّن أنه أبغض الحلال.. أي أنه في أدنى مراتب الحلال أو الجواز، وليس من الأمور المنهي منها أو الداخلة في دائرة الحرام.
ومعنى أبغض الحلال إلى الله: أقلُّها في دائرة الإباحة والجواز فلا ينبغي اللجوء إليه إلا للضرورة.(1/952)
في عدة الرجل:
إذا طلَّق الرجل زوجتَه طلاقًا يَمْلِك رَجْعتَها فيه ـ بأن يكون الطلاق ليس هو الطلاق الثالث الذي لا تَحِل له زوجتُه بعده حتى تَنْكِح زوجًا غيره ـ فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز له أن يَنْكِح أختَها، وهي في عدتها مِن هذا الطلاق، أو ينكح غيرها إذا كانت هي واحدة من زوجاته الأربع.
أي: أنها، وهي في عدتها من الطلاق الرجعي حكمُها حكم مَن في عصمته من الزوجات يَحرُم عليه نكاح أختها وما إلى ذلك من المُحَرَّمات عليه بسببها ويَحْرُم عليه أن يُكْمِل مَن في عِصْمته إلى أربع بغيرها. وهذا هو ما يُعَبَّر عنه بعدة الرجل. أي تَقَيُّده في التزوج بخُروج مُطَلَّقته من العدة.
وقد أجمع العلماء على ذلك إذا كان الطلاق يُمكن الرجوع فيه، أما إذا كان الطلاق لا يُمكن الرجوع فيه كمَن طلَّقها الطلقة الثالثة فإنه لا يتقيَّد بعدة ويُباح له أن يتزوج.(1/953)
في مَن طلق زوجته ثلاثًا:
الطلاق الثلاث يُحَرِّم الزوجة على زوجها ولا يَحِل له مُعاشَرَتُها حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا ويدخل بها ويُطلقها، بشرط ألا يكون هذا الزوج قد تزوَّجها لأجل التحليل، وبعد عدتها تَحِل لزوجها الأول.
قال ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مرتانِ فإمساكٌ بمعروفٌ أو تسريحٌ بإحسان...) إلى قوله: (فإن طلَّقَها فلا تَحِلُّ له مِن بعدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غيرَهُ).
فمَن طلق زوجته طلاقًا ثلاثًا بانت منه، ولا يَحِلُّ له مُعاشَرَتُها، وإن استمر على معاشرتها كانت معاشرةً في الحرام، ويلزم التفريق بينهما.(1/954)
في الطلاق الذي لم يُسَجَّل في الجهات المختصة:
الطلاق صحيح، وما قيل من أنه لم يقع؛ لأنه لم يسجل في الجهات المختصة، غير صحيح؛ لأن الطلاق وقع بالفعل، والواقع لا يُرْفَع، سُجِّل أو لم يُسَجَّل، ولم يَرِد من لدن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى وقتنا هذا رَفْع الواقع من الطلاق، أو إيقاع غير الواقع منه، فليتقِ الله كل مَن تعرَّض للفتوى فلا يُفتي بغير علم، فيَبُوء بإثمه مَن أفتاه.
وعلى الذين يَسْتَفْتُون أن يلجئوا إلى العلماء المُتَخَصِّصين في الفقه الإسلامي، أو إلى إذاعة جمهورية مصرية العربية التي تُرَحِّب كل الترحيب بأن تُجيبهم على فتاواهم.(1/955)
في التوكيل في الطلاق:
إذا وَكَّل شخص غيره في الطلاق جاز ذلك، كما يجوز التوكيل في الزواج، وهذا الطلاق الذي وقَع بالكتابة والتوقيع والشهود على التوقيع صحيح شرعًا، وكما يكون الطلاق باللفظ يكون بالكتابة، ولا يُشْتَرَط في الطلاق أن يكون بمحضر الزوجة؛ وذلك لأن أمر الطلاق بيد الرجل ويجوز له أن يُنَفِّذَه في أي وقت شاء، تَلَفُّظًا أو كتابة أو توكيلًا، بيد أنه حينما يكون طلقة واحدة فإن للزوج أن يُرْجِع زوجتَه في أي وقت قبل انقضاء العِدَّة دون اختيارها، فإذا انقضت العدة فلابد من عقد جديد.(1/956)
في مَن قال لزوجته: أنت طالق ثلاثًا:
مَن قال لامرأته: "أنت طالق ثلاثًا" وقَع عليها الطلاق الثلاث عند الأئمة الأربعة، ولا تَحِل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، كما قال ـ تعالى ـ: (فَإِنَّ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ له من بعدُ حتى تَنْكِحَ زوجًا غَيْرَهُ).
ويرى بعض أهل العلم أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع به إلا طلقة واحدة رجعية، للزوج أن يُراجع زوجتَه بعدها، وهذا هو ما جرى عليه قانون الأحوال الشخصية، وعليه العمل الآن في المحاكم.
وهو رأي عليه أدلة عقلية ونقلية، وقد أيَّده الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم، وإن لنا في اختلاف الأئمة المَهْدِيِّين رحمةً واسعةً، ولا بأس على مَن يأخذ بهذا الرأي الأخير، إذ العمل جارٍ به في الفتوى والقضاء في مصر الآن.(1/957)
في الخُلْع:
يجوز الخلع بأكثر من المُسَمَّى أو مَهْر المِثْل؛ لقوله ـ تعالى ـ: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدَودَ اللهِ فَلَا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي: فيما افتدتْ به نفسَها من المال قليلًا أو كثيرًا، غير أن الفقهاء قالوا: إن كان النُّشوز منه فيُكْرَه أن يأخذ منها شيئًا؛ لقوله ـ تعالى ـ: (وَإِنْ أردتُم استبدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتيتُمْ إِحداهُنَّ قِنْطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا)، والنهي محمول على الكراهة؛ نظرًا لإطلاق الآية الأولى: (فلا جُناحَ عليهما فيما افتَدَتْ بهِ)، وإن كانت هي الناشزة كَرِه له أنه يأخذ أكثر ممَّا أعطاها؛ لما رُويَ أن "جميلة بنت عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول ـ وقيل: حبيبة بنت سهل ـ كانت تحت ثابت بن قيس بن شاس، فأتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا هو".
وفي رواية أخرى: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ولا أعْتِب عليه في دِين ولا خلُق، ولكني أكرَه الكفرَ في الإسلام"، أي: تكرَه ألا تؤدي حقوق زوجها لبُغْضِها له، فأرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ثابت فقال: قد أعطيتُها حديقةً، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها: أَتَرُدِّين عليه حديقتَه وتملكين أمرَكِ؟ فقالت: نعم، وزيادة، قال: أما الزيادة فلا، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ يا ثابت، خُذ منها ما أعطَيْتَها وخَلِّ سبيلها، ففعل، وأخذ الحديقة، فنزل قوله ـ تعالى ـ: (وَلَا يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذوا مما آتَيْتُموهُنَّ شيئًا إلا أن يَخافا ألا يُقيما حدودَ الله فإن خِفْتُم ألا يُقِيما حدودَ الله فلا جُناح عليهما فيما افتَدَتْ به).
وإن أخذ منها أكثر مما أعطاها حَلَّ له ذلك بمُنْطَلق الآية، وهي قوله ـ تعالى ـ: (فَلَا جُناح عليهما فيما افتدت به).(1/958)
في عدم معرفة الزوجة بالطلاق:
لا يُشْتَرَط في وُقوع الطلاق أن تَشْعُر الزوجة به. وإذا طلَّقها الزوج طلاقًا استنفد فيه مرات الطلاق فلا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره، ثم يَتَزَوَّجها هو من جديد إذا طُلِّقت بسبب من الأسباب من زوجها الثاني.
أما إذا طلَّقها طلاقًا رجعيًّا فله أن يُرجِعَها إلى عصمته ويُدخلها في حياته من جديد.
وأما الأولاد فالأم أحقُّ بهم في حالة الصِّغَر ما لم تتزوَّج؛ لِمَا رُوِي من أن امرأة جاءت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت له: "يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وحِجري له حِواءً، وثديي له سِقاءً، وزعم أبوه أنه يَنْزِعُه مني"، فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "أنتِ أحقُّ به ما لم تَتَزَوَّجِي".
فالأم ـ بشفقتها ـ أحق بالأبناء ما لم تتزوج، إلى أن يستغني الأبناء عن الأم، ويحتاجوا إلى رعاية الأب وعنايته، وتأديبه وتربيته، وقد قَدَّر الفقهاء ذلك بسبع سنين للأبناء الذكور، وتسع سنين للبنات.
ودين الإسلام حكمةٌ كلُّه، فإنه حينما كان الأولاد أحوج ما يكونون إلى الرحمة والشفقة والعطف، كانوا في رعاية الأم، وحينما يكونون أحوج ما يكونون إلى التربية والتهذيب، كانوا في رعاية الأب.(1/959)
في زواج المرأة بغير زوجها، مع بقائها في عصمته أو في العدة:
المرأة المتزوجة بل المُطَلَّقة التي لم تَنْقَضِ عِدَّتُها لا يَحِل لها أن تتزوج بزوج آخر، فإذا احتالت وتزوَّجت كان زواجها زواجًا باطلًا؛ لأنها لا تحل لزوجها ولا يحل لها الزواج بغيره إلا إذا طُلِّقت منه أو مات عنها وانقضت عدتها.
وما لم يَتِمَّ ذلك فإنها تُحَرَّم حُرْمَة مُغَلَّظة على غير زوجها، فما أقدمت عليه المرأة موضوع السؤال عمل لا ترضاه شريعة ولا قانون، ولا تَحِل مُعاشَرَتُها لكائن مَن كان خلاف زوجها، وما يزعمه بعضُ الناس أن هِبَة المرأة للرجل تُحِلُّها له زعم باطل، وهو احتيال منهم للعبَث بالدين والعِرْض والكرامة.
نعم إذا كانت المرأة خالِيَة من الأزواج وعِدَّتهم وعقَد عليها رجل بلفظ الهبة مقصودًا به النكاح بإيجاب وقَبُول شرعيِّين وبحضور شاهِدَيْن كان عقد الزواج صحيحًا عند الحنفية.(1/960)
في مَن تزوَّج بمسيحية؛ رغبةً في إسلامها:
يُمكن للمسلم الذي تزوَّج بامرأة مسيحية رغبة في إسلامها أن يُطَلِّقها متى شاءت، ما دامت لم تقبل الإسلام، وله أن يُبقِيَها؛ لأنها كتابية، وقد أحل الله للمسلمين نكاح الكتابيات.
هذا، وعليه أن يُحسن عِشْرَتَها ولا يُعَجِّل في طلاقها، وما دام قصده من الزواج إسلامها فعليه أن يَعرِض عليها الإسلام عَرْضًا سهلًا مُشَوِّقًا لها فيه، مُبَيِّنًا الحكمة من كل أمر من أوامره أو نهي من نواهيه. قال ـ تعالى ـ: (وَلَا تُجادِلُوا أهلَ الكتابِ إلا بالتي هي أحسنُ).(1/961)
هل يُشْتَرط في الطلاق شعور الزوجة به؟
لا يُشْتَرط في وقع الطلاق أن تَشْعُر به الزوجة، وإذا طلَّقها الزوج طلاقًا استنفد فيه مرات الطلاق فلا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره ثم يتزوجها هو من جديد إذا طُلِّقت بسبب من الأسباب من زوجها الثاني بعد انقضاء عدتها منه، أما إذا طلقها طلاقًا رجعيًّا فله أن يُرْجِعَها إلى عصمته ويُدخلها في حياته من جديد.(1/962)
في مَن يطلب زوجته من أهلها بعد طلاقها وردّها، ولكنهم يُرغِمُونه على عدم رُجوعها بعد أن طلَّقها ثلاث مرات:
الحياة الزوجية إنما شرعها الله ـ سبحانه، وتعالى ـ ليسكن كل من الزوجين إلى الآخر، ويُكَوِّنا أسرة جديدة تكون لَبِنة من لَبِنات المجتمع.
وإذا دبَّ الشِّقاق إلى هذه الأسرة وكان هناك من دواعي الانفصال ما تتعذَّر معه الحياة السعيدة بين الزوجين أمكن الانفصال بينهما بالطلاق، الذي جعله الله بيد الزوج؛ لأنه أقدر على المُحافظة عليه والبُعد به عن التلاعُب، وجعل لهذا الطلاق حدودًا معينة إذا وصل إليها استحالت المُعاشرة الزوجية.
قال ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مرتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ) فإذا طلق الرجل امرأته مرة ونَدِم على ذلك أمكنَه مُراجَعَتُها، فإن طلقها للمرة الثالثة فلا حق له عليها؛ لأنها تكون الآن مطلقة طلاقًا لا رَجْعة فيه، ولا تحل له بعد هذا الطلاق حتى تتزوج غيره زواجًا صحيحًا ويدخل بها، وتنقضي رغبتُه منها، ثم إذا طلقها الزوج الثاني وانقضت عدتها منه جاز لزوجها الأول أن يتزوجها بعد ذلك.
قال ـ تعالى ـ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا) ـ أي بعد المرتين السابقتين ـ (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَهُ). وعلى الذي طلَّق زوجتَه ثلاث مرات ـ إذن ـ أن يَكُفَّ عن طلَب رُجوعها إليه؛ لأنها لا تحل له.(1/963)
هل يجوز استرجاع المهر بعد الطلاق؟
لا يجوز لك استرجاع المهر؛ لأن أول الديون بالقضاء ما استحل به الزوج، وإن كانت هذه الزوجة قد دخلْتَ بها قبل الطلاق فلا يحل لك أخذ شيء منها؛ لقول الله ـ تعالى ـ: (وَإِنْ أرَدْتُم استِبْدالَ زَوْجٍ مكانَ زَوْجٍ وآتيتُمْ إِحْداهُنَّ قنطارًا فلا تأخُذُوا منه شيئًا أتأخُذُونَهُ بُهتانًا وإِثْمًا مبينًا. وكيف تأخُذونَهُ وقدْ أفْضَى بعضُكُمْ إلى بعضٍ وَأَخَذْنَ منكُمْ مِيْثاقًا غَلِيظًا).وإن لم تكن قد دخلتَ بها قبل الطلاق فلها نصف المهر ولك نصفه.(1/964)
في حكم زوجة مسلمة وزوجها مُرْتَدٌّ:
إن هذا الرجل الذي ارتد عن الدين الإسلامي لا يجوز لزوجته التي بَقِيَت على دينها البقاء معه؛ لأنها بانت منه بسبب رِدَّتِه، مسلمةً كانت أو كِتابِيَّةً، دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأن الردة تُنافي النكاح، ووجود السبب المنافي للنكاح مُوجِب للفُرْقة بنفسه، فهو يستحق القتل بردته، ويُخَيَّر في مدة ثلاثة أيام بين التوبة والقتل، ربما تكون عنده شُبْهة فتُزَال، وإن لم يَتُب أُهْدِر دمُه وقُتِل لظُهور إصراره بعدم تَوْبَتِه.
وحكم الأطفال هنا أن يُسَلَّموا للأم ويكونوا في رعايتها؛ لأن الولد يَتْبَع شرعًا خير الأبوين دينًا، والأم خير منه ولو كانت كتابية؛ لأن لها دينًا أصله سماوي، وهو مرتد لا دين له، ومن باب أولى إن كانت مسلمة دينها الإسلام، وهو خير الأديان وناسخها.(1/965)
في البينونة الكبرى:
إذا طلق الرجل زوجتَه أصبحت أجنبيةً عنه، وله أن يُراجعها ما دامت على قيد الحياة، إلا إذا كان الطلاق بائنًا بَيْنُونةً كبرى فلا حق له في ذلك حتى تنكح زوجًا غيره كما نص القرآن الكريم.
فإن ماتت الزوجة وهي مُطلَّقة من زوجها أصبحت غير مَحَلٍّ للمراجعة ولا لعقد الزواج، وعلى ذلك فلا يجوز إعادة عقد الزواج بينها وبين زوجها؛ لأن ذلك عبَث ولا معنى له ولا فائدة فيه، ولا يترتَّب عليه آثار الزوجية.(1/966)
في مَن طلَّق امرأته أكثر من مرتين، بالنسبة لدخوله بيته أكثر من مرتين:
الواقع أن هذه الكثرة لا تَعْنِينا، ولا تَهُمُّنا بشيء؛ وذلك لأن الطلاق مرتان، كما بَيَّنه الله لنا في القرآن الكريم: (الطلاقُ مرتانِ فَإِمْساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ).
وغاية الأمر أن هذه الكثرة لم تأت بجِدِّيَّة، حيث إن الطلاق حصل بالمرتين. ومثل هذه الكثرة إنما تكون، مثل الصائم الذي أفطر في نهاره، ثم أخذ يُكثر من تناوُل الطعام والشراب. والإفطار قد حصل منذ أن تَناول طعامه، أو شرابه لأول مرة، فالتكرار بعد ذلك لا يَزِيد في إفطاره معنى جديدًا.
لذلك فإن لعدم فائدة هذه الكثرة من الأيمان، ولقِلَّة جَدْواها، فإن الشريعة لم تُعِيرها التفاتًا لا في القرآن ولا في السنة، اللهم إلا على طريق الإهدار لحقيقتها، والاستبشاع لصورتها: (وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيمانِكم).
أما كون الرجل قد طلَّق امرأته مائة مرة، بالنسبة لدخوله بيته مائة مرة فالواقع أن هذا ليس من الشريعة في شيء.
حيث إنه لا يُوجَد شيء من الأحكام التي تُصوِّر لنا وُقوع الطلاق مائة مرة؛ لأن نهاية الطلاق مرتان، كما جاء ذلك واضحًا في القرآن الكريم.
وبعد ذلك إنما يكون كله مرادفًا لِمَا وقع منه من طلاق، أو لغو في أيمانه لا يُؤْخَذ به: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللغوِ في أيمانِكُمْ).(1/967)
حق المرأة في طلب الطلاق:
يرى الشافعية أن من حق المرأة أن تطلب الطلاق من زوجها إذا خَشِيَت من التفريط في حق من حقوقه، أو استشعرت كراهيةً عميقة له، قد تُوقِعُها فيما لا يجوز.
وسواء في ذلك أكان طلبُها الطلاق مصحوبًا بعِوَض منها للزوج، وهو ما يُعْرَف بالخلع أم غير مصحوب بعِوَض.
فإذا لم تكن ثَمَّةَ أسباب مما سبق، فإن طلب الزوجة الطلاق من زوجها يُصبح مكروهًا، إذ لا داعي يدعو إليه.
والرجل الذي يتزوج على امرأته لا يُعتَبَر هذا الزواج الجديد مُزيلًا لكراهية طلب الزوجة الأولى الطلاق منه إلا إذا استشعرت من الغَيْرة ما تعجَز عن حَمْله، وإلا إذا تأكَّدت من أنها لن تستطيع الوفاء بحقوقه، فإن الكراهية تزول حينئذ.
وليس من المشروط أن تُبدي الزوجة ـ عند طلب الطلاق من زوجها ـ أسباب الطلاق ـ بل من حقها أن تَسْتُرها إذا لم تجد بُدًّا من إخفائها، وهذا من تيسير الإسلام وسماحته واحترامه للمرأة، وحرصه على أن تقوم الحياة الزوجية على أساس متين من الخلُق والدين.(1/968)
في الحضانة:
لمَّا كان الصغير في حاجة إلى الخدمة والرعاية، ومَزِيد من الشفقة والحنان، وكانت المرأة أقدر على ذلك من الرجل وهي ـ بحكم غريزة الأمومة فيها ـ أكثر حنانًا بالطفل، وأعظم شفقةً عليه، فقد جعلت الشريعة الإسلامية حق حضانة الصغير إلى الأم. وكذلك فعل القانون.
فالأم أحق بحضانة الصغير بالإجماع، وإن كانت كِتابِيَّة أو مجوسية؛ لأن الشفقة لا تختلف باختلاف الدين، ولِمَا رُوِي أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وِعاء، وحجري له حِواء، وثدي له سِقاء، وإن أباه طلَّقني وأراد أن يَنْزِعه مني. فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أنتِ أحقُّ ما لم تتزوجي"، ولأن الأم ـ كما قلنا ـ أشفق وأقدر على الحضانة، فكأن دفع الصغير إليها أنظر له.(1/969)
وروى الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: كانتْ عند عمر امرأة من الأنصار فولدت له عاصمًا، ثم فارَقَها عمر ـ رضي الله عنه ـ فركبَ يومًا إلى قِباء، فوجد ابنه يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعَضُده فوضعه بين يديه، فأدركتْه جدَّةُ الغلام، فنازعَتْه إياه أباه، فأقبل حتى أَتَيَا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال عمر: هذا بعضي، وقالت المرأة: ابني. فقال أبو بكر خَلِّ بينه وبينها؛ فإن ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر، قال أبو بكر ذلك والصحابة حاضرون متوافرون، فلم يُنْكِر ذلك أحد ولم يُعارِضْه عمر، فإن لم تكن للصغير أم بأن ماتت أو تزوجت بأجنبي عن الصغير، أي بغير رحم مَحرَم منه كان حق الحضانة إلى أم الأم وإن بَعُدت؛ لأن ولاية الحضانة تُسْتَفَاد من قِبَل الأمهات؛ لِمَا ذكرنا من موفور شفقتهن، فمَن كانت تُدْلِي بأم فهي أولى ممَّن تدلي بأب، فإن لم تكن له أم الأم بأن كانت ميتة أو متزوجة بغير مَحرَم منه فالحضانة إلى أم الأب، فإن لم تكن له جدة فالحضانة للأخوات، وهن أولى من العمَّات أو الخالات؛ لأنهن أقرب للصغير، لأنهن بنات الأبوين، وتُقَدَّم الأخت لأب ولأم؛ لأنها أشفق، ثم الأخت من الأب؛ لأن الحق لهن قبل الأم، ثم الخالات أولى من العمات ترجيحًا لقرابة الأم، وتُقَدَّم الخالة الشقيقة ثم الخالة من الأم ثم الخالة من الأب، ثم العمات، ويُرَتَّبْنَ كما رُتِّبت الخالات، أي أن العمة الشقيقة أولى، ثم العمة من الأم، ثم العمة من الأب.(1/970)
وكل مَن تزوَّجت من هؤلاء يسقط حقها إلا الجدة إذا كان زوجها الجد؛ لأنه يقوم مقام أبيه في الشفقة عليه، وكذلك كل زوج هو ذو رحم محرم من الصغير لقيام الشفقة؛ نظرًا للقرابة القريبة، ومَن سقط حقُّها بالتزوج يعود حق الحضانة إليها إذا ارتفعت الزوجة، فإن لم يكن للصبي امرأة من أهله انتقلت الحضانة إلى أهله من الرجال، وأَوْلَاهم بها أقربُهم تعصيبًا على الترتيب الوارد في الميراث، غير أن الصغيرة لا تُعطَى "لعصَبة" غير مَحْرَم كابن العم تحرزًا من الفتنة.
هذا، ونرجو أن يكون السائل قد عرف حدَّه بعد هذا البيان مَن أحق بحضانة ابنته.(1/971)
المرأة في صدر الإسلام والمرأة في العصر الراهن:
إن الفرق بين المرأة في صدر الإسلام والمرأة في العصر الحاضر فرق كبير؛ فالمرأة في صدر الإسلام كانت تَعْرِف مُهِمَّتها معرفة صحيحة، كانت تعلم أن المرأة وُجِدت لتكون أمًّا ورَبَّة بيت، وكانت تعلم أن شرَف المرأة إنما هو في هذا، وأن رسالتها، حينما تُؤَدَّى على الوجه الصحيح لها قيمتُها الكبرى بالنسبة للوطن؛ ذلك أن الأم لها الأثر الأكبر في نهضة المواطنين على نَهْج مُعَيَّن من السلوك، والأخلاق، والأم ذات الخلُق الكريم ينشأ أطفالها على خلُق مستقيم، فيكونوا عُمُدًا لنهضة الوطن والرُّقِيِّ نحو المجتمع المنشود، وإذا تمَكَّنت الأخلاق الكريمة وسادت في بيت من البيوت فرَضَت السعادة علية وأحاط به الهناءُ والطمأنينة.
لكن المرأة في العصر الحاضر قد انحرف بها الاتجاه المادي الشيوعي عن رسالتها، وانحرف بها أصحاب أدب الجنس، والمُتْرَفُون وذوو السلوك المنحرِف، وصوَّروا لها أنها لم تُخْلَق إلا للزينة والتبرُّج والمُتْعة.
وبين الاتِّجاه المادي الشيوعي وأدب الجنس، تَأَرْجَحَت المرأة وشَقِيَت البيوت إلا مَن عَصِم الله.(1/972)
في قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "خيرُكم خيرُكُمْ لأهلِه".
يقول الله ـ تعالى ـ مُوصيًا الأزواج بالزوجات: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "خيرُكم خيركم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلي".
ولقد وضع الإسلام نظامًا به تستَقِرُّ الحياة الزوجية وتدوم وتصلُح، ولقد وضع هذا النظام حِرْصًا منه على عدم تفكُّك روابط الأسرة، ورغبة في أن لا تنهار رابطة المودَّة، في هذا النظام يجعل الإسلام من الرجل رَبًّا للأسرة، ويجعل للأزواج حقًّا على نسائهم ولنسائهم حقًّا عليهم، فيُفَسِّر ذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: "ألا إنَّ لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا، فحقُّكم عليهنَّ أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم مَن تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمَن تكرهون، ألا وحقُّهنَّ عليكم أن تُحسِنوا إليهن في كسوتهنَّ وطعامهنَّ".(1/973)
فإذا ما خاف الزوج عِصيان زوجتَه ونُشوزها، فأُولى الخُطُوات التي تُتَّخذ إنما هي وَعْظُها بالحُسْنى، وتذكيرها بما يحب الله أن تكون عليه، فإذا لم يجد ذلك فالخطوة الثانية، إنما هي هجرُها في المضجع واعتزالها عند النوم، فإذا استمرت على عِصْيانها، ولم يُجْدِ ذلك فيها فقد يُجدِي ضربُها ضربًا خفيفًا، فإن أطاعت سارت الحياة بين الزوجين دون تفكُّك ودون انهيار، أما إذا استحكم الشِّقاق والخلاف والعصيان فتكون المرحلة الرابعة والأخيرة، وهي أن يبعث أهل الزوجة حكَمًا ويبعث أهل الزوج حكمًا للإصلاح، وتستمر الحياة الزوجية فلا تنهار، وعن كل ذلك يقول الله ـ سبحانه، وتعالى ـ: (وَاللاتِي تَخافونَ نُشوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُروهنَّ في المضاجعِ واضْرِبوهنَّ فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عليهنَّ سبيلًا إنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كبيرًا. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِمَا فابعَثُوا حَكَمًا مِنْ أهلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُريدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كانَ عليمًا خبيرًا).
وبعد: فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "واسْتَوْصُوا بالنساءِ خَيْرًا فما أكرمهنَّ إلا كريمٌ وما أهانَهُنَّ إلا لَئِيمٌ".(1/974)
في الفتاة المسلمة:
إن الفتاة التي تعيش في طُهْر كامل مِثْلُها مِثْلُ الشاب الطاهر تكون في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظلُّه.. وطُهْر الإنسان وتَزْكِيَة نفسه من سمات المسلم التي أوجبها الله وحث عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيد أن بعض الناس يقع في شِراك الشيطان أو يسير وراء أهواء النفس فإذا استمر على ذلك ومات دون أن يتوب فإنه في مَقْت الله وغضَبِه. وبعض الناس يقع في الإثم ثم يُدرك نفسه فيَرْجِع إلى الله مستغفرًا تائبًا منيبًا، يقول ـ تعالى ـ: (إِنَّمَا التوبةُ على اللهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالةٍ ثمَّ يَتُوبونَ من قريبٍ فأولئكَ يَتوبُ اللهُ عليهم وكانَ اللهُ عليمًا حكيمًا). ويقول ـ تعالى ـ في تعميم شامل: (إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بهِ ويَغفرُ ما دونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ومن البُشْرَيات الجميلة لأمتنا الإسلامية أن الله ـ تعالى ـ يقول عن نفسه: (إنَّ ربَّك واسعُ المغفرةِ).
ويقول ـ سبحانه ـ: (قُلْ يَا عِبادِيَ الذينَ أسرَفُوا على أنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذنوبَ جميعًا إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ). وهو ـ سبحانه ـ يغفرها حينما يتوب الإنسان توبةً صادقةً خالصةً نصوحًا.(1/975)
في الزواج:
يقول الله ـ سبحانه، وتعالى ـ: (وَمِنْ آياتِهِ أن خلقَ لكم من أنفسِكم أزواجًا لِتَسْكُنوا إليها وجعلَ بينَكم مودةً ورحمةً إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرونَ).
فالزواج نعمة من نِعَم الله ـ سبحانه، وتعالى ـ جعله الله رباطًا بين الزوجين بكلمة الله، بينهما المودة والرحمة والتعاطف، يَحْرِص كل منهما على صاحبه وشريكه في الحياة، ويتقاسَمَان يُسْر الحياة وعُسْرَها.
والزوجة التي عاشت مع زوجها في أيام فقرِه وتحمَّلت معه شظَف العيش ومَرارة الحياة، من حقها عليه، أن تُشاركه في النعمة التي أنعم الله بها عليه وتعيش معه في السراء كما عاشت معه في الضراء، ومن الوفاء بالعهد والرعاية لحقوق الزوجية أن يحفظ لها جميلها ولا يَتَنَكَّر لها بعد أن وسَّع الله عليه، أما مَن طلَّق زوجتَه التي عاشت معه أيام المِحْنة وتزوَّج غيرها بعد أن وسَّع الله عليه فهو إنسان خالٍ من المُروءة مُتَجَرِّد من الإنسانية الكاملة، ليست لديه الرجولة أو الشهامة؛ لأنه تسبَّب في هدْم بيته وضيَاع أولاده.
ولعل الله قد وسَّع عليه بسبب هؤلاء فلا يَبْطَر ويَكْفُر بنعمة الله عليه، ولْيُبادر بشُكْرِها، ومن شكر النعمة الوفاء بالعهد، والمُحافظة على الوُدِّ، والإبقاء على العِشْرة السابقة.(1/976)
في حُسْن معاملة أهل الزوج:
إن الواجب على الزوجة فيما يتعلق بأقارب زوجها أن يكون موقفها منهم كموقفه هو بالضبط، يجب عليها أن تَبرهم وتُحسن إليهم، وتتلَطَّف معهم، ويجب عليها بالنسبة لأب أو أم زوجها أن تتحلَّى بما أمر الله به في القرآن الكريم في قوله ـ تعالى ـ: (وَقَضَى ربُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلَّا إيَّاهُ وَبِالوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عندكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فلا تقلْ لهُما أفٍّ ولا تنهَرْهُما وقُلْ لهما قولًا كريمًا. واخفِضْ لهما جَناحَ الذلِّ من الرحمةِ وقلْ ربِّ ارحَمْهُما كمَا رَبَّيَاني صغيرًا).
أما فيما يتعلق بالدعاء: فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: "ولا يَزال يُسْتَجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رَحِمٍ".
والله ـ سبحانه، وتعالى ـ يقول: (إنَّ اللهَ لا يظلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وإنْ تكُ حسنةً يُضاعِفْهَا) أما الحديث الحاسم في الموضوع، فهو ما رواه أبو داود عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: "إن العبد إذا لعَن شيئًا صعدت اللعنةُ إلى السماء فتُغْلَق أبواب السماء دونَها، ثم تَهْبِط إلى الأرض فتُغْلَق أبوابُها دونَها، ثم تأخذ يمينًا وشمالًا فإذا لم تجد مساغًا رجعت إلى الذي يُلْعَن، إن كان أهلًا لذلك، وإلا رجعت إلى قائلها".
ومهما يكن من شيء فإن الإحسان عادة ينتهي إلى الإحسان، والخير يجرُّ عادة إلى الخير، والذي ننصح به أن تستمر الزوجة في حُسن المعاملة لأم زوجها، وإذا استطاعت الزيادة في حسن المعاملة فلتفعل، والله ـ سبحانه، وتعالى ـ لا يُضيع أجر مَن أحسن عملًا.(1/977)
هل المرأة يجب عليها أن تُراعي حقوق زوجها قبل أبيها أو حقوق أبيها قبل زوجها؟
متى تزوَّجت المرأة أصبحت شريكةً لزوجها في الحياة الجديدة، وصار له عليها حقوق يجب عليها أن تُؤَدِّيَها ولا تُقَصِّر فيها، وإلا كانت مسئولةً عنها أمام الله، تعالى.
أخرج ابن حبان في صحيحه، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "والذي نفسي بيده، لا تُؤَدِّي المرأةُ حقَّ ربها حتى تؤدي حق زوجها". وفي الحديث الشريف يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لو أمرتُ أحدًا أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لزوجها"، وللوالد على ابنته كذلك حق البِرِّ والصِّلَة. قال ـ تعالى ـ: (وَقَضَى ربُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحدُهُما أو كِلاهُما فَلَا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تنهَرْهُما وقُلْ لهُما قَوْلًا كريمًا. واخفِضْ لهما جَناحَ الذلِّ من الرحمةِ وقلْ رَبِّ ارحَمْهُما كمَا رَبَّيَاني صغيرًا).
ومتى كان الجميع في محبة وائتلاف، أمكن تحقيق رغبة الزوج ورغبة الأب، وأداء حقهما معًا ما دام الهدف هو مصلحة الأسرة.
أما إذا تعارضت الرغَبات فعليها أن تُطيع زوجها في غير معصية لله، تعالى، وتتلطَّف في الاعتذار للأب من غير أن تَقْطَع الرحم التي أمر الله بها أن تُوصَل، وعلى الوالد كذلك أن يُراعي ظروف ابنته ويكون مُعينًا لها على استقرار حياتها الزوجية، وعلى الزوج أن لا يمنع زوجته عن القيام بحقوق والديها ما دام ذلك لا يُضِرُّ بحقه ولا يُفَوِّت عليه مصلحة هامة تخُصُّه.(1/978)
في منع المسلم زوجته من زيارة أهلها:
ليس مطلوبًا من المسلم أن يَسْتَطْلِع الغيب، أو يتعرَّف على ما سوف يحدُث، وإنما المطلوب منه أن يكون فَطِنًا في تَصَرُّفاته، وأن يَتَّخِذ من الاحتياطات العادية ما يَحُول بينه وبين السوء، ومِن واجِب المسلم أن لا يمنع زوجته من زيارة أهلها، ولكن عليه حينئذ أن لا يَدَعها تخرج وحدَها لزيارتهم، وأن يتأكَّد من أنها لن تذهب إلى غيرهم.
أي أن عليه أن يُراقب سلوك زوجته وتَصَرُّفاتها حتى تَطْمَئِنَّ نفسه إليها، ويأمن عليها الفتنة في مِثْل هذا الخروج.
فإذا ما اطمأنَّ إليها بعد الاختيار، واستأذنتْه في زيارة أهلها فأَذِن لها. فذهبت لترتكب الزنى، فليس عليه من الإثم شيء؛ لأنه لا يد له في الموضوع، والإثم كله عليها.
أما إذا قصَّر في الاختيار أو أهمل في مُلاحظتها والتعرُّف على سلوكها، فإن عليه قسطًا وافرًا من الإثم؛ لأنه فرَّط في واجبه كزوج مسلم، وترك لزوجته الحبل على الغارِب.
والأَوْلى بالمسلم: أن لا يأذَن لزوجته بزيارة أهلها أو غيرهم إلا معه ليطمَئِنَّ قلبُه ويسعد عيشُه، ويأمن مِثْل هذه المساوئ والآثام.(1/979)
في قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لو أمرتُ أحدًا أن يَسجُد لأحد لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها".
هذا حديث شريف يُبَيِّن لنا ما رسمَه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السلوك الحميد الذي يتفق وحالة المرأة، وبيان ما يجب على الزوجة أن تسير عليه خاضعةً لإذن زوجها، في أمور دينها ودنياها، ما لم يكن في إذنه معصية الله، سبحانه.
إذن فلا يجوز للزوجة أن تتعدَّى حدودها، ولا يجوز لها أن تذهب إلى بلد أهلها، وليس هذا فحسب، بل إنه لا يجوز لها أن تَخرُج من بيتها إلا بإذنه.
فإن تعدَّت بالخروج دون أن يأذَن لها، أو يُصَرِّح إليها، فهي ناشزة، وجزاؤها على ذلك إنما يكون بتوقيع العقوبة عليها، التي وردت في كتاب الله ـ سبحانه ـ من الهجر في المضجَع، والضرب غير المُبَرِّح. هذا إذا لم يكن هناك إِذْن أو تصريح لها. فإن أَذِن لها جاز لها الخروج لزيارة أهلها، وما دامت في موضع الحِشْمة والوَقار لتكون حافظةً له في غَيْبَتِه، أمينةً له في أمانته.(1/980)
في تعدد الزوجات:
قال ـ تعالى ـ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا في اليتامَى فانكِحُوا ما طابَ لكم من النساءِ مثنَى وثُلاثَ ورُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانُكُمْ). وقال: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بينَ النساءِ ولوْ حَرَصْتُمْ فلا تَمِيلُوا كلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقةِ). والناظر في هاتين الآيتين يجد أن العدل المطلوب إيقاعُه بين الزوجات عدل مخصوص يُمكن الإنسان أن يقوم به، وأن هناك نوعًا آخر من العدل لا يُمكن الإنسان أن يتحكَّم فيه.
فأما العدل الذي يدخل تحت الاختيار و يُطالَب به الإنسان أن يقوم به فهو ميل القلب. وقد ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يُوضِّح المراد بذلك.
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْسِم بين نسائه فيَعْدِل، ثم يقول: "اللهمَّ هذا فِعْلي فيما أملِكُ، فلا تَلُمْنِي فيما تملِك ولا أملِك". ومن مظاهر القَسْم بين النساء ما روي عن عائشة قالت: "إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا سافَر أقرَعَ بين نسائه".(1/981)
أما الذي لا يَعْدِل فيما أمر الله بالعدل فيه فيتمثل فيما رواه ابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن كانت له امرأتان يَمِيل مع إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة وأحد شِقَّيه ساقط"، ومما تجدُر الإشارة إليه أن الإسلام برعايته العدل بين الزوجات إنما يُوجِّه نظر الإنسان إلى مُراعاة العدل في كل شئونه بين أبنائه وأهله، ومع مرءوسيه، ومع كل الناس؛ تحقيقًا لقول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذين آمنوا كونُوا قَوَّامينَ بالقِسْطِ شُهَداءَ لله ولوْ على أنفُسِكُمْ أَوِ الوالِدَينِ والأقرِبينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أو فقيرًا فاللهُ أولى بهما فلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعرِضوا فإنَّ الله كان بما تَعْملُونَ خَبيرًا).(1/982)
في أسرار الحياة الزوجية:
لقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تصف المرأة لزوجها محاسن امرأة أخرى، وكذلك نهى عن أن يتحدث الرجل عما يكون بينَه وبين زوجته ليلًا، ووصف مَن يفعل ذلك بأنه شيطان، ومما لا شك فيه أن الحديث عن الجنس من المُثِيرات للشباب، سواءً كانوا في طَوْر المُراهَقَة أو كانوا في فَوْرة الشباب اليانع، وحينما تُسْتَثار غرائز الشباب فإنهم لا يُبالون بتقاليد أو بعُرْف أو بمبادئ دينية.(1/983)
وحينما تكثُر كتُب الجنس في دولة وحينما ينحلُّ الأدباء فيها ويُكثرون من الأدب المكشوف، وحينما يجري الفنَّانون وراء فكرة خاطئة، وهي أن الفن لا يتقيَّد بالأخلاق فيُنتجون من الفنون ما يُثير، وما يتنافَى مع الفضيلة من العُرْي الفاضح والصوَر المُبْتَذَلة والأغاني الخليعة، نقول: إنه حينما يَكْثُر في دولة ذلك، فإن مصيرها لا ريب إلى الانهيار، ولقد بيَّنت الأحداث في عصرنا الراهن ذلك في وُضوح واضح أن فرنسا حينما كثُر فيها أدب الجنس، وذاعت فيها فكرة الفن للفن عَقِب الحرب العالمية الثانية، وحينما استكانت إلى اللذَّات؛ نتيجةً لما نشره فيها أدب الجنس من الانحلال انهزمت في الحرب الكبرى الثانية شر هزيمة، لقد انهزمت هزيمة مُضْحِكَة، إن كان في الهزائم ما يُضحك، ولقد أعلن أحد المرشالات إعلانًا عالميًّا نشرتْه الصحف وردَّدته الإذاعات، وهو أن سبب انهيار فرنسا استجابتُها إلى الغرائز، وانغماسها في الملاذِّ، وجريُها وراء كل ما من شأنه أن يذهب بالأخلاق، سواءً كان ذلك عن طريق الأدب المكشوف، أو السينما الخليعة، أو الأوصاف المُثِيرة للشباب والمراهقين، ومن أجل أمثال هذه النتائج من الانهيار الدولي حرَّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ودرأ الله المفاسد بسدِّ أبوابها، وبقَطْع الطرُق المُوَصِّلة إليها، فأمر بغضِّ البصر، ونهى عن اللِّين في القول إلى المرأة؛ حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، ونهى عن الخَلوة بالأجنبية، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يَرْوِيه عن الله ـ تعالى ـ: "النظرةُ سهم مسموم من سهام إبليس، مَن تركَها من مخافتي رزقْتُه إيمانًا يجد حلاوتَه في قلبه"، وقال ـ تعالى ـ: (قل للمؤمنين يَغُضُّوا من أبصارهم)، وقال ـ سبحانه ـ: (وقل للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ)، وإن علاج الانحراف في الشباب ليس طريقه الاستثارة وإنما طريقه تقوية الإيمان.(1/984)
في حُسن المعاشرة الزوجية:
قال ـ تعالى ـ: (هلْ جزاءُ الإحسانِ إِلَّا الإحسانُ)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن أسدى إليكم معروفًا فكافئوه"، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن لم يشكرِ الناسَ لم يشكرِ اللهَ".
ومِن هنا فإن الزوجة التي تُحسن مُعاشرة زوجها لابد أن يُقابل خُلُقها الجميل بأجمل منه، وتصرُّفَها الحكيم بأحكمَ منه، ولابد أن تكون معاملتها خيرًا من معاملة الزوجة التي لا تُحسن المعاشرة إحسانها، ولا تُحسن التصرف كما تُحسنه هي عند معاملة الزوج.
ولا يَعْنِي ذلك أن تأخذ حقًّا ليس لها، أو أن تُخطئ بحق زوجة أخرى لم تصل إلى درجتها في المعاملة؛ لأن لكل زوجة حقًّا، والقسم بين الزوجات بالسوِيَّة هو الشرع؛ فقد قرن الله إباحة التعدد بالتنبيه إلى وُجوب العدل بين الزوجات، وقال ـ تعالى ـ: (فانكِحُوا ما طابَ لكُمْ مِنَ النساءِ مثنَى وثُلاثَ ورُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فواحدةً أو ما ملَكَتْ أيمانُكم)، ثم قال: (ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بينَ النساءِ ولوْ حَرَصْتُمْ)، وليس المراد بالعدل بينهن من كل الوجوه أو العدل المُطلَق الذي يتعذَّر وجودُه بين بني البشر، أما العدل المطلوب بين الزوجات فهو التسوِيَة بينهن بما يَلِيق بكل منهن، فإذا وفَّى لكل واحدة منهن كسوتَها ونفقتها والإيواء إليها لم يضرَّه ما زاد على ذلك من مَيْل قلب أو تبرُّع بتحفة، وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْسِم بين نسائه فيعدل فيقول: "اللهم هذا قَسْمِي فيما أملِك فلا تَلُمْنِي فيما تملِك ولا أملِك".
قال الترمذي: يعني به الحب والمودة.. وقال ابن عباس في الحب والجماع؛ فالإحسان إلى مَن تُحسن إليه مطلوب، والعدل بين الجميع فيما يتصل بالحقوق الزوجية ينبغي ألا يحرم، وتشجيع المُحسِن ينبغي أن يكون بصورة تبعث على إحسان الآخرين، بأن يُبَيِّن أن إحسانه مقابل للعمل الطيب الذي صدر ممَّن أحسن إليه.(1/985)
في نشوز الزوجة:
حدد الله ـ سبحانه ـ موقف الرجل من زوجته إذا عصَتْه وخالفت أوامره أو نشزت عليه فقال: (وَالَّلاتِي تَخافونَ نُشوزهنَّ فَعِظُوهنَّ وَاهْجُروهنَّ في المضاجعِ وَاضْرِبوهنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سبيلًا إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كبيرًا).
وفي هذه الآية أمر الله أن يبدأ الرجل زوجته إذا خالفتْه بالموعظة أولًا، ثم بالهِجْران، فإن لم ينجحا فبالضرب، فإنه هو الذي يُصلحها ويَحْمِلها على الوفاء بحقه، والمُراد بالضرب: الضرب الذي يُؤَدِّب ولا يُعَجِّز، ويُؤلم ولا يَكْسِر أو يَجْرَح، فإن المقصود منه الصلاح لا غير.
وفي الحديث الصحيح عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اتقوا اللهَ في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحلَلْتُم فُروجهنَّ بكلمة الله، ولكن عليهنَّ ألا يُوطِئْنَ فُرُشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلْنَ فاضربوهنَّ ضربًا غيرَ مُبَرَّح".
وقد أرشد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الحكمة في معاملة النساء، والتراوُح في ذلك بين الشدة والرحمة؛ لما في طِباعهن من التقلُّب، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اتقوا الله في النساء؛ فإنهنَّ خُلِقْنَ من ضِلْع أعوجَ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه".
وما دامت الزوجة لم تصل في مُخالفتها إلى حدِّ إدخال مَن يكره الزوج دُخولَهم المنزل فعلى الزوج ألا يلجأ إلى الضرب. ولْيعلم وهو يُعامل زوجته أن مصير البيت في يده، وأنه مسئول عنه، ومن المُمكن له الهدم إذا تعذَّر الإصلاح أو خرج الأمر عن حدود قُدْرته.(1/986)
وفي مجالنا هذا عاشَر الزوجُ زوجتَه مُعاشرة طويلة، وكوَّنَا أسرة طيبة، وربما أولادًا في الجامعات ووَصَلا إلى مرحلة يخبو فيها الاندفاع، وأصبحت حاجة كل منهما إلى أخيه حاجة يغلِب عليها العقل، ويقتضيها التفكير السليم.. فعلى الزوجة أن تُطيع وتَتَحَمَّل ما تراه غير مُحْتَمَل من طِباع زوجها، وعلى الزوج أن يكون مَوْقِفُه منها كذلك، وعليه ألا يَحْمِل قولها له: "تَزَوَّج غيري" على محمل الجِدِّ، وأن يُحاول تذكيرها بحياتها الطيبة، وموقفهما في المجتمع، ومسئوليتهما نحو الأولاد، وأن يُحاول إشراك الأبناء في تلطيف الجو وحل المشاكل، وتفسير أمور الحياة.(1/987)
في المرأة بعد انقضاء العدة:
إذا طُلِّقت المرأة مطلقًا سرًّا أو جهرًا، عَلِمَت بالطلاق أو لم تعلم، وانقضت مدة العدة قبل وفاة زوجها ـ فلا حق لها في الإرث منه، كما لا حق له في الإرث منها إن ماتت قبله، قال ـ تعالى ـ: (وَلَكُمْ نِصفُ ما تركَ أزواجُكم إن لم يكنْ لهنَّ ولدٌ فإنْ كانَ لهنَّ ولدٌ فلكُمُ الربعُ ممَّا تركْنَ مِنْ بعدِ وَصِيَّةٍ يُوصينَ بها أو دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربُعُ مما تَرَكْتُمْ إن لم يكنْ لكمْ ولدٌ فإِنْ كانَ لكمْ ولدٌ فلهنَّ الثمُنُ مما تركتُمْ من بعدِ وصيةٍ تُوصونَ بها أو دَيْنٍ).
والمرأة التي انقضت عِدَّتُها لا يُطلَق عليها اسم الزوجة وعلى ذلك فالآيةُ نصٌّ صريح فيما قلنا يجب العمل بمُقْتَضاه دون غيره.(1/988)
سيدة مسلمة حوَّلت حجرة الاستقبال إلى صالون ديني يَفِد إليه أئمة الدين ورجال العلم، إلى جانب الكثير من السيدات المسلمات، هل يُمكن تشجيع هذه المحاولة؟ وكيف؟
طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، والإسلام يُبارك مجالس العلم والذِّكْر وتحضرها الملائكة ويغفر الله لجُلَسائها، ويستجيب لدعائهم، ويَمنحُهم البركة والرحمة والغفران ما داموا يتدارسون علوم الدين والقرآن وما ينفع الناس.
وحبَّذا أن نَعْمُر مساجد الله بالمسلمين والدارسين في كل مكان، حتى تنتعش الحركة الثقافية الدينية، ويَعُمَّ نفعها جميع الذين يَؤُمُّونها.
ولا بأس من مُدارَسَة الدين والعلم في المنازل، وخاصة في وقت لا تكون فيه المساجد مفتوحة ولا مُسْتَعِدَّة، وحبذا لو انتقل ذلك إلى النوادي العامة والخاصة، بشرط الوَقار والحشمة والأدب والتواضُع، وأن يكون هناك فاصل بين الرجال والنساء، لنحفظ للنساء احترامهنَّ وحياءهنَّ وللدين حُرْمَته واعتباره في حدود ما رسم الشارع، من ملبَس وتوقير وتقدير وجِدِّيَّة وإخلاص حتى تنتشر مثل هذه المُحاولة، وينتشر الحديث في شئون الدين، فإن أصبح الحضور عادة، وللدروس جدية، وفي النفوس شدة رغبة وجاذبية، ننتقل إلى المُنْتَدى والمدرسة والمسجد، وكل مكان يؤدي هذا الهدف ويُحقق الغرض المنشود.(1/989)
ملابس بعض النساء تُعَرِّض أبدانهنَّ للنظر، فما حكم النظر لهن في هذه الحالة؟
إن هذا السؤال يستلزم الحديث عن زوايا مُختَلِفة خاصة بالتبرج لابدَّ من علاجها، وأول هذه الزوايا التبرُّج نفسه، وبهذا الصدد نبدأ بذِكْر حديث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صنفانِ من أهل النار لم أرهما بعدُ: نساء كاسِيَات عاريات، مائلات مُميلات، على رءوسهن أمثال أسنِمة البُخت المائل. لا يَرَيْنَ الجنةَ لا يَجِدْنَ ريحها. ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس".
وهذا الحديث ـ فيما يتعلق بالنساء المُتَبَرِّجات ـ كأنه قيل بالأمس القريب ليُعَبِّر عن الوضع في العصر الحاضر. ويكفي ما فيه من وعيد ليَرُدَّ انحراف مَن يؤمن بالله واليوم الآخر.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن الواجب بالنسبة للرجل والمرأة على السواء فيما يتعلق بالنظر:
(قُلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهم ويحفظوا فُروجَهم ذلك أزكى لهم إن اللهَ خَبيرٌ بما يَصنعونَ).
هذا بالنسبة للرجال، أما بالنسبة للنساء فإن الله ـ سبحانه، وتعالى ـ: يقول: (وَقُلْ للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ ويحفَظْنَ فُروجهنَّ ولا يُبدينَ زينتهنَّ إلا ما ظهر منها ولْيضربْنَ بخُمُرهنَّ على جيوبهنَّ ولا يُبدين زينتهنَّ إلا لِبُعولتهنَّ أو آبائهنَّ أو آباء بعولتهنَّ أو أبنائهنَّ أو أبناءِ بعولتهنَّ أو إخوانهنَّ أو بني إخوانهنَّ أو بني أخواتِهن أو نسائِهنَّ أو ما ملكَتْ أيمانُهن أو التابعينَ غيرِ أُولي الإربةِ من الرجالِ أو الطفلِ الذينَ لم يظهروا على عَوْراتِ النساءِ ولا يَضْرِبْنَ بأرجلِهنَّ ليُعْلَم ما يُخْفِين من زينتِهِنَّ وتُوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنونَ لعلَّكم تُفلحونَ).
ولقد سأل أحد الصحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نظرة الفُجاءة فأمره أن يَصرِف بصرَه.(1/990)
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي ـ رضي الله عنه ـ: "يا عليُّ، لا تُتْبع النظرةَ النظرة؛ فإن لك الأولى وليس لك الآخرة...".
قال عبد الله بن مسعود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه عن ربه ـ عز وجل ـ قال: "إن النظرةَ سهم من سهام إبليسَ مسموم، مَن تركَه من مخافتي أبدلتُه إيمانًا يجد حلاوتَه في قلبِه".
وما من شك في أن على المرأة مسئولية كبيرة، مسئولية تؤدي بها إلى غضب الله ومَقْته، إذا ما لم تَتُب وترجع إلى الله مُحْتَشمةً متأدبةً بآداب الإسلام، وعلى الرجل ـ أيضًا ـ مسئولية مُزْدَوَجة هي مسئولية الراعي، وكل راعٍ مسئول عن رعيته، ومسئولية النظر الذي يجب أن يكفَّه عن محارم الله، فإذا قام الرجل بمسئوليته فقد أرضى الله ورسوله.(1/991)
في الحيض والجنابة بالنسبة للمرأة:
الحيض والجنابة وما إلى ذلك لا يُؤَثِّر في التصرُّفات العادية، وإذا كان الحيض يمنع المرأة من الصلاة حيث خفَّف الله عنها وأسقطها ولم يُطالبها بالقضاء، ويمنع من الصوم مع وجوب قضاء ما أفطرتْه من الأيام، فإنه لا يمنع من مُؤاكلة الحائض الرجل والنوم بجانبه والاستمتاع بكل شيء فيها ما عدا الصلة الجنسية.
والحيض أو الجنابة أمر حكمي، ولا يتسبَّب في الحكم نجاسة جسم الحائض أو الجنُب، أو تسبَّبهما في نجاسة ما تمتد إليه أيديهما.
وقد لَقِي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد الصحابة فتهرَّب، منه، فسأله عن السبب في ذلك فقال: كنتُ جنُبًا فكَرِهْتُ أن أُلامِسَك، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن المؤمنَ لا يَنْجَسُ حيًّا ولا ميتًا"، وكذلك المؤمنة لا تنجس بالحيض، فلا مانع من إحضار المرأة لزوجها ماء الوُضوء، بل من الواجب عليها ذلك، حيث فرض الله عليها طاعة زوجها.. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لو كنتُ آمرًا أحدًا بالسجودِ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لزوجها"، وقال عن خير النساء: "إنها تَسُرُّكَ إذا نظرتَ، وتُطيعك إذا أمرتَ، ولا تُخالِفُك في نفسك ومالك بما تكره".(1/992)
كَيُّ شعر المرأة، هل يُؤَثِّر في الوُضوء، مع مُلاحظة أنها تكويه بنفسها؟
كي شعر المرأة لم يُذْكَر في نواقض الوُضوء عند الفقهاء ما دامت المرأة هي التي تكويه بنفسها، والأمر الهام في كي الشعر ليس هو أن ينقض الكي الوضوء أو لا ينقضه، وإنما هو في الكي نفسه، هل تستسيغ أن تكوي المرأة شعرها، أو لا تستسغيه؟
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "يكون في آخر أمتي رجال يركبون على سرُج كأشباه الرجال، وينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عارِيَات، على رءوسهن كأسنمة البُخت العِجاف، الْعَنُوهنَّ؛ فإنهن ملعونات"، وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ قال: "لعن الله الواشماتِ والمستوشمات والمُتَنَمِّصات والمُتَفَلِّجات للحُسْن، والمُغَيِّرات خلْق الله، والوشم هو الدق.. والتنمُّص هو اقتلاع الشعر، والتفلُّج: الأخذ من الأسنان تحديدًا أو ترقيعًا.
فلمَّا قال ذلك عبد الله بن مسعود قامت امرأة تعترض مُسْتَفْسِرةً؟ فقال ـ رضي الله عنه ـ ومالي لا أَلْعَنُ مَن لعنَه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد قال الله في كتابه: (وَما آتَاكُمُ الرسولُ فخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عنهُ فَانْتَهُوا).
من هذه الأحاديث ومن غيرها نأخذ أن ضياع الوقت في كيِّ الشعر أمر لا تستسيغه الشريعة. أما إذا ذهبت المرأة إلى صالون الحلاقة وأسلمت نفسها إلى الرجل يَجُول في شعرها بيديه فإن ذلك حرام ناقض للوضوء.
في الغسل وتخليل الشعر المكوي:
هذا الموضوع له شِقَّان:
أما الأول منهما: فهو ذَهاب المرأة إلى مَن يكوي شعرَها، والحكم في هذا لا غموض فيه من ناحية الشرع، ولا يُمكِن أن يُماري فيه أحد، وهو أن المرأة لا يجوز لها أن تُسْلِم رأسها إلى رجل يَجُول بيده في شعرها كما تشاء له مهنتُه.(1/993)
أما الشق الآخر: فهو تخليل الشعر نقول: لا فرْقَ بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بوُجوب تخليل الشعر، حتى يظن الإنسان أنه قد أَرْوَى بشرتَه ثم يَفِيض على رأسه الماء بعد ذلك.
ولقد روى الإمام البخاري بسنده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اغتسل من الجنابة غسَل يديه وتَوَضَّأ وَضُوءَه للصلاة ثم اغتسل، يُخَلِّل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاضَ عليه الماءَ ثلاثَ مرات ثم غسل سائر جسده". ولكن الحديث خاص بالرجل.
ويَرْوِي يحيى عن مالك أنه بلغَه أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ سُئِلت عن غسل المرأة من الجنابة فقالت: "لِتَحُفَّنَّ على رأسها ثلاثَ حَفْنات من الماء".
ولم تقتصر السيدة عائشة ـ رضوان الله عليها ـ على ذلك، بل أضافت قائلةً: "ولتضغث رأسَها بيديها"، وتفسير معنى تضغث رأسها بيديها، يقول ابن الأثير: الضِّغْث: مُعالجة شعر الرأس باليد عند الغسل، كأنها تَخْلِط بعضَه ببعض ليدخل فيه الغسول والماء.
وروى الإمام مسلم بسنده عن السيدة عائشة أن أسماء سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المحيض فكان فيما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ثم تَصُبُّ على رأسها فتُدَلِّكه دلكًا شديدًا حتى تبلُغ شئون رأسِها، ثم تصُب عليها الماء". وقوله شئون رأسها.. معناه: أصول شعر رأسها.
بالنسبة للنساء: هل تعليق المصحف وبه سوَر من القرآن الكريم والدخول به مثلًا دورات المياه حرام؟ وأيضًا بالنسبة إلى حجرة النوم؟(1/994)
قال ـ تعالى ـ في سورة الواقعة: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كريمٌ. في كتابٍ مكنونٍ. لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ). وقد استنبط العلماء من ذلك عدم جواز مس المصحف إلا على طهارة، وقد روى عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال: "لا يَمَسُّ القرآنَ إلا المطهرون" فقرأ القرآن ولم يمس المصحف، ولم يكن على وضوء، وقد ورد ما يُؤَيِّد ذلك في قصة إسلام عمر حيث قال لأخته: أعطيني الصحيفةَ التي بيدك، فقالت: إنك نَجَس وإنه لا يَمَسُّه إلا المطهرون، فقُم فاغتسل وتَوَضَّأْ فاغتسلَ وتوضأَ ثم أخذ الصحيفةَ فقرأها.
ورُوِي عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر مثل ذلك، وقد ثبت في أخبار مُتَظاهِرةٍ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم: "لا يَمَسُّ القرآن إلا طاهر". واستثنى العلماء من ذلك مَن لا يستغني عن مسِّ المصحف في أغلب أوقاته أو كلها، كمُعَلِّم القرآن ومتعلم القرآن، فيجوز لهما مسُّ المصحف على غير وضوء.
أما تعليق آية من القرآن أو المصحف فينبغي أن يكون ما يُعَلَّق من ذلك في حِرْز ساتر كجلد ملفوف حوله أو قماش سميك، وحينئذ يكون بعيدًا عن مسِّه مُباشرة، أو حمله على غير طهارة، أو حصول الأذى بدخول دورة المياه به، وبدون ذلك لا يجوز دخول دورة المياه به مطلقًا، ولو قصد الداخل الاستهانةَ أو عدم الاحترام له كفَر بذلك، وتعليقه على غير طهارة لا يجوز على الراجح، والمقصود من ذلك كله صِيانة القرآن من كل النواحي: من ناحية لفظه، ومن ناحية تعاليمه، ومن ناحية الاحترام القلبي والعمَلي له، ومَن يعتصم بالله فقد هُدِي إلى صراط مستقيم.(1/995)
في عمل المرأة:
لا يمنع أحدٌ المرأة من العمل خارج منزلها إذا كانت مُضْطَرَّةً إلى ذلك، أما إذا أفاءَ الله عليها من نعمتِه، فإن في منزلِها وفي تربية أولادِها والعمل على توفير السعادة لأسرتها ما يَشْغَلُها طُول الوقت.
وما مِن شك في أن هذه المهانة التي تتعرَّض لها المرأة في عملها تُسيء إلى كل قلب يَنْبِض بالرحمة.
وما من شك في أن هذا التبرُّج الذي تَظْهَرُ به المرأة العاملة يُسيء إلى كل قلب ينبض بالفضيلة والتقوى.
وفي دولة الباكستان تتعلَّم الفتاة وتتثقَّف ثم تُعْنَى بالأسرة، ولا يكاد يجد الإنسان في الباكستان امرأة عاملة، وملابسهن هناكَ واسعة فضفاضة، وفي السعودية الأمر كذلك.
وحينما كانت الدولة الإسلامية عالِيَة الصوت، قَوِيَّة مرهوبة، لم تكن المرأة موظفةً أو متبرجةً، أو مُطالبةً بتعديل شريعة فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية.
المرأة تعمل إذا كانت مضطرةً، فإذا لم تكن مضطرةً ففي أسرتها ما يشغل وقتها في عمل نافع مُفيد للمجتمع.(1/996)
في وجود أولياء لله من النساء:
لا مانع شرعًا من وجود أولياء لله من النساء، فشروط الوِلاية في الإسلام معروفة، ذكرها القرآن الكريم: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خوفٌ عليهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ). والإيمان والتقوى مطلوبان من الرجال والنساء، وباب الاجتهاد فيها مفتوح للجميع، للرجال والنساء: (فاستجابَ لهم ربُّهم أنِّي لا أُضيعُ عملَ عاملٍ منكُمْ من ذكرٍ أو أُنثَى بعضُكم من بعضٍ).
ولقد جاء القرآن بوِلاية كثيرة من النساء، وظُهور الكرامات لهن تأييدًا لمَوْقِفِهِنَّ الإيماني، ودليلًا على مدى ما وصَلْنَ إليه في طريق الوِلاية، ومن أبرز هؤلاء، مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجَها فخاطبتْها الملائكة: (إِذْ قالتِ الملائكةُ يا مريمُ إن اللهَ يُبَشِّركِ بكلمةٍ منهُ اسمُهُ المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ وَجِيهًا في الدنيا والآخرةِ ومِن المُقَرَّبينَ).
فلما ولدت المسيح ـ عليه السلام ـ قال قومُها، يا أختَ هارونَ ما كان أبوك امرأ سَوْء وما كانت أمك بغيًّا، فأشارت إليه، فخاطبَهم، وهو غلام؛ كرامةً لها ورفعًا للسوء عنها، ومريم هذه كان يأتيها الرزق في المسجد: (كُلَّمَا دخلَ عليها زكرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا).. الخ.
وآسِيَة امرأة فرعون، وقد ذكرها الله في القرآن وضرب بها المثَل: (وَضربَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذينَ آمنوا امرأةَ فِرْعونَ إِذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا في الجنةِ وَنَجِّني من فِرْعونَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي منَ القومِ الظالِمِينَ).(1/997)
وفي تاريخنا الإسلامي كثير من النساء اللاتي بَلَغْنَ مرتبة الوِلاية، منهن السيدة نفيسة ـ رضي الله عنها ـ وكانت عالِمةً عاملةً، وشهرتُها في العلم معروفة، وشهرتها في الولاية معروفة، أيضًا. والسيدة رابعة العدوية ـ رضي الله عنها ـ كانت صائمة النهار، قائمة الليل، وهي التي تجرَّدت في عبادتها عن أن يكون لها طلب من دخول جنة أو بُعد عن نار، وهي التي تقول ما معناه: "اللهمَّ إن كنتُ أعبدُك طمعًا في جنتِك فاحرِمْني منها، وإن كنتُ أعبدُك خوفًا من نارِك فأَدْخِلْني فيها، أما إن كنتُ أعبدُك لوجهِك الكريم فلا تَحْرِمْني رؤيتَه يا أرحمَ الراحمينَ".(1/998)
في ذهاب النساء إلى المساجد:
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تمنعوا نساءكم المساجدَ وبيوتُهنَّ خير لهن". "رواه أبو داود بإسناد صحيح".
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صلاةُ المرأةِ في بيتها أفضل من صلاتها في حُجرتها، وصلاتُها في مَخْدَعِها أفضل من صلاتها في بيتها" "رواه أبو داود".
عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تمنعوا النساء حظوظَهُنَّ من المساجد إذا استأذنَّكم، فقال بلال: والله لَنَمْنَعَهُنَّ، فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول أنت: لنمنعهنَّ فما كلَّمه عبد الله حتى مات". "مسلم وغيره".
عن ابن عمر قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا استأذنت امرأةُ أحدِكم إلى المسجد فلا يمنعها" "متفق عليه".
عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا شَهِدت إحداكنَّ المسجد فلا تَمَسَّ طيبًا". "رواه مسلم".
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أيما امرأة أصابت بَخُورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" "رواه مسلم".
عن بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تمنعوا النساء حظوظهنَّ من المساجد إذا استأذنَّكم، فقال بلال: والله لَنَمْنَعَهُن" فقال عبد الله، أقول: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول أنتَ لنمنعهنَّ.
وفي رواية سالم عن أبيه، قال: فأقبلَ عليه عبدُ الله فسبَّه سبًّا سَيِّئًا ما سَمِعْتُه سبَّه، مِثْلَه قط وقال: أُخْبِرُك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول: والله لنمنعهن" "رواه مسلم".(1/999)
عن عائشة قالت: نساءُ المؤمنات كنَّ يَشْهَدْنَ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة الفجر مُتَلَفِّعات بمُروطِهِنَّ، ثم يَنْقَلِبْنَ إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يَعرفهن أحد من الناس" "رواه البخاري".
قال النووي: هذا وشِبْهه من أحاديث الباب ظاهر أنها لا تُمْنَع من المسجد، لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهو أن لا تكون مُتَطَيِّبة مُتَزَيِّنة، ولا ذات خلاخل يُسمَع صوتُها، ولا ثياب فاخرة ولا مُخْتَلِطة بالرجال، ولا شابَّة ونحوها، مما يُفْتَتَن بها. وأن لا يكون في الطريق ما يُخاف به مفسدةٌ ونحوها.
وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه، إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد، ووُجدت الشروط المذكورة، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حُرِّم المنع إذا وُجدت الشروط.(1/1000)
هل يجوز للمرأة قراءة القرآن في مسابقة؟
نَعَم، يجوز قراءة المرأة للقرآن في المُسابقة أمام الجمهور، ولم يَرِد ما يمنع من ذلك بشرط أن تلتزم في قراءتها ما تتطلَّبه القراءة من أحكام.
وقد كانت النساء تسأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمحضر من الرجال.. ولم يمنعهن من ذلك، ومنهن المرأة التي سألتْه الزواجَ فزوَّجها لرجل بما معه من القرآن.
وتَحْرُم قراءة المرأة أمام الرجل أو إظهار صوتِها إذا كانت تتكسَّر في كلامها أو تستثير الرجال بالمدِّ والترخيم، وما إلى ذلك بما هو خارج عن حدود النطق السليم. وعلى اللجان التي تَخْتَبِر الفتيات في مِثْل هذا الموقف التأكُّد من جِدِّيَّة القراءة، ومنع كل خروج عن حدودها من النساء.
والإسلام بذلك لا يَسُدُّ على المرأة بابًا من أبواب الخير تتسع له طاقتُها وتُؤَهِّلها له إمكانياتها وإنما يقف بها عند حدود الدين والأخلاق.(1/1001)
هل كان للمرأة دَوْر في الجهاد أيام رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟
إن عِبْء الحرب كان يقع على عاتق الرجال، كما هو الأمر الآن، وما خُلِقت النساء للحرب، ولكن لهنَّ في الحرب دَوْر مشكور، وهو دور العَوْن والتمريض وإسعاف الجرحى وما يُماثل ذلك من الخِدْمات، وقد كانت المرأة في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُجاهد حسبما تستطيع، ولقد كانت تعمل الأعمال التي تُناسِبُها.
فعن أم عطية الأنصارية ـ رضي الله عنهاـ قالت: غَزَوْتُ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبعَ غزَوات، أَخْلُفُهم في رِحالهم، وأصنَعُ لهم الطعام، وأُداوي الجَرْحى وأقوم على المرضى.
وتقول بنت معوذ ـ رضي الله عنهاـ: "كنَّا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَسْقِي القوم، ونَخْدِمُهم، ونَرُدُّ القتلى والجرحى إلى المدينة.
وأحيانًا كانت الظروف تضطر اضطرارًا للمشاركة في الحرب الفِعْلية. فعن أم سعد بنت سعد بن الربيع ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخلتُ على أمِّ عمارة ـ رضي الله عنهاـ فقلت لها: يا خالةُ، أخبريني خبرَكِ، فقالت: خرجتُ يومَ أحد أول النهار أنظُرُ ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انكشف المسلمون انحَزْتُ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقمتُ أُباشِرُ القتالَ وأذُبُّ عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلُصت الجِراح إليَّ، قالت: فرأيتُ على عاتقها جرحًا أجوفَ له غَوْر فقلتُ لها: مَن أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولَّى الناس عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقبل يقول دُلُّوني على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا نجوتُ إن نجا، فاعترضتُ له أنا ومصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ وأناس ممَّن ثبت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضربني هذه الضربة، ولقد ضربتُه على ذلك ضربات لكن عدو الله كانت عليه دِرْعان.(1/1002)
وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما التفتُ يمينًا ولا شمالًا إلا وأراها تُقاتل دوني".
وعن عباد قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في حصن، فمرَّ رجل من اليهود فجعل يَطُوف بالحصن، وقد حاربتْ بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عهود، تقول صفية: وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنَّا، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه في مُواجهة العدو، ولا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا.
فلمَّا رأيتُ اليهودي يطوف بالحصن قالت: ما آمَنُه أن يدل على عَوْراتنا مَن وراءنا من اليهود، وقد شُغِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أخذتُ عمودًا، ثم نزلت إليه من الحصن فضربتُه بالعمود حتى قتلتُه، فلما فرغتُ منه رجعتُ إلى الحصن.(1/1003)
هل تستحم المرأة وهي حائض؟
نَعَم، تستطيع المرأة وهي حائض أن تستحمَّ وتغسِلَ ملابسها وتُعيد تصفيف شعرها، وليس في ذلك ضرر؛ لأنه نظافة والنظافة من الإيمان، واستحمامُها لا يُطَهِّرها من الحيض؛ لأن الحيض أقله ثلاثة أيام، وأوسطه خمسة أيام وأكثره عشرة أيام، بعد ذلك يكون استحمامها طُهْرًا لها لأنها ترفع عنها الصلاة، ولكن الصوم يبقى عليها بعد الطهر.(1/1004)
في مُصافحة النساء:
لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُصافح من النساء إلا زوجاته أمهات المؤمنين ومَحارمه ـ رضي الله عنهن ـ ولا تجوز مُلامَسة الرجل للمرأة ولا ملامسة المرأة للرجل إلا عند الضرورة، كعلاج الرجل للمرأة أو كشفه عليها، وعلاج المرأة للرجل، أو قيامها بالكشف عليه، إذا لم يكن هناك مَن يَصلُح للقيام بهذه المهمة سوى التي تَعَيَّنت في حقه منهما، وسنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَوْلى بالاتِّباع، على أن مُصافحة المرأة للرجل لا تكون إلا عند السلام غالبًا، والسلامُ سُنَّة، والسنَّة لابد من مُراعاة الآداب الإسلامية في أدائها.(1/1005)
في حقوق المرأة:
إن الإسلام أعطى المرأة حقوقًا لم يُعْطِها لها نظام من قبله، ولقد أوصى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنساء خيرًا في كثير من الأحاديث الشريفة، وأوصى بهن خيرًا في حِجَّة الوداع. ويقول الله ـ تعالى ـ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروفِ).
وفي مُقابل الحقوق التي للمرأة جعل الله عليها واجباتٍ، وهي أن تحفَظ الزوج في ماله، وعِرْضِه، وولدِه وبيتِه، وألا تخرج إلا بإذنه.
فإذا هجرت زوجَها إلى بيت لمدة تُعَدُّ بالشهور من غير إذن زوجها فهي آثمِة عاصِيَة وليس على زوجها بالنسبة لها حقوق في هذه الحالة، والحل الذي يراه الإسلام في مِثْل هذه الحال واضح في قوله ـ تعالى ـ: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهما فابعَثُوا حَكَمًا من أهلهِ وحكمًا من أهلِها إن يُريدَا إصلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بينَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).
فالإسلام في مِثْل هذه الحالة مُحافظ على الحياة الزوجية وعلى دوامها. وإزالة لأسباب النزاع يأمر بتكوين لجنة من حكَمين: أحدهما من قِبَل الزوج، والآخر من قِبَل الزوجة، لبحث أسباب الخلاف والشِّقاق، ودرس الحالة من جميع نواحيها، ثم تَقْتَرِح في ضَوْء التعاليم الإسلامية ما يُزيل الشِّقاق والنزاع.
أما إذا كانت أسباب الشِّقاق والنِّزاع مُتَأَصِّلة مُتَمَكِّنة بحيث لا يتأتَّى زوالُها، فإن أبغض الحلال إلى الله ـ وهو الطلاق ـ يكون الفاصل بينهما.(1/1006)
في حكم امرأة تَسْتَعْمِلُ أحمرَ الشِّفاهِ وتَتَزَيَّن:
من حق المرأة أن تتزيَّن وأن تتمتَّع بجمالها وزينتِها، وهذا يدخل تحت قول الله ـ تعالى ـ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتِي أخرجَ لعِبادِهِ والطيِّباتِ من الرِّزقِ).
لكن هذا مَشروط بأن يكون تزيُّنها لزوجها فقط، ولا تظهر به أمام أحد سواه؛ لأن هذا خروج عن تعاليم الشرع، وقد حدَّدت الآية الشريفة ذلك، قال ـ تعالى ـ في سورة النور: (وقُلْ للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارهنَّ ويحفَظْنَ فُروجَهُنَّ ولا يُبدينَ زينَتَهُنَّ إلا ما ظهرَ منها ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرهنَّ على جيوبِهِنَّ ولا يُبدينَ زينتَهُنَّ إلا لبُعولَتِهنَّ أو آبائهنَّ أو آباء بعولتهنَّ أو أبنائهنَّ أو أبناء بعولتهنَّ..) إلى آخر الآية.
وروى الترمذي عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "كلُّ عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا" يعني زانية، وروى الترمذي ـ أيضًاـ عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمِثْل ظُلمة يوم القيامة لا نور لها".
والهدف الإسلامي من ضرورة أن تحتشم المرأة إنما هو مَنْع الفتنة، خصوصًا بين الشباب والشابَّات، وهم في الدَّوْر الذي يَسْهُل فيه الافتتان والانحراف، والزينة في نفسها غير مُحَرَّمة، والله جميل يُحِب الجمال، ولكن يجب أن يكون المقصود للمرأة من زينتَها زوجَها.(1/1007)
في معاملة غير المسلمين:
كتب الدكتور ميجيل دي إيبالثا سكرتير عام جمعية الصداقة الإسلامية ـ المسيحية إلى الإمام الأكبر عبد الحليم محمود، شيخ الإسلام، يسأله مُشاركة الأزهر في "مؤتمر قرطبة العالمي الإسلامي ـ المسيحي الثالث"، خلال عام 1979م. وأرى من الأمانة أن أسجِّل هنا نص الرسالتين المُتَبادلتين بين الإمام الأكبر والدكتور ميجيل إيبالثا؛ لأن في ذلك ما يلي:
أولاً: توضيح وجهة النظر الإسلامية من أكبر مرجع ديني إسلامي.
ثانيًا: وَضْع الأسس السليمة لأي تقارُب إسلامي مسيحي.
يقول الدكتور إيبالثا في رسالته إلى الإمام الأكبر شيخ الإسلام:
بسم الله الرحمن الرحيم:
السيد المحترم صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ـ القاهرة ـ جمهورية مصر العربية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وبعد:
فيَسُرُّ جمعية الصداقة الإسلامية ـ المسيحية في مدريد أن تتوجَّه إلى فضيلتكم لتَشْرُف بإخباركم بما استقرَّ عليه الرأي من انعقاد مؤتمر قرطبة العالمي الإسلامي ـ المسيحي الثالث خلال عام 1979م، إن شاء الله، وقد رأت إدارة الجمعية اختيار موضوع: "محمد وعيسى مُلهِمَان للقِيَم الاجتماعية المعاصرة" ليكون محور اللقاء الإسلامي ـ المسيحي المُقْبِل، والمقصود أن يشرح المسلمون كيف يُعَبِّر النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذه القيمة المُعاصرة بالنسبة لمسلمي اليوم سواءً برسالته وعقيدته ودعوته أو بشخصيته، وسلوكه ونفسيته المِثَالية. في حين يشرح المسيحيون كيف يُعَبِّر عيسى ـ عليه السلام ـ عن القِيَم الاجتماعية نفسها عن مسيحي اليوم.
ورغبتُنا أن يَدْرُس هذا الموضوع مجموعة ممَّن يعيشون في مُجتمع مُتَكافل، يعيش بالمودة والوِفاق وإن اختلفت عقائد مُواطنيه وتنَوَّعت أديانهم.(1/1008)
وسوف يتولَّى عملية تنظيم وإعداد المؤتمر من الجانب المسيحي الكليات المُتَخَصِّصة في علوم اللاهوت، نذكر منها ـ بصفة خاصة ـ كلية اللاهوت بمدريد، والجامعة البابوية في روما.
ويُعِدُّ الموضوع ـ بمشيئة الله من الجانب الإسلامي الجامعات المتخصصة في بعض البُلدان الإسلامية، وشخصيات مسلمة، يستوي في ذلك مَن يعيشون داخل إسبانيا ومَن يقيمون خارِجَها.
ونعتقد أنه من المُمكن دراسة رءوس الموضوعات التالِيَة في نِطاق الموضوع العام للملتقى وهي: الحرية، والعدالة، والمساواة، في مختلف مظاهرِها وجوانبها المتعددة في هذا الدين أو ذاك، ولا يعني هذا ـ بطبيعة الحال ـ أن هذه هي الكلمة النهائية. على العكس نحن نَتَوَجَّه إليكم منذ الآن، وفي لحظة نشأة الفكرة، آمِلِين أن تُثْروا الموضوع بما تقترحونه، وأن تتفضلوا بإضافة ما تَرَوْنَهُ مفيدًا ونافعًا. ولسنا نشك في أنكم ستُزَوِّدوننا بسديد الرأي وصائبه ـ بإذن الله ـ فأنتم أدرى بهذا الحقل منَّا، ولكم في هذا الميدان خبرة قد لا تتوافر للكثيرين بحكم احتكاككم بالمجتمعات، وجهودكم في القارات المختلفة.
وقد سبق أن شرَّفْتُمونا حين تفضَّلْتُم بإيفاد وفد مثَّل بلادكم في مؤتمر قرطبة الإسلامي ـ المسيحي الأول الذي عُقِد في عام 1974م.
وما نبغيه في هذه المرحلة ـ مرحلة الإعداد والدراسة ـ هو النصيحة وتبادُل الرأي، والاستفادة بالمشورة دون إلزام أو التزام بحضور المؤتمر، وسوف نتصل بكم في مرحلة أخرى ـ إن شاء الله ـ من أجل توجيه الدعوة لحضور جلَسات الملتقى نفسه إذا رغَبِتُم في ذلك.
وفي انتظار كريم ردِّكم، نرجو أن تتقبلوا خالِص تحياتنا وأطيب أمنياتنا بالصحة والسعادة وسلام الله عليكم و تحياته ورحمتُه وبركاتُه.
