بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحمةً وهَيِّئْ لَنَا مِن أَمْرِنَا رَشَدًا).
جهدُ المُقِلِّ
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد سيد الخلق أجمعينَ، وبعدُ:
فلمَّا كان تراث مَولانا الإمام عبد الحليم محمود ـ رضي الله عنه ـ ممَّا يَحرص المسلمون جميعًا على الاستفادة منه والانتفاع بما قدَّم فيه مِن كنوزٍ وذَخائرَ، وكانت فَتاواهُ تُغطي كثيرًا مِن المسائل التي تهُمُّ المؤمن في حياته وسلوكه من عقائدَ وأحكامٍ وآداب، فقد وجدنا لِزامًا علينا أن نجمعها في هذا السِّفْرِ.
وقد حرصنا على جمْع كل ما يُمكن جمعه من هذه الفتاوَى التي نُشرت أو أُذيعت أو أُلقيت أو أُرسلت إلى مختلف أنحاء العالَم الإسلامي، حتى اجتمع لنا هذا العدد المبارك ـ إن شاء الله ـ منها، فتوفَّرْنا على إعدادها وتصنيفها وتبويبها مُحاولينَ الرجوع دائمًا إلى الأصل المكتوب بخط الإمام ـ رضي الله عنه.
وبدأنا بما يتعلق بالعقائد، إلهيةً ونبويةً وغيرها، باعتبارها الأساس الذي تُبنَى عليه المسائل، ثم ألحَقْناها بمَا تَوَفَّرَ في علوم القرآن والسُّنَّة، وثَنَّيْنَا بمسائلَ عامةٍ في الفقه، تقوم مقام الأصول فيه، فالمسائل التي تتحدث في جُزئياته وفروعه، ثم المسائل العامة التي تتعلق بالحلال والحرام والعلْم في الإسلام والتصوُّف الإسلامي، وختمنا بمسائلَ عن الدِّين والحياة.
وهذا جهد المُقِلِّ، فقد كان مولانا الإمام عبد الحليم محمود ـ رضي الله عنه ـ قُطب العصر وخاتمة العلماء المُحقِّقين، وليس لمِثلي أن يملك أكثر ممَّا فعل، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
أ.د. منيع عبد الحليم محمود أستاذ التفسير وعلوم القرآن بالأزهر الشريف.(1/1)
في العقيدة الإسلامية
إن رجال الأمم الإسلامية ترتفع أصواتهم في كل مكان في الآونة الحاضرة مُناديةً بالإصلاح، وعاملةً على الأخْذ في سبيله، من أجل ما يتمنَّاه الجميع مِن نهضة نرجو الله أن تأخذ طريقها السليم.
ولا ريب في أن مشكلة الإصلاح الإسلامي لا تزال في حاجة إلى مُعالجتها في إجمالها وعُمومها.
ما الأساس، وما العناصر التي يقوم عليها الإصلاح الإسلامي في الأسرة، في المدرسة، في الجامعات، في المجتمع الكبير، مجتمع الأمة الإسلامية؟.
وإن أمل المسلمين الغَيُورِينَ أن يُوفِّق الله المُصلحين والباحثين وحملة الأقلام إلى أن يَصدروا في توجيهاتهم وفي إصلاحهم عن الإسلام. يتَّخِذُونَه أساسًا يَستنيرونَ بمَبادئه وأهدافه.
وبعض الناس حينما يُثار موضوع الإصلاح يتَّجِهُون عادةً إلى أوربا وأمريكا، أيْ إلى الحضارة الحديثة، يَستلْهِمُونها التوجيه في المنهج والموضوع، إنهم يَستلهمون أوربا في منهج الإصلاح وموضوع الإصلاح الذي يرون تطبيقه في الأمم الشرقية الإسلامية. غير مُراعِينَ في ذلك اختلاف البيئة، واختلاف الدِّين، واختلاف العُرْف والتقاليد، واختلاف الماضي الحضاري.
ومِن أجل ذلك يتساءل كثيرٌ مِن الناس.
ما موقف المسلم مِن الحضارة الحديثة؟.
وما موقف علماء الإسلام منها ؟.
والواقع أن هذا الموضوع أثار كثيرًا مِن الجدل والنقاش في مختلف الأقطار الإسلامية والشرقية، ولم ينته الحديث فيه بعدُ، فلا يزال الجدَل للآن فيه مُستمرًّا، ولا تزال الندوات تُعقد هنا أو هناك، والمقالات تُحبَّر في هذه المجلة أو تلك.. يرى قومٌ أن سبيل الإصلاح هو أن نأخذ الحضارة الحديثة ككُل، نأخذ بمَا لَها وما عليها، نأخذ بدُون تمييز ولا تَحيُّز.
ومنذ عهد ليس ببعيد وقف أحدُ كبار الشرقيين في ندوة جمعت بين كبار رجال الفكر وكبار علماء الدين وأعلنَ:
لم نَتنكَّر للحضارة الحديثة؟(1/2)
هذه الطائرات التي نَستخدمها، هذه الأدوية التي نَستعملها، مُستحضرات التجميل هذه التي نَسعد بها، أليست ثِمارَ الحضارة الحديثة، إنه يجب علينا عِرفانًا بالجميل أن نأخذ الحضارة الحديثة ككُلٍّ، نأخذ وحدة لا تنفصم وليس هذا رأي هذا المُفكر وحده، وإنما هو رأي طائفة كبيرة في الشرق تدعو إلى أخْذ الحضارة الحديثة ككلٍّ دون استثناء شيء منها.
1ـ إن الحضارة الحديثة في رأيهم حضارة مُتكاملة مادة، ومعنى، شكْلاً وجوهرًا فلنأخذها ككُلٍّ.
2ـ ويُعارض هؤلاءِ كثيرونَ. يرفضون الحضارة الحديثة جملةً، وهذا الرفض قد يكون كثيرًا في الأفراد. بيد أن بعض الدول تَبنَّتْهُ ـ أيضًا ـ حاولتْ بعض الدول في الماضي أن ترفض الحضارة الحديثة كليةً، وأن تغلق في وَجهها الأبوابَ، ولم تُوفَّقِ الدول، ولم يُوفق الأفراد ـ أيضًا ـ فيما يتعلق بهذه المحاولة.
3ـ والرأي الثالث يرى أنه علينا أن نأخذ الحضارة المادية، أما الحضارة النظرية فإننا نأخذ منها الصالح ونترك منها غير الصالح.
وهذا الرأي يبدو أنه رأي الأغلبية.
هذه هي مجموعة الآراء فيما يتعلق بالموضوع، بل هي تقريبًا مجموعة الاحتمالات العقلية في ذلك، ومع هذا فإنني شخصيًّا لم أرتضِ منها رأيًا.
أمَّا فيما يتعلق بأخذ الحضارة كُلاًّ لا يتجزأ فأظن أن المسألة في الجو الإيماني وفي الجو الإسلامي السليم لا تحتاج إلى مناقشة كثيرة.
هذه الحضارة الأوربية فيها الكثير ممَّا يُخالف المبادئ الإيمانية والمبادئ الإسلامية، فلا يتأتَّى أن يسود رأيٌ كهذا في الجو الإسلامي.
أمَّا فيما يتعلق برَفْضها كليةً فإن هذا ـ واقعيًّا ـ لم يتحقق لا في الأفراد ولا في الجماعات، ولا في الدول ولا في الأقطار أيًّا كانت.
ليس هناك قطرٌ لم يستفد مِن الحضارة الحديثة، وليس هناك إنسان لم يستفد مِن الحضارة الحديثة.(1/3)
الإنسان والأقاليم والأقطار، بل بنو آدمَ كلهم، قد استفادوا مِن هذه الحضارة الحديثة، وهذه الفكرة لم تتحقق في الواقع.
ويأتي الرأي الوسط الذي ساد ويسود في كثير مِن الأوساط، والذي يبدو لكثيرٍ مِن الناس أنه الرأي السليم الصحيح، نأخذ مِن الحضارة الحديثة، ونترك مِن الحضارة الحديثة الضار والفاسد. وبتأمُّلٍ بسيط يُمكننا أن نرى أن هذا الرأي فاسدٌ ـ أيضًا ـ ؛ إذ يعتمد على الاختيار العقلي وعلى المِيُول البشرية دون ملاحظة للدِّين، إذا قلنا بأخذ الصالح فما هو الصالح؟ وفي رأي مَن؟
إن الصالح يَختلف مِن إنسان إلى آخر.
إذا قلت ـ مثلاً ـ 6% فائدة البنوك ثم تساءلتَ: أهذا صالح أم غير صالح؟ يقول لك كثير من الناس بحسب عقولهم وأفكارهم وآرائهم، يقولون لك: إنه لا بأس بذلك، لا بأس بستة في المائة في البنوك، ويرفض ذلك آخرون.
فهل 6% في البنوك صالح أخْذها أو ليس بصالحٍ؟ يختلف الناس.
ونأتي إلى مسائلَ أخرى مُتحدثينَ بأسلوب الدين ونقول: شُرْب قليلٍ مِن الخمر هل هو صالح أو ليس بصالح؟
وستجد لا مَحالة مَن يقول لك، إنه لا بأس بشُرب قليل من الخمر؟ والاستحمام المُختلط على الشواطئ جماعاتٍ رجالاً ونساء، هل هو صالح أو ليس بصالح؟.
هل نأخذه مِن الحضارة الغربية أو لا نأخذه مِن الحضارة الغربية؟: ستَجد ـ أيضًا ـ أصحاب الأهواء الشيطانية، وأصحاب الآراء الجنسية، يقولون لك: إن هذا صالح. الجسم صحته تتوافر في ضوء الشمس، ويَستفيد من الفيتامينات التي في إشعاع ضوئها، و…
هذه القضايا ـ وكثير غيرها ممَّا لا يُقرها الدين ـ سنجد لها أتباعًا يُقرونها مِن هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم، وسنجد مَن يقول: إن ذلك صالح.(1/4)
إذا قلنا بأخْذ الناحية الصالحة في الحضارة الحديثة ورفْض الناحية غير الصالحة فإن الرأي لا يستقيم؛ لأن الناس يختلفون فيه اختلافًا كبيرًا، ولا يتأتَّى التحديد: تحديد الصالح وتحديد غير الصالح، لا يتأتَّى الاتفاق على التحديد ما دُمنا في مجال العقل فحسب، وما دامت المسألة آخذة وَضْعَها العقليَّ الفكريَّ فقط.
ما المخرج ـ إذن ـ مِن هذا؟
ما هو ـ إذن ـ مَوقفنا من الحضارة الحديثة إذا كُنَّا لا نقبلها ولا نرفضها ولا نقبل التوسُّط فيها؟.
وأريد أن آخذ الآن في إبداء رأينا الشخصي فيما يتعلق بالموضوع، ونحن فيما يتعلق بمجال الحضارة الحديثة نرى ـ كما يرى غيرُنا، والآراء فيما سنذكره لا تختلف تقريبًا ـ أن الحضارة الحديثة تنقسم إلى قسمين:
القسم الماديّ:
قسم المَعامل والمَصانع، قسم الطب، قسم الكيمياء، قسم الطبيعة هذه الناحية المادية البحْتة من الحضارة الحديثة لا يتأتَّى لنا قط أن نقول: إن أوربا ابتدعتها ابتداعًا أو اخترعتها اختراعًا.
وهذه الناحية نفسها ـ الناحية المادية ـ لها جانبانِ.
جانب المنهج ـ وجانب الموضوع : أما فيما يتعلق بجانب المنهج، فإن ه منهج الاستقراء، وهو منهج تَتَبُّع الجزئيات للوصول إلى نتيجة كلية.
هذا المنهج الاستقرائي، أو المنهج العلمي، أو منهج السمع والبصر أي منهج الملاحظة ـ منهج إسلامي.
لقد سار عليه الإسلام وسار عليه المسلمون قبل أن تنشأ الحضارة الأوربية. (إنَّ السمْعَ والبصَرَ والفُؤادَ كلُّ أولئكَ كانَ عنهُ مَسئولًا).(1/5)
والسمع والبصر أساس الملاحظة والتجربة، أو عنهما تنشأ الملاحظة والتجربة. إن عدم اتباع الظن والسيْر وراء الملاحظة ووراء التجربة هذا منهج الإسلام اتَّخذه المسلمون منذ زمن بعيد، وقد اعترف الغربيون أنفسهم بأن الإسلام هو الذي بدأ بوَضْع المنهج التجريبي، واعترفوا بأن: "روجيه باكون"الذي يُعتبر في أوربا المؤسس الأول للمنهج التجريبي أخَذه عن العرب، وبأنه لم يكن إلا تلميذًا من تلاميذ العرب.. لم يكن إلا طالبًا في مدرسة العرب. اعترفوا بهذا صراحةً، يقول أحدُ كتَّابهم فيما يتعلق بالمنهج الخاص بالتجربة والملاحظة أي منهج الاستقراء الذي بُنيت عليه الحضارة المادية الحديثة ـ وهو الأستاذ: "بريفولت" في كتابه: (بناء الإنسانية) يقول: ليس لـ: "روجيه باكون"ولا لـ: "فرانسيس باكون"الذي جاء بعده الحقُّ في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن "روجيه باكون"إلا رسولاً مِن رسل العلم، والمنهج الإسلاميينِ إلى أوربا المسيحية، وهو نفسه لم يَمَلَّ قط مِن التصريح بأن تعلُّم مُعاصريه في أوربا اللغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقَّة.
ويقول في مكان آخر من كتابه:
ولقد كان العلْم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ويقول ـ أيضًا ـ : لم يكن العلْمُ وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة، بل إن مؤثراتٍ كثيرةً من الحضارة الإسلامية بعثت باكورةَ أشعتها إلى الحياة الأوربية.
ويَستفيض المؤلف فيما يتعلق بما للعرب وبما للمنهج العربي مِن أثر فيما يتعلق بالحضارة الحديثة. لا أريد أن أطيل في سرْد نصوصه ـ وهي كثيرة ـ كلها تُثبت أن هذا المنهج التجريبي إنَّما هو المنهج الذي قامت عليه الحضارة العربية، وأن أوربا إنما أخذتْه من العرب ولم تَبتدعه ابتداعًا ولم تكتشفه اكتشافًا. هذا فيما يتعلق بالمنهج.(1/6)
أما فيما يتعلق بالموضوع فإن المؤلف نفسه، الذي ألَّف هذا الكتاب الذي تحدثنا عن بعض آرائه، يقول في صراحةٍ لا لبْس فيها: إن العلم الأوربي مَدِين للعلم الإسلامي العربي في كثير من موضوعاته، إنه ليس مَدنيًا في المنهج فحسب وإنما في الموضوعات ـ أيضًا ـ .
وممَّا هو معروف أنه كان في الحضارة الإسلامية أفْذاذٌ فيما يتعلق بالعلم الطبيعي، كان هناك ابن الهيثم في البصريات وفي الأضواء.
ويرى كثير من المؤرخين للحضارة الأوربية أن كتاب: "باكون"نفسه في الحرارة والضوء ما هو إلا نُسخة مِن كتاب، ابن الهيثم "في البصريات".
كان عندنا ابن الهيثم في الطبيعة.
وكان عندنا الرازي وابن سينا في الطب.
وكان عندنا جابر بن حيان فيما يتعلق بالكيمياء.
وكان عندنا الكندي فيما يتعلق بالرياضيات.
كان عندنا كل هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين تَعترف أوربا بأنها مَدينة لهم إلى الآن فيما يتعلق بمنهجهم التجريبي المبني على الملاحظة وعلى التجربة.
وفيما يتعلق بالموضوعات التي تطرَّقوا إليها واستنتجوا منها النتائج التي لا تزال لها قيمتها الآن. هذا الموضوع ـ موضوع الطبيعة ـ إذا أردنا التعبير الإسلامي عنه هو على حدِّ الكلمة التي أطلقها الشيخ: "محمد عبده"وهي الكلمة التي تُعبر التعبير الصحيح الإسلامي "سنن الله الكونية".
فالطبيعة وقوانينها واكتشافاتها وموضوعاتها والبحث فيها إنما هو البحث في سُنن الله الكوْنية
"واكتشاف قوانينها إنما هو اكتشاف لسنن الله الكونية".(1/7)
إن الله ـ سبحانه تعالى ـ يَمُنُّ علينا في القرآن الكريم بأن سخَّر لنا البحار والأنهار، وسخَّر لنا الأرض وسخر لنا السماء، وسخر لنا الكواكب وسخر لنا القمر، وسخر لنا الشمس، وسخر لنا الكون كله، لقد سخَّره للإنسان، وهو بهذا الامْتنان يطلب مِن الإنسان أن يجُوب الفضاء وأن يغوص في الماء، وأن يخترق كل المَعميَّات في هذا الكون حتى يَزداد إيمانًا على إيمانٍ، وإقرارًا، فيزداد في خُضوعه وفي خُشوعه لعَظمة الله العظيمة، ولهَيْمنته هذه التي لا يَنِدُّ عنها شيء في هذا العالَم المُسخَّر.
تَتبُّع آياتِ الله في الأنفس وفي الآفاق، كل هذا دعوة إسلامية، وتتبُّع آيات الله والتسخير لا يتأتَّى إلا عن طريق الملاحظة وعن طريق التجربة، المنهج التجريبي المنهج الحديث: هذا هو منهج الإسلام.
ويدعونا الإسلام ـ أيضًا ـ إلى أن نكون في هذا الجانب المادي أقوَى ما نكون: (وأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ).
والاستطاعة لا تكاد تُحَدُّ، وكلما وصَل الإنسان إلى حدٍّ من الاستطاعة تفتَّحت أمامه آفاقُ استطاعاتٍ جديدة يجب عليه أن يَلِجَهَا، فهو في كل آوِنةٍ مُتَرَقٍّ في عالَم الطبيعة، وهو في كل آونةٍ مُتتبِّع لهذه القوانين مُترقٍّ فيها حتى يظل دائمًا في القمة، فيكون مركزه دائمًا وباستمرار القمَّة مِن القوة المادية..
وإذا كان المسلمون قد تأخَّروا في هذا الجانب فليس ذلك ذنب القرآن الكريم ولا ذنب الإسلام وإنما ذنب تكاسُلهم وخُمولهم.(1/8)
وهم بهذا التأخُّر آثمونَ إسلاميًّا، إنهم آثمون في نظر الإسلام وفي نظر القرآن الكريم.. فهم أصحاب دعوة، والقرآن أعدَّهم مِن قديمٍ لهذه الدعوة. وهم أصحاب رسالة، وأصحاب الرسالات إنْ لم يكن عندهم القوة القوية، وإن لم يكن عندهم السلطان المُسَيطر، إنْ لم تكن عندهم السيطرة المُتحكمة مِن أجل الخير ومن أجل العدل ومن أجل الحق، إن لم يكن عندهم هذا، فإن رسالتهم تستمر حِبْرًا على ورق، ولم يُرد الإسلام أن تكون الرسالة الإسلامية ـ أو أن تستمر الرسالة الإسلامية ـ حبرًا على ورقٍ.
فالإسلام يدعو المسلمين إلى أن يَكونوا أقوَى دولةٍ في العالَم، فإذا ما ضعفوا كانوا آثمينَ في نظر الإسلام، كانوا آثمينَ وكانوا مُقَصِّرِينَ في حق رسالتهم التي كلَّفهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بها. إنها آخر الرسالات، إنها الرسالة الأبدية، إنها الرسالة الدائمة، ولا بد مِن قوة دائمة في هذا العالَم تسندها، فإذا لم تكن هذه القوة فإن هذه الرسالة لا يكون لها مِن التأثُّر ومِن النفوذ ما يُريده الإسلام مِنْها ومِن أصحابها.
الجانب المادي ـ إذن ـ جانب إسلاميٌّ، وما علينا إلا مُتابعة الإسلام في هذا الطريق بكل وَسيلة مُمكنة، وبكل طريقةٍ تَتيَسَّر.(1/9)
ولا يُقال ـ إذن ـ حينما نَسير في الحضارة المادية مُكتشفينَ ومُخترعين ومُتبيِّنينَ الاكتشافاتِ والاختراعات إننا أخذنا الحضارة الأوربية، وإنما يُقال: إننا تابعنا الخطواتِ التي تابَعها وسارَ فيها أسلافُنا، وإذا كُنَّا في هذا المجال نَستعينُ بهذا أو ذاكَ، فإن الاستعانة ليس مَعناها أخْذٌ مِن الحضارة؛ لأن هذا الجانب لا لونَ له، أيْ أن الرقيَّ المادي لا لون له، لا يُقال هذه الكيمياء ألْمانية أو فرنسية أو إنجليزية، وإنما هي الكيمياء أينما كانت وأينما وُجدت لا تتسم بلون، فإذا استعنَّا بهذا أو ذاك في سبيل مُتابعة أسلافنا فيما يتعلَّق بهذا المجال فلسنا مُتابعين، وإنما نحن نواصل هذه المَجهودات التي بدأها أسلافنا وانقطعنا عنها فترةً، ونُريد أن نعود إليها مِن جديد.
ويأتي بعد ذلك القسم الآخَر مِن أقسام الحضارة الأوربية، وهو القسم الثقافي. وهذا القسم الثقافي نَبتدئ فيه بشيء من تاريخ الإسلام نفسه أو بعض الحوادث التي حدثت في رُبوع الإسلام.
لقد حَلَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة التي نُوِّرتْ به، وأخَذ يعمل جاهدًا على نشْر الدعوة الإسلامية مُتَّخذًا كل وسيلة لبيانها وإيضاحها.
وفي يوم من الأيام، كما يَرْوِي الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أتَى عمرُ بن الخطاب النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكتابٍ أصابه مِن بعض أهل الكتاب فقَرأه على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فغضبَ، وقال: "أَتَتَهَوَّكُونَ (أي تُشككون في شريعتكم) فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جِئتُكمْ بها بيضاءَ نقيَّةً، لا تَسألُوهم عن شيء فيُخبروكم بحقٍّ فتُكذبونه، أو بباطلٍ فتُصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حَيًّا ما وَسِعَهُ إلا أنْ يَتَّبِعَنِي".(1/10)
هذا الحادث رواه الإمام أحمد بوجه آخر عن سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ وفيه يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتَّبَعْتُموه وتَركتموني لضَللتُمْ إنَّكم حظِّي مِن الأمَم وأنا حظَّكم مِن النبيِّينَ".
ولم يَكْتفِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك بل قام خطيبًا، وكان ممَّا قال: "يا أيها الناس إني قد أُوتيتُ جوامِعَ الكلِم وخَوَاتِيمه، واخْتُصِر لِي اخْتصارًا، وقد أَتيتُكم بها بيضاء نقيَّةً فلا تَتَهَوَّكُوا ولا يَغُرَّنَّكُمُ المُتَهِوِّكُونَ".
ثم أمر بتلك الصحيفة فمُحيتْ حرْفًا حرفًا.
ويبدو أن هذه الحادثة تكرَّرت بصورة أخرى؛ "فقد روَى ابن جرير وغيره قال: جاء أُناس من المسلمين بكُتبٍ كتبوا فيها ما سمِعوه من اليهود فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كفَى بقومٍ ضلالةً أن يَرْغَبُوا عَمَّا جاءهم به نبيُّهم إليهم إلى ما جاء به غيرُه".
وتكررت المسألة مرة ثالثة، فقد أخرج عبد الرازق في المُصنف، والبيهقي في شُعب الإيمان عن الزهري أن حفْصة جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكتاب مِن قصص يوسف في كَتِفٍ، فجعلت تقرؤه عليه، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتلون وجهه، ثم أعاد عليها ما سبق أن قال للآخرين وهو: "والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا نبيكم فاتبعتموه وتركتموني ضللتُم: أنا حظُّكمْ من النبيين، وأنتم حظي مِن الأمم.
وفي مرة رابعة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الكلمة التي تُبيِّن مدَى ما يجب على المسلمين نحو تعاليم نبيهم.
لقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "واللهِ لو كان موسى حيًّا ما حلَّ له إلا اتِّباعي".(1/11)
ولقد أحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تكون المسألة فيما يتعلق بأخذ المسلمين عن غيرهم حاسمةً باتَّةً، فلقد مرَّ الصحابة في يوم مِن الأيام على اليهود، وهم يتلون التوراةَ فتخشَّع المسلمون فعاتَبهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً الآية الكريمة:
(أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنزلْنَا عليكَ الكِتابَ يُتْلَى عليهمْ إنَّ فِي ذلكَ لرَحمةً وذِكْرًى لِقَوْمٍ يُؤمنونَ). وتمضي السنونَ ويَنتقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى، ويتبع الصحابة هدْيه في ألا يكون كتابهم وهدْي نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجال توجيههم.
وفي يوم من الأيام بينما كانت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في بيتها إذا بها تتلقَّى هديةً، فظنَّت أنها أُهديت لها مِن عبد الله بن عمرو فردَّتْها وذكرت السبب في ردِّها قائلةً عن عبد الله بن عمرو: إنه يتبع الكُتب، وقد قال الله ـ تعالى ـ: (أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنزلْنَا عليكَ الكِتابَ يُتْلَى عليهمْ إنَّ فِي ذلكَ لرَحمةً وذِكْرًى لِقَوْمٍ يُؤمنونَ). فقال لها حامل الهدية، إنها ليست مِن عبد الله ابن عمرو ولكنها مِن عبد الله بن عامر فتقبَّلتْها. ويمضي الزمن والمسلمون يضعون أمام أعْيُنهم قوله ـ تعالى ـ: (وقد آتَيْنَاكَ مِن لَدُنَّا ذِكْرًا. مَن أَعْرَضَ عنهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يومَ القِيامَةِ وِزْرًا. خَالِدِينَ فيهِ وسَاءَ لهمْ يومَ القيامةِ حِمْلًا).
يقول الإمام ابن كثير:
يعني مَن أعرض عن هذا القرآن فاتَّبع غيره مِن الكتب فإنه يناله هذا الوعيد، كما قال في الحديث المَروي في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين عليٍّ مرفوعًا وموقوفًا. "مَن ابتغَى الهُدى في غيرهِ أضلَّهُ اللهُ".(1/12)
ولمَّا تولَّى سيدنا عمر بن عبد العزيز الخلافة رأى أن المسلمين في حاجة إلى معرفة أوسع بعالَم الطب ووسائل العلاج، وفكَّر في تيسير الاستعانة لأطباء المسلمين بثَقافات الأمم الأخرى في هذا المجال، ففكر في ترجمة كتابٍ أو كُتب في هذا الموضوع، ولكنه قبل أن يُقدم على الأمر سأل نفسه: إن هذا العمل عملٌ لم يفعل مثله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يفعل مثله أحد الخلفاء الراشدين، فهل يجوز له أن يقوم بذلك؟
وتَردَّد في الأمر ثم استخار الله فترةً طويلة مِن الزمن حتى شرَح الله صدره لتنفيذ الترجمة فأمَر بها، وكان الكتاب بين أيدِي المسلمين، ولم يذكر أحدٌ مِن المسلمين لعمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ نَهْيًا، ولم يرفع أحدٌ منهم صوتًا بالإنكار عليه، لا لأنه الخليفة؛ ولكن لأنهم لم يروا في العمل مِن بأسٍ.
وقد يتساءل إنسان عن السِّرِّ في موقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وموقف عائشة ـ رضوان الله عليها ـ من الإنكار على الذين يتبعون الكتب وهو موقف يختلف عن موقف المسلمين مِن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ حيث كانت موافقتهم له عامَّة كاملة.
وهنا قبل أن نمضي في البحث نسارع بالعودة بالقارئ إلى ما سبق أن ذكرناه مِن التفرقة بين مَجالينِ.
أولهما: المجال المادي، مجال الطبيعة، مجال المادة، مجال الأرض والسماء وما بين الأرض والسماء. وهذا المجال لا يَطبع ذاتية الأمة بطابع خاصٍّ، ولا يُعطيها لونًا مُعيَّنًا؛ لأن القوانين المادية والمبادئ الحِسِّيَّة لا تختلف مِن قُطر إلى قُطر، ولا مِن بيئة إلى بيئة.(1/13)
وإذا سايَرت أمةٌ أمةً أخرى في هذا المجال، فإنها لا تكون بذلك قد فعلت ما يَضرُّ بذاتها أو يُقلِّل مِن شأن شخصيتها. والمسلمون في عصورهم الزاهرة اندفعوا إلى كشْف المَساتير في المجال المادي، فكوَّنوا حضارةً مادية خِصبة، وأفادوا الإنسانية في الطبيعة وفي الكيمياء، وفي الطب، وفي الصيدلة وفي غير ذلك مِن ميادينِ الحِسِّ مِن جوانب المادة، وهم وإنْ بلغوا حينئذ مَرتبة القيادة والزعامة، فإن هم لم يكونوا يتحرَّجُون من الاستفادة في هذا المجال بكل ما أنتجتْه الإنسانية مِن مُكتَشفات..
والمجال الثاني: هو المجال الروحي، وهو مجال يتضمَّن في خُطوطه العامة: العقيدة والأخلاق والتشريع وهذا المجال هو الذي يُكوِّن ذاتية الأمة، ويَطبعها بطابع مُعيَّن، ويُعطيها لونًا خاصًّا. لقد استخار اللهَ سيدُنا عمر بن عبد العزيز أربعينَ يومًا في ترجمة كتاب في الطبِّ ثم شرَح الله صدره كما سبق أن بيَّنَّا، وكتاب الطب كتاب مِن كتب الحضارة في جوِّها المادي إنه كتاب مِن الكتب ذات الطابع المادي، ولا بأس أن يُترجم كتاب مِن هذا النسق أو أن يُتابع أو أن يَقتبس منه، أو أنْ يُؤخذ في الجو الإسلامي مِن مبادئه. وتسير الحياة بالمسلمين هادئةً في جوانبها الحضارية. (لقد كتبنا في هذا الموضوع عدة مرات في الكتب والجرائد والمجلات وممَّا كتبناه في ذلك ما يلي: إن الحقيقة التي لا يختلف فيها الدارسون للدين الإسلامي هي أن الإسلام منذ نشأته يُناصر العلْم، ويَحُثُّ عليه ويُوجبه: إنه يُوجب العلم في جميع الميادين وفي شتَّى النواحي، إنه يوجب العلم بمعناه الحديث: العلم بالطبيعة وبالكيمياء، وبالطب.. إنه يُوجبه على صورة بحيث تُصبح الأمة الإسلامية كلها آثمةً إذا لم تصل في هذا الميدان إلى أرقَى ما يُمكن أن يصل إليه الإنسان.(1/14)
والله ـ سبحانه ـ يَمُنُّ علينا بأن سخَّر لنا البحار والأنهار، وسخَّر لنا الشمس والقمر والكواكب والنجوم، وسخَّر لنا الأرض، وسخَّر لنا السماء وسخَّر لنا ما بين الأرض والسماء.
وبعبارة مُختصرة: يَمُنُّ الله علينا بأن سخر لنا هذا الكون بأكمله، وأنه مِن شكَر الله ـ تعالى ـ على نَعمائه أن نَستجيب إليه ـ سبحانه ـ فنُسخِّر ما سخّر لنا، نُسخره بالعلم ونَتسلَّط عليه بالمعرفة ونمتلَّكه بالبحث، ونُتابع كل ذلك في تطور مُستمر وفي تحديد مُتتابع، وممَّا لا شك فيه أنه لا يتحدث أحدٌ مِن المُستنِيرين والغَيُورين على الإسلام عن الغزو الفكري في هذا المجال ـ هو الوحيد الآن الذي يُعبِّر عنه في الحضارة الغربية الحديثة بالمجال العلمي ـ سواء في ذلك روسيا وأمريكا وأوربا وهو المجال الذي يُعبر في العصر الحاضر عن التقدم والتأخُّر بسبب رُقِّيِّه في أمةٍ أو ضَعفه فيها). إلى أن يأتِي العصر العباسي، وتبدأ الترجمة: والترجمة لم يَعترض عليها مُعترض فيما يتعلَّق بجانب الطب أو بجانب الطبيعة أو جانب الكيمياء (ولكن الإسلام مع اعترافه بالجانب العلمي المادي ومع إيجابه له لا يعترف به كقياس لتقدُّم الأمة أو تأخُّرها، ولكن تقدم الأمة وتأخُّرها بحسب المِقياس الإسلامي إنما هو بتَحقيقها أو عدم تحقيقها المُثل العُليا في الأخلاق التي أتَى بها الإسلام، وهنا تصل إلى الجانب الآخر مِن جوانب الحضارة الغربية، أو تصل إلى القضية الثانية مِن القضايا التي نُريد أن نُحدِّد موقف الإسلام منها، وهي قضية الثقافة. والناس حينما يتحدثون عن الحضارة الحديثة يتحدثون عن جانبين يتكون منهما الجانب العلمي المادي، وقد شرحنا موقف الإسلام منه، والجانب الثقافي النظري وهو ما نُريد أن نتحدث عنه الآن، وفي هذا المجال نبدأ بذِكْر حقيقتينِ، أما الأولى: فهي أن النِّتاج البشريَّ كله في الجانب الثقافي النظري هو نتاجٌ ظنِّي ولا يتَّسم باليقين في قليل ولا في(1/15)
كثير؛ وهو لأنه ظني متعارضٌ ومتغير ومتطور، وكل شخص يقول: إن هذه القضية أو تلك ـ في الجانب النظري ـ هي قضية يقينية، إنما هو شخص مُخطئ عرَف ذلك أمْ لم يعرفه.
أمَّا الحقيقة الثانية: فهي أن الإسلام له نظام أصيل مُستقلٌّ، إنه نظام إلهي، إنه وحْيُ السماء معصوم، وهو دين، وهو عقيدة.
ومن القصص ذات المغزَى العميق أن الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ رأى صحيفةً بيد أحد الصحابة يقرأ فيها فسأله عنها فقال: إنها قطعة مِن التوراة، فظهر الغضب على وجه الرسول ـ صلوات الله عليه ـ ونهاه مِن الاستمرار في القراءة وقال له: لو كان موسى حيًّا ما وَسِعَهُ إلا اتباعي. وهنا نلْحَظ في وُضوح تفْرقةٍ في موقف الإسلام من الجانب العلمي المادي، وموقفه من الجانب الثقافي النظري. فهو في الجانب العلمي المادي مُوجِب وفارِض ومُشجِّع وحاثٌّ. أما في الجانب الثقافي النظري المُتغير المُتطور الظنِّي القابل للخطأ والصواب فإن كل دعوة للأخْذ به واعتناقه والإيمان به إنما هي دعوة عابثة، وهي دعوة آثِمة إذا ما طغت على الجو الفكري الإسلامي، وهي دعوة مُنكَرة، إذا ما أراد إنسان إحلالها محل المبادئ الإسلامية). ولكن المسلمين في أول العهد العباسي كانوا نافرينَ كل النُّفور مِن أن نُترجم ما وراء الطبيعة اليونانية.
إنَّ ما وراء الطبيعة يَعني بالأبحاث التي تتصل بالعَقيدة، وأجمع المسلمون على أنه إذا كانت عقيدة اليونان حقًّا فعندنا ما هو أحقُّ منها وهو القرآن الكريم في الأسلوب الإلهي: وإذا كانت باطلاً فإننا في غِنًى عنها.(1/16)
وكذلك شأنهم وموقفهم فيما يتعلق بالأخلاق، كانوا يَعتَزُّون بأخلاقهم، ويعتزون بعَصبيتهم لعَقيدتهم وأخلاقِهم المُنزَّلة المُوحاة، لقد كانوا يَعتزون لدرجة أنهم لا يَرَوْنَ أن يكون هناك أيّ كتابٍ أو رأي يقوم بجوار هذه المبادئ الإلهية الإسلامية سواء أكانت عقيدة أمْ أخلاقًا. ولم يُترجموا كتب الأخلاق إلى أن جاء المأمون. والمأمون بتربيته الفارسية كان عنده مِن التهاوُن القليل أو الكثير، ولم يكن عنده مِن التحرُّج ما كان عند غيره، فأمَر بترجمة الكتب التي تتصل بما وراء الطبيعة والكتب التي تتصل بالأخلاق.
لقد قام بترجمة هذا على الرغم مِن النفور العام بين المسلمين المؤمنين المتدينين. لقد ترجم كتب ما وراء الطبيعة، ترجم كتب الأخلاق على نفور من هؤلاء الذين يرون أن العقيدة الإسلامية يجب ألا يكون بجِوارها أيُّ شيء آخر، وأن الأخلاق الإسلامية يجب أن تكون مستقلة لا يكون بجوارها شيء ولا تُدنَّس ولا تتلوث بما يتوهم أنه حق بجانب الحق. لكن الترجمة ـ ترجمة ما وراء الطبيعة ـ أخذت شيئًا فشيئًا مَجالها، وترجمة الأخلاق أخذت شيئًا فشيئا مجالها ـ بل أصبحت مألوفةً في البيئة الإسلامية، وأصبحت وكأنها شيءٌ عادي، وليست ترجمة ما وراء الطبيعة أقلُّ شأنًا ـ فيما يتعلق بالجو الإسلامي الصحيح من الورقة التي كانت بيد سيدنا عمر.
إن العقيدة الإسلامية والأخلاق الإسلامية هما اللتان تُكونان ذاتيةَ المسلم، أيْ أن ذاتية الأمة الإسلامية لا تتكوَّن بكيمياء أمريكية؛ لأن الكيمياء كما قلنا لا لونَ لها، ولا تتكون بطبيعة رُوسية؛ لأن الطبيعة لا لونَ لها.
حقيقة أنه لا بدَّ مِن الكيمياء ولا بدَّ مِن الطبيعة كما قلنا للقوة وللغلَبة وللسلطان ولتأدية الرسالة مِن أجل الحقِّ والخير.
إن الذي يُكَوِّن ذاتية الأمة هو اللون الثقافي فيها، وقد رأينا موقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وموقف المسلمين الأوَّل مِنه.(1/17)
وعلى أيِّ وَضْعٍ إذا نظرنا إلى هذه الثقافة في نفسها: الثقافة النظرية، وهذا هو الجانب الذي أهتمُ به كثيرًا، وأُريد أن أُنَبِّهَ الأذهانَ مِن جديد إلى أنِّي أتحدث عن ثقافةٍ لا تتصل بالمُلاحظة ولا بالتجربة، أيْ إنها ثقافة ليست بحِسِيَّة.
أتحدث ـ إذن ـ عن الثقافة النظرية البحْتة، عن الفلسفة، عن الأخلاق، عن هذا الجانب في علْم الاجتماع الذي لا يتصل بالمُلاحظة والتجربة، عن الجانب في علْم النفس الذي لا يتصل بالملاحظة والتجربة عن هذه الجوانب في أيِّ موضوع لا يتصل بالاستقراء.
إن التجربة تتحكَّم فتكون فَيْصلاً فيما يتعلق بالحق والخطأ، لكن المجالات النظرية البحتة ليس لها هذا الفيْصل الذي يفرِّق بين الحق والباطل.
ما وراء الطبيعة مجال نظريٌّ بحْتٌ، وهو يَختلف مِن فرد إلى آخر ويتعدَّد بتعدُّد اختلاف الأفراد.
إذا جئنا للجو اليوناني فإنا نجد أن "أفلاطون" فيما يتعلق بتصوُّر "الآلهة" يختلف عن "أرسطو"، وتصوُّر أرسطو يختلف عن تصوُّر "الرِّوَاقِيِّين"، وتصوُّر "الرواقيين"يختلف عن تصوُّر "أبيقور"أو الأبيقوريِّين.
يُصوِّر أفلاطون الإلهَ على أنه مثال للخير على رأس المُثُل، أو مثال للجمال على رأس المثل، ومع أن أرسطو مِن مدرسته فإنه يُصور الله ـ سبحانه وتعالى ـ بصورة أخرى، ويرى أنه المُحرِّك الأول، وهذا المحرك الأول ليس هو الذي يُحرك العالَم بإرادته، وليس هو الذي خلَق العالَم، وليس هو الذي صوَّر العالَم وكوَّنه، بل إنه لا يعلم عن العالَم شيئًا مُطلقًا، إنه لا يعلم عن العالَم شيئًا: يستوي في ذلك التَّافِه مِن أمْره والعظيم منه إنه لا يَعلم حتى مجرد وُجود العالَم.(1/18)
وتأتي الرُّواقية فترى الله ـ سبحانه وتعالى ـ يمتزج بالكون امتزاجًا كاملاً: فهو سِرُّهُ، وهو في كل ذَرَّة مِن ذرَّاته، وفي كل خليَّة مِن خَلايَاه ويأتي أبيقور ويقول: ليس هناك شيء اسمه الله، وليس هناك إله، وتختلف هذه المدارس باختلاف أفرادها، وباختلاف رؤسائها. وقبل أن نستمر في شرح موضوع هذه الثقافة النظرية البحْتة، قبل أن أستمر فيها طويلاً أريد أن أتحدَّث عن قصة لها مَغزاها العميق كي تكون أمام أنظارنا حينما نضرب الأمثال فيما بعد:
اجتمع سُقراط باثنينِ من الفِيثاغُوريِّين من كبار فلاسفة الفيثاغورية أحدهم اسمه: سيمياس، وكان من كبار الفلاسفة، اجتمعوا يُناقشون فيما يتعلق بخُلود الروح: هل هي باقية بعد الموت؟ هل هي مستمرة أو أنها فانية؟
هل الإنسان حينما يموت يموت مادةً ورُوحًا، أو أنه يموت مادة فقط وتبقى الروح! وهل الروح خالدة؟
كانوا يتحدثون في هذا الموضوع، ويُحاولون ما استطاعوا أن يُقيموا الأدلة على خلود الروح، على أنها باقية بعد الموت، ثم تنتهي بهم الأدلة ويَنقطع بهم البرهان.
يقول سيمياس لسقراط: إن الموضوع ما زال في حاجة إلى بحْث أكثر، ويُوافق سقراط ثم يقول مُتأسِّفًا. إن العقل في مجال ما وراء الطبيعة مثله مثل لوْح مِن خشب يُريد الإنسان أن يقطع به البحر في يوم عاصف، أما مثَل الدين بالنسبة لمَا وراء الطبيعة فإنه المركب، إنه السفينة الأمينة لقطْع البحر، ويسألون جميعًا على أنه لو كان قد نزل دين يُحدد هذا الأمر فإن هم كانوا يَستجيبون إليه، ويُؤمنون به ويستسلمون، وتهدأ نفوسهم فيما يتعلق بهذا الأمر.
ولا جدال في أن العقل في محيط ما وراء الطبيعة لوْح مِن خشب لقطع البحر ولكنه في حقيقة الأمر لوح مِن خشب في كل علم نظريٍّ لا مجال للتجربة ولا للمُلاحظة فيه.(1/19)
وخُذ أيَّ مادة من المواد النظرية، خذ ما وراء الطبيعة، وخُذ الأخلاق وخذ التشريع، خُذ هذه النواحي الكثيرة المُتعددة التي سُميت بأسماء علوم مختلفة وهي كلها نظرية ـ فإنك ستجد العقل دائما هو لوْحُ الخشب الذي لا يتأتَّى أن يقطع به الإنسان البحر مهما احترَس ومهما كان يُحاول أن ينجو بهذا اللوح، والفلسفة فيما يتعلق بالعالَم الحديث وكل فلاسفة العصر الحديث مُختلفون على أنفسهم، ليس بينهم فيلسوف واحد يتَّفق مع الآخر، وإلا لمَا كان في حاجة أن يُنشئ فلسفة جديدة لو اتَّفق مع زميله.
ومعنى الفلسفة: أنها ابْتداع دين بجوار الدين، أو عقيدة بجوار عقيدة، كذلك الأمر فيما يتعلق بالأخلاق، إنها على هذا النسق. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتشريع، إنه على هذا النسق. وإذا تُرك التشريع للعقل فسيكون هناك الاختلاف، وإذا تُرك ما وراء الطبيعة للعقل، فسيكون هناك الاختلاف أيضًا. والمخرج أن نَصْدُرَ في كل هذه الأمور عن الدين، ولا مجال لرأيٍ آخر. إذا أخلصنا لا بد مِن أن نعتمد في المجالات الثلاث:
مجال ما وراء الطبيعة:
مجال الأخلاق:
مجال التشريع على الدِّين:
هذه المجالات ثابتة في الدين، مستمرة لا تقبل التطور. مجال العقيدة لا يقبل التطور، العقيدة هي هي، لا تَختلف العقيدة الدينية الإسلامية مِن بيئة إلى أخرى، ولا مِن قُطر إلى آخر، ولا مِن زمن لزمَن، ولا مِن مكان لمكان.
ولا تختلف الأخلاق الإسلامية ـ أيضًا ـ مِن بيئة إلى أخرى، ولا مِن مكان لمكان، ولا مِن زمَن لزمن، فهي هي:
أما فيما يتعلق بالتشريع فإن كثيرًا مِن الناس يَعتقدون أن التشريع الإسلامي مُتطور ولكن التشريع مبادئ ووسائل، قد يَترك الإسلام بعض الوسائل غير مُحددة، ويتركها للزمن ولكن المبادئ أو الغايات هي هِي:(1/20)
مثَلاً: مبدأ الشورى: لم يُحدِّد وَسِيلته الإسلام، أيْ أن الشورى نفسها مبدأ إسلامي ثابت، ووسيلة الشورى لم يُحددها الإسلام، وترَكها للبيئات وتركها للأزمان، يُحدِّدونها عن طريق البرلمان، عن طريقة أخرى، يُحددونها كيفما شاءوا.
لكن الغايات، النهايات، المبادئ، القواعد، إنها ثابتة، ويتساءل كثير من الناس: وما شأن الاجتهاد إذَن؟
إن المجتهدين في الإسلام كثيرون، فما شأن الاجتهاد في الدين إذن؟ والواقع أن هذا الجانب يَضِلُّ فيه كثير من الناس، أو يزِلُّ فيه كثير من الناس.
الاجتهاد في الإسلام معناه: أن يُحاول المجتهد ما استطاع، وأن يُحاول ما أمكنه، أن يربط بين حادثة حدثت جديدة وبين قاعدة إسلامية موجودة، أو أن يدخل في نِطاق قاعدة إسلامية عامة حادثة مِن الحوادث التي حدثت جديدة، فليس الاجتهاد ـ إذَن ـ ابتداعًا أو اختراعًا أو تطورًا، وليس فيه شيءٌ مِن هذا القبيل، وإنما هو مُحاولة جديدة كادحة دائبة مُستمرة، للوصول إلى ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو كان الرسول مَوجودًا.
وإذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، قاعدةٌ تنقض كل شُبْهة مِن الشبهات التي ترمي إلى أن الاجتهاد، إنما هو ابتداع، أو هو اختراع، أو هو شيء من هذا القبيل. ليس ـ إذَن ـ في الجانب الإسلامي تطوُّر، أقول هذا؛ لأنه من أخطر الأمور على العقيدة الإسلامية، وعلى الجو الإسلامي، الفكرة التي تسود في كثير مِن الأوساط، وهي سائدة في الثقافة الأوربية الآن، أعني فكرة التطوُّر، وفكرة التطور تَتناسب مع الثقافة في أوربا.(1/21)
والثقافة في أوربا ـ الثقافة النظرية ـ التي لا تتصل بالتجربة أو بالمُلاحظة، الثقافة النظرية في أوربا مُتطورة، وهذا حقيقيٌّ، متطورة؛ لأنها بشرية، وكل ما هو بشريٌّ مِن نِتاج العقل البشري فإنَّما هو نِسبيٌّ، وهو إذَن مُتطوِّر، وقد يكون هذا التطور تطورًا إلى القديم لا تطورًا إلى شيء جديد، يَعني مثلاً مذهب الوُجودية الحالي، الذي يُقال إنه مذهب جديد كل الجِدَّة، إنما هو مذهب السفسطائية القديم، لا أكثر ولا أقلَّ، إنه المذهب الذي يرى أنه ليس هناك حقيقة مُطلقة، وإنَّما الإنسان يُكَيِّف نفسه، ويُكوِّن نفسه، ويُوَجِّه نفسه.
وهو ليس في هذا إلا فردًا مِن الأفراد، له رأيه الخاص؛ لذلك لا يسري رأيه على الآخرين؛ لأنه ليست هناك حقائق مُطلقة، فهو عودة إلى المذهب القديم ـ مذهب السفسطائية القديم ـ المذهب الذي لَفَظَتْهُ كل الهيئات السليمة، إنه عودة إلى مذهب تَلْفِظُهُ كل البيئات السليمة. ومذهب الوجودية في الحقيقة والواقع لا يَسُود إلا في البيئات المَريضة التي لا ترى وَزْنًا للقيم الأخلاقية، ولا للدِّين، ولا للحقائق المُطلقة، وترى أن الإنسان يُكَوِّنُ نفسه مِن الألِف إلى الياء، مُستقلاً عن التقاليد، وعن الدين، وعن كل شيء في المُجتمع ونعود إلى فكرة التطور. لقد نشأت مع "دارون" وكانت لها شُهرة قوية في أوساط أوربا، وفي أوساط الشرق، ولكن هذه الفكرة نفسها ـ باعتراف كل العلماء ـ فيها الفجَوات التي نجعلها ظنيَّة لا يَقينيَّة، إنها فكرة ظنيَّة لم تُصبح يَقينًا، وكثير مِن العلماء هاجمَها وعارَضها، وأقام الأدلَّة على انهيارها، ولكنها مع ذلك سارت في بعض الأوساط الشرقية، وأَصبحنا الآن ـ وهذا هو الخطر الذي نَحذر منه ـ أصبحنا الآن نرى كُتبًا بأقلام المسلمين وبأقلام المُفكِّرين الكبار، تقول بفِكرة التطوُّر، وكأنها حقيقة مَوجودة.(1/22)
وما مِن شكٍّ في أن هناك التطور المادي، لا يُنكر ذلك أحدٌ، هناك تطوُّر مِن الفحْم إلى وَابور الغاز، إلى البوتاجاز، وهناك التطور مِن السيارة إلى الطائرة.
هناك التطور المادي، لا يُنكر ذلك أحدٌ إطلاقًا، ولكن هذا التطور لا دخْلَ له مُطلقًا، ولا شأن له مُطلقًا بتطوُّر العقل، مِن حيث هو عقل الإنسان.
إن الإنسان مِن حيث هو الإنسان لم يتطور مِن حيث هو عقلٌ، لم يكن مثلاً عشْر درجات، ثم أصبح خمسين درجةً أو ما شاكَل ذلك.
الإنسان لم يتطور إلى كائنٍ آخر، إنه لا يزال هو الإنسان الذي وُجد مِن عهد آدمَ إلى الآن، ولكن مِن المُؤسف أن بعض المُفكرين في الشرق يَسيرون في الأمر وكأنَّ التطور حقيقةٌ واقعة. وكأن التطور العقلي واقعة، وكأنه يقينٌ مطلق، وفي هذا خُطورة كبيرة. أضربُ مثَلاً للخطورة حينما تدخل فكرة التطور في مسائل الدين "إن أحد كبار المفكرين الإسلاميين، وله شُهرة ذائعة في الجو الإسلامي، حينما أراد أن يُفسر القرآن، وحين أراد أن يُفسر قصة سيدنا آدم وخلْق سيدنا أدم، وأمْر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالسجود، وكان في ذِهنه فكرة التطور، وأن الإنسانية بدأت بكذا وكذا، وأن آدم ليس هو أول الإنسانية مباشرة، يعني أن الإنسانية لم تبدأ بآدَمَ مباشرةً كان في ذهنه كل ذلك، فلمَّا جاء يُفَسِّر القرآن، ويُفسر قصة آدم، فسَّرها على أنها تصوير، مُجرد تصوير، مجرد تَمثيل، مجرد قصة.
مجرد قصة لماذا؟
مجرد تمثيل، لماذا؟.
مجرد تصوير، لماذا؟؟
ليَخرج من فكرة التطوُّر، وحتى لا يلتزم قضية أن آدم هو أول البشرية حقًّا، أول البشرية خُلق خلقًا جديدًا، أنشأه الله ـ سبحانه وتعالى ـ سوَّاهُ بيديه، ونفَخ فيه مِن رُوحه.(1/23)
وإذا كانت قصة آدم تمثيلاً، وإذا كانت تصويرًا، فلا يبقى شيء في القرآن لا يُمكن أن يُؤَوَّل، إذا أوَّلنا قصة آدم، إذا أوَّلْنَا قصة سجود الملائكة، إذا أولنا كل ذلك… وقد ذُكرت في القرآن عدة مرات، إذا أوَّلْناها لا يبقى في القرآن أو في الإسلام شيءٌ لا يُمكن أن يُؤوَّل، وفي تأويل كل شيء القضاء على الإسلام.
وعلى هذا ففِكْرة التطوُّر يجب ألاَّ تدخل في المُحيط الفكري الديني للمسلمين، وكل مَن أدخلها في المحيط الفكري الديني الإسلامي إنما يَضُرُّ الإسلام ويكون خطرًا على الإسلام أكثر من العدوِّ القاتل.
هذا الصديق الجاهل يكون خَطَرًا على الإسلام، أكثر من العدو العاقل.
وهذا مثَلٌ، مجرد مثَل مِن الأمثلة الكثيرة. وعلى كل حال، فإن الكُتب الحديثة تجدها دائمًا قائلةً بفكرة التطور، وإن الإنسانية تطوَّرت وإنها… الخ..
كل هذه النواحي إذا أدخلناها في محيط العقيدة، أو أدخلناها في محيط الأخلاق أو أدخلناها في محيط الدين، فإنها تجعل مِن الدين مجموعة من المبادئ النسبيَّة، ومعنى مجموعة من المبادئ النسبية، أنها ليست حقائق مُطلقة، وأنها يُمكن أن تتطور إلى اللانهاية، ويأتي يومٌ مِن الأيام، وقد انفصلنا عن الدين وعن المبادئ الدينية الانفصال الكامل والانفصال التام.
فكرة التطور فيما يتعلق بالحضارة الحديثة قام بها "دارون"ويَعترف اليهود أو يعترف الصهيونيون، في كتابهم أو مبادئهم: "برتوكولات حكماء صهيون"يعترفون بأنهم هم الذين وَضَعُوا "دارون"في الأفُق على المنصة، وهم الذين أعلنوا عنه، وهم الذين أذاعوا فكرته، وهم الذين حبذوها، وهم الذين نشروها في كل مكان.(1/24)
ولقد فعلوا ذلك؛ لأنها تُقَوِّضُ الأديان مِن أساسها، وهي مع ذلك ـ كما قلنا ـ فكرة ظنيَّة، وكلما تقادَم العهد بها ازداد الشكُّ فيها. الثقافة الحديثة، أو الحضارة الحديثة في جانبها الثقافي، إذا رحَّبْنَا بها، فإن ذلكَ يُعَدُّ مِن الحُجُب التي تَحْجِب شيئًا فشيئًا الفكرة الإسلامية والذاتية الإسلامية، وأنه لمَن المعقول أننا عندنا القرآن وعندنا السُّنَّة، وقد طُبِّق القرآن، وطُبِّقتِ السُّنة فكان ازدهار الأمة الإسلامية وكان مَجدها..
مِن المعقول أن نَصْدُرَ في ثقافتنا عن ذاتية إسلامية عن قرآن وسُنة، وكل هذا البريق فيما يتعلق بالحضارة الحديثة في جانبها الثقافي يجب ألا يَخدعنا مثَلا: الحرية والمساواة. ومِن الغريب أن الأوربيين أنفسهم من كبار المُفكرين في أوربا نفسها، يَرون أن هذينِ المبدأينِ مُتعارضانِ:
يرون أنه إذا وُجدت الحرية فلا مساواة.
وإذا وُجدت المساواة فلا حرية.
يرون التعارُض في المبدأينِ وأنهما لا يَجتمعانِ؛ لأنه إذا وُجدت المساواة، فكيف يتأتَّى أن تُوجد الحرية.
ومِن هذه الأشياء في الجانب الثقافي أيضًا: ما يُقال مِن أنَّ العلْم للعلْم، أو الأدب للأدب، أو الفن… كل هذه لها خُطورتها فيما يتعلق بالأجواء الإيمانية، في جوِّ الإيمان لا يتأتَّى مُطلقًا أن يكون الأدب للأدب، وإنما الأدب للأخلاق وللفضيلة، لترقية الفِطَر، لإثارة الشعور الديني الكريم، لكل هذه المعاني.
أمَّا فكرة الأدب للأدب فإن ه لا يَستَسيغُها مُطلقًا عقلٌ أو قلبٌ مؤمن، كذلك فيما يتعلق بالفن للفن، الفن للفن معناه أنك ترسم الصورة العارية كما شئتَ.(1/25)
الفن للفن أيضًا فكرة لا يتأتَّى للمؤمن أن يقول بها وأن يَمتدحها أو أن يَتَبَنَّاهَا شِعارًا له. هذه النواحي كلها وكثير غيرها بالثقافة الغربية الحديثة: الثقافة النظرية يجب أن نكونَ بعيدينَ عنها كل البُعد، وأن نتَّبع في هذا الجانب الإسلامي وحده، نجعله الأساس، نجده المَصدر المُوَجِّه.
إن هذه الآراء الثقافية النظرية الحديثة، هي كما يقول أحد كبار المفكرين في أوربا مَثَلُها كمثل: "المُوضة "وأزياء النساء، تتبدَّل مِن عامٍ إلى عام، ومِن فترة إلى فترة.
إن "موضة" هذا العام في علْم النفس مَثَلاً هي كذا هي نظرية فلان، أو هي نظرية فلان، أو هي نظرية فلان، والمُوضة في العام المُقبل أو في العام الماضي نظرية أخرى… وهكذا الأمر فيما يتعلَّق بالفلسفة، أو فيما يتعلق بالتشريع… الخ.
هذه النواحي كلها تجعلنا حَذِرِينَ فيما يتعلق بالقسم الثقافي في الحضارة الحديثة، بل يجب أن نكون بعيدينَ عنه كل البُعد، وأن نقرأه لا على أنه حقائق ومبادئ، وإنَّما على نِتاجٍ بشريٍّ مُتغيِّر مُتطور نِسبيٍّ لا ثباتَ له، وإذا قرأنا على هذا الوضْع انتفى بعض الضرر منه.
ويجب أن نَصْدُرَ عن ذاتية إسلامية، وعن مبادئ إسلامية، عن قاعدة إسلامية عن جوٍّ إسلامي.
والنتيجة التي أُريد أن أنتهيَ إليها. وهي الخاتمة إنما هي العودة إلى الإسلام.
العودة إلى الإسلام:
1ـ ملاحظة وتجربة، ومنهجًا وقوةً ماديةً.
(وأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ).
العودة إلى الإسلام: مِن تسخير الأرض، وتَسخير السماء وتسخير ما بين الأرض والسماء وتسخير الكواكب، وتسخير الشمس والقمر، وتسخير البحار والأنهار.
العودة إلى الإسلام أقوَى ما تكون في الجانب المادي.
2ـ والعودة إلى الإسلام، والاعتزاز بالإسلام أقوَى ما تكُون في الجانب الثقافي، سواء اتَّصلَ ذلك بالعقيدة أو اتصلَ ذلك بالتشريع، أو اتصل ذلك بالأخلاق.(1/26)
في التعريف بالإيمان:
يقول الله ـ تعالى ـ: (قد أفلحَ المؤمنونَ الذينَ همْ في صَلاتهِمْ خَاشِعونَ والذينَ هم عن اللَّغْوِ مُعرِضونَ والذينَ هم للزكاة فاعِلونَ والذينَ هم لفُرُوجِهِمْ حَافِظونَ إلاَّ على أزواجهم أو ما مَلَكَتْ أيمانُهم فإنَّهم غيرُ مَلومِينَ فمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلكَ فأُولئِكَ همُ العَادُونَ والذينَ هُمْ لأمَاناتِهِمْ وعهْدِهمْ رَاعُونَ والذينَ همْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظونَ أولئكَ همُ الوَارِثُونَ الذينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ).
ويقول ـ سبحانه ـ: (إنَّمَا المؤمنونَ الذينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبُهمْ وإذَا تُلِيَتْ عليهمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيمَانًا وعلَى رَبِّهمْ يَتوكَّلُونَ الذينَ يُقيمونَ الصلاةَ وممَّا رَزقناهُمْ يُنفقونَ أولئكَ همُ المُؤمنونَ حَقًّا لهمْ درجاتٌ عندَ ربِّهمْ ومَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ).
ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري عن أنس: "لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِهِ". وفيما رواه البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "فوالذي نفسي بيده لا يُؤمنُ أحدُكمْ حتى أكونَ أحبَّ إليه من والِدِه ووَلَدِهِ".
وفيما رواه البخاري: عن أنس قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا يُؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ مِن والده وولَدِهِ والناس أجمعينَ".
وفيما رواه البخاري: عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرَّ على رجل مِن الأنصار وهو يَعِظُ أخاهُ في الحياء فقال رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ: دَعْهُ فإن الحياء مِن الإيمان.(1/27)
وقد كتب الإمام البخاري ـ رضي الله عنه ـ في صحيحه عن الإيمان سار فيه على هُدَى الكتاب والسُّنة والصحابة والتابعينَ وسلَف الأمة وقد قدَّم للكتاب بمُقدمة يَستدل فيها بآياتِ الكتاب الكريم، وكانت أحاديثُ كتاب الإيمان كلها مُوجَّهة لليقين بأن الإيمان قوْلٌ وفِعْلٌ. يقول الإمام البخاري عن الإيمان:
وهو قوْلٌ وفِعْلٌ، ويزيد وينقص، قال الله ـ تعالى… ثم أخَذ يُبرهن على رأيه بالآيات القرآنية نذكر منها.
(لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ). (هو الذي أنزلَ السَّكِينَةَ في قلوبِ المُؤمنينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ وللهِ جُنودُ السمواتِ والأرضِ وكانَ اللهُ عليمًا حكيمًا ليُدْخِلَ المُؤمنينَ والمُؤمناتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تحتِها الأنهارُ خَالِدِينَ فيها ويُكفِّرَ عنهمْ سيئاتهم وكانَ ذلكَ عندَ اللهِ فَوْزًا عَظيمًا). (سورة الفتح آيتا: 4 ـ 5).
(وزِدْنَاهُمْ هُدًى). (نحنُ نَقُصُّ عليكَ نبَأهمْ بالحَقِّ إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا علَى قُلوبِهمْ إذْ قَامُوا فقالُوا رَبُّنَا رَبُّ السمواتِ والأرضِ لنْ نَدْعُوَ مِن دُونهِ إِلَهًا لقدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا). (سورة الكهف: آيتا: 13 ـ 14).
(ويَزِيدُ اللهُ الذينَ اهْتَدَوْا هُدًى). (ويَزِيدُ اللهُ الذينَ اهْتَدَوْا هُدًى والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ ربِّكَ ثوابًا وخَيْرٌ مَرَدًّا). (سورة مريم آية: 76).
(والذينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). (سورة محمد آية: 17).(1/28)
(ويَزْدَادَ الذينَ آمَنُوا إيمَانًا). (ومَا جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلَّا مَلائِكَةً ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلَّا فِتْنَةً للذينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الذينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزْدَادَ الذينَ آمنوا إيمانًا ولا يَرتابَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ والمُؤمنونَ ولِيَقُولَ الذين في قلوبِهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرادَ اللهُ بهذا مَثَلًا كذلكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشاءُ ويَهدِي مَن يَشاءُ ومَا يَعْلَمُ جُنودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ ومَا هِيَ إلَّا ذِكْرَى للْبَشَرِ). (سورة المدثر: آية/ 31).
وقوله: (أيُّكمْ زَادتْهُ هذهِ إيمانًا فأمَّا الذينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا). (وإذا مَا أُنزِلتْ سُورةُ فمِنهمْ مَن يَقولُ أيُّكمْ زادَتْهُ هذهِ إيمَانًا فأَمَّا الذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وهمْ يَسْتَبْشِرُونَ). (سورة التوبة آية: 124).
وقوله ـ جلَّ ذِكْرُه ـ: (فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا). (الذينَ قالَ لهم الناسُ إنَّ الناسَ قد جَمعُوا لكمْ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وقالُوا حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ). (سورة آل عمران آية 173).
وقوله ـ تعالى ـ: (ومَا زَادَهُمْ إلَّا إيمانًا وتَسْلِيمًا). (ولمَّا رأَى المُؤمنونَ الأحزابَ قالُوا هذا مَا وَعَدَنَا اللهُ ورَسولُهُ وصدَق اللهُ ورَسُولُهُ ومَا زادَهمْ إلا إيمانًا وتَسليمًا). (سورة الأحزاب آية 22).
قد أفلَح المُؤمنون:
وإذا كان هذا رأي البخاري ـ رضي الله عنه ـ فإن أبَا الحسن علي بن خلف يقول في شرح صحيح البخاري: "مذهب جماعة أهل السُّنَّة مِن سلَف الأمة وخلَفها أن الإيمان: قوْلٌ، وعمَلٌ يزيد ويَنقُص".
ويقول عبد الرزاق حسبما ذكره الإمام النووي في شرح مسلم:(1/29)
سمعتُ مَن أدركتُ مِن شيوخنا وأصحابنا: سُفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر، والأوزاعي، وعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عُيينة، يقولون: الإيمان قولٌ وعملٌ ويَزيد ويَنقص.
وهذا قول ابن مسعود، وحُذيفة، والنخْعي، والحسن البصري، وعطاء، وطاوس ومُجاهد، وعبد الله بن المُبارك.
ويُتابع عبد الرزاق الحديث فيقول:
فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية مِن المؤمنين هو إثباته بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب. والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح؛ وذلك أنه لا خلاف بين الجمع أنه لو أقَرَّ وعمِل على غير علْم منه ومعرفة برَبِّه لا يستحق اسمَ مُؤمنٍ، ولو عرَفه وعمِل وجَحَد بلسانه وكذَّب ما عرَف مِن التوحيد لا يَستحقُّ اسمَ مؤمن، وكذلك إذا أقرَّ بالله ـ تعالى ـ وبرُسله ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ ولم يعمل بالفرائض لا يُسمَّى مُؤمنًا بالإطلاق، وإن كان من كلام العرب يُسمَّى مؤمنًا بالتصديق فذلك غير مُستحقٍّ في كلام الله تعالى لقوله عز وجل:
(إنَّمَا المُؤمنونَ الذينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبُهمْ وإذَا تُلِيَتْ عليهمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الذينَ يُقيمُونَ الصلاةَ وممَّا رَزَقْناهُمْ يُنفِقونَ أولئكَ هُمُ المُؤمنونَ حَقًّا). فأخبرنا ـ سبحانه وتعالى ـ أن المؤمن مَن كانت هذه صِفاته .
وما ذَكره عبد الرزاق يُؤيده ابن بَطَّال في باب مَن قال الإيمان هو العمَل مِن شرح صحيح البخاري فيقول: فإن قِيلَ قد قدَّمتُم أن الإيمان هو التصديق. قيل التصديق هو أول مَنازل الإيمان، ويُوجِب للمُصدِّق الدخول فيه، ولا يُوجب له استكمال مَنازله ولا يُسمَّى مُؤمنًا مُطلَقًا. هذا مذهب جماعة أهل السُّنَّة: إن الإيمان قوْلٌ وعملٌ.(1/30)
قال أبو عبيد: وهو قول مالك، والنووي، والأوزاعي ومَن بعدهم مِن أرباب العلْم والسُّنة الذين كانوا مَصابيح الهُدى وأئمة الدِّين مِن أهل الحجاز والعِراق والشام وغيرهم.
قال ابن بطَّال: وهذا المعنى أراد البخاري ـ رحمه الله ـ إثباتَه في كتاب الإيمان وعليه بوَّب أبوابه كلها. فقال:
باب أمور الإيمان.
وباب الصلاة مِن الإيمان.
وباب الزكاة مِن الإيمان.
وباب الجهاد مِن الإيمان. وسائر أبوابه.
وإنما أراد الردَّ على المُرجئة في قولهم إن الإيمان قولٌ بلا عمل وتبيَّن غَلَطُهم وسُوء اعتقادهم ومُخالفتهم للكتاب والسُّنَّة ومَذاهب الأئمة.
ويَنهج الإمام الطبري هذا النهج أيضًا فيقول: "الإيمان ـ كلمةً جامعةً ـ الإقرارُ باللهِ وكُتبهِ ورُسلِهِ، وتَصدِيق الإقرار بالفِعْلِ". ا.هـ.
بَيْدَ أنّ العامَّة ـ وهي دائمًا الأكثرية ـ انتهتْ بالإيمان إلى أن أصبح على حدِّ تعبير الشيخ محمد عبده: "يُطلق عند الناس على ذلك الاسْتسلام التقليدي الذي لم يأخذ مِن النفس إلا ما أخذ اللفظ مِن اللسان، وليس له أثر في الأفعال؛ لأنه لم يقع تحت نظَر العقل، ولم يَلْحظه وِجْدان القلب، بل أُغْلِقَتْ عليه خِزانةُ الوَهْم، ومثل هذا الذي يُسمونه إيمانًا لا يُفيد في إعداد القلب للاهتداء بالقرآن.
وهذا الذي غلَب على العامَّة مِن معنى الإيمان، أثَّرَ على بعض علماء الكلام أنفسهم فتَناقَشُوا نِقَاشًا طويلًا في معنى الإيمان، وهل هو التصديق بالقلب فحسب بالغًا ما بلَغ هذا التصديق مِن الضعف والسلبية أو أنه تصديقٌ وفِعْلٌ، وقد أراقَ المُتكلمون كثيرًا مِن المِداد لتَحْبِير العشَرات مِن الصفحات في هذا الموضوع.(1/31)
وإذا تدخَّل العامَّة في الشئون العلمية، وإذا تأثَّر العلماء بآراء العامَّة، مُتخلِّفينَ بذلك عن القيادة، مُتخلِّينَ بذلك عن القيادة الرَّشِيدة، فإن الأمر ينتهي لا مَحالة بأن ينزل العلماء إلى المستوى الشعبي "شاعرينَ بهذا النزول أو غير شاعرينَ"، ومِن هنا كان الرأْيُ يسود في بعض أوساط المتكلمين: أن الإيمان مُجرَّد التصديق مهما كانت مَنزلة هذا التصديق من الهزَل والسلبية وكان مِن فضْل الله علينا أن بيَّن لنا ـ سبحانه ـ مقاييس الإيمان في كتابه الكريم، والصور الإيمانية في هذا الكتاب الخالد لا تكاد تُحصَى.
وكان مِن فضْلِ اللهِ أيضًا أن الرسول ـ صلوات الله عليه ـ بكلامه، وفِعله، وسِيرته يُحقِّق مَثَلاً أعلَى للإيمان كما أراد الله ورسوله.
ونُريد ـ بتوفيق الله ـ في حديثنا عن الإيمان: أن نتَّخِذ الأساس القرآن الكريم وأحاديثَ صحيحةً رواها الإمام البخاري والإمام مسلم في أصحِّ الكتب بعد كتاب الله ـ تعالى ـ وقد ذكرنا بعض الآيات فيما سبق.
أما الأحاديث: فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يقول رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ: "الإيمانُ بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعبةً، والحياء شُعبة مِن الإيمان". رواه الإمام البخاري. ورَوَى الإمام مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:"الإيمان بِضْعٌ وسُتونَ أو بِضْعٌ وسِتُّونَ شُعبةً فأفضلها قول لا اله إلا الله، وأدْناها إِمَاطَةُ الأذَى عن الطريق، والحياءُ شُعبة مِنَ الإيمان".
وحينما بَنَى سادتنا العلماء المُحقِّقون ـ الذين أخلصوا لله ورسوله ـ تلك الشُّعَبَ عن طريق الأحاديث الشريفة التي وضَّحت الإيمان، وعن طريق الآيات القرآنية الكريمة التي تَحدَّثت عن الإيمان: قسَّموا تلك الشُّعَبَ إلى ما يَخْتصُّ منها بالقلب، وما يختص باللسان، وما يختص بالبدن، أي أن الإيمان يَغمر الكيان الإنساني كله، اعتقادًا وقوْلاً وفِعْلاً.(1/32)
ومِن الأحاديث الشريفة نَتَبيَّن أن الحب في الله والبُغْض في الله مِن الإيمان، وأنه لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه.
وإن الذي يُؤذي جاره ليس بمُؤمن.
وليس بمؤمنٍ مَن شبِع وجاره جائع.
وإن الجهاد مِن الإيمان، يقول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: "انْتدبَ الله لمَن خرَج في سبيله، لا يُخرجه إلا إيمانٌ بِي، وتصديقٌ بِرُسلي، أن أُرْجِعَهُ بِمَا نالَ مِن أجْرٍ أو غنيمة، أو أُدخله الجنة، ولولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدت خلف سريَّةٍ، ولوَددتُ أنِّي أُقْتَلُ في سبيلِ اللهِ، ثُم أحيَا، ثم أُقْتل، ثم أحيَا، ثم أُقتل".
ومنها نتبيَّن ـ أيضًا ـ أن قيامَ ليلةِ القدْر من الإيمان، والإنْصافَ مِن النفس مِن الإيمان، وبذْل السلام للعالَم مِن الإيمان. والإنفاق مِن الإقتار مِن الإيمان.
وتطوُّع قيام رمضان مِن الإيمان.
والصلاة مِن الإيمان، بل لقد عبَّر الله عنها بالإيمان في قوله ـ تعالى ـ: (ومَا كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).
ويَتغلغل الإيمان في الحياة الاجتماعية حتى يصل إلى السهل مِن أمرها والمَيْسور، فتكون إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، ويكون إفشاء السلام ـ تعارفًا وتَودُّدًا مِن الإيمان. وإذا ما تغلغل الإيمان في النفس وَجَد المؤمن حلاوةَ الإيمان، وهو لا ينعم بحلاوة الإيمان إلا .. "أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يَكره أن يعود في الكُفْر، كما يكره أن يُقذف في النار".
وأساس الإيمان على كل حالٍ هو الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر. والإيمان بالقدَر خيْرِه وشَرِّه.
وهذا الأساس كأساس القصر بالضبْط، وكما لا يُطلق على أساس القصر أنَّه قصْر، فكذلك لا يُطلق على أساس الإيمان أنه إيمان كامل، وكما لا يكون القصر بدون الأساس، فإنه لا يُوجد الإيمان بدون الشهادتينِ.(1/33)
وهذا الأساس نفسه يتبلور في شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.(1/34)
في أساس الإيمان
أشهد أن لا اله إلا الله:
مِن روائع مُناجاة ابن عطاء السكندري ما يلي (حينما يَكتب الكاتبون عن الإيمان يبدءون عادةً بإثبات وُجود الله ـ سبحانه ـ ويتخيَّلون أن هذه المسألة أهم ما في موضوع الإيمان، وهذا النهْج ـ فيما نرى ـ لا يُقرُّه دينٌ، ولا تُقره فِطرة. وقد حاولنا أن نستفيض في بيان رأينا في هذا النهج مبينين أن الدين لا يَضع مسألة وُجود الله موضع بحْثٍ، وأن الفطرة السليمة لا تُقِرُّ بذلك).
"إلهي كيف يُستدل عليكَ بما هو في وُجوده مُفْتقر إليك .. أن يكون لغيرك ما ليس لك حتى يكون هو المُظهر لك ".
متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدلُّ عليك، ومتى بعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك؟ ا.هـ ".
إن مسألة وجود الله لم تكن في يوم مِن الأيام محلَّ بحْثٍ عند ذوي الشعور الديني السليم. ولم ينشأ الجدَل في هذه المسألة إلا في العصر اليوناني: فهو العصر الذي جعل منها مشكلةً قابلةً للأخْذ والرَّدِّ والقبول والرفض.
والواقع أن ظروف العصر اليوناني القديم هي التي جعلت منه مثَلاً سيئًا في كل ما يتعلق بالدين والخلق. لقد كان عصرًا خَلَا مِن الدين الحق، ولم ينعم بالمعرفة الصحيحة عن طريق الوحي. فحاولتْ طائفةٌ منه أن تصل إلى الوحْي عن طريق الكِهانة، ومِن ذلك كاهنات معْبد دلفي المَشهورات.
وحاولت طائفة أخرى أن تصل إلى الوحي عن طريق النُّسُكِ والعبادة والذكر، ومِن هؤلاء فِيثاغورث وأتباعه، وأفلاطون والأفلاطونيون القدماء منهم والمُحْدَثون.
لقد حاولوا أن يَقتنصوا الوحْي اقتناصًا، وأن يكشفوا عن الحُجب، وأن يُزيلوا الأقنعة، وأن يَصِلوا إلى الله، فيتصلوا بالجمال والجلال والخير المطلق.
بَيْدَ أن الطريق الذي سَلكوه إنما هو طريق خاطئ؛ لأنه لم يُؤَسَّسْ على وحْيٍ يرسم طريق الهداية الصحيح، إنما أُسِّسَ على نهج عقلي بشري أو على تقاليد مُتوارَثة.(1/35)
ومِن أجل ذلك لم يُنتج الثمرات المرجوة، ثم هو طريق صعب المُرتقَى؛ لأنه يُعارض النزعات الحيوانية في الإنسان، ويُحاول السُّمُوَّ بها وإعلاءها، ويُريد أن يَرقَى بالإنسان إلى ما يقرب من المستوى الروحي الملائكي.
ولكنَّ بني البشر في الأغلب منهم يَخْلُدونَ إلى الأرض ويتَّبعون أهواءهم. لذلك كانت قِلَّة قليلة تلك الفئة التي حاولت اتباع هذا التيار في صرامة وإخلاص.
أما الأغلبية العظمى مِن اليونان فقد اتبعوا التيار الذي يعتمد على العقل البشري اعتمادًا كُليًّا، وكان زعيمهم الأكبر في ذلك أرسطو فهو الذي وطَّد أركان العقل البشري، وأشاد به كأساس للبحْث في عالَم ما وراء الطبيعة وفي عالَم الفضيلة أو الخير.
وما كان العقل في يوم من الأيام ـ عند الحكماء المصريين أو حكماء الهنود ـ أهلاً لأنْ يكون مصدر المعرفة في عالَم الغيب .
وأخذ العقل ـ عقل أرسطو ومَن لفَّ لفَّهُ ـ يُجادل ويُماري في الحقائق ـ صغُرت أو كبُرت، دقَّتْ أو جَلَّتْ، واضحةً كانت كوضوح النهار أو خفيَّةً كأنها غُلِّفت بقِطْع من الليل المُظلم، وتجرَّأت أقلامهم على تناول الغيب وعالَم الخير بالإنكار أو الشك أو ترجيح الوجود أو تَوَجُّبِ العدَم.
وحاول كل زعيم أن يُصور الأمر في هذين الميدانينِ ـ ميدان ما وراء الطبيعة وميدان الأخلاق ـ بحسب مِزاجه وأهوائه، وبحسب ما تُمليه عليه ثقافته وبيئته، وبحسب ما تُمليه عليه طبيعته الجِسمانية وجِبَلَّتُه الخُلقية.
وانتهى الأمر بأن حاول المُثبتون الردَّ، فحاول المنكرون تعليل الرفْض: وزالت قُدسية الموضوع، وأصبحنا أمام جوٍّ مِن اللُّجاج والمُماراة لا يَليق بجلال الله وعَظمته: (مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).(1/36)
ولو قيَّض الله للبيئة اليونانية جوًّا مِن الخير والهُدى، ولو أنعم الله عليهم بنشأة رسول فيهم، لمَا كان هذا الانحراف الذي انتشر فيهم، منذ أرسطو وانتشار الوباء الخبيث والذي تغلغل حتى وصل به الأمر وهو انحراف مُنحرف ـ إلى أن أصبح وكأنه الوضْع الطبيعي، فساد في كل بيئةٍ، وغَزَا كل عقل، وكلما تقدم به الزمن ازداد رُسوخًا وثباتًا، وازداد انتشارًا حتى لقد غزَا الأديان نفسها التي تأبَى أن تُقرَّه أو تعترف به، لقد تغلغل في المسيحية فوضَع رجال المسيحية مسألةَ وُجود الله وقضية الفضيلة موضع البحث ونزلوا إلى مجال المُجادلة والمُماراة.
وأخذ هذا الوضع يتخطَّى القرون حتى جاء الإسلام فوضع الأمر في نِصابه ووجَّه الأذهان إلى أن الأمر الأساسي إنما هو مسألة الوحدانية "أشهد أن لا اله إلا الله"، وجَّه الإسلام الأذهان في عُنف، وفي قوة إلى التوحيد، لا إلى إثبات الوجود، لقد وجَّه الأذهان إلى أن الله لا يحتاج في ثباته وفي وُجوده إلى دليل، وهو ـ على العكس ـ الدليل على غيره فغيره ثابت به، والعالَم ثابت به، والسماوات والأرض والعرْش والكرسي. كل ذلك موجود بوُجوده ثابت بثباته والوجود بأكمله محتاج في كل لحظة إليه فضلاً عن احتياجه إليه في نشأته الأولى ووُجوده الأصلي (إنَّ اللهَ يُمسكُ السمواتِ والأرضَ أنْ تَزُولا). إنه يُمسكها في كلِّ آونة وفي كل لحظة فإذا ما تخلَّى عنهما طرْفة عينٍ تلاشتَا فكانتَا هباءً وكانتَا عَدَمًا، وكل ذرة في العالَم، وكل خلية في كائناته إنما ثباتها بالله وقيامها به.(1/37)
ومَثَلُ الإنسان كمثل أي كائن آخر مِن حيث وُجوده وقيامه بالله، وقد كرَّمه الله وأعطاه الكثير مِن المِنَح والمَزايَا، ووهبه هذا التمييز والفهم، وسخَّر له الكثير مِن العوالِم الأخرى، وجعله خليفةً في الأرض، ومِن أجل ذلك كانت مسئوليته فيما يتعلق بتصحيح الصلة بينه وبين الله عظيمةً خطيرة. أمَّا تصحيح هذه الصلة، فإن ذِروتها العُليَا ومثَلها الأسمى إنما هو ما أمر به ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في قوله تعالى: (قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَريكَ لهُ وبِذَلكَ أُمِرْتُ وأنَا أوَّلُ المُسلِمينَ).
وفرْقٌ هائل بين مَن يتَّخذ هذه الآية القرآنية شعارًا ومَن يحاول ـ مُتجاوزًا قدْره ـ الاستدلال على وُجود الله بمَخلوق مِن مَخلوقاته. إن الفرق بينهما هو الفرق بين طريق الهُدى والصواب وطريق الجدل والشك. وجاء الإسلام ـ كما قلنا ـ ليَضع الأمور في نِصابها وليُصحح الأوضاع التي انحرفت.
ومِن هذه الأوضاع المُنحرفة الشرْك بالله، والإنسان يُشرك بسبب الضعف على وجه العموم، وقد يكون هذا الضعف فقرًا، وقد يكون جهلاً، وقد يكون طمعًا وجَشَعًا، وقد يكون خوْفًا وفزَعًا، وقد يكون غير ذلك، ومهما يكن مِن أمر الشرك فإنه أينما وُجد ليس إلا مَظهرًا مِن مظاهر الضعف.
وحاول الإسلام أوَّل ما حاوَل أن يُظهر النفوس مِن هذا الضعف وأن يُعيدها بالتوحيد إلى مَجالات العِزَّة والكرامة.
(وللهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ وللْمُؤمنينَ). فكانت دعوته للتوحيد.
أمَّا ما في القرآن ممَّا تخيَّله الناس استدلالاً على وُجود الله، وأعتقد أن القرآن يَذكره للاستدلال وُجودًا لله، فليس إلا بيانًا لمظاهر قدرة الله وعنايته بالعالَم، ومِن ذلك مثلاً: (وفي الأرضِ قِطَعٌ مُتجاوراتٌ وجناتٌ مِن أعنابٍ وزَرْعٌ ونخيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بماءٍ واحدٍ ونُفَضِّلُ بَعضَها علَى بعضٍ في الأُكُلِ).(1/38)
وإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل:
(وجعلنَا نَوْمَكُمْ سُباتًا وجعلنا الليلَ لِباسًا وجعلنا النهارَ مَعاشًا وبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وجَعلنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا. وأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخرِجَ بهِ حَبًّا ونَباتًا وجَنَّاتٍ أَلْفَافًا).
و(تَبارَكَ الذي بيدِهِ المُلكُ وهُوَ علَى كلِّ شيءٍ قَديرٌ الذي خلَقَ الموتَ والحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحسنُ عمَلًا وهوَ العَزيزُ الغَفورُ الذي خلَقَ سَبْعَ سمواتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ ترَى مِن فُطورٍ ثُمَّ ارْجِعِ البَصرَ كَرَّتَيْنِ يَنقلبْ إليكَ البَصَرُ خَاسِئًا وهُوَ حَسِيرٌ…).
وما مثل هذا في تصوُّر قدرة الله كمثل: (ويَسألونَكَ عَنِ الجبالِ فقُلْ يَنسِفُها ربِّي نَسْفًا. فيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولَا أَمْتًا يَومئذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لهُ وخَشَعَتِ الأصواتُ للرَّحمنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا يَومئذٍ لا تَنْفَعُ الشفاعةُ إلَّا مَن أَذِنَ لهُ الرحمنُ ورَضِيَ لهُ قولًا يَعلمُ ما بينَ أيدِيهمْ ومَا خَلْفَهمْ ولا يُحِيطُونَ بهِ عِلْمًا وعَنَتِ الوُجوهُ للحَيِّ القَيُّومِ وقدْ خَابَ مَن حَمَلَ ظُلْمًا).
إن في ذلك ـ وكثيرٌ غيره ـ إنما ذُكِرَ ليُبيِّن عظمة الله وجلاله وقُدرته ويُبين رحمته بعباده وعنايته بهم.
وما مِن شكٍّ في أنه يُمكن أن يُؤخذ مِن ذلك أدلة كثيرة على وجود الله.
وما مِن شك في أن الأدلة التي تُؤخذ من ذلك يُمكن أن تُصاغ في أسلوب منطقي: في قياسٍ يشتمل على المُقدمات والنتائج، ويكون مُتَّفِقًا مع قواعد المنطق الأرسطي ومَبادئه، ولكن ذلك لن يكون أبدًا تصويرًا لهدف مِن أهداف القرآن. فالقرآن لم يضع قط وُجود الله مَوضع شكٍّ حتى يحتاج إلى الاستدلال عليه.(1/39)
ومِن القصص التي تُروَى على أنحاء شتَّى وبأساليب مختلفة تتفق في الجوهر وتختلف في الرسم ما يُحكى مِن أن بعض مشاهير العلماء ألَّف كتابًا ضخمًا في إثبات وُجود الله فأقام له أصدقاؤه حفلةَ تكريم مِن أجل عمله هذا الضخم، ومَرَّ بهم بعضُ الصالحين، فأخذوا يُحدثونه عن عبقرية المؤلِّف فسأل:
ومتى غابَ اللهُ حتى يكون في حاجةٍ إلى إثبات؟ فوَجم الجميع، ولم يستطع المؤلف الإجابة، وترَكهم الرجلُ الصالح وهو يُردد.
(قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلعبونَ). قال رجل للنووي الصوفي المعروف: ما الدليل على الله؟ قال: الله ـ قال الرجل: فما العقل؟
قال: العقل عاجز، والعاجز لا يدلُّ إلا على عاجز مثله:
مَن رامَ بالعقلِ مُسترشدًا سرْحه في حَيْرَةٍ يَلْهُو.
وشابَ بالتلبيسِ أسرارَهُ يقول في حَيرته هلْ هُو.
والنتيجة التي نُريد أن نصل إليها هي: أن رُوح القرآن إذًا هِيَ قيادةُ النفوس إلى التوحيد (ومَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَسولٍ إلَّا نُوحِي إليهِ أنَّهُ لا إِلَهَ إلَّا أنَا فَاعْبُدُونِ).
(وما أرسلناكَ إلَّا رَحمةً للعَالمينَ قُلْ إنَّمَا يُوحَى إليَّ أَنَّمَا إلهُكُمْ إِلَهٌ واحدٌ فَهَلْ أنتمْ مُسلمونَ).
وتأتي مشكلة المَلاحدة والوُجوديينَ المنكرين لوُجود الله، ماذا نفعل بإزَائهم؟ إن مثل هؤلاء لا وُجود لهم في مجتمع سليم طاهر، ويكفي اعتزالهم كمرَض خبيث يُنفِّر الإنسان منه ويكفي عَزْلُهم أن يفسدوا الآخرين: تلاميذَ كانوا أو طلبةً أو عمالاً أو زُراعًا، ولن تمرَّ فترة طويلة عليهم في هذا الوضْع حتى يَرْتَدِعُوا ويَعْدِلُوا عن اتباع أهوائهم وشهواتهم.(1/40)
وما الوُجودية إلا لِهَوًى. إنما هوَى النفس التي لا تحتمل القيام بالواجب الاجتماعي والديني. والإلْحاد ضعفٌ؛ لأنه محاولة للفرار مِن التكاليف. ومع كل ما تقدَّم فإنه لا يتأتَّى لي أن أترك هذا المجال دون أن أذكر قصةً سمعتها حديثًا هَزَّتْنِي مِن الأعماق ووقعتْ مِن نفسي موقعًا من الروْعة والجلال لا يُمكنني تصوير مداهُ.
لقد ذَكَر لي هذه القصة فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ مُدَّثِّر الحجاز وكيل جامعة أم دُرمان الإسلامية ورئيس الطريقة التيجانية بالسودان.
في إحدى القرى النائية المُنعزلة مِن قرى السودان كان يعيش رجل عابد صالح، وكان يقضي وقته بين المسجد والبيت، لم يكن يُفارق القرية يومًا ما، والقرية في انْعزالها كأنها بالنسبة له، العالَم كله.
وفي يوم مِن الأيام ولظروف مُعيَّنة، غادر هذا الرجل الصالح القرية بصُحبة صديقٍ له وجَدَّا في السير حتى وصلا إلى الطريق الذي يُؤدي إلى المدينة.
وما إنْ وَصَلا إلى الطريق حتى رأَيَا ـ بطريق المُصادفة ـ رجلا مِن رجال الجيش الإنجليزي بمَلابسه العسكرية مُتْرَفَ المَظهر، مُتَحَلِّيًا بكل ما يُمكن أن يتزيَّن به رجلُ الجيش المُترف الأنيق. ولم يكن الشيخ الصالح قد أتاحت له الظروف رُؤية مثل هذا المنظر في قريته أو في عالَمه المنعزل النائي الذي اختصره الشيخ ـ مع صغره ـ مِن قرية إلى بيت ومسجد.
وتأمل الشيخ رجل الجيش الإنجليزي في دهشة، ثم سأل صديقه مُشيرًا إلى هذا الشيء الغريب، ما هذا؟ فقال له صديقه: هذا كافِر.
وعاد الشيخ يسأل في دَهشة أشدَّ وفي استغراب أقوَى ـ أهو كافر بالله؟
فقال صديقه: نعم. وما إنْ نطَقَ صديقُه بذلك حتى تملَّك الشيخَ شعورٌ بالاشمئزاز منَعه مِن أن يتلفَّظ أو يَنطق.
وغمَره إحساسٌ بالغَثَيان أخذ يَقْوَى ويزداد بسرعةٍ سريعة وإذا بالشيخ يتقيَّأ اشمئزازًا وغَثيانًا وتَقزُّزًا مِن هذا الكافر.
هذه هي القصة:(1/41)
أترى تصويرًا أدقَّ للشعور بالنسبة للمُلْحد مِن هذا الاشمئزاز؟ أترى صدقًا أصدقَ مِن الغثيان مِن الكافر؟ وأيُّ قلمٍ يبلغ في التعبير ما بلغ هذا الشيخ وأيُّ أسلوب.
إن جميع الأعراف في جميع أرجاء الكون تتفق في الاشمئزاز ممَّن يُنكر الجميل، وهذا الاشمئزاز يتفاوت بنسبةِ قِيمة الجميل الذي يُسدَى، وبنسبة درجة التكرار التي تُقابله، وبِنِسبة صفاء النفس التي تعلم، أو ترى هذا النُّكر.
والإنسان إيجادًا وتصويرًا وخَلْقًا مِن صُنع الله، وهو بصرًا وسمعًا وذَوقًا وإحساسًا وشعورًا مِن صُنع الله، وهو عقلاً وفكرًا مِن صُنْع الله، وكل نعمة ظاهرة وباطنة. ونعم الله لا تُعَدُّ ـ إنما هي مِن صنع الله.
(وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا). (وما بِكُمْ مِن نِعمةٍ فَمِنَ اللهِ).
إن الإنسان ـ مادةً ومعنى، حِسًّا وعقلاً، شُعورًا وفكرًا ـ وما بالإنسان مِن نِعم ينقلب فيها ليلاً ونهارًا صَباحًا ومساءً ـ إن كل ذلك مِن الله.
فإذا ما كفَر إنسانٌ باللهِ فإنه يكون أخسَّ مِن أن يُعاقبه الإنسان بالصفع، وأحقر مِن أن يَبصق الإنسان في وَجهه.. ولا يستأهل إلا الاشمئزاز إلى درجة التقيؤ. أما الجزاء في الدين الإسلامي: يُستتاب، فإنْ لم يَتُبْ: قتِل مُرْتدًا.
وممَّا لا شك فيه أن مِن الوسائل التي تَحُول دون انتشار هذه القيادات الفاسدة المُلحدة في المجتمع ما يرجع إلى علماء الدين: فإن هم وقد هيَّأ الله لهم أن يتولوا قيادة المجتمع دِينيًّا لا شك يكون تأثيرهم جارفًا إذا كانوا مُثُلاً عُليَا للفضيلة ـ للفضيلة في أسمَى معانيها وأشملها ـ أيْ إذا كانوا حقًّا بالمنزلة التي تُرضى الله ورسوله عِلمًا وخُلقًا، وحُبًّا للخير، وإخلاصًا في كل ما يأتون وما يَدَعُون.(1/42)
وقد بيَّن اللهُ مقاييسَ الخير ومَوازين الفضيلة وبيَّن طريق الشرِّ وسبيل الضلال. وعلماء الدين أعْرف بذلك مِن غيرهم فمَسئوليتهم أشدُّ وواجباتهم أصرم وتأثيرهم في المجتمع بادِيهِ وحاضرِهِ ـ لا شك ـ كبيرٌ. والله يَهدينا جميعا سواء السبيل.
وأشهد أن لا اله إلا الله:
إن درجات المعرفة لا حصْرَ لها، وليس في اللغة ما يَسدُّ الحاجة في التعبير عن كل درجة منها ولكن في اللغة كلمات تُعبر عن مراحلَ طويلةٍ، تبتدئ بالمعرفة التي تكون جهلاً لتنتهي بالمعرفة التي هي اليقين الكامل وتَبتدئ بالمعرفة السلبية التي تدفع إلى العمل لتنتهي بالمعرفة الإيجابية الفعَّالة. وفيما يتعلق بمَعرفة أنْ لا إله إلا الله يُمكن أن نُورد بعض التعبيرات المُتدرجة في الرسوخ والثبات تبعًا لتفاوُت حالة الأفراد.
فبعض الناس، يقول: لا إله إلا الله.
وبعضهم "يَنطقها".
وبعضهم "يقتنع" بها.
وفريق "يؤمن" بها.
وقلَّة "تعتقدها".
وقليل "يُوقن" بها.
ولكن المثل الأعلى في الإسلام أن "نشهد": أن لا اله إلا الله.
"ونشهد" تلك هي "ذروة اليقين أو على حدِّ التعبير الصوفي "حق اليقين" والوصول إلى مرتبة الشهادة ليس بالأمر الهيِّن، ولكنه ليس بالمستحيل فإذا ما تاب الإنسان إلى بارئه، وقتَل نفسه، وأحيَا رُوحه، وشرب مِن العيْن التي يشرب منها عباد الله، والتي يُفجرونها بأنفسهم تفجيرًا: بالتوبة الخالصة وبما ذكره القرآن مِن وسائل هذا التفجير؛ إذْ يقول شارحًا هذه الوسائل. (يُوفُونَ بالنَّذْرِ ويَخافونَ يومًا كانَ شَرُّهُ مُستطيرًا ويُطعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ مِسكينًا ويَتيمًا وأَسيرًا إنَّما نُطعِمُكمْ لوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكمْ جزاءً ولا شُكورًا إنَّا نخافُ مِن رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا).(1/43)
إذا ما أخلص الإنسان التوبة، وأناب إلى الله ولجَأ إليه رَقَّ قلبه، وصفَتْ روحه فيَحدث له في لحَظات أن يَغيب عن العالَم وعمَّا حوْله وعن نفسه، ويتلاشَى كل شيء ويَضحك، ويَصير أثرًا بعد عيْنٍ أو هباء مَنثورًا، عند ذلك يشهد: "أن لا اله إلا الله" ويَصير بذلك شهيدًا والشهيد مَن شَهِدَ.
ومَن شهِد وهو في هذا العالَم أعرقُ في صفة التشهيد ممَّن شهد أثناء الوفاة أو بعد المَمات. ومَن "شهد" أن لا اله إلا الله فقد رفعه الله إليه، رفعه إليه وهو مَعَنا في عالَم الكون والفساد.
وإذا ما رفعه إليه بالشهادة صارَ ربانيًّا وامتنع عليه حينئذٍ أن يُشرك بالله فأصبحَ أحدِيًّا، وأصبح مِن المُوحِّدِينَ.
والتوحيد هو شهادة: أنْ لا اله إلا الله. وهو عقيدة وحالة.
وليس هناك مِن صعوبة كبيرة في أن يُصبح التوحيد عقيدةً، ولكن الصعوبة كل الصعوبة في أن يُصبح التوحيدُ حالةً.
إن نَفْيَ الشرْك مِن أقوال الإنسان وأفعاله مُؤَسِّسًا ذلك على نفْيه مِن قلبه ومِن نفسه درجةً لا ينالها إلا الأقلُّون، وهم الذينَ تحرَّروا مِن رِقِّ المادة، ومِن عبادة الأوثان.
ورِقُّ المادة وعبادة الأوثان هما مِن السمات العامة التي تسود البشرية في مُختلف ظروفها، يتمثل ذلك في عبادة المال. وعبادة الجاه، وما مِن شك في أن الخضوع للشهوات ـ وهي كثيرة ـ إنما هو عبادةٌ لها، والإنسان بطبعه يَخلد إلى الأرض ويَبيع هواه وتَستعبده الأرض، ويَستعبده هواه ويبتعد بذلك ـ وبمقياس درجة استعباده عن الله ـ سبحانه وتعالى.
وكل خُضوع لغير الله وكل عُبودية لمَا سِوَى اللهِ شِرْك بالله، إنها تتنافَى مع التوحيد، إنها لا تَنسجم مع: لا اله إلا الله.
والشِّرْك الخفِيُّ كثيرةٌ ألوانُه، وصدَق الله العظيم؛ إذْ يقول: (ومَا يُؤمنُ أكثرُهمْ باللهِ إلاَّ وهُمْ مُشركونَ).(1/44)
أمَّا الذين آمنوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، فهؤلاء قلَّة، ومِن الظلم في الإيمان أو مِن الإشراك في الإيمان ـ مثلاً ـ أن يتصدق الإنسان للمُراءاة أو للفَخْر أو يُصلي ويَصوم غير ناظر إلاَّ للناس وما يقولونه عنه.
عن أبي هريرة ـ فيما رواه الإمام مسلم ـ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:
"إنَّ أولَ الناسِ يُقضَى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهد فأُتِيَ به، فعرَّفه نِعمته فعرَفها. قال: فما عملتَ فيها؟
قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدتُ.
قال: كذبتَ ولكنكَ قاتلتَ لأنْ يُقال: هو جريءٌ فقد قِيل، ثم أُمِرَ به فسُحب على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار، ورجل تعلَّم العلْم وعلَّمه، وقرَأ القرآن فأُتيَ فعرَّفه نِعمه فعرَفها.
قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلْم وعلَّمْتُه، وقرأتُ فيك القرآن.
قال: كذبتَ ولكنكَ تعلَّمتَ ليُقال عالِم، وقرأتَ القرآن ليُقال هو قارئ، فقد قيل ثم أُمِر به فسُحب على وجهه حتى ألقِيَ في النار.
ورجلٌ وسَّع الله عليه وأعطاه مِن أصناف المال. فأتيَ به فعرَّفه نِعمه فعرَفها.
قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِن سبيل تُحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك. قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلتَ ليُقال هو جَوادٌ، فقد قيل ثم أمر به، فسُحب على وجهه حتى ألقيَ في النار". (رواه مسلم والنسائي ورواه الترمذي وحسَّنه وابن حبان في صحيحه وكلاهما بلفظ واحد).
وكل عملٍ صغُر أو عظُم لا يُراد به وجه الله وإنما يراد به غيره فهو إشراكٌ به ـ سبحانه. والتلْبيسات الآن كثيرةٌ، وقد أتتْ بسبب الجانب الثقافي اللاديني من المدنيَّة الغربية وقد تسرَّبتْ إلينا في خَفاء، غَزَتْنَا لا شعوريًّا، وكان مِن أثر تردادها أن ألِفْناها، وأصبح ما يُخالفها في نظرنا باطلاً، واتَّسم ذلك الباطل بسِمة الحق وانعكست الآية.
وقد صَوَّرتْ لنا هذه المدنية أن مِن أسمَى الأعمال إنما هي الأعمال التي يأتيها الإنسان إرضاءً لضَميره.(1/45)
بيْد أن إرضاء الضمير ليس هدف المؤمن الحقيقي، فهدفه الوحيد إرضاء الله. وإرضاء الضمير إذًا كهدفٍ للعمل إنما هو تلْبيسٌ وانحراف.
أما السبب في أنه تلْبيس وانحراف فهو أننا إذا أخذنا إرضاء الضمير قائدًا وباعثًا هدفًا ضلَلْنَا سواءَ السبيل: ذلك أن الضمير مُتغيِّر مُتقلِّب مُتحوِّل مُختلف مِن إنسان لآخر، ومِن بيئة لأُخرى، ومِن ثقافة لأُخرى. وهو في الجُملة لا استقرار له ولا ثبات. فلو عمِلنا الأعمال إرضاءً للضمير لأسَّسْناها على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ.
وقد أنزل الله قواعدَ للأخلاق ثابتةً خالدةً على الدهر فهي المقياس، واتباعها واجب سواء وافقَ الضمير، أو خالفه، وهذا الاتباع نفسه يجب أن يكون هو المَلْحوظ فيه أنه طاعة لله وخضوع له واتباع لأمره. ومن التلْبيسات ـ أيضًا ـ ما يُقال الآن كثيرًا مِن أن هذا العمل أو ذاك إنما يُراد منه المصلحة العامة. والمصلحة العامَّة هذه يَقولها كل إنسان، ويتمسَّح فيها بالحقِّ والباطل، وكل إنسان يَقِيسها بمِقياسه الشخصي. وبمَنفعته الذاتية وهي مَصلحة عامَّة إذا اتَّفقت مع مَصالِحِه، أمَّا إذا اختلفت فهي باطل، وهي فساد في نظره وفي قوله، وهي على كل حال تتأرجح وتميل نفيًا وإثباتًا مع القائل أو المُدَّعِي ومع مُيوله وأهوائه.
وإذا أردنا إذًا أن نَخرج عن دائرة الذبذبة والميْل مع الهوى فعلينا بالْتزام المبادئ التي حدَّدها الوحْي، فهي وحدها التي تُعرفنا بالمصلحة العامة أو بالصالح العام وهي وحدها التي تَقُودنا في كل الأحوال إلى الخير والحق، وهي التي بها تزكية أنفسنا إذا أردنا بها وجْه الله.(1/46)
ومِن هذه التلْبيسات: الاعتداد بالنفس أو الاعتزاز بالنفس، في مسائل الدين، وذلك هو ما يُمكن أن نُعبِّر عنه الآن بالدين العقلي. ومعنى ذلك في حقيقة الأمر تحكيم العقل في الدِّين وإخضاع الدين للعقل. وهذه النزعة تسود عند هؤلاء الذين لا يُسيطر عليهم الشعور الديني السليم. وعادة تَنتهي هذه النزعة بجعل الدين فلسفةً وجعْله نظرًا عقليًّا أكثر منه خضوعًا وطاعةً وإيمانًا، ويُصبح الدين بذلك مجرد معرفة تختلف فيها الأنظار والعقول وتتضارب فيها الآراء والأفكار، ويُصبح الأمر أمر هوًى ومزاجٍ وذوقٍ، ويخضع الإنسان لعقله لا لله، فيَبتعد بذلك قليلاً أو كثيرًا عن: "لا اله إلا الله" ويدخل في زُمرة: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ).
والوسائل التي عالَج بها الإسلام موضوع قيادة الناس ليشهدوا: أن لا اله إلا الله كثيرة، ويُمكن أن يُقال بصفة عامة: إن الإسلام كله قائم على الشهادتينِ. ونذكر من هذه الوسائل أن القرآن يَشرح في كثير من الآيات أن الله ـ سبحانه ـ ضمِن الرزق. وحدَّد الآجال. فهو ـ سبحانه ـ يقول في ضمان الرزق:
(وفي السماءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ).
ويُؤيد ذلك بالقَسَم بنفسه ـ سبحانه وتعالى ـ فيقول بعد ذلك مباشرةً.
(فَوَرَبِّ السماءِ والأرضِ إنَّهُ لحَقٌّ مِثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).(1/47)
ويقول ـ سبحانه ـ: (ومَا مِن دابَّةٍ في الأرضِ إلاَّ علَى اللهِ رِزْقُهَا). ويقول لمَن كانوا يقتلون أولادهم خوْفَ الفقر: (ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيَّاكُمْ). أمَّا تحديد الآجال فيقول الله فيه: (إنَّ أجَلَ اللهِ إذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (لكلِّ أجَلٍ كِتابٌ). ويقول الله ـ تعالى ـ للذين آمنوا: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كالذينَ كَفَرُوا وقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الأرضِ أوْ كَانُوا غُزًّى لو كانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا ومَا قُتلوا ليَجْعَلَ اللهُ ذلكَ حَسرةً فِي قُلُوبِهمْ. واللهُ يُحِيِي ويُمِيتُ واللهُ بِمَا تَعملونَ بَصِيرٌ). وإذا كان الله ـ سبحانه ـ ضمِن الرِّزْق وطلَب أن نسعى إليه. (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِن رِزْقِهِ).
فكل جشَعٍ وقلَقٍ وحَيرةٍ واضطرابٍ ولُجوء إلى غير الله في الرزق إشراكٌ بالله، وإذا كان اللهُ قد حدَّد الآجالَ، فإن الجُبْن والفرار إشراك بالله.
والمؤمن إذًا مُطمئنٌّ إلى رِزْقهِ ساعٍ إليه، وهو يعلم أن الآجال بيد الله، فليس إذًا بجَبان، وإذا ما اطمأن إلى رزقه، واطمأن إلى أن كائنًا مَن كان لا يَنقص مِن أجلِه زالت العَقبات في طريق وُصوله إلى التوحيد عقيدةً وحالاً.
وإذا ما كان مُوحِّدًا عقيدةً وحالاً فقد شهد: أن لا اله إلا الله، وكانَ بذلك محاولاً الاقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال له رب العزَّة ـ جل وعلا ـ: (قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لهُ).
وأشهد أن محمدًا رسولُ الله:
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسولَ الله، ولا مَفَرَّ مِن هذه الشهادة، بل إنه لا تُقبل في الأوضاع المستقيمة.(1/48)
شهادة: "أن لا إله إلا الله " دون شهادة "وأن محمدًا رسول الله" وهما إقرار متكامل بالإيمان، إقرارٌ لا يتجزَّأ. (لقد سرَّنا، فيما يتعلق بوجود الله. على أن الأمر لا يحتاج إلى إثبات، أما فيما يتعلق بإثبات صدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الأمر على العكس: ذلك أن القرآن وجَّهنا إلى ظروف وملابسات وإلى أدلَّة وبراهين: تُثبت صِدْقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا حاولنا هنا الاستفاضة في إثبات صدقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنما نتَّبع في ذلك التوجيه القرآني الكريم). كيف نشهد أن محمدًا رسول الله؟
يقول الإمام الغزالي: "فإن وقع لك الشك في شخص مُعين أنه نبيٌّ أم لا فلا يحصل لك اليقين إلا بمَعرفة أحواله، إمَّا بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع، فإنك إذا عرَفت الطب، والفقه، يُمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمعرفة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم تُشاهدهم، ولا تَعجز ـ أيضًا ـ عن معرفة كوْن الشافعي ـ رحمه الله ـ فقيهًا وكوْن جالينوس طبيبًا، معرفة بالحقيقة، لا بالتقليد عن الغير، بل إنْ تتعلم شيئًا من الفقه والطب، وتُطالع كُتبهما وتصانيفهما، فيحصل لك علمٌ ضروريٌّ بحالتهما فكذلك إذا فهمتَ معنى النبوة، ونُريد الآن أن نَشْرُفَ بمُرافقة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لنشهد بعض سناء النبوة ولَأْلَائِهَا فيه ـ صلوات الله عليه.
إنه سليلُ أمجادٍ: يُحدثنا التاريخ عن شرَفهم وعَراقة أصلهم وعن المَكْرُمات التي كانوا يقومون بها مِن أجل الإنسانية ومِن أجل الخير.
فقُصَيٌّ: أحدُ أجداده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابْتَنَى دار الندوة، وجعل بابها إلى البيت، وكانت دار الندوة هذه هي مجلس الشورى وهي البرلمان، وهي المجلس التنفيذي، بل إنها كانت أوْسع مِن ذلك كله، ففِيها كان أمرُ قريش كله وما أرادوا: مِن نكاح أو حرب، أو مَشورة فيما يَنُوبُهم.(1/49)
ولا يَعقدون لواءَ حربٍ لهم ولا لقومٍ غيرهم إلا في دار الندوة، يَعقده لهم قُصَيٌّ: ولا تخرج عِيرُ قريش فيَرحلون إلا منها، لا يَقدمون إلا نَزلوا فيها تشريفًا له "لقُصي" وتيمُّنًا برأيه ومعرفة بفَضْله، ويتبعون أمْره كالدِّين المُتَّبع، لا يُعمل بغيره في حياته وبعد موته.
وقُصَيُّ هذا مِن أجداد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتابعه ابنه عبد مناف، فاضلٌ هو الآخرُ في الذِّروةِ والسَّنَامِ شرفًا في قومه.
وكذلك كان أمر ابن عبد مناف: الذي أنقذ أهل مكة مِن الموت جوعًا في السنين الجدْب التي أصابتهم والتي ذهبتْ بأموالهم.
أما عبد المطلب الجَدُّ المُباشر للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان من حُكماء العرب، وكان مِن حُكماء قريش.. وتُؤْثر عنه سُننٌ جاء القرآن بأكثرها: كالمَنْع مِن نِكاح المَحارم، وقطْع يد السارق والنهْي عن قتْل المَوْءُودَة، وإذا نظرنا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ناحية والده أو مِن ناحية والدته، فإنها خَلْقًا وعَرَاقَةَ أصل: مِن أشرف بيوت مكة وأكرمها وأسماها بشهادة المُؤرخين عن بكْرة أبيهم.
فكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم، كما يقول ابن هشام ـ "أوسط قومِه نسَبًا، وأعظمهم شرَفًا مِن قِبَلِ أبيهِ وأمِّهِ.
وُلد ـ صلوات الله عليه ـ فأُرِّخ ميلادُه، ابتداء التمهيد لمَا أرادته الحِكْمة الإلهية مِن إخراج البشرية مِن الظُّلُمات إلى النور.
كان ميلاده تمهيدًا لذلك بمعنى: أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذه الفترة التي سبقت الرسالة أحاط رسولَ الإسلام برِعايته وعِنايته؛ ليكون أهلاً لأن يَحمل أعظم رسالة؛ ولأن يُبشر بالدِّين العام؛ ولأن يُبيِّن للإنسانية جمعاء عن المعنى الصحيح. فيما يتعلق بأمر الصلة بينها وبين الله، وفيما يتعلق بأمر سلوك كل شخص بالنسبة لنفسه.(1/50)
وبالنسبة للآخرين، وليُحدد مسئولية كل شخص في المجتمع حاكمًا كان أو مَحكومًا وزوجًا كان أو أبًا، أو ابنًا أو أخًا أو رئيسًا في العمل أو عاملاً.. إلى غير ذلك ممَّا يشتمل على بعضه الحديث الشريف.
"وكلُّكمْ راعٍ ومسئولٌ عن رعيَّته، فالإمام راعٍ ومسئولٌ عن رعيته، والرجل في بيته راعٍ ومسئولٌ عن رعيته.
والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ ومسئولة عن رعيَّتِها، والخادم في مال سيده راعٍ ومسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
ومنذ ميلاده ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بدأت تتزلزل جميع أسس الضلال والانحراف، وتَرمز إلى ذلك السيرة النبوية برُموز جميلة فتُحدثنا. أنه في ليلة ميلاده، غاضت بُحيرة ساوَى، وتصدَّع إيوانُ كِسْرَى، وخَبَتْ نارُ الفرس، أما الأصنام التي كانت على ظهر الكعبة فإن مَصيرها المحتوم وتحطيمها المؤكد قد تحدَّد موعدُه بالسنين والأيام.
إن عُمُد الشرك والضلال، والانحراف، والظلم، والاستعباد تتهاوى وتنهار منذ ميلاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصبح أمر النور والهداية، والرشاد وَشِيكُ الظهور والانتشار، وسُمِّيَ المولود، محمدًا، أما سبب التسمية فهو مِن جانب أن آمنةَ أتاها ـ فيما يُروى ـ آتٍ حين حملت به، فقال لها:
إنكَ قد حملتِ بسيدِ هذه الأمة، فإذا وقَع إلى الأرض فقولي. أُعِيذُهُ بالواحدِ، مِن شَرِّ كل حَاسِد، ثم سمِّيه "محمدًا". ومن جانب آخر: فهو حينما جاء جَدُّهُ عبد المطلب ليَراه قيل له. ما سميت ابنك؟ فقال محمدًا فقيل له:(1/51)
وكيف سميت باسم، ليس لأَحَدٍ مِن آبائك، وقومك. فقال: إني لأرجو أن يَحمده أهل الأرض كلهم وذلك حسبما يُروى لرؤيا كان قد رآها عبد المطلب، وقد ذَكر حديثها علي القيرواني في كتاب: كأن سلسلة مِن فضة خرجتْ مِن ظهره، لها طرَفٌ في السماء وطرَف في الأرض، وطرف في المَشرق، وطرَفٌ في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة وعلى ورقة منها نُورٌ، وإذا أهل المَشرق والمغرب كأنهم يتعلَّقون بها.
فقصَّها ففُسِّرت له بمَولود يكون مِن صُلبه، يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويَحمده أهل السماء والأرض فلذلك سمَّاه: مُحمَّدًا.
وأخذتْ حليمة السعدية رسولَ المُستقبل إلى بادية بني سعد، وليس هناك مِن غرابة في أن يكون رسول النور هذا قد ملأ رحلتها مِن مكة إلى البادية بالبهْجة والنشاط والأمل والتفاؤُل. وأن الأبحاث الحديثة نفسها، وتجارب الإنسانية منذ أن وُجدت الإنسانية تُؤيِّد أن هناك إشاعات عند بعض الناس تُضفِي على المُرافِقينَ لهم بهْجة ونشاطًا، فلا غرابة إذن أن تنشط حليمة، وينشط زوجها، وتنشط دوابُّها، وأن تسير الرحلة رخاء، وأن يكون محمدٌ في براءته وطهارته، وفي طفولته الباسمة ونضارته المتألِّقة هو سبب ذلك كله.
ويملأ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيت حليمة بهْجةً وسرورًا، ويدُبُّ النشاط في جميع أرجاء البيت وسكانه، ويُبارك الله في كل شيء فيه، وتنعم الأسرة بحياةٍ، فيزيد عطفها على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويزيد حنانها عليه، فينمو في جوٍّ مِن الرحمة والوُدِّ والحنان ويَنغرس كل ذلك في نفسه، ويَمتلئ قلبه الناشئ ببُذورِ أسمَى العواطف والشِّيَمِ.(1/52)
وفي عامِه الرابع ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه السِّنِّ التي يبتدئ الإنسان فيها بنوع مِن التمييز يُمكن أن يُؤدِّي به إلى بعض الأعمال التي قد تُخرجه مِن براءة الطفولة المُطلقة وطهارتها الناصعة، في هذه السِّنِّ، حَصَّنتْهُ رعاية الله بما تُعبر عنه السيرة النبوية: بشَقِّ الصدر، وهذا الرمز هو كما يرويه الإمام مسلم: صاحب الصحيح قال: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغِلْمان، فأخذه وصرَعه، فشَقَّ عن قلْبه، فاستخرجه، فاستخرج منه علَقةً فقال: هذا حَظُّ الشيطان، ثم غسله في طسْتٍ مِن ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده إلى مكانه. وجاء الغلمانُ يسعون إلى أمه: يعني مُرْضِعته: إن محمدًا قد قُتِلَ. فاستقبلوه وهو مُمتقع اللون. لقد استخرج جبريل حظَّ الشيطان مِن قلبه في هذه السِّنِّ المُبكرة، فكان كما تقول السيدة آمنة: والله ما للشيطانِ عليه مِن سبيلٍ.
وحقيقةً أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يكن للشيطان عليه مِن سبيل، فقد عصَمه الله عِصْمةً تامةً عن الرجْس حياته كلها.
لقد كانت مكة ـ حينما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شابًّا فَتِيًّا قويًّا تَعِجُّ بمختلف الملاذِّ الشهوانية الدَّنِسَة.
لقد كانت بيوت الخمر مُنتشرةً فيها، وكذلك البيوت المُريبة، وفي هذه وتلك المُغنيات والراقصات الماجِنات، وكان الشباب يَتهالك على كل ذلك، ويتهافت عليه، وأراد الله أن يكون رسولُه بمَنْأًى عن كل ذلك.(1/53)
ذكر البخاري ـ رضي الله عنه ـ أنه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ قال: ما هممتُ بشيء مِن أمر الجاهلية إلا مرتينِ. إحدى المرتين: أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في غَنَمٍ يَرعاها هو وغلام مِن قريش. فقال: "اكْفِنِي أمْرَ الغنَم حتى آتِيَ مكة، وكان بها عُرْسٌ فيها لهْوٌ وزَمْر، فلما دَنَا من الدار. ليَحضر ذلك أُلْقِيَ عليه النوم، فنامَ حتى ضربتْهُ الشمس، عِصْمةً مِن اللهِ له.
وفي المرة الأخيرة قال لصاحبه مثل ذلك، وأُلْقِيَ عليه النومُ فيها، كما ألقيَ في المرة الأولى وهذا الخبر الذي يُفيدنا عِصمةَ رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن شرور الجاهلية ومفاسدها: يُعرفنا بأمر آخر، وهو رعاية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ للغنَم قبل بعْثته.
لقد كان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يرعاها في بادية بني سعد. وقد كان يرعاها في مكة، وقد أخبر ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن موسى ـ عليه السلام ـ بُعِثَ وهو راعي غنَمٍ، وبُعثتُ وأنا راعي غنَمِ أهلي بأجيادٍ، إنَّما جَعل الله هذا في الأنبياء كما يقول صاحب الرَّوْض الأُنُفِ، تقدمةً لهم ليَكونوا رُعاة الخَلْق، ولتَكون أُمَمُهم رِعايةً لهم.
ومضت فترة الشباب برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو طاهر زكيٌّ ـ صلوات الله وسلامه عليه.
وأشهد أن محمدًا رسول الله:
وَصَفَه قومُه بالأمين، لمَا رأوه ولاحظوه وحقَّقوه، وأيقنوا به: من صفات تتمثل فيها الأمانة واضحةً وضاءة.
لقد كان أمينًا على نفسه، فلم يُسلمها إلى مَهاوي الشرك أو الشهوة أو الرجْس.
وكان أمينًا على الناس فلم يَنتهك عِرْضًا، ولم يوقع بعض القوم في بعض بالنميمة، ولم يَغْتب.
وكان أمينًا على الأموال التي تُودَع عنده ليُتاجر بها، وليَحفظها، فلم يَختلس ولم يَسرق. وكان أمينًا على الحديث إذا تحدَّث: فلا كذِب ولا مُغالاة.(1/54)
وكان أمينًا على الأسرار: فلم يُفْشها، ولم يُذعها، إنه الأمين… أجمع عليها القرشيونَ، وقالوا حينما اختلفوا في رفع الحجر الأسود واستلُّوا السيوف، وأوشكت الحرب أن تقع بينهم، ثم استقرَّ رأيهم على الاحتكام لأول آتٍ، فغَمرتهم الفرْحة حينما رأوا محمدًا وصاحوا: "إنَّه الأمين".
والأمين: تعني الصادق المخلص، فالصدق والإخلاص: عنصرانِ تتكون منهما الأمانة وكانت هذه الأمانة معروفة عنه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ في شبابه وفي حياته كلها، وهو القائل فيما بعد: لا أمانَ لمَن لا أمانةَ له.
وعند بدْء "دعْوته جهرًا" حينما نزل قوله ـ تعالى ـ (وأَنْذِرْ عَشِيرتَكَ الأَقْرَبِينَ). صعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الصفا فقال: يا معشر قريش: فقالت قريش: محمد على الصفا يَهتف: فأقبلوا واجتمعوا فقالوا: مالك يا محمد؟ قال: أرأيتَكم لو أخبرتُكم، أن خيلاً بسَفْح الجبل، أكنتم تُصدقونني؟ قالوا: نعم، أنت عندنا غير متهمٍ، وما جرَّبنا عليك كذبًا قط.
قال: فإني نذيرٌ لكم بين يَدَي عذابٍ شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مَناف، يا بني زهرة… حتى عدَّد الأفْخاذ من قريش ـ إن الله أمرني أن أُنْذِرَ عشيرتي الأقربين وأني لا أملك لكم مِن الدنيا مَنفعة ولا مِن الآخرة نصيبًا إلاَّ أنْ تقولوا: "لا اله إلا الله".
وإذا كان رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قد طرَح الثقة بنفسه على قريش برفْعه علَم الأمانة هذا في وُجوههم، فإنه كان مُطمئنًا واثقًا مِن حياته هي مِن الصفاء بحيث لم يَشُبْها ما يجعل رأْي قريش قبيحًا.
لقد كانت حياته: البراءة الكاملة، والطُّهْر التام. وهذا ما دعاه إلى أن يتحدَّى في صراحة، وأن يُعلن في وُضوح أن حياته تُثبت صدْق ما يقول:
ولو تمثَّلتِ الأمانة ـ الصدْق والإخلاص ـ في كل مَن يُحيطون به مِن المَكيِّينَ لما كان في حاجة إلى رفْع علْمه هذا، فقد كان يكفي الإخبار، بأنه رسول فتكون الاستجابة.(1/55)
ولقد آمَن بمُجرد هذا الإخبار كثيرون لمَا توفَّر فيهم مِن الصدْق والإخلاص لأنفسهم والآخرين: أيْ لمَا توفر فيهم من الأمانة. لقد آمَنَتْ خديجة، وآمنَ أبو بكر، وآمَن وَرَقَة، وغيرهم، بمجرد أن أخبرهم بأمره، آمنوا لمَا يَعرفون فيه، ولمَا يَعلمونه مِن حياته.
ولقد أقرَّ بهذه الصفة ـ صفة الأمانة ـ أبو سفيان في وقت كان فيه مِن أشد أعداء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سأله هرقل قائلاً: هل كنتم تتَّهِمُونه بالكذِب قبل أن يَقول ما قال: فقال أبو سفيان: لا. وكان استنتاج هرقل. أعرِفُ أنه لم يكن ليَذَرَ الكذِبَ على الناس، ويكذب على الله. سأل هرقل أبا سفيان ـ أيضًا ـ عمَّا إذا كان قد أُثِرَ عن محمد غدْرٌ؟ فأجاب أبو سفيان بالنفي. فقال له هرقل: سألتُك: هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرُّسل لا تَغدر.
وحديث هرقل هذا مع أبي سفيان الذي رواه البخاري وروتْه كتب الحديث، وكتب السيرة: جدير بالتأمُّل. فهو استنتاج عاقل، ومنطق مَرْوِيّ، ونأخذ منه الآن ما يتصل بحياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وندَعُ ما يتصل بالرسالة لمَا بعد: يقول هرقل لأبي سفيان:
سألتك عن نسَبه، فذكرتَ: أنه فيكم ذو نسَبٍ، فكذلك الرسل تُبعث في نسَب قوْمها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرتَ: أن لا.
فقلت: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله، لقلتُ: رجلٌ يتأسَّى بقولٍ قيل قبله.
وسألتك: هل كان مِن آبائه مَن ملك؟ فذكرت: أن لا. قلت: فلو كان مِن آبائه من ملك، لقلت: رجل يطلب مُلك أبيه.. ا.هـ. وإذا نظرنا إلى حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ناحية الوراثة أو مِن الناحية النفسية.. فإننا نجد: أنها تُحقِّق صِدْقه.
لقد كانت حياته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ شرحًا مُستفيضًا كاملاً وتعبيرًا تامًّا لمَا ذكره ابن خلدون، وما يتفق عليه العقلاء ويجمع عليه أصحاب البصائر المُستنيرة: مِن أن علامات الأنبياء:(1/56)
"أنه يُوجد لهم قبل الوحْي: خُلق الخير والزكاة، ومُجانبة المذمومات والرجْس أجمع، وهذا هو معنى العِصْمة، وكأنه مفطور على التَّنْزُّهِ عن المَذمومات المُنافرة لها، كأنها مُنافرة لجِبِلَّتِهِ. ويضرب ابن خلدون بعض الأمثلة مِن حياة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مُبيِّنة لهذه القاعدة فيقول: "وفي الصحيح أنه حمَل الحجارة وهو غلام، مع عمِّه العباس لبناء الكعبة فجَعلها في إزاره، فانكشف، فسقَط مَغْشِيًّا عليه حتى استتر بإزاره. ودُعي إلى مجتمع وليمةٍ فيها عُرس ولعب، فأصابه غشي النوم إلى أن طلعتِ الشمس، ولم يحضر شيئًا من شأنهم.
بل لقد نزَّهه الله عن ذلك كله، حتى أنه بجِبلته يتنزَّه عن المَطعومات المستكرهة، فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يَقرَب البصل والثوم، فقيل له في ذلك، فقال: "إنني أُنَاجي مَن لا تُناجُونَ" ا.هـ.
ومِن المُلاحظات الدقيقة: التي وجَّه ابن خلدون الأذهان إليها مُشيرًا بها إلى أن الملابسات والظروف والجو الذي عاش فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحياته قبل البعثة وبعدها إنما كان كل ذلك خيرًا وفضيلة، سواء مِن ناحية سلوكه الشخصي، أو مِن ناحية صِلته بمَلك أو وحْي يقول ابن خلدون: وانظر لمَّا أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خديجة ـ رضي الله عنها ـ بحال الوحْي أول ما فاجأته، وأرادتِ اختبارَهُ فقالت: "اجعلني بينك وبين ثوْبك، فلمَّا فعَل ذلك ذهَب عنه"، فقالت: "إنه مَلَكٌ وليس بشيطان".
ومعناه أنه لا يَقرب النساء، وكذلك سألتْه عن أحبِّ الثياب إليه، أن يأتيه فيها. فقال: البَياض والخُضرة. فقالت: إنه مَلك.
يعني: إن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة، والسواد ألْوان الشرِّ والشياطينِ وأمثال ذلك ا.هـ.(1/57)
هذا النهْج الذي نهَجناه في هذا البحث، والذي اتَّجه إليه ابن خلدون، واتجه إليه من قبله هرقل، هو نهج الفطرة، ونهج العقل وهو النهج القرآني: إنه نهج الفِطْرة، ولذلك قالت السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ على البداهة للرسول ـ حينما فاجأَها بخبر الوحْي وقال لها: "لقد خَشيت على نفسي". قالت له: "كلَّا… واللهِ لا يُخزيكَ اللهُ أبدًا: إنَّكَ لتصلُ الرحِم، وتَحْمِلَّ الكلَّ، وتُكسب المُعدَم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق".
ونحن إذن حينما ننهج هذا النهج. فإنما نتأسَّى بالقرآن الذي بيَّن أن حياته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تقف دليلاً واضحًا على أنه: صادق في كل ما يقول: فهو على خُلق عظيم. (وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ).
ويقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ "إنَّمَا بُعثتُ لأُتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ". وهذا الجانب الخُلقي فيه: يَعرفه قومه، ومُواطنوه. حق المعرفة، فقد كانوا يعرفون محمدًا، كما يعرفون أبناءهم وإخوتهم، لا تَخفى عليهم مِن سلوكه خفيَّة.
(الذينَ آتيناهمُ الكِتابَ يَعرفونَهُ كَمَا يَعرفونَ أبْنَاءَهمْ وإنَّ فريقًا مِنْهمْ لَيَكْتُمُونَ الحقَّ وهمْ يَعْلَمُونَ). ويُوجه القرآن تفكيرنا: إلى أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان أميًّا، فما كان يتلو مِن قبله مِن كتاب ولا يَخُطُّهُ بيَمينه؛ إذَنْ لارتابَ المُبْطِلُونَ.
(وما كُنتَ تَتلو مِن قبِلهِ مِن كتابٍ ولا تَخُطُّهُ بيَمِينِكَ إذًا لارْتَابَ المُبطلونَ). ثم إن ممَّا يَلفت النظر في قوةٍ: أنه مَكَث فيهم أربعينَ سنةً، لا يتحدث عن رسالةٍ ولا نُبوة ومضى عهد الشباب الطَّمُوح لم يُعلن فيه شيئًا، ولم يتحدث فيه بزَعامة ولا مُلك ولا نُبوة، فلمَّا اكتملَ نُضْجًا، وعقلاً، تحدث عن اجتباء الله له، واختياره لأداء الرسالة.(1/58)
(قُلْ لو شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عليكمْ ولا أدْرَاكُمْ به فقد لَبِثْتُ فيكمْ عُمُرًا مِن قَبِلِهِ أفِلا تَعْقِلُونَ). ويتحدى القرآن المنكرين في صِدْقهم، وإخلاصهم، وإن شئت فقل: في أمانتهم فيَعرض عليهم أمرًا واحدًا سهلاً لا يشقُّ عليهم تَنفيذه.
(قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بوَاحدَةٍ أنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنًى وفُرَادَى ثُم تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبِكمْ مِن جِنَّةٍ إنْ هوَ إلاَّ نَذيرٌ لكمْ بينَ يَدَيْ عذابٍ شديدٍ).
ويزيد القرآن على ذلك كله: التحدِّي بالقرآن الكريم. "وأشهدَ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ" وما مِن شكٍّ في أن كل شخص مُخلص، يَستمع إلى الدعوة الإسلامية: يُقِرُّ مع النجاشي: إن الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي جاء به عيسى ـ عليه السلام ـ: يخرج مِن مشكاة واحدة. لقد كان النجاشي يُؤمن بعيسى ـ عليه السلام ـ إيمانًا لا يُخالجه فيه شك، فلمَّا سمع وصفًا لموضوع الدعوة الإسلامية آمَن بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إيمانًا كإيمانه بعيسى ـ عليه السلام ـ في صدْقه، وفي أنه يَستمد دعوته مِن الله.
لقد قالها النجاشيُّ حينما سمع جعفر بن أبي طالب يَقُصُّ أمر الجاهلية وأمر الإسلام، وقد عاش جعفر بن أبي طالب حياةَ الجاهلية، وعاش حياة الإسلام وكل الأخبار والوثائق: تُؤيده فيما يتعلق بالجاهلية. والقرآن الكريم والأحاديث الشريفة تُؤيده فيما يتعلق بالإسلام يقول جعفر: "أيها الملِك كُنَّا قومًا أهلَ جاهليةٍ: نعبد الأصنام، ونأكل المَيْتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيءُ الجوار، ويأكل القويُّ مِنَّا الضعيف.
فكنا على ذلك حتى بعَث الله رسولاً منا: نعرف نسَبه وصدْقه وأمانته وعَفافه فدعانا إلى الله: لنُوحده ونَعبده، ونَخلع ما كنَّا نعبد وآباؤنا مِن دونه: مِن الحِجارة والأوثان.
وأمَرنا بصدْق الحديث، وأداء الأمانة وصِلة الرحِم وحُسن الجوار والكفِّ عن المَحارم والدماء.(1/59)
وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وعدَّد عليه أمور الإسلام. فصدَّقناه وآمَنَّا به، واتَّبعناه على ما جاء به مِن الله، فعبدْنا اللهَ وحده، فلم نُشرك به شيئًا وحرَّمْنا ما حرَّم الله علينا، وأحلَلْنا ما أحلَّ لنا. فلمَّا سمِع النجاشي ذلك. وَقَرَ في قلبه يَقينٌ لا يتزعزع بصدق محمد. فقال كلمته المشهورة السابقة.
أمَّا هرقل فيما رواه البخاري، فإنه حينما سأل أبا سفيان عن الدعوة الإسلامية، ذكر له أبو سفيان أن محمدًا، يأمر الناس: "أن يَعبدوا الله وحده ولا يُشركوا به شيئًا، ويَنهاهم عن عبادة الأوثان، ويأمرهم بالصلاة، والصدْق، والعفاف، وصلة الرحِم، فقال هرقل: إنْ كانَ ما تقول حقًّا فسيَملك ما تحت قَدَمَيَّ هاتينِ، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنُّ أنه مِنكم، فلو أني أعلم أنني أَخْلُصُ إليه، لتَجَشَّمْتُ لقاءه ولو كنت عنده لغسلتُ عن قدَمِه، هذا النهج: من الاستدلال بالدعوة على الصدْق وجعْل النظر في الدعوة إحدى الوسائل التي تُسلم مع غيرها مِن المُلابسات إلى اليقين بصدْق الداعي.
هذا المنهج الذي اتَّخذه هرقل والنجاشي هو المنهج الذي أقرَّه الإمام الغزالي، فإنك إذا: "أكثرتَ النظر في القرآن والأخبار، يحصل لك العلْم الضروري بكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أعلى درجات النبوَّة.
وأُعَضِّدُ ذلك بتجربةِ ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب، وكيف صدَق في قوله: "مَن عمِل بمَا علِم وَرَّثهُ علْم ما لم يَعلَم". وكيف صدق في قوله: "مَن أعانَ ظالمًا، سلَّطه اللهُ عليه". وكيف صدق في قوله. "مَن أصبح وهُمومه همٌّ واحد ـ هو التقوَى ـ كفَاه اللهُ هموم الدنيا والآخرة، فإذا جرَّبتَ ذلك في ألفٍ وألفَينِ وآلاف حصل لك علْمٌ ضروري لا تَتمارَى فيه بنُبوته ـ عليه الصلاة والسلام.(1/60)
إن النظر إلى الدعوة الإسلامية في نظر الإمام الغزالي هو إحدى الوسائل التي تُثبت صدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تابع هذا الاتجاه في الاستدلال: العالِم الاجتماعي الكبير ابن خلدون، وهو يستوعب في نظرةٍ عامة ـ الكثير مِن الاتجاهات المُستقيمة في شأن النبوات.
وننقل هنا ما كتَبه خاصًّا بموضوع الاستدلال بالدعوة، حينما تكون الدعوة خيرًا محْضًا كالدعوة الإسلامية على صدق الرسول فيما يدَّعِيه يقول: ومِن علاماتهم ـ أيضًا:
دعاؤهم إلى الدين والعبادة: مِن الصلاة والصدقة والعَفاف، وقد استدلت خديجة على صدْقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، وكذلك أبو بكر، ولم يحتاجَا في أمره دليل خارج عن حاله وخُلقه، وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه: كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوه إلى الإسلام، أحضر مَن وجد في بلده مِن قريش، وفيهم "أبو سفيان "، يسألهم عن حاله، فكان فيما سأل أن قال: "بِمَ يأمركم".
وقال أبو سفيان:"بالصلاة والزكاة والصلة والعَفاف.. إلى آخر ما سأل فأجابه فقال: إنْ يكن ما تقوله حقًّا، فهو نبي وسيملك ما تحت قدميَّ هاتينِ.
والعَفاف الذي أشار إليه هرقل: هو العِصْمة، فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة نُبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يَحتج إلى مُعجزة، فدلَّ ذلك على أن ذلك مِن علامات النبوة. ا.هـ.
والواقع أننا إذا نظرنا إلى موضوع الرسالة الإسلامية فإننا نجده في صورة دقيقةِ الهدف الذي حدَّده الله مِن إنزالها، وهو الرحمة العامة، يقول ـ تعالى ـ لرسوله الكريم: (ومَا أرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحمةً للعَالَمِينَ).(1/61)
والرحمة إذنْ هي الطابع العام، لكل التعاليم الإسلامية سواء في ذلك ما يختصُّ بالمجتمع أو ما يختصُّ بالفرد، وسواء في ذلك ما يتصل بالجانب العقدي أو الجانب الأخلاقي التشريعي. وهذه الرحمة تظهر في مُختلف ميادين النشاط الإنساني بصورة مُتعدِّدة، فتَظهر في المجتمع بمَظهر العدالة والأخوة، وقد ربَط الإسلام المجتمع بعضه ببعض برِباطٍ كرِباط البناء المُحكم "المؤمنُ للمُؤمنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضه بعضًا". ويَتماسَك كتماسُك الجسد الحيِّ الذي يسعد جميعه أو يَشقى جميعه، بسَعادة أعضائه أو بشَقائها "مثل المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمَثَل الجسد الواحد: إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائر الأعضاءِ بالسهَر والحُمَّى".
وهذا الإحكام، وهذا الترابُط: إنما كان بسبب العدالة السارية التي تكبَح شهواتِ الجَمُوح ، وترد من غرَب الطامع، وتَفِيءُ بالمسرفين إلى سبيل الاعتدال. والأُخوة بجوار العدالة عاملٌ ثانٍ مِن عوامل الترابُط والتماسك.
والمؤمنون: لوحدة أهدافهم، ولوحدة آمالهم: هم إخوةٌ متعاونون. (إنَّمَا المؤمنونَ إخوةٌ). وتظهر الرحمة في الفرد ـ في أسمى معانيها ـ في صورة التجرُّد لله ـ سبحانه وتعالى ـ: (أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ). وهذا الدين الخالص: إنما هو العبودية الكاملة لله وحده، وإذا ما وُجدت هذه العبودية، وُجد الإيثار والتضحية، والبذْل والفداء، ووُجد كل خُلق كريم، وكان البعد عن كل خُلق ذميم، وأصبح الإنسان الذي يتمثل فيه ذلك رحمةً، أينما حلَّ وحيثما أقام، ولكنه هو نفسه: يُصبح ـ أيضًا ـ بعبوديته هذه في كنَف الله ـ تعالى ـ وفي رِعايته، وكان آمنًا على نفسه، وعلى ذَوِيهِ، سعيدًا بعِناية الله ـ تعالى ـ به وتوفيقه له، فهو إذن مغمورٌ برحمة الله.(1/62)
والمثَل الأعلى الذي تمثَّلت فيه الرسالة الإسلامية خير تمثيل، إنما هو: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقد كان خُلقه القرآن كما جاء على لسان عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ لقد خالَط القرآنُ في روحه وبدَنه، وامتزج ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالرسالة الإسلامية وامْتزَجتْ به، فكانت هي الرحمةَ المُرسَلة، وكان هو الرحمة المُهداة.
وإذا نظرنا ـ إذن ـ إلى الرسالة الإسلامية، فإننا نشهد أن محمدًا رسول الله ـ صلوات الله ورحمته وتحياته وسلامه عليه.(1/63)
صُورٌ إيمانية
ومِن صور الإيمان السامية التي نتطلع إليها كنبراسٍ مُضيء، وكمَثَل أعلى ننظر إليه في احترام وقداسة، ونُحاول أن نتَّخذ منه أُسوةً وقُدوة الصور الآتية:
تروي كتب السيرة النبوية، وكتب الأحاديث الشريفة: أن رجالاً مِن أشراف قريش مشَوا إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب، إنَّ لك سِنًّا وشرفًا ومنزلةً فِينَا، وإنا قد استَنْهَيْناكَ مِن ابن أخيكَ فلم تَنْهَهُ عنَّا، وإنا واللهِ لا نصبر على هذا: مِن شتْم آبائنا وتَسفيهِ أحلامنا وعيْب آلهتنا حتى تَكُفَّهُ عنَّا، أو نُنازله وإيَّاك في ذلك حتى يَهلك أحدُ الفريقين.
ثم انصرفوا عنه في عزْمٍ مُصمِّمٍ، وفي إرادة مُريدة، فعظُم على أبي طالب مِن جانبٍ فِراقُ قومه وعداوتهم له، ولكنه مِن جانب آخر لم يَطِبْ نفسًا بإسلام رسول الله لهم ولا خِذلانه، ووقع في حَيرة مَريرة، واستغرق في تفكيرٍ عميق ثم بعَث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصَّ عليه نبَأ قومه ثم قال له:
يا ابن أخي: أَبْقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تُحمِّلني ما لا أُطيق. فظنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قد بَدَا لعَمِّهِ رأيٌ جديد، وأنه خاذِله ومُسْلِمُه، وأنه قد ضعُف عن نُصرته، والقيام معه، وفي لَمْحة فكرية عميقة مُستغرقة تكشَّف لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المستقبلُ بدون نُصرة عمِّه، فإذا به يَزداد ثِقة بالله، وإيمانًا بنَصره وإذا به يقول: "واللهِ لوْ وَضَعُوا الشمسَ في يَميني والقمرَ في شِمالي على أن أتْرُكَ هذا الأمرَ حتى يُظهره اللهُ أو أهلِك فيه ما تركتُه".
ثم قام واثقًا بالله ـ تعالى ـ ثِقةً لا تُزعزعها الأعاصير، ثقة تَمِيدُ دونها الجبال، ولا يَميد، فلمَّا ولَّى ناداه أبو طالب فقال: أقبلْ يا ابن أخي، فأقبلَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: اذهبْ يا ابن أخي فقلْ ما أحببتَ، فواللهِ لا أُسْلِمُكَ لشيءٍ أبَدًا.(1/64)
وإن الشجاعة الأدبية المؤمنة لا تتمثل حقيقةً إلا إذا كانت هناك معارضة قوية، وكلما زادت المُعارضة، وكلَّما قَوِيتْ حتى تُصبح تَهديدًا مُنذِرًا ووعيدًا مُهدِّدًا، كانت الشجاعة الأدبية عند المؤمن بالحق، والمؤمن بالصواب مثلاً أعلى، ورجولةً كاملة، وهذه الحادثة التي رَويناها، لا تُمثل ظاهرة عابِرة في حياة الرسول ـ صلوات الله عليه ـ وإنما تُمثل شعارًا دائمًا.
قال عُتبة بن ربيعة يومًا، وهو جالس في نادي قريش ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالسٌ في المسجد وحده: "يا معشر قريش "ألا أقوم إلى محمدٍ فأُكلمه، وأعْرِض عليه أُمورًا لعلَّه يَقبل بعضها فنُعطيه أيها شاء؟
وذلك: حين أسلمَ حمزة ورأوا أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزيدون ويَكثُرون فقالوا: بلَى يا أبا الوليد، قُم إليه فكلِّمْه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا ابن أخي، إنك مِنَّا حيث قد علمتَ: مِن البسطة في العشيرة والكمال في النسَب، وإنك قد أتيتَ قومك بأمر عظيم، فرَّقتَ به جماعتَهم، وسفَّهتَ به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتَهم، وكفَّرتَ مَن مضى مِن آبائهم، فاسمع مني أعرِض عليك أمورًا.. تنظر فيها لعلَّك تقبل مني بعضها. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "قُلْ يا أبا الوليد أَسمعْ. "قال: يا ابن أخي إن كنتَ إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك مِن أموالنا، حتى تكون أكثرَنا مالاً، وإن كنت تريد به شرَفًا سَوَّدْنَاكَ علينا حتى لا نقطع أمرًا دُونك، وإن كنت تُريد به مُلكًا مَلَّكْنَاكَ علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه، لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطبَّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه، فإنه ربما غلَب التابع على الرجل حتى يُداوَى منه.(1/65)
حتى إذا فرَغ عُتبة، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستمع منه قال: لقد فرغتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: افعلْ.
قال: "بسم الله الرحمن الرحيم (حم. تَنزيلٌ مِنَ الرحمنِ الرحيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لقومٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا ونَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فهُمْ لا يَسمعونَ. وقالُوا قُلوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إليهِ..).
ثم مضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقْرَؤُها عليه، فلمَّا سمعها منه عُتبة أنْصتَ لها وألقَى يديه خلْف ظهره مُعتمدًا عليهما يسمع منه. ثم انتهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السجدة ثم قال: "قد سمعتَ يا أبَا الوليد ما سمعتَ فأنتَ وذاكَ".
فقام عُتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نَحلف باللهِ لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجْه الذي ذهب به.
فلمَّا جلس إليهم: قالوا: "ما وراءك يا أبا الوليد "قال: "ورائي أني سمعتُ قولاً واللهِ ما سمعتُ مثلَه قط، والله ما هو بالشِّعْر، ولا بالسِّحْر، ولا بالكِهانة".
يا معشر قريش أَطِيعونِي واجعلوها بِي، وخَلُّوا بين هذا الرجل، وبين ما هو فيه فاعْتَزِلُوه. فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ، فإن تُصبه العربُ فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكه مُلككم وعِزُّه عزكم، وكنتم أسعدَ الناس به.
قالوا: سَحَرَكَ واللهِ يا أبا الوليد بلسانه، قال: "هذا رأيي فيهِ فاصنعوا ما بدَا لكمْ".
قد يقول قائل: إنه لو عرَض على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا العَرض مِن هيئة تَستطيع تنفيذَه لقبِل. هذا القول يَنقضُه: إن عُتبة كان مُفوَّضًا مِن زعماء قريش. وينقضه ـ أيضًا ـ الخبر الآخر الذي ترويه كتب السيرة:(1/66)
لقد اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أخو بني عبد الدار، وأبو البختري ابن هشام، والأسود بن المطلب بن الأسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل ابن هشام ـ عليه لعنة الله ـ وعبد الله بن أبي أُمية، والعاص بن وائل، ونبيهٌ ومُنبهٌ ابنا الحجاج السهميَّانِ، وأمية بن خلَف، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظَهْر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض:
"ابعثوا إلى محمد فكلِّموه، وخاصموه حتى تعْذروا فيه ". فبعثوا إليه أن أشرافَ قومِك قد اجتمعوا ليُكلموك فأْتِهِمْ. فجاءهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سريعًا، وهو يظن أن قد بدَا لهم فيما كلَّمهم فيه، "وكان عليهم حريصًا يحب رُشدهم، ويَعِزُّ عليه عَنَتَهُم حتى جلَس إليهم، فقالوا له: "يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنُكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً مِن العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلتَ على قومك: لقد شتمتَ الآباءَ، وعِبْتَ الدِّينَ، وشتمتَ الآلهة، وسفَّهتَ الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فما بقِيَ أمرٌ قبيح إلا جئتَه فيما بيننا وبينكَ، فإن كنتَ إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك مِن أموالِنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نُسوِّدك علينا، وإن كنتَ إنما تُريد به مُلْكًا، ملَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيكَ رِئْيًا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يُسمون التابع مِن الجنِّ رِئْيًا، فربما كان ذلك ـ بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نُبرئك منه أو نُعذر فيك "فقال: لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما بِي ما تقولون، ما جئتُ بما جئتُكم أطلب أموالَكم، ولا الشرَف فيكم، ولا المُلك عليكم، ولكنَّ اللهَ بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أنْ أكونَ لكم بشيرًا ونذيرًا، فبَلَّغْتُكم رسالاتِ ربي، ونصحتُ لكم، فإنْ تقبلوا ما جئتُكم به فهو حظُّكمْ في الدنيا والآخرة، وإن تَرُدُّوهُ(1/67)
عليَّ أصبرْ لأمر الله حتى يَحكم بيْني وبيْنكم.
وصورة مِن صور الإيمان حقَّقها الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وكم حقَّق الصحابة مِن صورٍ إيمانية.
لقد خرج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الجيش ليَعترض طريق قافلةِ قريش ردًّا على ما أخذوه مِن أموال المسلمين ظُلمًا واغتصابًا فأتاهُ الخبر عن قريش بمَسيرتهم ليَمنعوا قافلتهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقالَ وأحسنَ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المِقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امضِ لمَا أراك اللهُ، فنحن معك، واللهِ لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى، اذهبْ أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثَكَ بالحق لو سِرْتَ بنا إلى الغِماد لجالَدْنا معكَ مِن دونه حتى تَبلغه، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيرًا ودعَا له، ولم يكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سمع قول الأنصار، ولم يكن أحدٌ منهم قد تكلم فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أشِيروا علي أيها الناس.
وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا بَرَاءٌ مِن زِمامِكَ حتى تَصِلَ إلى دُورنا، فإذا وَصَلْتَ إلينا فأنت في ذِمَّتِنَا نمنعك ممَّا نمنع منه آباءنا ونِساءنا، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخاف ألاَّ تكون الأنصار ترى عليها نُصرة إلا ممَّن دَهَمه بالمدينة مِن عدوِّه، وأن ليس عليهم أنْ يسير بهم إلى عدو خارج بلادهم، فلمَّا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام سعد بن معاذ، وتُذكر كلمته بأكملها؛ لأنها مِن الدَّساتير الرائعة الواجبة التحقيق في الصلة بين الجيش المُخلص وقائده المؤمن.(1/68)
قال سعد: والله أكأنَّكَ تريد يا رسول الله، قال أجلْ، قال: فقد آمنَّا بك وصدَّقْناك وشهِدْنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناكَ على ذلك عُهودنا، ومَواثيقنا على السمع والطاعة، فامْضِ يا رسول الله لمَا أردتَ، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحْر فخُضته لخُضناه معك ما تخلَّف منَّا رجلٌ واحد، وما نَكره أن تَلْقَى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ عند اللقاء. لعل اللهَ يُريك مِنَّا ما تَقَرُّ به عَيْنُك فسِرْ بِنَا علَى بَرَكة الله.
فسُرَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقول سعدٍ، ونشَّطه ذلك، ثم قال سِيرُوا وأبْشِرُوا، فإن الله وعَدني إحدى الطائفتينِ، والله لكأنِّي الآن أنظر إلى مَصارِع القوم".
وكان السير على بركة الله، وكان النصر بتوفيقٍ الله.
ومِن الصور الإيمانية التي قصَّها القرآن الكريم غير مرة، ووَضعها، وضَّاءة مُتلألِئَةً، أمام أنظار المسلمين فكانت عِبْرَةً، وكانت حافزًا: قصة السحرة الذين أتَى بهم فرعونُ مُغالبًا بهم سيدنا موسى، فإنه لمَّا تبيَّن لهم الحقُّ، قالوا على ملأ مِن الأشهاد وفي وَجه فرعون (آمَنَّا بِرَبِّ هَارونَ ومُوسَى).
وثارت ثائرةُ فرعون، وغلَى مِرْجَلُ غضبه. وهدَّدهم بإنزال أفظَع ألوان العذاب فما جَبَنوا، وما تَخاذلوا. ولْنَتْرُك مَجال الحديث للقرآن يُصور لنا هذه القصة في سورتينِ كريمتينِ: سورة الأعراف وسورة طه.
يقول ـ تعالى ـ في "سورة الأعراف":(1/69)
(ثُمَّ بَعَثْنَا مُوسى بآياتِنَا إلى فرعونَ ومَلإِهِ فظَلَمُوا بِهَا فانْظُرْ كيفَ كانَ عاقبةُ المُفسدينَ. وقال موسى يا فرعونُ إنِّي رسولٌ مِن ربِّ العالَمِينَ. حَقِيقٌ علَى أنْ لا أقولَ على اللهِ إلاَّ الحقَّ قد جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِن ربِّكمْ فأَرْسِلْ معيَ بني إسرائيلَ . قالَ إنْ كنتَ جئتَ بآيةٍ فأْتِ بهَا إنْ كُنتَ مِن الصادقينَ . فألْقَى عصاهُ فإذَا هي ثُعبانٌ مُبينٌ . ونَزَعَ يدَه فإذَا هي بيضاءُ للناظرينَ . قال الملأ مِن قومِ فرعونَ إنَّ هذا لساحرٌ عليمٌ . يُريدُ أنْ يُخرجَكمْ مِن أرضكمْ فماذا تَأمرونَ . قالوا أرْجِهْ وأخاهُ وأرْسِلْ في المَدائنِ حاشِرينَ . يأتوكَ بكُلِّ ساحرٍ عليمٍ . وجاءَ السحَرةُ فرعونَ قالوا إنَّ لنَا لأجرًا إنْ كُنَّا نحنُ الغَالِبِينَ . قالَ نَعَمْ وإنَّكُمْ لَمِنَ المُقرَّبِينَ . قالوا يا مُوسى إمَّا أنْ تُلْقِيَ وإمَّا أنْ نكون نحنُ المُلقينَ . قال أَلْقُوا فلمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أعْيُنَ الناسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ وجاءُوا بسِحْرٍ عظيمٍ . وأَوْحَيْنَا إلى موسى أنْ ألْقِ عَصاكَ فإذَا هيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فوَقَعَ الحَقُّ وبَطَلَ ما كانوا يَعملونَ. فغُلِبُوا هُنالِكَ وانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ . وأُلْقِيَ السحَرَةُ سَاجِدِينَ . قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وهَارونَ . قالَ فرعونُ آمنتُمْ بهِ قبلَ أنْ آذَنَ لكمْ إنَّ هذا لمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدينةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أهلَها فسَوْفَ تَعلمونَ. لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أجمعينَ . قالوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . ومَا تَنْقِمُ مِنَّا إلَّا أنْ آمَنَّا بآياتِ رَبِّنَا لمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أفْرِغْ علينَا صَبْرًا وتَوَفَّنَا مُسلِمينَ).(1/70)
ويقول الله ـ تعالى ـ متحدثًا عن فرعون في "سورة طه": (ولقدْ أرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فكَذَّبَ وأبَى . قالَ أجِئْتَنَا لتُخْرِجَنَا مِن أرْضِنَا بسِحْرِكَ يا موسى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بسِحْرٍ مِثْلِهِ فاجْعلْ بيْنَنا وبيْنكَ مَوْعدًا لا نُخْلِفُهُ نحنُ ولا أنتَ مكانًا سِوًي . قالَ مَوْعِدُكمْ يومُ الزِّينَةِ وأنْ يُحْشَرَ الناسُ ضُحًى. فتولَّى فرعونُ فجمَعَ كيْدَهُ ثُمَّ أتَى، قال لهم موسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا علَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بعذابٍ وقد خابَ مَنِ افْتَرَى . فَتنازعُوا أمْرَهمْ بينهمْ وأسَرُّوا النَّجْوَى . قالوا إنْ هذانِ لساحرانِ يُريدانِ أنْ يُخْرِجاكُمْ مِن أرْضِكمْ بِسِحْرِهُمَا ويَذْهَبَا بطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى. فأَجْمِعُوا كَيْدَكمْ ثُمَّ أْتُوا صَفًّا وقد أفْلَحَ اليومَ مَنِ اسْتعلَى. قالوا يا موسى إمَّا أنْ تُلْقِيَ وإمَّا أنْ نكونَ أوَّلَ مَنْ أَلْقَى. قال بلْ أَلْقُوا فإذَا حِبَالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحْرِهْمْ أنَّها تَسْعَى . فأوْجسَ في نفْسِهِ خِيفَةً مُوسى . قُلْنَا لا تَخَفْ إنَّكَ أنتَ الأَعْلَى. وأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ولا يُفْلِحُ الساحِرُ حيثُ أتَى . فأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارونَ ومُوسى. قال ءامنتُمْ لهُ قبلَ أنْ آذَنَ لكمْ إنَّهُ لكبيرُكمُ الذي علَّمكمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكُمْ وأرْجُلَكُمْ مِن خِلافٍ ولَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ . ولَتَعْلَمُنَّ أيُّنَا أَشَدُّ عذَابًا وأبْقَى . قالُوا لنْ نُؤْثِرَكَ علَى مَا جَاءَنَا مِنَ البيِّنَاتِ والذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هذهِ الحياةَ الدنيَا . إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لنَا خَطَايَانَا ومَا أَكْرَهْتَنَا عليهِ مِنَ(1/71)
السِّحْرِ . واللهُ خيرٌ وأبْقَى . إنَّهُ مَن يَأْتِ ربَّهُ مُجْرِمًا فإنَّ لَهُ جهنَّمَ لا يَموتُ فِيها ولا يَحْيَا . ومَن يأتِهِ مُؤمنًا قد عمِل الصالحاتِ فأُولئكَ لهمُ الدرجاتُ العُلا، جناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالدِينَ فيهَا وذَلِكَ جزَاءُ مَن تَزَكَّى).
مُؤمن آلِ فرعون
ويَقصُّ القرآن الكريم علينا قصةَ مؤمنٍ أخفَى إيمانه؛ ليكونَ أكثر فاعلية في مُساعدة المؤمنين، إنه مؤمنٌ ومِن آل فرعون.(1/72)
(ولقد أَرْسَلْنَا مُوسى بآياتِنَا وسُلطانٍ مُبينٍ إلى فرعونَ وهامانَ وقارونَ فقالوا ساحرٌ كذَّابٌ فلمَّا جاءهمْ بالحقِّ مِن عندِنا قالُوا اقْتُلُوا أبناءَ الذينَ آمَنُوا معه واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ "واستبْقُوا نساءَهم" وما كَيْدُ الكافرينَ إلاَّ فِي ضلالٍ. وقال فرعونُ ذَرُونِي أقتلُ موسَى "أي اتْرُكُونِي أقتلْه" ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أخافُ أنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أو أنْ يُظْهِرَ في الأرضِ الفَسادَ. وقال موسى إنِّي عُذْتُ "الْتجأتُ إليه مُتحصِّنًا به" برَبِّي وربِّكمْ مِن كلِّ مُتكبِّرٍ لا يُؤمنُ بيومِ الحِسابِ . وقالَ رجلٌ مُؤمنٌ مِن آلِ فرعونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يقولَ ربِّيَ اللهُ "بسبب أنه يقول ربِّي الله، فلا يَقوله فرعون" وقد جاءَكُمْ بالبيِّناتِ "بالحجج الواضحات وهي المُعجزات التي شاهدوها" مِن ربِّكم وإنْ يَكُ كاذبًا فعليه كذِبُه، وإنْ يَكُ صادقًا يُصِبْكُمْ بَعضُ الذِي يَعِدُكُمْ. إنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَن هُوَ مُسْرفٌ كذَّابٌ . يا قومِ لكمُ المُلكُ اليومَ ظاهرينَ في الأرضِ فمَن يَنْصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إنْ جاءَنَا قالَ فرعونُ مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أرَى ومَا أَهْدِيكمْ إلَّا سَبيلَ الرَّشَادِ. وقالَ الذي آمَنَ يا قومِ إِنِّي أخافُ عليكمْ مثل يومَ الأحزابِ "الأحزاب الأمَم والطوائف التي هلكَت مِن قبلُ وأبادها الله بسبب الإشراك به والتكذيب بأنبيائه وإتيانِ المَعاصِي" مِثْلَ دَأْبِ "مثل الجزاء الذي نزَل بقوم نوحٍ وعاد وثمود ومَن أتى بعدهم" قوم نوح وعاد وثمود والذين مِن بعدهم ومَا اللهُ يُريدُ ظلمًا للعباد. ويا قومِ إنِّي أخافُ عليكمْ يومَ التنادِ يوم تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مالَكم مِن اللهِ مِن عاصِمٍ ومَن يُضللِ اللهُ فمَا لهُ مِن هادٍ . ولقد جاءَكُمْ يوسفُ مِن قبلُ بالبيِّنات فما زِلْتُم في شكٍّ ممَّا جاءكُمْ بهِ حتى إذا هلَكَ قُلتم لن(1/73)
يبعث اللهُ مِن بعده رَسولاً . كذلكَ يُضِلُّ اللهُ مَن هو مُسْرِفٌ مُرتابٌ. الذين يُجادلونَ في آياتِ اللهِ بغَيرِ سُلطانٍ أتاهمْ كَبُرَ مَقْتًا عندَ اللهِ وعندَ الذينَ آمَنُوا كذلكَ يَطبعُ اللهُ علَى كلِّ قلبِ مُتَكَبِّرٍ جبَّارٍ . وقال فرعونُ يا هامانِ ابْنِ لِي صَرْحًا لعلِّي أَبْلُغُ الأسبابَ. أسبابَ السمواتِ فأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وإِنِّي لأَظُنُّهُ كاذِبًا. وكذلكَ زُيِّنَ لفرعونَ سُوءُ عَمَلِهِ وصُدَّ عنِ السبيلِ . وما كَيْدُ فرعونَ إلَّا فِي تَبَابٍ. وقالَ الذي آمَنَ يا قومِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكمْ سبيلَ الرَّشادِ. يا قومِ إنَّما الحياةُ الدنيا متاعٌ وإنَّ الآخرةَ هي دارُ القرار. مَن عمَلَ سيئةً فلا يُجزَى إلا مِثلَهَا ومَن عمِلَ صالحًا مِن ذَكَرٍ أو أُنْثًى وهو مُؤمِنٌ فأُولئكَ يَدْخُلونَ الجنة يُرزقونَ فيها بغَير حَسابٍ. ويا قوم مالِي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار . تدعونني لأكفُرَ بالله وأُشرِكَ به ما ليس لي به عِلْمٌ وأنا أدعُوكمْ إلى العَزيزِ الغفَّارِ. لا جَرَمَ أنَّمَا تَدْعُونَنِي إليهِ ليسَ لهُ دَعوةٌ في الدنيا ولا الآخرةِ وأنَّ مَرَدُّنَا إلى اللهِ وأنَّ المُسرفينَ هم أصحابُ النَّارِ. فسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لكمْ وأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى اللهِ إنَّ اللهَ بَصِيرٌ بالعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وحاقَ بآلِ فرعونَ سُوءُ العَذابِ).(1/74)
صُورٌ تتعارَض مع الإيمان
مَثَلُ المُلْحِد:
(واتْلُ عليهمْ نَبَأَ الذِي آتيناهُ آيَاتِنَا فانْسَلَخَ مِنها فأَتْبَعَهُ الشيطانُ فكانَ مِن الغاوِينَ ولوْ شِئْنَا لرَفَعْنَاهُ بهَا ولكنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأرضِ. واتَّبَعَ هَوَاهُ فمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلْبِ إنْ تَحْمِلْ عليهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلكَ مَثَلُ القَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لعلَّهمْ يَتَفَكَّرُونَ).
إن آياتِ اللهِ مُحيطة بالإنسان مِن جميع أقطاره، فالسماوات مِن آياتِ الله، والأرض مِن آيات الله، والأشجار من آيات الله، والأنهار والجبال، والمحيطات، والنجوم والكواكب، كل ذلك من آيات الله، هذا الإبداع المُحكم الذي يُحيط بالإنسان من جميع أقطاره هذه الآيات التي تُحيط بالناس، أينما كانوا والتي تُنادي بجلال الله وعَظمته. حاوَل بعض الناس الانسلاخ منها، فلم يُقِرُّوا بالألوهية الإقرار السليم، والتعبير بالانسلاخ مِن أحْكم وأدقّ وأروع ما يكون، ولقد حاولوا الانسلاخ منها وهي مُلْتَصِقَةٌ بهم الْتصاق جلْد الإنسان بالإنسان، وانسلخوا منها بعد لأْيٍ وعلى خلاف الفِطْرة، وعلى وضْعٍ لا يتلاءم مع النظام الطبيعي، وانسلخوا بذلك مِن محيط الألوهية، إنهم خرجوا عن سُرادق الألوهية، وخرجوا عن أن يكونوا من عباد الله فتَهيَّؤوا بصَنِيعهم هذا ليَكونوا مِن أتباع الشيطان. وسهُل على الشيطان غزْوُهم، فغزاهم بخيْله ورَجِلِه فكانوا مِن الغاوين، ولو شاء الله لرفَعهم بآياته، ولكن العيْبَ جاء منهم هم؛ إذْ أخْلدوا إلى الأرض واتَّبعوا أهواءَهم. وسواء كُنَّا بصدد من أخلد إلى الأرض أو بصدَد مَن اتَّبع هواه، فإن مثَله كمثَل الكلب إنْ تحمل عليه يلْهث وإنْ تتركه يلهث.
ولكن لِمَ يلهثُ في كلتا الحالتين؟(1/75)
إن الذي أخلد إلى الأرض مهما بسَط الله له في الرزق فهو ضيِّق بحياته؛ لأنه لا يطمئن إلى شيء رُوحي يُقنعه، والمادة ـ مهما أُوتِيَ الإنسان منها ـ فإنها ـ ما دام الإنسان جشِعًا ـ لا تنتهي إلى إرضائه، لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لطلَب ثانيًا، ولو كان له واديانِ لطلب ثالثًا. وإذا ضيَّق الله عليه في الرزق فإنه يلهث، وذلك واضح.
ومَن آثَر اتِّباعَ الهوَى فإنَّه لا يَعتمد على هادٍ يُطمئنه ولا اطمئنانَ يَسْكُنه وهو ضيِّق بالحياة ذرْعًا؛ لأن هواه لا تَحُدُّهُ حدود؛ ولأن خياله لا يَكبح جِماحَه مبدأٌ، ولا خُلقٌ كريم، ولا مَثَلٌ أعلَى ثابت، فمثَله كمثَل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركْه يلهث.
وهذا المثَل إنما مثل الذين كذَّبوا بآيات الله وقد أنزله ـ تعالى ـ ليتفكَّر فيه الناس وليتَّعِظوا به ولعلَّه يقود إلى الهداية والرشاد هؤلاء الذين انْحَرفوا عنها..(1/76)
في صفات الذين لم يَعْمُرِ الإيمانُ قلوبَهم.
لقد أبانَ الله ـ عز وجل ـ عن الكثير مِن صفات غير المؤمنين فقال ـ تعالى ـ في سورة "القلم":
(فلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ "الذين كذَّبوا بآيات الله وكذبوا برسله" وَدُّوا لوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ "ودوا لو تَلِينُ لهم فيَلينون لك. أيْ: وهؤلاء المُكذِّبون إنْ تُمالئهم بإجابتك إيَّاهم إلى الرُّكون إلى باطلهم فيُمالئونك باتِّباع بعض ما تقول دون إيمان منهم به" ولا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ "كثير الحلِف حقير" هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ "عيَّاب: يمشي بين الناس بالنميمة للإفساد بينهم" مَنَّاعٍ للخيرِ مُعْتَدٍ أثِيمٍ عُتُلٍ بَعْدَ ذلكَ زَنِيمٍ "يمنع الخير ـ كلما استطاع ـ عن الغير، ويتجاوز العدالة إلى الظلم بالتعدِّي على الناس كثير المعاصي والعُتُل: الجافُّ في المُعاملة، الغليظ في السلوك، والزنيم: الدعِيِّ في نسَبه أيْ مَن يُنسَب إلى غير أبيه، ومعنى: بعد ذلك؛ أيْ مع كل هذه القبائح والآثام فإن هناك ما هو أقبح منها وهو زنيم" أنْ كانَ ذَا مَالٍ وبَنِينَ "يقول صاحب الكشَّاف عن هذه الآية: إنها مُتعلقة بقوله ولا تُطع، يعني ولا تُطعْه مع هذه المثالب؛ لأنه كان ذا مال وبنين. أي: ليَساره وحظِّه مِن الدنيا، ويجوز أن يتعلَّق بمَا وَعَده على معنى لكونه مَشمولاً مُستظهِرًا بالبَنينَ. كذَّب بآياتنا" إذَا تُتْلَى علَيهِ آيَاتُنَا قالَ أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ علَى الخُرْطُومِ "المعنى سنَطْبَع بعلامة على أنْفه، أي سنجعله في غاية الذُّلِّ والمَهانة جزاءً بما كذَّب وتكبَّر".
هذه بعض أوصاف غير المؤمنين تكون فيهم مُتفرقة أو مجتمعة، كلٌّ بحسب درجته في الإشراك بالله، والإلحاد. ثم يقول الله ـ تعالى ـ بعد هذه الآيات مباشرة : (إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أصْحَابَ الجَنَّةِ).
وصورة أصحاب الجنة مِن الصور التي تَتعارَض مع الإيمان الصحيح.(1/77)
صور أصحاب الجنة
وهي قصة قديمة حديثة، إننا نَقْرؤُها على أنحاء مُتعددة في آثار الماضين، ونُشاهدها على ألوانٍ مختلفة في حوادث عصرنا الراهن.
ومُجمل القصة كما يَرويها القرآن أن جملة مِن الأولاد وَرِثوا عن أبيهم بُستانًا يانعًا ناضرًا، "إنَّهُ جَنَّةٌ".
فلمَّا حان قِطافُ الثمار الناضجة الشهيَّة وَطَّنُوا العزْم، وصمَّمُوا الإرادة، وأقسموا على أن يَستأثروا بجميع ما حملتْ، وأن يَخُصُّوا أنفسهم بالثمين والحقير، ولا يَدَعُوا لفقيرٍ ولا لمِسكين مِن حظ.
وسوَّلت لهم أنفسهم وسوَّل لهم الشيطان، أنهم أحقُّ بكلِّ ثمرة فيها مِن الفقراء والمساكين، أليسوا أصحابَ عِيالٍ؟ أليسوا أصحابَ أُسَرٍ ضخمة؟ وكيف يَطمئنون على رزقهم في الغد؟ إنَّ الغدَ مجهول، ولا يدري الإنسان ما يأتي به المُستقبل مِن أحداث، فعليهم إذن أن يَمنعوا تسرُّب أيَّةِ ثمرة مِن هذه الثمار إلى أيدٍ مُحتاجة أو بطونٍ جائعة تتمثل في الفقراء والمساكين.
ولمَّا ارتفع صوت أوسطهم يدعوهم إلى حقِّ الله زجَرُوه، ولم تجد كلمة الحق منه عندهم آذانًا مُصغية ولا قلوبًا مُفتَّحة.
لقد بيَّتوا هذا العزْم بليلٍ، وقدَّروا أمرًا، وقدَّر الله أمرًا.
فطافَ عليها طائفٌ مِن ربكَ وهم نائمونَ، فأصبحت جنتهم خرابًا، لا شجر فيها ولا ثمر. وجاء هؤلاء الذين دبَّروا المُؤامرة بليلٍ، جاءوا مُتلصِّصين حذِرين، جاءوا وهم يتخافتون ألاَّ يدخلها اليوم عليكم مِسكين. فلمَّا رأوها وَقَعوا في حَيرة، وظنُّوا أنهم ضلُّوا الطريق وتَبلْبلتْ أفكارهم أخذًا وردًّا، فلمَّا تَيَقَّنُوا مِن الأمر أُسْقِطَ في أيديهم وكان ذلك درسًا قاسيًا وكان عِبْرةً، وكان عِظَةً.
وفي لمَحاتٍ مِن التركيز الواعي، أصبح عندهم الاستعداد الكافي لأنْ يَرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه، وهنا ارتفع صوتُ أوسَطِهم.
(أَلَمْ أَقُلْ لكمْ لوْلَا تُسَبِّحُونَ).(1/78)
ووجد هذا النداء آذانًا مُصغية وقلوبًا مُتفتحة في إخلاص. (سُبحانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ). وأخذوا يستعرضون أمرهم. (فأَقْبَلَ بعضُهمْ علَى بعضٍ يَتَلاوَمُونَ). فقد تدارسوا فيما بينهم الأمر، واستنتجوا منه العِظاتِ والعِبْرة، وانتهَوا إلى الوصْف الصادق الذي يَنطبق عليهم في مُؤامرتهم ضد الإنفاق في سبيل الله فقالوا:
(يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
ثُمَّ تابوا توبةً نَصوحًا خالصةً إلى الله في صدق وكانت نهاية قولهم. (إنَّا إلى رَبِّنَا رَاغبونَ). والله قد يُربِّي بالابتلاء، كما أنه قد يَبتلي بالنعم. والمؤمن الحق الذي ـ لا يفرح بالنعمة إلا على أساس أنها تُوصله إلى مَرضاةِ الله، ولا يَقْنط للابتلاء؛ لأنَّ الصبر عليه إنَّما هو مَرضاة الله، وأن المال قد يكون ابتلاءً إذا أقبلَ وقد يكون ابتلاءً إذا أدْبر، وقد يكون نِعمةً إذا أقبل، وقد يكون نعمةً إذا أدبرَ، والمَثَل الأعلَى هو ألا نجعل المال في إقباله وإدباره إلهًا يُعبد مِن دون الله، وأن نَسمو بأنفسنا حتى لا نَجعلها مِن عبيد المال، وحتى نُحرِّرها مِن رِقِّ الذهب والفضة وذلك بأداء حق الله، والإنفاق في سبيله.