د. ميجيل. إيبالثا
سكرتير عام جمعية الصداقة
الإسلامية ـ المسيحية
مدريد أبريل 1978م.(1/1009)
وقد ردَّ الإمام الأكبر.. على الدكتور ميجيل موضحًا وِجْهة نظره بالنسبة لهذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات المُشابِهَة بما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
مكتب الإمام الأكبر
الأزهر
شيخ الأزهر
السيد المحترم د. ميجيل دي إيبالثا
تحية طيبة، وبعد:
لقد وصلني خطابُكم المُؤَرَّخ في أبريل 1978م
وإني أشكر لكم هذه الرغبة في التفاهم بين المسلمين والمسيحيين، وإثراء الفكر المعاصر بالحلول التي أوحاها الله ـ تعالى ـ إلى محمد وعيسى ـ صلى الله عليهما وسلم ـ وذلك فيما يتعلق بالمشاكل المعاصرة.
وقد وصلتني أخبار المؤتمرين السابقين:
وأحب أن أُنَبِّه في مودة، ومن أجل تفاهُم عميق إلى بعض الأمور:
1ـ إن الإسلام ـ منذ أن بدَا ـ خالَف الجو العالَمِي اليهودي والوَثَني.. في أمر عيسى ـ عليه السلام ـ لقد أعلن الإسلام مباشرة تقديره واحترامه لعيسى وأمه. أما عيسى ـ عليه السلام ـ فهو وجيه في الدنيا والآخرة. وأما أمُّه فهي صِدِّيقة، ووجود عيسى ـ عليه السلام ـ جزء من إيمان المسلم. وبراءة أمه وطُهرها جزء من إيمان المسلم، ولم يقف الإسلام من عيسى ـ عليه السلام ـ ومن أمه موقف اليهود الذين ما زالوا على موقفهم إلى الآن من عيسى وأمه. لقد افتَرَوْا ـ وما زالوا ـ على عيسى وعلى أمه ورَمَوْهُما ببُهتان شنيع، أما الإسلام فإنه مجَّدهما وما زال مستمرًّا في تمجيده لهما.
فماذا لَقِي المسلمون من المسيحيين في مقابل ذلك؟
2ـ إنه لابد من الاعتراف بالدين الإسلامي وبرسوله حتى ينال المسلمون في أوروبا ما يناله اليهود من الاعتراف بأعيادهم وبشعائرهم، وإنه لا يتأتَّى التفاهُم بين أتباع رسول يحترمه المسلمون، وهو عيسى ـ عليه السلام ـ وأتباع رسول لا يعترف به المسيحيون، وهو محمد، صلى الله عليه وسلم.(1/1010)
3ـ إن المسلمين والمسيحيين يعملون على مُقاومة الانحراف والانحلال والمادية والإلحاد، وكان يجب أن يَسِيروا في خط مُتعاون مُتساند ضد التيارات المنحرفة، ولكن، للأسف، يسير المسيحيون في طريق تنصير المسلمين بقوة؛ فهم يعملون ليلَ نهار على أن يُنَصِّروا المسلمين في كل مكان في العالَم.
وكل الدول الغربية وأمريكا تُرسِل إرساليات لتنصير المسلمين بأسلوب مكشوف واضح، أو بأسلوب خَفِيٍّ مستور، ويَضِيق المسلمون بذلك ضيقًا شديدًا. وبرغم ذلك فإن ملايين الجنيهات تُنْفَق في سَعة للتنصير بكل الطرُق.
ومما هو مُلاحَظ أن الدول الإسلامية ليس لها إرساليات تبشيرية، وقد أُرسل المسيح ـ عليه السلام ـ لهداية خِراف بني إسرائيل الضالَّة، ومع ذلك فإن المسيحيين تركوا خراف بني إسرائيل الضالَّة وأخذوا يعملون على تنصير المسلمين، تُساعدهم الثروة، وتساعدهم وسائل الحضارة الحديثة.
ولو حصروا نشاطهم على تنصير الوَثَنِيِّين لَمَا أثار ذلك ضيق المسلمين الشديد وكراهيتهم للأسلوب ولموضوع التنصير نفسه.
4ـ والمسلمون أقليات في بعض الأقطار، مثل الفلبين، وهذه الأقليات المسلمة يُنَكَّل بها باسم المسيحية، تُؤْخَذ أرضُها، ويُيَتَّم أطفالها، ويَتَرَمَّل نساؤها، ولا تجد إلا ارتياحًا في نفوس الأغلبية المسيحية، ونُحِبُّ أن ينتهي التنكيل بالمسلمين في الأقطار التي بها الأغلبية المسيحية، ونحب أن ينتهي ذلك: إنسانيةً ودينًا.
5ـ وفي المؤتمرات التي تُعْقَد في إسبانيا وغيرها هناك أسلوبان للحديث:
أـ التزام العقل: وفي هذا يتحلَّل المسيحيون من مبادئ دينهم، فيتناولون المسيح ـ عليه السلام ـ وأمه بالأسلوب العقلي، فيكون موقفهم منهما موقف اليهود، يقولون على مريم وعلى ابنها ما يَضِيق به المسيحيون ضيقًا شديدًا. ويقولون على المسيحية نفسها ما يضيق به المسيحيون ضيقًا شديدًا.(1/1011)
ولكن المسلمين في هذا المؤتمرات يَتْبَعُون مبادئ دينهم فيحترمون المسيح ـ عليه السلام ـ وأمه، أما المسيحيون فإن بعضهم لا يُبالي فيتحدث عن رسول الإسلام ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما يَضِيق به المسلمون، فلا تكون هذه المؤتمرات وسائل تفاهُم وإنما تكون وسائل تنافُر وذلك كما حدث في المؤتمرين السابقين من بعض المسيحيين.
ب ـ التزام ما تُملِيه رُوح التفاهم: فلا يُساء إلى المسلمين في مُقَدَّساتهم.
6ـ ونحن من جانبنا قد قدَّمنا أسُس التفاهُم واضحةً سافرةً: احترام المسيح ـ عليه السلام ـ واحترام أمه، عليها السلام.
فماذا قدَّم المسيحيون؟.. لا شيء.
بل على العكس من ذلك لقد هاجموا وما زالوا يُهاجمون رسول الإسلام، فهل يُمكن مع ذلك التفاهُم؟
7ـ وأُحِبُّ أن أقول: إن الإسلام هو العامل الأكبر في تثبيت المسيحية حين اعترف بوجود المسيح ـ عليه السلام ـ وحين برَّأَ أمه. ومع ذلك فقد قُوبِل بجُحود لا مثيل له، وما زال يُقابَل بهذا الجُحود من المسيحيين على أكبر خدمة أُدِّيَت للمسيح، عليه السلام.
وبعدُ:
فإني أُحِبُّ صادقًا أن نتعاون في صدِّ كل انحراف.
وأحب أن أقول: إنه لولا تقديري لكم لَما كتبتُ لكم هذا، وإنني يَسُرُّني أن أقرأ لكم.. وسأتحدث إليكم عن رأيي في موضوع المؤتمرين في المستقبل، إن شاء الله.
ولكم تحيتي وتقديري..
عبد الحليم محمود
شيخ الأزهر
هل يجوز لمسلم أن يدعو غير مسلم إلى حفل عَقْدِ قِرانه أو في حفل ميلاد ابنه؟
إن الصلة بين المسلم وغير المسلم في البِرِّ والعدل والتعامُل مُؤَسَّسة على قوله ـ تعالى ـ: (لَا يَنْهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لم يُقاتلوكمْ في الدينِ ولم يُخرجوكمْ من ديارِكم أن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطوا إليهم إن الله يُحبُّ المقسطينَ. إنما ينهاكم اللهُ عن الذينَ قاتلوكمْ في الدينِ وأخْرَجُوكُمْ مِنْ ديارِكُمْ وَظَاهَرُوا على إخراجِكم أن تَوَلَّوْهُمْ ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولِئكَ همُ الظالمونَ).(1/1012)
وعلى هذا الأساس يجوز للمسلم أن يدعو غير المسلم إلى حفل عقد قرانه وإلى حفل ميلاد ابنه، ما دام غير المسلم لم يؤذِ المسلمين ولم يقاتلهم في الدين، أما إذا كان غير المسلم من الذين يُؤْذُون المسلمين في دينهم أو في أمورهم الأخرى كالتجارة والصناعة لا يجوز للمسلم أن يدعوه إلى حفل عقد قِرانه أو حفل ميلاد ابنه؛ وذلك أن هذه الدعوة إنما هي إعلان عن المودة وعن الصلة الوثيقة، ولا يجوز أن يكون بين المسلم ومَن يُؤذي المسلمين صلة مودة؛ لقوله ـ تعالى ـ: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤمنون بالله واليومِ الآخرِ يُوَادُّونَ مَن حادَّ الله ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم أولئكَ كتبَ في قلوبِهُمُ الإيمانَ وأيَّدهم برُوحٍ منه ويُدخِلُهم جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها رَضِيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه أولئكَ حزبُ الله ألا إن حزبَ الله هم المُفلِحونَ).
والله أعلم.(1/1013)
في العلاقات بين المسلم وغير المسلم:
إن دين الإسلام يعمل دائمًا لتوثيق الروابط بين المجتمع البشري أفراده وجماعاته عملًا بقوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خلَقَنْاكم من ذكرٍ وأُنْثَى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لِتَعارَفُوا).
ويقول ـ سبحانه ـ: (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لم يُقاتلوكم في الدينِ ولم يُخرجوكمْ من ديارِكم أن تَبَرُّوهُمْ وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المُقْسطين).
وعلى هذا فإن المؤمن يكون شأنه آلِفًا مألوفًا كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "المؤمن آلِفٌ مألوف، ولا خير في مَن لا يَألَف ولا يُؤْلَف".. فهو يعمل دائمًا لجذب القلوب إليه لعلها تهتدي على يديه.
وإذن فلا مانع من حضور حفلات ميلاد أولاد غير المسلمين تأليفًا لقلوبهم، وتطييبًا لخاطرهم ما لم تكن هناك مُنْكَرَات: مِثْل شُرْب الخمر والرقص، والاختلاط المُشِين.. أو أي شيء آخر يُحَرِّمُه الدين. فإذا وُجِد مِثْلُ ذلك فحضور هذه الحفلات يُحَرَّم؛ لِمَا فيها من الاشتراك في الإثم.(1/1014)
في ذهاب المسلم إلى الكنيسة:
مُعاملة المسيحيين بالحُسْنَى مطلوبة؛ لأن الدين الإسلامي لا تَعَصُّب فيه، وأساس ذلك قوله ـ تعالى ـ: (لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يُقاتلوكم في الدِّين).
والآيات التي تنهى عن مُوالاة الكافرين أو غير المسلمين إنما هي فيما إذا حاربوا المسلمين، أو كانت العلاقة بهم على حساب مصلحة الإسلام وأهله.
وقد كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ومَن تابَعَهم من المؤمنين يُعاملون المسيحيين وغيرهم من الذِّمِّيِّين بالحسنى، ويَرْفُقون بهم ويَخافُون من أن يَمَسُّوهم بظُلْم أو يَلْحَقُوا بهم أي أذًى.
فهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ يُعطي أهل بيت المقدس الأمانَ، ويسير حتى يدخل كنيسة القيامة، ويَحِين وقت الصلاة فيقول للبطريك: أريد الصلاةَ ـ فيقول له: صلِّ موضعك ـ فامتنع وصلَّ على الدرجةِ التي على باب الكنيسة منفردًا، فلمَّا قضى صلاته قال للبطريك: لو صليتُ داخل الكنيسةَ أخذَها المسلمون من بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر.
على أن هذه العلاقة، خاصة فيما يتصل بالذهاب إلى الكنائس والأديرة مشروطة بألا تؤدي إلى المَيْل إليهم أو التهاوُن معهم فيما يتصل بتقرير الحقائق التي جاء بها القرآن وجاءت بها السنة، فإن أدَّت إلى شيء من ذلك وجب على المسلم الابتعاد حرصًا على دينه أولاً، وعلى حُسن معاملة إخوانه من أهل الذمة ثانيًا.
يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن آذَى ذِمِّيًّا فأنا خَصْمُه، ومَن كنتُ خصمَه خَصَمْتُه يوم القيامة".(1/1015)
في المسيحية في العصر الراهن:
هل المسيحية في عصرنا هي المسيحية التي كانت في عصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو هي المسيحية المُبَدَّلة المُغَيَّرة التي تَشَوَّه أصلُها الحقيقي بالتثليث والاشتراك وما إلى ذلك مما هو معروف.
ويرى بعض الصحابة كابن عمر أن المسيحية واليهودية من المُشرِكات؛ لقولهم في الله ما لا يَلِيق به، فلا يجوز نكاح واحدة منهن، والراجح جواز نكاحهن.
هذا: ويجوز للحاكم المنع من ذلك لظروف خاصة، وإذا خَشِي من ذلك ضررًا قد يسيء إلى المسلمين، أو إلى مَن يتزوج بواحدة من الكِتابِيَّات.
ويستثنى الإمام الشافعي من الكتابيات مَن تُخالف أهل دينها في أصل ما يُحِلُّون من الكتاب ويُحَرِّمون.. أي مَن تخرُج على أصول دينهم.
ويرى أن الكِتَابية التي يجوز نكاحها إذا نكَحَها المسلم كالمسلمة فيما لها وما عليها، إلا أنهما لا يتوارَثان، يُجبِرُها زوجُها المسلم على الغُسل من الحيض والجنابة والتنظُّف.
ويمنعها من الكنيسة والخروج إلى الأعياد، ويمنعها من شُرب الخمر وأكل الخنزير.
وبالجملة يتصرف معها في المنع والأمر كما يتصرف مع المسلمة سواءً بسواء.(1/1016)
في أكل طعام أهل الكتاب:
قال ـ تعالى ـ: (اليومَ أُحِلَّ لكم الطيباتُ وطعامُ الذين أُوتوا الكتابَ حِلٌّ لكم وطعامُكم حِلٌّ لهم).
وقال: (لا ينهاكُمُ الله عن الذينَ لم يُقاتلوكم في الدينِ ولم يُخرجوكم من ديارِكم أن تَبَرُّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحبُّ المُقْسِطِينَ).
ولا خلاف بين العلماء في جواز أكل طعامهم الذي لا صنعةَ فيه، كالفاكهة والخضراوات ونحوها.. وكذلك ما فيه مُحاولة صنعة لا تعلُّق للدين بها، كخبز الدقيق وعصر الزيت وطهي الطعام ونحو ذلك.
وأما ما يحتاج إلى مُحاولة مُتَعَلِّقة بالدِّين والنية كالذبائح، فقال كثير من العلماء بحِلِّيَّتِها للنص في ذلك، وهو ما ذكرناه من قوله ـ تعالى ـ: (وطعامُ الذين أوتوا الكتابَ حِلٌّ لكم).
وذلك إذا ذُكِر اسم الله عليه، أما ما لم يُذْكَر اسم الله عليه من ذبائحهم فليس بحلال. ومن المعلوم أن هذا الحكم إنما هو فيما حَلَّ لنا من الطعام، لا فيما حُرِّم كالخنزير ونحوه، فلا يجوز تناولُه على الإطلاق.
فالطعام الذي تطبخه الفتاة المسيحية للمسلم ما دام متأكدًا من التسمية على الذبح وطريقته المُوافقة للشرع لا خلاف في جواز تناوله، والصوم بعده، ولا مانع من ذلك ما دام الطعام لا يشتمل على محرَّم.(1/1017)
في مسلم تزوج من امرأة مسيحية ويرغب في أن تُصبح مسلمة، ولكنها ترفض فكيف يتم الطلاق؟
وهل يجب أن يتم أو يُمْكِنُه الاحتفاظ بها؟
يُمكن للمسلم الذي تزوَّج بامرأة مسيحية؛ رغبةً في إسلامها أن يُطَلِّقها متى شاء ما دامت لم تقبل الإسلام، وله أن يُبْقِيَها؛ لأنها كتابية.. وقد أحل الله للمسلمين نكاح الكتابيات.. وإتمام الطلاق إن أراد يكون أمام الجهة التي تمَّ التعاقد عندها.
هذا، وعليه أن يُحسن عِشْرَتها ولا يُعَجِّل في طلاقها ما دام القصد من الزواج إسلامها.. فعليه أن يَعْرِض عليها الإسلام عَرْضًا مُشَوِّقًا لها فيه مُبَيِّنًا الحكمة من كل أمر من أوامره أو نهي من نواهيه.
قال ـ تعالى ـ: (وَلا تُجادلوا أهل الكتابِ إلا بالتي هي أحسنُ).(1/1018)
في إذا كانت أم المسلم كافرة ثم ماتت:
إذا كانت أم المسلم كافرة ثم ماتت فإنه يَسْتَدْعِي الجهة الدينية التي تَتْبَعُها أمُّه ويَكِل إليهم أمر القيام على كل ما يتعلق بطُقوس الجنازة والدفن، هذا إذا كانت كتابية أي تَدِين بدين أهل الكتاب. ولا يجب عليه شيء نحو أمه، أي أنه لا يجب عليه غسلها ولا الصلاة عليها ولا غير ذلك من شعائر المسلمين نحو الميت.
أما إذا كانت الأم وَثَنِية فإنه يفعل في طريقة دفنها عادات الوثنيين ويتولى الوثنيون دفنها.
كل هذا إذا وُجِد من أهل دينها مَن يقوم بهذا الأمر، أما إذا لم يُوجَد من أهل مِلَّتها مَن يقوم بالأمر. فإن ابنها يقوم على دفنها فإذا أتمَّ له ذلك يغتسل، ولقد جاء أحد الصحابة يستشير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يفعل بجثة أبيه ـ وقد كان وثنيًّاـ فقال له: "اذهب فوارِ أباك". فلما وارَى أباه "أي دفَنَه" عاد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: "اذهب فاغتسل".(1/1019)
في شخص مسلم وأبوه غير مسلم، أي من أهل الكتاب فهل يجوز لهذا المسلم أن يرث أباه؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين:
لا يجوز أن يرث المسلم غير المسلم ولو كان أباه. قال صاحب الرحبة:
ويمنعُ الشخصَ مِنَ المِيرَاثِ وَاحِدةٌ مِنْ عِلَلٍ ثَلاثِ
رِقٌّ وَقَتْلٌ وَاختِلافُ دِينِ فافْهَمْ فليسَ الشكُّ كاليقينِ(1/1020)
في المستشرق الذي يبني مسجدًا:
لمَّا بنى المنافقون مسجد الضِّرار لصرْف المسلمين عن مسجد المدينة هدَمه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتثالًا لقوله ـ تعالى ـ: (والذينَ اتخذوا مسجدًا ضِرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنينَ وإرصادًا لمَن حاربَ اللهَ ورسولَهُ من قبلُ ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أردنا إلا الحُسْنَى واللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فيه أبدًا).
والسبب في ذلك ـ كما ذكرت الآية ـ أن الغرض من بنائه كان إشاعة التفرقة بين المسلمين ونشر الأفكار الهدَّامة من طريقه.
فإذا كان المستشرق الأوروبي الذي بنى هذا المسجد يقصد به نشر دِعايَة ضارَّة بالإسلام أو انحرافًا بالمسلمين عن أهدافهم أو استغلاله لنفع خاصٍّ له أو لدولته حُرِّمت الصلاة بمسجده، وإن لم يقصد شيئًا من ذلك وتركَه للمسلمين، يتصرفون فيه كما يشاءون، فعلى المسلمين المُحافظة عليه، ويستوي هو وغيره من مساجد المسلمين. وعلى ذلك فمسجد المستشرق إذا لم يتركه للمسلمين. وتولَّى توجيه الإرشاد فيه بنفسه تُكرَه أو تَحْرُم الصلاة فيه، بحسب قوة تأثير التوجيه ومدى التحكُّم في الإدارة، وإذا تركه للمسلمين جازت الصلاة فيه وكان كغيره من المساجد.
والمساجد بيوت الله ـ تعالى ـ يجب أن تُصان عن الخبَث الحسي والمعنوي، وأن تكون منارات إشعاع يَهدِي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وأي انحراف لها عن ذلك هو بمثابة هدم لها وخروج بها عن أهدافها، فإذا بناها واستغلَّها لأي غرض آخر يسيء إلى الدين أو إلى المسلمين فإنه يَحرُم الصلاة فيه.(1/1021)
في حكم مَن ارتد عن الإسلام:
لا يُعَدُّ من المسلمين مَن ارتدَّ عن الإسلام إلى المسيحية، والولد تابِع لوالديه في الدِّين حتى يبلغ فيَظْهَر إيمانُه أو عدمه، وعلى ذلك فلا يجوز للمسلمين عقيقة المولود من الزوجين المسيحيين، اللهمَّ إلا إذا فُصِل عن والديه من حين مولده، وتولَّى المسلمون تربيته ورعايته؛ لأنه حينئذ يكون في عِداد المسلمين.
أما عن حكم الشريعة في الزوج فهو حكمُها في المرتد الذي تشرَّب الكفرَ وركَن إليه، ويعبر عنه قوله ـ تعالى ـ: (مَن كفَرَ بالله من بعدِ إيمانِهِ إلا مَن أُكرِهَ وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ وَلَكِنْ مَن شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن بَدَّل دينَه فاقتلوه". وقتل أبو موسى الأشعري يهوديًّا أسلم ثم ارتدَّ إلى اليهودية. وحرَق علي بن أبي طالب زنادِقَةً بالنار.
ويتولَّى ذلك الحاكم المسلم، فإذا لم يكن هناك حاكم مسلم أو لم يُنَفِّذ ذلك الحاكم المسلم فليس لغيره من المسلمين تنفيذه، إن أمر المرتد إلى الحاكم وحدَه لا إلى غيره.
أما في الآخرة فهو في مقْت الله وغضبه.(1/1022)
في الزواج بمجوسية:
المجوس: قوم يعبدون مصادر النور مثل: الشمس، والقمر، والنيران، وعلى ذلك فالمجوس مُشرِكون لا تجوز مُناكَحَتُهم، وما ورد عن تَسَرِّي بعض الصحابة بمجوسية فهذا في الإماء.
هذا عن الاقتران بمجوسية، أما كيف تعتَنِق الإسلام فهذا مرهون برغبتها وبإرادتها ليس من سبيل إلى ذلك إلا بشرح الإسلام وعَرْضه عرضًا يُيَسِّر لها فهمه ومعرفة محاسنه، هذا وفي المسلمات غِنًى عن هذا الزواج المُحَرَّم، الذي لا يجوز اللهم إلا إذا أسلمت أولاً. قال ـ تعالى ـ: (قَاتِلُوا الذينَ لا يُؤمِنُونَ باللهِ وَلا باليومِ الآخرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ). ولا تُؤْخَذ الجزية إلا من المُقاتلين، فقد أجمع العلماء على أن الجزية إنما تُوضَع على جماجم الرجال الأحرار البالغين دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني.
والجزية باقية إلى الآن؛ لأن سببها ـ وهو الجهاد دفاعًا عن الإسلام وصدًّا للكفر ـ باقٍ إلى اليوم.
ولا صِلَة بين الجزية والربا؛ لأن الربا أخذ مال زائد عن الحق بدون سبب شرعي مُوجِب لهذه الزيادة. أما الجزية فهي مبلغ مُعَيَّن لا يَزِيد على أربعة دنانير يدفعها غير المسلم في مقابل تأمينه على حياته، وعلى أهله، وعلى ماله، والقيام عنه بأعباء الإدارة والدفاع، وتقديم الخِدْمات العادية من تعليم وطب ومساعدة ونحوها.
وإن كان الربا يُمَثِّل اعتصارًا عنيفًا للمستَدِينين وجشَعًا لا حدَّ له من الدائنين فإن الجزية تُمَثِّل رحمة واسعة من المسلمين، ورِفْقًا زائدًا لغير المسلمين. حيث يتكفَّل المسلمون بالدفاع عنهم وتأمين حياتهم وتعبيد طرُقهم ومساعدتهم اجتماعيًّا بشتى الصور.(1/1023)
في بعض الناس لا يؤدون الواجبات الدينية والفروض، ويَدَّعون أنه لا شيء عليهم في ذلك ما دامت معامَلَتُهم طيبةً للناس:
سُئِل ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قوم قالوا: نُحسن الظنَّ بالله ونترك العمل، فقال: "كذبوا: لو أحسَنُوا الظنَّ لأحسنوا العمل".
إن الإخلاص في العمل، والحكم على المسلم بالصلاح مشروطان باتباع أوامر الدين واجتناب نواهيه، ومِثْل هذا الادِّعاء، قد يَدَّعِيه غير المسلم في تركه الإسلام محتجًّا بطهارة قلبه وصفاء نفسه وإخلاصه في عمله، وهو ادِّعاء باطل يُخالف النصوص الدينية الصريحة الآمِرة باتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ـ تعالى ـ: (قُلْ يا أيُّها الناسُ إِنِّي رسولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جميعًا الذي له مُلْكُ السمَاواتِ والأرضِ لا إلهَ إلا هو يُحيي ويُميتُ فآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ النبيِّ الأميِّ الذي يُؤمِنُ باللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لعلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). إن تَرْك الواجِبَات الدينية دليل على عدم طهارة القلب وصفاء النفس في العمل، وإن من الخطأ الفاضح والوهم الواهم أن يَعْمَد المرء إلى الواجبات الدينية فيجعل لها أهدافًا خاصة، ثم يتحلَّل من هذه الواجبات بحجة تَحَقُّقِه بما تَهْدِف إليه، فما يَدْرِيه أن هذا الهدف هو وحده المطلوب، وقد يكون المطلوب شيئًا آخر غير هذا الهدف أو مع هذا الهدف.
إن تعليل النصوص الشرعية لا يُقْبَل إلا لزيادة الإيمان بقُدْسِيَّة النص ورَوْعَة دلالته، أما إذا أدَّى التعليل إلى إهدار النص أو إبطال ما يدل عليه فهو تعليل المُبْطِلِين، وتأويل الجاهلين، وأسلوب المُبْتَدِعِين، ولنضرب لذلك مثلًا:(1/1024)
إن الله ـ تعالى ـ يقول: (وَأَقِيمُوا الصلاةَ) أي: أَدُّوهَا في أوقاتها مع استكمال شروطها، كما جاء عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا ما قال قائل: الهدف من الصلاة تطهير النفس، والانتهاء عن المُنْكَر وأنا كذلك بلا صلاة، فلماذا الصلاة؟ وامتنع من أدائها، فهو أمام أحد أمرين: إما أنه أعلَمُ من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث كان يصلي ويُكْثِر الصلاة، وهذا جهل فاضح، وإما أنه مُتلاعِب يستُر تلاعُبَه بباطل الآراء، وقد ذكر رجلٌ المعرفةَ أمام الجنيد قال: أهل المعرفة بالله يَصِلُون إلى تَرْك الحركات من باب البر والتقرُّب إلى الله ـ عز وجل ـ فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالًا من الذي يقول هذا.
ويقول الإمام الغزالي: فإن قلتَ: فهل تنتهي رتبة السالك إلى الحدِّ الذي ينحط عنه فيه بعض وظائف العبادات، ولا يضرُّه بعض المحظورات.
قلتُ: اعلم أن هذا عَيْن الغُرور، وأن المحققين قالوا: لو رأيتَ إنسانًا يَطِير في الهواء ويمشي على الماء، وهو يتعاطَى أمرًا يُخالف الشرع فاعلم أنه شيطان.(1/1025)
في قراءة القرآن على غير وضوء:
إن قراءة القرآن على غير وضوء جائزة ما دام القارئ طاهرًا من الجنابة، وقد ورد أن سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يقرؤه على غير وضوء، فلما سُئِل في ذلك أجاب بما يفيد أنه جائز، وأما حمله على غير وضوء، فقد أجاز أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ذلك إذا كان بغلافة، أي: إذا كان مُغلفًا داخل كساء.
ولقد اختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسِّه، ويقول الإمام القرطبي: واختلفت الرواية عن أبي حنيفة فرُويَ عنه أنه يَمَسُّه المُحدِث حدثًا أصغر، وقد رُوِيَ هذا عن جماعة من السلَف، منهم ابن عباس وغيره.
ويقول الإمام القرطبي ـ أيضًا ـ: وقد رُويَ عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسِّه للمسلم طاهرًا أو محدثًا حدثًا أصغر.
أما مس الصبيان للمصحف فالأظهر الجواز؛ لأنه لو مُنِع لم يَحفَظ القرآن.
وبعدُ: فإنه مما لا شك فيه أن مس المصحف على طهارة كاملة من الأمور التي يحرص عليها المؤمن كلما أُتِيحت له الفرصة لذلك، وهو في هذا يَسِير مع الوضع الصحيح لتكريم المصحف واحترامه، بيد أنه تحدُث ظروف لا يتمكَّن الإنسان فيها من الوُضوء لسبب من الأسباب، وتكون في الوقت نفسه الفرصة مُتاحةً للقراءة في المصحف، وفي هذه الحالة للإنسان أن يأخذ برأي الأئمة الذين أباحوا مسَّه على غير وضوء، وأن ذلك خير من أن يترُك فرصةً متاحةً للقراءة والثواب.(1/1026)
هل تجوز قراءة القرآن الكريم داخل دكان التجارة بالسوق؟
إن قراءة القرآن وسماعه من الأمور التي يجب أن تكون شعار المسلمين باستمرار، وإن من الفروق بينهم وبين الذين كفروا ما حدثنا الله ـ تعالى ـ به في قوله ـ تعالى ـ: (وقالَ الذينَ كفروا لا تَسْمَعُوا لهذا القرآنِ والْغَوْا فيه لعلَّكم تَغْلِبُونَ).
وإذا كان هذا شأن الذين كفروا فإن شأن المسلمين أن يستمعوا للقرآن، وأن يتلوه كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وعلى هذا فإنه يجوز تلاوة القرآن في داخل دكان التجارة بالسوق، فإنه يُذَكِّر أهل الدكان بالصدق والخير والتسامُح والفضيلة ويُشيع في جو الدكان تيارًا من النور والتذكير بالله ويشيع عند كل مَن يسمعه ذلك.
ومع ذلك فإن هذا مشروط بأن لا يكون فيه تعريض للقرآن إلى عدم توقيره أو إجلاله، فإذا كانت قراءة القرآن في وَضْع يتعرَّض فيه القرآن لأي أمر من الأمور التي لا تَلِيق بجلاله فإنه حينئذ تحرُم قراءته، سواء كان ذلك في دكان للتجارة في السوق أم في غير ذلك من الأمكنة.(1/1027)
في قراءة القرآن على الإنسان بعد وفاته:
قراءة القرآن على الإنسان بعد وفاته جائزة، وهي ـ لا شك ـ تُهَوِّن على الإنسان في قبره كما أخبرنا بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد حثَّنا ـ صلوات الله عليه ـ على قراءة القرآن للميت بعد وفاته فقال: "ما من ميت يُقْرَأُ عليه سورة "يس" إلا تُهُوِّن عليه".
وقال ـ أيضًا ـ: "مَن دخل المقابر وقرأ سورة يس خفَّف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد مَن فيها حسنات" ذكره الثعلبي عن أبي هريرة.
هذا بالنسبة لِمَا ثبت من الصحة في قراءة القرآن على الميت بعد وفاته، وجواز ذلك دون أن يكون هناك حرَج يمنع من قراءة القرآن للميت، فضلًا عن أن القراءة يصل ثوابها للمُتَوَفَّى.
أما بالنسبة لِمَا يتعلق بالقارئ، فالقراءة كما أنها تَعُود على المتوفَّى وتُوَصِّل إليه الثواب، فهي ـ أيضًا ـ تعود على القارئ بالثواب الحسن والأجر الجزيل، كما أخبرنا بذلك الحديث السابق.
وبعدُ: فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا ماتَ العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنْتَفَع به، وابن صالح يدعو له". وقراءة القرآن من أهم أنواع الدعاء الذي يتوجَّه بها الداعي إلى ربه؛ ففي الحديث الشريف ما معناه: "مَن شغلَه القرآن عن ذكري أعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين".(1/1028)
في مناط تحريم الخمر:
مناط التحريم في مِثْل هذه المشروبات وعدمه إذا كانت مُسْكِرَة أو مُفَتِّرَة كانت من الأشياء التي نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تناوُلها، وكان حكمها حكم الخمر في التحريم، ويحرُم قليلها كما يحرم كثيرها، روى أبو داود عن أم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ قالت: "نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل مُسكِر ومُفَتِّر".
وعن ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. وفي رواية: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن العنب خمرًا ومن التمر خمرًا، ومن العسل خمرًا" رواه الخمسة إلا النسائي، زاد أحمد وأبو داود: وأنا أنهَى عن كل مسكر؛ فالبيرة والبوظة وما شابهَهما من المسكرات والمخدرات جميعها حرام، وهي خمر، وإن اتخذ الناس لها أسماء أخرى غير اسم الخمر، وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحدثنا عن ذلك فيقول فيما يرويه عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لَتَسْتَحِلَّنَّ طائفة من أمتي الخمر باسم يُسَمُّونها إياه"، رواه أحمد وابن ماجة، وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها".(1/1029)
والقليل في التحريم كالكثير سواءً بسواء؛ فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما أسكرَ كثيرُه فقليله حرام". وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفَرْق منه فمِلْءُ الكفِّ منه حرام"، وفي رواية الإمام أحمد بلفظ: "فالأوقية منه حرام"، وفي رواية: "فالحَسْوة منه حرام"، والفَرق بفتح الراء وبسكونها: مكيال معروف بالمدينة يسع ستة عشر رطلًا، وقيل: هو بفتح الراء ستة عشر رطلًا، فإذا سكنتَ فهو مائة وعشرون رطلًا، وليس المُراد حقيقة الفرق ولا ملء الكف والأوقية أو الحسوة وإنما هو تمثيل للكثير والقليل.
قال الشوكاني في نيل الأوطار وذِكْرُه ملء الكف، في الأوقية في الحديث على سبيل التمثيل، فالحكم شامل للقطرة ونحوها.
قال ابن رسلان في شرح السنن: المسلمون على وُجوب الحد على شاربها، سواء شرب قليلًا أم كثيرًا ولو قطرة واحدة.
أما جزاء مَن يشرب من ذلك إذا مات ولم يتُب عنها فقد بيَّنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد رُوِي عن جابر أن رجلًا من جيشان ـ وجيشان من اليمن ـ سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يُقال له المزر، فقال: أمسكر هو؟ قال: نعَم، فقال: "كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمَن يشرب المسكر أن يُسقِيَه من طينة الخبال، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "عرَق أهل النار أو عُصارة أهل النار" رواه مسلم وأحمد والنسائي.(1/1030)
وعن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كل مُخَمِّر خمر، وكل مسكر حرام ومَن شرب مسكرًا بُخِست صلاتُه أربعين صباحًا"، أي: رُدَّت عليه، ولم يقبلها الله أربعين يومًا، فإن تابَ تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقًّا على الله أن يُسْقِيَه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: صديد أهل النار، ومَن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقًّا على الله أن يُسقِيَه من طينة الخبال". رواه أبو داود.(1/1031)
في حكم شارب خمر، ترك الخمر والتجأ إلى شيء آخر غير خمر، ولكنه مسكر:
الخمر حرام حرَّمها الله ـ سبحانه، وتعالى ـ بنص القرآن، قال ـ تعالى ـ: (إنما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجتَنِبُوه).
فمَن شرِبها بعد هذا النص الصريح مُستحلًّا له، كان كافرًا؛ لأنه أنكر ما عُلِم من الدين بالضرورة.
أما إذا شَرِبها وهو يَعتَقِد حُرْمتها فهو مُرْتَكب للكبيرة، وهو عاصٍ بشربها، ولابد له من التوبة والرجوع إلى الله والإقلاع عن هذا المنكر.
وليست الخمر نوعًا معينًا محدودًا من المشروبات، وإنما كل مُسكِر خمر، كما ورد في الحديث الشريف، ومن المعروف أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام. ومن المعروف أن الخمر ما خامَر العقل أي أخلَّ باتِّزانه، وإن لم يذهب العقل كليةً، والسكر يبدأ باختلال هذا التوازن العقلي، وكل ما أخلَّ بالتوازن العقلي من شُرْبِ أيِّ شيء مسكر فقد ارتكب محرمًا ويجب عليه الإقلاع عنه.(1/1032)
لَعْن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخمر عشرة:
لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخمر عشرةً: عاصرَها، ومُعتَصِرها، وشاربها وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيَها، وبائعها، وآكلَ ثمنها، والمشتَرِي لها، والمُشْتَرَى له، فلا يكفي في الخروج من إثم الخمر أن يمتنع الإنسان عن شُرْبها ويتسبَّب في شرب الآخرين لها أو يُعينهم على هذا الشرب.
وقد ورد لَعْنُه صريحًا فيما ذكرناه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم إن إثمه قد يكون أكبر من إثم شارب الخمر؛ لأن عليه مِثْل آثام مَن شربوا على يديه، أو بسبب مُناولته الخمر لا ينقُص ذلك من آثامهم شيئًا؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن دعا إلى ضلالة، كان عليه مِثْل آثام مَن اتبعه لا ينقُص ذلك من آثامهم شيئًا". إن الإسلام لا يُقِرُّ شرب الخمر، ولا يرضى من المسلم بأن يُقِرَّه، وهل هناك إقرار لشُرْبِها وتشجيع عليه من تقديمها للضيوف مهما امتنع مَن يُقَدِّمُها عن شُرْبها.
إنه بذلك يُحارِب الله ورسوله، وينتهك حرُمات الله، يستحل ما حرَّم الله، وهو ملعون في كل ذلك. فلْيَحذر مُخالَفة الله ورسوله، ولْيَحْذَر أن تُصيبه فتنة أو يُصيبه عذاب أليم.(1/1033)
في البيرة والكينا:
جاء في تقرير المؤتمر الدولي لمُكافحة المُسْكِرات عام 1939م عن البيرة قوله:
إن إنتاج هذا الشراب وغيره من أنواع الخُمور لا يستفيد منه إلا صانعه وبائعه، أما ضحاياه فهم أولئك الذين أغرتْهم الأهواء بإدمانه وتَعاطيه.
لقد اعتبر هذا المؤتمر أن البيرة من أنواع الخمر، وهو على كل حال، حسبما تذكر التقارير تحتوي على نسبة من الكحول تتفاوت كثرة وقلة، وإذا لم يكن قليلها مسكرًا فكثيرها مسكر. وقد قال ـ صلى الله عليه ـ فيما رواه الإمام أحمد وابن ماجة والدارقطني: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"؛ فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرم المزر، وهو شراب كان يَتَّخِذه أهل اليمن من الذرة والشعر يُنْبَذ حتى يشتد، وهذا نص في البيرة فيقول ـ صلوات الله عليه ـ فيما رواه ابن ماجة: "إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا"، وروى مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". من هذا نَتَبَيَّن أن البيرة خمر، وأنها حرام.
وكذلك الكينا المخلُوطة بالخمر، ولا عِبْرة باختلاف الأسماء؛ فقد قال ـ صلوات الله عليه ـ: "يشرب ناس من أمتي الخمر يُسَمُّونها بغيرِ اسْمِها".
أما الاتِّجار فيها فهو داخل في نِطاق اللعنة التي صبَّها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما قال: "لُعِنَت الخمر على عشرة أوجُه بعينها، وعاصرها، ومُعتَصِرها، وبائعها، ومُبْتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها".
أما شُرْبها للتداوي؛ فقد سأل طارق بن سويد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخمر يصنعها للدواء، فنهاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، وقال هذه الكلمة التي هي كالحكمة: "إنه ليس بدواء ولكنه داء".
وفيما رواه ابن ماجة في صحيحه قوله ـ صلوات الله عليه ـ: "إن الله لم يجعل شِفاءكم في حرام".(1/1034)
في حكم التداوي بالخمر:
التداوي بالخمر حرام؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لم يجعل الله شفاءَ أمتي فيما حرَّم عليها"؛ ولأن الشفاء مظنون، والحُرْمة مقطوع بها ولا يُغَلَّب مظنون على مقطوع، ومع ذلك فإن الخمر وسائر ما حرم الله على المؤمن حلال إن تعيَّن لحفظ الروح؛ عملًا بقوله ـ تعالى ـ: (فَمَنِ اضطرَّ في مَخْمَصةٍ غيرَ مُتَجانفٍ لإثمٍ فإنَّ الله غفور رحيمٌ).
وذلك كما لو كان على وشك الموت جُوعًا، ولم يجد إلا المَيْتة أو لحم الخنزير أو جَرْعة من خمر، وكما لو كان على الأكل ووقفت اللقمة، وليس لديه إلا زجاجة من خمر بالقُرْب منه فعليه أن يأخذ منها ما يُزيل به غُصَّته.
أما أمر التداوي فإن في تقدُّم الاختراعات الكيماوية في العصر الحاضر ما يجعل التداوي بالخمر أمرًا غير مُحَتَّم؛ إذ في غيرها مما ابتدعه الإنسان وجاء به العلم ما يُغني عنه، ولقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخمر ما معناه: "إنها ليست دواءً ولكنها داء".(1/1035)
في حكمة تحريم الخمر في الدنيا وتحليلها في الآخرة:
يتحدث الله ـ سبحانه، وتعالى ـ في أكثر من آية في القرآن الكريم، عن نعيم أهل الجنة. ومن نعيمهم الحسي، تناول شراب الخمر، وكما أن في الجنة أنهارًا من لبن، ومن عسل، فإن فيها أنهارًا من خمر، يقول ـ سبحانه ـ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى).
أما تناولهم هذا الشراب، فإن الله ـ تعالى ـ يصفه بقوله: (يُطافُ عليهم بِكَأْسٍ مِن مَعِينٍ. بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. لَا فِيها غَوْلٌ ولا همْ عنها يُنْزَفُونَ).
والغول: الضرر والصُّداع، والله ـ سبحانه، وتعالى ـ ينفي عن خمر الآخرة ذلك، وأما كلمة يُنْزَفُون التي نفاها القرآن الكريم عن شارب الخمر في الجنة، فمن معانيها:
إذهاب العقل، يُقال: نَزِفت الخمر عقلَه بالسكر، أي أذهبتْه، والخمر ـ إذن ـ في الآخرة لا تُذهِب العقل، وخمر الآخرة لا ضرَر فيها ولا سكر، وهذان الأمران هما السبب الذي من أجله حُرِّمت الخمر في الدنيا.
ولقد سُمِّيت الخمر من أجل هذين الأمرين "أم الخبائث"، ولقد حرَّمها بعض العرب في الجاهلية على أنفسهم؛ لأنها تقود الإنسان إلى كل خبيث، وكان ممَّن حرَّمها عبد المطلب جد النبي، صلى الله عليه وسلم.
ولقد لعنها الله ـ سبحانه، وتعالى ـ في الدنيا في نفسها كمادة سائلة، ولعنها في شاربها، ولعنها في عاصرها، ولعنها في معتصرها، ولعنها في حاملها، ولعنها في المُتَّجِر فيها.
لقد لعنها الله ـ سبحانه، وتعالى ـ في جميع ظروفها ومُلابساتها، وقال ـ سبحانه ـ: (إنما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ مِنْ عملِ الشيطانِ فاجتَنِبوهُ لعلَّكم تُفلحونَ).(1/1036)
وما دام قد انتفى منها الضرر والسكر في الآخرة، فقد بَقِيَت لذتها وهي من نعيم أهل الجنة.(1/1037)
في المخدرات:
إن المُخَدِّرات ظهرت في البيئة الإسلامية في القرن السابع الهجري مع دولة التتار، وبمجرد أن ظهرت أجمع علماء المسلمين على تحريمها مُستَنِدين إلى أصول عامة من قواعد التشريع الإسلامي، وإنه لمن المعروف أن من قواعد التشريع الإسلامي، أن ما أفسد العقل يَحرُم تناوله مأكولًا كان أو مشروبًا أو مشمومًا، والمحافظة على العقل، وعلى الاتِّزان الأخلاقي، وعلى السمُوِّ الروحي كل ذلك من أهداف الإسلام وأغراضه الجوهرية.
ومما لا شك فيه أن المخدرات مُفسدة للعقل، مُخِلَّة بالسلوك الأخلاقي الكريم، ومن أجل ذلك كانت مُحَرَّمة عن طريق قواعد التشريع الإسلامي، وكانت محرمة؛ لأنها تُخِلُّ بأهداف الدين وغاياته.
على أن المخدرات، وإن لم تكن على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد ورد تحريمها في أحاديثه، كمعجزة من معجزاته، صلى الله عليه وسلم.
فقد روى أبو داود أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن كل مسكر ومُفَتِّر. ونَهْي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المسكر يتضمن كل أنواع الخمور، ومنها البيرة ونهيه عن المُفَتِّر يتضمن كل أنواع المخدرات.
والنهي عن المسكر والمُفَتِّر إنما هو نهي عن كل ما يُحدِث تغييرًا في الاتِّزان العقلي على وجه العموم، ومن أجل ما في المخدرات من مفاسد قال الإمام ابن تيمية عنها: إن فيها من المفاسد مما ليس في الخمر، فهي أولى بالتحريم.
أما ابن القيم فإنه يُسَمِّي المخدرات "باللقمة الملعونة"، ويقول عنها: إنها لقمة الفسق والفُجور التي تُحَرِّك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن.
أما مَن استحل الحشيش أو المخدرات على وجه العموم فإن الإمام ابن تيمية يقول عنه: "مَن استحلها وزعم أنها حلال فإنه يُستَتَاب، فإن تاب، وإلا قُتِل مرتدًّا، لا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين".(1/1038)
ما حكم إنسان كان في سفر مع صديق له فمات الصديق من جوع وعطش، فلما خاف أن يموت هو أيضًا ـ من الجوع والعطش ـ أكلَ لحم أخيه الصديق الميت؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (حُرِّمَت عليكم المَيْتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ الله به والمنخنقةُ والموقوذةُ والمُتَرَدِّيةُ والنطيحةُ وما أكل السبُعُ إلا ما ذكيتُم وما ذُبِح على النصُبِ).
هذه الأمور مُحرَّمة على الإنسان بحكم هذه الآية فلا يَحِل له أن يتناولها ـ لكن قد يضطر الإنسان لحفظ حياته إلى تناول شيء من هذه المحرَّمات، ولذلك قال ـ تعالى ـ: (فمَن اضطرَّ في مخمصةٍ غيرَ مُتجانفٍ لإثمٍ) أي: أن مَن اضطرتْه المخمصةُ ـ أي الجوع الذي أشرف منه على الهلاك ـ إلى تناوُل شيء من المُحرَّمات؛ حفظًا لحياته فليس مرتكبًا ذنبًا بشرط أن يكون تناوُله من المحرَّم بقَدْر الضرورة، كما صرَّحت الآية الأخرى: (فَمَنِ اضُطرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إِثمَ عليهِ).
وإذا مات الإنسان يحرُم الاعتداء على أيٍّ من أعضائه أو تناول أي شيء من لحمه، إلا في مِثْل هذه الصورة، فإنه يُباح للصديق أن يأكل بقَدْر ما يحفظ عليه حياته.
وقيل في الإقناع: "وللمُضطرِّ أكل آدمي ميت إذا لم يجد مَيْتةً غيره، كما قيَّده الشيخان في الشرح والروضة؛ لأن حُرْمة الحي أعظم من حُرمة الميت".(1/1039)
في أكل لحم الخنزير:
الواجب علينا كمسلمين أن نُؤمن إيمانًا جازمًا أن الله ـ سبحانه ـ ما أحلَّ لنا إلا الطَّيِّب، وما حرَّم علينا إلا الخبيث: (وَيُحِلُّ لهم الطيباتُ ويُحَرِّمُ عليهم الخبائثَ وَيَضعُ عنهمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كانتْ عَلَيْهِمْ). وهو ـ سبحانه ـ حكيم في كل أفعاله، وكل ما أمر به عباده أو نهاهم عنه إنما هو لخيرهم، وصلاح أمرهم لحكمة بالغة حتى ولو غابت هذه الحكمة عن العباد، فواجبُنا أن نُطِيع الأمر الإلهي، نعبد الله ـ سبحانه ـ حتى وإن لم تصل مداركنا البشرية القاصِرة لحكمة الله في أوامره ونواهيه، ومع ذلك، وبالنسبة لِلَحْم الخنزير، فإن لحم الخنزير ضارٌّ بالأبدان، مُولِّد للأمراض، مُفْسِد للأخلاق؛ ذلك أنه يَحْمِل من الميكروبات ما ثبت بالتجربة العلمية أنها لا تموت في أقصى درَجات الحرارة والغلَيان، فتنتقل إلى الإنسان الذي يأكله فتُصيبُه بأمراض كثيرة قد لا يستطيع التخلُّص منها، كميكروب التينيا، وغيرها، هذا من الناحية الجسمية، أما من الناحية النفسية والأخلاقية فإن من المعروف أن خصائص الحيوان قد تنتقِل إلى الإنسان بالأكل منه، والخنزير معروف بالبَلادَة والخِسَّة، وأنه عديم الغَيْرة على أُنثاه، وهذه الصفات الخسيسة لا يرضاها الإسلام لأتباعه.
أما حالة الاضطرار التي أباح الله فيها للمُضْطَرِّ أن يتناول ما حرَّم الله عليه فقد حدَّدتها الآية الكريمة بالمخمصة أي: المجاعة، فأُبِيح في حالة المخمصة أن يأكل المسلم ما حرم عليه لرد مخمصته، فقد قال ـ تعالى ـ: (فمن اضطرَّ في مخمصةٍ غيرَ مُتجانفٍ لإثم فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ) أي: غير مائل لإثم يتجاوز به سدَّ الرمَق، وقال ـ تعالى ـ في الآية الأخرى: (فمَنِ اضطرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه).(1/1040)
وقد بيَّنت لنا السنَّة المُطَهَّرة أن هذه الحالة إنما تكون حين تَنْعَدِم جميع الأطعمة التي أحلَّها الله فإذا حدثت المخمصة، ولا يجد المسلم في البلد الذي يُقيم فيه طعامًا ولا شرابًا من لبن أو لحم أو بقل أو غيرها إلا الطعام المُحَرَّم فإن الإسلام يُبيح له أن يأكل غير باغٍ ولا عادٍ.
فقد روى أحمد والطبَراني عن أبي واقد الليثي ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله، إِنَّا بأرض تُصيبُنا المخمصةُ، فما يَحِلُّ لنا من الميتة، فقال: إذا لم تَصطبحوا ولم تَغْتَبِقُوا ولم تَخْتَفئوا بها بقلًا فشأنُكم بها.
والاصطباح: هو أكل الصَّبُوح وهو ـ هنا الغذاء ـ والاغتباق هو أكل الغَبُوق وهو ـ هنا العشاء ـ وقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار أن الصبوح: شُرْب اللبن أول النهار، والغبوق ـ بفتح الغين ـ: شُرب اللبن آخر النهار، ثم استُعْمِلا في الأكل للغداء والعشاء، وبمعنى لم تختفئوا بها بقلًا، إن لم تقتلعوا من الأرض بقلًا تأكلونه فيُغنيكم عن أكل الميتة، "فشأنكم بها" أي: فكلوا وَفْق مُقْتَضى حالكم مع المَيْتة، أي: إن لم تجدوا غير المَيْتة فكلوا منه لاضطراركم للأكل منها إذا لم تجدوا غيرها.
ويُؤْخَذ من الحديث الشريف: أن الطعام المُحَرَّم لا يَحِلُّ تناوله إلا في حالة الاضطرار، وأن حالة الاضطرار لا تكون إلا عند المخمصة، ولم يجدوا أي طعام من الأطعمة التي أحلها الله لحمًا أو بقلًا أو غيرها من أنواع الأطعمة.
وفي اعتقادِنا أن هذه الحالة لا تُوجَد في أي معيشة من المُدُن في هذه الأيام، ومع ذلك فالحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وحالة الاضطرار بَيَّنَتْها السنَّة المُطَهَّرة، والمسلم أمين على دينه مسئول أمام ربه، والله الهادي إلى سواء السبيل.(1/1041)
في استعمال دُهْن الخنزير في المُعَلَّبات مثل الزبدة واللبن:
يجب التحقُّق من أن الجمعيات والمُؤَسَّسات التي تقوم بتعليب الزبدة واللبن تَستَعْمِل في صناعة تلك المُعَلَّبات دهن الخنزير، وإذا تأكَّد لنا فيجب اجتناب كل ما تُنْتِجه تلك الشركات والجمعيات، للقَطْع بتحريم الخنزير كله، والتنبيه على تلك الشركات بترك استعمال دهن الخنزير في كل مصنوعاتها، واستبدال المُعَلَّبات التي تضطر إلى دهن الخنزير لمنع صدئها بمُعَلَّبات أخرى لا تصدأ كالألمنيوم والبلاستيك، وما يعرفه العلماء المُتَخَصِّصون في ذلك، وكما حرم الله علينا ـ نحن المسلمين ـ لحم الخنزير، وبيَّن لنا النبي أنه نجس حَرَّم علينا التجارة فيه، وحرَّم علينا استعمال أي شيء منه، وعلى مَن يعلم شيئًا في ذلك من أفراد الشعب أن يُسارع بالتنبيه على أُولي الأمر ليحفظوا على الشعب كرامتَه، ويَحُولوا بينه وبين ما يَضُرُّه.(1/1042)
هل يجوز للمسلم المتزوِّج من غير مسلمة أن يسمح لزوجته بطبخ لحم الخنزير؟
لا يَحِل لمسلم مُتَزوج من غير مسلمة أن يسمح لزوجته بطبخ لحم الخنزير أو لحم الحيوانات والطيور، المذبوحة بطريقة غير إسلامية.
ولا يحل له ـ أيضًاـ أن يُشاركها طعامها؛ وذلك لأنه ليس لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعدَّى حدود الله، فيُحِلُّ ما حرَّم الله ورسوله، أو يَرضَى بفعل ما حرم الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال الله ـ تعالى ـ: (حرمتْ عليكم المَيْتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ والمُنْخَنِقةُ والمَوْقُوذةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنطيحةُ وما أكل السبُعُ إلا ما ذكيتُمْ وما ذُبحَ على النصُبِ)، وما حرم الله على الإنسان أكله، حرَّم عليه ـ أيضًاـ أن يُقِرَّ أحدًا عليه، أو يُشاركه أكله؛ لأنه بذلك يُخالف نص الشارع الحكيم، وفِعْله يُشعر باختياره، وعدم رِضاه بحكم الله وحكم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومَن فعل ذلك مُسْتَحِلًّا له فقد كفر، والإيمان كُلٌّ لا يتجزَّأ.(1/1043)
إن هناك من الطائفة الإسماعيلية في أوربا مَن يأكلون لحم الخنزير فهل هذه الطائفة مسلمة تُؤدي الواجبات الإسلامية؟
مَن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وآمَن بكل ما جاء به من عند الله فهو من المسلمين، ولا يُخرجه من الإسلام إلا أن يُنكر شيئًا مما عُلِم من الدين بالضرورة، وأكل لحم الخنزير حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وأصبح معلومًا من الدين بالضرورة، فمَن أكله مستحلًّا له فإنه يكون كافرًا. وطائفة الإسماعيلية والبهائية والقديانية والبابية فِرَق كافرة بالإجماع.
أما مَن أكلَه، وهو مُعْتَقِد حُرْمتَه فهو مسلم عاصٍ، مُرتَكِب كبيرة من الكبائر قال الله ـ تعالى ـ: (حُرِّمتْ عليهم المَيْتةُ والدمُ ولحمُ الخِنْزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ الله به). ومِثل هذا كمثل مَن ترك الصلاة والصيام، فإنه إن ترك ذلك مستحلًّا له فإنه يكون كافرًا، أما إن ترك ذلك تكاسلًا فإنه يكون عاصيًا، فمَن أكل لحم الخنزير مستحلًّا لأكله، مع ورود النص الصريح بتحريمه فإنه يكون كافرًا، أما مَن جرى مع العُرْف والعادات في أوربا وأكلَ لحم الخنزير كما يأكلون وهو يعتقد أن لحم الخنزير حرام فإنه يكون مسلمًا عاصِيًا، وعليه أن يَتُوب توبة نصوحًا، فإن لم يَتُب فإنه يُحاسَب على ما فعل من مُخالَفة الأمر الصريح المُحَرِّم للحم الخنزير.
ومرجع الإسلام، أو عدم الإسلام هو الإيمان أو عدم الإيمان بأن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول نَسخَت رسالتُه جميع الرسالات السابقة، وكانت خاتمةَ الرسالات، فلا رسالة بعدها، وأن ما أتى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأوامر واجب الاتباع، وما أتى به من النواهي واجب الاجتناب.(1/1044)
فإذا كان الإنسان مؤمنًا بهذا فهو مسلم، وإن لم يؤمن بهذا فليس بمسلم. فكل مَن يُؤمن بوجود رسول أو نبي بعد سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو كافر، وكذلك مَن اعتقد أن رسالته ليس عامة لكل الناس أو أن رسالته ليست خاتمة لكل الشرائع فهو كافر بالإجماع.(1/1045)
في نجاسة الكلب:
لُعاب الحيوان يأخذ حكم لحمه؛ لأنه مُتَوَلِّد منه، ولحم الكلب نجَس فلُعابه (عند المالكية لُعاب الكلب طاهر، ولا شيء فيه، كما نُصَّ عليه في الشرح الصغير عند قوله "الطاهر الحي") نَجَس، فإذا كانت الحشائش التي كان الكلب عليها يَلْحَسُها مُبْتَلَّة حين جلستَ عليها فقد تَنَجَّسَتْ ثيابُك وإذا كانت جافَّةً فثيابك طاهرةٌ.
أما الوُلوغ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا وَلَغ الكلب في إناء أحدِكم فَلْيُرِقْه ثم لْيَغْسِلْه سبعَ مراتٍ"، فمعناه شرِب بطرَف لسانه في الإناء فحرَّكه، وقيل: هو أن يُدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيُحرِّكه ـ شرِب أو لم يشرَب ـ فإن كان غير مائع يُقال: لَعِقه، والتطهير من لعاب الكلب، إن كان المُتَنَجِّس ثيابًا ونحوه يكون بغَسل الثوب ثلاثَ مرات، والعصر بعد كل مرة، كما هو الحال في التطهير من المائعات النجسة، وإن كان المتنجس من لعاب الكلب إناءً وجب تطهيره بغسله سبع مرات عند جمهور العلماء الفقهاء، وروى بعض الفقهاء أن إحدى الغَسْلات يجب أن تكون بالتراب؛ أخذًا من قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه أحمد ومسلم: "طُهُور إناء أحدِكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أُولاهن بالتراب"، وفي رواية: "آخِرُهنَّ بالتراب"، ويرى الحنفية أن الواجب هو الغسل ثلاث مرات، كما هو الشأن في التطهير من باقي النجاسات، والغسل سبع مرات من لعاب الكلب إنما هو على سبيل الندب لا الوُجوب.(1/1046)
في الحكم في أكل الدجاج الدنمركي المستورد:
يقول الله ـ سبحانه، وتعالى ـ: (وَطعامُ الذينَ أُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لهم). فالدجاج المُسْتَوْرَد من هذا النَّوْع حلال ما دام قد ذُبِح ذبحًا صحيحًا ولا شيء فيه.
وللمسلم أن يأكله، ويُسَمِّي اللهَ عليه احتياطًا، فربما أنه لم يُذْكَر اسم الله عليه عند الذبح، وهذا مِن يُسْر الإسلام وسماحته وعدم تَعَصُّبه أو تضييقه، والله ـ سبحانه، وتعالى ـ أعلم.(1/1047)
بعض الناس يأكلون لحم الضبع فهل هذا يجوز؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحي إليَّ مُحرمًا على طاعمٍ يَطْعَمُهُ إلا أن يكونَ مَيْتَةً أو دمًا مسفوحًا أو لحمَ خنزيرٍ فإنه رِجْسٌ أو فسقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ فَمَنِ اضُطرَّ غيرَ باغٍ ولَا عادٍ فَإِنَّ ربَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ويقول الله ـ تعالى ـ: (حرمتْ عليكمُ الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ الله بهِ ـ بأن ذُبح على اسم غيره ـ والمنخقنة ـ المَيِّتة خنقًا ـ والموقوذة ـ المقتولة ضربًاـ والمترديةـ الساقطة من علو إلى سُفْل فماتت ـ والنطيحة ـ المقتولة بنطح أخرى لهاـ وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبِح على النصُب ـ جمع نِصاب وهي الأصنام).
ويقول الله ـ تعالى ـ: (ولا تأكلُوا مما لم يُذْكَرِ اسمُ الله عليهِ وإِنَّهُ لَفِسْقٌ) هذه الآيات الكريمة مُتَساندة مُتَعاوِنة يشرح بعضُها بعضًا وتُرشدنا إلى المنهي عنه من المطعومات.
ويُضاف إلى ذلك حديث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، وفسَّر الإمام الشافعي السباع المنهي عنها بأنها السباع العادِيَة التي تعدو على الناس كالأسد والنمر، ومن أجل ذلك أباح الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أكل الضبع؛ لأنه لا يعدو على الناس، ولا ينقضُّ عليهم مُفْترِسًا كالأسد أو النمر.
ولقد جاء في الأحاديث أن عبد الرحمن بن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع آكُلُهَا؟!
قال: نَعَم، قلتُ: أَصَيْد هي؟ قال: نَعَم، قلتُ: أفأنتَ سمعتَ ذلك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
وعبد الرحمن ـ راوي هذا الحديث ـ ثقة عند جماعة أئمة الحديث. وعلى ذلك، وبناء على مذهب الإمام الشافعي يجوز أكل لحم الضبع.(1/1048)
ما هو الذي أُهِلَّ به لغير الله؟
وهل اللحوم المحفوظة مما أُهِلَّ لغير الله به؟
وهل الأغذِيَة المحفوظة مُبَاح تناولها؟
لقد حدَّد الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمسلم حدودًا مُعَيَّنة، ورسَم له طُرُقًا مشروعة، فلا ينبغي لمسلم أن يخترق ستار هذه الحدود، أو ينتهك حِمَى تلك الطرُق التي رسمها الله وأمر باتباع ذلك كله، من بين تلك الحدود، ومن وسط هذه الطرُق، ذِكْر اسم الله ـ سبحانه ـ على ما أحلَّه الله من الحيوانات بأكل لحمه وإباحة دمه.
وهذا التفضُّل الإلهي، والتكرُّم الرباني على خلْقه بالكثير من نِعَمِه التي منها استباحة إراقة دماء بعض الحيوانات المأذون بأكلها، قرَنَه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقيَّده بشرط ذِكْر اسمه، وجعل ذِكْر اسمه على ما يذبح صِنْوَ هذا التفضُّل، بل مُقَدَّم عليه بحيث إنه لا يَحِل أكل ما أحلَّه الله إلا بذِكْر اسمه عليه عند الذبح.. (وَلَا تأكُلُوا ممَّا لم يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ).
فقد أوجب علينا أن نذكر اسمَه على ما يُذْبَح، وجعل عدم ذِكْره عند الذبح خروجًا عن طاعة الله، وأن الذي يُذْبَح ولم يُذْكَر اسمُ الله عليه فسق لا يَحِل أكلُه.
ومن هنا كان المعنى المقصود من قوله ـ تعالى ـ: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).
إنه الحيوان الذي ذُبِح ولم يُذْكَرِ اسم الله عليه، وذكر عليه اسم غيره، كقولهم اسم اللات، والعزى برفع الصوت عند ذكر غير اسم الله عليه.
أما الكلام عن اللحوم المحفوظة، هل هي مما أُهِلَّ لغير الله به أو لا؟ وهل تناوُلها مُباح؟ فالواقع المُشاهَد أنها لم تكن مما أُهِلَّ به لغير الله عند الذبح؛ لأنها لم يُقصَد بها غير الله عند الذبح، ولم يُسَمَّ عليها اسمٌ غير اسم الله عليها.
وأما الحكم عليها: أمُباح تناوُلها أم لا؟
فالجواب عن ذلك: إذا تَيَقَّن من ذِكْر اسم الله عليها فلا مانع من تناوُلها وإلا فلا يُباح تناولها. والله أعلم.(1/1049)
في الصيد
حينما ينطلِق المسلم إلى أماكن الصيد فإنه يكون:
أولاً: قاصدًا الصيد على وجه العموم من جميع الأنواع التي يُحَلُّ أكلُها.
ثانيًا: يكون مُسْتَشْعِرًا لتَسْمِيَة، ومُنطويًا عليها، سواءً انطلق بها لسانه قائلًا: "بسم الله الرحمن الرحيم" أو أسرَّ بها في قلبه، والمسلم مفروض فيه دائمًا ذِكْر الله وتَسْمِيَته، وإن لم ينطق بذلك لسانه.
ومن أجل هذين المبدأين فإنه حينما يُرسِل كلب الصيد لطائر ما أصابَه السهم أو الرصاصة فإن الصيد الذي يَنْتُج عن ذلك يَحِلُّ أكله.
يقول شيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر المتوفَّى سنة 593، في كتاب الهداية: "ولو أخذ الكلب صيدًا فقتَلَه، ثم أخذ آخرَ فقتَله، وقد أرسله صاحب، أُكِلَا جميعًا؛ لأن الإرسال قائم لم ينقطع، وهو بمنزلة ما لو رَمَى سهمًا إلى صيد فأصابَه وأصابَ آخرَ" أهـ.
أي أن مَن رمي سهمًا قاصدًا صيدًا معينًا فأصاب الصيد وأصاب صيدًا آخر أكل الصيد المقصود والصيدَ الذي لم يُقْصَد.
وعلى هذا فمَن رَمَى صيدًا، وكان بالمُصادَفة صيده مُختبئًا وراءَ آخر، وأصابت الرصاصة هذا الأخير فإنه يُؤكَل، سواءً أصابتْه الرصاصة الأولى أو لم تُصِبه.(1/1050)
في المؤمن يسكت على المُنْكَر:
إن المؤمن لا يسكُت على مُنْكَر يُرْتَكب، خصوصًا إذا كان هذا المنكر من الجرائم الكبرى مثل السرقة والقتل، ويجب أن يَمنَع القتل والسرقة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فإن لم يتمكَّن من منع ذلك بنفسه أبلغ الحاكم الأمر، فإذا حدثت السرقة أو القتل، قبل أن يتمكَّن من إبلاغ الحاكم أمرهما يجب عليه أن يدل على الفاعل، حتى يُقْتَصَّ منه فإذا لم يفعل شيئًا من ذلك فهو آثِم.
والجرائم مُتفاوِتَة، فالقتل مَثَلًا جريمة أكبر من السرقة، والفتنة جريمة أكبر من جريمة القتل، وقد فسَّر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الفتنة التي هي أكبر من القتل بأنها الصدُّ عن سبيل الله والكفر به وإخراج المسلمين من ديارهم، فقال ـ سبحانه ـ: (يَسألونَكَ عن الشهرِ الحرامِ قِتالٍ فيه..) الآية وقال ـ سبحانه ـ: (وَقَاتِلُوا في سبيلِ اللهِ الذينَ يُقاتلونَكُمْ..) الآية. وهذا النَّوْع من الفتنة موجود الآن، يتمثَّل في إخراج المسلمين من ديارهم في فلسطين، وبيت المقدس والواجب على المسلمين أن يهبوا جميعًا للقتال في سبيل الله حتى لا تكون هذه الفتنة، وأن الجهاد في سبيل الله الآنَ فرض على المسلمين أفرادًا، وفرض على جميع الدول الإسلامية، وإن كل مَن تباطأ فيه أو تهاوَن فهو آثِم.(1/1051)
مَن أكثرُ معصيةً لله من بين هؤلاء:
أـ القاتِل.
ب ـ الوُجودي الذي لا دِين له.
جـ ـ شارب الخمر ومُدمنها.
د ـ الزاني.
هـ ـ الكذَّاب.
و ـ كثير الفِتَن.
ز ـ النمَّام.
ح ـ السارق؟
أكثرُهم معصِيَة لله ـ سبحانه وتعالى ـ الوُجودي الذي لا دين له؛ لأنه يَسْنِد الأمور إلى الطبيعة مُعتَقِدًا أن كل شيء خلقتْه الطبيعة، ونَسِيَ قول الله ـ تعالى، سبحانه ـ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السمَاواتِ والأرضَ بل لا يُوقنونَ. أَمْ عندَهُمْ خَزائنُ ربِّكَ أمْ هم المُسَيْطِرونَ. أم لهم سُلَّمٌ يستَمِعُونَ فيه فَلْيَأتِ مُسْتَمِعُهمْ بسلطانٍ مُبينٍ. أم له البناتُ ولكم البَنونَ) (سورة الطور).
هذه الآيات تدل على أن كل شيء من عند الله؛ لأنه خالِق حقائق الأشياء ولا خالِق سواه، وعالِم بطبائعها، والطبيعة من نفس المخلوقات؛ فالوجوديون هم أكثر الناس معصية لله، عز وجل.
ثم يأتي من بعدهم أهل الفِتَن؛ لأن الفتنة أشد من القتل، قال الله ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (وَاقتُلُوهُمْ حيثُ ثَقِفْتُموهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حيثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القتلِ).
ثم يأتي من بعد ذلك النمَّام.. حيث يقول الله ـ تعالى ـ فيه في سورة الحجرات: (أَيُحِبُّ أحدُكم أن يأكُلَ لحمَ أخيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُموهُ وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).
ثم يأتي من بعد ذلك شارب الخمر ومُدمِنها، حيث يقول الله ـ تعالى ـ فيه في سورة المائدة: (يَا أيُّها الذينَ آمنُوا إِنَّمَا الْخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ مِنْ عملِ الشيطانِ فاجتنبوه لعلَّكُمْ تُفلحونَ. إِنَّما يُريدُ الشيطانُ أنْ يُوقِعَ بينَكُمُ العداوةَ والبَغْضاءَ في الخمرِ والميسرِ وَيَصُدَّكُمْ عن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصلاةِ فهلْ أنتُمْ مُنْتَهُونَ).(1/1052)
ثم يأتي من بعد ذلك القاتل، حيث يقول الله ـ تعالى ـ فيه في سورة الإسراء: (وَلا تَقْتُلُوا أولادَكُمْ خشيةَ إِملاقٍ نحنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْئًا كبيرًا).
ثم يأتي من بعد ذلك الزاني حيث يقول الله ـ تعالى ـ فيه في سورة الإسراء: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحشةً وَساءَ سبيلًا).
ثم يأتي من بعد ذلك السارق، حيث يقول الله ـ تعالى ـ فيه في سورة المائدة: (السارِقُ والسارِقةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جزاءً بما كَسَبَا نَكالًا منَ اللهِ وَاللهُ عزيزٌ حكيمٌ).
ثم يأتي من بعد ذلك الكذَّاب حيث يقول الله ـ تعالى ـ فيه في سورة الزمر: (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَن هوَ كاذِبٌ كفَّارٌ). وكلُّهم واقعون في مَعْصِيَة الله، وهم بعيدون عن الله ـ عز وجل ـ ولا يُقَرَّبُون إليه إلا بالتوبة النَّصُوح: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الذينَ أَسْرَفُوا على أنفُسِهم لا تَقْنَطُوا مِنْ رحمةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذنوبَ جميعًا إنه هو الغفورُ الرحيمُ).(1/1053)
في حُكم الدولة المسلمة التي لا تحكم بالقرآن وحكم الشعب التابع لتلك الحكومة:
لا يُوجَد مسلِم صادق يأبَى أن يُحْكَم بالإسلام، سواءً أكان هذا المسلم من الشعب أم من رجال الحكم؛ ذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمنونَ حتى يُحكِّموكَ فيما شجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسِهم حرَجًا مما قضيتَ ويُسَلِّموا تسليمًا) وتحكيم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو تحكيم القرآن والسنَّة، وما من شك في أن مَن لا يرضَ بالقرآن حكَمًا لا يكن مسلمًا، ولا يكن قد ذاق حلاوة الإسلام والإيمان.
والواقع أن الدول الإسلامية في الفترة الماضِيَة كانت مُكَبَّلة بأغلال الاستعمار، وكان أهلها مغلوبين على أنفسهم لا يملكون من أمرهم قليلًا ولا كثيرًا، فرض عليهم الاستعمار قوانين لا تمُتُّ إلى دينهم بصلة، وفرض عليهم نُظُمًا اجتماعية غريبة على جوِّهم الروحي، فلم يتمكنوا من أجل ذلك من التشريع لأنفسهم، ولكن الأمم الإسلامية الآنَ والحمد لله قد نفضت رجس الاستعمار عن كاهلها وأصبحت تحكُم نفسَها بنفسِها، ومن أجل ذلك بدأ المُصلِحون فيها يُنادون بالرجوع إلى جوِّهم الروحي وبيئتهم الدينية، إن الأصوات تتَعالَى بالنداء إلى تشريع قوانين نابعة من الشرق ومن العروبة ومن الإسلام، إن رجال الإصلاح الآنَ وفيهم كثير من رجال الحكم يُنادون باتخاذ الدستور القائم على قواعد من الأخلاق الدينية، وبدأت الحكومات تستعدُّ للسير في هذا الاتجاه، والله نرجو أن يكتب لها التوفيق، وأن يُهيِّئ لها جوًّا من الاستقرار تعمل فيه على إعادة الإسلام والمسلمين.(1/1054)
في الكبائر والتوبة:
الكبائر بريد الكفر، ودليل على عدم ثبوت الإيمان، والوعيد فيها شديد، بل لقد ورد عن الوعيد في كثير منها ما يُقارِب الوعيد على الكفر، كالقتل والزنى وشُرب الخمر وعقوق الوالدين وأكل الربا ونحو ذلك.
وحِفظ القرآن المقصود منه تأمُّله وتدبُّره وتعرُّف الأحكام منه وعدم الخروج على تعاليمه. وفي الحديث الصحيح: "القرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك" أي: القرآن يشهد لِما عملت من خير ويشهد على ما عملت من شر، بما فيه من تعاليم رشيدة، وأحكام سديدة تحكم على تصرُّفات المسلم وتَبَيُّن موقف الدين منها.
وهو معنى قول بعض السلَف: "رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنُه"، (يقول ألا لعنةُ الله على الظالمينَ)، وهو ظالم لنفسه ولغيره.. إلخ.
فحافِظ القرآن الذي يترك الصلاة ويَقْتَرِف الذنوب الكبيرة، لا يَزِيده حِفظه إلا لعنة من الله، ولا يجني من القرآن خيرًا ولا بركة؛ لأنه مُهْمِل لتعاليمه، خارج على حدوده، مُعْرِض عن تدبُّر ما فيه والسير على هُداه.
ومع ذلك فرحمة الله واسعة، والله لا يَغْفِر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمَن يشاء، والله ـ تعالى ـ يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الذينَ أسرفوا على أنفسِهم لا تَقْنَطُوا من رحمةِ اللهِ إنَّ الله يَغْفِرُ الذنوبَ جميعًا). فإذا ما بادَر إلى التوبة قَبِل الله توبتَه، وعاد القرآن حُجَّةً له، وتكشَّفت له أنوارُه، ونَفَعَه وهَدَاه.
فلْيُبادر إلى التوبة حَذِرًا من مَقْت الله، وليُحسن مُصاحبة القرآن وإلا طردَه القرآن عنه وأبعده منه، وخرج عن حدود الإسلام باتِّباعه خطُوات الشيطان.(1/1055)
في القتل العمد والخطأ:
للمسلم عند الله حُرْمة كبيرة ومكانة عظيمة، ومن أجل ذلك كان إرهاق رُوحُه كإزهاق أرواح البشر جميعًا. قال ـ تعالى ـ: (مِن أجلِ ذلكَ كتبْنا على بني إسرائيلَ أنه مَن قتلَ نفسًا بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنَّما قتلَ الناسَ جميعًا ومَن أحياها فكأنَّما أحيَا الناسَ جميعًا) (أحياها: تسبَّب في مَنْع قتلها).
وممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ الفرقَ واضِحٌ بين قتل العَمد وقتلِ الْخَطَأْ؛ فَفِي قتل العمد القصاص، منعًا لِتَكْرَارِه، وزجرًا لمَن تُسَوِّل له نفسُه السُّوءَ.
وفي قتل الخطأ الدِّيَة. قال ـ تعالى ـ: (وَما كانَ لِمُؤمنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمنًا إلا خطأً ومَن قتلَ مؤمنًا خطأً فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمةٌ إِلَى أهلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)، ثم يقول في آخر الآية: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ توبةً من اللهِ وَكانَ اللهُ عليمًا حكيمًا).
فعلى السائق الذي قتل رجلًا وعددًا من الناس خطأ دِيَة مَن قتله، وتشترك في أداء الدِّيَة عائلته فيما زاد على الثلُث على الراجح، وتُؤَدَّى في ثلاثة أعوام على أقساط، وتكون على البالغين من الرجال.
وهذا كله، فيما إذا لم يكن القتل ناتِجًا عن إهمال في اختبار آلات السيارة وما إلى ذلك، وإلا كان القتل عمدًا، والسائق يُقْتَل به لتسبُّبه فيه بإهماله.
كما أن القتل قد لا يكون للسائق فيه يد.. لخروجه عن إرادته كظُهور القاتل أمامه فجأة ولا يُمكنه التخلُّص من قتله، أو يكون المقتول هو السبب في هذا القتل.
وعلى ذلك فالسائق لا شيء عليه في مِثْل هذا.. وهذه الصوَر التي ذكرناها يُدركها السائق من نفسه، ويُدركها المُتَخَصِّصون، ممَّن يقومون بالتحقيق في مِثْل هذه الحوادث، ومتى حُدِّدت المسئولية كان الحكم ما ذكرناه.(1/1056)
ما حكم زوجة تُهَدِّد زوجها بالقتل من حين لآخر؟
وماذا يفعل الزوج في هذه الحال؟
وما هو الواجب على الزوجة تِجاه زوجها؟
إن القرآن الكريم فصَّل في موضع الخلاف الذي يحدث بين الرجل والمرأة، إنه قد وضع الرجل موضع القِوام على امرأته، أي: أنه قائم على المصالح والتدبير والتصرف بالنسبة للأسرة، ووَضْعُه بالنسبة للأسرة ـ بما فيه الزوجة ـ وضع الوالي بالنسبة للرعية.
فإذا حصل نُشوز ـ أي تمرُّد ـ فمن جهة المرأة فعلى الزوج أن يَتَّخِذ في ذلك مراحل لإصلاحها.
المرحلة الأولى: وَعْظُها، والوَعْظ هو بيان حكم الله في ذلك، أعني وُجوب طاعة المرأة لزوجها في غير ما حرَّم الله، وقد كثُرت الأحاديث في ذلك.
فإذا لم تَسْتَجِب فعليه أن يَهْجُرها في المضجع، فإذا لم يُجْدِ ذلك فإن ضرْبها ضربًا خفيفًا يكون أهون في شريعة الله وفي عُرْف الناس من الطلاق، وإذا لم يُجْدِ كل ذلك ـ أيضًاـ فإن الحل قبل الطلاق هو أن يُوَكِّل الزوج حكَمًا من أهله وتُوَكِّل هي حكمًا من أهلها للإصلاح بينهما، فإذا لم يُفِد كل ذلك كان الحل الوَحِيد هو الطلاق، وكل هذا مأخوذ من قوله ـ تعالى ـ: (الرِّجالُ قَوَّامونَ على النساءِ بما فَضَّلَ اللهُ بعضَهُمْ على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالِهم فالصالحاتُ قانتاتٌ حافظاتٌ للغيبِ بما حَفِظَ اللهُ واللاتي تَخافونَ نُشوزهنَّ فَعِظُوهنَّ واهجروهنَّ في المضاجعِ واضرِبُوهنَّ فإنْ أطعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عليهنَّ سبيلًا إن اللهَ كانَ عَلِيًّا كبيرًا. وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِمَا فابعَثُوا حكمًا من أهلِهِ وحكَمًا من أهلِها إن يُريدَا إصلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إنَّ اللهَ كانَ عليمًا خبيرًا).(1/1057)
أما واجب المرأة نحو زوجها فهو يُؤخَذ من الأحاديث التالية: روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "خيرُ النساء امرأة إذا نظرتَ إليها سرَّتْكَ، وإذا أمرْتَها أطاعَتْكَ، وإذا غِبْتَ عنك حَفِظَتْكَ في نفسها ومالكَ"، قال: ثم قرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآية: (الرجالُ قَوَّامُونَ على النساءِ).. إلى آخرها.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ رواه الإمام البخاري، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا دعا الرجلُ امرأتَه إلى فِراشه فأَبَتْ، فبات غضبانَ عليها لعنَتْها الملائكةُ حتى تُصبِحَ".
وبالجملة: فإن واجب الزوجة تجاه زوجها إنما هو الطاعة في غير معصية، وذلك يُؤْخَذ صراحةً من قوله ـ تعالى ـ: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عليهنَّ سبيلًا)، بيد أن مما ينبغي أن يُلاحَظ أن للنساء على الرجال حقوقًا، ومن أجل ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع: "اتَّقُوا اللهَ في النساءِ؛ فإنهن عَوَانٌ عندَكم".