عن أبي واقدٍ الليثي قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إذا أُوحِيَ إليه، أتيناه يُعلمنا لما أُوحِيَ إليه فجِئتُه ذات يوم فقال: إن الله ـ عز وجل ـ يقول: "إنا نزَّلنا المالَ لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم وادٍ مِن ذهب لَأَحبَّ أن يكون له الثاني، وإن كان له الثاني لأحب أن يكون له الثالث، ولا يملأ جوفَ ابنِ آدمَ إلا الترابُ، ويتوب الله على مَن تابَ. ويقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: خَلَّتَانِ يُحبُّهما الله ـ عز وجل ـ وخَلَّتانِ يَبغضهما(1/79)
الله ـ عز وجل ـ فأمَّا اللذانِ يُحبهما الله فحُسن الخُلق والسَّخاء. وأمَّا اللذانِ يَبغضهما اللهُ فسُوء الخُلق والبُخل، وإذا أراد بعبدٍ خيرًا: استَعمله في قضاءِ حوائجِ الناس.
والصورة التي تَتعارض مع الإيمان في هذه القصة إنَّما هي الشُّحُّ والبخل التي غَمرت أصحاب الجنة، قبل التوبة وقبل العودة إلى الله، فكان الابتلاء خيرًا؛ إذ إنه كان سببًا في أن تُعَمر قلوبهم بالإيمان.
قارون
كان قارون من قوم موسى، وقد نشأ في رُبوع مصر، وآتاهُ اللهُ ثراء عريضًا ورزَقه مِن المال ما لا يكاد يُحصى ولا يُعدُّ، وهيَّأ له من وسائل الحياة الهانئة وأسبابها الشيء الكثير، فكان مع ثرائه الواسع قويَّ الجسم وَضِيءَ الصورة إلى درجة أن كان يُسمَّى: "المُنَوِّرُ" وكان إلى ذلك طلْق اللسان، جذَّاب الحديث، أتاه الله كل ذلك. وآتاه أكثر مِن ذلك، فكان منطقَ الحِكْمة أن يُؤدي لله حقَّ الشكر على نِعمه، وأن يتصرف فيما منَحه الله إيَّاه تصرُّف المُعترِف بالفضل، الذي لا يُنكر الجميل.
ولكن نفسَه كانت تتطلع إلى غير ذلك. لقد أجال بَصره في بيئته وفي عشيرته، فلم يجد ما يُساعده على أن يكون حاكمًا، أو صاحب وِلاية ورِئاسة، فأخذ يَنسلخ مِن عشيرته ويَنفصل عن قومه، ويتقرَّب إلى فرعون يُداهنه، ويتملَّق كبرياءَه، ويَتزلَّف إليه حتى أصبح مِن جُلسائه وفي فترة مِن الفترات وَجَد نفسه ينعم بجاه الثروة ويستمتع بجاه السلطان.
فانتشى بهذا المجد الزائف، وملأَه الغُرور، واستولى عليه الكِبْر، ورسَخ في نفسه أن السعادة إنَّما هي الثراء والجلوس مع فرعون.(1/80)
ولمَّا وَقَر في نفسه ذلك، نسِيَ اللهَ أو تناساه، فتعوَّد عاداتِ الذين لا دِينَ لهم مِن ازدراء العشيرة واحتقار الفقراء ونُضوب مَعِينِ الرحمة من القلب، واعتبار أن الحياة الدنيا هي كل شيء. وأن المثَل الأعلى إنما هو الاستمتاع على أيِّ وضْع كان، وفي أي صورة حدَثت. وسارت الحياة به على هذا النمَط رخاءً فترةً من الزمن، فاعتقد أنها ستسير به هكذا إلى النهاية.. ولكن، وفي يوم مِن الأيام بينما كان يجلس قارون مع فرعون وهامان دخل موسى ـ عليه السلام ـ يعرض عليهم الرسالة التي كلَّفه الله بتبليغها، ولقد أرسلنا موسى بآياتِنا وسلطانٍ مُبين إلى فرعونَ وهامانَ وقارونَ فقالوا ساحرٌ كذَّابٌ.
لقد كان المُنتظر مِن قارون أن يُدافع عن موسى، إنْ لم يكن مِن أجل الحق الواضح فمِن أجل العَصَبية والجنسيّة، ولكنه ضرب بالحق، وبالعَصبية عرْض الحائط، وجارَى فرعون، حرصًا على ماله، واحتفاظًا بثروته، وقال كما قال فرعون: "ساحر كذاب". ومن أجل الإبقاء على ثروته جارَى فرعون في إسْرافه وطُغيانه فقال مُوافقًا له اقتلوا الذين آمنوا معه "مع موسى" واستَحْيُوا نِساءهم.
ولمَّا قال فرعون (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى). لم يُحاول قارونُ الدفاع عن رسول الله، وإنما الذي فعل ذلك رجلٌ مؤمن مِن آل فرعون يَكتُمُ إيمانه.
وارتكب قارونُ كل ذلك إيثارًا للمال، وخوفًا على الثروة مِن أن يُصادرها فرعون لو خالفه فيما يرى مِن رأي، وغاب عنه أن الثروة والملك والدنيا والآخرة بيد الله وحده، وكما أنه ـ سبحانه ـ المانِح الوهَّاب فإنه ـ تعالى ـ المانع القابِض.(1/81)
ولمَّا رأى بعض الصالحينَ مِن قوم قارون أن الثروة والجاه أفْسَداهُ، تَشاوروا فيما بينهم، واتَّفقوا على أن يُسْدُوا إليه النصيحة، فلمَّا اجتمعوا به، تَلطَّفُوا في القول ما استطاعوا، وأجملوا النصيحة في أمور خمسة هي في الواقع القواعد العامة المثالية لمَا ينبغي أن يكون عليه الأثرياء، وهي القانون الذي يجب أن يَخضع له أهل الغِنَى قالوا له:
إنكَ مُباهٍ بثَروتك ـ فَخورٌ بها، فرِح بكثرة المال، وما ينبغي أن يكون الفرَح بالمال إلا لأنه وسيلةٌ إلى النفع، فلا تفرح بكثرة المال فرَحَ بَطَرٍ، فإن الله لا يُحب الفرِحين الذين يتمثَّل فيهم ذلك.
وقد أتاك اللهُ الكثير المُتنوِّع فابتغِ فيما آتاك اللهُ الدارَ الآخرة، واتَّجِهْ في كل ما تأتي وما تدَع إلى تقوى الله ومَرضاته.
والدنيا مَزرعة الآخرة وطريقها فلا تَنْسَ نَصِيبك مِن الخطوات في هذا الطريق بالعمل الصالح الذي سيكون رَصيدك يوم لا يَنفع مال ولا بنونَ إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم.
وأحْسِنْ كمَا أحْسَنَ اللهُ إليك، فاجعلْ زكاة مالِك مُساعدةَ الفقير، وزكاة قُوتك نُصرة الضعيف، وزكاة جاهِك مُعاونة المظلوم حتى يستردَّ حقَّه.
ولا تَبْغِ الفسادَ في الأرض، إن الله لا يُجب المُفْسِدينَ.
ولكن هذه المبادئ السامية: التي إذا عمَّت كانت الدستور لكل صاحب جاه أو نعمة لم تلقَ أُذُنًا مُصغيةً لدَى قارون الذي ألهاهُ التكاثر فقال ساخرًا مُتَحَدِّيًا لا يُبالي. (إنَّمَا أُوتِيتُهُ علَى عِلْمٍ عِنْدِي).
لقد أُوتيتُ هذا المال بسببِ تَدبيري وحِكْمتي، وحُسن تَصريفي للأمور، وحَدْسي الذي لا يُخطئ في شئون التجارة، ورأيِي الصائب في ارتفاع الأسعار ونُزولها، وأَنْكَرَ بذلك أيَّ أثَرٍ إلهيٍّ للنعمة التي يَنعم بها.
وتناسَى قارون، وهو في نَشْوَةِ الثراء وحَماسة الجدل، الأخبار الصحيحة التي تدلُّ على أن(1/82)
الله ـ سبحانه ـ أهلك كل ذِي جاهٍ لم يَتَّقِ الله فيما أنعم به عليه، ولم يُؤدِّ حق النعمة مالاً كانت أو قوةً أو رِئاسةً.
(أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللهَ قد أهلكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرون مَن هوَ أشدُّ مِنهُ قُوةً وأكثر جَمْعًا). وأراد قارونُ أن يتحدَّى وأنْ يَسخر وأن ينعم بالتحدِّي والسخرية ممَّن نَصَحُوه، فخرج يومًا على قومه في موكبٍ كأبْهَى ما يكون مِن الزينة والأُبَّهَةِ، وكَأَضْوَأِ مَا يكونُ بَرِيقًا وزُخْرُفًا، لقد خرج على قومه في زِينته ـ في كلِّ زينته ـ فمُدَّتْ إليه الأعيُن، وأخَذ بَريقُ الذهب الذي يتحلَّى به الركبُ يَخْطَفُ بالأبصار، ولَمَعَانُ الفضة المُحلاة بها سُروج الخيل يَخلُب الأفئدة.
وتَهادَى الركب بقارون وهو ينظر يمينًا وشِمالاً في كبرياء سافر، وفي غرور مَكشوف ولمَّا رأى هذا المنظر الذين يَسيرونَ بحَسب قانون الغرائز، ويُريدون الحياة الدنيا فَتَنَهُمْ بَرِيقُ الذهب ولَمَعَانُ الفضة وزُخرف الموكب، فقالوا في شهوة غلَّابة وفي جوع إلى المال نَهِمٍ: (يا ليتَ لنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إنَّهُ لذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
ولكن الذين هداهم الله إلى صِراطه المُستقيم رَدُّوا عليهمْ مُنَبِّهِينَ: (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خيرٌ لمَن آمَنَ وعَمِلَ صَالِحًا).
وسُنة الله لا تتخلَّف عادةً، نذكر منها فيما نحن بصدَده قوله تعالى: (حتَّى إذَا أَخَذَتِ الأرضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهلُها أنَّهمْ قَادِرُونَ علَيها أتَاهَا أمْرُنَا ليلًا أو نهارًا فجَعلناهَا حَصِيدًا كأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأَمْسِ).
وقوله تعالى: (وإذَا أَرَدْنَا أنْ نُهْلِكَ قَريةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فحَقَّ علَيها القولُ فدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).(1/83)
وإذا كانت هذه سُنة الله في الأرض "وفي القرَى"، فماذا ينتظر أن تكون في قارون وأمثاله؟ إنها: (فَخَسَفْنَا بِهِ وبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كانَ لهُ مِن فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ ومَا كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ).
ولمَّا رأى الذين تَمَنَّوا مكانَ قارون بالأمس ما حلَّ به رجعوا إلى الله وأنابُوا إليهِ (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لوْلَا أنْ مَنَّ اللهُ علَينا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ).
أمَّا العِبْرَة مِن كلِّ ذلك فيُلَخِّصُها القرآن ـ عند انتهاء قصة قارون ـ تلخيصًا جميلاً مُوجزًا:
(تلكَ الدارُ الآخرةُ نَجْعَلُهَا للذينَ لا يُرِيدونَ عُلُوًّا فِي الأرضِ ولا فَسَادًا والعاقبةُ للمُتَّقِينَ).
وإلى هنا انتهتْ قصة قارون، وكان يُمكننا أن نَقِفَ عند هذا الحدِّ، ولكن هناك بعض الطرائف والمُلاحظات، يقول الله ـ تعالى ـ عن قارون: (وآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولِي القوَّةِ).
يقول صاحب البحر المحيط: (سُمِّيتْ أموالُه كُنوزًا؛ لأنها لم تُؤدِّ الزكاة، وعلى ذلك فإن الأموال التي تُؤدَّى فيها الزكاة لا تدخل تحت قوله ـ تعالى ـ (الذينَ يَكْنِزُونَ الذهبَ والفِضَّةَ).
أما عن المَفاتح التي تَنُوء بها العُصبة أُولو القوة، فقد قال أبو مُسلم رأيًا له طريفًا جِدًّا في تفسيرها فقد قال: المراد مِن المَفاتح، العلْم والإحاطة كما في قوله ـ تعالى ـ: (وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ). والمراد: "وآتيناه مِن الكنوز هذه لكثْرتها واختلاف أصنافها تُتْعِبُ حَفَظَتَهَا القائمينَ على حِفْظها.(1/84)
يُذكِّرنا ثراءُ قارونَ بأثرياء المسلمين في العصور الماضية وكان مِن هؤلاء عبد الرحمن ابن عوف ولكنه ـ رضي الله عنه ـ كان يُؤدي حقَّ الله كاملاً في ماله، حتى لقد تبرَّع يومًا لفقراء المدينة بقافلة كاملة مُكوَّنة من خَمسِمائةِ جَملٍ بما تحمل مِن تجارة، إذن فالمال إنما يكون فِتنةً إذا لم يُؤدَّ حقُّ الله كاملاً فيه، وكذلك الأولاد إنما تكون فِتنةً إذا لم يُؤدِّ الوالدُ حق الله والوطن بتربيتهم خير تربية.(1/85)
في قوانينَ إلهيةٍ خاصَّةٍ بالإيمان
والقانون معناه: عِلَّةٌ ومَعلول، سبَبٌ ومُسبِّب، مُقدمة ونتيجة، أي أن هناك ارتباطًا بين مُقدمات تُسمَّى عِلَلاً وأسبابًا، وبين نتائج تُسمَّى مَعلومًا أو مُسبِّبات.
وإذا كانت قوانينُ العالَم المادي، وهي أيضًا قوانينُ إلهيةٌ تَطَّرِدُ عادةً، فإن القوانين التي سنذكرها أثبتُ وأقوَى؛ لأن الله ـ سبحانه ـ أعلن صِدْقها وصِحتها.
وهذه الفتوى:
إنما نُقدِّمها لهؤلاء الذين يَعتقدون أو يَسيرون في حياتهم كما لو كانوا يعتقدون أن العمل الصالح والتقوى والتوكُّل والصدق والإخلاص إنما هي أمور مِن أجل الآخرة فقط، ونَفْعها إنما يكون يوم الحساب.
وممَّا لا شك فيه أن نفْعها يوم الحساب كبيرٌ، ولكن الله ـ سبحانه ـ وهو أصدق القائلين، يُبيِّن لنا أن نفْعها في الحياة الدنيا يكون ـ أيضًا ـ نفعًا كبيرًا، وأن فائدتها في سلوكنا اليومي وفي تصرُّفاتنا، وفي أمَّتنا، وفي السَّكِينة تَغمر قلوبنا، وفي إزالة الحَيرة والخوف مِن قلوبنا.. في كل ذلك وغير ذلك مِن وُجوه الخير بالنسبة لنا، وبالنسبة لأهلنا.. كبير..
في فائدة الإيمان بالنسبة للفرْد
القوانين الإلهية الإيمانية المُتعلقة بالفرد
وإذا تحقَّق المؤمن بالإيمان الصادق، فإنه يكون قد فاز بخَيري الدارينِ. ومِن أعظم ما يفوز به أن الله يُصبح وَلِيَّهُ، ويُخرجه مِن الظُّلُمَاتِ إلى النور.
(اللهُ وَلِيُّ الذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ).
ويَهدِيه اللهُ الصراطَ المستقيم.
(وإنَّ اللهَ لهادِي الذينَ آمنوا إلى صِراطٍ مُستقيمٍ). ويتكفَّل الله بنَجاته.
(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذينَ آمَنُوا كذلكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤمنينَ).
ويتكفَّل الله بنصره في الدنيا والآخرة.(1/86)
إن الله ـ سبحانه ـ يُنَبِّهُ أولاً على أن النصر مِن عند الله .(ومَا النَّصْرُ إلَّا مِن عندِ اللهِ). ويُنَبِّهُ ثانيًا إلى: (إنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فلَا غَالِبَ لكمْ). ثم يُرشد إلى أن نصْر المؤمنين حق عليه ـ سبحانه ـ: (وكانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤمنينَ).
ويُؤكد ذلك مُبَيِّنًا أن نصره ـ سبحانه ـ يتضمن النصر في الحياة الدنيا، ولكنه لا يقتصر عليها وإنما يتحقق في الآخرة أيضًا يقول ـ سبحانه ـ: (إنَّا لَنَنْصُرُ رُسَلَنَا والذينَ آمَنُوا فِي الحياةِ الدُّنْيَا ويومَ يَقومُ الأشْهَادُ).
ولكنه ـ سبحانه ـ يُبيِّنُ في صورة لا لبْس فيها الذينَ يَنصرهم، فيقول (ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ).
والتقوَى داخلةٌ في نِطاق الإيمان ومِن قوانينها: (إنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لكمْ فُرقانًا ويُكَفِّرْ عنكمْ سَيِّئاتِكمْ ويَغفرْ لكمْ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظيمِ).
(ومَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حيثُ لا يَحْتَسِبُ).
والتوكُّل داخل في نِطاق الإيمان وقانونه: (ومَن يَتَوَكَّلْ علَى اللهِ فهو حَسْبُهُ). ومِن الإيمان الرحمة ولها قوانين:
الراحمون يرحمهم الرحمنُ.
ارْحَمُوا مَن في الأرض يرحمْكم مَن في السماء.
لا تُنزَع الرحمةُ إلا مِن قلب شقِيٍّ.
عدم الخِزْيِ في الدنيا والآخرة، وهذا القانون أعلنتْه السيدة خديجة ـ رضوان الله عليها ـ حينما أقسمت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلةً:
كَلَّا والله مَا يُخزيك الله أبدًا.
ثم علَّلت عدَم الخِزْي بقولها:
إنك لتصِلُ الرحِم، وتحمل الكل، وتُكسب المُعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. وهذا الوصف إنما هو تفصيل لأوضاع الرحمة أو هو الرحمة مُفصَّلةً، ومِن القوانين التي تتصل بالرحمة ما يلي:
مَن نفَّس عن مُؤمن كُرْبةً مِن كُرَبِ الدنيا نفَّس الله عنه كرْبةً مِن كُرَبِ يوم القيامة.(1/87)
ومَن نفَّس على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة.
ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدنيا والآخرة.
والله في عوْن العبد ما كان العبد في عوْن أخيه.
وما مِن شك في أن التوبة أوَّلُ المَعارج في سُلَّم الإيمان الصادق، ومِن قوانينها:
إن اللهَ يُحبُّ التوَّابِينَ.
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كانَ غفَّارًا يُرْسِلِ السماءَ عليكمْ مِدْرَارًا. ويُمْدِدْكُمْ بأَموالٍ وبَنينَ ويَجعلْ لَكمْ جنَّاتٍ ويَجعلْ لكمْ أنْهَارًا).
ويرسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيفية تحقيق الإيمان الصادق في طَيِّ حديثٍ رواه إمام المُحدِّثين الإمام البخاري ـ رضي الله عنه ـ في أصحِّ كتابٍ بعد كتاب الله ـ سبحانه وتعالى: يُخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثٍ قُدسي عن رب العِزَّة:
"مَن عادَى لِي وَلِيًّا فقدْ آذَنْتُهُ بالحرْب".
"ومَا تَقَرَّبَ إِليَّ عبدِي بِمِثْلِ أداءِ مَا افْتَرَضْتُ عليهِ. ومَا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتى أُحبَّهُ فإذَا أحببتُهُ كنتُ سمْعَهُ الذي يَسمع به، وبصَرَه الذي يُبصر به، ويَدَه التي يَبطشُ بها، ورِجْلَهُ التِي يَمْشِي بها، وإنْ سألَنِي أَعطيتُه، ولإنْ استعاذَني لَأُعِيذُهُ". ويُتوِّج كل ذلك قوله تعالى: (الذينَ آمنوا ولمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئكَ لهمُ الأمْنُ وهمْ مُهْتَدُونَ).(1/88)
في الإيمان والمجتمع
أمَّا الأمن في المجتمع، فإنه يُقاس بدرجة الإيمان في الأفراد، فكلما ازداد إيمان الأفراد أمِنَ الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وكلَّما خَفَّ وزْن الإيمان في النفوس اضطرب الناس واستولَى عليهم القلَق، فيما يتعلَّق بدِمائهم، وأعراضهم وأموالهم مهما كانت سيطرة القانون وقُوته، فالقوانين لا تَمَسُّ مِن الإنسان إلا الشكْل الظاهر.
أمَّا الإيمان فإنه يُسيطر على الكيان الإنساني كله. ومِن هنا كانت ضرورة الإيمان للمجتمع، وحاجة المجتمع للإيمان، وإذا ما سيْطرَ الإيمان على الكيان الإنساني كله كان المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يَتوادُّونَ ويَتعاطفون، ويَتآخَوْنَ في الله، يُصور رسول الله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ هذه الوِلاية خير تصوير فيقول:
"المُؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعضًا".
ويقول في رَوعة رائعةٍ:
"مثَل المؤمنينَ في توادِّهمْ وتَراحُمهمْ وتَعاطُفهمْ كمثَل الجسدِ الواحدِ إذا اشتَكَى منهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لهُ سائرُ الأعضاءِ بالسَّهَرِ والحُمَّى".
ويقول الله ـ تعالى ـ: (والمُؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهمْ أوْلِياءُ بعضٍ يَأْمُرونَ بالمَعروفِ ويَنهوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقيمونَ الصلاةَ ويُؤتونَ الزكاةَ ويُطيعونَ اللهَ ورَسولَهُ أولئكَ سيَرْحَمُهمُ اللهُ إنَّ اللهَ عزيزٌ حَكيمٌ).
والمؤمنون قوَّامون إذَنْ على المجتمع: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكنهم مِن قبل ذلك، ومن بعده يأتمرون في أنفسهم بالمَعروف. وينتهون في أنفسهم عن المنكر؛ لأنهم مؤمنون، ويُقيمون الصلاة، تزكيةً لنفوسهم وتطهيرًا لقلوبهم، ويُكررون الصلاة استدامةً لهذه التزكية واتباعًا لمَا أمر الله.
(إنَّ الصلاةَ كانتْ علَى المُؤمنينَ كِتابًا مَوْقُوتًا).
(إنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ).(1/89)
وهم يُؤتون الزكاة تطهيرًا وتزكيةً لأموالهم ونفوسهم وإعانةً للفقير والمسكين وصاحب الجاه. ومِن خصائص المُؤمنين التي ذُكرت في الكتاب والسُّنَّة وفي الآية السابقة، أنَّهم يُطيعون اللهَ ورسوله.
والقرآن يَقْرِنُ عادةً طاعةَ الرسول بطاعةِ الله ـ عز وجل ـ بل يجعل طاعةَ الرسول طاعةَ الله عز وجل: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فقدْ أطاعَ اللهَ).
ومِن هنا كان نزْعةً شيطانيةً: ذلك التيار الذي ينساب كالأفعَى مُشكِّكًا في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُزلزلاً لمَنزلتها في النفوس باسم البحث العلمي، وما هو مِن البحث العلمي في شيء، وإنما هو حب الظهور، وحبُّ الشُّهْرة واتباع الهوى على حساب الحق وعلى حساب الإيمان والأمن والسلام الرُّوحي.
وإنه لمِنَ المعروف أن حب الشهرة إنما هو مِن مُرَكَّبَاتِ النقْص، التي تقود الإنسان إلى ارتكاب كل مُوبِقَةٍ، ولسنا بصدد الحديث عن هؤلاء الآن، وإنما نُريد أن نُبيِّن أن الآية الكريمة السابقة التي أضفَتْ على المؤمنين هذه الأوصاف السامية تنتهي بقوله ـ تعالى ـ تفضُّلاً عليهم وتَبشيرًا لهم: (أُولئكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ).
إنهم إذنْ ناجونَ، وهم مُنتصرون، وهم في قبَسٍ مِن رحمة الله لا ينقطع، وما ذلك إلا لإيمانهم، وليس إيمانهم الذي نالوا به هذه المنزلة بالأمر الهيِّن.
فالإيمان بِضْعٌ وسبعونَ شُعبة، أدْناها إمَاطة الأذى عن الطريق "لا يُؤمن أحدُكمْ حتى يُحبَّ لأخيهِ ما يحبُّ لنفسه"، والمؤمن مَن أمِنَهُ الناسُ على أنفسهم وأعْراضهم وأمْوالهم.
والمؤمن كله مَنفعة إنْ شَاوَرْتَهُ نفعَك، وإنْ شاركتَه نفعك، وإنْ ماشيته نفعَك، فأَمْره كله مَنْفعة.(1/90)
ولقد كان صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم ـ يَجلسون حوله، وإذا بهم يَسمعونه يقول: "واللهِ لا يُؤمنُ، واللهِ لا يُؤمنُ، فاستفسرَ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عن الأمر، فقال: "مَن باتَ شبعانَ وجارُهُ جائعٌ إلى جَنْبِهِ وهو يَعلمُ".
ويقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: "مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جارَه ولْيَصِلْ رَحِمَهُ، ولْيَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ".
وهكذا الإيمان لو تَتَبَّعْنَا جميع جوانبه، لوَجدنا أثَره في المجتمع كبيرًا، ولوجدناه إيجابيًّا لا سلبية فيه.
وللإيمان مَوازينُ لا تُخطئُ يَزِنُ بها نفسه مَن يدَّعِي الإيمان، ويزعم أنه في زُمرة المُؤمنين، نذكر مِن ذلك قولَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأل بعض أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ: "أتَصْبِرُونَ عندَ البَلاءِ؟ قالوا نعَم: أتَشْكُرُونَ عندَ الرخاء؟ قالوا: نعَمْ، أتَثْبُتُونَ عند الحرب واللِّقاء؟ قالوا: نعم، قال: مُؤمنونَ ورَبِّ الكعبة".
أمَّا بعدُ: فإن الله ـ سبحانه ـ أوجز لنا تحديد المؤمنين في كلمات قليلة تتضمَّن مِن المعاني الشيءَ الكثير فقال ـ سبحانه ـ في كتابه الكريم: (إنَّمَا المُؤمنونَ الذينَ آمَنُوا باللهِ ورَسُوله ثُمَّ لمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بأَمْوَالِهمْ وأنْفُسِهِمْ في سبيلِ اللهِ أولئكَ همُ الصادقونَ). وهذه الآية مُبتدِئة بأداة الحصْر هي المقياسُ الصحيح للإيمان.
فمَن ظنَّ بنفسه الإيمانَ فلْيَنْظُر إلى هذه الآية فإن وَجد أنها لا تَتحقق فيه فلْيَعملْ على إكمال نفسه، ومَن رأى أنه يُمثِّلها فلْيَحمدِ الله مَصدر الهداية والتوفيق.
ويَشكره ـ سبحانه ـ على ما تفضَّل به عليه.(1/91)
في نتيجة النطق بالشهادتينِ
إذا نَطَقَ الإنسانُ بالشهادتينِ ـ أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ـ فهو مسلم ولزِمَه أن يُؤدي جميع فرائض الإسلام فيجب عليه أن يُقيم الصلاة، ويُؤتي الزكاة، ويَصوم رمضان، ويَحج البيت إنْ كانَ مُستطيعًا، ومَنِ امْتَنَعَ عن أداء رُكنٍ مِن هذه الأركان لا يُخرجه ذلك مِن الإسلام إلا إذا كان امْتناعه عن إنكار وجُحود لهذا الركن أو ذاك.
فمَن امْتنع عن أداء الزكاة تَهاوُنًا فهو مسلم عاصٍ مُطالَبٌ بأدائها، أمَّا إذا كان امتناعه عن إنكار فَريضتها، فإنه يَكفر بذلك ويَخرج مِن عِداد المسلمين؛ لأنه أنكَر ما علِم مِن الدين بالضرورة.
ولقد حارَب سيدُنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ المُمتنعِينَ عن أداء الزكاة بعد انتقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى، وإنما حاربهم سيدنا أبو بكر حرْبَ مُرْتَدِّينَ؛ لأنهم أنكروا أن تكون الزكاة مِن أركان الدين، أو مَن أقرَّ أنها مِن أركان الدين ومع ذلك لم يُؤدِّها فمثله كمثلِ مَن يعترف أن الصوم ـ مثَلاً ـ مِن أركان الدين ومَع ذلك لا يصوم، إنَّ هذا أو ذاكَ ما دامَا مُقِرِّينَ فهُمَا مِن عُصاة المسلمين، أمَّا مَن أنكر فهو كافر..(1/92)
في الدليل المُقنع على وُجود الله
الدليل المُقنع على وُجود الله آثاره المُشاهدة التي لا يُمكن أن تكون موجودةً بغير قوةٍ كبرى على قُدرةٍ وعلْمٍ وصفاتٍ يَصْدُرُ عنها هذا الإبداع وهي قوة الله ـ تعالى ـ: والإيمان بوجود الله حقيقةٌ مُقرَّرة في فِطْرة الإنسان منذُ خُلق، والرجل البدويُّ حين سُئل عن وجود الله بفِطْرته فقال: البَعْرةُ تدلُّ على البعيرِ والأثَرُ يدلُّ على المَسير، فسماءٌ ذات أبراج.. وأرضٌ ذات فِجاجٍ، وبِحار ذات أمواجٍ، أفلا يدلُّ ذلك على اللطيف الخبير؟ وأنت تعلم أن آدمَ خُلق وهبَط إلى الأرض وفي قلبه هذه الحقيقة، ونشأت ذُريَّته الأولَى على هذا الإيمان ولمَّا تفرَّقوا في طول البلاد وعرْضها، شغلَهم طلَبُ العيش والمأوى عن التفكير في خالِق هذا الكوْن وهَدَتْهُمْ فِطْرتُهم إلى أن هناك مَن هو أقوى منهم يُسيرهم ويُسيطر عليهم بما يَرونه مِن كواكبَ ومخلوقاتٍ شتَّى حاولوا التقرُّب إليها أو التحصُّن ضدَّ خَطَرها، وكما يُحدثنا علماء الفلسفة والأجناس البشرية رُموزًا إلى هذه القوة الخفيَّة بما يُعبر عن عقيدتهم في شكل تمثال أو غيره.
ومِن هنا جاءتِ الرسلُ لِتَلْفِتَ أنظارَ الضالِّينَ إلَى حقيقةِ الألوهية.
ومهما يكن مِن شيء فإن علماء العصر الحديث على الرغم مِن تنكُّرهم للدِّين الذي عاشوا في ظِلِّه قُرونًا وحَرَمهم كثيرًا ممَّا يُحتِّمه انطلاق الفكر ونشاط الإدارة، فلم يستطيعوا أن يُنكروا وُجودَ إلهٍ وراء هذه المادة التي هي وِعاءُ علْمهم وتَجاربهم، وكان أسلوبهم في البحث بعيدًا عن الأسلوب التقليدي الديني الذي ثاروا عليه، ولو شئتَ لأوردتُ لكَ كثيرًا مِن أقوال كِبارهم في إثبات وُجود الإله، ولكني أُحِيلُكَ على كتاب: (الله يتجلَّى في عصر العلْم) الذي جمع فيه
"جون كلوفرموسما" الباحث الديني الاجتماعي كثيرًا مِن شهادات علماء أمريكا المُتخصصين في سائر العلوم بما يُؤكد اعتراف العلْم بوُجود الله.(1/93)
وإن شئتَ دليلاً على طريقة المُتكلمينَ وعلماء التوحيد على وُجود الله أُحِيلُكَ على رسالة التوحيد للشيخ: محمد عبده: "ولعلَّكَ تُوفَّق إلى فهْم الأسلوب الموضوع للاستدلال على وُجود الله ـ سبحانه. اعتقدْ أيها السائل أنك ما دُمتَ مسلمًا ومؤمنًا ـ بالتالي ـ بوُجود الله فلا تشغل نفسك بأمر لا يُعْنَى به إلا الفلاسفة والعلماء المُختصون الذين يُنفقون وقتًا كبيرًا في الجدَل والمُناقشة.(1/94)
في المُعجزة تدلُّ على صدق الرسول
إن قيام سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدعوة إلى دينٍ جديد حقيقة تاريخية مُقرَّرة، لا ريبَ فيها وتلكَ آثارها شاهدُ صدْقٍ عليها، ولمَّا جاء بالدعوة وكذَّبه قومه وطلبوا منه ما يُثبت صِدْقه بالإضافة إلى ما عرفوه عنه مِن صدْقٍ وأمانة، وقد انتزَع منهم هذا التصديق المبدئي بقوله: "أرأيتُمْ لو أخبرتُكم أن خيلاً وراء هذا الوادي، تُريد أن تُغير عليكم أكنتُم مُصَدِّقِيَّ"؟ قالوا: ما جرَّبنا عليك كذبًا، فقال لهم: "إني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديد".
فلمَّا كذَّبوا جاءهم بالقرآن مُتحدِّيًا به فعَجزوا وبعَشْر سُورٍ فعَجزوا وبسورة فعَجزوا على الرغم مِن أنهم فُرسان البلاغة والفصاحة، وقد نصَّ على ذلك قول الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتمعتِ الإنْسُ والجِنُّ علَى أنْ يَأْتُوا بمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بمِثْلِهِ ولو كانَ بَعْضُهمْ لبعضٍ ظَهِيرًا).
وحيث إنهم عجزوا عن مُحاكاة علْم أنه ليس مِن صُنْعه، فيكون مِن صُنع الله وحده الذي جعل المعجزة دليلاً على أن الرسول مبعوثٌ مِن عنده، وقد صحَّ في الحديث المُتَّفق عليه مَا مِن الأنبياء مِن نبيٍّ إلا وقد أُعطيَ مِن الآيات مَا مِثْلُه آمَنَ عليه البشَر وإنما كان الذي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أوْحَاهُ اللهُ إليَّ فأرجو أن أكونَ أكثرَهم تابعًا يوم القيامة.
وإذا صَدَّقنا بالقرآن صدقنا برسالة سيدنا محمد وبكل ما جاء به، فالآيات في القرآن كثيرة تُثبت رسالةَ جميع الرسل السابقينَ وإنْ شئتَ توضيحًا لهذه الحقيقة فارجع إلى رسالة التوحيد
"للشيخ: محمد عبده".(1/95)
في الإسلام صالح لكل زمان ومكان
إن الإسلام هو آخر الأديان جميعًا، وهو صالح لكل زمان ومكان، وبحيث يتمشَّى مع تطوُّر البشرية في عصورها المختلفة ويُناسب كل بيئة مهما كان مُستواها، وذلك بفضل قواعده الكلية ونُصوصه الجامعة، التي تَدَعُ مجالاً واسعًا للتفسير والتطبيق على الأحداث والقضايَا المُتجدِّدة والمُتنوعة، وتوضيح ذلك يحتاج إلى مساحةٍ واسعةٍ، وأُحيلك إلى كتاب: "الإسلام دين عام خالد" للمرحوم: محمد فريد وجدي.
أما مِن جهة مُسايرته للتقدُّم العلمي الحديث وما جاء به مِن كُشوف، فإن الإسلام كرَّم العقل وقدَّره، وحثَّ على النظر والفكر والتدبُّر في مَلكوت السماواتِ والأرض، وشجَّع كل باحث على البحث مهما كانت النتيجة التي يصل إليها، فله أجرٌ إنْ أخطأ، وأجرانِ إنْ أصاب، وما جاء به العلْم مِن كشوف في العصور الزاهية للإسلام وفي عصر النهضة الحديثة، فإنما هو نَفْحة مِن نفحات السياسة العلمية التي لم يَجئ في غير الإسلام ما يُضاهيها قوةً ودقة وتشجيعًا، وهو لم ينصَّ على اكتشاف مُعيَّنٍ، فما أكثر الاكتشافات، وحتى يجعل لبعضها نوعًا من الاهتمام، يُثير جدلاً، وأن يَحُثَّ على البحث قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أنْفُسِهِمْ حتَّى يَتَبَيَّنَ لهمْ أنَّهُ الحقُّ). وقد حاول بعض الناس أن يلْتمسوا نُصوصًا صريحةً تَدُلُّ على اكتشاف مُعيَّن، ولكنهم تَعَسَّفُوا في التأويل بما لا حاجة إلى القرآن، فكيفية التشجيع العام للعلْم وتكريم العلماء وتسخير الكون كله أرضه وسمائِهِ لنشاط عقله وفكْره وعمله..(1/96)
في أن لكلمة: "الإسلام" مَعنيينِ:
أحدهما عامٌّ، والآخر اصطلاحيٌّ خاصٌّ:
إن المعنى العام هو: إسلام الوجه لله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو بهذا المعنى: لا يَتقيَّد بزمانٍ ولا مكان ولا بشخص، فإلْقاء الإنسان بنفسه بين يَدَيِ الله ـ تعالى ـ مُستسْلمًا لمَا يريد خاشعًا لرُبوبيته طالبًا لمَرضاته.. إن هذا المعنى لا يتقيَّد بماضٍ ولا بحاضر ولا بمُستقبل، إنه المعنى الخالد الذي يجب أن يكون عليه كل إنسان في صلته بالله ـ سبحانه وتعالى ـ بل هو المعنى والدليل الوثيق لكلمتي: "الدِّين" ومِن أجل ذلك كان التعبير القرآني: (إنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسْلامُ).
وتفسير الدين بأنه الإسلام: كان ذلك أعمقَ تعبير وأصدق تفسير، ولا يتأتَّى ولن يتأتَّى أن تجد لكلمة: "الدِّين" تفسيرًا أصدقَ ولا تعبيرًا أرْقَى مِن كلمة: "الإسلام".
ومِن أجل ذلك كانَ مًنطقيًّا أن يكون سيدنا آدم مُسلمًا، وأن يكون سيدنا نوح مُسلمًا، وأن يقول سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل: (رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسلمَينِ لكَ ومِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسلمةً لكَ). وأن يُوصي سيدنا إبراهيم وسيدنا يعقوب أبناءهما بالإسلام: (ووَصَّى بِهَا إبراهيمُ بَنِيهِ ويَعقوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللهَ اصْطَفَى لكمُ الدِّينَ فلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وأنتمْ مُسلِمُونَ).
وهكذا الأمر بالنسبة لجميع الأنبياء: فقد كانوا جميعًا مِن المسلمين..
أما المعنى الاصطلاحي الخاص فإن هذا الدين أوحاه الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي جاهد الرسول وكافَح لنشْره في مكة طِيلةَ ثلاثَ عشرةَ سنةً، وأُخرج منها بسببه، فهاجر تاركًا الأهلَ والعَشيرة ومَسقط الرأس في سبيلِ الله، ثم أخَذ يُكافح ويجاهد في المدينة المنورة طيلة عشْرِ سنواتٍ، حتى بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة إلى آخر ما نزل مِن وَحْيٍ(1/97)
(اليومَ أَكْمَلْتُ لكمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عليكمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لكمُ الإسلامَ دِينًا).
وتتمثَّل مبادئ هذا الإسلام بصورة عامة في: "شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصوْم رمضان وحجِّ البيت لمَنِ استطاع إليهِ سبيلاً".
وتتمثل هذه المبادئ في كل ما أتى به القرآن مِن عقائدَ ومِن أخلاق ومِن تشريع..
إن المعنى الاصطلاحي الخاص للإسلام يلتقي الْتقاءً تامًّا بالمعنى العام يصل هذا الالْتقاء إلى حدِّ التطبيق والشرح والتفسير.
إن كل جُزئية مِن جزئيات المعنى الاصطلاحي الخاص، إنما كان باعثها إسلام الوجه لله وغايتها، وفي نفسها صورة مِن إسلام الوجه لله، وضمْن آية جُزئية: خُذِ الزكاة مَثَلًا: فإن باعثها أن يتخلَّى الإنسان عن المادة بعد امتلاكها مَرْضاة لله واتباعًا لأمره، وأمَّا نتيجتها: فهي تُخلي الإنسان عن أن يُستعبد للمادة في سبيل إسلام الوجه لله وحده، وهي في نفسها تزكيةٌ للنفس عن أن تكون متعلِّقةً بغير الله، وكل هذا إنما قوة إسلام الوجه لله، وقد مثَّلنا بالزكاة مُتعمِّدين؛ لأن غيرها مِن الصلاة والحج والشهادة، والصوم أوضح في تصوير إسلام الوجه لله.
وهكذا يلتقي المعنى العام بالمعنى الاصطلاحي الخاص "ولا يوجد تعبير وإيضاح للمعنى العام إلا هذا الذي بين دفَّتَيِ القرآن الكريم.(1/98)
في الحِكْمة من إرسال الرُّسُل
يقول الله ـ تعالى ـ مُعبِّرًا عن الحِكْمة في إرسال سيِّد الخلْق: (هو الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهمْ يَتْلُو علَيْهمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِن قبلُ لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). ومِن دعاء سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل، وهما يَرْفعانِ القواعد مِن البيت قولهما: (رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهمْ رَسولًا مِنهمْ يَتْلُوا عليهمْ آياتِكَ ويُعلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُزكِّيهِمْ إنَّكَ أنتَ العزيزُ الحَكِيمُ).
مِن هذه الآيات ومِن غيرها: نعلم أن الحِكْمة في إرسال الرُّسل، إنَّما هي: تبليغ آيات الله ـ تعالى ـ أيْ تعاليمه وأحكامه وتكاليفه إلى بني البشر، إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يُرد أن يَترك البشر دون هداية في الأمور الأساسية لبناء المجتمع وهي: العقيدة والأخلاق والتشريع، فأرسل لأهل الأرض الدُّستور السماويَّ، الذي يُؤدي اتباعُه والعمل به إلى تزكية النفس وتطهيرها وصَفائها، فالأديان والرسل إنما كانوا لبيان الأسس والقواعد، التي لا يقوم المجتمع الصالح بدُونها وكانوا ـ أيضًا ـ لمصلحة الفرد، التي تتمثل في الارتفاع إلى مستوى التزكية والطهر والصفاء، وهو مستوى يجد فيه مَن يُحققه السعادة كل السعادة، والبهجة كل البهجة، ويشعر مَن يرتقي في مَعارجه مُنغَمِسًا في نور هداية الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالسَّكِينة تُحيط به، وبالطُّمَأْنينة تَملأ جميع أقطاره، ويَشعُر فوق كل ذلك برِضوانٍ مِن الله أكبر، فحِكْمة إرسال الرسل ـ إذن ـ إنما هي إسعاد المجتمع وإسعاد الفرد والرُّقُيُّ إلى المستوى الذي يَرضاه الله لهما.(1/99)
في موطن الرسالة
يقول الله ـ تعالى ـ لرسوله ـ صلوات الله عليه ـ في شأن الرسل: (ورُسُلًا قدْ قَصَصْنَاهُمْ عليكَ مِن قَبْلُ ورُسُلًا لمْ نَقْصُصْهُمْ عليكَ).
يقول ـ سبحانه ـ: (ولقدْ أَرْسَلْنَا رُسلًا مِن قَبْلِكَ مِنهم مَن قَصَصْنَا عليكَ ومِنهم مَن لم نَقْصُصْ عَلَيْكَ). فالرسل كثيرون، وربما كان لم يَعلم منهم أكثر ممَّا علِمنا، وأماكن مَن لم نعلم منهم مَجهولة لَدَيْنَا، والقوْل إذنْ بأن الله اختار الوطن العربي؛ ليكون مَهبط الرسالات السماوية ربما يكون فيه بعض التسامُح.
ولكنه ـ ممًّا لا شك فيه ـ أن الرسالات السماوية الكبرى الأخيرة نزلت في الوطن العربي.
لقد اختار الله ـ سبحانه وتعالى ـ موسى وعيسى ومحمدًا بالذات ـ صلوات الله عليهم ـ فتَحدَّد المكان الذي نَزلوا فيه، فالمكان تابِع للرسول واختيار الرسول هو الذي حدَّد مكان الرسالة.
وأمَّا صفات المُواطنين الذين كانوا مع الرسول، وحملوا لواءَ الدعوة معه وبعده، فإنها صفاتٌ وأثَرٌ من آثار تربية الرسول نفسه، وكل رسول إنما مُعَلِّمٌ ومُرَبٍّ، إنه يعمل منذ الكلمات الأولى للوحْي على أن يَغرس خُلُق الخير والفَضيلة في طائفةٍ يُربيهم تربيةً دينيةً هادفةً مَقصودةً؛ ليحملوا الرسالة وينشروا كلمة الله في مَشارق الأرض ومغاربها، ومِن ذلك نتبيَّن أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما اختار أولاً وبالذات إنسانًا فتحدَّد بذلك المكان، واكتسب المكان نُورًا مِن نور الرسول، فكان مُشَرَّفًا يُشرِّف الرسول، وخير مكانٍ هو مكان خير الأنبياء والمُرسلين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ والله أعلم.(1/100)
في خِلافة الله في الأرض
يقول الله ـ تعالى ـ لملائكته: (إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خليفةً)..
ولقد استحقَّ الإنسان خِلافةَ الله في الأرض؛ لأن الله ـ سبحانه ـ خلقه ووضَع فيه الاستعداد للتخلُّق بأخلاق الجمال، التي هي لله ـ سبحانه ـ ومِن المعروف أنه مطلوب مِن كل شخص أن يتخلَّق بأخلاق الجمال، التي لله ـ سبحانه ـ فالله مَثَلاً: سمَّى نفسه الرحمن، بل جعل هذه الصفة تاليةً للاسم الكريم أعنِي "الله" قال ـ سبحانه ـ: (قُلْ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرَّحمنَ) ومطلوب مِن الإنسانِ أن يكونَ رحيمًا، ولقد أُعِدَّ لأنْ يكون رحيمًا إذا شاء، والله ـ سبحانه ـ كريم ومَطلوب مِن الإنسان أن يكون كريمًا وفيه الاستعداد أن يكون كريمًا.
وهكذا خلَق الله الإنسان مُستعدًّا للرحمة والكرم والمغفرة والعفْو والسلام والعلْم والسمع والبصر.. وغير ذلك..
وكل ذلك مِن صفاته ـ سبحانه وتعالى ـ والله ـ سبحانه ـ خالقٌ مُصوِّر ومُبْدِع، وفي مُقابل ذلك بالنسبة للإنسان العمل والكدْح في الأرض جعلها الله ذلولاً له، وسخَّرها له، بل سخَّر الكون كله له مِن سمائه وأرضه وما بينهما ليستخدم كل ذلك للعلْم بالعلْم والعمل، واستحق الإنسان خِلافة الله في الأرض إذنْ بهذه الصفات الخيِّرة، وبالفعل المُتواصل، أمَّا إذا لم يكن كذلك بأن كان شرِّيرًا أو كان كسولاً، فإنه يكون قد تخلَّى عن الرسالة التي هيَّأه اللهُ لها، وهي رسالةُ الخِلافة فلا يكون أهلاً لها.
والله أعلم…(1/101)
في معنى الإيمان في الكِتابِ والسُّنَّة
لقد حدَّد القرآن مفهوم الإنسان بأنه عقيدةٌ وعمَلٌ، قال تعالى:
(إنَّما المُؤمنونَ الذينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبهمْ وإذَا تُلِيَتْ عليهمْ آياتُهُ زَادتْهُمْ إيمانًا وعلَى رَبِّهمْ يَتوكَّلُونَ. الذينَ يُقيمونَ الصَلاةَ وممَّا رَزَقْنَاهمْ يُنفقونَ. أولئكَ همُ المُؤمنونَ حَقًّا لهمْ دَرَجاتٌ عنْدَ رَبِّهِمْ ومَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كريمٌ).
وقد كان ممَّا أمَر الرسولُ به وَفْدُ عبد القيس الإيمان بالله وحده ـ قال: أتَدْرُونَ ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأنْ تُعطوا مِن المَغْنم الخمس، فقد أوضح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقيقةَ الإيمان في مفهوم الشرع بأنه يشتمل مع التصديق القلبيّ على الأعمال وهذا ما فهِمه السلَف والمُحْدَثون ومنهم الإمام البخاري.(1/102)
في فائدة الإيمان بالنسبة للمجتمع
تُقاس درجة الأمن في المجتمع بمِقياس درجة الإيمان في أفراده، فكلَّما ازداد إيمانُ الأفراد أمِن الناس على دِمائهم وأعراضِهم وأموالهم، وكلما خفَّ وزْن الإيمان في النفوس اضطربَ الناس واستولَى عليهم القلَق فيما يتعلق بأموالهم وأعراضهم مهما كانت سيطرة القوانين، فالقوانين لا تَمَسُّ مِن الإنسان إلا الشكل والظاهر.
أما الإيمان فإنه يُسيطر على الكيان الإنساني كله، ومِن هنا كانت ضرورة الإيمان للمجتمع وكانت حاجة المجتمع للإيمان.(1/103)
في مظاهر الإيمان
إن مقاييس الإيمان ومظاهره كثيرة، وتتَّخذ أساس ذلكَ حديثًا صحيحًا رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة يقول رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ: الإيمان بِضْعٌ وستونَ شُعبة، والحياءُ مِن الإيمان، وقد قسَّم سادتنا العلماء تلك الشُّعَب في ضَوء الأحاديث الشريفة والآيات القرآنية إلى ما يختصُّ منها بالقلب، وما يختصُّ باللسان، وما يَختصُّ بالبدَن، فالحب في الله والبُغض في الله مِن الإيمان، ولا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه مَا يحب لنفسه، وإن الذي يُؤذي جاره ليس بمُؤمن، وليس بمؤمنٍ مَن شبع وجاره جائع، وإن الجهاد مِن الإيمان، والإنصاف مِن النفس مِن الإيمان، وبذْل السلام والإنفاق مِن الإيمان ويتغلغل الإيمان في الحياة الاجتماعية، حتى يصل إلى السهل مِن أمرها والمَيْسور، فتكون إمَاطة الأذَى عن الطريق مِن الإيمان، وإذا ما تغلغل الإيمان في النفس وَجَد المؤمنُ حلاوةَ الإيمان، وشرطها أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحب المرءَ لا يُحبه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعود في الكُفر كما يكره أن يُقذَف في النار..(1/104)
في هل الشكُّ يُنقِص الإيمان؟
مَن عَلِم أنه خُلِق مِن عدَمٍ وأنَّ مَن خلَقه قادر على أن يَبعثَه بعد موته، ويُحاسبه على ما قدَّم لنفسه مِن خير أو شرٍّ، ومَن علِم أنه ليس في طوْق أحدٍ أن يَمنح الحياة لأيِّ شيءٍ حتَّى الذُّباب آمَنَ بربه، وأذْعَن لأمره؛ لأنه لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وآمَن بالقضاء والقدَر وحسْبه أنه قد يرى فِعْلَ شيءٍ لَدَيْهِ كل أسباب فِعْله، ولكنه لا يَتيسَّر له ذلك فمَنِ الذي حالَ بينه وبين فعْل ما يُريد، أليس هو الله رب العالمين؟ والشك يُنقص الإيمان، وقد يذهب به كله، ونَعوذ بالله مِن زوال الإيمان أو نَقْصه.
وعليك كلما مرَّ بك خاطر الشك أن تستعيذ بالله مِن الشيطان الرجيم. وأن تقول: بسم الله ذِي الشان، عظيمِ البُرهان، شديد السلطان ما شاء الله كان، أعوذ بالله مِن الشيطان. ثلاثًا.
أعوذ بكلمات الله التامَّات مِن غضَبه وعِقابه ومِن هَمزات الشياطين وأن يَحْضُرُونَ ـ ثلاثًا.
ربِّ أعوذُ بكَ مِن همَزات الشياطينِ، وأعوذُ بكَ ربِّ أنْ يَحضُرونَ. ثلاثًا.
يا مُقَلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبي على دِينكَ ـ ثلاثًا.
وتَستديم قراءة هذه الأحاديث عقِب كل صلاة، فإنَّ ذلك يَذهب بالشك الذي لدَيْك إن شاء الله، ويجعلك مِن المُحافظين..
وأنصح لك ألاَّ تُعارض قول: اللهُ ربِّي لا أُشرك به شيئًا، فإن لهذا الحديث أثرًا كبيرًا في إصلاح أحوال ذَوِي النفوس المَريضة.
والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/105)
بين العقل والدِّين
لا يتأتَّى التعارض بين القرآن الكريم والعقل:
وذلك أن القرآن الكريم لا يَأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلْفه، وهو آياتٌ بيِّنات في صُدور الذين أُوتُوا العلم، وقد نزل القرآن الكريم هدايةً للعقل في الأمور، التي إذا تُرك العقل وحده فيها لتَعرَّض ـ دون شك ـ للضلال، وهذه الأمور التي لا يستطيع العقل أن يسير فيها إلا على هُدًى من الله ـ تعالى ـ هي: مسائل العقيدة، ومبادئ الأخلاق، وقواعد التشريع، ونظم المجتمع. وحينما نستعرض تاريخ الفكْر البشري في هذه المسائل نجد العقل، قد تخبَّط فيها حينما انفصل عن الدِّين، وما كانت رسالاتُ الأنبياء إلا لقيادةِ الإنسانية إلى الحق في أمور العقيدة والأخلاق والتشريع.
ولكن الأهواء تتسلَّط أحيانًا فتُخيِّل للإنسان أنها عقلياتٌ فيَسير الإنسان وراءها مع أنها مُجرَّدُ أهواءٍ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول:
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ وأَضَلَّهُ اللهُ على عِلْمٍ..).
ويقول تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا…).
وكل مَن يرى تعارُضًا بين النصِّ والعقل، يجب عليه أن يعود إلى نفسه ويتأمَّل مِن جديد، وكثيرًا ما يكون هذا الذي يُسمَّى تعارُضًا بين النص القرآني والعقل، إنما هو تعارُض بين النص والعادات المألوفة، ومألوفات الناس في حياتهم العادية لا تتحكَّم في النصِّ، وخوارق العادات التي يُجريها الله ـ تعالى ـ على يدِ بعض أنبيائه أو على يد بعض أوليائه، إنما هي خوارقُ عاداتٍ، وليست خوارقَ عقليات.
وعلينا ـ إذنْ ـ أن نتدبَّر في تأمُّل كل ما يُمكن أن نتوهَّمه تعارُضًا بين النص والعقل فسنرى في النهاية أن النصَّ والعقل يَسيرانِ في انسجام. تام..
والله أعلم..(1/106)
في مشكلة القدَر
"اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فقدْ كُفِيتُمْ".
هذا الحديث الشريف يُلخص المنهج الذي نُحب أن يَسير عليه العالَم الإسلامي في أمْر العقيدة.
نُحب أن يَسير عليه رأيًا وفكرةً، ونُحب أن يَسير عليه ـ من قبلُ ـ استعدادًا وتأهُّلاً. وهذا الاستعداد والتأهُّل يتأتَّى على الخصوص بوساطة دُور التعليم في جميع مَراحله والصحافة والكتب التي تُنْشر.
وهذا الحديث الشريف يُسانده في معناه ما لا يكاد يُحصى مِن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والآثار التي وَرَدتْ عن كبار الصحابة وكبار التابعين. يقول الله تعالى:
(اليومَ أَكْمَلْتُ لكمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عليكمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لكمُ الإسلامَ دِينًا).
لقد كمُل الدين، فكفانا الله كل ابتداع، وإذا كان الدين كاملاً، فما علينا إلا الاتباع، أما طريقة الاتباع فقد حدَّدها الله في الآية الكريمة التي سبق ذِكْرُها، والطريقة إذن أن نتبع الآيات المُحكمات في فَهْمٍ ووعْيٍ وتأييدٍ، وهي ليست مَثَار جدَل ولا خُصومة، وليست مَجال نِزاع يَحتدمُ، أو أهواء تثور، وأن نُؤمن بالمُتشابه كما وَرَد، وألا نَتَّبِعَهُ مُتَأَوِّلِينَ.
فإنَّ تَتَبُّعَ المُتشابه، إنما ينشأ عن القلوب التي تلوَّنت بالزَّيْغ والانحراف، وهي التي تتبعه ابتغاء الفتْنة، وتتبعه لتأويله، وتأويلُه إنما يعلمه الله.
ولكن ما هذا المُتشابه؟:
لقد اختَلفَ فيه أئمتُنا، ولا نُريد أن نتعرض لهذا الاختلاف، وإنما نُريد أن نقول، في اطمئنان وثِقة:
إن المسائل التي نهى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الخوض فيها والمسائل التي كان الاتجاه العام في عهد الخلفاء الراشدين يُنفِّر مِن الخوْض فيها هي مِن المُتشابه، فالمُتشابه ـ إذنْ ـ هو ما تَنْفِرُ منه الروح العامة للدين الإسلامي في عهده الأول: عهد الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وخلفائه الراشدين وتتحرَّج مِن الخوض فيه. مثل ماذا؟(1/107)
أمَّا أُولَى مسائل المُتشابه التي نُريد أن نتحدث بتوفيق الله ـ تعالى ـ عن شيء مِن تاريخها فهي مسألة القدَر.
لقد شَغلت مسألة القدَر، أو الجبْر والاختيار، أو أفعال العباد، عقول الإنسانية منذ أن كان الدِّين، أيْ منذُ ابتداء الإنسان على ظهر الكرة الأرضية.
وإذا أُثِيرت مسألة القدَر في أيِّ وسط كان، مهما كان قليل العدد فإنها تَقْسِمه إلى قسمينِ: يقول أحدهما بالجبر، والآخر يقول بالاختيار.
لقد أثارها اليهود في دِينهم ففرَّقت بينهم، وقال بعضهم بالجبر، وقال الآخرون بالاختيار. وأُثِيرتْ في الدِّيانة النصرانية على مجرى التاريخ فكان النزاع والجدَل وكان التحيُّز لرأي والتعصُّب له، وانقسم رجال المسيحية إلى فريقينِ يَختصمانِ، وأراد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يتلافَى انشقاق الأمة بسبب إثارة هذه المُشكلة، فكان ينهى دائمًا عن إثارتها وعن الجدال فيها، رَوى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه قال: "خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه ذات يوم، وهم يتراجعون في القدَر، فخرج مُغضِبًا حتى وَقَف عليهم، فقال: يا قوم: بهذا ضَلَّتْ الأمَمُ قبلكم، باختلافهم على أنبيائكم، وضرْبهم الكِتابَ بعضُه ببعض، وإنَّ القرآن الكريم لم ينزل لتضربوا بعضَه ببعضٍ، ولكن نزل القرآنُ فصدَّق بعضُه بعضًا، ما عرفتم منه فاعْمَلُوا به، وما تَشابَهَ فآمِنُوا به".
وعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نتنازع في القدَر، فغضب حتى احمرَّ وَجْهُه، ثم قال: أبِهذا أُمِرْتُمْ، أم بهذا أُرسلتُ إليكم، إنما هلك مَن كان قبلكم حين تنازَعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم ألاَّ تَنازَعُوا".
واتَّخذ رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ موقفًا حاسمًا حازمًا بالنسبة لمنْع الخلاف في هذه المسألة أو حتى مُجرد إثارتها.(1/108)
ومضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ راضيًا مَرْضيًّا، وهو لا يسمح حتى النفَس الأخير مِن حياته الشريفة، بأن تُثار هذه المسألة.
ولم تَثُرْ هذه المسألة في عهد سيدنا أبي بكر لانشغال المسلمين بتَوْطِيدِ دعائم الأمة الإسلامية مُنصَرِفينَ بذلك عن العبَث في دين الله.
وكانت دِرَّةُ سيدنا عمر كفيلةً بردِّ كل مَن تُحدثه نفسُه بإثارة هذه المشكلة إلى جادَّة الصواب. ومسألة القدَر إذنْ: مِن المُتشابه، إنها مِن أهم مسائل المتشابه، وهي فضلاً عن ذلك عصيَّة على الحلِّ. إنها ليست قابلةً للحل، وهي ليست قابلةً للحل سواء أُثيرتْ في الشرق أو في الغرب، وسواء أثيرت في القديم أو في الحديث، أو أثيرت في البادية أو في الحضَر، إنها مُفرِّقة بين الباحثينَ فيهَا، ومهما طال الجدل بينهم فلن يَنتهوا إلى نتيجة، ومِن أجل ذلك كانت الروح الإسلامية العامة تُحرِّم الخوض فيها.
ومع ذلك فقد بدأت هذه المشكلة تتسلَّل شيئًا فشيئًا، إلى المجتمع الإسلامي حتى لقد احتلَّت يومًا مَا مركز الصدارة في الفكر الإسلامي النظري.
ولقد مهَّدت السياسة أولا لهذا التسلُّل وكانت السياسة أول عاملٍ مِن عوامل إفساد التفكير النظري الديني في المجتمع الإسلامي السليم.
كتب معاوية بن أبي سفيان ـ بعد أن تولَّى المُلك ـ إلى المُغيرة بن شعبة، يَطلب منه أن يكتب إليه الحديث الذي كان يقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أحيانًا، وهو على المنبر. فكتب إليه المغيرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: في دُبُرِ كل صلاة إذا سلَّم:
"لا اله إلا الله وحده لا شريكَ له، له المُلك وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير، اللهمَّ لا مانِعَ لمَا أعطيتَ ولا مُعطِيَ لمَا مَنَعْتَ، ولا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ، ولا يَنفعُ ذَا الجَدِّ مِنكَ الجَدّ". وأخذ معاوية يُذيع هذا الحديث الشريف مِن على المنابر مُؤمنًا بأنه مِن عوامل توطيد مَركزه في الأمة.(1/109)
هذا الاستعمال السياسي للأقوال الشريفة أثارَ بعض الضمائر التي تَطمئن إلى هذه الصورة التي اعتبروها استخدامًا للدِّين، والتي لم يَروا فيها مَظهرًا للخضوع والانْقياد له، فهَبُّوا يُعارضون فكْرة الجبْر التي أخَذ مُعاوية يُبَشِّرُ بها مُستندًا إلى هذا الحديث الشريف.
ولسنا الآن بصدد التاريخ الكامل لهذه المشكلة ولقد بيَّنَّا الآن على الأقل أمرين:
أحدهما: أن هذه المشكلة مِن المُتشابه؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الخوْض فيها.
ثانيهما: أن السياسة هي التي بدأت بإدْخال هذه المشكلة في البيئة الإسلامية.
أمَّا النتيجة التي نُريد أن نصل إليها مِن وراء كل ذلك فهي: أن البحث في هذه المسألة: يجب أن يُنتزع كليةً مِن مُحيط الفكر الإسلامي، وأن تنتزع المسألة ممَّا يُسمونه علْم الكلام، فإذا ما فَعَلْنا ذلك، فإننا قد أزلنا سببًا هامًّا مِن الأسباب التي تُفرِّق بين المسلمين بسبب الخلاف في العقيدة، ونكون بذلك قد أسهمنا بقِسْطٍ وافر في سبيل التوحيد..
وبالله التوفيق..(1/110)
في مشكلة الصفات
يقول الله تعالى: (سُبحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصِفُونَ).
ويقول سبحانه: (ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
ويقول ابن عبد البر المتوفَّى سنة: 463 هـ مُستنتجًا ومُرشدًا.
"إنَّ الله ليس كمِثْلِهِ شيء، فكيف يُدرك بقياس أو بإنْعام نظر؟ أمَّا حُكماء المصريينَ القدماء، فإنهم يقولون في حِكْمة حَكيمة: "مُحالٌ على مَن يفنَى أن يكشف النِّقابَ الذي تَنَقَّبَ بهِ مَن لا يَفْنَى". ومَن يفنَى: هو الإنسان.
ومَن لا يَفْنَى هو الله الباقي:
وسواء نظرنا إلى التراث الديني الصحيح مِن قرآنٍ أو سُنة. أو نظرنا إلى أصحاب الآراء السليمة التي فَهِمَتِ الأوضاع الدينية فهْمًا، ينسجم مع الروح الصحيحة للتديُّن، فإننا نجد أن الاتجاه العام في ذلك كله يبتعد بالإنسان ابتعادًا تامًّا عن أن يقول في الله ـ سبحانه ـ ذاتًا وصفاتٍ برأيه: "تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ، ولا تَفَكَّرُوا في ذاتِهِ فَتَهْلِكُوا".
إن هذا الأثَر يرسم النهج السليم ويُعبر عمَّا يجب أن يكون عليه الإنسان إذا أراد النجاة وابتغَى السلامة.
(ا) وما مِن شكٍّ في أن البحث في الذات والصفات الإلهية، مِن ناحية الصلة بينهما: توحيدًا أو تغايُرًا والبحث في الصفات المُوهمة للتشبيه، نفيًا أو تأويلاً، إنما هو تهجُّم مِن الإنسان على مقامٍ لا يرقَى إليه وَهْمٌ مُتوَهَّم، ولا خيال متخيل، وإنه لحق: إنَّ كل ما خطَر ببالك فالله بخلاف ذلك.
وقد كان مِن الطبيعي: أن يُقدر الباحثون أنفسهم باعتبارهم مِن البشر حق قدْرها، وأن يَقْدُروا اللهَ حق قدْره.
ولو سار الأمر على هذا النَّسَق لمَا تطاوَل البشر إلى مقام الله، ولمَا تجاوز حُدودهم، وبالتالي لمَا كان هناك اختلاف وتنازُع وافتراق في موضوع الصفات الإلهية.(1/111)
ولكن بعض الباحثينَ لم يلتزموا حُدودهم كأفراد مِن البشر، وغيَّرهم عقلُهم، وخدَعهم شيطانُهم: فحاولوا بعقولهم على الله ما لم يُنزل به سلطانًا، فكانت المشكلة الثانية في علْم الكلام ـ مشكلة الصفات ـ التي أثارت الجدَل والخصومة والتفرقة بين المسلمين، جعلتهم فِرَقًا تَتَنَابَزُ وتتخاصم، ويرمي بعضُها بعضًا بالانحراف والضلال.
(ب) ونشأت المشكلة حينما بدأ الباحثون يتعرَّضون للآيات التي ورَدت في القرآن الكريم والتي تُوهم التشبيه، كاليد والاستواء، أو التي وردت في الأحاديث كالنُّزول: والصورة، والأصابع.
بدأت المشكلة حينما تعرَّض بعض الباحثين لهذه الألفاظ وأمثالها تأويلاً لها أو نفْيًا لمعناها أو تفسيرًا أو شرحًا.
ومنذ أن بدأ الحديث فيها بدأ الجدَل حولها والنزاع، واستمر خلال العصور عصرًا تِلْوَ عصرٍ، ولا يزال للآن يُثار الجدل بين أنصار الإمام الأشعري وأنصار الإمام ابن تيمية.
وكان النزاع حول موضوع الصفات وصلتها بالذات على وجْه العموم يَسير في هدوء أحيانًا وفي عُنف أحيانًا أخرى.
وقد تُولد عنه كثير مِن المشاكل الدامية، كمشكلة خلْق القرآن، والمشاكل المُبلْبِلة الأفكار والخواطر كمُشكلة "الصلاح والأصْلح"، وُجِدت هذه المشاكل وكثُرت كدليلٍ واضح على عجز العقل البشري تجاه العظمة اللانهائية للإلهية.
ومع الإخفاق المُتتابع في البحث في هذا الموضوع منذ الآماد المُتطاولة، فإن البشرية لم تَرْعَوِ، ولم تَتَّعظ، ولا تزال مُستمرة في البحث تتخبَّط فيه وتتنازع وتتجادل وتَختصم.
(ج) والحِكْمة كل الحكمة ـ إذن ـ إنما هي في موقف سلَفِنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ فقد هدَتْهم نزعتهم الدينية السليمة إلى الموقف السليم فـ "قدَروا الله حقَّ قدْره" وقدَروا أنفسهم حق قدْرها، فسلِموا مِن البلبلة، والاضطراب. وسلِموا مِن التنازع والاختلاف، وكانوا فِرْقة واحدة.(1/112)
لقد اتَّخذوا مبدأً أساسيًّا، وقاعدةً لا مراء فيها ولا شك هي قوله تعالى: (ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وهذه الآية تنسف كل تشبيهٍ نسْفًا مُطلقًا، فاحترز سلَفُنا الصالح عن التشبيه حتى لقد قالوا: مَن حرَّك يدَهُ عند قراءة قوله تعالى: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). أو أشار بإصبعه عند رواية الحديث الشريف:
"قلبُ المؤمنِ بين إصبعينِ مِن أصابعِ الرحمنِ". وَجَبَ قَطْعُ يده وقطْع إصبعه. احترز السلف عن التشبيه، ولكنهم احترزوا عن التعطيل ـ أيضًا ـ فهم يُثبتون لله اتباعًا للقرآن: الإرادة، والعلم، والصفات الكريمة التي ورَد بها القرآن الكريم.
والموقف الذي يَقفه مَن أراد متابعةَ السلَف الصالح ـ إذن ـ تجاه كلمات الصورة واليد، والنزول، إنما هو الإيمان بها مع التنزيه لله ـ تعالى ـ عن الجسْمية وتوابعها، وليس معنى ذلك أن هذه الألفاظ مُعطَّلة عن المعنى، بل لها معنى يَليق بجلال الله وعظمته وممَّا ليس بجِسم، ولا عرَض في جسم.
وأن يُؤمن بأن ما وَصف الله ـ تعالى ـ به نفسه أو وصَفه به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو كما وصَفه، وحقَّ بالمعنى الذي أراده وعلى الوجه الذي قاله.
وألا يُحاول لها تفسيرًا ولا تأويلاً. وشعار السلف معروف في أمثال هذه الكلمات إنه: "أمِرُّوهَا كمَا جاءَتْ". وكانوا يذكرون في هذه الظروف الآية القرآنية الكريمة: (هوَ الذي أنزلَ عليكَ الكتابَ منهُ آياتٌ مُحكماتٌ هُنَّ أمُّ الكتابِ وأُخَرُ مُتشابهاتٌ فأَمَّا الذينَ في قُلوبهمْ زَيْغٌ فيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنه ابتغاءَ الفِتْنَةِ وابْتَغَاءَ تَأْوِيلِهِ ومَا يَعلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللهُ والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقولونَ آمَنَّا بهِ كُلٌّ مِن عندِ رَبِّنَا ومَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الأَلْبَابِ). ولا مَناصَ، لمَن يُريد أن يَحترز عن الزيْغ مِن أن يَمتنع عن التأويل والتفسير، وأن يَمُرَّ بهذه الكلمات كما جاءت.(1/113)
ويُلخص الإمام الرازي في كتابه: "أساس التقديس" المذهب السلفي في كلماتٍ موجزة دقيقة كل الدِّقَّة فيقول: إن هذه المُتشابهات يجب القطْع فيها بأن مراد الله ـ تعالى ـ فيها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله ـ تعالى ـ ولا يجوز الخوض في تفسيرها.
هذا هو مذهب السلف في الصفات، وهو مذهبٌ لا يُثير جدلاً ولا خصومةً، وليس من طبيعته ذلك، إنه مذهب العبودية الصحيحة.
وهو المذهب الذي يَتمذْهب به كل مَن عنده نزعة التديُّن السليمة. وهو مذهب الإمام مالك، والإمام الشافعيّ، والإمام أحمد بن حنبل والسلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ ومن الطبيعي أن يكون مذهب الفِرْقة الناجية.
ويجب على كل المسلمينَ الفاقِهينَ لدِينهم، أن يَنشروه في جميع أنحاء المملكة الإسلامية فهو أمانة في عُنقهم، وهو رسالة يجب عليهم نشْرها منعًا للحَيرة والاضطراب عند الأفراد، ومنعًا للاختلاف والتنازُع بين الجماعات، ونشْرًا للإسلام وتوحيدًا للكلمة بين الأفراد والجماعات الإسلامية، ويجب أن يُنتزع بحْثُ الصفات كليةً مِن مُحيط الفكر الإسلامي، وأن تُنتزع المسألة ممَّا يُسمونه علْم الكلام، فإذا فعلنا ذلك، فإننا نكون قد أزَلنا سببًا آخرَ هامًّا مِن الأسباب التي تُفرق المسلمين بسبب الاختلاف في العقيدة، ونكون بذلك قد أسهمنا بقِسْط وافر في سبيل التوحيد.(1/114)
في رُوح الإنسان ومعنوياته هي ميدان التحدِّي الحقيقي
فما نصيب العقيدة الدينية في بناء هذا الجانب؟
معنى المادية:
أن يتَّجه الإنسان إلى ما هو ماديٌّ فقط، يقف عنده، مِن جاهٍ أو مال، أو ولدٍ، أو متاعٍ آخرَ، مِن مُتَعِ الدنيا وهؤلاء الماديون لا يَتورَّعون عن ارتكاب كل سبيل، ولو كانت مُحرَّمة أو مُزعجة، في سبيل تحقيق ما يُريدون. ومِن هنا تركبهم الشقاوة، ويُسيطر عليهم الهمُّ، ويُضحُّون في سبيل آمالهم بكل شيء.
ويُحرم الإسلام المادية الطاغية، ويُحارب الماديينَ المُغالين، لانحرافهم عن السلوك الإنساني المُهذَّب، وغفْلتهم عن المُثُل العُليا. ويَصفهم ـ سبحانه ـ بقوله: (الذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحياةِ الدنيَا وهمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا). لشقائهم بما سَعَوا إليه.
ومعنى الرُّوحيَّة:
إدراك المعاني الإنسانية الفاضلة الرفيعة وآثارها على القيَم المادية وحدها، والإسلام وسَطٌ بين المادية الطاغية، والروحية المُذِلَّة القاسية، فهو يَطلب تحقيق المادية العادلة والروحية المُهذَّبة، مع إيثار هذه على ثلاث، إيثار لمَا هو خيرٌ وأبقَى (ويَزِيدُ اللهُ الذينَ اهْتَدُوا هُدًى والبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خيرٌ عندَ رَبِّكَ ثَوابًا وخيرٌ مَرَدًّا).
ويقول سبحانه: (المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحياةِ الدنيَا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ رَبِّكَ ثَوابًا وخيرٌ أمَلاً). فالجانب الدائم والباقي في جانب الروحية الفاضلة مِن أعمال البِرِّ وصالِح الأعمال، والوُقوف مع الحق والخير.
والإنسان مَفْطور على حبِّ الجانب المادي: (زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذهَبِ والفِضَّةِ والخيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنعامِ والحَرْثِ ذلكَ مَتاعُ الحياةِ الدنيَا واللهُ عندَهُ حُسْنُ المَآبِ).(1/115)
ويشفع ذلك مُباشرةً بعد ذلك بالالْتجاء الآخر والذي هو المَحَكُّ الحَقيقي لصَدَى الإيمان وقُوَّتهِ.
(قُلْ أُؤُنَبِّئُكُمْ بخيرٍ مِن ذلكمْ للذينَ اتَّقَوا عندَ ربِّهمْ جناتٌ تَجري مِن تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مُطهَّرةٌ ورِضْوانٌ مِن اللهِ واللهُ بَصيرٌ بالعِبادِ. الذينَ يَقولونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لنَا ذُنُوبَنَا وقِنَا عذَابَ النارِ الصابِرينَ والصَّادِقِينَ والقَانِتِينَ والمُنْفِقِينَ والمُسْتَغْفِرِينَ بالأَسْحارِ). فالإنسان ومعنوياته والفضائل هي ميدانُ التحدِّي الحقيقي في ميدان الاختيار. والإسلام وإن عُنِيَ بالجانبينِ ـ كما ذكرنا ـ فقد فضَّل الجانب المَعنويَّ والإنساني.(1/116)
في ماذا عن ظاهرة الإلْحاد التي بدأت تزحف إلى العديد مِن الأوساط العلمية؟
كيف نُحِدُّ مِن زحْفِها الحَثِيث؟
حينما رحل المُستعمر عن البلاد الإسلامية التي احتلَّها ترك ظِلَّهُ ووُجوده وراءه في صورة: مُوجِّهينَ تَرَبَّوْا على مائدته، ودانوا بمَا يَدِينُ، وحملوا رسالته مِن بعده.. وفي صورة كُتب مُلْحدة، تُقَوِّضُ كل ما بقِي مِن الشريعة الإسلامية على يد المستعمر أو صنائعه مِن بعده، وأحيانًا يكون خطَر مَن يَنتسبون إلى الإسلام أشدُّ وأنكَى على الإسلام مِن أعداء الإسلام.
وحين ازدوجت مناهج التعليم عندنا طغَتِ المناهج الوافدة في الثقافة الأصيلة فعمَّ الإلْحاد، وطغَى الوافدُ على الأصيل وحَطَّ مِن قدْره ممَّا جعل مِن مَوازينَ وقِيَمٍ ليَصرفَ الناس عنه.
وحين ولدت مبادئ هدَّامة من شيوعية ملحدة تُنكر وجود الله وتهزأ بالدين ورجاله، ومن وجودية هدَّامة تدعو إلى الفوضى والإباحية وتخلع رِبْقةَ الدين.
وحين خفَّت التعاليم الإسلامية بتَقْلصها من الدراسة وتعطيلها عن التنفيذ وإبعادها عن مجال الحُكم والتوجيه، استشرى الإلحاد بكل الوسائل ليحيَا ويستشري، ويَنتشر انتشار النار في الهشيم.
فلا بُدَّ مِن التعاون بين الأفراد والجماعات والأسَر والبيوت، ورجال الدعوة والحكومة ووسائل الإعلام والعِناية بتدريس الدين، وتَمكين الدعاة وإعدادهم الإعداد الكافي، والدولة قدوةً في ذلك؛ لأن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يزَع بالقرآن.
وحينئذٍ ستُشرق شمس الهداية مِن جديد، ويَختفي الإلْحاد مع الظلام، ويفرح المؤمنون بنَصر الله، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"مَن رأى مِنكم مُنكَرًا فلْيُغَيِّرْهُ بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبَقلبه وذلك أضعف الإيمان".(1/117)
في الروح
إن الموت ليس انْفصالاً كُلِّيًّا بين الروح والجسد، فالآثار الدينية تُرشد إلى أن القبر ـ وهو مَقَرُّ الجسد بعد الموت ـ إمَّا أن يكون رَوْضة مِن رياض الجنة وإمَّا أن يكون حُفرةً مِن حُفر النار، وتُرشد هذه الآثار إلى أن الروح تبقى بعد الموت وتسمع السلام عليها، وتعرف الشخص الذي يزور قبر صاحبها.
أمَّا فيما يتعلق بمَقرِّها فإنه يختلف باختلاف عملها مِن خيرٍ ومِن شرٍّ، ويختلف ـ أيضًا ـ بسبب اختلاف درجة الخيرية شرفًا وأشرف، أمَّا أين هذا المقر فإنَّ "أين" يُستفهم بها عن المكان والأرواح لا مادية، فهي إذن لا تتقيَّد بمكان، أما أن الجسد يتحلل ويذهب فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يُحدثنا ذاكرًا السؤال والجواب يقول: (وضرَبَ لَنَا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيها الذي أنْشَأَهَا أوَّلَ مَرَّةٍ وهوَ بِكُلِّ خَلْقٍ علِيمٍ). ويقول سبحانه: (أَفَعَيِينَا بالخَلْقِ الأَوَّلِ). أيْ أفَعَجَزْنَا عن الإيجاد مِن العدَم حتى نتصوَّر أن نَعجز عن الإعادة مع أنها أسهل مِن الخلق الأول؛ فالبعث إعادةُ الخلْق من جديد، وليس ذلك على الله ببعيد، يقول سبحانه: (قدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرضُ مِنهمْ وعِنْدَنَا كِتابٌ حَفِيظٌ).(1/118)
في الروح مِن أسرار الله ـ تعالى.
لقد حاول الفلاسفة القدماء وحاول الفلاسفة المُحْدثون البحث في الروح، ولقد حاول ـ أيضًا ـ علماء الكلام مِن كل الأديان البحث فيها، ولكن هؤلاء وأولئك لم يتَّفقوا في شأنها على رأيٍ ولم يُسلم واحد منهم الآخر حُجته أو دليله، وبَقيتِ الآية القرآنية حقيقةً لا مِراءَ فيها:
(ويَسألونَكَ عَنِ الروحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ ربِّي ومَا أُوتِيتُمْ مِن العلْم إلاَّ قليلًا).
أي الروح سِرٌّ مِن أسرار الله ـ عز وجل ـ أُمِرَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألاَّ يتحدث عن كُنْهِ حقيقته، وما دام الأمر كذلك فلا عِبْرة بالسؤال عنه.
ورحِم الله امرَأً وَقَف عند أمر ربه ـ تعالى ـ فلم يتجاوزه إلى ما لا ينبغي له. فإن الروح لم يَطَّلِعْ عليها أحدٌ حتى يعرف مِن أي شيء تكوَّنت، وكلام الفلاسفة وغيرهم في شأن الروح، لا يُعضده دليل علْمي، ولا دليل نَقْلِي، لهذا نرى أنه لا ينبغي لأحد أن يتجاوز قدْر نفسه، فيبحث في موضوع لا تصل إلى سِرِّهِ العقول، وكل ما يُمكن أن يُقال في أمر الروح: إنها سِرُّ الحياة، وبدُونها لا تكون حياة..(1/119)
في زيارة القبور والأضْرحة
زيارة القبور عامَّةً والأضرحة خاصة مَندوبة للاتِّعاظ وتَذَكُّر الآخرة وحثِّ النفس على التأسِّي بالسابقين مِن الصالحينَ آل بيت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وينبغي للزائر الاشتغالُ بالدعاء إلى الله ـ سبحانه ـ والاعتبار بالموت وقراءة القرآن والدعاء إلى الله أن يجعل ثوابه للميت، فإن ذلك ينفعه على الأصح إن شاء الله.
ومما وَرَد أن يقول الزائر عند رؤية القبور: "اللهمَّ ربَّ الأرواح الباقية، والأجسام البالية، والشعور المُتمزقة، والجلود المُتقطعة، والعِظام النخِرة التي خرجت مِن الدنيا وهي بك مُؤمنة أنزلَ عليها رُوحًا منكَ وسلامًا مِنِّي".
وممَّا وَرَد أيضًا أن يقول: "السلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين وإنا إنْ شاء الله بكم لاحقونَ، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ" وينبغي أن تكون الزيارة مُطابقةً لأحكام الشريعة، فلا يُقَبل حجَرًا أو عتبةً أو خشبًا، ويكون سؤاله وطلبه من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعلى الله القبول.(1/120)
في اكتشافات العلْم الحديث ووُجود الله
إن الأدلة على وُجود الله ـ سبحانه وتعالى ـ مِن العقل والنقْل أكثر مِن أن تُعَدَّ أو تُحصى، ولا يُماري في ذلك إلا مَن لا يُحسُّ بوُجود نفسه؛ لأن وُجوده على قيد الحياة دليل قاطع على وجود الله ـ سبحانه ـ فمَن الذي أوجده، وأعطاه القدرة على الاكتشاف ووهبه العلم، قال تعالى: (وفِي أنْفُسِكُمْ أفَلَا تُبْصِرُونَ). ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن عرَف نفسَه عرَف ربَّه".
العربي الجاهل في البادية حينما سُئل عن الله فقال بفِطْرته: البَعْرَةُ تدلُّ على البعير وأثَر السير يدل على المَسير، فأرضٌ ذات فِجاج، وسماء ذات أبراج، أفلا يدلُّ ذلك على اللطيف الخبير. والأجدر بهؤلاء الذين وصلوا إلى الاكتشافات الحديثة وصَعدوا إلى القمر أن يَزدادوا ايمانًا ويقينًا بوجود الله؛ لأنهم قد أنفقوا الكثير مِن المال والوقت والبحث والدرس على أن يصلوا إلى أقرب كوكب مِن الكواكب إلى الأرض، وهو واحد مِن المجموعة الشمسية التي هي إحدى الملايين مِن المجموعات التي تَسبح في الفضاء بنظامٍ وإبداع واتفاق لا يَصطدم واحد مِنها بالآخر: (لا الشمسُ يَنْبَغِي لهَا أنْ تُدْرِكَ القمرَ ولا الليْلُ سابِقُ النَّهَارِ وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). فكان ينبغي بعد هذه الاكتشافات أن تَخِرَّ الجباه ساجدةً أمام عظمةِ الله، قائلةً: "تَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ".(1/121)
والإسلام يحثُّ على التزوُّد مِن العلْم والمعرفة وأول آية مِن كتابه، وهو القرآن تنزَّلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تدعو إلى ذلك: (اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإنسانَ مِن عَلَقٍ . اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ الذي علَّمَ بالقلَمِ علَّمَ الإنسانَ مَا لمْ يَعْلَمْ). ونفى الله المساواة بين مَن يعلمون ومَن لا يعلمون، فقال: (هَلْ يَستوِي الذينَ يَعلمونَ والذِينَ لا يَعلمونَ). وأمَر نبِيَّهُ بأنْ يدعوه بقوله: (وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا).
ودعانا القرآن إلى النظر في المَخلوقات فقال: (أفَلَا يَنْظُرُونَ إلى الإِبَلِ كيفَ خُلقتْ والى السماءِ كيفَ رُفعتْ وإلى الجبالِ كيفَ نُصِبتْ وإلى الأرضِ كيفَ سُطحتْ). وقال: (قُلْ انْظُرُوا ماذَا في السمواتِ والأرضِ). وسخَّر لنا الشمس والقمر لننتفِع بهما وسائر النجوم، ومِن وسائل الانتفاع أن نكتشف ما في النجوم مِن أسرار، قال ـ تعالى ـ: (وسَخَّرَ لكمُ الليلَ والنهارَ الشمسَ والقمرَ والنجومُ مُسخَّراتٌ بأَمْرِهِ). وهبوط الإنسان على القمر ليس إلا اكتشافًا لهذا الكوكب الذي أخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بأنه مُسخَّرٌ لنا لننتفع بما فيه، وليس في القرآن ما يُنافي ذلك أو يَستبعده..(1/122)
في العقائد التي انحرفت سبب الإلْحاد
دين الله نزل صافيًا مِن السماء منذ آدم، ولكن أهواء البشر غَيّرت على مرِّ الزمن وبدلت وانحرفت بالكثير منه إلى طريقٍ غير مُستقيم يتعارَض مع العقل، ولا يَنسجم مع المَنطق. ولعل الذين يُلحدون بسبب العقائد التي انحرفت لهم بعض العُذر، فإذا قلت لإنسان: إنَّ التوراة تَروي أن الله نزَل إلى الأرض، كائنًا بشريًّا وسار في مَزرعة سيدنا إبراهيم، دون استئذان صاحب المَزرعة، فلمَّا رأى إبراهيم هذا الغريب يسير في المَزرعة، في حرية وعدم مبالاة، ثارَ كِبرياؤه، فحصلت بينهما مشادة والتحمَا في معركة حامية، أوشك إبراهيم فيها أن يَصرع إلهه، وأن يَطرحه أرضًا لولا أن الإلهَ المُشفِق على نفسه مِن السقوط والهزيمة النكراء، صارح إبراهيم بحقيقة أمره، فأطلق سراحه بعد أن أخذ عليه العهود والمَواثيق لبني جنسه.
إذا قلت لإنسان هذا، فليس مِن الغريب أن يُلحد في التوراة، وله العُذر إذا ما شكَّ في الدين الذي يقوم على هذا الكتاب.
وإن أي إنسان مُميِّز تقول له عن كائن مُعين بالذات وُلد في يومٍ مُحدد وفي شهر معين، ونشأ كما ينشأ الآخرون.. إذا قلت لإنسان مُميّز إن هذا الكائن مَولود غير مَخلوق، وإنه أزلي، وإنه واحد، ومع ذلك فهو ثلاثة في الوقت الذي هو فيه واحد، وواحد في الوقت الذي هو فيه ثلاثة، إذا قلت لإنسان ذلك فشكَّ وألْحَدَ في دِينه فله العُذْر.
وكلمة القديس أوغسطين: "إني أُومِنُ بهذا؛ لأنه غير معقول". غير مُستساغة لدى أصحاب المنطق والتفكير السليم.
ولكن مِن البداهة أن الشك في دين لا يقتضي الشك في جميع الأديان، وإذا كان البطلان قد ظهر، بالنسبة لدِينٍ خاصٍّ فليس معنى ذلك أن البطلان يتعدَّى ذلك الدين إلى غيره…(1/123)
في ذكر أنبياء الله في الكتاب
لا عجب أن يُذكر في الكنائس أنبياء الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فإن يعقوب هو إسرائيل، وعلى بني إسرائيل نزل الوحي مدةً طويلة، وكثر فيهم الأنبياء، فإسحاق بن إبراهيم جَدُّهم ويعقوب أبوهم، ومنهم موسى وعيسى وزكريَّا ويحيى، ونحن مؤمنون بهم وبكلِّ الأنبياء، ولا يمنعنا كونهم من بني إسرائيل ألا نؤمن بهم حسدًا أو تحزُّبًا وتفريقًا بين أنبياء الله، بل نحن مؤمنون بهم وبكل مَن علمنا ومن لم نعلم من الأنبياء، ودينهم الذي جاءُوا به، وهو عبادة الله وحده والتصديق بكلِّ حقٍّ عنده، والله يحبُّ أن يؤمن العالمون بكل أنبيائه كذلك.(1/124)
في عبادة الأوثان
عبادة الأوثان تعني أن يتوجَّه العابد إلى الوَثن بالعبادة، ويعتقد فيه أنه مجال لحُلول الإله، وأنه يضر وينفع، ويُجازي كُلًّا مِن أتباعه بما يستحق.
وإذا كان الله ـ تعالى ـ ذكَر قول عُبَّاد الأوثان: (مَا نَعْبُدُهمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى). فإنه قد بيَّن أنهم كانوا يَعبدونهم، والعبادة مُطلق الطاعة والخُضوع لمَن بيده الضرر والنفْع والتصرُّف الكامل في الإنسان وما يُحيط به.
وليس مِن ذلك تقبيل الحجر الأسود والطواف بالكعبة؛ لأن في هذينِ الفعلين عبادة الله بأداء فعْلِ ما جعله الله ـ تعالى ـ مظهر العبادة المَقبولة.
وليس في هذا الفعل عبادةٌ لحجرٍ أو تعظيم ـ وإنما فيه عبادة لله وحده وإفراد له بالطاعة والخُضوع.
إن عبادة الأصنام والأوثان تعظيمٌ لغير ما عظَّمه الله، وإشراك لله بجعل بعض المَخلوقات لها مِن مَظاهر ما لله ـ وانصراف عن التسليم الكامل لله بالوُقوف عند بعض مَخلوقات وتعظيمها تعظيمًا لا يَليق إلا به سبحانه. ولو اعتقد إنسان أنه بتَقبيله يَعبد الحجر فهو كافر، وكذلك الأمر في الطواف بالبيت. إن على الحاج أن يَستشعر المَطلوب هنا، وهو الاستسلام الكامل لله، وتنفيذ كل ما أمَر به وخصَّه عليه. وإن كلمة سيدنا عمر معروفة مشهورة فيما يتعلق بالحجر؛ حيث قال: "إني أعلمُ أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع ولولا أن رسول اللهِ قبَّلكَ ما قبَّلْتك، وهذه الكلمة التي يُقِرُّ بها جميع المسلمين تَنفي كل شُبهات الوثنية.
إن الحاج يبدأ الطواف ببِسم الله واللهُ أكبر…(1/125)
في القوة المادية وسيلة لإرضاء الله تعالى.
لا يلزم مِن امتلاك القوى المادية تأييد الله وتَسديده، فكما تكون القوة والنعم المادية نعمة لمَن شكر، واستخدمها في الخير، تكون نِقْمةً لمَن كفر، واستخدمها في الشر. عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن اللهَ ليُمْلِي للظالِم ـ أي يُمهله ويُؤخر مُؤاخذته ويَمُدُّ له في حبال الأمل، حتى إذا أخَذه لم يُفْلته، ثم تلا قوله تعالى: (وكذلكَ أخْذُ ربِّكَ إذَا أخَذ القُرى وهي ظالمةٌ إنَّ أخْذَهُ أليمٌ شديدٌ). ولقد جرت العادة بأن الأنبياء والأولياء والمؤمنين الصادقين أكثرُ الناس صبرًا على البلاء ومقاومةً لطغيان الكفر والفساد، "فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحكي عن نبيٍّ مِن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ضربه قومه فأَدْمَوْهُ، وهو يَمسح الدم عن وَجهه وهو يقول: "اللهمَّ اغفرْ لقومي فإنهم لا يَعلمونَ" وهو بذلك إنما يُصوِّر بعض ما جرى له مع قومه. وبالصبر والعمل الجاد الدائب والتوكُّل على الله ـ تعالى ـ يتحول الضعف إلى قوة في الأمة الإسلامية، ويتحقق وعْد الله للمؤمنين: (وكانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤمِنينَ).. (وَعَدَ اللهُ الذينَ آمنُوا مِنكم وعمِلُوا الصالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرضِ كمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، ولَيُمَكِنَنَّ لهمْ دِينَهُمُ الذي ارْتَضَى لهمْ، ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِن بعدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشركونَ بِي شيئًا ومَن كَفَرَ بعد ذلكَ فأولئكَ هم الفاسقونَ).
والمقصود أن القوة المادية تكون وسيلةً إلى مَرضاة الله إذا استندت إلى إيمان صحيح ودين قوِيمٍ ـ أمَّا إذا لم تستند إلى شيء مِن ذلك فهي وسيلة لاختبار المؤمنين بالصبر في مُواجهتها والعمل على الوصول إلى مُستواها والسير بمَبادئها رغمًا عنها، ومُحاولة تسييرها على أساس هذه المبادئ.(1/126)
في الحلِفِ بغير الله
ورَوى البخاري ومسلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن اللهَ يَنهاكمْ أنْ تَحلفوا بآبائكم، مَن كان حالِفًا، فَلْيَحْلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ".
وقال ـ صلى الله علية وسلم ـ: "كلُّ يَمينٍ يُحْلَفُ بها دونَ اللهِ شِرْكٌ".
مِن هذا نعلم أن الحلِف لا يكون إلا بالله، ومثل الحلِف بالله الحلف بالقرآن؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، وكلام الله صفةٌ مِن صفاته فهو كالحلِف بالله سواءً بسواء، وأما الإجبار في الحلف فممنوع شرعًا إلا إذا كان لغرض شريف مثل التثبُّت مِن صحة قول الحالف في موضوع يتصل بمَصلحة المسلمين، وإلا فالإجبار على الحلف الباطل حرام، والإكراه على الحلف لا يضرُّ الحالف في صحته إذا تحققت شروط الإكراه، وكان الحالف بريئًا، وعند الإكراه بغير حق يَرفع الحالف أمر مَن أكرهه إلى القضاء لحِفْظ دِينه وكرامته وإذا ترتَّب على الحلف أضرارٌ مادية يرفع الحالف أمره إلى القضاء.
والله أعلم….(1/127)
في الجبْر والاختيار
هذه مسألة خاض فيها العلماء منذ زمن طويل وذهبوا فيها مذاهب.
مذهب الجبْرية الذي يرى أن الإنسان لا كسبَ له، ولا اختيار في أفعاله وأنه كرِيشةٍ مُعلقة في الهواء تُسَيِّرُها الرياح كيف شاءت.
مذهب المعتزلة الذي يرى أن الإنسان إنما يَخلق أفعاله الاختيارية ويُوجدها بقُدرته وإرادته التي خلَقها الله فيه ولا دخل للقضاء والقدَر في أفعاله.
3- ومذهب أهل السُّنَّة الذي يرى أن الله هو الذي يخلق أفعال العبد، والعبد له كسْبٌ واختيار في أفعاله.
وهذا هو الذي ارتضاه جمهور المسلمين وهو أن العبد مُخيَّر في أفعاله؛ لأنه هو الذي يُرجح ويختار حسْب ما أودعه الله فيه مِن عقل يُميز الخير مِن الشر، وأنه هو الذي يعزم ويُصمم على الفعْل، وبعد ذلك يكون خلْق الفعل مِن الله ـ سبحانه وتعالى ـ كما قال في كتابه العزيز.
(واللهُ خلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلونَ).(1/128)
في الإسلام دين الفِطْرة
الإسلام دين الفطرة السليمة، وليس فيه كَهَنُوتٌ ولا رجال دين يملكون أن يَغفروا الخطايَا، ويعفوا عن الذنوب.
وهذه الأمور هي مِن العلاقة بين العبد وربه، فمَنِ الْتزم أوامر الله واجتنب نواهيه دخل الجنة بفضل الله وإحسانه. قال تعالى:
(إنَّ الذينَ آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ كانتْ لهمْ جنَّاتُ الفِردوسِ نُزُلًا).
فجعل الجنة جزاء للإيمان والعمل الصالح. وليس مِن الإسلام أن يَبيع الإنسانُ نفسه لأحدٍ، فالمسلم حُرٌّ عزيز لا يُباع ولا يُشترى، ولا يُغني أحدٌ عن أحدٍ شيئًا عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأقربائه مُوضحًا لهم هذه الحقيقة مُرشدًا لهم إلى الطريق القويم ومُحذرًا لهم مِن الاتِّكال على الانتساب إليه دون عمل، فقال مناديًا أقرب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد اشترى نفسَكِ مِن الله، "أي بالعمل الصالح"، لا أُغني عنكِ مِن اللهِ شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب عمَّ رسول الله، ويا صفية عمةَ رسول الله اشتروا أنفسَكم مِن الله، "أي بالعمل الصالح"، لا أُغني عنكم مِن الله شيئًا".
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: (فإذَا نُفِخَ في الصُّورِ فلَا أنْسَابَ بيْنهُمْ يَومئذٍ ولا يَتساءلونَ فمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُه فأُولئكَ همُ المُفلحونَ ومَن خَفَّتْ مَوازينُهُ فأُولئكَ الذينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ في جهنمَ خَالِدونَ).
من كل ذلك نعلم أن علاقة المسلم برجال الدين هي علاقة إرشاد وهداية وقدوة ومَثَلٍ: وليست علاقة استذلالٍ واستعْبادٍ.
ومَن يدعو الناس إلى أن يَبيعوا أنفسهم نَظير أن يَدخلوا الجنة، فليس مِن رجال الدين ولا مِن المُتأدِّبينَ بآدابه أو المُتمسكين بتعاليمه، ويجب أن يَحْذَرَهُ الناس ولا يَنْخَدعوا به.(1/129)
في الخِلافة
ان الخلافة في الإسلام لا تُورَّث، إنها ليست مُلْكًا عَضُوضًا، والمقطوع به مِن الدين أن الأمة يجب عليها أن تختار للخلافة أكملها فهمًا للدين وتقوَى الله، وأمثلها حِكمة واتزانًا وحَزْمًا وعدْلا.. ونظام ميراث المُلك ابنًا عن أبٍ عن جدٍّ أو نظام كوْن المُلك في أسرة مُعينة لا يتعدَّاها نِظام لا يعرفه الإسلام.
لم يُوصِ سيدنا أبو بكر بالخلافة لأحدِ أبنائه، ولم يأمر بها سيدنا عمر لأحدٍ مِن أبنائه برغم أن ابنه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان قمةً في التقوى والصلاح والفضيلة، ولم يُوصِ سيدنا عثمان بالخلافة أن تكون في أسرته، وما كان سيدنا عليٌّ مِن الجهل بالإسلام وقواعده بحيث يأتي بعملٍ يُخالف روح الإسلام ويُخالف قواعده، فيأمر أصحابه أن ينتخبوا ابنه الحسن خليفةً مِن بعده، وإذا كان هناك أمرٌ فما يعني الانتخاب إذنْ؟ ولِمَ الانتخابُ؟ إن المنطق البسيط يُرشد إلى أن سيدنا عليًّا لا يفعل مثل ذلك.
ويأتي التاريخ الصحيح وكتب السير والأخبار الثابتة، فتُؤيد ما أيَّده المنطق وتُرشد إلى أن سيدنا عليًّا ما كان يرى الخلافة كسرية مُتوارثة وإنما كان يَراها انتخابًا مِن أُولي الأمر.
والله أعلم….(1/130)
في الشِّيعَة
إن الأغلبية الغالبة الآن مِن الشيعة تُوجد في إيران وفي العراق وفي اليمن، وشيعة إيران والعراق مِن الشيعة الاثنا عشرية، أمَّا شيعة اليمن فإنهم مِن الشيعة الزيدية، وهذه الأقطار الذي ذكرناها تضم ملايين الشيعة.
بيْد أن هناك آلافًا مِن الشيعة العلويينَ في لبنانٍ، ومجموعة ضخمة مِن الشيعة: "طائفة البهرة" في الهند، وطائفة ضخمة أخرى مِن الشيعة الإسماعيلية في الهند وأفريقيا.
أمَّا تسميتهم بالشيعة؛ فلأنهم شايعوا عليًّا ـ رضي الله عنه ـ في خلافه مع معاوية ـ رضي الله عنه ـ ومع الآخرين مِن الصحابة، فكانوا شيعةَ عليٍّ، أي مُناصريه ومُؤيديه على كل مَن خاصَمه. أمَّا الفروق التي بين الشيعة وبين غيرهم فهي فُروق في الفقه وفي العقيدة وأبرز مَظاهر الخلاف بين أهل السُّنة والشيعة في الفقه. أمرانِ:
أحدهما: زواج المتعة، وهو أن يتفق الرجل مع المرأة على أن يَستمتع بها فترة من الزمن في مقابل مبلغ من المال. إذ يَعتبر الشيعة ذلك حلالاً ويَعتبره أهل السنة حرامًا.
والأمر الثاني في الاختلاف الفقهى حول الجمع بين العصر والظهر، وبين المغرب والعشاء. يأخذ به الشيعة فيَجمَعون، ولا يفعل ذلك أهل السنة إلا في حالات معينة.
أما الاختلاف فيما يتعلق بالعقيدة فأبرز مظاهره:
1ـ اعتقاد الشيعة في عصمة أئمتهم. أما أهل السنة فإنهم لا يعتقدون إلا في عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
2ـ اعتقاد الشيعة أن عليًّا، كرم الله وجهه، أفضل أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الإطلاق، وأنه كان أحق بالخلافة ممن سبقه من الخلفاء. أما أهل السنة فإنهم يُكبِرون عليًّا، رضى الله عنه، ويحترمونه ولكنهم يرتبون الخلفاء في الأفضلية بحسب ترتيب الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهؤلاء الأربعة هم أفضل الصحابة عند أهل السنة.
تفصيل الحديث عن الشيعة
أصل الشيعة(1/131)
(من مصادر هذا الفصل: "مقالات الإسلاميين" للأشعري. "الفَرْق بين الفِرَق" للبغدادي. "التبصير في الدين" للإسْفَرَايينى. "المِلَل والنِّحَل" للشَّهْرَستانى. "مقدمة" ابن خلدون. "عثمان" للدكتور طه حسين. "عليّ وبنوه" للدكتور طه حسين. "فجر الإسلام" للدكتور أحمد أمين. "ضحى الإسلام" للدكتور أحمد أمين. "أصل الشيعة وأصولها" للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء. "أصول الإسماعيلية" للدكتور برنارد لويس)
يختلف الناس في أصل الشيعة، فيَعزوها بعضهم إلى أثر الفرس الذين كانوا يقدسون المَلِكَ فلما زال ملكهم ودخلوا في الإسلام ظهر أثر ذلك في موقفهم من آل البيت وتقديسهم للأئمة.
ويرى آخرون أن الشيعة تَدين في نشأتها لـ "عبد الله بن سبأ" الذي كان يهوديًّا واعتنق الإسلام للنيل منه والكيد له، فأظهر هذا المذهب ليفرِّق بين المسلمين ويَقضيَ على وَحدتهم وعزتهم.
رأي "ولهوزن" و"دوزي"
يقول الدكتور أحمد أمين:
وقد ذهب الأستاذ "ولهوزن" إلى أن العقيدة الشيعية نَبَعَت من اليهودية أكثر مما نَبَعَت من الفارسية مستدلاًّ بأن مؤسسها "عبد الله بن سبأ" وهو يهودي.
ويميل الأستاذ "دوزي" إلى أن أساسها فارسي؛ فالعرب تَدين بالحرية، والفرس يَدينون بالملك وبالوراثة في البيت المالك ولا يعرفون معنًى لانتخاب الخليفة، وقد مات محمد ولم يترك ولدًا، فأولى الناس بعده ابنُ عمه عليُّ بن أبي طالب، فمن أخذ الخلافة منه ـ كأبي بكر وعمر وعثمان والأمويين ـ فقد اغتصبها من مستحقها. وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى المَلِك نظرة فيها معنًى إلهي، فنظروا هذا النظر نفسه إلى علي وذريته، وقالوا: إن طاعة الإمام أول واجب، وإن طاعته لله اهـ (فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين ص 340)
رأينا في أصل الشيعة(1/132)
ولكنا نرى أن السبب في نشأة الشيعة لا يرجع إلى الفرس عند دخولهم في الإسلام، ولا يرجع إلى اليهودية ممثَّلة في عبد الله بن سبأ، وإنما هو أقدم من ذلك؛ فنَوَاتُه الأولى ترجع إلى شخصية علي، رضي الله عنه، من جانبٍ وصلتِه بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من جانب آخر.
وتوضيح ذلك أن صلة عليٍّ بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أقدم من الإسلام نفسه. ولم يَنسَ محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد زواجه بخديجة، رضي الله عنها، عَطْفَ أبي طالب عليه ورعايته له، فقد ضم أبو طالب الرسولَ إليه وكَفَلَه بعد وفاة جده عبد المطلب، وذلك بالرغم من كثرة عياله وعدم ثرائه.
وكان من تصرفات المقادير أن أصابت قريشًا أزمةٌ شديدة، فتحدث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عمه العباس، وكان من أيسر بني هاشم، فقال له:
إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناسَ ما ترى من هذه الأزمة، فانطَلِقْ بنا إليه فَلْنُخَفِّفْ من عياله؛ آخُذُ من بنيه رجلاً وتأخذُ أنت رجلاً، فَنَكِلُهما عنه. فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب (سيرة ابن هشام ص293) وانتهي الأمر بينهما وبينه أن أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليًّا فضمه إليه، وأخذ العباسُ جعفرًا.
نشأ عليٌّ مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ نعومة أظفاره، فتفتحت عيناه طفلاً على أكرم مثلٍ للقدوة الحسنة، ممثَّلة في الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتفتَّحت عيناه على أكرم مثلٍ للود المتبادَل بين الزوجين الطاهرين، والحنان الذي يملأ البيت الكريم، والرحمة التي تَفيض من قلب محمد وخديجة، فيكون من أثرها حملُ الكَلِّ، وصلةُ الرحم، وقِرَى الضيف، والإعانةُ على نوائب الدهر، فترك ذلك في نفسه أكرَمَ الأثر.
وأوحى الله إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعليٌّ يومئذٍ ابنُ عشر سنين، فلم تَتدنَّس جبهته بالسجود لصنم، ولم يكن في سنٍّ تُجتَرَحُ فيها المعاصي، فاعتنق الإسلام طاهرًا.(1/133)
ولقد أراد قبل إسلامه أن يستشير أباه، وبات ليلته يفكر في الأمر، فلم يكن يَغمِضُ له جَفن، فلما أصبح أعلن في ثقة واطمئنان أنه أسلم وأنه في غير حاجة لرأي أبي طالب وقال:
لقد خلَقني الله من غير أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبُدَ الله!
وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيُصلِّيان الصلوات فيها، فإذا أمسَيَا رجَعَا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يَمكُثَا (سيرة ابن هشام ص 362).
وحين نزلت الآية الكريمة (وأَنذِرْ عَشيرتَكَ الأَقرَبِين) دعا محمدٌ عشيرته إلى الطعام في بيته، وحاول أن يحدثهم، داعيًا إياهم إلى الله، فقطع عمُّه أبو لهب حديثَه واستَنفَرَ القومَ ليقوموا.
ودعاهم محمد في الغداة كَرةً أخرى، فلما طَعِموا قال لهم:
ما أعلم إنسانًا في العرب جاء قومَه بأفضلَ مما جئتكم؛ بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوَكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ فأعرَضوا عنه وهمُّوا بتركه، لكنّ عليًّا نهض وهو ما يزال صبيًّا دون الحُلُم وقال: أنا يا رسول الله في عونك، أنا حربٌ على ما حارَبتَ. فابتسم بنو هاشم وقَهقَهَ بعضهم، وجعل نظرهم ينتقل من أبي طالب إلى ابنه، ثم انصرفوا مستهزِئين (حياة محمد. للدكتور هيكل ص 140)
وفي ليلة الهجرة أسَرَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عليٍّ أن يَتسجَّى بُرْدَه الحضرمىَّ الأخضر وأن ينام في فراشه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤديَ عنه الودائع التى كانت عنده للناس (المصدر نفسه ص211)(1/134)
وآخَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أصحابه من المهاجرين والأنصار حين نزلوا المدينة؛ ليُذهبَ عنهم وحشةَ الغربة، ويُؤنِسَهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويَشُدَّ أزْرَ بعضهم ببعض، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي. فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلي بن أبي طالب رضى الله عنه أخَوَين (سيرة ابن هشام، والروض الأُنُف ص18)
لقد رباه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صغيرًا وكان، رضى الله عنه، يعيش في بيته كأحد أبنائه، وكان أولَ من أسلم من الذكور، وآخَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينه وبينه، وزوَّجه بأحب بناته إليه؛ فاطمةَ رضى الله عنها.
ثم إن شجاعته الفذة وإخلاصه النادر للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقواه وزهده، كل ذلك مشهور لا يحتاج إلى توضيح، ولذلك يقول الدكتور طه حسين بحق:
ولقد قال المسلمون بعد وفاة النبي إن عليًّا كان أقرب الناس إليه، وكان رَبِيبَه، وكان خليفةً على ودائعه، وكان أخاه بحكم تلك المؤاخاة، وكان خَتَنَه وأبا عَقِبِه، وكان صاحبَ لوائه، وكان خليفتَه في أهله، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسى بنص الحديث عن النبي نفسه.
لو قد قال المسلمون هذا كله واختاروا عليًّا بحكم هذا كله للخلافة لَمَا أبعَدوا ولا انحَرَفوا ("عثمان" للدكتور طه حسين ص152)
ولا غرابة والأمرُ كذلك أن كان جمعٌ من الصحابة يرى أن عليًّا أفضلُ من أبي بكر وعمر وغيرهما. وذكروا أن ممَّن كان يرى هذا الرأيَ عمارًا وسلمانَ الفارسيَّ وجابرَ بنَ عبد الله والعباسَ وبَنيه وأبيَّ بن كعب وحذيفةَ، إلى كثير غيرهم (فجر الإسلام. ص 328) ولكن اجتماع السَّقيفة انتهى باختيار أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ خليفةً للمسلمين، فامتنع عليٌّ، رضي الله عنه، عن البيعة لاعتقاده أنه أحق بالخلافة، والحديث التالى يبين موقفه.(1/135)
في صحيح البخارى: حدثنا يحيى بن بُكير ... عن عائشة أن فاطمةَ بنتَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك وما بَقيَ من خُمس خبير، فقال أبو بكر: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا نُورَثُ، ما تركناه صدقةٌ" إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأعملَنَّ فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئًا، فوجَدَت فاطمة على أبي بكر فى ذلك، فهجرته، فلم تكلمه حتى تُوُفِّيَت.(1/136)
وعاشت بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ستة أشهر، فلما تُوُفِّيَت دفنها زوجها عليٌّ ليلاً، ولم يُؤذِنْ بها أبا بكر وصلَّى عليها. وكان لعليٍّ من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة، فلما تُوُفِّيَت استَنكَر عليٌّ وجوهَ الناس، فالتَمَس مصالحةَ أبا بكر ومبايعتَه، ولم يكن بايع تلك الأشهرَ، فأرسل إلى أبي بكر؛ أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك. كراهيةَ أن يحضُر عمر، فقال عمر: لا، والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي، والله لآتينَّهم. فدخل عليهم أبو بكر، فتشهَّد عليٌّ فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم نَنفَسْ عليك خيرًا ساقه الله إليك، ولكنك استَبدَدتَ علينا بالأمر، وكنا نُرى لقَرابتنا من رسول الله نصيبًا. حتى فاضت عينَا أبي بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسى بيده، لقَرابةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحبُّ إليَّ أن أصلَ من قرابتي، وأما الذي شجَر بينى وبينكم من هذه الأموال فلم آلُ فيها عن الخير، ولم أترك أمرًا رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصنعه فيها إلا صنعته. فقال عليٌّ لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر رَقِيَ المنبرَ، فتشهد وذكر شأن عليٍّ وتخلُّفَه عن البيعة، وعذَره بالذى اعتذر إليه، ثم استغفر. وتشهد عليٌّ فعظَّم حق أبي بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نَفَاسةٌ على أبي بكر ولا إنكارًا للذي فضَّله الله به، ولكنا كنا نرى في هذا الأمر نصيبًا، فاستُبِدَّ به علينا، فوجَدنا في أنفسنا. فسُرَّ بذلك المسلمون، وقالوا: أصبتَ. وكان المسلمون إلى عليٍّ قريبًا حين راجع الأمرَ بالمعروف. اهـ (البخاري. ويجب أن نأخذ هذا الحديث بتحفظ فيما يتعلق بتفاصيله وتعبيراته؛ فهو رواية السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقد يكون فيه بطريقة لا شعورية بعضُ ما يَغُضُّ من شأن عليٍّ، ولكنه صحيح فيما يعرِّفنا به من امتناع عليٍّ عن البيعة، ومن تحديد الزمن الذي(1/137)
امتنع فيه، ولهذا أهميته)
بايع عليٌّ أبا بكر في إخلاص المؤمن الصادق الإيمان، وأخذت حياته تسير في مجراها الطبيعى؛ زهد وتقوى وعلم وورع، واستمر منارةً يهتدي بها الحائر، ومثلاً أعلى يسير على هداه من رغب عن سَنَن الباطل، وطَمَح إلى رضوان الله.
وتُوُفِّيَ أبو بكر ـ رضوان الله عليه ـ بعد أن عَهِدَ بالخلافة إلى الفاروق، فاجتمعت كلمة المسلمين علَى ابن الخطاب، فقادهم جُهْدَه إلى مرضاة الله، وكان عليٌّ في زمنه ـ كما كان في زمن أبي بكر ـ المنارةَ والمثلَ الأعلى.
وكان كل شيء يرشِّح عليًّا للخلافة بعد موت عمر: قَرابتُه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسابقتُه في الإسلام، ومكانتُه بين المسلمين، وحسنُ بلائه في سبيل الله، وسيرتُه التي لم تعرف العِوَجَ قط، وشدتُه في الدين، وفقهُه بالكتاب والسنة، واستقامةُ رأيه في كل ما عرَض عليه من المشكِلات.
ولئن تحرَّج المسلمون من تقديمه علَى أبي بكر لأنه كان رفيع المكانة عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وثانيَ اثنين في الغار، ولأنه خَلَفَ النبيَّ على الصلاة بالناس.
ولئن تحرَّج المسلمون من تقديمه على عمر؛ لمكانة عمر أولاً ولعهد أبي بكر بالخلافة إليه ثانيًا.
لقد كان المسلمون يستطيعون أن يختاروا عليًّا للخلافة، لا يجدون بذلك بأسًا ولا يُبقون فيه حرجًا، فعمر قد رشحه، ومكانته ترشحه، ثم هو كان بعد ذلك من قوة العصبية في العرب عامةً وفي قريش خاصةً بالمنزلة التي كان فيها عبد الرحمن بن عوف؛ فهو قد أصهَرَ إلى قريش، وأصهَرَ إلى مُضَرَ، وأصهَرَ إلى ربيعة، وأصهَرَ إلى اليمانية، وكان له بَنُونَ من نسائه على اختلاف قبائلهنَّ، فلو قد وَلِيَ الخلافةَ قبل أن يفترق الناس لكان خليقًا أن يقارب بين العصبيات المتباعدة، وأن يجمع الناس على طاعته، وأن يَحملهم على الجادّة كما قال عمر.
ولكن المسلمين لم يختاروه لأمرين:(1/138)
أحدهما، خوف قريش أن تستقر الخلافة في بني هاشم إن صارت إلى أحد منهم.
وقد بيَّنَت الحوادث أن عليًّا لم يكن لينقُلَ الخلافة بالوراثة، فهو قد سار سيرة النبي وسيرة عمر فلم يَعْهَدْ لأحد من بعده.
والآخر، أن عليًّا لم يقبل ما عرضه عليه عبد الرحمن؛ من أن يبايع على كتابِ الله وسنةِ رسوله وفِعلِ أبي بكر وعمر، لا يَحيد عن شيء من ذلك، تَحرَّجَ عليٌّ من أن يعطيَ هذا العهد مخافة أن تَضطَّرَّه الظروف إلى أن يَقصُرَ عن الوفاء به كاملاً، فعرض أن يبايع على أن يَلزَمَ كتابَ الله وسنةَ رسوله وسيرةَ الشيخين بقدر جُهده وطاقته ("عثمان" للدكتور طه حسين ص 152-153).
وللمرة الثالثة لم يَتولَّ سيدنا عليٌّ الخلافةَ، إنما تولاّها سيدنا عثمان، واستمر سيدنا عليٌّ المنارةَ والهدَى والمثلَ الأعلى. وحدثت الأحداث التي انتهت بقتل سيدنا عثمان، وتولَّى سيدنا عليٌّ الخلافة فلم يتغير سلوكه ولم ينحرف عن الجادّة.
وقد عاش عليٌّ قبل الفتوح كما عاش بعد الفتوح، عيشةً هى إلى الخشونة والشَّظَفِ أقربُ منها إلى الرقة واللِّين، فلم يتَّجِرْ ولم يَتَّسعْ، وإنما اقتصر على عطائه يعيش منه ويَرزق أهلَه ويستثمر فضوله في مال اشتراه بيَنبُع، ثم لم يَزد عليه.
ولما مات لم تُحْصَ تَرِكَتُه بالألوف، فضلاً عن عشراتها أو مئاتها أو الملايين، وإنما كانت تَرِكَتُه ـ كما قال الحسن ابنه في خطبة له ـ سبعَمائةِ درهم، كان يريد أن يشتريَ بها خادمًا.
وكان عليٌّ في أثناء خلافته القصيرة يلبس خشن الثياب والمرقَّع منها، ويحمل الدِّرَّة، ويمشي في الأسواق فيعظ أهلها ويؤدبهم، كما كان يفعل عمر، فكان هذا دليلاً على أن عمر كان صادق الفِراسة حين قال: لو وَلَّوا الأجلَحَ لحمَلَهم على الجادّة (عثمان ص 15)
حقًّا لقد كان سيدنا عليٌّ مثلاً ساميًا في الدين والأخلاق، ومع ذلك فإنه لم يَكَدْ يتولى الخلافة بعد مقتل سيدنا عثمان حتى اضطرب الأمر واختل النظام.(1/139)
أراد سيدنا عليٌّ أن يقود الناس إلى الآخرة فإذا هم متطلعون إلى الدنيا، وأراد أن يوجههم إلى الله فإذا بالمادة قد غلبت عليهم، ولقد عاش طيلة خلافته في جِلاد وصراع ضد الأهواء والشهوات والدنيا.
وفي النهاية لَقيَ مصرعه على يد عبد الرحمن بن مُلجَم، وتغلبت الأهواء والشهوات والدنيا ممثَّلةً في معاوية.
وانتصرت الدنيا، ولكن كان للآخرة عشاقها ومحبُّوها، وهؤلاء لم يَتوانَوا في نصرة عليٍّ حيًّا، فلما قُتل أخذوا يذكرون حياته الحافلة بصالح الأعمال وجليلها، وأخذت صورة عليٍّ بمر الزمن تَلبَس شيئًا فشيئًا هالةً من الإجلال والتقديس والتنزيه والربانية والألوهية و... وهل من مزيد؟
كانت الشيعة في بَدء أمرها مَحَبّةً كمَحَبّةِ سلمان الفارسي لآل البيت، ثم أصبحت مَحَبةً وعطفًا وشفقةً حينما اعتقد بعض الناس أن البيت العلويَّ لم يأخذ المكانة اللائقة في المجتمع. فلما أصبح الظلم اضطهادًا وتعذيبًا وتشتيتًا وبترًا للأعضاء وسَمْلاً للعيون وقتلاً ـ تكونت الشيعة بالمعنى الاصطلاحي المعروف الآن. وكان رجال البيت العلويِّ ومن يَعطف عليهم يُغَذّون الفكرة ويُمدّونها بما استطاعوا من مال ومن تشجيع، ولكن الأفكار ـ إذ ذاك ـ لم تكن تسير بالمال والتشجيع فحسب، وإنما كانت تتطلب سَندًا من الدين لا مَنَاصَ منه.
ولجأت الشيعة إلى القرآن وإلى السنة، تستمد منهما ـ في يسر أو في تعسف ـ ما يُعينها على ما تريد. وآل أمر الشيعة إلى شيَعٍ، وأفرط الكثير منها في عليٍّ وغالَى، والحب حقًّا يُعمي ويُصمّ، فكان من ذلك الغُلاَةُ.
ولعل فيما تقدم ما يدل على أن أصل الشيعة لم يكن يهوديًّا ولم يكن فارسيًّا، كما يزعم بعض المستشرقين، وإنما نشأت الشيعة نشأة طبيعية ونمت نموًّا طبيعيًّا.
فرق الشيعة
وبرغم أن الشيعة تفرقت إلى ما لا يكاد يُحصَى من أحزاب، فإنه من الممكن تقسيمها إلى:
1ـ غُلاة.
2ـ إسماعيلية وما تفرع عنها.
3ـ إمامية إثنا عشرية.
4ـ زيدية.(1/140)
أما الغُلاة فقد بادوا وانقرضوا، وقد تبرأ منهم الشيعة؛ الإمامية منهم والزيدية.
يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، في رده على بعض الناقدين للشيعة:
فهل مراده ما يسمونه "غلاة الشيعة" كالخطّابية والغرابية والعلياوية والمخمِّسة والبَزيعية، وأشباههم من الفرق الهالكة المنقرِضة، التي نسبتها إلى الشيعة من الظلم الفاحش، وما هي إلا من الملاحدة؛ كالقَرَامطة ونظائرهم. أما الشيعة الإمامية وأئمتهم فيَبرَؤُن من تلك الفرق براءة التحريم (أصل الشيعة ص 46-47).
أما عبد الله بن سبأ الذي يُلصقونه بالشيعة أو يُلصقون الشيعة به، فهذه كتب الشيعة بأجمعها تُعلن بلعنه والبراءة منه، وأخف كلمة تقولها كتب رجال الشيعة في حقه، ويَكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في حرف العين هكذا: عبد الله بن سبأ ألعَنُ من أن يُذكَرَ (أصل الشيعة ص50).
وأما الإسماعيلية ـ وهم منتشرون في الهند والباكستان وجنوب أفريقيا وشرقها ـ فلسنا الآن بصدد الحديث عنهم وعن مذهبهم، وقربه وبعده عن الدين، وصلته أو عدم صلته بالأفلاطونية الحديثة أو بغيرها من مذاهب، وسنترك ذلك لفرصة أخرى إن شاء الله.
سنقتصر في الحديث إذًا على الإمامية الإثنا عشرية والزيدية.
والشيعة الإمامية الإثنا عشرية يمثلون ـ كما يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ـ أكثرية أهل السواد في العراق، وتسعة أعشار إيران، وجماعات في القُفْقاز من الاتحاد السوفيتى، وجبل عامل من الشام، وجزر البحرين، والكويت، وسواحل الأحساء، والهند. (أصل الشيعة)
ويقول الدكتور أحمد أمين: ويبلغ الإمامية الآن نحوًا من سبعة ملايين في فارس، ونحوَ مليون ونصف في العراق، وخمسة ملايين في الهند (ضحى الإسلام ص213)
والزيدية هم الشعب اليمني على الخصوص. والإمامية والزيدية يتفقون على:
1ـ أن عليًّا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2ـ وأنه لذلك كان أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر.(1/141)
أما فيما عدا هذا فلا يكادون يتفقون على شيء.
مذهب الإمامية
والإمامية مُجمِعون على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نص على استخلاف عليِّ بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه، وأن أكثر الصحابة ضلُّوا بتركهم الاقتداءَ به بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف، وأنها قرابة، وأنه جائز للإمام في حالة التَّقِيَّة أن يقول إنه ليس بإمام، وأبطلوا جميعًا الاجتهاد، وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس، وزعموا أن عليًّا، رضوان الله عليه، كان مصيبًا في جميع أحواله، وأنه لم يخطئ في شيء من أمور الدين. وأنكروا الخروج على أئمة الجَور، وقالوا: ليس يجوز ذلك دون الإمام المنصوص على إمامته. وهم يُدْعَونَ "الإماميةَ" لقولهم بالنص على إمامة عليِّ بن أبي طالب (مقالات الإسلاميين ص 87 ـ 88 ط النهضة المصرية).
وسميت "الإمامية الإثنا عشرية" لأنها تُسلسل الأئمة إلى الثاني عشر محمد بن الحسن بن عليٍّ، وهو الغائب المنتَظَر عندهم، الذي يَدَّعون أنه سيظهر فيملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئَت ظلمًا وجَورًا.
والشجرة التالية تبين تسلسل الأئمة عند فرق الشيعة نقلاً عن المستشرق برنارد لويس.
آل علي
علي توفي سنة 40هـ ـ 661م
الحسن 50هـ 670م ………الحسين 61هـ 680م……محمد بن الحنفية
81هـ 700- 701م
الحسن ………علي زيد العابدين 94هـ 712، 773م
عبد الله محمد الباقر 113هـ 731، 732م زيد125، 126هـ 743،744م
إبراهيم ……محمد النفس الزكية 145هـ 762م يحيى … عيسى
جعفر الصادق ـ 148هـ 765م
الأئمة المستورون الإسماعيليةإسماعيل …… موسى الكاظم 183هـ ـ 799م
أئمة الشيعة الاثنى عشرية
محمد …… على الرضا 202 هـ 817، 818م
أحمد …… محمد الجواد 220هـ 835م
الحسين (المعل) … على الهادي 254هـ 868م
محمد (القائم) 322هـ 934م حسن العسكري 260هـ 873، 874م
الخلفاء الفاطميون … محمد المهدى استَتَر حوالي
………………سنة 260هـ 872، 874م
الزيدية(1/142)
وكان الإمامية والزيدية في بدء أمرهما حزبًا واحدًا ثم اختلفا! والسبب في اختلافهما لم يكن أصلاً من أصول الدين، وإنما كان حول الإمامة، وهو يبين وجهة نظر كل منهما فيها.
يقول البغدادي: وسبب افتراقهما أن زيد بن عليٍّ قد بايعه علَى إمامته خمسةَ عشرَ ألف رجل من أهل الكوفة، وخرج بهم علَى والي العراق، وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك علَى العراقيين، فلما استمر القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفي قالوا له: إنا ننصرك علَى أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذَين ظلَما جدك عليَّ بن أبي طالب.
فقال زيد: إني لا أقول فيهما إلا خيرًا، وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيرًا، وإنما خرجت علَى بني أمية الذين قاتلوا جَدِّيَ الحسن، وأغاروا على المدينة يوم الحَرَّة، ثم رَمَوا بيتًا لله بحجر المنجنيق والنار.
ففارقوه عند ذلك، حتى قال لهم: رفضتموني! ومن يومئذ سُمُّوا "رافضةً". وبَقيَ زيد في مقدار مائتَي رجل، وقاتلوا جندَ يوسف بن عمر الثقفي حتى قُتلوا عن آخرهم، وقُتل زيد، ثم نُبش من قبره وصُلب، ثم أُحرق بعد ذلك (الفرق بين الفرق للبغدادي. ص 25 ط المعارف).
والزيدية يَرَونَ أن الأدلة الخاصة بإمامة علي ـ رضى الله عنه ـ اقتضت تعيينَه بالوصف لا بالشخص، وتقصيرُ الناس إنما أتَى من حيث إنهم لم يَضعوا الوصف في موضعه. وهم لا يتبرءون من الشيخين ولا يطعنون في إمامتهما، مع قولهم بأن عليًّا أفضل منهما (ابن خلدون. ص139 ط. عبد الرحمن محمد) ذلك أنهم يجوِّزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل. ويشترطون بأن يكون الإمام عالمًا زاهدًا جوادًا شجاعًا ويخرج داعيًا إلى إمامته.
وقد كان زيد يناظر أخاه "محمد الباقر" على اشتراط الخروج في الإمام، فيُلزمه "الباقر" ألاّ يكونَ أبوهما زينُ العابدين إمامًا؛ لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج.(1/143)
وكان الباقر يَنعي عليه أيضًا مذاهب المعتزلة وأَخْذَه إياها عن واصل بن عطاء (مقدمة ابن خلدون ص140).
و الزيدية سُمُّوا بذلك نسبة إلى صاحب المذهب، وهو زيد بن عليِّ بن الحسين السِّبط.
وقد ساق الزيدية "الإمامة" على مذهبهم فيها، وأنها باختيار أهل الحِلّ والعَقد لا بالنص، فقالوا بإمامة علي، ثم ابنه الحسن، ثم أخيه الحسين، ثم ابنه علي زين العابدين، ثم ابنه زيد بن علي، وهو صاحب هذا المذهب، وخرج بالكوفة داعيًا إلى الإمامة فقُتل وصُلب.
وقال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده، فمضى إلى خراسان، بعد أن أوصى إلى النفس الزكية، فخرج بالحجاز وتلقَّب بالمهديِّ، فأرسل إليه المنصور جيشًا، فقُتل بعد أن عَهد إلى أخيه إبراهيم الذي قُتل بالبصرة (مقدمة ابن خلدون ص140 ط عبد الرحمن محمد)
الشيعة وأصول الإسلام
نرى مما سبق أن الشيعة تكونت في المبدأ حبًّا في عليٍّ؛ لقرابته من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولشخصيته الفذة، ثم تطورت فأصبحت حزب البيت العلوي.
ونظرياتها دارت ـ أولاً وبالذات ـ حول الإمامةِ وحول الإمام، فالمهديُّ إمام من أئمتهم، يعود فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئَت جورًا. والعصمة لأئمتهم لا شك فيها، بحسب نظرهم. والغيبةُ التي تُعقبها الرجعةُ إنما هي لإمامٍ هو آخر الأئمة، اختفى، وهم في انتظار عودته مهما طال الزمن. والتقيةُ إنما وجبت لإحكام العمل حتى يتولَّى البيت العلويُّ الرياسةَ.
أين الخلاف في الأصول في كل هذا؟
يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء فيما يتعلق بموقف الشيعة الإمامية من الغُلاة الذين يتبرأ منهم كل مسلم:(1/144)
أما الشيعة الإمامية ـ وأعني بهم جمهرة العراق وإيران، وملايين من مسلمي الهند، ومئات الألوف في سوريا والأفغان ـ فإن جميع تلك الطائفة من حيث كونها شيعةً يَبرَؤُن من تلك المقالات ويَعُدونها من أشنع الكفر والضلالات، وليس دينهم إلا التوحيدَ المَحْضَ، وتنزيهَ الخالق عن كل مشابهة للمخلوقات أو ملابسةٍ لهم في صفة من صفات النقص والإمكان والتغير والحدوث وما ينافي وجوبَ الوجود والتقدم والأزلية، إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس المشحونةِ به مؤلفاتهم في الحكمة، والكلام من مختصره كالتجريد، أو مطوَّلة كالأسفار وغيرهما مما يتجاوز الألوف، وأكثرها مطبوع منتشر، وجُلُّها يشتمل على إقامة البراهين الدامغة على بطلان التناسخ والاتحاد والحلول والتجسيم (أصل الشيعة ص47 ـ 48)
رأينا في الشيعة
الشيعة حزب، وهم لذلك يُزيِّفون كل ما يقف عقبة في سبيل توطيد مركزهم، ويتهافتون على كل ما يتوهمون أنه يساعدهم، ويؤوِّلون التاريخ حسَب ما تَهوَى نفوسهم.
فإذا ما تركنا العصبية جانبًا فإننا نرى في إخلاص أنه لو كان هناك ما يُشبه ـ ولو من بُعد ـ أن يكون رغبةً للرسول في أن يتولَّى عليٌّ الأمر من بعده، لسارع أبو بكر وعمر إلى بيعته.
إن إخلاص أبي بكر وعمر لله ولرسوله وللدين أسمى وأجَلُّ من أن يَتطرَّقَ إليه ظل من الشك.
وسيدنا عمر ـ رضى الله عنه ـ حينما دهَمته الطعنة المشئومة، وأوشك أن يلاقيَ ربه، وأراد أن يخرج من الدنيا ولم يألُ جهدًا في الإخلاص لربه وللأمة الإسلامية ـ لم يُوَلِّ عليًّا، وإنما جعل الأمر شورى بين ستة نفر، هم أمثل الأمة الإسلامية في نظره، ومن بينهم عليٌّ رضوان الله عليه.
ولم يَنتَهِ مجلس الشورى هذا باختيار عليٍّ. ولما تنازل عبد الرحمن بن عوف عن ترشيح نفسه ليختار الخليفة ـ وكان الأمر بيده ـ لم يَختَرْ عليًّا وإنما اختار عثمانَ رضي الله عنهما.(1/145)
ثم إنه امتنع عن بيعة عليٍّ سعدُ بنُ أبي وقاص بطلُ القادسية، وفاتحُ فارس، وأولُ من رمَى بسهم في سبيل الله، وأحدُ هؤلاء الذين تُوُفِّيَ الرسول وهو راضٍ عنهم ومطمئنٌّ إليهم.
وامتنع عن بيعته عبدُ الله بن عمر، الرجلُ الزاهدُ الورعُ، الذي آثَرَ اللهَ في كل تصرفاته.
وامتنع عن بيعته أيضاً أسامةُ بن زيد، وصلتُه بالرسول معروفة، وتقديرُ الرسول له أشهرُ من أن يَتمارَى فيه اثنان.
وامتنع عن بيعته محمدُ بن مَسلَمة، ومكانتُه في الأنصار معروفة.
وامتنع عن بيعته غيرُ هؤلاء ممن أراد السلامةَ لدينه والبعدَ عن الفتن.
على أن أصول الإسلام العامة تستوجب المساواة بين المسلمين في الحقوق والواجبات، وتجعل الأكرم هو الأتقى.
والحق أن الأمة الإسلامية ـ على اختلاف طبقاتها ـ تقدِّر عليًّا تقديرًا كريمًا، وتُنزِلُه من نفسها منزلة سامية.
أما ما وراء ذلك من آراء الشيعة، الغاليَةِ منهم والمعتدلةِ، فليس دينًا وليس ضرورةً عقليةً.
وإننا لنعتقد في إخلاص أن الزمن كفيل برد الشيعة إلى السَّنَن القويم. وبالله التوفيق.(1/146)
في علامات الساعة
من الأمور التي يجب الإيمان بها كما جاءت عن الصادق المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ علاماتُ الساعة؛ لأنها من الأمور الغيبية، ومن علامات الساعة إتيانُ المهديٍّ ونزولُ عيسى عليه السلام. وقد ورد بذلك الآثار عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإتيانُ المهديِّ قبل عيسى، عليه السلام، ثم نزولُ عيسى يكون عند خروج الدجال، فيَنزل ويَكسر الصليب ويَقتل الخنزير ويَضع الجزية، كما ورد في الحديث.
ونزول عيسى عليه السلام إنما هو تأييد لرسالة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه سينزل عاملاً بشريعة الإسلام مؤيِّدًا لها ناشرًا عبادتَها وتعاليمَها، صلوات الله وسلامه على رسل الله أجمعين.(1/147)
في الإمام المهديِّ المنتَظَر
خبر ظهور المهديِّ جاءت به نصوص السنة الصريحة، وأنه سيكون أول ظهوره بمكة المكرمة، وسيكون قبل نزول المسيح عيسى بن مريم، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وسيظل قائمًا بأمر المسلمين، يَتولَّى شئونهم ويقودهم في جهاد عدوهم، حتى ينزل المسيح بن مريم حاكمًا بشريعة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ منفِّذًا لقواعد الإسلام.
والمفهوم من جو الأحاديث الخاصة بالمهديِّ أنه قائد عربيٌّ مناضل مجاهد، يحاول نشر العدالة ورفع الظلم، كما جاء في الأحاديث الخاصة في أسلوب صريح واضح. وأنه ينزل سيدنا عيسى عليه السلام وقد أُقيمت الصلاة فيَتنحَّى المهديُّ للمسيح من إمامة المسلمين في تلك الصلاة، فيدفعه المسيح عيسى بن مريم بين كتفَيه ويقول له: لك أُقيمَت فصَلِّ. فيصلي بالمسلمين تلك الصلاة، ثم يتسلم سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام القيادة منه، ثم يذهب إلى الدجال فيقتله.
ومن أخبار المهديِّ ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تذهب الدنيا حتى يملك العربَ رجلٌ من أهل بيتى، يواطئُ اسمُه اسمي" وفي لفظ آخر: "حتى يَليَ رجلٌ من أهل بيتي".
وعن علي، رضي الله تعالى عنه، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لو لم يَبقَ من الدهر إلا يومٌ لبَعَث اللهُ رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما مُلئَت جَورًا" أخرجه أبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "المهديُّ منِّي، أجلَى الجبهة أقنَى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما مُلئَت ظلمًا وجَورًا، يملك سبع سنين" أخرجه أبو داود.
وهذا الحديث وإن كان في ظاهره انقطاعٌ، إلا أنه بالنسبة للأحاديث الواردة في وجود المهدي وولايته للمسلمين صحيحُ المتن، وهو بذلك يوجب على المسلمين التحرزَ من رفض ما جاء في المهدي من أخبار.(1/148)
ونفهم من الأحاديث الواردة فيه أنه ليس خاصًّا ببقعة من الأرض كنيجيريا مثلاً أو غيرها وإنما قائد للمسلمين، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يملأ الأرض عدلاً كما مُلئَت ظلمًا وجَورًا".
والجو العام لأحاديث المهدي يبشر بتحقيق الدولة العالمية التي تضم جميع أقطار الأرض تحت راية واحدة، وهي راية العدل والخير والحق، وهو أمل يسعى له كثير من الذين يريدون للإنسانية خيرًا ويظنون بها خيرًا، وهو حلم راود الكثيرَ من الفلاسفة، خطَّط له الفارابي مثلاً حينما كتب عن عالمية الحكم بمناسبة كتابته عن "المدينة الفاضلة".
والأحاديث عن المهديِّ أيضا تذكير للمسلمين بأن من رسالتهم إزالةَ الظلمِ والجَورِ من العالم أجمع، ونشرَ الحق والخير وتحقيقَ العدالة. والله أعلم.(1/149)
في نزول المسيح عليه السلام إلى الأرض مرة ثانية
نعم، سينزل المسيح عليه السلام إلى الأرض مرة ثانية، وسيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويرد بنفسه على من ألَّهُوه وبدَّلُوا شريعته وأنكروا ما جاء به من التبشير بسيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال تعالى: (وإذ قال عيسى بنُ مريم يا بني إسرائيلَ إني رسولُ اللهِ إليكم مصدِّقًا لِمَا بين يديَّ من التوراةِ ومبشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي اسمُه أحمدُ).
والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسى بيده، لَيُوشكَنَّ أن يَنزِلَ فيكم ابنُ مريمَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَكَمًا مُقسِطًا" أي عادلاً "فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويَضَعَ الجزيةَ، ويَفيضُ المالُ حتى لا يقبلَه أحدٌ"
وفي رواية: يقول أبو هريرة راوي الحديث: اقرءوا إن شئتم (وإنْ مِن أهلِ الكتابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ به قبلَ موتِه..) أي وما من أحدٍ من أهل الكتاب يكون في زمن نزول عيسى، عليه السلام، إلا ويؤمن به إيمانًا صحيحًا قائمًا على أساس أنه عبد من عباد الله وأنه مُقِرٌّ لنبينا بالرسالة.
وفي رواية عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "واللهِ، لَيَنزِلَنَّ ابنُ مريم حَكَمًا عادلاً فلَيَكسِرَنَّ الصليب ولَيَقتُلَنَّ الخنزير.."
بل إن عيسى عليه السلام حينما ينزل يبلُغ من تقديره للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولرسالته أن يمتنع عن التقدم على إمام المسلمين الذي يصلي بهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "ولا تزالُ طائفةٌ من أمتي يقاتِلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة" قال: "فينزلُ عيسى ابنُ مريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقولُ أميرُهم: تَعالَ صَلِّ لنا. فيقول: لا، إن بعضَكم على بعضٍ أمَراءُ، تَكرِمةُ اللهِ هذه الأمةَ".(1/150)
قال الإمام النووي: في قوله صلى الله عليه وسلم: "حَكَمًا" دليل على أن عيسى عليه السلام ينزل حاكمًا بهذه الشريعة ـ أي الإسلام ـ ولا ينزلُ نبيًّا برسالةٍ مستقلةٍ وشريعةٍ ناسخةٍ، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة.
وما من شك في أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خاتَمُ النبيين والرسلِ بنص القرآن الكريم، يقول سبحانه: (وخاتَمَ النَّبِيِّين) وكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتَمَ النَّبِيِّين إنما يؤخذ أيضا من أن الله سبحانه تكفل بحفظ القرآن من كل تحريف أو تبديل، يقول سبحانه: (إنّا نحن نزَّلنا الذكرَ وإنَّا له لحافظون) فالذكر ـ أي القرآن ـ بمثابة رسولٍ دائمٍ قائمٍ في الإنسانية يُحِقُّ الحق ويُبطِلُ الباطل، والله سبحانه وتعالى بهذا الحفظ يشير إلى أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تزال رسالته قائمة محفوظة، وكأنه بذلك بيننا مبشِّرٌ وهادٍ ونذيرٌ ورحمةٌ لكل من اتبعه، فنزول عيسى عليه السلام إنما هو من التبشير بدعوة نبينا والعمل على إقامتها.
ومما له مغزاه العميق أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول عن سيدنا موسى: "واللهِ، لو كان موسى حيًّا ما حَلَّ له إلا اتِّباعي" وكذلك الأمر في سيدنا عيسى، فلو كان حيًّا ما حَلَّ له إلا اتِّباعُ محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(1/151)
في المسيخ الدجال
المسيخ الدجال إنسان مولود من أبوين كسائر البشر، فسيدنا عمر رضوان الله عليه ظن أنه ابن صيّاد، وكان ابن صيّاد مولودًا من أبوين، وقد أراد سيدنا عمر أن يقتله فنهاه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً له: "إن يَكُنْهُ فلن تُسلَّطَ عليه، وإلاّ يَكُنْهُ فلا خيرَ له في قتلِه" فهو موجود إذًا، واستعاذة الرسول ـ صلوات الله عليه ـ منه إنما كانت تعليمًا للأمة وتحذيرًا لها منه. وسيظهر قبل قيام الساعة. وأما علامات قدومه فذلك عندما يخف وزن الإيمان في النفوس، ويغزو الشرُّ القلوبَ، وتكثُر الخلافات، ويسود الشغب.
أما الفتنة التي ستحدث، فإن ضعاف الإيمان سيجرُّهم عن طريق الرغبة وعن طريق الرهبة إلى اتباعه والكفر بالدين الصحيح كفرًا مطلقًا. وهي أيضًا ذلك الصراع الرهيب بينه هو وأتباعه من جانب وبين مَن استمسَكوا بالإيمان واعتصَموا بحبل الله. وقَانَا الله شرَّه وأعاذنا من الفتن. والله أعلم(1/152)
في عدد الرسل
أرسل الله، سبحانه وتعالى، إلى بني البشر رسلاً من أنفسهم ليُرشدوهم إلى ما فيه صلاحُهم وسعادتُهم في معاشهم ومعادهم. والأنبياء والرسل كثيرون لا يعلم عددَهم إلا اللهُ، والواجبُ الإيمانُ إجمالاً بأن لله أنبياءَ ورسلاً كثيرين لا يعلمهم إلا هو، كما قال تعالى: (منهم من قَصَصنا عليك ومنهم مَن لم نَقصُصْ عليك).
ويجب علينا أن نؤمن تفصيلاً بخمسة وعشرين رسولاً، وهم المذكورون في القرآن الكريم، وقد جمعهم علماء التوحيد في بيتين من الشعر:
في تلك حُجَّتُنا منهمْ ثمانيةٌ من بعدِ عشرٍ ويَبقَى سبعةٌ وهُمُو
إدريسُ هودٌ شعيبٌ صالحٌ وكذا ذو الكِفلِ آدمُ بالمختارِ قد خُتِمُوا
وقد ورد في ذلك أحاديث ضعيفة، والمشهور منها ما رواه ابن مَرْدَوَيهِ عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله: كم الأنبياء؟ قال: "مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفًا" قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: "ثلاثُمائةٍ وثلاثةَ عشرَ، جَمٌّ غَفيرٌ". هذا، والله أعلم بعدتهم، كما ورد في الآية السابقة.(1/153)
في لماذا اختار الله الجزيرة العربية للرسالة المحمدية؟
(إن أولَ بيتٍ وُضع للناسِ لَلَّذى بِبَكَّةَ مبارَكًا) وهذا البيت كان قبل إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام إنما رفع قواعده التي كانت موجودة من قبل (وإذ يَرفَعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تَقبَّلْ مِنّا إنك أنت السميعُ العليمُ. ربَّنا واجعَلنا مسلِمَين لك ومن ذريتِنا أُمّةً مسلِمةً لك وأَرِنَا مَناسكَنا وتُبْ علينا إنك أنت التوابُ الرحيمُ).
وكما كان أولَ بيت للعبادة فإنه في التقدير الأزلي آخرُ بيت لله تُقام فيه العبادة على الوجه الصحيح الصادق.
ولقد اختار الله تعالى الجزيرة العربية للرسالة المحمدية؛ لأن بها بيتَه هذا المحرَّمَ ملتَقَى الحجيج من كل جانب من جوانب الأرض، ولأن أهلها كانوا حينئذ أحسنَ الناس استعدادًا لحمل رسالة الله. ولو أن الرسالة كانت في غير جزيرة العرب لَمَا وجَدَت آذانًا مُصغية ولا قلوبًا واعية؛ ذلك أن الرومَ كانوا أهل دينٍ يصعُب عليهم تركُه إلى دين آخر، والفرسَ كانوا ذَوِي ملك وسلطان يَرَونَ فيهما العزة والمَنَعَة، ولا يمكن أن يَدينوا معها بدين آخرَ من أبرز ما فيه تغييرُ العقيدة وتغييرُ الأنظمة وإزالةُ الطغيان الذي كان سمة كثير من الملوك والأمراء، لذلك كانت الجزيرة العربية المكان الصالح لنشر الدعوة المحمدية؛ لأن أهلها كانوا بفطرتهم وعدم اعتناقهم أيَّ دين من الأديان التي كانت موجودةً حينئذٍ مهيَّئين لقبول الرسالة وحملها.
ولقد رفض اليهود الإسلامَ بالمدينة وما حولها، وهم يعلمون تمام العلم صفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كتابهم، ولكن خوفُهم من ذَهاب السلطان جعلهم يَجحَدون. وأصحاب السلطان في الفرس والروم لا شك كانوا يرفضون الدين الجديد خوفًا من زوال سلطانهم.(1/154)
في النسب الشريف
الصحيح من نسب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قُصيّ بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر بن كِنانة بن خزيمة بن مُدرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان.
أما ما بعد عدنان من الأسماء فإنه لا يقين فيه، والذي صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه انتسب إلى عدنان لم يتجاوز.
وقد رُوي عن ابن عباس، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمّا بلَغ في ذكر نسبه إلى عدنان قال: "كذب النَّسَّابون" مرتين أو ثلاثًا. وقد رُوي عن ابن عمر، رضي الله عنه، أنه قال: إنما ننتسب إلى عدنان، وما فوق ذلك لا ندري ما هو.
أما مسألة أن النسب الشريف ينتهي حقًّا إلى سيدنا إبراهيم، فقد روَى في ذلك الإمامُ البخاريّ حديثًا صحيحًا عن واثلة بن الأسقع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطَفَى من ولد إبراهيم إسماعيلَ، واصطَفَى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطَفَى من بني كنانة قريشًا، واصطَفَى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
ويلاحظ أن هذا الحديث الشريف لم يذكر سلسلة النسب من إسماعيل عليه السلام إلى بني كِنانة، ولكنه يؤكد أن النسب الشريف ينتهي إلى إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام. وليس في ذلك استحالة عقلية، وليس هناك من التاريخ اليقيني ما يَنفي ذلك، وبَقيَ الحديث صحيحًا وأن نسبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتهي إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام.(1/155)
في حكمة إرسال سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام
يقول الله تعالى معبِّرًا عن الحكمة في إرسال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (هو الذي بعَث في الأُمِّيِّين رسولاً منهم يَتلو عليهم آياتِه ويُزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبلُ لَفي ضلالٍ مُبِينٍ).
ومن دعاء سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل، وهما يرفعان القواعد من البيت (ربَّنا وابعَث فيهم رسولاً منهم يَتلو عليهم آياتِك ويعلِّمُهم الكتابَ والحكمةَ ويُزكِّيهم إنك أنت العزيزُ الحكيمُ).
من هذه الآيات ومن غيرها نعلم أن الحكمة في إرسال الرسل إنما هي تبليغ آيات الله ـ أي تعاليمه وأحكامه وتكاليفه ـ إلى بني البشر. إن الله سبحانه وتعالى لم يُرِدْ أن يَترك البشرَ دون هداية في الأمور الأساسية لبناء المجتمع، وهي العقيدة والأخلاق والتشريع، فأرسل لأهل الأرض الدستور السماويَّ الذي يؤدي اتِّباعُه والعملُ به إلى تزكية النفس وتطهيرها وصفائها. فالأديان والرسل إنما كانوا لبيان الأسس والقواعد التي لا يقوم المجتمع الصالح بدونها، وكانوا أيضًا لمصلحة الفرد التي تَتمثل في الارتفاع به إلى مستوى التزكية والطُّهر والصفاء، وهو مستوًى يجد فيه من يحقِّقه السعادةَ كلَّ السعادة، والبهجةَ كلَّ البهجة، ويَشعر من يَرتقي في معارجه منغمِسًا في نور هدايةِ الله سبحانه بالسكينة تُحيط به، وبالطمأنينة تملأ جميع أقطاره، ويَشعُر فوق كل ذلك برضوان من الله أكبرَ.(1/156)
حكمة إرسال الرسل إذن إنما هي إسعادُ المجتمع وإسعادُ الفرد، والرقيُّ بهما إلى المستوى الذي يرضاه الله لهما، وهو المستوى الرباني. بيد أن الإنسانية ابتعدت شيئًا فشيئًا عن الأديان والرسالات فأخذت تَشقَى بنسبة هذا الابتعاد أفرادًا وجماعاتٍ، وأخذت في تدمير بعضها بعضًا وتنكيل بعضها بالبعض الآخر، ولو عادت إلى الله لَسَعِدَت أفرادًا ولَسَعِدَت جماعاتٍ، وباب السعادة مفتوح، ورحمة الله لن تَضيق بمُرِيد مُخلِص، وعلى كل فرد إذا أراد الخير لنفسه وللإنسانية أن يتمسكَ وأن يدعوَ إلى التمسك بهَدْيِ السماء، ففي ذلك سعادته وسعادة المجتمع.(1/157)
في معجزة النبي في الأُمِّيَّة
رسولنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أُمِّيًّا لم يعرف القراءة والكتابة، وهذه معجزة له؛ إذ إنه جاء بالقرآن الذي أعجز العرب الفصحاء البلغاء، وهم أهل القراءة والكتابة، مع كونه أُمِّيًّا، وهذا دليل على أنه من عند الله، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله: (وما كنتَ تَتلو مِن قَبلِه مِن كتابٍ ولا تَخُطُّه بيمينِك إذًا لارتابَ المُبطِلون) وفي سورة الأعراف قوله تعالى: (الذين يَتَّبِعون الرسولَ النبيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراةِ والإنجيلِ).(1/158)
في خُلُقِ الرسول صلى الله عليه وسلم
سُئلت السيدة عائشة، رضوان الله عليها، عن خُلُق رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ فقالت: كان خُلُقُه القرآن. والقرآن كان يتحدث عن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حديثًا مباشرًا، أو كان يرسم المبادئ ويضع القواعد في العقيدة والأخلاق، ويصور في الوقت نفسه الطريق الذي كان يسير عليه السراجُ المنيرُ الرءوفُ الرحيمُ صلوات الله وسلامه عليه. فالقرآن إذن المصدر الأول الذي تُستمد منه صفاتُ الرسول وأخلاقُه صلى الله عليه وسلم.
والمصدر الثاني هو كتب الأحاديث الصحيحة، وخيرها صحيح البخاري، يليه صحيح مسلم، وكل كتاب من كتب الأحاديث على وجه العموم يخصِّص قسمًا منه لصفات الرسول وأخباره. ثم يأتي في المرتبة الثالثة كتبُ السيرة، القديمُ منها والحديثُ، ومن خير كتب السيرة القديمة "سيرةُ ابن هشام" ولقد طُبعت طبعات مختلفة محقَّقة مع شرح الكلمات الصعبة. ومن خير الكتب القديمة والحديثة كتاب "الأنوار المحمدية" للعارف بالله يوسف النَّبهانى.
أما الكتب الحديثة فإن من خيرها كتابَ "حياة محمد" للدكتور هيكل، وقد نال هذا لكتاب إقبالاً يستحقه، وقد تَوالَت طبعاته ولا تزال تَتوالَى وتجد رواجًا كبيرًا هي أهلٌ له. ومنها كتاب "محمد رسول الله" وهو كتاب مترجَم عن الفرنسية، كتبه أحد كبار مفكري الفرنسيين ـ بعد أن هداه الله للإسلام وبعد أن حج بيت الله الحرام ـ معتمدًا على المصادر الإسلامية الأصلية.(1/159)
في حجة الوداع
في السنة العاشرة للهجرة، وقد دار الفلك دورته قبل شهر ذي القَعدة، نادى منادي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المسلمين أن يجهزوا أنفسهم لحج بيت الله الحرام مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد عزم الرسول أمره على أن يؤديَ بالمسلمين فريضة الحج ليأخذوا عنه المناسك، فهو إمام المسلمين وقدوتهم (لقد كان لكم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخِرَ وذكَر اللهَ كثيرًا) واجتمع الألوف المؤلَّفة من المسلمين وقَدِموا من الصحاري والبوادي وضربوا خيامهم حول المدينة استعدادًا للرحيل إلى بيت الله الحرام، وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة سار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه نساؤه كلهنَّ ومائةُ ألف أو يزيدون من المسلمين، مُيَمِّمِين شطرَ المسجد الحرام بمكة المكرمة ليَطُوفوا بالبيت ويَقفوا بعرفات ويؤدوا مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الفريضة الجامعة، فيعرفوا منه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ المناسك الصحيحة، وهو القائل صلوات الله عليه: "خذوا عني مناسكَكم" وبلَغ الرسولُ والحجيجُ معه مكةَ المكرمة في اليوم الرابع من ذي الحجة وأَدَّوا جميعًا مناسك العمرة، ويقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ محرِمًا لأداء مناسك الحج، وفي يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة ذهب الرسول والمسلمون معه إلى منًى فقَضَوا فيها ليلتَهم حتى مطلع الفجر، فصلى الرسول الفجر وركب ناقته القصواء حين بزَغَت الشمس، ويَمَّمَ بها جبلَ عرفات والمسلمون من ورائه، وارتقى الرسولُ الجبلَ وألوفُ المسلمين محيطين به، بين مُلَبٍّ ومُكَبِّر، وضُربت للرسول قُبة بنَمِرة، ولما زالت الشمس يوم عرفات يوم الحج الأكبر ركب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناقته وسار بها حتى أتى بطن الوادي، ونادى في الناس بصوت جهوري وهو على ناقته، وكان يردد الصوت من بُعدٍ ربيعةُ بن خلف، وبعد أن حَمِدَ الله وأثنى عليه خطب في الناس خطبته(1/160)
الجامعة، التي وضع بها القواعد والأسس لهذا الدين القويم، وأكد الحلال والحرام، وبيَّن الحقوق والواجبات.
فالمسلم أخو المسلم لا يَظلِمه ولا يُسلِمه، وكل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، وأن الربا كله باطلٌ قليلُه وكثيرُه سواءٌ، وأن للمرأة على الرجل حقوقًا وللرجل عليها حقوقًا، ونبَّه المسلمين إلى أن ما فيه عزُّ الدنيا والآخرة لهم هو كتابُ الله وسنة رسوله، فإذا انحرفوا عنها فذلك هو الضلال البعيد، وهاهي ذي خطبتُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال بعد أن حَمِدَ الله وأثنى عليه:
"أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.
أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تَلقَوا ربَّكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم تَلقَونَ ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلَّغتُ، فمن كان عنده أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها.
وإن كل ربًا موضوع" أى مُهدَر "ولكن لكم أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، قضى الله أنه لا ربَا، وأن ربَا العباس بن عبد المطلب موضوع كله.
وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضعُ دمُ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبد بأرضكم هذه أبدًا، ولكنه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك فقد رَضيَ به مما تَحقِرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس، إن النسىءَ زيادةٌ في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يُحلُّونه عامًا ويحرِّمونه عامًا ليواطئوا عِدّةَ ما حرَّم الله فيُحلُّوا ما حرَّم اللهُ ويحرِّموا ما أحله الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجب الفرد، الذي بين جُمادَى وشعبان.(1/161)
أما بعد، أيها الناس فإن لكم على نسائكم حقًّا ولهنَّ عليكم حقًّا؛ لكم عليهنَّ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، وعليهنَّ ألاَّ يأتينَ بفاحشة مبيِّنة، فإن فعَلنَ فإن الله قد أَذِنَ لكم أن تَهجروهنَّ في المضاجع وتضربوهنَّ ضربًّا غير مبرِّح، فإن انتَهَينَ فلهنَّ رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف. واستوصُوا بالنساء خيرًا؛ فإنهنَّ عندكم عَوَانٍ لا يَملِكنَ لأنفسهنَّ شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهنَّ بأمانة الله واستَحلَلتُم فروجهنَّ بكلمات الله.
فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلَّغتُ.
وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تَضِلُّوا أبدًا أمرًا بيِّنًا؛ كتاب الله وسنة رسوله.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه.
تَعلَمون أن كل مسلم أخٌ للمسلم، وأن المسلمين إخوةٌ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طِيبِ نفسٍ منه، فلا تَظلِمُنَّ أنفسَكم. اللهم هل بلَّغتُ؟"
فأجاب الناس من كل صوت: نعم. فقال: "اللهم فاشهد".
هذه هي خطبة الوداع، وسُمِّيَت بذلك لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودَّع الدنيا وذهب إلى الرفيق الأعلى بعد أداء مناسك الحج والذَّهاب إلى المدينة بقليل.
وكان أسلوبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها أسلوب مودِّع، كقوله: "اسمعوا واعقلوا فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف أبدًا ... ألاَ هل بلغتُ؟ اللهم فاشهد".
وقد حدث أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد الخطبة نزل عن ناقته وأقام حتى صلى الظهر والعصر، ثم ركبها وسار حتى الصحراء، وهنا تلا على الناس قوله تعالى: (اليومَ أكمَلتُ لكم دينَكم وأتمَمتُ عليكم نعمتي ورَضِيتُ لكم الإسلامَ دينًا) فلما سمعها صاحبه الصديق أبو بكر رضي الله عنه بكى، إذ أحس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تمت رسالته قد دنا يومُه الذي يَلقَى فيه ربَّه.(1/162)
وكما سُمِّيَت الخطبةُ خطبةَ الوداع فقد سُمِّيَت الحجةُ كذلك حجةَ الوداع، كما سُمِّيَت حجةَ البلاغ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتم فيها بلاغه للناس بما أمره الله ببلاغه.
وبعد قليل من عودته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة المنورة بعد أن أتم مناسك الحج دهَمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرض الحُمَّى وعانَى منه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ما عانى، وخُيِّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين مفاتيح خزائن الدنيا أو الخلد فيها ثم الجنة وبين لقاء ربه والجنة، فاختار لقاء ربه، صلوات الله وسلامه عليه.(1/163)
في معجزات النبي غيرَ القرآن
لكل نبيٍّ معجزاتٌ، فهل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزاتٌ غيرَ القرآن؟ وما هي؟
أيد الله، سبحانه وتعالى، أنبياءه ورسله بالمعجزات التي تدل على تصديقه، سبحانه وتعالى، لهم في دعواهم، وكأن الله سبحانه وتعالى بهذا التأييد يقول: صدق عبدي في كل ما يبلِّغ عني.
وهذه المعجزات تناسب العصر الذي بُعث فيه الرسول، وتكون من جنس ما اشتهروا به، حتى يكون عجزهم عن معارضته دليلاً على أنها من صنع الله وليست من صنع البشر.
ولما كان العرب أهلَ فصاحة وبلاغة كانت أعظمُ معجزة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآنَ المنزَّلَ باللفظ العربي الذي أعجزهم ببلاغته فلم يستطيعوا معارضته أو الإتيان بشيء من مثله، وهو المعجزة الخالدة.
ولنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزاتٌ كثيرة حسية، أظهَرَها اللهُ على يديه وشاهَدها الحاضرون، ولقد تحدث القرآن عن بعضها وذكرت السنة بعضًا آخر منها.
فتحدث القرآن عن معجزة الإسراء والمعراج، قال تعالى: (سبحان الذي أَسرَى بعبدِه ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا حولَه لِنُرِيَه من آياتِنا إنه هو السميعُ البصيرُ) وقال تعالى: (ولقد رآه نَزلةً أخرى. عند سدرةِ المنتَهَى. عندها جنةُ المأوَى) فالآية الأولى تذكر حادثة الإسراء، والثانية تشير إلى المعراج.
وفي السُّنَّةِ الكثيرُ من الأحاديث التي تتحدث عن معجزاته، عليه السلام، ومنها مثلاً نبعُ الماء من بين أصابعه الشريفة. ولقد أفرد بعض المؤلِّفين مؤلَّفاتٍ في معجزاته عليه الصلاة والسلام.(1/164)
في كيف كان بَدء الوحي؟
إن الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن السيدة عائشة، رضي الله عنها، وفيه بعض سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصفاتِه في مطلع نزول الوحي عليه، هو حديث بدء الوحي.
وهذا الحديث وثيقة هي من الأهمية بحيث لا يوجد ما يماثلها في الأدب العالمي، وأهميتها ترجع إلى وصفها للكيفية التي أتَى بها أولَ ما أتَى الوحيُ. وإن الإنسان حينما يقرؤها يَلمَس فيها مباشرةً صدقَ الحديث، وسهولةَ التعبير، وتصويرًا للحقائق لا يجد الشك إليها سبيلاً.
ومن المعروف أن السيدة عائشة تروي في هذا الحديث ما عَلِمَته علمًا يقينيًّا من الملابسات والظروف والأخبار الصادقة والروايات الصحيحة ومن حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها مباشرة. ويمكننا أن نذكر ما تحدثت به عن سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يلي بحسَب الترتيب الذي ورد في الحديث.
1ـ لقد أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيَا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح.
2ـ وعند ذلك حُبِّب إليه الخَلاء، فكان يذهب إلى مشارف مكة بعيدًا عن ضجيج المدينة وصَخَبِها ومشاغلها، ويعتكف في غار حِرَاء، فيَتحنَّثُ فيه، وهو التعبد اللياليَ ذواتِ العدد، قبل أن يَنزِعَ إلى أهله ويتزود لذلك ـ أي يأخذ الزاد للاعتكاف ـ من جديد ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.(1/165)
3ـ ولما جاء المَلَك في الغار وحدَث ما حدَث بينهما خرج من الغار يرجُف فؤاده، وبعد أن أخبر السيدة خديجة بالأمر قال لها: "لقد خشيت على نفسي" فقالت السيدة خديجة واصفةً سيرةَ النبي في دقةٍ دقيقةٍ، سيرتَه التي كان عليها في مطلع الوحي وكان عليها طيلة حياته، سيرتَه التي كانت متناسقة مع بواعث رسالته وأهدافها، تلك البواعث والأهداف التي قال عنها سبحانه وتعالى: (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالَمين) قالت السيدة خديجة ردًّا على قوله "لقد خشيت على نفسي": كلاّ، واللهِ لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرحمَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتُكسِبُ المُعدَمَ، وتَقرِي الضيفَ، وتُعين على نوائب الحق.
وهذه الصفات التي وصفته بها السيدة خديجة، والتي روتها السيدة عائشة في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ـ إنما هي عبارة عن الرحمة، ولقد كانت سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمةً كلها، وهو القائل: "إنما أنا رحمة مُهدَاة" وهو القائل: "أنا نبيُّ الرحمة".(1/166)
في حياة الشباب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد كانت حياته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ شرحًا مستفيضًا وتوضيحًا كاملاً وتعبيرًا تامًّا لما ذكره ابن خلدون، وما يتفق عليه العقلاء ويُجمِعُ عليه أصحاب البصائر المستنيرة من أن ذلك من علامات الأنبياء؛ أنه يوجد لهم قبل الوحي خُلُقُ الخيرِ والذكاءِ ومجانبةِ المذمومات والرجسِ أجمعَ.
وهذا هو معنى العصمة، وكأنه مفطور على التنزُّه عن المذمومات والمنافرة لها، وكأنها منافية لجِبِلَّتِه.
ويضرب ابن خلدون بعض الأمثلة من حياة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مبيِّنةً لهذه القاعدة فيقول:
وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة، فجعلها في إزاره، فانكشف، فسقط مغشيًّا عليه حتى استتر بإزاره.
ودُعيَ إلى مجتمع وليمة فيها عُرس ولعب، فأصابه غَشْيُ النوم إلى أن طلعت الشمس، ولم يحضر شيئا من شأنهم.
ومضت فترة الشباب برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو طاهرٌ زَكيٌّ؛ طاهرٌ من الآثام التي تدنِّس الشبابَ في مجتمعاتهم، وزَكيٌّ لأنه بعيد عن الشرك لم يسجد لصنمٍ قطُّ، صلوات الله عليه وسلامه.(1/167)
في الرسول يعمل كما يعمل سائر الناس
عاش الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياته الكريمة بكل ما تقتضيه هذه الحياة من حركة وسعيٍ وعمل في كل المجالات المطلوبة؛ لقد رعَى الغنمَ واشتغل بالتجارة قبل البعثة، وكان القائدَ السياسيَّ والحربيَّ للمسلمين بعد البعثة.
وتطلبت هذه الحياة العريضة التنقلَ فيما بين أرجاء الجزيرة العربية، فتَنقَّلَ فيها، بل تجاوزها إلى غيرها كبلاد الشام، واستخدم في تنقلاته وسائل الموصلات المطلوبة والميسورة في وقته وفي ظروفه، فاستعمل في ركوبه الخيلَ والإبلَ والحميرَ. وقد حَفِظَت لنا كتب السنة والسيرة أوصافًا لما كان يستخدمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ركوبه وأسفاره، بل أسماءً لها.
ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَحتَجْ في حياته الكريمة إلى ركوب سفينة أو اجتيازِ بحرٍ، ومع ذلك فقد كان عارفًا بالبحر وبما وراء البحر، لقد سمع بعدالة ملك الحبشة النجاشي قبل الهجرة، فوجَّه أتباعَه إليه فرارًا من ظلم المشركين واستبدادهم، وركبوا البحر من شواطئ الجزيرة العربية إلى الحبشة وعادوا بعد الهجرة مجتازين له.
وبشر أمته بأن منهم من سيركب البحر مجاهدًا في سبيل الله وسيغزو مَن وراءَه. إن عدم ركوبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سفينةً أو نزولَه البحر أمرٌ عادي اقتضته ظروف حياته وأحوال بيئته، لا صلة له بتشريع ولا علاقة بالنبوة.
ومما يتصل بهذا المجال، حُكيَ أن بحارًا أوربيًّا قرأ فيما تُرجم من القرآن قولَه تعالى: (أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ يَغشاه موجٌ مِن فوقِه موجٌ مِن فوقِه سحابٌ ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ إذا أخرَج يدَه لم يَكَدْ يراها) فسأل: أكان هذا بحارًا يجتاز البحار وينتقل بين أرجائها؟ فقيل له بأنه لم يركب البحر في حياته، فقال: إن هذا الوصف لا يصفه بهذه الدقة والبراعة إلا من شاهد وعاش فيه. فقيل له: إن القرآن ليس من عنده إنه من عند الله. فآمَنَ وكان ذلك سببًا في إسلامه.(1/168)
في أبرز صفات الرسول الخالدة
إن من أبرز صفات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخالدة والتي تُشع النور، وتُعطي القدوة الحسنة على مر العصور، والتي نحتاج إلى التركيز عليها في حياتنا الحاضرة ـ صفة الجهاد.
إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، والذي كان في كثير من الأحيان يواصل في الصيام، هو الذي يقول: "والذي نفسُ محمدٍ بيده، لَوَدِدتُ أن أغزوَ في سبيل الله فأُقتَلَ، ثم أغزوَ فأُقتَلَ، ثم أغزوَ فأُقتَلَ" وهو القائل: "من مات ولم يَغْزُ ولم يحدِّثْ نفسَه بالغزوِ مات على شُعبة من النفاق".
إن النبي العابد هو النبي المكافح، وإن نبي الرحمة هو نبي الجهاد، وما كان الجهاد قط في الإسلام إلا في سبيل الله، فإذا ما خرج عن سبيل الله لم يكن إسلاميًّا، وكل ما في سبيل الله إنما هو رحمة.
وأول ملاحظة هي أن الرسول العابد لم يتراجع في غزوة قط، وكان الأبطال يتراجعون والصناديد من المهاجرين والأنصار يَفِرُّون أحيانًا، ولكنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيما يقوله سيدنا عليٌّ، وهو مَن هو بطولةً وفروسيةً: كنا إذا حَميَ الوَطيس (أي الحرب) اتَّقَينا برسول الله صلى الله عليه وسلم (أى احتَمَينا به وفيه) فيكونُ أقربَنَا إلى العدو.
وكان، صلوات الله وسلامه عليه، مع التجائه إلى الله تعالى يدعوه ويستغيث به ويستنجزه وعدَه بالنصر ـ يُحكم الأمر إحكامًا بحيث لا يَدَعُ فيه ثَغرة. هكذا كان أَمْرُه في جميع أموره. لقد نظَّم الجيش في غزوة بدر تنظيمًا مُحكَمًا ثم اتجه إلى الله يدعوه.(1/169)
وكان دائمًا متفائلاً، كان متفائلاً حتى ولو كان العدو عشرةَ أمثال المسلمين. لقد كان المشركون في غزوة بدر ثلاثة أمثال المسلمين، فهزمهم المسلمون بإذن الله. وكان انهزام المسلمين في غزوة أحد شذوذًا في القاعدة، وما كان ذلك إلا لأنهم خالفوا متأوِّلِين أوامرَ الرسول صلى الله عليه وسلم. غير أن تفاؤله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ لم يفارقه لحظة، إذ إنه بعد أن انهزم المسلمون في غزوة أحد مباشرة أمرهم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بِلَمِّ شَعَثِهم وتضميد جراحهم والاستعداد فورًا لخوض المعركة من جديد.
ومن مظاهر تفاؤله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه في غزوة الأحزاب وقد تجمع الشرك من جميع أرجاء الجزيرة، يسانده اليهود والغادرون لِيَقضوا على الإسلام في المدينة؛ لِيَقضوا عليه دينًا ولِيَقضوا عليه دولةً، لِيَقضوا عليه عقيدةً ولِيَقضوا عليه رجالاً، وقد كان المسلمون يعملون في حفر الخندق حمايةً لهم ومنعًا من وصول العدو إليهم، وفي هذه اللحظة الحرجة يروي البَرَاء بن عازب، رضي الله عنه، القصة التالية حسبما رواها الإمام أحمد:
أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحفر خندق لا تأخذ فيه المَعَاول، فشكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاء ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المِعْوَل وقال: "باسم الله" فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر وقال: "الله أكبر، أُعطِيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحمر من مكاني هذا" ثم قال: "باسم الله" وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: "الله أكبر، أُعطِيتُ مفاتيحَ فارس، والله إني لأُبصر المدائن، وأُبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا" ثم قال: "باسم الله" وضرب ضربة أخرى فقلَع بقية الحجر، فقال: "الله أكبر، أُعطِيتُ مفاتيحَ اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا".(1/170)
وأشاع هذا التفاؤل الثقةَ والاطمئنانَ في المسلمين، وإن كان قد دعا إلى السخرية في وسط المشركين والوثنيين الذي قالوا: إن محمدًا يَعِدُهم ويُمَنِّيهم وهم لا يَأمَنون على أنفسهم الآن. هذا التفاؤل وهذه الثقة في الله لم تفارق الرسولَ قطُّ في كفاحه الطويل الدائب الذي استمر إلى نهاية حياته الشريفة.(1/171)
في عرض الرسول نفسَه على قبائل العرب
عرض المشركون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأموال والجاهِ ما يُغري غيرَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقَبوله وتركِ ما يدعو إليه، ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن لِيَدَعَ ما أُرسل به إلى الناس لدنيا لا بقاءَ لها، لأن الله ثبَّته بالقول الثابت، والله أعلم حيث يجعل رسالته في الذين لا يُخالفون عن أمره من صفوة عباده.