ومن حقوقها على زوجها في الجملة: أن تعيش عِيشةً كريمةً مُتَمَتِّعةً بالحياة السعيدة في حدود استطاعة زوجها.(1/1058)
في اشتراك مجموعة في القتل:
إذا اشترك رجلان أو أكثر في قتل رجل واحد: فإن رأي الدِّين في الحكم على هؤلاء كالآتي:
إذا ثبت أن هذين الرجلين أو الأكثر قد اشتركوا حقيقةً في قتل رجل قتلًا عمدًا بأن ضربَه كل واحد منهم، أو أمسك به البعض، وضربه البعض الآخر، إذا ثبت ذلك ومات، فإنهم جميعًا يُقْتَلُون قِصاصًا منهم وزجرًا لغيرهم، وتبريدًا لصدور أهل القتيل.. يقول الله ـ تعالى ـ: (وَلَكُمْ فِي القِصاصِ حياةٌ).
وأما القتل الخطأ ففيه الدِّيَة تُدْفَع لأهل القتيل.
ولأهل القتيل أن يَقْبَلُوا الدية، ولهم أن يَعْفُوا وذلك خير لهم.(1/1059)
في الأخذ بالثأر:
القتل من الذنوب الكبائر التي تَوَعَّد الله عليها بالعذاب الأليم يوم القيامة، كما في الآية الكريمة (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جهنَّمُ خالدًا فيها وَغَضِبَ اللهُ عليهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ له عَذابًا عظيمًا). ومَن قتل مؤمنًا متعمدًا فيجب القصاص من القاتل.
ومع أن القاتل يُقْتَصُّ منه فليس معناه أن هذا القصاص يتوَلَّاه أي إنسان، بل يكون على يد الحاكم بعد أن تَثْبُت إدانته، ويثبُت عليه أنه ارتكب هذه الجريمة، ولا يجوز لإنسان أيًّا كان أن يتولَّى القصاص بنفسه؛ لأن ذلك إشاعة للفوضى والاضطراب.
والقاتل ارتكب هذه الفَعْلة بغير إِذْن الحاكم، مشيعًا للفوضى واضطراب الأمن، غير أنه متى استيقظ قلبه وشعر بخطورة فعله، وندم على ما فعل ورجع إلى ربه في إخلاص وصدق وطلب منه الصفح والغُفْران فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ غفور رحيم. يقبل التوبة من التائبين مهما كانت ذنوبهم إذا صدقوا حقًّا في توبتِهم فلا يَيْئَس من رحمة الله ولا يقنط، وليرجع إلى ربه بإخلاص وصدق في التوبة، وفي هذه الحالة فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أكرم من أن يَرُدَّه خائبًا: (قُلْ يا عِبادِيَ الذين أسرَفُوا على أنفُسِهم لا تَقْنَطُوا من رحمةِ اللهِ إن الله يَغْفِرُ الذنوبَ جميعًا إنه هو الغَفُورُ الرحيمُ. وَأَنِيبُوا إلى ربِّكم وأَسْلِمُوا له من قبلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العذابُ ثم لا تُنْصَرُونَ).
والوعيد في الآية على القتل يُفيد الخُلود إلا أن يعفو الله ويغفر الذنب للقاتل، والقصاص لا يُنَفِّذه إلا الحاكم بعد ثُبوت الجناية ولا يتولَّاه أهل القتيل بأنفسهم.(1/1060)
أداء الشهادة أفضل أم عدم أدائها سترًا على المسلمة؟
قرَّر الفقهاء أن مَن تَعَيَّن لأداء الشهادة فيُفْتَرض عليه أداؤها إذا طُلِب ذلك، ولا يسَعه كتمانها؛ لقوله ـ تعالى ـ: (وَلَا يَأْبَ الشهداءُ إِذا ما دُعوا) وقال: (ولَا تَكْتُموا الشهادةَ ومَنْ يكتُمْها فإنه آثِمٌ قلبُه)، ويحرُم الامتناع عن أدائها؛ لِمَا في ذلك من إضاعة حقوق الناس.
وهذا في غير الحدود. أما في الحدود كالزنى، فإن الشاهد مُخَيَّر بين أداء الشهادة لإقامة حَدِّ الله وبين الامتناع؛ سترًا على المسلم، والستر أفضل لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن ستَرَ على مسلم ستَرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ". وقد صحَّ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَقَّن ماعزًا الرجوع عن إقراره بالزنى، وسأله عن حاله؛ سترًا عليه لئلا يُرْجَم ويشتهر وكفى برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوةً حسنةً لنا، ومن هذا يتضح أن للرجل ـ موضوع السؤال ـ أن يَمتَنِع عن أداء الشهادة، بل إن في ذلك خيرًا له وهو الأفضل، كما قرَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خصوصًا أن هذه المرأة قد وعدَتْه بالإقلاع عن ذلك، وأنها تابت إلى ربها وأنابت، ولعلها تكون توبة نصوحًا فيَمُنُّ الله ـ تعالى ـ عليها بالقَبُول، ويُبَدِّل سيئاتِها حسنات، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
قال ـ تعالى ـ: (إِلَّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عملًا صالحًا فأولئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ وكانَ الله غفورًا رحيمًا)، وليس من حق أحد أن يُلزِمَه بالحلِف على القرآن الكريم أو غيره.(1/1061)
في لَعِب القمار والمال الناتج عنه:
القمار حرام: قال الله ـ تعالى ـ: (يَا أيُّها الذينَ آمنوا إنما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ من عملِ الشيطانِ فاجْتَنِبوهُ).
فالقمار وما يَنْتُج عنه من كسْب حرام، وهو مصدر غير مقبول للربح أو الاكتساب، ومن شروط المال الذي يجوز للمسلم الانتفاع به أن يكون حلالًا طيبًا لا حرامًا صِرْفًا. قال ـ تعالى ـ: (فَكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حلالًا طيبًا).
وقال: (يا أيُّها الناسُ كُلوا ممَّا في الأرضِ حلالًا طيبًا ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشيطانِ إنَّه لكم عَدُوٌّ مبينٌ).
وقد تُلِيَت هذه الآية عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني مُسْتَجاب الدعوة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يا سعدُ، أَطِبْ مطعمَك تكنْ مُسْتَجابَ الدعوة، والذي نفسُ محمد بيده: إن الرجل لَيَقْذِف اللقمةَ الحرامَ في جوفه ما يَتَقبَّلُ منه أربعينَ يومًا، أيما عبدٍ نبت لحمُه من السحت والربا فالنارُ أولى به".
ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يا أيُّها الناس.. إن الله طَيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يا أيُّها الرسُلُ كُلُوا من الطيباتِ واعملُوا صالحًا إني بما تعملونَ عليمٌ)، وقال: (يا أيُّها الذينَ آمنوا كُلُوا من طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعثَ أغبرَ يمُد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام وغُذِّي بالحرام فأنَّى يُسْتَجاب ذلك؟".
وننتهي من ذلك إلى أن شراء لوازم الإنسان بمال القمار أو كسبه لا يجوز، وكل تناول أو استعمال لهذه اللوازم يَزِيد الإنسان بُعدًا عن الله ـ تعالى ـ وخروجًا عن السعادة والنجاة.(1/1062)
فالسعي إلى الكسب من مِثْل هذه الطرُق سعي غير مشروع ومرجعُه إما إلى ضياع لِما يملِكه الإنسان، أو أخذ لِمَا لا يَسْتَحِقُّه من مال غيره.
والحلال الطيِّب هو ما ينبغي أن يَحْرِص عليه المسلم ويطلُبُه، وأكل الحرام سبيل إلى البُعد عن الله ـ تعالى ـ وعدم القُرْب منه، فالعمل لا يتقبَّله الله من آكِل الحرام، والدعاء لا ينظر الله إليه، ويكفي أن يتغذَّى به الجسم ويستمر أثرُه عليه.
ونظرة الإسلام إلى هذا المال هي نظرته إلى كل شيء مُخالف لتعاليمه، خارج عن حدوده. إنه شر يجب التخلُّص منه، وينبغي على المسلم أن ينأى عنه وأن يشتري بهذا التخلُّص سعادة الآخرة الدائمة، والإسلام بتحريم مِثْل هذا المال يبتعد بالمسلم عن الاعتماد على المصادفات وعلى الحظ وعلى ما لا مطمَع فيه، ويُوَجِّهه إلى أن يكون واقعيًّا مع الحياة يأخذ منها ما يستطيع بعرقه وجُهده ويبتعد عما لا تأثير له فيه.(1/1063)
في اليانصيب:
اليانصيب أوراق لها سعر مُعَيَّن تقوم بإصدارها جماعة أو هيئة، ثم تجمع المبالغ المُتَحَصِّلة من بيع هذه الأوراق، وتُجري قرعة على مبلغ كبير منها.. ومَن تستقر عليه القرعة يَفُز بهذا المبلغ الضخم.
والشريعة الإسلامية تنظر إلى هذا العمل على أنه صورة من صُوَر الميسر أو القمار، حيث يدفع مشتري الورقة مبلغًا صغيرًا ثمنًا لها في انتظار رِبْح ضخم، فإذا لم يَرْبَح خَسِر ما دفعه.
فاليانصيب صورة مُنَظَّمة من صور الميسر الذي حرَّمه الله ـ تعالى ـ في القرآن في قوله: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنما الخمرُ والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجتنبوهُ لعلَّكم تُفلِحونَ) ثم بيَّن عِلَّة هذا التحريم فقال: (إنَّما يُريدُ الشيطانُ أن يُوقِعَ بينكم العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ ويَصُدَّكُم عن ذِكْرِ اللهِ وعنِ الصلاةِ فهلْ أنتُم مُنْتَهُونَ).
فاليانصيب ـ لكونه لونًا من ألوان الميسر ـ ينشر العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهو مع ذلك يؤدي في ارتباك الحالة النفسية لمَن يشتَرِك فيه بين اليأس المُقْنِط والأمل الكبير، ويَبْعُد عن المُواجهة الجِدِّيَّة للمشاكل، ويجعل المرء متعلقًا بأباطيل الأماني وكواذب الآمال، ومن أجل هذا فالشريعة الإسلامية تُحَرِّمه وتُحَذِّر منه وتجعل المال المُتَحَصِّل فيه سُحْتًا لا يحل لمؤمن تناولُه أو التعامل به والاستفادة منه.(1/1064)
ما حكم من أُجبر على شراء ورقة يانصيب ورَبِحَت؟
ليس على مَن أُجْبِر (كيف يَتأتَّى الجبرُ في شراء الورقة؟) على شراء ورقة يا نصيب ذنب في هذا الشراء؛ لأنه مُضطرٌّ لذلك، مُجْبَر عليه، لا يُمكِنُه التخلُّص منه.
ولكن شراء مِثْل هذه الورقة لا يُبيح له الكسب عن طريقها أو الاستفادة من هذا الشراء، فإذا ما فازت الورقة، بمبلغ كبير فليس لصاحبها الحق في الحُصول على هذا المبلغ، وإنما له الحق في الحصول على ثمن هذه الورقة التي أُجْبِر على شرائها، ولا يجوز له أَخْذ ما يَزِيد على ذلك.
والسبب في تحريم شريعة الإسلام أخذ المؤمن هذا المبلغ ونحوه أن اليانصيب لون من ألوان القمار؛ إذ يدفع الرجل مبلغًا صغيرًا طمعًا في مبلغ كبير، فإمَّا ربِح المبلغ الكبير وإما خَسِر.
فهو بذل مال في سبيل مكسب كبير، وقد يُضَحِّي الإنسان في سبيل ذلك بما هو في أشد الحاجة إليه، وعن تحريم القمار يقول ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذين آمنوا إنما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجْتَنِبُوهُ لعلَّكم تُفلحون).
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن".
ويقول ـ أيضًا ـ: "كل لحم نبت من سُحْت فالنار أولى به".(1/1065)
في القرض بالربا عند الاضطرار:
إن الإسلام عند الإضرار وعند الإشراف على الموت جوعًا أو عطشًا يُبيح أكل المَيْتة المُحَرَّمة، ويُبيح شُرْب الخمر، وهي رجس من عمل الشيطان. وعلى هذا الأساس فإن مَن حُكِم عليه بالإعدام وقَبِلت الحكومة الدية نظير العفو عنه، فإنه ينظر فيما يملِك من أرض وعمارة أو حلي من الذهب ونحوه فيُباع وتُسَدَّد الحكومة، أما إذا لم يُوجَد شيء من هذا فإنه يجب عليه أن يَستَفْرِغ جهده في طلَب القرض الحلال: أي القرض بدون ربا من الجار أو الصديق فضلًا عن الأهل والعشيرة، فإذا عجز عن ذلك، ولم يجد طريقًا غير الربا فإنه يُباح له بقَدْر الضرورة، وإنه من المعلوم أن الربا حرام، وإن آكِلَه كالذي يتَخَبَّطه الشيطان من المَسِّ، والحُرْمة كل الحرمة على هذا الذي عنده المبالغ الطائلة فيُعطيها بالربا، ولا تسمح نفسُه أن يُعطيها قرضًا حسنًا لوجه الله الكريم.(1/1066)
في رجل كان يستثمر أمواله في الربا ثم بَنَى منها مسجدًا وأسهَمَ في أعمال خيرية فما حكمه؟
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حرَّم الربا بجميع صوِره وألوانه، وأمر بالتطهر منه بقوله ـ تعالى ـ: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أموالِكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظلَمُونَ) وكل مال خالطَه الربا فهو مال حرام، ولا بركة فيه، ويحرُم تناولُه حتى يتخلَّص المال من الربا.
والإنفاق في سبيل الله كبناء المساجد وغيرها يجب أن يكون من المال الحلال حتى يتقبَّله الله ويرضى عن فاعله، وقد ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يا أيُّها الرسُلُ كُلوا من الطيباتِ واعمَلُوا صالحًا)، وقال: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا كُلُوا من طيباتِ ما رَزَقْناكُمْ)، ثم ذكر الرجل يُطيل السفرَ أشعثَ أغبرَ يَمُدُّ يَدَيْه إلى السماء، يقول: يا رب يا رب ومطعمُه حرام، وملبسُه حرام، وقد غُذِّي بالحرام فأنَّى يُستَجاب له"، وفي هذا دليل على أن الحلال شرط في قَبُول الأعمال، وإذا كنَّا نرجو القَبُول من الله يجب أن يتحرَّى الإنسان المال الحلال ويجعل ما أنفقَه في بناء المسجد أو أعمال الخير من أصل المال أو من الكسب الحلال ليتقبَّله الله.(1/1067)
في عدم القدرة على دفع الدَّيْن:
دائن لم يَقْدِر على دفع دَيْن حتى تجاوَز عنه المَدِين قائلًا: إني تركتُ الدَّيْن لوجه رسول الله، فإذا استطاع الدائن بعد عامين مثلًا أن يدفع الدَّيْن ماذا يفعل؟ وهل يجوز إخراج زكاة من هذا المبلغ إذا كان معه وقت إخراج الزكاة؟
إذا لم يَقْدِر المَدِين على سَداد الدَّيْن وتجاوز عنه الدائن أبرأه منه فقد بَرِئت ذِمَّتُه ولا شيء عليه للدائن بعد ذلك؛ لأنه قد تَجاوَز عن دينه بمحض اختياره وتركه ابتغاءَ وجه الله ورسوله، ولا يَصِح له الرجوع في ذلك؛ لأنه قد وَهَبَه له. والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "العائد في هِبَته كالكلب يعود في قَيْئِه.." رواه البخاري.
ولا زكاة على الدائن على هذا المال؛ لأنه ليس مالكًا له.
أما المَدِين فعند استطاعته وامتلاكه المال فعليه أن يؤدي الزكاة عنه إن بلغ نصابًا وحالَ عليه الحَوْل؛ لأنه يُعْتَبَر مالِكًا له، بعد تنازُل المَدِين عنه.(1/1068)
في الأشياء المُحَرَّمة بين الرجل والمرأة:
إن الأشياء التي حرَّمها الله ـ تعالى ـ بين الرجل والمرأة حدَّدها القرآن الكريم في قوله ـ تعالى ـ: (قُلْ لِلْمُؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُروجَهم ذلك أزكَى لهم إنَّ اللهَ خبيرٌ بما يصنعونَ. وقل للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُروجهُنَّ ولا يُبدِينَ زِينَتُهنَّ إلا ما ظهرَ منها ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرهنَّ على جُيُوبهنَّ ولا يُبدينَ زينَتَهُنَّ إلا لبُعولتهنَّ أو آبائهنَّ أو آباء بعولتهنَّ أو أبنائهنَّ أو أبناء بعولتهنَّ أو إخوانهنَّ أو بني إخوانهنَّ أو بني أخواتهنَّ أو نسائهنَّ أو ما ملكَتْ أيمانُهنَّ أو التابعينَ غيرِ أولِي الإربةِ من الرجالِ أو الطفلِ الذينَ لم يظهروا على عَوْراتِ النساءِ وَلَا يضربْنَ بأرجُلِهِنَّ لِيُعلَم ما يُخفين من زينَتِهن وتُوبوا إلى الله جميعًا أيُّه المؤمنونَ لعلَّكم تُفلِحونَ).
وهاتان الآيتان تُحَرِّمان على المؤمنين النظرَ إلى ما حرَّم الله، وما حرم الله هو ما سوى الوجه والكفين، وكذلك كل ما أثار الفتنة ولو كان الوجه واليدين، ومن أجل ذلك كان النظر إلى ما حرَّم الله من جسم المرأة واللمس والمُباشرة والاتصال الجنسي، كل ذلك مُحَرَّم بين الرجل والمرأة ما لم يكن عقد، وكذلك الخَلْوة بين الرجل والمرأة مُحَرَّمة ما لم يكن عقد، والأحاديث في ذلك كثيرة، يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النظر إلى ما حرم الله مخاطبًا سيدنا عليًّا: "يا عليُّ، لا تُتْبِع النظرةَ النظرةَ؛ فإن لك الأولى وليس لك الآخرة".(1/1069)
ويتحدث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن آداب الطريق فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخاطبًا الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ: "إياكم والجلوسَ على الطرُقات" قالوا: يا رسول الله ما لنا من مَجالسنا بُدٌّ نتحدَّث فيها، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن أبيتُم فأعطُوا الطريقَ حقَّه"، قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".(1/1070)
في الزنى:
أجمع الفقهاء على أن الزاني والزانية إذا كانا غير مُحْصِنَيْنِ وثبتت عليهما جريمة الزنى بالبَيِّنة، أو الإقرار، فإن عُقوبتهما التي قرَّرها الإسلام هي الجَلْد مائة جلدة، قال ـ تعالى ـ في سورة النور: (الزانيةُ والزاني فاجلِدُوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأخُذْكم بهما رأفةٌ في دينِ اللهِ إن كنتُم تُؤمنونَ بالله واليوم الآخرِ ولْيَشهدْ عذابَهما طائفةٌ من المؤمنينَ) فإن كانا مُحصنين فعقوبتُهما الرجم بالحجارة حتى الموت؛ فقد ورد أنه جاء في القرآن الكريم مما بَقِي حكمُه ونُسِخ لفظُه: الشيخُ والشيخةُ إذا زَنِيَا فارجموهما البتةَ نكالًا من الله والله عزيز حكيم.
وصح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر برجم ماعز والغامدية حينما أقرَّا بذلك وكانا مُحْصِنَيْنِ: (تلكَ حدودُ الله ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وذلكَ الفوزُ العظيمُ. ومَن يعصِ اللهَ ورسولَهُ ويَتَعَدَّ حُدودَهُ يدخلْهُ نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مهينٌ).
وجلد الزاني والزانية إذا كانا غير محصنين ورجمهما حتى الموت إن كانا محصنين عقوبة دنيوية، وحد من حدود الله يجب على وَلِيِّ أمر المسلمين إقامته؛ حفاظًا على الأمر وصَوْنًا للمجتمع من العبَث والفساد.
أما عقوبة الآخرة فبيَّنَها القرآن الكريم، في قوله ـ تعالى ـ في سورة الفرقان في وصف عباد الرحمن بالذين: (لا يَدْعُونَ معَ اللهِ إلهًا آخرَ ولا يَقْتُلُونَ النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ ولا يَزْنونَ ومَن يفعلْ ذلكَ يَلْقَ أثامًا. يُضاعفْ له العذابُ يوم القيامةِ ويَخْلُدْ فيه مُهانًا إلا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عملًا صالحًا فأولئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ وكان الله غفورًا رحيمًا. ومَن تابَ وعملَ صالحًا فإنه يتوبُ إلى الله متابًا).(1/1071)
في رجم الزاني والزانية:
الزنى من الجرائم الخطيرة التي شدَّد الإسلام النكير على مُرتَكِبها؛ لِما لها من الآثار السيئة على الفرد والجماعة على السواء، وقد جعل الإسلام عقوبة الزاني في الدنيا الجلْد ـ إن كان غير مُحصَن ـ والرجم حتى الموت إن كان مُحصَنًا، قال ـ تعالى ـ: (الزانِيَةُ والزاني فاجلِدوا كلَّ واحد منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأخُذْكم بهما رأفةٌ في دينِ اللهِ إن كنتُم تُؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ وَلْيَشهدْ عذابَهما طائفةٌ من المؤمنينَ. الزاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مُشرِكٌ وحُرِّم ذلكَ على المُؤمنينَ).
وقد ثبت من السنة الصحيحة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجم الزاني والزانية المُحْصَنَيْنِ، وأجمعت الأئمة على ذلك وقد قرَن الله ـ تعالى ـ مُرتَكِب الزنى مع المشرك وقاتل النفس في آية واحدة مما يُنْبِئ عن فَظاعة هذه الجريمة، وشدة عقوبتها يوم القيامة.
قال ـ تعالى ـ: (والذينَ لا يَدْعُونَ مع الله إلهًا آخرَ ولا يقتلونَ النفسَ التي حرَّم اللهُ إلا بالحقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يفعلْ ذلكَ يَلْقَ أثامًا. يُضاعَفْ له العذابُ يوم القيامةِ وَيَخْلُدْ فيه مُهانًا).
وإذا كان الزنى بالأجنبية مُنْكَرًا فهو بالمُحَرَّمة أشد نُكْرًا وأعظم إثمًا. وزوجة الأخ إن لم تكن كالأخت والعمَّة وغيرهما من ذوَات الرحم المُحَرَّم فإن الزنى بها لا يَقلُّ إثمًا وجُرْمًا عن الزنى بإحدى المحارم؛ فالأخ الذي تُسَوِّل له نفسُه ارتكاب معصية مهما صغُرت مع زوجة أخيه قد اعتدى على الزوجة وخانَ الأُخُوَّة، ولم يُراعِ الأمانة مع نفسه وربِّه، وأجرَم في حق أسرته وأخيه.(1/1072)
وحكم الإسلام هو الجَلْد مائة جلدة لغير المُحْصَن والرجم حتى الموت للمحصن إذا ثبت الزنى بالبَيِّنة الشرعية أو الإقرار، هذا في الدنيا، ولَعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، وحسبُنا أن نقول: إن القرآن الكريم قد بَيَّن شدة عقوبة الزاني يوم القيامة: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَلْقَ أثامًا. يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامةِ وَيَخْلُدْ فيه مهانًا. إلا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالحًا فأولئك يُبَدِّلُ اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ وكانَ اللهَ غفورًا رحيمًا).
أما الزواج بزوجة الأخ فذلك لا يجوز إلا إذا طلَّقها زوجُها أو مات عنها وانتهت عِدَّتُها منه ما لم يكن هناك مانع شرعي.(1/1073)
في دواعي الزنى هل تُحَرِّم المُصاهرة:
يقول السادة الحنفية: إن دواعي الزنى كَلَمْسٍ أو قُبْلة بشهوة كالزنى، يُحَرِّم المُصاهرة فمَن زنى بامرأة أو ارتكب شيئًا من دوَاعيه حُرِّمت عليه أُصولها وفُروعها وحُرِّم عليها أُصوله وفروعه فيحرم الشاب السائل الزاني ببِنْتِ تلك السيدة التي ارتكب معها ما أشار إليه في سؤاله حتى ولو لم يدخل بها.
ويرى الإمام الشافعي: ـ رضي الله عنه ـ أن ماءَ الزنى هدَر لا حرمةَ له فلا يأخذ حكم النكاح في تحريم المصاهرة، فمَن زني بامرأة وارتكب معها شيئًا من دواعيه فلا يَحرُم عليه أن يتزوج ابنتها.
فيجوز للسائل ـ على رأي الإمام الشافعي ـ أن يتزوَّج بالبنت التي يرغب الزواج منها، وإن كنتُ أرى وأنصح بعدم الزواج منها، لا ترجيحًا لمذهب على مذهب، ولكن لأن طبيعة الحياة الزوجية وظروفها المُختَلفة، ستجمع بين الزوجين وبين والدة زوجته، بل لقد تُؤدي إلى الخَلْوة بينهما، وهي حينئذ حماته وأم زوجته، ويُخْشَى أن تكون هذه ثغرة يَنْفُذ منها الشيطان إليهما فيُوسوس لهما مجدِّدًا ما كان بينَهما، فينتهي الأمر بالحياة الزوجية إلى الانهيار أو على الأقل عدم الاستقرار.
هذا، وإني أُوَجِّه النظر إلى أن الإسلام حين حرَّم الخَلْوة بالأجنبية، ولو كانت زوجة العم أو زوجة الأخ أو ابنة الخال أو ما شابَه ذلك إنما فعَل ذلك حفظًا لدِين الرجل وصِيَانة لعَفاف المرأة ومُحافظة على الأسرة الإسلامية ووِقايَةً لها من أن يَحْدُث بها ما يُقَوِّض أركانَها ويُودي بأخلاق الرجال وكرامة النساء.
فعلى المسلمين أن يُراعوا تعاليم دينهم وأن يُخضعوا العُرْف السائد لأحكام شريعتهم التي جاء بها القرآن الكريم من لدن حكيم عليم، ونادت بها السنة المُطَهَّرة التي سنَّها رسول لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحَى.(1/1074)
وقد قال صاحب الرسالة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: "لقد تركتُ فيكم أمرينِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُم بهما: كتاب الله، وسُنَّتي".(1/1075)
في الإجهاض بعد تكوُّن الجنين:
قال ـ تعالى ـ في وصف عباد الرحمن: (والذينَ لا يَدْعُونَ مع اللهِ إلهًا آخرً ولا يَقْتُلُونَ النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ ولا يزنُونَ ومَن يفعلْ ذلك يَلْقَ أثامًا. يُضاعَفْ له العذاب يومَ القيامةِ وَيَخْلُدْ فيه مهانًا. إلا مَن تابَ وآمنَ وعَمِلَ عملًا صالحًا فأولئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سيئاتِهِمْ حسناتٍ وكانَ اللهُ غفورًا رحيمًا).
ولا يرضى الشرع للفتاة أن تُجهِض نفسها بعد أن يتكوَّن الجنين في أحشائها؛ لأن ذلك قتل لنفس حرَّم الله قتلَها إلا بالحق ما لم يكن في بقائه بأحشائها ضرر مُحَقَّق به، فحينئذ يجوز للضرورة؛ فإن الضرورات تُبيح المحظورات.(1/1076)
في "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن":
قال الله ـ تعالى ـ: (وَلا تَقْرَبُوا الزنى إنَّهُ كانَ فاحشةً وساءَ سبيلًا)، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "لا يَزْنِي الزاني حين يزني وهو مُؤمِنٌ".
مَن كان في قلبِه مِثْقالُ حَبَّة من خردل من إيمان يُحِسُّ بمسئولية إتيان الفاحشة ويُدرك العواقب الوخيمة المُتَرَتِّبة على وُقوعها بالنسبة للفرد والأسرة والمجتمع.
والذي يُباشر الزنى ويرضاه ذكرًا كان أو أنثى، شخص انحَطَّ مستواه عن درجة الإنسانية إلى درجة الحيَوانية، بل إن في الحيوان مَن يَعْرِف أليفَه ولا يرضى بغيره.
وحسبُك أيها الزاني تجريد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لك من الإيمان، وأنتَ مُتَلَبِّس بجريمتك، وهبْ أنَّك متَّ متلبسًا بتلك الجريمة مُوغِلًا في معصية ربك، تَفُوح منك رائحة الإثم التي تزكُم الأنوف وتجعل كل مَن يراك ويجد من تلك الرائحة من المؤمنين، يفر منك ويبتعد عنك، ولا يشارك في تجهيزك لآخرتِكَ، فمَن يُشارِك في تجهيزك؟ شياطين الإنس أم شياطين الجن؟ أو كيف يكون حالُك في الإقدام على ربك وأنت تُقارف معصيته؟
لقد قلتَ: إنَّك تحسُّ بالخجل في الصلاة ولا تستطيع إتمامها، وما أدرى ذلك إلا من عدم صِدْقك في التوبة، ولو أنَّكَ تبتَ إلى الله ـ تعالى ـ توبة نصوحًا لانشرح صدرك لله في الصلاة وكل عمل يُقَرِّبك إلى الله.
وعليك أن تُذَكِّر نفسَك بأن جريمة الزنى جريمة مُنْكَرَة لا ترضاها أنتَ لأمك ولا لأختك ولا لابنتك ولا لعمتك فإنك إن تذكَّرتَ ذلك أمكنَك أن لا تقع في الإثم، مهما كان الداعي إليه، وعليكَ ـ إن أردتَ التوبةَ النصوح ـ أن لا تَيْأَس من رحمة الله، وأن تُكثر من الاستغفار على ما فَرَّطتَ، وأن تعزمَ على أن لا تعود إلى تلك المعصية أبدًا.(1/1077)
في المُلاعبة بين النساء:
يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (وَقُلْ لِلمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ). هذا أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمؤمنات بأن يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ عن التطلُّع إلى كل مالا يَحِلُّ لهن، وأن يَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ عن كل ما حرَّم الله ـ سبحانه وتعالى ـ من الزنى وغيره مثل المُساحَقة، وهي مُعاشَرة المرأة للمرأة.
وهذا مُنْكَر، فضلًا على أنه منهي عنه؛ لأنه انتكاس للفطرة والطبيعة التي خلَق الله عليها الذكَر والأنثى، وهو ـ أيضًاـ مُنافٍ للعِفَّة والكرامة فوق أنه يُهَيِّج كُلًّا من المرأتين ويُشعل الشهوة عندهما ممَّا يدفعهما إلى ارتكاب الفاحشة ويُفضي، بهما إلى الجري وراء الرجال.
وقد نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يُفضِي الرجل إلى الرجل أو المرأة إلى المرأة في ثوب واحد، وذلك حتى لا يَحصُل مُلاصقة البشرتين بعضهما ببعض، فيُؤدي ذلك إلى المُنْكَر والفحشاء.
وقد يكون في ذلك استغناء المرأة بالمرأة مما يُؤَدِّي بهما إلى الإعراض عن الزواج وانتشار العزوبة المُفْسِدة للمجتمع.
فيَلْزَم التحامي عن هذه العادة المرذولة والابتعاد عنها، والتمسُّك بآداب الدِّين، والله هو الحافظ والمُعِين.(1/1078)
في جزاء الزوجة الخائنة:
قال الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا لا تَخُونوا اللهَ والرسولَ وتَخونُوا أماناتِكُمْ وأنتُم تعلمونَ)، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنه لا أمانَ لمَن لا أمانةَ له ولا صلاةَ ولا زكاة".
فالخيانة "عامة" هي شر ما يُبْتَلَى به المجتمع، وهي من الزوجة أشد وأنكى، وجزاؤها ما أعدَّه الله ـ سبحانه وتعالى ـ للخائنين من العذاب أليم، ولا يَصِحُّ للزوج أن يَشُكَّ في امرأته من غير أن يتحقَّق فإن ذلك يَجُرُّها إلى الفساد.
أما إذا عَلِم منها الخيانة فلا يَصِحُّ له أن يرضى بذلك. هذا في الخيانة بوجه عام.
أما إذا كانت الخيانة انحرافًا في الناحية الجنسية فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (الزانيةُ والزاني فاجلِدُوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأخُذْكم بهما رأفةٌ في دينِ اللهِ إنْ كنتُم تُؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخرِ وَلْيَشْهَدْ عذابَهما طائفةٌ منَ المُؤْمِنينَ).(1/1079)
ما حُكْم المسلم الذي يحتفظ بزوجة تَخُونه على علم؟
وما حكم الأبناء الذين يأتون نتيجة لخيانتها؟
الحديث عن هذا الموضوع لابد من التفرقة بين الظن واليقين، فإن كان الزوج يَظُن فقط وكانت المسألة لا تعدو أن تكون ظنًّا فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (يا أيُّها الذين آمنوا اجتَنِبُوا كثيرًا من الظنِّ إنَّ بعضَ الظنِّ إِثْمٌ). أما إذا كان على يقين من الخيانة فإنه يجب عليه مُباشرة مُفارقتِها، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (الزانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أو مشركةً والزانيةُ لا يَنْكِحُها إلا زانٍ أو مُشرِكٌ وحُرِّمَ ذلكَ على المؤمنينَ).
ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر: "ثلاثة حرَّم الله عليهم الجنة: مُدمن الخمرِ والعاق لوالِدَيه، والذي يُقِرُّ في أهله الخبثَ" أي: الذي يعلم بخيانة امرأته ويسكت على ذلك، أما الأبناء الذي عَلِم يقينًا أنهم ليسوا من صُلْبه وإنما هم الثمرة لخيانتها المُحَرَّمة، إذا عَلِم ذلك يقينًا فعليه أن يَتَبَرَّأ من نِسْبَتِهم إليه. ونَخْتِم الإجابة بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه ابن ماجة عن ابن مالك ـ رضي الله عنه ـ: "مَن أرد أن يلقَى اللهَ وهو طاهر مُتَطَهِّر فلْيَتَزَوَّج الحرائر" أي: العفيفات. من النساء ذوات الدِّين الطاهرات.(1/1080)
زوجة المسلم حرام على غيره:
إن زوجة المسلم حرام على غيره بأية وسيلة، وعن أي طريق، ولا يُجْدِي في استحلالها عقد شرعي؛ لأن من شروط العقد الشرعي أن لا تكون المرأة زوجةً لرجل آخر.
وعلى ذلك فهذا الزواج اعتداء أثيم وهي مُحَرَّمة عليه، ويُعْتَبَر بها زانيًا وكل لحظة تَمُرُّ بهما في هذه العلاقة هي لحظة إثم وفسوق.
فعلى الحاكم فسخ هذا النكاح، ومُعاقَبَة هذا الآثِم وعلى المسلمين جميعًا التشهير به والإنكار عليه.
أما بالنسبة لصلاتهما في المسجد فلا مانع يمنع من دخولهما المسجد والصلاة فيه فُرادَى، أو جماعة على أن يكون الإمام شخصًا آخر غير هذا الذي تزوَّج زوجة المسلم بالقوة، ولا يجوز له ـ هذا الذي تزوَّج زوجة المسلم ـ بالقوة أن يُصَلِّي بالناس إمامًا؛ لأنه فاسق آثِم، مشهور بالفسق والإثم، فلا يجوز أن يكون إمامًا.(1/1081)
في معاشرة الرجل لغير زوجته:
مُعاشَرة الرجل لغير زوجته مُنْكَر، وفاحشة، حرَّمها الله ونهى عنها، وهي من الكبائر التي شرع الإسلام إقامة الحد على مَن ثبت عليه أنه ارتكبها.
فمَن ثبت عليه ذلك وجب عليه الجلْد مائة جلدة إن لم يكن قد تزوَّج من قبل، والرجم حتى يموت إن كان قد تزوَّج قبل ذلك، بهذا جاء القرآن والسنة.
ويلزم مَن وقع في شيء من ذلك أن يُبادر بالتوبة والرجوع إلى الله ـ تعالى ـ وكل ولد ينتج من هذه المعاشرة فهو ولد زنى لا يثبت نسبُه من أحد.(1/1082)
في حضور الإمام سبوع طفل مولود من حرام:
إذا فُهِم من حضور مثل هذا الإمام إقرار الزنى أو مُبارَكَته نِتاجَه فحضور مِثْل هذا اليوم حرام على الإمام وعلى غيره، وإن كانت حُرْمَتُه على الإمام أشد.
أما إذا فُهِم من حضوره إكرام المولود الذي ينظر له المجتمع بعين الاحتقار دون ذنب جناه وردُّ ما يُمكِن أن يُؤْذِيَه به المجتمع من اضطهاد وحِرْمان فحضوره في مثل هذا اليوم حلال، بل مندوب، وعليه أن يُذَكِّر الناس بأحكام الله في أسلوب رقيق يصل إلى القلوب، أو ينتهز هذه الفرصة ليُذَكِّر بالحلال والحرام، ولعل الله يَهْدِي به الأفئدة ويُنير به الضمائر، والذي تجوز الإشارة إليه في هذا اليوم أن حضور الإمام أو عدم حضوره في اليوم السابع لميلاد أي طفل لا يَخرُج عن حدِّ المُباح.
فلم يرد الندب إلى حُضور الإمام يوم السابع من الميلاد أو إلى اجتماع الأحباب فيه.
وكل ما ورد هو الندب إلى ذبح ذبيحة يوم السابع تَيَمُّنًا بالمولود وتَقَرُّبًا إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومَن دُعِي إليها أجاب.
والولد الذي وُلِد من زنى ولَد له حقوق الأولاد العاديين على المجتمع، وإن لم يكن له مِثْل ما للابن الشرعي من حقوق.
ويُعْتَبَر كاللقيط وكل مَن أحسن إليه له ثواب هذا الإحسان، على أي وجه من الوجوه.
فالله ـ تعالى ـ لا يُؤاخِذ ولدًا بما جنى أبواه، وعلى المسلمين مُساعدة مثل هذا الطفل على أن ينشأ نشأة صالحة مستقيمة.(1/1083)
في الوضع بعد ستة أشهر:
ما دام الوضع تمَّ بعد ستة أشهر من الدخول فنَسبُه إلى مَن دخلت به، ولا يُمكن قَبُول ادِّعاء غير ذلك بأية وسيلة من الوسائل إلا باعترافها بذلك.
فقد رُوِي أن عثمان أُتِيَ بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحد. فقال له علي ـ رضي الله عنه ـ: ليس ذلك عليها، قال الله ـ تعالى ـ: (وَحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثونَ شَهْرًا) وقال: (وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَولادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كاملينِ لِمَنْ أرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعةَ) فالرضاع أربعة وعشرون شهرًا والحمل ستة أشهر.
هذا فيما يتصل بنسب الولد، وإلى مَن ينتسب.
أما إذا اعترفت بأن الولد ليس ولده، وإنما هو ولد غيره فإنها تَنْفَصِل عنه، ويُلْغَى ما كان بينهما من نكاح ثم تَعْتَدُّ منه.. ثم تَحِلُّ بعد ذلك له كما تحل لغيره، ويَصِير خاطبًا من الخُطَّاب؛ لأن النكاح ـ وهي حامل فاسد ـ يُفْسَخ ثم تَحِلُّ له بعد العِدَّة من هذا النكاح الفاسد كما تحل لغيره.(1/1084)
في مَن عمل أعمالًا صالحة وارتكب أمورًا سيئة:
مَن كان قادرًا على العمل فلم يعمل فقد أذنب وأَثِم؛ لأنه عَطَّل طاقة كان من المُمْكِن أن تأخذ بيده وبيد مجتمعه إلى ما فيه نفع ديني أو دنيوي لهما.
وإذا كان مَن يَقْدِر على العمل ولا يعمل فقد أَثِم، فما بالُك بمَن يعمل عملًا محرمًا ـ كما جاء في سؤال السائل ـ مُخالفًا لتعاليم الدين ومغضبًا لرب العالمين؟!
إن جزاء ذلك الرجل الذي اتخذ من تلك الجريمة وسيلة للكسب إنما هو العذاب يوم القيامة ومأواه النار ومثواه جهنم؛ إذ كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به.
والزنى جريمة خلُقية وكبيرة من الكبائر نهانا الله ـ سبحانه وتعالى ـ عنها وعدَّها فاحشة تُفضي إلى أسود خاتمة وأسوأ سبيل، فقال: (وَلا تَقْرَبُوا الزنى إنه كانَ فاحشةً وساءَ سبيلًا).
وأضرار هذه الفاحشة أكثر من أن تُحْصَى فهي تُقَوِّض بِناء الأسرة وتُهَدِّد بُنْيان الأمة وتنشر الفُجور فيها وتُؤَدِّي إلى اختلاط الأنساب وتُورِث الأمراض الخبيثة في المجتمع وتأخذ به للفناء والانقراض.(1/1085)
في الاستمناء:
الاستمناء داء استشرى بين الشباب، وهو داء قديم عُرِف عند بعض سُفَهاء العرب فضلًا عن غيرهم.
وقد سُئِل مالك عنه فتَلَا قوله ـ تعالى ـ: (والذينَ هُمْ لِفُروجِهِمْ حافظونَ. إلا على أزواجِهِمْ أو ما ملَكَتْ أيمانُهم فإنهم غير مَلُومينَ) فحصر الله ـ سبحانه وتعالى ـ وسيلة استخراج المني في النكاح الشرعي الصحيح أو امتلاك الإماء، وما عدا ذلك حرام لا يجوز.
بيد أن الاستمناء جائز عند الضرورة القصوى؛ لأنه إخراج فضلة من البدن كالفصد والحِجامة، ولكن أكثر العلماء على تحريمه، بل قال بعض العلماء: إن فاعلَه كالزاني بنفسه، وقال القرطبي: وهو معصيَة أحدثَها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة ويا ليتها، لم تقل. ولو قام الدليل على جوازها لَكان ذو المروءة يُعرِض عنها لدناءتها، على أن كثيرًا من الأطباء قد حذَّر من ضرَر الاستمناء بالجسم من ناحية القوة الجِنْسية، ومن ناحية قوة البصر والجهاز التنفُّسي ونحو ذلك، ورسم الطرُق للنجاة من أخطارِها كمُمارسة الألعاب الرياضية ومُخالَطة الناس، والاشتراك في الأنشطة التي تَصرِف عن التفكير فيه ونحو ذلك.
ونَزِيد على ذلك التوجيه إلى الإكثار من الصوم والعبادات، ومُخالطة علماء الدين لتنكسر الشهوات ويذهب التفكير في هذا المجال.
والعلاج الحاسم الذي يُرضي الله ورسوله إنما هو الزواج، وإذا اتَّجه الإنسان إلى الله في صِدْق راجيًا أن يُيَسِّر له أمر المعيشة والزواج، واجتهد في أن يكسِب المال من حلال فإن الله ـ سبحانه ـ يَفْتَح له الطرُق ويُيَسِّر له الرزق.(1/1086)
في غضِّ البصر والرقص الأوربي:
يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (قُلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُروجَهُمْ ذلكَ أزكى لهم إن اللهَ خبيرٌ بما يصنعونَ. وقُلْ للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارهنَّ ويَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ).
وهذا أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمؤمنين والمؤمنات بغضِّ أبصارِهم وحفظ فروجهم، وعدم إظهار زينة النساء إلا للمحارم، وذلك بُعْدًا عن مواطِن الفِتْنة وسدًّا لذريعة الفساد. ويُؤْخَذ من ذلك أن اختلاط الرجال بالنساء لا يُبِيحه الشرع إلا إذا كان في نطاق هذه الآية (آية "31" من سورة النور) والالتزام بآدابها وتعاليمها، أما اختلاط الرجال بالنساء على الوضع المألوف، والرقص والتثَنِّي فهو حرام ومُنْكَر لا يُبيحه الإسلام ولا يرضى عن فاعله.
وقد دخلت أسماء بنت أبي بكر على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها ثياب رِقاق فأعرض عنها قائلًا: "إن الجارِيَة إذا بلغت المحيض لا يَحِلُّ لها أن يظهر منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى الوجه والكفين.
والرقص الأوربي الذي يَحْتضن فيه الرجلُ امرأةً أو فتاةً لا تَحِل له، ويُراقصها على أنغام الموسيقى إنما هو إثارة شديدة للغرائز وانتهاك لِمَا حرم الله، ولا شك في ذلك، ولذا كان من المُحَرَّمات، وحُرْمته لا يختلف عليها اثنان من علماء الإسلام.(1/1087)
في قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن نظرَ إلى محاسن امرأةٍ لا تَحِلُّ له صُبَّ في عينيه الآنُكُ (الآنُك: الرصاص الخالص) يوم القيامة".
فكيف يتجنَّب الإنسان هذا الإثم؟
يتجنب الإنسان إثم النظر إلى كل امرأة لا تَحِلُّ له بغَضِّ البصر، كما قال الله تعالى، وخفضه إلى الأرض واشتغاله بما هو ألزم له إن كان ماشيًا كي لا يتعَثَّر في طريقه، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجعل بصرَه إلى الأرض مهما سار في طريقه راجلًا أو راكبًا، ومَن كان همُّه مولاه اشتغل به عن كل ما سواه.(1/1088)
في تلقيح أطفال الأنابيب:
تلقيح الأطفال في الأنابيب لا يجوز ولا تدعو إليه مصلحة ولا ضرورة، وهو اتجاه فاسد؛ لأنه بهذا الاتجاه تَنْقَطِع الروابط الإنسانية التي يقول الله فيها: (يا أيُّها الناسُ إِنَّا خلَقْناكم من ذكَرٍ وأنثى وجعلْناكم شعوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفُوا).
وهذا الذي يُرَبَّى في أنبوبة يخرج إلى الحياة ـ إذا أُخْرِج ـ وهو لا يرتبط بالإنسانية بأب ولا بأم، ولم يعرف حنان الأب أو الأم، ولا عطفهما فيكون مجردًا عن كل ما تتحلَّى به الإنسانية في عواطفها وفي توادِّها وتراحُمها، فيكون ضررُه على المجتمع كثيرًا.
ومما يجدُر أن نُوجِّه الأنظار إليه، أن تلقيح الأطفال في الأنابيب لا تعني خَلْقًا أو اختراعًا وإنما تعني تغيير الجو الذي ينمو فيه الطفل ونقله من رحم الأم إلى رحم الأنبوبة أو داخلها.. إنه تقليد لِمَا جرَتْ عليه طبيعة التناسُل، ومُحاكاة لجوِّ الرحم في داخل الأنبوبة، ولا يُوجَد ما يدعو لإباحته، والإنسانية الآنَ تشكو كثرةَ النسل، وهي بصدد تحديده فلا حاجة مطلَقًا لزيادته عن طريق فاسد يُضِرُّ بالإنسانية أكثر مما يَنْفَعُها.(1/1089)
رأي الدين في السينما والمسرح:
السينما شأنُها شأن المسرح، والتليفزيون، تكون أحيانًا مُباحة وأحيانًا مُسْتَحَبَّة إذا كانت تَعرِض أفلامًا ثقافية، أو تُوَضِّح أمورًا غامضة عن الكون: في أعماق البحار أو في أرجاء المعمورة، أو في آفاق السماء.
وكلما كانت الأمور المعروضة هدفها إصلاح المجتمع أو بيان الحقائق، أو تهذيب الأخلاق أو عرض ما يَحْسُن بالإنسان معرفته من زوايا العلم وظواهر الكون، فإن مُشاهَدتها في السينما لعامة الناس مُباحة بل مُسْتَحَبَّة.
كل هذا ما لم يتخلَّل ذلك ما يُحرِّمه الدين، مثل العُرْي، والرقص الخليع والأسلوب النابي ورؤية النساء الكاسِيَات، العارِيَات اللاتي قال فيهن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنهن بعيدات عن الجنة وعن رائحة الجنة".
أما إذا كانت الأفلام أفلامًا مثيرة للجنس تُبرز مفاتن المرأة وتدعو إلى الإغراء وإذا كانت عبثًا ولهوًا، وإذا امتلأت بالأسلوب المكشوف فإن الإسلام لا يُبيح مُشاهدتها لعامة الناس وجمهورهم، ودواعي هذا التحريم وبواعِثه لا تَخْفَى على الناس، فهي واضحة وُضوحًا لا خفاءَ فيه.
وذلك أن الإسلام يُحافظ ما استطاع إلى ذلك سبيلًا على الأعراض، ويَسُد سبُل الفتنة وينهى عن السوء بكل الوسائل.
ولقد حرَّم التبرُّج؛ لأنه يؤدي إلى الإغراء والفتنة، وحرَّم الخَلْوات المنفردة بين الرجال والنساء؛ لأنها مزالق الشيطان.
فإذا ما أصبحت السينما أداة للإغراء وإذا ما أصبحت الأجسام النسائية تُعْرَض فيها وكأنها سلعة تُعْرَض على الناس، فإن ذلك ينهى عنه الإسلام نهيًا تامًّا.
أمَّا إذا تبرَّأت الأفلام وتبرأت المسرحيات من ذلك فلا بأس بحُضورها، وهناك محاولات لإيجاد المسرح الإسلامي وإيجاد الفيلم الإسلامي، وإيجاد التمثيليات والروايات الإسلامية، وإنه حينما تنجح هذه المحاولات مُبَرَّأَةً من الفساد فإنها تكون ثروة للإصلاح وللتهذيب ويكون حضورها مستحبًّا.(1/1090)
في التمثيل وشخصية الرسول:
إن التمثيل في ذاته وسيلة ثقافية، سواءً كان على المسارح أو الشاشة أو التليفزيون فإن كثيرًا من روائع التاريخ وأحداث السياسة، ومواقف الأبطال في ساحات الجهاد والدفاع عن الأوطان ينبغي أن يتجدَّد ذِكْرُها، ويُنادَى بها لتكون فيها القدوة الحسنة للأجيال الحديثة، وذلك إذا كان تمثيلها تمثيلًا واقعيًّا صحيحًا. غير أن التمثيليات قد تتجاوز الأهداف الجِدِّيَّة وتُتَّخَذ وسيلةً لِمَا هو ممنوع.
ولَمَّا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقامُه أعلى مقام وحرَكاته وسكَناته وحديثه تشريع كما قال ـ تعالى ـ: (وَمَا يَنْطِقُ عنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْي يُوحَى)، فإن منزلته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فوق منزلة الناس، وذلك يُؤْخَذ من قوله ـ تعالى ـ: (لا تَجْعَلُوا دعاءَ الرسولِ بينَكُمْ كدُعاءِ بَعْضِكُمْ بعضًا) وقوله ـ تعالى ـ: (يَا أيُّها الذينَ آمنُوا لا ترفَعُوا أصواتَكُمْ فوقَ صوتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا له بالقولِ كجهرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ وأنتُم لا تشعُرونَ).
ولا تُوجَد شخصية تُماثِل شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يجوز تمثيله بأي حال من الأحوال، وهذا للاعتبارات الآتية:
1ـ لأن مقامَه أعلى وأجلُّ من أن يُتَّخَذ وسيلةً للتمثيل وغيره.
2ـ كل ما يصدُر عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشريع؛ لأنه لا يَنْطِق عن الهوى.
3ـ هو القدوة الحسنة في كل الأعمال.
4ـ التمثيل قد ينحرف بالمُمَثِّل إلى ما لا يُناسب مقام الرسول، صلوات الله وسلامه عليه. لكل هذا ينبغي أن يُسَدَّ هذا الباب نهائيًّا ولا يَصِحُّ التفكير فيه؛ لأنه فتنة وفساد كبير.(1/1091)
في الغِيبة:
لقد حذَّرنا الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز من الوُقوع في الغيبة، وشبَّه صاحبها بآكل لحم المَيْتة فقال ـ سبحانه ـ: (يا أيُّها الذين آمنُوا اجتَنِبُوا كثيرًا من الظنِّ إنَّ بعضَ الظنِّ إِثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَبْ بعضُكم بعضًا أَيُحِبُّ أحدُكم أن يأكُلَ لحمَ أخيهِ مَيْتًا فكَرِهْتُمُوه واتَّقُوا الله إن الله توَّابٌ رحيمٌ) فقد مثَّل الله ـ تعالى ـ الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وأراد ـ سبحانه ـ زيادة التنفير فجعل المأكول أخًا ومَيْتًا، ويقول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فيما رواه البخاري ومسلم: "كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه، ومالُه، وعِرْضُه". ولا ريب أن الغيبة تتناول العِرْض، وقد جمع ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ بينه وبين المال والدم، ويقول ـ صلوات الله عليه ـ فيما رواه أبو داود بإسناد جيد: "يا معشرَ مَن آمَن بلسانه ولم يُؤمِن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تَتَّبِعُوا عَوْراتهم؛ فإن مَن اتبع عورة أخيه تَتَبَّع الله عورته، ومَن تَتَبَّع الله عورتَه يَفْضَحُه في جوف بيته".(1/1092)
هذا هو الأصل،ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (لا يُحِبُّ اللهُ الجهرَ بالسوءِ من القولِ إلا مُن ظُلِم)، والظالم فاسق، وقد أباح الله الجهرَ بالسوء في حقِّه، وقد أباح الفقهاء قياسًا على ذلك وأخذًا من بعض الأحاديث غِيبة المُجاهر بالفِسق، والمُجاهر بشُرْب الخمر، وقالوا: ثلاثة لا غِيبة لهم: الإمام الجائر، والمُبتدِع، والمُجاهِر بفسقه. وقد وردت أحاديث تُبيح أنواعًا من الغيبة مثل قوله ـ صلوات الله عليه ـ: "أتُرْعَوْن عن ذِكْر الفاجر، اهتِكُوه حتى يعرفَه الناس واذكروه بما فيه حتى يحذَرَه الناس". ويقول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: "مَن ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غِيبةَ له"، وقال سيدنا عمر ـ رضوان الله عليه ـ: "ليس لفاجر حرمة" أما الأثر: "لا غِيبة في فاسق"، فإن معناه صحيح، وإن كان لفظه لم يَصِح من طريق صحيح، وعلى كل حال فإن الغرض المُرَخَّص لذلك إنما هو الإصلاح والتحذير من الشر، والتوجيه للخير.(1/1093)
في الغِيبة في الفاسق:
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَلَا يَغْتَبْ بعضُكُمْ بعضًا أَيُحِبُّ أحدُكُمْ أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رحيمٌ).
وفيما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أتدرُونَ ما الغِيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلمُ. قال: ذِكْرُك أخاكَ بما يكرَهُ، قيل: أرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتَبْتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّهُ". هذا هو موقف الإسلام من الغِيبة بوجه عام. ولكن الظروف قد تُحَتِّم أن يتحدث الإنسان عن شخص بما به، وقد أباح الإسلام ذلك في ظروف محدودة وبشروط مُعَيَّنة، منها:
التظلُّم: فيجوز للمظلوم أن يُعلن ويقول بأن فلانًا ظلمني بكذا.
ومنها: إذا سُئِل الشخص عن إنسان يَعْرِفه، وكان ذلك من أجل مُشاركة أو مُصاهرة أو معاملة أو مُجاورة، فيجب أن يذكر عنه ما يعلمه بنية النصيحة.
والقياس العام هو أن تُباح الغِيبة لغرض صحيح شرعي لا يُمكن الوُصول إليه إلا بها، فكلما وجد هذا الغرض الشرعي الصحيح يُباح للإنسان أن يتحدث عن الغير بما فيه.(1/1094)
في استبدال جزء من المَعاش:
قد يلجأ كثير من المُوَظَّفِين إلى استبدال جزء من معاشهم للانتفاع به، وذلك بأن يحصلوا على مبلغ من المال جملةً يُسْتَقْطَع من المعاش بنسبة مُعَيَّنة مع فائدة قد تُضاعِف المبلغ الذي حصلوا عليه.
وهذا التصرُّف يُوقِع الأسَر في كثير من الاضطرابات المالية بعد إحالة المُوَظَّف إلى المعاش أو وفاته.
وفضلًا عن ذلك هو من التعامُل بالربا المنهيِّ عنه، والذي حرَّمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بقوله: (وَأَحَلَّ اللهُ البيعَ وحرَّمَ الرِّبَا)، وقوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا اتقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ من الربا إِنْ كنتُمْ مُؤمنينَ)، وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لعنَ الله آكِلَ الربا ومُؤكلَه وكاتبَه وشاهِدَيْهِ".(1/1095)
في لُبس الحرير والذهب:
روى جماعة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج، وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب قال: "هذان مُحَرَّمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم"، ويروى: حِلٌّ لإناثهم. ولهذا فقد أجمع الفقهاء على تحريم التحلِّي بالذهب والفضة للرجال.
وقد رُويَ عن علي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن التختُّم بالذهب، وأما الأسنان فقد قال أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ: لا تُشَدُّ الأسنان بالذهب وتشد بالفضة، وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد: لا بأس بالذهب ـ أيضًاـ ودليلهما أن عرفجة بن أسعد الكناني أُصيب أنفه في موقعة من المواقع العظيمة بين العرب تُسَمَّى يوم كُلاب ـ وكلاب بضم الكاف، على وزن غراب: وادٍ بين البصرة والكوفة ـ فاتخذ أنفًا من فضة فأنتنَ فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يَتَّخِذ أنفًا من ذهب، فقياسًا على إباحة اتخاذ الأنف من الذهب للضرورة أُبيح شد الأسنان من الذهب للضرورة كذلك، ويرى أبو حنيفة أن الضرورة في الأسنان تندفع بالفضة.
ومن هنا يتضح للسائل أن الفقهاء قد اختلفوا في إباحة شد الأسنان بالذهب، فإن لم يمكن اتخاذها من الفضة، وكان لابد من الذهب فلا مانع من ذلك؛ عملًا بقول أبي يوسف ومحمد، رحمهما الله، ولأن الضرورات تُبيح المحظورات.(1/1096)
في حُرمة الشعوذة:
يحثُّ الإسلام دائمًا على العمل الجاد المُثْمِر، ويأمر بتحرِّي الحلال في الكسْب.
والشعوذة من الأمور المُنافِيَة لتعاليم الإسلام، والبعيدة عن مبادئه، وهي من النصب والاحتيال على الكسْب غير المشروع، وقد نهَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: "إن الكِهانة والتكهُّن في النار". والكسب من ورائها كسب خبيث لا يَحِلُّ أكلُه ولا الانتفاع به، وقد كان لأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ غلام فأتاه يومًا بطعام، وبعد أن تناوَل منه لُقمة سأله عن مصدره، فقال له: كنتُ أُحسِن الكِهانة في الجاهلية، ولقد مررتُ بقوم فتكهَّنْتُ لهم فأَعْطَوْني هذا الطعامَ فوضع أبو بكر إصبعه في فمه واستقاء هذه اللقمة قائلًا: والله لو لم تخرج مع نفسي لأخرجتُها لأنني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "كلُّ جسد نبَتَ من سُحْت فالنارُ أولَى به"، وإني خَشِيتُ أن ينبُتَ شيء من جسدي من هذه اللقمة.
ومن ذلك يُعرَف أن الشعوذة عمل غير مشروع ولا يَحِلُّ الانتفاع بشيء من الكسب المُتَحَصِّل من هذا العمل.(1/1097)
في حكم أكل مال اليتامَى بغير رضاهم:
أساس الحكم في هذا الموضوع قوله ـ تعالى ـ في سورة النساء: (إِنَّ الذينَ يأكُلونَ أموالَ اليتامَى ظُلْمًا إنَّما يأكُلونَ في بُطونِهِمْ نارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).
ولقد شاهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلةَ أُسْرِي به عذاب الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا.
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قلنا يا رسول الله، ما رأيتَ ليلةَ أُسْرِيَ بك؟ قال: "انطلق إليَّ خلْق من خلق الله كثير، رجال، كل رجل منهم له مِشفَر كمشفر البعير، وهو مُوَكَّل بهم، رجال يفكُّون لحاء أحدهم ثم يُجاء بصخرة من نار فتُقْذَف في فم أحدهم حتى تخرج من أسفله ولهم جُوار وصُراخ.
قلت: يا جبريل، مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا: (إنما يأكُلونَ في بُطونِهم نارًا وسيصلَوْنَ سعيرًا).
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صرَّح بأن أكل مال اليتيم من السبع المُوبقات أي التي تُوبِق الإنسان في جهنم أي تُدخله فيها، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اجتَنِبوا السبعَ المُوبقات"، قيل: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: "الشركُ بالله، والسحرُ، وقتلُ النفسِ التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتوَلِّي يومَ الزحف، وقذف المُحْصَنات الغافلات المُؤمِنات".
أما الإمام السندي فإنه قال: "يُبْعَث آكِلُ مالُ اليتيم يومَ القيامة ولهيبُ النار يَخرُج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه، يَعْرِفُه كل مَن رآه، وقَانا اللهُ شرَّ هذا كله.(1/1098)
في التسوُّل بقراءة القرآن:
قراءة القرآن بهذه الحالة امتهان، فهي ممنوعة شرعًا؛ لأن القارئ بهذه الكيفية يُعَرِّض القرآن للسخرية، وهناك وسائل كثيرة للحياة الكريمة بدل الاستجداء بالقرآن، وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حافظين للقرآن، ومع هذا كانوا تُجَّارًا، وكانوا عاملين للحياة الكريمة العزيزة، قال الله ـ تعالى ـ: (وللهِ العِزَّةُ ولِرَسولِهِ وللمؤمنينَ).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لأنْ يأخذَ أحدُكم حبلًا فيَحْتَطِب فيبيع فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسألَ الناسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوه".
ويظهر في هذا الحديث النهي عن المسألة والتحذير منها، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنها تأتي يوم القيامة نُكتةً سوداءَ في وجه صاحبِها"، وقالَ: "اليدُ العُلْيا خير من اليدِ السُّفْلَى".
وزجر رجلًا تفرَّغ للعبادة وترك السعي وراء الرزق، وكان أخوه الذي يُنفق عليه، حيث قال له: "أخوكَ أعبدُ منك".
وضرب عمر ـ رضي الله عنه ـ رجلًا اعتكف في المسجد، وهو قادر على الكسب، وقال له: "إن السماءَ لا تُمطر ذهبًا ولا فضة".
وأمرنا الله ـ تعالى ـ بالسعي، لا فرق بين قارئ للقرآن وغيره، حيث قال: (فامْشُوا في مَناكِبِها وكُلوا مِنْ رِزْقِهِ) وقال: (فإذا قُضِيَتِ الصلاةُ فانتشِرُوا في الأرضِ وابتُغُوا من فضلِ الله). وقال: (وَقُلِ اعمَلُوا فسيَرَى اللهُ عملَكُمْ ورسولُه والمؤمنونَ) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث المُحَذِّرة من التكاسُل عن العمل، بل كانت حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثَل الأعلى في السعي والعمل، وهو إمام المتقين.(1/1099)
في إنشاء بنك اللبن:
من المعلوم أن الشريعة الإسلامية تُحَرِّم من الرَّضاع ما تُحَرِّم من النسب، يقول رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: "يحرُم من الرضاع ما يحرُم من النسَب"، معنى هذا أن الشريعة الإسلامية تُحَرِّم على الشخص تناوُل لبن أجنبية ما يُحرِّمه النسب، بشروط ذكرها الفقهاء، وبذلك نعلم أن إنشاء بنك للَّبن فيه اختلاط للأنساب؛ لأن الطفل حينما يتناول لبنًا معينًا تصير صاحبَة اللبن أمًّا له، ويَصِير زوجها أبًا له، أي أنه يُحسَب من أسرة صاحبة اللبن فيحرُم عليه أن يتزوج من بنات هذه المرأة سواءً من هذا الزوج أو من غيره، وكذلك يحرم عليه تزوُّج بنات هذا الرجل سواءً من هذه المرأة أو من غيرها.
ومما سبق يُعلَم أن إنشاء بنك اللبن فيه اختلاط للأنساب لا يَقِل خطرًا عن اختلاط الأنساب في الزنى، إذ يجوز أن يتزوج الإنسان أختَه من الرَّضاع أو عمَّته من الرضاع.. إلخ فنكون بهذا قد اعتَدَيْنا على أصل من أصول هذه الشريعة الغرَّاء فالإسلام ـ إذنْ ـ يَحُول بينَنا وبين مثل هذا العبث بمُقَدَّساته.(1/1100)
في تحديد النسل:
إن الأسباب التي قد تُوحِي إلى بعض الناس بتحديد النسل كثيرة، منها، مثلًا:
1ـ أن تكون المرأة مريضة لا تحتمل صحتُها الحمل والوِلادة ويُقرر الأطباء أن في الحمل خطورة على حياتها، وفي هذه الحالة يُباح لها تحديد النسل.
2ـ ومنها أن تَرْغَب المرأة ويرغب زوجُها في استبقاء جمال المرأة وسمنها ـ كما يقول الإمام الغزالي ـ لدوام التمتُّع بها واستبقاء حياتها خوفًا من خطر الطلق، يقول الإمام الغزالي "وهذا ـ أيضًا ـ ليس منهيًّا عنه".
3 ـ ومنها أن يتحرَّج أحدهما من إنجاب ذرية مريضة، وفي هذه الحالة يُباح ـ أيضًاـ تحديد النسل، أما الحالة الوحيدة التي يحرُم فيها تحديد النسل فهي الخوف من عدم وجود القُوت بالنسبة للأسرة؛ لأن الله ضمن الرزق لكل كائن، يقول ـ تعالى ـ: (وَما من دابةٍ في الأرضِ إلا على الله رِزْقُها).
علمًا بأن تحديد النسل يختلف عن تنظيم النسل، فإن تحديد النسل لا يخضع لظروف أو مُلابسات وإنما يَسير بطريقة تعسُّفِيَّة تَحَكُّمية، أما تنظيم النسل فإنه يُساير الظروف والملابسات ويخضع للأحوال والعوامل والمُناسبات، وحينما يتخلَّى الإنسان عن الاعتقاد الفاسد من أن الله يخلق شخصًا ولا يتكفَّل برزقه، فإن تنظيمه للنسل للظروف الاضطرارية لا مانع منه.(1/1101)
في الاشتغال بالمِزمار:
الشخص الذي ينفخ في المزمار آثِم ما لم يكن في عُرْس لورود النهي عن ذلك، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أُمِرْتُ بهدم الطبل والمزمار"، أخرجه الديلمي، وعن ابن مسعود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الغناء يُنبِت النفاق في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ" رواه البيهقي وابن أبي الدنيا، وأبو داود بدون التشبيه، وعن علي ـ كرم الله وجهه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن ضرْب الدفِّ ولعب الصنج وضرب المزمار؛ لما أسلفنا من الأحاديث نرى أن الاشتغال بالمزمار حرام، وقد عدَّه ابن حجر الهيتمي من الكبائر بالنسبة لفاعلِه ومستمعه.(1/1102)
في مُرَتَّب مُدَرِّس التربية الإسلامية:
الأصل في المُرَتَّب الذي يتقاضاه مدرس اللغة العربية أنه حلال؛ لأنه أجر في مُقابل عمل مشروع، ونقول: الأصل؛ لأنه إذا أهمل المُدَرِّس في عمله أو تكاسَل أو نالَه الفُتور فيه فإن مرتبه لا يُصبح حلالًا طيبًا، وبقَدْر نشاطه ـ إذن ـ وإخلاصه في عمله يكون مرتبُه حلالًا، وبقدر إهماله يكون حرامًا.
أما مرتب مدرس التربية الإسلامية فليس منظورًا فيه إلى أنه أجر في مقابل عمل مشروع؛ لأن الأعمال الدينية لا أجر عليها إلا من الله ـ تعالى ـ وإنما ينظر المسلمون إلى الأمر بالمنظار الآتي:
وهو أن هذا المدرس تفرَّغ لعمل يُفيد الأمة فيجب على الأمة أن تكفُل له نفقته، وهكذا كان الأمر بالنسبة للخلفاء الراشدين ـ رضوان الله عليهم ـ لقد كانت أعمالُهم كلها دينية في سبيل الله، حتى التي ترتبط بالمصالح الدنيوية، منها لابد أن تكفُل لهم الأمة أمرَ نفَقاتهم، فقدَّرت لهم من بيت المال ما يَكْفِيهم، وهذا هو الأساس الذي يُبيح أخذ المُرَتَّب على تدريس التربية الدينية الإسلامية.(1/1103)
في الحَلِف بغير الله:
روى البخاري ومسلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله ينهاكم أن تَحْلِفُوا بآبائكم، مَن كان حالفًا فلْيَحْلِف بالله أو لِيَصْمُت"، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كلُّ يمين يُحلَف بها دون الله شِرْك".
من هذا نعلم أن الحَلِف لا يكون إلا بالله ومِثْل الحلف بالله الحلف بالقرآن؛ لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته فهو كالحلف بالله سواءً بسواء، وأما الإجبار على الحلف فممنوع شرعًا إلا إذا كان لغرض شريف، مثل التثبُّت من صحة قول الحالِف في موضوع يتصل بمصلحة المسلمين. وإلا فالإجبار على الحلِف الباطل حرام، والإكراه على الحلف لا يُضِرُّ الحالف إذا تحقَّقت شروط الإكراه، وكان الحالف بريئًا، وعند الإكراه بغير حق، يَرفع الحالف أمر مَن أكرهَه إلى القضاء؛ لحفظ دينه وكرامته، وإذا ترتَّب على ذلك أضرار مادية يَرفَع الحالف أمره إلى القضاء.(1/1104)
في اللُّقَطة:
إن الأشياء التي يجدها الإنسان في الطريق إذا كانت ذات قيمة فإنه يجب على الإنسان أن يُعلن عنها في أماكن وجودها، والمظانِّ التي يُوجَد فيها صاحبها، وعليه أن لا يتصرف فيها تصرفًا يَنْقُص من قيمتها على أي وجه من الوجوه، ولا يَحِلُّ له أخذُها لنفسه بمجرد العُثور عليها، فإذا لم يجد صاحبها فعليه أن يُسَلِّمها لقسم الشرطة حتى يأتي صاحبُها ويتعرَّف عليها.
ومسألة الإيداع في قسم الشرطة أمر لم يكن معروفًا من قبل، ولذلك قال الفقهاء: إن مَن وجد شيئًا ذا قيمة ويَئِس من وُجود صاحبه بعد البحث عنه فإنه إذا كان مُحتاجًا إليه احتياجًا حقيقيًّا فله أن ينتفع بالشيء، وإذا لم يكن مُحتاجًا له وجب عليه أن يتصدَّق به على ذمة صاحبه؛ لأنه لمَّا عجز عن إيصال عين الشيء إليه فعليه أن يُوصِّل ثوابه إليه. والإعلان عن المفقود يكون بحسب قيمته مدة ومكانًا.(1/1105)
في السرقة:
يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (والسارقُ والسارقةُ فاقطَعُوا أَيْدِيَهُما جزاءً بما كسبَا نكالًا منَ اللهِ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ).
فحد السرقة هو قطع اليد، وهذا هو حدُّها في الشرع في أي بلد كان من بلاد الإسلام لا يختص ببلد دون بلد، فمَن طبَّق هذا الحد كان مُمتَثِلًا لأمر الله أينما وُجِد، ومَن لم يُنَفِّذ هذا الحدَّ على السارق كان مُخالفًا لحكم الله، في أي مكان كان، وقطع يد السارق يُطَبَّق دائمًا في مكة حينما تَثْبُت جريمة السرقة ثبوتًا قاطعًا، ويطبق ـ أيضًاـ في جميع أرجاء المملكة العربية السعودية، وقد كانت السرقة مُنْتَشِرة في هذه المملكة قبل تطبيق هذا القانون، فلما طُبِّق على السارق قلَّت السرقة قِلَّةً كبيرة، حتى لقد أصبحت نادرةً أو غير موجودة في كثير من المُدُن والقرى.(1/1106)
في صِلَة الرحم:
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولو الفضلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمساكِينَ والمُهاجرينَ في سبيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لكم واللهُ غفورٌ رحيمٌ).
نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وقد حلف ألا يُنفق على مسطح، وهو ابن خالته، وكان مسطح هذا مسكينًا فقيرًا، وقد فعل سيدنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ذلك، عندما أساء إليه مسطح إساءةً بالِغةً، فلما نزلت الآية قال سيدنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بلى، أنا أُحِبُّ أن يَغْفِرَ الله لي، ورجع إلى مسطح ما كان يُنْفِقُه عليه.
وفي معنى هذه الآية الكريمة الأحاديث الكثيرة التي تُعَبِّر عن مستوى رفيع في الأخلاق وتعبر عن الشعور السامي في الإنسانية، يقول ـ صلوات الله عليه ـ: "أفضلُ الصدقةِ على ذي الرحِم الكاشِح"، أي: المُنْقَطِع المُعادي.
على أن صِلَة الرحِم ليست مُكافأة على معروف ولا جزاءً على حسنات، وإنما هي واجب ديني وإنساني حثَّ عليه الإسلام ويُحَذِّر من البُعْد عنه، يقول ـ صلوات الله عليه ـ: "ليس الواصل بالمُكافئ، ولكن الواصل الذي إِنْ قُطِعت رَحِمُه وَصَلَها".
وجاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُم عليهم ويجهلون عليَّ، فامتدحه ـ صلوات الله عليه ـ على فعلِه، وحثَّه على التزامه وعدم العُدول عنه.
على أن مَن أحب أن يُبْسَط له في رِزْقِه ويُنْسَأَ له في أجلِه فَلْيَصِل رَحِمُه. ونختَتِم الإجابة بقوله ـ تعالى ـ: (وَلَا تَسْتَوِي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفَعْ بالتي هي أحسنُ فَإِذَا الذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنَّه وَلِيٌّ حميمٌ. وما يُلَقَّاها إلا الذين صبرُوا وما يُلَقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ).(1/1107)
في بِرِّ الوالِدَيْنَ:
قال ـ تعالى ـ: (وَوَصَّيْنا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وقال: (ووصَّيْنا الإنسانَ بوالِدَيْهِ إحسانًا)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الجنةُ تحتَ أقدامِ الأمَّهاتِ".
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الحثِّ على الإحسان إلى الوالِدَيْن ووجوب إكرامهما والتزام الخلُق الخَيِّر بالنسبة إليهما كثيرة، ولقد نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن كل ما يُسيء إليهما، والآيات الجامعة للأدب الإسلامي بالنسبة للوالدين هي قوله ـ تعالى ـ: (وقضَى ربُّكَ أَلَّا تَعْبُدوا إلا إيَّاهُ وبالوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عندَكَ الْكِبَرَ أحدُهُما أو كِلاهُما فلا تَقُلْ لهما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وقُلْ لَهُما قولًا كريمًا. واخفِضْ لهما جَناحَ الذلِّ من الرحمةِ وقلْ ربِّ ارحَمْهُما كما رَبَّيَانِي صغيرًا).
فإما ما أساء الإنسان في حق أمِّه مُتَعَمِّدًا فلعنَتْه فإن عقابه عند الله شديد، أما إذا أخطأ غير مُتَعَمِّد فعليه في هذه الحالة وفي الحالة الأولى أن يستغفر الله مُباشرةً وأن يذهب إلى أمه مُسْتَعْطِفًا مُسْتَغْفِرًا تائبًا، وعليه أن يَتَلَطَّف ليَسْتَرْضِيَها بكل وسيلة مشروعة حتى ترضى عنه فإذا لم ترضَ بعد كل ذلك فليس عليه إلا أن يُحسِن إليها استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن يلجأ إلى الله طالبًا عفوه وغُفْرانه، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول بصدد هذا: (ربُّكم أعلمُ بما في نفوسِكم إن تكونوا صالحينَ فإنه كان للأوَّابينَ غفورًا).(1/1108)
في طلَب رجل مُسِنٍّ عاجز عن العمل نقودًا من ولده المُوسِر فلم يُعْطِه وأساء إليه فماذا يفعل؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَوَصَّيْنا الإنسانَ بوالِدَيْهِ إحسانًا).
ويقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيما معناه: "أنتَ ومالُك لأبيك". فقد نص القرآن الكريم على الإحسان إلى الوالدين وأمر الله ـ سبحانه ـ وحث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على البِرِّ بهما، وغير ذلك مما هو مُتَعَلِّق بحقوق الوالدين، وليس من الإحسان بل ليس من الإسلام في شيء كف الابن عن والده العطاءَ، وحِرْمانه مما يملِك، وخاصة في وقت الحاجة.
فإذا كان الشرع أكثرَ وَصاياه الحكيمة بالوالدين فلا يكون ذلك إلا لأمر له من الأهمية ما يقتضي الثواب الجزيل والأجر العظيم لمَن استجاب إليه، فإذا طلب الرجل نقودًا من ابنه المُوسِر فلم يُعطِه فله الحق أن يأخذ منه عن طريق المحاكم والشكوى لولي الأمر، أو الجهات المسئولة حتى يتسنَّى له الأخذ من ولده ما يَكْفِيه شر الحاجة ويكُف يده عن المسألة.(1/1109)
في بِرِّ الوالِدَيْنِ بعد موتهما:
إن طريقة بر الوالدين بعد موتهما قد رسمَتْها الأحاديث النبوية في وُضوح لا لُبْس فيه ومن أنواع البر: أن يتصدَّق الإنسان عنهما.
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ أمي تُوُفِّيَت ولم تُوصِنِي أفيَنْفَعُها أن أتصدَّق عليها؟ قال ـ صلوات الله عليه ـ: "نَعَمْ" أي: تنفعُها صدقةُ ابنها عنها.
ومن أنواع البرِّ الدعاء لهما؛ فقد ورد في ذلك الحديث المشهور عن أبي هريرة قال ـ صلوات الله عليه ـ: "إذا ماتَ العبد انقطعَ عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارِيَة، أو علمٍ يُنْتَفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له".
ويَجمَع الكثير من أنواع البر بالوالدين ما رواه أبو أسيد ـ رضي الله عنه ـ قال: "كنَّا عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، هل بَقِيَ من بِرِّ أبوي شيء بعد موتهما أَبَرُّهما به؟ قال ـ صلوات الله عليه ـ: "نَعَمْ: خِصال أربع: الدعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهما، وإكرام صديقِهما، وصِلَة الرحمِ التي لك من قبلهما".
وقد ثبت بالسنَّة أن درجة الميت تُرْفَع بسبب استغفار الابن، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: تُرْفَع للميت بعد موته درجتُه، فيقول: أي ربي، أي شيء هذه؟ فيُقال: ولدُك استغفرَ لكَ.(1/1110)
في رجل مُسِنٍّ ومريض أساء إليه ولدُه:
طاعة الوالِدَيْن وبِرُّهما والإحسان إليهما أمر حث الله عليه. قال ـ تعالى ـ: (وقضَى ربُّكَ ألا تعبُدوا إلا إِيَّاهُ وبالوالدينَ إحسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عندَكَ الكِبَر أحدُهما أو كِلاهما فلا تَقُلْ لهما أفٌّ ولا تَنْهَرْهُما وقل لهما قولاً كريمًا. واخفِضْ لهما جَناحَ الذلِّ من الرحمةِ وقلْ ربِّ ارحَمْهُما كمَا رَبَّياني صغيرًا).
وتتأكَّد طاعة الوالدين عند الكِبَر حينما يَبْلُغان مرحلة الضعف والحاجة، وحينئذ يجب ألا يتضرَّر الولد من تصرُّف والده، ولا يتأذَّى من قوله، ولا يتأفَّف منه، ولا يُظهر له أي تبرُّم مهما كان؛ لأن الله خصَّ هذه المرحلة بالذات بالذِّكْر والتنبيه، كما مَرَّ في الآية الكريمة من قوله: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عندَكَ الكِبَرَ أحدُهما أو كِلاهما فلا تَقُلْ لَهُما أفٌّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لهما قولًا كريمًا).
والولد الذي يُخالِف ذلك يكون عاقًّا لوالديه مهما كان كبيرًا؛ لأن هذا دَيْن، وسَيُعامله أبناؤه كما يُعامل أباه، فلْيَخْتَر لنفسه ما يُحِبُّ أن يَتعامل به عندما يصل إلى هذه المرحلة من السنِّ.
فالولد مُخْطِئ ولا شك، ويلزمَه أن يَعْتَذِر لوالده ـ ويندم على ما فرَّط منه في حقِّه، ومع ذلك فعلى الوالد، وهو صاحب العقل الكبير والتجارِب ـ أن يكون شفيقًا على ولده، مُقَدِّرًا لظروفه وأن يكون حيكمًا مع أولاده لا يُفَضِّل أحدًا منهم على الآخر؛ لأن الكل محتاج إلى عطفه وحبه وعليه ألا يلجأ إلى أسلوب الحِرْمان، فإنه أسلوب قد يُؤَدِّي عكس الغرَض منه، ويُوجِد العداوة بين الإخوة في حياة الوالد وبعد العمر الطويل له.
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ليس منَّا مَن لم يرحم صغيرنا ولم يُوقِّر كبيرنا". رواه الترمذي بسند صحيح، على أن الخِصام منهي عنه بين الغُرباء، وإذا حدث فالمُبادَرَة إلى الصلح مطلوبة. قال ـ تعالى ـ: (والصلحُ خيرٌ).(1/1111)
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يَحِلُّ لمسلم أن يَهْجُر أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتقيانِ، فيُعرِض هذا ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام".(1/1112)
في مَن انقطع للدراسة مدة طويلة ولم يزُر أهله:
أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بطاعة الوالدين والإحسان إليهما في كثير من آيات الكتاب العزيز وقرَن ذلك بعبادته قال ـ تعالى ـ: (اعبدُوا الله ولا تُشرِكوا به شيئًا وبالوالدينِ إحسانًا).