لو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استجاب لمشركي مكة وركَن إليهم قليلاً؛ بالكف عن تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم في تبليغ رسالة ربه، لكان مُقِرًّا لهم، والمُقِرُّ لأحدٍ على فعل معصية يُعتبَرُ شريكًا له في فعلها ومَجْزِيًّا بإثمها.
وحاشا رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُقِرَّ أحدًا على معصية أو يَركَنَ إليه أو يَدَعَ ما أرسل به إلى العرب، وقوله تعالى: (وإن كادوا لَيَستَفِزُّونك من الأرضِ...) بيانٌ لشدة تمسك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أوحَى به الله إليه.(1/172)
في عدد الغزوات التي قام بها النبي
عدد الغزوات التي غزاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسعَ عشرةَ غزوة، وقيل: إنها إحدى وعشرون. عن أبي إسحاق قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له: كم غزا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غزوة؟ قال: تسعَ عشرةَ. قيل: كم غزوتَ أنت معه؟ قال: سبعَ عشرةَ. قلت: فأيُّهم كانت أولَ؟ قال: العُشيرة أو العُشير. فذكرتُ لقتادة فقال: العُشيرة. ورُوي عن جابر أن عددها إحدى وعشرون. ففات زيدَ بن أرقم ذكرُ سنتين، ولعلها الأبواء وبُواط.
وأشد الغزوات هَولاً غزوة أحد؛ لأن هذه الغزوة فيها انتصر المسلمون أولاً ثم أخذوا في تقسيم الغنائم وجمعها، فاستغل الفرصة المشركون وانهالوا عليهم كالسيل الجارف، ثم رأى المسلمون أن الهَول الذي وقَع عليهم لا يمكن صدُّه فانسحَبوا ووَلَّوا الأدبارَ، حينئذ أُصيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشُقَّت رَبَاعِيَتُه، ولم يكن معه إلا أبو بكر وعدد قليل من الصحابة، وشاع الخبر أن محمدًا قُتل، فاشتد الهَولُ على المسلمين والخوفُ، وكادت نفوسهم أن تضيق بها الأمكنة.(1/173)
في الإسلام حَمَلَ السيفَ دفاعًا عن حريته وعقيدته
بدأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدعوة إلى التوحيد في مجتمع لا يَدين بالتوحيد، وأخذ ـ صلوات الله عليه ـ طيلة الفترة المكية يبين الدعوة بالقرآن وبالأحاديث وبالسلوك المستقيم. وفي هذه الفترة المكية كلها لم يرفع الرسول صلوات الله عليه سيفًا ولم يُقِمْ حربًا، وكان أعداء الحق يعذِّبون المسلمين وينكِّلون بهم ويحاولون قتل رجالٍ لأنهم يقولون: ربُّنا اللهُ.
وانتهى التعذيب إلى غايات أليمة؛ فأُخرج الذين يقولون: (ربنا الله) من ديارهم وشُتِّتوا من أوطانهم، فكانوا المهاجرين؛ هاجروا إلى الحبشة أولاً ثم هاجروا إلى المدينة.
ولكن الكفر لم يكتف بذلك، فأراد أن يَقضيَ على الإسلام في المدينة، وكان من توفيق الله أن وُجد في هذه الفترة من المؤمنين من أمكَنهم أن يردوا هجمات الشرك والكفر، فحملوا السيف دفاعًا عن أنفسهم وأوطانهم، ولقد ألجأهم الشركُ مرة إلي أن يَحفِروا حول مدينتهم خندقًا عميقًا، حينما جاء أعداء الله آلافًا مؤلَّفةً لِيَقضوا على المؤمنين في ضربة واحدة وفي صورة حاسمة، ورد الله الذين كفروا بغيظهم.(1/174)
والتاريخ إذن يُرينا ـ في صورةٍ لا مِرْيةَ فيها ـ أن الإسلام لم يَحمل السيف طيلة الفترة المكية، وقد كان يَنتشر بالدعوة إليه، ثم حمل السيف دفاعًا في أوائل الفترة المدنية، وكان ينتشر بالدعوة إليه، ثم لما انتشر الإسلام بالدعوة السلمية انتشارًا واسعًا وأصبح قوةً لها شأنها ولها خطرها، رأى المؤمنون بها أن إيمانهم بالحق لا يكون كاملاً إلا إذا فُتحت أبواب الدعوة إلي هذا الحق في كل مكان، ولما كان الطغاة والمستبِدُّون يقفون في وجه الحق ويتكبرون على الهداية رأى المؤمنون بالحق أنه لابد من تحرير الشعوب من طغيان الطغاة واستبداد المستبدين، حتى يمكن بيان الحق والدعوة إليه، فحملوا السيف تحريرًا للشعوب وفتحًا للأبواب التى أغلقها الملوك المستبِدُّون في وجه الدعوة إلى الله. وليس في تاريخ الإسلام كله حادثة واحدة على أن المسلمين أجبَروا شخصًا على اعتناق الإسلام، بل كان الأمر بالعكس لبعض الولاة؛ كان يضيق ذرعًا بكثرة اعتناق الناس للإسلام بالرغم مما يعمله للحد من ذلك. إن الإسلام انتشر فى كل مكان أشرق نورُه فيه لأنه حقٌّ واضحٌ ولأنه رحمةٌ للعالَمين.(1/175)
في رسائل النبي إلي الأمراء والملوك
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبعث الرسائل إلى ملوك الدول يدعوهم إلى الإسلام، ومن هذا القبيل رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي بعث بها دِحْيةَ إلى هِرَقْلَ، بدأت هذه الرسالة (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي آية من القرآن، وبعد أن دعا الرسول صلى الله عليه وسلم هِرَقْلَ إلي الإسلام كتب ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رسالته: (يأهلَ الكتابِ تَعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بينَنا وبينَكم ألاّ نَعبدَ إلا اللهَ ولا نُشركَ به شيئًا ولا يَتَّخِذَ بعضُنا بعضًا أربابًا من دونِ اللهِ فإن تَوَلَّوا فقولوا اشهَدوا بأنّا مسلمون).
هذه الرسالة إلي هِرَقْلَ رواها الإمام البخاري ورواها الإمام مسلم، فهي إذن ثابتة، وهي تشتمل على بعض القرآن، وهي مرسَلَة إلى النصارى، والذي أرسلها هو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن المعلوم ومن المتَيقَّن لدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم سيَمَسُّون الرسالة، ولو كان مَسُّها حرامًا لاشتمالها على القرآن لَمَا كتَب الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها قرانًا، وهذا ما رآه الإمام داود الظاهري والإمام ابن حزم.
هذا، ومما يبيح أن يَحملَ القرآنَ مَن هم على غير دين الإسلام أنه من المحتمَل أنهم يقرءون فيه فيَهتدون. أما إذا تضمن حَملُ غيرِ المسلمِ للمصحفِ إهانةً لكلام الله فإنه يحرُم على المسلمين أن يكونوا وسيلة أو وساطة لتمكين غير المسلمين من حمله.
هذا، وعلى المسلمين أن يَهدوا إلى كتاب الله بكل وسيلة كريمة تيسِّر اهتداءَ الناس إلى الحق، وقد يكون من ذلك تمكينُ غير المسلم من الاطِّلاع على القرآن.(1/176)
لا يلزم من رواية ابن عباس، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتب إلى هرقل أن يكون كتب بنفسه، فقد كان له كُتَّاب للوحي، وكان الكَتَبة يكتبون ما يأمرهم بكتابته. وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُمِّيًّا قبل الرسالة، قال تعالى: (وما كنتَ تَتلو مِن قبلِه من كتابٍ ولا تَخُطُّه بيمينِك إذًا لارتابَ المُبطِلون) ولم يَرِدْ ما يُفيد تعلمَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكتابَ بعد الرسالة، وورد في الآيات والأحاديث الصحيحة ما يُفيد أُمِّيَّةَ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال تعالى: (ورحمتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ فسأكتبُها للذين يَتَّقون ويُؤتون الزكاةَ والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يَتَّبعون الرسولَ النبيَّ الأمِّيَّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراةِ والإنجيلِ) وقال تعالى: (هو الذي بعث في الأُمِّيِّين رسولاً منهم) وأُمِّيَّةُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزةً من أبلغ المعجزات دلالةٌ على صدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رسالته وردُّ كلِّ ما ادعاه المشركون من تلقِّيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أهل الكتاب ونحو ذلك.
كفاك بالعلم في الأمِّيِّ معجزةً…في الجاهلية والتأديبِ في اليُتم
ولأجل ذلك أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقضاء على الأُمِّيَّة بين المسلمين بتعليم القراءة والكتابة، وكان له كُتَّاب للوحي ولغير الوحي، كالرسائل ونحوها. وآيات القرآن وأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلها داعية للعلم بشتّى ألوانه وحاثّةٌ على سلوك طرق التعلم والتعليم.(1/177)
زواج الرسول كان لمصلحة الرسالة
الذي نعرفه أن زواجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مسايرًا للحكمة والمصلحة لا للعواطف، فقد قضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول شبابه ولم يهتم بالزواج حتى فتح الله له ويسَّر له أمره، وسخَّر أم المؤمنين خديجة وهي في مثل سن والدته، وقد كان يعمل في مالها تجارةً من قبل، عُرف عنه فيها الأمانة والبركة، فعرضت عليه نفسها فتزوجها واقتصر عليها طول حياتها، وأعقب منها ذريته كلها، إلا إبراهيم فإنه من مارية الجارية القبطية التى ملَكتها يمينُه لما أهداها إليه المُقَوقِس عظيم القبط. فلما ماتت السيدة خديجة وعمره خمسون أو فوقها لم يَعمِد إلى زواج شابة مثلاً، بل تزوج كبيرة في السن هي السيدة سَودة بنت زَمعة، بهدف أن تَرعَى أولاه. وقد عقد على السيدة عائشة بمكة، وكانت بنت تسع سنين، إكرامًا لأبيها أول المؤمنين به وأصدقهم صحبة له، وبعد الهجرة إذ كانت بنت تسع سنين دخل بها، وما بنتُ سبع سنين ولا تسع سنين بمحرِّكةٍ للعاطفة عند النبي الرزين المَكِين. وتزوج سيدتَنا أمَّ حبيبة رَملةَ بنت أبي سفيان، وقد كانت آمَنَت به وهاجرت إلى الحبشة في سبيل الله، فهل يتركها بعد ما عادت دون زوجها لأبيها مثلاً وقد كان عدوًّا محاربًا له، أو يتخذُها زوجةً له صيانةً لها ومدَّ يدٍ نحو السلم تألُّفًا للقلوب؟ كما زوَّجه الله بنتَ عمته السيدةَ زينبَ بنت جحش التي كان زوجها زيد بن حارثة، لقد تزوجها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ما طلقها من زيد بن حارثة الذي كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تَبنَّاه لاختياره اللهَ ورسولَه على أبيه وأهله وعشيرته، وزوَّجه زينبَ بنت عمته لحكمة أرادها الله تعالى هي هدم عادة التبني بعد ما كان يفعلها أهل الجاهلية بأن زوَّج نبيَّه امرأةَ زيد التي طلقها، وقد كان النبي يخالطه شيء من الحياء قبل نفاذ الأمر ولكنه السميع المطيع لأمر الله، فمادام منفِّذًا له فلا عليه من قالَةِ(1/178)
الناس، والله أحق أن يخشاه، وقد كان أولَ من يَخشَى اللهَ ويطيعه، فلا يتأخر عن تنفيذ ما يأمر به.
أما قوله: "هذا قَسْمي فيما أملِك فلا تؤاخذني فيما تَملِك ولا أملِك" فلا يدل على أن الزواج نَبْعٌ للعاطفة، بل اعتذار عن ميل القلب بحكم البشرية في المخالطة والمباشرة مثلاً إلى بعض الأطراف أكثر من غيره، وذلك طَبَعي لا حرج فيه ما لم يَحمل على ظلم أو بَغي، وذلك لم يحصل، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "هذا قَسْمي" أي بالعدل "فيما أملِك" أي من التصرفات، أما الذي لا أملِك أنا بل تَملِكه أنت ـ مِن جعلِ بعضِ الأشياءِ والأشخاصِ أحبَّ إليَّ من غيرها ـ فلا مؤاخذة فيه ما دام العمل في الحق لا على الهوى.(1/179)
في مظاهر الرحمة في سلوك الرسول
إن سلوك الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان الرحمةَ نفسَها، ولقد وصفته السيدة خديجة رضوان الله عليها فقالت: إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتُكسِبُ المُعدَمَ، وتَقرِي الضيفَ، وتُعين على نوائب الحق. وهذه الصفات كلها تتبلور في كلمة واحدة هي الرحمة. وفي يوم من الأيام رأى أحدُ الأعراب رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل أحدَ أحفاده، فقال مندهِشًا: أتقبِّلون أبناءكم؟ إن لى عشرةً من الأولاد وما قبَّلتُ واحدًا منهم قط. فعرَّفه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ في نوع من الاستهجان أن الله قد نزع الرحمة من قلبه.
ولقد تعدَّت رحمتُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسانَ إلى الحيوان، وكتب السيرة تروي أنه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ مر ذات يوم على بستان رجل من الأنصار فدخله، فإذا جمل يَحِنُّ وتَذرِفُ عيناه فأتاه النبي ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فمسح عليه فسكت، ثم قال صلوات الله عليه: "من ربُّ هذا الجمل؟" فجاء فتًى من الأنصار فقال: هذا لي، يا رسول الله. فقال له: "ألا تتَّقي اللهَ عز وجل في هذه البهيمة التي ملَّكك اللهُ، إنك تُجِيعُه وتُدئِبُه" أي تُتعبه وتُجهده، فخَجِل الشاب الأنصاري وتغير سلوكه مع الجمل.
وتذكرنا هذه القصة بما قصَّه ـ صلوات الله عليه ـ من قصة ذلك الرجل الذي وجد كلبًا يَلهَث من شدة العطش، فملأ خُفَّه وسقاه، فغفر الله له بسبب ذلك.(1/180)
في الإسراء والمعراج
ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين إلى أن الإسراء والمعراج وقَعَا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وروحه، بعد البعثة، ولقد توارد على ذلك ـ كما يقول الإمام ابن حجر ـ ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يُحيله حتى يَحتاج إلى التأويل.
ولو كان ذلك منامًا أو بالروح فقط لما كذَّب رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكذِّبٌ؛ لجواز وقوع مثل ذلك لآحاد الناس. إن الناس في الرؤيا يَرَونَ أنهم سافروا وأَبعَدوا، وذهبوا وجاءوا، وعقَدوا العقود ورَأَوا نتائج عقودهم وثمارَ عهودهم، فلو كنا بصدد رؤيَا لَمَا ارتاب في صدق الصادق الصدوق ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنسانٌ ولَمَا أشفَقَت السيدة أم هانئ رضي الله عنها على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أخبرها الخبر وقال إنه سيحدث الناس به، فأرادت منه أن يَعدل عن ذلك قائلةً: إنهم سيكذبونك. فلم يَستجِبْ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لنصيحتها لأن الحق ينبغي أن يُذاع، وأذاعه صلوات الله وسلامه عليه بين الناس.
ما هو إذًا الموقف الذي ينبغي أن نتخذه من هذا الموضوع؟
إن موقف المؤمن الصادق في ذلك إنما هو موقف سيدنا أبي بكر، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه سعى رجال من المشركين إلى أبى بكر ـ رضي الله عنه ـ فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أُسريَ به الليلةَ إلى بيت المقدس! فقال: أوَ قد كان ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك فقد صدق. قالوا: تصدقه إنه قد ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يُصبح! قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدقه في خبر السماء في غَدوة أو رَوحة. فلذلك سُميَ الصديقَ.(1/181)
لقد كان رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ خاتمة سلسلة من الأنوار التى يرسلها الله إلى العالم بين الفَينة والفَينة لتهديَ إلى الرشاد، ولتقودَ إلى الله، ولتسموَ بالمؤمنين درجاتٍ في معارج القدس، لتصل بالجديرين منهم إلى الكمال المرجوِّ عن طريق الإرشاد الإلهي. وكان الكتاب الذي أُنزل عليه ـ صلوات الله عليه ـ هو القرآن، خاتم الكتب وأكملها ومهيمِنًا عليها.
ولأن الرسول ـ صلوات الله عليه ـ تخلَّق بأخلاق أكمل كتاب ربَّاني فهو إذًا أكمل رسولٍ صلى الله عليه وسلم. ومن هنا كانت إمامته ـ صلوات الله عليه ـ بالرسل والأنبياء في بيت الله المقدس.
ولأنه ـ صلوات الله عليه ـ أكملَ رسول، كان من أجل ذلك أقربَ المقرَّبين إلى الله سبحانه وتعالى، لقد تخطَّى الأرَضين والسموات وتجاوز الكون كله ووصل إلى ما لم يصل إليه بشر، بل إلى ما لم يصل إليه جبريل نفسه ـ عليه السلام ـ لقد وصل صلوات الله عليه إلى (قاب قَوسَين أو أدنَى).
وكما أن المعنى الذي يدل عليه نبأ المعراج؛ من وجود الأنبياء والرسل في السموات، ومن أن الرسول ـ صلوات الله عليه ـ أخذ يتجاوز هذه السموات واحدة بعد الأخرى، ويتجاوز الأنبياء واحدًا بعد الآخر، نقول: كما أن المعنى الذي يدل عليه النبأ معنًى مكانيٌّ، فإنه أيضًا ـ بل بطريقٍ أولَى ـ معنًى روحيٌّ.
أي إن الرسول ـ صلوات الله عليه ـ في تَساميه الروحي في كل لحظة من اللحظات قد بلغ في معراجه إلى درجات تجاوزت في روحانيتها آدمَ في سمائه الأولى، ثم تجاوزت يحيى وعيسى عليهما السلام في سمائهما الثانية، ثم تجاوزت يوسفَ عليه السلام في سمائه الثالثة، وهكذا حتى تجاوزت روحيًّا إبراهيمَ عليه السلام في سمائه السابعة، ولقد تجاوزت كلَّ ذلك وتجاوز الكونَ كله إلى سدرة المنتهى إلى شجرة النهاية، إلى حيث لا يبلُغ ملَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل. لقد رأى من آيات ربه الكبرى، هذا هو مقام الرسول صلوات الله عليه.(1/182)
ولكن بعض الناس ينزل بنا من هذه الآفاق العليا والسموات السامية ومن الرحاب الإلهي، ينزل بنا منحدرًا فيجادل في الإسراء والمعراج، أكان رؤيَا أم كان يقظة!
أستغفر الله وأتوب إليه!
إن ذلك الجدل إذا دل على شيء فإنما يدل على ضعف الإيمان في قلب المجادِل.
وإذا كان ما سبق يدلنا على جانب من مقام رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فنزداد بذلك تقديرًا وحبًّا واتباعًا، فإن من هدي الله سبحانه وتعالى وتوجيهاتِه في نبأ الإسراءِ والمعراجِ هذه الرمزياتِ الأخلاقيةَ، التي تربط ربطًا محكَمًا بين الدين والأخلاق.
والواقع أن الأخلاق في جو الإسلام مرتبطة بالدين ارتباطًا لا ينفصل، منه تنبُع وعلى أساسه تقوم وعنه تصدُر، إنها جزء من الدين الإسلامى لا يتجزأ، مصدرها هو مصدره، إلهيٌّ ربانيٌّ.
وبعض الناس في العصر الحديث يريد أن يجعل للأخلاق مصادر أخرى، يريد بعضهم أن يجعل أساسَ الأخلاق الضميرَ، بيد أن ذلك خطأ بيِّن؛ فالضمير يربِّي ويكوِّن، وتربيته ولونه هما شكله ونزعته واتجاهه الذي يتكيف بحسب الثقافة والبيئة والعصر والوسط.(1/183)
في الحكمة من الإسراء والمعراج
إنها ليست حكمة واحدة وإنما هي عدة حِكَم؛ منها أنه كان تكريمًا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وقت استحكم فيه الجهاد بين قُوَى الخير ممثَّلةً في الرسول وأتباعه، وقُوَى الشر ممثَّلةً في المشركين يتزعمهم أبو جهل، وكانت قُوَى الشر في عنفوانها على قُوَى الخير، فجاءت معجزة الإسراء والمعراج مبيِّنةً مكانة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأظهرت أن مقامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قاب قوسين أو أدنى في القرب من الله سبحانه.
ومن حِكَم معجزة الإسراء والمعراج أنها كانت تصفيةً لضعاف النفوس والشاكِّين والمترددين، لقد كانت نفيًا لهم عن الجماعة الإسلامية الناشئة، إذ إنهم لو مكثوا فيها لكانوا ضررًا عليها. ولئن كانت معجزة الإسراء والمعراج تكريمًا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنها كانت ابتلاءً للجماعة الإسلامية لِيَميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيب ولِيَذهَبَ الزَّبَدُ جُفَاءً. وتخلصت بذلك الجماعة الإسلامية الناشئة من الضعاف والشاكِّين والمترددين.
ومن الحِكَم بيانُ أن القيادة في بيت المقدس يجب أن تكون للمسلمين، وهذا هو المعنى الذي يؤخذ من إمامة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأنبياء والرسل؛ إن الإمامة في بيت المقدس، وإن الكلمة الأولى والقيادة يجب أن تكون للمسلمين دون غيرهم، فإذا قصَّروا فيها فهم آثِمون أفرادًا، وهم آثِمون جماعاتٍ، وهم آثِمون دُوَلاً وحكوماتٍ.
ومن هذه الحِكَم ما نبَّهَت عليه المشاهدةُ الأولى في مرحلة الإسراء المباركة؛ لقد كان أولَ ما شاهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشهدُ هؤلاء الذين يَزرعون ويَحصُدون في يوم، ولما سأل عنهم قيل إنهم المجاهدون في سبيل الله، تُضاعَفُ لهم الحسنات إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يُخلفه وهو خير الرازقين. والجهاد هو وسيلة الحصول على القيادة في بيت المقدس.(1/184)
أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إن روح سيدنا عمر وروح صلاح الدين من وراء الأجيال تناديكم لإنقاذ بيت المقدس مردِّدةً قولَ الله تعالى: (انفِروا خِفَافًا وثِقَالاً وجاهِدوا بأموالِكم وأنفسِكم في سبيلِ اللهِ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون) ومردِّدةً قولَه تعالى: (إلاّ تَنفِروا يُعذِّبْكم عذابًا أليمًا ويَستبدِلْ قومًا غيرَكم ولا تَضُروه شيئًا واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ).(1/185)
في المراد مِن أسماء الله الحُسنى
إن أسماء الله الحسنى ألفاظ مِن القرآن الكريم، وهي دلالات على الله ـ سبحانه وتعالى ـ تَهدي إلى ما يتَّصف الله به مِن وُجوه الكمال، فهي مُباركة في نفسها مِن حيث هي أسماء للذات المُقدسة، وهي مبارَكة بالنسبة لقارئها مِن حيث هي هداية وإرشاد للمسلم في عقيدته، ومِن أجل ذلك كان الاعتقادُ في برَكاتها ـ سواء كانت مَتْلُوَّةً مقروءةً أو محمولةً مكتوبة ـ اعتقادًا سليمًا.
وعلى هذا فإنه لا مانع للمسلم مِن أن يحتفظ بأسماء الله الحسنى مكتوبة محفوظةً ملفوفةً في قطعة مِن القماش الطاهر، وذلك للتبرُّك بها، كما يحتفظ الإنسان بآيات مِن القرآن الكريم ملفوفةً في قماش طاهر، ولم يمنع أحدٌ مِن المسلمين أن يكتب الإنسان القرآن، أن يكتب آياتٍ منه، أو يكتب أسماء الله الحسنى ويحملها مُتبرِّكًا بها.
فإذا كُتبت أسماء الله الحسنى ولُفَّتْ لَفًّا مُتقَنًا، أو جُلِّدت في عِناية، ثم عُلقت في رقبة الطفل فلا مانع مِن ذلك، خُصوصًا أن ذلك يدل دلالة واضحةً على تقديس أسماء الله الحسنى وتقديرها واحترامها وعلى الرغبة الطيبة في تعويد الأطفال على تقديسها واحترامها وتقديرها.
وما مِن شك في أسماء الله الحسنى إنما أخبرنا الله بها لتدلَّ أولًا وبالذات على الكمالات الإلهية ولتَهدينا إلى العقيدة السليمة، بالنسبة للهِ ـ سبحانه ـ وذلك لا يَتنافى أبدًا مع كتابتها وحمْلها وتعليقها في رقَبة الأطفال؛ إيمانًا ببركتها، وتقديسًا لها وحُبًّا فيمَن دلَّت عليه ـ سبحانه.
وقد وَرد في الأخبار: أن سيدنا خالد بن الوليد كان يتبرَّك بشَعراتٍ من شَعر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَحتفظ بها في عِمامته، فالتبرُّك بأسماء الله الحسنى لا مانع منه.(1/186)
في أفضل وسيلة لحفظ القرآن الكريم
أفضل الطرُق وأيسرها لحفظ القرآن الكريم هي أن يتفهَّم القارئ معاني الآيات التي يقرؤها، وبوجهٍ إجمالي فظلال المعاني في ذِهْنه تُساعد على بقائها، وسهولة حفْظ الجمَل المُعبرة عنها، ثم يبدأ الطفل ـ عادةً بالسور القصيرة والأجزاء الأخيرة مِن القرآن الكريم، يُضاف إلى ذلك أن يَقرأ المُحفِّظ الآياتِ أمام تلاميذه، فالقراءة الجيدة تُعوِّد التلاميذ على حُسن النطق وحُسن الترتيل، ولا يُكلَّف التلميذ بحفظ آياتٍ كثيرة حتى لا يَثقل عليه حفظ ما يُكلَّف به.
أما الفوائد التي تعود على حافظ القرآن، فأهمها المَعلومات التي يَستفيدها مِن آيِ القرآن وأحْكامه، وقصصه، ومواعظه، فقد قلت: إنه ينبغي للمتعلِّم أن يُلمَّ بالمعاني الإجمالية للآيات التي يحفظها، ثم هو يستفيد قدرةً على التعبير الأدبي، ويُحسن الاقتباس مِن آيات القرآن، والقراءة بعد كل هذا عبادة، يَستطيع الحافظ أن يُؤديها في أي وقت وفي أي مكان.(1/187)
في حُرمة مَسِّ المصحف للمُحدِث:
إن قراءة القرآن على غير وُضوءٍ جائزة ما دام القارئ طاهرًا مِن الجَنابة، وقد وَرد أن سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يَقرؤه على غير وُضوء، فلمَّا سُئل في ذلك أجاب بما يُفيد أنه جائز، وأمَّا حمْله على غير وُضوء، فقد أجاز أبو حنيفة ـ رضى الله عنه ـ ذلك إذا كان بغُلافة، أيْ إذا كان مُغلَّفًا داخل كِساءٍ.
ولقد اختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنْع مِن مَسِّهِ. ويقول الإمام القرطبي:
"واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فقد رُوي عنه، أنه يَمَسُّهُ المُحدِث حدثًا أصغر، وقد رُوي هذا عن جماعة مِن السلف منهم ابن عباس وغيره".
ويقول الإمام القرطبي: وقد رُوي عن الحَكَم وحمَّاد وداود بن عليٍّ أنه: لا بأس بحمْله ومَسِّه للمسلم طاهرًا أو مُحدِثًا حدَثًا أصغر.
أمَّا مسُّ الصبيان للمصحف فالأظهر الجواز؛ لأنه لو مُنع لم يُحفظ القرآن. وبعدُ فإنه ممَّا لا شك فيه أن مسَّ المصحف على طهارة كاملة مِن الأمور التي يَحرص عليها المؤمن كلما أُتيحت له الفرصة لذلك، وهو في هذا يسير مع الوضع الصحيح لتكريم المُصحف واحترامه. بيد أنه تحدث ظروف لا يتمكَّن الإنسان فيها مِن الوضوء لسبب مِن الأسباب، وتكون في الوقت نفسه الفُرصة غير مُتاحة للقراءة في المصحف، وفي هذه الحالة للإنسان أن يأخذ برأي الأئمة الذين أباحوا مسَّه عن غير وُضوء. ذلك خيرٌ مِن أن يَترك فرصةً مُتاحةً للقراءة والثواب.(1/188)
في احترام الأوراق المكتوب فيها القرآن:
القرآن نور أنار الله به طريق السير للمُؤمنين، ومِنَّةٌ امْتَنَ بها عليهم.. وقد طالبهم باحترامه والقيام بحقوقه وحذَّرهم مِن التفريط في احترامه فضلًا عن امتهانه، قال ـ تعالى ـ: (إنَّهُ لَقُرآنٌ كريمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لَا يَمَسُّهُ إلَّا المُطَهَّرُونَ).
والذي يَبيع بعض الحاجات في وَرقةٍ بها آيةٌ مِن آياتٍ قرآنية مُرتكِب لمُنكَر، والذي يبيع مِن الورق ما فيه آيةٌ قرآنية لمَن يبيع فيه، ويَمْتَهِنه مُرتكِب لمُنكَر وهكذا.
ولا يُعتَبر الامتهان غير مقصود إلا إذا أَغفل المسلم أو ظنَّ أن ما في الورق ليس قرآنًا فإذا ما تمزقت أوراق مُصحف أو بعض أوراقه بادر بحَرْقها إذا لم يتيسر له حِفظها في مكان أمين، أو إلْقاؤها في البحر؛ لأن الماء سيُزيل آثار الكتابة وتتحوَّل حينئذ إلى ورقة عادية سرعان ما تتفتت.
والمقصود في هذا كله المُحافظة على القرآن الكريم بما يجب نحوه من احترام، وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد منَع غير المُتطهرين مِن مَسِّ المُصحف أو شيء مِن القرآن، فإن امتهان القرآن مِن أكبر المُحرَّمات، وقد كان سبب الوَبال لبعض الأفراد الذين استهانوا بحُرمته فمزَّقهم الله شرَّ مُمزَّق.(1/189)
في مسِّ المُصحف المكتوب باللغة اللاتينية بغير وُضوء:
الأمر في مسِّ المصحف المكتوب بالحروف اللاتينية لا يَختلف عنه بالنسبة للمصحف المكتوب بالحروف العربية.
غير أن أمر كتابة المصحف بالحروف اللاتينية لا يتمُّ إلا بفَهْم المعنى المراد من كل آية قرآنية وصياغته باللغة المُترجَم إليها، وليست ترجمة المعنى كترجمةِ النص، فترجمته قد تكون مُستحيلة في كثير من الحالات، أما ترجمة المعنى فهي ميْسورة للمُترجِم، وفهْم المعنى لآيات القرآن يختلف باختلاف الباحثينَ إيجازًا وإطنابًا وفهْمًا للمراد كله، وقُصورًا في فهْم المراد تارةً أخرى.
وعلى ذلك فالمصحف العربي يختلف كثيرًا عن المصحف اللاتيني من حيث إن المصحف العربي نصُّ المُنزَّل مِن عند الله لا يحتمل غيره، أما المصحف اللاتيني فإنه ترجمة للمعنى وليس نصًّا، أعني أنه كتاب تفسير لا قرآن.
لذلك فمسُّه بغير وضوء لا منْعَ منه.(1/190)
في فضْل البسْملة:
حسْبُ البسملة فضلًا أن افتتح الله بها كلَّ سورة مِن سُور القرآن ما عدا سورة: "براءة"، وحسبها فضلًا أنْ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يَدَعُهَا في كل كتاب أرسله إلى مَن دعاهم إلى الإسلام، وحسبها فضلًا أن ذكَرها الله ـ عز وجل ـ في سورة النحل، حاكيًا عن سليمان ـ عليه السلام ـ أنه صدَّر بها كتابه إلى بلقيس، قال ـ تعالى ـ:
(إنَّهُ مِن سُليمانَ وإنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم.ِ أَلَّا تَعْلُو عَلَيَّ وأْتُونِي مُسلِمينَ).
وقد كان الرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يدَعُ البسملة في كل شأن مِن شئونه، وحثَّ عليها مبيِّنًا فضلها فقال:
"كلُّ أمرٍ ذِي بالٍ لا يُبدأ فيه ببسمِ اللهِ فهو أجْزَمُ". وفي رواية: أبْتر، وفي أخرى: أقْطع، والمعنى: لا بركة فيه".
وذكر في بداية العمل مِن إثارة الإذْعان بأن هذا الأمر يكون ابتداؤه ويكون تمامه بالله، وأنه لا حول وقوة إلا به ـ جل جلاله.
ومِن آثارها بركة هذا العمل كما نصَّ الحديث السالف الذِّكْر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولقد قالها نوح ـ عليه السلام ـ وهو يركب سَفينته، وقد بلغت الشدة نهايتها حينما فُتحت أبواب السماء بماء منهمر، وفُجِّرتِ الأرضُ عيونًا فالْتقى الماء على أمرٍ قد قُدر، وصارت الأمواج تتلاطم كالجبال، فكانت: (بسمِ اللهِ) أمانًا لنوح ومَن معه في السفينة، ولعل في هذا بلاغًا لمَن كان له قلْب أو ألقَى السمع وهو شهيد.(1/191)
في استحباب سماع تلاوة القرآن:
إن سماع القرآن خيرٌ جزيلٌ، وإن تلاوته خير جزيل أيضًا، وتلاوته بصوت مسموع أفضل مِن سماعه؛ وذلك لأن تلاوته بصوت مسموع فيها ـ في آنٍ واحد ـ استعمالُ اللسان والآذان، والتالي للقرآن يُمكنه أن يقف عندما يمرُّ على آية استغفار يَستغفر، وعندما يمرُّ على آية توبةٍ يتوب، وعندما يَمُرُّ على آيةٍ عذاب يتضرَّع، ويطلب النجاة.
ويتيسَّر له أن يُعيد القراءة مُتدبِّرًا مُتأملًا، وأن يقف عند بعض الآيات متفهمًا، وكل هذا لا يتيسَّر في نوع من الكمال بمجرد السماع، ولا يمنع عدم المهارة بالقرآن مِن أن يقرأه الإنسان؛ فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيما رواه الشيخان عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ:
"الماهِرُ بالقرآن مع السَّفَرةِ الكِرام البَرَرة، والذي يقرأ القرآن، ويُتَعتِع فيه وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ".
ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ: "مَن قرأ حرفًا مِن كتاب الله فله حسَنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: الم حرفٌ، ولكن ألِفٌ حرفٌ، ولام حرف، وميم حرف".
وهذا الحديث نَصٌّ في القراءة لا في السماع.(1/192)
في معنى كلمة آمين:
إن كلمة آمين معناها: اللهم استَجِبْ، تَرِد عقب كل دعاء.
إنها ترد عقب الفاتحة بعد قوله ـ تعالى ـ: (اهْدِنَا الصِّراطَ المُستقيمَ. صِراطَ الذينَ أنْعمتَ عليهمْ غيرِ المَغضوبِ عليهمْ ولا الضَّالِّينَ).
وروى الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما ـ رضى الله عنهم أجمعين ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إذا قال الإمام: (غيرِ المَغضوبِ عليهمْ ولا الضَّالِّينَ) فقولوا: آمينْ، فإنه مَن وافقَ قولُه قول الملائكة غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه.
وفي روايةٍ للبخاري إذا قال أحدكم آمين، وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم مِن ذنبه.
ولكن هذه الكلمة تختص بالصلاة، فعن أبي مصبح المِقرائي فيما رواه أبو داود قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النُّمَيري ـ رضى الله عنهما ـ وكان مِن الصحابة يُحدث أحسن الحديث فإذا دعا الرجل مِنَّا بدُعاء قال: اخْتِمْهُ قال: آمينْ، مثل الطابع على الصحيفة، قال أبو زهير النميري أُخبركم عن ذلك: خرجنا مع الرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلةً نمشي فأتينا على رجل ألَحَّ في المسألة: أيْ ألحَّ في الدعاء ـ فوقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستمع منه، قال النبي: أوجبَ إنْ خَتَمَ، قال رجلٌ من القوم: بأيِّ شيء يختم؟ فقال: بآمينْ، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجبَ؛ أيْ قبِل الله دعاءَه، فانصرف الرجل الذي سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأتى الرجل فقال: اخْتِمْ يا فلانُ بآمين وأبْشِرْ..
أما كوْن الإمام لا يَجهر بها؛ فذلك لأنها ليست قرآنًا، أمَّا جهر المأمومين بها فإنه ليس واجبًا، وهم بالخيار إن شاءوا جَهروا وإنْ شاءوا أسَرُّوا.(1/193)
في نُزول القرآن في ليلة القدْر وهل كان جملةً أوْ لا؟
يرى بعض العلماء ـ ومنهم الشيخ محمد عبده ـ أن المراد بنزول القرآن في هذه الليلة: ابتداءُ نُزوله، مُستدلًّا بما قاله الشعبي: المراد من نحو: (أنزلناه) و(أُنزل فيه القرآن): الابتداء بإنزاله. وعلى هذا المعني فإن القرآن ابتَدأَ الله ـ سبحانه ـ إنزاله في ليلة القدْر، ثم توالَى إنزاله بحسب الظروف والمُلابسات، وبحسب حِكْمة الله ـ سبحانه ـ وهو الحكيم الخبير. أما كيف انقسمت السوَر القرآنية إلى المكية والمدينة. فإن السبب في ذلك هو اختلاف أماكن نزول القرآن، فقد استمر نزول القرآن على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثًا وعشرين سنةً، قال ـ تعالى ـ: (وقُرآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ على الناسِ على مُكْثٍ ونَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا). وقال: (وقالَ الذينَ كفروا لولا نُزِّلَ عليهِ القرآنُ جُملةً واحدةً كذلكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا). ومِن الآيات ما نزَل بمكة، ومنها ما نزل بالمدينة، فسُمِّي ما نَزَلَ بمكة بالمكيِّ، وما نزل بالمدينة بالمدني، واستخلص العلماء لكلٍّ سِماتَه وخَصائصه ومجال البحث فيه، وإنَّ في تمييز المكي مِن المدني ومعرفة مكان النزول يُعطي صورةً واضحة عن اهتمام المسلمين بكتاب الله وبكل ما يتعلق به، حيث لم يكتفوا بحفظه، بل عرفوا مُلابساته وما أحاط به مِن ظروف.(1/194)
في الوحْي:
يمُكن الشخصَ العادي أن يرَى سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ فليست رُؤيته بمُستحلية، وليست رؤيته وعدَمها خاضعةً لرغبة شخص أو عدمها، وإنما مَرَدُّ ذلك كله إلى الله ـ عز وجل ـ وعلى النحو الذي يُريده الله ـ سبحانه وتعالى ـ حسب قدرة الرائي؛ لأن سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ ليس كآحاد البشر، وقد رأتْه السيدة مريم ـ عليها السلام ـ وليست بِنَبِيَّةٍ، ورآه أُناس كثيرون في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال: طلَع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثَر السفر ولا يَعرفه منَّا أحدٌ .. إلخ الحديث في أول صحيح مسلم، وكان هذا الذي رآه الصحابة هو جبريل.
وليس معنى أنه يُرَى أن كل مَن يراه يُوحَى إليه وحْي تشريع، لا؛ لأن وحي التشريع انتهى بوفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما تُعبِّر الرؤيَا منامًا أو يقظةً بالمعنى الذي يَتناسب وحال الرائي مِن بِشارة أو إنذار أو تقرير أو نحو ذلك، والوحي الخاص بقوله: (وأَوْحَيْنَا إلى أمِّ موسَى أنْ أَرْضِعِيهِ) الآية.
وهو وحْي الرؤيَا المنامية، ولم يَرِد في شرح الآية نَصٌّ يكشف ماهيَّة الوحي الذي كان، ولعله وحي إلْهام. والآية مُحتملة لذلك.(1/195)
في مُحاولات أعداء الإسلام لتحريف القرآن:
المُحاولات لتحريف القرآن الكريم مُستمرة ودائمة منذ عهد قديم، وقد تمثَّلت أولًا في الخروج بتَفسيره عن هَدْي الدين، وصرْف المسلمين عن هدايته بأخبار مَوضوعة، تُبلبِل المفاهيم وتَصرِفها عن روح الدين، كما هو مُلاحَظ في بعض التفاسير مِن الإسرائيليات والحشو، ومِن ناحية ثانية فقد حَرَّفت بعض الطوائف معاني القرآن الواضحة الظاهرة إلى معانٍ باطنة، لا تُمثِّل إلا ما يَهدِم الدين تحت دعوى الخصوصية والفهْم الذي لا يَقبل الخطأ ونحو ذلك، وتمثَّلت هذه المُحاولات في القضاء على لُغة القرآن وتوجيه الطعنات إليها، ثم إلى القرآن ثالثًا: بتغيير رسمه وكيفية نُطقه.
وآخر هذه المحاولات تغيير القرآن الكريم بحذْف بعض الكلمات منه أو تغيير شكْل الكلمة حتى يتغيَّر المعنى تبعًا لذلك، وطبْع مصاحف محرَّفة طبعاتٍ أنيقةً ونشْرها على أوسع نِطاقٍ.
وعلماء المسلمين يحفظون القرآن في صدورهم، ويكشفون ما استطاعوا عن هذا التزييف.
والأزهر يُمارس نشاطًا كبيرًا في مجال القضاء على كل مُحاولات التحريف فتقوم لجنة المصحف التابعة لمَجمع البحوث الإسلامية باعتماد ما تراه صحيحًا مِن المصاحف قبل الطبع وتَفْحص المَصاحف المُزوَّرة وتُصدر نشرات عنها وعن طباعتها وتُنَبِّه البلاد الإسلامية إلى خطَرها.
وتقوم حكومة مصر على أساس توجيه هذه اللجنة بمُصادرة كل مصحف غير مُطابق لنصِّ القرآن الكريم.(1/196)
وسيقوم المجمع بطبع مصحفٍ نموذجيٍّ ونشْره على أوسع نطاقٍ، بحيث يُعْتَبَر أساسًا لمُقارنة غيره به (كان الإمام عبد الحليم محمود ـ رضى الله عنه ـ أمينًا عامًّا لمَجمع البحوث الإسلامية وَقْتَ صدور هذه الفتوى، وقد تمَّ في عهد توَلِّيه مشيخة الأزهر طبع هذا المصحف، ونُشِر على أوسع نِطاق). ومُقارنةً لكلِّ ما يُمكن أن يصدر من طبعات محرَّفةٍ، أنشئت إذاعة القرآن الكريم بمصر، تتلو القرآن آناءَ الليل وأطرافَ النهار بعدَّة قراءات، تُيسِّر للمسلم أن يُراجع مُصحفه على أساس قراءتها.
وبعدُ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ قد تكفَّل بحِفظ القرآن، قال ـ تعالى ـ: (إنَّا نحنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لهُ لحَافِظُونَ).
وعلماء الإسلام يحفظون القرآن وعندهم مِن النُّسَخ المضبوطة الكثير، ومن المُمكن الرجوع إليهم فيما يُشَكُّ في تحريفه.
والأمل كبير في أن تتكاتف الحُكومات الإسلامية أمام هذا المَظهر الخطِر مِن مُحاولات تزييف الدين والتراث في أقدس مُخلَّداته، وهو القرآن الكريم: (الذي لا يَأْتِيهِ الباطلُ مِن بينِ يديهِ ولا مِن خلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ).(1/197)
في التوبة كما وَردت في القرآن:
لقد فتح الله ـ سبحانه وتعالى ـ باب التوبة على مِصراعيه أمام المُذنبين الذين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب، ولم يُيَئِّسهم مِن رحمته فقال ـ تعالى ـ:
(قُلْ يا عباديَ الذينَ أسْرَفُوا علَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغفِرُ الذنوبَ جميعًا إنَّهُ هوَ الغَفورُ الرَّحِيمُ. وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ).
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: (إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشرَكَ بهِ ويَغفِرُ مَا دُونَ ذلكَ لمَنْ يَشاءُ). وقال أيضًا: (فمَن تابَ مِن بعدِ ظُلْمِهِ وأصْلَحَ فإنَّ اللهَ يَتوبُ عليهِ). وغير ذلك مِن آياتِ القرآن الكريم التي تُرَغِّب في التوبة وتحثُّ عليها.
وفي الحديث الصحيح: إنَّ الله يبسط يده بالليل ليَتوب مُسيءُ النهار ويَبسطُ يده بالنهار ليَتوب مُسيءُ الليلِ.
وفيه أيضًا: إنَّ اللهَ فتح بابه للتوبة لا يُغلَق حتى تطلُعَ الشمس مِن مَغربها. فمَن أسرف على نفسه ثم تيقَّظ ضميره يَلْزمه أن يرفع أكفَّ الضراعة والندم على ما فرَط منه في حق مَوْلاه، وليَبكِ على خَطيئَتِهِ، ويَعزم على عدم الرجوع إليها، ويَردَّ المَظالم إلى أهلها ويُؤدي الفرائض التي فاتتْه بشُروط التوبة، إنْ فعل ذلك قبِلَ الله توبته، وعفَا عن ذنبه وخطيئته، وجعله في زُمرة عباده المَقبولين.
أما إنْ أَخَلَّ بشروط التوبة وتاب باللسان، ولم يردَّ المَظالم، ولم يُقلع عن المعصية، فإن توبته مَردودة عليه، نَعوذ بالله مِن ذلك.(1/198)
في حادِث الإفْكِ:
إن مِن المبادئ الإسلامية: (إنَّمَا المُؤمنونَ إخوةٌ). "والمؤمنون في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كالجسد الواحد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائر الأعضاء بالحمَّى والسهر".
ومِن أجل ذلك فإن الذين يَسيرون في طريق مُعارض، وهم الذين يُحبون أن تنتشر الخِصال القبيحة في الذين آمنوا أعدَّ الله لهم عذابًا أليمًا في الدنيا وفي الآخرة، والله يعلمُ ما انطوت عليه السرائر، وأما أنتم فلا تعلمون من ذلك شيئًا.
وهذه الآية الكريمة وما يتلوها إنما هي تعقيب على ما اقترفه البعض مِن الخوض في حديث الإفْك، لقد أخذ البعض يخوض في عِرْضِ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولولا فضْلُ الله ورحمته بالمجتمع الإسلامي إذْذاك لَمَسَّ الذين خاضوا في الإفك والمُشايعين لهم والساكتين على بُهتانهم عذابٌ عظيم.
ويستمر الله ـ سبحانه ـ في التعقيب على الحادث؛ تربيةً للمؤمنين، فيُحذرهم ـ سبحانه ـ مِن اتِّباع خطُوات الشيطان؛ وذلك أن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر إنه لا يُوجه إلى خيرٍ، ولولا أن الله ـ سبحانه ـ قد رسم طريق الهداية واضحًا لا لَبْس فيه، رسمَه في العقيدة، وأساسها التوحيد مُمثَّلا في: (إيَّاكَ نَعبدُ وإيَّاكَ نَستعينُ)، ورسمه في التشريع وأساسه العدالة، ورسمه في الأخلاق وأساسها الرحمة، ولولا فضل الله ورحمته على عباده، لولا كل ذلك ما زكَّى منهم أحدًا أبدًا، ولكن يأخذ بيد مَن يشاء، فيُزكيه ويُطهره مِن الإثم بالتوبة والغُفران، وهو ـ سبحانه ـ السميع لكل مَن الْتَجَأَ إليه مُتضرِّعًا، مُتَّجهًا إلى تزكية نفسه، العليم بالمُخلصين في الإنابة إليه.(1/199)
ولقد رَوى الإمام البخاري وغيره أن أبَا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ كان يُنفق على مِسْطح لقرابته وفَقْره، فلمَّا خاض في أمر عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال أبو بكر: واللهِ لا أُنْفِقُ عليه شيئًا أبدًا، فنزل القرآن الكريم ناهيًا أولِي الفضل وذوِي السمعة أن يُقسموا على عدم الإنفاق على ذوي القربى والمَساكين والمُهاجرين في سبيل الله، ونَصَحَ الله المؤمنين بالعفْوِ والصَّفْح وخاطبهم قائلًا: (ألَا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لكمْ واللهُ غَفورٌ رَحيمٌ). فلمَّا سمع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ هذا الخطاب قال: بلى واللهِ إني أحبُّ أنْ يغفرَ اللهُ لي، وأعاد نفَقته على مِسْطح.(1/200)
في إمْكان الإعادة بعد العدَم:
وُجود الشيء مِن جديد بعد كوْنه وتَحَلُّلِهِ السابِقَيْنِ مُمكنٌ بدليل مُشاهدة وُجوده بالفعل مرة، لا سيما أن جمع المُتفرق أسهل مِن إيجاده وإبداعه مِن عدم، وإنْ كان لا يُوجد حَدٌّ بالنسبة لله، شيء أسهل وشيء أصعب، هذا الدليل الموجود في الآيات في كلمات قليلة.
(قُلْ يُحييها الذي أنشأَهَا أوَّلَ مرَّةٍ وهو بكل خَلْقٍ عَلِيمٌ). ظهور الشيء مِن نقيضه كظهور النار مِن الشجر الأخضر مُمكن وواقع تحت الحِسِّ.
وإذنْ يُمكن أن تَدُبَّ الحياة في الجسد المُتحلِّل الهامد مرة أخرى.
وذلك ـأيضًاـ على أساس المبدأ الأكبر وهو:
أن الشيء يُمكن أن يوجد مِن العدم المُطلق بفعل المُبدع الحق. هذا الدليل موجود في آية: (الذي جَعَلَ لكُمْ مِنَ الشجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فإذَا أنتمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ). وقد انتفع به الأشعري في إثبات إمكان البَعْث.
خَلْقُ الإنسان أو إحياؤه بعد الموت أيْسَرُ مِن خلق العالَم الأكبر بعد أن لم يكن.(1/201)
في منهج التشريع القرآني:
يُشرِّع القرآن أحيانًا، في صورة مُجملة ـ لبعض المسائل التي تتغير أساليبها بتغيُّر الزمن، ويترك للمجتمع تحديد الأساليب والطرُق التي تُناسب الحالة التي عليها المجتمع، والتي تُحقق الفائدة مِن التشريع، وذلك كما فعل في الشورى مثلًا، فقد أمر بها الله ـ سبحانه ـ ثم ترك سياستها وكيفية تحقيقها لتُؤدي الهدف منها إلى المُصلحينَ في المجتمع ووُلاة الأمور فيه.
أما المسائل التي تكون عادةً مَثَارَ نِزاعٍ في المجتمع أو بين أفراد الأسرة الواحدة، فإن القرآن قد فصَّلها تفصيلًا، ووضَّحها سافرةً لا لَبْس فيها وذلك كالمِيراث مثلًا.
لقد بيَّن القرآن الأنْصِبة مُحدَّدةً في مختلف الحالات والظروف، فأَبَانَ نصيبَ الزوجة مثلًا حينما يكون للمُتوفَّى أولاد، ونصيبه حينما لا يكون له أولاد، والأم والبنت، والأخت وهكذا. وهذا معلومٌ مِن الدين بالضرورة. فمَن جَحده إنْكارًا، أو جحده غير مُعترِف بعدالته، أو جحَده مُفضِّلًا غيره مِن التشريعات عليه، فإنه يكون بذلك قد خرج مِن المِلَّة الإسلامية. والواقع أن الانحراف في موضوع الإرْث يأتي مِن طائفتينِ:
طائفة المُتفرنِجين، الذين يُريدون أن يُسووا بين الرجل والمرأة في الميراث، ويَعتبرون أنفسهم مِن المُجدِّدين المُتطوِّرِين، وهم بهذا يَعتبرون أنفسهم أحْكَمَ مِن الله ـ سبحانه ـ وأحكم تشريعًا منه، وهم بهذا خارجون على الإسلام وعلى رب الإسلام.
والطائفة الثانية: هي طائفة العقليَّات والمَنازع الجاهلية التي وَصَل بها احتقارُ المرأة أنْ كانت تَدْفِنُهَا حيَّةً في العصر الجاهلي.(1/202)
إن هذه العقليات الجاهلية لم تَمُت بعدُ؛ إذْ لا يزال أثرها حيًّا للآن برغم تحطيم الإسلام لها وإنكاره عليها وهدْمه لمبادئها، إنها لا تزال حيةً في نفوس الذين لم تتشبَّع نفوسهم بروح الإيمان، والذين لم يَغمرهم نور الإسلام، ولقد صوَّر القرآن موقف هذه العقليات بالنسبة للمرأة أبلغ تصوير في قوله ـ تعالى:
(وإذَا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثَى ظلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وهوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أيُمْسِكُهُ علَى هُونٍ أمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
وهؤلاء يَجحَدُون كل حق للمرأة ويَحرمونها من الميراث برغم وُضوح حُكم الله ـ سبحانه وتعالى ـ في وُجوب إعطائها حقها وهم بذلك خارجون على الإسلام وعلى رب الإسلام.
وسواء كنا بصدد المُتفرنجين أو بصدد العقليات الجاهلية، فإن الواجب أن يخضع الإنسان لحُكم الله أحكم الحاكمين، وأن يُوقِن بأن كل خُروج عليه إنما هو اتباع للهوَى وسَيْرٌ وراء نزَعات الشيطان.
وإن القرآن ليَصفُ أمثالَ هؤلاء الذين يَخرجون على قوانين الله ـ سبحانه ـ بأنهم كافرون وبأنهم ظالمون، وبأنهم فاسقون. وَقانَا الله السُّوءَ وهدانا لاتباع أوامره واجتناب نَوَاهِيهِ.(1/203)
في حُكْم النَّسْخ في القرآن:
يقول الشيخ جمال الدين القاسمي:
قد تقرَّر أن النسْخ في الشرائع جائز، مُوافق للحِكْمة وواقع؛ فإن شرْع موسى نسَخ بعض الأحكام التي كان عليها إبراهيم، وشرْع عيسى نسَخ بعض أحكام التوراة، وشريعة الإسلام نسَخت جميع الشرائع السابقة؛ لأن الأحكام العمَلية التي تقبل النسْخ إنما تُشرَّع لمَصلحة البشر والمَصلحة تختلف باختلاف الزمان، فالحكيم العليم شرَّع لكلِّ زمن ما يُناسبه.
ولقد فسَّر صاحب كتاب "مَحاسن التأويل في تفسير القرآن" قول الله ـ تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِن آيةٍ أوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِهَا). بقوله:
ما نُبدِّل مِن آية بغيرها كنَسْخِنَا آياتِ التوراةِ بآيات القرآن (أو نُنْسِهَا) أي: نُذهبها مِن القلوب، كما أخبر بقوله: (ونَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ). (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا).
وعلى النسَق في تفسير هذه الآية سار الشيخ: محمد عبده، وكثير مِن رجال الفكر في العصر الحاضر، وهم يَرَوْنَ أن نسْخ القرآن بالقرآن لم يحدث، ويُتابعون في ذلك أبا مسلم بن بحْر الأصفهاني المُفسر الشهير الذي يقول:
ليس في القرآن آيةٌ مَنْسوخة، ويشرح كل ما قالوا: إنه منسوخ على وجه مِن التخصيص أو التأويل.
وهذا الرأي الذي نراه، وعلى ذلك فإن مَن يُنكر النسْخ في القرآن الكريم، لا يكون كافرًا، والرأي المَشهور لدَى المسلمين إنما استند على الخصوص إلى آية النسْخ في القرآن الكريم، وهي آية يُمكن أن تُفسَّر بنسْخ الشرائع لا بنسخ آيات القرآن بعضها لبعض.
في الذين قاموا بتشكيل القرآن الكريم، بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم:(1/204)
نزل القرآن على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلسان عربي مُبين، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرؤه كما أُنزل عليه، وكما سمعه مِن جبريل، ويسمعه الصحابة منه، فيَحفظونه كما سمعوه. وهم بسليقتهم العربية لا يَلْحنون، ولمَّا اتسعت الفتوحات الإسلامية ودخل في دين الله غيرُ العرب واختلطتِ اللغة وبدأ اللحن في الكلام العربي، أمر الحجاج بتشكيل القرآن خوْفًا مِن اللحْن. فالحجاج في عهد بني أمية، هو أول مَن أمر بتشكيل القرآن ونَقْطِه، ومِن الروايات المَشهورة أن أول مَن قام بتشكيل القرآن ونقْطه إنما هو أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقد ذكر الإمام السيوطي روايةً تقول: إن مِن الذين اشتركوا في نقْط المُصحف وشكْله الحسن البصري ويَحيى بن يَعْمُرَ.(1/205)
في الحافظين لحُدود الله:
الحفاظ على حدود الله ـ سبحانه: هو الالْتزام الكامل بأداء ما أوجبه الله على خلْقه والعمل بمُقتضاه أمرًا كان أو نهْيًا، يقوم بذلك أفراد الأمة: حُكامًا ومَحكومين؛ إذْ كل راعٍ مسئول عن رعيَّته.
وحدود الله تبدو في ظاهرها عبارةً عامة، لكنها مع ذلك ذات مفهوم محدود، جوهره الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ صورةً مِن الصور لهذه الحدود أو بعضها في أول سورة النساء: فمَطلعها أمرٌ بالتقوى: (يا أيُّها الناسُ اتَّقُوا ربَّكمُ الذي خَلَقكم مِن نفسٍ واحدةٍ). ثم بعد ذلك أمرٌ آخر يقول الله: (وآتُوا اليَتَامَى أمْوالَهمْ ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطيِّبِ ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ إلَى أمْوالِكُمْ). ثم هناك أحكام أخرى.
يقول ـ تعالى: (ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَكُمُ التِي جَعَلَ اللهُ لكمْ قِيامًا وارْزُقُوهُمْ فِيهَا واكْسُوهُمْ وقُولُوا لهمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا).
ثم يقول: (وابْتَلُوا اليتامَى حتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رَشَدًا فَادْفَعُوا إلَيهمْ أمْوالَهم ولا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وبِدَارًا أنْ يَكْبَرُوا).
ثم بيَّن ـ سبحانه ـ أحكامًا في القسْمة والمِيراث، يقول ـ تعالى: (للرجالِ نَصيبٌ ممَّا ترَكَ الوَالدانِ والأقْرَبُونَ وللنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأَقْرَبُونَ).
وقوله: (يُوصِيكمُ اللهُ في أولادكمْ للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ).. الخ الآيات. ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى كل ذلك بقوله ـ سبحانه ـ: (تلكَ حُدودُ اللهِ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَهُ يُدخلْهُ جنَّاتٍ تَجري مِن تَحْتها الأنهارُ خالدينَ فيهَا وذلكَ الفوزُ العَظيم).
وتضمَّنت هذه الآية جزاء الحافظينَ لحُدود الله، أما العُصاة الذين تعدَّوا الحدود، وطَغَوْا وبَغَوْا فَجَزاؤهم في الآية التالية مباشرة.(1/206)
(ومَن يَعْصِ اللهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدودَهُ يُدخلْهُ نَارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مُهِينٌ). إنه الجزاء الوِفاق للحافظينَ لحُدود الله والمُعتدين لها.(1/207)
في دعاء الصالحين بظَهْرِ الغيْب:
رَوى مسلم عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: مَا مِن عبدٍ مُسلم يدعو لأخيه بظهر الغيْب إلا قال المَلَك ولك بمِثْلٍ.
ورَوى مسلم ـ أيضًاـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: دعْوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابة، عند رأسه مَلَك مُوكَّل، كلَّما دعا لأخيه بخيرٍ قال المَلَك المُوكَّل به: آمين ولك بمِثْلٍ. بل إن نفس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحَّ عنه أنه طلب مِن عمر ـ رضى الله عنه ـ أن يُشركه في الدعاء فَقَرَّتْ بذلك عينُ عمر.
وغير ذلك مِن كثير مِن الآيات والأحاديث، إذنْ دعاء الصالحين نافع سواء كان ذلك الدعاء مِن الأفضل للفاضل، كمَا حصل مِن الأنبياء لغيرهم أو كان مِن المَفضول للأفضل، كما حصل مِن عمر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكما حصل مِن المؤمنينَ الذين حكى عنهم ذلك في سورة الحشر: (رَبَّنَا اغْفِرْ لنَا ولإِخْوَانِنَا الذينَ سَبَقُونَا بالإيمانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلوبِنَا غِلًّا للذينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). فدعاء الصالحين مُستجابٌ وبَرَكة.
وأما وُجودُهم والجلوس معهم فنافع وبرَكة، والأدلَّة على ذلك لا تُحصَى ولا تُعَدُّ مِن الكتابِ والسُّنَّة والحوادث.(1/208)
في الفرْق بين العزْم والهَمِّ:
العزْم هو: توطيد النفس على المَعْصية والقصْد إليها بالقلب والشعور. والهَمُّ: إمْرار فكرة المَعصية بالفكْر مِن غير استقرار.
وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ عن الرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يَروي عن ربه ـ تبارك وتعالى ـ قال: إن اللهَ كتَب الحسنَاتِ والسيئاتِ، ثم بيَّن ذلك. فمَن همَّ بحسنةٍ فلمْ يَعملها كَتبها الله عندَهُ حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلها كتَبها الله ـ عز وجل ـ عنده عشْرَ حسناتٍ إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يَعملها، كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلها، كتبها الله سيئةً واحدةً، وعلى هذا: فمَن دارتِ المَعصيةُ بخَاطره دون عزْمٍ ورَغْبةٍ أكيدةٍ، فلم يعملها خوفًا مِن الله وإيثارًا للصواب، كتب له حسنةً؛ لأنه جاهدَ نفسه فتغلَّب على الشر فيها.
ومَن عزَم عليها، وتأكدت رغبتُه فيها كُتِبت عليه سيئة، فإنْ لم يعملها وتغلَّبت مُجاهدتُه كُتبتْ له حسنة.
ومِن المَعلوم أن مَن عزَم على معصية، فمَنعه منها مانع مِن غير نفسه كخوف فَضيحة أو عقوبة قانون، أو غير ذلك لا حسنةَ له، وعليه إثْمُ التي نَواها.(1/209)
في التَّخَلُّق بأخلاق الله الجَمالية:
يقول الله ـ تعالى ـ لملائكته: (إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خَليفةً). ولقد استحقَ خلافةَ الله في الأرض؛ لأن الله ـ سبحانه ـ خلَقَه وفيه الاستعداد للتخلُّق بأخلاق الجمال التي لله ـ سبحانه، ومِن المعروف أنه مَطلوب مِن كل شخص أن يتخلَّق بأخلاق الجمال التي لله ـ سبحانه وتعالى ـ فالله مثلًا سَمَّى نفسه الرحمن، بل جعل هذه الصفة تاليةً للاسم الكريم، أعني اسمَ "الله" فقال ـ سبحانه: (قُلِ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ).
ومطلوب مِن الإنسان أن يكونَ رحيمًا، ولقد هُيِّئَ لأنْ يكون كريمًا، وهكذا خلَق اللهُ الإنسانَ مُستعدًّا للرحمة والكرم والمَغفرة والعفو والسلام والعلْم والسمع والبصر وغير ذلك مِن صفاته ـ سبحانه وتعالى ـ والله ـ سبحانه ـ خالِقٌ ومُصوِّرٌ ومُبدعٌ، وفي مُقابل ذلك بالنسبة للإنسان العمل والكدْح في الأرض، التي جعلها الله ذَلولا له، وسخَّرها له، بل سخر الكون كله مِن سمائه وأرضه وما بينهما ليستخدم كل ذلك بالعلْم والعمل، واستحقَّ الإنسان خِلافةَ الله في الأرض ـ إذن ـ بهذه الصفات الخيِّرة وبالعمل المُتواصل.
أمَّا إذا لم يكن كذلك بأن كان شرِّيرًا أو كان كسولًا، فإنه يكون قد تخلَّى عن الرسالة التي هيَّأه الله لها، وهى رسالة الخِلافة فلا يكون أهلًا لها.(1/210)
في خلْق آدمَ ليكون خليفةَ الله في السماوات والأرض:
بيَّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه إنما خلَق آدم للأرض وذلك قبل أن يُصوَّر ويَنفخ فيه الروح ويَبرز في عالَم الوُجود فقال للملائكة:
(إنِّي جاعلٌ فِي الأرضِ خَليفةً).
وقد سُئل الحسن ـ رحمه الله ـ عن: آدم للسماء خُلق أم للأرض؟
فقال: ما هذا؟ للأرضِ خُلق.
فقال السائل: أرأيتَ لو اعتصمَ، ولم يأكل مِن الشجرة؟
قال: للأرض خُلِق، فلم يكن بُدٌّ مِن أنْ يَأكلَ مِنها.
ومِن أجمل الآراء في قضية آدم وأعمقها رأي الإمام أبي الحسن الشاذلي: لقد شعَر أبو العباس المُرسي في يومٍ بضِيقٍ شديدٍ لم يَعلم له سببًا، فذهب إلى أبي الحسن الشاذلي، فلمَّا رآه قال مُباشرةً: آدم خَلَقَهُ اللهُ بيَدِه، وأسجدَ له ملائكتَه، وأسكنَه الجنة نِصْفَ يومٍ خَمْسَمائة عامٍ، ثم نزَل به إلى الأرض، واللهِ ما نزَل بآدمَ إلى الأرض لِيُنْقِصَهُ، لكن نزل به إلى الأرض ليُكمله، ولقد أنزله إلى الأرض مِن قبْل أن يَخلُقه بقوله: (إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خَلِيفَةً).
وما قال في الجنة ولا في السماء، فكان نُزوله إلى الأرض نُزول كَرامة، لا نُزول إهانةٍ، فإنه كان يَعبُد الله في الجنة بالتعريف، فأنزَله الله إلى الأرض ليَعبده بالتكلِيف، فلمَّا توفَّرت فيهِ العُبُودِيَّتَانِ استحقَّ أن يكون خليفةً.
وأنتَ ـ أيضًاـ لكَ قِسْطٌ مِن آدم، كانت بدايتُك في سماء الروح، في جنة المعارف، فأنزلك الله إلى أرضِ النفس لتعبدَه بالتكليف، فلمَّا توفرت فيكَ العُبوديَّتانِ استحقَقْتَ أن تكون خليفةً.
أمَّا أين نزل، فذلك غيْبٌ لا يتحدث عنه التاريخ المَوثوق به، وقد كان يكفي ذلك للكفِّ عن بحْث العلماء في هذا الموضوع، ولكن العلماء بحَثوا فيه واختلفوا، شأنهم في ذلك في بحْث كل ما لم يَرِدْ فيه نَصٌّ صحيح.(1/211)
في معنى اليَتِيم:
يقول ـ تعالى: (ليسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغربِ ولكنَّ البِرَّ مَن آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ والمَلائكةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتَى المَالَ علَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكينَ وابنَ السَّبِيلِ).
واليتيم: هو: مَن مات أبوه، وهو دون البلوغ ذَكَرًا كان أو أنثى؛ لأنه في حاجة إلى العطف والرِّعاية. أمَّا بعد البلوغ فيكون قد زالَ عنه هذا الاسم؛ لأنه قوِيَ واشتدَّ، هذا هو اليتيم بوجهٍ عامٍّ، أمَّا اليتيم الذي يَستحق الصدَقة، فهو اليتيم الفقير الذي لا مالَ له مِن مِيراثٍ، ويَستوي في ذلك الذكَر والأُنْثَى.(1/212)
في قصة قوْم تُبَّعٍ:
قوم تُبَّع الذين جاء ذِكْرهم في القرآن هم حِمْيَر باليمن، وقد فصَّل القرآن ذِكْرهم في سورة سبَأ، كانت حِمير كلَّما مَلَك فيهم رجلٌ سمَّوْه تُبَّعًا، كما يُقال: قيصر لمَن ملَك الروم، وكِسْرَى لمَن مَلَك الفُرْس، وفرعون لمَن ملك مصر، والنجاشي لمَن ملك الحبشة، وغير ذلك مِن أعلام الأجناس.
وتُبَّعٌ هذا المذكور في الآية: كانَ رجلًا صالحًا خرج مِن اليمن، وسار في البلاد حتى وصل إلى "سمرقند"، واشتدَّ مُلكه، واتَّسعت مَملكته، وكَثُرَتْ رعاياه، فاتَّفق أن مَرَّ بالمدينة المنورة في أيام الجاهلية فَلايَنَهُ أهلُها بأن حاربوه في النهار، وجَعلوا يُقدِّمونَ له الزاد بالليل، فاستحْيَا منهم وكفَّ عنهم.
ولمَّا مرَّ بالكعبة أراد هدْمها فلمَّا أُخبِر بما لها مِن حُرمة ترَكها وكسَاها كُسوةً حسَنة، وقد اعتنق اليَهودية دين موسى ـ عليه السلام ـ قبل ظهور المسيح وتابَعه قومُه في ذلك حتى إذا مات عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام، وكان ما كان ممَّا قصَّه الله ـ تعالى ـ عن أهل سبأ وتبدُّل خيراتهم إلى نِقَمٍ.
أخرج الحاكم عن عائشة قالت: "كان تبَّعٌ رجلًا صالحًا، ألَا ترى أن الله ـ تعالى ـ ذمَّ قومَه، ولم يَذُمَّه".
وروى أحمد بسنده عن سهل بن سعد عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
لا تَسُبُّوا تُبَّعًا؛ فإنه كان قد أسلَم، أي أسلم وجهَه لله، ولم يُشرك به شيئًا من خلْقه".
ولا يَفُوتنا أن نُشير هنا إلى اضطراب الأخبار في شأن تُبَّعٍ حيث لم ترد تَفصيلاتها عن طريقٍ مَوثوق يُعتَدُّ به، ولم تُثبت الكشوف التاريخية الصحيحة شيئًا مُهمًّا في هذا المجال. وكل ما يجب علينا أن نُؤمن به صلاح هذا الرجل وفساد قومه، كما بيَّنتْهُ عائشةُ ـ رضى الله عنها.(1/213)
في حُكم قراءة القرآن على الأموات:
قراءة القرآن على الأموات ليست واجبةً إلا صلاة الجنازة فقط، أما عند القبر فقد استحبَّها عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ بعد الدفْن مُباشرةً، واستحبَّها الشافعي كذلك، فقد وَرَد عن عبد الله بن عمر ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال: أُحِبُّ أن يُقرأ عند القبر بعد الدفْن أول سورة البقرة وخَواتيمها، وقال الإمام الشافعي: أحبُّ أن يُقرأ عند الميت بعد الدفْن ختْمةً كاملةً.
وذلك لمَا يُرْجَى مِن تَنزُّل رحمةِ الله في المكان الذي يُتلَى فيه كتابُه وهذه الرحمة يَستفيد بها الأحياء والأموات.
وإذا ترك المسلم قراءة القرآن على الأموات فليس عليه عقوبة، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزور المقابر كثيرًا ويسأل الله ـ تعالى ـ لأهلها الرحمةَ والعافية، والدعاء للأموات مُستَحبٌّ سواء زُرتَ المقابر أم لم تَزُرْ تأسِّيًا برسول الله والخليل إبراهيم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فقد أمر الله نبيَّه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات.
ولقد دعا لهم سيدنا إبراهيم بالمغفرة، كما حكى الله عنه بقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولوالديَّ ولِلْمُؤمِنِينَ يومَ يقومُ الحِسابُ).(1/214)
في تفسير أوائل السور:
الحُروف التي بُدئت بها سُور القرآن مثل: (الم) و( ألر) و(طسم) و(حم) (ص) قيل: إنها أسماء للسور التي بُدئت بها، وقيل: إنها أقسام أقسَمَ اللهُ بها، على أن ما اشتملت عليه السور، التي بُدئت بها حقٌّ لا ريب فيه، وقيل: إنها أسماء لله ـ تعالى. وقيل: إنها نزلت للتحدِّي بها، وإنَّ القرآن الكريم مُؤلَّف مِن مثل الحروف، التي يُؤلِّفونَ منها كلامهم. وإن الذين يُنكرون أنه من عند الله أن يَأتوا بمِثْله، والله أعلم بمُراده.(1/215)
آراء في فواتِح السور:
منها: أنها أسماء للسوَر المَبدوء بها، فـ: (طس) اسم للسورة المبدوء بها، وكذلك (حم) ونحوها، غير أن بعض هذه الأسماء مُشتَرك مِن عدَّة سور (حم) و(آلم) و(آلر)، ومثل هذه يكون التميُّز فيها بمُشخِّصات، كأن يُقال: حم، الأحقاف، أو حم فُصِّلت، وهكذا.
وقيل: إنها أسماء للحروف الهجائية التي وُضعت بإزائها والغرَض منها إفْهام المُخاطبين أن ما يُتلَى عليهم مِن كلامٍ إنَّما تَرَكَّبُ مِن الحروف التي يَتخاطبون بها ويَتداوَلونها، وإمَّا إظهار شرَفها وفضْلها؛ إذ هي كُتبُه المُنَزَّلَة.
وموقف المؤمن مِن أمثال ذلك ينبغي أن يكون موقف الراسخين في العلْم، الذين يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنَا).(1/216)
في مكانة الأنبياء:
إنها فرصة طيبة للحديث في المسائل التي تتعلق بأنبياء الله ـ تعالى، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:
والمبدأ الأول: هو أن الأنبياء مَعصومونَ، اصطفاهم الله ـ سبحانه ـ قبل مِيلادهم، وتخيَّر لهم الآباء والأجداد والأمهات والجَدَّات، لقد اختار لهم الأُسَر والمَنْبِت، وانظرْ إلى القرآن الكريم، يقول عن عيسى ـ عليه السلام ـ قبل ميلاده:
(ولِنَجْعَلَهُ آيَةً للناسِ ورَحْمَةً مِنَّا وكانَ أمْرًا مَقْضِيًّا).
لقد كان أمرًا مَقْضِيًّا قبل ميلاده.
وتكفَّل الله بهم بعد مِيلادهم، إنه ـ سبحانه ـ يَصطفيهم لنفسه ويُربيهم على عيْنه، ويُبعد عنهم كل أذًى، ويُبعدهم عمَّا يُشينُ، ويَعْصِمُهم عن كُبريات السيئات قبل بَعْثتهم، ويَعصمهم عن كَبيرها وصغيرها بعد بعْثهم.
تلك هي العقيدة الإسلامية الصحيحة وعلى ضَوْئها يجب أن يَسير المُفسِّر، وعند حُدودها يجب أن يقف، وعلى هذا فإن الأمر في الآية ظاهر:
لقد اخْتصمَ اثنانِ مِن بني البشَر، كما يَختصمون كل يوم في هذا الأمْر أو ذاك، فذهبَا إلى داود ـ عليه السلام ـ يعتقد الظالِم أنه بلِسانه الطلْق، وذَكائه القويِّ يَستطيع أن يُلبس على داود ـ عليه السلام ـ فيُبدي الباطل في صورة الحقِّ، ويُظهر الظلْم في صورة العدالة، ويَعتقد المَظلوم أن حقَّه واضح برغم كل ما يُزيفه خصْمُه، لقد كان النزاع على غنَمٍ، والنِّعاج هي الإناث مِن الضأن، ولا مجال لغير ذلك، ولا يتأتَّى أن نَصرف اللفظ إلى غير معناه.(1/217)
وحكَم بينهم داود ـ عليه السلام ـ قائلًا: (لقدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ). ثم بيَّن الطبائع البشرية فقال: (وإنَّ كثيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بعضُهمْ علَى بَعْضٍ). ثم استثنى طائفةً قليلةً حدَّدها بقوله: (إلاَّ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحاتِ وقليلٌ ما هُمْ). ولكن.. ثُم تُخْتَتَمُ الآية بقوله ـ تعالى: (وظَنَّ داودُ أنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعًا وأَنَابَ). وما هي الفتْنة التي ظنَّ داود ـ عليه السلام ـ أن اللهَ فتَنه بها؟
والفِتْنة هي المُلْك، وهي السَّعَة والسُّلطان والجاه والسيادة، يقول ـ تعالى: (ونَبْلُوكُمْ بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً).
وهل يسير بعض المُفسِّرينَ على هذا النَّسَق؟
نعم: إن المُحقِّقينَ مِن المُفسِّرينَ يَرَوْنَ هذا الرأي وعلى رأسهم القاضي عِياض، والإمام ابن كثير، الذي يقول: قد ذكَر المُفسرون هَهُنَا قصةً، أكثرها مأخوذ مِن الإسرائيليات لم يَثْبُتْ فيها عن المَعصوم حديثٌ يجب اتِّباعه.(1/218)
في تفسير الرُّبُعِ الثاني مِن الحزب الأول مِن سورة البقرة:
بسم الله الرحمن الرحيم:
(إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أن يَضرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضةً فما فوْقَها فأمَّا الذينَ آمنوا فيَعلمونَ أنَّهُ الحقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمَّا الذينَ كفَرُوا فَيَقُولونَ ماذَا أرادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بهِ كثيرًا ومَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الفَاسِقِينَ (26) الذينَ يَنْقُضونَ عهدَ اللهِ مِن بعدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفسدُونَ في الأرضِ أُولئِكَ همُ الخَاسِرُونَ (27) كيفَ تَكْفُرُونَ باللهِ وكُنتمْ أمْواتًا فأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُم إليهِ تُرْجَعُونَ (28) هوَ الذِي خَلَقَ لكمْ مَا في الأرضِ جَمِيعًا ثُمَّ استوَى إلى السماءِ فسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمواتٍ وهوَ بِكُلِّ شيءٍ عَليمٌ (29) وإذْ قالَ ربُّكَ للمَلائكةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لكَ قالَ إنِّي أعلمُ ما لا تَعلمونَ (30) وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّهَا ثم عَرَضَهمْ علَى الملائكةِ فقالَ أنْبِئُونِي بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتمْ صادقينَ (31) قالوا سُبحانَكَ لا عِلْم لنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أنتَ العليمُ الحكيمُ (32) قالَ يا آدمُ أنْبِئْهُمْ بأَسمائِهِمْ فلمَّا أنْبَأَهُمْ بأَسمائهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لكمْ إنِّي أعلمُ غيْبَ السماواتِ والأرضَ وأعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ومَا كُنتمْ تَكْتُمونَ (33) وإذْ قُلنا للمَلائكةِ اسْجُدُوا لآدمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبليسَ أبَى واستكبَرَ وكانَ مِنَ الكافرينَ (34) وقُلنَا يا آدمُ اسْكُنْ أنتَ وزَوْجُكَ الجنةَ وكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حيثُ شِئْتُمَا ولا تَقْرَبَا هذهِ الشجرةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالِمِينَ (35) فأَزَلَّهُما الشيطانُ عنها(1/219)
فأخْرَجَهُما ممَّا كانَا فيهِ وقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لبَعضٍ عَدُوٌّ ولكمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ فتَابَ عليهِ إنَّهُ هو التوابُ الرحيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فمَن تَبِعَ هُدَايَ فلا خَوْفٌ عليهمْ ولا همْ يَحْزَنُونَ (38) والذينَ كفروا وكذَّبوا بآياتِنا أولئكَ أصحابُ النارِ همْ فيها خَالِدونَ (39) يا بَنِي إسرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التي أنعمتُ عليكمْ وأَوْفُوا بعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإِيَّايَ فارْهَبُونِ (40) وآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ولا تَكُونُوا أوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ولا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وإيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) ولا تَلْبِسُوا الحقَّ بالباطلِ وتَكْتُمُوا الحقَّ وأنتمْ تَعْلَمُونَ (42) وأَقِيمُوا الصلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).
إن التفسير لكل رُبُع مِن القرآن الكريم، في مجال التحريك والتحرُّك بالقرآن العظيم ينبغي أن يَرسُم صورةً مُتكاملةً..؛ لأن كل ربع في تقسيم القرآن، إنما يُعطي معنًى مِن المعاني التي تكتمل بها الصورة في كل سورة.
وهذا الرُّبُع الثاني مِن سورة البقرة يبدأ بدايةً مُثيرةً، إلا أنها مُرْتبطة بالموضوع الرئيسي الذي يتناوله هذا الربع. وأعني بذلك تحديد علاقة الإنسانِ برَبِّه وبقِصَّة بدْءِ الخَلِيقَة في ذلك الحوار القُدسيّ بين ـ سبحانه وتعالى ـ والمَلائكة ثم بيْنه جلَّتْ حِكْمته وبين آدمَ ـ عليه السلام ـ وإبليس..(1/220)
لقد علَّم الله ـ سبحانه ـ آدم ـ عليه السلام ـ الأسماءَ كلَّها وهيَّأَهُ بذلك ليكونَ خليفةَ الله في أرْضِهِ؛ لكي يعرف ابتداء مَصادر العلْم ومَبادئ الانطلاق بهذا العلْم.. وبعد أن وَقفَ آدمُ على هذه الأسرار وتلك المداخل أصبح مُهَيَّئًا للخِلافة وحينما اجتاز آدمُ الاختيارَ، طلب اللهُ مِن الملائكةِ أن تَسجُد لآدم.
وينتهي الأمر بما تشرحه الآيات تفضيلًا مِن موقف إبليس الذي وَصَفه الله بالكُفْر والعِصيان، ولكن آدمَ عصَى أمر ربه لقدَرٍ وتقديرٍ، وتلقَّى آدمُ مِن ربِّه كلماتٍ فتابَ عليه، وهنا الفرْق الكبير والبوْن الواسِع بين آدم الذي تابَ فتابَ اللهُ عليه، وبين إبليس، الذي عصَى، ولم يَستغفر، ولم يَتُبْ، وإنَّما استمرَ في كُفْرِهِ وعِصْيانه.
والغريب أن هذا الربع يبدأ باستهلالٍ غريب أخَّاذٍ، يُثير التساؤل، ولكن حينما تَربِطه بمُحتوى ما جاء به الربع تكتمل في أذهاننا الحِكْمة مِن أن يُورد ـ سبحانه ـ هذه الآيات في مدخل هذا الربع. إنه ـ تعالى ـ يُريد أن يُوضح مُسبَّقًا أن الكافرينَ سوف يُشكِّكونَ، ويَتَذَبْذَبُونَ، ولن يُقِرُّوا أو يُسلموا، وأنهم سيَنتقدون أيَّ شيءٍ حتى في هذا الأمر البسيط ـ ضرب المَثَل بالبَعُوضة ـ وهو لا يَعْدُو أن يكون سَبِيلًا وأسلوبًا مِن الله ـ عز وجل ـ لتَبْسيط الأمر بتلك الأمثال ليُقرِّبها إلى عقل الإنسان وإدْراكه وحِسِّهِ، ويُقرِّر ـ سبحانه ـ بوُضوح وجلاء أن المؤمنين يعلمون أنه الحقُّ مِن ربهم حتى ولو كان الأمر مَثَلَ بَعُوضةٍ فما فوقها. (وأمَّا الذينَ كفَرُوا فَيَقُولونَ ماذَا أرادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بهِ كثيرًا ومَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الفَاسِقِينَ). والأوصافُ المباشرة لهؤلاء الفاسقين في هذا الموقع هي:
1ـ يَنقُضونَ عهْد الله مِن بعد مِيثاقِه.
2ـ يَقْطعونَ ما أمَر اللهُ به أن يُوصل.
3ـ يُفسِدُون في الأرضِ.(1/221)
وبعد هذه المُقدمة الأخَّاذة والمُثيرة يُبيِّنُ اللهُ لنا أن المؤمنَ، وهو الذي يعلم أنه الحق، يُصبح مُطمئنًا لأمر الله وحُكمه، واثقًا في الكلام المُنزَّل مِن عند ربه. فمِن مُقومات الإيمان الأول ما تُوضحه الآية: (والذينَ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إليكَ ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). زالت مِن قلوبهم الرِّيبةُ والشكُّ. أمَّا الذين كفروا فهم في رَيْبٍ دائم وتَشكُّك مستمر، فإذا كان أمر التشكيك يصل إلى هذا السؤال الذي يتضمَّن الدهشة والاستغراب وعدم تصوُّر التصديق حِينما يسأل: (كيفَ تَكْفرُونَ باللهِ وكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إليهِ تُرْجَعُونَ. هوَ الذِي خَلَقَ لكمْ مَا فِي الأرضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمواتٍ وهوَ بكُلِّ شيءٍ عليمٌ). وأظهر ـ سبحانه وتعالى ـ صفةَ العلْم عند المدخل إلى بَدْءِ الخَلِيقَة.
وهكذا نرى ونتعلَّم أن الله ـ سبحانه ـ وهو يبني الإنسان مِن خلال الآياتِ كان لابد أن يبدأ بعد تعريف الإنسان بأنواع الناس الذين سيلتقي بهم مَسار القرآن ـ كان لابد أن يَتنقل إلى تحديد علاقة الإنسان بخالقه مُنذ بَدْءِ الخَليقة لكي يعرف كل إنسان قدْره ومَكانته، فليس آدم ـ عليه السلام ـ في ذلك إلا كل إنسان، ومَن يَستَشْعِر هذا المعنى لابد أن يستشعر مدَى تكريم الله لشخْصه ومَا مَيَّزَهُ بهِ مِن علْمٍ استوجبَ سُجود الملائكةِ لآدم.. فإذا كان التصرُّف على مستوى هذا التكريم يتكافأ مع هذا العلْم الذي علَّمه ربُّه إيَّاه استطاع الإنسان أن يعرف فضْل الله عليه وتكريمه إيَّاه.(1/222)
وكما حرَص الربع الأول على تحديد وتعريف أنواع الناس الذين سيَجري التعامُل معهم فإنَّ الربع الثاني حريصٌ على تحديد علاقة الإنسان أوَّلًا بخَالِقِه ثم الملائكة قبل أن يدخل مع القرآن ـ في الرسالات.. ينبغي أن تكون هذه العلاقة واضحة ومُستقرة رحمة بالإنسان عندما يعرف مصادر القوة، ويعرِف مصادر العلْم، ويعرِف مصادر السُّلطة، وممَّن يستمد الإنسان كل هذه المُساندة. فمِن أكبر النِّعَم التي تفضَّل الله بها على الإنسان أن يشمله برحمته، وأن يُزوِّدَه بعلْمه وأن يُسخِّر له ما في الأرض جميعًا، وميزة العلْم في حدِّ ذاتها مِن أكبر الدِّعامات لتحقيق الرحمة للفرد في تنمية هذا العلْم الذي وضَع الله به آدم عند نُقطة أساس يُمكن أن ينطلق منها إلى مَنابع الغيْب بلا قيْدٍ وبلا حدٍّ في نطاق ما يأذن به رب هذا الوُجود، فالحوار يُؤكد كرامة الإنسان، ويُؤكد دَوْر الإنسان في عمارة الكون ومَسئوليته عن هذا العلْم الذي أودعه الله فيه، والفتوى يُشار إليها بأنه علَّم آدمَ الأسماء كلها ثم عرَضهم على الملائكة، فقال أنْبئُوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتمْ صادقينَ قالُوا سُبحانكَ لا علْمَ لنَا إلاَّ مَا علَّمْتَنَا إنَّكَ أنتَ العليمُ الحَكيمُ.