والإحسان إلى الوالدين يكون بقَدْر الاستطاعة وحسْب الإمكان، كما قال ـ تعالى ـ: (لا يُكَلِّفُ الله نفسًا إلا وُسْعَها).
فمَن كان غائبًا عن والِدَيْه وجب عليه أن يَبَرَّهُما بالسؤال الدائم عنهما بالمُكاتبات، والمُعاونة المالية إن أمكن، وغير ذلك من أنواع الهدايا والطُّرَف، بقَدْر استطاعته ولو كانَ مُستطيعًا للسفر وعنده نفَقاته زائدة عن حوائجه الأصلية، وجب عليه أن يُسافر لزيارة الوالدين ما دام قادرًا على ذلك، فإن قصَّر في هذا الواجب كان مُؤاخَذًا عليه من الله ـ سبحانه وتعالى ـ والغائب خاصة إذا كان طالبًا للعلم، في حاجة إلى رضا والِدَيْه ودعائهما ليُوَفِّقَه الله في طلَبِه العلم، ويحفظه في غُرْبَتِه، ودعاء الوالدين مُستَجاب لولدهما.(1/1113)
في الحلِف على تحريم منزل الأخت على النفس:
(يا أيُّها النبيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ لكم تبتَغِي مرضاتَ أزواجِكَ والله غفور رحيمٌ. قدْ فرضَ الله لكم تَحِلَّةَ أيمانِكُمْ).
وفي الحديث الصحيح عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن حلَف على يمينٍ فرأى غيرَها خيرًا منها فلْيَأْتِ الذي هو خير وليُكَفِّرْ عن يمينِه".
ومن المعلوم أن تحليل الحلال خير من تحريمه فعلى مَن حلف على تحريم الحلال المبادرة إلى الخروج عن هذا التحريم، والرجوع إلى حالته الطبيعية من الحِلِّ، والتكفير عن ذلك، وكفارة اليمين ذكرها الله ـ تعالى ـ في قوله: (لا يُؤاخِذُكم الله باللغوِ في أيمانِكُمْ ولكنْ يُؤاخِذُكم بما عقَّدتُمُ الأيمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عشرةُ مساكينَ من أوسطِ ما تُطعمونَ أهلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتِهِمْ أو تحريرُ رقبةٍ فمَنْ لم يجِدْ فَصِيَامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلكَ كفَّارةُ أيمانِكم إذا حلَفْتُم واحفظوا أيمانَكُم).
وإطعام كل مِسكين بما يُشبعه في أكلِه ولا يَقِل عن ثمن نصف قدح من الحبوب الغالبة في قوت البلد.
فعلى السائلة أن تُكَفِّر عن يمينها، وأن تدخل بيت أختها، سواءً وُجِد لهذا الدخول باعث من حاجة أو صِلَة رحم، وذلك أن صلة الرحم لها أهميتُها الكبرى في الدين الإسلامي، ومَن قطع رَحِمَه قطعَه الله، ومَن وصل رَحِمَه وصلَه الله.(1/1114)
في مَن قال لأخيه: أنت ابن غير شرعي:
مَن قال لأخيه: أنت ابن غير شرعي كان قاذفًا لأمه وعاقًّا لها، وإن شاءت طالبت بحدِّه لقذفه لها، قال ـ تعالى ـ: (والذينَ يَرْمُون المُحْصَناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شُهداءَ فاجلِدُوهم ثمانينَ جلدةً ولا تَقْبَلُوا لهم شهادةً أبدًا وأولئكَ هم الفاسقونَ).
ومَن قال لأخيه أو لأحد من المسلمين: يا كافر، فإن كان مَن قيلت له كافرًا فليس عليه شيء وإن لم يكن كافرًا باءَ القائل بالكفر، وعليه التوبة فورًا.(1/1115)
في مَن احتقر أقاربَه بسبب فقرهم:
يقول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذين آمنوا لا يسخَرْ قومٌ من قوم عيسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيرًا منهن).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "بحسب امرئٍ من الشر أن يحقرَ أخاه المسلم"، رواه مسلم.
لقد نهانا الله ـ سبحانه وتعالى ـ نهيًا كليًّا وحذَّرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحذيرًا عامًّا أنه لا يَحِلُّ لامرئ مسلم أن يَسخَر أو يستَهْزِئ بأخيه أو يَحْتَقِرَه سواءً أكان المُسْتَهْزَأ قريبًا أم بعيدًا، ذا رحم كان أم أجنبيًّا، ذكرًا كان أم أنثى، فإن ذلك تترتَّب عليه العداوة بين الناس، ويَسُود الشِّقاق بين أفراد الأمة ويُورِث الحقد والضغائن في القلوب فتنحلُّ بسبب ذلك أواصر المحبَّة وتنقطع أسباب المودَّة، على حين أن الإسلام يأمر بالتوادِّ والتعاطُف والتحابِّ في الله ولله.
ومن حكمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذا النهي أن الإنسان لا يدري قيمة نفسه وغيره عند الله ـ تعالى ـ فرُبَّما كان المستَهْزَأ به أفضل عند الله وأعظم من المُستهْزِئ.
ويقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: "رُبَّ أشعثَ أغبرَ لو أقسم على الله لأبَرَّه". هذا، وإن جزاء احتقار المسلم لأخيه المسلم الطرد من الجنة، وعدم السعادة بها في الآخرة.
فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يدخل الجنةَ مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبْر، فقال رجل: إن الرجل يُحب أن يكون ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً، فقال: إن الله جميل يُحِبُّ الجمالَ، الكِبْر بَطَر الحق، وغَمْط الناس". ومعنى بطر الحق: دفعه، وغمطهم: احتقارهم.(1/1116)
فلا يَحِل لإنسان يُؤمن بالله ويُصَدِّق ما جاء به رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يَحْتَقِر أخاه بسبب من الأسباب الدنيوية مهما كان فقيرًا أو غنيًّا فإن الغِنَى ليس مقياسًا لتقدير الإنسان أو احترامه، كما أن الفقر لا يكون سببًا داعيًا للاحتقار أو الاستهزاء، إنما المقياس العام الوحيد: (إنَّ أكرمَكُمْ عندَ اللهِ أتقاكُمْ) فالذي يحتَقِر أخًا له؛ لفقره، عليه أن يَسْتَغْفِر الله من ذلك، ويسترضي أخاه ويطلُب منه الصفح والعفو.(1/1117)
أسأتُ إلى أمي وأختي فما الطريقة التي أُكَفِّرُ بها عن هذه الإساءة؟
الطريقة التي تُكَفِّر بها عن جُرْمِك هي استغفارك الله ـ عز وجل ـ وتوبتُك توبة نصوحًا تندم فيها على ما فرَّط منك مع عزمك على عدم إهانة أختِك مرة أخرى، وطلبك رضاها ورضا أمك، فإذا ما سامَحَاكَ سامَحَكَ الله وغفر ذنبَكَ، وإذا لم يُسامِحَاكَ فاستغفر الله لهما، واطلُب منه أن يُرْضِيَهُما عليك.(1/1118)
هل يجوز للمسلم شرعًا البكاء على وفاة أحد أقربائه: والده أو أمه، أو غيرهما مثلًا؟
البكاء على الميت ليس ممنوعًا شرعًا إذا كان الدافع له عاطفة الفِراق أو المحبة، ولم يكن نتيجة جَزَع، ولم يُصحَب بقول أو فعل مخالف؛ لِمَا أمر الله ـ تعالى ـ به، ولقد روى البخاري ـ رضي الله عنه ـ أن أنس بن مالك ومعه بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ دخلوا على ابن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال أنس: فأخذَه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقبَّله وشمَّه ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه "يحتضر" فجعَلَتْ عينَا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَذْرِفان "أي تدمعان"، فقال له عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ وأنتَ يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة ثم أتْبَعَها بأخرى" أي: أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرْضِي ربَّنا، وإِنَّا بفراقك يا إبراهيمُ لمحزنون". وفي حديث آخر أن عبد الرحمن بن عوف قال: يا رسول الله، أتبكي؟ أَوَ لَمْ تَنْهِ عن البُكاء؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوتٍ عند لهو ولعبٍ ومزاميرِ الشيطان، وصوتٍ عند مُصيبة".
ثم فسَّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الصوتَ الثاني فقال: خَمْش وجوه ـ أي لطم ـ وشق جيوب، ورنة شيطان".
ثم فسر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دمعه فقال: "إنما هذه رحمة، ومَن لا يَرحَم لا يُرحَم، فما دامت الدموع لا يُصاحبها جَزَع أو فعل مُخالف أو قول مخالف لِمَا أمر الله ـ تعالى ـ به، أو نهى عنه فإن ذلك ليس بمُحَرَّم.(1/1119)
استدانَ شخص من آخر ثم تُوُفِّي، هل إذا سامَحَه صاحب الدَّيْن يَغْفِر الله للمُتَوفَّى؟
إن الصلة بين الدائن والمدين فيما ينبغي أن تكون حدَّدها الله ـ سبحانه وتعالى ـ بقوله: (وإن كان ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى ميسرةٍ وأن تَصَدَّقوا خيرٌ لكم إن كنتُم تعلمونَ) أي: أنظروا المُعسِر، وأن تتركوا رأس المال بالكلية بالنسبة للمَدِين المُعسِر، وتضعوه عنه فإن ذلك خير لكم، وفي ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن سرَّه أن يُظِلَّه الله يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه فَلْيُيَسِّر عن مُعْسِر أو ليضع عنه". وقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن أبا قتادة كان له دَيْن على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة "نخالة مبلولة" فناداه فقال: يا فلانُ اخرج فقد أخبرتُ أنك ها هنا، فخرج إليه فقال: ما يُغَيِّبك عني؟ فقال: إني معسر وليس عندي شيء، قال: والله إنك معسر؟ قال: نعم فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَن نَفَّس عن غريمه أو مَحَا عنه كان في ظلِّ العرش يوم القيامة"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فقد أخرج البخاري ومسلم ـ رضي الله عنهما ـ عن حذيفة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أتى اللهُ بعبد من عَبِيده يومَ القيامة، قال: ماذا عَمِلْتَ في الدنيا؟ فقال: ما عملتُ لك يا ربِّ مثقالَ ذرةٍ في الدنيا، أرجوك بها، قالَها ثلاثَ مراتٍ ثم قال العبد عندَ آخرِها يا ربِّ إنكَ كنتَ أعطيتَنِي فضلَ مالٍ وكنتُ رجلًا أُبايِع الناسَ، وكان من خلُقي الجواز فكنتُ أُيَسِّر على المُوسِر وأُنظرُ المُعْسِر، قال: فيقول الله ـ عز وجل ـ: أنا أحَقُّ مَن يُيَسِّر، ادخل الجنةَ".(1/1120)
هذا فيما يتعلق بالموقف الذي يجب أن يقف الدائن من المَدِين إذا كان مُعْسِرًا، أما فيما يتعلق بمغفرة الله للمَدِين الذي لم يُسَدِّد دَيْنَه، فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما معناه: "مَن أخذ مالَ امرئ يُريد إتلافَه أتلَفَه الله، ومَن أخذ مالَ امرئ يُريد أداءَه أدَّى الله عنه". ونية المستدين ـ إذن ـ لها شأن كبير فيما يتعلق بمغفرته ـ سبحانه وتعالى ـ فإذا كانت نيتُه سداد الدَّيْن حينما أخذَه، ولم تسمح له ظروف الحياة بسَداده مع أنه كان يُريد في صِدْق وإخلاص هذا السداد، ومات على هذه النية فإن الرجاء في الله ـ سبحانه وتعالى ـ كبير في أن يتجاوز عنه؛ لأن الله لا يُكلِّف نفسًا إلا وُسْعَها فإذا سامَحَه صاحب الدَّيْن غفر الله له، وتجاوَز عن عدم سداد الدَّيْن، أما إذا كانت نيتُه عند أخذ الدَّيْن إتلافه فإن الله ـ عز وجل ـ يُحاسبه على نيته، وإذا سامحَه صاحب الدَّيْن في هذه الحالة فإن ذلك يُخَفِّف عنه كثيرًا، ولكنه لا يمحو كليةً جريمة سوء النية وسوء القَصْد.(1/1121)
في شُرْب الدُّخَان:
الذي يُدَخِّن السجائر ونحوها من التنباك والمعسل آثِم لكراهة رائحة الدخان المُنْبَعِث من تلك المشروبات، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آكِل الثوم والكُرَّات والبصل ما معناه: "مَن تناوَلَ هذه الأشياء فلا يَقْربَنَّ مسجِدَنا يُؤْذِينا فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذى منه بنو آدم" ورائحة الدخان أشد كراهة من رائحة الثوم والكرات والبصل، وهو يُنافي آداب الدخول في المسجد والمُكْث فيه.
وإن آداب الدخول في المسجد والمكث فيه تتلخَّص في ثلاثة أشياء:
1ـ الطهارة من الحَدَث والنجَس.
2ـ التزيُّن بأحسن اللِّباس، والتطيُّب بما تَيَسَّر من الروائح الطيبة.
3ـ الاشتغال بذِكْر الله، عز وجل.
قال ـ تعالى ـ: (يا بَنِي آدمَ خُذُوا زينَتَكُمْ عندَ كلِّ مسجدٍ). وقال ـ تعالى ـ: (في بُيوتٍ أَذِنَ اللهُ أن تُرْفَع ويُذْكَرَ فيها اسمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ...).(1/1122)
في حكم التدخين في الإسلام:
بعض الناس تَحتَمِل صحته، ويحتمل جسمُه التدخين ولا تُضِرُّه السجائر كثُرت أو قَلَّت، ولا يُلحِق به التدخين ضرَرًا من حيث نفقتُه ولا نفقة مَن يَعُول، وفي هذه الحالة يكون حكم التدخين أنه مكروه؛ لأنه إنفاق المال فيما لا يُفيد، وإنفاق المال فيما لا يفيد ليس من عمل المُتَّزِنين رؤيةً وتفكيرًا وعقلًا؛ ومن أجل ذلك يُعْتَبَر التدخين في هذه الحالة مكروهًا فقط، أي أنه ليس بحرام.
أما إذا انعكس الأمر وأضرَّ التدخين بالصحة فإنه يكون حرامًا وشربه يكون إثمًا ومعصية وإذا أضر التدخين بمَن يَعُولُهم شارب الدخان، وذلك كما لو كان في حالة ضنْك في معيشته، وكان محتاجًا إلى المال في إنفاق على أسرته من أجل مسكنها أو ملبسها أو مأكلها أو من أجل علاج مريض في الأسرة فإن التدخين في هذه الحالة يكون ـ أيضًاـ حرامًا وكفى بالمرء إثمًا أن يهمل مَن يَقُوت بإنفاق المال فيما لا يُجدِي.
إن كل راعٍ مسئول عن رعيَّته، والمسئولية كما أنها واجبة في الجانب الأدبي رعاية وعناية وإصلاحًا فإنها ـ أيضًاـ واجبة في الجانب المادي إنفاقًا وتطبيبًا وتوفيرًا للمسكن والمأكل.
ونخرج من كل ذلك بأن التدخين يختلف باختلاف حالة الشخص، والقاعة العامة هي ما قاله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا ضرَر ولا ضِرار" أي: أنه يجب على الإنسان أن يتجنَّب كل شيء يُلحق به ضررًا، وأن يتجنب كل أمر يلحق ضررًا بالآخرين.(1/1123)
في لُزوم الوفاء بالنَّذْر:
يقول الله ـ تعالى ـ: (إنَّ الأبرارَ يَشْرَبُونَ من كأسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا. عينًا يشربُ بها عبادُ اللهِ يُفَجِّرُونها تفجيرًا. يُوفُونَ بالنذرِ ويَخافونَ يومًا كان شرُّه مُستطيرًا) لقد امتدح الله ـ تعالى ـ في هذه الآية الأبرار، حيث وصفهم بالوفاء بالنذر، وقد أخبر الله بوُقوع العقاب على مَن لم يُوفِ به فقال ـ تعالى ـ: (ومنهم مَن عاهدَ الله لئنْ آتانَا من فضلِه لَنَصَّدَقَنَّ ولَنَكُونَنَّ من الصالحينَ. فلمَّا آتاهُمْ من فضلِه بَخِلُوا به وتَوَلَّوْا وهُمْ مُعرِضونَ. فأعْقَبَهم نِفاقًا في قلوبِهم إلى يوم يَلْقَوْنَهُ بما أخلَفُوا اللهَ ما وعدوه وبما كانوا يَكْذِبُونَ).
فالوفاء بالنذر لازم، وهو لازم عند الاستطاعة، فإذا ما استطاع الإنسان أن يوفِّي بالنذر وأخر الوفاء به فهو آثِم ويجب عليه للتخلُّص من الإثم: الاستغفار والتوبة والوفاء بالنذر كاملًا.(1/1124)
في تقبيل يد الصالحين:
إن تقبيل يد الشيخ الصالح التقي العامل بالدين أوامره ونواهيه، يكون تعبيرًا عن الإجلال والاحترام والتوقير والإقرار بالفضل لذَوِيه. وتقبيل اليد في مِثْل هذه الحالة تعبيرًا عن الاعتراف بالفضل وإظهارًا للشعور بالتقدير جائز بل مستحب، ويكفي نفيًا لكل شبهة أن نَرْوِي القصة التالِيَة:
"ذهب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الطائف فهاجَمَه سُفَهاء أهل الطائف هجومًا عنيفًا، وألجَئُوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلَمَّا رآه أصحاب الحائط أرسلَا إليه عِنَبًا، مع غلام لهما نصراني يُقال له عدَّاس.
ذهب عدَّاس بالعِنَب حتى وضعَه بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلمَّا وضع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يده فيه قال: باسم الله، ثم أكل، ثم نظر عدَّاس في وجهه ثم قال: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن أهل أي بلاد أنتَ يا عدَّاس؟ وما دينُك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من قرية الرجل الصالح "يونس بن مَتَّى"، فقال له عداس: وما يُدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك أخي كان نبيًّا وأنا نبي فأكبَّ عداس على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقَبِّل رأسه ويديه وقدميه" أهـ. من هذه القصة نرى أن عداسًا قبَّل يَدَيْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورِجْلَيْهِ ونرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينهه عن ذلك، ولم يُبَيِّن له أن ذلك ممنوع، فدل ذلك على أنه لا بأس به.(1/1125)
في الهدية تُقَدَّم للشُّرَفاء والشيوخ:
الهدية التي تُقَدَّم إلى الشرفاء تكون مندوبة إذا قُصِد بها المودَّة، ولم يُقْصَد به نفع مادي يَعُد على مهديها، أما بالنسبة إلى الشرفاء فلقول الله ـ عز وجل ـ: (قُلْ لا أسألُكم عليه أجرًا إلا المودةَ في القُرْبَى).
وقال ـ تعالى ـ: (ومَن يَقْتَرِفْ حسنةً نَزِدْ له فيها حُسنًا).
ويقول الله ـ تعالى ـ: (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحيَّةٍ فَحَيُّوا بأحسَنَ منها أو رُدُّوها)، وأما بالنسبة للشيوخ الذين تَصَدَّوْا لمُلاقاة الناس وقضاء حاجاتهم والإجابة عن أسئلتهم فتقديم الهدية إليهم مندوب كذلك؛ لأنهم إِمَّا أن يكون لهم من المال ما يَفِي بحاجاتهم أصلًا أو يكون ما يَفِي ببعض حاجاتهم دون البعض بكل ما يحتاجون إليه، وفي الحالتين الأُولَيَيْن يجب على الدولة بصفة خاصة، وعلى المستطيع من المسلمين بصفة عامة أن ينظروا إليهم نظرة إجلال وإكبار، وأن يُقَدِّموا لهم ما يحتاجون إليه لا على سبيل الصدقة، ولكن بطريقة الهدية، ولا يغفُلنَّ أحد ما قام به الأئمة مالك والشافعي وغيرهما من العلماء المُشتغلين بالعلم، ولولا ما كان يؤديه الخَيِّرون إليهم لَمَا تَمَكَّنوا من إجابة الناس عندما يسألون، ولَمَا تمكَّنوا من القيام بدروسهم التي بَيَّنت معالم الدين وجعلتْه ميسورَ الاطِّلاع عليه والأخذ به من كل مُتَعَطِّش إلى المعرفة والعلم بدين الله.
والهدية إن لم تكن واجبة في بعض الأحيان فهي مندوبة، وإن لم تكن الهدية واجبة أو مندوبة في بعض الأحيان فهي مُسْتَحَبَّة. فمن أين يعيش أولئك الشيوخ إن لم يكن لديهم ما يفي بحاجاتهم وحاجات الطالِبِين. أما مَن كان لديه المال الكافي فليست الهدية إليه واجبة، بل هي مستحبة؛ لأنها بُرهان وتعبير صادق عن تقدير مُهْدِيِّها للعلم في شخص أهله، على أنه حينئذ ستُرَد إليه هديتُه مُضاعَفَة.(1/1126)
ما حُكم الميت يُوضَع في صندوق ويُدْفَن؟
اتفق الفُقَهاء على أن الدفن للميت واجب على المسلمين. والمقصود من الدفن مُواراة الميت في حفرة تَحجُب رائحتَه وتمنع السِّباع والطيور عنه والأعداء، وعلى أي حال إذا تمَّ ذلك فقد حصل الغرض وينبغي تعميق القبر قدْر قامته؛ مُحافَظة على ذلك المعنى؟
روى النسائي والترمذي عن هشام بن عامر، قال: شَكَوْنا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد، فقلنا: يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "احفروا وأعمقوا وأحسِنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد"، فقالوا: فمَن تُقَدِّم يا رسول الله قال: "قَدِّموا أكثرَهم قرآنًا"، وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر، وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر أنه قال: "أعمِقوا إلى قَدْر قامة وسطِه"، وعند أبي حنيفة وأحمد يُعَمَّق قَدْر نصف القامة، ويقصد اللحد، وهو الشق في جانب القبر جهة القِبْلة ينصب عليه اللبن، فيكون كالبيت المُسَقَّف على الشق في حفرة وسَط القبر، تُبْنَى جوانبها للميت ويُسْقَف عليه وكل ذلك جائز.
وعلى ذلك فيُعتبَر صندوق الخشب الذي يُوضَع فيه داخل القبر، خاصة عند الحاجة، كما جاء في السؤال كاللحد والقبر للميت فيجوز ذلك.
وعليه أن يلتزم السنَّة بأن يجعل الميت على جنبه الأيمن، ووجهُه تجاه القبلة ويقول واضعه: بسم الله، وعلى مِلة رسول الله. ويَحُلُّ أربطة الكفَن، وهو في الصندوق كالقبر.
رُوِي عن ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: كان إذا وُضِع الميت في القبر قال: "باسم الله، وعلى ملة رسول الله، أو على سنَّة رسول الله، صلى الله عليه وسلم". رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
فيكون الصندوق جائزًا وحكمه حكم القبر ويُوضَع بإحكام في القبر، وينبغي ذلك عندما تكون الأرض صالحةً، كما جاء في السؤال.(1/1127)
في الطقوس الواجب اتباعُها بالنسبة للميت:
ما يجب اتباعه بالنسبة للميت هو عند خروج الروح قول: "لا إله إلا الله" بجواره، لِيَسْمَعَها لعلَّه يقولُها وتخرج رُوحُه وهو مؤمن.
فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن كانَ آخرَ كلامِه من الدنيا لا إله إلا الله دخلَ الجنةَ"، ولا يُكرَه على قولها، لعلَّه قد تمنعه سكَرات الموت عن استطاعة التلفُّظ بها، وهو مُطْمَئِن القلب بها.
ثم إغماض العينين عقِب خروج الروح، ثم يقول، وهو مُغمِض عينيه: اللهم اغفر له وارفع درجتَه في المَهْدِيِّين، واخلفْه في عَقِبَيْهِ، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونَوِّر له فيه. ثم توجيهه للقِبْلة، ثم تغسيله، وتكفينه في ثلاثة أثواب بِيض ثم الصلاة عليه.
ويُسْتَحَبُّ أن يَكثُر عدد المصلين رجاءَ أن يُشَفِّعهم الله فيه، فقد ورد أن مَن صلَّى عليه أربعون رجلاً شُفِّعوا فيه.
وعلى قدْر صِلَة الشخص بالمُتَوَفَّى يكون اهتمامه به وعمل كل ما يستنزل رحمة الله عليه. ثم تُشَيَّع جنازته، ثم دفنه.
ثم بعد ذلك: تُسَدَّد ديونُه ثم تُنَفَّذ وَصاياه ثم تُقَسَّم تَرِكَتُه على مُسْتَحِقِّيها.(1/1128)
في التطهُّر من تغسيل الميت:
الميت المسلم طَهُور، وليس التطهر من تغسيل الميت واجبًا بل مندوب؛ لِمَا رُوِيَ من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن غسَّل ميتًا فَلْيَغْتَسِل، ومَن حمله فلْيَتَوَضَّأْ"، والأمر هنا محمول على الندب؛ لِمَا رُوِي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: "كنَّا نغسل فمنَّا مَن يغتسل ومنا مَن لا يغتسل".
ولمَّا غسلت أسماء بنت عميس زوجَها أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ حين تُوُفِّي خرجت، فسألت مَن حضر معها من المهاجرين: إن هذا يوم شديد البرد، وأنا صائمة فهل عليَّ مِن غُسْل؟ قالوا: لا.
وعلى ذلك فليس فيمَن غسَّل الميت ما يقدَح طهارته وطهارة ثيابه، ولم يَرِد ما يمنع من إمامته الناسَ في صلاة الجنازة أو اشتراكه في هذه الصلاة، بل هو كغيره من المسلمين في هذه الصلاة، له ثوابُها وعليه أن يُبادر إليها.(1/1129)
في عدم جواز لمس عورة الميت:
لا يَحِل لمس عورة الميت أو النظر إليها. فَلْيَلُف الغاسل على يده خِرقة ليغسل بها عورة الميت.
ومما لا شك فيه أنه يجوز لمس الميت لمَن هو مُتَوَضِّئ وغير متوضئ ما دامت اليد نظيفة من نجاسة تُلَوِّث الميت، وينبغي أن يكون لهذا اللمس ما يُبَرِّره وإلا كان عبَثًا لا يَلِيق.
فالمسلم غير المتوفَّى ليس بنجس، بل المسلم إذا كان جنُبًا ليس بنجس، بمعنى أن يده غير مُلَوَّثة بالنجاسة، وأن مَن لمَسَه لا يجب عليه غُسل يده، والميت كالحي في ذلك.
ومِن رحمة الله بالمسلم أن جعله الله طاهرًا حيًّا وميتًا طهارةً معنويةً، وجعل من حقه على المسلمين أن يغسلوه بعد الموت ليُقبِل على الحياة الأخرى طاهرًا ظاهرًا وباطنًا إن شاء الله.
وعناية الإسلام بالميت مظهر رائع من مظاهر الوفاء يقوم به الأحياء من إخوانه المسلمين؛ إشعارًا لهم بأن الواجب يَقْضِي أن يكون لله خالصًا، لا ينبغي انتظار مَثُوبة من أحد، وعلى فعل المعروف.
قال ـ تعالى ـ: (إنَّما نُطعِمُكم لوجه الله لا نُريد منكم جزاءً ولا شُكورًا)، ومثل الإطعام غيره من كلِّ خيرٍ وبِرٍّ، واحترام الميت كجسد وكخصائص وصفات وآثار واجبة. وفي الحديث: "اذكروا محاسنَ موتاكم وكُفُّوا عن مَساوِيهم".(1/1130)
في نقل رُفات الميت:
يجوز عند الضرورة القصوى وعندما يكون لا مفرَّ من ذلك نقل رُفات أحد الموتى لغرض عام كبناء المساجد، كما فعل ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بنائه لأول مسجد في الإسلام بالمدينة.
كما يجوز نقله من الطرُق العامة: ليكون بعيدًا عن المشي عليها، ولكي لا يتعرض بعض المارَّة عليه.
كما يَحرُم تركُه بالممَرَّات أو إهانته، أو إهماله، كما أخبر بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحترامه في جمعه في مكان بعيد عن المشي أو القعود عليه؛ لأن مَن قعد على جمرة من نار تنفُذ من ثيابه إلى جسده خير له من أن يقعد على قبر، كما أخبر بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال، فيما رواه الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: "لَأن يجلِس أحدُكم على جمرة فتَحْرِق ثيابَه فتخلُص إلى جِلْدِه خير له من أن يجلِس على قبر".(1/1131)
هل يجوز الدعاء للميت؟
وهل يجوز دفن الميت بدون كفن؟
وهل يَصِح للرجل غسل زوجته؟
لا مانع من الدعاء للميت في البيت بعد الصلاة عليه والدعاء له عند الدفن، والله ـ تعالى ـ يقول: (والذينَ جاءوا من بعدِهِمْ يَقُولونَ ربَّنا اغفِرْ لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمانِ).
وقد أُمِرْنا بالصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والدعاء له بأن يُصلي عليه ويسلم تسليمًا مع استغنائه عن ذلك.
والدعاء ينفع صاحبه وينفع غيره من الناس حيًّا كان أو ميتًا.
أما بالنسبة للكفن فلا يجوز دفن ميت بغير كفن؛ لأن الكفن حق له على إخوانه المسلمين، وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَطْمَئِن إلى تكفين كل ميت، ولم يثبت أن ميتًا دُفِن بغير كفن، وعلى ذلك فدفن الميت بغير كفن مُخالِف للسنة والإجماع، اللهمَّ إلا في حالة الشهيد، فإنه يُدفَن بثيابه، كما هو، دون غسل أو كفن.
أما الغسل فالجمهور على جواز غسل الرجل زوجتَه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز غسل الرجل زوجتَه.
وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق فمَن شبَّه الموت بالطلاق قال: لا يحل، لا ينظر إليها بعد الموت، ومَن لم يُشَبِّهْه بالطلاق فإن ما يَحِل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت، وهو الراجح.(1/1132)
في الطعام الذي يُقَدَّم بعد الموت:
الأصل في الطعام الذي يُقَدَّم بعد الموت أن يُقَدَّم لأهل الميت من غيرهم، لانشغالهم بمأتمهم وحُزْنِهم الذي يَصرِفُهم عن إعداد الطعام، وانصراف شَهِيَّتِهم عن البحث عنه، والأصل في ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ـ حينما استشهد جعفر بن أبي طالب ـ: "اصنعوا لآل جعفرَ طعامًا؛ فإن لديهم ما يَشغَلُهم". وإذا كان الطعام المُقَدَّم لأهل الميت يَزِيد على حاجتهم فلا مانع من اشتراك غيرهم معهم فيه.
أما أن يُعِدَّ أهل الميت طعامًا ويُحَمِّلون أنفسَهم فوق همِّ المصيبة، وألم الحزن مسئولية إعداد الطعام وتهيئته للمُعَزِّين فهذا ما لم يَرِد به الشرع، بل هو ضد روح الشرع، ومُخالف لِمَقاصده ومع ذلك: فإذا أعدَّ أهل الميت طعامًا للناس فلا مانع من أكله، إذ لا حُرْمة فيه، ولا مانع يمنَع منه. وإن كان هذا التناوُل خلاف الأولى؛ لأن فيه تشجيعًا على هذه العادة ومُساهمة في انتشارها.
هذا، وقد عدَّ الصحابة التوسُّع في إعداد الطعام وتقديمه للمُعَزِّين من النِّياحة، أي المبالغة في التذكير بالميت وعدِّ محاسنه والتفاخُر بها، فعن جرير بن عبد الله البجلي قال: "كنَّا نُعِدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة" أي: أنه نهى عنه، كما أن النياحة منهي عنها.
وأنه من الإنسانية ومن المروءة أن يُعَدَّ لأهل الميت الطعامُ لا أن يُعِدَّ أهل الميت الطعامَ للآخرين.(1/1133)
في تغسيل الميت وتكفينه:
إذا مات الميت وجب على جميع مَن علِم بموته وجوبًا كفائيًّا أن يقوم بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، فإذا أدَّى هذه الأعمال أحد المسلمين سقط الوُجوب عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثِمُوا جميعًا.
والصلاة على الميت لها ثوابُها، وكذلك اتباع الجنازة حتى تُدفَن له ثوابه، أيضًا.
روى مسلم عن خبَّاب ـ رضي الله عنه ـ قال: "يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟
إنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَن خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تَبِعَها حتى تُدْفَن كان له قيراطان، أجر كل قيراط مثل أحد، ومَن صلى عليها ثم رجع كان له مِثْل أحد" فأرسل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ خبابًا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يَرجِع إليه فيُخبره بما قالت، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فقال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لقد فرَّطنا في قراريطَ كثيرة.
من هذا نعلم أن مَن صلى على الجنازة فقط له أجر واحد، ومَن تَبِعها حتى تُدفَن له أجران، وما دام هنا مَن يقوم بالدفن ويؤدي الواجب به فهو جائز ولا إِثْمَ على مَن رجع قبل الدفن.(1/1134)
في الثواب الذي يصل إلى المتوفَّى:
قراءة القرآن عبادة وقربة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ لها ثوابها عند الله، وكذلك إطعام الطعام قُربة وطاعة لها ثوابُها عند الله ـ سبحانه ـ وجو المأتم جو يُذَكِّر بالفناء، وفِراق الدنيا، ولقاء الله للعَرْض والحساب، لذا يلجأ المسلمون عند المأتم إلى التقرُّب إلى الله بقراءة القرآن وإطعام الطعام يرجون بذلك أن يُثِيبهم الله على ذلك، وأن يكون ذلك الثواب لهم عند الله يوم لقائه.
وكذلك يَرجُون الرحمة والمغفرة لميتهم بهذه الطاعة التي يَتَقَرَّبون بها إلى الله من قراءة وإطعام طعام.
ثواب القراءة يصل إلى الميت، كما هو رأي الجمهور من أهل السنة، وعلى ما هو مذهب الشافعية والحنابلة، وكذلك إطعام الطعام والتصدُّق، وقد ورد عن الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ: "الميت يصل إليه كل شيء من الخير؛ للنصوص الواردة فيه"، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر يقرءون ويَهْدُون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعًا.
أما البِدْعة المكروهة فهي أن يتكلَّف الإنسان في ذلك ما يُرْهِقُه ويجعله يَستَدِين، أما إذا كان ميسورًا أو من ذوي الثراء فإن دعوة القُرَّاء بقراءة القرآن وعمل الولائم صدقة على روح المتوفَّى مُستحب؛ فهي قرُبات في سبيل الله عسى أن يتقبَّلها الله ويَرْضَى عمَّن أقامَها وعمن أقيمت له.(1/1135)
القبُور في نظر الإسلام:
للإسلام نظرتُه الخاصة إلى القبور. فالقبر في نظر الإسلام ينبغي أن يكون واسعًا عميقًا لا يتسع لأكثر من واحد إلا لضرورة، ويُسْتَحَبُّ رفعُه عن الأرض قَدْر شِبْر ليُعْلَم أنه قبر فيُتَوَقَّى صاحبُه، ويُدْعَى ويُزار، أما ماعدا ذلك من تشييد القُبور والزيادة في رفعها عن شبر فلم يكن موجودًا في الصدر الأول للإسلام، وعمل الصدر الأول للإسلام واضح في مقبرة البقيع بالمدينة المُنَوَّرة، إنه لا تشييد فيها أو لا ارتفاع للبناء ولا زخرفة.
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: نهَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُتَعدَّى على القبر وأن يُجَصَّص ويُبْنَى عليه.
والمقصود أن القبور مكان للموتى، ودليل الفناء فالمُبالغة في بنائها وتشييدها وتَعْلِيَتها مُخالَفة لِمَا ينبغي أن تدل عليه من التذكير بالموت، والدلالة على الفناء.
والقبور تُذَكِّر بالموت وزيارتها عِظة وعبرة، ولا تتأتَّى العظة والعبرة بالتنافُس في التشييد والزخرفة.
ومع ذلك فإنه لا يَحرُم بِناء ضريح لأحد كِبار أولياء الله؛ احترامًا له وتقديرًا لِمَا بذلَه في سبيل الدعوة إلى الله بسلوكه الصالح وعمله الكريم، وذلك على غِرار القبة الشريفة الخضراء التي تَضُم أطهر الأجساد بالمدينة المُنَوَّرة: جسد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحِبَيه أبي بكر وعمر، رضوان الله عليهما.(1/1136)
في ذبح الذبائح عند القبور:
ذبح الذبائح عند القبور مكروهة، وهي من البِدَع السيئة التي يجب الإقلاع عنها، أما زيارة القبور فإنها مندوبة للاتِّعاظ وتَذَكُّر الآخرة، ويُنَدَب للزائر أن يقول عند رؤية القبر: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقونَ، نسأل الله لنا ولكم العافِيَة".
ومما ورد أن يقول الزائر عند رؤية القبر: "اللهم ربَّ الأرواح الباقية، والأجسام البالية والشعور المُتَمَزِّقة، والجلود المُتَقَطِّعة، والعِظام النخِرَة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أنزلْ عليها روحًا منك وسلامًا مني".
وكما تُنْدَب الزيارة للرجال تندب للنساء العجائز اللاتي لا يُخْشَى منهن الفتنة إن لم تُؤَدِّ زيارتهن إلى الندب والنياحة، وإلا كانت الزيارة مُحرَّمة عليهن.
أما النساء اللاتي يُخشى منهن الفتنة ويترتَّب على خُروجهن لزيارة القبور مفاسد، كما هو الغالِب على نساء هذا الزمان لخروجهن للزيارة حرام.
وقال الشافعية والحنابلة: يُكرَه خروج النساء لزيارة القبور مطلقًا، سواء كنَّ عجائز أو شوابَّ فإن كان خروجهن يؤدي إلى الفتنة أو وُقوع محرَّم كانت الزيارة محرمةً.(1/1137)
في جواز زيارة القبور بالنسبة للمسلم:
زيارة القبور للمسلم جائزة، ولم يَرِد ما يمنع منها، بل لقد ورد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زار القبور وأعطى المَثَل والعِبْرة للزائرين، روى مسلم بسنده ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقونَ. وَدِدْنا أنَّا قد رأينا إخوانَنا، قالوا: أو لسنا إخوانَك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعدُ فقالوا: كيف تعرفُ مَن لم يأت بعد من أمتِك يا رسول الله؟ فقال: أرأيتَ لو أن رجلًا له خيل غُرٌّ مُحَجَّلة، بين ظهري خيل دُهْم بُهْم ألا يَعرِف خيلَه، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غُرًّا مُحَجَّلين من الوضوء وأنَا فَرَطُهُم على الحوض، ألا لَيُذَادَنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضالُّ، أُناديهم: ألا هلمَّ فيُقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك، فأقول: سُحقًا سحقًا".
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلَفُنا ونحن بالأثر"، أخرجه الترمذي وحسَّنه.
وعن عائشة ـ رضي الله عنهما ـ قالت: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما تُوعَدُون، غدًا مُؤَجَّلُون، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقونَ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد"، أخرجه مسلم.(1/1138)
ولقد كان النهي عن زيارة القبور في أول الإسلام لقُرْب عهدِهم بالجاهلية، وما كان فيها من فُحش القول، وسُوء الأدب، ثم أباح لهم ذلك بعد أن أرشدَهم إلى ما ينبغي في هذه الزيارة من الأدب. روى أبو سعيد الخدري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "نهيتُكم عن زيارة القبور فزُوروها، ولا تقولوا هُجرًا". أخرجه الشافعي وأحمد.
والمقصود من إباحة الزيارة بل الندب إليها، أن يتزوَّد المسلم لحياته من النظر إلى الأموات والتفكُّر في الموت، لعل ذلك يصرِفُه عن الشر ويدفعه إلى الاستكثار من الخير.(1/1139)
في زيارة النساء للقُبور:
قال القرطبي في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لعَن الله الزائراتِ للقُبور". هذا اللعن إنما هو للمُكثِرات من الزيارة، ولعل السبب في هذا اللعن ما يُفضِي إليه تكرار الزيارة من تضييع حق الزوج، وما ينشأ منهنَّ من الصياح ونحوه فإذا كانت زيارتهن للاعتبار بلا نواح ولا تذكير بمآثر الميت فهي مكروهة كراهةَ تحريم لظاهر الحديث.
ويرى بعض العلماء أن كراهة زيارة النساء للقبور للتنزيه؛ لما رواه أحمد والشيخان وغيرهم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "نُهينا أن نَتَّبِع الجنائز ولم يعزِم علينا".
والراجح أن زيارتهن جائزة للترخيص فيها بعد ذلك، ويُؤَيِّده حديث عبد الله بن مليكة: "أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أقبلت ذات يوم من المقابر فقلتُ لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلتِ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلتُ لها: أليس كان نهَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن زيارة القبور؟ قالت: نعم كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها". رواه الحاكم وصحَّحه ووافَقَه الذهبي.
وروى أحمد ومسلم أن عائشة سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما تقول إذا زارت القبور فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحَم الله المُسْتَقْدِمِين منَّا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". وعلى ذلك فلا مانع من زيارة النساء للقبور إذا لم يخرجْنَ عن حد الخُشوع وستر العورة وآداب الإسلام وخرجْنَ إليها مُحْتَشِمات يُرِدن العِظَة والعبرة، وكفى بالموت واعظًا فإذا خرجتْ مُتَعَطِّرةً مُتَزَيِّنةً ليشمَّ الناس عطرَها ويَرَوْنَ زينتها فإن ذلك حرام، وعليها لعنة الله ورسُله وملائكته.(1/1140)
في استحباب قراءة القرآن عند القبر:
يرى الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ استحباب قراءة القرآن عند القبر لتحصل للميت بركة القرآن ووافقَه على ذلك القاضي عياض والقرافي من المالكية، ويرى الإمام أحمد أنه لا بأس بها.
والذي أميل إليه أنه لا بأس بها؛ لأن الرحمات تَتَنَزَّل عند قراءة القرآن فيُرْجَى أن تَعُمَّ الميت رحمة الله ـ عز وجل ـ عند قراءة القرآن.
وليس المراد بالقراءة هي ما يفعله القُرَّاء الآن، بل لابد فيها من التأدُّب بآداب التلاوة وعدم الإخلال بالحروف والامتثال لأمر الله ـ تعالى ـ في قوله: (وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا). ومما لا شك فيه أن القرآن نور، وأن قراءته سبب في إنزال الرحَمات، وسبب في التجلِّيات الإلهية بالمغفرة والرضا، ومن أجل ذلك يقرؤه أهل الميت عند القبر راجين أن تنزل الرحمات على فقيدهم، ولقد مرَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على قبرين يُعَذَّب صاحباهما، وكانت بيده جريدة رطْبة فشقَّها نصفين ووضع على كل قبر نصفًا راجيًا الله أن يُخَفِّف عنهما، وإذا كان وضع الشيء الأخضر الرطب على قبر الميت يُرْجَى منه التخفيف فإن قراءة القرآن بالشروط المسنونة للقراءة من باب أولى.(1/1141)
ما الذي نهى عنه الدين في زيارة القبور:
نهى الدين في زيارة القبور عن الجلوس على القبر، فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لَأن يجلِس أحدُكم على جمرة فتَحرِق ثيابه فتخلُص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر".
رواه مسلم وغيره.
ونهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النياحة فقال: "إذا لم تَتُب النائحة قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سريال قَطِران، ودرع من جرب"، وأما حزن القلب، ودمع العين فلا بأس بهما، فإنه قد حصل ذلك من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند وفاة ابنه إبراهيم فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن العينَ لَتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيمُ لَمَحْزُونون".(1/1142)
في سُرادقات العزاء:
لقد خرجت عادات المأتم في كثير من البلاد الإسلامية عن الجو الإسلامي الصحيح، والجو الإسلامي الصحيح في ذلك هو أن الميت عِبْرة وأنه عِظَة وكفى بالموت واعظًا ومُذَكِّرًا بالآخرة، وبأن الحياة مهما حاول الإنسان أن تمتد به ستنتهي: (وجاءتْ سكرةُ الموتِ بالحقِّ ذلكَ ما كُنْتَ منه تَحِيدُ).
ومن أجل العِظَة حث الإسلام على تشييع الجنازة وذكر الثواب عليها؛ لِمَا في جوِّها من تذكير بأن كل مُشيِّع سيلقَى نفس المصير عاجلًا أو آجلًا.. وبهذا السبب أو بذلك تعددت الأسباب والموت واحد، وربما تَدفَع هذه العِظَة إلى التوبة والرجوع إلى الله. وبعد تشييع الجنازة يُعَزَّى أهل الميت وينصرف كل لشأنه مُتَّعِظًا مُعتَبِرًا متذكِّرًا للآخرة وللموت الذي لا مفرَّ منه.
فإذا غلب التأثُّر على أهل الميت فشغلهم على أن يُعِدُّوا لأنفسهم الطعام فينبغي لجيرانهم ولأقاربهم أن يَكْفُوهم ذلك.
هذا هو الجو الإسلامي في الجنائز.. أما ما يفعله الناس الآن فإنه وَضْع لا يستقيم مع الروح الإسلامية، خصوصًا الإسراف في هذه السرادقات التي تُقام، والمُغالاة فيها؛ حبًّا للمظاهر والسمعة والتفاخُر.
وإنه لمِن المَشاهِد المُؤلِمَة أن الحديث في أمور الدنيا على أنحاء شتى، وتدخين السجائر في نَوْع من اللامبالاة، كل ذلك يجري في هذه السرادقات حين يُرَتَّل القرآن الكريم، من أجل ذلك نُعلن في صراحة أن هذه المظاهر ليست مظاهر إسلامية، وهي أحرى أن تُكسِب فاعِلِيها السيئات، وعلى كل مُتَبَصِّر مُستَنِير أن يعمل على عدم إقامتها فيُرضي الله ويرضي رسوله.(1/1143)
في البائع يَتَبَيَّن خطأ بيعِه:
إذا تَبَيَّن البائع خطأ ما وقع حال بيعِه، وكان هذا الخطأ لصالحِه.. بدون قَصْد فلا شيء عليه فيما وقع؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "رُفِع عن أمَّتي الخطأُ والنسيانُ وما استُكرِهُوا عليه"، ولكن هذا العفو عن الخطأ وعدم الذنب فيه يرتفع بمجرَّد علمه به، وإدراكه له.. إذ عليه بمجرد العلم أو الإدراك تصحيح الخطأ.
فإذا كان البائع عارفًا بمَن اشترى منه بادَر إلى إعطائه حقَّه، وإصلاح ما حدث من خطأ. وإن كان لا يعرفه فعليه الاحتفاظ له بحقه حتى يرجِع عليه ولو طال الزمن، ولو نمَّى له هذا الحق واستثمره لكانَ خيرًا وعملًا صالحًا، ففي حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة فسَدَّت الغار وسألوا الله بصالح أعمالهم فرفعَها عنهم قال أحدهم: اللهم إني استأجرتُ أُجَراءَ وأعطيتُهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمَّرتُ أجرَه حتى كثُرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال لي: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري فقلتُ: كل ما ترى من أجرِك من الإبل والبقر والغنم والرقيق.. فقال: يا عبدَ الله لا تستهزئ بي، فقلتُ: إني لا أستَهْزِئ بك، فأخذه كله فساقَه فلم يترُك منه شيئًا.
والمقصود: أن حق المشتري في ذمة البائع، ولا يجوز للبائع أن يتصرَّف فيه، بأي وجه، بل عليه أن يُوصي مَن بعدَه حتى يحصُل صاحبُه عليه.
اللهم إلا إذا كان هذا الحق مما يُمكن التجاوُز فيه، ومُراعاة وقوعُه فإن للبائع حينئذ الحق في التصرف فيه.(1/1144)
في الحكم فيمَن يسخرون من العبادة ومن العِباد ويُشوِّهون صفاتهما:
يُبَيِّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ في السخرية بوجه عام فيقول ـ سبحانه ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا يسخَرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَّ خيرًا منهنَّ ولا تَلْمِزُوا أنفُسكم ولا تَنابَزوا بالألقاب بئسَ الاسمُ الفُسوقُ بعدَ الإيمانِ ومَن لم يتُبْ فأولئكَ همُ الظالمونَ).
فالساخر في حكم الله ظالِم، وللظالمين عند الله عذاب يختَلِف في شدَّته بحسب جريمتهم.. هذا في الساخر بوجه عام.
بيد أن جريمة السخرية من العُبَّاد والعبادة تَصِل في شناعتها عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى حد الكفر، وكفى أن نذكر في ذلك قوله ـ تعالى ـ: (إنَّ الذينَ أجرَمُوا كانوا من الذين آمنوا يضحكونَ. وإذا مَرُّوا بهم يتغامَزُونَ. وإذا انقلَبُوا إلى أهلِهِمُ انقلَبُوا فاكهينَ. وإذا رَأَوْهُمْ قالوا إن هؤلاءِ لَضَالُّونَ. وما أُرسِلوا عليهم حافظينَ. فاليومَ الذينَ آمنوا من الكفَّارِ يَضحَكُونَ. على الأرائكِ ينظُرونَ. هل ثُوِّبَ الكُفَّارُ ما كانوا يَفْعَلُونَ).
ولا ريب في أن السخرية بالعبادة والعُبَّاد إنما هي سخرية بالدِّين في عناصره السامِيَة، وذلك كفر صريح، ومَن تاب توبة نصوحًا وجد الله غفورًا رحيمًا.(1/1145)
هل يجوز شراء طعام مُعَدٌّ للأكل من شخص لا يُصلِّي؟
لا يجوز شراء الطعام المُعَدِّ للأكل من شخص لا يصلي؛ لأنه بتركه الصلاة أهدر دم نفسه وعرَّض نفسه لقتال وَلِيِّ الأمر والمسلمين، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أُمِرْتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤتوا الزكاةَ فإذا فعلوا ذلك عصَمُوا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على الله". ومَن يعامله بعد معرفته بهذا الحديث الذي ينص على مُحاربته وقتله، إن لم يؤدِّ الصلاة يُعَدُّ مُخالفًا لرسول الله ومُتعاوِنًا على مَن عصى الله ورسولَه، فتركه الشراءَ منه قد يُؤَدِّي به إلى سواء الصراط، ويُشعره بنقصِه وتفريطه في أمور دينه، إن كان لديه وازِع وبقية من إيمان.
وروى أبو داود بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن أول ما أَدخلَ النقص على بني إسرائيل كان الرجل يَلْقَى الرجل فيقول: يا هذا اتقِ الله ودَع ما تصنع؛ فإنه لا يَحِل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وشريبَه وقعيدَه، فلمَّا فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضِهم ببعض". ومن حديث لأحمد: "ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، وقال ـ تعالى ـ: (لُعِنَ الذينَ كَفرُوا من بني إسرائيلَ على لسانِ داودَ وعيسى بنِ مريمَ ذلكَ بما عَصَوْا وكانوا يعتدونَ. كانوا لا يَتَناهَوْنَ عن مُنْكَرٍ فعلوه لَبِئْسَ ما كانوا يفعلونَ).(1/1146)
في الاستدانة:
مَن استدانَ من الناس وجب عليه أن يُؤَدِّي هذا الدَّيْن ولا تبرأ ذمتُه إلا بالسَّداد، وما دامت نية الإنسان على سداد دَيْنِه صادقةً فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يُسَهِّل له ذلك إذا التجأ إليه مُتَضَرِّعًا، طالبًا منه ـ سبحانه ـ تيسير سداد الدَّيْن؛ ففي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن أخذ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءها، أدَّى الله عنه، ومَن أخذَها يُريد إتلافَها أتلفَه الله"، ومَن استدان وعجز عن السَّداد لا تبرأ ذمتُه من الدَّين حتى يُسَدِّد أو يَستَسْمِح أصحاب الحقِّ ويطلُب منهم إبراء ذمته من الدَّين أو إمهاله إلى أن يُيَسِّر الله له، ولا يصح للإنسان أن يقنط أبدًا أو ييأس، فإن الله يُيَسِّر لمَن عزم مُخلِصًا على السداد، يُيَسِّر له قضاء الدَّين أو عفو الأولياء عنه.
وعليه أن يُكافح بالعمل على حسب استعداده، وأن يَتَّخِذ الأسباب المادِّية من تجارة أو زراعة أو غيرها من أجل سَداد الدَّيْن، وليعلَم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يصلي على أحد مات إلا إذا تأكَّد من أنه غير مَدِين، وإذا كان عليه دَيْن فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينتظِر أن يُسَدِّد دَيْنه ثم يصلي، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُشَدِّد في الدَّيْن تشديدًا كبيرًا، حتى لقد قال في المجاهدين: إن جهادَهم يُكَفِّر سيئاتهم إلا الدَّيْن.(1/1147)
هل يجوز نسبة طفل إلى غير والده بالتبنِّي؟
إن نسبة طفل إلى إنسان يعلَم أن هذا الطفل ليس ابنًا له، ومع ذلك يَنْسبه إلى نفسه على أنه أبوه، سواءً كان الولد معلوم النسب أو مجهولًا، يُطلَق عليه اسم التبنِّي وهو الذي أبطلَه الإسلام، بقوله ـ تعالى ـ في سورة الأحزاب: (ما جعلَ اللهُ لرجُلٍ من قلبينِ في جَوْفِهِ وما جعلَ أزواجَكُمُ اللائِي تُظاهِرونَ منهنَّ أُمَّهاتِكُمْ وما جعلَ أَدْعِيَاءكُمْ أبناءَكم ذلِكُم قولُكم بأفواهِكم واللهُ يقولُ الحقَّ وَهُوَ يَهْدِي السبيلَ. ادْعوهُم لآبائهم هو أقسطُ عندَ اللهِ فإنْ لم تعلموا آباءَهُمْ فإخوانُكم في الدِّينِ ومَواليكُمْ).
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرَّم زيد بن حارثة بنسبتِه إليه؛ مُكافأةً له على تفضيله البقاء في خدمته على الذهاب حرًّا مع والده حارثة، فتبنَّاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسمَّاه زيد بن محمد، فلما أبطل الإسلام نظام التبنِّي عاد زيد إلى اسمه الأول زيد بن حارثة، ونزل قوله ـ تعالى ـ: (ما كانَ محمدٌ أبَا أحدٍ من رجالِكُمْ ولَكِنْ رَسُولَ اللهِ وخاتَم النبيينَ وكانَ اللهُ بكلِّ شيءٍ عليمًا).
والتبنِّي الذي يُريده السائل بنسبة طفل إليه على أنه أبوه، وزوجته أمه، وأولاده إخوته ـ كما يُناديهم ـ هو ما أبطلَه الإسلام؛ لِمَا يترتَّب عليه من المفاسد الاجتماعية الخطيرة، فإن هذا الولد المُتَبَنَّى سيُشارِك في الميراث وهو ليس صاحب حق، بل قد يَحرُم صاحب الحق من حقه.(1/1148)
وسيترتَّب على بُنَوَّته تحريم ما أحلَّه الله وإباحة ما حرَّمه بالنسبة للميراث والمصاهرة وإباحة الخَلْوَة بالأجنبيات والأجانب على أنهم من المحارم والمُحَرَّمات، إلى غير ذلك من المفاسد التي من أجلها حرَّم الإسلام هذا اللون من التبنِّي، لكن يجوز للسائل ولغيره ممَّن يُريدون المساعدة والعَوْن لهؤلاء الأطفال المساكين أن يقوموا بتربيتهم والإنفاق عليهم والوصية لهم بجزء من مالهم تأمينًا لمستقبلهم على أنهم إخوة لهم في الدِّين، لا على أنهم أبناؤهم، وبذلك يستطيع السائل أن يُقَدِّم العوْنَ كما يشاء لهذا الطفل على أن لا ينسبَه إليه ولا إلى زوجته، ولا مانع أن يُفهِمَه حينما يكبُر ويعقِل أن أبويه أُصِيبًا في حادث من الحوادث، وأنه قد تطوَّع بتربيته وتعليمه والله يَجزِيه هو وأهل الخير من أمثاله أعظم الجزاء.(1/1149)
في مَن يفعل المُحَرَّمات قبل الحج أو بعده:
هذا الذي يشرب الخمر ويزني ويذهب إلى المراقص إِمَّا أن يقع ذلك منه قبل الحج أو بعده.. فإن وقع ذلك منه قبل الحج، وأخلص في حجِّه وتاب توبة نصوحًا، وأدَّى الحج كما ينبغي غفر الله له الذنوب وعاد من الحج نقيًّا طاهرًا متأهلًا للترقِّي والسعادة كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن حجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجعَ كيومَ ولدتْهُ أمُّه".
أما إذا وقع منه بعد الحج، فإنه يدل على أن الحج لم يُثْمِر فيه، وعلى أن عبادته لم تكن خالصةً لله، وعليه إثم كل ذنب اقترفه بعد الحج، وهو بفعله هذه المُنْكَرات يضيع على نفسه أثر الحج، ويبتعد تدريجيًّا عن رحمة الله.
ومع ذلك فإذا حج بإخلاص أثمر الحج معه ثمرته، وتاب الله عليه لإخلاصه. على أن مِن شروط قَبُول التوبة العزم المُصَمِّم على عدم العودة لمِثْلها، فإن التائب وهو مُصِرٌّ على الذنب كالمُستَهْزِئ بالرب، وهو في الحقيقة إنما يُدَمِّر نفسه ويُضَيِّع عليها كل فرصة للنجاة والخروج من سجن الذنوب.
فإذا كان في حَجِّه مُصِرًّا على هذه المعاصي، عازمًا على عدم تركها، فإن حَجِّه لن يكون سببًا في تكفير ذنوبه، بل سيكون حجُّه عليه؛ لأن الحج تجرُّد من الهوَى والشهوات، وإقبال بكل الهِمَّة على الله، وكيف يقبل على الله مَن عزم على مُقارَفة المعصية، وأبى التصميم على تركها، فلْيَحْذَر عذاب الله من ينتهكون حرُماته، فإن الله ـ تعالى ـ غيور عليها، وسيعلم الذين ظلموا أي مُنْقَلَب ينقلبون.
أما من ناحية إسقاط الفريضة فإن حجَّه يُسقط الفريضة عنه، ويكون مِثْل ذلك كمِثْل شخص يُصلي الفروض ويشرب الخمر فإن صلاته تُسقط عنه الفرض، وأما شربه الخمر فإن حسابه عليه مَرْجِعُه إلى الله، وكذلك الأمر في مَن حج وعصى فإن حجَّه يُسقط عنه الفرض وحساب معصيته على الله.(1/1150)
ما هي تحية الإسلام الجائزة شرعًا؟
وهل جائز أو مكروه تحية الوُجوه بالأنف والفم أو مُعانقة الأكتاف؟
من حق المسلم على أخيه المسلم أن يُحَيِّيه عند لقائه، والتحية التي شرعها الإسلام وسنَّها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي ما ورد في الحديث الصحيح الذي قال فيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لَقِيتَه فسلِّمْ عليه، وإذا دعاك فأجِبْه، وإذا استنصحك فانصحْ له، وإذا عطس فحمَدَ الله فشَمِّتْه، وإذا مَرِض فعُدْه، وإذا مات فاتَّبِع جنازتَه".
فتحية الإسلام هي: "السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه"، وما أبدعَها من تحية! لأنها تُبَشِّر بالسلام والاطمئنان والأمن والرحمة والبركة من الله.
وهي تحية أهل الجنة، قال ـ تعالى ـ حين تحدث عن أهل الجنة: (تَحَيِّتُهُمْ فيها سَلامٌ) وتحية الملائكة لهم كما قال ـ تعالى ـ: (وَالملائكةُ يَدْخُلُونَ عليهِمْ من كلِّ بابٍ سلامٌ عليكُمْ). ومن بدأ أخاه بهذه التحية كان له من الله الثواب الجزيل ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ: "إن مَن قال: السلامُ عليكم له عشر حسَنات، ومَن قال: السلام عليكم ورحمة الله له عشرون حسنة، ومَن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه له ثلاثون حسنة".
ويُكرَه للمسلم أن يَعدِل عن هذه التحية إلى غيرها أيًّا كان نَوْعها؛ لأنها تقليد وخروج عن الآداب التي شرَعَها الإسلام وزهادة في الثواب الذي أعدَّه الله لمَن حيَّا بالسلام.
والمُعانَقَة تكون عند شدَّة الشوق، كما إذا عاد المسلم من سفر أو غزوة أو حج، وقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عانَق سيدنا جعفر بن أبي طالب ابن عمه حين قُدومه من الحبشة، وكان مُهاجِرًا بها في أول الإسلام.(1/1151)
فيُؤْخَذ من ذلك مشروعيتها وجوازها، ومع ذلك فإنها ليست تحية، وإنما التحية هي: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" فإذا حيَّا الإنسان بهذه التحية فإنه لا بأس بعدها بتحية من نَوْع آخر تَبَعًا للعادات والتقاليد.(1/1152)
في مَن تُعَرِّض نفسها للحمل مع عِلْمها بخطورة ذلك:
إن من أسُس الإسلام المعروفة بداهةً المُحافَظة على سلامة الكائن الإنساني بحيث يجب عليه ألا يُعَرِّض نفسه لأذى، وعلى المُحيطين به أن لا يُوقِعُوه في ضرَر، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (ولا تُلْقُوا بأيديكُمْ إلى التهلُكةِ) أي: لا تتعرَّضوا للشر مُختارين مُندفعين إليه بإرادتكم، وقد أباح جمهور الفقهاء للأم أن تمتَنِع عن الحمل، وللزوج أن يمنع امرأته عن الحمل إذا تعرَّضت بسببه إلى أذًى يُصيبها في جسمها أو في نفسه، بل أباحوا ذلك لمجرَّد الظن الراجح.
وقالوا: إن الزوج يكون آثمًا إذا عرَّض امرأتَه للحمل، مع عِلْمه بخُطورة ذلك على صِحَّتها، وقالوا: إن الزوجة تكون آثِمَةً إذا عرَّضت نفسها للحمل، مع عِلْمها بخطورة ذلك على صحتها، ومن أجل ذلك فإنه إذا قرَّر الأطباء أن في الحمل ضررًا على صحَّة الزوجة، وأنه يجب إجراء عملية لأجل منع الحمل فإن المُوافَقة على إجراء العملية واجب شرعًا، والامتناع عن إجرائها محرَّم شرعًا.
فعلى الزوج أن يُوافِق على إجراء العلمية مُطمئن النفس، هادئ القلب، وبارَك الله لهما فيما رزَقَهما، وليس الأمر في الأبناء بالكثرة، وإنما هو بالنَّجابة وحِفْظ الله وتوفيقه، ونرجو الله أن يتولى ما رزقها بالحفظ والتوفيق.(1/1153)
في التعامُل مع البُنوك:
إن التعامُل مع البُنوك أنواع متعدِّدة، فقد يضع الإنسان مالَه في البنك على ذِمَّة شركة من الشركات قد وضع البنك لها مشروعَها ورسم لها تخطيطها ويُحاول تنفيذ المشروع، وذلك كما كان يصنع بنك مصر، وكما تصنع بعض البنوك.
وهذا النَّوْع من التعامُل مع البنك لا شيء فيه، وهو حلال، وذلك أنه عمل تِجاري؛ لأنه شراء عِدَّة أسهم في مشروع تجاري يقوم به البنك.
وكلما كان التعامُل مع البنك نَوْعًا من التجارة كان ذلك جائزًا مثل مُساهَمة الإنسان في شركة الحديد والصُّلْب أو في شركة "راكتا" أو في شركة الخزف وهكذا.
ولا يتَأَتَّى أن يقول إنسان على المُساهمة في هذه الشركات: إنها عمل مُحَرَّم؛ ذلك أنها أوضاع تِجارية لا شُبْهة فيها للربا.
أما إذا وضع الإنسان مالَه في البنك ليأخذ عليه فائدة مُحَدَّدة، ولا شأن للمُودِع بتجارة البنك خسرت أو كسبت، ولا شأن له بالأسعار ارتفعت أو انخفضت، فإن ذلك يكون ربا حرَّمه الله ـ سبحانه ـ وأنذر مُتَعاطيَه بالحرب.(1/1154)
في حكم مَن يتشبَّه بالأوربيين في طريقة حلْق رأسِه:
قال ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذين آمنوا لا تَتَّخِذُوا اليهودَ والنصارَى أولياءَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ ومَن يَتَوَلَّهُمْ منكم فإنَّه منهم إن الله لا يَهدِي القومَ الظالمينَ. فترَى الذين في قُلوبهم مرضٌ يُسارِعُونَ فيهم يَقُولونَ نَخْشَى أن تُصِيبَنا دائرةٌ فعَسَى اللهُ أنْ يأتِيَ بالفتحِ أو أمرٍ منْ عندِهِ فيُصبِحُوا على ما أَسَرُّوا في أنفُسِهِمْ نادمينَ).
فمَن تشبَّه بالأوربيين في طريقة حلْق شعر رأسه؛ حبًّا لهم وتَوَدُّدًا إليهم وابتعادًا عن أبناء دينه ووطنه وبيئته واشمئزازًا منهم ونُفورًا، فإنه يكون بذلك خارجًا على الأوضاع الإسلامية، ويكون آثمًا وعاصِيًا من ناحية الدين، ومن ناحية الخلُق، ومن ناحية الوطنية.
أما إذا لم يَقصِد شيئًا من ذلك وإنما كان عادة وعُرْفًا شاع وأصبح الناس يَتَّبِعُونه دون التفات إلى أنه تَشَبَّه بالأوربيين فإن ذلك حكمُه حكم العادات التي تَشِيع.
والعادات التي تشيع لا إثمَ فيها ولا مَعْصِيَة ما دامت لا تَتَنافَى مع ما أمر به الله أو نهى الله عنه، وحلق الرأس على طريقة مُعَيَّنة من العادات التي لا تُخالِف نصًّا من نصوص الدين، فهي ـ إذن ـ من المُباح، ما لم يتعمَّد الإنسان أن ينفصِل عن إخوانه ليكون من الأوربيين، فإن فعل ذلك كان في حكمهم، ولقد أرادَ مرةً أحد المُريدين أن يأكل الغليظ من الطعام، وأن يَلْبَس الخَشِن من الثياب فقال له شيخُه: "اتقِ الله وكن كيفَ شِئْتَ".(1/1155)
في ما ورد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أَطْلِقُوا اللِّحَى وجُذُّوا الشاربَ".
روى البخاري بسنده عن ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "خالِفُوا المشركينَ وَفِّرُوا اللِّحَى واحْفُوا الشاربَ". قال عياض: يُكرَه حلْق اللحية وقصُّها وتجذيفها، وأما الأخذ من طُولها وعَرْضِها إذا عظُمت فحسَنٌ، بل تُكْرَه الشهوة في تعظيمها كما تُكْرَه في تقصيرها.
وتوفير اللِّحَى أو إعفاؤها لا يُقصَد به تركُها بلا حلق، وإنما تُشَذَّب وتُهَذَّب بما يُحَقِّق الاعتدال فيها بلا تطويل ولا تقصير.
وقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه كان إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لِحْيَتِه وشاربه.
والكراهية هنا للتحريم على ما اختارَه كثير من العلماء للأحاديث الواردة في الأمر بإعفائها، وهي كثيرة، والأصل في الأمر الوُجوب، ولا يُصرَف عنه إلا لدليل، ولا دليل على هذا الصرف، ثم إن المشهور من فعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه التوفير ولم يَرِد الحلق، فسانَد الفعلُ القولَ وتأكَّد الوجوبُ..
هذا عن توفير اللِّحَى. أما عن قص الشارب فهو مِثْل توفير اللِّحَى، ويُسْتَحَب أن يبدأ الجانب الأيمن. والقص إنما يتحقَّق بتخفيف شعره وتقصيره وإظهار طرَف الشفة، وفي ذلك كمال الهيئة والتميُّز عن النساء وتحقيق هَيْبة الرجال، وتيسير الأكل والشرب بلا عائق من شعر الشارب.
ما يُعطِي فكرة صحيحة عن موقف الإسلام فيما يتصل بحلْق اللحية أو إحفاء الشارب.
هذا، وقد اعتبر الإسلام كِلَا الأمرينِ من خِصال الفطرة التي يُعْتَبَر الخروج عليها خروجًا على طبيعة الإنسان، وقلبًا لصورته وتشبُّهًا من الرجال بالنساء، وبذلك فالحديث في توفير اللحية وتقصير الشارب أو حلقه صحيح، والحكمة من ذلك ما ذكرناه من السير على ما تقتضيه الفطرة، وعدم تغيير الخِلْقة، والبُعد بالرجال عن التشبِّه بالنساء وتيسير التنظيف وتحسين الهيئة.(1/1156)
في حكم مَن حلق لِحْيَتَه في الإسلام:
حلْق اللحية في الإسلام نهى عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لأنه تشبُّه بالصبية من الأطفال وتشبُّه بالنساء، وتربية اللحية سنَّة النبيين، قال ـ تعالى ـ مُخبِرًا عن حديث جرى بين هارون وموسى ـ عليهما السلام ـ: (يَا ابنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولَا بِرَأْسِي)، دلت الآية على أن سيدنا هارون ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ كان ذا وَفْرة لشعر لحيته ورأسه، وقد صح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحلِق لحيته قط في تحلُّله من الإحرام لا في حجة ولا في عمرة.
وفي الصحيحين أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: خالِفوا المشركين، احفُوا الشوارِب واعفُوا عن اللِّحى، ولقد بغَّض الفقهاء شهادة مَن يَحلِق لحيته، ومع ذلك فإن بعض الفقهاء يرى أن إرسال اللحية سنَّة، ومهما يكن من شيء فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحلِق لحيته قط، وقد قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ لِمَنْ كانَ يرجُو اللهَ واليومَ الآخِرَ وذكَرَ اللهَ كَثِيرًا). ولقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إزالة الشعرة البيضاء من اللحية السمراء؛ لأنها علامة الوقار ونور المؤمن يوم القيامة، وهذا النهي هو في الوقت نفسه نهي عن إزالة شعر اللحية.(1/1157)
ما حكم استعمال الكرافتة في الإسلام؟
في هذا الزمان جائز باعتباره من الأمور التي جرت بها عادة المسلمين في العصر الحاضر، والمسألة في الواقع فيما يتعلق بالكرافتة ليست مسألة حِلٍّ وتحريم، وإنما هي مسألة ضرورة أو عدم ضرورة، ولقد رأى كثير من الغربيين والشرقيين أن الكرافتة لا ضرورة لها، وهي تُؤذِي الإنسان أكثر مما تنفعُه، وكثيرًا ما نرى بعض الناس يَحِل رباط رقبتِه ليتنَفَّس بالهواء يملأ صدره وليتنَفَّس في يُسر ورَحابة، وما مِن شك في أن الكرافتة وارد من واردات الغرب، ولعل في الأزياء الوطنية ما يُغنِيه، والنزعة التي تعتَزُّ بالزي الوطني خير من نزعة التقليد لكل ما هو غربي.
وننتهي من ذلك بأن مسألة الكرافتة تخرج عن دائرة التحليل والتحريم إلى دائرة الاعتزاز بالوطنية.(1/1158)
في شروط التحريم بالرضاع:
من شروط التحريم بالرضاع، أن يَصِل اللبن إلى جوف الرضيع ممَّن أرضعتْه في وقت يكفيه غذاء اللبن؛ لأن هذا هو المقصود بالرضاع، أي الاشتراك في التغذِّي بلبن واحد.
وما دامت الأم مُتَأَكِّدة من أن ثدييها لم يكن بهما لبن فلا يُعْتَبَر هذا رضاعًا محرمًا، وإنما هو نَوْع من هَدْهَدة الطفل أو محاولة إسكاته.
روى البخاري بسنَدِه عن عائشة ـ رضي الله عنهاـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغيَّر وجهُه وكأنه كرِه ذلك، فقالت: إنه أخي، فقال: "انظُرْنَ مَن إخوانكنَّ. فإنما الرَّضاعة من المجاعة".
أي: الرضاعة التي تُثبِت بها الحُرمة وتَحِلُّ بها الخَلْوة هي حيث يكون الرضيع طفلًا يَسُدُّ اللبن جوعته؛ لأن مَعِدَته ضعيفة يَكفِيها اللبن، ويَنْبُت بذلك لحمُه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحُرْمَة مع أولادها، فكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا رَضاعة مُعتَبَرَة في الشرع إلا الرضاعة المُطعِمة من المجاعة".
وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا رَضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم".
وروى الترمذي بسنده عن أم سلمة ـ رضي الله عنها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَحرُم من الرضاع إلا ما فتَق الأمعاء.." وقال صحيح.(1/1159)
في التشاؤم:
تشاؤم بعض الناس من بعض الأشياء منهي عنه، ولن يكون شُؤْم إلا بالتشاؤم، ولو أن الذين يتشاءمون استعصموا بالله ـ عز وجل ـ واعتقدوا أن الأمور كلها بيده، لَمَا أصابَهم شيء مما يتَخَوَّفون منه عند رؤية ما يُتشاءَم منه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا طيرَ ولا هامةَ ولا صفرَ، وفِرَّ من المجذومِ فِرارَكَ من الأسدِ".
والحديث الوارد في أن الشؤم في ثلاثة: "المرأة، والدار، والفرس"، وارد؛ وذلك أن الأرواح بالنسبة للمرأة جنود مُجَنَّدة، فربما كانت روح هذه المرأة لا تأتَلِف مع روح زوجها، وربما يكون مع المرأة قَرِين من الجن يُفسِد على زوجها الحياةَ معها، والدار قد تكون مسكونة ببعض طوائف الجن التي لا قُدْرة لبعض الذين يقيمون بها على التحصُّن من شر أولئك الجن، وربما تكون الدار مقبرةً قديمة لبعض الذين ماتوا على غير دين الله. فتكون مَحَلًّا لنزول العذاب بها إلى يوم القيامة، لهذا ينبغي الابتعاد عنها لمَن عَلِم بذلك ولمَن أصابَه من المُكْث بها ضرَر.
والفرس تُصحَب بقرين من الجن ـ أيضًاـ إذا ما حلَّت حلَّ به، ونال أهل ذلك البيت منه عناءً شديدًا.
لهذا يكون الشؤم باعتبار الثلاثة الواردة في الحديث بحسب ما يراه الناس، والحقيقة ما قلناه.(1/1160)
في وسوسة الجن:
إن النفس الإنسانية لها أحوال غريبة أحيانًا يُحاول العلم لها تعليلًا فينجح مرة ويَخفِق أخرى فهناك مثلًا، انفصال الشخصية، وهي حالة واقعية لاحَظها العلم وأجرى عليها تجاربه وسجل مظاهرها، وانتهى فيها إلى بيان وتفسير، وفي حالة انفصال الشخصية يتردَّد الإنسان في صورة مُنْتَظِمة بين شخصيتين فإذا كان في إحدى الشخصيتين فإنه لا يعلم عن الأخرى شيئًا وقد تكون إحداهما مُناقِضَة تمامًا للأخرى.
ومن الحالات العجيبة التي يضعها العلم في نِطاق الأمراض النفسية ما شاع في الناس في كل زمان ومكان، من أن يَلْبَس عفريتٌ جسمَ امرأةٍ أو جسم رجل، وهذه الحالة أصبحت شبه مألوفة منذ أن كثُرت التجارِب فيما يُسَمُّونه بالروحانية الحديثة، وليست الروحانيات الحديثة إلا أن يَلْبَس عفريت جسم الوسيط ويتحدَّث على لسانه، وليس الوسيط إلا إنسانًا، رجلًا أو امرأة، مُهَيَّأ النفس والجسم لأن يَحِل فيه كائن من العوالِم غير المنظورة، والسبب الأصيل في هذه التهيئة هو ضعف الإرادة عند الوسيط وسُرْعة استجابتِه للوهم وللإيحاء، إنه عادة شخص مُهَيَّأ بسبب ضعف إرادته؛ لأن يكون مسرحًا لكل وهم ولكل إيحاء.
وإن كثرة التجارِب في الروحانية الحديثة لَتَدل على عدم استحالة هذه الظواهر التي يلبس فيها عفريت جسم إنسان.
أما علم الغَيْب الماضي والغَيْب الحاضر فإن في استطاعة الجن أن تُعَلِّمَه وأن تَصدُق في الإخبار به، وليس لذلك قيمة كبيرة، فإنه غيب وقَع بالفعل ومعرفة ما وقع بالفعل في الحاضر أو في الماضي ليس أمرًا من الأمور الهامة، والغيب الذي استأثَر الله بعلمه إنما هو الغيب الذي لم يحدُث بعدُ، يقول ـ سبحانه ـ: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِن عِلْمِهِ إلا بما شاءَ).
ويمنحه الله بوَساطة الرؤيا الصادقة، والرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.(1/1161)
في حكم مَن يُريد معرفة الغيب عن طريق المُنَجِّمين:
الغيب أنواع ثلاثة:
الأول: الغيب الحاضر، أو بتعبير آخر، غيب مكاني، بمعنى أن تقع الحادثة في مكان بعيد ويعلمها المُنَجِّم بعد وُقوعها بقليل أو حين وُقوعها، وهذا النَّوْع من الغيب يُمكن معرفته لكثير من الأشخاص، ولم يُبَيِّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز أنه قد اختصَّ بعلمه، وحقيقة الأمر أنه ليس بغيب؛ لأنه قد وقع بالفعل، وكل ما في الموضوع أنه بعيد في المكان فقط من أجل ذلك سمَّيْناه غيبًا حاضرًا.
الثاني: الغيب الماضي، وهو الغيب الحادث فيما مضى من الزمان كحياة الشخص، ولم يخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه اختص بعلمه، وكثيرًا ما يكون طريق معرفة الغيب الحاضر والغيب الماضي عن طريق الجن، ومهما يكن من شيء فإن هذين النوعين من الغيب يُمكن معرفتهما بوسيلة أو بأخرى.
الثالث: الغيب المستقبل، وهو الغيب الذي لم يحدُث بعدُ فإن هذا الغيب اختص الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعلمه، ولكنه ـ سبحانه ـ يُعطي منه ما شاء لمَن شاء، يقول ـ سبحانه ـ: (عَالِمُ الغيبِ فَلا يُظهِرُ على غَيْبِهِ أحدًا إلا مَن ارتضَى من رسولٍ).
ويقول ـ سبحانه وتعالى ـ: (وَلَا يُحيطُونَ بشيءٍ من عِلْمِهِ إِلَّا بما شاءَ)، وهذا النَّوْع من الغيب لا يعلَمُه المُنَجِّمون مهما كانت مقدرتُهم.
وحكم مَن يُريد معرفة الغيب بأي نَوْع من أنواعه عن طريق المُنَجِّمين هو أنه منحَرِف عن الطريق المستقيم.
أخرج الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاة أربعين ليلة". حديث صحيح. وأخرج الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المُسْتَدْرَك عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدَّقَه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِل على محمد"، حديث حسن.(1/1162)
في مَنْع المرأة من حقها في الميراث:
المسائل التي تكون عادةً مَثار نِزاع في المجتمع أو بين أفراد الأسرة الواحدة قد فُصِّلت في القرآن تفصيلًا تامًّا، ووُضِّحت في صورة سافرة لا لُبْس فيها.
ومن ذلك موضوع الميراث.
لقد بيَّن القرآن الأنصِبَة مُحَدَّدة في مختَلَف الحالات والظروف، فأبان نصيب الزوجة حينما يكون للمتوفَّى أولاد، ونصيبها حينما لا يكون له أولاد، وبيَّن الحالات التي فيها الأم، والبنت، والأخت، وهكذا. مع بيان الأنصبة بتحديد مُحَدَّد، وهذا يُعتَبَر معلومًا من الدين بالضرورة، فمَن جحَده إنكارًا له أو جحدَه غير مُعتَرِف بعدالته، أو جحده، مُفَضِّلًا غيره من التشريعات عليه فإنه يكون بذلك قد خرج عن محيط المِلَّة الإسلامية.
إن القرآن لَيَصِف أمثال هؤلاء الذين يخرجون على قوانين الله ـ سبحانه ـ بأنهم ظالمون، وبأنهم فاسقون، بل بأنهم كافرون.
ومن أجل أن لا يقع الإنسان تحت طائلة غضَب الله، يجب عليه أن يُعطي المرأة نصيبها الذي حدَّده الله لها.(1/1163)
في الملابس:
لم يُحَدِّد الإسلام للمسلم ملابس مُعَيَّنة، وإنما الذي شرَطَه هو ستر العورة للرجل والمرأة، وعدم إبداء مفاتن الجسم، والملابس تخضَع للبيئات والأجواء، ويلزم كشرط عام في الملابس ألا تكون مُحَدِّدة للعورة، ولا مُظهِرة لِمَا يجب سترُه عن الأعين، وأن لا يقصِد بلبسها التشبُّه بالكفَّار والمشركين؛ فإن الإسلام يُحب دائمًا للمسلم أن تكون له ذاتية مستَقِلَّة عن غيره، فلا يكون مُقلِّدًا للغير، وإنما يكون مُتَّبِعًا للتعاليم الإسلامية.
والذي فضَّله الإسلام هو الثياب البيضاء؛ فقد ورد فيها الأثر: "خيرُ ثِيابكم البِيض".
وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُفَضِّلها، وكذلك يحب الإسلام اللون الأخضر، وقد أمر الشرع بأخذ الزينة والتحلِّي بأحسن الثياب بقَدْر الاستطاعة عند الذهاب إلى الجُمَع والأعياد والمحافل العامة، قال ـ تعالى ـ: (يا بَنِي آدمَ خُذوا زينَتَكُم عندَ كلِّ مسجدٍ وكُلوا واشرَبُوا ولا تُسرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفينَ).
وكذا من المُستَحْسَن أن لا تكون الثياب ضيِّقةً تُضايق الجسم، أو طويلة تَجُرُّ على الأرض؛ وذلك احترازًا عن النجاسات والأقذار، وابتعادًا عن الوسوسة في الصلاة، وطردًا للعُجْب والخُيَلاء الذي يُصاحب جر الثياب، وقد فسر كثير من المفسرين قوله ـ تعالى ـ: (وثيابَكَ فطَهِّرْ) أي: قَصِّر، توقِيًا للنجاسات.(1/1164)
ملابس بعض النساء تُعَرِّض أبدانهن للنظر، فما حكم النظر لهن في هذه الحالة؟
وهل شيوع مثل ذلك يكون مبررًا لعدم تحريم النظر؟
إن هذا السؤال يستلزم الحديث عن زوايا مُختلفة خاصة بالتبرج لابد من علاجها، وأول هذه الزوايا هي التبرج نفسه. وبهذا الصدد نبدأ بذكر حديث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صِنْفان من أهل النار لم أرهما بعدُ: نساءٌ كاسِيَات عارِيَات، مائلات مُمِيلات، على رءوسهن أمثال أسنمة البُخْت المائلة، لا يَرَوْنَ الجنة ولا يَجِدِن ريحها. ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس".
وهذا الحديث فيما يتعلق بالنساء المُتَبَرِّجات كأنه قيل بالأمس القريب ليُعَبِّر عن الوضع في العصر الحاضر، ويَكفِي ما فيه من وعيد، ليَرُدَّ انحراف مَن تُؤمن بالله واليوم الآخر، ولقد تحدَّث القرآن الكريم عن الواجب بالنسبة للرجل والمرأة على السواء فيما يتعلق بالنظر، قال ـ تعالى ـ: (قُلْ لِلمُؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهم ويحفظوا فُروجَهم ذلك أزكَى لهم إن الله خبيرٌ بما يَصنعونَ) هذا بالنسبة للرجال. أما بالنسبة للنساء، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (وقُلْ للمؤمِناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارهنَّ ويَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ ولا يُبدينَ زينتهنَّ إلا ما ظهرَ منها ولْيَضرِبْنَ بخُمُرهنَّ على جُيوبهنَّ ولا يُبدين زينَتَهُنَّ إلا لبُعولَتِهِنَّ أو آبائهن أو آباء بُعولتهن أو أبنائهن أو أبناءِ بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتِهِن أو نسائهن أو ما ملَكَتْ أيمانُهُنَّ أو التابعين غير أُولي الإرْبةِ من الرجالِ أو الطفلِ الذين لم يظهَرُوا على عَوْرات النساءِ ولا يضرِبْنَ بأرجُلهنَّ ليُعلَم ما يُخفِين من زينتهنَّ وتُوبوا إلى الله جميعًا أيُّه المؤمنونَ لعلَّكم تُفلِحونَ).(1/1165)
ولقد سأل أحد الصحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نظرة الفجأة فأمره أن يصرِف بصرَه. وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي ـ كرم الله وجهه ـ: "يا عليُّ، لا تُتْبِع النظرةَ النظرةَ؛ فإن لك الأولى وليس لك الآخرة". وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه، فيما رواه عبد الله بن مسعود: "إن النظرةَ سهمٌ من سهام إبليسَ مسموم مَن ترَكَه مُخافتي أبدلْتُه إيمانًا يجد حلاوتَه في قلبه".
وما من شك في أن على المرأة المُتَبَرِّجة مسئولية كبيرة، مسئولية تُؤدي بها إلى غضَب الله ومَقْتِه، إذا لم تَتُب وترجع إلى الله مُحتَشِمةً، مُتَأَدِّبة بآداب الإسلام، وعلى الرجل ـ أيضًا ـ مسئولية مُزْدَوِجة، إن عليه مسئولية الراعي، وكل راع مسئول عن رعيته. وعليه مسئولية النظر الذي يجب أن يكفَّه عن محارم الله، فإذا قام الرجل بمسئوليته المزدوجة فقد أرضى الله ورسوله.(1/1166)
في الزوج الذي يَحجِب زوجتَه ويُبعدها عن مزالق الفِتَن:
الزوج الذي يحجب زوجته ويُبعدها عن مزالق الفتن ومواضع الشبُهات زوج قد تأدَّب بأدب الإسلام وحافَظ على عِرْضه وكرامته.
وفي تَوَلِّيه إحضار الأشياء من السوق قيام بالواجب عليه نحو بيته، وهو مُثاب على ذلك من الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن من أفضل السعي سعي الإنسان على أهله وأولاده، وهو بهذا العمل يكون قد جنَّب زوجتَه الاختلاط في الشوارع والأسواق، وأبعدَها عن أن يتعرَّض لها من لا خَلاق لهم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يُثَبِّته على هذا العمل الحميد.(1/1167)
ما هو حجب النساء؟ وما حكمُه في الإسلام؟
إن الحجاب في الإسلام معناه أولاً أن لا تخلو المرأة برجل ليس من محارمها، وأن لا تسافر وحدها أو مع رجل ليس من محارمها.
روى الشيخان، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحرَم، ولا تُسافر المرأة إلا معها ذو محرم فقال له رجل: يا رسول الله، إن امرأتي خرجتْ حاجَّةً، وإني كنتُ في غزوة كذا وكذا. فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "انطَلِقْ فحُجَّ مع امرأتك".
والحجاب معناه ثانيًا عدم التبرُّج، وهو أن تحجِب المرأة ما أمر الله بحجْبِه من جسمها، ولقد أباح الشرع لها كشف الوجه واليدين، والأحاديث في هذا والآيات القرآنية كثيرة.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعدُ: نساء كاسِيَات عارِيَات، مائلات مُمِيلات، على رءوسهن أمثال أسنمة البُخْت المائلة، لا يَرَوْنَ الجنة ولا يَجِدْن ريحَها، ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس".
والحجاب ثالثًا معناه إبعاد المرأة عن جوِّ الفتنة، الفتنة بالنسبة لها، والفتنة بالنسبة للرجال، وهذا كله إنما هو ارتفاع بالمرأة إلى جو السموِّ والتكريم، يَتَناسب مع مكانتها وتكريم الإسلام لها.(1/1168)
في البيع بالتقسيط:
لقد أباح جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المُؤَجَّل أعلى من الثمن المدفوع فورًا؛ وذلك لأن الثمن المدفوع فورًا يُمكِن الانتفاع به في مُعامَلات تِجارية أخرى، أما الثمن المُؤَجَّل فإنه لا يتأتَّى فيه ذلك.
وهذا النَّوْع من المُعاملات ليس داخلًا في نِطاق الربا، ومع ذلك فإنه يجب أن يُراعَى أن تكون المعاملات التي من هذا النَّوْع مُعاملات سليمة تجاريًّا وأخلاقيًّا. فلا يجوز أن تُستَغَلَّ حاجة المُشتَرِي فيرفع البائع الثمن، كما يُريد مُضاعفًا المكسب أضعافًا مُضاعفة، فإن ذلك ـ فضلًا عن كونه إثمًا من وجهة النظر الأخلاقية ـ لا يجوز شرعًا.
وإن التاجر الذي يُراعي حق الله ويُراعي واجبات الخلُق الكريم يَنْعَم بالبُشْرَى التي أعلنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "التاجرُ الصَّدُوقُ يُحْشَر مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء".(1/1169)
في التعادي بين المسلمين:
لا يجوز شرعًا أن يتعادَى المسلمون، وعليهم أن يُفسحوا صدورهم لبعضهم، وأن يتآلفوا؛ لقول الله ـ تعالى ـ: (إنما المُؤمنونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بينَ أَخَوَيْكُم واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وفي نهي القرآن الكريم عن الفُرْقة قال ـ تعالى ـ: (وَلا تَكونوا كالذينَ تَفَرَّقُوا واختَلَفُوا مِنْ بعدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وأولئكَ لهُمْ عذابٌ عَظِيمٌ). والعلماء أَوْلَى الناس بحُسْن التفاهُم فيما بينهم، وترك ما يُثِير الفُرقة مهما اختلفت مذاهبُهم، وتعدَّدت مشارِبُهم، ولتكن أسوتُهم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال الله له: (خُذِ العفوَ وَأْمُرْ بالمعروفِ وأَعْرِضْ عن الجاهلينَ).
والاختلاف في الآراء أمر طبيعي، وقد حدث في كل مكان وفي كل زمان، وقد كان الصحابة يختلفون في الرأي، وكان التابعون يختلفون في الرأي، والعلماء منذ أن وُجِد الإسلام يختلفون في آرائهم، ولكن مع الاختلاف في الرأي كانت المودَّة دائمًا سائدةً فيما بينهم؛ لأن الهدف لكل من العلماء إنما هو الحق، والبحث عن الحق لا ينشأ عنه عداوة بين الباحثين، بل ينشأ عنه تكاتُف وتعاوُن، فإذا حدثت العداوة فإنها تكون دليلًا على أن صفات العالِم الصادقة ليست مُتوافرةً في المُتَعادين.
نسأل الله أن يهدينا جميعًا للحق، وأن يمنحنا التوفيق في طلبه.(1/1170)
في أخذ العِوَض هل هو جائز؟
لو كان أخذ العِوَض ممَّن أتلف شيئًا لا يملكه غير جائز لَرُبَّما أدَّى ذلك إلى استهانة بعض الناس بالأشياء التي لا يَملِكونها، إن الناس ليسوا جميعًا على وَتِيرة واحدة، فبعضهم أمين مُحافِظ يُعْنَى بالأشياء لغيره كما يُعْنَى بالأشياء التي يَملِكُها، بل ربما كانت عنايتُهم ومُحافظتهم على الأشياء التي يَستَعِيرونها من الغير أشد من مُحافظتهم وعنايتهم بما يملكون، وهؤلاء هم أصحاب الفِطَر السليمة، والمقاييس الأخلاقية الكريمة، ويُقابل هؤلاء مَن لا يُبالون بما يملِك غيرهم، إنهم في حياتهم عابِثُون مُسْتَهْتِرُون، لا يَرْعَوْنَ حقًّا ولا يُحافظون على ذمام، وبين هؤلاء وهؤلاء درَجات لا تكاد تُحصَى تتأرجَح بين طرَف وآخر.
والتشريع الإسلامي تشريع يُوَجِّه ويُنَظِّم ويُحافظ ويرعى، من أجل ذلك أجاز أخذ العِوَض لصاحب الشيء وأوجبَه على مَن أتلفَ، وعلى مَن أتلف شيئًا أن يَرُدَّ مِثْلَه لصاحبه أو يرد قيمته، بيد أن الإسلام إذا أجاز أخذ العِوَض وأوجب ردَّه فإنه لا يَغْلِق الباب فيما يتعلَّق بالتسامُح، فإذا تنازَل صاحب الشيء وسامَح مَن أتلف فيكون هذا إحسانًا منه والله يحب المُحسِنين.(1/1171)
في الانفعالات النفسية التي تُسَبِّب أفعالًا مُحرَّمة:
قد تدفع القوة الغضَبِية والانفعالات النفسية إلى أن يقوم الإنسان ببعض الأعمال التي لا تَلِيق به كإنسان، والتي يُبغِضُها الدِّين ويُحَرِّمها الشرع، من ذلك شق الثياب، ويأثَم الإنسان بفعله، ومَن يأتيه فهو عاصٍ ومُذنِب، ويجب عليه أن يُعجِّل بالتوبة والإنابة إلى الله مستغفرًا طالبًا العفو والرحمة منه ـ سبحانه ـ ولقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهتم كثيرًا بعلاج ما يُؤَدِّي إلى شق الثياب، ويؤدي إلى ما هو أعنف من ذلك، أعني الغضب.
ولقد قال رجل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أوصني، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري: "لا تغضب" فردَّد مِرارًا قال: لا "تغضب".
ومن نصائحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتهدئة الغضب أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم، وأن يجلس إذا كان واقفًا، وأن يُغادر المكان أو أن يتوضأ ويُصَلِّي، أو أن يقرأ شيئًا من القرآن؛ فإن فيه الشفاء إن شاء الله.(1/1172)
في المِزاح:
المزاح من أصله مذموم، إلا قَدْرًا يسيرًا يُحَقِّق الألفة ويُوَثِّق المحبة ولا يخرج عن حدود الوَقار. والسبب في ذلك:
1ـ أن فيه كثرة الضحك واستمراء اللعب وسُقوط الهيبة وما إلى ذلك مما هو معروف، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: "مَن كثُر ضَحِكُه قلَّتْ هيبتُه، ومَن مزح استُخِفَّ به، ومَن أكثر من شيء عُرِف به، ومَن كثُر كلامه كثر سقَطُه، ومَن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورَعه، ومن قل ورعه مات قلبُه". وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومًا لأصحابه: "لو تعلمون ما أعلمُ لَضَحِكْتُم قليلًا ولَبَكَيْتُم كثيرًا". فبكى الصحابة وسُمِع لهم صوت واضح بالبكاء، وقال ابن عباس: "مَن أذنب ذنبًا وهو يضحك دخل النار وهو يبكي".
2ـ أن فيه سقوط الهيبة.. قال سعيد بن العاص لابنه: "يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنئ فيَجترئ عليك". وقال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: اتقوا الله وإياكم والمزاح؛ فإنه يُورث الضغينة، ويجر إلى القبيح، تحدَّثوا بالقرآن وَتَجالسوا به، فإن ثقُل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال".
3ـ أنه سبيل إلى العداوة والنزاع، قيل: "لكل شيء بذور، وبذور العداوة المزاح".
أما ما يجوز منه فهو ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الأخيار، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَمزَح ولا يقول إلا حقًّا، وقال الصحابة: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنك تُداعبنا قال: "إني وإن داعبْتُكم فلا أقول إلا حقًّا". رواه الترمذي وحسَّنه.(1/1173)
وقد وردت أحاديث تُوضِّح صوَر المزاح الذي كان يصدُر من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك: جاءت امرأة فقالت: يا رسول الله: احملني على بعير، فقال: "نحملك على ابن البعير"، فقالت: ما أصنَعُ به؟ إنه لا يحملني فتبسَّم رسول الله، وقال: "ما من بعير إلا وهو ابن بعير"، وكان لأبي طلحة ابنٌ يُقال له أبو عمير، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتيهم، ويقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير". أي العصفور الذي كان يلعب به. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصهيب وبه رمد: "أتأكل التمر وأنت رَمِد". فقال: إنما آكُل على الشق الآخر فتبسَّم النبي، صلى الله عليه وسلم.
هذا هو المزاح الذي لا يخرج عن الحق، ولا يُؤَدِّي إلى كثرة الضحك أو تحقير الغير أو ما إلى ذلك.(1/1174)
في الختان:
يرى الإمام الشافعي ومَن وافقَه أن الختان واجب لقوله ـ تعالى ـ: (اتبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ)، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن إبراهيم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد اختُتِن.
والسبب في ذلك أن الآية صريحة في وُجوب اتباع سيدنا إبراهيم فيما فعل، إلا فيما قام الدليل على أنه سنَّة في حقنا وليس بواجب، حينما يُروَى عن طريق السنة الصحيحة.. وفي الحديث الصحيح عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "خمس من الفطرة.. وعدَّ منها الختان".
وكلمة الفطرة شاملة للواجب والسنة والمندوب؛ إذ هي بمعنى السنَّة أي: الشريعة الكاملة المُطهَّرَة بكل ما تشتمل عليه من إصلاح الدين والدنيا.
واستدل بعض العلماء على وُجوبه بجواز كشف العورة لأجله، وكشف العورة حرام، لا يجوز إلا لداعٍ يُقاوِم الحُرْمة وهو الوجوب.
وهذا الاستدلال لا يظهر في حق الطفل الصغير غير البالغ، وإنما يظهر في حق مَن لم يَتِمَّ ختانُه حتى وصل إلى مرحلة البلوغ، أما متى يكون الختان فقيل: في اليوم السابع من الولادة، وقيل: في الأربعين، وقيل: في السابعة.
وعليه فمن المُتَّفَق عليه عند مَن قال بوجوبه أنه لا يجب إلا بعد البلوغ حينما يكون المرء داخلًا تحت التكليف، وواقعًا تحت حكم الوجوب، هذا فيما يتعلق بمذهب الشافعي.
أما فيما يتعلق بمذهب الإمام مالك فإن الكلمة المعروفة عند المالكية التي تُعَبِّر عن مذهبهم هي قولهم: "الختان للرجال سنَّة وللنساء مكرُمة". والختان واجب عند أحمد وسنَّة عند أبي حنيفة، وننتهي من كل ذلك إلى أن الختان للرجال والنساء عند الإمام الشافعي واجب، وعند الإمام مالك سنَّة بالنسبة للرجال ومكرُمة بالنسبة للنساء، وعلى كل المذاهب فإن من الواجب فيما يتعلق بختان المرأة اتباع توجيه الرسول للمرأة التي تَختِن بالمدينة: "لا تنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل".(1/1175)
في التقتير والإسراف:
إن قوله ـ تعالى ـ: (إِنَّ المُبَذِّرينَ كانوا إخوانَ الشياطينِ وكانَ الشيطانُ لربِّه كفورًا). جاء في سياق آيات تَحُثُّ على الإنفاق والبذل. ويحث الله ـ سبحانه ـ على الإحسان بالوالدين، الإحسان الذي يتضمن الرعاية بجميع أنواعها، قوليةً كانت أو فعلية، ثم يحث الله ـ سبحانه ـ على إيتاء ذوي القربى والإنفاق عليهم والبر بهم، ويحث كذلك على إيتاء المسكين وابن السبيل، ثم يُرشد ـ سبحانه ـ بعد ذلك مُباشرة إلى أن الطريقة المُثْلَى في كل ذلك إنما هو عدم التبذير والابتعاد عن الإسراف، ثم يُبَيِّن بعد ذلك مُباشرة القانون الذي يرتضيه ـ سبحانه ـ لبني آدم فيقول: (ولا تجعَلْ يدَكَ مغلولةً إلى عُنُقكَ ولا تَبْسُطْها كلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).
وما من شك في أن التبذير مذموم، وأن الإسراف لا يُقِرُّه عاقل، ولكن البخل ـ أيضًاـ مذموم، والتقتير لا يُقِرُّه المستنيرون، يقول الله ـ تعالى ـ: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نفسِه فأولئكَ هُمُ المُفْلِحُونَ). ويقول ـ سبحانه ـ: (فَأَمَّا مَن أعطَى واتَّقَى. وصدَّقَ بالحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وأما مَن بَخِلَ واستَغْنَى. وكذَّبَ بالحسنَى. فسنُيَسِّره للعُسْرَى. وما يُغنِي عنه مالُه إذا ترَدَّى). إن البخيل المُقَتِّر الذي يَكْنِز الذهب والفضة لن ينفعه ماله وما كنَز، حينما تأتيه سكرة الموت بالحق، وحينما يحل به المحتوم. يوم لا ينفع مالٌ ولا بَنُونَ.(1/1176)
وكما حث القرآن على التزام القصد وعلى اتخاذ التوسُّط في الإنفاق فإن الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ حث على الإنفاق على الأهل فيما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "دينارٌ أنفَقْتَه في سبيل الله، ودينار أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدَّقْتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمُها أجرًا الذي أنفَقْتَه على أهلك". وقال ـ صلوات الله عليه ـ: "كفى بالمرء إثمًا أن يُضَيِّع مَن يَقُوت"، فالتقتير على الأسرة بحجة نهي الله ـ سبحانه ـ عن التبذير ليس طريق المهتدين بهدي الله الذي هو التوسط والقصد والاعتدال وليس من الدِّين في شيء.(1/1177)
في أمر الله الناس بالعلم والتعلُّم:
أمر الله ـ عز وجل ـ المسلمين بالعلم والتعلم إلى أقصى ما يستطيعونه حيث قال: (هَلْ يَستَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لا يعلَمُونَ). وقال: (إنَّمَا يخشَى اللهَ من عباده العلماءُ) وقال: (الرحمنُ. علَّمَ القرآنَ. خلَقَ الإنسانَ. علَّمَهُ البيَانَ) وقال: (ن. والقلَمِ وما يَسطُرُونَ)، وقال: (اقرَأْ وَرَبُّكَ الأكرمُ. الذي علَّمَ بالقلمِ. علَّمَ الإنسانَ ما لم يعلَمْ).
وكشوفات العلم الحديث من خير ما يُوَثِّق صلة العبد بربه، ويجعله يُقِرُّ بوحدانيته، قال ـ تعالى ـ: (سَنُرِيهِمْ آياتِنَا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لهم أنه الحقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بربِّكَ أنه على كلِّ شيء شهيدٌ)، وحديث إسراء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعُروجه إلى ما فوق سبع سماوات يؤكِّد وُجود الله ووحدانيته وقدرته.
والذين صعدوا إلى القمر، لم يستطيعوا البقاء عنده ولا المُكْث عليه مدة أطول مما مكثوا؛ لأن الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما جعل لكل عالَم ما يناسبه، ونص في كتابه على أن الأرض لنا، ونحن لها، بحيث لا نستطيع الحياة على كوكب سواها قال ـ تعالى ـ: (مِنْهَا خلَقْنَاكُمْ وفيها نُعِيدُكُمْ ومِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرَى). وقال ـ سبحانه ـ: (هُوَ الَّذِي خلقَ لَكُمْ مَا في الأرضِ جميعًا).
فدلت هذه الآية على أن الأرض لنا ونحن لها، والسماء لغيرنا وليس لعالَمنا.
وحادثة صعود الإنسان فوق القمر، وعدم استطاعته البقاء فيه من أول الدلائل على صِدْق ما جاء في كتاب الله، تعالى.
والله أعلم.(1/1178)
في الحث على العلم:
طالَبَ الله بالعلم وحثَّ عليه، ومن توجيهات القرآن للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضلًا عن غيره، أمره بأن يقول: (وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا).
ولا يُمكن المُساواة بين العالِم والجاهل في المنزلة أو المكانة: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يعلَمُونَ والذينَ لا يعلَمونَ).
ومن هنا كانت مسئولية العالِم كبيرةً، وإن خطأه ليس خطأ عاديًّا، وإن مسئوليته جسيمة، وإن العالِم إذا زلَّ زل بزلَّتِه عالَم، وقد صوَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ موقف العالِم الذي يأمر الناس بالخير ولا يقوم بأدائه تصويرًا معبرًا، فيما رُوِي عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "يُؤْتَى بالرجل يوم القيامة فيُلْقَى في النار فتَنْدَلِق أقتاب بطنِه فيَدُور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لَك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى، كنتُ آمُرُ بالمعروف ولا آتِيهِ، وأنهى عن المُنْكَر وآتيه.
ومن الآثار الواردة فيما يتصل بقارئ القرآن الذي لا يعمل بما قرأ، بل يأتي ما لا يَتناسب، وهذه القراءة قول بعض السلَف: "رُبَّ تالٍٍ للقرآنِ والقرآنُ يَلعَنُه"، يقول: ألا لعنة الله على الظالمين، وهو ظالِم لنفسه.
وفي الحديث الصحيح: "القرآن حجة لك أو عليك..." أي أن القرآن يشهد لك بالصلاح والتقوى إن امتثلت ما فيه وطبَّقت العمل على القراءة، ويشهد عليك إذا تركت العمل بما فيه وانصرفت عن طريق الدين.
ومن هنا كان السلَف الصالِح يَرَوْنَ في القرآن مِرآةً لأحوالهم ومِيزانًا لتصرُّفاتهم، وكانوا يَسْتَحْيَوْنَ من القرآن أن يُوجِد في مكانهم ثم يَخرُجون عما ينبغي من جِدَّ في العمل واتزان في السلوك، فعلى هذا العالِم أن يتمسَّك بحدود الدين، وأن يعمل بما في القرآن، وإن خرج عن ذلك أو انحرف وجب تنبيهه.(1/1179)
في الدين والعلم:
إن مسألة الصلة بين الدين والعلم، انسجامًا واتفاقًا، أو تَعارُضًا ونِزاعًا تُثار من آنٍ لآخر على صفحات الجرائد، وفي ثنايا الكتُب، وبين المفكرين في أندِيَتِهم.
ولقد كتب الغربيون كثيرًا في هذا الصدَد، بل إنهم أول مَن كتب فيه، ولكن هذه المسألة تجاوزت الغرب إلى الشرق، وكتب مفكِّرو الشرق فيها، واختلفوا فيما بينهم كما اختلف مفكرو الغرب.
وإن ما كتبَه العلَّامة الفرنسي: "إميل بوترو" بهذا الصدَد يُعطِينا صورة عن هذه المسألة في الغرب، وفي الشرق الحديث، إنه يقول في ترجمة المرحوم مصطفى عبد الرازق: "إن أمر العلاقات بين الدين والعلم حين يُراقَب في ثنايا التاريخ، يُثِير أشدَّ العجَب، فإنه على الرغم من تصالُح الدين والعلم مرة بعد مرة، وعلى الرغم من جهود أعاظِم المفكرين التي بذلوها مُلِحِّين في حَلِّ هذا المُشكِل حلًّا عقليًّا، لم يبرح العلم والدِّين قائمين على قدَم الكفاح ولم ينقطع بينهما صراع يُريد به كل منهما أن يُدَمِّر صاحبَه، لا أن يَغْلِبَه فحسب.
على أن هذين النِّظامين لا يزالان قائِمَين. ولم يكن مُجدِيًا أن تُحاول العقائد الدينية تسخير العلم، فقد تحرَّر العلم من هذا الرق، وكأنما انعكست الآية منذ ذاك.
وأخذ العلم يُنذِر بفناء الأديان، ولكن الأديان ظلَّت راسخةً، وشهد بما فيها من قوة الحياة وعنف الصراع.
ونُريد في هذه الكلمة أن نتحدث عن العلاقة بين الإسلام بالذات والعلم، واتخذنا الإسلام بالذات كمثال للدين:
1ـ لأن كتابه المُقَدَّس حُفِظ بصورة هي من الدقة بحيث لا يتأتَّى فيها الشك، فالقرآن المَتْلُوُّ الآن ـ كما يقول المستشرق الفرنسي الكبير الأستاذ "ديمومبين" ـ هو القرآن الذي كان يتلوه محمد في القرن الأول الهجري. وأن الباحث المنصف ـ كما يقول ـ لا يجد مناصًا من الإقرار بهذا.(1/1180)
2ـ ولأن حضارته المادية والثقافية والعقلية والرُّوحية التي صدرت عنه ونَتَجَت عن وُجوده معروفة إلى حدٍّ كبير.
وموقف الدين الإسلامي من العلم واضح كل الوُضوح، فأول كلمة في الدستور الإسلامي: القرآن: "اقرأ".
ثم إن الآيات القرآنية التي تحث على العلم وتُبَيِّن فضل العلماء، كثيرة.
يقول الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، ويقول الله ـ تعالى ـ: (يَرْفَعِ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذينَ أُوتوا العلمَ دَرَجاتٍ)، ويقول ـ تعالى ـ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ).
ومن طريف القراءات في هذه الآية قراءة لبعض العلماء، منهم الإمام أبو حنيفة بِرفع لفظ الجلالة ونصب لفظ العلماء، وتقول حاشية الصاوي على الجلالين: "والمعنى:"إنما يُعَظَّم من العباد العلماءُ، وإنما كان كذلك لكونهم أعرف الناس بربهم، وأتقاهم له، فالواجب على الناس تعظيمهم واحترامهم؛ اقتداءً بالله ـ تعالى ـ فإن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه يُعَظِّمهم ويُجِلُّهم.
أما الأحاديث النبوية فإنها هي الأخرى كثيرة، من أجمعها الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي، يقول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: "مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لَتَضَعُ أجنِحتَها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِم لَيَسْتَغْفِر له مَن في السماوات ومَن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورَثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما وَرَّثُوا العِلْم فمَن أخذَه أخذه بحظٍّ وافر".(1/1181)
وقد دفع هذا الاتجاه ـ في القرآن الكريم وفي الأحاديث ـ المسلمين إلى المباحث العلمية في جميع نواحي الحياة: روحية أو عقلية أو مادية، ونشأت من ذلك الحضارة الإسلامية التي أنتجت أمثال: جابر بن حيان في الكيمياء، وابن الهيثم في الطبيعيات، وأبي بكر الرازي في الطب، وابن سيناء في الطب كذلك والفلسفة، والغزالي في الجانب الروحي، وابن رشد في الفلسفة العقلية، وابن خلدون في الاجتماع والتاريخ.. وكثيرين غيرهم.
وقد أشاد كثيرون من منصفي الغربيين بالحضارة الإسلامية وبمناهجها. يقول "غوستاف لوبون"، ويُعزَى إلى بيكون ـ على العموم ـ أنه أول مَن أقام بالتجربة والملاحظة اللتين هما أساس المناهج العلمية الحديثة، ولكنه يجب أن نعترف، قبل كل شيء، بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم.
ويقول العلامة الشهير "هميولد" بعد أن يذكر أن ما قام على التجربة والملاحظة هو أرفع درجة في العلوم: "إن العرب ارتَقَوْا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يحملها القدماء تقريبًا".
وإن مؤرخي الحضارة الغربية يعترفون بأن المبشِّر الأول بالعلم التجريبي إنما هو "روجر بيكون"، ويعترفون بأن آراءه في العلوم أصدق وأوضح من آراء "فرنسيس بيكون"، يقول الأستاذ "دوهرنج": "إن آراء روجر بيكون في العلوم أصدق وأوضح من آراء سَمِيِّه المشهور".(1/1182)
وهذا العلم التجريبي هو ـ دون جدال ـ الأساس الذي قامت عليه الحضارة الأوربية. والأكثرية العُظمَى من مؤرخي الحضارة الأوربية يَعْزُون هذا المنهج على الخصوص إلى روجر بيكون، وفرنسيس بيكون، ولكن عالمًا من علماء الغرب الممتازين بعد أن درس دراسة عميقة وبحَث بحثًا مستفيضًا، انتهى به الأمر إلى تقرير حقائق كان يجب على الشرقيين أن يعرفوها من زمن بعيد، هذا العالِم هو الأستاذ بريفولت، إنه يقول في كتابه الذي ألفه تحت عنوان "بناء الإنسانية": إن روجر بيكون درَس اللغة العربية والعلم العربي والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خُلَفاء مُعَلِّميه العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لِسَمِيِّه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسُل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يَمَلَّ قط من التصريح بأن تعلُّم مُعاصريه اللغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقَّة.
والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هي طرَف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية، وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارًا واسعًا وانكبَّ الناس في لهَف على تحصيله في رُبوع أوربا. (من كتاب تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود ص 149).
ويستفيض الأستاذ "بريفولت" في تصوير ما كان عليه العرب من العبقرية في العلم والحضارة ونجد طرَفًا من ذلك في الكتاب الذي ألفه الدكتور محمد إقبال تحت عنوان: "تجديد الفكر في الإسلام".
ويقول الدكتور إقبال ما نصه: "ومن أين استقى روجر بيكون ما حصَّله في العلوم؟ من الجامعات الإسلامية في الأندلس. والقسم الخاص من كتابه الذي خصَّصه للبحث في البصَرِيَّات هو في حقيقة الأمر نُسخة من كتاب المناظر لابن الهيثم. وكتاب بيكون في جُملته، شاهد ناطق على تأثُّره بابن حزم".(1/1183)
هذه الحقائق التي قدَّمْناها عن حضارة العرب: منهجًا وعلمًا، أصبحت من الذيوع والشهرة لدى المُنصِفين، بحيث لا نحتاج إلى التوسُّع في الاستدلال عليها.
ويتبَيَّن لنا مما سبق أن الإسلام:
1ـ يَحُثُّ على العلم، ويُشَجِّعه، ويدعو إليه، ويأمر بالاستزادة منه.
2ـ وأن رُوح الإسلام هذه أنتجت حضارة مُزْدَهِرة عمَّت جميع أقطار الحضارة وجوانبها ماديةً كانت تلك الجوانب أو عقلية، أو روحية.
إذا كان موقف الإسلام من العلم، هو ما بيَّنَّا، فما هو موقف العلم من الإسلام؟
إن موقف العلم من الإسلام ـ باعتبار الإسلام مثلًا صحيًّا للدين ـ إنما هو في حقيقة الأمر تصوير لموقف العلم من الدين الحقيقي.
وهذا الجانب من البحث هو من الوُضوح بحيث ما كان ينبغي أن يكون فيه جدال ولا مناقشة، ذلك أن العلم ومُمَثِّليه الحقيقيين، يعترفون في صراحة لا لَبْس فيها، وفي وُضوح لا خفاء فيه بأن دائرة أبحاثهم إنما هي المادة، إنما هي الحِسُّ، وأنهم يعتمدون في ذلك على التجربة وعلى المُلاحظة.
إنهم يعتمدون على الاستقراء على وجه العموم، وليس الاستقراء إلا تتبُّع جزئيات مُحَسَّة تتبعها بالمُلاحَظة أو بإجراء التجارِب عليها.
والمنهج العلمي إذن، إنما هو منهج لمعرفة كيفيات المادة، وإذا ما خرج الأمر عن دائرة المادة فقد خرج عن دائرة العلم.
وعلى هذا الأساس، فليس للعلم مُطلقًا دخل في أمور الدين: إثباتًا وإقرارًا، أو نفيًا وإنكارًا، وإذا ما قال قائل: إن العلم يُثبت كذا من الأمور الروحية، فإنه يَكْفِينا منه هذه الكلمات لنسحب ثقتنا به كعالِم، وإذا ما قال: إن العلم يُنكر كذا من الأمور الروحية فإن هذه الكلمة تكفي ـ أيضًاـ لسحب ثقتنا به كعالم، إذ إن العلم في المجال الروحي لا يُثبت ولا ينفي، وهذا واضح مما سبق أن ذكرناه.(1/1184)
ومع ذلك فقد يُتيح العلم بأبحاثه في ارتباط الكون وتنسيقه، وإبداعه والتناغُم الذي يَسُوده، والدقائق الباهرة التي يُبَيِّنها علم التشريح مثلًا في التركيب الحيواني.
قد يُتِيح العلم من كل ذلك لعلماء الدين موادَّ يَبْنُون عليها تذكيرهم وعِظاتهم، وبيانهم أن العالَم لم يكن نتيجةَ المُصادَفة العمياء أو الاتفاق الأصم، ويُبَيِّنُون من نتائج العلم أن الآيات في مجال المادة نفسها تشهد أنها من صُنْع الله الذي أتقن كل شيء.(1/1185)
في معنى قول الله ـ تعالى ـ: (يَا معشَرَ الجِنِّ والإنسِ إنِ استَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا منْ أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفُذُوا...) الآية.
معنى قوله ـ تعالى ـ: (يا معشرَ الجنِّ والإنسِ إنِ استطعتُمْ أنْ تَنْفُذُوا من أقطارِ السمَاواتِ والأرضِ فانفُذُوا) إنما يُفهَم من سياق ما قبله من الآيات. إن سورة الرحمن من السوَر التي تتوجَّه بالخِطاب إلى الجن والإنس، وتُذَكِّر بمظاهر قدرة الله وعظمته وقهره لجميع خلقه، والآية التي معنا تتوجه إلى الجن والإنس بالخطاب وتُبَيِّن عجزَهم وضعفهم أمام قدرة الخلَّاق العليم.
فالجن والإنس محصُورون في السماوات والأرض، وليس في استطاعتهم تجاوُزُهما أو النفوذ منهما، وفي قوله ـ تعالى ـ: (إن استطعتم.. فانفذوا) تهَكُّم بهم وإظهار لمدى ما هم عليه من ضعف.
وفي التعبير: (فانفذوا) بيان لاحتياج الخروج إلى التغلُّب على موانع عديدة، على الإنسان أو الجان أن يتخلص منها ليتحقق له النفاذ، ولن يتأتَّى له ذلك.
فالآية تُفيد أن الجن والإنس محصورون في مجال مُعَيَّن، وفي نِطاق خاص لا يُمكِنُهم تجاوُزه، وهم مقهورون على ذلك. وعليهم الإقرار والاعتراف والإذعان لقدرة الله، تعالى.
وقد بيَّن الله ـ سبحانه ـ أن النفاذ من أقطار السماوات والأرض يتأتَّى بالعلم. يقول ـ سبحانه ـ: (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ). والسلطان في الآية الكريمة معناه العلم، وعلى ذلك فإن كل ما نراه من غزو الفضاء، ونُزول على الكواكب لا يتعارض مع الوضع القرآني في كثير ولا قليل، بل إن القرآن يحث عليه ويدعو الإنسان إلى الوُصول في أجواء السماء إلى الحد الذي يستطيع، وإلى الغَوْص في أعماق الأرض إلى الحدِّ الذي يستطيع كذلك، وذلك أن الله ـ سبحانه ـ يَمُنُّ علينا بأن سخَّر الكونَ كله لنا، ونص على تسخير الأرض والسماء وما بين الأرض والسماء.(1/1186)
وعلينا أن نستجيب إلى امتنانه ـ سبحانه ـ فنُسَخِّر ما سخَّر لنا، فإذا سخرنا الكواكب لفائدة الإنسانية فإننا نكون مستجيبين للتوجيه الإلهي.
والله أعلم.(1/1187)
في الإنجازات العلمية الحديثة:
الإنجازات العلمية الحديثة تقوم على العلم، والإسلام يُقَدِّر العلم والعلماء في مختلف القطاعات والفروع، ويدفع الإسلام إلى الحضارة والتقدُّم والرقي لخير الإنسانية، ويُحَذِّر من الطغيان والاعتزاز، والإضرار والضرَر بها، وحين يكون للمسلم قوة العلم والعمل تكون العزة والكرامة والتكامُل والغِنَى، يقول ـ تعالى ـ: (ولقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنا بالبَيِّناتِ وأنزَلْنَا معهم الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقِسْطِ وأنزلْنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ ومَنافِعُ للناسِ). ويقول ـ جل شأنه ـ: (وللهِ العِزَّةُ ولِرَسولِهِ ولِلمُؤمنينَ).(1/1188)
في المعجزة والعلم:
المعجزة أمر خارق للعادة يُظهِرُه الله على يد مُدَّعي النبوة تصديقًا له في دعواه، ويُلاحظ أن المعجزة ـ من اسمها ـ تُعجِز الغير عن الإتيان بمِثْلِها، وأنها من الله القوي القادر القاهر، وأنها ليست عادِيَة، لا تخضع للأسباب الظاهرة ولا العلمية، ولا تكون إلا على يدي النبي من أنبياء الله، فكيف يتأتَّى للعقل البشري القاصر المحدود والمخلوق والذي يدور في فلَك معلوم ومحدود، كيف له أن يحكم على المعجزة بالإمكان وعدمه؟! إن العاقل لا يعرِف ماهيته، وعليه أن يلزم حده، ونحن نؤمن بالمعجزات ووُقوعها لأنبياء الله، تعالى، والله على كل شيء قدير.(1/1189)
في الصوفية والعلم:
الصوفية الصافِيَة هي التي تلتزم بكتاب الله ـ تعالى ـ وسنَّة رسوله قولًا وعملًا وإخلاصًا، ويَحْيَوْنَ في ظل الإسلام الذي ارتضاه الله لعِباده، أساسه التوحيد الخالص، ومراقبة الله في السر والعلَن، وتكوين الضمير القائم على خشية الله، وحُسن الصلَة والخلُق بين الناس، وجعل الله ـ تعالى ـ قِبْلَتهم في كل شيء، وجعل الدنيا مزرعة الآخرة، والمادة عندهم في أيديهم لخير الناس ونفعهم وليست في قلوبهم.
وإذا كانت المبادئ، الوافدة والمستَوْرَدة قد أفسدت وضلَّت وأضلَّت، وإذا كان الإلحاد قد استشرى ويقوم به أناس تَرَبَّوْا في حجر المستَعْمِر وعلى موائده، وليسوا مواطنين صالحين؛ لأن ولاءهم لغيرهم ولغير الله والوطن، فإن الحاجة ماسَّة إذنْ لوجود تيار إيماني، يعمل بكتاب الله وسنَّته، ويُقاوِم المادية المُلْحِدة، والله الموفق.(1/1190)
في حث الإسلام على العلم:
الإسلام يَحُثُّ على العلم، وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة، وعرف قَدْر العلم والعلماء: (هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لا يَعْلَمُونَ)، ولا يُفرِّق بين علم نظري وعلم عملي، بل يدعو إلى كل فروع العلم والمعرفة والعمل لخيرَي الدنيا والآخرة، والله ـ سبحانه ـ قد سخَّر كل ما في الكون للإنسان، ودعاه إلى التفكير والاستنباط والانتفاع.
والأزهر يُزاوج بين العلوم الدينية وغيرها من العلوم العملية، ولم يقل أحد بأن القناعة بالعلوم النظرية مطلوبة؛ لأن هذه نظرة قاصرة، والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/1191)
في اشتراط العلم في الدعوة إلى الله:
الدعوة إلى الإسلام واجبة على كل مسلم ومسلمة بالقول والعمل، ويدعو الإسلام إلى العلم، والتفقُّه، وإعداد نفر للدعوة إلى الحق والخير والسلام: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ منهمْ طائفةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). ويُشتَرَط في الداعي: الإخلاص أولًا، والقدوة الصالحة، والثقافة الواسعة، والرؤية المستنيرة، والتسلح بعلوم العصر، والإلمام بلغة أجنبية، وحب الموقع والعمل، والاستعداد للعمل والجهاد، والنفاذ إلى روح الدين ومَغازِيه.. ولقد افتتحنا بحمد الله كلية للدعوة في طنطا، وسنفتح أخرى بالقاهرة، ونرجو أن نحصُل منهما على الداعية الواعي المستنير، والله الموفق.(1/1192)
في معنى الروحية والمادية:
معنى الروحية: إدراك المعاني الإنسانية المُهَذَّبة الفاضلة، والتمثُّل بالقيم الدينية الرفيعة ومُراعاة تعاليم الكتاب والسنَّة، وإيثار ما هو خير وأفضل عند الله، والخير والحق، والجمال، والإيثار، (وَيَزِيدُ اللهُ الذينَ اهْتَدَوْا هُدًى) والإسلام يدعو إلى ذلك؛ لأن فيه عمار الكون، وسعادة البشر، ورضاء الله، وقد أفلح مَن تَزَكَّى.
ومعنى المادية: الاتجاه إلى المادة، والوُقوف عندها وحدها: في الجاه، والمال، والولد، والمُتَع الدنيوية، والاستغراق في حب الدنيا، والغفلة عن الآخرة، وكل ما من شأنه أن يُرَقِّي الإنسان. والإسلام وسَط: لا يُحرِّم الاستمتاع بالمادة، ولكن في وسط واعتدال ومن وجه حلال يُحِلُّها: (قُلْ مَن حرَّم زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِه والطيِّباتِ من الرزقِ).
وإنما يُحرِّم الإسلام المادية الطاغِيَة، والماديين المُغالِين، ويَصِفُهم بأنهم: (الذينَ ضلَّ سعيُهم في الحياةِ الدنيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحسِنُونَ صُنْعًا) فالإسلام يُفَضِّل الجانب الروحي، ويجعل الجانب المادي لخدمته ورُقِيِّه، والله الموفق.(1/1193)
في الثقافة الأصيلة:
الثقافة الأصيلة للمجتمعات الإسلامية والعربية، هي الثقافة الإسلامية، ووعاؤها العربي، وغيرها دخيلة، ووافدة أو مستوردة. ومَن يَحِد عن الثقافة الأصيلة ينسَ نفسَه وماضيَه، ويقع في حَيْرة واضطراب.
ولقد حرص الاستعمار وأذنابه من بعده على زَرْع أجساد غريبة في جسم العالَم الإسلامي العربي لتَظَلَّ مرتبطةً به، وتبقى بعيدة عن هَدْي السماء وعن مصادر ثقافتها الأصيلة.
وقد آنَ الأوان لأن تَسْتَرِدَّ هذه الثقافة عرشها المسلوب وتَتَبَوَّأ مكانتها اللائقة بها في بلادها في عصر العلم والإيمان، وعلى رأس وزارة التربية والتعليم رجل فاضل وخَيِّر كريم، (يعني الدكتور مصطفى كمال حلمي، الوزير العالِم؛ إذ كان يُعَلِّق عليه الإمام ـ رحمه الله ـ آمالًا كبيرة في أن تأخذ التربية الإسلامية حظَّها في عهده وعلى يديه.. وفَّقه الله لِمَا يُحِبُّه ويرضاه) أسهم في إنعاش الثقافة الدينية في المدارس، وزاد في أوقاتها، وبقي أن يَعرِف ذلك طريقه إلى الجامعات وسائر أجهزة الدولة، ليتحقَّق التكامُل والفائدة؛ فإن المجتمعات المادية والمُلْحِدة شَقِيَت تمامًا، برغم التقدم العلمي، ولن تسعَد إلا بالروحية المُهَذَّبة الفاضلة.(1/1194)
في الإلحاد:
الإلحاد أثر من آثار الاستعمار، وأثر للعلمانية، وأثر للشيوعية التي تُنكر وجود الله، وتهزأ بالأديان، وتَسْخَر من رجالها حتى يتفلَّت الشباب والغوغائية من رِبْقة الدِّين، والسير في طريق الحيوانية، والهُبوط إلى مستوى لا يَلِيق بالإنسان.
ومُقاومة الإلحاد تَتَطَلَّب تضافر الجهود من الدولة بأجهزتها المختلفة، والعناية بتدريس الدين وإعداد الداعِيَة الواعي البصير القادر، والدعوة الصادقة من كل إنسان مؤمن لنفسه وآله ومُحيطه إلى خير العمل، وإلى السبيل السَّوِي، وتَبنِّي الكتاب الصالح والدعوة الطيبة والكلمة الحسنة، والقدوة الخيِّرة.
وأيضًا إلى مقاومة الفساد، وتقليم أظفاره، وإبعاد أصحابه عن مجال التوجيه، وتحديد إقامة الكلمة الشرِّيرة، وتطبيق شرع الله، والله يَزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.(1/1195)
في مُبارَكة الله مجالس العلم:
يُبارك الإسلام مجالس العلم، وتَحُفُّها الملائكة، ويغفر الله لحاضريها، ولقد كانت للندوات الدينية ومجالس العلم حظ كثير بين الخلفاء والعلماء والملوك المسلمين الصالحين العاملين، والصالون إذا تحوَّل إلى مُنْتَدًى ديني أجدى بكثير من استعماله فيما لا فائدة فيه، أو ما يَجلِب سخط الله وغضبه.. وحبَّذا لو تحوَّلت كل الصالونات والنوادي والساحات والملاعب والمساجد إلى ندوات دينية وعلمية لِتَزْدَهِر الحركة العلمية والدينية ويَعُمَّ نفعُها بإذن الله.(1/1196)
الأزهر حصن للثقافة الإسلامية:
الأزهر حصن للثقافة الإسلامية والعربية أكثر من ألف عام، وبذلك حَفِظ للمسلمين تراثهم والتقت فيه العروبة والإسلام في مُحيط الثقافة التي أفاضَها القرآن، وصارت وَحْدة قوية إلى أن أوقع بينها المستعمر والعدو.. ووفدت إلى الأزهر وفود من شتى أنحاء الأرض، تنهل من مَعِينه، وتعود بالخير لبلادها، وبالأزهر كليات مختلفة تحت اسم "كلية البنات الإسلامية" للعناية بالمسلمة واستقام أمر هذه الكليات، ويفد إليها كثيرات من البلاد الإسلامية، وأقبل عليها المسلمات بشكل رائع لعدم الاختلاط فيها، واستقبلت الدولة والبلاد العربية خِرِّيجاتها بقَبُول حسن، وقد توسَّع الأزهر في إنشاء المعاهد الثانوية والإعدادية والابتدائية للبنات، لتكون روافد طبيعية لهذه الكليات، والتي أعددنا لها لتكون فرعًا لجامعة الأزهر، ولتتسع للأعداد اللازمة لإعداد الفتَيَات المسلمات إعدادًا لائقًا بهن، ويُناسب دَوْرَهُنَّ في الحياة بإذن الله.. والله الموفق والمُعِين.(1/1197)
في حكم الإسلام في نُزول الإنسان على القمر:
يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز: (اللهُ الَّذِي خلقَ السماواتِ والأرضَ وأنزلَ منَ السماءِ ماءً فأخرجَ بهِ منَ الثمراتِ رِزْقًا لكُمْ وَسَخَّرَ لكمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ في البحرِ بأمرِهِ وَسَخَّرَ لكمُ الأنهارَ. وَسَخَّرَ لكمُ الشمسَ والقمرَ دائِبينِ وسخَّرَ لكمُ الليلَ والنهارَ).
من هذا نعلم أن القمر سخَّره الله ـ سبحانه وتعالى ـ لبني آدم وفي ذلك حَثٌّ لهم على أن يَصِلوا إلى السيطرة عليه باكتشاف القوانين التي وضعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ لتسخيره، ليُطَوِّعه لهم ليستفيدوا منه، وليزدادوا إيمانًا بالله ـ سبحانه وتعالى ـ مُبدِع الكون وبارئه على أحسن نظام وأبدع تكوين.
فإذا وصل الإنسان إلى القمر ونزل على سطحه وسار فوقه وانتفع بما خلقَه الله فيه، فإنه بذلك يكون قد انتفع بما سخَّره الله له.
ومن الواجب حينئذ على الإنسان الذي يصل إلى القمر أن يشكر الله على هذه النعمة التي أنعم بها عليه، وهي أن قدَر على الوصول إلى القمر، وشُكْر هذه النعمة باستعمال هذا الاكتشاف الجديد في كل ما يعود على البشرية بالخير والسعادة، لا فيما يُدَمِّر العمران ويقضي على بني الإنسان، أو فيما يعود على العالَم بالشر من الاستعلاء والاستعباد للإفساد، فإن ذلك كُفْر بنعمة الله وابتغاء للإفساد في الأرض، والله لا يُحب المُفْسِدين.
ولقد حرص الإسلام على نفي ما كان في الأعصر القديمة من أن الكواكب آلهة، أو أنها مُقَدَّسة، وبيَّن أنها كغيرها من المخلوقات من نبات وحيوان وجبال وبِحار من مخلوقات الله، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: (وَمِنْ آياتِهِ الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ لا تسجُدُوا للشمسِ ولا للقمرِ واسجُدُوا لله الذي خلقَهُنَّ إنْ كنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ).(1/1198)
الكواكب من مخلوقات الله ـ سبحانه وتعالى ـ مِثْلُها كمثل بقية المخلوقات، وعلى الإنسان أن يَبْذُل كل ما يستطيع في سبيل استكمال المعرفة بها.(1/1199)
ما حكم الإسلام في إرسال الأقمار الصناعية إلى القمر؟
إنه لَيَسُرُّنا أن نُجيب عن هذا السؤال الذي يدور في أذهان كثير من الناس الآن، وموقف الإسلام من هذا الموضوع إنما هو موقفُه من العلم، ولقد حث الإسلام المسلمين على التزوُّد من العلم في صوَر وأساليب بلغت حدَّ الروعة، والقرآن الكريم هو الذي بيَّن أن العلماء يشهدون "التوحيد" مع الله ومع الملائكة، وشهادة التوحيد هي قمة الدين الإسلامي، والقرآن الكريم هو الذي طلب إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعو الله قائلًا: (رَبِّي زِدْنِي علمًا).
والعلم الذي يَقْصِده الإسلام هو العلم الروحي والعلم المادي، إنه العلم بالكون وما وراء الكون. إنه العلم بالمادة وما وراء المادة.
ولقد أنبأنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بأنه سخَّر لنا الأرض والسماء، وما بين الأرض والسماء، لقد سخَّر لنا ـ سبحانه وتعالى ـ البِحار والأنهار والجبال، وسخر لنا الشمس والقمر والكواكب، ومعنى ذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يدفعنا إلى امتلاك ذلك كله والسيطرة عليه بالعلم والمعرفة والتجارِب والمُلاحظات.
فإرسال الأقمار الصناعية إلى القمر إنما هدفُها زيادة المعرفة بسُنن الله الكونية، وفي ذلك زيادة للمعرفة بقدرة الله وعظَمَتِه.
ويجب على الأقطار الإسلامية أن تُسهم في غزو الفضاء، وفي إرسال الأقمار الصناعية إلى القمر، وإلى غير ذلك من الكواكب، ويجب عليها أن لا تقف مكتوفةَ الأيدي متفرجةً أمام هذا التقدم العظيم في العلم، وإنما يجب عليها أن تأخذ في طريق معرفته وتحقيق المساهمة فيه وتطويره؛ فإن كل ذلك إنما هو تحقيق لهدف القرآن الكريم الذي يقول: (يَرْفَعِ اللهُ الذينَ آمنُوا منكم والذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ) وتحقيق لهدف السنَّة النبوية الشريفة التي تقول: "مَن سلكَ طريقًا يبتَغِي فيه علمًا سلَكَ اللهُ به طريقًا إلى الجنةِ".(1/1200)
والاكتشافات الحديثة من أوضح الأدلَّة على وجود الله؛ لأن هذه الاكتشافات تُظهِر إبداعًا وتنسيقًا وعنايةً وحكمة لا تدَع مجالًا للمصادفة أو الاتفاق، وإن انتفت المصادفة ثبت وجود الله.(1/1201)
يمتنع بعض الناس عن التداوي والذَّهاب إلى الأطباء قائلين: إن الشافي هو الله، فما رأي الدين في ذلك؟
إن العقيدة الإسلامية هي أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الشافي، يقول الله ـ تعالى ـ حكاية عن سيدنا إبراهيم: (وَإِذَا مَرِضْتُ فهو يَشْفِينِ) وذلك لا خلاف فيه. بيد أن الشفاء لا يختلف عن غيره من الأمور التي جعل الله لها الأسباب وأمرنا باتخاذها، وأن نواميس العالَم التي هي من صُنْع الله أن لكل مُسَبَّب سببًا، والشفاء إذنْ مُسبَّب له سبب، ومن أجل ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الترمذي: "تَدَاوَوْا عبادَ الله؛ فإن اللهَ لم يضع داءً إلا وضع له دواءً، غير داء واحد.. قيل يا رسول الله: وما هو؟ قال الهَرَم".
وروى الإمام مسلم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أصاب الدواءُ الداءَ، برأ بإذن الله".
ويؤكِّد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قانون الأسباب والمُسَبَّبات فيقول في صراحة: "إن الله لم يُنزل داءً إلا أنزل له دواء، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جهله، إلا السامَ وهو الموت".(1/1202)
في الكتُب الجنسية:
لقد حثَّ الدين على العلم ورغَّب في التزوُّد منه، ودعا إلى كل ما يُوسِّع المدارك ويزيد في ثقافة الإنسان وينفعه في دينه ودنياه.
وهذا كله إنما ينطبق على العلم النافع والثقافة المفيدة.
والكتب الجنسية كلها إثارة وتشجيع على ارتكاب الفاحشة، إن لم يكن ذلك بصريح عباراتها؛ ففي شرحها للعملية الجنسية وما يترتَّب عليها مما يدفع القارئ إلى تقليد ما يقرأ أو تطبيقه.
ولا شك أن قراءة مثل هذه المعلومات من أخطر ما يكون على سلوك الشباب والفتيات، لإثارتها الغرائز، وإشاعتها للفاحشة.
وما انتشرت الفوضى والإباحية إلا بعد أن انتشر هذا النَّوْع من الثقافة بين شبابنا وفتياتنا.
فواجب المُرَبِّين التحذير منها، والحث على الابتعاد عنها لنضمن شبابًا سليمًا من الانحرافات.
وإن في كثير من الكتب النافعة التي تحُثُّ على الفضيلة وتُشَجِّع على البطولة والوطنية أو تَزِيد المعلومات والمدارك، إن في كل ذلك لغنًى عن هذا الفساد.(1/1203)
في سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ وبناء البيت الحرام:
وردت روايات مختلفة، وليست بالقوية، حول بناء البيت، أقربُها إلى القَبُول أن آدم ـ عليه السلام ـ هو أول مَن بناه، ثم بنى بيت المقدس بعده بأربعين سنة.. ويُشير إلى ذلك ما رُوِي في الصحيحين، عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلتُ: يا رسول الله، أي مسجد وُضِع في الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة".
ومما لا شك فيه أن إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ بَنَيَا البيت، ورفَعَا قواعده، قال ـ تعالى ـ (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ) أي: عيَّنَّاه له، وجعلنا منزله عنده وعبادته فيه. وقال: (وإذْ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإِسماعيلُ) والآية الكريمة تُشير إلى أن القواعد كانت موجودة، وكان عمل إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ أن يرفعا هذه القواعد أي يَبْنِيَا عليها حتى ترتفع ارتفاعًا كاملًا. والله ـ تعالى ـ يقول: (إِنَّ أولَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهدًى لِلعالَمِينَ) وهو ما يتناسب وبناء آدم ـ عليه السلام ـ له.. وقد روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ قال: "كانت البيوت قبله ـ أي قبل البيت ـ ولكنه أول بيت وُضِع لعبادته، تعالى".
أما عن داخل الكعبة ورؤية الله في السماء منه فخيال مُخالف للدين، والله ـ تعالى ـ مُنَزَّه عن أن يَحِلَّ في السماء، في مُقابلة الكعبة أو أن تُدركه الأبصار، وهو خيال يُخالف الواقع وتُكَذِّبه التجربة؛ فقد دخل الكعبة كثيرون من الصالحين ولم يَرِد عنهم ما يُفيد شيئًا من ذلك وهذا لا يُنافي فضل الكعبة، وأنها هُدًى للعالمين ومجمعًا للمؤمنين.(1/1204)
في لماذا اختار الله الجزيرة العربية للرسالة المحمدية؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (إِنَّ أولَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ لَلَّذِي ببَكَّةَ مُبارَكًا)، وهذا البيت كان قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ وإبراهيم ـ عليه السلام ـ إنما رفع قواعده التي كانت موجودة من قبل: (وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ).
وكما كان أول بيت للعبادة فإنه في التقدير الأزلي آخر بيت لله ـ تعالى ـ فيه العبادة على الوجه الصحيح، ولقد اختار الله ـ تعالى ـ الجزيرة العربية للرسالة المحمدية؛ لأن بها بيته هذا المحرَّم، مُلْتَقَى الحجيج من كل جانب من جوانب الأرض؛ ولأن أهلها كانوا حينئذ أحسن الناس استعدادًا لحمل رسالة الله، ولو أن الرسالة كانت في غير جزيرة العرب ما وَجَدت آذانًا صاغيةً، ولا قلوبًا واعيَةً؛ ذلك أن الروم كانوا أهل دين يَصعُب عليهم تركه إلى دين آخر، والفرس كانوا ذَوِي مُلْك وسلطان يَرَوْنَ فيهما العزة والمنْعةَ ولا يُمكن أن يَدِينوا معهما بدين آخر، من أبرز ما فيه تغيير العقيدة وتغيير الأنظمة وإزالة الطغيان الذي كان سِمَة كثير من الملوك والأمراء.
لذلك كانت الجزيرة العربية المكان الصالح لنشر الدعوة المحمدية؛ لأن أهلها كانوا بفطرتهم وعدم انتمائهم لأي دين من الأديان ـ التي كانت حينئذ ـ مهيئين لقَبُول الرسالة وحملها، ولقد رفض اليهود الإسلام في المدينة وما حولَها، وهم يعلمون تمامَ العلم صفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كتابهم ولكن خوفَهم من ذهاب السلطان جعلهم يَجْحَدون.(1/1205)
في سيدنا نوح، عليه السلام.
إن المصدر الوحيد الصحيح عن الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الآن إنما هو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولا يُوجَد كتاب آخر يُمكن أن يُوثَق به في المعلومات الخاصة، بسيدنا نوح، عليه السلام. والقرآن لم يتحدث عن المكان الذي دُفِن فيه سيدنا نوح، وكل ما يُذكَر في هذا إنما هو ضرب من التخمين، ويجب ألا نُعيرَه التفاتًا، وما من شك في أنه لا مُسْتَنَد من التاريخ لدى صاحب بدائع الزهور.
أما كرك فإنه اسم لموضوعين: أحدهما قلعة مشهورة حصينة، في طرف البلقاء من أرض الشام من ناحية جبال الشراة، وليست هي المقصودة، وإنما نبَّهنا عنها حتى لا تلتبس بالأخرى.
والبلدة المقصودة هي قرية كبيرة من نواحي بعلبك؛ لأن بها قبرًا طويلاً يزعُم أهل تلك النواحي أنه قبر سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ وما من شك في أنه لا يتأتَّى إثبات ذلك تاريخيًّا.(1/1206)
هل هناك أنبياء هاجروا قبل سيدنا محمد، هاجروا بأبدانهم ودعوتهم؟
وإذا كانت الهجرة مرتبطةً بالدعوة فما معنى الهجرة هنا؟ ولماذا هذا الارتباط؟
أولاً: هاجر سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ هاجر من أور الكلدانيين إلى حران، بلدة بين دجلة والفرات في بلاد العراق إلى دمشق، وشرق الأردن، وفلسطين، ومصر، والحجاز.
ثانيًا: سيدنا يعقوب هاجَر من عين مولح إلى قدان أرام، من أرض العراق حيث خاله هناك. ثم رحل بعد عشرين سنة إلى فلسطين، ثم هاجر إلى مصر أيامَ كان يوسف بها.
ثالثًا: سيدنا موسى هاجر من مصر إلى مدين بأرض بين الحجاز والشام قبل نُبُوَّته، ولما أمعن فرعون في إذلال بني إسرائيل ومَن معه من المؤمنين به هاجر هو ومَن معه من المؤمنين واجتازوا البحر إلى جهة غير مصر، وأغرق الله فرعونَ ومَن معه.
الهجرة دائمًا مُرتَبِطة بالدعوة إلى الله، ولمَّا لم تُفِد الدعوة في قوم يَوَدُّون التخلُّص من الداعي وكل ما يَمُتُّ إليه بسبب، فإن الله ـ جلَّت قدرتُه ـ يفتح للدعوة ميدانًا آخر تشق فيه طريقها وتبلُغ به غايتها، لتقوم بذلك الحجة، لله ولرسوله على الذين خالفوا ولم يؤمنوا وحاربوا الأنبياء حتى اضطرُّوهم إلى الفِرار بدينهم هم وَمن معهم من المؤمنين، فالهجرة لا تنفَكُّ عن الدعوة، وقد تنفك الدعوة عن الهجرة، فإن الله ـ عز وجل ـ قد يبعث رسولًا، ويكون له فيهم من الحياة والسلطان ما يمنعهم من التسلُّط عليه كيوسف ـ عليه السلام ـ قال ـ تعالى ـ: (ولَقَدْ جاءَكُمْ يوسُفُ من قبلُ بالبَيِّناتِ) آية 34 من سورة غافر.(1/1207)
في سيدنا إسماعيل، عليه السلام.
إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، أما القول بأنه إسحاق فباطل من عشرين وجهًا.
في كتاب اليهود أن الله أمرَه أن يذبح ابنه بِكْره، وفي لفظٍ "وحيده"، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بِكر أولاده.
قد بَشَّر الله أم إسحاق به وبابنه يعقوب فقال ـ تعالى ـ عن الملائكة: (وامرأتُهُ قائمةٌ فضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاها بإسحاقَ ومِن وراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبُ) مُحال أن يُبَشِّرها بأن يكون له ولد ثم يأمر بذبحه.. ثم قال ـ تعالى ـ (وَبَشَّرْنَاهُ بإسحاقَ نَبِيًّا منَ الصالحينَ) بِشَارة من الله وشكرًا على صبره على ما أمر به.
سُمِّي الذبيح حليمًا؛ لأنه لا أحلَمَ مِمَّن أسلم نفسه للذبح طاعةً لربه، ولما ذكر إسحاق سمَّاه عليمًا، والقرآن يُقَدِّم إسماعيل دائمًا. إن الله ـ سبحانه ـ أجرى العادة البشرية أن بِكْر الأولاد أحبُّ إلى الوالدين ممَّن بعدَه، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ لما سأل ربَّه الولد ووهبَه له تعلَّقَت شعبة من قلبه بمحبَّتِه، والله ـ تعالى ـ قد اتخذه خليلًا، والخُلَّة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وألا يُشارك بينه وبين غيره فيها، فلما اتخذ الولد شعبةً من قلب الوالد جرَت غَيْرَة الخُلَّة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره بذبح المحبوب فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلُصت الخُلَّة حينئذ من شوائب المُشارَكة، فلم يبقَ في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم، وتوطين النفس فيه، فقد حصل المقصود فنُسِخ الأمر وفُدِي الذبيح، وصدَّق الخليل الرؤيا وحصل مراد الرب.(1/1208)
في سيدنا موسى، عليه السلام:
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ حينما تحدث عن سيدنا موسى في سورة القصص حينما كان سيدنا موسى بمصر ذكر أن رجلًا جاء من أقصى المدينة يسعى ليُعرِّف موسى بأن الملأ يأتَمِرون به ليقتلوه، ونصحه بأن يخرج في سرعة حتى لا يناله منهم شر، فخرج موسى خائفًا يترقب داعيًا الله ـ سبحانه ـ أن يُنَجِّيه من القوم الظالمين.
واتَّجَه موسى ـ عليه السلام ـ إلى مدين، ولمَّا وصلها ووقف على البئر الذي يستسقي منه أهل مدين وجد زحامًا شديدًا لسقي الماشية، ووجد امرأتين تَمنَعانِ مواشيَهما من الماء حتى لا تُصابا بأذَى في الزحام، فقال لهما ما شأنُكما؟ فعرَّفَتاه أنهما تنتظران أن ينصرف الرُّعاة فيخفَّ الزحام ليَسْقِيَا مواشيَهما وعرَّفَتاه أن أباهما شيخ كبير عاجز عن الخروج والسقي، فسقى لهما، وبعد قليل جاءتْه إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت: إن أبي يدعوك ليجزيَك أجر ما سقيت لنا.. إلى آخر هذه القصة المعروفة.
هذه القصة لم يذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها اسم "الشيخ الكبير" ولم تذكر الأحاديث الصحيحة الاسم، ومن هنا اختلف العلماء في الشيخ، وهل كان شعيبًا أو غيره؟ ولِمَ تتَّجِه الأذهان إلى سيدنا شعيب عادة؟
لقد اتجهت الأذهان إلى سيدنا شعيب بالذات؛ لأن القرية التي وصل إليها سيدنا موسى هي قرية مدين، وقد كان سيدنا شعيب بها، وليس هناك من سبب سوى هذا، وإن هذا لا يقوم وحده بتحديد اسم الشيخ الكبير.
وما هو الموقف السديد في مِثْل هذه الأمور؟ والأوفق أن يدع الإنسان أمر هذا الشيخ إلى الله ومهما بحث الإنسان فلن يصل إلى اليقين في الموضوع، إذ إن اليقين في هذه الأمور البعيدة عنَّا في الزمن بُعدًا كبيرًا ليس بالأمر السهل؛ وذلك لأن اليقين يتأتَّى عن النص الإلهي ولا نص ولا تاريخ ثابتًا في هذا، فوجب التوقُّف وهو أسلم، خصوصًا أن الأمر ليس أمر عقيدة مطلوبة أو إيمان مفروض.(1/1209)
في سيدنا لقمان، عليه السلام:
ظاهر نصوص الكتاب والسنة تدل على أن لقمان لم يكن نبيًّا، بل كان رجلًا أخلص لله نفسه فتفجَّرت ينابيع الحكمة من قلبه، وتحدَّرت من لسانه جداولَ يرتوي مِن سلسالها العذب كل مَن أضناه الفكر، وأحرقت الحَيْرة قلبَه.
وليس ما آتاه الله لقمان الحكيم بعزيز على غيره؛ ففي بعض أفراد أمتنا المحمدية شخصيات امتازت بعُمْق نظرتها وجلاء فكرتها، فعمر بن الخطاب ـ أمير المؤمنين والخليفة الثاني ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان القرآن يَنْزِل مُصدِّقًا لقوله، كما نزل حاكيًا لقول لقمان، ولم يكن عمر ـ رضي الله عنه ـ نبيًّا، ولكنه كان من المُخْلصين، وله من الحِكَم التي تدل على صدق فِراسته وعُمق عبقريته ما يجعله في الرعيل الأول من سادَة الحُكماء، وكذلك لسيدنا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من الحِكَم ما يجعل الناظر فيها والسامع لها يَخِرُّ لله ساجدًا لقوة جرسها في سمعه، واستيلاء معانيها على قلبه، ولابن عطاء الله السكندري وغيره من المتصوفين من الحِكم ما يرتقي مَن يعقلها من خَصِيصة الهوى والشهوات إلى أوج الخضوع لله ـ تعالى ـ والمُسارعة في الطاعات.
وما على الذي يُريد شيئًا من ذلك إلا أن يستديم الإخلاص لله تعالى؛ فقد ورد أن مَن أخلص لله أربعين يومًا تفجَّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.(1/1210)
في سيدنا يونس ـ عليه السلام ـ واسم السمك الذي ابتلعه، والبحر الذي ابتلعه فيه:
اسم السمك الذي ابتلع سيدنا موسى هو الحوت، وهو صنف من السمك معروف، أما البحر الذي ابتلعه الحوت فيه فهو البحر المتوسط، حيث ذكر الإمام القاسمي في تفسيره أن الله ـ تعالى ـ أمر يونس أن ينطلق إلى أهل نينوى من أرض الموصل ليدعوهم إلى الإيمان به ـ تعالى ـ وحده، وإلى إقامة القِسْط، ونشر العدل وحُسن السيرة، وكانوا على الضد من ذلك، لقد تعاظَم كُفْرهم فخشى أن لا يتم الأمر معهم، فأَبْق من بيت المقدس إلى يافا، ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها.
ومن المعلوم أن يافا على البحر المتوسط وأنه البحر الوحيد في هذه المنطقة. قال بعض المُحَقِّقين، ولعل هذا الحوت من النَّوْع المعروف "بالزفا"، وهو من كبار الحيتان المتنوعة الهائلة الجُثَث، التي لم يزل يُصطاد منها في هذا العصر، وفي بُطونها أجساد الناس بملابسهم، يبتلع الرجل برُمَّته دون أن يخدشه أو يجرَحه، ولكن المعجزة مع سيدنا يونس ـ عليه السلام ـ أنه مكَث في بطنه مدة كبيرة مالكًا رُشْدَه، مُلازمًا الدعاء والتسبيح والتضرُّع إلى الله ـ سبحانه ـ حتى فرَّج الله عنه الشدة وأزال عنه الكرْب.(1/1211)
في سيدنا يوسف، عليه السلام:
قال ـ تعالى ـ (لَقَدْ كانَ في يُوسفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسائِلينَ) أي: في خبره وخبر إخوته فالذين أوقعوا سيدنا يوسف في الجُبِّ هم إخوته من أبيه فقط.
وقد اختلف في موقع الجُبِّ أي البئر الكبير، فقيل: ببيت المقدس، وقيل: بأرض الأردن.
وقد أورد الله ـ سبحانه وتعالى ـ قصة يوسف وإخوته في القرآن الكريم من أجل العِبَر والعِظات الكثيرة التي تُؤْخَذ منها، والواقع أن السورة الكريمة سورة يوسف، مليئة بما يجب التأمُّل فيه والتروِّي، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يُشِير إلى ذلك في هذه السورة على الخصوص إذ يقول في مُفْتَتَحِها: (نحنُ نَقُصُّ عليكَ أحسنَ القَصَصِ بمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القُرآنَ)، ويقول في آخر السورة: (لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأولِي الألبابِ.. لقوم يؤمنون).
فعلينا أن نتجه إلى عِظات هذه السورة وعِبَرها لعلَّ الله ينفعنا بها.(1/1212)
في سيدتنا مريم، عليها السلام:
يقول الله ـ تعالى ـ في سورة مريم: (وَاذكُرْ في الكتابِ مريمَ إِذ انْتَبَذَتْ من أهلِها مكانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دونِهِمْ حِجابًا فَأَرْسَلْنَا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لها بَشَرًا سَوِيًّا. قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بالرحمنِ منكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لكِ غلامًا زَكِيًّا).
كانت مريم ـ رضوان الله عليها ـ من بيت طاهر وقد نذرتْها أمُّها قبل أن تَلِدَها قائلةً: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لكَ ما في بطنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مني إِنَّكَ أنتَ السميعُ الْعَلِيمُ). ولقد تَقَبَّل الله نَذْرَها بقَبُول حَسن وأنبت مريم نباتًا حسنًا، ونشأت مريم على العبادة والزهد والتنسُّك، ونشأت في كفالة نبي الله زكريا يرعاها ويُوَجِّهها، ولما وجدت أن الاختلاط بالناس لا يُمَكِّن الإنسان من التفرغ لِمَا ينبغي للعبادة اتخذت مكانًا شرقيًّا بعيدًا عن أهلها، واستترت بحجاب حتى لا تحجبها رؤية الخلْق وسماع أحاديثهم الدنيوية عما يُفيضُه الله عليها من أنواره وتَجَلِّيَاته، وبينما هي في هذا المُعْتَكَف ظهر لها كائن على الصورة البشرية فظنَّتْه إنسانًا يُريد بها السوء، ويُريدُها على نفسها فاستعاذت بالله منه قائلةً: (إِنِّي أَعُوذُ بالرحمنِ منكَ إِنْ كنتَ تَقِيًّا) أي إن كنت تخاف الله وتَتَّقِيه وتعمل بأوامره، والتقِيُّ ينهاه إيمانُه ودينُه عن أن يسيء، خصوصًا إذا ذكَّره إنسان بالله فتَقِيٌّ في الآية صفةٌ، وليست اسمًا لشخص.
هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور المُفَسِّرين، ولمَّا أخبرَها أنه رسول الله إليها ليهب لها غلامًا زكيًّا هدأت من جانب ظن السوء، ولكن القلق غمرها لأمر آخر لسنا بصدد بيانه.(1/1213)
في السيدة عائشة، رضوان الله عليها:
كانت السيدة عائشة ـ رضوان الله عليها ـ أحب نساء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، وقد سُئِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أحب الناس إليه، فقال: عائشة، فقيل له: ثم مَن، قال: أبوها، "صِدِّيقة بنت صِدِّيق".(1/1214)
ورقة بن نوفل:
يتردد سؤال عن ورقة بن نوفل ـ أول مَن عرف رسالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل مات مسلمًا؟ والحقيقة أن ورقة بن نوفل هو ابن عم السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ وقد ذهبت إليه مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن رجع إليها يرجُف فؤاده بعد أن جاءه جبريل لأول مرة، وهو مُعتَكِف في غار حراء، وقصَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رأى، فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي نزل على موسى، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومُك من بلدك، فقال: أو مُخرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيتَ به إلا عُودِي، وإن يدركْنِي يومُك أنصرْك نصرًا مُؤَزَّرًا، ولم يلبث ورقة أن تُوُفِّي بعد ذلك.
قيل في الروض الآنف: آمَن ورقة بن نوفل بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة، أي قبل أن يَنْزِل عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها المُدَّثِرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ). روى الترمذي بإسناد جيد عن عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ قال: سُئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ورقة بن نوفل، كما بلغنا فقال: لقد رأيتُه في المنام عليه ثياب بِيض أظُنُّ أن لو كان من أهل النار لم أرَ عليه البَيَاض.
قيل في الروض الآنف: وكان يذكر اللهَ في شعره في الجاهلية، ومن ذلك قوله:
لَقَدْ نَصَحْتُ لِأَقْوَامٍ وَقُلْتُ لَهُمْ أنَا النذيرُ فَلا يَغْرُرْكُمُ أَحَدُ
لا تَعبُدُنَّ إِلَهًا غيرَ خالِقِكُمْ فَإِنْ دَعَوْكُمْ فُقُولوا بينَنا جُدَدُ
سبحانَ ذِي العرشِ سبحانًا يَدُوم له وَقَبْلَنا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجَمَدُ
والواقع أن في كلام ورقة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يُشعر شعورًا واضحًا بأنه آمَن به، وعلى ذلك يكون قد مات مسلمًا.(1/1215)
في أي يوم بدأ سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يتعلم القرآن؟
كان عمر بن الخطاب شديدًا على المسلمين قبل أن يُسلِم، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو الله بأن يُعِزَّ به الإسلام.
والسبب في إسلامه أنه دخل على أختِه وعندهما مَن يُعَلِّمُهما القرآن، فلما سمعوا طَرْقه على الباب اختفى زوج أختِه وأخفت أخته الصحيفة، ولمَّا دخل عليها وسألها عما سمع وأغلظ لها القول وضربَها اعترفت وأعطَتْه الصحيفة فقرأ فيها: (طهَ ما أنزَلْنَا عليكَ القُرآنَ لِتَشْقَى..) فدخلت حلاوة الإيمان في قلبه وذهب مُسرِعًا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُعلنًا إسلامه.
ومن هذا اليوم بدأ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقرأ القرآن ويتعلمه.(1/1216)
في سيدنا علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه:
روى البزار بسند فيه رجال وُثِّقُوا على ضعفهم عن أبي رافع أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في علي: "مَن أبغضَه فقد أبغضني، ومَن أبغضني فقد أبغض الله، ومَن أحبَّه فقد أحبني ومَن أحبَّني فقد أحب الله".
وروى الطبراني بإسناد حسن، عن أم سلمة قالت: "أشهد أني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: مَن أحب عليًّا فقد أحبني، ومَن أحبني فقد أحبَّه الله، ومَن أبغض عليًّا فقد أبغضني ومَن أبغضني فقد أبغض الله".
وروى الطبراني بإسنادين ـ قال في مجمع الزوائد: أحسب فيهما جماعة ضُعَفاء وقد وُثِّقوا، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أُوصِي مَن آمن بي وصَدَّقني بولاية علي بن أبي طالب، مَن تَوَلَّاه فقد تَوَلَّاني، ومَن تولاني فقد تَوَلَّى الله ـ عز وجل ـ ومَن أحبَّه فقد أحبني، ومَن أحبني فقد أحب الله ـ تعالى ـ ومَن أبغضَه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، عز وجل".
وهذا هو الحديث الذي ذكره السائل، وقد ورد مما يُؤَيِّدُه فضلًا عن ذلك حديث غدير خم، وقد ورد بعدة روايات، نذكر منها ما رواه أحمد بسند رجاله رجال الحديث الصحيح عن سعيد بن وهبة قال: نشد علي ـ عليه السلام ـ الناسَ فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فشَهِدوا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن كنتُ مولاه فعلي مولاه".(1/1217)
والمُراد بالوِلاية هنا ولاية الدنيا، الحب وعدم الذم أو الانتقاص كما يفعل الجاهلون، أما ولاية المُلْك والسلطة فغير مُرادة هنا؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصى ببيتِه خيرًا وأوصى بعلي خيرًا، ولم يوصِ بمُلْك أو خلافة لأحد.. وإن كان قد أشار إشارات واضحة إلى خلافة أبي بكر، وقد نفَى علي ـ رضي الله عنه ـ أن يكون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصى له بشيء أو اختصَّه بعلم خاصٍّ كما أشاع بعض الناس، كما في صحيح البخاري، من أن عليًّا سُئِل: هل أوصى لكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "ما عندنا إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة، فإذا فيها العقل "أي الدية" وفكاك الأسير وألا يُقْتَل مسلم بكافر".
والمسلمون جميعًا يُحبُّون سيدنا عليًّا، كما يحبون أهل البيت؛ لأنهم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلم الصادق يحب سيدنا أبا بكر رفيق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار وصاحبه في الهجرة، والذي يقول له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله معنا)، ويُحب المسلمون عمرَ بنَ الخطاب الفاروق الذي كان إذا سلك طريقًا سلك الشيطان طريقًا غيره، والذي يقول فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما ذكره عن المُحَدَّثين: "فإن كان في أمتي مُحَدَّث فعمرُ منهم".(1/1218)
لماذا يُقال عند ذِكْر أحد الصحابة "رضي الله عنه"، وعند ذِكْر علي "كرم الله وجهه"؟ ومَن هم الذين قال الله فيهم: (رَضِيَ اللهُ عنهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).