وهنا يُضاف إلى العلْم الحِكْمةُ. وقد يُعطَى لنا العلْمُ، ولكن الحِكْمةُ هي التدبير المُحكم وهى صَنْعة الله، وإن الذين يَشْقَوْنَ في هذه الحياة هم الذين يُريدون أن يعرفوا الحِكْمة وراء كل شيء ومِن وراء كل تدبير؛ لأنهم يعيشون في الظاهر، والله ـ سبحانه ـ الأول والآخر والظاهر والباطن، فمَهما كان مِقدارُ علْمك، فإنه فوق كل ذي علْم عليم، إن الله لا يحب أن يُسأل لماذا ولا كيف.. أمَّا إذا تفضَّل الله على عبدٍ مِن عباده فآتاه الحكمة؛ فمِمَّا لا شك فيه أنه قد أُوتِيَ خيرًا كثيرًا، ويَنتَهِي الحوار بالكلمة الفاصِلَة التي يجب أن ينتهي إليها كل إنسان حتى لا يتْعب.(1/223)
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لكمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السماواتِ والأرضِ وأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ومَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). وبهذا تَحدَّد الموقف لِيَلْتَزِم كل امرئٍ حدَّه ومكانه مِن هذه القاعدة الكلية رحمةً به حتى لا يضلَّ، ورحمةً بالمجتمع حتى لا يَضيع، ورحمةً بالبشرية حتى تهتدي إلى الصراط المستقيم.
إنَّ كل تشريف لا يَتِمُّ إلا بقَدْر ما يُؤدِّي المُقابِل له مِن تكاليف، فما استحق آدمُ سجودَ الملائكة إلا بعد أمرينِ:
العِلْم، ثم اجتياز الاخْتبار بنجاح.
وهنا أصبح مُعَدًّا لمُباشرة الخلافة بكل ما عليها وبكل مالها، وطالَمَا أن هناك مسئولية فلابد أن تتأكد المسئولية بالْتزام الأوامر، والانتهاء مِن النواهي، وإلا كيف يُبْنَى الالْتزام؟ وهنا أيضًا يطلُب مِن الملائكة السجود فتَسجد، ويَمتنع إبليس، الذي أبَى، واستكبر، وكان مِن الكافرين.
(وقُلْنَا يَا آدمُ اسْكُنْ أنتَ وزَوْجُكَ الجنَّة وكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حيثُ شِئْتُمَا ولَا تَقْرَبَا هذهِ الشجرةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالِمِينَ).
فطالمَا هناك تكليف. كان هناك الْتزام أوامر وهناك نواهٍ.. وبهذا يكون التكريم عليه أعباء والْتزاماتٌ إذا أُدِّيَتْ كان التكريم هو الجزاء، وإذا لم تُؤَدَّ ينتهي بنا الأمر إلى ما تعرَّض له الربع الأول في شأن الكافرين والمُنافقين.
وكانت أول تجربة لآدمَ يخرج فيها عن أمر رَبِّه؛ لنَعرف أن الخطأ جائز ومُمكن إلا أن يكون تَحَدِّيًا وأن الله تواب رحيم.. فتلقَّى آدمُ مِن ربه كلماتٍ فتاب عليه، وبعد أن أمره الله بالهُبوط إلى الأرض كفَل له الرزق والاستقرار إلى حين لقائِه ـ سبحانه وتعالى:(1/224)
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَميعًا فإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فلا خَوْفٌ عليهمْ ولا همْ يَحْزَنُونَ. والذينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئكَ أَصْحَابُ النَّارِ همْ فِيهَا خَالِدُونَ). تأكيدٌ جديد لمَا جاء في الفاتحة بأن هناك رسالات وهناك رُسلًا ستأتي سيتَّبعهم مَن أنعم الله عليهم وسيعصيهم مَن غضب الله عليهم، وسينحرف بها مَن ضلَّ عن الطريق، أيْ أننا على مَسار قراءة القرآن سنرى أمثلة لمَن أنعم الله عليهم وأمثلةً لمَن غَضِبَ الله عليهم.. ومَن حادُوا عن الصراطِ المُستقيم، وكيف كان عمَلهم، وكيف كان جزاؤهم فنتعلَّم مِن هذه العِظَةِ، ونتدارك أنفسنا بالخير والعمل الصالح، وننتهي عند آيةِ مُخالفة الله ـ عز وجل ـ ثم يُنبِّه إلى الذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون؛ توضيحًا للجزاء في لقاء المُخالفة وفتحًا لباب التوبة، كما كانت توبتُه على آدم بعد هبوطه تِبيانًا كاملًا لأساس التصرُّف بين الإنسان وربه وبين الإنسان والملائكة تعريفًا بإبليس ومَن يُمثلونه على الأرض حتى نتَّقِي الوُقوعَ في حَبائِلهم، وينتهي هذا الربع بالكلام، ولأول مرة عن بني إسرائيل، وذلك بمَزيدٍ مِن التفضيل بالنسبة للذين كفروا: (سواءٌ عليهمْ أأنذرتَهمْ أم لم تُنذِرْهمْ لا يؤمنونَ. ختَمَ الله على قُلوبهمْ وعلى سمْعِهمْ وعلى أبصارِهمْ غِشاوةٌ ولهمْ عذابٌ عظيمٌ) بالنسبة لبني إسرائيل في مجال إعداد المسلم الذي يسعى القرآن لبنائه، ينتهي هذا الربع بتحصين المسلم في مجاله بِنائه وإعداده لمُواجهة أنواع البشر الذين سيَلتقي بهم على هذه الأرض، ويكون مِن بين مَن يُحذِّرنا الله مِنهم بنو إسرائيل، وهذا التحذير يأتي مِن خلال خِطاب مُوَجَّهٍ إليهم، لعلَّ وعسى أن يعود إليهم عقلُهم، ويعود إليهم إيمانهم السابق حينما فضَّلهم الله على العالمين، فجحدوا نعمته، ونقضوا عهده، فيخاطبهم(1/225)
قائلاً: (يا بني إسرائيلَ اذكروا نعمتيَ التي أنعمتُ عليكمْ وأَوْفُوا بعَهدي أُوفِ بِعَهْدكمْ وإبَّايَ فَارْهَبُونِ. وآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا معكمْ ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ ولا تَشْتَرُوا بآيَاتِي ثَمَنًا قَليلًا).
(وإبَّايَ فَارْهَبُونِ) يُنبِّههم إلى أن يَرهبوه وحده ثم يُشير إلى صفة تُعاني منها البشرية كلها مِن تصرُّفِ يَهُودٍ حتى إنها أصبحت علامةً مُميزةً لهم في مجال أخبارهم ودِعايتهم، وأعْلامهم فيقول:
(ولا تَلْبِسُوا الحقَّ بالبَاطِلِ وتَكْتُمُوا الحقَّ وأنتمْ تَعلَمُونَ. وأَقِيمُوا الصلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). بالمعنى العام كُونوا مع الناس ولا تَنحرفوا كمَا انْحَرفَ إبليسُ.
النواهي:
* لا تَنقضْ عهد الله مِن بعد مِيثاقه.
* لا تقطعْ ما أمَر الله به أن يُوصَل.
* لا تُفسِدْ في الأرض.
اتَّبِعْ هُدَى الله (فمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عليهمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ).
أوامر لبنى إسرائيل وهى أوامر خاصة، لها صفة العُموم:
1ـ اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم.
2ـ أوْفُوا بعَهدي أُوفِ بعَهدكم.
3ـ إيَّايَ فارْهَبُونِ.
4ـ (آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لمَا مَعكمْ ولا تَكُونُوا أوَّلَ كافِرٍ بِهِ). (القرآن)
5ـ (لا تَشْتَرُوا بآياتي ثمنًا قليلًا وإيَّاي فاتَّقُونِ).
6ـ (ولا تَلْبسوا الحقَّ بالباطلِ وتَكتموا الحقَّ وأنتمْ تَعلمون).
7ـ (وأَقِيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاةَ وارْكَعُوا مع الراكعينَ).
في تفسير قول الله ـ تبارك وتعالى:
(وإذْ قُلْنَا للمَلائِكةِ اسْجُدُوا لآدمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ أبَى واسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكَافِرِينَ). (سورة البقرة: آية 34).
فهل إبليس مِن الملائكة أو مِن الجن.. وهل هو مِن الشياطين؟(1/226)
معرفة جنْس إبليس مِن المُعتقدات التي كُلِّفْنَا بها، ومع ذلك فإن معرفة جنسه مُتوقفة على الخلاف في كوْنه مِن الملائكة أم لا: وهو قبْل مَعصيته لأمر الله لا يُعلَم حاله بطريق ثابت، وكل ما قِيل في ذلك فهو منسوب إلى بعض الصحابة، أمَّا بعد الإخْبار بمَعصيته ففي مَعرفة جنْسه رأيانِ:
الرأي الأول: أنه مِن الملائكة. واستدلَّ أصحاب هذا الرأي بأدلة منها:
(أ) ظاهر الاستثناء في قوله ـ تعالى: (فسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ). وهو استثناء مُتصل يدلُّ على أنه مِن المَلائكة.
ب ـ أنه لو لم يكن مِن الملائكة لَمَا كان أمر اللهِ لهم بالسجود مُتناوِلًا له، ولو لم يكن مُتناولًا له استحالَ أن يكون ترْكُه للسجود إباءَ مَعصيةٍ، ولَمَا استحقَّ العذاب، وحيث حصَل ذلك علمًا بأن الخطاب بالسجود يتناوله، فهو مِن الملائكة.
والرأي الثاني: أنه ليس مِن الملائكة، واستدلَّ أصحاب هذا الرأي بأدلة، منها:
(أ) قوله ـ تعالى ـ في سورة الكهف: (إلا إبليسَ كانَ مِن الجنِّ).
(ب) إن الملائكة مَعصومُون مِن المَعصية؛ لقوله ـ تعالى: (عليهَا مَلائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرهمْ ويَفعلونَ مَا يُؤْمَرُونَ). وإبليس عصى واستكبر عن السجود فهو ليس مِن الملائكة.
وأدلة الطرفينِ مُتناقضة فلا يُمكن الأخْذ برأيٍ في هذا الموضوع، ولهذا قيل: إن إبليس ليس مِن الملائكة ولا مِن الجن، بل هو خَلْقٌ مُفرَد مِن نارٍ، وإبليس يُطلَق عليه شيطان؛ لأن الشياطين هم شِرار الجن ـ فإن منهم أخيارًا، كما يُطلَق لفظ الشيطان على مَن تمرَّد من الإنس والجن والدوابِّ، وإذا أردتَ تَفْصيلًا أوضحَ فارجع إلى كتاب: "آكام المُرجان" للمُحدِّث الشبلي، ولمجلة الأزهر مجلد: 8 ص: 566 وما بعدها.(1/227)
في تفسير قول الله تعالى يا بني إسرائيلَ اذْكرُوا نِعمتيَ:
(يا بني إسرائيلَ اذْكرُوا نِعمتيَ التي أنعمتُ عليكمْ وأنِّي فضَّلْتُكمْ على العالِمينَ). (سورة البقرة ـ آية: 47).
ليس في القرآن آية تدلُّ على تفضيل بني إسرائيل على كل العالمينَ في جميع العُصور، وإنما فيه في سورة البقرة ما يدل على أنهم أفضلُ عالَمِي زمانهم، فقد كانوا مُؤمنين بالله ربهم وبأنبيائهم في وقت كَفَر الناس فيه بربهم فعُوقِبُوا بعقوبات رادعة مِن إرسال الجراد على مَحاصيلهم الزراعية، وإرسال الضفادع إليهم فأقضَّتْ مَضاجِعَهم وحلَّت بأطعمتهم، وسالَ الدمُ مِن أجسامهم لا بْتلائِهم بأمراض الحساسية، وكانت نهايتُهم أن غَرِقوا في البحر، ونجَا موسى ـ عليه السلام ـ ومَن معه.
والآيات التي وردت بتفضيل بني إسرائيل على عالَمي زمانهم آياتٌ بسورة البقرة، منها:(يا بني إسرائيل اذكروا نِعمتيَ التي أنعمتُ عليكمْ وأنِّي فضَّلتُكمْ على العالَمِين).
وبنو إسرائيل الذين لم يُؤمنوا بعيسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ مِن الخاسرين، وليسوا بمُساوينَ لأحدٍ مِن المسلمين لقول الله ـ تعالى:
(ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ). في تفسير قوله ـ تعالى:
(إنَّ الذينَ آمنُوا والذينَ هادُوا والنصارَى والصابئينَ مَن آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ وعمِل صالِحًا فَلَهُمْ أجْرُهمْ عندَ ربِّهم ولا خوفٌ عليهمْ ولا همْ يَحْزنُونَ). (سورة البقرة: آية: 62).(1/228)
ليس الإيمان بالله واليوم الآخر مُمازِجًا للنصرانية واليهودية ودِين الصائبة على أوضاعها الحاضرة أو المُحرَّفة عمَّا جاء به الأنبياء والمُرسَلون، ولا تدلُّ الآية على شيءٍ مِن ذلك، والذي تدلُّ عليه أن المرء على أيِّ دين كان فجاءه دينُ اللهِ غير مُحرَّف على يدِ الداعي إلى الحق فاتَّبعه نَجَا وفازَ، أو أن الذي كان عليها كما جاء بها أنبياؤهم دون تغييرٍ قبل التعقيب برسالة أخرى كان على الدين الحق، والصائبة قوم زَعمُوا أنهم: على دِينِ نُوح، وقيل: يُؤمنون بطائفة مِن الأنبياء، ويُعظِّمون الأحَد، ويعملون بالمَعْمودية والاعْتراف.(1/229)
في قول الله تعالى قُلْ إنْ كانتْ لكمُ الدارُ الآخرةُ:
(قُلْ إنْ كانتْ لكمُ الدارُ الآخرةُ عندَ اللهِ خالِصَةً مِن دُونِ الناسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إنْ كُنتمْ صادقينَ). (سورة البقرة: آية: 94).
ادَّعى اليهود أن الدار الآخرة خالصةٌ لهم دون الناس وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن غيرهم مِن الناس ليس لهم في الآخرة نصيب مِن الخير.
فبيَّن الله ـ سبحانه ـ بالدليل العملي كذِبَ اليهود وافْتراءَهم حيث طالبهم بِتَمَنِّي الموت والرغبة فيه، ولو تَمَنَّوْا لَوَقع بهم.
والواقع أن الآية تشتمل على تحقيق الحق بين المسلمين واليهود، لقد ادَّعى اليهود ما ادَّعَوْا مِن المَيزات في الآخرة، فأمر الله رسوله أن يُساجِلَهم، وأن يقول لهم أنتم تقولون ذلك، وأنا أقول: إنه كذب، فقالوا: نتباهلُ؛ أيْ نقول: لعنةُ على الكاذب والموت المُحقَّق لمَن يدَّعِي خِلافَ الحق، فدعاهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ذلك فأَبَوْا، ولو أجابوا لنزَل بهم الموت ولشَرِقَ أحدُهم بِرِيقِهِ.
وهكذا تبيَّن كذب اليهود في دعْواهم بهذا التحدِّي، وظهر الحق مِن عند الله.
في تفسير قوله ـ تعالى:
(فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ واشْكُرُوا لي ولا تَكْفُرُونَ). (سورة البقرة: آية :152).
معنى الآية الكريمة: أن مَن ذَكر الله بالقلب كالتفكُّر في الدلائل الإلهية ومَظاهر الكمال الرباني في هذا الخَلْق البديع، والتنظيم الذي يُجبر المُتشكِّكين على الإذْعان والتسليم، ويَزِيد المُهتدين هدًى.
ومَن ذكر الله باللسان بألوان الذِّكْر الواردة مِن التسبيح والتهليل والتقديس والصلاة على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم.
ومَن ذَكَر الله بالجوارح بأداء أمر ربه والابتعاد عمَّا نهَى عنه صادرًا في ذلك عن قلب حَيٍّ وشُعور يقظ.(1/230)
أثابَه الله ـ تعالى ـ برفْع درَجاته وتحسين مَكانته، وما إلى ذلك مِن المَنازِل العالِيَة التي لا تَحُدُّهَا حُدود ولا تَحصرُها قُيود، وعبَّر عن ذلك بالذكْر؛ لأن مَن يذكر شيئًا يعرف حقَّه، ويُدرِك ما له ومَا عليه. وعلى ذلك فعلَى الإنسان ـ دائمًا ـ خاصةً المسلم أن يذكر الله على كل حال وفي أيِّ وقت لِئَلَّا يُحرَم مِن فضْل الله.
ففي الآية حَثٌّ على الذِّكْر ودعوة إليه لمَا ذكرناه.
وبعد الأمر بالذِّكْر وبيان فائدته جاء الأمر بالشكْر، وقدَّم الأمر بالذكر على الأمر بالشكر؛ لأن الذاكر مُشتغل بالله ـ تعالى ـ والشاكر مُشتَغِل بالنِّعْمة والاشتغال بالله أولَى مِن الاشتغال بالنِّعَم.
ومَن لا يشكرُ الله كافرٌ بنِعمه ونِعَم الله كثيرة.. إنها لا تُحصَى: وإنْ تَعُدُّوا نِعمة اللهِ لا تُحْصوها، ومَن داوَمَ على شُكر الله زاده ـ سبحانه ـ من نِعمه.
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
والذاكر الشاكر راضٍ، وهو بذلك سعيد في دنياه حتى إذا لقِيَ الله ـ سبحانه ـ فرِح بلقاء ربه.(1/231)
في حياة الشهداء في سبيل الله:
حياة الشهداء، حياة أرواح فقط، إلا أنها أرقَى مِن حياة غيرِها بدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرواح الشهداء في حواصِل طيرٍ خُضر في رِياض الجنة، ثم تأوي إلى قناديلَ مُعلقةٍ تحت العرْش.
غير أن الآية الكريمة تَنُصُّ بدلالة اللفظ على أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يقول في الشهداء: إنهم أموات بدليل قوله ـ تعالى: (ولا تَقُولُوا لمَن يُقْتَلُ فِي سبيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أحياءٌ ولكنْ لا تَشْعُرُونَ). (سورة البقرة: آية: 154).
وللشهداء خاصةٌ أخرى بالنسبة لأجسادهم، فإنها تبقى بحالها حتى تُبعث أرواح أصحابها مُتصلةً بها.
تلك الخاصة ليست لأحد سواهم إلا الأنبياء الصدِّيقينَ والعلماء العاملين، وبالاستقراء وُجد أجسامُ كثيرٍ مِن المَشهود لهم بالصلاح والتُّقَى باقيةً في قُبورها بحالها لم يُصبْها شيءٌ من البِلَى.(1/232)
في تفسير قول الله تعالى أُحِلَّ لكمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ:
(أُحِلَّ لكمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لكمْ وأنتمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ). إلى آخر الآية. (سورة البقرة: آية: 187).
أما قوله ـ تعالى: (أُحِلَّ لكمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ). فإنه نزل لإزالة لَبْسٍ حدَث في أول تشريعِ الصيام؛ وذلك أن بعض المؤمنين ظنَّ أن اتصال الرجل بزوجِه ومُباشرته لها مُحرَّم ليْلًا، كما هو مُحرَّم نهارًا، فيُبَيِّن الله لهم أن الرَّفَث وهو مُباشرة الرجل زوجه ليس بحَرامٍ في ليالي رمضان، وإن كان مُحرَّمًا في نهارِه.(1/233)
في قوله تعالى نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكمْ:
(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ وقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ واتَّقُوا اللهَ واعْلَمُوا أنَّكُمْ مُلاقُوهُ وبَشِّرِ المُؤمِنِينَ). (سورة البقرة: آية:222).
يقول الإمام السجستاني في غريب القرآن عن هذه الآية:
الحرْث هو إصلاح الأرض وإلْقاء البَذْر فيها، ويُسمَّى الزرعُ الحرْثَ أيضًا:
ولمَّا كانت النساء مَواضعَ النَّسْلِ وما ينبغي فيهنَّ مِن نُطَفِ الرجال، فقد شبَّهتهنَّ الآية الكريمة بالأرض التي هي موضع الإنْبات والزرع. فنطفة الرجل التي تُلْقَى في الرحم، فيكون منها الولد، كالبذر الذي يُلْقَى في الأرض لإنبات الزرع، فيكون معنى الآية الكريمة: نِساؤكم مَواضع نَسْلِكم كالأرض، موْضع حَرْثكم، فكما تأتون أرضَكم لإصلاحها، وإلْقاء البَذْر فيها مِن أيِّ جهة شِئتم، فَأْتُوا نِساءَكم مِن أيِّ جِهة شئتم، ما دام الإتيان في موْضع الحرْث، أيْ: "القُبُلُ" إذْ هو موضع المرأة فلا حرَج أن تأتيه مِن الأمام أو مِن أيِّ جهة تَشاء.
وقدِّموا الخير الذي أمرَكم اللهُ به لأنفسكم وذلك شامل لصالح الأعمال، قال ـ تعالى:
(ومَا تُقَدِّموا لأنفسِكمْ مِن خيرٍ تَجِدُوهُ عندَ اللهِ هوَ خَيْرًا وأَعْظَمَ أجْرًا).
وقيل: هو طلب الولد، وقيل: هو التسمية عند غِشْيَان الزوجة. ومِن الأدعية المَأثورة في هذه الحالة: "بسم الله اللهم جَنِّبْنِي الشيطانَ وجَنِّبِ الشيطانَ مَا رَزَقْتَنِي". ولا مانع أن يشمل ذلك كله، واتقوا الله وخافوا ربكم، وراقبوه في جميع أحوالكم، فافْعلوا ما أمركم به، واجتنبوا ما نهاكم عنه، واعلموا أنكم مُلاقوه، فمُجازيكم على أعمالكم، فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرًا، ومَن يعمل مثقالَ ذرَّةٍ شرًّا يَرَهُ.(1/234)
وبَشِّرِ المؤمنينَ الذين يعملون خير الأعمال، ويتركون قبيحَها. ورُوي أن اليهود كانوا يقولون: مَن جامَع امرأته مِن الخلْف في قُبُلِهَا جاء وَلَدُها أحْوَلَ، فذُكر ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال ـ صلوات الله وسلامه عليه: كذبت اليهود ونزلت الآية:
يقول الإمام الزمخشريُّ في تفسير الكشَّاف: وقوله ـ تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ). من الكنابات اللطيفة والتفويضات المُستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام الله؛ لقوله هو أذًى فاعْتزلوا النساء، وقوله فإذا تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ مِن حيث أمركم الله، آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلَّموها ويتأَدَّبُوا بها ويتكلَّفوا مِلَلَهَا في مُحاوراتهم ومُكاتباتهم.
أما آية: (يا أيُّها الذينَ آمنوا ليَسْتَأْذِنْكُمُ الذينَ مَلَكَتْ أيمانُكمْ... الآية (58) من سورة النور، فقد اشتملت على كثير مِن الآداب الحميدة والتوجيهات السديدة، ومن هذه الآداب الحميدة والتوجيهات السديدة ومن هذه الآيات يجب أن يأخذ الآباء بها أولادَهم الذينَ لم يبلغوا الحُلُم بعدُ، كما يُؤدَّب بها الإماء والعبيد. والاستئذان قبل الدخول في ثلاث حالات قد يكون الإنسان فيها مَكشوف العَوْرة أو هو مُعرَّض لكَشْفها؛ لأنه في هذه الحالات الثلاثة غالبًا ما يَخلع مَلابسه ويَستبدل بها مِن الملابس أو الغِطاء ما لا يُؤمَن معه كشْف ما لا يَحْسُنُ كشْفه أمام الإمَاء أو الأطفال، وهذه الأوقات الثلاثة: وقت القيْلولة، وبعد صلاةِ العشاء، وقبل صلاة الفجر، وقد سمَّاها القرآن عورات ثلاث؛ إذْ فيها يَختل نظام الإنسان في ملْبسه على الوجه الذي شرحناه بقوله ـ تعالى:(1/235)
(يا أيها الذينَ آمنوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الذينَ مَلَكَتْ أيمَانُكمْ والذينَ لم يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ). أمر الله ـ سبحانه ـ المؤمنين بأن يُؤدِّبوا عبيدهم وإماءهم وكذلك أطفالهم الذين لم يبلغوا مِن التكليف بهذا الأدب الإسلامي الجميل، وهو الاستئذان قبل الدخول بمَلْبسهم ثلاث مرات في اليوم والليلة هي: مِن قبل صلاة الفجر، وحين تَضعون ثيابكم مِن الظَّهيرة ـ أي تَخلعوها في القيلولة ـ ومِن بعد صلاة العشاء، هذه الأوقات الثلاثة لا يجوز دخول الصِّغار والإماء فيها إلا بعد الاستئذان لِتَكونوا قد سترتُم فيها ما عساه أن يكون قد انكشف مِن عوراتكم فقبل صلاة الفجر وقت القيام مِن النوم وطرْح الثياب، التي ينام فيها، ووقت الظهيرة تُخلَع الملابس للقيلولة وبعد صلاة العشاء وقت التجرُّد مِن ثياب اليقَظة وارتداء ثياب النوم، بلا استئذانٍ؛ لأنهم يَطوفون عليكم لخِدْمتكم، وتَطوفون عليهم لاستخدامهم وطلب ما تَحتاجون إليه منهم.
(ليسَ عليكمْ جُناح بعدهنَّ)، أي بعد الأوقات الثلاثة المذكورة، (طوَّافُونَ عليكمْ بعضُكمْ على بعضٍ). أيْ بعضكم طائفٌ على بعض، فالحاجات بينكم وبينهم مُتداخلة، والمصالح مُتشابكة، والأمر بالاستئذان في كل وقت يُؤدي إلى الحرج: (كذلكَ يُبيِّنُ اللهُ لكمُ الآياتِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ).
أي مثل ذلك البيان والتوضيح يُوضح الله لكم آياتِه، والله عليم بأحوالكم وما يُصلح أمركم، حكيمٌ فيما يشرعه لكم مِن آدابٍ وأحكام.
رُوي عن مُدلج بن عمرو ـ وكان غلامًا أنصاريًّا ـ أرسله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقت الظهيرة إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ليَدعوه، فدخل عليه وهو نائمٌ، وقد انكشف عنه ثوبه: فقال عمر:(1/236)
لَوَدِدْتُ أن الله ـ عز وجل ـ نهى آباءَنا وأبناءنا وخدَمَنا ألَّا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذنٍ، ثم انطلق معه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجدَه، وقد أُنزلتْ عليه هذه الآية: وهي إحدى الآيات المُنزَّلة بسبب عمر ـ رضي الله عنه. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبى مُرشد قالت: إنَّا لَندخل على الرجل والمرأة، ولعلَّهما يكونانِ في لِحافٍ واحد. وقيل: دخل عليهما غلام لها كبير في وقت كرِهت دخوله، فأتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن خدَمَنا وغِلماننا يدخلون في حالٍ نكرهها ـ فنزلت الآية الكريمة.(1/237)
يقول الله تعالى لنْ تَنَالُوا الْبِرَّ:
(لنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
"إنَّمَا الأعمالُ بالنِّيَّاتِ".
فعلى قدْر جوْدة المُتصدَّق به وعلى قدْر صفاء المُتصدِّق يكون الثواب.(1/238)
في معنى قوله تعالى ومَن يَبْتَغِ غيرَ الإسلامِ دِينًا:
(ومَن يَبْتَغِ غيرَ الإسلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ). (سورة آل عمران: آية: 85).
هذه الآية مِن آيات سورة آل عمران المُبارَكة، وسورة آل عمران تتحدث فيما تتحدث عنه ـ عن عقيدة التوحيد لله ـ سبحانه، وهذه العقيدة هي جوهر عقيدة الإسلام التي قرَّرها ربُّ العِزَّةِ، وشهِد بها هو ومَلائكته وأولو العلْم، فقال في السورة: (شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إِلَهَ إلَّا هُوَ والمَلائكةُ وأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بالقِسْطِ لا إِلَهَ إلَّا هُوَ العزيزُ الحكيمُ. إنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ).
وقد جاءت الآية المَسئول عنها في هذا الإطار مِن الدعوة إلى التوحيد ونَبْذِ غيره مِن الأديان، سواء كانت دِيانات صحيحة ثُم حُرِّفت أو اتجاهات فكرية فاسدة أدَّت إلى الشرْك والإلْحاد كعَقائد الوثنية والشيوعية وغيرها.
ولكي يزداد الجوابُ وُضُوحًا نُحب أن نقول: إن الآية الكريمة المذكورة سُبقت بآياتٍ أربع تُقرر عقيدة الإسلام منذ الأزل فهي دعوة الرسل كلهم جميعًا منذُ آدم ـ عليه السلام ـ إلى عيسى ـ عليه السلام ـ أن يكون مِن جوهر رسالتهم ودعواتهم إلى الله أنْ يُؤمنوا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الأنبياء ويَنصروه، وإنْ بُعث بعدهم مع ما آتاهم الله مِن علْم ونُبوة كريمة وحِكْمة.(1/239)
وقد أقرُّوا جميعًا ـ عليهم السلام ـ وشهِدوا وشهد الله معهم على هذا المِيثاق، وتوعَّد الله مَن يَنقُض هذا العهد بالعذاب ووَصَفه بالفُسوق والعصيان، ثم يُنكر الله ـ سبحانه ـ على مَن أراد دِينًا سوَى دين الله الإسلام القائم على التوحيد، الذي جاءت به الرسُل، ونزلت به الكتب، ثم أمرَ رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسلك نفسه في هذا العهد والميثاق مِن دعوة الرُّسُل لله المُسماة بالإسلام، لا يُفرق بين أحد مِنهم، ويُؤمن بهم جميعًا، كما آمنوا به في العهد والمِيثاق، الذي أُخِذَ عليهم، ويُعلن في صراحةٍ ووُضوح أن دِينَه وهو دين "الإسلام" ما هو إلا امتدادٌ وإكمالٌ لدعوةِ مَن سبَقه مِن الرُّسُل والأنبياء.
ثم تأتي بعد ذلك الآية المسئول عنها ليُقرِّر فيها الحقُّ ـ سبحانه ـ أن مَن سلَك طريقًا آخر غير الإسلام أيًّا كان هذا الطريق سواء كان دِينًا مُحَرَّفًا عن وَجْهه الصحيح، أو عقيدةً فاسدة قامت على اتباع الهوى وميْل النفس والشيطان، كل ذلك لن يُقبَل مِن صاحبه؛ لأنه مهما حلَّ مِن الفضائِلِ فهو بعيدٌ عن أمرين:
الأمر الأول: عقيدة التوحيد لله ـ سبحانه.
والأمر الثاني: الإيمان بالله والرسول الخاتَم سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبدون هذينِ الأمرينِ لا تُقبَل عقيدةٌ مهما كانت، أمَّا الآيات فهي قوله ـ سبحانه:
(وإذْ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِن كتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بهِ ولَتَنْصُرَنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُمْ علَى ذَلِكُمْ إصْرِي قالُوا أَقْرَرْنَا قالَ فَاشْهَدُوا وأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ).(1/240)
(أَفَغَيْرَ دِينَ اللهِ يَبْغُونَ. ولَهُ أَسْلَمَ مَن في السمواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًاوإليه يُرْجَعُونَ. قُلْ آمَنَّا باللهِ ومَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ومَا أُنْزِلَ على إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ وَيَعقوبَ والأسباطِ ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعِيسى والنَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بينَ أحَدٍ مِنْهُمْ ونحنُ لهُ مُسلمونَ).
ثم جاءت الآية الكريمة بعد ذلك قائلةً:
(ومَنْ يَبْتَغِ غيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقبَلَ مِنهُ وهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ).(1/241)
في قوله تعالى فمَن حَاجَّكَ فِيهِ:
(فمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بعدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ ونِساءَنَا ونِساءَكمْ وأنْفُسَنَا وأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ علَى الكَاذِبِينَ). (سورة آل عمران: آية: 61).
معنى الآية، كما وَرَد في كتاب الكشَّاف للزمخشري ورُوح المعاني للألوسي وتفسير الحافظ وابن كثير وغيرهم، فمَن حاجَّكَ: أي جادَلكَ وخاصَمكَ مِن النصارى في شأنٍ ليس مِن بعد ما جاءَك مِن البيِّنات المُوجِبة للعلْم فقل: "تَعَالَوْا" أيْ: هَلُمُّوا يَدْعُ كلٌّ مِنَّا ومِنكم أبناءه ونفسه إلى المُباهلة، ثم نتباهل بأن نقول: مَبْهَلَةَ الله، أي لعنة الله على الكاذب منَّا ومنكم، يقول الزمخشري: البَهلة بالفتح والضم لعْنة، وبهَلَه الله: لعَنه وأبعده مِن رحمته، مِن قولك أبْهله: إذا أهمله، وأصل الابتهال هذا، ثُم استُعمل في كل دعاء يُجتَهد فيه، وإنْ لم يكن الْتِعَانًا، يقول العلامة ابن كثير في تفسيره: وكان سبب نُزول هذه المُباهلة ومَا قبلها مِن أول السورة إلى هنا وَفْدُ نجران: إن النصارى لمَّا قدِموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلوا يُحاجُّون في عيسى، ويَزعُمونَ فيه ما يزعُمون مِن النبوة والإلهية فأنزل الله صدْر هذه السورة ردًّا عليهم، قال الإمام: محمد بن إسحق بن بصار في سيرته المشهورة وغيره: قدِم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفدُ نصارى نجران سِتُّونَ رَاكبًا، فيهم أربعةَ عشرَ رجلًا مِن أشرافهم يَؤولُ أمْرُهم إليهم، وهم: العاقِب واسمه عبد المسيح وهو الأيهم، وأبو حارثة ابن علقمة أخو بكر بن وائل، وأُويس بن الحارث، وزيْد وابناهُ وخُوَيْلد، وعمرو وخالد وعبد الله ومحسن، وأمْرُ هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم، وهم: العاقب وكان أمير القوم، وذا رأيهم وصاحب مَشورتهم الذي لا يَصدُرون إلا عن رأيه، والسيد كان(1/242)
عالِمهم وصاحب رَحْلهم ومُجتمعهم، وأبو حارثة بن علقمة، وكان أسقفهم وصاحب مَدارسهم، وكان رجلًا مِن رجال العرب مِن بني بكر بن وائل، ولكنه تنَصَّر، فعَظَّمتْه الروم ومُلوكها، وشرَّفوه، وبَنَوْا له الكنائس، وخدموه؛ لمَا يَعلمونه مِن صلابته في دِينهم، وكان يَعرف أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصِفَتَه وشأنه ممَّا علِمَه مِن الكتُب المتقدمة، ولكنه استمر في النصرانية لمَا يرى مِن تعظيمه فيها وَجَاهِه عند أهلها، قال ابن إسحاق: وحدَّثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: قدِموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المَدينة فدَخلوا عليه مَسجده حين صلَّى العصر، عليهم ثياب الحَبَرات جِيَبٌ وأرْدِيَةٌ، يقول مَن رآهم مِن أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم، وقد حانَتْ صلاتُهم، فقاموا في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "دَعُوهُمْ". فَصَلُّوا إلى المَشرق قال: فكلَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلاًّ من أبي حارثة بن علقة والعاقب عبد المسيح، والسيد الأيهم، وهم مِن النصرانية على دين المَلِك مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو الله، أي "عيسى"، ويقولون: هو وَلَدُ الله، ويقولون: هو ثلاثة، تعالَى الله عن قولهم عُلُوًّا كبيرًا، وفي كل ذلك مِن قولهم نزل القرآن.
فلمَّا كلَّمه حَبْرَانِ قال لهما ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أسْلِمَا"، قالا: قد أسلمنا قال: "إنَّكُمَا لم تُسلِمَا، فأَسْلِمَا. "قالا: بلَى قد أسلمنا قَبْلَكَ، قال: كَذَبْتُمَا، يَمْنَعُكمَا مِن الإسلام ادِّعاؤكما أن للهِ وَلَدًا، وعبادتُكما الصليب وأَكْلُكُمَا الخنزير.
قالا: فمَن أَبُوهُ يا محمد؟ فصمَت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يُجِبْهما، فأنزلَ الله في ذلك قولَهم وأمرهم في سورة آل عمران في بِضْعٍ وثمانين منها.(1/243)
وجاء في تفسير الآلوسي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمَّا تَلَا عليهم قوله ـ تعالى:
(إنَّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لهُ كُنْ فَيَكُونُ). قالوا: إن ما نَعرف ما تقول ونزل: (فمَن حاجَّك..) الآية.
فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله ـ تعالى ـ قد أمرني إنْ لم تَقبلوا هذا أنْ أُبَاهِلَكُمْ. "فقالوا يا أبا القاسِم، بل نرجع فنَنظر في أمرنا ثُم نأتِيك، وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن طَريف وعطاء والضحاك عن ابن عباس أن ثمانيةً مِن أساقفة أهل نجران قدِموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِنهم العاقب والسيد، فلمَّا نزَلت آية المُباهلة قالوا: أخِّرْنَا ثلاثةَ أيام فخَلا بعضُهم، وتصادَقوا فيما بينهم.
قال السيد للعاقب: قد ـ والله ـ علمتُم أن الرجل نبيٌّ مُرْسَلٌ، ولئِنْ لاعَنْتُمُوهُ إنه لَيَسْتَأْصِلكمْ ومَا لاعَنَ قومٌ نَبِيًّا قط، فبَقِيَ كبيرُهم، ولا نَبَتَ صغيرُهم، فإنْ أنتم لم تَتَبَصَّرُوه تَبْصِرَةً، وأبيْتُم إلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ، فَوَادِعُوهُ، وارجعوا إلى بلادكم.
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج ومعه عليٌّ والحسن والحسين وفاطمة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنْ أنَا دعوتُ فأَمِّنُوا أنتمْ". فأبَوْا أنْ يُلاعنوا، وصالَحوا على الجزْية.(1/244)
ورُوي أن أسقف نجران لمَّا رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُقبلًا ومعه عليٌّ وفاطمة والحسنانِ ـ رضى الله عنهم ـ قال: يا معشر النصارى، إنه رأى وُجُوهًا لو سألُوا الله ـ تعالى ـ أن يُزيلَ جبَلًا مِن مكانِهِ لأزاله، فلا تُباهلوا، فتُهْلَكُوا، ولا يَبقى على وجه الأرض نصرانيٌّ إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نُباهلك، وأن نُقِرَّكَ على دِينك، ونَثْبُتُ على دِيننَا، ونُصالِحكَ على أن لا تَغْزُونَا، ولا تُخِيفُنَا عن دِيننا على أن نُؤدي إليك كل عام ألْفَيْ حلَّة، ألْف في صفَر وألف في رجَب، وثلاثينَ دِرْعًا عاديةً مِن حديد، فصالحهم على ذلك وقال: والذي نفسي بيده إنَّ الهلاك قد تدلَّى على أهل نجرانَ، ولو لَاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وخَنازيرَ ولاضْطَرَمَ عليهمُ الوادي نَارًا ولاستأصلَ اللهُ نَجرانَ وأهْلَهُ حتى يَطير على رُءوس الشجر، ولمَّا حال الحَوْلُ على النصارى وَكَلَهُمْ حتى يَهْلِكُوا.
وبعدُ، فالسائل بعد هذا البيان قد عرَف الإجابة عن كل ما أورد مِن أسئلة. والله الموفق.(1/245)
في قوله تعالى خَيْرَ أُمَّةٍ:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤمِنونَ باللهِ ولوْ آمَنَ أهلُ الكتابِ لكانَ خَيْرًا لهمْ مِنْهُمُ المُؤمنونَ وأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقونَ). (سورة آل عمران: آية: 110).
بيَّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ السبب في خيرية الأمة الإسلامية، وذلك هو قِيامها فرْدًا فردًا بالأمر بالمعروف، والمعروف الذي تُقْدم الأمة الإسلامية على الأمر به هو الحق، وهو الخير، وهو الفضيلة، وهو العدْل، وهو الرحمة، وهو كل هذه الآداب السامية والشِّيَمُ الجميلة التي أتى بها الإسلام والتي يتضمَّنها الإيمان مُبتدِئةً بإماطة الأذى عن الطريق حتى تنتهي بشهادة: أن لا إله إلا الله.
والمُنكَر الذي تُحاربه الأمة الإسلامية، وتنتهي عنه إنما هو الرذيلة بجميع ضُروبها، وهو الظلْم على اختلاف ألوانه، وهو التعدِّي غَدْرًا وخِيانة، وهو كل ضرْبٍ مِن ضروب البطْش والجَبَرُوت. إن الأمة الإسلامية خير أمةٍ أُخرجت للناس لأمْرِها بالمعروف ونهْيِها عن المُنكَر، ثُم لإيمانها بالله الذي حدَّد الله في نِطاقه تحديدًا كامِلًا الخير والشرَّ.
ومبدأ الأمر بالمَعروف والنهي مِن المبادئ التي اهتمَّ الله ـ سبحانه ـ ورسوله بتوطيده توْطيدًا مُحكمًا، ولقد أمر الله به ورتَّب عليه الفلاح، فقال ـ سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنكمْ أُمَّةٌ).
وإذا كانت الأمة الإسلامية خير أمة أُخرجت للناس، لهذا فإنَّ اللهَ لعَن الذين كفَروا مِن بنى إسرائيل؛ لأنهم ما كانوا يقومون بهذا المبدأ، فقال ـ سبحانه: (لُعِنَ الذينَ كَفَرُوا مَن بَنِي إسرائيلَ..). الآية.(1/246)
ولقد بيَّن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاقبة اتباع مبدأَيِ: الأمر بالمعروف والنهْي عن المنكر، وهى النجاة، وعاقبة إهمالها وهى الغرَق، فقال في حديث رائع: "مَثَلُ القائِمِ على حُدودِ الله والواقِعِ فيها كمَثَلِ قومٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهمْ أعْلاها وبعضُهم أسْفَلَهَا، فكانَ الذينَ في أسفلها إذا اسْتَقَوْا مِن الماء مَرُّوا على مَن فَوْقَهم فقالوا: لو أنَّا خرَقنا في نَصِيبنا خرْقًا ولم نُؤذِ مَن فوقَنا، فإنْ يَتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإنْ أخَذوا على أيدِيهم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا".(1/247)
في قوله تعالى وما محمدٌ إلاَّ رَسولٌ:
(وما محمدٌ إلاَّ رَسولٌ قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكمْ ومَن يَنْقَلِبْ علَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيْئًا وسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (سورة آل عمران: آية: 144).
هذه الآية نزلت تَعقيبًا على ما حدَث في غزوة أُحُدٍ حينما أُشِيعَ بين الناس أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قُتِل، ورأى بعض الصحابة أن الحاجة إلى القِتال قد انتهت، وخارت عزائمهم، ولكن بعض الصحابة ثَبَتُوا في مَواقعهم وتمسَّكوا بالقِتال.. عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن عمَّه أنس بن النضير غابَ عن قتال بدْرٍ، فقال: غِبْتُ عن أوَّل قِتالٍ قاتَلَهُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمُشركين، لئِنْ أشهدني اللهُ قِتالًا للمُشركين لَيَرَيَنَّ ما أصنعُ. فلمَّا كان يوم أُحُد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أَعْتَذِر إليكَ عمَّا صنَع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبْرَأُ إليك ممَّا جاء به هؤلاء ـ يعني المُشركين ـ ثم تقدَّم فلَقِيَهُ سعد بن مُعاذ دون أُحُد، فقال سعد: فلم أستطعْ أصنع مَا صنَع. فوُجِد فيه بِضْعٌ وثمانون مِن بين ضربة بسيفٍ وطعْنة برُمح ورمْيةٍ بسَهْم، قال: فكُنَّا نقول: فيه وفي أصحابه نزلت: (فمِنْهُمْ مَن قَضَي نَحْبَهُ ومِنْهُْ مَن يَنْتَظِرُ).
ونزلت الآية الكريمة: (وما محمدٌ إلَّا رسولٌ قد خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أو قُتِلَ انْقَلَتْمْ على أعْقَابِكُمْ ومَن يَنْقَلِبْ علَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئًا وسيَجْزِي اللهُ الشاكرينَ).
وبيَّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذه الآية أن الدِّين والرسالة لا يَرتبطانِ بحياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدَّنْيَوِيَّة أو انتهاء هذه الحياة فالمُؤمنُ حقًّا يُدافع عن الدِّين.(1/248)
في تفسير قول الله تعالى الذينَ استَجابُوا للهِ والرسولِ:
(الذينَ استَجابُوا للهِ والرسولِ مِن بعدِ مَا أَصابَهمُ القَرْحُ للذينَ أَحْسَنُوا مِنهم واتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الذينَ قالَ لهمُ الناسُ إنَّ الناسَ قد جَمَعُوا لكمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ واللهُ ذُو فَضْلٍ عَظيمٍ). (سورة آل عمران: الآيات: 172 ـ 173 ـ 174).
يقول الله ـ تعالى ـ في سورة آل عمران:
(الذينَ استَجابُوا..... ذُو فَضْلٍ عَظيمٍ). الآيات
لقد نزلت هذه الآيات الكريمة في جُملةِ ما نزل مِن آياتٍ في غزوة أُحُد، ولقد كان في غزوة أُحُدٍ دروس وعِظات كثيرة، وكانت عاقبة هذه الغزوة خيرًا بالنسبة للمسلمين، فقد علَّمتهم أمورًا كثيرة، نذكر منها أمرًا واحدًا فقط هو:
أن يَلتزموا الْتزامًا تامًّا بأمْر القائدِ مهما كانت الظروف، ومهما صَوَّرَ لهم خيالُهم أنهم أصبحوا في حِلٍّ مِن مُخالفة الأمر. وذلك أنهم رأوا بأعينِهم بُغْيَةَ مُخالَفة الأمر، وهو ما بَدَا مِن مَظهر الهزيمة.
وما إن انتهت المعركة بهذا المظهر حتى ركب الأعداء راجعين إلى مكة، ولكن المسلمين ظنوا أن الأعداء ركبوا مُسرِعين مِن أجل الذهاب إلى المدينة، وكان هذا هو المنطق الطبيعي لغلَبتهم أن يذهبوا إلى المدينة ليَقضُوا على الإسلام نهائيًّا.
فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين للنهوض مِن كَبْوَتِهم والاستعداد لسبق العدو إلى المدينة إذا كان حقًّا ذاهبًا إليها. ولَمَّ المسلمون شعَثَهم، وضَمَّدُوا جراحَهم وحفَزهم الإيمان والثقة في الله على النشاط والعمل، واستجابوا بذلك لله ورسوله مِن بعد ما أصابهم القرْح: أي نالَهم الجِراح والطعنات والضُّرُّ على جميع ألوانه يوم أحد.(1/249)
فوَعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذين أحسنوا منهم واتقوا الأجر العظيم. وهل ذهب المشركون إلى مكة دون تردُّد أو تلاوُم؟
كَلَّا فإنهم حين سار بهم الطريق عادوا إلى أنفسهم، يتساءلون: أكانت المعركة فاصلةً؟ أأَحسنوا في العودة إلى مكة؟ وأخذوا يتردَّدون ويُجيلون الرأي فيما بينهم، ثم رأوا أن يَمكروا بالمسلمين ليَرَوا أثَر الهزيمة في نفوسهم فأَرسلوا إليهم يَذكرون فيها أنهم جمَعُوا لهم جُموعهم مِن جديد ليُستَأْصَلوا عن آخِرهم.
وحين بلغت هذه الرسالة التي حاول المشركون أن يُظهروها بمَظهر الرسالة العرضية، استعد المسلمون استعدادًا كاملًا للمعركة مِن جديد. وعبَّر القرآن عن ذلك في أسلوب جميل وفي روح قوية وفي معنى مِن الإيمان عميق، يقول الله ـ تعالى: (الذينَ قالَ لهمُ الناسُ إنَّ الناسَ قد جَمَعُوا لكمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ).
فلمَّا كان ذلك ردُّ الفعل في نفوسهم أثابَهم الله ـ تعالى ـ على ذلك بما عبَّر ـ سبحانه وتعالى ـ عنه بقوله:
(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِن اللهِ وفَضْلٍ لمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ واللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
في قوله ـ تعالى:
(يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لكمْ أنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ). (سورة النساء: آية: 19).
قال ابن عباس في هذه الآية. كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤُه أحقَّ بامرأته، إنْ شاء بعضهم تزوَّجها.. وإنْ شاءوا زوَّجوها، وإنْ شاءوا لم يُزوجوها، فهم أحقُّ بها مِن أهلها فنزلت هذه الآية. وفي بعض الروايات عنه: أن الرجل كان يرِث امرأةَ ذي قرابته، فيَعضلها حتى تموت أو تردَّ إليها صداقها، فأحكم الله ـ تعالى ـ عنه بذلك، أي نَهَى عن ذلك.(1/250)
وقيل: كان الرجل إذا مات وترَك زوجه ألقى عليها قَريبَهُ ثوبَه، فمَنَعَها مِن الناس، فإن كانت جميلةً تزوَّجها، وإنْ كانت دميمةً حبَسها حتى تموت فيَرثها، فنزلت الآية.
ولا يَخفى ما كان في ذلك كله مِن تصرُّفات الجاهلية ـ مِن إهدار لحرية المرأة وكرامتها واستهانةٍ بحَقها، فمَنَعه الله ـ تعالى ـ وترك لها حرية اختيار مَن تقبله مِن الأزواج بعد انقضاء عِدَّة الوفاة، وارتفع بها عن أن تكون مادةً مِن المواد المَوروثة عند الزوج.
فإذا ما انقضت العدَّة تقدَّم للزواج بالمرأة مَن شاء مِن الرجال مِن أقارب الزوج أو مِن غيرهم، فمَن قبِلتْ الارتباطَ به حلَّ له زواجها.
ويستوي على ذلك أيُّ قريب للزوج، فيَجوز تزوُّجها مِن شقيقه ومِن ابن عمِّه وابن خاله.
نَعَمْ لا يجوز لها الزواج مِن أبيه؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل من المحرماتِ حلائلَ الأبناء، أي زوجاتهم.
ولا يجوز لها الزواج مِن ابنه؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال:
(ولا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِن النِّسَاءِ).
وما عدا ذلك مِن الأقارب يحلُّ له الزواج منها، ويحل لها الزواج منه، بعد العدَّة وبعد استيفاء شروط النِّكاح.(1/251)
في تفسير قوله تعالى الرِّجالُ قوَّامُونَ على النِّساءِ:
(الرِّجالُ قوَّامُونَ على النِّساءِ بمَا فضَّلَ اللهُ بعضَهمْ علَى بعضٍ وبِمَا أَنْفَقُوا مِن أَمْوالِهِمْ فالصالحاتُ قَانِتاتٌ حَافِظاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ واللاَّتِي تَخافونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُروهُنَّ فِي المَضاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا). (سورة النساء: 43).
هذه الآية تُعالج أمورًا خطيرة مِن أمور الأسرة بصِفَتِهَا مُجتمعًا صغيرًا يحتاج ـ ككل مجتمع مِن المجتمعات ـ إلى قائدٍ يقوم على أمره ويَسُوس شئونه، ويرجع إليه الأمر في إدارة السفينة، فتُقرِّر الآية الكريمة الشأن في القيام على النساء ورِعايتهنَّ وتَوْجيههنَّ، كما يُوجِّه الراعي رعيَّته بالأمر والنهى ونحو ذلك هو للرجال.
يقول الإمام الآلوسي في تفسيره: "روح المعاني": "واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة (الرجالُ قوَّامُونَ على النِّساء) للإيذان بعَراقة الرجال ورُسُوخِهم في الاتصاف بما أُسند إليهم وعلَّل ـ سبحانه وتعالى ـ: هذا الحُكم بأمرينِ:
أحدهما: فِطْريٌّ خلُقِيٌّ (بمَا فَضَّلَ اللهُ بعضَهمْ على بَعْضٍ). والآخر: في الأصل التكويني والخِلْقَة، فالشأن أن الرجال مهما قاموا بفِطرتهم وتكوينهم للقيام بهذه المهمة، فهم قوَّامون على النساء بسبب تفضيل الله ـ تعالى ـ لهم عليهن، ولذلك خُصُّوا بالرسالة والإمامة الكُبرى، فلا تكون المرأة خليفةً للمسلمين، والإمامة الصغرى فلا تُصلِّي إمامًا للرجال. كما خُصوا كذلك بإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخُطبة والجمعة والشهادة في أُمَّهاتِ القضايا، وجُعلت شهادة المرأة نِصْفَ شهادة الرجل في قضايا المُعاملات.(1/252)
قال ـ تعالى: (واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ فإِنْ لمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتانِ ممَّنْ تَرْضَوْنَ مِن الشهداءِ أنْ تَضِلَّ إحْداهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْداهمَا الأُخْرَى).
الأمر الثاني: في التعليل لهذا الحُكم أمرٌ كسْبي، وليس فِطْرِيًّا والشأن أن يقوم به الرجال، وهو قوله ـ تعالى: (وبمَا أنْفَقُوا مِن أمْوَالِهِمْ). قال مجاهد: إنه المهر، ويجوز أن يُراد به ما يعمُّ المهر والإنفاق عليهن، فالرجال هم الذين يدفعون المُهور للنساء، وهم الذين يجب عليهم الإنفاق عليهن حتى ولو كُنَّ غنيَّاتٍ بمَالهنَّ الخاصِّ بهنَّ.
ثم بيَّنت الآية بعد ذلك المنهج الذي يَسلُكه الرجالُ إذا نشزَتِ المرأة، وخرجت على طاعته مِن وَعْظٍ وهجْرٍ في المَضاجع وضرْبٍ غير مُبْرِحٍ، فإذا أطاعت واستقامَ أمرها فلا سبيلَ لبَغْيِ الرجل عليها أو طلاقه لها، (واللاتِي تَخافونَ نُشوزَهُنَّ فعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي المَضاجِعِ واضْرَبُوهُنَّ فإِنْ أَطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا).
ولعلَّه مِن المُفيد أن نُبيِّن سبب نزول هذه الآية ليتبيَّن للناس مدَى عناية شرْع الله ـ تعالى ـ بأمور الأسرة وما يُصلح شأنها، يقول الآلوسي: الآية كما رُوي عن مُقاتل: نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو، وكان من النُّقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن زهير؛ وذلك أنها نشزت عليه فلَطَمَها.
فانطلق أبوها معها إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أَفْرَشْتُهُ كريمتي فلَطَمَها. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِتَقْتَصَّ مِن زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتصَّ منه، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ارجعوا، هذا جبريلُ ـ عليه السلام: "أتاني" وأنزل الله هذه الآية: (الرجال قوَّامونَ على النِّساء..) الخ.(1/253)
فتَلاها ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: أرَدْنَا أمْرًا وأراد الله ـ تعالى ـ أمْرًا، والذي أراده ـ تعالى ـ خيرٌ.. وقال الكلْبيُّ: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خوْلة بنت محمد بن سلَمة، وذَكَر القصة، وقد استدلَّ بالآية على أن للزوج تأديب زوجته، وأن عليها طاعتَه لا في مَعصية الله ـ تعالى ـ وأن أفضلية الرجل على المرأة إنما بالفِطْرة والتكوين والخلْق، حتى إنْ كان فقيرًا ففَقْر الرجل لا يجعل المرأة أفضل منه.(1/254)
في تفسير قول الله تعالى حُرِّمَتْ عليكمُ المَيْتَةُ:
(حُرِّمَتْ عليكمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ ومَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِيَةُ والنَّطِيحَةُ ومَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ومَا ذُبِحَ علَى النُّصُبِ). (سورة المائدة: آية: 3).
"ألْ" في الآية الكريمة للجِنْس الشامِل للبَرِّيِّ المُتوَحِّش والمُستأنَس الذي يُرَبَّى في البيوت، ويُألَف؛ لأنه لم يَرِدْ مِن السُّنة تخصيص لبعض أنواعه دون البعض.
ونَفْهَمُ مِن نصِّ الآية الكريمة: أن آكل لحْم الخنزير بصفةٍ عامَّة حرام يجب البُعد والكَفُّ عن تناوُله، والاجْتناب الكُلِّيِّ عنه امْتثالًا لأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ واتِّباعًا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه الإمام والقدوة الحسنة الذي تجب مُتابعته دون مُتابعة الذين يَتناولونه مِن غير المسلمين.
وما أظنُّ الذين يَحرصون على تناوُل لحم الخنزير البرِّيِّ مُفرِّقينَ بينه وبين الخنزير الذي يُرَبَّى في البيوت، إلا تابعينَ لغير المسلمين تَحقيقًا لمُعْجزة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الذين يُخالفون عن أمْر الله وعن أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول: "لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِراعًا بِذِراعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ". إذن فإنَّ لحم الخنزيرِ سواء كان بَرِّيًّا أو مُرَبًّى في البيوت ـ لا يَصِحُّ لمسلم أكْله ولا يجوز مُطلقًا تناوله.(1/255)
في تفسير قول الله تعالى اليومَ أُحِلَّ لكمُ الطيباتُ:
(اليومَ أُحِلَّ لكمُ الطيباتُ وطَعامُ الذينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لكمْ وطَعامُكمْ حِلٌّ لهمْ والمُحْصناتُ مِن المُؤمناتِ والمُحصَناتُ مِنَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ مِن قَبْلِكمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ولا مُتَّخِذِي أَخْدَانَ ومَن يَكْفُرْ بالإيمَانِ فقد حَبِطَ عمَلُهُ وهوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ). (سورة المائدة: آية: 5).
والمُحصَنات: هُنَّ العَفيفات العاقلات المُمتنعات عن الزنَى والفساد.
والآية دالَّة على جواز نِكاحهِنَّ دون غيرهنَّ من أهل الشرك مِن المَجوس ومُنكري الدين جُملةً.
فيجوز على هذه الآية نِكاح المسلم الكتابية يهوديةً أو نصرانيةً بدليل هذه الآية.
ويرى ابن عمر أن اليَهودية والنصرانية مِن أهل الشرْك؛ لأنهم بدَّلوا الدين، وقالوا في الله ـ تعالى ـ ما لا يَليق به.
والجمهور على خلاف ذلك:
نعم يجوز للحاكم لمَصلحة خاصة أن يمنع مثل هذا النِّكاح؛ إذ رأى فيه ما قد يضر بالدولة أو يُسيء إلى النظام العام.
مِن ذلك ما فعله عمر مع بعض الصحابة ممَّن تزوَّج بغير مُسلمة.(1/256)
في تفسير قوله تعالى إنما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ:
(إنما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والذينَ آمَنُوا الذينَ يُقيمونَ الصلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكاةَ وهمْ رَاكِعُونَ). (سورة المائدة: آية: 55).
(يا أيها الذينَ آمنُوا لا تتَّخذُوا الكافِرِينَ أولياءَ من دونِ المؤمنينَ).
وفي سورة المائدة، يقول الله ـ تعالى: (يا أيها الذينَ آمنوا لا تتَّخذُوا اليهودَ والنصارى أولياءَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ ومَن يَتَوَلَّهمْ منكمْ فإنه منهم إنَّ اللهَ لا يهدي القومَ الظالمينَ).
وهذه الآيات كلها وغيرها كثيرٌ صريحةٌ في أنه لا يصحُّ أن يكون الأبُ المسيحيُّ وليًّا لابنته المسلمة في عقد زواجها.
وقد يسأل إنسانٌ: ومَن يكون الوالي إذًا؟
إنَّ الوالي الذي يتولَّى عقْد الزواج في مثل هذا هو الحاكم المسلم أو من يقوم مقامه من المسلمين أو من تُوكِّله هي أن يتولَّى عقدَ زواجها.
أمَّا إذا رفض الأبُ المسيحيُّ زواج ابنته التي أسلمت من شخصٍ صمَّمت هي أنْ تتزوج منه بعد أن أسلمت، فليس لرفْض الأب قيمةٌ.
وإذا عُقد العقد عند مأذونٍ شرعيٍّ واستوفى شروطه من وجود الوكيل الذي توكله الزوجة، ومن وجود الشهود، فعقد الزواج صحيح، ولا يؤثر رفض الأب المسيحيّ في صحَّته.(1/257)
في معنى قوله تعالى إنما الخمْرُ والميْسرُ والأنصابُ:
(يا أيها الذينَ آمنوا إنما الخمْرُ والميْسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عمَلِ الشيطانِ فاجْتَنِبُوهُ لعلكم تُفلِحونَ. إنما يُريد الشيطانُ أن يُوقِعَ بينكمُ العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ ويصدَّكمْ عن ذِكْرِ اللهِ وعنِ الصلاةِ فهل أنتم منتهونَ). (سورة المائدة: آيتا: 90 ـ 91).
وبهذا قطَع الله ـ سبحانه وتعالى ـ الطريقَ على كل مُتعلِّلٍ لشُرْبها، وأبَى قَبُول أيِّ عُذْرٍ ممَّن يتناولها، والصلاة عماد الدين وبيْن الرجل وبين الكافر ترْك الصلاة، وقد حدَّد الله ـ تعالى ـ لها مواقيتها، وأمر بمُراعاة هذه الأوقات. قال ـ تعالى:
(إنَّ الصلاةَ كانتْ علَى المُؤمنينَ كِتابًا مَوْقُوتًا).
ونزَل جبريلُ، فصلى بالنبي صلاة، وبيَّن مِنَ الصلوات في يومينِ مُتتابعينِ، وفي اليوم الأول كانت صلاتُه في أول الوقت، وفي اليوم التالي كانت صلاته في آخر الوقت، وبيَّن بعد ذلك أن ما بين صلاته مِن وقت هو وقت الصلاة المَطلوب أداؤها فيه.
ولا يجوز تقديم الصلاة على وقتها إلا لعُذْر ضروريٍّ مِن سفر أو مطر يتعذَّر معه أداء الصلاة في وقتها أو الاجتماع لها في المسجد في هذا الوقت.
كما لا يجوز تأخيرها عن وَقْتها المُحدد إلا لعُذر قهريٍّ مِن الأعذار، التي حدَّدها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: "رُفِعَ القلمُ عن ثلاثة: عن المَجنون المغلوب على عقْله حتى يَبْرَأَ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتى يَحتلم". وفي رواية: "وعن المُبتلَى حتى يبرأ".
وكلها موانعُ طبيعية لا يَدَ للإنسان في أَحْداثها ولا قُدْرةَ له على مَنْعِها: أما شُرْبِ الخمر، فإنه كبيرٌ وجُرْمٌ شَنيع، وصاحبه مسئول عمَّا يرتكبه في حال سُكْره، مُحاسَب عليه في الدنيا أمامَ قانون الشرع، وفي الآخرة أمام الله.(1/258)
وقد جعل الله الصلاة ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، فكيف يجوز التلاعُب بها تقديمًا أو تأخيرًا للتمكُّن مِن فِعْل المُنكَر وهو شرب الخمر.
وبعدُ.. فلا يجوز لمسلمٍ أن يسكر، ولا يصحُّ له تقديم الصلاة على وقتها لأجل هذا السكر أو الخوف مِن حُدوثه، ولْيَتَّقِ اللهَ ربَّهُ لِيُحْسِنَ حِسابَهُ، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُونَ إلاَّ مَن أتَى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.(1/259)
في تفسير قول الله سبحانه عليكمْ أنْفُسَكُمْ:
(يا أيُّها الذينَ آمَنُوا عليكمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ). ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "مَن رأَى منكم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ.. الخ" فهل هناك تعارُض بين الآية والحديث؟
للإجابة على هذا السؤال: نذكر حديثينِ يتصلانِ بالموضوع أوْثَقَ اتصال: رَوى الإمام أحمد وأصحاب السُّنن عن قيس قال: قام أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فحمد الله وأثنَى عليه، ثم قال: أيها الناس إنَّكمْ تقرأون هذه الآية (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا عليكمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إذَا اهتدَيتُمْ ) وأنَّكم تضعونها على غير موضعها.
وإني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إنَّ الناسَ إذا رأوا المنكر ولا يُغيروه يُوشك الله ـ عز وجل ـ أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابِهِ".
وروي الترمذي بسنده عن أبي أمية الشيباني قال: أتيتُ أبا ثَعلبة الخشنيَّ فقلت له: كيف تَصنع في هذه الآية؟ قال أيَّةُ آيةٍ؟
قلت: قول الله ـ عز وجل ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا عليكمْ أنفسَكمْ لا يَضُرُّكمْ مَن ضَلَّ إذَا اهتديتُمْ)..
قال: أما والله لقد سألت عنها خيرًا، سألتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "بل ائْتَمِرُوا بالمَعروف وتَناهَوْا عن المُنكَر حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا وهوًى مُتَّبعًا ودُنيا مُؤثَرة، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيِه، فعليك بخاصَّةِ نفسكَ، ودَعِ العَوَامَّ، فإن مِن ورائكمْ أيَّامًا الصابرُ فيهنَّ مثلُ القابضِ على الجمْر، للعاملِ فيهنَّ أجرُ خمسينَ رجلًا يعملونَ كعملِكمْ".(1/260)
ومعني الآية إذنْ: إن على المسلم أن يأمر وينهى، ولا عليه بعد ذلك أثْمَرَ سعْيُه أمْ لمْ يُثمر.. فيكون المقصود لا يَضرُّكم مَن ضلَّ إذا اهتديتم بالتمسُّك بالحق والدعوة إليه، ونبْذ الباطل والنهْي عنه، وهو ما يُوافق حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وهذا التفسير هو ما نُرجحه. وعلى ذلك فلا تعارُض بين هذه الآية وبين حديث. مَن رأى منكم مُنكَرًا فلْيُغيِّرْهُ بيده، فإنْ لم يستطع فبلِسانه، فإن لم يستطع فبقلْبه، وذلك أضعف الإيمان؛ لأن الآية تُطمئن المسلم إلى أنه لا وِزْرَ عليه إذا أدَّى واجبه وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/261)
في الأعْرافِ:
الأعراف: هي الأشياء المُشرِفة، والمُراد بها هنا المكان المُشرف الذي بين الجنة والنار، أما أصحاب الأعراف فهم قوْم استوت حسناتُهم وسيئاتُهم، فقصرت بهم سيئاتهم، عن الجنة وخلَّفتْهم حسناتُهم عن النار، فجُعلوا على الأعراف؛ لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار، فهم ليسوا في أهل الجنة ولا مِن أهل النار، ولكن الله ـ تعالى ـ سيُدخلهم الجنة بفَضله ورحمته، فلأنه ليس في الآخرة من دار سوى الجنة والنار، فهم ـ بعدْل الله ـ في مكانٍ بين الجنة والنار، وهم ـ بفَضْله يكون مآلُهم الجنَّةُ.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: يُحاسَب الناسُ يومَ القيامة، فمَن كانت حسناته أكثرَ بوَاحدةٍ دخَل الجنة، ومَن كانت سيئاتهم أكثر بواحدةٍ، دخل النار وإن الميزان يَخِفُّ ويَثقُل بمِثقال حبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمان، ومَنِ استوتْ حسناته وسيئاته، كان مِن أصحاب الأعراف، فوَقفوا على الأعراف فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادَوْهم، سلامٌ عليكم، وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا: ربَّنا لا تَجعلنا مع القومِ الظالمينَ".(1/262)
في قول الله تعالى وإذا قُرِئَ القُرآنُ فَاسْتَمِعُوا لهُ:
(وإذا قُرِئَ القُرآنُ فَاسْتَمِعُوا لهُ وأنْصِتُوا لعلَّكمْ تُرْحَمُونَ). (سورة الأعراف: آية: 204).
ويقول الله ـ سبحانه ـ في تعريف المُؤمنين:
(إنَّمَا المُؤمنونَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهمْ وإذَا تُلِيَتْ علَيهمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وعلَى رَبِّهمْ يَتَوَكَّلُونَ).
والأمر بالاستماع، والإنْصات، اللذينِ تَفيض بسببهما رحمةُ الله على السامع المُنصت، إنما كان من أجل التدبُّر للمعاني الكريمة التي انْطوتْ عليها الآيات القرآنية ومِن أجل الاتِّعاظ بها، والْتزام الحُدود التي سَنَّتْها، والقواعد التي أتتْ بها، وهي لكلِّ ذلكَ إذا تُلِيَت على المؤمنين زادتهمْ إيمانًا.
وكلام الله ـ سبحانه وتعالى ـ له أثَرُه الطيِّب في إثارة خشْية الله عند المؤمنين الصادقين يقول الله ـ سبحانه ـ: (اللهُ نزَّلَ أحسنَ الحديثِ كِتابًا مُتشابهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلودُ الذينَ يَخْشونَ ربَّهمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلودُهمْ وقُلوبُهمْ إلى ذِكْرِ اللهِ ذلكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ).
والله ـ سبحانه وتعالى ـ يُبَيِّن أن الخشية تتحقَّق عند المؤمنين الصادقين؛ نتيجةً لتلاوة القرآن أو سماعه، حتى إنه نزل القرآن على جبلٍ لتمثَّل فيه الخشوع، بل يصل الخشوع به إلى درجة التصدُّع يقول ـ سبحانه ـ: (لوْ أنْزَلْنَا هذَا القُرآنَ علَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشْيَةِ اللهِ وتِلْكَ الأمثالُ نَضْرِبُهَا للناسِ لعلَّهمْ يَتَفَكَّرُونَ).
فالواجب إذنْ التزامُ الهدوء والصمت مع التدبير والتأمُّل.(1/263)
وممَّا لا شكَّ فيه أن الله ـ سبحانه ـ أعظم مِن كلِّ ما سواه، وأننا في جو القرآن إنما نكون في جوٍّ إلْهي، أيْ أننا ـ قارئين أو مُستمعين ـ إنما نُناجي الله ـ سبحانه ـ أو نُنصت إليه، فالواجب ألا يَكونَ تأثُّرُنا بغيره، وألا يكون انتباهنا إلى ما سواه، ولا بأس مِن أن ينطق الإنسان مُختارًا أو مُضطرًّا عندما يمتلئ قلبه بمعنى من المعاني في سُموه وجلاله، أو بكيفية الأداء التي تُناسب المعنى، لا بأس بأن ينطق مُتفاعلًا مع الجو القرآني بسبحان الله، أو جلَّ جلال الله، أو سبحان مَن هذا كلامُه، أو أستغفر الله، أو تُبْتُ إلى الله، أو اللهم قِنِي عذابَك، أو اللهم أفِضْ عليَّ مِن رحمتك.
وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك.
ذلك هو موقف المؤمنين عند تلاوة القرآن أو عند سماعه.(1/264)
في سورة براءة والبسملة:
تُسمَّى هذه السورة الكريمة سورة العذاب؛ لأن العذاب ـ عِقابًا للمنافقين والمشركين ـ قد ذُكر فيها كثيرًا، وتُسمَّى المُبعثِرة؛ لأنها بَعثرتْ، أيْ أظهرت وكشفت أسرار المنافقين وعوْراتهم، وتُسمَّى المُدمدمة، أي المهلكة للمنافقين ومَن لفَّ لفَّهم، وفي القرآن يقول الله ـ تعالى ـ عن الجاحدين المُنكرين من ثمود حينما كذَّبوا صالحًا وكفروا برسالته:
(فدَمْدَمَ عليهمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ). أيْ: أهلكهم بسبب ذُنوبهم، وتُسمَّى أيضًا المُخْزية؛ لأنها بكشف أسرار المنافقين قد أخْزتْهم، ولها أسماء أُخرى تنحو هذا النحو من بيان أمر المنافقين حتى لقد فضَحهم في سُفورٍ لا لبْسَ فيه.
وموضوعها ـ إذنْ ـ لا يتناسب هو والرحمة أو الرأْفة، ومِن أجل ذلك لم يبدأها الله ـ سبحانه ـ: ببِسم اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ..
وهل يرى المُفسِّرون وهذا التعلِيق؟
لقد عبَّر عن ذلك أسلافُنا ـ رضوان الله عليهم ـ خير تعبير.
يَروي صاحب مَحاسن التأويل، ورَوى الحاكم في المُستدرك عن ابن عباس، قال: سألت عليَّ بن أبي طالب: لِمَ لَمْ تُكتب في براءة البسملة؟
قال: لأنها أمانٌ وبراءةٌ نزلتْ بالسيف، أيْ فنُزولها لرفْع الأمان الذي يأبَى مقامه التصدير بما يُشعر ببَقائه مِن ذِكْر اسمه ـ تعالى ـ مَشفوعًا بوَصف الرحمة. ولذا قال ابن عُيينة:
اسم الله سلامٌ وأمانٌ، فلا يُكتَب في النبْذ والمُحارَبة، قال الله ـ تعالى ـ: (ولا تَقُولوا لمَن ألْقَي إليكمُ السلامَ لستَ مُؤْمِنًا). قيل له: فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قد كتَب إلى أهل الحرْب البسملة.
قال: إنما ذلك ابتداءً منه يَدْعُوهم ولم يَنْبِذُ إليهمْ، أَلَا تراه يقول: "سلامٌ علَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى فمَن دَعَا إلى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ودُعِيَ إلى الجزية فأجاب فقد اتَّبع الهُدى فظهر الفرْق.(1/265)
وكذا قال اليهود: إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وَعِيدٌ ونَقْضُ عُهود فلذلك لم تُفتح بالتسمية.(1/266)
في تفسير أول سورة التوبة:
إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَأمر بكتابة البسملة في أول سورة التوبة؛ لأنه لم يَنزل عليه وَحْيٌ بذلك.
والحكمة في أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يُنزل الوحي بكتابة البسملة هي كما رواه الحاكم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أن البسملة أمانٌ، وسورة التوبة نزلت لرفْع الأمان، وقد نَزلت سورة التوْبة، لنَقْض عهد الكفار، وفضيحة المُنافقين الذين هم أخطر على الإسلام مِن الكفَّار الظاهر كُفرهم، فهي سورة عذاب، والبسملة رحمة، ولا تجتمع رحمةٌ مع عذاب، وسورة التوبة تُسمَّى: السورة الفاضحة لفضيحة المُنافقين بها. وسورة العذاب، وكل ذلك يَتنافَى مع ما تُشعره البسملة مِن الرحمة، ولذلك لم تُكتَب في أولها.(1/267)
في حُكم التَّشاؤُم:
نهي القرآن الكريم عن التشاؤم، وبيَّن أن الشؤْم مِن التشاؤُم، حيث حُكِيَ عن رسُل المسيح ـ عليه السلام ـ في سورة "يس" ردًّا على المتشائمين: (قالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، ولا هامَّةَ، ولا صَفَرَ.
فقد كان الناس يَتطيَّرون ويَتشاءمُون؛ إذْ كانوا يُخرجون الطير فإن طار إلى الشمال تشاءموا، وإنْ طار إلى اليمينِ تَيامنوا وكانوا يَتشاءمون مِن شهر صفَر، فعَقْد القِران في أيِّ شهر وفي أيِّ يومٍ جائزٌ لا كراهةَ فيه ولا حُرمة، فهذا الاعتقاد لا أصل له في الدين، بل هو من قَبيل الخُرافات التي يجب أن تُحارَب.
لأن مَن حرَّم ما أحلَّ اللهُ، أو أحلَّ ما حرَّم الله، خرَج عن الدين؛ لأن التحريم والتحليل المَرجع فيه إلى الكتاب والسُّنَّة، وعلى الأئمة العلماء البيان فقط.
ولقد ضرَب الله مثَلًا لنا في ذلك عن أعمال الكفَّار حيث كانوا يُحلُّون ويُحرِّمُون بعض الشهور حيث قال الله ـ تعالى ـ يُحذرنا مِن الوقوع فيما وقعوا فيه:
(إنَّما النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الذينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عامًا ويُحِرِّمُونَهُ عامًا لِيُواطِئُوا عِدَّةَ مَا حرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لهمْ سُوءُ أعمالِهِمْ واللهُ لاَ يَهدِي القومَ الكَافِرِينَ). (سورة التوبة: آية: 37).(1/268)
في تفسير قول الله تعالى وعلَى الثلاثةِ الذينَ خُلِّفُوا:
(وعلَى الثلاثةِ الذينَ خُلِّفُوا حتَّى إذَا ضَاقَتْ عليهمُ الأرضُ بِمَا رَحُبَتْ وضَاقَتْ عليهمْ أنْفُسُهُمْ وظَنُّوا أَلَّا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلَّا إليهِ ثُمَّ تَابَ عليهمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللهَ هُوَ التوَّابُ الرَّحِيمُ). (سورة التوبة: الآية: 118).
نزلت هذه الآية في المُتخلفينَ عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة "تَبُوكٍ"، وهي غزوةٌ ندَب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليها كل قادر، وبذَل فيها الصادقون ما يَستطيعون، ولم يتخلَّف منها أحدٌ ممَّن يستطيع الجهاد إلا قليلونَ.
قال ابن كثير (ج:4، ص: 5) كان المُتخلِّفون مِن غزوة تبوك أربعة أقسام:
مَأْمُورون مَأُجورونَ: كعليِّ بن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة، وابن أم كُلثوم.
ومُعَذَّرُونَ: وهم الضعفاء المرْضى، والمُقِلُّون الذين لم يجد الرسول ما يَحمِلُهم عليه فرجَعوا باكينَ لعدَم الخروج.
وعُصاة مُذنبون: وهم الثلاثة: أي كعْب بن مالك وصاحِبَيْه، وأبو لُبابة وأصحابه وكانوا عشرة.(1/269)
وهذه الآية نزلت في أبي لُبابة وأصحابه فيما قالَه المُفسرون وما وراه أصحابُ السِّيَرِ، لقد ربطوا أنفسهم بسوارى "أعمدة" المسجد وقالوا: لن نَترك مكاننا حتى يُطلقنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلمَّا علِم الرسول بذلك قال: وأنا والله لا أُطلِقهم ولا أعْذُرُهم حتى يكون الله ـ عز وجل ـ هو الذي يُطلقهم، رَغِبُوا عنِّي وتَخلَّفُوا عن المسلمين، فأنزل الله ـ تعالى ـ: (وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أنْ يَتُوبَ عليهمْ). وعسى مِن الله لتحقُّق الوقوع، فأطلق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَراحَهم وعذَرهم فجاءوا بأموالهم فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدَّق بها عنَّا، واستغفرْ لنا فقال: ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ أموالَكم، فأنزل الله ـ تعالى ـ: (خُذْ مِن أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا..). إلخ. فقبِل منهم بعضَ أموالهم، ومِن المَعلوم أن العِبْرَةَ بعُموم اللفظ لا بِخُصوص السبب، فالتصدُّق ـ عند التوبة مِن الذنْب لقَبُول التوْبة ـ وسيلة للتطهير من الآثام والذنوب..(1/270)
في تفسير الآية لقد جاءكمْ رَسولٌ مِن أنفسكم:
(لقد جاءكمْ رَسولٌ مِن أنفسكم عزيزٌ عليهِ ما عنتُّم حريص عليكم بالمؤمنينَ رءوفٌ رحيمٌ). (سورة التوبة: آية: 128).
الخطاب في الآية للعالَم كله ـ فيكون المراد بقوله ـ تعالى ـ: (مِن أنفُسِكم). أيْ: مِن جنْسكم وأصلِكمْ بَشَرًا مِثْلَكم تَفهمونَ عنه مَا يَتناسَب وعُموم الدِّين وشُمول الرسالة.
ويتضح هذا الرأي في قراءة عبد الله بن قسَبْط المكي، (مِنْ أنْفَسِكُمْ) أيْ: من أشرفكم نسَبًا وأكرمكم حسَبًا، وهو ما قامت عليه الأدلة وشهدت به الوقائع.
والآية مدَنِية بلا خلاف وهي مِن أواخر آيات القرآن نُزولًا، وتفسير الآية على العموم: هو أن الله مَنَّ على العالَم عامَّةً وعلى العرَب خاصة ـ بإرساله إليهم رسولًا منهم يَعرفونه، ويَرون من ملامح حياته الخاصة والعامة ما يَقطع بصِدْقة، ومِن أهم صفاته وأظهر خَصائصه رغبته الشديدة في تخليص العالَم من المشقة والعنَت والهلاك بإخراجهم مِن ظلمات الكفر وشروره إلى صفاء الإسلام ونُوره، وحِرْصه الحريص على الوصول بالبشرية إلى بَرِّ الأمان في رضَا الله وطاعته وعبادته حق عبادةٍ.
وهذا الحرص على إسعاد الآخرين، والأسَى الشديد عليهم إذا لم يَخْرُجوا عن غيْبهم وما هم عليه مِن ضلالٍ فإنما يدلُّ على رحمة شاملة ورأْفة مُتأصِّلة تزداد عُمقًا وتَقْوى وأصالة بالنسبة للمؤمنين حيث يُعذبها الحب ويَغْمُرها الإخاء.
وفي الآية تَشريف للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتكريم للمُؤمنين، وتبكيت للكافرين.
ولقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريصًا على هداية الإنسانية، حزينًا لمَا سيُصيب الكافرينَ نتيجةَ البغْي والعناد، ويُمثل لنا قوله ـ تعالى ـ: (فلعلَّكَ باخعٌ نفسَكَ ألاَّ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ) فَلَعَلَّكَ باخعٌ نَفْسَكَ علَى آثَارِهِمْ إنْ لمْ يُؤْمِنُوا بهِذَا الحَدِيثِ أَسَفًا).(1/271)
(إنْ عليكَ إلاَّ البَلاغُ). (أفَأَنْتَ تُكْرِهُ الناسَ حتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).(1/272)
في تفسير قول الله تعالى ومَا مِن دَابَّةٍ في الأرضِ إلاَّ علَى اللهِ رِزْقُهَا:
(ومَا مِن دَابَّةٍ في الأرضِ إلاَّ علَى اللهِ رِزْقُهَا ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا كلٌّ فِي كتابٍ مُبِينٍ). (سورة هود: آية: 6).
يقول الله ـ تعالى ـ: (ومَا مِن دَابَّةٍ في الأرضِ إلاَّ علَى اللهِ رِزْقُهَا). ويقول ـ سبحانه: (وفِي السماءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ)، ويُقْسِمُ ـ سبحانه ـ على ذلك نظَرًا لضعف الإنسان وقلَقه فيما يتعلَّق بالرِّزْق فيقول ـ تعالى ـ: (فَوَرَبِّ السماءِ والأرضِ إنَّهُ لحَقٌّ مِثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).
هذا، ومن المبادئ الدينية المُقرَّرة أنه لا طاعةَ لمَخلوق في معصية الخالق من كل ذلك نتبيَّن الإجابة على هذا السؤال فيما يتعلق بالأجير وفيما يتعلق بالكتاب وهو: وُجوب أداء الصلاة برغم كل الظروف في أول الوقت أو في مُنتصفه أو قُرب نهايته إذا لم يكن بُدٌّ من هذا، ولتكنِ النتيجة ما تكون، ومَن اتَّجه إلى الله لا يُضيِّعه.
أما السيدة التي عليها أيام مِن رمضان فإنها أدرى بحالتها الصحية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الفيصل بينها وبين زوجها إنما هو رأي الطيب: وليس لزوجها أن يمنعها فإذا تأكَّدت من نفسها أو مِن رأي الطيب تأكُّدًا تامًّا أن حالتها تسمح، فعليها القضاء، ودِينُ الله أسمَى من أن يخضع لنزوات زوجٍ وأعلَى مِن أن ينحرف مع انحراف الطبائع.(1/273)
في قوله تعالى وأمَّا الذينَ سُعِدُوا:
(وأمَّا الذينَ سُعِدُوا ففِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا ما دامتِ السمواتُ والأرضُ إلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غيْرَ مَجْذُوذٍ). (سورة هود: آية: 108).
هذه الآية واردة في مُقابلة الآية التي وردت في عذاب مَن كفروا بالله ـ تعالى ـ وكذَّبوا رُسله وهي قوله ـ تعالى ـ: (فأمَّا الذينَ شَقُوْا ففي النَّارِ لهمْ فِيهَا زفيرٌ وشهيقٌ خالدينَ فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ إلاَّ مَا شَاءَ ربُّكَ إنَّ ربَّك فعَّالٌ لمَا يُريدُ).
وهي تنصُّ على أن الذينَ آمنوا بالله وملائكته وكتُبه ورسُله واليوم الآخر، هم السعداء عند الله ـ عز وجل ـ وأنهم ماكِثون في الجنة خالدون فيها، لا تنقطع سعادتهم ولا يَفنَى نعيمُهم.
أما قوله ـ تعالى ـ: (ما دامتِ السمواتُ والأرضُ) فإنه مَثَلٌ أُريد به تأييد خلود المؤمنين في الجنة، وأنهم لن يَفُوتهم وقت من الأوقات إلا وهم مستمتعون فيه، بنعيم الله في جَنَّته، وليس المراد به الاستثناء وذلك كقول العربي مثَلًا: سأفعلُ كذا ما لاحَ كوكبٌ، أو ما أضاء فجرٌ، ومعناه أنه لن يترك فعل ذلك الشيء أبدًا، وليس معناه: يفعله كلما لاح كوكبٌ أو أضاء فجر وأنه يترك فعله في غير ذلك، كلَّا.