الرضا من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على العبد معناه قَبُول عمله ومُكافأته عليه، ورضا العبد عن الله معناه فرَحه بما أعطاه من أنواع الكرامة والنعيم.
والذين ـ رضي الله عنهم ورضُوا عنه ـ هم المؤمنون المُتَّقُون الذين ذُكِروا في قوله ـ تعالى ـ في سورة البَيِّنة: (إِنَّ الذينَ آمنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ أولئكَ همْ خيرُ البَرِيَّةِ. جَزاؤَهُمْ عندَ رَبِّهم جناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ خالِدِينَ فيها أبدًا رَضِيَ اللهُ عنهم وَرَضُوا عنهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).
ويدخل في هؤلاء كثير من الطوائف على تفاوُت فيما بينهم، يدخل فيها الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين.
ولقد ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ قومًا مُعَيَّنِين وأعلن أنه رضي الله عنهم، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (لَقَدْ رَضِيَ اللهَ عَن المؤمنينَ إِذْ يُبايعُونكَ تَحْتَ الشجَرَةِ).
وكل بَيْعة للجهاد في سبيل الله بالمال والنفس إنما هي رضاء الله ـ سبحانه وتعالى ـ والذين يُبايعون الله بأموالهم وأنفُسِهم مُخلِصين ضَمِن الله لهم الجنة، فهو راضٍ عنهم وهم راضون عنه، والآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن كل مَن آمَن وعَمِل صالحًا ـ أي التزم بحدود الله في أوامرِه والتزم بحدود الله في نواهيه ـ فقد رضي الله عنه وقد رَضِيَ عن الله، سبحانه وتعالى.
وسيدنا علي هو ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أسلم صغيرًا فلم يضع جبهته على الأرض سُجودًا لصنم؛ إذ إنه دخل في الإسلام، وهو غلام ومن هنا كرَّم الله وجهه بأن لم يسجد إلا لله، سبحانه.(1/1219)
سيدنا علي كرم الله وجهه:
كان لسيدنا علي أنصار وشيعة بايعوه بالخلافة ووافَقُوه على رأيه في مُحارَبة مَن لم يُقِرُّوا له بالخلافة لخُروجهم على رأي جماعة المسلمين.
وفي موقعة صفين ـ بين علي ومعاوية ـ كادَ عليٌّ أن ينتصر، فرفع جيش معاوية بمشورة عمرو بن العاص المصاحفَ على الرماح ونادَوْا: بيننا وبينكم كتاب الله، مَن لِثُغور الشام بعد أهل الشام، ومَن لثغور العراق بعد أهل العراق".
كان الخوارج أو القُرَّاء أول مَن أشار بقَبُول التحكيم وشكَّلوا قوةً ضاغطةً على سيدنا علي، وأحاطوا به وهدَّدوه بالقتل، كما فعلوا بعثمان، إذا لم يقبَل التحكيم، وأراد أن يختار ابن عباس حكمًا عنه فأَبَوْا إلا أبا موسى الأشعري.
فلمَّا ظهرت نتيجة الحُكْم ثار الخوارج على علي؛ لأنه قَبِل التحكيم وانفصلوا عنه، ناقشَهم فعادوا إلى الجماعة، ثم انفصلوا مرةً ثانية، ناقشهم عبد الله بن عباس فرجع أكثرُهم وبَقِيَت جماعة تركَهم علي، لكنهم أفسدوا في الأرض وقتلوا الأبرياء واحترموا ذِمَّة الكفار، ولم يحترموا حُرْمَة المسلمين، قاتَلَهم عليُّ بعد أن أعلنها صريحةً مُدَوِّية: أنهم المارقة الذين قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حقهم: "يَمرُقون من الدِّين كما يمرُق السهم من الرَّمِيَّة".(1/1220)
سيدنا أبو الدرداء، رضي الله عنه.
أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ كما يقول الذهبي: الإمام القدوة، قاضي دمشق، وصاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو الدرداء: عويمر بن زيد بن قيس، حكيم هذه الأمة، وسيد قُرَّائها.
وهو معدود فيمَن قرأ القرآن على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يثبت أنه قرأ على غير الرسول، صلى الله عليه وسلم.
وهو معدود فيمَن جمع القرآن في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتَصَدَّر للإقراء في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ بدمشق، ووَلِيَ بها القضاء، أسلم أبو الدرداء يوم بدر ثم شهد أحدًا وكان فيمَن ردَّ المشركين عن الجبل ومنعهم من الانقضاض على المسلمين، وقال فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نِعْمَ الفارِسُ عويمر"..
وقد جمع ـ رضي الله عنه ـ بين العلم والعمل، وقد غلب عليه جانب التعبُّد.
ولمَّا رأى سلمانُ الفارسي ـ رضي الله عنه ـ استغراق أخيه أبي الدرداء في العبادة وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد آخَى بينهما، أقسم عليه ليُفْطِرَنَّ، ولَيَنامَنَّ، وقال له: إن لجسدك عليك حقًّا ولربك عليك حقًّا ولأهلك عليك حقًّا.
أما عن قبره فهو موجود بدمشق، قال الذهبي: لمَّا كان زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان أن أهل الشام قد كثروا ومَلئوا المدائن واحتاجوا إلى مَن يُعَلِّمهم القرآن، ويُفَقِّههم في الدين، فأَعِنِّى برجال يُعلِّمونهم فأرسل إليه ثلاثة رجال، ثم ذكر أن الثلاثة كانوا: عبادة بن الصامت بحمص، وأبا الدرداء بدمشق، ومعاذ بن جبل بفلسطين.. ولم يزل أبو الدرداء حتى مات، وكان موته سنة 31 أو سنة 32 من الهجرة النبوية.
وقد أسهم مُساهمة كبيرة في نشر القرآن الكريم حتى كان مَن في حلقته أَزْيَد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم مُلَقِّن، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائمًا فإذا أحكم الرجل منهم تَحَوَّل إلى أبي الدرداء يَعْرِض عليه قراءته.
رحم الله أبا الدرداء وأحسن مثواه.(1/1221)
سيدنا أبو هريرة، رضي الله عنه:
يقول الإمام الذهبي: إنه الإمام الفقيه المُجتَهِد الحافظ، صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو هريرة الدوسي اليماني، سيد الحفَّاظ الأثبات.
كان مَقْدِمُه على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإسلامه في أول سنة سبع عام خيبر، واختُلف في حُضوره هذه الموقعة أو مجيئه في آخرِها بعد الفراغ منها، وقد صَحِب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربع سنين.. وقد لازَم المسجد وقاسَى الجوع، وعاش عيشة مُتَقَشِّفة مع أهل الصفَّة.
وقد انتفع بمُلازمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له مروان يومًا: يا أبا هريرة.. إن الناس قد قالوا: أكثرَ الحديثَ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما قَدِم قبل وفاته بيسير. فقال أبو هريرة: قَدِمْتُ والله ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخيبر، وأنا يومئذ قد زدتُ على الثلاثين سنة، سنوات.. وأقمتُ معه حتى تُوُفِّي.. أدُور معه في بيوت نسائه، وأخدِمُه، وأغزو وأحجُّ معه، وأُصلِّي خلفَه، فكنتُ أعلم الناسِ بحديثه. وعدَّه ابن سعد من كبار المُفْتِين بالمدينة بعد وفاة عثمان، رضي الله عنه.
وكان كثير العبادة، قال أبو عثمان النهدي، تَضَيَّفْتُ أبا هريرة أي كنت ضيفًا عنده ـ سبعًا. فكان هو وامرأته وخادمته يتناوَمون الليلَ أثلاثًا: يصلي هذا، ثم يُوقظ هذا ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا، وكان يصوم الاثنين والخميس..
وولَّاه عمر على البحرين فكان فيهم نِعْم الأمير، وولَّاه معاوية على المدينة، وكان مروان في ولايته على المدينة يستخلِف أبا هريرة.(1/1222)
ونخلُص من ذلك إلى أن أبا هريرة عاش فترة إسلامية بالمدينة مُصاحبًا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخادمًا له، وكان من أئمة المُحَدِّثين والمُفْتِين وعلماء المسلمين، جمع بين القول والعمل، وكانت وفاته بالمدينة ودُفِن بالبقيع، وكل ما يُقال عن أبي هريرة من سوء فإنه من نَزْغ الشيطان؛ فقد كان ـ رضي الله عنه ـ من صفوة الصحابة، رضي الله عنه وأرضاه.(1/1223)
في آل البيت، رضوان الله عليهم:
لقد وضع الله ـ سبحانه وتعالى ـ البركة في نسل سيدنا الحسن وفي نسل سيدنا الحسين، وتفرَّق أفراد الأسرة الشريفة في أقطار الأرض فرارًا من الاضطهاد، أو سعيًا وراء الرزق أو لغير ذلك من الأسباب.
وليس ببعيد ـ إذن ـ أن تكون هذه الأسرة، أو تلك في هذا القطر أو في ذاك من ذرية سيدنا الحسن أو من ذرية سيدنا الحسين، أو من ذريتهما معًا أي تكون الوالدة حسَنِيَّة والوالد حُسَيْنِيًّا أو العكس.
ذلك كله مُمكِن ولا استحالة فيه، ومرجِع الأمر ـ إذن ـ إنما هو شجرة الأنساب. على أن ما يجب أن يكون نُصْب أعيننا أن الميزان الإلهي إنما هو التقوى، ولقد قال الله ـ سبحانه ـ: (إِنَّ أكرمَكُمْ عندَ اللهِ أتقاكُمْ). ولقد مات ابن سيدنا نوح غريقًا مُشرِكًا، ولمَّا قال سيدنا نوح يستعطف ربه في ابنه: (ربِّ إِنَّ ابنِي مِنْ أهلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ).
قال الله له موضحًا ومُرَبِّيًا ومعلمًا: إنه ليس من أهلك، ثم علَّل ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك بقوله: (يَا نُوحُ إِنَّهُ ليسَ من أهلِكَ إنَّهُ عملٌ غيرُ صالحٍ) وزاد ـ سبحانه ـ هذا التعليل شيئًا من العتاب فقال: (إِنِّي أَعِظُكَ)، فالعبرةُ ـ إذن ـ إنما هي بالتقوى.
ولقد ضرب الله الأمثال للناس مُوَضِّحًا هذا المعنى على أنحاء شتى فقال ـ سبحانه ـ: (ضرَبَ اللهُ مثلًا لِلَّذينَ كَفَرُوا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ).
ثم قال ـ سبحانه ـ في الطرَف الآخر: (وضرَبَ اللهُ مثلًا لِلَّذينَ آمنُوا امرأةَ فِرْعَوْنَ). وموازين الله ـ سبحانه ـ لا تنظر إلى نسب ولا إلى مال ولا إلى جاه، ولا إلى عصَبِيَّة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خيرًا يرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
ولقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: سلمانُ منَّا آلَ البيتِ، وإنما كان سلمان من آل البيت ـ وهو فارسي ـ لأنه ـ رضي الله عنه ـ كان يعمل ما يُرضِي الله ورسوله.(1/1224)
ويقول الله ـ تعالى ـ: (فَإِذا نُفِخَ في الصورِ فَلَا أنسابَ بينَهُم يومئذٍ ولا يَتَساءَلُونَ..) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يا فاطمة بنت محمد، أنقِذِي نفسَكِ من النار؛ فإني لن أُغْنِي عنك من الله شيئًا"، وقال: "الجنَّة لمَن أطاعني ولو كان عبدًا حبشيًّا، والنار لمَن عصاني ولو كان شريفًا قُرَشيًّا". العبرة ـ إذن ـ إنما هي بالتقوى.(1/1225)
في عبد الله بن سبأ، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه:
يختلف تقدير أسلافنا ـ رضي الله عنهم ـ بالنسبة لعبد الله بن سبأ وكعب الأحبار ووهب بن منبه.
فأما عبد الله بن سبأ فلقد خرج على الإسلام وأثار الفِتَن على عثمان ـ رضي الله عنه ـ وكان عامِل هدم وفساد في جسم الدولة الإسلامية عقيدةً وسياسةً.. وأما كعب الأحبار: فقد رُوِيَ عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قوله: إن عند ابن الحِمْيرية لَعلمًا كثيرًا.
وروى معاوية ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن قال: إنه سمع معاوية يُحدِّث رهطًا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان لمِن أصدق هؤلاء المُحَدِّثين الذين يُحَدِّثون عن أهل الكتاب، كنَّا مع ذلك لَنَبْلُو عليه الكذب.
وكعب الأحبار أسلَم في عهد سيدنا عمر، وهو لا يَرْوِي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرةً، وإنما يَرْوِي على الخصوص عن عمر وصهيب وعائشة، رضي الله عنهم.
ورُواة الحديث يحتاطون من روايته ولم يَروِ عنه الإمام البخاري. وقد نخل أسلافنا ـ رضي الله عنهم ـ حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نخلًا دقيقًا وبيَّنوا منه الصحيح وغير الصحيح.
أما وهب بن منبه فيقول عنه صاحب ميزان الاعتدال إنه: "من خيار علماء التابعين وله في آخر خلافة عثمان حديثه عن أخيه همَّام في الصحيحين". أي البخاري ومسلم.
وجمهور المُحَدِّثين على أنه كان ثقة صادقًا، ومن ثقة المسلمين فيه أنه كان على قضاء صنعاء، وقد قال مثنى بن الصباح: "لبث وهب عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوء"، ولقد قال عنه أبو زرعة والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.(1/1226)
إن أمر الحكم في الإسلام مبني على الشورَى يقول ـ سبحانه ـ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بينَهم)، ويقول ـ تعالى ـ لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (وَشَاوِرْهُمْ في الأمرِ).
وأمر الحاكم في الإسلام مبني على الرعاية، يقول ـ صلوات الله وسلامه ـ: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئول عن رعيته"؛ فالحاكم داخل في هذا العموم الذي في الحديث الشريف. والمثَل الأعلى في الإسلام بعد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد، أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ هو سيدنا عمر بن الخطاب الذي كان يُمعِن النظر في كل صغيرة وكبيرة مما يُقْتَرَح عليه من أمور الدولة والذي كان يسهر على شئونها، مؤمنًا بأن الله ـ سبحانه ـ سائِلُه عما استرعاه كيف كان تصرُّفه فيه.. وقد حذَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُهمل الحاكم في العناية بأمور الدولة، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري ومسلم: "ما من عبد يَستَرْعِيه الله رَعِيَّة يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة".(1/1227)
وفيما رواه الإمام مسلم عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في بيتي هذا: اللهم، مَن ولي من أمر أمتي شيئًا فشَقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فرَفَق بهم فارفِق به". وإن الحاكم الذي لا يمعن النظر فيما يُقتَرح عليه من أمور الدولة غاشٌّ لرعيته، وهو من أجل ذلك داخل في حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتحريم الله عليه دخول الجنة. وأما سماع أقوال الوُشاة فإنه من الغِيبة، لقد حذَّر الله ورسوله عن الغِيبة: قولها وسماعها، وما أبشع الصورة التي صوَّرها الله عن الغيبة، يقول ـ سبحانه ـ: (وَلا يَغْتَبْ بعضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أحدُكم أن يأكلَ لحمَ أخيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). ويقول ـ سبحانَه ـ: (يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا).
وإن الحاكم الذي يُصغي إلى أقوال الوُشاة ولا يُمعن النظر في تحقيق ما يسمع مهمل، أيضًا، يَحرُم عليه دخول الجنة بنص الحديث. ولقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصي بأن لا يُحدِّثوه عن أصحابه بما يُسيء؛ لأنه يُريد أن يلقاهم دائمًا بصدر منشرح.(1/1228)
في القانون الإلهي والقانون الوضعي:
كل حضارة لها شطران: شطر مادي، وشطر روحي، أو معنوي أو نظَرِي بَحْت. ففيما يتعلق بالشطر المادي، فهو هذا الشطر الذي يعتَمِد على الحسِّ وعلى العقل، ويعتمد على المنهج السليم، وهو منهج المُلاحَظة والتجربة والاستقراء.
وهذا الشطر يتطوَّر ويرتَقِي ويتكوَّن شيئًا فشيئًا، ويَسير دائمًا في طريق الرُّقِيِّ؛ لأن هذا الشطر من الحضارة له مِقْياس يُحْسَم به الخطأ والصواب، ويُحْسَم به الباطل من الحق، وهذا المقياس هو التجربة، فكل أمر يَختَلِف فيه العقل أو الحواسُّ التجربةُ تَحسِمه؛ لأنها خير مقياس يضم الحواسَّ ويُلزِم العقل.
ومن هنا فقد كانت الثمرة الدائمة للحضارة هي: الترقِّي الدائم، وقد وصل العالَم الآن إلى القمر؛ لأن التجربة المستمرَّة، عبر أخطاء تمَّ تلافيها أولاً بأول أوصلت الدفع الصاروخي إلى التغلُّب على العوائق التي كانت تُثِيرها الجاذبية الأرضية واختلاف طبقات الجو، من حيث الطبيعة والمناخ والتكوين.
وليس الأمر كذلك، فيما يتعلق بالشطر الروحاني أو النظري من الحضارات الإنسانية.
وأقصد بهذا الشطر النظري: العقيدة والأخلاق والتشريع ونظام المجتمع. هذا الشطر لم يصل بعدُ إلى الشأو الحاسم في الرقِيِّ الذي وصل إليه الشطر المادي وما زال فيه مستمرًّا، ربما لأن من خصائص النظريات العقلية أنها لا مقياس لها. ما هو المقياس الذي نقيس به الخطأ والصواب، فيما يتعلق بالسلوك من ناحية العقل؟ ليس هناك مقياس.
وعقليًّا، ما هو المقياس الذي نقيس به الخطأ والصواب فيما يتعلق بالعقيدة؟
وعقليًّا ما هو المقياس الذي نقيس به الخطأ والصواب فيما يتعلق بالمجتمع؟ لا شيء.(1/1229)
وعقليًّا ما هو المقياس الذي نقيس به الخطأ والصواب فيما يتعلق بالتشريع؟ لا شيء.. ولهذا بقي هذا الشطر حتى الآن خلال تاريخ الإنسانية الطويل ظنيًّا يُمكِنُك أن تُثْبِتَه بأدلة، هذه الأدلة يُمكِن دائمًا أن تَنْفِيَها وأن تُدَعِّمَها.. ثم يأتي آخرونَ ويَهْدِمُون العموم وينفون النفي.
وكل مسألة من مسائل التشريع فيها رأي مُعارض لرأي آخر. ومنذ أيام "أرسطو" ومقياسه الذي هو المنطق، والإنسانية تبحث بجهودها الخاصة عن مقياس للأمور النظرية وللتشريع وللأخلاق وغير ذلك. ومنذ ابتداء العصر اليوناني قبل الميلاد، والإنسانية تضع في التشريع ونُظُم المجتمع وأخلاقِيَّاته نُظُمًا كثيرة وتشريعات شتى لا تَستَقِرُّ عليها سوى سنين أو قرون معدودات ثم لا تلبَث أن تَهْجُرَها.
ولنتوقف قليلًا عند المفكر الفيلسوف الإغريقي "أفلاطون" الذي حاول أن يُوجِد تشريعًا أو نظامًا للمجتمع.. فألَّف "جمهوريته" كنظام للمجتمع المتكامل.
لقد قسَّمه إلى طبَقات، واعتقد أن نظام الطبقات هو النظام الطبيعي في العالَم، فهناك طبقة المفكرين في المجتمع، وهناك طبقة العواطف، وهناك طبقة الشهوات، وقد سمَّى الطبقة الأولى الطبقة الذهبية "طبقة رجال الفكر"، وسمَّى الطبقة الثانية الطبقة الفضية "طبقة الجنود"، وسمَّى الطبقة الثالثة الطبقة النُّحاسية، وهي طبقة "التجَّار والصنَّاع والزُّرَّاع والعاملين في الإنتاج".(1/1230)
حاول "أفلاطون" بعد هذا أن يضع نظامًا لكل طبقة، فحدَّد سن الزواج للفتاة، وسن الزواج للرجل من كل طبقة، ففيما يتعلق بطبقة الإنتاج مثلًا.. حدَّد الزواج للفتاة فيما بين سن العشرين، وسن الخامسة والأربعين، والأطفال الذين تُنجبهم الفتاة بين هذين السنين هم الأطفال الشرعيون فقط في اعتباره، ولا شرعية لمَن تُنجِبُهم في غير هذه السن، ويُتْرَكون في العراء حتى يموتوا، وفيما يتعلق بالرجل فقد اعتبر شرعية الأطفال واجبة فيما بين سن الرابعة والعشرين وسن الخمسين، ومن هنا لا يَتِمُّ الإنجاب إلا في هذه الحدود، وإذن فالأطفال الذين يُولَدون خارج هذه الحدود ما ذنبُهم؟ ذنبهم أنهم أَتَوْا إلى الدنيا في غير هذه السن المُحَدَّدة.
وأما طبقة الجيش فينبغي ألا تتزوج ـ في رأي أفلاطون ـ زواجًا مستمرًّاـ ويجب ألا تمتلك شيئًا: لا ملابس، ولا عقارًا، ولا مالًا، ولا زوجة، ولا أولادًا، وإنما يأتون في ليلة مُعَيَّنة ويَعْقِدُون زواجًا بالقُرْعة لمدة سنة. والأطفال الذين يأتون ثمرة هذا الزواج يُودَعُون في مصحة أو ملجأ ويكونون أبناء للدولة، فضلًا عن هذا يرى أن الشاب الممتاز جسميًّا وعقليًّا، يتصل جنسيًّا بمجموعة كبيرة من الفتيات الجميلات. ومنطقُه في هذا، كما يقول في جمهوريته: نحن نُعنَى بالخيل، فنُنجب منها سلالات ممتازة، فلمَ لا نُعْنَى بالبشر، مثلما نُعْنَى بالخيل؟
إن الشبَّان الممتازين صحيًّا وبدنيًّا، وجماليًّا، يجب أن نأتي لهم بالنساء المُمتازات صحيًّا وبدنيًّا جماليًّا، ولا نجعل بينهما قيودًا في الاتصال الجنسي، ثم نأخذ السلالة الممتازة الناجمة عن اتصالهما؛ لتكون نواةً لارتقاء نَوْعِية البشر في الجمهورية.(1/1231)
ثم إن أفلاطون حدَّد المِلْكية، فلم يسمح للرؤساء، وهم طبقة رجال الفكر أن يملكوا، ولم يُبِحْها كذلك ـ كما رأينا ـ للجند.. وإنما أباحَها للرجال من طبقة الإنتاج، وبشرط أن يكون هناك حد أقصى للملكية، لا يتجاوز ـ أربعة أمثال المتوسط، يعني مثلًا: إذا كان متوسط نصيب الفرد في مدينة ما، نصف فدان، فيجب ألا يملك شخص أكثر من فدانين، وفي جمهوريته: إذا وُلِد طفل مريض يُعدَم.
وإذا ولد طفل مُصاب بعاهة يُعدَم، وإذا وُلِد طفل مشكوك في ذكائه يُعْدَم.
وليس في جمهورية "أفلاطون" مكان للشعراء والأدباء، ولقد دُعِي "أفلاطون" نفسه مرة لتطبيق جمهوريته، فأخفق إخفاقًا كاملًا، ثم دُعِي مرة أخرى بعد سنوات فأخفق ـ أيضًاـ إخفاقًا كاملًا.
ومضت الإنسانية ـ في طريق التجربة والخطأ ـ تبحث عن تشريع يحكمها، ويُزيل خلافاتها ويُقِيل عثَراتها.. وكان من تجارِبِها المُثِيرة في هذا المجال مذهب المزدكية، الذي استفحل أمره لدرجة أن ملِك الفرس اتبعَه واعتنقَه وطبَّقه، وهو مذهب يبدأ مُنْطَلَقُه الفكري من سؤال مطروح هو: ما الذي أقلق الإنسانية وأرَّقها وأتعبَها منذ فجر التاريخ؟ وأجاب المذهب المذكور قائلًا: "المال والنساء"، ولكي نُزيل قلق الإنسانية فلابد أن تكون هناك شيوعية كاملة في المال والنساء.
وصادَف ذلك هوَى لدى مَلِك الفرس، فاتَّبع المذهب، وذهب مزدك وأتباعه إلى القصر وأحبوا الاتصال بنساء المَلِك وبناته.
وأخذ وَلِيُّ العهد يتضرَّع إلى مزدك ويرجوه، في أن يترُك والدتَه وإخوتَه حتى لقد قبَّل قدميه، وهو يتضرَّع إليه فترك مزدك أُمَّه وإخوته، ثم آلَ المُلْك إلى وَلِيِّ العهد فأتى بمزدك وقتله، واندثرت تجربة إنسانية أخرى، تبحث عما تعتقد أنه عدل، وحق.
واستمرت الإنسانية في بحثها القَلِق، الذي تدفع ثمنه دائمًا من أخطائها.(1/1232)
فتأتى مثلًا إلى المذهب "الماني" نسبة إلى شخصية المفكر الفارسي "ماني". قال ماني: إن العالَم في ضيق دائم، وكرْب مُقيم، بسبب الصراع والجشَع والعداوات والبغضاء المُستَشرِية بين الناس في سبيل أغراض الدنيا، وإذا كان الأمر كذلك فلِمَ يستمر هذا العالَم؟ إن مجموعة من الرجس والقاذورات والشرور، يجب أن تزول، وخرج الفيلسوف العبقري من هذا السؤال برأي هو: إذا تطهَّر العالم من الناس فقد تطهَّر من البؤس والشقاء والشر، ولكي يتم تطهير العالَم من الناس، فقد شرع "ماني" أن يمنع الزواج ويمنع الاتصال الجنسي. وبهذه الطريقة لا يُولَد أطفال في المجتمع، ويموت الناس ويندثرون في مدى سبعين أو ثمانين سنة، وربما مائة، وبهذا تتطهَّر الأرض من الرجس والضلال والشر.
واتبع "ماني" كثيرون ونقص النسل، وكان في هذا إضعاف للدولة، وأتى به ملك الفرس وسأله عن مذهبه أمام حشد من الناس من أتباعه، فراح "ماني" يُحَدِّثه بمنطقه عن مذهبه ويدعو إليه.
فقال له مَلِك الفرس: ما دمتَ ترى أن تطهير العالَم من الناس يُنهِي الشقاء فيه. فلنبدأ بتطهيره منك، وفعلًا أمر بقتله، وقتل أتباعه.
الاختلاف في التشريع لا حدَّ له فهناك تشريع شيوعي، وهناك تشريع رأسمالي، والشيوعية نفسها مِلَل ونِحَل، فهناك شيوعية يمينية، وهناك شيوعية يسارِيَّة، وهناك شيوعية اشتراكية، وهناك شيوعية مُعتَدِلة، وهناك شيوعية مُتَطَرِّفة وغير ذلك.
وفي "الرأسمالية" يمين متطرِّف، ويمين مُعتَدِل، ويمين اشتراكي يساري، يُحِدُّ نوعًا من المِلْكية.
وبعض هذه التشريعات الحديثة تُلغِي الأديان نفسها، "والصهيونيون" يعترفون علانيةً في كتاب "برتوكولات صهيون" أنهم هم الذين رتَّبوا نجاح كارل ماركس الذي خرج على العالَم بأنه يجب أن يَزُول الدين، ويجب أن تتطهَّر الإنسانية من الدين، ومن فكرة الإله.(1/1233)
ووجد "كارل ماركس" مَن يَتْبَعُه وينشئ دولًا على منهاج مبادئه، ولستُ أدري: هل يمكن أن يكون هناك دليل أقوى من ذلك، على أن الإنسانية التي وصلت إلى الذُّرا في حضارتها المادية، قد توقَّفت في بعض نواحيها ولم تتقدَّم خطوة واحدة من الناحية الروحية.
والخلاصة: أنه ليس هناك مقياس عقلي واضح أو مُبَيَّن أو ثابت في المسائل العقلية والنظرية التشريعية يَفصِل بين الحق والباطل.. وإلا لَما تقبَّلت بعض المجتمعات ونفذت أفكارًا تدعو إلى شيوعية النساء وشيوعية المال وإلهاء الناس بالمسرح عن الله، كما قال "كارل ماركس"، وفي هذا يقول "سقراط": إن العقل الإنساني بالنسبة للمسائل النظرية كلوح من الخشب، يريد أن يَعبُر به الإنسان بحرًا هائجًا، لُجِّي العواصف.
ولهذا التعارُض كان لابد من سفينة آمنة، لا تَغرِق في البحر بالإنسانية، ولاتزعزعها العواصف والأعاصير، وقد نزلت الأديان هدايةً للعقل في الجانب النظري. نزلت في التشريع، والأخلاق، ونظام المجتمع، ومن خصائص الوحي فيما يتعلق بالتشريع أنه هادٍ للعقل، ولا يتأتَّى أن يكون هناك إيمان أبدًا بدون الاعتقاد بأن الدين هادٍ للعقل، ويكون خارجًا عن دائرة الإيمان مَن اعتقد غير هذا.
ونزول التشريع الإلهي معصومًا، وهذه قضية أخرى يُؤمِن بها كل مؤمن، هذه العصمة يُعبِّر عنها الله ـ سبحانه وتعالى ـ بقوله: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللهِ فقَدْ هُدِي إلى صراط مستقيمٍ). وقال: (لا يَأتِيهِ الباطِلُ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَلَا من خَلْفِهِ تنزيلٌ من حكيمٍ حَمِيدٍ).
ومن خصائص التشريع الإسلامي الإلهي أنه يَكُفُّ الإنسان تمامًا، عن محاولة الخروج عليه.(1/1234)
أما بالنسبة للتشريع الوضعي فإذا أنت وجدتَ فرصة للخروج عليه، دون أن تُضبَط فلا جناح عليك، ما دامت عين القانون لم تلمحك؛ لدرجة أن بعض الفلاسفة المنحرفين مثل "نيتشه" الذي أشاد به "اليهود" وروَّجوا له، يقول: "إذا أمكنَك أن تخرِق القانون الوضعي فاهدِمْه إذا استطعتَ هدمَه، إذا كان ذلك في مصلحتك: بشرط أن تكون ذكيًّا لا تقع تحت طائلته. وبتعبير آخر: إذا كنتَ تقود سيارتك بسرعة فائقة وصدمت إنسانًا، وقتلت بذلك النفس التي حرم الله بغير حق، واستطعتَ أن تَفِرَّ دون أن تُضبَط ودون أن يتمكَّن أحد من التقاط رقم سيارتك ونجوتَ من المُحاكمة والعقاب فإنك تكون "ماهرًا" أو "شاطرًا"؛ لأن القانون الوضعي لم يضبطك. أما القانون الإلهي فهو يكُفُّ الإنسان ظاهرًا وباطنًا، في حين أن القانون الوضعي لا يكفه إلا ظاهرًا، فالله عليم بذات الصدور، ولكن القانون الوضعي عليم بما يراه الشهود فحسب.
ومن خصائص القانون الإلهي: أنه حينما يُطَبَّق تُعَزُّ الدولة التي تُطَبِّقه. وحينما يُغْفَل عنه يُذَلُّ المجتمع الذي أدارَ له ظهره. إما بالتناحُر والبغضاء فيما بين الناس، وإما باستذلال المجتمع للفقراء أو للاستعمار، أو للتخبُّط والهزيمة.
حينما طبَّقته الأمة الإسلامية في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحينما طبَّقَتْه في عهد الصحابة ـ الخلفاء الراشدين ـ كانت الأمة التي لا تغيب عنها الشمس، وليس بمنكور قصة الخليفة الذي رأى سحابة فقال لها: "أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خراجُك".(1/1235)
طُبِّقت الشريعة فطُهِّرت النفوس، وظهرت القوة وتمَّ النصر، وكان المسلمون يَخُوضون المعارك بروح الفِداء والشريعة والإيمان، وكانوا ينتصرون على أضعاف أضعافهم عددًا، وعلى مَن هم أقوى منهم سلاحًا وعُدة، كما حدث في معركة القادسية مثلًا؛ لأن هناك جزءًا من حافز القتال، وهو إيمان المؤمن بعدالة القانون الذي يحكُمُه، والمُساواة بينه وبين جميع الرعايا في هذه المعادلة، ومن هنا يَقبَل الموت والفداء سعيدًا مُستبشرًا ساعيًا إلى النصر، أو الشهادة بدلًا من أن يتباطأ أو يتخاذَل، وشعارُه المُضمَر أو المُعلَن: "اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلَا إنَّا معكما مُقاتلونَ".
وقد كان الحث على لزوم الشريعة حازمًا: (وَمَن لمْ يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ فأولئكَ همُ الظالمونَ).
(وَمَن لم يحكُمْ بما أنزلَ الله فأولئكَ هم الفاسِقونَ)، (ومَن لم يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ فأولئك هم الكافرونَ)، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حتى يُحَكِّموكَ فيما شجَرَ بينَهُمْ ثمَّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِمْ حرَجًا ممَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). ما المانع من تطبيق الشريعة الإسلامية بدلًا من القانون الروماني وقانون نابليون؟ حقًّا: لماذا؟(1/1236)
لقد انتصرت الأمة الإسلامية، وعزت فيما سبق في ظل إيمان وَطِيد بالإسلام، وكانت مُحْتَرَمةً بين الأمم، مَهيبةَ الجانب، قَوِية الشوكة طِيلةَ تَمَسُّكها بالشريعة الإسلامية، ثم بدأت شيئًا فشيئًا تنصرِف إلى الانحلال والبُعد عن الشريعة، وجاء الاستعمار، فكان من أهم أهدافه أن يَستَذِلَّها عن طريق القضاء نهائيًّا على شريعة الله واستبدالها بقانونه الوضعي، أتى بعشَرات القُضاة من بلاده، بثيابهم المُزَرْكَشة وشعورهم المُستَعارَة، ووَقارهم المُزَيَّف ليحكموا بغير ما أنزل الله، وباسم الحرية الشخصية قتلوا كرامة الإنسان بإباحة الربا، والبَغاء العلَني. وقد حرص المستعمرون قبل أن يخرجوا من قطر من الأقطار بعشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر على أن يُخَطِّطوا لمستقبلهم في تلك الأقطار، ولم يَجِدوا خيرًا من أن يُذيبوا ـ نهائيًّا ـ طاقات الأمة التي يتركونها في غِمار ثقافتهم والتزاماتهم الفكرية، ومقاييسهم الحضارية فيما يتصل بالسلوك والتشريع.(1/1237)
وفي بعض الأقطار الإفريقية، حين أرادوا أن يجعلوها مُواليةً للغرب أخذوا خمسة وثلاثين ألف لقيط ويتيم، وكفلوا لهم رعاية أُسطورية في ظل مذاهب تُعادي الإسلام، وخرَّجوا منهم المهندسين والأطباء والقادة والإداريين، فلما خرج الاستعمار بجنوده بقي أبناؤه الروحيون هم الذين يقودون أفئدة تَهوِي إلى المستعمرين بمُثُلهم العليا، وأساليبهم وأخلاقياتهم، وترتبط بهم وتدور في فلَكهم. ففي مصر مثلًا، خرج الاستعمار بجنوده بعد أن زرع فيها مدرسة الحقوق، التي كان نصيب الشريعة الإسلامية فيها ساعتين من اثنتين وعشرين ساعة في الأسبوع، وترك قوانين يُخالف بعضها ما أنزل الله، ولَما تمَلَّكْنا نظام سياستنا التعليمية لم نخرج عن قوانين نابليون، والقانون الروماني، والقانون البلجيكي. والنتيجة أن المحامي والقاضي وعضو النيابة الذي يتخرَّج في كلية الحقوق في مصر، وفي كثير غيرها من البلاد الإسلامية، يخرج بعقلية أوربية، وفكر أوربي، وأنماط أوربية في القياس والتوجيه والمنطق.. وماذا يريد الاستعمار أكثر من أن يَربِط إليه أبناء أمة يتركها بهذه الطريقة؟ الذي حدث شيء يستمر الإنسان في الحديث عنه في حسرة وألم يَحُزَّان في النفس.
حدث في غَيْبة التشريع الإلهي، هذه الكثرة من جرائم السرقة، لو اتُّبِع التشريع الإسلامي لَمَا كانت هناك سرقة، ولْنَنْظُر إلى بلاد أخرى غيرنا، بلاد حولنا تُطَبِّق شريعة الإسلام وحدود الله في جرائم السرقة.
في المملكة العربية السعودية مثلًا: قبل أيام الملك "عبد العزيز آل سعود" كانت هناك سرقة، وكان هناك نهب وقتل، وكان حُجَّاج بيت الله الحرام يَسِيرون في حراسة الجيش، لدرجة أن مصر كانت تُرسل مع حُجَّاجها كتيبة من الجيش تحرُس الحُجَّاج.(1/1238)
وجاء الملك "عبد العزيز" وأمر بتطبيق شريعة الله وحدوده، فانتهت جريمة السرقة، أو كادت تنتهي، ولقد حدث أن زار السعودية منذ سنين قليلة وفد أوربي يضم مفكرين ومُشَرِّعين وفلاسفة من إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وانبهر الوفد لسبق الإسلام في كثير من التشريعات، فيما يتعلق بحقوق الإنسان، بل اكتشف أن بعض موادِّه لم تَرْقَ إليها الحضارات الموجودة بعدُ. ولكنه تساءل في نهاية الحوار الذي دار بينه وبين بعض علماء الإسلام السعوديين، تساءل عن قطع يد السارق: أليس في ذلك بشاعة؟ أليس في ذلك قسوة؟
فقال العلماء السعوديون للعلماء الأوربيين: انظروا إلى هذه الصحراء المُتَرامية يسير فيها الإنسان، وقد لا يسمعه فيها أحد أو يراه أحد أو يُحِسُّ به أحد واملئوا سيارة من الذهب أو الفضة أو المال أو النفائس وانتقلوا بها في الصحراء من مدينة إلى مدينة، أو فاتركوها إذا تعطَّلت السيارة بها وسط الصحراء وهِيموا على وُجوهكم بحثًا عن المعونة، ثم عودوا إلى السيارة تَجِدُون ما بها سليمًا لم تمسَّه يد، وقارِنوا بين هذا وبين ما يحدث في مدينة مثل "نيويورك" في ساعة واحدة، كم حادث سرقة وقع؟ وكم حادث قتل؟ وكم حادثة اغتصاب؟(1/1239)
وقال العلماء السعوديون: إنه في مدى ثمانية عشر عامًا لم تُطَبَّق حدود الله في قطع اليد ـ على أكثر من ستة أو سبعة على أكثر تقدير، ولكن جريمة السرقة انقطعت تمامًا، وماذا حدث في غَيْبة التشريع الإسلامي، هذه الأنهار من الخُمور، والكثرة الكاثرة من الخبائث والمنكرات. مصر بلد إسلامي ـ وما زالت الأقطار الأخرى تُحسِن الظن بمصر، لكن البعض في هذا البلد يَتَباهَى بإنتاج البيرة والخمر، في الأسبوع الذي ذكرت فيه الجرائد أن مصر كسبت مليون جنيه من البيرة، كتبت هذه الجرائد نفسها أن "السينما" خسَرت ثمانية ملايين جنيه، ثم يقولون ـ في تبرير إباحة الخمور: إنما نبيع الخمور من أجل السائحين، كل هذا هراء، لا يأتي إلا من المُنحَرِفين عقليًّا، وأخلاقيًّا، وليس عندهم فكرة عن الآية الكريمة: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عليهِمْ بَرَكاتٍ من السماءِ والأرضِ) يجب أن يعود التشريع الإسلامي، يعود؛ لأمرين:
1ـ الأمن على النفس، والمال، والعِرض، يتسنَّى ذلك حتى لمَن لم يكن مسلمًا.
2ـ استمرار النصر بتوفيق الله، تعالى.
حينما كان شعار الجندي المصري "الله أكبر" في "حرب رمضان" صمدت "الله أكبر" مبشرةً، بزُمرة من المؤمنين انفصلت عن الانحراف ونطقت بكلياتها: "الله أكبر"، ولكن هذا النصر له قوانين لضمان استمراره، إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذكر قوانين النصر والهزيمة.
فإذا ما تخلَّينا عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ تخلَّى الله عنا، أما قوانين النصر فمنها: (الذينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأرضِ أقامُوا الصلاةَ وآتَوُا الزكاةَ وأمَرُوا بالمعروفِ ونَهَوْا عن المُنْكَرِ) كلٌّ بحسب موقعِه في المجتمع"أمر بمعروف ونهي عن المنكر".
إذا انصرفوا عن ذلك فليس هناك ضمان لاستمرار النصر.(1/1240)
هناك مُطالَبة من كثير من الطوائف، وهناك بطبيعة الحال استجابة في مجلس الشعب وإلا فلا يَصِح أن يكون مُمَثِّلًا لأمة إسلامية، ويكون لكم الفضل أيها القرَّاء، والمفكرون، والزعماء، في وضع القوانين التي يستمر بها النصر والأمن على المال والعِرْض والنفس.
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللهِ فقدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مستقيمٍ).(1/1241)
في الانتخاب:
إن انتخاب إنسان نائبًا عن دائرة ينبغي أن لا يكون من أجل مصلحة شخصية، وإنما يكون من أجل صفات في النائب تجعله أهلًا للنيابة، وينبغي أن لا يكون انتخابُه من أجل وُعود أو عهود يرتبط بها أمام الناخبين، خصوصًا إذا كان الناخبون يعرفون فيه من قبل أنه ليس أهلًا للنيابة عنهم، إن الانتخابات أمانة تُؤَدَّى للمخلص الكُفْء دون أن تكون هناك حاجة إلى عهود أو وعود لا يتمكَّن في المستقبل من أدائها، وقد لا يكون أداؤها في يده وحده دون معارضة.
وعلى كل حال فإن العهود والمواثيق التي تتصل بوجوه الخير والتي تكون في سبيل الله إذا أخلَّ النائب بها مُتَعَمِّدًا أو مهمِلًا لها غير مُبالٍ لها فإنه يدخل بذلك تحت الآيات والأحاديث التي تناولت ذلك وحذَّرت منه تحذيرًا شديدًا، من ذلك قول الله ـ تعالى ـ: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولونَ ما لا تفعلونَ. كبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلونَ).
ومن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "آيةُ المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذب، وإذا وعدَ أخلف، وإذا ائتُمِنَ خانَ".
أما إذا دعا بالخير وعمل على تحقيق وعده ما استطاع فحالت الظروف دون ذلك فإنه مُثاب مأجور على إرادة الخير والعمل له، ومَن همَّ بحسنة فلم يتيسر له تحقيقها كُتِبَت له حسنة.(1/1242)
في شعار الإيمان للدولة:
إننا نستمتع في العصر الحاضر بكثير من حرية الكلمة وحرية إعلانها، وأول أمر أتحدث عنه هو أن الرئيس أعلن شعار الإيمان، أعلنَه غير مرة، وأعلنه في خُطبِه وفي الصحف، وعرف القاصي والنائي أن الرئيس أعلن شعار الإيمان، وما من شك في أن الأغلبية العُظْمى من أعضاء مجلس الشعب من المؤمنين الصالحين، ولو عُرِض عليهم مشروع يتناسق مع شعار الإيمان لبادروا إلى الموافقة عليه.
وما زلتُ أذكر جَلْسة مشهورة من جلَسات مجلس الشعب، جلسةً جاء فيها عَرْض قطع يد السارق فتحمَّس الغالِبِيَّة العُظْمَى من أعضاء مجلس الشعب لتشريع قطع يد السارق، وتأزَّم جو المجلس ولم تنتهِ المسألة إلا بعد أن أخذ الأعضاء وعدًا بدراسة الموضوع دراسةً مستفيضةً وعرضه في "الرول" إذ إنه ليس معروضًا، ولم يُدْرَس من قبل.
والصورة التي أُريد إعلانها من هذا أن مجلس الشعب مُسْتَعِدٌّ لإقرار شعار الإيمان إذا عُرِض عليه.
وكنتُ أفهم أن القَضاء وزارة وقُضاة وأجواء قضاء على اختلافها وتعددها ستُبادر بدراسة شعار الإيمان وتُعَدِّد القوانين وتَعقِد القواعد، ولكن لم يحدث شيء من ذلك.
وكنتُ أفهم أن كليات الحقوق في جميع أرجاء الجمهورية، أو على الأقل كلية منها، تُبادر فتتخلَّص من آثار الاستعمار واللادينية التي فَرضت عليها عشرين درسًا في الأسبوع في القوانين الوضعية ودرسين فقط في الأسبوع في الشريعة بكل فروعها المُتَعَدِّدة.
إن النظام الذي تَسِير عليه كليات الحقوق هو نفس النظام الذي فرضه الاستعمار، وقد زال هذا الاستعمار، فكان على هذه الكليات وهي مشهورة بالتحرُّر أن تتحرَّر من آثار الاستعمار، وأن تُعيد النظر في مناهجها وبرامجها، التي تُعلِن أن الاستعمار باقٍ يتحدى في زاوية من أخطر زوايا المجتمع، وهي زاوية القضاء والعدالة.(1/1243)
إن الرئيس لا يَتَّسِع وقته لمُتابَعة الجزئيات، ولكنه يُعلِن المبادئ العامة ويَدَع التطبيق والتفصيلات إلى المسئولين عنها، ولقد وفَّقه الله في إعلان دولة العلم والإيمان إلى المنهج الإسلامي الصحيح، المنهج الذي وضعه الله ـ تعالى ـ للأمة الإسلامية، وهذا المنهج هو المنهج الذي قام به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورسمَه لأمته، إن دَوْر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أن: (يُعَلِّمَهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ).
وهذا هو الشعار الذي أُعلِن، أما العلم فإنه يسير في صورة لا بأس بها، ولكنه إذا كان يسير في صورة لا بأس بها من ناحية الثقافة المادية فإنه قاصر كل القُصور من ناحية المنهج الإيماني الذي يُمَثِّل الشطر الثاني من دُوَل العلم والإيمان.
والعلم بدون إيمان مُدَمِّر مُهلِك، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى تلاميذ وطلَبة قد أخذوا حظًّا كافيًا من شعار الإيمان في جميع درَجات التعليم.
وإن تعجَبْ فعجب أن يأمر الرئيس أحد وُزَراء التعليم بالعناية بالدين كمًّا وكيفًا في جميع مراحل التعليم التي تدخل في دائرته، وعلى إثر ذلك عُقِدت اللجان وبدأت اجتماعاتها، وحضرتُ أنا بعضها، واستمرت اللجان تنعقد على فتَرات طويلة ثم انتهت بلا شيء، وما زال الأمر على ما هو عليه، والدراسات الدينية في جو وزارة التعليم على هامش الحياة.(1/1244)
وكنتُ أفهم أن وسائل الإعلام حينما تسمع إعلان شعار الإيمان تستجيب له استجابة كاملة، ولا أحد يُنكِر أثر وسائل الإعلام، إنها تَصنَع الرأي العام، والرأي العام يُصنَع كما تُصنَع الماديات، ولو استقامت وسائل الإعلام لَكانت عاملًا من أهمِّ العوامل في إصلاح المجتمع وتحقيق شعار الإيمان، ولكن الأغلبية العُظْمَى من وسائل الإعلام سارت وتسير على اللامبالاة بشعار الإيمان. والشيوعيون ـ وهم مُتَغَلْغِلُون في وسائل الإعلام بحسب منهج مرسوم ـ وصل بهم الأمر إلى مُهاجمة الدين، فإن الشيوعية نقيض الإيمان والوحي والرسالة على خط مستقيم، وهي في وسائل الإعلام لا تَسكُت عن الإيمان، وإنما وصل بها الأمر إلى مهاجمته، وإنه من المعروف أن المنهج الشيوعي يُهاجم أولاً علماء الدين في التمثيليات وفي المسرحيات وفي المقالات والكتُب، حتى إذا ما ضعُفت شوكة علماء الدين بدءوا يُهاجمون الدين نفسه في صور مُختَلِفة تتكيَّف بالجو وبالبيئة التي يعيشون فيها، ووصل الأمر بالشيوعيين في إحدى المجلات أن يُشَجِّعوا على الفسق والزنى وكتبوا في صورة عَلَنِية عن آراء سافرة تُبَرِّر حرية الفتاة في أن تُرافق وتزني وتفعل الرجس تحت قانون الحرية، وكأن البلد بلا دين وبلا رقابة خُلُقية.
وكنتُ أفهم أن هناك رقابة على هذه الصوَر التي تُعَلَّق في الشوارع وعلى جدران المنازل مُثِيرةً للغرائز، داعيةً إلى أفلام كلها رجس وفسق، ورقابة على الأفلام المُثِيرة للشباب المُوَجِّهة إليه إلى تحقيق غرائزه بصورة أو بأخرى، وأعود فأقول: إن الرئيس وهو يُعلِن المبدأ العام، مبدأ الإيمان لا يَتَتَبَّع الجزئيات، وليس هناك قائد اجتماعي يُعلِن المبادئ ثم يُضَيِّع وقتَه لتَتَبُّع الجزئيات فعلى كل فرد وعلى كل مؤسسة أن تستجيب لشعار الإيمان.
أما النتيجة لهذه الاستجابة فهي النصر الذي وعد الله به المؤمنين حيث قال: (وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنينَ).(1/1245)
وإني إذا كنتُ أُنَبِّه على هذه الأمور فإني أُحِبُّ أن أتحدث في النهاية عن الخطورة التي تترتَّب على عدم الاستجابة.
لقد انتصرنا على الرغم من كل تَوَقُّعات المتشائمين، وصدر الأمر التاريخي العظيم بالعبور وعبرنا بتوفيق الله ـ تعالى ـ وانتصرنا.
وإن دوام هذا النصر موكول بالاستجابة لله ـ تعالى ـ: (إِنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُرْكُمْ). والواجب إذن ـ من أجل دوام النصر ـ أن يقوم كل منَّا بدَوْرِه في شعار الإيمان، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الذينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأرضِ أقامُوا الصلاةَ وآتَوُا الزكاةَ وأمروا بالمعروفِ وَنَهَوْا عن المُنْكَرِ ولله عاقِبَةُ الأمورِ).(1/1246)
في موقف الإسلام من الوَحْدة العربية:
يقول الله ـ تعالى ـ في سورة آل عمران: (يَا أيُّها الذينَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ حقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بحبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا واذكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعداءً فألَّفَ بينَ قُلوبِكُمْ فأصبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا...).
في هذه الآيات الكريمة أمر صريح بالاتحاد وبالاجتماع، ونَهْي عن الخِلاف والتفرِقَة، وقد ورد ذلك ـ أيضًاـ في الأحاديث الشريفة؛ فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله يرضى لكم ثلاًثا، ويَسْخَطُ لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا مَن وَلَّاه الله أمرَكم. ويسخط لكم ثلاثًا: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السؤالِ، وإضاعةَ المال".
هل يعمل أعداء العرب على التفرقة بينهم؟
إن أعداء الإسلام يعملون دائمًا على إيجاد عوامل التفرقة بين العرب، وافتعال أسباب للخلاف بينهم، ومن أقدم ما عُرِف من ذلك حادثة شاس بن قيس اليهودي التي يَروِيها التاريخ وترويها كتُب السيرة.
لقد مرَّ شاس على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعَهم فغاظَه صلاح ذاتِ بَيْنِهم، وقال في نفسه: قد اجتمع ملأ بني قيلة في هذه البلاد ومالَنا ـ إذا اجتمع ملؤُهم بها ـ من قرار، وأمر فتى شابًّا يهوديًّا ـ وكان معهم ـ أن يَنْتَهِز فرصةً يُذَكِّرهم فيها بيوم بعاث، ذلك اليوم الذي انتصر فيه الأوس على الخزرج.(1/1247)
وتكلَّم الغلام فأنشدَهم ما قيل في ذلك اليوم من أشعار، فذكَر القومُ ذلك اليوم، وتنازَعُوا وتفاخروا واختصموا، وقال بعضُهم لبعض: إنْ شئْتُم عُدْنا إلى مِثْلها، وبلَغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك الأمر فخرج إليهم فيمَن معه من الأنصار والمهاجرين، فذكَّرهم بما ألَّف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانًا مُتَحَابِّين، وكان مما قال: "أَ بِدَعْوَى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم بعد إذ أكرمَكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية". وما زال بهم حتى بكى القوم وعانَق بعضُهم بعضًا واستغفروا الله جميعًا.
ومن أجل البقاء على وَحْدة الأمة العربية قويةً متينةً آخَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المؤمنين منذ أن كان بمكة قبل الهجرة، وآخَى بينهم في المدينة بعد الهجرة؛ فقد آخَى بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان.. وبين آخرين كثيرين.
وفي مجلس المُؤَاخاة هذا قال علي ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله، إنك آخيتَ بين أصاحبك فمَن أخي؟ قال ـ صلوات الله عليه ـ: "أنا أخوك".
فلمَّا هاجَر ـ صلوات الله عليه ـ إلى المدينة، آخَى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار قائلًا: "تآخَوْا في الله، أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ".
ولقد كان جعفر بن أبي طالب ـ ذو الجناحين الطيار في الجنة ـ يومئذ غائبًا بأرض الحبشة، ومع ذلك فقد آخَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينه وبين مُعاذ بن جبل.
هذه المُؤَاخاة: إنما هي مجرَّد رمز لِمَا يجب أن يكون عليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يقول الله ـ تعالى ـ: (إِنَّما المُؤمنونَ إِخْوَةٌ).(1/1248)
في الإسلام والسيف:
الواقع أن هذه المسألة إنما هي فِرْية مُصطَنعة، أثارَها أعداء الإسلام، دون أن يكون هناك مُبَرِّر لإثارتها.
وذلك أن الإسلام بدأ بواحد، وهو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيما بعدُ قال أحد الصحابة: لقد رأيتُني وأنا مِثْل ثُلُث الإسلام ثم أخذ الإسلام يَنْتَشِر بالحجة والبرهان والإقناع، فعارَض انتشارَه المُشركون بالسيف والتعذيب والتنكيل، وكان لابد من الدفاع عن النفس، وهذا الدفاع عن النفس كان يَتَّخذ أحيانًا صورًا تَحُزُّ في النفس وتملؤها إشفاقًا، كصورة غزوة الخندق التي كان المسلمون يتحصَّنون فيها من أعدائهم من وراء خندق حفروه يتقون من ورائه أعداءَهم وقد أتَوْا إليهم في دارهم يُريدون أن يَقْضُوا على الإسلام، فردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا.
والدفاع عن النفس هذا هو الذي عبَّرت عنه الآية الكريمة القرآنية خير تعبير حين قال ـ تعالى ـ (أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بأنَّهم ظُلِمُوا). وفي كل ذلك يقول شاعرنا الكبير أحمد شوقي:
قالوا: غَزَوْتَ وَرُسْلُ اللهِ ما بُعِثُوا لِقَتْلِ نَفْسٍ وَلا جاءوا لِسفكِ دَمِ
جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وَسَفْسطةٌ فتحتَ بالسيفِ بعد الفتحِ بالقلَمِ
لمَّا دنا لله عفوًا كلُّ ذي حَسَبٍ تَكفَّلَ السيفُ بالجُهَّالِ والعَمَمِ
والشر إن تَلْقَه بالخيرِ ضِقْتَ به ذَرْعًا وإن تَلْقَهُ بالشرِّ يَنْحَسِمِ(1/1249)
في ما يعتقده الكثيرون من أن الفكر الديني ـ في هذا العصر ـ يُعاني أزمة عاصفة في مُواجَهة التطور المادي:
حتى تكون الرؤية واضحةً كل الوضوح ينبغي أولاً وقبل كل شيء تحديد المقصود بالفكر الديني؛ لأن إطلاق العبارات دون التعرُّف على مضامينها يُوقِع في اللبس فتغم الرؤية، ولا يَستَبِين المحتوى استبانةً يَطْمَئِنُّ عليها القلب والفكر.
فإذا كان المقصود بالفكر الديني المحتوى المُتكامِل الأبعاد لمبادئ الإسلام ومُقَرَّراته فإنه لا توجَد أزمة بين هذا المدلول وبين التطوُّر المادي حتى يُعاني هذا المحتوى أزمة ما؛ ذلك لأن الإسلام دين الله الحق الذي بُعِث به خاتم المُرْسَلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإسلام بوسائل مُتَعَدِّدة يدفع إلى التطوَّر والإفادة من مُعْطَيَات الفكر المُتَحَرِّك دومًا ونظرًا إلى أن الإسلام دين الله الحق فهو يَحُثُّ على ذلك ويُشَجِّع عليه؛ لأن التطور على مدار مطافه لا يَصطدِم بالإسلام أبدًا، ومن ناحية أخرى كلما تقدم التطور في طرُقه أعطى آكَد البراهين على حقيقة مُحتَوى الإسلام، فلا أزمة ـ إذن ـ بين التطوُّر المادي والإسلام في محتواه الذاتي.
أما إذا كان المقصود بالفكر الديني الحالة الفكرية التي لها علاقة وثيقة بالتأثير والتأثُّر العَقَدي فإن الأمر يختلف لعوامل، ليس من بينها التطوُّر المادي في ذاته، وإنما لملابسات تُحيط بهذا التطور، وأهم هذه المُلابسات الصخَب الإلحادي الذي تقوم عليه بعض المجتمعات التي نَحَّت الدين من طريقها لاعتبارات ليس من غرض الحديث التعرُّض لها، بيد أنها في جملتها وتفصيلها اعتبارات لا تقوم على منطق ولا تتذرَّع بحُجَّة صحيحة.(1/1250)
ومن بين هذه المُلابسات ـ أيضًاـ عجز المُعْتَقدات الدينية في الغرب عجزًا تامًّا عن إشباع تطلُّعات العقل والقلب، الأمر الذي أتاح ويُتِيح لسيطرة التطوُّر المادي وتَخاذُل الفكر الديني أمامه هناك، وانزوائه في غمرةِ الفراغ الفكري؛ نتيجة مُجانِبَة الإسلام في السلوك لدى هذه المجتمعات وتسلُّل الصخَب الإلحادي وما تمخَّض عنه من عجز المُعْتَقَدات الدينية في الغرب إلى بعض الأفكار في المجتمعات الإسلامية، فكان لذلك أثرُه في الظاهرة التي شاعت بين بعض الأفكارـ وهي بحمد الله قلة في مجتمعنا ـ من أن الفكر الديني يعاني أزمة في مواجهة التطور المادي، وأما الجماهير فإن لهم من حصانة الإسلام في ذاته وقاية طبيعية من هذه الظاهرة المَرَضية، الأمر الذي ينتهي بنا إلى القول بأن المجتمعات الإسلامية في مجموعها لا تُعاني أزمة في مُواجَهة التطور المادي، وإنما تشكو ظاهرة مرَضية بدت لدى البعض، ويتحتَّم علاج هذه الظاهرة، إذ العدوى ليست في الأجسام فقط وإنما تتعدَّى إلى الأفكار والأخلاق.(1/1251)
يُلاحظ الكثيرون بعض المظاهر التي تُوحي بعُزلة رجال الدين عن الحياة الاجتماعية والسياسية، كما يُلاحظون بعض المظاهر السلبية في العادات والتقاليد والتواكُل والاستسلام للواقع، فما هو موقف الدين من كل ذلك؟
هذه الملاحظة في عمومها الذي وردت به غير مقبولة من الناحية الواقعية بإطلاق، فالمعروف تاريخيًّا أن علماء الإسلام كانوا على مرِّ العُصور يُشاركون مُشارَكة تامة في أحداث السياسة والاجتماع، ومَن يَدْرُس التاريخ أو يَطَّلِع عليه يجد ذلك حقًّا، بل يجد أنهم كانوا القادة والمُحَرِّكين وأقرب الأحداث نسبيًّا ما كان من علماء الإسلام أيام الحملة الفرنسية ثم ثورة 1919م. وهل ينسى الناس أمثال عمر مكرم والشيخ السادات، وسعد زغلول؟ أليس هؤلاء ممَّن خرَّجهم الأزهر؟
بل إن علماء الأزهر كانوا دِرْع الشعب الواقِيَة من صلَف الحكَّام وظلمهم، وهل ينسى أحد مواقف الشيخ أحمد الدردير، رضي الله عنه وأرضاه.
لكن الذي كان فعلًا هو أن الاستعمار الإنجليزي عَمِل بكل جُهْده على عَزْل علماء الأزهر عن مجالات التأثير، وبخاصة في التدريس في المدارس الابتدائية والثانوية، وكان "بطل" هذا العمل هو القس الإنجليزي "دانلوب" الذي عَمِل بما استطاع من حيلة أن يخلق جهاز الأزهر وَيَحصره في نِطاق ضيِّق يَحُول دون فاعلية التأثير، وعلى الرغم من كل ذلك استطاع العملاق بفضل الله وعونه أن يظل صامدًا في حلْبة التأثير، وإن كان قد أصابته خدوش، فذلك ضرورة من ضرورات المعارك.
وليس أدل على أن علماء الإسلام يُشاركون في الحياة الاجتماعية والسياسية من قيام جبهات غير إسلامية تُحاول بمختلف الأساليب أن تنال منهم حتى يَخِفَّ وزنهم في قلوب المواطنين، الأمر الذي يتبعه حتمًا فقدان التأثير.
وليس من اللازم في توصيف المُشارَكة أن يُوكَل إلى المُشارِك عمل اجتماعي أو سياسي بعينه، وإنما المُشارَكة في معناها الأصيل فهم الواقع، والتأثير بأي أسلوب من أساليبه.(1/1252)
أما عن المظاهر السلبية في العادات والتقاليد فإن الإسلام لا يُقِرُّها؛ ذلك أنه يدعو إلى استغلال الطاقة في العمل النافع الذي يرفَع من شأن الإنسان في دنياه، ويُنزِله أكرمَ منزلة في أخراه، فالتواكُل لا يرضاه الإسلام، وينبغي أن يُعْنَى الدُّعاة بتوضيح المفاهيم الإسلامية توضيحًا لا يترك في النفوس رواسب حتى يتضح الفرق بين التوكُّل والتواكُل مثلًا، فالتوكل على الله مفهومه أن يُقدِم الإنسان إلى العمل بطاقته راجيًا من الله المعونة والتوفيق، فهذا وضع إيجابي ينبغي أن يكون في صُحْبَتِه كل مسلم؛ إذ يدفع الطاقة ويَزِيد من فاعليتها.
أما التواكل فإنه يعني القعود وتفريغ الطاقة في غير وجهة، وهذا لا يقبله الإسلام وإنما يرفضه رفضًا قاطعًا، وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اعقلها وتوكَّل" صريح في وجوب بذل الطاقة، وقول عمر ـ رضي الله عنه ـ: "لا يقعد أحدُكم عن طلب الرزق وهو يعلم أن السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضة" مُنْبَثِق انبثاقًا طبيعيًّا من تعاليم الإسلام.(1/1253)
كيف يُمكن للأزهر أن يستعيد دَوْره في ازدهار الفكر الديني وتَغْذِيته الجماهير بالقيم الدينية؟
إن دور الأزهر في ازدهار الفكر الديني مرتبط ارتباطًا نوعيًّا بأجهزة الإعلام المتعددة في الدولة، كما أنه مُرتَبِط بنوعيات بعض القوانين الموجودة.
فبعض أجهزة الإعلام تُقَدِّم فيما تقدم من موادَّ سواءً على الشاشة الصغيرة أو الكبيرة ما من شأنه أن يَحُول دون التأثير لِمَا يقوم به الأزهر، وبعض الكتُب ـ أيضًاـ وبعض المجلات تَتَّخِذ هذا الاتجاه، وبخاصة أن الوسائل كلها تتخذ من الإغراء وسيلة تجتذب بها الأفكار.
وبعض القوانين الموجودة التي تتراخَى مع بعض المُنْكَرَات المؤثرة كثيرًا لها أثرها على السلوك وتُعتَبَر عاملًا سلبيًّا في حركة التأثير؛ لذا يتحتَّم التخطيط لأجهزة الإعلام، وبخاصة السينما والمسرح تخطيطًا يقوم على عدم التهاوُن في الموادِّ التي تُقَدَّم للجماهير تزويرًا على ما يُسَمَّى بالفن وما شاكَل ذلك من مُسَمَّيَات تَلُوكها ألسنة كثيرة بوعي هابط حينًا وبعدم وعي حينًا آخر فيجب ألا يُقَدَّم إلا النافع فعلًا، وما من شأنه أن يسمو بالدوافع الفطرية للإنسان، كما يتحتم النظر في جميع القوانين التي تتراخَى مع المُنكَرَات التي لا يُقِرُّها الإسلام وحدود الإسلام واضحة "الحلال بَيِّن والحرام بيِّن"، كما يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
هذا إذا أردنا لمجتمعنا الخير والعزة، ولا شك في أن الحريصين على مستقبل المجتمع يعملون لتحقيق ذلك.(1/1254)
كيف بدأت الدراسات الدينية والعلمية في الجامع الأزهر؟
ينبغي أن يكون معروفًا أن عقد الدراسات الدينية والعلمية في الجامع الأزهر عام 378 هـ لم يكن بِدْعة اختص بها هذا المسجد الكبير، وإنما سار فيها على سنَّة الرسول الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي يجعل من مسجده مركزًا للقيادة والتوجيه والتعليم، إلى جانب كونه مكانًا للعبادة والتهجُّد والاعتكاف، وكذلك كانت المساجد من بعد مسجد الرسول الكريم.
وقد سبق جامع الأزهر إلى ذلك في مصر مسجد سيدنا عمرو بن العاص الذي بُني عام 21 هـ وكان مركزًا للإشعاع الثقافي والعلمي، ولما سار الأزهر على هذا المنوال رصد له الخلفاء والوُلاة الأموال، وأوقفوا عليه الأوقاف للإنفاق منها على الطلبة والعلماء، وقد تأكد مركز الأزهر كجامعة إسلامية عندما جعل منه صلاح الدين الأيوبي مَعْقِدًا لآمال العلماء والدارسين في جميع أنحاء العالَم الإسلامي، واستمر الأزهر في تأدِيَة رسالته الإسلامية الكبرى قائمًا على حفظ الإسلام حتى يظل صحيحًا كما أنزله الله وكما بلغه رسوله، والدفاع عنه حتى لا يدخل إليه ما ليس منه فتتبدَّل أحكامه، أو تُطْمَس معالمه، والتمكين له حتى تستقر تعاليمه في العقول فتُصبح ثقافة ومعرفة وإيمانًا، ثم تتمثلها النفوس فتصير عرفًا وسلوكًا وأخلاقًا.
وبهذا صار الأزهر مركزًا لإشعاع الفكر الإسلامي ولتوثيق الروابط بين المسلمين في جميع أنحاء العالَم.(1/1255)
هل كان للأزهر أثره في الأوضاع السياسية والاجتماعية في تاريخه المجيد؟
نعم، ولقد كان ذلك نتيجة طبيعية لقيام علماء الأزهر بواجبهم الذي يُحتِّمه عليهم الإسلام باعتباره الدين الذي يصل بين الدنيا والآخرة، ويَربِط برباط وثيق بين العقيدة والأخلاق، وبين العقيدة والسياسة، وبين العقيدة والعلم، كما ساعَد على قيام العلماء بهذا الواجب ثقة المسلمين فيهم، وفي إخلاصهم لله، وساعد على ذلك إيمان القادة بدينهم، وبأن هذا الدين هو الصراط المستقيم، الذي يُحَقِّق لهم غايتهم في إصلاح أحوال الشعب. والأزهريون، في تاريخهم الطويل لم يَبْعُدوا عن الجهاد في أداء رسالتهم أو يَتَخَلَّفوا عن النهوض بواجباتهم.
فظلت راية الجهاد عاليةً فوق رءوسهم جيلًا بعد جيل، فعزَّ بهم الإسلام وسار بهم في العالَم مسرى النور في الظلام، وبَقِيَت الشريعة الإسلامية والثقافة الربانية تصدُر عن الأزهر إلى جميع بقاع الأرض فتُعَلِّم الجاهلين وتَهدِي المُدلِجين وتُوَضِّح للناس فضل الإسلام عليهم وعلى الحياة معًا.
وشارَك علماؤه في الحياة العامة مُشارَكة احتلوا بها مكان الصدارة في كل حركة وكل كفاح ضد المستعمرين وأعداء الدين.(1/1256)
وإذا رجعنا إلى التاريخ القريب، وجدنا كيف لجأت الجماهير إلى الشيخ أحمد الدرديري ـ رضي الله عنه ـ لرفع الظلم عنهم، فأمر بإعلان الثورة، والبَدْء في الاستعداد للقتال ضد المماليك الذين يَعْسِفُون بالرعية ظلمًا ونهبًا وإفسادًا، كذلك لجأت الجماهير إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي، فعقد اجتماعًا حضره العلماء أصدروا فيه قرارهم بإغلاق الحوانيت والأسواق والاستعداد للقتال ضد ظُلْم الحاكمين، وكان الأزهر مركز القيادة الشعبية في الثورة ضد الحملة الفرنسية، مما عرَّضه للضرب بالقذائف المُدَمِّرة وسقوط أبنائه وعلمائه ضحايا، وامتدت قيادة الأزهر السياسية للشعب إلى العصر الحديث عندما بدأت ثورة عرابي على الحكام، وأصدر علماء الأزهر في ذلك الوقت فتواهم الشرعية بخروج الخديوي على أحكام الدين، وبخيانته للأمة وتواطئه مع أعداء الإسلام.
وأدَّى ذلك إلى أن حركة العلماء عندما فَشِلت الثورة، كما حوكم زعماؤها وكان للأزهر أيضًا دوره القيادي المعروف في ثورة 1919م.(1/1257)
ما هو وضع الأزهر الآنَ في عصر الثورة العلمية الحديثة؟
لا شك أن الأزهر، وهو الأمين على رسالة الإسلام، يُؤَيِّد بكل فروعه وإمكاناته التقدم العلمي الحديث الذي يستهدف خير البشرية وسعادتها، وهو يُتابع مظاهر هذا التقدم ويؤصله في دراساته الجامعية ويُضيف إليه من هَدْي الإسلام ونوره، وتفد إليه للإفادة من دراساته وبحوثه وفود الطلاب في جميع أنحاء العالم، كما تفد إليه الرسائل والبحوث والاستفسارات ليجيب عليها ويضعها موضع العناية والاعتبار، كذلك يُرسل الأزهر علماءه وطلَّابه وبحوثه إلى المراكز العلمية في الخارج، وفي جامعات مصر والجامعات العربية والمدارس العربية والإسلامية يحتل العلماء الأزهريون أماكنهم ويحاضرون ويؤدون واجبهم العلمي والثقافي والاجتماعي.(1/1258)
في أثر مناهج الفكر الأزهري في الفكر الإسلامي والعالمي:
الفكر الأزهري هو جزء من الفكر الإسلامي، ومِن ثَمَّ فتأثيره في الفكر المحلي أو العالمي مظهر من مظاهر تأثير الفكر الإسلامي ككل، ولا شك أن عناية الأزهر بالدراسات العربية والإسلامية قديمًا وحديثًا جعلت للفكر الأزهري مكانة كبرى وسمعة وطيدة لدى مختلف الهيئات العلمية في المجالات العربية والإسلامية والعالمية، ونحن نلمس اهتمامهم بمعرفة رأي الأزهر في المشكلات العلمية والحيوية المُعاصرة، وذلك ما نتبادله مع هذه الجهات من رسائل ومكاتبات.(1/1259)
في اللغة العربية:
إن اللغة العربية ليست لغة وطنية فحسب، وليست لغة قومية فقط، ولئن كانت كذلك قبل الإسلام فهي بعد نزول القرآن بلسان عربي مبين، أصبحت تمتاز بخاصية أخرى، وهي أنها أصبحت لغة دينية على كل مسلم أن يتعلمها إذا أراد الدقة الدينية في دينه، والصحة الصحيحة، لإسلامه.
وكونها أصبحت بعد نزول الإسلام لغة دينية فإن ذلك لم يخرجها عن وضعها الأصلي وهو أنها لغة قومية، ودول وأقاليم عربية، فهي بالنسبة لهم أصلية ولغة دينية، وبالنسبة لغيرهم لغة دينية، وهي على كل حال بالنسبة لهؤلاء وهؤلاء لغة مقدسة. وما من شك في أن الإسلام لا يُشَجِّع على ترجمة معاني القرآن، وذلك لأسباب واضحة، منها: أن ترجمة القرآن إنما هي مُجَرَّد تعبير عن فهم المُترجِم فهي لا تُعَبِّر عما أراده الله، سبحانه، وإنما تُعَبِّر عن زاوية ضئيلة مما أراده الله، سبحانه، وقد يكون فهم المترجم مجرد خطأ، وهو على كل حال قاصر عن استيفاء جميع ما أراده الله، سبحانه.
والإسلام لا يشجع ـ أيضًاـ على الترجمة حتى لا يكون ذلك في الاستغناء بها عن تعلم اللغة العربية، مع أن تعلم اللغة العربية في النظرة الإسلامية من أهم الأمور؛ وذلك أنه كما يَربِط الدين بين شعوب لا يربطهم جنس واحد فإنه مما يُقَوِّي هذه الرابطة أن تكون هذه الشعوب مُتفاهِمَة بلغة واحدة، ومن أجل الدين ومن أجل قوة الترابُط بين الشعوب التي تَدِين به يجب تعلم اللغة العربية، ويجب فضلًا عن ذلك الاحتفاظ بها عن أن تُلَوِّثَها العامية على أي وضع من أوضاع التلوُّث، أي يجب الاحتفاظ بها عربية قرآنية صافية نقية.(1/1260)
ولكل ذلك فإن ترجمة القرآن بالنسبة للمسلمين لا تُعَدُّ قرآنًا، ويجب على المسلم أن يحفظ من القرآن قليلًا أو كثيرًا بحسب استطاعته، ويحاول فهمَه بحسب إمكانياته، وإن في قول الله ـ تعالى ـ (ما تَيَسَّرَ) سَعة لكل مستجيب لنداء الله ورسوله، والاستجابة إنما تكون بحفظ وتكرار ما تيسَّر من القرآن بلسانه العربي المبين، ونقول في ختام هذا في صراحة لا لَبس فيها، وفي وضوح لا غموض فيه: إن كل مَن يستطيع من المسلمين تعلُّم اللغة العربية، ولم يتعلمها فهو آثم دينيًّا، ونقول فضلًا عن هذا: إن كل مَن يستطيع أن يزداد تمكنًا من اللغة العربية في أسلوبها ومعانيها من العرب أنفسهم فلم يفعل آثم دينيًّا، ونقول في النهاية: إن كل دعوة إلى العامية في الأجواء الإسلامية، إنما هي إلحاد في دين الله، وإلحاد في حق الوطن الإسلامي.(1/1261)
في أهمية هبوط الإنسان على سطح القمر:
هذه مسألة تُعْتَبَر في الجو الإسلامي اكتشافًا لنواميس الله في كونه، وهي من المسائل العلمية التي يَحُثُّ الإسلام على الوُصول إليها، وحبَّذا أن يغزو الإنسان الفضاء وأن يكتشف ما فيه، وأن يغزو الكواكب.
وقد قال الله ـ تعالى ـ (يا معشرَ الجنِّ والإنسِ إنِ استَطَعْتُمْ أن تَنْفُذُوا من أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بسلطانٍ).
وغزو الفضاء مسألة من المسائل التي يحث عليها الإسلام ولا تتعارَض مع تعاليمه.(1/1262)
في التعريف بالعلاقة بين القمر والمسلمين والرؤية بشأن هذه العلاقة في المستقبل:
القرآن يقص عن سيدنا إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه حينما رأى القمر بازغًا: قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالِّين، ومعنى هذا الكلام أن من صفات الله أن لا يَغِيب، والقمر يَعتَبِرِه المسلمون كائنًا من الكائنات التي خلقها الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه في الوضع الإسلامي علامة لمعرفة الشهر العربي، وقال ـ تعالى ـ (ويَسألونَكَ عن الأهِلَّةِ قلْ هِيَ مواقيتُ للناسِ والحجِّ)، وليس له وضع أكثر من ذلك في العُرْف الإسلامي، وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته".(1/1263)
في بعض الناس يرى وجود حالة من الفقر في العالَم المعاصِر ومن ناحية أخرى فإن التخطيط لصناعة سفن الفضاء يحتاج لكثير من الأموال، ومثل هذه الأموال يجب أن تُنْفَق في سبيل الاحتياجات الأساسية للبشرية:
إن الدول التي تُنفِق الكثير من المبالغ في غزو الفضاء دول غنية لا يُؤَثِّر فيها إنفاق هذه المبالغ، على أن الحروب هي التي تستنفد المبالغ الهائلة، وهي التي تُعَمِّم الفقر في الدول.
أما غزو الفضاء فإنه كشف للمجهول في الكون، ولابد للإنسان من الوُصول إلى ذلك مهما أنفق في سبيله من مال.(1/1264)
في موضوع ملكية القمر:
القمر ليس مِلْكًا لأحد، وإذا كان هناك ما يُمكن أن ينتفع به فيما يتعلق بأرض القمر فيجب أن يُخَصَّص هذا عن طريق اتفاقات دولية لإزالة الفقر والمرض والجهل من الإنسانية وأن لا يكون القمر ملكًا لدولة معينة.(1/1265)
كم من أقطار الأرض الإسلامية يحكمون بما أنزل الله على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زماننا هذا؟
إن الاستعمار الذي جثم على صدر الأمم الإسلامية بذل جهده لمنعها عن العمل بالإسلام.
بل لقد فرض عليها قوانين من الغرب ومن أمريكا، وكان من فضل الله ـ تعالى ـ أن خلت البقعة التي كانت مهد الإسلام من الاستعمار ومن فرض قوانين أجنبية، فاستمرت تتعامل بالقانون الإسلامي. بيد أن الأمم الإسلامية وقد تحرَّر أكثرها من الاستعمار قد بدأت تتجه نحو تشريع إسلامي، وبدأت تُقَنِّن الشريعة الإسلامية كما تفعل مصر الآن، والله نرجو أن يكتُب لنا النجاح والنصر.(1/1266)
في الإسلام والشيوعية:
إن منهج الشيوعيين بالنسبة لضرْب الإسلام أصبح معروفًا لدى المعنيين بصلة الإسلام بالشيوعية.
والخطوة الأولى فيه هي مُهاجمة علماء الدين، مهاجمتهم بشتى الوسائل، بالكلمة والنكتة والمسرحية والتمثيلية، مهاجمتهم بالافتراء عليهم، وتلفيق التهَم ضدهم، والكذب يُلبسونه صورة الصدق، وهم يَرَوْن أن كل ذلك لا يُجدي إذا لم يكن هناك تكرار باستمرار، فالتكرار للفكرة يجعلها تستقر في الشعوب، ويجعل الجمهور يَسِير في التيار ويألَف ذلك، فلا يستثيره النيل من علماء الدين.
والشيوعيون في سبيل تحقيق هذه الدعوة والخطوات التي تتلوها يحاولون دائمًا وفي كل قطر أن يتغلغلوا في وسائل الإعلام شيئًا فشيئًا ويُصبحون أكثرية فيها، أو على الأقل يُصبحون من كبار المُوجِّهين فيها، إن منهجهم أن يستولوا على تصرُّف الأمور حسبما يحبون في الإذاعة والتليفزيون والصحافة والمسارح والسينما، وهم يُسخرون كل ذلك في تخطيط دقيق ليسير الوضع حسبما يشتهون.
فإذا نجحوا في هذه الخطوة ولو بعض النجاح فإنهم يبدءون الخطوة التالية وقد تتداخل الخطوتان ولكنهم يبدءون دائمًا بالهجوم على علماء الدين.
أما الخطوة الثانية: فإنها مهاجمة الدين في فروعه وفي تاريخه ومَن لهم القداسة من رجاله الأوائل، ومن هنا كانت الحملة مثلًا على سيدنا عبد الرحمن بن عوف، بل على سيدنا عثمان وهما من المُبَشَّرين بالجنة، ثانيهما اختاره المسلمون خليفة لهم، وعنه يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راضٍ".
عثمان الذي من أجله كانت بيعة الرضوان حينما أُشِيع أن المشركين قتلوه، وإذا صفا لهم الجو ولم يجدوا معارضًا يصل بهم التهوُّر إلى حد التهجُّم على آل البيت.
وإذا وجدوا أن الأمور تسير على هواهم بدءوا الخطوة الثالثة وهي: مهاجمة الدين في عقيدته وأركانه فيُنكرون وجود الله، وينكرون الرسالات ـ كل الرسالات ـ وينكرون البعث والقيامة.(1/1267)
وقد وصلوا في بعض البلاد الإسلامية إلى هذه المرحلة الثالثة، وسخِروا بالإيمان، وأعلنوا الكفر، ولكنهم هنا في مصر وصلت بهم الجُرأة إلى المرحلة الأولى والمرحة الثانية، وفي المرحلة الأولى وصل بهم الأمر إلى مُهاجمة علماء الدين في شيوخهم.
وهم بذلك يؤمنون أن المرحلة الأولى قد انتهوا منها، ولكن الله أخلف ظنَّهم فمهاجمة شيخ الأزهر جزء من مُخَطَّطِهم، وعلى الأمة أن تَتَنَبَّه لذلك، وأن تتخذ لكل خطوة ما يلائم وضعها موضع الإخفاق التام.
كيف تفسرون أن عدد مسلمي الاتحاد السوفيتي يقترب من 60 مليونًا في حين لا يحج منهم في العام أكثر من عشرة أشخاص على أحسن تقدير؟.
في عدة سنوات، مرَّ الحُجَّاج السوفييت بالأزهر، وقابلتْهم في كل مرة مرورًا بالقاهرة، إنهم في كل مرة ما كانوا يَزِيدون عن العشرة إلا قليلًا، والمرة الوحيدة التي كانوا فيها من الكثرة بمكان كانوا تسعة عشر، ولم تُكَرَّر.
وفي كل مرة سألتُهم: ليس من المعقول أن يكون بروسيا هذا العدد الكثير من المسلمين ولا يحج منها إلا هذا العدد الضئيل الذي لا تتجاوز نسبته واحدًا على خمسة ملايين.
فإذا بشفاههم ترتَجِف، وإذا بوجوههم تعلوها الصفرة، ويتطلَّع كل منهم إلى الآخر في نَوْع من الفزع، وذلك لأن ما قلتُه يُعتَبَر نقدًا، وإذا ما سكتوا عليه فإنهم يُسأَلون، ويكون هناك تحقيق يعقُبُه ما الله به عليم، وإذا أجابوا فبماذا يُجيبون!
ووقعوا في حَيْرة أسفْتُ لها، وأردت إخراجهم منها فقلتُ لهم: إن شاء الله يكون العدد في العام القادم كثيرًا.. وتنَفَّسُوا الصعداء.
ونتساءل: لماذا هذه القلة؟ والسبب معروف، وجود هذا الموقف العدائي من الشيوعية للدين، وماذا تُريد ممَّن لا دين له أن يفعل غير ذلك.
إن هذه القلة هي الوضع الطبيعي أما غير ذلك فهو الشذوذ.(1/1268)
فتوى عن الشيوعية:
لقد بدأ الكفر بالدين مع "ماركس" منذ ابتداء الشيوعية، فقد قال "ماركس" كلمته المشهورة: "إن الدين أفيون الشعوب"، ولقد تلقَّف "لينين" هذه الكلمة "لكارل ماركس"، وأعلن أن هذه الكلمة هي حجر الزاوية في الفلسفة الماركسية فيما يتعلق بالدين، إنه يقول حرفيًّا: قال كارل ماركس: إن الدين أفيون الشعوب الفقراء، وهذا هو حجر الزاوية في الفلسفة الماركسية جميعها من ناحية الدين، وتُعِدُّ الماركسية الديانات جميعها والكنائس وكل أنواع المنظمات الدينية آلة لرد الفعل البرجوازي، وفي المقدمة التي كُتِبَت لكتاب "لينين" ما يلي نصًّا: "الإلحاد جزء طبيعي من الماركسية لا ينفصل عنها"، ونتابع أقوال الشيوعيين عن الدين، يقول "لونا شارمبكي" الذي كان يومًا وزيرًا للتعليم في حكومة الشيوعيين: "نحن نكره المسيحية والمسيحيين، وحتى أحسن المسيحيين خلُقًا نُعِدُّه شرَّ أعدائنا، وهم يُبَشِّرون بحب الجيران، والعطف والرحمة، وهذا يُخالف مبادئنا، والحب المسيحي عقبَة في سبيل تقدُّم الثورة، فليسقط حبنا لجيراننا، فإن ما نريده هو الكراهية والعداوة.
وحين ذلك نستطيع غزو العالَم، إن تبشير المسيحية أو ـ بتعبير آخر ـ تبشير الأديان بحب الجيران والعطف والرحمة يُثير الكراهية في نفس الشيوعي.
إذ إنه لا يعرف إلا الحقد والكراهية والعداوة، وبهذه الكراهية والعداوة يستطيع ـ فيما يزعم ـ غزو العالَم.
والزعيم الشيوعي لينين يُعلن في وضوح سافر عن الصلة بين الدين والشيوعية بكلمات قليلة حاسمة، إنه يقول: "الماركسية هي المادية، ومِن ثَمَّ مُعادية للدين". أما البرنامج الذي وُضِع للمؤتمر الدولي الشيوعي السادس الذي عُقِد في عام 1928م فإنه يقول حرفيًّا: "إن الحرب ضد الدين وهو أفيون الشعوب تشغل مكانًا هامًّا بين أعمال الثورة الثقافية، ويلزم أن تستمر هذه الحرب بإصرار وبطريقة منظمة".(1/1269)
ولا يكاد لينين يَمَل الحديث عن الأديان ووجوب تحطيمها، إنه يتحدث عنها بمناسبة وبدون مناسبة.
ولقد كتب في يوم خطابًا للكاتب الروسي "مكسيم جوركي" يقول فيه: "إن البحث عن الله لا فائدة فيه.. ومن العبَث البحث عن شيء لم تضعه في مكان تخبئه فيه، وبدون أن تَزَرع لا تستطيع أن تحصُد، وليس لك إله؛ لأنك لم تزرعه بعد، والآلهة لا يُبحَث عنها وإنما تزرع، يخلقها البشر، يلدها المجتمع".
ومما سبق نرى أن الشيوعية مُعارضة للإسلام.
وهي في الأخلاق مُعارِضة للإسلام، وهي في الاقتصاد مُعارِضة للإسلام. وهي في كل هذه المعارضات، مُنكَرة مُتَعَمِّدة، بل سافِرة مُستَهْزِئَة، فهي إذن مُلحِدَة، لا يشكون هم في ذلك، ولا يشك فيه غيرهم، والواقع يكذب كل مماراة لهم، وهم في موقفهم أشد انحرافًا عن الإسلام من المشركين.
ولقد بيَّن الله الأحكام بالنسبة للملحدين والمشركين من هذه الأحكام، فالأحكام الخاصة بالزواج: مثلًا: يقول الله ـ تعالى ـ (وَلا تَنكِحُوا المشركاتِ حتى يؤمنَّ ولَأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتْكُمْ ولا تُنكِحُوا المشركينَ حتى يُؤمِنُوا ولَعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبَكم أولئكَ يَدعُونَ إلى النارِ واللهُ يدعو إلى الجنةِ والمغفرةِ بإذنهِ ويُبَيِّنُ آياتِهِ للناسِ لعلَّهم يتذكَّرونَ..).
فالمسلمة إذن لا تحل لشيوعي، فإذا كان اعتنق الشيوعية بعد الزواج، فإنها تُصبِح مُحَرَّمة عليه.
والمسلم لا تحل له الشيوعية، فإذا كانت اعتنقت الشيوعية بعد الزواج فقد أصبحت محرمة عليه.
وإذا مات الشيوعي أو الشيوعية فإنه لا يُصَلَّى عليه. ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين، ولا يَرِثه وارث مسلم، ولا يرث هو من الأقارب المسلمين.
وإذا تاب الشيوعي فإن باب التوبة مفتوح، والله يَبسُط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل": (ومَن يعتَصِمْ باللهِ فقدْ هُدِي إلى صراطٍ مستقيمٍ).(1/1270)
في طريق الفلاح حتى يتبعه مَن يُرِد الله به خيرًا:
يقول الله ـ تعالى ـ (يا أيُّها الذين آمنوا اركعُوا واسجُدوا واعبُدوا ربَّكم وافعلُوا الخيرَ لعلَّكم تُفلحونَ) والركوع والسجود علامتا الخضوع لله، سبحانه، والتواضع له، إنهما العلامتان الظاهرتان، ويجب أن تصحبهما علامة باطنية هي خضوع القلب أو سجود القلب، وسجود القلب، ظاهرة يجري وراء تحقيقها الصالحون باعتباره غاية سامية في أعراف المتقين، وإن التعبير الجاري الذي يقول: مَن تواضع لله رفعَه إنما يَعنِي على الخصوص هذا الذي تواضَع لله ـ سبحانه ـ بقلبه، وهو يُجاري قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الإمام مسلم، عن ثوبان مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "عليكَ بكثرةِ السجودِ؛ فإنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً وحطَّ عنك بها خطيئة" وقال ـ تعالى ـ: (واسجُدْ واقْتَرِبْ).
أي تواضَعْ لله ـ سبحانه ـ واخشع له واخضع؛ فإن ذلك وسيلة القُرْب منه ـ سبحانه ـ والقُرْب من الله هو مُنْتَهَى الرفعة للإنسان. ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أقربُ ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد".
وينصح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعو الإنسان ربه وهو في هذه الدرجة من القرب قائلُا: "فادعوا في سجودِكم فَقَمِنٌ أن يُستَجاب لكم".
والسجود الذي يُريده الله ورسوله هو ـ على الخصوص ـ العميق في النفس، والذي يتمثل فيه الشعور القلبي والرُّوحي بجلال الله وعظَمته، والذي تُصَوِّره هذه الشارة المعروفة من وضع الجبهة على الأرض، تُمَثِّل الخضوع لجلال الله وعظَمته، والانقياد المُطلَق لحكمته وعظمته الرحيمة ووُدِّه القريب، وتَقَرُّبه ممَّن تقرَّب إليه.(1/1271)
ومن الأحاديث ذات المغزى العميق في هذا ما رواه الإمام مسلم عن أبي فراس الأسلمي خادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن أهل الصفَّة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنتُ أبيتُ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآتِيه بوضوئه وحاجته، فقال: سَلْني.
فقلتُ: أسألُك مُرافَقَتَك في الجنة.
فقالَ: أوَ غير ذلك.
فقلتُ: هو ذاك.
قال: أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود.
والسجود ـ إذن ـ تعبير عن التضامُن لله، سبحانه، وعن الخشية والخضوع، وهو من أجل ذلك سبيل إلى الجنة، فما دام الإنسان يخشى الله فإنه يقوم بالواجبات والفروض، وينتهي عما نهى الله عنه، وتلك هي العبادة، وهي التقوى، وذلك هو معنى العبودية التي أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بها كثيرًا في القرآن وأمر بها في الآية التي نحن بصددها فقال: (واعبُدُوا ربَّكُمْ).
وإذا ما خشي الإنسان ربه فإنه لا محالة فاعل للخير؛ وذلك أن التزام أوامر الله واجتناب نواهيه هو الخير كل الخير.
فإذا ما حقَّق الإنسان السجود لله بمعناه الصحيح ـ مقدماته ونتائجه ـ فقد حقق سلوك طريق فلاح في الدنيا، وسلوك طريق الفلاح فيما يتعلق بالآخرة.
أما في الدنيا فإن الله ـ سبحانه ـ قد تكفَّل بمَن سجد له متمثلًا العبودية، يقول ـ سبحانه ـ: (ألَيْسَ اللهُ بكافٍ عبدَه).
ويقول: (ومَن يَتَّقِ اللهَ يجعلْ له مخرجًا ويرزقْهُ مِنْ حيثُ لا يحتَسِبُ ومَنْ يتوكَّلْ على الله فهو حسبُهُ).
ويقول ـ تعالى ـ في عموم وشمول عن الذين آمنوا وكانوا يتقون: (ألَا إنَّ أولِيَاءَ الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنُونَ. الذينَ آمنُوا وكانُوا يتَّقونَ. لهم البُشْرَى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ لا تبديلَ لكَلِمَاتِ اللهِ ذلكَ هو الفوزُ العظيمُ).(1/1272)
في حُرية الصحافة وأدب الجِنْس
الصحافة حُرَّة في حُدود القانون، وهي حُرَّةٌ في حدود الدستور، ولكنها مِن قبل ذلك وبعده حُرَّة في حدود الإسلام، ثم هي مِن قبل ذلك ومِن بعده حرة في حدود الأخلاق.
على أن القانون والدستور قائمانِ على أن دِينَ الدولة الإسلام، وعلى أن الخُلُق أساس المجتمع، وعلى أن كل تيار يَهْوِي بأفراد المجتمع نحو الشذوذ والانحراف إنَّما هو تيار آثِمٌ. نقول ذلك بمُناسبة الحديث عن حرية الصحافة والحديث عن أدب الجنْس.
وممَّا لا شك فيه أن أدب الجنس لا يَرْتبط بالخُلق الكريم إلا بالرباط العَكْسِيِّ، وأن الرجل الكريم على نفسه وعلى الله، لا يَنحدر إلى هذا المُستوَى المَكشوف الذي لا يتمثل فيه السُّمُوُّ الروحيُّ، وإنما تتمثَّل فيه الغريزة الشهوانية الجِنْسِيَّة في أحطِّ مَظهر يُمكن أن تظهر فيه.
وهذا الأدب الجنسيُّ يجدُ رواجًا لدَى المُراهقينَ، وهذا الرواج معناه ثورة طائلةٌ للمُؤلف، ومِن أجل ذلك، مِن أجل المال المُكتسب بطريقٍ خبيثٍ، يكتب الكتاب المُنحرفونَ عن أدبِ الجنْس، وهؤلاء الكُتاب لا يَعرفون المُثُلَ العُليا، ولا المبادئ الشريفة، وإنما همُّهم ـ كل همِّهم ـ المال مِن أجل اللذَّات، ومِن أجل الجنْس، أما الوطن ومَصلحته وأمَّا إفسادهم المُراهقينَ ونَشْرهم الفساد مُتأثِّرِينَ بأدبِ الجنْسِ.. فذلك لا يُثِيرُ ضَميرهم المُنْحَلَّ في كثيرٍ ولا قليلٍ.
ولقد سارت فرنسا في هذا الاتجاه بعد الحرب العالمية الأُولى، فكانت النتيجة أن دمرتْها ألمانيَا في أيامٍ مَعدودة، ولقد أعلن زعيمها المَرشال "بيتانُ" إذْ ذاكَ السبب في انهيارها، فلم يكن إلا انتشار أدَب الجنْس، والسير وراء كُتَّابِ أدَب الجنْس لتَحقيق مُثُلِهِمْ السافِلة.(1/1273)
هؤلاء الكُتَّابُ مَثَلُهُمْ في الوطن كمثل الميكروب الخبيث، بل إن خَطَرهم أشدُّ، وكما تُحارب الدولة الميكروب فتقضي عليه بالوسائل المناسبة فكذلك الأمر بالنسبة لهؤلاء الكُتَّاب الذين تتمثَّل فيهم العَداوة الكاملة للفضيلة وبالتالي للوطن.
ولا يجوز أبدًا أن تُتَّخَذَ حرية الصحافة دِعامة ليقول الكاتب ما يشاء، فإن مُقدَّساتِ الأمة إذا هُدِّمَتْ بالأقلام الخبيثة فإن مصير الأمة إلى الانهيار.
وعلى هذا يجب ـ في منطق الأخلاق والوطن، ولمَصلحة الأخلاق والوطن ـ أن تَضرب الدولة بيدٍ مِن حديدٍ على كل مَن يَعِيثُ فَسادًا في مُقَدَّساتِها، وأخلاقها ودِينها، مُسَمِّيًا الدعوةَ السافرة إلى الانحلال أدبًا، وما هي إلا انعكاسات ضحْلة، ظهرت على قلَمِ كاتبٍ لا يَمُتُّ إلى الفضيلة بصِلة.
ورَجاؤُنَا ـ إذنْ ـ حِفاظًا على الدين والأخلاق والوطن، وإنقاذًا للمُراهقين، أن تتكون في الدولة رِقابة خاصَّة بالكُتُبِ والصحف ووسائل الإعلام تُراعي المُثُل العُليا والمبادئ الشريفة.(1/1274)
على مَرِّ السنين كان الأزهر يَقْصر دوره على ميدان المُسلم
فهل مِن جديد عن الميدان الآخر، ميدان المرأة المسلمة، التي
تُعْتَبَرُ النَّبْعَ القَوِيمَ لتأصيل القيَم الدينية والروحية في نفوس النشء؟
الأزهر حِصْنُ الثقافة الإسلامية وتُراثها الأصيل في شتَّى جوانب الفكر، والحفيظُ على القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المُطهَّرة، والقيِّم على حِفْظ وِعَائِهِمَا، وهو اللغة العربية، وبذلك الْتَقَتِ العُروبة والإسلام، في مُحيط الثقافة التي أفاضَها القرآن وامْتَزَجَتَا، وصَارَتَا وحْدةً لا انفكاكَ فيها.
وبقي الأزهر على مرِّ الدهور مركزًا حَصينًا لصِيانة هذا التراث بفضْلِ ما بَذلت مصر في سبيل الحفاظ عليه والحمد لله.
وقد أمَّتْ أُمَمٌ شتَّى ـ مُمثَّلةً في صَفْوَةٍ مِن بَنِيهَا ـ الأزهرَ الشريف، فانْتَهَلُوا مِن مَعِينِهِ، وتَفَيَّئُوا ظِلالَه، وعادُوا إلى بلادهم بعدَ ربهم داعينَ قومَهم إلى الله على هُدًى وبَصيرة.
على أن الأزهر لم يقْتصر دوره على المسلم فقط، بل له دوره الفعَّال بالنسبة للمرأة المسلمة ـ أيضًا ـ فكلية البنات الإسلامية تابعةٌ له، ومِن مُميزات هذه الكلية أنها لا اختلاطَ فيها، وفيها تَنْبِيهَاتٌ على ضرورة الالْتزام بالزِّيِّ الإسلامي، ليَكونَ قُدوةً.
وللكلية قيادةٌ حازمة رشيدة، وقد اتَّسعت هذه الكلية الآن، وتَمُدُّهَا روافدُ مِن المعاهد التي توسَّعنا فيها للبنات، لتكون روافدَ طيبةً لهذه الكلية.
وقد أقبلتْ عليها وافداتٌ مِن البلاد الإسلامية بشكلٍ كبير، نَظَرًا لعَدَمِ الاخْتلاط ولتدريس المناهج الإسلامية، حتى في الكليات العمليَّة.(1/1275)
متى نحصل على رجلِ دِينٍ بالمعنى الحقِّ؟
وهل يُمكن أن يكون الأزهر بمَعاهده المختلفة،
ودراساته الدينية "فقط" سبيلنَا إلى هذا؟
أو أن الأمر يحتاج إلى روافدَ أُخرى؟
ليس في الإسلام رجلُ دِينٍ بالمعنى المَفهوم، فكل مُؤمنٍ مُكلَّفٌ بالدعوة إلى الله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ باللهِ). وإنْ دَعَتِ الضرورة إلى التخصُّص في طلب العلْم، وإتقان أساليب الدعوة وعُلومها، نظرًا لمَا جَدَّ ويَجِدُّ مِن تَشابُكِ وتَبايُنٍ في مَصَالِحِ الناس وحياتهم اليومية: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إليهمْ لعلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
على أنه يُشترط في الداعي قبل كل شيء: الإخلاصُ لله، وأن يجعل مِن نفسه قُدْوةً، وأن يتسلح بعُلوم العصر، وأن يكون مُستنيرًا بالثقافة العامة؛ ليَستطيع أن يُواجه الدعواتِ الهدَّامةَ والنِّحَلَ الضَّالَّة، والمِلَلَ الخاطئة، وأن يُلِمَّ بلُغةٍ أجنبيةٍ أو أكثر.
ولذلك أنشأنا كليةً للدعوة في "طنطَا"، وقد بدأت فيها الدراسة بالفعْل وستُفتح كليةٌ أخرى للدعوة في القاهرة، وأخرى في المنوفية، ونأمل أن يكون البرنامج المُنتقَى لهذه الكلية وافيًا بالغرَض، وأن يُؤدي فيها أساتذةٌ مُتخصِّصونَ على دِرايةٍ واسعةٍ بأهداف الكلية، وحاجات العصر وحقائق الدين ورُوحه. (تَمَّ في عهد الإمام الأكبر: عبد الحليم محمود شيخ الأزهر تحقيق تنفيذ هذه الكليات بالإضافة إلى كلية البنات الإسلامية بأسيوط، وكليات أصول الدين، والشريعة بالمنصورة، والشريعة بطنطا، وتمَّ افتتاح حوالي: 1000 معهد ديني بين ابتدائي وإعدادي وثانوي).(1/1276)
وعندي مِن المشروعات ما يكفل للإمام والداعية ورجل الدين الحياة الكريمة، والإعدادَ السليم، ونسأل الله المعرفة لإخراج كل ذلك إلى حيِّز الوُجود والتنفيذ.
وأرى أن المكان الطبيعيَّ لكل ذلك إنما هو الأزهر، الذي حمَل أمانة الدعوة أكثر مِن ألف عام. وفي كلياته العِلْمية والعملية ما يكفل ازدهار الدعوة إن شاء الله.(1/1277)
العالِم الفرنسي: "أندريه بوشان" يُنكر شَقَّ البَحْرِ كمُعجزة،
مُعلِّلًا ذلك بأسباب بَيلوجية وطبيعية فما رأْيُ فضيلتكم في ذلك؟
المُعجزة أمر خارق للعادة، يُظهره الله على يدِ مُدَّعِي النبوة، تصديقًا له في دعواه كما قال علماء التوحيد.
فهي أمرٌ مُعْجِزٌ، وخارقٌ للعادةِ، أيْ لا يَجرِي على سُنَنِ المألوف والعادة في حياة الناس، ويُؤيِّد به الله ـ تعالى ـ الرُّسُلَ تصديقًا لهم في دعوتهم، ليحيَا مَن حَيَّ عن بَيِّنَةٍ، ويَهْلك مَن هلَك عن بيِّنة، وللمُعجزة تأييد مِن الله القويِّ القادر، الذي لا يُعجزه شيء، ولا يَعجز عن شيء.
والعقل البشريّ مهما سمَا وعَلَا وارتقَى، فهو مَحدودٌ وقاصِر، وإدراكاته محدودة، ومَعارفه ـ كذلك ـ تُحَدُّ بقُيودٍ وحُدود وتفاوُت، والنظريات العلْمية مَحكومة بقوانينَ ونظرياتٍ معروفة، فكيف يتأتَّى لعقْلٍ بشريٍّ أن يحكم على مُعجزةٍ بالإمكان أو عدَمه؟
أَولَى بالإنسان أن يعرف قيمتَه، وأن يُسهم في مُحيطه الضيِّق، وأن يَجُول في مجالاته التي يقدر عليها، وتُتاح له بتوفيق الله ويُسْره ومَعونته.
والمُتتبع للبشرية ـ حين وَعَتْ على مدار تاريخها، ويرى أن مِن شأن الطفولة البشرية التمسُّك بالماديات، والوقوف عند المَلموس المَحسوس، والتجسيد والوُقوف عند الأشياء المادية وحدها، وقياس كل شيء بمقياس العقل والموازين البشرية.
ومِن شأن الرُّشْد الإنساني التجريد، والتنزيه، وعدم الوُقوف في دائرة المَحسوس وحْده، وإكبار شأن العقل فيما وَصَل إليه فقط.(1/1278)
والإيمان بأن قدرة الله ـ تعالى ـ وعظمته لا تقف عند حدٍّ، ولا تُحيط بها العقول، ولا تَحُدُّهَا الأفْهام، ولذلك كان الإيمان بالغيْبِ مِن صفات المؤمنين الذين ـ رضي الله عنهم ـ ورَضُوا عنه: (الم . ذلكَ الكتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الذينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذينَ يُؤمنونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنونَ أُولئِكَ علَى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ همُ المُفلِحُونَ).
فنحن نُؤمن بما جاء به كتابنا ـ وما حدَّثنا به نبيُّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونعتقد بوُقوع المُعجزات لأنبياء الله ورسله ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أجمعين.(1/1279)
استلْهام الدِّين في الثقافة الجنْسيَّة
للإسلام فِكْرتُه ونظامه ومَنطقه في السلام، وللإسلام فكرته ونِظامه ومنطقه في الحروب: أسبابها، والاستعداد لها، وبَعْثُ الرهْبة في نفوس الأعداء، وموقف الجندي فيها، ومُعاملة الأسرَى، وتحديد جزاء المُقبِل المُتفانِي، وعِقاب المُدْبِر المُتخلِّف، وللإسلام فِكْرته ونِظامه ومَنطقه في التجارة، مِن بيْع وشراء وكتابةِ عُقود. وللإسلام فكرته عن النظافة التي يُسمِّيها التطهُّر، أو الطهارة: طهارة النفْس، طهارة النِّيَّة، طهارة الضمير، طهارة الجسد، طهارة الثوْب وطهارة المكان.
لقد حدَّد الإسلام ونَظَّم كلَّ أمرٍ سواء في ذلك ما اتَّصل بالمادة أو ما اتصل بالأخلاق، أو ما اتصل بالغيْب، أعنِي ما وراء الطبيعة، ولقد وَصَلَ في ذلك إلى أُمورٍ غير مُتوقَّعة في نظام عامٍّ ككيفية الجلوس: الجلوس في الطرُقات، وفي الأماكن العامَّة، وفي غيرها وآداب ذلك، وتَدخَّل حتى فيما يراه الإنسان في أثناء سيْره، وما يجب عليه بصَدده، بل تَدخَّل حتى في أسماء الأشياء فالحروب سمَّاها: "الجهاد" والنظافة "والطهارة" فتدخُّله في الأسماء نفسها إنما كان الهدف منه السُّمُوَّ بها، وبمَوضوعاتها إلى مستوى إنساني روحي يُبعدها عن أن تكون فسادًا أو سببًا في فساد.
على أن تغيير الأسماء الهدف الإسلامي منه الجوهر، وليس الهدف منه الشكل كما يبدو لأول وَهْلَةٍ ففكرة: "الطهارة" تَستنكر فكرة الأناقة مِن أجل الإغْراء، وفكرة: "الجهاد" تَستبعد فكرة الحرْب من أجل السيطرة وامتصاص الدماء واستعباد الأمَم.
إذنْ للإسلام إصلاح في كل ميدان. وتنظيم في كل مجال. ووضَعَ القواعد لكل أمر. ووَضَعَ الأمور في نِصابها، سواء منها ما تعلَّق بالشخص نفسه، أو في صِلَتِه بأُسرته، أو في صلته بالمجتمع الذي يعيش فيه، أو العالَم الذي يُحيط به ذلك هو الإسلام.(1/1280)
فليس مِن الغريب ـ والأمر كذلك ـ أن يتحدَّث القرآن عن الحياة الجنْسية، والحياة الجنسية تحتلُّ في عالَمنا الحاضر مكانًا كبيرًا، فالكتب فيها تُؤلَّف بكثرةٍ، وتَنْتَشِرُ على نِطاقٍ واسع، بعد أن يُطبع منها الآلاف.
بيد أن السِّمَةَ الغالبة عليها إنما هي اللهْوُ والعبَث وإثارة الغَرائز، ولهذا الطابَع نفسه نالت رَواجًا كبيرًا، فالفتاة تَقرؤها في خِدْرِها مُتخفِّيةً، والشاب المُراهق يلتهم صفحاتها الْتهامًا.
وفي المساء ـ عندما يَستلقي كل مِنهم على فِراشه تأخذ الفتاة ويأخذ الفتى في أحلام اليَقظة المُتصلة بما قرأ.
مِن أجل ذلك حاول المُصلحون أن يقوموا في وجه هذا الفساد الذي يَسري بسرعة، والذي لا يَقتصر شرُّهُ على ساعات تضيع عَبَثًا في القراءة، وعلى ساعات تضيع عبثًا في التخيُّل والأحلام، وإنما يتجاوز الشر في ذلك إلى تنفيذ الأحلام والتخيُّلات عمليًّا، فتتحقَّق الرذيلة وتنهار دعائمُ الفضيلة.
ولكن المُؤسف أن الجرائد لا تَستجيب إلى هؤلاء المُصلحين، فلا تَفسح صدْرها لآرائهم؛ ذلك أن الجرائد نفسها ترى وتلمس أن مِن الوسائل التي تكون عاملًا في انتشارها إثارة الجنْس.
ولذلك تَنشُر الصُّوَر المُثيرة والأخبار الفاضحة، والألاعيب والحِيَل، التي يستعملها مُمَزِّقُو الأعراض وجارِحُو الفضيلة.
بَيْدَ أننا لا نكون مُنصفين إذا قصَرْنا الحديث على هذه الكتب العابثة، فهناك لون آخر مِن الكتب تتحدث عن الحياة الجنسية بطريقةٍ عِلْمية، وتشرح آراء "فرويد" وآراء مدرسته، وتدعو فيما يدعو إلى إدخال التعليم الجنسيِّ بطريقة مُنظمة في المدارس، وتزعم أنها بذلك تتلافَى الضرر الذي يحدث عن طريق هذه الكتب العابثة.(1/1281)
وهذه الفكرة الأخيرة قد جُرِّبت في عالَم الغرْب، فكانت النتيجة على عكس ما تَصوَّروا، وفَشِلت التجربة فشَلًا ذَرِيعًا، ونحن في الشرق، وسِمَتُنَا التقليد اللاواعِي في عالَم الفتْنة، نُريد أن تفعل ما فعَل الغربيون وفشلوا فيه.
أما التفكير النظري العلْمي في هذا الجانب، أعْنِي ما يفعله علماء النفس عندنا مِن شرْح آراء فُرويد ومَن نهَج نهْجه، فإنه تفكير مُضطرب كشأن التفكير النظري عامةً، وإذا نَسِينا، أو تناسَينا هذا التغيير المُستمر في التفكير النظري، فإن ذلك لا يمحو ولا يُزيل الحقيقةَ الصارخة، وهي أن التفكير النظري في تغيُّر مستمر، فما أثبته بالأمسِ، يَنْقُضُهُ اليوم، وما ابتدَعه في الآونة الراهنة، يُحطمه في الغد القريب.
ومِن المَعروف أنه بمُجرد ظهور نظرية: "فُرويد"، قام في وجهه ـ مِن علماء الغرب نفسِهِ ـ المُعارضونَ والمُهاجمونَ.
ومدرسة: "فرويد" نفسها ليست مدرسةً مُحدَّدةَ الآراء، وليست مدرسةً تُلازم فكرة زعيمها دون مُخالفة أو نقْض سواء فيما يتعلق بالأُسس أو فيما يتعلق بالنتائج.
وإذا تأمَّلْنا بعد ذلك أن الآراء البشرية خطَّاءة مُتعارضة مُتناقضة، فإننا لا نقول إلا شيئًا بدَيهيًّا بمعرفة مَن له صِلةٌ بالتفكير البشري.
في وسَط هذه الحَيرة كان لابد أن تتطلَّع إلى ملْجأٍ يَعْصِمُها مِنَ الزَّلَل. وهذا الملْجأ العاصِم المَعصوم هو الدِّينُ.(1/1282)
حول فيلم محمد رسول الله أو الرسالة
إن قرار مَجْمع البحوث الإسلامية فيما يتعلق بفيلم: "محمد رسول الله" لا يحتاج إلى رؤية الفيلم، فإنَّ القرار مُنْفصِل عن هذا الفيلم وعن غيره مِن الأفلام.
والقَرار يُقِرُّه كل مسلم؛ لأنه تقديس واحترام لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته، إنه يقول: لا يَجوز مُطْلَقًا أن يظهر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أحد مِن الصحابة على الشاشة وذلك لأمور:
أولًا: يعترف المسلمون جميعًا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل البشر، وخير المَخلوقين، وصُورته المعنوية في أذهان المسلمين صورة مُستمدة مِن إيمانهم وعقيدتهم، بأنه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ على الذِّرْوة مِن الخُلق الكريم، ولا يتأتَّى تَمثيلُه في صورة تنزل بمَكانته الرَّفيعة وبقُدسيته التي فَرَضَتْها الرسالة.
والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أثنى عليهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووَصَفهم بالحميد مِن الصفات، وتمثيلهم نُزولٌ ـ أيضًا ـ بهم عن مَكانتهم الشريفة.
مَن هو ذلك المُمثل الذي يُمثل شخصية أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وعثمان، وعليّ وأبي عبيدة؟ ومَن هو المُمثِّل الذي يَستطيع أن يُمثل سيد الشهداء حمْزةَ عمَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم؟ إنَّ كل تمثيلٍ لسيد الشهداء نُزولٌ به عن مَكانته، فمَن يُدانيه حتى يُمثله..؟ هذا أمر.
والأمر الثاني: هو أن المُمثِّلينَ يَرتبطون في أذهان المُشاهدين بعِدَّةِ مواقفَ مَثَّلوها مِن قبلُ، بعضها عابث، وبعضها عريقٌ في الإجْرام، وبعضها يُساهم في مواقف الغَرام بحظٍّ مَوْفور، فكيف نُبيح لأمثال هؤلاء الذين يرتبط ماضيهم بهذه المَواقف التمثيلية أن يَقتحموا حِصْنَ القداسة؛ فيُمثلوا حمزة أو يمثلوا أبا بكر؟(1/1283)
ثم إن هؤلاء المُمثِّلينَ سيُمثِّلون في مُستقبل حياتهم أدوارًا أخرى، أدوار المُهرِّبين أو اللصوص، أو العُشَّاق، أو المُهرِّجين، ولا يَسمح الأزهر والصورة هكذا بأن يُمثَّل الصحابةُ على الشاشة.
والأمر الثالث: الذي مِن أجله يَمنع الأزهر تمثيل الصحابة: هو الجانب التاريخي الإسلامي مُمثلًا في الصحابة، وهذا الجانب قولٌ فيه عبارة عن وثيقةٍ ودِينٍ يُعمَل به، ويُحتَجُّ به، وكل انحراف فيه له خُطورته، ورَدْعًا لكل انحراف، وتلافيًا لكل خطأ، فإن الأزهر يمنع تمثيل الصحابة.
وأمر أخيرٌ في غاية الأهمية، ذلك هو تفسير التاريخ على ضوْء أحداث العصر والبيئة والمَبادئ المُعاصرة، وفهْمُ الشخصيات في ضوء المبادئ السائدة، وذلك في غاية الخُطورة وهو تزييف للتاريخ، ومِن أمثلة ذلك ما حدث فعلًا في تمثيلية أبي ذَرٍّ الغِفاريّ، التي عرَضها التليفزيون علينا في يوم مِن الأيام.
لقد كانت مَهْزلةً؛ فأبو سفيان عابثٌ صاحب خمْرٍ ونساء، وهو مَن هو اتزانًا وحِكمةً، وعبد الرحمن بن عوف إقطاعيٌّ بالمعنى الذي تَعْنِيهِ الكلمةُ في العصر الحاضر، وهو المُبَشَّرُ بالجنة، وهذا وذاك مِن الصحابة في صورة هي مَسْخٌ للتاريخ.
وإذا نظرنا في إخلاصٍ إلى كل هذه الأسباب مُجتمعة فإننا سنُقِرُّ وِجْهَةَ نظر الأزهر، وهي وجهةُ نظرٍ لا تَرتبط ـ كما قلنا ـ برؤية الفيلم؛ لأنها مُنفصلةٌ عن الرؤية، وذلك أن أُسُسَها مبادئُ مُحدَّدةٌ باقية على مَرِّ الزمن.(1/1284)
في خُلُق الداعية
تحدثتُ عدَّة مرات عن خُلق الداعية، وكنتُ كل مرة أُبَيِّنُ أن العُنْفَ في القول، وأن القسْوَة في التعبير، وأن الإساءة إلى الناس ـ مَيِّتِينَ أو أحياء ـ لا يتناسبُ مع قول الله ـ تعالى ـ: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُمْ بالتِي هِيَ أحْسَنُ).
وكنتُ أُبَيِّنُ أن الرِّفْق في القول، واستعمال الحِكْمة، والأخذ في المَوْعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن مِن خُلُق الإسلام الحميدة، ومِن وسائل النجاح في الدعوة.
وكنتُ أضرب الأمثلة على ذلك ومِن تلك الأمثلة:
أنَّ واعظًا ذهب يَعِظُ المأمون فكان عنيفًا في الأسلوب، قاسيًا في التعبير، فقال له المأمون: يا هذا إن الله ـ تعالى ـ قد أرسل مَن هُمَا خيرٌ مِنْكَ، وهما موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ إلى مَن هو شَرٌّ مِنِّي، وهو فرعون، فبماذا نَصَحَهما ـ سبحانه؟ إنه ـ تعالى ـ قال لهما: (فَقُولَا لَهُ قولًا لَيِّنًا لعلَّهُ يتَذكَّرُ أو يَخْشَى).
لقد وَعَظَهُ المأمون ووقف منه موقفَ المُرشد مُتَتَبِّعًا التعاليمَ الإسلامية. ولقد ذكرتُ كمثال أيضًا: أن الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ كان يُصلِّي الصبْح في يوم مِن الأيام بالقُرْبِ مِن ضريحِ الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ومذهب الإمام الشافعي القُنُوت في الصُّبْح، ومذهب الإمام أبي حنيفة القنوت في الوِتْر، فترك الإمام الشافعي مذْهبه، وهو القنوت في الصبح آخِذًا بمَذهب أبي حنيفة في ترْك القنوت في صلاة الصبح، وترْك القنوت لا يُبطل الصلاة، وما دام الأئِمَّة قد اختلفوا في الصلاة التي يُترك فيها القنوت وفي الصلاة، التي يَقْنتُ فيها الإنسان، فَلا ضَيْرَ على مسلم في أن يَتَّبِع مذهبًا منها، وليس في هذا مُجاملة في الصلاة، فلم يترك الإمام الشافعي رُكْنًا مِن أركانها، ولا وَاجِبًا مِن واجباتها.(1/1285)
وقد قَنَتَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصبْح، وقنَت ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ في الوِتْر، فمَن قنَتَ في الصبح فقد أخَذَ بسُنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي ثبتت عنده، ومَن قنَتَ في صلاة الوتر فقد أخَذ بسُنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تَثْبُتُ عنده، وصلاة كلٍّ منهما صحيحة.
وإذا أُقيمت كما يُحب الله ورسوله، فإنها تُثْمِرُ ثَمَرَتَهَا وهي الانتهاء عن الفحْشاء والمُنكَر: (إنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ). ونرجو الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يَهدينا إلى صراطٍ مُستقيم وأن يَرْزُقَنَا التوفيق في الدعوة إليه بالحِكْمة والمَوْعظة الحَسَنة والجدال بالتي هي أحسن.(1/1286)
في منزلة المسجد الأقْصَى بالنسبة للمسلمينَ
إن منزلة المسجد الأقصى بالنسبة للمُسلمين منزلةٌ عظيمة، إنه أحَد مُقدَّساتهم، وله في نُفوسهم منزلةٌ كبيرة منذُ أن أُسريَ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يقول ـ تعالى: (سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسجدِ الحَرامِ إلَى المَسجدِ الَأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ). لقد بارَكه الله، وبارَك ما حوله مِن أماكنَ وبِقاعٍ ببَركات الدِّينِ والدنيا، وفي ليلة الإسْراء المُبارَكة جمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأنبياء والرُّسُل ليُصلِّي بهم في المسجد المُبارَك، فلمَّا اصْطَفُّوا للصلاة أخَذ جبريلُ ـ عليه السلام ـ بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقدَّمه إمامًا لهم جميعًا، فدلَّ ذلك على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المُقدَّم، ودلَّ أيضًا بطريق الرمْز والإشارة، بل بطريقٍ واضح لا لَبْسَ فيه، على أن الكلمة الأُولَى والقيادةَ المُباشِرة في بيت المقدس يَجِبُ أن تكونَ للمُسلمين، إنَّ بيت المَقْدِسِ هو أُولَى القِبْلتينِ، وهو ثاني المَسجدينِ، وهو ثالث الحرمينِ، ثم إنه مَسْرَى خاتم النبيينَ، وهو مِعْراجُه إلى السماواتِ العُلا؛ حيثُ رأى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ سِدْرَةَ المُنْتَهَى عندها جنَّةُ المأْوَى؛ إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغشَى مَا زاغَ البَصَرُ وما طَغَى، ولقد تفضَّلَ اللهُ عليهِ وأنعمَ؛ فأَراهُ مِن آياتِه الكُبْرَى.
ومِن مَظاهر تقديس المسلمين أن سيدنا عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان إذا دخَله لا يَشرب مِن مائهِ، وذلك ليُجِرِّدَ قَصْدَهُ عَن كلِّ شيء سوى الصلاة، وهذا مِن دقائق المُلاحظات عند هذا الإمام الجليل، ها هو ذا إذَنْ المَوقف الذي يجب أن يكون للمسلمين فيما يتعلق بهذا المسجد؟(1/1287)
إن قَداسة هذا المسجد ووُجوب المُحافظة عليه لا تَختصُّ بأُمَّةٍ مِن أُمَم المسلمين دون أخرى. فجميع المسلمين في مشارق الأرض ومَغاربها أفرادًا وجماعاتٍ وأُمَمًا يجب عليهم جميعًا المُساهمة الفعَّالة في استرداده والمُحافظة عليه والقيام على شُئونه، وكمَا أصْلَحَه سيدنا عمر بن الخطاب وهيَّأَهُ تهيئةً كريمةً حينما فتح القدس، فكذلك يجب على المسلمين أن يَتَوَلَّوا مِن شأنه الكبيرَ والصغيرَ، وأن لا يُفَرِّطُوا فيه وهو مِن مُقدساتهم.
وأن أرواح الشهداء الذين فَتَحُوا القدس، وأرواح شهداء الحروب الصليبية، ورُوح صلاح الدين لَتُطِلُّ على المسلمين جميعًا مُنتظرةً منهم البطولة والتضحية التي تُرضي اللهَ ورسوله.(1/1288)
في موقف علمائنا مِن أخلاقيات اليَهود وجرائمهم
إن اليهود منذُ أن وُجِدُوا لم يَنقطعوا عن ارتكاب الجرائم في عهد مِن العهود، إن الشر طبيعةٌ فيهم، ولم يَسْلَمْ أحدٌ مِن أذاهم، لقد قالوا عن الله ـ تعالى: إنه فقيرٌ ونحنُ أغنياءُ، وقالوا عنه ـ سبحانه: يد الله مَغْلولة.
ورد عليهم بقوله: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِمَا قَالُوا). ولعنةُ الله قد صُبَّتْ عليهم لأسباب كثيرة، منها نقْضهم العهْد والمِيثاق، يقول ـ سبحانه: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ). منها ما عبَّر اللهُ عنه بقوله: (لُعِنَ الذينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسرائيلَ علَى لِسانِ دَاودَ وعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ).
ولقد أخَذ الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليهم أيضًا أنهم قالوا على مريمَ بُهتانًا عظيمًا، لقد اتَّهَمُوها وهي الطاهرة المُطهَّرة بالمُنكر والفحشاء، وسبُّوها في عِرْضِهَا وشرَفها وهي المُبَرَّأَةُ التَّقِيَّة.
ولا يُستَبْعَدُ على اليهود أيُّ جريمةٍ مِن الجرائم، وكُتُبُ التفسير التي ألَّفها العلماء منذُ القرن الثاني للهِجرة إلى الآن ـ وهي مِن الكَثْرة بحيثُ لا تكاد تُعَدُّ والكُتب الخاصَّة باليهود التي ألَّفَها العلماءُ ـ أيضًا ـ وحديث العلماء في الإذاعات والتليفزيون والصحف والمجلات، وخُطبهم في المساجد، ومُحاضراتهم في الأندية، كل ذلك شاهد على أن العلماء منذ العصور الأُولَى للإسلام لم يُقصِّروا في واجب، ولم يُقصروا في بيان الحق.
وها هم أولئكَ على خُطوط المُواجهة مع الجنود جَنْبًا إلى جنْبٍ أمام الأعداء يَقُومونَ بدَوْرِهم، ويُؤَدُّونَ واجبَهم، ويشهد بذلك قادةُ الجيش أنفسهم.(1/1289)
أمَّا إذا لم يُحِطْ شخصٌ عِلْمًا بكل هذا الذي أدَّوْهُ ويُؤَدُّونَهُ، فإن مسئولية ذلك لا تقع عليهم، وإنما تقع على الذين يُصدِرون الآراء دون عِناية بدِراستهم.(1/1290)
في فلسفة مؤتمر مَجمع البحوث الإسلامية بالنسبة للعُدوان الإسرائيلي:
يَنطلق المُؤتَمَر في مُواجهة العُدوان الإسرائيلي على البلاد العربية والمُقدَّسات الإسلامية مِن مبدأٍ فكريٍّ مُعيَّن، هو أن الصراع القائم في المِنطقة له واجباتٌ مُختلفة وله جُذور تمتد إلى مجال العقائد نفسها.
فالصهيونية وإنْ كانت تُمثِّلُ أطماعًا سياسيةً واستعمارية مُعيَّنةً، فإنها ترتكز في فلسفتها وفي تجميع الآراء حولها على قاعدةٍ عقائدية تدِينُ بالعنصرية وبتفوُّق الجنْس، كما تدين بكَراهية الأديان والعقائد المُخالفة كافَّةً، وتعمل على تدميرها، وتحقير أصحابها ووَضْعِهِمْ في مواضع الذُّلِّ والضعف والتبعيَّة، ومِن ثَمَّةَ كان لابد مِن عقيدةٍ تُواجِهُها، وكان لابد لهذه العقيدة مِن أن تَدينَ بمَبادئَ مُخالفةٍ للصهيونية في جَوْهرها، لابد لها مِن أن تكون قائمةً على السماحة وتكريم الإنسان وحرية الرأي والشمول الإنساني، وهذه العقيدة التي يدعو إليها المُؤتمر في مُواجهة الفلسفة الصهيونية العنصرية هي بالبَداهة عقيدةُ الإسلام هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أخرى فإن البشر الذين ينبغي تكْتيلهم للوقوف موقف الدفاع ضدَّ أصحاب العقيدة الصهيونية الباغية، كان لابد مِن أن يرفعوا لهم شِعارًا عقائديًّا ناضجًا، يُواجه شِعار الصهيونية الفاسدة، ومِن غير التوصُّل إلى مِثْلِ هذا الشعار تذهبُ سُدًى كل الجهود التي تُبذَل للتجميع والتوحيد.
ومِن هنا يُدرِك المؤتمر أن شعار الإسلام هو الكفيل بتحقيق الوحدة المَأمولة لكلِّ راغبٍ في الدفاع عن المُقدَّسات ومُدافِع عن الكرامة.(1/1291)
في دَعْم المَعاهد الأزهرية
إن المعاهد الدينية تُشكل القاعدة العريضة في الهيكل التعليمي للأزهر الشريف وقمَّة هذا الهيكل هو جامعة الأزهر، وهذه الجامعة كانت فيما مضى تضمُّ كلياتٍ ثلاثةٍ هي: كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وكلية اللغة العربية، وتُعْنَى هذه الكليات بعلوم العقيدة والشريعة واللغة العربية، ويَتخرَّج فيها علماء في هذه المَجالات، يَقومون بعد تَخْريجهم بمَسئولية الدعوة الإسلامية أئمةً للمساجد ووُعَّاظًا ومُرشدينَ على المستوى الجماهيري والقوات المسلحة، ويتولَّى بعضُهم تدريس الدين واللغة العربية في المدارس العامة والمعاهد الدينية، وتقوم طائفةٌ منهم بمُهمة النظر في قضايَا الأحوال الشخصية والفَصْل فيها، ذلك على المُستوَى الداخليّ.(1/1292)
أمَّا على المستوى الخارجيّ، فإنَّ كثيرًا مِن علماء الأزهر يُوفَدُونَ إلى البلاد الإسلامية، يَحملون رسالة الإسلام ونشْرها بين رُبوع هذه البلاد، ويُشاركون في مجال التدريس بالمَعاهد الدينية والجامعات الإسلامية بها، كان ذلك قبل صُدور القانون رقم: 103 لسنة: 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يَشملها، وقد استحدث هذا القانون إلى جانب كليات جامعة الأزهر الأصيلة كلياتٍ أخرى نظريةً وعمليةً، هي كليات: التجارة والتربية والزراعة والعلوم، والهندسة والطب بأنواعه، والصيدلة: وكلية البنات الإسلامية. لقد استهدفَ القائمونَ مِن ذلك بعد أن اتَّسعتْ جوانب الحياة، واستردت الدول الإسلامية حُريتها واستقلالها، وتخلَّصت مِن كابوس الاستعمار، الذي عاقَ حرَكتها وحَصَرَها في دائرة التخلُّف قُرونًا طويلةً. استهدفوا أن يُوصَّلَ بين الدين والحياة، ويُربَط بين العقيدة والسلوك، فحرصوا على أن تُخرِّج جامعةُ الأزهر علماءَ عاملينَ، يَجمعون إلى الإيمان بالله الثِّقَة بالنفس وقُوة الروح والتفقُّه في العقيدة والشريعة ولغة القرآن كفايةً علْميةً وعمليةً، فيُشاركون في كل أنواع النشاط والإنتاج والزيادة، والقُدوة الطيِّبة على مستوى العالَم الإسلامي والوطن العربي، إنَّ كلياتِ جامعة الأزهر في ظِلِّ هذا القانون لا يُمكن أن تكون صورةً مُكرَّرةً مِن كلياتِ الجامعات الأخرى، وإنما هي ذات نوعية خاصةٍ، تُحقق للطالب ثقافةً دِينيةً واعيةً إلى جانب الثقافة المِهنيَّة، التي يُحصِّلها نُظراؤهم في الكليات المُماثلة في الجامعات الأخرى، وليست هذه النوعية جديدة في تاريخ الأزهر والجامعات الإسلامية، فإن أعظمَ علماء الطب والكيمياء والرياضيات والفلَك كانوا علماء دِينٍ، منهم الشيخ ابن سينا، والفارابي، وابن الهيثم، وجابر بن حيان، وآخرون، كثيرون استفاد العالَم كلُّه شرْقه وغرْبه بعِلْمهم وخِبراتهم.(1/1293)
وجامعة الأزهر تَنال حَظَّها وافرًا مِن العناية والاهتمام، أَنْشأَتْ لها فروعًا في كل مِن أسيوط وطنطا والزقازيق والمنصورة.
وحتى تجد جامعة الأزهر طلابها الذينَ يَجمعون بين علوم الدين والدنيا، ولهم الأهليةُ الكاملة لمُتابعة الدراسة الجامعية في كلياتٍ جامعة الأزهر، كانت المعاهد الدينية هي الروافد الأصيلة لهذه الجامعة، ولكن المعاهد الدينية قد وَقَفَ نُمُوُّهَا عندَ الحدِّ الذي كان عليه أكثر مِن قرن، في الوقت الذي تزايد فيه عدد السكان في الداخل والخارج، وتعدَّدت الكليات والفروع في جامعة الأزهر، فعَجزت المَعاهد عن الوفاء بحاجة هذه الكليات مِن الطلاب لقد كان عدَد المَعاهد في العام الدراسي: 74/ 1975 على النحو التالي:
290 معهدًا ابتدائيًّا.
96 معهدًا إعداديًّا.
96 معهدا ثانويًّا.
5 معاهد للفتياتِ.
إلى جانب معهدينِ اثنينِ للقراءات وآخرَينِ للمُعلمين.
ولن تستطيع هذه الأعداد أن توفر 30 % من حاجة جامعة الأزهر على أحسن الفُروض، وبذلك يتبيَّن أن الهرم التعليمي للأزهر معكوس، ولكي تُحقق جامعة الأزهر أهدافها، وحتى يتمكَّن الأزهر مِن مُواصلة رسالته التي نهَض بها منذ أكثر مِن ألف عام كان لابد مِن دعم المَعاهد الدينية، وهي القاعدة العريضة في الهيكل التعليمي للأزهر، ومِن العمل على وَضْعِ خُطة لتوفير العدد الكافي منها بقدْر ما يتوفر مِن إمكانات مالية.
ولقد قامت بواجبها في هذا الشأن، ولم تَبْخل بمالٍ على قَدْرِ مَا تتحمَّل مِيزانِيَّتِهَا التي أرْهَقتْها مَسئولياتُها القومية، فلم أجد بُدًّا مِن أن أتَّجِهَ إلى أبناء وطني داخليًّا وخارجيًّا، فوجَّهتُ دعوتي إلى الحُكومات الإسلامية، وإلى الغَيُورينَ على دين الله على مستوى العالَم الإسلامي والعربي.(1/1294)
أمَّا على المستوى الداخلي فقد وجَّهتُ دعوتي أيضًا إلى الهيئات والشركات والأفراد وما زلتُ أدعو، وقد استجابَ القليل مِن الهيئات والشركات بقدْر ما سمحت به مِيزانيتهم، أما على مستوى الأفراد، فإنه لمِمَّا يستوجب الحمد للهِ، ويُبشر بالخير أن أرى بعض المُواطنين قد عمَدوا إلى إنشاء معاهد ابتدائية أو إعدادية بجُهودهم الذاتية، والأزهر يُقدِّم لهم المَعونة المالية وبقدْر ما تَسمح به مِيزانيتُه مُساعدةً وتشجيعًا لهم، وهم بهذا العمل المَحمود يَقومون بواجبهم نحو دِينهم ووطنهم، وإني أُعلنُ أن الأزهر يُرحِّب كل الترحيب بهذا الأسلوب، ويُوفِّر لهم المَعونة الفنية، ويُقدم المُساعدة المالية بقدْر طاقته، كما أن كل معهدٍ يَتِمُّ بناؤُه بالجهود الذاتية، وتتوفر فيه إمكاناتُ الدراسة يُسارع الأزهر إلى قبول التبرُّع به ويَضُمُّه إلى معاهده وفتح الدراسة به.
ومن الأهمية بمكان أُشِيرُ إلى أن المعاهد الدينية يجد فيها طالبُ الدِّين بُغْيَتَهُ، وطالبُ الدنيا أمَله؛ فإن المتخرجين فيها يجد كل واحد منهم مكانًا في جامعة الأزهر وكلياتها النظرية والعلْمية دونَ التقيُّد بمَجموع مُعيَّن، فضلًا على أنه يتمتَّع بعد تخرُّجه وبُلوغه الستِّينَ ببقائه في الخدمة خمس سنواتٍ زيادةً على غيره خريجي الجامعات الأخرى حتى تنتهي مدة خدمتهِ عند بُلوغ الخامسة والستينَ.(1/1295)
في الدعوة إلى الحضارة العلمية والصناعية مع التمسُّك
بالقيَم الإنسانية التي جاءت بها رسالةُ الإسلام
يقول الله ـ تعالى: (لقدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ وأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ للنَّاسِ ولْيَعْلَمَ اللهُ مِنَ يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بالغَيْبِ إنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
فتُوضح الآية الآن أن نعمة الرسالة على الناس أمرانِ: أمرٌ يَكشف عن طريق الحق وصِراطِ الله المُستقيم، وهِدايتِهِ إلى العدْل بين الناس جميعًا، وهو كتاب الله، والمِيزان الذي جاء به هو تلك المبادئُ التي تُحدِّد المنهج السليم في التفكير والسلوك والمُعاملات.
وأمرٌ يُرشد الناس إلى مصدر المنافع المادية، وإلى مصدر القوة والمَنَعَةِ وهي الحديد والصناعة.
والله ـ سبحانه ـ إذْ يَصِفُ نفسه هنا بأنه قويٌّ لا يُغلَب، وبأنه عزيز وصاحب مَنَعَةٍ، فإنه يَبْغي لعِباده أن يكونوا على صِفته في القوة والمنَعة، وقوتهم ـ كما تُصرِّح هذه الآية، تَستند إلى هداية الله في كتابه، وإلى استخدام الحديد في مَنافعه العديدة وفي قوته المادية ومَنَعَتهم ضدَّ الاعتداء عليهم، ولا تتوافر لهم القوة والمَنَعة إلا باتِّباع هداية الله في كتابه، وباستخلاص الحديد مِن ترابه واستخدامه في مصالح الناس.
وحضارة الحديد وحدها ـ وهي الحضارة الصناعية اليوم القائمة على التطبيق العلمي ـ لا تُوفر وحدها القوة والعِزَّة مِن غير التمسُّك بهِداية الله؛ لأنها قد تَتَّجِهُ ـ لو أُطلقت وحدها ـ إلى تدمير وإرهاب البشرية أكثر ممَّا تتَّجه لخيْرها، وهنا تكون مصدر تهديدٍ وخوْفٍ، وتتحوَّل إلى شبَحٍ يُقلق البشرية، ويَجعلها تعيش في فزَعٍ مُستمر، وعندئذٍ تَبعُد تمامًا عن أن تُوفِّر للبشرية القوة التي تَقِيهَا مِن شُرورِ الضَّلال.(1/1296)
وهداية الله في كتابه وَفَّرتْ للمؤمن قوة النفس ويَقظة الضمير، ووَفَّرت الصبر وعدم الاضطراب والقلَق في مُواجهة الأزمات، وهذه الهداية في حاجة معها إلى القوة المادية لدفْع الاعتداء عن الإيمان والمُؤمنين بالله مِن أعداء الإنسانية، وهم المادِّيُّونَ.
لا ينبغي أن يَفِرَّ المؤمنون مِن إيمانهم برسالة الإسلام، فإنها الرسالة التي تَقِيهِمُ الطغيان بالقوة، والتي تَحملهم على تجاوُز الأزمات والشدائد، والتي تحكم الروابط بينهم على أساسٍ مِن هداية الله فيها، وهي روابط الإنسانية في خَصائصها، بعيدةً عن القبلية والشعوبية والعنصرية، وإذْ يُنادي القرآن الكريم في قول الله ـ تعالى: (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكمْ إذْ كُنْتُمْ أعداءً فَأَلَّفَ بينَ قُلوبِكمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا وكُنْتُمْ علَى شَفَا حُفرةٍ مِنَ النارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا). فإنه يُرشد إلى قيمة التماسُك على أساسٍ مِن الخصائص البشرية وحدها، فوق مصادر التفرقة والخُصومة التي تُوحِي بها القوميَّات والشعوبية، والإسلام بنِدائه هذا يُمجِّد الإنسانية، ويُوصِّل دعوته إلى مُحيط العالَمية.
كما لا يَنبغي لهم أن يُفرِّطوا في اكتساب العلْم والتطوُّر الصناعي، فالمَعرفة والصناعة هما دعامتَا التقدُّم الحضاري في القوة المادية، والإفادة مِن الحديد في مَنْفعتهم ومَصالحهم الدنيوية.
وبهذا وذاك يَجمعون بين الحُسنيينِ، ويُطيعون كتاب الله فيما جاء فيه خاصًّا بهِدايته، وكذلك بنِعمه على الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وفي مُقدِّمة هذه النِّعَم الحديد، وكل ما يُطلب مِنهم أن يَحذروا أن تَطغَى إليه الصناعة فتَستعبد هذه الآليةُ إرادةَ الإنسان، فتَزِلَّ قَدَمُهُ في هاوية الفساد والانْحراف والانحلال.(1/1297)
والعاصِم للبشرية دائمًا هو تَذَكُّرُ الله وخشيته واتِّباع ما وَصَّاهم به، وبذلك يَحمون أنفسَهم مِن الإسْراف (إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ).(1/1298)
في معنى العِبادة
ما معنى كلمة العبادة، وما معنى الأمر التعبُّدِيِّ؟
العبادة معناها الطاعة والخُضوع، ومعنى قوله ـ تعالى: (إيَّاكَ نَعْبُدُ). نُطيعُك الطاعةَ التي نَخضع معها، والعبادات في الإسلام أعمالٌ، أمَرنا الله ـ تعالى ـ بالقيام بها، فأطعنا، ونَفَّذْنَا ما أمَر به. وهي أساسًا الصلوات الخمس وأداء الزكواتِ بمُختلف أنواعها، وصيامِ رمضانَ وما تطوَّع به العبد بعد ذلك.
ومعنى عَبَدَ الله: أطاعَه وأدَّى ما أمَره به.
أما الأمر التعبُّديُّ فهو الأمر الذي لا نعرف به حِكْمةً ولا تعليلًا، وهذا لابدَّ منه في العبادات. وبعض الناس يُحاول أن يجعل للعبادات فوائدَ ماديَّةً، فهم يقولون ـ مَثَلًا: في الصلاة رياضةٌ بدَنِيَّةٌ، وفي الصيام صحة ووِقاية مِن بعض الأمْراض، وعلاج مِن أمراضٍ أخرى، وهكذا، وقد يكون هذا صحيحًا، ولكننا لا نُصلِّي رياضةً، ولا نصومُ حَمِيَّةً ولا عِلاجًا، وإنما نفعل ذلك كله طاعةً وامتثالًا لأوامرِهِ، ولو قَصدنا الرياضة والصحة ما كان عملنا عبادةً، ولا استحقَقْنَا عليه ثوابًا، ثم إنه كان مِن المُمكن أن يُستغنَى عن العبادة بعملٍ يُؤدِّي وَظِيفَتَها، فهناك مِن تمارين الرياضة ما هو أجدَى على الجسم، ثم يكون حينئذٍ مِن المُمكن أن يُفْطِر الصائم قبل المغرب بدقائقَ أو بعد الفجر بلَحظات، فهذا لا يُؤثِّر في الحمية، ولكنه يُفسد العبادة، ويكون مِن المُمكن أن نُصلِّي الصبح أربع ركعات، ولكننا نُؤدي العباداتِ طبقًا لمَا أمر به الشارع، فإذا أنقصناها أو زوَّدْنَا فيها فسَدتْ نهائيًّا؛ لأننا خالَفْنَا تعاليمَ الله.(1/1299)
وهناك مِن شئون العبادة ما لا تَظهر له حِكْمة، ولا يعود علينا بفَائدة ماديةٍ، فوُضوؤنا يُنْتَقَضُ بخُروج غازاتٍ مِن أجسامنا، ولا تَصِحُّ الصلاة به بعد ذلك، ونحن نَطوفُ حول الكعبة، وهي على يَسارِنَا ولا يَجوز أن نَطوف بها وهي على يَمينِنا، وطوافنا يكون سبعةَ أشواطٍ لا خمسة ولا ثمانية، ونحن نفعل ذلك كله طاعةً للهِ ووفقًا لمَا أَمَرَنَا.
كأنَّ ذلك يَعني أن العباداتِ عملٌ بين العبد وربه ولا علاقة لها بِدُنْيَا الناس وحياة المجتمع، لا ليس الأمر كذلك.
العبادة في كيفيتها وطريقة أدائها أمورٌ تعبديَّة، علينا أن نُؤدِّيها حسبما بيَّنها اللهُ لنا، أمَّا أثَرُها بعد ذلك في سُلوكنا وحياتنا الاجتماعية فأمرٌ بَيِّنٌ لا يُنكره أحدٌ، فالشخص الذي عوَّد نفسه أن يُؤدي العبادة، حسبما أمر بها طاعةً لله وخشيةً منه، يَسهل عليه أن يُخضع نفسه لطاعته في الأُمور الأخرى التي أمر بها، ومِن حُسن التعامل ومُساعدة الضعيف. والصدْق في القول، وكل شيء يَعلم أنه يُرضي ربه يَسهل عليه أن يَعمله، وإنْ ثَقُلَ عليه، وكل شيء يَعلم أن الله لا يَرْضاه، يَستطيع أن يَكْبَحَ نفسه عنه، وإن كان حبيبًا لدَيْهِ.
ألستَ ترى الجيش في تدريبه، يقوم بحركاتٍ عديدة، لا يَعرِف لها سببًا ولا فائدة، ولكنها تُعوده النظام والطاعة.(1/1300)
ومِن العبادات ما شُرع لصالح المجتمع مثل الزكاة، فهي مالٌ، يدفعه الأغنياء مِن فضول أموالهم للفقراء أو لبيت المال، وهي تتَّفِق لسدِّ حاجات الفقراء وحاجات الدولة؛ وذلك لإصلاح المجتمعات، والحج أيضًا هو مؤتمر عامٌّ للمسلمين يجب أن يُدركوا حِكْمته الاجتماعية ويَستفيدوا منها، فنحن نَحجُّ طاعةً، ونستفيد فائدةً اجتماعية، ونُؤدِّي زكاتَنا طاعةً وعبادة، ونَستفيد فائدةً اجتماعية، وكذلك نصوم طاعةً، ونجني فائدةً صحيةً واجتماعيةً، والعبادات دائمًا إصلاحٌ للسَّرِيرةِ، وتعود على الاستقامة على حُدود الله، ولا يَصلح مُجتمع بغير ذلك. وفي القرآن الكريم: (إنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنكَرِ ولَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). وذِكْر الله ـ تعالى ـ يعني تذكُّره وخَشْيَتَهُ.
والرُّخْصة هي الشيء الاستثنائي، والعَزيمة الشيء الواجب؛ فمَثَلًا الصوم أمرٌ مفروض من
الله ـ تعالى ـ على كل مسلم مُكلَّف، فهو عزيمة، وقد يطرأ للشخصِ ما يَجعله ضعيفًا عن أداء صوْمهِ، فيسمح له بالفِطْر مُحافظةً على صحته، أو تَمْكينًا له مِن أداء واجبِه، فهذا السماح رُخْصة، أي شيء استثنائي لسبب طارئ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يحب أن تُؤْتَى رُخَصُهُ كما تُؤْتَى عزائمُه، والصلاة التي هي أربع ركعات في الحضَر، يُرَخَّصُ للمُسافِر نظرًا للمَشقَّة التي يُلاقيها في سفره أن يَقْصِرَها، فيُصلِّي ركعتينِ اثنتينِ فقط، فهذه رُخْصة أيضًا، الحاج القادر يَطوف بنفسه ويسعَى، ورُخِّص للضعيف أن يَستأجِرَ مَن يَحْمِلُهُ، فهذه رُخصة وهكذا.(1/1301)
أما عن المَسافة التي يجب فيها قصْر الصلاة، فالأمر يتوقف على المسافة التي يَقطعها المُسافر، فإذا كانت مسافةَ قَصْرٍ، جاز له أن يَقْصِر، وأنه يُفطر، فإذا وقفت الطائرة بشخص في مطار ما، وكان وقت صلاة الظهر أو العصر ـ مثلًا ـ صلَّى ركعتينِ فقط، وإذا قامت به طائرته مِن بلد ما قبل الفجر لتصل إلى بلد آخر عند الظهر أو بعده، جاز له أن يَقصر؛ لأن المسافة أكثر مِن أربعةِ يُرُدٍ، وشرع لقَطعها الفِطْر وقصْر الصلاة، وقصر الصلاة في هذه الحالة أفضَل، وصوم اليوم أفضل لقوله ـ تعالى : (وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لكُمْ). وإذا وصلتْ به الطائرة بلده قبل المَغرب ولم يكن صلَّى الظهر والعصر صلاَّهما كاملينِ؛ لأن سفره قد انتهى ووقتهما لا يزال حاضرًا.
وأوصى بالإضافة للفَرائض بالعِناية بصلاة النوافلِ، والإكثار منها؛ لأنها ممَّا يُقرِّب العبدَ مِن ربِّه. وفي الحديث: "لا يزال عبدِي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ". ونَوافل الصلاة كثيرة، ركعتانِ قبل الظهر وبعده، وركعتان قبل العَصْر، وبعد المَغرب وبعد العِشاء، أمَّا صلاة الليلِ، فإنها مِن السِّرِّ الخفيِّ بين العبدِ وربِّهِ، وثوابُها أكبرُ مِن ثوابِ النوافل الأخرى.
وكذلك التطوُّع بالصيام: صوم يومَي الاثنين والخميس، وثلاثة أيام مِن أول كل شهر، وستة أيام بعد رمضان، وكل تطوُّع بعبادةٍ يَرفع درجةَ المؤمن عند ربه، والله ـ تعالى ـ يقول: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ). ونسأل الله الهداية والتوفيق لجميع المسلمين، والحمدُ لله رب العالمين.(1/1302)
نصيحة إلى الشباب المُعاصر
سِنُّ المُراهقة هي أخطر مَراحل الحياة التي يَمرُّ بها الشبابُ، وكثيرًا ما يَميلُ فيها الشباب إلى الانحراف، ويَظهر ذلك في سُلوكهم وأخلاقهم وخُروجهم عن المَأْلوف والآداب العامَّة، مُندفعينَ وراء طَيْشِ الشباب، ولذا كان مِن الواجب على الآباء والمُعلِّمينَ والمُربِّينَ أن يتَّخذوا العُدَّةَ لتربية الشباب قبل بُلوغهم هذه المَرحلة، وذلك بتَنشئتهم على الآداب والمُثُل العُليا، واتِّباع أوامر الشرْع الشريف حتى يصلوا إلى هذه المرحلة وقد انْغَرَسَتْ في نُفوسهم الآدابُ والأخلاق الحَسَنة، ومُرِّنُوا على احترام شعائر الدِّين.
قال ـ صلوات الله وسلامه عليه: "مُرُوا أولادَكُمْ بالصَّلاةِ لِسَبْعٍ، واضْرِبُوهمْ عليها لِعَشْرٍ، وفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ".
ومِن الكلمات الرائعة الجامعة التي بلغت الذِّرْوة في تربية الشباب وتنشئته، والتي يجب أن يتَّخذها المُرشدون والمُصلحون والمُربُّون نموذجًا يَسيرون عليه ما وَرَدَ في الحديث الصحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كُنتُ رَدِيفَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "ألاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟
"احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، وإذَا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذَا استعنتَ فاسْتَعِنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لوِ اجْتَمَعُوا علَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كَتَبَهُ اللهُ لكَ، وإنِ اجْتَمَعُوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشيءٍ لم يَضُروكَ إلا بشيءٍ قد كَتَبَهُ اللهُ عليكَ، طُوِيتِ الصُّحُفُ وجَفَّتِ الأقْلامُ".(1/1303)
وإنه لمِن المَعروف المُجرَّب أن مَن شَبَّ علَى شيءٍ شابَ عليهِ، فإذا اعتنى الآباءُ والأمَّهات بتَنشئةِ الأطفال على الدِّينِ ومَكارم الأخلاق منذ الطفولة، فإنهم يَسيرون على ذلك طيلةَ حياتهم، وإذا كانت المَسئولية مُلْقاة في الدرجةِ الأولَى على عاتِق الآباء والأُمَّهات فإنَّ المدارس ومعاهد العلْم في درجاتها المُختلفة عليها مَسئولية كبيرة في هذا الشأن، ولقد نَادَى المُصلحون في كل عصر بوُجوب العِناية بأمر الدين في المَدارس، ولكن أصواتهم ذهبت أدراج الرياح في كل الأقطار الإسلامية والآن المُشرفون في وزارات التعليم أغلبهم الأعمُّ مِن خريجي الجامعات الغربية فهُم يَحتذون في أمور الدِّين ما يَحتذيه الغرْب في هذه الأمور، فلا تتفتح آذانهم للدعوة إلى الدِّين، ولا تَنْشرح صدورُهم لإيجاد المجال له، اللهم إلا في أضيق الحدود، فإذا فَتحت المدارس أبوابَها للدعوة الدينية في صورةٍ مِن الجِدِّ، فإن ذلك بالإضافة إلى عِناية الآباء والأمهات ـ يُعَدُّ خُطوة مُتقدِّمة مِن أجل وسائل إصلاح الشباب.(1/1304)
في السَّعْي على الرِّزْق
أمَر الله ـ سبحانه وتعالى ـ عباده المؤمنين بأن يَسعوا في طلب الرِّزْق وكسْب العيش في كثير مِن الآيات، وكذلك حثَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الكسْب ليعيش الإنسان مِن كسْب يده.
ولكن هذا الكسْب مُقيَّد بأن يكون مِن الطُّرُق المَشروعة، التي ليس فيها مَعصية لله ولا مُخالفة لأمره ولا ارتكاب لمَا نهى عنه، أو مُعاونة على المعصية.
والمسلم بمُقتضى إيمانه يَتَعَبَّدُ الله وحده، ولا يشرك به أحدًا، ويَلزمه على ذلك أن يَبتعد عن كل عملٍ فيه مِساس بهذه العقيدة أو المُساعدة على ما يُنافيها ويُناقضها، وليس كسب العيش مَقصورًا على العمل في الأمور التي تُنافيها عقيدةُ المسلم، بل طُرُق العيش كثيرة، وأسبابه مُتنوِّعة، فلْيَطْلُبُها المسلم مِن الحلال البعيد عن المُحرَّم، ومتى خلُصت النِّيَّة لله، فإن الأبواب تَتفتح، ويُبارِك الله في السعْي، فلْيَلتزم المُؤمن بقول الرسول الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه: "إنَّ اللهَ أمر المؤمنين بمَا أمَر به المُرسلين فقال: (يا أيُّها الذينَ آمنوا كُلُوا مِن طيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ).. وقال: (يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا). والله المُوفق والمُعين.(1/1305)
في الإسلام والحضارة الحديثة وفكْرة التطور
موضوع الدِّين والحضارة يَستدعيني أن أقول في المَبدأ: إنني مهما تحدثتُ عن الحضارة بإجلالٍ أو بتحقير، ومهما تكلمتُ عنها بنقْدٍ أو تحليل، فإن الدين ـ على وجه العموم ـ لا يُعارض أبدًا التقدم العلميَّ لإسعاد الإنسانية، لا يُعارض التقدم الصناعيَّ لإسعاد الإنسانية، لا يُعارض الناحية العلْمية على أيَّةِ صورة كانت ما دام الأمر يتعلق بإسعاد الإنسانية، وإذا كانت هذه القضية مَفروغًا منها، فإني أتَّجِهُ لتصوير نشأة الحضارة.
نشأة الحضارة:
الحضارة نشأتْ في فترةٍ مُعينة مِن التاريخ، وفي زمن مُحدَّد نعلم ابتداء، ونعلم العوامل التي أنشأتْها، والتي كانت الأساس في هذه النشأة.
وكلنا يَعلم أنه في فترة مِن الفترات، كانت الكنيسة مُسيطرة على العالَم الأوربي سيطرةً تامة، ما كان هناك شيء يُفعل، أو شيء يَنتهي فيه الأمر.
ولا شيء يُقام أو يُهدم، وما كان إنسان يُقدم على أمر أو يَحجم عن أمر إلا باستئذان الكنيسة، وباستئذان رجال الدين، ولكن الكنيسة ورجال الدين تَعَسَّفُوا في استعمال سُلطتهم حتى لقد أنشئوا مَحاكم التفتيش، وقد كتب الأوروبيون المسيحيون عن مَحاكم التفتيش كثيرًا، وصوَّرُوها في أبشع مَظاهرها، وفي أسوأ صُورها: كتب الكاثوليك والبروتستانت، وكتب الفرنسيون، وكتب الإنجليز، كتب هؤلاء ـ وهم رجال المسيحية فيما يتعلق بهذا الأمر.
ولقد وضَّحوا وبيَّنوا أن الكبْتَ، الذي كان يغمر أوربا في ذلك العصر وَلَّدَ الانفجار، واتَّخذ الانفجار اتجاهًا مُعيَّنًا، واتَّخذ الاتجاه الإنساني، وأخذ قادة الحضارة ـ مُبتدئينَ من هذا الاتجاه الإنساني ـ مُقِرِّرون أن الإنسان له كيانه، له شخصيته، له ذاتيته له حُدوده، له تقديراته، له مكانته التي يجب أن يحتلها الإنسان، المكانة التي تليق به.(1/1306)
ومِن هنا كانت كلمةُ الإنسان التي تُطلق ـ كرَمْزٍ مُمَيَّز ـ على هذه الحضارة، ومِن هنا كان تمجيد الإنسانية.
ولكن حينما بدءوا يتحدَّثون عن الإنسان، في ثورة عَواطفهم القوية وفي غمْرة نُفورهم الشديد مِن رجال الدين، كانت كلمة الإنسانية تُوحي عند قادتهم بانفصال الإنسانية عن الإلهية، أو انفصال الإنسانية عن الكنيسة أو انفصال الإنسان عن الدين، أو بالتعبير الحديث: انفصال الدين عن الدولة.
يجب أن يكون للإنسان مكانته، يجب أن يكون له موقفه أمام الدين تجاه الألوهية، تجاه النصِّ المُقدَّس، تجاه الكنيسة، ويجب أن يخضع كل ذلك للإنسان.
فالإنسان له عَقْله له مَنطقه، ويجب أن يسير بهذا العقل، وبهذا التفكير وبهذا المَنْطق.
وتَصوروا جماعةً مِن الجماعات، كانت السيوفُ مُصْلَتَةً عليها مِن جميع النواحي، ثُم انْفَجَرَتْ هذه الجماعة فقَضتْ على السلاح المُوجَّه إلى نَحْرِهَا، ماذا يكون تفكيرها بالنسبة لهذا السلاح، وبالنسبة لحامِليه. بالنسبة لهذا المصدر الذي كان سببًا للكبْتِ، إنَّ تفكيرها في أهدأ حالاته يكون مُعارِضًا مُنتقِدًا، ومُتَحَمِّسًا في مُعارضته، وفي انتقاده ولكن يشعر أحيانًا بشعور السَّفَّاك النَّهِم لإسالة الدماء.
هكذا كان الأمر في بدْء الحضارة الحديثة، لقد أراد زعماؤها، أن يتخلَّصوا مِن الدين ومِن رجال الدين، لتحتلَّ الإنسانية مكانتها بدون مُعارضة لها أو كبْتٍ أو تَنْكيلٍ.
وحينما أقول: "الإنسانية"، يختلط الأمر نوعًا ما؛ إذْ إن معنى هذه الكلمة اكتُسب مِن الدماء التي نزلت بالإنسانية في كثير مِن فترات التاريخ نوعًا مِن التقديس وكثيرًا مِن التمجيد والعطف، ولذلك فإنِّي دون إخلال بالمعنى سأستعمل كلمة البشرية، وإذا استَعملتُ كلمة البشرية، كان المعنى الذي أُريدُه أدقَّ فيما يتعلق بصِلة الثورة الأوربية، أو الحضارة الأوربية في بدْء نشأتها وفي ثورتها ضدَّ رجال الكنيسة.(1/1307)
كان هناك ـ إذنْ ـ الدين مِن جانب، وكانت هناك البشرية مِن جانب آخر، وأرادت هذه البشرية أن تقف في وجْه الدِّين، أو تستقلَّ بنفسها في وَضْعِ أصولها وقَواعدها ونُظُمها، وأن تَنتهي في النهاية إلى أن تكون مُستقلةً كل الاستقلال مِن جميعِ النواحي التي تتعلَّق بهذا الجانب الروحي.
وتلقَّت الحضارة أو مُمثلو الحضارة، أو الذين يقومون على الحضارة، تلقَّوا يَمينًا وشمالًا الأُصول والقواعد التي يُمكنهم أن يُقيموا عليها نُظُمَهم البشرية، وتَساءلوا ماذا يُمكن أن يحلَّ محلَّ الدِّين.
إن الدين نظامٌ اجتماعيٌّ وتشريعيٌّ وأخلاقيٌّ، فما الذي يُمكن أن يَحِلَّ مَحَلَّ هذه النُّظُم إذا أردنا أن نتخلص مِن هذه النظم؛ لأنها نُظم دينية يقوم عليها رجال الكنيسة، لا رجال مَحاكم التفتيش، وما المصادر والمنابع، التي نتَّقي منها إذا أردنا أن يَسود الاطمئنان في المجتمع؟ أمَّا المَصادر فما كان يُمكن، وما كان يتأتَّى، إلا أن تكون مَصدرينِ:
1 ـ العقل في ناحيةِ ما وراء الطبيعة.
2 ـ والضمير مِن ناحية الأخلاق.
وإذا لَجأَتِ الحضارة الحديثة فيما وراء الطبيعة إلى العقل، ولجأتْ في الأخلاق إلى الضمير، فالعَقل: هو الذي يُؤسِّس ما وراء الطبيعة، والضمير هو الذي تَرجع إليه في الأخلاق.
ولكن، تخبَّط العقلُ؛ لأنه يختلفُ مِن إنسانٍ لآخرَ، ومِن بيئة لأُخرى، ومِن زمن لزمن، ومِن مكان إلى مكان، ومِن ثقافة إلى أخرى.(1/1308)
وأخَذ الضمير مِن جانبه أيضًا يُوحي بإيحاءات مُختلفة، فالضمير ليس إلا أثرًا للبيئة وللوسَط الذي يعيش فيه، ليس الضمير مَعصومًا قط، وإنها لَفِكرةٌ خُرافية كوْنُ الضمير مَعصومًا، والضمير إذْ تخلَّص مِن سيطرة الدين، فإنه يُوحي بالفساد، كما يُوحي بالصلاح؛ لأنه ابن البيئة، فإذا كانت البيئة إجراميةً فالضمير إجرامي، وإذا كانت البيئة صالحةً فالضمير صالح، وإذا كانت البيئة أوربية فالضمير أوربي، وإذا كانت البيئة شرقية فالضمير شرقيٌّ، ومِن الواضح أن ضمير الأوربيين لا يُؤنِّبُهم أبدًا على السَّفْكِ، الذي يَستبيحونه في كل قُطر يسيطرون عليه، إنه يُبيح إذنْ ـ لو اتخذنا مِقياسًا ـ السفْكَ والتنكيل والاستعمار. ليس هناك إذن شيء ثابت مُستقِرٌّ مَعصوم اسمه الضمير.
وليس هناك قضايَا يَتَّفِقُ عليها العقل فيما وراء الطبيعة.