وإن قوله ـ تعالى ـ: (عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ). يؤيد هذا التفسير، فإن معناه عطاء من الله ـ تعالى ـ لا يَفنى ولا يَبيد، والآيات في القرآن كثيرة مُستفيضة في تأييد هذا المعنى وفي إثباته.(1/274)
في قصة يُوسف ـ عليه السلام:
إن الآيات القرآنية الخاصة بهذا الموضوع تتسلسل في معناها على الوضع التالي:
لقد عبَّر يوسف ـ عليه السلام ـ رُؤيَا الملك، واقْتنعَ الملك بأن هذا التعبير هو الصواب فقال: ائْتونِي به، فلما جاء رسول الملِك يَدْعُوه لمُقابلته، أحبَّ يوسف أن يَلقى الملك وهو بريءٌ مِن كل شُبهةٍ فحَمل الرسول رسالةَ الملك قائلًا:
(ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فاسأَلْهُ مَا بالُ النِّسْوةُ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عليمٌ). ورجَع الرسول إلى الملك وبلَّغه الرسالة فجمَع الملك النسوة وسألهنَّ:
(ما خَطْبُكُنَّ إذْ رَوادْتُنَّ يوسفَ عن نفسِه).
فردَّ النسوة قائلات:
(حاشَ للهِ ما علِمْنَا عليهِ مِن سُوءٍ).
وكانت امرأة العزيزة حاضرةً حينئذٍ فقالتْ: (الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ) ـ أي تبيَّن الحق وظهر وبرَز ـ ثم اعترفت قائلةً: (أنَا رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
وهذا الاعتراف منها علَّلتْه بقولها: (ذلكَ لِيَعْلمَ أنِّي لمْ أَخُنْهُ بالغَيْبِ). أي ليعلمَ زوجها الحقيقة وهي أن المسألة لم تكن إلا مُراودةً وأن الجريمة الكبرى لم تقع.
ثم استمرت تقول: وما أُبَرِّئُ نفسي فإنها قد تمنَّت وأحبَّت وأرادت، والنفس دائمًا أمَّارة بالسُّوء إلا مَن عصَم اللهُ (ومَا أُبَرِّئُ نفسي إنَّ النفسَ لأَمَّارةٌ بالسُّوءِ إلاَّ مَا رحِمَ ربِّي إنَّ ربِّي غفورٌ رَحيمٌ).
كل هذا كان بحضرة الملك ولم يكن يوسف إذْ ذاكَ حاضرًا، وإنما أحضره الملك بعد ذلك آمِرًا من جديد (ائْتُونِي بهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي). وكلمة: أستخلصه لنفسي تدلُّ دلالةً واضحةً على أن الملِك اقتنعَ اقتناعًا تامًّا ببراءة يوسف ـ عليه السلام.
فالآيات المسئول عنها مِن كلام امرأة العزيز، وليستْ مِن كلام يوسف ـ عليه السلام ـ كما أوضحنا.(1/275)
في تفسير قوله تعالى واللهُ جعلَ لكمْ ممَّا خلَقَ ظلالًا:
(واللهُ جعلَ لكمْ ممَّا خلَقَ ظلالًا وجعَلَ لكمْ مِنَ الجبالِ أكْنانًا وجعَلَ لكمْ سَرابيلَ تَقيكمُ الحَرَّ وسَرابيلَ تَقِيكمْ بَأْسَكُمْ كذلكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عليكمْ لعلَّكمْ تُسلمونَ). (سورة النمل: آية: 81).
وهذه آية مِن سورة النَّحْل ذكَرها الله ـ تعالى ـ في تعداد نعمهِ على عباده، ونذكر أوَّلًا مُفرادتها التي هي في حاجة إلى بيانٍ:
الظلال: جمع ظِلٍّ، وهو ما يَقِي الإنسانَ مِن حَرِّ الشمس.
والأكْنانُ: جمْع كِنٍّ، وهو وِقاءُ كل شيء وسَتْره.
والسرابيل: جمع سِربالٍ، وهو ما يَستُر الإنسان.
والبأس: شدة الحرب.
والمعنى: والله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل مِن النِّعَم التي أسبَغها على عباده ما يستظلون به مِن شدة الحرِّ من الغمام والجبال والأشجار والبيوت وغيرها ممَّا يُستظَلُّ به مِن حر الشمس ولفْحها، لولا ذلك لأهلكت الشمس الآدميينَ.
وكذلك مِن نعم الله ـ سبحانه ـ أن جعَل لهم مِن الجبال أماكنَ يَسكنون فيها ويَستكنُّون ويَستترون كالكُهوف والمَغاور والأسراب والحُصون والمَعاقل التي يسترون فيها الأعداء، ويَعتصمون بها مِن كل ما يَقصدهم بِشَرٍّ أو يُريدهم بسُوء.
ومِن نعمه ـ أيضًاـ أن جعل لهم ممَّا خلق ثيابًا مِن القطن والصوف والكِتَّان والحرير ونحو ذلك تَحفظهم مِن الحرِّ اللافح وتَدفع عنهم البرد القارس، الذي يَضُرُّ بأجسامهم، ويُقلل مِن إنتاجهم. وكذلك جعلَ لهم ممَّا خلَقَ دُروعًا يَلبسونها، ويَستترون بها فتَدفع عنهم قذائف العدوِّ ورِماحه عند شدة الحرب والْتحام الجيش.
مثل هذا الإِنْعام الكبير، الذي أنعم الله به أيها الآدميون إنما جعله لكم ليُتِمَّ نِعمته عليكم، فتَشكروه عليها وتُسلموا وُجُوهَكمْ له، وتَبتعدون عن الشرك وعبادة غيره؛ لأن مَن أنعم بهذا النِّعم الكبرى حقيقٌ بأن يُعبد وحْده، ولا يُشرك بعبادته مع غيره.(1/276)
في سبيل الدعاة:
يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم مُبيِّنًا سبيل الدعاة وطريقهم:
(ادْعُ إلى سبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُمْ بالتِي هِيَ أحْسَنُ) (سورة النحل: آية: 125).
وسبيل الداعي إلى الله ـ سبحانه ـ أن يكون عالِمًا بأمر الدعوة عقيدةً وأخلاقًا وتشريعًا. يقول الله ـ تعالى ـ في القرآن الكريم على لسان رسوله الكريم:
(قُلْ هذهِ سَبِيلِي أدْعُو إلَى اللهِ علَى بَصِيرَةٍ أنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي).
والبَصيرة في هذه الآية الكريمة تشمل الدعوة وأسلوب الدعوة، وسبيل البصيرة في الدعوة العلْم بها، وسبيل البَصيرة في أسلوب الدعوة الرفْق والاتزان وأخذ الأمور مأْخَذ الرويَّة والتعقُّل، وهذه هي الحِكْمة.
ثم الحديث الواعظ بأحسن الطرق والأساليب التي تأخذ بالقلوب وتتعلق بها الأسماع وهذه هي المَوعظة الحسنة.
وإذا اقتضتِ الظروف الجدَل والنِّقاش، واضطررتَ إليه اضطرارًا، فليكنْ بالحُسْنَى، والجدَل والنِّقاش إنما هي المترتبة الثالثة في الدعوة إلى الله، وهي مَرتبة لا يأتيهما الإنسان إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، وهل في القرآن نهْيٌ صريح عن اتِّخاذ الأسلوب العنيف.
يقول الله ـ تعالى ـ للمُؤمنين: (ولا تَسُبُّوا الذينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). وهذا نهْيٌ لهم عن اتخاذ الأسلوب العنيف في الدعوة.
ويقول الله ـ تعالى ـ لرسوله: (ولو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلْبِ لا نْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ).
وكل مَن خالَف أوامر القرآن وأسلوب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الدعوة فهو آثِمٌ؛ لأن كل دعوة في الإسلام على غير الوجه الذي أرشدنا الله ورسوله إليه تُسيء إلى الإسلام أكثر مِمَّا تنفعه فهي دعوة ضارَّة بالإسلام، ثم يأتي صاحبها ويُمنع مِن الاستمرار فيها".(1/277)
في معنى قول الله تعالى سبحانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ:
(سبحانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المسجدِ الحَرَامِ إلَى المسجدِ الأَقْصَى الذِي يَارَكْنَا حوْلهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إنَّه هوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). (الآية الأولى من سورة الإسراء).
فالمسجد الأقصى موجود بنصِّ تلك الآية الكريمة، كان مَسْرَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، وقد تناولته أيدي الأمراء بعد الفتح الإسلامي بالتحديد تارةً، والزخْرفة تارةً أخرى.
وما ورَد مِن أن الخليفة الأُموي: عبد الملك بن مروان هو الذي بنَى المسجد الأقصى وأكمله مِن بعده الوليد صحيح.
ولعل بناءه له كان نتيجةً حتميةً لتجديده تجديدًا يُناسب ما للمسجد مِن مكانة سامِيَة في نفوس المسلمينَ وغيرهم من الدوَل التي تتَّجه إليهِ وتَستقبله في صلاتها ودعائها كاليهود والمسيحيين. ولمَّا لم يُتِمَّ الملك بناءه أتَمَّه مِن بعده وَلَدُهُ.
وما نُشِر في الصحف مِن أن بعض الدول الإسلامية دول علمانية لا يُغيِّر مِن جوْهر المسجد الأقصى شيئًا.(1/278)
في قوله تعالى وقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائيلَ في الكِتابِ:
(وقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائيلَ في الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا). (سورة الإسراء: آية: 4).
المراد بالكتاب في الآية الكريمة هو التوراة التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ والمعنى كما يقول العلَّامة ابن كثير في تفسيره، يُخبر الله ـ تعالى ـ أنه قضَى إلى بني إسرائيل في الكتاب أي: أخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيُفسدون في الأرض مرتينِ ويَعْلُونَ عُلُوًّا كبيرًا: أي يَتجبَّرون ويَطْغَوْنَ ويَفْجُرُونَ على الناس كقوله ـ تعالى ـ: (وقَضَيْنَا إليهِ ذلكَ الأمْرَ أنَّ دَابِرَ هَؤلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). أيْ أخْبَرْنَاهُ بذلكَ وأَعْلَمْنَاهُ به.
وقد اختلف المفسرون من السلَف والخلَف في هؤلاء الذينَ سلَّطهم الله على اليهود مَن هم؟ وقد وردت في ذلك رواياتٍ كثيرةٍ، يقول ابن كثير: وفيما قصَّ الله علينا في كتابه غُنْيَة عمَّا سواه من بقية الكتب قبله، ولم يُحْوِجْنَا الله ولا رسوله إليهم، وقد أخبر الله عنهم لمَّا طَغَوْا وبَغَوْا سلَّط الله عليهم عدُوَّهم فاستباح بيْضتَهم، وسلَك خلال بيوتهم وأذلَّهم وقهَرَهم جزاءً وِفَاقًا: (ومَا رَبُّكَ بظَلَّامٍ للعَبِيدِ). إنهم كانوا تَمرَّدُوا وقتلوا حِلْفًا من الأنبياء والعلماء وسواءَ أحَدَثَت المرتان اللتان تُشير إليهما الآية الكريمة، أم حدثت أولاهما، وبَقِيَت الآخرة فإن الآية الكريمة تُحدِّد وَعِيدَ الله لهم بأنهم إذا عادوا إلى الإفساد في الأرض عاد الله إلى التنكيل بهم على يد بعض عباده قال ـ تعالى ـ: مُخْتتمًا هذه الآيات: (عسَى رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وإنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرينَ حَصِيرًا).(1/279)
ومِن المؤكَّد تاريخيًّا أنَّهم عادوا إلى الافْساد في الأرض فسلَّط الله عليهم مَن نكَّل بهم وشرَّدهم وأذَاقهم وَبَالَ أمرهم، ولا يَغيب عن الأذهان ما حدَث بهم في النصف الأول من هذا القرن وما يحدث مِن طرْد العالَم كلِّه لهم ليَستريح مِن شَرِّهِمْ وأخيرًا وليس ـ بإذْنِ الله آخِرًا ـ ما حدث بهم في العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر سنة: 1973 مِن تحطيم حُصونهم المَنيعة بسيناء وتيتيم أطفالهم وترميل نِسائهم وبُكاء رؤسائهم وما ضُرب عليهم مِن الذِّلَّة والهَوَانِ وسيَبعث الله عليهم ـ بمَشيئته تعالى، ونرجو أن يكون ذلك قريبًا ـ مَن يُطهِّر بيت المقدس مِن رِجْسِهم ليَعود إليه وَجْهُه العربي المشرق، وكلما انتعشوا وبَغَوْا في الأرض وأفسدوا سلَّط الله عليهم مِن عباده مَن يَسُومُهم سُوءَ العذاب، وصدق الله العظيم؛ إذْ يقول:
(وإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عليهمْ إلَى يومِ القيامةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ).(1/280)
في تفسير قول الله تعالى:
(ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وازْدَادُوا تِسْعًا. قُلِ اللهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السمواتِ والأرضِ أَبْصِرْ بِهِ وأَسْمِعْ مَا لهمْ مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ ولا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أحَدًا). (سورة الكهف: آيتا:25 ـ 26).
جاء ذِكْر أصحاب الكهف في القرآن الكريم في سورة: "الكهف" وقال الله ـ تعالى ـ لنبيِّه:
(نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ نَبَأَهُمْ بالحقِّ إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْنَاهُمْ هُدًى). وهي على ما وردت به الروايات:
أنه كان بمدينة "أفْسُوس" أو طَرْسُوس ـ بآسيا الصغرى ـ ملِك اسمه دَقْيَانُوس، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة غير الله، ويَظلمهم، ويُعذبهم إن هم خالفوا أمره، وكان في البلدة فِتْيَةٌ آمنوا بربهم وقَرَّروا فيما بينهم الفِرار من ظلم ذلك الملك وعسَفه، فخرَجوا، وآوَوْا إلى كهفٍ في الجبل، واتَّخذوه مأوًى لهم يَعبدون الله فيه، ولم يُذكَر في الروايات أنهم نبَّهوا أهلهم أو لم يُنبهوهم، وأغلب الظنِّ أنهم أسَرُّوا إلى المُقرَّبينَ إليهمْ مِن أقاربهم بسَفرهم حتى لا يكون في غِيابهم همٌّ أو غَمٌّ لأهلهم وخاصةً الآباء والأمهات، وأهلُ الله يُحبُّون دائمًا أن لا يَكونوا مصدر قلَقٍ وحُزن لغيرهم وخُصوصًا إذا كانوا أقرب المُقرَّبينَ إليهم وأغلب الظن ـ أيضًا ـ أنهم وإنْ كانوا أَخْبَرُوهم بالسفر فإنهم لم يُخبروهم بالمكان.(1/281)
ولقد ذكر القرآن الكريم أنهم لبِثُوا في الكهف ثلاثمائةٍ وتِسْعَ سنينَ، ضرَب الله على آذانهم في الكهف هذه المدة الطويلة، ثم بعثَهم وأخَذُوا يتساءلون بينهم عن المدة التي لَبِثُوها كما قصَّ القرآن: (وكذلكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بيْنهمْ). قالَ قائلٌ مِنْهُمْ كمْ لَبِثْتُمْ في كهْفهم هذه المدة الطويلة قال ـ تعالى ـ: (ولَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائةٍ سِنِينَ وازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللهُ أعْلَمُ بمَا لَبِثُوا لَهُ غيْبُ السمواتِ والأرْضِ).
ولقد حاول كثيرٌ مِن المُفسِّرين أن يُحدِّد مكان الكهف، وأخذ يذكر البلد الذي به الكهف، ولكن هذه المحاولات إنما هي ضرْبٌ مِن التخْمِينِ، وليس في القرآن ولا في السُّنَّةِ ما يُحدِّده، وعلينا أن نكتفي بما ذكَره القرآن الكريم وإنما ذكَر القصة للعِبْرَة والعِظَةِ، وهي في هذا المجال مليئةٌ بالمعاني ككل قصص القرآن.
في معنى الكهف:
قيل: إن هذا الكهف بشرْق الأرْدن، وقيل: بفِلسطينَ وقيل: بالضفة الشرقية مِن جهة نهر الأردن.
والذينَ بالكهف لم يُنبِّهوا أهلهم قبل الذهاب إليه؛ لأن كلَّ مَن كانوا بالبلد الذي هم فيه كانوا كُفَّارًا، فخشيةَ أنْ يُمنعوا مِن الذهاب إلى الكهف، وخشية التعذيب لم يُخبروا أحَدًا بمَقصدهم بدليل قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ:
(فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إلى المَدينةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ولْيَتَلَطَّفْ ولا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا. إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عليكمْ يَرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ولنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا).
وهؤلاء هم المَعرُوفون في التاريخ بأنهم أهل الكهف.(1/282)
في تفسير قوله تعالى قالُوا يا ذَا القَرْنَيْنِ:
(قالُوا يا ذَا القَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ في الأرضِ فهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا علَى أنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وبَيْنَهُمْ سَدًّا). (سورة الكهف: آية: 94).
يختلف المؤرخون في أمر يأجوج ومأجوج وأمر السدِّ الذي بناه ذُو القرنين، فما رأي الدِّين في ذلك؟
يَرْوِي الإمام ابن حزْم أن أمْر يأجوج ومأجوج قد ذُكر في كتب اليهود التي يُؤمنون بها، والتي يُؤمن بها النصارى، ويُروَى أن أرسطو ذكر يأجوج ومأجوج، وذكر السد في كتابه: "الحيوان"، ويَذكر ابن حزم ـ أيضًا ـ أن بطليموس: ذكر في كتابه المسمَّى: "جغرافيا" سدَّ يأجوج ومأجوج، ثم يقول ابن حزم:
"واعلموا أن ما كان في عنصر الإمْكان فأدخله مُدخِلٌ في عنصر الامتناع بلا بُرهان فهو كاذب مُبطل، جاهل أو مُجاهل، ولا سيما إذا أخبر به مَن قد قام البُرهان على صدْق خبَره".
ويقول السيد محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره: "قال بعض المُحقِّقينَ: اعلم أنه كثيرًا ما يحدث في الثوراتِ البُركانية أن تَنْخَسِفَ بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تَصير كالجبال وهذا أمر مُشاهَدٌ حتى زمننا هذا. فإذا سلَّم أن سَدَّ ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير مَوجود الآن، فرُبَّما كان ذلك ناشئًا مِن ثورة بُركانية خسَفت بهِ، وأزالت آثارَه، ولا يُوجد في القرآن ما يدلُّ على بقائهِ إلى يومِ القيامة، ومعنى قوله ـ تعالى ـ:
(هذا رحمةٌ مِن رَبِّي فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ).(1/283)
معناه: أن هذا السدَّ رحمةٌ مِن الله بالأمم القريبة منه، لمنْعِه غارات يأجوج ومأجوج عنهم ولكن يجب عليهم أن يَفهموا أن متانته وصَلابته لا يُمكن أن تُقاوم مشيئة الله القويِّ القدير، فإن بقاءَه إنما هو بفضْل الله، ولكن أجَل السد له في المشيئة الإلهية حدٌّ ينتهي إليه، فإذا حان المَوْعِد المَضروب في المشيئة الإلهية، فإن هذا السدَّ لا يَقف لحظةً واحدةً أمام قدرة الله. بل يَدُكُّهُ دَكًّا في لمْحِ البصر. اهـ.
والذي يُفهم مِن القرآن أن يأجوج ومأجوج أُمَّتانِ أو قَبيلتانِ كبيرتانِ تُفسدان في الأرض بالنهْب والسلْب والإِغَارة المُستمرة على مَن جاورهما مِن الأمم، وليس في هذا الأمر غَرابةٌ، فهو موجود في كثير مِن القبائل أو الأمم الموجودة في عصرنا الراهن، ولمَّا وصَلَ ذو القرنين إلى مَن يُجاور القبيلتينِ ورَأَوْا منه القوة والحِكْمة والعلْم والاستعداد لعمل الخير وَجَّهُوا إليه الرجاء في أن يُقيم بينهم وبين يأجوج ومأجوج سَدًّا مَنِيعًا في مُقابل أجْرٍ يُعطونَه له، فامْتنعَ عن أخْذ الأجْر وقال:
(مَا مَكَّنِّي فيه ربِّي خَيْرٌ فأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْمًا).(1/284)
معنى قوله تعالى وإنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا:
(وإنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا كانَ علَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا). (سورة مريم: آية: 71).
رَوى ابن جرير بإسناده عن عبد الله قوله: (وإنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا). قال: الصراط على جهنم، مثْل حدِّ السيف فتَمُرُّ الطبقةُ الأُولَى كالبَرْقِ، والثانية كالريح، والثالثة كأجْوَد الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يَمُرُّون، والملائكة يقولون: "اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ".
يقول ابن كثير: ولهذا شواهد في الصحيحينِ وغيرهما مِن رواية أنَس وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ـ رضي الله عنهم.
ويكون ـ إذنْ ـ معنى الوُرود في الآية الكريمة: هو المُرور على الصراط والصراط على جهنم، وليس المُراد دخول النار بالفعل.ولقد رَوى الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ بسنده عن حفْصة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:إِنِّي لأرجو ألَّا يدخل النار أحدٌ شهِد بدْرًا والحُديبية، قالت حفْصة: أليس الله يقول:
(وإنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا)؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(ثُمَّ نُنَجِّي الذِينَ اتَّقَوْا ونَذَُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا).
وهذا هو رأي قتادة ـ أيضًا ـ: يقول قوله: (وإنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا). قال: هو المَمَرُّ عليها.
أما قوله ـ تعالى ـ: (كانَ علَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا). فقد فسَّرها ابن مسعود بقوله: قسَمًا واجبًا، وفسَّرها مُجاهد بأنها قضاء حَتْمٌ.(1/285)
في تفسير قوله تعالى قالَ اهبطَا منها جميعًا:
(قالَ اهبطَا منها جميعًا بعضُكمْ لبعضٍ عدوٌّ فإمَّا يَأتيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ ولا يَشْقَى. ومَن أعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. ونَحْشُرُهُ يومَ القِيامةِ أعْمَى. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وقدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قالَ كذلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلِكَ اليومَ تُنْسَى). (سورة طه: الآيات من: 123 ـ 126).
في هذه الآيات مُقارنة بين مَنِ اتبع الهُدَى ومَن أعرض عنه، إن مَنِ اتَّبَعَ الهُدى فلا يَضلُّ عَن طريق الحقِّ ومُتابعة الشرْع ولا يَشقَى مهما نزل في الدنيا، إنه راضٍ قانع، في نِضاله وكفاحه، مُستسلم لله ـ سبحانه وتعالى ـ شرَح الله صدْرَه بالإيمان وطمْأنهُ بالتقوَى والذِّكْرِ:
(ألَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ).
أمَّا مَن أعْرَض عن نداء الحقِّ وتجاهلَ أوامر الشرْع، وسار في حياته بلا مُرشد من الدِّين ولا دليل من الهدف فإنه ـ مهما كان غِناه ـ ساخط، مُتبرِّم، قلِق غاضب، حَسُود، حَقُود. وقد يكون كسْبُه حَرامًا وهو لا يَهتمُّ.
ويُعاقبه الله ـ تعالى ـ في الآخرة على ذلك بالعمَى فلا يُبصر طريقه، ويَسيرُ على غير هدًى، إنه لا يُبصر حُجَّةً ولا يستطيع دفاعًا عن نفسه.
ويتساءل كأنه لا يَعرف أو لأنه نَسِيَ مِن هَوْلِ ما حَصَلَ له: (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى وقدْ كُنْتُ بَصِيرًا). ويكون الجواب بما يُفيد: لقد كانت الآيات الإلهية أمامك فهل أبصرتها؟ وهل سِرْتَ على هُداها أو تَعامَيْتَ عنها؟ إن الجزاء من جِنْسِ العمل، والعمَى في القيامة هو عمَى البصيرة، هو الحَيْرَة والتخبُّط وعدم الاهتداء إلى سبيل النجاة.
وهذا الجزاء ليس خاصًّا بفرد دون فرد. إنه لكل مُسرف يَنسى الدِّين وينغمس في الدنيا، إنه لكل مَن لايهتمُّ إلا بالمادة، ويتناسَى القيم والأخلاق.(1/286)
إن المادة وحدها لا تُحقِّق إلاَّ الشقاء في الدنيا والقلَق والاضطرابات، وفي الآخرة عذابٌ أشدُّ وقلَقٌ عظيم واضطراب أكبرُ، حيث لا نهاية لمَا يكون فيه الإنسان والآيات بعد ذلك وقبله إنذارٌ وتحذير لكلِّ مَن يَعرض آياتِ الله في الآفاق وفي الأنفس، في الكتاب والسُّنَّة، وفي كل ما يُحيط بالإنسان، فيكفر أو يغُشُّ.
(قُلْ مَتَاعُ الدنيَا قَليلٌ. والآخِرةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى. ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا).(1/287)
في تفسير قوله تعالى قد أفْلَحَ المُؤمنونَ.
(قد أفْلَحَ المُؤمنونَ. الذينَ هُمْ في صلاتِهِمْ خَاشِعُونَ). (سورة المؤمنون: آيتا: 1ـ 2).
يقول الله ـ تعالى ـ (قد أفْلَحَ المُؤمنونَ. الذينَ هُمْ في صلاتِهِمْ خَاشِعُونَ). وقد رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجُلًا يُحرِّكُ يده ويَضَعَها على لِحْيَتِهِ وهو في الصلاة فقال:
لو خَشَعَ قلبُه لخَشَعتْ جَوارِحُه، وأنَّه لمِن البديهي أن الصلاة فترة من الصلة بالله ينبغي أن تكون في جَوِّهَا هادئًا وأن تبتعد عن كل ما يشغل عن مناجاة الله ـ سبحانه.
فإذا عرض للمصلِّي شيء بعد أخْذ الاحتياط الواجب فليَقُل: سبحانَ اللهِ. ويُكرِّرها إذا احتاج الأمر إلى زيادة التنبيه، وذلك إذا كان المُصلِّي رجُلًا، فإذا كان المُصلي امرأةً صفَّقت، وذلك لمَا رَواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:
"التسبيحُ للرجلِ والتصفيقُ للنساء في الصلاة". ومع ذلك فإنَّه لوْ رَفَعَ المُصلي صوتَه بالقراءة أو ببعض أذكارها لإسكات الأولاد أو التنبيه على أمرٍ مِنَ الأمور فصلاته صحيحة، ولكنَّ الأفضل اتباع تعليم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم.(1/288)
في تفسير قول الله تعالى اللهُ نُورُ السمواتِ والأرضِ:
(اللهُ نُورُ السمواتِ والأرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْباحٌ المِصباحُ فِي زِجَاجَةٍ..). (سورة النور: آية: 35).. إلخ.
شبَّه الله ـ تبارك وتعالى ـ نُوره في السماواتِ والأرض كمِشكاة فيها مِصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة لفَرْطِ صَفَائِها وصفاء ما بها كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ مُضيء إضاءة قويَّة. فإذا اجتمع نُورانِ: نور المِصباح، ونور الزجاجة التي تُشبه الكوكب الدري في مكان يَحصره، كالمِشكاة التي تكون مُدوَّرَةً لوَضْع المِصباح بها، كان النور أشدَّ ما يكون، وهو مَثَلٌ وَرَدَ للتقرِيبِ فقط، وإلا فنُور الله ـ عزَّ وجل ـ في السماواتِ والأرض لا يُشبههُ نور.(1/289)
في تفسير قول الله تعالى وعبادُ الرحمنِ:
(وعبادُ الرحمنِ الذينَ يَمْشُونَ على الأرضِ هَوْنًا وإذَا خَاَطَبَهُمْ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا). (سورة الفرقان: آية: 63).
إن هذه الآية الكريمة من سورة الفُرقان هي أول الآيات المُتَتالية التي يُعرِّف الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها أوصاف عباد الرحمن.
والجاهلون في الآية الكريمة لا يُقصَد بهم غير المُثقَّفينَ، كَلَّا، وإنما يُقصد بهم السُّفهاء..
والجهل يُطلق أحيانًا ويُقصد به عدَم العلْم، وهذا المعنى هو الشائع لكلمة الجهل ولكلمة الجُهلاء.
وقد تُطْلَق ويُراد بها السَّفَهُ، وهذا هو ما أراده الشاعر في قوله:
ألَا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا.
وهذا المعنى هو المعنى المراد من كلمة: "الجاهلون" التي وردت في الآية الكريمة فهم السفهاء وقليلو الأدَب.
وهؤلاء لمَا في فِطَرِهم من إفساد، ولمَا في نُفوسهم مِن انحراف يَتعرَّضُون للفُضلاء بالأذى غير مُبالينَ بالألْفاظِ يَنطِقُون بها، أو الأفعال التي تَصدُر عنهم، وموقف عباد الرحمن منهم ليس هو موقف السفَه أو قلَّة الأدب، وإنما هو موقف الرجل المُهذَّب الذي يُحاول أن يُوجِد دائمًا السلام مِن المجتمع الذي يعمل فيه، وعلى إيجاده في النفوس بقوله وفِعْله، فإذَا تعرَّض له سفيهٌ قابله بالحُسنَى، فمعنى: (قالُوا سَلامًا) أيْ: قالوا خيْرًا، فيُقابلونَ السَّفَهَ بالخير، ولقد كان مِن صفات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن لا تَزيدَه شدة الجاهل عليه إلا حِلْمًا، وموقف عباد الرحمن بعد ذلك إنما هو كما قال ـ سبحانه ـ: (وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ).(1/290)
في تفسير قول الله تعالى إذْ قالَ موسى لأهلهِ:
(إذْ قالَ موسى لأهلهِ إنِّي آنستُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).
وفي تفسير قول الله ـ تعالى ـ:
(فلمَّا قَضَى مُوسى الأجَلَ وسَارَ بأهْلِهِ آنَسَ مِن جانبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لأهلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لعلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أوْ جَذْوَةٍ مِن النَّارِ لعلَّكُمْ تَصْطَلُونَ). (سورة النمل: آية: 7).
قال ـ تعالى ـ: (إنِّي آنَسْتُ نارًا سَآتِيكمْ مِنها بِخَبَرٍ).. إلخ.
وقال ـ تعالى ـ: (إنِّي آنستُ نارًا لعلي آتِيكمْ مِنْهَا بخَبَرٍ).. إلخ.
في الآية الأولَى الإخبار بأنه سيأتي منها بخبرٍ أو بقِطعة ليَستدفئوا بها. وفي الآية الثانية: يرجو أن يقف على خبَر هذه النار، أو أن يَحصل على قطعةٍ ليَستدفئوا بها ويَقْضُوا منها وَطَرَهُمْ. الخبر والرجاء يَختلفانِ مَنْطُوقًا ومَفهومًا، ويتَّفقانِ غايةً، ولا تعارُض بين منطوق الآيتينِ ومَفهوم كل منهما؛ لأن موسى ـ عليه السلام ـ لمَّا رأى النار قال سأتيكم منها بخبرٍ، وهو يرجو في نفسه أن يُوقفه الله لمَا يُريده.
"وهكذا شأن الأنبياء ومَن أُعِدُّوا في سابق الأزَل للرسالات، بل شأن العقلاء لا يُعوِّلون على أنفسهم في أيِّ أمرٍ يَقصدون إليه، بل يُعوِّلون على الله في كل مَطلوب".
فإحدى الآياتِ تُعبِّر عمَّا في قلبه مِن رجاءِ مَعونة الله، والأخرى تُعبِّر عن حديثه لأهله مُطمَئِنًّا لله.(1/291)
في تفسير قوله تعالى إنَّهُ مِن سليمانَ:
(إنَّهُ مِن سليمانَ وإنَّهُ بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ). (سورة النمل: آية: 30).
عدَّها البعض آيةً مُستقلةً مِن سورة الفاتحة، وعلى ذلك فلابد مِن الإتيان بها في الصلاة، كما ذهب إلى ذلك الشافعي ـ رضي الله عنه ـ حسب روايته في تلاوة كتاب الله ـ تعالى.
كما ورد في العدد المكي والكوفي، وحُجته في ذلك مع الرواية وُجود البسملة أول كل سورة ما عدا براءة مع اجتهاد الصحابة في تخلية كتاب الله ـ تعالى ـ عمَّا ليس منه. فلو لم تكن البسملة من الفاتحة ما أثبتوها.
وذهب بعض الأئمة إلى أن البسملة ليست آيةً مِن الفاتحة، وعلى ذلك لا تَبطل الصلاة بتَرْكِها، ما دام قد اختُلف فيها، فبأيِّ الرأيينِ أخذتَ فصلاتك صحيحة، غير أن الأخْذ بتلاوةِ البسملة في كل فاتحة في الصلاة أولَى للحَيْطةِ.(1/292)
في قصة قارون
في هلْ وَضَعَ القرآن الكريم قواعدَ إذا اتَّبعها الأثرياء أرْضَوا الله ورسوله؟
"نَعَمْ.. وضَعَ القرآن هذه القواعد وحثَّ عليها بشتَّى الوسائل، وقد جُمعت هذه القواعد في ألفاظ قليلةٍ في قصة قارون".
لقد كان قارون مِن قومِ موسى، آتَاهُ الله ثراءً عَرِيضًا، ورُزِقَ مِن المال ما لا يكاد يُحصَى، واتَّخذ قارون المال سبيلًا إلى المَلاذِّ والشهوات، شهوات الجاهِ وشهوات الترَف، وشهوات النعيم الحِسِّيِّ بكل أنواعه، لقد أسرف قارون في انْغماسه في المَلَذَّات، وكانَ يَخرج على قومه في زِينته وفي كِبريائه وغُروره، لا يعطف على ضعيفٍ، ولا يُساعِد فقيرًا، ولا يُعين ذا حاجة، وليس للرحمة إلى قلبه مِن سبيل.
ولمَّا رأى قومُه ذلك اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم واتَّفَقُوا على أن يُسدوا إليه النصيحة، فلمَّا اجتمعوا به تلطَّفوا في القول ما استطاعوا وأجْملوا النصيحة في خمسِ قواعد هي في الواقع القانون العام لمَا ينبغي أن يكون عليه الأثرياء، وهي الطابع الذي يجب أن يكون عليه أهل الغني، قالوا له:
إنكَ مُبَاهٍ بِثَرْوَتِكَ فَخُورٌ بها، فرِحٌ بالمال لذاته، ومَا ينبغي أن يكون الفرح بالمال إلا لأنه وسيلةٌ إلى النفعِ، فلا تفرح لكثرةِ المال فرَحَ بَطَرٍ وكبرياءٍ وفخْرٍ، إنَّ الله لا يحبُّ الفرحينَ الذين يتمثَّل فيهمْ ذلك.
وقد آتاك اللهُ الكثير فابْتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرة، واجعلْ زكاةَ مالِك مساعدةَ الفقير، وزكاة قوَّتك نصْر الضعيف، وزكاة جاهِك نُصرة المَظلوم.(1/293)
والدنيا مَزرعة الآخرة، وطريقها فلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الخُطوات في هذا الطريق بالعمل الصالح واكتساب رضاء الله قبل القُدوم عليه يوم لا ينفع مالٌ ولا بَنونَ إلا مَن أتَى الله بقلب سليم. وأحْسِنْ كمَا أحسَنَ الله إليك: أحسن إلى نفسِك بأنْ تتقِّي اللهَ في كل ما تأتي وما تدَعُ. وأحسنْ إلى الآخرينَ وما الإحسان إلى الآخرين إلا إحسانٌ إلى النفس؛ لأنه تزكية لها، والصدَقة تُطهِّر النفس وتُزَكِّيهَا.
(ولا تَبْغِ الفَسادَ فِي الأرضِ إنَّ اللهِ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ). فماذا كان وَقْعُ هذه النصائح عند قارون؟ هذه المبادئ السامية، التي إذا عمَّمْتَهَا كانت الدستورَ لكل صاحبِ جاهٍ أو نعمة. لم تَلْقَ أُذُنًا مُصغِيَةٌ لدَى قارونَ الذي ألهاهُ التكاثُرُ، فقال سَاخِرًا مُتَحَدِّيًا لا يُبالي: (إنَّمَا أُوتِيتُهُ علَى عِلْمٍ عِنْدِي). فماذا كان الجزاء الإلهي على ذلك؟
كان ما عَبَّرَ اللهُ عنه بقوله:
(فَخَسَفْنَا بِهِ وبِدارِهِ الأرضَ فَمَا كانَ لهُ مِن فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ ومَا كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ).(1/294)
في تفسير قول الله تعالى إنَّمَا يُؤمِنُ بآياتِنَا:
(إنَّمَا يُؤمِنُ بآياتِنَا الذينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ). (سورة السجدة: آية/ 15).
إن مِن المَظاهر الصادقة للإيمان بآيات الله التي عبَّر عنها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز أنه حينما يسمعها المؤمن على لسان قارئ أو على لسان واعظٍ، حينما يُذكِّر بها على أيِّ وَضْعٍ مِن الأوضاع، فإنها تَلْمَسُ في نفسه سِرَّ الله فيه، وتُؤثِّر على مركز النور والصفاء فى رُوحه، وذلك لمَا بينها وبين الإيمان الصادق مِن صِلةٍ، فإنها تُعبر عنه وتَشرحه مُوضِّحَةً ومُرْشدةً ومُوجِّهةً.
(إنَّمَا المُؤمنونَ الذينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبُهمْ وإذَا تُلِيَتْ علَيْهمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
ومقياس الإيمان الصادق إذنْ إنَّما هو الاستجابة المَقرونة بتعظيم الله ـ سبحانه ـ عن طريق حمْده والثناء عليه، والاستجابة التي يُعبِّر عنها المعني العميق للخُضوع لمَا أمَرَ الله ـ سبحانه ـ والانتهاء عمَّا نهَى عنه، وهذا هو المعنى الحقيقي للسجود، وهذا هو ما يُراد مِن وراء هذه الكيفية المَخصوصة مِن وَضْع الجبهة على الأرض خُضوعًا وتَواضُعًا وخَشْيةً.
والسجود يُعَبِّرُ عن منتهى الخُضوع والخشية، ومِن أجل ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أقربُ مَا يكونُ العبدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجدٌ.
ومِن أجلِ هذا القُرْبِ يَحُثُّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الدعاء في أثناء السُّجُود؛ لأن القُرْبَ مَظِنَّةُ الاستجابة ويقول الله ـ سبحانه وتعالى: (واسْجُدْ واقْتَرِبْ).
أي اقتربْ مِن الله عن طريق السجود إليه.
وجَوْهرُ السجود في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي الآية الكريمة إنما هو: الاستِجابة في كل أمرٍ بما يُناسبه، ويتفق والأوضاع والشروط المطلوبة.(1/295)
والله ـ سبحانه ـ حين أمَر المَلائكة بالسجود لآدم ـ عليه السلام ـ كانت استجابتهم فوريةً، ولم يستجب إبليس، ويُفَسِّرُ عدم استجابته بالكِبْر المُتغلغل في نفسه، ومِن أجْل ذلك وَصَفَ الله المؤمنين في الآية التي نحن بصدَدها بأنهم لا يَستكبرون. إن التواضُع لله ـ سبحانه ـ وخشيته والاستجابة إليه مقياس الإيمان الصادق، وليس ذلك كلامًا يُقال، ولا ألفاظًا تُنَمَّقُ، وإنما يَظهر في صور مُحدَّدة منها: أن المُؤمنين الصادقين (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضاجِعِ). إنهم المُتَهَجِّدُونَ بالليل، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا). ومِن صفاتهم أنهم يَشكرون الله بالإنْفاق ممَّا رَزَقَهم، إنهم يشكرونه على القوة بالإنْفاق مِنها في مُساعدة الضعفاء.
وعلى الجاه بالإنفاق منه في مُساعدة مَن لا جاهَ لهم، وعلى الثراء بالتصدُّق، والصدَقة بُرهانٌ، ويشكرونه على العِلْم بتعليم الآخرين، إنَّهم يُخرجون زكاةَ كل نِعمة أنعمَ الله ـ تعالى ـ عليهمْ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يتحدث عن عاقبة أمرهم، وعمَّا ادخره لهم، فيقول ـ سبحانه: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لهمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).(1/296)
في فضْل سورة يس:
رَوى الإمام أحمد والحاكم وصحَّحه مَعْقِل بن يَسار ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "قلْبُ القرآن "يس"، لا يَقْرَؤهَا رجلٌ يُريد اللهَ والدارَ الآخرة إلا غَفَرَ اللهُ له. اقْرَءُوهَا على مَوْتاكم".
وكلمة: "اقرءوها على موتاكم" كلمة مُطلقة، فهي تُفيد اقرءوها على مَن كان في حالة الاحْتضار، وتُفيد اقرءوها على موتاكم في المقابر، ويُساند هذا ما ذكره الثعلبي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: مَن دخَل المقابر، وقرأ سورة "يس" خفَّف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدَد مَن فيها حسناتٌ".
ومذهب الجمهور مِن أهل السُّنَّة أن ثواب قراءة القرآن يَصِلُ إلى المتوفَّى، بل لقد ذكر ابن قُدامة في كتابه: "المُغْنى" أن الإمام الجليل أحمد بن حنبل قال:
الميتُ يصلُ إليه كل شيء مِن الخير، للنصوص الواردة في ذلك؛ ولأن المسلمين يجتمعون في كل عصر، ويقرءون ويُهْدُونَ لمَوْتاهم من غير نكيرٍ، فكان إجماع.
فإذا ما قرأ إنسان القرآن بِنِيَّةِ إهداءِ الثواب إلى الميت، فإنه يقول بعد الفراغ من القراءة: "اللهمَّ أَوْصِلْ ثَوابَ مَا قرأتُهُ إلى فلانٍ".
على أن الجمهور مِن أهل السُّنة يُعلن في صراحة أن القراءة التي يصل ثوابها إلى الميت إنما هي القراءة التي ليست مأجورةً، ويُعلن في صراحة أيضًا أنه مِن النِّيَّة التي تتقدم القراءة، وقراءة القرآن على الميت لا تَتقدَّر بزمنٍ بعد الوفاة. فلا تَتَقَيَّدُ بمرور سبعة أيام أو أكثر أو أقل، وما مِن شك في أنه مِن الخير أن يُقرأ القرآنُ عند الميت في حالة الاحْتضار، وأن يُقرأ بعد وَفاته مُباشرةً، وأن يُقرأ له بعد ذلك كلَّما تُتاح الفُرْصة، وليس في الإسلام مُطلقًا ما يدلُّ على أن القِراءة تكون بعد سبعة أيام.(1/297)
في قوله تعالى لقدْ حَقَّ القَوْلُ علَى أكْثَرِهِمْ:
(لقدْ حَقَّ القَوْلُ علَى أكْثَرِهِمْ فهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إنَّا جَعَلْنَا فِي أعْنَاقِهِمْ أغْلالًا فهِيَ إلَى الأَذْقَانِ فهُمْ مُقْمَحُونَ). (سورة: يس. آيتا: (7 ـ 8).
الأغلال جمع غُلٍّ بضم الغين، وهو ما أحاط بالعُنق، ومع العُنقِ اليدانِ، واليد الواحدة للتعذيب. مُقْمَحُونَ: رَافعُو رُءوسِهم، غاضُّو أبصارِهم، لا يَتَمَكَّنُونَ مِن تحريك رءوسهم إلى اليمين أو الشمال.
ومعني الآية: إنَّ هؤلاء المُعرضينَ عَنِ الدعوة الذينَ صَمُّوا آذَانَهُمْ عَنِ سمَاعِها، وحَجزوا عقولهم عن التدبُّر فيها، أو مُحاولة فهْمِ ما ترمي إليه، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَن قُيِّدَتْ يَدُهُ إلى عُنُقه بغُلٍّ ثَقيلٍ يَمْنَعُهُ مِن التحرُّك بِبَصَرِهِ إلى ما فيه نفْعه.
فتَصميمهم على الكُفْر يُشبه الأغلال، واستِكبارهم عن قبول الحقِّ وعن الخُضوع والتواضُع لاستماعه يُشبه الإقْماحَ؛ إذْ إنهم لا يتمكنون مِن خفْض رُءوسهم وهم مُقْمَحُونَ، وكذلك لا يتمكنون مِن التواضُع لاستماع الدعوة وهُم مُستَكْبِرُونَ.
وهذا التشبيه في الدنيا يتحوَّل في الآخرة إلى حقيقةٍ واقعة... فتظهر الأغلال الثقيلة، ويتعذب المُعْرِضُونَ على هذه الصورة المُرْهَقة من العذاب.(1/298)
في معني قوله تعالى إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ:
(إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ). (سورة الزمَر: آيتا: (30 ـ 31).
هاتانِ آيتانِ مِن سورة الزمَر، ومعناهما ـ كما حكاه المفسرون ـ: أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يُخاطب نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن دعا قومه إلى التوحيد واستفرَغَ جهده في دعوتهم.
إنكم سَتَنتقلون مِن هذه الدار لا محالةَ، فليست بدار بقاء؛ لأنها قانية كما قال الله ـ تعالى: (كُلُّ مَن عَلَيْهَا فَانٍ). فأنت يا محمد وهم ستموتون وستَجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتَختصون فيما أنتم فيه في الدنيا مِن التوحيد والشرك بين يَدَيِ الله ـ تعالى ـ فيفصل بينكم، ويَفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فيُنجِّي المُخلصين المُؤمنين المُوحِّدين الذين عبدوه وحده، ولم يُشركوا في عبادته غيرَه، وعملوا الصالحاتِ التي تنفعهم.
وأمَّا الكافرونَ فإنهم يُجازَوْنَ على كُفرهم وشِرْكِهم وعدم إيمانهم بالعذاب الأليم، وهذه الآية وإنْ كان سياقُها في المؤمنين والكافرين، وذِكْرِ الخُصومة بينهم في الدار الآخرة، فإنَّها شاملةٌ لكل مُتنازعينِ في الدنيا، وإنه ستُعاد الخُصومة بينهم في الدار الآخرة ويَقضِي بينهم الحَكَمُ بالعدْل، وهو أحكم الحاكمين، ويُجازي كُلًّا بما يستحق.
رَوى الترمذي: عن الزبير ـ رضي الله عنه ـ لمَّا نزلت هذه الآية قال: أَيُكَرَّرُ علينا ما كان بيْننا في الدنيا يا رسول الله؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَّ عليكم حتى يُؤدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقُّهُ". وقال الزبير: واللهِ إن الأمر لشديدٌ.(1/299)
في تفسير قول الله تعالى قُلْ يا عِبادِي الذينَ أسْرَفُوا:
(قُلْ يا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفُوا علَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ. وأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ..). (سورة الزمر: آيتا: (53 ـ 54).
فهذه الآية الكريمة تدعو كل مُذْنِبٍ إلى التوبة، إنها لا تَستثني أحدًا، وتأمر أن لا يَقْنَطَ المُسلم مِن رحمة الله، ولو أسرف على نفسه بكثْرة الذنوب وبكَثْرة المَعاصي.
على أن الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة كل ذلك قد تضافَر على وُجوب التسوية، يقول الله ـ تعالى: (وتُوبُوا إلَى اللهِ جَمِيعًا أيُّها المُؤمنونَ لعلَّكُمْ تُفلحُونَ). ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الإمام مسلم: "إنَّ اللهَ تعالى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ ليَتوبَ مُسِيءُ النهار، ويَبسط يدَه بالنهارِ ليتوبَ مُسيء الليلِ".
ومِن المعروف في الجو الإسلامي أن التوبة الخالِصة النَّصُوح تجبُّ ما قبلها، وأنها تُعطي الإنسان شهادةَ البراءة.
والتوبة التي مِن هذا النَّمَط ليست كلمةً تُقالُ فحسب، أو لفظةً تنتهي بانتهاء اللسان مِن قولها، ولكن التوبة، إذا كانت المَعصية بين العبد وبين الله ـ تعالى ـ لا تتعلق بحقِّ آدميٍّ، لها ثلاثة شروط:
الأول: أن يُقْلِعَ المُذْنِبُ عن المَعْصية.
والثاني: أن يَنْدَمَ على فِعْلِهَا.
والثالث: أن يَعْزِمَ ألا يعود إليها أبَدًا، وإنْ كانت المعصية تتعلَّقُ بآدميٍّ فلها شرط رابع، وهو أن يَرُدَّ التائِبُ الحقوقَ بقَدْرِ الاستطاعة، فإذا فُقد شرط مِن هذه الشروط، فلا تَصِحُّ التوبة. والأمر ـ فيمَن جمع مالًا كثيرًا عن طريق غير شرعيٍّ، وأراد أن يكفر له الله عن سيئاته ـ واضح، فلابد مِن التوبة الخالصة النَّصُوح، والمُحقِّقة للشروط التي سبق أن ذَكَرْنَاهَا.(1/300)
في تفسير قوله تعالى ومَن أحْسَنُ قَوْلًا:
(ومَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللهِ وعَمِلَ صَالِحًا وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسلمينَ). (سورة فصلت: آية: 33).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نَضّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقالَتِي فوَعاها فَأَدَّاها كما سمِعها، فرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِن سامِعٍ ورُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إلى مَن هوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ورُبَّ حامِلِ فِقْهٍ ليسَ بفَقِيهٍ". وقال: "بَلِّغُوا عَنِّي ولوْ آيَةً".
والدعوة إلى الله عن أيِّ طريقٍ مَطلوبة، ومُثَابٌ عليها، ففيها تعليم وإرشاد لمَن لا يعلم.. وفيها تذكير لمَن يَعلم، قال ـ تعالى: (وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَي تَنْفَعُ المُؤمنينَ). ولمَّا اتَّسع المَجال للدعوة، وتحقَّقت لها وسائل الانتشار في أوسع حيِّزٍ مُمكنٍ، كان الثواب أجزلَ والخيرُ أوفرَ.. إذْ كل مَن يسمع صوت الدعوة الصالحة والإرشاد السليم لصاحبها بالعمل الصالح يوم القيامة.. وله ثوابُ كل مَن استفاد فائدةً أو عمِلَ عمَلًا صالِحًا.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: مَن دعا إلى هُدًى كانَ لهُ مِثْلُ أَجْرِ مَن عمِلَ بهِ مِن غيرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شَيئًا، ومَن دَعَا إلَى ضَلالةٍ كانَ عليهِ إثْمُ مَن عمِل بها مِن غيرِ أنْ يَنْقُصَ مِن آثَامِهِمْ شَيْئًا".
ولا يَضُرُّ الدعوةَ إلى الله بالردايو أو غيره مِن وسائل الإعلام، أن تُذيع هذه الوسائل حكاياتٍ أو قصصًا غراميةً.
إن هذه الوسائل الإعلامية تَصويرٌ للحياة بكل ألوانها. ومِن المُمكن للمُسْتمع أن يَختار منها ما يشاء، وعليه تقع مسئولية هذا الاختيار.(1/301)
أما عن وُجوب الْتزام هذه الوسائل الإعلامية لطريق الجادَّة باعتبارها مراكزَ توصيةٍ ومَناراتِ هُدًى، فهذا ما ينبغي أن يكون. وعلى المسلم أن يتخيَّر منها ما يَتَّفِقُ وتعاليمَ دِينه وهدْيه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أسَاءَ فَعَلَيْهَا ومَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للْعَبِيدِ).(1/302)
في تفسير قوله تعالى لا تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولا للقمَرِ:
(لا تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولا للقمَرِ واسْجُدُوا للهِ الذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنتمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
(فإنِ اسْتَكْبَرُوا فالذينَ عندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لهُ بالليلِ والنَّهارِ وهُمْ لا يَسْئمُونَ).
وبالتالي هل يصحُّ السجود على أيدي المشايخ أو الوالد أو أيِّ شخص بقَصْد التبرُّكِ؟
قال الله ـ تعالى: (وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ وبالوَالِدَيْنِ إحْسَانًا). وقال ـ تعالى: (واعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا). فعبادة غير الله كُفْرٌ بالله؛ لأنها تَأْلِيهٌ للمَعبود، وشِرْك بالله، وفي تلك الآية التي نُجيب السائل عنها: أن العبادة لا تنبغي لغير الله، وعبَّر بالسُّجود عن العبادة؛ لأنه أبرز ما يكون فيها، والسجود بعض العبادة، فإنْ أبَى أحدٌ إلا السجود لغير الله وعبادته فاللهُ ـ عز وجل ـ غَنِيٌّ عنه وعن عبادته؛ لأنه لدَيْهِ مِن ملائكته وعباده الصالحينَ مَن لا يَستكبرونَ عن عِبادته، ويُسبِّحونَ له بالليل والنهار وهم لا يَمَلُّونَ ذلكَ أَبَدًا.
والسجود الذي هو وَضْعُ الجبهة على الأرض لا يَجوز لأيِّ شخصٍ مِن الأشخاص؛ سواء أكان أبًا أمْ شيْخًا، ولا يجوز للأبِ ولا للشيخ أن يسمح لابنه أو تلميذه بذلك، أما تقبيل يدِ الشيخ عند السلام عليه استحبابًا إنْ كان الشيخ مِن ذَوِي الصلاح والتقَى، وتُرجَى بركتُهُ ـ فذلك جائز؛ لأن التقبيل حينئذ تعبير عن الإجْلال والاحترام والتوقير، وإقْرارٌ بالفضل لذويهِ وفي تقبيل حامل قطْف العِنَبِ بالطائفِ ليَدَيْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجليهِ، حينما قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن أيِّ البلاد أنتَ؟ قال: مِن "نِينَوَى" فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: بلد الرجل الصالح يُونسَ بنِ متّى، قال العبد:(1/303)
مَن أنْبَأَكَ بهِ، قال إنه نبيٌّ، فأَكَبَّ علَى يَدَيْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورِجْليهِ يُقَبِّلُهُمَا.
ونخرج مِن ذلك أن السجود بمَعناه الحقيقي لا يجوز للمَخلوق، أمَّا تقبيل اليد احترامًا وإجلالًا فإنه جائز.(1/304)
في تفسير قول الله تعالى إنَّمَا المُؤمنونَ إخوةٌ:
(إنَّمَا المُؤمنونَ إخوةٌ فأَصْلِحُوا بيْنَ أخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللهَ لعلَّكمْ تُرْحَمُونَ). (سورة الحجرات: آية/ 10).
الأخ المسلم لا يَخذُلُ أخاه ولا يُسلمه ولا يَظلمه.
يقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: المسلمُ أخُو المُسلم...
وعن النعمان بن بشير ـ رضى الله عنهما ـ قال:
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَثَلُ المُؤمِنينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعاطُفهمْ كَمَثَلِ الجسدِ الواحد إذَا اشتَكَى مِنهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لهُ سائرُ الأعْضَاءِ بالسَّهَرِ والحُمَّى". (متفق عليه).
ولقد أنزل الله ـ سبحانه ـ في هذا الأمر ومثله قرآنًا يُتلَى في سورة المُمْتَحِنة فقال ـ تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ).
وقال في آخر السورة: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ علَيهمْ).
وقال ـ سبحانه: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أوْلِيَاءَ بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْضٍ).
وقال ـ تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وإخْوَانَكُمْ أولِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ علَى الإِيمَانِ).
مِن تلك النصوص المُجتمعة مِن الكتاب والسُّنَّة نفهم: أن المسلم لا يُناصر كافِرًا على المسلم بالقتال أو غيره، فإنْ فعَلَ ذلك فقد باءَ بإثْمه، وكان مع صاحبه في النار، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
بل إن صلة الإسلام أولَى بالرِّعاية والنُّصْرة مِن صلة الرحِم.
وممَّا أسلفنا نفهم أنه تجب نُصْرةُ المسلم على الكافر ما لم يكن في نُصرته مَعصية لله ـ تعالى، ومُناصرة غير المسلم على المسلم مَعصية لله ولرسوله يجب الكَفُّ عنها.(1/305)
في تفسير آيات من سورة الحجرات:
(يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِه وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . إنَّ الذِينَ يَغُضُّونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (سورة الحجرات: 1،2،3)
هذه الآيات أدَّب الله تعالى بها عباده المؤمنين فيما يُعاملون به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التوقير والاحترام، والتبجيل والإعظام، فقال ـ تبارك وتعالى ـ: (يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِه)، أي لا تُسرعوا في الأشياء بين يديه أي ـ قبله ـ بل كانوا تبعًا له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ حيث قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين بعثه إلى اليمن: بِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فإن لم تجد؟ قال ـ رضي الله عنه ـ: أجتهد برأي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما يُرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. فالغرض منه أنَّه أخَّر رأيه ونظَرَه واجتهَادَه إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدَّمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال عليٌّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ) لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.(1/306)
وقال الضحاك: لا تُفْضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم، وقال سفيان الثوري: ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله بقول ولا فعل، قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ).
هذا أدبٌ ثانٍ أدّب الله تعالى به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوق صوته..
وقال البخاري: حدَّثنا على بن عبد الله، حدثنا أزهر بن سعد، أخبرنا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ افتقد ثابتَ بنَ قيس ـ رضي الله عنه ـ فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلْمَه، فأتاه فوجده في بيته مُنكِّسًا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرٌّ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد حبط عمله، فهو من أهل النار فأتى الرجلُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره أنه قال كذا وكذا " قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: اذهب إليه فقل له: إنك لستَ من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا سليمان ابن المغيرة عن ثابت، عن أنس بن مالك ـ رضي الله
عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) إلى قوله (وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ). وكان ثابت بن قيس بن الشمَّاس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنا من أهل النار، حَبِطَ عَمَلي، وجلس في أهله حزينًا، ففقده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقَّدك رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأجهر له بالقول، حبط عملي، أنا من أهل النار، فأتَوُا(1/307)
النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبروه بما قال، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا، بل هو من أهل الجنة، قال أنس ـ رضي الله عنه ـ: فكنا نراه يمشي بين أظْهُرِنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعضُ الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن الشماس وقد تحنَّط، ولَبِسَ كفنه، فقال: بئسما تُعوِّدون أقرانكم، فقاتلهم حتى قُتل ـ رضي الله عنه.
وقد رُوِّينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع صوتَ رجلين في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف.. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا. وقال العلماء: يُكْرَه رفْعُ الصوت عند قبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما كان يُكره في حياته ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنه محترَم حيًّا وفي قبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ دائمًا..
في قول الله تعالى: (يَا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعْلَنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة الحجرات:13)
إن الله ـ سبحانه ـ في حكمته السامية ما جعل الناس شعوبًا وقبائل ليتدابروا ويتنافروا، فإن الإسلام قد نهى عن التدابر والتنافر، وأمر بالتعاطف والتراحم حيث قال ـ صلى الله(1/308)
عليه وسلم ـ: لا تَقاطعوا ولا تَدابروا ولا تَباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث، وأمرهم أن يعملوا جاهدين لتحقيق الخير من أجل الإنسانية حتى يُثيبهم عليه تزكية نفس وصفاء روحٍ وأمْنًا وطمأنينة والتجاءً إلى الله شكرًا وعرفانًا فتكون التقوى، فيصل الإنسان إلى أن يكون كريمًا عند الله، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فإذا ما كان الفرد كريمًا على الله فإن الله لا يُسلمه ولا يَخذله، ومَنْ يثِقْ بالله يجعل له مخرجًا ويرزقْه من حيث لا يحتسب ومن يتوكلْ على الله فهو حسبه، وإذا كان المجتمع كريمًا على الله بالتقوى فإن الله ـ سبحانه ـ يكون عونه وناصره وكفى بربك هاديًا ونصيرًا للفرد، وهاديًا ونصيرًا للمجتمع، ويتحقق الإسلام للفرد وللإنسانية تحققًا كاملًا باتباعهم الرحمة والأخوة والتعارف، أو بتعبير أقصر بإسلامهم؛ لأن الإسلام إنما هو أن يُسلم الإنسان وجهه لله، يسلمه له إسلامًا كاملًا لا شائبة فيه من تعصب بيئي أو عنصري، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود: "ليس منَّا مَنْ دعا إلى عصبية، وليس منَّا مَنْ قاتل عصبية، وليس منَّا مَنْ مات على عصبية" والإسلام ليس فيه تعصب ولا افتخار بالآباء والأجداد، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حِجَّة الوداع "إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بالآباء والأجداد، الناس لآدمَ، وآدمُ من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى"، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل قال لصاحبه يا ابن السوداء: "إنك امرؤ فيك جاهلية". ويجب أن يكون إسلامًا صافيًا كاملًا حتى تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له، فإذا ما أسلم وجهه هذا الإسلام كان رحمة وكان تعاطفًا، وكانت صلته بالشعوب والقبائل صلة تعارف لا صلة تنافر ولا تعادي ولا تدابر، وصلة الإسلام إذن بالسلام الفردي والسلام العالمي على هذا الوضع صلة واضحة.(1/309)
إن الإسلام هو الموصل للسلام العالمي، يقول الله تعالى: (قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فكتاب الله ـ سبحانه ـ هو الذي يرسُم السلام ويرسم سبل السلام، وهو ـ سبحانه ـ إذا فعل ذلك فإنما يفعله على علم ويفعله على حكمة، والله ـ سبحانه ـ يأمر المؤمنين جميعًا أن يدخلوا في الإسلام كافَّةً (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وعدم الدخول في السلم إنما هو اتباع خطوات الشيطان.(1/310)
في معنى قوله تعالى إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ:
(إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ) (سورة الواقعة: 77، 78، 79)
القرآن نور أنار الله به طريق السير للمؤمنين، ومِنَّةٌ امْتَنَّ بها عليهم، وطالبهم باحترامه والقيام بحقوقه، وحذَّرهم من التفريط في احترامه فضلًا عن امتهانه.
والذي يبيع بعض الحاجات في ورقة بها آية أو آيات قرآنية مرتكبٌ لمنكر، والذي يبيع من الورق ما فيه آية قرآنية لمن يبيع فيه ويمتهنه مرتكبٌ لمنكَرٍ وهكذا.
ولا يُعتبر الامتهانُ غير مقصود إلا إذَا غَفَل المسلم عنه، أو ظن أن ما في الورق ليس بقرآن فإذا ما تمزقت أوراق مصحفٍ أو بعض أوراقه بادر الإنسان بحرقها إذا لم يتيسر له حفظُها في مكان آخر أي إلقاؤها في البحر؛ لأن الماء سيُزيل آثار الكتاب وتتحول حينئذٍ إلى أوراق عادية سرعان ما تتآكل.
والمقصود من هذا كله، المحافظة على القرآن الكريم والقيام بما يجب نحوه من احترام، وإذا كان الله تعالى قد منع غير المتطهرين من مسِّ المصحف أو شيء من القرآن فإن امتهان القرآن من أكبر المحرمات. وقد كان سبب الوبال لبعض الأمراء الذين استهانوا بحرمته فمزقهم الله شرَّ مُمَزَّقٍ.(1/311)
في سورة الممتحنة:
(لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (سورة الممتحنة: 8،9)
وقد نزلت هذه الآيات الكريمة في مناسبات تشبه ما يسأل عنه السائل، فقد أسلم كثير من القرشيين ولهم أقارب تختلف درجة قرابتهم قربًا وبعدًا، ونشأت ظروف تساءل فيها المسلمون عمَّا إذا كان يباح الاتصال بآبائهم أو أمهاتهم، وعمَّا إذا كان يباح لهم أن يبروا الأقارب بمختلف أنواع البر أو يتقبلوا برهم وهداياهم، فنزلت الآيات الكريمة بالقانون الإلهي توضح الموقف: نسالم مَن سالمنا ونحارب من حاربنا وهو قانون طبيعي إنساني. والإسلام يقف من المعادين لنا موقفًا حاسمًا؟
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أبْنَاءهُمْ أوْ إِخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ أولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ) (سورة المجادلة: 22)
من ذلك نتبين أن المسلم يؤاكل غير المسلم ويصافحه ويتعامل معه في المباحثات من أنواع التعامل ما دام السلام موجودًا بينهم، أما في حالة الحرب فلا يصح من ذلك إلا ما تقتضيه ضرورة الحرب.(1/312)
في معنى قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ:
(يَا أيُّها الذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (سورة الصف: 2،3)
في هذه الآية الكريمة يسأل الله المؤمنين سؤالًا استنكاريًّا مؤنبًا لهم، طالبًا منهم السبب في أنهم يقولون بألسنتهم ما لا يفعلونه بجوارحهم، ويتحدثون إلى الناس عن الخير ولا يفعلون، ثم يعرفهم منزلة هذا الذي يدعو إلى الخير ولا يعمل به، فيقول لهم كَبُرَ مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، فكل مَنْ يدعو إلى خير ولا يعمل به ممقوت عند الله وملائكته والناس أجمعين.
خصوصًا هذا الذي يتكبر ولا يصلي، ذلك أن المتكبر لا يحبه الله (إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) أما ترك الصلاة فإنه يصل بالإنسان إلى النفاق وإلى الكفر والعياذ بالله، يقول أحد الصحابة: "... ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها ـ أي عن الصلاة ـ إلا منافق. ولقد كان يؤتى بالرجل يُهادي به ـ أي يسنده الآخرون لمرضه حتى يقف في الصف".
والداعي إلى الإسلام دون أن يعيش به إنما هو مثل سيئ إلى الدعوة الإسلامية، وأن الدين الإسلامي إنما هو دين إخلاص وصفاء لا يعتد بمظاهر الخير ما لم تكن صادرة من قلب طاهر (ألَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ).(1/313)
في فضل مَنْ قرأ سورة الملك:
يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَنْ قَرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (الم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
ولسورة الملك ثوابٌ خاصٌّ بها، فضلًا عن ثواب تلاوة القرآن الكريم، وقد ورد أن مَنْ دَاوم على قراءة هذه السورة كل ليلة كانت شافعة له في قبره، ومؤنسة لديه.
وقد ورد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا ينام كل ليلة حتى يقرأ سورتي السجدة، وتبارك الذي بيده الملك، وهذا يُشْعِرُ بمنزلة هاتين السورتين وعِظَمِ فضلهما.
وفي سورة الملك بالذات ورد الحديثان التاليان:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن سورةً في القرآن ثلاثون آية شَفَعت لرجل حتَّى غُفر له وهي: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ) رواه أبو داود والترمذي. وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "وَدِدْت أنها في قلب كل مؤمن ـ يعني "تبارك الذي بيده الملك" رواه الحاكم.(1/314)
في قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى...
أي شعر بالحرج والضيق حينما دخل عليه الأعمى وهو يدعو بعض رؤساء الكفر إلى الإسلام، فخاف أن يقطع دخول هذا الأعمى حديث الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ ويضيع ما يمكن أن يكون قد علق بقلب هذا الكافر منه.
ولم يكن إعراضه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأعمى أو ضيقه به تحقيرًا له أو توهينًا لشأنه، وإنما كان تقديمًا للأهم على المهم، فجلوس رئيس من رؤساء الشرك لسماع الدعوة وتقبله لما يلقي عليه فرصة قد لا تعوَّض، وقد يسلم فيسلم بإسلامه كثيرون، أمَّا هذا الأعمى فالفرص أمامه كثيرة ولقاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ متيسرٌ له متى شاء.
قال ابن حزم: أما قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى..) الآيات.. فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ورجا إسلامه، وعلم ـ عليه السلام ـ أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، أظهر الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه، فاشتغل عنه ـ عليه السلام ـ بما خاف فوته من عظيم الخير عمَّا لا يخاف قوته، وهذا غاية النظر في الدين والاجتهاد في نصرة القرآن، في ظاهرها الأمر ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم فاعل لأجر لعاقبه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ على ذلك، إذ كان الأولى عند الله ـ تعالى ـ أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل التقي.
وكأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بهذا يوجه إلى فضل المؤمن على غيره من الكفار مهما كانت الفروق الدنيوية من المال والجاه ونحوهما، والآية الكريمة تُبَيِّن شدة حرص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الدعوة إلى الله ـ سبحانه ـ وتُبَيِّنُ من جانب آخر قيمة المؤمن عند الله وفضله على غيره من أهل الشرك والضلال.(1/315)
في قصة الأخدود المذكورة من سورة البروج:
إنَّ هذه الآيات الكريمة من سورة البروج التي نزلت لتُبَيِّنَ أنَّ المؤمن يؤدي رسالة، وأن مثله في هذه الحياة الدنيا مثل أصحاب الرسالات الذين يجاهدون في سبيل الله، فيصادفون في ذلك مصادفة المعارضين وكيدهم ومكرهم وتعذيبهم، وما دام الإيمان يملأ القلب فإن المؤمن يصير على كل ذلك مجاهدًا إلى النهاية فينال النَّصر أو الشهادة ويضرب الله مثلًا للمؤمنين بأصحاب الأخدود، والأخدود الحفرة المستطيلة في الأرض، وأصحاب الأخدود هم الذين حفروا هذه الحفرة المستطيلة وأوقدوا فيها النار مشتعلة متأججة وأتوا بالمؤمنين الذين لم يفعلوا جريمة ولم يرتكبوا أي ذنب إنما كان كل ما يأخذونه عليهم إنما هو أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد. ولقد عذبوهم بسبب إيمانهم وألقَوا بهم في النار بسبب إيمانهم، وقد استمسك هؤلاء المؤمنون بإيمانهم لم يحيدوا عنه قيد شعرة. وجلس الطغاة على حافة النار ينظرون في نوع من التسلية إلى هؤلاء المؤمنين الذين يقذف بهم في النار واحد بعد واحد دون أن تنبض قلوب الطغاة برأفة أو برحمة.
وهذه القصة كانت بين اليهود ونصارى نجران، فقد تآمر اليهود على نصارى نجران ودبروا المكيدة لهم فاستولوا على المدينة، وحفروا الأخدود وألقوا النصارى واحدًا بعد الآخر في الحفرة التي حفروها، وكانت جريمة بشعة تضاف إلى جرائم اليهود التي لا حصر لها عبر التاريخ، قاتلهم الله. إنَّ لهم أثرًا سيئًا في كل مكان يحلون به وإن لهم جريمة في كل أرض يمسون ترابهم، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يمهلهم كثيرًا في نشوة انتصارهم، وعبر عن ذلك بقوله تعالى: (قُتِلَ أصْحَابُ الْأُخْدُودِ) أي أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أهلك اليهود ودمرهم بجريمتهم، ولقد كان هذا الشأن شأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ دائمًا معهم، فإنَّهم، بنص القرآن، كلما أوقدوا نارًا للحرب ـ متمشين في ذلك مع طبيعتهم ـ أطفأها الله وخذَلهم شرَّ خِذلان..(1/316)
في تفسير قول الله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
(سورة الزلزلة: 7،8)
وكل إنسان مجْزيٌّ يوم القيامة بعمله إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر هذه هي القاعدة الإسلامية، قاعدة العدالة والجزاء على ما قدم الإنسان من عمل، والصالحون دائمًا بين الخوف والرجاء، وهما شعار المؤمن التقي، ولقد قال سيدنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو مَنْ هو فضلًا وتقوى، وصلاحًا، إنابة إلى الله ورجوعًا إليه، لقد قال: "والله لا آمَنُ مِنْ مَكْرَ الله ولو كانت إحدى قدميَّ في الجنة".
بَيْدَ أنَّ فضل الله وكرمه ورحمته لا يحدُّها حدٌّ ولا يقيِّدها قيدٌ، مشيئته مطلقة، فإذا ما شاء عفا وغفر وهو الغفور الرحيم، ومن أجل ذلك وردت نصوص تبعث في النفس الرجاء وتُذهب اليأس والقنوط، منها الحديث التالي، وهو حديث صحيح، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنَّ الله يستخلص رجلًا من أمتي على رءوس الخلائق" ومنها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَنْ قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة" وكان أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ يسمع هذا الحديث من فم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال سائلًا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وإنْ زنَى، وإنْ سرق يا رسول الله؟ فأجاب ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وإنْ زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذرٍّ. على أن هذا الحديث نفسه حينما يلاحظ الإنسان قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (خالصًا من قلبه)
يعلم أن من قال لا إله إلا الله وتحقَّق إخلاص القلب بهذه الكلمة التي تزن الأرض والسماء فترجع فإنه لا يزني ولا يسرق ولو فرضنا أنه أثم، فإنه يرجع إلى الله مباشرة بالتوبة الخالصة النصوح والتوبة الخالصة النصوح تجبُّ ما قبلها..(1/317)
منهج الإيمان والرحمة في رحلة الحياة
أخرج الإمام أحمد والشيخان عن أنس بن مالك ابن صعصعة، أن النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ حدَّثهم عن ليلة أُسْريَ به، وكان ممَّا قال في هذا الحديث الصحيح: إن جبريل ـ عليه السلام ـ شقَّ عن صدره واستخرج قلبه الشريف ثم أتى بِطِسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مملوءة إيمانًا وحكمة، فغسل قلبي، ثم حُشِيَ، ثم أُعِيد.
وأخرج الشيخان من طريق يونس عن الزهري عن أنس قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فرج سقف بيتي وأنا في مكة، فنزل جبرائيل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري وأطبقه.
ثم بدأت الرحلة.
وكان أول مشهد شهده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو مشهد قوم في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا جبريل ما هذا: قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضِعْفٍ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.
وأول مشهد إذن بعد امتلاء القلب حكمة وإيمانًا هو مشهد الجهاد، وما من شك في أن القلب إذا امتلأ إيمانًا وحكمة فإن الجهاد يصبح في أوائل ما يحافظ عليه من شعارات جهاد النفس لتتزكى، وتزكية النفس لا حدَّ لها، والصفاء لا نهاية له، وهذا القرب هو غاية المؤمنين، ومن وقف منه عند حدٍّ معتقدًا أن هذا هو نهاية المطاف فإن هذا يكون دليلًا على أن همته بهمة السابقين السباقين.
وجهاد الأسرة حتى تستقيم والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..) ووقاية الأهل من النار هو جهادهم حتى يستقيموا ويمتنعوا عن الوقوع في المعصية فذلك هو وقايتهم.(1/318)
وجهاد المجتمع ليكون مجتمعًا مؤمنًا، وهذا الجهاد عنصر هام من عناصر خيرية الأمة الإسلامية والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ للنَّاسِ تَأْمُرونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).
ويقول سبحانه: (لُعِنَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ..) ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فيما رواه الترمذي وأبو داود: "والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف وتنهون عن المنكر أو لَيُوشِكَنَّ الله أنْ يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
ومن أسمى أنواع الجهاد هو جهاد العدو بالسلاح واللسان والمال، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (إنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ).
ويقول: (إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ... الْعَظِيمِ). هذا هو الجهاد الذي رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشهده أول ما رأى من مشاهد بعد أن ملأ قلبه الشريف حكمة وإيمانًا.
ولقد وصل الأمر في عقاب التاركين للجهاد أن ينذرهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنذرًا شديدًا.
فعن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه الطبراني بإسناد حسن ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وما ترك قوم الجهاد إلا عمَّهُم الله العذاب".(1/319)
في محبة الرسول
يقول الله ـ تعالى ـ في حديث قدسي: (مَنْ عادى وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي تمشي بها، وإن سألني أعطيتُه، وإن استعاذني لأُعيذنَّه).
وفي هذا الحديث الشريف يبدأ الله ـ سبحانه ـ بالتوجيه في قوة إلى صفاء القلب وطهارة النية لأوليائه.
وأولياؤه هم:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
ومَنْ عاداهم فإنما يعادي المؤمن التقي.
ونتيجة هذه العداوة ما يقوله الله تعالى: "آذنتُه بالحرب".
ثم يرسم الله ـ سبحانه ـ الطريق إلى حبِّه: وأول خطوة في هذا الطريق أداء ما فرضته عليه. ولن يتأتى حب الله ـ سبحانه ـ دون الشرط الأول: شرط القرب منه ـ سبحانه ـ وهو أداء الفرائض.
والحب دون أداء الفرائض زيفٌ وكذبٌ. بل إن أداء الفرائض شرط لحسن الظن بالله.
ولقد ترك قوم العمل وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا، كما يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
لابد من أداء الفرائض وإلا لما كان لمُهمِلها إلى القرب من الله ـ تعالى ـ من سبيل، ومع أداء الفرائض في جوِّ القرب ـ الإكثار من النوافل، فإذا أكثر من النوافل أحبه الله تعالى.
ويترتب على حبِّ الله ـ تعالى ـ للعبد هذا الخير الكثير الذي ذكره الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الحديث القدسي.
ويربط أسلافنُا ـ رضوان الله عليهم ـ ربطًا محكمًا بين محبَّة الله ـ سبحانه ـ واتباع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متناسقين في ذلك مع توجيه الله سبحانه.
(قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)
وهذا الربط معناه الربط بين محبة الله ـ تعالى ـ والعمل.(1/320)
ومقدمات محبة الله ـ تعالى ـ هي العمل، ونتيجة محبة الله هي العمل، يقول الإمام أبو سعيد الخراز: وبلغنا عن الحسن البصري ـ رضي الله عنهما ـ أن أناسًا قالوا على عهد رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا رسول الله، إنَّا نُحِبُّ ربَّنا حبًّا شديدًا فجعل الله ـ تعالى ـ لمحبته علمًا وأنزل ـ عزَّ وجلَّ ـ : (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).
فمِنْ صدق المحبة اتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هديه وزهده وأخلاقه، والتأسي به في الأمور، والإعراض عن الدنيا وزهرتها وبهجتها، فإن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ جعل
محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ علمًا ودليلًا وحجة على أمته.
ومِنْ صِدْقِ المحبة لله ـ تعالى ـ إيثار محبة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في جميع الأمور على نفسك وهواك، وأن تبدأ في الأمور كلِّها بأمره قبل أمر نفسك ويقول:
فعلامة الحب الموافقة للمحبوب، والتَّجارِي مع طرقاته في كل الأمور، والتقرب إليه بكل حيلة، والهرب من كل ما لا يُعينه على مذهبه.
أما عن صلة المحبة بالإيمان فإن الإمام الغزالى يقول: وقد جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة؛ إذ قال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما.
وفي حديث آخر:
"لا يؤمن العبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين".
وفي رواية: ومِنْ نفسه.
كيف وقد قال الله تعالى:
(قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).(1/321)
وإنما أجرى ذلك في مَعْرِض التهديد والإنكار.
ومن أجمل تعبيرات المحبين عن شعورهم ما يقوله يحي بن معاذ: "إلهي إنِّي مقيمٌ بفنائك، مشغولٌ بثنائك. صغيرًا أخذتني إليك، وسربلتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك، ونقلتني في الأحوال، وقلبتني في الأعمال: سترًا وتوبة وزهدًا وشوقًا، ورضًا وحبًّا، تسقيني من حياضك، وتمهلني في رياضك مُلازِمًا لأمرك، ومشغوفًا بقولك.. ولما طرَّ شاربي. ولاحَ طائري، فكيف أنْصَرِفُ اليومَ عنك كثيرًا، وقد اعتدتُ هذا منك صغيرًا، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة، لأني محبٌّ وكل محبٍّ بحبيبه مشغوف، وعن غير حبيبه مصروف.
وبعد: فإن ثمرة محبة الله ـ تعالى ـ هي ما قاله ـ سبحانه ـ عن أوليائه: (لَهُمُ البُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وهي أيضًا أن يجد حلاوة الإيمان. ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجد حَلاوة الإيمانِ:
1ـ أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليْهِ مِمَّا سواهما.
2ـ وأن يحبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا الله.
3ـ وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلْقَى في النار.
والآن نتحدث ـ إن شاء الله ـ عن المحبة عند الشبلي.
أمَّا عن أسبابها: فإنها فيما يرى نتيجة (الهمَّة) والهمَّة عند الصوفية هي التشمير والجد العبادة ويقول الشبلي: إنَّ من قلَّت همته ضعُفت محبته فمنه الهمة إذن صعودًا وهبوطًا تكون المحبة صعودًا وهبوطًا.
كفى حزنًا بالواله الصب أن يرى منازل من يهوى معطلة قفرًا
وسئل مرةً عن أعجب شيء فقال: من عرَف اللهَ ثم عصاه.(1/322)
في الاقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو القدوة الحسنة إنه الأسوة الحسنة في أقواله وأفعاله وأحواله: يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)
ويقول الشيخ الصاوي في شرحه على تفسير الجلايين "الاقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجب في الأقوال والأفعال والأحوال؛ لأنه لا ينطق عن هوًى، ولا يفعل عن هوًى بل جميع أفعاله وأقواله وأحواله عن ربه، لذا قال العارف:
وحصل بالهدى في كل أمر فليس تشاء إلا ما يشاء" أ. هـ
والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في سورة النجم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى).
وإذا كان الاقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجبًا فإن له شروطًا لا يتأتَّى الاقتداء الصحيح إلا بتحقيقها، وقد ذكرت الآية الكريمة هذه الشروط.
والشرط الأول منها: أن يرجو الإنسان الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورجاء الله ـ تعالى ـ قد حدده الله ـ سبحانه ـ في القرآن الكريم بقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
فالعمل الصالح وعدم الشرك في العبادة أمران لازِمَان لمن كان يرجو لقاء الله في صدق.
ويقول الإمام ابن كثير في ذلك: وهذان ركنا العمل المُتَقَبَّل: لابد أن يكون خالصًا لله، صوابًا على شريعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن طاووس قال:
قال رجل: يا رسول الله إني أقف الموقف أُرِيدُ وجه الله، وأحبُّ أن يُرَى موطني. فلم يَرُدَّ عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا حتى نزلت هذه الآية (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).(1/323)
ورجاءُ اليوم الآخر هو الشرط الثاني والتأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما في العمل لهذا اليوم حتى يلقي فيه وهو عنه راضٍ.
ويصف الله ـ سبحانه ـ الذين لا يرجون لقاءه، ولا يرجون اليوم الآخر فيقول: (إنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وبعد، فإن الشرط الأخير في الوصول إلى التأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذكر الكثير. ولقد سأل رجل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلًا:
إن شرائع الإسلام كَثُرَتْ عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا يزال فُوكَ رطبًا من ذكر الله.
الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقتدون به في كل شيء... أخرج البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجة عن سعيد بن يسار قال: كنت مع ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في طريق مكة فلم خشيت الصبح نزلت فَوَتَرْتُ، فقال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أليس لك في رسول الله أسوة حسنة؟ قلتُ: بلى. قال: فإنه كان يوتر على البعير وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه سأل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بالصفا والمروة؟ فقال : قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، وسعى بين الصفا والمروة ثم قرأ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).(1/324)
أخرج أحمد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن عمر ـ رضي الله عنه ـ أكبَّ على الركن فقال: إني لأعلم أنك حجر ولو لم أرَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبَّلَكَ واستلمك ما استلمتك وما قبَّلْتُك. لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة.(1/325)
في سيادة الرسول في التشهد وغيره.
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواضعًا لا يرى إلا جانب العبودية لله ـ سبحانه وتعالى ـ وينأى عن كل ما يمكنه أن يظهر فيه بعد ذلك.
فلمَّا سأله الصحابة كيف نصلي عليك قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
فلم يذكر اسمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأوصاف السيادة في هذا المجال. ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في معرض الحديث عما أنعم الله به يقول فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر.. وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيٍّ يومئذ ـ آدم فمن سواه ـ إلا تحت لوالى وأنا أول شافع وأول مشفَّع ولا فخر، فنحن أمام موقفين: موقف الوقوف عند حدِّ تعليم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصحابة، فلا
تذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوصف من أوصاف السيادة. وموقف الوقوف مع ما
يستحقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوصاف السيادة مما تحدث ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث ترك ذلك التبجيل والاحترام ليذكره بألفاظ السيادة من أراد وهو ما نراه، والأمر مع ذلك متروك لرغبة المسلم، ولكل وجهة وكلتا الوجهتين سليمة لا غبار عليها، بقي أن بعض الناس غالَى في ترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألفاظ السيادة، فحرَّم ذلك، ولمَّا لم يجد له مستندًا من الشرع اخترع من الأحاديث ما يوافق هواه ألا وهو حديث:
(لا تُسيِّدوني في الصلاة) إنه ليس بحديث إنه كما يقول السخاوي وغيره من علماء الحديث لا أصل له.
ومما له مغزاه في هذا الموطن أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لبعض الصحابة وقد حضر سعد ـ رضي الله عنه ـ: قوموا لسيدكم، ويقول سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه البخاري: أبو بكر سيدُنا وأعتق سيدَنا ـ يعني بلالًا، وإذا كان بلالٌ سيدَنا وأبو بكر سيدَنا فمن باب أولى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم.(1/326)
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله.(1/327)
في صفة خَاتَمِ النبي صلى الله عليه وسلم:
وردت الأحاديث الصحيحة في صفة خاتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما عليه من النقوش، روى الترمذي بسنده عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صنع خَاتَمًا من ذهب فتختم به في بيته، ثم جلس على المنبر فقال: "إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني"، ثم نبذه ونبَذ الناس خواتيمهم.
وبذلك بَيَّنَ حرمة اتِّخاذ الخواتم من الذهب.
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلبس الخاتم في يده اليمني قال الترمذي: وهذا أصحُّ شيء روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الباب وكان لخاتمه من الفضة نقش به وكان هذا النقش كما تبينه رواية الترمذي عن أنس ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.
ولقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يراعي حرمة اسم الله على الخاتم فكان إذا دخل الخلاء لقضاء الحاجة نزع خاتمه.
أما عن سبب وجود اسم الله على هذا الخاتم فلأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يختم به الخطابات التي يرسلها إلى رؤساء العالم وملوكه، فكان شعارًا للدولة الإسلامية، أو خاتمًا تختم به الخطابات الرسمية ليعبر عن صفة مرسله ومكانته.
ومما لا يخفى أن هذا النقش كان خاصًّا به ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يجوز لأحد تقليده فيه... لأنه لا رسول بعده، ولا يصح لأحد أن ينتحل شخصيته.
وكان خاتم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فضة فصه منه.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صنع خَاتمًا من ورق فنقش فيه (محمد رسول الله)
ثم قال: "لا تنقشوا عليه" .. قال الترمذي: وما معنى قوله: "لا تنقشوا عليه" نهى أن ينقش أحد على خاتمه: "محمد رسول الله".(1/328)
في صيام الاثنين والخميس:
كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع، ولما سئل عن صيامه قال:
يومٌ وُلِدت فيه، وأرسل إليَّ فيه، وهو يوم تُرفع فيه الأعمال إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وأُحب أن يُرْفَع عملي وأنا صائم.
وبهذا نرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن قيامه بواجب شكر الله ـ عزَّ
وجلَّ ـ على ما تفضل عليه به من نعمة إخراجه للوجود وإرساله إلى الناس، في هذا اليوم العظيم، يأمر أصحابه بصيامه شكرًا لله على تلك النعمة، التي أسبغها الله عليهم وليس أدلَّ على احتفالهم بمولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صيامهم لذلك اليوم.
ولا شك أن صيام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا اليوم العظيم يوم الاثنين وسنَّ صيامه للمسلمين من بعده يعتبر إحياءً لذكر مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعمل يُثاب عليه فاعله.