وتخبَّط العقل.. وتخبَّط الضمير. فما المَخرج إذنْ؟
أُسطورة التطوُّر الإنساني:
رأى رجال الحضارة أن يَلجؤوا إلى شيء يُبعِد عنهم وصْمَةَ العجْز، فلَجَؤوا إلى فكرة التطوُّر، الإنسان المُتطوِّر، الأفكار المُتطورة، وإذن فالمسألة ليست مسألةَ خطأٍ صريح، وإنما هي مسألة تطوُّر فيما يتعلق بالأفكار، وفيما يتعلق بالمَعاني، وما دام هناك قانون التطور إذنْ لا عيب عليهم إذا أخطؤوا أو تخبَّطوا في كل مرحلة مِن مَراحلهم، وفي كل فترة مِن فتراتهم. ونادَى الحَضاريُّون البشريُّون بفَصْل الدِّينِ عن الدولة، وحينما فُصِلَ الدين عن الدولة، رأت الدولة نفسها تتخبَّط، حينما تستند إلى العقل في نُظمها الدينية والاجتماعية، وحينما تستند إلى الضمير في نُظمها الأخلاقية، فاخترعت أسطورة التطور الإنساني فيما يتعلق بالفكر.(1/1309)
وكانت كلمة التطور هي الطلسم السحْرِيّ، الذي يُحاولون التعلُّل به، لإخفاءِ عجْز العقل والضمير الإنساني لإخفاء هذا العجز المُطلق الذي يجعل الإنسان مُتخبِّطًا بعَقله في أمور ما وراء الطبيعة، ومُتخبِّطًا بضميره في أمور الأخلاق. لقد أخْفَوْا كل ذلك بفِكرة التطور.
ليس في الأحكام القاطعة تطوُّرٌ:
ولكن إذا نظرنا إلى فكرة التطور في الدين والأخلاق فما معناها حقيقةً؟ ما معنى فكرة التطوُّر، إذا أدخلناها في الفكر على وجه العموم؟ إن فكرة التطور ما هي إلا عودة إلى السُّوفسطائية القديمة، إنها عودة إلى آراء اليونان القدماء؛ لأن معنى التطور في الفكر أنه ليس هناك قضية ثابتة، وإنَّما جميع القضايا الفكرية مُتطوِّرة، وهذا التطوُّر لا ينتهي إلى حدٍّ، إذن هناك النِّسْبِيَّةُ باستمرار، وهناك النسبية المُطلقة، وهناك إذن الخطأ المستمر، وهذا الخطأ لا عِلاج له ما دمنا نقول بالتطور؛ لأنه ما دُمنا نقول بالنسبية وبالتطور، فليس هناك الثبات، وإذنْ لا يكون هناك ثبات في الدين، ولا يكون هناك ثبات في الأخلاق.
فإذا أدخلنا فكرتهم بالتطوُّر في الدين، فقد قضينا على الدين، وإذا أدخلنا فكرة التطور في الأخلاق، فقد قضينا على الأخلاق.
وهذه الفكرة التي أتحدَّث عنها، فكرة إدخال التطور في الدين فكرةٌ سمعناها مِن الكثيرين، لقد ألِفْنَا كلمة التطوُّر، وألِفنا كذلك كلمة إدخال التطور في الدين إلى درجة أنه يُخيَّل إليَّ وأنا أتحدث فيها، أن الأمر غريب على بعض الأذهان التي تتساءل: لمَ لا يكون في الدِّين تطوُّر.
ولكن إذا فُهِمتْ فكرة التطور على حقيقتها، وإذا فُهمت فكرة الدين على حقيقتها، كان لا مَنَاصَ مِن الإقْرار، بأن الدين لا يَدخله ـ أبدًا، ولا شَرْوَى نَقِيرٍ، لا، ولا قُلامَةُ ظُفرٍ ـ فكرة التطور.(1/1310)
إن التطور الفكري تَغيير مِن حالٍ إلى حال، وهو تَغيير مُستمر دائم، إنه تغيير لا يَنْتابُه هُدوءٌ ولا سُكون، إنها إذنْ النِّسْبيَّة، إنها إذنْ السوفسطائية القديمة، إنها عَوْدٌ إلى هذه الفترة القديمة التي لم يَكن فيها دين ثابت، ولم يكن فيها خُلُقٌ ثابت، فالأمر فيهما حينئذٍ عند السوفسطائيين ليس أمرًا ثابتًا مُطلقًا، وليس أمْرَ عِصمة، وليس أمْر قضايَا مُحقَّقة، وإنما الأمرُ أمر تغييرٍ باستمرار، وأمر نِسبيَّةٍ.
وبذلك يُقضَى على الدِّين، ويُقضَى على الأخلاق، وإنه لمِن المُؤسف حقيقةً، أننا نجد فكرة التطور تتسرَّب إلى الناحية الدينية، وإلى المحيط الديني في الأقاليم الإسلامية؛ وهذه الفكرة لخُطورتها؛ ولأني أُعلِّق على إزالتها كثيرًا مِن الأهمية، أُريد أن أضرب بعض الأمثلة حتى نكون على بيِّنة مِن الأمر.
قرأتُ في بعض المجالات مقالًا يقول كاتبه إن فضيلة الشيخ "....." رجل مُتطوِّر واسع الأُفُق، ومِن مظاهر تطوُّره ـ في رأي الكاتب ـ أنه يأبَى إلا أن يُقيم صلاة الغائب على رُوح فلان، وفلان هذا الذي ذكره الكاتب لا يَدِينُ بدِين الإسلام، وما مِن شكٍّ في أن ذلك لا يَجُوز "إسلاميًّا" وما مِن شكٍّ في أن العالِم الكبير لا يفعل ذلك ولا يُبيحه، ولكن ذلك إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على جهل الكاتب بمعنى الحقائق الدينية، التي لا تتغير بتغيُّر الأهواء والعواطف، ويدلُّ مِن جانب آخر على الخُطورة، التي يتعرَّض لها الدين، حينما تَدْخُلُهُ فكرة التطور، وحينما تتناوَلُه أقلام الذينَ لا يعقلون دِينَ الله على الوجه السليم.
ومَثَلٌ آخَرُ:(1/1311)
إننا جميعًا نُجِلُّ الشيخ: محمد عبده، ونحترمه، ونَدِينُ له بكثيرٍ مِن تخليص الدِّين مِن الخُرافات والأساطير، ولكن حينما نقرأ له تفسيرَ قصةِ آدمَ فنجده يقول: بأنها تَمثيل، نتساءل: لم اتَّجه الشيخ: محمد عبده هذا الاتجاه؟ لِمَ اتَّجه في قصة آدم إلى أنها تَمثيل؟ حينما نتساءل حقيقةً عن السِّرِّ العَميق ـ في الشعور وفي اللاشعور ـ نجد أن الشيخ: محمد عبده رأى أن فكرة التطور مُنتشرة في جميع أرجاء أوربا، بل العالَم، وهي فيما يرى ـ تتعارَض هي والتعاليم التي تُنْبِئُ أن آدم هو أول البشر، وهو الذي خلَقه اللهُ وسوَّاه، وخاطَب الملائكة في شأنه وأمَرهم أن يَسجدوا له.
رأى الشيخ: محمد عبده أن كل ذلك لا يتلاءم كثيرًا مع فكرة التطور المَزْعُومة، فماذا صنَع؟ قرَّر بأنها قصة، وأنها تمثيلٌ، وبذلك يُمكننا أن نُؤَوِّلَها كيفما شِئْنَا.
كما رأى الشيخ: محمد عبده أن يُفسِّر اختلاف رسالات الرُّسل وتَعاقُبها بأنها حِسِّيَّة في زمن موسى، فكانت رسالة سيدنا موسى حِسِّيَّة، ثم تطورت الإنسانية مِن الحسِّ إلى العاطفة، فكانت رسالة سيدنا عيسى عاطفيةً، ثم تطوَّرت الإنسانية مِن الحسِّ، والعاطفة إلى العقْل، فكانت رسالة سيدنا محمد عقليَّة.
ورأيي أن الإنسانية لم تتطوَّر هذا التطوُّر، وأن الإنسانية أينما سِرْنَا، وعند أيِّ فردٍ رأينا، وفي أيِّ مجتمع شاهدنا ـ فإنما يتمثَّل فيها جوانبُ ثلاثة: الحِسُّ، والعاطفة، والعقْل، ولكن فكرة التطوُّر، وأن الإنسانية مُتطوِّرة انتهت، بأن أصبحت مُسيطرة على الكثيرين، فانقادُوا لها، وأدخلوها في مُحيط الدين، فأَفسدتْ كثيرًا مِن القضايا، ونَعُود فنترحَّم على الشيخ: محمد عبده، وإذا كُنَّا ننتقدُه فلأننا نعلم أنه رحِمَه الله، كان مِن سَعة الصدْر ومِن سَعة الأُفُق بحيث لا يَضيقُ بنَقْدٍ، ونعتقد أنه لا يَضيق الآن بنَقْدِنا.(1/1312)
لقد حاول كثير مِن الناس الانْسلاخ مِن آيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ لقد حاولوا الانسلاخ مِنها، وهي مُلتصقة بهم الْتصاقَ جلْد الإنسان بالإنسان، وانْسلخوا منها بعدَ لَأْيٍ، وعلَى خلاف الفِطْرة، وعلى وَضْعٍ لا يُلائم النظام الطبيعي، وانْسلخوا بذلك مِن محيط الأُلُوهية، إنهم خرَجوا عن سُرادق الأُلوهية، وخرَجوا عن أن يكونوا مِن عباد الله، فتَهيَّؤوا بصَنِيعهم هذا ليَكونوا مِن أتباع الشيطان، وسهُل على الشيطان غَزْوُهم فغزاهم بخَيْلِهِ ورَجِلِهِ، فكانوا مِنَ الغاوينَ، ولو شاء الله لرفَعهم بآياته، ولكن العيْب جاء منهم هم إذا أخْلَدُوا إلى الأرض.
وما مِن رَيبٍ في أن الإخلاد إلى الأرض في أبْشَعِ صورةٍ هو الشيوعية (واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). وما مِن شكٍّ في أن اتِّباعِ الهوَى في أسْمَجِ صورة هو الفلسفة الوُجودية، سواء كنا بصَدَد الشيوعيّ، أو بصدَد الوجوديّ فمَثَلُهُ كمَثَلِ الكلب إنْ تحمل عليه يلهثْ، أو تتركْه يلهثْ. ولكن لم يلهث سواء أحَمَلْتَ عليه أم ترَكْتَه.
إن الشيوعيَّ ليس همُّه إلا المادة والإخلاد إلى الأرض، ومهما بسَط الله له في الرزق فهو ضيِّق بذلك، وإذا ضيَّق الله عليه في الرزق، فهو ضيِّق بذلك أيضًا، إنه لا يَطمئن إلى شيء رُوحيٍّ يُقنعه، والمادة ـ مهما أُوتِيَ الإنسان منها ـ فإنها ما دام جَشِعًا ـ لا تنتهي إلى إرضائه، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالوُجوديِّ.
فإنه وقد آثَرَ اتِّباعَ الهوَى ـ وليست الوُجودية إلا إيثار اتباع الهوَى ـ فإنه لا يَعتمد على هادٍ يُطمئنه، ولا على اطمئنان يُسكنه، وهو ضيِّق بالحياة ذرْعًا، سواء كان سعيدًا أو شقيًّا، فمَثَلُهُ كمَثَلِ الكلْبِ إنْ تَحْملْ عليه يَلْهَثْ أو تَتْركْه يلهثْ.(1/1313)
انتهت الحضارة إلى أمثال هذه النُّظُم، التي لا ترى إلا المادة، أو لا ترى إلا البشرية الهاوية أو الغاوية، وانتهى الأمر بالشيوعي والوجودي إلى ما كان لا مَفَرَّ مِنه أن ينتهي إليه، وهو انفصال الشيوعيِّ وانفصال الوجوديِّ عن المُحيط الإلهيِّ عن السُّرادق الإلهيِّ.
ممَّا لا شك فيه، أن هذه النُّظم التي لا تتصل بالعِصْمة إنما تَتَخبَّط، وتكون باستمرارٍ مُتأرْجِحةً مُتقلِّبة، ولا تَستقر باستقرارٍ نِسْبِيًّا إلا بالحديد والنار والسلاح، وبسَفْكِ الدماء، وبالقتْل، وأن ما وراء الستار الحديديِّ يُمكن أن يكون صورةً لكل هذا الانفصال، عن الأُلُوهية، الذي لا يَستقر إلا بالحديد والنار.
تلك أُسُسُ الحضارة ومَنابعها، ومصادرها: عقلٌ، فضَميرٌ، فتطوُّر، فانتهاء إلى أمثال هذه النُّظُم التي خرجت بالإنسان عن الجادَّةِ.
والدين إذنْ لا يُعارض التقدُّم في سبيل إسعاد البشرية، هذه قضية نحن مُسلِّمون بها.
الإسلام:
نُريد أن نتحدث عن الإسلام، وتكفيني كلمة: "الإسلام"، تكفيني هذه الكلمة للدلالة على أن هذا الدين صحيحٌ، مُنَزَّلٌ مِن عند الله، إن معنى الإسلام الاستسلام لله في كل مَظهر مِن المَظاهر، وفي كل حركة مِن الحركات، وفي كل أمر مِن الأمور، ويُصوِّر المعنى لهذا التعبير الرائع الآية القرآنية الكريمة: (قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ ربِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لهُ وبِذَلكَ أُمِرْتُ وأنَا أوَّلُ المُسْلِمِينَ).
إن هذا التصوير للإسلام في هذه الآية الكريمة رائعٌ حقًّا.
استسلام لله، أيْ دُخول في النِّطاق الإلهي، وابتعاد عن الهوَى والشيطان، إنه إسلام الوَجه للهِ، فرْقٌ كبير بين هذا وبين الخروج عن النطاق الإلهي بالشيوعية أو بالوُجودية.(1/1314)
وفيما يتعلَّق بالإسلام هناك النُّظم المَعْصومة، هناك الأخلاق المَعصومة والتشريع المَعصوم، هناك إذنْ العِصْمَة كاملة، ولكن الاسْتِسْلام لله يقتضي شيئًا آخر هو الجهاد، والكفاح المُستمر مِن أجل الحق والخير وإعلاء كلمةِ الله، فإذا لم يكن هناكَ جهادٌ مِن أجل الإسلام فلا إسلام، ومَن لم يُجاهد مِن أجل إسلامه، فليس بمُسلم، هناك إذنْ الجهاد، وهناك الاتجاه إلى جعْل الإنسان رَبَّانِيًّا أو إلَهِيًّا.
ولكن ما هي السبيل التي رسَمها الإسلام لجعْل الإنسان ربَّانيًّا.
1 ـ ضمِن اللهُ الرِّزْق.
2 ـ وحدَّد الآجال.
(وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ). وضعْفنا وانشغالنا بالرِّزْق والحرْص عليه أكَّد الله ضمانَه بقوله ـ تعالى: (فَوَرَبِّ السماءِ والأرضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنْطِقُونَ). وحدَّد الآجال، وضرَب لذلك أوضح الأمثال، فلو فرَضنا أن إنسانًا في بُرْجٍ مُشَيَّدٍ، وكُتب عليه القتْل، لخرَج مِن هذا البرج المُشيَّد إلى القتْل: (ثُمَّ أنْزَلَ عليكمْ مِن بعدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وطائفةٌ قد أَهَمَّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ باللهِ غيرَ الحقِّ ظَنَّ الجاهليةِ يَقُولونَ هلْ لنَا مِن الأمْرِ مِن شيءٍ قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لكَ يَقُولونَ لو كانَ لنَا مِن الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لوْ كُنْتُمْ فِي بُيوتِكُمْ لَبَرَزَ الذِينَ كُتِبَ علَيهمْ القَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ ولِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا في صُدورِكُمْ ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلوبِكُمْ واللهُ عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ).
فإذنْ الآجال مُحدَّدةٌ، والأرْزاق مَضمونة، فماذا بعد ذلك إلا الاتِّجاه إلى الله كُليةً وبكل ما تَملِك وما تُحسُّ، وبكل ما تَشعر.
وليس الاتجاه إلى اللهِ كَسَلًا، فالأعمال عبادةٌ ما دُمتَ مُتَّجِهًا بها إلى الله.(1/1315)
حركاتُك وسَكناتُك وأنفاسُك إذا اتَّجهتَ بها إلى الله فهي عبادةٌ، فالعامل في مَعْمله إذا اتَّجه بعَمله إلى الله فهو عابد، والصانع في مَصنعه عابد، إذا كان مُتَّجِهًا بعَمله إلى الله، ومَن كانت هِجرته إلى الله ورسوله بعَمَله وصناعته وحركاته وسَكناته، فهِجرته إلى الله ورسوله، والله يُثيبُه على ما فعَله. إذَا كان الله قد ضمِن الرزق، وحدَّد الآجال، فليس هناك مُطلَقًا عُذْرٌ مِن الأعذار للمُسلم لأنْ يَتخاذلَ وأن يتكاسلَ وأن يتواكل.
والصورة المُثلَى في ذلك، إنما هي صورةُ محمد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ في كِفاحه الذي لم يَفْتُرْ، وجِهاده المُستمِر، وهي صورة للمُتأسِّينَ به، يجب أن تُحتذَى، ولكن لِمَ الجهاد؟ ولِمَ الكفاح؟
هناك رسالة إسلامية ونحن مُكلَّفُونَ بها، ونحن لا نقول الأزهر فحسب هو المُكلَّف بها، إنما نقول: إن كل مسلم مُكلَّف بهذه الرسالة.
وهذه الرسالة الإسلامية تُصوِّرُها الآية الكريمة: (ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
والرحمة بالإنسانية: إنما هي إخراجها عن دائرة الشيطان إلى دائرة الله ـ سبحانه وتعالى.
إخراجها عن التناحُر، وعن التنازُع مِن أجل المادة إلى السموِّ في آفاق الأُخوَّة، وفي آفاق الرحمة الشاملة العامَّة، هذه الرسالة الرحيمة الرَّحْمانية، التي حدَّدها بنُظمه ومَبادئه هي التي كلَّفَنَا بها، وكُنَّا خيرَ أمَّةٍ أُخرجت للناس مِن أجلها، إذا لم نَقُمْ بها في وجْه الحضارة الحديثة لا نكون مُسلمين، أو على الأقلِّ في عملنا السلبيِّ مِن الذينَ يَتأسَّوْنَ بصاحب الرسالة الإسلامية، ولن يكونَ لنَا إلا الفَخْرُ بأننا مِن حمَلَةِ الرسالة الرحْمانيَّة رسالةِ الرحْمة المُهْداة.
اعتزاز المُسلم بدِينِهِ:(1/1316)
والواقع أن المسلم يجب أن يَفخر حقيقةً بدِينِهِ وبنُظُمِهِ وبرَسوله، وبأُمَّتِهِ ودُون أن نريد مُوازنة في قليل ولا كثير، نرى أن هذا الشيخ الوَقُور سيدنا نُوحًا ـ عليه السلام ـ الذي عاشَ في قوْمهِ ألْفَ سَنَةٍ إلا خمسينَ عامًا، يَدْعُوهم إلى الله، انتهى به الأمر في هذه الفترة الطويلة بأن كانت كل الحَصيلة مَجموعة حُملتْ في سفينةٍ.
وإذا جِئْنَا إلى سيدنا موسى نجد أنه حين أراد القِتال قال له قومه: (يا مُوسى إنَّا لنْ نَدْخُلَهَا أبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أنتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).
ومِن الصور القرآنيةِ الطريفةِ جِدًّا، أن سيدنا موسى بعد أن جاهدَ في قومه هذا الجهاد بالدعوة والإرشاد والنصيحة ترَكهم فترةً وتقدَّمهم قليلاً، فخاطبَه الله بقوله: (ومَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ علَى أَثَرِي وعَجِلْتُ إليكَ رَبِّ لِتَرْضَى). فذكر كَلِيمُ الله، أن قومه هم أولاء على أثره، ولكن الشوْق والحبَّ حمَله على ذلك: (وعَجِلْتُ إليكَ رَبِّ لِتَرْضَى). وجميلٌ هذا، لكنِ انْظُرُوا إلى التربية الحكيمة في الأسلوب المُهذَّب هذا الأسلوب الذي كأنه يقول: إنكَ لم تُحْكِمْ أمر الدعوة مِن وَرَائك، وإن إحكام أمر الدعوة إنما هو لِقاء الله: (قالَ فإِنَّا قدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا).
وإذا جئنا إلى عيسى، فإننا نجد أن سيدنا عيسى ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ حين رفَعه اللهُ إليه، لم يكن هناك مَن يُقِرُّ برسالته، إلا بضعة أفرادٍ يُعَدُّونَ على الأصابع، أو يُعدُّونَ بالعَشَرات، وأكبر تقديرٍ لأتباع سيدنا عيسى أنهم كانوا ثَلاثَمائةٍ.(1/1317)
أخَذ سيدنا مُوسى قومَهُ مِن مصر فَارًّا بهمْ، ولم يُقاتل، ولم يُجاهد، وحينَ أدرَكه فرعونُ لم يتوجَّه إلى القتال وإلى الجِهاد، وإنَّما تَوَجَّه إلى الله، فأمَره بضرْب البحر بعَصاه، فضرَب البحر، فانْفلقَ، فكان كل فرْقٍ كالطَّوْدِ العَظِيم، ومَرَّ موسى وقومُه آمِنِينَ دُونَ جِهادٍ ودون كِفاحٍ.
وسيدنا عيسى لم يتوجَّه إلى القتال ولا الكِفاح، في سبيل إعلاء كلمة الله التي هي الحقُّ والخير.
ولكن إذا جِئْنَا إلى سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإننا نجد مُباشرةً العزْم المُصَمِّم، والإرادة النافذة، يجب أن يَدين العالَم لله، وأن يُسلم وَجْهه لله، لتِلك الرسالة الإسلامية ويجب أن يقف محمد ـ صلوات الله عليه ـ ولو بمُفرده ـ في وَجْه العالَم كله، في وجه الكوْن بأَكمله، في وجه هذه الدنيا.
يجب أن يَدِينَ العالَم، يجب أن تَدِينَ السماء والأرض، وأن يَدين البشر بأجمعهم لرسالة السماء، ووقف سيدنا محمد يُجاهد ويُجالِد، ويُكافح، ويَتخطَّى العَقبات، ويتغلَّب على الصعوبات إلى أن انتهى به الأمر إلى النصر الكامِل بالكفاح في سبيل الحق، الكفاح إذنْ جزءٌ لا يتجزَّأ مِن الرسالة الإسلامية، إنه الكِفاح مِن أجْل الله لا مِن أجْل مادة الشيوعيينَ، الكفاح مِن أجل الله لا مِن أجْل أهواء الوُجوديِّينَ، إن الرسالة الإسلامية رسالةُ رحمةٍ، ورسالة كِفاحٍ مِن أجل الرحمة، ورَسولها خير مُعبِّر عنها بسُلوكه ومَواقفه، فمَن لم يتأسَّ بالرسول، ومَن لم يُكافح في سبيل الإسلام، فليس له أن يفخر بأنه مُسلم فضلًا عن أن يزعم أنه مُسلمٌ مِثاليٌّ:
تغلَّب محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كل عَقبة، وزلْزلَ كل صعوبة، وحطَّم كل صنَم، وانتهى به الأمر إلى أنْ شاهد ارتفاع الأذان الإسلامي فوق الكعبة، وفي مكة التي كانت تأبَى كل الإبَاء أن تَدِينَ لله، وأن تُسلم وَجْهَهَا إلى الله وحده.(1/1318)
ومُهِمَّتُنَا جميعًا ـ إذن ـ هي مهمة الرسول العظيم، تحطيم الأصنام، صَنَمِ الشهرةِ والهوَى المُتغلغل في النفس، وتحطيم صنَم المادة، ونَشْر رسالة الحق والرحمة حتى ننتهي مِن كل ذلك بأن يُسلم العالَم وَجْهَهُ إلى الله.
فإذا انتهينا إلى ذلك، أو إذا ما حقَّقناهُ كُنَّا في رِضوانِ الله، وكُنَّا مِن هؤلاء الذين رضِيَ اللهُ عنهم ورضوا عنه.
وإني لأرجو في النهاية أن يتكاتف المُخلصون في العالَم الإسلامي ويَتَسانَدُوا، لِيَقِفُوا أمام هذا الزحْف المُتتابع مِن المَدنية الغربية التي تريد أن تَطْمِسَ في أهدافه، وفي نُظمه، وفي تعاليمه، وفي أقدس مُقَدَّساته، وإذا أمكن أن يتكاتف المُخلِصون، فإنَّ الأمر سينتهي بالنصر، أمَّا إذا لم يتكاتفوا فإنَّ ذلك لا يُعفي كل مسلم ـ مُنفردًا مِن العمل الجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، والعمل على سيادة المبادئ الإسلامية؛ ففِيها سعادة العالَم إنْ شاء الله ـ تعالى.(1/1319)
تحديدُ النَّسْلِ فِكرةٌ مُنْكَرةٌ
لم تظهر هذه الفكرة المُنكَرة إلا في العُصور الحديثة، وأراد أنصارها تَبريرها فلَجَؤُوا إلى الحديث عن موضوع: "العَزْل" وليس لمَوضوع "العزْل" بها مِن صِلَةٍ، إنَّ موضوع العزْل مثله كمَثل الامْتناع عن النَّسْل بالنسبة للأم المَريضة التي يَضرُّها الحمْل، أتُرَى أن الامْتناع عَن الحَمْل بالنسبة للأمِّ المَريضة يأتي بُرهانًا في باب إباحة تحديد النسل؟ هناك المرض الجِسماني.. إنه لا يَتَّخِذ حُجَّةَ إباحةَ تحديدِ النسل، وهناك الإرادة الحَكيمة عند كثير مِن الناس الحرْص على شرَف الأنْساب، أو بتعبير مُناسب، في الحرص على صحة الأنساب، أيْ على ألا تكون الأنساب مريضةً.
والغالبية العُظمى من الجواري لا يُعرف لهنَّ أنساب فأُبيح "العزْل" بالنسبة للجواري حِرْصًا على النُّطفة مِن أن تصل إلى خَضْراءِ الدِّمَنِ، سواء كانت خضراء الدِّمَنِ مِن الأحرار أو مِن الجواري، يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وخَضْرَاء الدمَن، قالوا: ومَا خَضراءُ الدِّمَنِ؟ قال: المَرأة الحسناءُ في مَنْبَتِ السُّوءِ". وكانوا يَعزلون تَخيُّرًا لنُطَفِهم.(1/1320)
يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ العِرْقَ دَسَّاسٌ". إن في بني البشر أُناسًا يَتطهرون، ومَن تَطهُّرهم أن يَحرصوا على الفضيلة في أنفسهم، ويَحرصوا على أن يُهيئوا جوَّ الفضيلة لأبنائهم قبل أن يُولَدُوا، وبعد أن يُولدوا، ومِن هنا كان حرْصهم على أن يَظفروا بذات الدِّين، فإذا لم يتهيَّأ لهم ذلك فإنهم لا يَجدون بأسًا في الامتناع عن الإنجاب حتى يُهيئ لهم الله الجو المناسب للإنجاب، فإذا ما تهيأ الجو المناسب للإنجاب ـ وهذا ما نرجو أن يَنْتبه إليه المُؤيدون لتحديد النسل ـ فإنهم يُنجبون بدون حساب ـ شاكرينَ اللهَ على نِعمته ـ لا يُحددون نسْلًا، فإنهم يُنجبون ولا يُنظِّمون نَسْلًا، لا صلة إذنْ للعزْل بموضوع تحديد النسل، وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حين يَطمئنون إلى شرَف الجواري لا يَعزلون، كما حدث ذلك بالنسبة لبنات كسْرَى، وقد أنجبنَ الشُّرَفَاءَ والنُّجَبَاءَ، هل سمعت عن أحدٍ مِن الصحابة حدَّد النسل لضِيقِ ذات اليد؟ أين إذنْ قول الله ـ تعالى: (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرضِ إلَّا علَى اللهِ رِزْقُهَا). وأين إذنْ: (وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ). ثم القسم الإلهيُّ على ذلك: (فَوَرَبِّ السماءِ والأرضِ إنَّهُ لَحَقٌّ).
ويَلْجأ أنصار تحديد النسل ـ في مصر ـ دائمًا، إلى رُقعة الأرض المصرية.. المَزروعة، ويُحدِّدونها "بالمتر" و"السنتيمتر"، ويُحدِّدون ما تكفيه هذه الرُّقْعة مِن أفواه، ويَحسبون ذلك بالعقل: "الإلكتروني"، وإنهم لمُخطئونَ.(1/1321)
أولًا: إن الصحراء يُمكن أن تُقْهَر أو تُذلَّل، وأن تُصبح ثروةً ضخمةً لو وَجَدَتِ الإخلاص لله وللوطن، لو وَجدت أذكياء قد تَخَلَّوْا عن الخُمول، لو وَجدت رجالًا يَنظرون إلى مصر مُحبِّينَ لها عاملينَ مِن أجلها، وخُذْ أمثلة مِن كل قارَّة في العالَم، فستَجدُ مَن زَرَعُوا الصحراء بزِراعات مناسبة، وتغلبوا عليها.. إن أشجار الزيتون مثلًا تصبر على الماء ثلاث سنوات، هل فكَّرنا في زراعة الزيتون، وليس في أراضينا أرضٌ لا يَنزل فيها المَطر، لا صَيْفًا ولا شتاء ثلاث سنوات متوالية إلا في النادِر المَحدود، إن أقاليمَ بـ "تُونس" لا تنزل فيها الأمطار إلا نادرًا، لقد زرعتها "تونس" زيتونًا، وأصبح الزيتون في تونس مِن المصادر الرئيسية للثروة، ويَستطيع خبراء الزراعة أن يُحدِّثوك عن إمكاناتٍ لا حدَّ لها فيما يتعلق باستثمار الصحراء.
هل قرأتَ كتاب: "الصحراء ثَرْوَةٌ وثَوْرَةٌ"، إن مؤلفه يُؤكِّد أنه مِن المُمكن زراعة سبعينَ مليونًا مِن الأفدنة في مصر، لابد مِن أن يَنتَفضَ رجال مصر انتفاضةً مُؤمنة بمصر وبمُستقبل مصر، ويجب أن يُفكِّروا في جِدٍّ وإخلاص في تذليل الصحراء وقهْرها، وفي الاستفادة بكل قَطْرةٍ مِن مياه النيل، وفي طرق الري الحديثة. وفي وسائل الإخْصاب الزراعي الكثيرة. وفي عصرٍ مُزدهر لمصر الزراعية.
ومع كل ذلك فإننا نقول مع القائلينَ المُخلصين الصادقينَ: إن الاتجاه في مصر إلى الزراعة قُصور في التفكير، بل هو قصور المُستعمر، ولم نتخلص منه إلى الآن. إن المستعمر أراد لمِصر أن تَقْبَعَ بين حدود معينة مِن الأراضي الزراعية التي لا تَنطلق منها إلى بقية البُقْعة الأرضية الصحراوية لِتَظَلَّ مَحدودةَ الدخْل، محدودةَ الإمكانيات، محدودة التأثير في العالَم، لا دَوْرَ لها بين الأمَم.(1/1322)
واستجاب لذلك عُملاء الاستعمار، فوَجَّهوا الأنظار دائمًا إلى خمسة ملايينَ مِن الأفدنة، هي الأرض الزراعية فقط، وأعلنوا أنْ لا مجال في غيرها، وترَكوا النيل يَصُبُّ في البحر، ووَجَّهَ المُستعمر اهتمامَه إلى الزراعة فقط، إن مصر ـ فيما رأى المُستعمر ـ بلدٌ رزاعيٌّ، لا شأن له بالصناعة، وليست مصر بجوٍّ صالح للصناعة، إن الصناعة تحتاج إلى مواد خام، وليس بمصر مِن هذه المواد الخام ما يَفِي بمُتطَلَّبات الصناعة. واستجاب علماء الاستعمار إلى هذا التوجُّه، وأعلنوا ـ كما أعلن المستعمر ـ أن مصر بلدٌ لا تَصلح فيه الصناعة، وردَّد عُملاء الاستعمار هذا الإعلان بحُجة المُستعمر بأنه ليس في مصر موادُّ خامٌ.
وكل مِصريٍّ يعلم أن هذا كله باطل، وأن المواد الخام أو مُعظمها موجودةٌ بمصر، وأن مصر بلدٌ صناعيٌّ، بمِقدار ما هو زراعي، ومع كل ذلك فقد بدأ "البترول يسيلُ شيئًا فشيئًا، وبدأت الآمالُ عريضةً في تيسير الله ـ تعالى ـ لِتَدَفُّقِهِ.
تحديد النسل!! إنها فكرة مُنكَرة!!
وهي إذا اتَّخذتِ الأساسَ "ضِيقَ ذاتِ اليَدِ"، فإنها فكرة تُخالف الدِّين، يُحَرمها الدِّين، وأقولها بالصوت الجهير، وأكتبها بالخط العريض، إنها فكرة ليست في مَصلحة مصر.
ويُمكن أن نقول مع الدكتور: علي عبد الواحد عميد علْم الاجتماع في مصر: "إن مشكلة مصر قلَّة النَّسْل".
وعلى ذلك: فإن ما يُنفق على مراكز تنظيم النسل يجب أن يُنفق على شيء نافع، ويجب أن تُغلَق هذه المراكز: اللهم إني قد بلَّغْتُ، اللهم فاشهدْ.(1/1323)
القرآن مصدر الهداية:
ولا بد هنا مِن كلمة إلى كل مسئول في الدولة: إن القرآن الكريم هو مصدر هدايتنا وأساس نَجاحنا دُنيا وأخرى، ومهما اختلفنا في أمْرٍ مِن الأمور، فإننا لا نختلف في النتيجة السعيدة التي تُثمرها العناية بالقرآن الكريم، للفرد، وللأسرة وللمجتمع.
(إنَّ هذا القرآنَ يَهْدِي للَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). التي هي أقوم في العقيدة، والتي هي أقوم في الأخلاق، والتي هي أقوم في التشريع، والتي هي أقوم في نِظام المجتمع.
وإن مِن مفهوم الإيمان عند كل مُؤمن، اليقينُ بذلك، ولا يَختلف المؤمنون في شيء مِن هذا أبدًا، وتعاليم القرآن في كل زاوية مِن زوايَا الحياة هي الصراط المستقيم، خُذْ مَثَلًا العلْم والحثَّ عليه: العلْم بالله، وبالكون، وبالأرض والسماء، وبما بين الأرض والسماء، فستَجِد أروع ما قيل في الحثِّ على طلَبِ العلْم. خُذ مَثَلًا الأمانة: تجد القرآن يدخلها ـ كجزء لا يتجزأ ـ في مفهوم الإيمان، يقول ـ صلوات الله وسلامه عليه: "لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ لهُ". خُذِ الشورى، خُذِ الجهاد، وخُذ الإعداد للجهاد ماديًّا ومعنويًّا، خذ العمل والضرْب في الأرض، والسعْي في مَناكِبِها، وخُذ أرْوع الأخلاق الإنسانية العالية مِن:
الرحمة: (ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً للعَالَمِينَ).
العدْل، والإحسان: (إنَّ اللهَ يأَمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ).
ومفهوم الإيمان الصادق، ما هو؟(1/1324)
(إنَّمَا المُؤمنونَ الذينَ آمَنُوا باللهِ ورَسُولهِ ثُمَّ لمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ في سبيلِ اللهِ أولئكَ هُمُ الصادقونَ). فإذا أردتَ بيانًا لهذه الآية الكريمة، في شيء مِن التفصيل فستَجِد: (قدْ أفْلَحَ المُؤمنونَ الذينَ همْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ والذينَ هُمْ عنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ والذينَ همْ للزَّكَاةِ فَاعِلُونَ والذينَ همْ لفُروجِهمْ حَافظونَ إلاَّ علَى أزْواجِهمْ أو مَا مَلَكَتْ أيمَانُهمْ فإنَّهمْ غيرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلكَ فَأُولئكَ همُ العَادونَ والذينَ همْ لأماناتِهمْ وعَهْدِهمْ راعونَ والذينَ هُمْ علَى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئكَ همُ الوَارِثونَ الذينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ همْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وسنجِد: (إنَّما المُؤمنونَ الذينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهمْ وإذَا تُلِيَتْ عليهمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيمَانًا وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ ومِمَّا رَزَقْناهمْ يُنْفِقُونَ أُولئكَ همُ المُؤمنونَ حَقًّا).(1/1325)
وسنجِد: (وعِبادُ الرحمنِ الذينَ يَمْشُونَ علَى الأرضِ هَوْنًا وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قالُوا سَلامًا والذينَ يَبِيتُونَ لرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقِيامًا والذينَ يَقُولونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جهنَّمَ إنَّ عَذابَهَا كانَ غَرَامًا إنَّها ساءتْ مُستقرًّا ومُقامًا والذينَ إذَا أنْفَقُوا لمْ يُسْرِفُوا ولمْ يَقْتُرُوا وكانَ بينَ ذلكَ قَوَامًا والذينَ لا يَدْعُونَ معَ اللهِ إلهًا آخرَ ولا يَقْتُلُونَ النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلاَّ بالحَقِّ ولا يزنونَ ومَن يَفعلْ ذلكَ يلقَ أثَامًا يُضاعَفْ لهُ العذابُ يومَ القيامةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا إلَّا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا ومَن تابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلى اللهِ مَتابًا والذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وإذَا مَرُّوا باللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا والذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بآياتِ رَبِّهِمْ لم يَخِرُّوا علَيْهَا صُمًّا وعُمْيانًا والذينَ يَقولونَ رَبَّنَا هَبْ لنَا مِن أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ويُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسَلامًا خَالِدِينَ فيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقَامًا).
وستجد الخُلُقَ أسمَى ما يكون الخُلق، وستجد التشريع المَعصوم الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديهِ ولا مِن خَلْفه، وستجد العقيدة أصدق ما تكون العقيدة.
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا). لقد تمَّتْ صِدْقًا في العقيدة والأخلاق، وتمَّت عدلًا في التشريع ونظام المجتمع، إنها تمَّت صدقًا في جميع أجواء الصدق، وتمَّت عدلًا في جميع أجواء العدْل.(1/1326)
وهي ـ في صدْقها ـ خالدةٌ أبديةٌ، وكلها مُتضمنة في القرآن الكريم، وفيما بيَّنه مِن سُنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسِيرته.
وإذا كان الأمر كذلك فما بالُ قومنا اتَّخذوا هذا القرآن مَهْجورًا؟
إن الكثيرين ـ مِن كبار المسئولين، لا يُؤدون للقرآن ما ينبغي له، وإن الكثيرين مِن كبار الأثرياء، لا يُؤدون للقرآن ما ينبغي له، وإن الكثيرين مِن كبار المُثقفين لا يُؤدون للقرآن ما ينبغي له، وستنتهي حياة كل هؤلاء في يوم من الأيام، ولن ينفعهم جاهُهم ولا ثراؤهم ولا ثقافتهم، إلى هؤلاء جميعا نقول: (يا أيُّها الذينَ آمنوا اتَّقُوا اللهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبيرٌ بِمَا تَعملونَ ولا تَكُونوا كالذينَ نَسُوا اللهَ فأَنْسَاهُمْ أنْفُسَهُمْ أولئكَ همُ الفَاسِقونَ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وأَصْحابُ الجنَّةِ أصْحابُ الجَنَّة همُ الفَائِزُونَ لوْ أنْزَلْنَا هذا القرآنَ علَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشْيَةِ اللهِ وتلكَ الأمثالُ نَضْرِبُهَا للناسِ لعلَّهمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الذي لا إلهَ إلا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السلامُ المُؤمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هو اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لهُ الأسماءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لهُ ما في السمواتِ والأرضِ هوَ العزيزُ الحَكيمُ).
وما مِن شكٍّ في أن هناك صَفْوة مِن المُتقين لهم عِناية بالقرآن، ولكن الجمعيات التي تُعنَى بالقرآن تُعاني مِن بُخل الأثرياء، ومِن تَعويق المسئولينَ ما تُعاني.(1/1327)
وهناك مجموعة ـ قليلة ـ مِن المُحافظين تَتَّجِهُ مَشكورةً إلى العناية بالقرآن، ولكنها تَخطو في خُطواتٍ بَطيئة، أمَّا وزارة التعليم فإنها في حقيقة الأمر المَجالُ الخصْبُ والحقل المُثمر لو اتَّجهت نحو القرآن الكريم بعزيمةٍ صادقة.
وإنَّ كل مَن يتَّجه إلى العناية بالقرآن الكريم، في وزارة التعليم فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سيَجزيه خيرَ الجزاء، في نفسه وفي أسرته: (إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ مَن أحْسَنَ عَمَلًا). ولن ينفع الأثَرُ الشُّحُّ بمالِهم في هذه الحياة، ولا في الحياة الأخرى، ولقد شَحَّ الأثرياء بأموالهم عن إنْفاقها في سبيل الله والعناية بالقرآن، وتقوية الشعور الديني ـ شعور الاسْتمساك بالكتاب والسُّنَّة ـ فدارتْ عليهم دائرةُ مُصادرة الأموال وقمْع الحريات، والتعذيب والتنكيل والخَسْف وباءوا بالخُسْران والحَسْرة.
لقد الْتقَى أحدُ كبار الأثرياء يومًا بشيخٍ مِن شيوخنا الصالحين، فنَصحه هذا الشيخ بأن يُقدِّمَ لله ولآخرته بناءَ معهدٍ دينيٍّ للقرآن الكريم وللعِلْم الشريف، فأبَى الثريُّ، صاحب الضياع الواسعة والآلاف مِن الأفدنة ثم... ثم كان ما يَعلمه كل ثرِيٍّ، شَحَّ بمالِهِ في سبيل الله.
(يا أيُّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللهَ). ولعلك تتساءل ما بال الأزهر لا يرعى هذا الجانب؟
والواقع أن الأزهر يَعْنِيه ـ في الدرجة الأولى ـ إنشاء معاهدَ، تُخرج العلماء الذين يقفون سدًّا مَنيعًا، يصد كل تيار مُنحرف، إن الأزهر يجب أن يكون له في كل قرية معهد ابتدائي وآخر إعدادي، ويكون له في كل بلدة معهد ابتدائي، وآخر إعدادي، وثالث ثانوي، أمَّا المدن وعواصم المُحافظات، فإن الأزهر يجب أن يكون له في كل حيٍّ معاهد مِن كل نوع ممَّا تقدم، ولكن يَحُول دون ذلك قُصورُ مِيزانيَّته.(1/1328)
إن مِن أنْفَسِ أعمال الخير ـ التي يُباركها الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله ـ إنشاء هذه المعاهد، لمَا يُرجَى منها في نَشْر الوعْي الديني وإحياء التراث الروحي حقًّا، إن كثيرينَ مِن أفراد الأمة المصرية ـ جزاهم الله خيرًا ـ قد اتَّجهوا إلى بناء المساجد، وهو عمل يُشكرون عليه، وإنَّ مِن الأعمال العريقة في الخيرِ إنشاء المَعاهد لتحفيظ القرآن وتعليم العلْم فإذا اتَّجه الخيِّرُونَ إلى إنشاء هذه المَعاهد فإن ذلك يكون دليلًا على الأخذ بأسباب الإصلاح المُثمرة.
وأحبُّ أن أقول للعاملين على الإصلاح: إن مِن وسائل الإصلاح الأخلاقيِّ الحاسمة أن يَنتشر الوعْي الديني في اسْتِفاضة، ولن يتأتَّى ذلك إلا إذا أكثرنا مِن المعاهد الدينية الأزهرية.
ونضرع إلى الله ـ تعالى ـ مُخلصين أن يُوَجِّهَ الخيِّرينَ إلى ذلك.(1/1329)
الإسلام لكل زمانٍ ومكان
الإسلام على الحقيقة ـ كما يقول الإمام البخاري ـ هو الذي يُؤخَذُ من قوله ـ تعالى: (قالتِ الأعرابُ آمَنَّا قُلْ لمْ تُؤْمِنُوا ولكنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا).
أما إذا كان على الحقيقة فهو على قوله ـ جل ذكره: (إنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ). وعلى قوله ـ سبحانه: (ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ).
الإسلام ـ الدين الخالِص ـ يقول عنه "الراغب الأصفهاني": إنه فوق الإيمان، وهو ـ مع الاعتراف ـ اعتقادٌ بالقلب، ووفاءٌ بالفعْل، واستسلام لله في جميع ما قضَى وقدَّر، كما ذكَر عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ في قوله: (إذْ قالَ له ربُّهُ أسلمْ قالَ أسْلمتُ لربِّ العَالَمِينَ). وقوله ـ تعالى: (إنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسْلامُ). وقوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا). أي اجْعلْنِي ممَّن استسلمَ لرِضاكَ، ويجوز أن يكون معناه: اجْعَلْني سالِمًا عن أسْرِ الشيطان، حيث قال: (لأُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ).
وقوله: (إنْ تُسْمِعُ إلَّا مَن يُؤْمِنُ بآيَاتِنَا فَهُمْ مُسلِمونَ). أي مُنقادون للحق مُذْعِنُونَ له. (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الذِينَ أسْلَمُوا). أي الذين انقادوا مِن الأنبياء، الذين ليسوا مِن أُولِي العزْم "مِن الرُّسُل"، الذين يهتدون بأمر الله ويأتون بالشرائع. وهذا المعنى الذي ذكره صاحب المُفردات، يرتبط ارتباطًا وَثِيقًا بالمعنى اللُّغَوي لكلمة: إسلام.
يقول ابن الأنباري: "المُتوفَّى سَنة ثلاثمائة وثمانٍ مِن الهجرة" في المعنى اللُّغَوي للكلمة: "المسلم: معناه المُخلص لله في عبادته، مِن قولهم: سَلِمَ الشيء لفلان: خلُص له، فالإسلام معناه: إخلاص الدِّين، والعقيدة لله ـ تعالى".
وسواء نظر الإنسان إلى المعنى الشرعي للكلمة، أو إلى المعنى اللغوي فإنه يجد أن هذا اللفظ لا يُشير:(1/1330)
1 ـ إلى شخص مُعيَّن، كما تُشير "البُوذية" مثلًا إلى بُوذًا، والزرادشتية إلى زرادشت.
2 ـ ولا إلى شعبٍ مُعيَّن، كما تُشير "اليهودية" إلى شعبٍ بذاته.
3 ـ ولا إلى "إقليم" أو بلد مُعيَّن، كما تُشير "النصرانية"، والدِّينُ الذي يدلُّ أو ينتسب أو يُشير إلى شخص مُعين أو إلى شعب معين، أو إلى إقليم معين، يتَحدَّد زمنه، ضرورةً بابتداء الشخص أو الشعب، ويتحدَّد بالمكان، ولكن كلمة: "الإسلام" لا تدلُّ على زمان ولا مكان فهي لا تُشير إلى زمن يَحُدُّها. ولا إلى مكان تتقيَّد به.
وتضعنا هذه الكلمة ـ مباشرةً ـ في جو عالميٍّ، مُطلق، بل في جو عالمي، يتخطَّى حُدودَ هذا العالَم الأرضي ـ إذ أمكن ذلك فلا يتقيَّد به، ولا يتحدَّد بحُدوده.
إنها لا تُحَدُّ بالبعثة المُحمدية، فسيدنا نوح ـ عليه السلام ـ يقول لقومه: (فإنْ تَوَلَّيْتُْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلَّا علَى اللهِ وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسلمينَ).
وسيدنا إبراهيم يقول عنه القرآن الكريم: (مَا كانَ إبراهيمُ يَهوديًّا ولا نَصرانيًّا ولكنْ كانَ حَنِيفًا مُسلِمًا ومَا كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ).
وحينما كان سيدنا إبراهيم يرفع القواعد مِن البيت، هو وسيدنا إسماعيل أخذَا يدْعوانِ الله ـ سبحانه ـ قائلينِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لكَ ومِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لكَ وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أنتَ التَّوَابُ الرَّحيمُ).
ولم يَنْسَ سيدنا إبراهيم، وسيدنا يعقوب أن يُوصيَا بَنِيهِمَا بالإسلام،
يقول ـ تعالى: (ووَصَّى بِهَا إبراهيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللهَ اصْطَفَى لكمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلَّا وأنتمْ مُسْلِمُونَ).(1/1331)
وحينما حضَر سيدنا يعقوبَ الموتُ قال لبَنيه مُسْتَفْسِرًا ليَذهب إلى ربه مُطمَئِنًا: (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبَائِكَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ إلَهًا واحِدًا ونَحنُ لهُ مُسلمُونَ).
وقال سيدنا موسى لقومه: (يا قومِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللهِ فعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنتمْ مُسلِمِينَ). وسيدنا يوسف يتَّجه إلى الله بالحمد والشكر والدعاء (ربِّ قدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحاديثِ فَاطِرَ السَّماواتِ والأرضِ أنتَ وَلِيِّي في الدنيَا والآخرةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ).
وأوحى الله إلى الحواريينَ أن: (آمِنُوا بِي وبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا واشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسلمونَ). ولمَّا أَحَسَّ عيسى مِن قومه الكُفْر سألهم قائلاً: (مَن أنْصَارِي إلى اللهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نحنُ أنصارُ اللهِ آمَنَّا باللهِ واشْهَدْ بِأَنَّا مُسلِمُونَ). على أن تسمية أتباع الدين الإسلامي ـ في العصر الحاضر ـ بالمُسلمين كانت تسميةً سابقةً على وُجودهم الزمني، فلقد بيَّن الله ـ سبحانه ـ في آية مِن القرآن بعض جوانب الرسالة المُلْقاة على عاتِق الأمة الإسلامية وأشار فيها إلى سيدنا إبراهيم، وهي آية التوجيه الإلهي، الذي يجب أن يكون شعارَ كل مسلم، فقال ـ سبحانه: (وجَاهِدُوا في اللهِ حقَّ جِهادِهِ هو اجْتَبَاكُمْ ومَا جَعَلَ عليكمْ في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أبِيكُمْ إبراهيمَ هوَ سَمَّاكُمُ المُسلمينَ مِن قبلُ وفي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عليكمْ وتَكونُوا شُهداءَ علَى الناسِ فَأَقِيمُوا الصلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ واعْتَصِمُوا باللهِ هوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى ونِعْمَ النَّصِيرُ).(1/1332)
ومِن البديهي أن يكون الإسلام بهذه المَكانة مِن العُموم والشمول في المكان ومِن عدم التحديد بالبعْثة المحمدية، فإن أساسه لا يختلف فيه اثنانِ، وإنَّ مَبادئه الجوهرية حينما تُعرَض على النفوس المُخلصة لا تجد إلا القَبُول والإذْعان.(1/1333)
في أساس الإسلام وجَوْهره
القرآن يَعرض الإسلام ـ في أساسه وجوهره ـ في كلمات قليلة لا مناصَ مِن الإيمان بها عندما يُوجد الإخلاص، يقول ـ تعالى ـ آمرًا رسوله الكريم: (قُلْ إنَّمَا يُوحَى إليَّ أنَّمَا إلَهكُمْ إلهٌ واحدٌ فهل أَنْتُمْ مُسلمونَ). ويأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خِطابه مع أهل الكتاب أن يقول لهم: (قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وبيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللهَ ولا نُشْرِكَ بهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِن دُونِ اللهِ فإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ).
وبيَّن الله لهم ـ سبحانه وتعالى ـ إحدى علاماتِ الصادقين والمُرسلين مُفرِّقًا بهذه المناسبة بين الكفر والإيمان فيقول: (ما كانَ لبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ للناسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِن دُونِ اللهِ ولكنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ولا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بالكُفْرِ بعدَ إذْ أَنْتُمْ مُسلِمُونَ).
ويُبيِّن الله في عُمومٍ شاملٍ وفي شمولٍ عامٍّ، في صورة استفهام تقريريٍّ جوهرَ التديُّن فيقول ـ سبحانه: (ومَن أحسَنُ دِينًا ممَّنْ أسلمَ وَجْهَهُ للهِ وهوَ مُحْسِنٌ).
ومِن هذه الآيات السابقة، نَعرف أن جوهر الإسلام هو:
1 ـ في العقيدة: إسلامُ الوجْهِ لله، ومعنى إسلام الوجه لله، الإيمان بوَحدانيَّتهِ، كما تُرشد الآية الأولَى، ممَّا أوردناه سابقًا، ووَحدانيته ـ سبحانه ـ تقتضي ألا نعبد إلا الله، ولا نُشرك به شيئًا، ولا يتَّخذ بعضُنا بعضًا أربابًا.(1/1334)
إنها تقتضي ألا نتَّخذ الملائكة والنبيينَ أربابًا، وتقتضي أن نكون ربَّانيينَ، والربانية في العقيدة: أن يكون الله وحده هو المَقصودَ والمرجوَّ.
2 ـ أما في الأخلاق: فإنَّ جوهر الإسلام هو الإحْسان، والربَّانية كما تكون في العقيدة، فإنها تكون في الأخلاق، والربَّانية في الأخلاق أن يتخلَّق الإنسان بالأخلاق التي أمَر الله بها.
والإسلام إذنْ كلمةٌ شاملة لإسلام الوجه لله، والإحسانُ في الحقيقة: يُؤَسَّسُ على إسلام الوجه لله، ويَنْبُعُ منه، فإسلام الوجه في النهاية هو: الإسلام.
ولن يتأتَّى أن يُعارض أحدٌ أو يرفض إسلام الوجه لله، إلا هؤلاء الذين خلَتْ قلوبهم مِن معنى التديُّن، ومِن البديهي إذنْ أن الإسلام هو إسلام الوجه لله، وهو طريق الهداية.
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسلامِ فَهُوَ علَى نُورٍ مِن رَبِّهِ فَوَيْلٌ للقَاسِيَةِ قُلوبُهمْ مِن ذِكْرِ اللهِ أُولئكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
ومعنى إسلام الوجه لله قد فسَّره الله ـ سبحانه وتعالى ـ حينما وَضَع ذِروته مُمثَّلة في شخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذْ يقول: (قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لهُ وبِذَلكَ أُمِرْتُ وأنَا أَوَّلُ المُسلمِينَ).
ولعل أول آية نزلت مِن القرآن الكريم تُشير إلى هذا المعنى أيضًا، وكانت بذلكَ توجيهًا مِن أول الأمرِ إلى أن يكونَ العملُ باسم الله، لا باسمِ شيء آخرَ أو كائنٍ آخر.
(اقْرَأْ باسِمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ).
وآيات أخرى أشارت إلى المعنى الذي نقصده ناهيةً عن كل ما لم يُذكر اسمُ الله عليه: (ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لمْ يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ).(1/1335)
أما ما ذُبح على النُّصُب. فإنه فِسْق أيضًا؛ لأنه لم يذكر اسم الله عليه؛ أو لأنه ـ بتعبيرٍ آخر ـ لم يُرَدْ به وَجْهُ الله ـ تعالى ـ والإسلام إذنْ ـ وفي ضوء ما سبق ـ هو الدين في إطلاقه المُطلق، وفي تحديده المُحدد، وممَّا لا شك فيه أنه لا دينَ خارج إسلام الوجه لله، وأن الدين ـ في معناه الصحيح ـ إنما هو إسلام الوجه لله، وسواء عرَّفتَ الدينَ بهذا التعريف أو ذاك، فإن معناه الصادق هو إسلام الوجه لله.
ومِن هنا كان لفظ الإسلام أصدقَ تعبيرٍ عن الدِّينِ، وكانت القضية: (إنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ). قضية لا شك فيها.
وكانت القضية المُتَرتِّبة على هذه: (ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ).
قضية ـ هي الأخرى ـ لا شكَّ فيها.
إن كل مَن يرفض إسلام الوجه لله، إنما يرفض الدِّين، وبمِقدار بُعد الإنسان أو قربه من إسلام الوجه لله يكون قُرْبه أو بعده مِن المعنى الصادق لدين الله.
وليس بغريبٍ ـ والأمر كذلك ـ أن يتحدث القرآن الكريم عن طائفةٍ مِن أهل الكتاب انْطَوتْ جوانحهم على الإخلاص، فيُعلنون إسلامهم بمُجرد أن يُتلى عليهم القرآن، بل يُعلنون أنهم كانوا مِن قَبْلِه مسلمين يقول ـ تعالى: (ولقدْ وَصَّلْنَا لهمُ القَوْلَ لعلَّهمْ يَتَذَكَّرُونَ الذِينَ آتيناهمُ الكتابَ مِن قَبْلِهِ همْ بِهِ يُؤمنونَ وإذَا يُتْلَى عليهمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إنَّهُ الحقُّ مِن رَبِّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسلمينَ أُولئكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنفِقونَ وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عنْهُ وقَالُوا لَنَا أعْمالُنَا ولكمْ أعْمالُكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ).(1/1336)
والنتيجة المنطقية لمَا سبق، ما أعلنه القرآن الكريم بقوله ـ تعالى: (شَرَعَ لكمْ مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بهِ نُوحًا والذِي أوْحَيْنَا إليكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إبراهيمَ ومُوسى وعِيسى أنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيهِ كَبُرَ علَى المُشرِكِينَ مَا تَدْعُوهم إليهِ اللهُ يَجْتَبِي إليهِ مَن يشاء ويهدي إليهِ مَن يُنِيبُ).
ويقول ـ سبحانه: (قُولُوا آمنَّا باللهِ ومَا أُنْزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنْزِلَ إلَى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويَعْقُوبَ والأسباطِ ومَا أُوتِيَ مُوسى وعِيسى ومَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بينَ أحَدٍ مِنهمْ ونَحنُ لهُ مُسلِمُونَ).
وإسلام الوجه لله هو التوحيد، وإذا كانت سِمة النصرانية في وَضْعها الراهن على ما يَروي "البَيروني" هي التثليث فإن سِمة الإسلام ـ حسبما يقول بحق ـ هي التوحيد، إنها توحيد الله بالربوبية، بالخَلْق، بالإيجاد، بالإعْطاء، بالمَنْع: (قُلِ اللهمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ مَن تَشاءُ وتُذِلُّ مَن تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ).
إنه ـ سبحانه وتعالى ـ يملك المُلك، في اليسير منه، والعظيم في الصحة، في القوة، في الجاه، في الرِّزْق، في الغنى.
وهو يَملكه في الناحية القلبية، وقلب الإنسان بين إصبعينِ مِن أصابع الرحمن، وهو يملكُه في الهداية، ومِن يهدِ اللهُ فمَا لهُ مِن مُضِلٍّ، وهو يملكه في الآخرة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
إنه ـ سبحانه وتعالى ـ المُتصرِّف المُطلق في الصغير والكبير، لا يَعْزُبُ عن علْمه ولا عن قُدرته، ولا عن إرادته وحِكمته مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهيْمَنته شاملة عاملة مُطلقة.(1/1337)
ونعود فنذكر قوله ـ تعالى: (قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وبيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللهَ ولا نُشْرِكَ بهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِن دُونِ اللهِ فإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ).
أيْ فإنْ لم تعترفوا معكم، بأنه يجب أن تُخصَّص العبادة لله وحده، وأن يُنتفَى الشرْك به ـ سبحانه، وألاَّ يتخذ المَخلوقون بعضهم بعضًا أربابًا.
أيْ فإن لم يعترفوا بهذا التوحيد وأعْرَضوا، فأَعْلِنُوا أنكم مسلمون؛ أي مُوَحِّدُونَ.(1/1338)
الإسلام هو التوحيد:
والإسلام كما كانت الأديان في نَقائِها وصَفائها مِن قبلُ، إنَّمَا هو التَّوْحيد، وهو دعوة إلى التوحيد، فالتوحيد ـ أي إسلام الوجه لله ـ جوهره وأساسه وكل تعاليمه ومبادئه، إنَّما هي توحيد، وهي وسائل ومناهج للوصول بالإنسان إلى التوحيد.. (أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله) إنها رسالة السماء الخالدة (وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله) الذي بلَّغ الرسالة فأدَّى ـ بهذا التبليغ الصادق ـ الأمانة، التي وُكلت إليه وهي التوحيد.
التوحيد: هو مبدأ الإسلام وجوهره، ولكن التوحيد ليس مجرد قول، وليس مُجرد كلمة لا أساس لها في القلب والشعور.
وإذا لم يُؤمن الإنسان بالتوحيد إيمانًا يملك عليه جميع أقطاره، فيَتغلغل في جميع أنحاء شُعوره ووِجدانه، ويَغمر قلبه ونفسه، ويُكيِّف جسمه، ويُوجهه الوِجهة السليمة، فإنه لا يكون كاملَ الإيمان، ومِن أجل إيجاد الإنسان المُوحّد في صورة واقعيةٍ كانت تعاليم الإسلام، فالصلاة إنما هي انفصال عن كل ما سِوَى الله، ومِن أجل الاتصال بالله فهي توحيد.
ومِن هنا كان بَدْؤُهَا: "الله أكبر" ليَشعر الإنسان مِن المبدأ أن جميع ما في العالَم مِن بَشَرٍ تتعلَّق بهم الآمال، أو يُناط بهم الرجاء، فإنَّ الله أكبر منهم وأجلُّ وأعظم، فيجب أن تتعلق الآمال به وحده، وأنْ يَقتصِرَ الرجاء عليه سبحانه، ثم تتوالَى جميع الأوضاع في الصلاة، مِن قراءة، ورُكوع، وسجود، وتشهُّد، لتُعلن بكل حركةٍ وبكل وَضْعٍ الانفصال عمَّا سِوَى الله مِن أجل الاتِّجاه إلى الله وَحْدَه ومن أجل إسلام الوجه إليه ـ سبحانه.(1/1339)
الصوم: إنما هو تَنَزُّهٌ عن المادة، وعن السوء في القول والعمل فترةً مِن الزمن مِن أجل مَرضاة الله، إنه تَنَزُّهٌ عن نقص البشرية، الذي يتمثل في شهواتِ المعدة، لتخلُص الروح فترةً إلى التأمُّل في كَمال الله، إنه مُحاولة للتخلُّق بأخلاقِ الله؛ لأنه ـ سبحانه ـ الكمال المُطلق، الذي لا يحتاج إلى شيء، والذي لابُدَّ لمَن يأمل في شيء مِن الكمال مِن أن يتحلَّى بمَا أراده ـ سبحانه ـ منه، إنه تَنَزُّهٌ عن النقْص في سبيل التوحيد.
والزكاة: إنما هي بَذْلُ المادة في سبيل الله، إنها بذْل المادة، التي يجري وراءها البشر ويكادون يَعبدونها، بذْلها بعد امتلاكها، بذْلها وقد كان فيها الوسيلة للملاذ والشهوات، إنها تَجرُّدٌ عن المادة توحيدًا لله ـ سبحانه.
وفي الحج: واللهَ نسألُ أن يكتبه لنا كل عام، فإنه تجريدٌ كله، إنه تجرُّد عن الماضي، فهو في بدايته التوبة عن الذنوب والآثام، أيْ عن الفترات التي غفَلَ فيها الإنسان عن ذِكْر الله، فأشرَكَ معه غيره، واتَّخذ إلَههُ هواه، فنَسِيَ اللهَ فوقَعَ في المَعصية والإثْم.
هو تجرُّد ـ حتى عن ملابس الماضي ـ وهو تلبيةٌ مِن أول لحظاته، تلبية هي استجابة لله وحده، أو هي توحيد خالص، إنها استجابةٌ كاملة للأمر ينفي الشريك. لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لَبَّيْكَ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريكَ لك، إن هذا النداء الذي يتعالَى ـ وله عبير طيب ـ وله سناءٌ مُتألِّقٌ، فيَصعد إلى السماء فتُفتح له أبوابُها، إن هذا النداء إنما هو الانطواء الكامل تحت راية التوحيد.(1/1340)
وتتوالى أعمال الحج كلها، واضحةً سافرةً، أو رمزيةً مُسْتعليةً مُعْلنةً التوحيدَ مناديةً به، تسعى وراء طائفة مِن أجله واقفةً تَسْتَشْرِفُهُ، راجيةً مِن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يقبل أصحابها في زُمرة المُوحِّدِينَ، يقول الله ـ تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إليهِ أنَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنَا فَاعْبُدُونَ). هذه بعض معالم التوحيد في العقيدة.
ومعالم التوحيد في الأخلاق ألا يصدر عن الإنسان ولا يرِد في سُلوكه الشخصي أو في سلوكه الاجتماعي أمرٌ إلا عن توجيهٍ إلهي، ومعالم التوحيد في "النِّيَّة" أن يكون الإنسان، في كل ما يأتي وما يدَع ـ قاصدًا وجه الله ـ تعالى ـ هو أن تكون حياته كلها لله، وليست الحياةُ وحدها وإنَّمَا المَمات أيضًا.
والتوحيد ـ على العموم ـ هو أن يَهَبَ الإنسان نفسه للهِ في قِيامه وجُلوسه في نَوْمه ويَقظته، في حديثه وصِحته، في غَضبه، ورِضاه، في صداقته، وعَداوته في بيْعه وشِرائه، في عمَله وراحته، في أفكاره وآرائه في توجيهه وإشاراته، في نصائحه وتحذيراته، في كل نفَسٍ يَتنفَّسُه، أو طرفةِ عينٍ يَطْرِفُهَا.
ونعود فنَذكر، كقانون جامع، أن توحيد الإنسان: هو أن تكون صلاته ونُسُكُهُ ومَحْياه ومَماته، لله رب العالمين لا شريك له، ويقترب الإنسان مِن المَثَل الأعلى الإسلامي بمِقدار قُرْبه مِن هذه المعاني عقيدةً وأخلاقًا. ونِيَّةً.(1/1341)
وقوله ـ تعالى: (أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ). إنما يُشير بها إلى خُلوصه مِن كل شائبة شِرْكٍ سواء أكان الشرْك في العقيدة أمْ كان في الأخلاق والنِّيَّة، والله ـ سبحانه ـ أغنَى الشركاء، فمَن عمل عملًا لله ولغيره فإنَّ الله ـ سبحانه ـ بريءٌ مِن عمله، كذلك مَن اعتقد شريكًا لله فالله بريء منه: "إنَّمَا الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى فمَن كانت هِجرته إلى الله ورسوله فهِجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأةٍ يَنْكِحُهَا فهِجْرته إلى ما هاجر إليه". وذلك كله يُسلمنا إلى أن المعنى الحقيقي للإسلام هو كما ذكرنا.
إسلام الوجه لله، ويُعبِّر عن هذا في وُضوحٍ جميل الحديثُ الشريف الذي رواه الصحابيُّ الجليل عمرو بن عبْسة قال: قال رجل: يا رسول الله: ما الإسلام؟
قال ـ صلوات الله وسلامه عليه: "أن يَسلمَ للهِ قلبُكَ، وأن يَسْلَمَ المسلمون مِن لِسَانِكَ ويَدِكَ". وما مِن شكٍّ في أن سلامة المُسلمين مِن لسان الإنسان ويده إنما ترجع إلى إسلام قلبه لله، وأنها على حدِّ قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "لو خشعَ قلبه خشعتْ جوارحه". وعلى حدِّ قوله ـ صلى الله عليه وسلم: "ألَا إنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلحتْ، صَلُحَ الجَسَدُ كلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألَا وهِيَ القلْبُ".(1/1342)
في إسلام الوجه لله
قد يتساءل إنسان: ما كيفية إسلام الوجه لله؟
وما الوسائل لذلك؟
أمَّا الوسائل فإنها المبادئ الإلهية التي قرَّرها الله ـ سبحانه ـ على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرآنًا كانت، أو سُنةً قوليةً، أو عملية، ولا مناصَ لكلِّ مَن يُريد أن يُسلم وجهه لله ـ سبحانه ـ مِن أن يرجع في ذلك إلى القرآن ومِن أن يرجع في ذلك ـ أيضًا ـ إلى السُّنَّة، أي أنه لا مناصَ لكل مَن يُريد الهداية أو التديُّن الحق مِن أن يلجأ إلى القرآن والسُّنَّة، وذلك أن القرآن الكريم هو النصُّ الوحيد في العالَم الآنَ الذي احتُفِظَ بحِفْظِ الله له، بالتعبير الإلهي الذي يَشرح الدِّينَ ويُوضِّحه دون تحريف، بزيادة أو نقْصٍ، والقرآن لم يَحتفظ لمَا أوحاه الله ـ بالمعنى فحسب ـ وإنما احتفظ بالتعبير نفسه، وهذه منزلة لا تُدانيها منزلةٌ ودرجة في الدقَّة والصدْق، ولا يُضارعها غيرها حتى ولا مِن قُرب، وإنها لمَفخرة للمسلمين أن يكون الدين الذي يَدِينونَ به إنَّما يَرْجِعون فيه إلى النصِّ الإلهي نفسه في دِقَّتِهِ، وفي نَضارته وفي بَرَكته، وفي سَنائه ولألائه.
وإنها لمَفْخرة للغة العربية أن تَحتفظ بالنصِّ الإلهي الوحيد في العالَم، أن تحتفظ بالكتاب الذي أُحْكِمَتْ آياتُه، ثم فُصِّلتْ مِن لَدُنْ حكيم خبير.
أمَّا النتيجة الأُولى التي نُريد أن نصل إليها فهي: أن الدِّينَ، وإسلام الوجه لله والتوحيد، والإسلام، كلها بمعنى واحد، يُفَسِّرُ بعضُها بعضًا، ويَشرح بعضُها بعضًا، وكلها مُطلقة عامَّةٌ، لا يَحُدُّهَا زمانٌ ولا مكان، وكلمة "الإسلام" خيرُ ما يُعبِّر عنها، وفي كمالها: (اليومَ أكْمَلْتُ لكمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عليكمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لكمُ الإسلامَ دِينًا).(1/1343)
والنتيجة الثانية: هي أن جوهر الشخصية الإسلامية، أو شخصية المسلم، إنما هي إسلام الوجه لله أو التوحيد، أو التديُّن الصادق، أو الإسلام وبمِقدار قُرب المسلم مِن الإسلام يكون كمالُ شخصيته.(1/1344)
في غيْبة التشريع الإسلامي
هذا الإسلام الذي نشأتُ عليه، والذي أحْمَدُ اللهَ حمدًا جزيلًا على هذه النعمة الكبرى التي لا تَعدلها نِعمة قد طُبِّق وخرج عن أن يكون مجرد مبادئه إلى أن أصبح واقعًا، فأنْتجَ بعقائده وأخلاقه وتَشريعه خيرَ أُمَّة أُخرجت للناس، واستمر الإسلام يُطبق التشريع الإلهي المَعصوم عدَّة قرون إلى أن أنشاتْ مصر ما سمَّتْه المَحاكم المُختلِطة، وتخلَّتْ فيها عن التشريع الإسلامي، وفي هذه الفترة بالذات بدأ الاحتلال وبدأ التخلِّي كليةً عن التشريع الإسلامي، فإنه حينما احتلَّ المستعمرون أرضَ الإسلام بدءوا يَهْدمون ما يُقوِّي الشعور الإسلامي في النفوس، ومِن أجل ذلك غيروا القوانين الإسلامية وأتَوْا بقوانينَ أوربية ألْزموا بها أهل الأوطان المحتلة، وأتَوْا بقُضاةٍ مِن بلادهم يَحكمون بقَوانينهم، ويَنشرونَ تَشريعهم، ولم يَكتفوا بذلك، وإنَّما أَنشأوا مدارس لتعليم القوانين الأوربية، وأصبحت هذه المدارس كلياتٍ حينما أُنشئت الجامعات، وهي كليات الحقوق، وهذه الكليات تُدَرِّسُ القوانين الأوربية، وتُنفق عليها الدولة لتُخَرج قضاة ووكلاء نيابةٍ ومُحامين تَخصَّصوا في التشريع الأوربي، واستمر الأمر كذلك سنينَ طوالًا، فبدأ على مَرِّ الزمن، وكأنه أمرٌ طبيعيٌّ، وأصبح انفصال المسلمين عن شريعتهم وإحلال شريعة أوربا مَحلَّها أمرًا عاديًّا، ولا يَجدون غَضاضةً في إنفاق الأموال الطائلة على كلياتٍ تَفْصلهم عن تشريعهم.(1/1345)
وما مِن شك في أنهم كانوا مغلوبين على أمرهم أيام كان الاستعمار جاثمًا على صدور الأمم الإسلامية، يأمر فيها وينهَى ولكن الاستعمار قد خَذَلَه الله وانهزم، ورجع المُستعمرون إلى بلادهم، وكان مِن الطبيعي أن يُزيل المسلمون آثار الاستعمار في التعليم الذي وَضَعَ المستعمر برامجه لتَخَرج مجرد مُوظفين في اللغة العربية التي كان يُحاول أن يقضي عليها، كما فعل في الجزائر، وفي الأخلاق التي حاولَ أن يَنزل بها إلى المستوى الذي لا تنهض معه.
وفي التشريع الذي جعله أُوربيًّا، وأحلَّه محلَّ شريعة الإسلام، ومهما تكن مقاومة آثار الاستعمار في ميادينَ مُختلفة فإن مقاومة هذه الآثار وإزالتها في مجال التشريع لا تجِدُ أثرًا في وزارات العدل في مختلف الأقطار الإسلامية، ولا نجد لها أثرًا في دوائر القضاء.
ومِن سخرية الأقدار أن يقول قائل: وأين هو القانون الإسلامي الذي نحكم به؟ إن القانون الإسلامي في كتب الفقه الإسلامي، وكتب الفقه هذه كتب عربية، ألفاظها عربية، وجُملها عربية، وخَطُّها عربي.
ولقد وصل الاستعمار أن صاغ خريجي كليات الحقوق بحيث لا يفهمون ـ بعد الليسانس ـ كتابًا عربيًّا في المواد التشريعية، وليس الأمر بغريب.
أتَدْرِي أيها القارئ الكريم أن جَدول التدريس في كليات الحقوق يُخصص عشرينَ مُحاضرة في الأسبوع للقوانين الأوربية، ومُحاضرتين فقط للشريعة الإسلامية.
أتدري لو أُنْشئت هذه الكليات في فرنسا أو في إنجلترَا أكانت تفعل أكثر من ذلك؟ وهذه الكليات هي السرُّ في تَخلُّفِنا في مجال التشريع، وذلك أنها دفعتْنا بالتبعيَّة للمشرعين الغربيين ندور في فلَكهم، ونَسِير على خُطواتهم.
والتشريع الإسلامي من مَفاخر الحضارة الإسلامية، ورِجاله مِن نوابغ المُفكرين في العالَم لكننا الآن ـ بعد ذلك النبوغ وتلك العبقرية ـ قد أصبحنا أتباعًا مُقلِّدينَ.(1/1346)
وهذا الموضوع أطرَحُه أمام القادة، ولعل الله يُحدث بعد ذلك أمرًا فيما يتعلق بهذه الكليات ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد ذلك هو ما حدث في غيبة التشريع الإسلامي، ماذا حدَث؟ شرٌّ كله، وإنني حينما أتحدث عن فترة غيْبة التشريع الإسلامي التي ما زالت مُستمرةً، لا أتحدث عن مصر وحدها، وإنما أتحدث عن كل الدول التي غابَ عنها التشريع الإسلامي وما زال غائبًا، أتحدث عن كل الدول التي تَنتسب إلى الإسلام وقد ألْغَتْ شريعةَ الله فيها، ماذا حدَثَ في غيبة التشريع الإسلامي؟
1 ـ حدث كل هذا الرِّجْس الذي نراه، ونُشاهده أينما سِرْنا، في المُعاملات وفي السلوك وفي العقيدة، وفي الاستهتار بالقيم الدينية استهتارًا بلغ مِن شأنه أن أصبح الإلْحاد في دين الله مِن الأمور التي تمرُّ فلا تسترعي الانتباه، الإلْحاد في دين اللهِ كُفْرًا وارتدادًا، والإلْحاد في دين الله استهتارًا بالقيم الدينية.
2 ـ والإلْحاد في دين الله جدلًا في الحدود القاطعة التي فرَضها الله عقابًا على الجرائم. وإذا أخذنا الآن بعض الأمثلة فإننا نقول: إن قطْعَ يد السارق أمْرٌ فرَضَه الله لا خلاف فيه، وهو علاج ناجح ضدَّ السرقة، ويكفي أن يرى الناس الجد في التنفيذ، يكفي أن تُقطع يَدُ سارق أو اثنين أو عدد يعد على أصابع اليد، فتَمتنع عن السرقة نهائيًّا.
وقد تَمُرُّ الأعوام لا تقطع فيها يدٌ، وذلك أن طابع الجد يجعل كل مَن تُسول له نفسه السرقة ينظر إلى يدِه فيَتخيَّلها مَقطوعة، فيُرهب ويَهرب مِن مُجرد التفكير في الأمر.(1/1347)
ولكن ذَوي التفكير المُنحرف يُهرِّجُون بأن الأيدِي سيُقطع كثيرٌ منها فتكون البِطالة وتقلُّ الأيدي العاملة، ويقلُّ الإنتاج، ويستمرون في هذا التهريج كلما دعا داعٍ إلى كتاب الله. وفي غيبة التشريع الإسلامي أَنشأت الدول المستعمرة في بعض الأقطار الإسلامية مزارع ومصانع لإنتاج الخمور، والخمر على حدِّ الوصف في القرآن رجْس مِن عمل الشيطان قليلها حرام وكثيرها حرام، واتِّخاذها كدواء حرام، فما جعل الله دواء أمتي ـ كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم ـ فيما حرَّم عليها، وقد ذهب الاستعمار إلى غير رجعة، ومِن الواجب على المجتمع أن يُطبِّق حُدود الله ويَلتزمها، فإنَّ الله ـ سبحانه ـ يمده بنصر دائم، وهو ـ سبحانه ـ يمد بهذا النصر الفرد إذا الْتزم حدود الله، ويمد به المجتمع إذا طبق حدود الله، وقد أبان الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك بقوله: (ولَيَنْصُرَنَّ اللهَ مَن يَنْصُرُهُ إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأرضِ أقَامُوا الصلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأَمَرُوا بالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).
أما دوام النصر فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول عنه: (وَعَدَ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وعَمِلُوا الصالحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لهمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لهمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).
وما مِن شك في أن النصر مِن عند الله وحده: (ومَا النَّصْرُ إلَّا مِن عِنْدِ اللهِ).
وما مِن شكٍّ في أنه إذا نصَر الله فلا غالبَ عن نَصْره: (إنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فلا غَالِبَ لَكُمْ).
ولقد وضع الله ـ سبحانه وتعالى ـ قوانين للنصر، ووَضع القوانينَ لدوام النصر، وكلها تتركز في طاعته فيما أمر، وفي الانتهاء عمَّا نهى.(1/1348)
أيها الإخوة المؤمنون: إن قوله ـ تعالى ـ : (ولقدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وأنتمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
يجب أن يُدوِّي دائمًا في آذاننا، وأن يكون دائمًا على ألْسِنَتنا، وأن تَمتلئ قلوبنا وأن تتحقَّق التقوى.
إن الذين يُحبون أن يكونوا في عِداد مَن رَضِيَ الله عنهم ورَضوا عنه لن يصلوا إلى هذا الرضوان إلا إذا أقبلوا علَى نشْر كلمة الله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
والطريق أمامهم مفتوح للعمل والنشاط.
ويكفي إرادة الخير ونية الخير، ليصلوا إلى مَرضاة الله، وليكونوا في زُمرة من رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويكونوا مِن حزب الله.
وبعدُ:
فلا ريبَ في أن جهادنا المُقدَّس للنهوض بالمجتمع لم ينتهِ بعد، ومن أجل الوصول بجِهادنا إلى غايته التي نرجوها له ـ وهي تطبيق الإسلام بجميع كُلياته وجُزئياته يجب على كل مِنَّا أن يتحمل مسئوليته في ذلك بحسب موقعه في المجتمع.
إن القرآن الكريم يَستعمل مادة "أمَر" حينما يتحدث عن مَسئولية كل مِنَّا تجاه المُجتمع الإسلامي: (تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ).
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعمل "أمر" كذلك عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "والذي نفسي بيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعروفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أو لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عليكمْ عِقابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فلا يُسْتجابُ لكمْ". رواه الترمذي وحسَّنه.(1/1349)
وروى الإمام مسلم بسنده عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما مِن نبيٍّ بَعَثَهُ اللهُ في أمةٍ قبلي إلا كان له مِن أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وأَصحابٌ يَأْخُذونَ بسُنَّتِهِ ويَقْتَدُونَ بأَمْرِهِ، ثم إنها تَخلُف مِن بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمنٌ، ومَن جاهدَهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك مِن الإيمان حَبَّةُ خَرْدَلٍ".
فإذا ما تَحمَّلَ كلٌّ مِنَّا مَسئوليته، بحسب موقعه في المجتمع عاد أمر الأمة الإسلامية على ما كان عليه، قوةً وعزةً ومَرْضاةً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسَلَّمَ.(1/1350)