وقد كانت الموالد كلها فيما مضى من نشأتها طاعة لله ـ عزَّ وجلَّ ـ القصد منها إعطاء الطعام وذكر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وتعريف المسلمين بفضائل نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحثهم على متابعته.
أما ما يحدث في الموالد اليوم، مِنْ لَهْوٍ صارف عن طاعة الله، وطاعة رسوله، ومقارفةٍ للمعاصي إلا قليلًا من المحافظات على حرمات دينهم، فلم يكن له وجود فيما مضي، والموالد بحاجة إلى رعاية وتقويم وفرض عقوبات على كل مستهترٍ بدينه لا يرعى لله ولا لرسوله حرمة.(1/329)
في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف:
أما عن الاحتفال بالمولد النبوي فهو سُنَّة حسنة من السُّنن التي أشار إليها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: "ومَنْ سنَّ سُنَّة حسنة فله أجرُها وأجرُ مَنْ عَمِل بها، ومَنْ سنَّ سُنَّةً سيئة فعليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها".
وذلك لأنَّ له أصولًا ترشد إليه وأدلة صحيحة تسوق إليه، استنبط العلماء منها وجه مشروعيته. ومن هذه الأدلة ما يأتي:
1ـ سئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صوم الاثنين فقال:
"فيه وُلِدْتُ، وفيه أُنْزِل عليَّ". رواه مسلم.
فجعل ولادته في يوم الاثنين سببًا في صومه.
2ـ سئل ابن حجر عن هذا المولد فكان مما قال: "وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما يثبت في الصحيحين من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق اللهُ فيه فرعونَ ونجَّي موسي، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى. فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة".
والشكر لله يحصل على أنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ـ وأيُّ نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم.
أما التاريخ الذي ابتدء به هذا الاحتفال فقد قال السيوطي:
إن أول من أحدث فعل ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زيد الدين علي ابن بكتين، أحد الملوك الأمجاد والكبراء والأجداد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمر الجامع المظفري بسفح قيسون، وكان ذلك في القرن السابع.(1/330)
ولا يعني ترك السلف لهذا العمل الصالح مخالفتَه للشرع؛ لأن السلف الصالح كان عندهم من اليقظة الدينية وحبِّ النبي الكريم ما يُغنيهم عن التذكير بيوم مولده للاحتفال. ومما ينبغي التنبيه إليه أن الاحتفال بمولد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينبغي أن يكون باستعراض سُنَّته، والتذكير بدعوته، والاسترشاد بِهَديه، وأن يكون بالإكثار من العبادة والذكر والصدقة في سبيل الله، هذا ومما ينافى الاحتفال بهذه الذكرى اختلاط النساء بالرجال، وانتشار المفاسد والموبقات، والإقبال على المحرمات وما إلى ذلك مما هو معروف.(1/331)
لماذا لم يكن الصحابة والتابعون يحتفلون بمولد نبيِّنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم؟
كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع.. ولما سئل عن صيامه قال: "يوم وُلدت فيه وأرسل إلى فيه.. وهو يوم ترفع فيه الأعمال إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
وبهذا نرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضلًا عن قيامه بواجب الشكر لله ـ عزَّ وجلَّ ـ على ما تفضل عليه به من نعمة إخراجه للوجود، وإرساله إلى الناس في هذا اليوم العظيم يُسن لأصحابه صيامه شكرًا لله على تلك النعمة التي أسبغها الله عليهم، وليس أدل على احتفالهم بمولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صيامهم لذلك اليوم.
ولا شكَّ أن صيام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا اليوم العظيم يوم الاثنين ومن صيامه للمسلمين من بعده يعتبر إحياء لذكرى مولده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعمل يثاب عليه فاعله.
وقد كانت الموالد كلها فيما مضى من نشأتها طاعة لله ـ عزَّ وجلّ ـ القصد منها الطعام وذكر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وتعريف المسلمين بفضائل نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحثهم على متابعته، أمَّا ما يحدث في الموالد اليوم مِنْ لَهْوٍ وصرف عن طاعة الله، وطاعة رسوله ومقارفة للمعاصي إلا قليلًا من المحافظين على حرمات دينهم، فلم يكن له وجود فيما مضى.
والموالد بحاجة إلى رعاية وتقويمٍ وفرض عقوبات على كل مستهتر بدينه لا يرعى لله ولا لرسوله حرمة..(1/332)
في كيفية الصلاة على النبي:
كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ متواضعًا لا يرى إلا جانب العبودية لله ـ سبحانه وتعالى ـ وينأى عن كل ما يمكن أن يظهر فيه بعد ذلك.
فلما سأله الصحابة كيف نصلي عليك قال: قولوا: قولوا: اللهم صلِّ على محمَّد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وباركْ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركتَ على إبراهيم إنك حميد مجيد".
فلم يذكر اسمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأوصاف السيادة في هذا المجال ولكنّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مَعرِض الحديث عما أنعَم اللهُ به عليه يقول فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: "أنا سيدُ ولدِ آدمَ يوم القيامة، وأولُ من يَنشقُّ عنه القبرُ، وأولُ شافع، وأولُ مُشفَّع" وفي رواية أخرى: "أنا سيدُ ولدِ آدمَ يوم القيامة ولا فخرَ، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخرَ، وما من نبي يومئذ ـ آدمُ فمَن سواه ـ إلا تحت لوائي، وأنا أولُ شافع وأولُ مُشفَّع ولا فخرَ".
فنحن أمام موقفَين:
موقف الوقوف عند حد تعليم الرسول ـ صلى الله عليه والسلام ـ للصحابة، فلا نذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوصف من أوصاف السيادة.
وموقف الوقوف مع ما يَستحسنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوصاف السيادة مما تحدَّث ـ صلى الله عليه والسلام ـ عنها في مواطن أُخَرَ.
ويُحمل تركُه هذا الوصفَ في جواب الصحابة على أنه تواضع منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث ترك ذلك التبجيل والاحترام بذكره بألفاظ السيادة لمن أراد، وهو ما نراه.
والأمر مع ذلك متروك لرغبة المسلم، ولكلٍّ وجهةٌ، وكلتا الوجهتين سليمة لا غبار عليها.(1/333)
بَقيَ أن نقول: إن بعض الناس غالَى في ترك ذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألفاظ السيادة فحرَّم ذلك، ولمَّا لم يجد له مستَندًا من الشرع اخترع من الأحاديث ما يوافق ميوله، ألا هو حديث: (لا تُسيِّدوني في الصلاة) إنه ليس حديثًا، إنه ـ كما يقول السخاوي وغيره من علماء الحديث ـ لا أصل له، وعلى ذلك فلا مانعَ يَمنَعُ من ذكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألفاظ السيادة في التشهد وغيره امتثالًا لقوله تعالى: (لِتؤمنوا باللهِ ورسولِه وتعزِّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه بُكرةً وأصيلًا).
ومما مَغزاه في هذا الموطن أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لبعض الصحابة وقد حضر سعدٌ رضي الله عنه: "قوموا لسيدكم" ويقول سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه البخاري: أبو بكر سيدُنا وأَعتَقَ سيدَنا. يعني بلالًا. وإذا كان بلالٌ سيدَنا وأبو بكر فمِن باب أولى الرسولُ، صلى الله وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله.(1/334)
في دلائل الخيرات
إن "دلائل الخيرات" إنما هي صلواتٌ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تَمنع طريقةٌ من الطرق الصلواتِ على رسول الله؛ وذلك لأن الله أمرنا بالصلاة عليه، فقال سبحانه: (إن اللهَ وملائكتَه يُصلُّون على النبيِّ يأيها الذين آمَنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا) ورجالُ الطريقة التِّيجانية ومشايخُها يقرءون دلائل الخيرات، وكان الشيخ عمرُ غمبو خليفةُ التيجانية بالسودان يقرأ "دلائل الخيرات" هو وتلاميذه، وتابَعَ أبناؤُه قراءتَها من بعده، بل إنه توجد نسخة من "دلائل الخيرات" بحفظ العارف بالله الشيخ التيجاني الكبير شيخ الطريقة، ويقول فضيلة الشيخ الحافظ التيجاني خليفةُ الطريقة بمصر: إن الأوراد اللازمة في الطريقة يصح أداؤها بأية صيغة للصلاة على النبي، وأنه يجوز لقارئ وِرْدِ التيجاني أن يقرأ "دلائل الخيرات" بل إن في الطريقة التيجانية أحزابًا من الطريقة الشاذلية وضربِ النووي، ولا حرج على السالك أو المُريد مادام يلتزم طريقة واحدة لأن مَن انقطَع لشيء أَحسَنَه.(1/335)
في الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة
يقول الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا كافةً للناسِ بشيرًا ونذيرًا) وما كانت هذه الرسالة العامة لأحد من الرسل من قبله، فموسى ـ عليه السلام ـ أُرسل لبني إسرائيل خاصةً، لقد اقتَصرت دعوته على بني إسرائيل، لدرجة أنه حينما ذهب هو وهارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون قالا له: (إنا رسولاَ ربِّك فأرسِلْ معنا بني إسرائيل) فموسى ذهب إلى فرعون ليرسل معه بني إسرائيل، ولم يكافح سيدنا موسى الشعوبَ أو الأممَ في سبيل دعوته. وعيسى ـ عليه السلام ـ إنما أُرسل إلى (خِراف بني إسرائيل الضالة) على حد تعبيرهم القديم، ولم يحاول سيدنا عيسى أن يبشر بدعوته خارج فلسطين، ولم يحاول أن يجاهد من أجلها.
أما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه أُرسل إلى الناس جميعًا، إنه أُرسل إلى الناس جميعًا من حيث المكان وأُرسل إليهم جميعًا من حيث الزمان، فهو الرسول الدائم زمانًا ومكانًا (قل يأيها الناسُ إني رسولُ اللهِ عليكم جميعًا) وقد تكفَّل الله تعالى بحفظ الكتاب الذي أنزله على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضمانًا لهذا العموم في الزمان وفي المكان وتحقيقًا له (إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومن أجل هذا الوعد يُحفَظُ الوحيُ كاملًا غيرَ منقوصٍ صحيحًا غيرَ مزيَّف. إن الحكمة الإلهية في الإنسانية لا تحتاج إلى رسول بعد الرسول ولا إلى نبي بعد النبي، إنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ خاتم الرسل وخاتم الأنبياء.(1/336)
ولقد امتزج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ برسالته الخالدة، فكان هو هي شرحًا وتفصيلًا، وكانت هى هو بيانًا لمَعدَنه وجوهره وخلافةً له ونيابةً عنه. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان خُلُقُه القرآنَ. وهذه الكلمة من السيدة عائشة ـ رضوان الله عليها ـ تحتاج إلى تحديد وبيان؛ ذلك أن القرآن يحدد الخُلُقَ الكريم في حده الأدنى، ثم لا يقتصر على ذلك وإنما يرسم القمم من مكارم الأخلاق، ويوجه إلى السَّنَام منها، ويقود إلى المشارف العليا من درجات المقربين، فهل تريد السيدة عائشة، رضوان الله عليها، حينما تصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن خلقه القرآن، هل تريد الخلق الكريم في حده الأدنى؟ أو تريده في حده الأوسط؟ أو تريده في حده الأقصى؟
إن القرآن يحدد الدرجة التي وصل إليها الرسول ـ صلى الله عليها وسلم ـ من الخُلُق القرآني، فيقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وإنك لَعَلَى خُلُقِ عظيمٍ) هذه الآية القرآنية وصل إليها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنها ذِروتها وسَنَامها.
أول المسلمين
ولقد قال صلوات الله وسلامه عليه: "إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق" إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بُعث ليتمِّمَ المكارم الأخلاقية، ليتمِّمَها بذاته بسلوكه، وليتمِّمَها بقوله برسالته، إنه لم يُبعث لينشر الأخلاق الكريمة فحسب وإنما بُعث ليتمم مكارمها.(1/337)
ومكارم الأخلاق لم تكن قبل الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قد تمت، إن أول المسلمين لم يكن قد وُجد بعدُ، وكانت بذلك مكارم الأخلاق ناقصة، كان ينقصها أكملُ صفة لمكارم الأخلاق وهى إسلام الوجه لله إسلامًا تامًّا، إن الكائنات لم تكن قد وصلت ـ لا في نبيٍّ مرسَل ولا في ملك مقرَّب ـ إلى الذروة من إسلام الوجه لله. و"الذروة من إسلام الوجه لله" أو "أول المسلمين" ـ والتعبيران سواء ـ إنما هو الذروة من مكارم الأخلاق، إنه الكائن الرباني إنه أول المسلمين، أوَّلُهم بإطلاق وأولهم بالنسبة للملائكة وأولهم بالنسبة لبني آدم، أولهم قديمًا وأولهم إلى الأبد. إن أول المسلمين لم يكن قد وُجد بعدُ.
وكانت الإنسانية بذلك ناقصة، وكانت الكائنات كلها بذلك ناقصةً، كان الكون ناقصًا مادةً ومعنًى، كان نقصُه أن تتعطر أرضُه بأزكى الأجساد وأن يتعطر جوُّه بأزكى الأرواح، وكان لابد من وجود كائن بهذه المثابة يكمِّل الله به الدين ويتمُّ به النعمة، ويَرضَى رسالتَه دينًا عامًّا خالدًا للإنسانية جَمعاءَ، هو إسلام الوجه لله.
وينزل القرآن محدِّدًا إسلامَ الوجه لله وسائلَ، ومحدِّدًا إسلامَ الوجه لله غاياتٍ، ومحدِّدًا إسلامَ الوجه لله طرقًا وأساليبَ، ومحدِّدًا له بواعثَ وأهدافًا، ومن هنا كان من يبتغي غير الإسلام دينًا لا يُقبل منه، يقول الله تعالى: (ومن يَبتَغِ غيرَ الإسلامِ دينًا فلن يُقبَلَ منه) وكيف يُقبَلُ منه ما يَتنافَى مع إسلام الوجه لله!
إن إسلام الوجه لله هو الذروة من مكارم الأخلاق وهو جوهر التدين، إنه الدين القيم، إنه الدين الخالد والنص الوحيد، النص الإلهي الفريد في العالم كله الذي يبين كيفية إسلام الوجه لله إنما هو القرآن، وإذا ما وصل إنسان إلى إسلام الوجه لله كان بذلك في ذروة الإنسانية وفي الذروة من مكارم الأخلاق.(1/338)
ويتفاوت الناس في إسلام وجوههم لله، ولابد من يكون أحدُهم أولَ المسلمين، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولَهم بإطلاق مطلَق (قل إن صلاتي ونُسُكي ومَحيَاي ومَمَاتي للهِ ربِّ العالَمين. لا شريكَ له وبذلك أُمِرتُ وأنا أولُ المسلمين) ولم يَصف القرآنُ بـ (أول المسلمين) شخصًا آخرَ غيرَ الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومكارم الأخلاق لا يَحُدُّها ـ من حيث التبشير بها ـ مكان ولا يَحُدُّها زمان، بل لا يَحُدُّها عالَم من عوالم الله في الأرض أو السماء، من أجل ذلك كانت رسالته ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ رحمةً للعالمين، يقول تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالَمين).(1/339)
من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه يمثل الأخلاق القرآنية في ذروتها جعل الله، سبحانه وتعالى، له مكانة خاصة بين المسلمين. فهو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لأنه تمثَّل القرآن وحقَّقه وأصبح قرآنًا أصبح بذلك يمثِّل الحق بقوله، فلا ينطق عن الهوى ولا يعمل بالهوى، يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (قل إنني هداني ربي إلى صراطٍ مستقيمٍ دينًا قِيَمًا) بل إن طريق الدعوة نفسَه كان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يسير فيه معصومًا، وكل مَن يسير في الدعوة على نَسَقه إنما يَسير معصومًا بعصمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ التى منحها الله تعالى إياه (قل هذه سبيلي أدعو إلى اللهِ على بصيرةٍ أنا ومَن اتَّبَعني) ودعوتُه إذًا وطريقُ دعوته يسير فيهما على هدًى وعلى نور من ربه، ولذلك فإن (من يُطِعِ الرسولَ فقد أطاع اللهَ) ويعمِّم الله سبحانه الحكم تعميمًا ويُطلقه إطلاقًا، فيقول سبحانه: (وما آتاكم الرسولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتَهُوا) ويقول تعالى: (وإن تُطيعوه تَهتدوا) واتِّباعُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ علامةٌ على محبة الله تعالى لمن يتَّبعُه وسببٌ في حبه تعالى له (قل إن كنتم تُحبون اللهَ فاتبعوني يُحبِبْكم اللهُ) إن حب العبد لله لا يُفيد ما لم يَتخذ العبدُ الوسيلة الناجعة لذلك، وهذه الوسيلة هي اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/340)
ولقد قال الله، سبحانه وتعالى، في حديث قدسي رواه الإمام البخاري: "مَن عادَى لي وَليًّا فقد آذَنتُه بالحرب، وما يزال عبدي يَتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمعَه الذي يَسمع به، وبَصرَه الذي يُبصر به، ويدَه التي يَبطِش بها، ورجلَه التى يمشي بها، وإن سألني لأُعطِينَّه ولئن استعاذني لأُعِيذنَّه". وهذه النوافل التى ذُكرت في الحديث الشريف، والتي إذا أكثَرَ الإنسان منها بعد أداء الفرائض أحبه الله، إنما هي سلوك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنها طريق رسمه صلوات الله عليه وسلامه بقوله وبعمله، إنها سننه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ التي سَنَّها لينال الإنسان بها محبة الله سبحانه.(1/341)
من مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه أيضًا
وأحب اللهُ سبحانه رسولَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان هذا الرسول بعبوديته لله سبحانه حبيب الله، وبلَغ الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ بعبوديته التامة درجةَ أول المسلمين، كما سبق أن ذكرنا.
ولما كان أول المسلمين، وكان حبيبَ الله ونبيَّه ورسولَه، ميَّزه الله سبحانه وتعالى على بقية البشر بكونه خَيْرَهم، وهذا التمييز لا يُخرجه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ عن البشرية، فهو خير البشر، ومنتهى القول فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم، ولأنه خير البشر يقول الله تعالى مخاطبًا المؤمنين: (لا تجعلوا دعاءَ الرسول بينَكم كدعاءِ بعضِكم بعضًا).
إن الإنسان الذي خصه الله بالوحي واجتباه لرسالته واصطفاه ليكون باسمِه سبحانه بشيرًا ونذيرًا، إن هذا الإنسان الذي فضله الله على العالمين يجب أن نعرف له مكانته ونُنزِلَه في الشرف الذي أنزله الله فيه. إن هذا السراج المنير، إن هذا الرءوف الرحيم ينبغي ألاّ يُدعَى كما يُدعَى زيدٌ وعمرٌو، بمعنى: لا تُنادُوه باسمه فتقولوا: (يا محمد) ولا بكنيته فتقولوا: (يا أبا القاسم) بل نادُوه وخاطِبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير، بأن تقولوا: (يا رسول، يا نبيَّ الله، يا إمام المرسَلين، يا رسول رب العالمين، يا خاتم النبيين) وغير ذلك.(1/342)
ونستفيد من هذه الآية ـ كما يقول الشيخ الصاوي في حاشيته على "تفسير الجلالين" ـ أنه لا يجوز نداء النبي بغير ما يفيد التعظيم، لا في حياته ولا بعد وفاته، فبهذا يُعلَمُ أن من استَخَفَّ بجَنَابه ـ صلى الله على وسلم ـ فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة. ويقول الله سبحانه في أوائل سورة الحجرات: (يا أيها الذين آمَنوا لا تُقدِّموا بين يدَي اللهِ ورسولِه) أي: لا تتقدموا بأمر من الأمور قولًا كان أو فعلًا إلا إذا أَذِنَ الله ورسوله، وكل أمر ـ قولًا كان أو فعلًا ـ أتاه الإنسان بدون إذن الله ورسوله فإنه لا يقع على السَّنَن المستقيم، يقول الضحاك عن ذلك: هو عامٌّ في القتال وشرائع الذين. أى: لا تقطعوا أمرًا دون الله ورسوله (واتقُوا اللهَ إن اللهَ سميعٌ عليمٌ. يا أيها الذين آمَنوا لا تَرفعوا أصواتَكم فوقَ صوتِ النبيِّ ولا تَجهَروا له بالقولِ كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ) واحذروا إن فعلتم ذلك (أن تَحبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تَشعرون. إن الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسولِ اللهِ أولئك الذين امتَحَن اللهُ قلوبَهم للتقوى لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيمٌ).(1/343)
أما هؤلاء الذين أساءوا الأدب دون أن يَقصدوا، فأخذوا يُنادُونك من وراء الحجرات مناداةَ الأعراب الأجلاف، فإن عقولهم في الأغلبِ الأعمِّ ناقصةٌ (إن الذين يُنادُونك من وراءِ الحجراتِ أكثرُهم لا يَعقلون. ولو أنهم صبَروا حتى تَخرُجَ إليهم لكان خيرًا لهم واللهُ غفورٌ رحيمٌ) على أن مجرد الرغبة في الحديث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتاج تنفيذها إلى تقديم صدقة، يقول الله تعالى في سورة المجادلة: (يا أيها الذين آمَنوا إذا ناجيتم الرسولَ فقَدِّموا بين يَدَي نَجواكم صدقةً ذلك خيرٌ لكم وأَطهَرُ فإن لم تجدوا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ) وتدل الآية الكريمة على أن ترك تقديم الصدقة إثم، لأن من لم يجد الصدقة فإن موقف الله سبحانه منه ـ لعدم قدرته ـ المغفرةُ والرحمةُ، ولا تكون المغفرة والرحمة إلا على إثمٍ ما آتاه الإنسان، وعدم توفر الاستطاعة سبب مغفرة الله سبحانه.
وإذا حملكم خوف الفقر على ألاّ تفعلوا، وإذ قادكم الضعف الإنساني إلى ألاّ تنفِّذوا ذلك، ثم ندِمتم واستغفرتم، فتدارَكوه حتى يتوب الله عليكم، وأَثبِتوا حسنَ نيتكم وصفاءَ سِريرتكم بأن تُقيموا الصلاة على الوجه الأكمل، وتؤتوا الزكاة طيبةً بها نفوسُكم، وتطيعوا الله ورسوله في الصغير والكبير، وما من ريب في أن الله سبحانه خبير بكل ما تعملون، يقول الله تعالى: (أأشفَقتُم أن تُقدِّموا بين يَدَي نَجواكم صدقاتٍ فإذ لم تفعلوا وتاب اللهُ عليكم فأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاةَ وأطيعوا اللهَ ورسولَه واللهُ خبيرٌ بما تعملون).(1/344)
وبعد، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فَخرَ" ويقول الله تعالى: (يا أيها النبيُّ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا. وداعيًا إلى الله بإذنِه وسِراجًا مُنيرًا. وبشِّر المؤمنين بأن لهم من اللهِ فضلًا كبيرًا) هذا جانب من مكانة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي أحبَّها الله له والتي نبَّه عليها سبحانه في كتابه العزيز.(1/345)
في طاعة رسول الله من طاعة الله
وجانب آخر أحبه الله تعالى لرسوله نريد أن نبينه، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد فرض طاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقرونةً بطاعته، بل لقد ذكرها الله سبحانه وتعالى وحدها باعتبارها فرضًا.
ويقول الله تعالى: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسولُه أمرًا أن يكونَ لهم الخِيَرةُ من أمرِهم ومن يَعصِ اللهَ ورسولَه فقد ضل ضلالًا مبينًا) ويقول تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا استَجيبوا للهِ وللرسولِ إذا دعاكم لِمَا يُحييكم) ويقول سبحانه: (قل أطيعوا اللهَ والرسولَ فإن تَوَلَّوا فإن اللهَ لا يحب الكافرين) وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الإعراض عن طاعة الله أو عن الرسول كفر، وما من شكٍّ في أنه كفر؛ ذلك أن الإيمانَ من أركانه الإيمانُ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبأن كل ما أتَى به صِدقٌ، فالتولِّي عنه استخفافًا أو جحودًا وإنكارًا أو عنادًا ومُمَاراةً ذلك كلُّه كفر يَخرج به المُعرِضُ عن دائرة الإسلام، يقول الله تعالى في طاعة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حينما يُفرده بالحديث: (فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسِهم حَرَجًا مما قَضَيتَ ويسلِّموا تسليمًا) ويقول تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الذين يُخالِفون عن أمرِه أن تُصيبَهم فتنةٌ أو يُصيبَهم عذابٌ أليمٌ).(1/346)
ويَجعل سبحانه وتعالى طاعةَ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طاعته، فيقول سبحانه: (مَن يُطِعِ الرسولَ فقد أطاع اللهَ) ويَجعل بَيعتَه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بيعةً لله، فيقول سبحانه: (إن الذين يُبايعونك إنما يُبايعون اللهَ يدُ اللهِ فوق أيديهم فمن نكَث فإنما يَنكُثُ على نفسِه ومن أوفَى بما عاهَد عليهُ اللهَ فسيُؤتيه أجرًا عظيمًا) وطاعةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هى فيما افترَضه الله سبحانه أو سَنَّه وفيما افترَضه رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أو سَنَّه.(1/347)
وقد تابَع الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآنَ الكريم في بيانه لمنزلة السنة ووجوب اتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما سَنَّه، فلقد حث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تبليغ السنة ونشرها، فقال فيما رواه أبو داود والترمذي عن زيد بن ثابت: "نضَّر اللهُ وَجْهَ امرئٍ سَمع مقالتي فحَفِظها ووَعَاها فأداها كما سَمِعها، فرُبَّ مبلَّغٍ أوعَى من سامعٍ" ورُوي في معناه من طريق آخر: "رَحم اللهُ امرأً سَمِع مقالتي فأداها كما سَمِعها، فرُبَّ مبلَّغٍ أوعَى من سامعٍ" فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر الصحابة أن يبلِّغ الشاهدُ منهم الغائبَ، فيقول فيما رواه أبو بكر: "ألاَ فَلْيُبْلِغْ الشاهدُ منكم الغائبَ" ولقد روَى الحاكم والبيهقي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تركتُ فيكم أمرَين لن تَضِلُّوا ما تَمسَّكتم بهما: كتابَ الله وسُنتي" ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبة الوداع: "إن الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم، ولكن رَضيَ أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تَحقِرون من أعمالِكم، فاحذَروا. إني تركتُ فيكم ما إن اعتَصمتم به لن تَضِلُّوا أبدًا: كتابَ اللهِ وسُنتي" ويبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري عن أبي هريرة أن المسلمين سيَدخلون الجنة إلا مَن لا يَرغب منهم في ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: كلُّ أمَّتي يَدخل الجنةَ إلا مَن أبَى" قالوا: يا رسول الله، ومَن يَأبَى؟ قال: "مَن أطاعني دخَل الجنةَ ومَن عصاني فقد أبَى".(1/348)
في مكانة السُّنَّة من القرآن
وسُنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها مكانتها بالنسبة إلى القرآن ولها مكانتها بالنسبة إلى التشريع، إنها المصدر الثاني بعد القرآن للإسلام، إنها المصدر الثاني للإسلام باعتباره عقيدةً، والمصدر الثاني للإسلام باعتباره تشريعًا، والمصدر الثاني للإسلام باعتباره أخلاقًا.
أما منزلتها بالنسبة إلى القرآن فإنها حسَبما يقول الإمام الشافعي: وسنن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع كتاب الله وجهان: أحدهما، نصُّ كتاب. فاتَّبَعه رسول الله كما أنزل الله. والآخر، جملةٌ بيَّن رسول الله فيها عن الله معنَى ما أراده بالجملة، وأوضح كيف فرضها عامًّا أو خاصًّا، وكيف أراد أن يأتيَ به العباد. وكلاهما اتَّبَع فيه كتابَ الله.
وفي كلمة أخرى يبين الإمام الشافعي الوجهن فيقول: أحدهما ما أنزل الله فيه نصَّ كتاب، فبين رسول الله مثل ما نصَّ الكتاب. والآخر مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب، فبين رسول الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان لم يختلف فيهما أحد من الفقهاء ولا من المحدِّثين.
يقول الإمام الشافعي: هذان الوجهان اللذان لم يُختلف فيهما.
والوجه الأول بيَّن بنفسه أنه من الواضح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبين القرآن عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، على وجوهٍ شتّى وعلى أنحاء مختلفة، وعلى أساليبَ تَختلف في الإيجاز والإسهاب بحسب حالة المخاطب، يقول الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكرَ لِتُبيِّنَ للناسِ ما نُزِّل إليهم) والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم بسلوكه وبقوله وبإقراره، يقول صلوات الله عليه وسلامه: "ما تركتُ شيئًا مما أمرَكم اللهُ به إلا وقد أمرتُكم به، ولا تركتُ شيئًا مما نهاكم اللهُ عنه إلا وقد نَهيتُكم عنه".(1/349)
ولكن بيان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يشتمل أيضًا على بيان ما أُجمِلَ في كتاب الله، وهذا الوجه كثير في السنة، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
قال تبارك وتعالى: (إن الصلاةَ كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا) وقال: (وأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاةَ) وقال: (وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ للهِ) ثم بيَّن على لسان رسوله عدد ما فرَض من الصلوات ومواقيتَها وسننَها وعددَ ركعاتها، والزكاةَ ومواقيتَها، وكيفيةَ عمل الحج والعمرةِ، وحيث يزول هذا ويَثبُت، وتَختلف سُنَنُه وتتفقُ، ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسنة ا.هـ.
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين كيفية الصلاة بقوله وعمله، كأن يبيِّن أوقاتها وأركانها وعدد ركعاتها وافتتاحها وترتيب حركاتها بعد الافتتاح، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي" ويبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مناسك الحج؛ أركانه وواجباته وسننه ويقول: "خذوا عني مناسكَكم" وفرض الله سبحانه وتعالى الزكاة ولم يبين مقادير لها، ولم يذكر بالتفصيلِ الزروعَ والثمارَ والأموالَ التي تجب فيها الزكاة، فبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك كله وطبَّقه.
ولقد بيَّنَت السنة أن القاتل لا يَرِثُ، وأن الوصية لا تكون في أكثر من الثلث، وأن الدين يُقدَّم على الوصية، هذا وكثيرٌ غيره مما بيَّنَته السنة.
عن عمران بن حُصين ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لرجل يريد أن يقتصر على القرآن دون السنة: إنك امرؤٌ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهرَ أربعًا لا يُجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدَّد عليه الصلاةَ والصيام الزكاةَ ونحوَ هذا، ثم قال: أتجد ذلك في كتاب الله مفسَّرًا؟ إن كتاب الله أَبهَمَ هذا. قال: والسنة تفسر ذلك.
ولقد قيل لمطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير: لا تحدِّثونا بالقرآن. فقال: والله ما نَبغي بالقرآن بدَلًا، ولكن نريد من هو أعلم مِنّا بالقرآن.(1/350)
ويقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ومَن قَبِلَ عن رسول الله فعن الله قَبِلَ؛ لِمَا افتَرَضَ الله من طاعته.(1/351)
في مكانة السنة من التشريع
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُشرِّعُ عن الله تعالى فيما لا نص فيه من كتاب الله. إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث معاذ بن جبل، رضي الله عنه، إلى اليمن فقال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء" قال: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم يكن في كتاب الله" قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله" قال: أجتهد رأيي ولا آلُو. فضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لِمَا يُرضي رسولَ الله.
وسيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، التي بدأها بقوله: (سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكَمة وسنة متَّبَعة) ويقول سيدنا عمر في هذه الرسالة: (الفَهمَ الفَهمَ فيما تَلَجلَجَ في صدرك مما ليس في كتاب والسنة) فجعل سيدنا عمر السنة مصدرًا من مصادر التشريع.
ولقد سئل سيدنا أبو بكر، رضي الله عنه، عن ميراث الجد فقال: ما لك في كتاب الله من شيء، ولكنْ أسألُ الناس. فسألهم فقام المغيرة بن شعبة ومحمد بن مَسلَمة فشَهِدَا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطاه السدس.
ولم يكن سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يعلم سُنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى رضي الله عنه (فبيَّن أن الاستئذان ثلاث، فإذا لم يُؤذَنْ له انصرَفَ)
ولم يكن يعلم أن المرأة تَرِثُ من دِيَة زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان أمير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بعض البوادي يخبره أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورَّث امرأةَ أَشْيَمَ الضبابي من دِيَة زوجها.
ولم يعلم حكم المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب".(1/352)
ولما قدم "سَرغ" وبلَغه أن الطاعون بالشام، استشار المهاجرين الأوَّلِين الذين معه ثم الأنصار ثم مُسلِمة الفتح، فأشار كلٌّ عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسُنّة، حتى قدم عبد الرحمن بن عوف فأخبره بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الطاعون، وأنه قال: "إذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تَخرجوا فِرَارًا منه، وإذا سَمِعتم به بأرضٍ فلا تَقدَموا عليه".
وهذا عثمان، رضي الله عنه، لم يكن عنده علم بأن المتوفَّى عنها زوجُها تَعتدُّ في بيت زوجها، حتى حدثته الفُريعة بنت مالك أختُ أبي سعيد بقضيتها لما تُوفِّيَ زوجها وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: "امكُثي في بيتك حتى يَبلُغَ الكتابُ أجلَه" فأخذ به عثمان.
ولقد روى الحاكم ما يلي: حرَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشياءَ يوم خيبر، منها الحمارُ الأهليُّ وغيرُه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يقعد الرجلُ منكم على أريكتِه فيُحدَّثَ بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتابُ الله، فما وجدنا فيه حلالًا استَحلَلناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه. وإن ما حرَّم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما حرَّم الله".
ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود عن عُبيد بن أبي رافع عن أبيه: "لا أُلفِيَنَّ أحدَكم متَّكِئًا على أَريكتِه يأتيه الأمرُ من أمري، مما أمَرتُ به أو نَهَيتُ عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتَّبَعناه".
روى أن أبو داود والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن مَعدِ يكَرِبَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألاَ إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه، ألا يوشكُ رجلٌ شبعانُ على أريكتِه، يقول: عليكم بهذا القرآنِ، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحَرِّموه. ألاَ وإن ما حرَّم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما حرَّم الله".(1/353)
وعن حسان بن عطية أنه قال: كان جبريل عليه السلام يَنزل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسنة كما يَنزل عليه بالقرآن، ويعلِّمه إياها كما يعلِّمه القرآنَ. وعن مكحول قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "آتاكم اللهُ القرآنَ ومن الحكمة مِثلَيْهِ" أخرجهما أبو داود في مراسيله.
وقيل لمطرِّف بن عبد الله: لا تحدِّثونا إلا بالقرآن. فقال: واللهِ ما نَبغي بالقرآنِ، ولكن نريد من هو أعلم مِنّا بالقرآن.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لعن اللهُ الواشماتِ والمستوشِماتِ والمتنمِّصاتِ والمتفلِّجاتِ للحُسنِ المُغيِّراتِ خَلْقَ اللهِ" فبلَغ ذلك امرأةً من بني أسد فقالت: يا أبا عبد الرحمن، بلغني أنك لعنت كَيتَ وكَيتَ! فقال: "وما لي لا ألعن من لعنه رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في كتاب الله! فقالت المرأة: لقد قرأتُ ما بين لَوحَي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنتِ قرأتِه فقد وجدتِه، أما قرأتِ (وما آتاكم الرسولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتَهُوا) قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن يذكر الإمام الشافعي الوجوه الثلاثة:
1ـ بيان السنة للكتاب على ما في الكتاب.
2ـ بيان السنة لمُجمَل الكتاب.
3ـ ما بيَّن رسولُ الله فيما ليس فيه نصُّ كتاب.(1/354)
يقول: وذلك ما نريد أن ننتهيَ إليه، وهو بيِّنٌ في وضوح من كل ما ذكرنا. وأيَّ هذا كان فقد بيَّن الله أنه فرض فيه طاعةَ رسوله، ولم يَجعل لأحد من خلقه عذرًا بخلافِ أمرٍ عرَفه من أمر رسول الله. وإنْ جعل اللهُ بالناس كلِّهم الحاجةَ إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلَّهم عليه ـ من سُنن رسول الله ـ مَعاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه ليعلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ كانت سُنَّةً مبيِّنةً عن الله معنَى ما أراد من مفروضِه فيما فيه كتابٌ يَتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب آخر ـ فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ رسوله، بل هو لازم بكل حال.(1/355)
في تدوين السنة
بدأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العهد المكي يبشر بالقرآن الكريم ورسالة التوحيد سرًّا ثم جهرًا، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلقي بالأضواء كلها على القرآن.
1ـ ذلك أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وهو بأسلوبه معجِز، وهو بمعناه يأخذ بالأفئدة، وهو بعظاته يتملك القلوب، وهو بمَنطِقِه يسيطر على العقول.
2ـ ثم إن موضوع القرآن في هذه الفترة كان موضوعًا محدَّدًا، لقد كان جملةً من القضايا تتصل بالغيب، الغيب الإلهيَّ، أو بتعبير آخر: توضيح العقيدة توحيدًا ورسالة وبعثًا، وكان أسلوب القرآن في ذلك واضحًا لا لبس فيه بَيِّنًا بيانًا سافرًا.
3ـ وخَشيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يضيف الناس شيئًا من كلامه إلى القرآن ويَخلِطوه به وربما أسرفوا في هذه الإضافة، فلا يَستبين الناس الفواصل والفروق بين الأسلوب القرآن الإلهي والأسلوب النبوي حينما يَتلونهما في أول العهد بالإسلام مُمتزِجَينِ لا تَمييزَ بينهما. إن معالم الأسلوب القرآني واضحة، وكلام الله سبحانه أينما كان يتميز بصفات تجعله بمَعزِل عن غيره، ولكن لابد من إيجاد الفرصة الكافية لتَرتسم هذه المعالم في النفوس، أي لابد من تقويم القرآن خالصًا صافيًا لا يمتزج به غيره، لابد من تقديمه كما أُنزل في ثوبه الإلهي البحت حتى تصبح المعالم ـ معالمَ الإعجاز المُعجِز ـ بيِّنةً سافرة. من أجل ذلك نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كتابة حديثه صلوات وسلامه عليه.
4ـ على أن هذه الآيات القرآنية في العهد المكي وهي تشرح التوحيد وتوحيد الله في الصفات، إنها وهو تشرح الهَيمَنة الإلهية على الكون، على العوالم، جميع العوالم، ليست في حاجة إلى بيان أوضح أو إلى تعبير أقوى، بل أنه لا يَتأتَّى أن يكون هناك بيان أوضح أو تعبير أقوى.(1/356)
إنها وهي تهدم الشرك وتداك حصونه تقول مثلًا: (قل الحمدُ للهِ وسلامٌ على عبادِه الذين اصطَفَى آللهُ خيرٌ أما يُشركون. أمَّن خلَق السمواتِ والأرضَ وأنزَل لكم من السماءِ ماءً فأنبَتنا به حدائقَ ذاتَ بهجةٍ ما كان لكم أن تُنبِتوا شجرَها أإلهٌ مع اللهِ بل هم قومٌ يَعدِلون. أمَّن جعَل الأرضَ قرارًا وجعَل خلالها أنهارًا وجعَل لها رَواسيَ وجعَل بين البحرين حاجزًا أإلهٌ مع اللهِ بل أكثرُهم لا يعلمون. أمن يُجيبُ المضطَّرَّ إذا دعاه ويَكشِفُ السوءَ ويجعلُكم خلفاءَ الأرضِ أإلهٌ مع اللهِ قليلًا ما تَذَكَّرون. أمَّن يَهديكم في ظلماتِ البرِّ والبحرِ ومن يُرسِلُ الرياحَ بُشرًا بين يدَي رحمتِه أإلهٌ مع اللهِ تعالى الله عما يُشركون. أمَّن يَبدأُ الخلقَ ثم يُعيدُه ومن يَرزقُكم من السماءِ والأرضِ أإلهٌ مع اللهِ قل هاتوا برهانَكم إن كنتم صادقين) إنها حينما تقول ذلك لا تحتاج إلى شرح أو تفسير.
وهى حينما تتحدث عن العبث تقول: (ونُفِخَ في الصورِ فصَعِقَ من في السمواتِ ومن في الأرضِ إلا من شاء اللهُ ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام يَنظرون. وأشرَقت الأرضُ بنورِ ربِّها ووُضِعَ الكتابُ وجِيءَ بالنبيين والشهداءِ وقُضيَ بينهم بالحقِّ وهم لا يُظلَمون. ووُفِّيَت كلُّ نفسٍ ما عَملت وهو أعلَم بما يفعلون) ليست بحاجة إلى شرح أو تفسير.
وهى حينما تتحدث عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزول القرآن عليه تقول: (نزَل به الروحُ الأمينُ. على قلبِك لتكونَ من المنذِرِين. بلسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ) ليست بحاجة إلى شرح أو تفسير.
ثم هي حينما تقول ترغيبًا وتبشيرًا: (إن أصحابَ الجنةِ اليوم في شُغُلٍ فاكِهون. هم وأزواجُهم في ظلالٍ على الأرائك مُتَّكِئون. لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يَدَّعون. سلامٌ قولًا من ربٍّ رحيمٍ) فليست بحاجة إلى شرح أو تفسير.(1/357)
وحينما تقول موعظةً وإنذارًا: (ويومَ يُحشَرُ أعداءُ اللهِ إلى النارِ فهم يُوزَعون. حتى إذا ما جاءوها شَهِدَ عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودِهم لم شَهِدتم علينا قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطَقَ كلَّ شيءٍ وهو خلَقكم أولَ مرةٍ وإليه تُرجَعون. وما كنتم تَستتِرون أن يَشهَدَ عليكم سمعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم ولكن ظننتم أن اللهَ لا يَعلَمُ كثيرًا مما تَعملون. وذلكم ظنكم الذي ظنَنتم بربِّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين. فإن يَصبروا فالنارُ مَثوًى لهم وإن يَستَعتِبوا فما هم من المُعتَبِين) فليست بحاجة إلى شرح أو تفسير.
5ـ ثم إن الموضوعات التي تتحدث فيها هذه الآيات المكية موضوعات غيبية، والموضوعات الغيبية دقيقة وغاية في الدقة، فهل إذا تحدث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الموضوعات ونقل عنه هؤلاء شفويًّا، وهم حديثو عهد بالإسلام وقريبو عهد بالجاهلية الوثنية هل سيُحسنون التعبيرَ عنها أو يقولونها كما تحدث بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دقته الدقيقة وفهمه الواعي عن الله سبحانه وتعالى؟ من أجل ذلك أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألاّ يُكتَبَ عنه غيرُ القرآن، وحكمة هذا الأمر وتعليله واضح كل الوضوح مما ذكرنا.
ولكن في فترة العهد المدني تغير الوضع؛ ها هو ذا الإسلام ينتشر انتشارًا واسعًا وسريعًا، وها هي ذي الأمة الإسلامية الناشئة المؤمنة القوية تَبعث الأملَ واسعًا في أن دين الله سينتشر في الأفاق، وسيعم نورُه الأقطارَ، وستحطم كلمةُ الحق صروحَ الباطل، وسيُتم اللهُ نورَه ولو كره المشركون، وسيعُم لَأْلَاؤُه برغم أنوف الكافرين. ومن أجل هذه الأمة بدأ الوحي ينزل أرسالاً أرسالاً بالتشريع في جميع ألوانه: تشريع دولي، وتشريع جنائي، وتشريع مدني، وتشريع للعبادة، وتشريع للأحوال الشخصية.(1/358)
لقد بدأ التشريع الإلهي بتنظيم حياة الفرد عبادةً ومعاملةً: حياته مع نفسه، وحياته مع أمته، وحياته مع الله تعالى. لقد أخذ ينظم حياة الإنسان منذ أن يستيقظ في الصباح إلى أن ينتهيَ به الأمر إلى الصَّحو من جديد في صباح تالٍ، وينظم حياته من أسبوع إلى أسبوع، ومن شهر إلى شهر، ومن عام إلى عام، وينظم حياته في ذاته، وينظم حياته في أسرته، وينظم حياته في مجتمعه الإسلامي كله في الكون كله. وما كان يَتأتَّى أن يَتعرَّضَ الوحيُ في ذلك للتفصيلات المفصَّلة ولا للجزئيات الجزئية التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، ولكنه كان يفصِّل تفصيلاً يُشبه أن يكون تامًّا في الأمور التي تكون عادةً مَثَارَ النزاع، وخصوصًا الماليات كالميراث وكتابة الدَّين مثلًا، ويضع قواعد شاملة تتضمن الجزئيات المتعددة في موضوعات أخرى، وكان لابد من أن يستفيض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البيان والشرح والتفسير.
وكان المسلمون قد أَلِفُوا الجو الإسلامي وأَلِفُوا الأسلوب القرآني، وعرَفوا مفهوم الشرك ومفهوم التوحيد، وتَبَيَّنَت لهم الفروق بين العلم والجهل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين توجيه الوجه للذي فطَر السموات والأرضَ وتوجيهِه للأصنام أو الشهوات أو اللهو، ولم يكن هناك من خوف على خلط أسلوب القرآن الكريم بغيره، وكان لابد من تقييد شروح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتفسيراته.(1/359)
لم تكن هناك ظروف تُوجِبُ عدمَ كتابة الحديث وكانت هناك ظروف توجب كتابته، ومن أجل ذلك أباح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابته بعد أن كان قد نهى عنها وبدأ الصحابة رضوان الله عليهم يكتُبون، روى الإمام البخاري في كتاب "العلم" باب: كتابة العلم. قال: حدثنا محمد بن سلام قال: أخبرنا وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي جُحَيفة قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتابُ الله، أو فَهمٌ أُعطِيَهُ رجلٌ مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفِكَاكُ الأسير، و: لا يُقتَلُ مسلم بكافر. ويَروي الإمام البخاري: حدثنا أبو نُعيم الفضل بن دُكين قال: حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأُخبر بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فركب راحلته، فخطب فقال: "إن الله حبس عن مكة القتلَ أو الفيلَ وسلَّط عليهم رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين، ألاَ وإنها لم تَحِلَّ لأحدٍ قبَلي ولم تَحِلَّ لأحدٍ بعدي، ألا وإنها حَلَّت لي ساعة من نهار، ألاَ وإنها ـ ساعتي هذه ـ حرامٌ؛ لا يُختلَى شوكُها ولا يُعضَدُ شجرُها ولا تُلتَقطُ ساقطتُها إلا لمُنشِد، فمن قُتل فهو بخير النظرَين: إما أن يُعقَلَ وإما أن يُقادَ أهلُ القتيل" فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال: "اكتُبوا لأبي فلان" فقال: رجل من قريش: إلا الإذخِرَ، يا رسول الله، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخِرَ إلا الإذخِرَ" قال: أبو عبد الله: يقال يُقاد، بالقاف. فقيل لأبي عبد الله: أىَّ شيء كتَب له. قال: كتَب له هذه الخطبة.(1/360)
ويقول البخارى: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا عمرو قال: أخبرني وَهْب بن منبِّه عن أخيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدٌ أكثرَ حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرٍو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. تابَعَه معمر عن همام عن أبي هريرة. انتهى. البخاري.
ولقد اشتهرت كتابة عبد الله بن عمرٍو لكل ما يصدُر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لقد نُوقش في ذلك من بعض القرشيين، يقول حسبما يُروَى في سنن الدارِمي وغيره: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: "اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق".
ورُوي عن أبي هريرة ـ كما يذكر الترمذي ـ أن رجلًا من الأنصار كان يشهد حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يحفظه فيسأل أبا هريرة فيحدثه، ثم شكا حفظه إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "استَعِنْ على حفظك بيمينك" أي بالكتابة.
ورُوي عن رافع بن خَديج كما يُذكر في كتاب "تقييد العلم" أنه قال: قلنا: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟ قال: "اكتبوا ولا حرج".
على أنه قد رُوي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كتب كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمر بن حزم وغيره، كما يَروي ذلك صاحبُ كتاب "جامع بيان العلم وفضله".
هذا ما كان من بعض الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/361)
وتكثر الروايات فيما كان من كتابة الصحابة بعد انتقاله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى الرفيق الأعلى، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي عثمان النَّهدي قال: كنا مع عتبة بن فَرقَد فكتب إليه عمر بأشياء يحدثه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان فيما كتب إليه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَلبَسُ الحريرَ في الدنيا إلا من ليس له في الآخرة منه شيء، إلا هكذا" وقال بإصبعيه السبابة والوسطى. قال أبو عثمان: فرأيت أنها أزرار الطيالسة. ولقد كان بعض الصحابة ينقل عن بعضٍ، فعروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ ينقل عن خالته السيدة عائشة رضوان الله عليها فتقول له: يا بنيَّ، بلغني أنك تكتب عنِّي الحديث ثم تعود فتكتبه. فقال لها: أسمعه منك على شيء ثم أعود فأسمعه على غيره. فقالت: هل تسمع في المعنى خلافًا؟ قال: لا. قالت: لا بأس بذلك.
وبَشير بن نَهيك يكتب عن أبي هريرة ويجيزه أبو هريرة بالرواية عنه، يقول بشير كما يذكر كتاب "السنة قبل التدوين: نقلا عن كتاب "المحدِّث الفاضل" وغيره: أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبته، فقرأته عليه، فقلت: هذا سمعته منك؟ قال: نعم.
وكان لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ألواح يكتب فيها عن الصحابة، مثل أبي رافع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل لقد وصل الأمر بأنس، رضي الله عنه، الذي لازم رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ملازمة تكاد تكون تامةً طيلة عشر سنوات أنه كان يُملي الحديث على جموع من الطالبين، فإذا أكثر الناس واحتاجوا إلى صحف يكتبون فيها جاء إليهم بها من عنده فألقاها إليهم ثم قال: هذه أحاديث سمعتها وكتبتها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعرضتها عليه.
وكان يقول ـ رضي الله عنه ـ لبنيه: يا بنيَّ قَيِّدوا العلم بالكتاب.(1/362)
وكان الصحابة يتراسلون في الأحاديث، يستفسرون ويتذاكرون، فمعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، يكتب للمغيرة بن شعبة رضوان الله عليه عدة مرات يستفسر عن بعض ما يرويه المغيرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيجيبه المغيرة بن شعبة مرةً عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ مثلًا ـ يقول في ختام كل صلاة: "اللهم لا مانعَ لما أعطيت، ولا مُعطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ" ويجيبه مرة أخرى بأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
ويكتب زياد بن أبي سفيان إلى السيدة عائشة، رضوان الله عليها، يسألها عن مسائل تتعلق بالحج، ويذكر لها فتوى ابن عباس، رضي الله عنه، فتكتب له بما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله في الحج.
ويصف المرحوم الأستاذ مصطفى السباعي بعض الجهود التي قام بها الصحابة لجمع الحديث فيقول في نهاية حديثه عن تلك الجهود:(1/363)
فلما كان عهد عثمان سُمح للصحابة أن يتفرقوا في الأمصار واحتاج الناس إلى الصحابة، وخاصة صغارهم، بعد أن أخذ الكبار يتناقصون يومًا بعد يوم، فاجتهد صغار الصحابة بجمع الحديث من كبارهم فكانوا يأخذونه عنهم. كما كان يرحل بعضهم إلى بعض من أجل طلب الحديث، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد، وأحمد والطبراني والبيهقي، واللفظ له، عن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم أسمعه، فابتَعتُ بعيرًا فشددتُ عليه رَحلي ثم سرت إليه شهرًا حتى قدمت الشام، فإذا هو عبد الله بن أُنيس الأنصارى، فأتيته فقلت له: حديثٌ بلغنى عنك أنك سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المظالم لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "يُحشر الناس غُرْلًا بُهْمًا" قلنا: وما بُهْمٌ؟ قال: "ليس معهم شيء، فيناديهم نداء يَسمعه من بعُد كما يَسمعه من قرُب: أنا الدَّيَّان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحدٌ من أهل الجنة عنده مَظلَمة حتى أقتَصَّها منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمَظلَمة حتى أقتَصَّها منه حتى اللطمة. قلنا: كيف وإنما نأتي عُراةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قال: "بالحسنات والسيئات".(1/364)
وأخرج البيهقي وابن عبد البر عن عطاء بن أبي رباح أن أبا أيوب الأنصاريَّ رحل إلى عتبة ابن عامر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يبق أحد سمعه منه غيره، فلما قدم إلى منزل مَسلَمة بن مَخلَد الأنصارى، وهو أمير مصر، فخرج إليه فعانقه ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ستر المؤمن. فقال: نعم، سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من ستر مؤمنًا في الدنيا على كُربته ستره الله يوم القيامة" ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعًا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مَسلَمة إلا بعريش مصر.
ولقد وقَر في أذهان الناس بصورة راسخة أن السنة لم تدوَّن إلا في القرن الثاني، ومن أجل اقتلاع هذه الفكرة الخاطئة أَطَلنَا في نقل بعض النصوص التي تثبت الحقيقة، وهي أن السنة دونت في القرن الأول، في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي عهد الصحابة الإجلاء.
ومن أجل زيادة الأمر وضوحًا ومن أجل تأكيد الحقيقة في الأذهان ننقُل هنا أيضًا رأيَ الأستاذ الجليل السيد سليمان النَّدْوي، كبير علماء مسلمي القارة الهندية في هذا العصر، ننقُله عن كتابه النفيس "الرسالة المحمدية" وهو محاضرات ألقاها في جامعة مِدْراس يقول:(1/365)
وإنى أكشف القناع لأول مرة في ناديكم هذا بأن من زعم بأن الأحاديث النبوية لم تدوَّن إلى مائة سنة أو تسعين سنة قد أخطأ والتاريخ يعارضه. والسببُ في هذا الخطأ ظنُّهم أن أول كتاب في الحديث النبوي "كتاب الموطأ" لمالك بن أنس، وأول كتاب في السيرة كتاب "المغازي" لابن إسحاق، وهذان الإمامان الجليلان كانا معاصرين، وتُوُفِّيَ الأول 179هـ والثاني سنة 151هـ فاعتَبَروا العقود الأولى من القرن الثاني بدايةَ تدوين الأخبار والسير، والأمر ليس كذلك، فإن بواكير التدوين ابتدأت قبل ذلك بكثير، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن العزيز المتوفَّى سنة 101 عالمًا جليلًا، وَلِيَ إمارة المدينة ثم استُخلف سنة 99 وقد عَهِدَ إلى القاضي أبي بكر بن عمر بن حزم، الذي كان إمامًا في الحديث والخبر، أن يبدأ في تدوين سنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخباره، لأنه خاف على العلم أن يُرفع شيئًا فشيئًا، وخاف دروس العلم وعَفَاءه، وقد ذُكر هذا في تعليقات البخاري والموطأ لمالك والمسنَد للدارمى، فقام بذلك أبو بكر بن حزم وكُتبت الأحاديث والأخبار والسنن في القراطيس وأُرسلت إلى البلاد الإسلامية وكبريات المدن يومئذ ("مختصر جامع بيان العلم" للحافظ ابن عبد البر ص 138) فأبو بكر هذا الذي عَلِمتم مكانته من العلم والفضل،4 وكان قاضيًا بالمدينة المنورة، هو الذي اختاره عمر بن عبد العزيز لهذا العمل الجليل لعلمه وفضله، ولأن خالته عَمرة كانت من كُبريات تلميذات أم المؤمنين عائشة، وكان ما روَته خالته عَمرة عن أم المؤمنين عائشة محفوظًا عنده، فأوعَز إليه عمر بن عبد العزيز بتدوين مرويات خالته، وقد اختصها بالذكر في كتابته إليه.(1/366)
ويتابع السيد النَّدْوي حديثه فيقول: وأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكُتبت أحكام الزكاة وما تجب فيه ومقادير ذلك، فكُتبت مشروحة مفصَّلة في صفحتين، وبعَث بصورة ذلك إلى أمراء البلاد ووُلاتها، وبَقيت محفوظة في بيت أبي بكر الصديق وأبي بكر عمرو بن حزم (الدارقطنى في كتاب الزكاة ص209)
وكان عند عمال الزكاة رسائلُ فيها أحكام الزكاة، وكان لمرويات عبد الله بن عباس كراريسُ عِدّةٌ، وجاءه قوم من أهل الطائف بكراسة منها ليَرويَها عنه (العلل للترمذي ص691).
وكان سعيد بن جبير يكتب روايات عبد الله بن عباس (الدارِمي 69) وبقيت صحيفة عبد الله ابن عمرو (الصادقة) موجودة عند حفيده عمرو بن شعيب (سنن الترمذي 293ص61، 113) وكانوا يضعِّفون عمرَو بن شعيب لأنه يَروي من الصحيفة، وكان ينبغى له أن يَرويَ من حفظه.
وجمع وهب التابعيُّ رواياتِ جابر بن عبد الله، وكانت عند إسماعيل بن عبد الكريم، وضعفوه لأجل ذلك (تهذيب التهذيب لابن حجر 316).
ويروي سليمان بن سَمُرة بن جُندُب أنه كان عند أبيه صحيفة فيها أحاديث، وكذلك روى ابنه حبيب بن سليمان (تهذيب التهذيب 198).
وجمع همام بن منبه روايات أبي هريرة وهو أكثر الصحابة رواية وأوعاهم حفظًا لأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصارت تُعرف صحيفته بين المحدِّثين بـ (صحيفة همام) وقد أوردها الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الثانى من مسنده (ص312 ـ 318 الطبعة الأولى)
وكذلك بَشير بن نَهيك كتب مروياته عن أبي هريرة في كتاب وقرأه عليه ( كتاب العلل للترمذي ص691، والدارِمي ص 68، والسنن الكبرى للبيهقي 10 /280)
وذكر ابن حجر في كتابه "فتح الباري" أن أبا هريرة جاء برجل إلى بيته وأراه أوراقًا وقال: هذه رواياتي. وقال الذي روَى ذلك أنها لم تكن مكتوبة بيده (فتح الباري1/ 174 ـ 185). وكان أنس بن مالك ـ وهو معروف بكثرة الروايات ـ يقول لأولاده: يا بنيَّ اكتبوا العلم وقيِّدوه بالكتابة (الدارِمي ص68).(1/367)
وكان تلميذ "أبان" يكتب رواياته بين يديه (الدارِمي 68).
ورُويَ عن سلمى قالت: رأيت عبد الله بن عباس يَستملي أبا رافع خادمَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان صلى الله عليه وسلم يفعل أو يقول (طبقات ابن سعد 2/2/123).
والواقدي وهو من متقدمي المصنِّفين في السيرة النبوية يقول: رأيت عند عبد الله بن عباس الكتاب الذي أرسله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المنذِر بن ساوَى سيدَ عُمان، مع كتب أخرى ( زاد المعاد 2 /57).
وفي تاريخ الطبري أن عروة بن الزبير كتب جميع ما كان في غزوة بدر مفصَّلًا إلى عبد الملك الخليفة الأموي (الطبري 1285).
ويقول سعيد بن جبير التابعي: كنت أكتب على الأقتاب ما أسمعه في الليل من عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس، فإذا أصبحت كتبته واضحًا (الدارِمي ص69).
وكان أصحاب البراء من عازب يكتبون عنه رواياته (الدارِمي ص69)
وكان نافع ـ وقد صحب ابن عمر ثلاثين سنة ـ يُملي على الناس (الدارِمي ص69).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود أنه أخرج كتابًا وقال: وايم الله، هذا ما كتَبَتْهُ يدُ ابن مسعود (جامع العلم لابن عبد البر ص17).
ونتابع الحديث في الموضوع، على الرغم من أن الأمر أصبح واضحًا، فنضيف إلى ما سبق أن مروان قد خطب في الناس فذكر مكة وحرمتها، فقال رافع بن خديج بصوت يسمعه الناس: والمدينة حَرَمٌ حرَّمها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مكتوب عندنا في أديم خَولاني، إن شئت أن نُقرِئَكه فعَلْنا. فناداه مروان: أجل قد بلَغَنا ذلك (مسند الإمام أحمد بن حنبل 4/141).
وأرسل الضحاك بن قيس كتابًا إلى النعمان بن بَشير يسأله فيه عن السورة التى كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرؤها في صلاة الجمعة غير سورة الجمعة، فكتب إليه يقول: كان يقرأ (هل أتاك) (صحيح مسلم)(1/368)
وكتب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن فَرقَد كتابًا ذكر فيه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن لُبس الحرير (صحيح مسلم).
ويقول مجاهد: رأيت عند عبد الله بن عمرو كتابًا فسألته: ما هذا؟ فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس في ذلك بيني وبينه أحد.
ولما ولَّى رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمرَو بن حزم اليمنَ وبعثه إليها أعطاه أحكامًا مكتوبة في الفرائض والصدقات والديات (كنز المال 3/186).
وتَلقَّى عبد الله بن حَكيم كتابًا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه أحكام الحيوانات الميتة (المعجم الصغير للطبراني ص217).
ولما أراد وائل بن حجر أن يرجع إلى بلاده حضرموت ناوله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابًا فيه أحكام الصلاة والصوم والربا والخمر وغير ذلك (الطبراني 242)
ولما وجه أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب السؤالَ إلى أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نصيب المرأة من دِيَة زوجها قام الضحاك بن سفيان فقال: نعم، عندنا كتاب من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبين فيه ذلك (الدارقطني 2/458) (انظر: "السنة قبل التدوين، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ورجال الفكر والدعوة")
وقد بلغ عدد الصحابة، رضي الله عنهم، في آخر حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما حج حجة الوداع مائةَ ألف، ومن هؤلاء عشرةُ آلاف صحابيٍّ مذكورةٍ أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ التي أفردت تدوين أحوالهم خاصةً. وإن التاريخ لم يهتم بتدوين أحوالهم ولم يحفظ لنا شئونهم إلا لأن كل واحد منهم حَفِظَ شيئًا من أقوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأفعاله وتصرفاته وهَدْيَه وسيرته.(1/369)
لقد تُوُفِّيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سنة 11 من الهجرة النبوية وبَقِيَ فريق من كبار الصحابة بعده إلى سنة أربعين، وبَقِيَ بعد ذلك من الصحابة الذين كانوا أحداثًا في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عددٌ غيرُ قليل، فلما انقرض ذلك الجيل لم يَبقَ من الصحابة أحد، وانطفأ كل سراج أُوقِدَ بنور النبوة، وإليكم أسماءَ آخِرِ من مات الصحابة والبلادَ التي ماتوا وسنوات وفاتهم.
آخر الصحابة موتًا ... المدن التى تُوُفُّوا فيها ... سنة الوفاة
1ـ أبو أمامة ... الشام ... 86
2ـ عبد الله بن الحارث بن جَزْء ... مصر ... 86
3ـ عبد الله بن أبي أوفَى ... الكوفة ... 87
4ـ السائب بن يزيد ... المدينة ... 91
5ـ أنس بن مالك ... البصرة ... 93
وأنس بن مالك هذا الذي كان آخر من بَقِيَ من الصحابة كان الخادمَ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستمر في خدمته عشر سنوات متوالية.
ومعظم هذه الثروة الحديثية ـ كما يقول الأستاذ الجليل أبو الحسن النَّدْوي ـ قد كُتب ودُوِّن بأقلام رواةٍ في العصر الأول. وقد يزيد ما حُفظ في الكتب والدفاتر كتابةً وتحريرًا في العصر النبوي وفي عصر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على عشرة آلاف حديث، إذا جُمعت صحف ومجاميع أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وعلي وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ فيمكن أن يقال: إن ما ثبت من الأحاديث الصحاح واحتوت عليه مجاميعها ومسانيدها قد كُتب ودُوِّن في عصر النبوة وفي عصر الصحابة قبل أن يُدوَّن الموطأُ والصِّحاحُ بكثير.
جُمعت السنة إذن جميعُها تقريبًا في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعهد الصحابة، جُمعت دون ترتيب ولا تنسيق، جُمعت متفرقة متناثرة، يَكتُبُ هذا الحديثَ والحديثين، ويَكتُبُ الآخرُ المائةَ والمائتين، ويزيد الثالثُ عن ذلك، ويُملي الرابعُ من حفظه على الآخرين، وهكذا، وفي ذلك لم يكن لأحد اهتمام بالتنضيد أو التنسيق.(1/370)
يقول الأستاذ العالم الوَرِعُ المُثبِتُ أبو الحسن النَّدْويُّ في كتابه "رجال الفكر والدعوة" ما يلي:
وإذا جُمعت هذه الصحف والمجاميع وما احتوت عليه من الأحاديث كوَّنَت العددَ الأكبر من الأحاديث التي جُمعت في الجوامع والمسانيد والسنن في القرن الثالث. وهكذا يتحقق أن المجموع الكبير الأكبر من الأحاديث سبق تدوينه وتسجيله من غير نظام وترتيب في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي عصره الصحابة رضي الله عنهم.
ويتحدث الأستاذ أبو الحسن النَّدْويُّ عن الوهم الشائع بين الناس من أن السنة لم تُدوَّن إلا في الثالث الهجرى، وأحسنهم حالًا من يرَى أنه قد كُتب في القرن الثاني، وما نشأ ذلك الغلط إلا من طريقتين:
الأولى، أن عامة المؤرخين يَقتصرون على ذكر مُدَوِّني الحديث في القرن الثاني ولا يُعنَونَ بذكر هذه الصحف والمجاميع التي كُتبت في القرن الأول؛ لأن عامَّتَها فُقدت وضاعت، مع أنها اندمجت وذابت في المؤلَّفات المتأخرة.
الثانية، أن المحدِّثين يَذكرون عدد الأحاديث الضخم الهائل الذي لا يُتصوَّرُ أن يكون قد جاء في هذه المجاميع الصغيرة التي كُتبت في القرن الأول، مع أن عدد الأحاديث الصحاح غيرِ المتكررة المتجرِّدةِ من المتابعات والشواهد لا يزال قليلًا.
وقد نبَّه على ذلك العلاَّمة مناظر أحسن الكيلاني، رئيس القسم الديني سابقًا في الجامعة بحيدر أباد، في كتابه العظيم "تدوين الحديث" يقول رحمه الله:
وقد يتعجب الإنسان من ضخامة عدد الأحاديث المروية فيقال إن أحمد بن حنبل كان يحفظ أكثر من سبعمائة ألف حديث، وكذلك يقال عن أبي زُرعة. ويَروي الإمام البخاري أنه كان يحفظ مائتَي ألف من الأحاديث الضعيفة ومائةَ ألف من الأحاديث الصحيحة. ويَروي مسلم أنه قال: جمعت كتابي من ثلاثمائة ألف حديث.(1/371)
ولا يعرف كثير من المتعلمين ـ فضلاً عن العامة ـ أن الذي يكوِّن هذا العدد الضخم هو كثرة المتابَعات والشواهد التي عُنيَ بها المحدِّثون، فحديث "إنما الأعمال بالنيات" مثلًا يُروَى من سبعمائة طريق. فلو جرَّدنا مجاميع الحديث من هذه المتابَعات والشواهد لَبَقيَ عدد قليل من الأحاديث، فالجامع الصحيح للبخاري لا تزيد الأحاديث التي رُويَت بالسند الصحيح فيه على ألفين وستمائة وحديثين، وأحاديث مسلم يبلغ عددها أربعة آلاف حديث، وهكذا لا يبلغ عدد الأحاديث المروية في كتب الصحاح الستة ومسند أحمد وكتب أخرى خمسين ألف حديث، منها الصحيح، ومنها السقيم، ومنها المتَّفَق عليه، ومنها المتكلَّم فيه.
وقد صرح الحاكم أبو عبد الله ـ الذي يُعَدُّ من المتسامحين المتوسِّعين ـ أن الأحاديث التي في الدرجة الأولى لا تبلغ عشرة الآف (توجيه النظر ص93)
ويقول الأستاذ:
ولم ينتصف القرن الثاني حتى كانت حركة الجمع والتدوين أنشط وأقوى، وكان ممن سبق إليها من رجال هذا القرن ابنُ شهاب الزهري وابنُ جريح المكي وابنُ إسحاق، مَعمَر اليمني، سعيد بن أبي عَروبة المدني، ربيع بن صُبيح، سفيان الثورى، مالك بن أنس، الليث بن سعد، وابن المبارك، ثم تتابع الناس.(1/372)
في موافقة السنة للقرآن
أن تكون موافقةً لما جاء في القرآن، فتكونَ واردة حينئذ مورد التأكيد ومن أمثلة ذلك:
1ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بطِيبٍ من نفسه" رواه الديلَميُّ، فإنه يوافق قوله تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا لا تأكلوا أموالَكم بينكم بالباطلِ).
2ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقُوا اللهَ في النساء فإنهنَّ عَوَانٍ عندكم، أخذتموهنَّ بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمةِ الله" فإنه يوافق قوله تعالى: (وعاشروهنَّ بالمعروفِ).
3ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ لَيُملي للظالمِ فإذا أخذه لم يُفلِتْه" يوافق قوله تعالى: (وكذلك أَخْذُ ربِّك إذا أَخَذَ القرى وهى ظالمةٌ).
أن تكون دالة على حكمٍ سكت عنه القرآن، ومن أمثلة هذا النوع:
1ـ قوله، صلى الله عليه وسلم، في البحر: "هو الطَّهورُ ماؤُه الحِلُّ مَيتتُه".
2ـ قوله، صلى الله عليه وسلم، في الجنين الخارج ميتًا من بطن أمه: "ذكاة الجنين ذكاة أمه".
3ـ الأحاديث الواردة في تحريم ربا الفضل.
4ـ الأحاديث الواردة في تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مِخلَب من الطيور وتحريم لحوم الحمر.(1/373)
في أقسام الحديث النبوي
لقد اعتمد أسلافنا منهجَ الرواية أولًا، ثم بيَّنوا عن طريق هذا المنهجِ نفسِه الصحيحَ والحسنَ والضعيفَ والموضوعَ، وكتبوا في كل ذلك. ولقد ساهم السيوطي ـ رضي الله عنه ـ بقسط وافر في هذا المجال، وكتابه "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" أشهر من أن يُتحدث عنه.
ولم يَكتفِ أسلافنا ببيان الموضوع والضعيف والحسن والصحيح، وإنما اتخَذوا قواعدَ عامة، منها مثلًا أن القرآنَ الكريم وعَمَلَ الرسولِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعَمَلَ الصحابة، كلُّ ذلك مُهيمِن كمقياسٍ للصحة والبطلان. وقواعد الدين العامة وأصوله الصحيحة ومبادئه ـ بل فروعه ـ إن كل ذلك واضح لدى المسلمين منذ (اليومَ أكمَلتُ لكم دينَكم وأتمَمتُ عليكم نعمتي ورَضيتُ لكم الإسلامَ دِينًا) اعتمد أسلافنا منهج الراوية والتزموه، ونقَدوا المنتَقَد منه، وأثبَتوا ما ثبَت وزيَّنوا ما زان، وسجَّلوا كل ذلك، فحقَّقوا بهذا ما هو جدير بهم من سعة الأفق، ومن هذه النهضة الأصيلة أبانوا أنهم أفهم الناس للروح العلمية الأصيلة وآفاق البحث في أدق صوره، فجزاهم الله عن العلم وأهله خيرًا.(1/374)
في رواية الحديث عن المتخصِّصين
مثل من الإمام مالك بن أنس
وكان يَتحرَّى التخصص، ويُروَى عنه ـ فيما يتعلق بناحية التخصص ـ أنه قال: قد أدركت بالمدينة أقوامًا لو استُسقِيَ بهم القَطرَ لَسُقُوا (أي أنهم من الصلاح بحيث لو دَعَوا اللهَ أن ينزل المطر لاستجاب لهم) وقد سمعوا من العلم والحديث شيئًا كثيرًا وما أخذتُ عن واحد منهم، وذلك أنهم كانوا قد ألزَموا أنفسَهم خوفَ الله والزهدَ.
ويقول هذه الكلمات البالغة العمق:
إن هذا العلم دِين فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند هذه الأساطين (وأشار إلى المسجد) فما أخذت عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو اؤتُمِنَ على بيت مال لكان أمينًا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن .
ويريد أن يقول في هؤلاء وأولئك إنهم ليسوا من أهل الحديث، ومن الجائز وهم غير متخصصين في هذا الشأن أن يغرَّر بهم أو أن يَروُوا حديثًا ضعيفًا. ويريد أيضًا أن يقول إن الصلاح غير العلم، وإنه لا يلزم من وجود الزهد أو الأمانة أن يكون الزاهد أو الأمين نَقّادةً متثبِّتًا.
ومع هذا التحري ومع هذا الجهد في التثبت فإنه ما كان يَروي كلَّ ما يسمع، ويقول: إن عندي لأحاديثَ ما حدثت بها قط، ولا سُمعت مني، ولا أحدث بها حتى أموت.
وقال مالك يومًا: سمعت من ابن شهاب أحاديثَ لم أحدِّث بها إلى اليوم. فقال له قائل: لم يا أبا عبد الله؟ فقال : لم يكن العمل عليها فتركتها .
وردُّ مالك على السائل هو المفتاح الذي نفسِّر به هذا الموضوع الذي يتساءل عنه الناس كثيرًا، وذلك أن مالكًا، رضي الله عنه، كان قد اتخَذ مبادئَ نقدية محدَّدة لقبول الحديث منها:
1ـ أن يكون المحدِّث من رجال الحديث متخصِّصًا فيه .
2ـ وأن يكون صاحب ذاكرة قوية .
3ـ وألاّ يكون من أصحاب الأهواء .
4ـ وألاّ يخالف الحديث أصلًا من أصول الدين .
5ـ وألاّ يتعارض في وضوح مع عمل أهل المدينة .(1/375)
فإن فُقد شرط من هذه الشروط في الحديث فإن مالكًا لا يَرويه، ومع أن ابن شهاب ثقة ومع أنه من شيوخ الإمام مالك فإنه لما تعارضت بعض أحاديثه مع عمل أهل المدينة لم يَروِ الإمام عنه ما تعارَض معها، وهكذا فيما لم يَستكمل شروط الصحة .(1/376)
في شرح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوَى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لِدُنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكحُها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه"
يدلنا هذا الحديث الشريف على أن صحة الأعمال الصالحة إنما هو بالنية الخالصة لله ورسوله، والواقع أنه ليس الأمرُ أمرَ النية فحسب وإنما الأمرُ أيضًا خلوصُ النية في أعمال الخير كلها، ومعنى خلوص النية أن يريد الإنسان بالعمل الصالح وجهَ الله وحده.
عن الضحاك بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى يقول : أنا خيرُ شريك، فمن أشرَك معي شريكًا فهو لِشَريكي" ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أخلِصوا أعمالَكم؛ فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خلَص له. ولا تقولوا: هذه لله وللرحمة. فإنها للرَّحِمِ وليس لله منها شيء. ولا تقولوا: هذه لله ولوجوهكم. فإنها لوجوهكم وليس لله منها شيء".(1/377)
في حديث الناس معادن
"الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهوا"
ظاهر المعنى أن كل امرئ يتصرف بما طُبع عليه، فأهل الخير والبر والإحسان إذا ليَّن اللهُ قلوبَهم بالإيمان الكامل وعمَّرها بالعلم النافع كانوا خير الناس لتوافر الدافعين:
أولهما، العلم المُبيِّن للخير والمميِّز للأصلح.
وثانيهما، حسن المَعدِن وكرم الأصل في التزام المروءة وتحري الخير .(1/378)
في بر الوالدين
روى أبو داود أن أبا أسيد مالك بن ربيعة الساعدي، رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بَقيَ من بر أبويَّ شيء أبَرُّهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرام صديقهما".
ومن المستَحَب ـ للأموات ـ قراءةُ القرآن في البيوت بعيدًا عن المقابر، مع عدم إهمال الدعاء والاستغفار وفاءً بحقهما وقيامًا بحق برهما (وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّيَاني صغيرًا) أما إذا تركها المسلم فيكفيه منها الدعاء والاستغفار، وإلا كان مقصِّرًا في حق والديه ناكرًا لجميلهم عليه، ومن سمات المؤمنين الوفاءُ، وسيُعاقب بقدر تفريطه وإهماله .(1/379)
في معنى علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
لم يعتبر المحدثون الكلمة القائلة: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) لم يعتبروها حديثًا ولم تثبت عندهم، وإن كان معناها في ذاته صحيحًا، فإن أنبياء بني إسرائيل كانوا قائمين بالوحي المتتابع على حفظ دين الله، ولما خُتمت النبوة بسيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام على الدين ـ جيلًا بعد جيل ـ العلماءُ الإثبات والحفظة والثقات .(1/380)
في حديث الميت يُبعث في ثيابه التي يموت فيها
رواه أبو داود والحاكم وابن ماجه وأبو سعيد الخدري، ومعناه التوجيه إلى دوام تطهير الثياب من النجاسة، وهذا ما فهمه أبو سعيد الخدري حينما طلب ثيابًا جديدة يَستعد بها لاستقبال الموت. وقيل: إن المراد بالثيابِ العملُ، أي يُبعث على عمله الذي كان عليه حسنًا أو قبيحًا. والذي نراه أن المرادَ الثيابُ الملبوسةُ، وأن الحديث يفيد وقوع البعث للأجساد بأوضحِ بيان؛ حيث إن البعث سيشمل الثياب التي مات الإنسان فيها فضلًا عن الجسد.(1/381)
في حديث ارحموا اليتامى وأكرِموا الغرباء ..
ليس بالقويّ، فقد قال ابن الدِّيبَع الشيباني: وردت أحاديث في إكرام الغرباء وكلها ضعيفة. ومن المعروف أن الإسلام يحُث على إكرام اليتيم ويجعل أَكْلَ أموالِ اليتامى أَكْلًا للنار في البطون (إن الذين يأكلون أموالَ اليتامَى ظلمًا إنما يأكلون في بطونِهم نارًا وسيَصلَونَ سعيرًا) والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ووجدك يتيمًا فآوَى)
وأما المراد بالغريب هنا فلعله غريب الدين، وإن الذي يتمسك بدينه حال الفتن وانتشار الضلال كالغريب، كما في حديث "بدأ الإسلام غريبًا فطوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء؟ قال : "الذي يُصلحون إذا فسَد الناس".(1/382)
في شرح حديث عليكم بالصدق
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يَهدي إلى البر، والبر يَهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يَصدق ويَتحرَّى الصدق حتى يُكتَبَ عند الله صِدِّيقًا. وإياكم والكذبَ؛ فإن الكذب يَهدي إلى الفجور، وإن الفجور يَهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويَتحرَّى الكذب حتى يُكتَبَ عند الله كذابًا".
وقد تحدث رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ عن علامات المنافق، فكانت العلامة الأولى من علاماته حسَبما رواه البخاري ومسلم أنه "إذا حدَّث كذَب" فالكذب إذًا مجانب للإيمان، وهو كما يُروَى عن رسول الله صلوات الله عليه يسوِّد الوجه، من كل ذلك نتبين أن الكذب حرام وأن الكاذب آثم. ومما له مَغزاه إن بعض الفرق الإسلامية تجعل حرمة الكذب أشدَّ من حرمة الزنى والسرقة، والله سبحانه وتعالى يقول: (إن اللهَ لا يَهدي من هو مُسرِفٌ كذابٌ).(1/383)
شرح حديث صِنفان من أهل النار لم أرهما
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، فيما رواه مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صِنفان من أهل النار لم أرهما؛ قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يَضربون بها الناسَ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مُمِيلاتٌ مائلاتٌ، رءوسُهنَّ كأسنمة البُخْتِ المائلة، لا يَدخُلنَ الجنةَ ولا يَجِدْنَ ريحها، وإن ريحها ليوجدُ من مسيرة كذا وكذا".
إن هذا الحديث الشريف يساند الآيات القرآنية التي تحدد موقف الإسلام من تبرج المرأة تحديدًا لا لبس فيه، يقول سبحانه وتعالى: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبرُّجَ الجاهليةِ الأولى) يأمر الله تعالى المسلمات ألاّ يُبدِينَ من زينتهنَّ إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان، وأن الإيمان السليم والإسلام الصحيح والخلق الكريم، كل ذلك يريد للمرأة إجلالًا لها واحترامًا أن تَنأَى بنفسها وتَسموَ بكرامتها عن أن تَعتبِرَ نفسها سلعة تَعرِضُ نفسها شبه عارية في الشوارع والمجتمعات على أنظار المارة أو المجتمعين.
وما من ريب في أن المرأة العاقلة تأبَى عليها عزتها ويأبَى عليها دينها أن تضع نفسها متعمدةً موضع الخِسّة لكشفها ما حرَّم الله أن يُكشَفَ، وأن تَعرِضَ نفسها في غير كرامة إلى أن تُصَبَّ عليها لعنة الله والملائكة وصالح المؤمنين .
ومما لا شك فيه أن الشبان ـ فضلًا عن الرجال ـ يَحتقرون ويَزدَرون هذه السلعَ من الفتيات والنساء اللاتي يَعرِضنَ أجسادهنَّ رخيصةً مهينةً. وإن الملاحظة العابرة المتروية تُرشد في صورة واضحة إلى أن احترام الشبان والرجال إنما هو للمحتشمات في الطرقات والمواصلات، يقول الله تعالى: (يا أيها النبيُّ قل لأزواجِك وبناتِك ونساءِ المؤمنين يُدنِينَ عليهنَّ من جَلاَبِيبهنَّ) .(1/384)
في شرح حديث المؤمنُ للمؤمن كالبنيان
"المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشُد بعضُه بعضًا"
فما هو التطبيق الواجب لهذا الحديث بالنسبة للاعتداءات الإسرائيلية على الأماكن المقدسة وأرض العرب؟
التطبيق الواجب هو أن على المسلمين أن يعلموا أن الجهاد واجب مقدس على كل مؤمن ومؤمنة، كلٌّ فيما يخصه، وللجهاد مقدِّمات تُحرِزُ له النصر وتَنأَى بالمجاهدين عن الهزيمة، تلك المقدِّمات هي قيام كل مؤمن ومؤمنة بواجب السمع والطاعة (يا أيها الذين آمَنوا استَجيبوا للهِ وللرسولِ إذا دعاكم لِمَا يُحييكم) (الأنفال: 24).
والنصر الذي يريده كل مجاهد من الله لا يأتي إلا بمعونته ومَدَدِه، وهما لا يكونان لمن انحرف عن صراط الله الذي أمرنا به، قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبِعوه ولا تَتَّبِعوا السبلَ فتَفرَّقَ بكم عن سبيلِه ذلكم وصَّاكم به لعلكم تتَّقون) (الأنعام: 153).
ولأنه، جل جلاله، جعل نصره للمؤمنين مترتِّبًا على نصر المؤمنين لدينه، قال تعالى: (إن تَنصروا اللهَ يَنصُرْكم ويُثبِّتْ أقدامَكم) (محمد:9) وقال تعالى: (ولَيَنصُرَنَّ اللهُ من يَنصُرُه) ولانحراف بعض المحارِبين في جيش رسول الله يوم حُنين حلَّت الهزيمة بالمسلمين أولاً، ولما ثابُوا إلى رُشدهم أنزل الله عليهم سكينته وأمدَّهم بجنده وتوَّجهم بنصره، قال تعالى: (...ويومَ حُنينٍ إذا أعجبتكم كَثرتُكم فلم تُغْنِ عنكم شيئًا...) إلى قوله: (...جزاءُ الكافرين) (التوبة: 24ـ26).(1/385)
فمهما استعد المسلمون بالسلاح والرجال فإنهم لن يُحرزوا نصرًا، ولن يأتيَهم مَدَدُ الله عز وجل بالملائكة وغيرهم إلا إذا استمسكوا بدينهم، وجعلوه الشعار لهم في كل شيء، وحسبُنا في هذا قولُ الله تعالى: (إذا يُوحِي ربِّك إلى الملائكةِ أنِّي معكم فثَبِّتوا الذين آمَنوا سأُلقِي في قلوبِ الذين كفروا الرعبَ...) إلى (...شديدُ العقابِ) (الأنفال:11ـ 13) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بالإيمانُ بالتمنِّي ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل" قال تعالى: ( يا أيها الذين آمَنوا إذا لَقيتُم فئةً فاثبُتوا واذكروا اللهَ كثيرًا لعلكم تُفلحون) (الأنفال: 45)
وذكرُ الله فيه الصلواتُ وغيرُها من الفرائض، ويَنتظم الذكرُ المعروفَ الذي هو تنزيهُ الله وتهليلُه وحمدُه، وهذا النوع من الذكر لا يَستعصي على المجاهد في سبيل الله، بل إن الصلاة نفسها يستطيع أن يؤديَها المجاهد وهو يقود الطائرة والدبابة والسيارة ويصوب المدفع إلى صدر عدوه، ويستطيع أن يؤديَها وهو يمشي على رجليه، وذلك بأن يُشير برأسه إلى الركوع والسجود وغيرهما من أركان الصلاة، قال تعالى: (حافِظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطى وقوموا للهِ قانتين. فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا فإذا أَمِنتم فاذكروا اللهَ...) (سورة البقرة: 238ـ 239).
وإسرائيل التي نعاني منها لا تستطيع الصمود أمام قوم آمنوا بربهم فأمدهم بجنده وأيدهم بنصره، وعليهم أن يستكملوا عُدّة الجهاد من أنواع السلاح كافة، ثم ينطلقوا بجَحافلهم إلى تلك البقاع المقدسة غيرَ مستَجِيبين لنداءات مجلس الأمن وهيئة الأمم؛ فإنها لم تُنشأ لخدمة الإسلام بقدر ما أُنشئت لخدمة المطامع الاستعمارية.(1/386)
إن هذا الحديث الشريف يساير القرآن الكريم والروح الإسلامية كلها، ويشرح ما يجب أن يكون عليه المسلمون في حياتهم؛ من الاجتماعِ على الإيمان واتخاذِه أساسًا للوَحدة والأخوة، فالحديث الشريف يبدأ بقوله: "المؤمن للمؤمن" ومعنى ذلك أن يشُد المؤمنُ أَزْرَ المؤمن، وأن يكون معه كالبنيان المتماسك الذي تكون كلُّ لَبِنةٍ فيه مستندةً إلى أخرى وساندةً لها .
وإذا اتُّخذ الإيمانُ أساسًا انتهَى التفرق والخلاف، وتحقق في العصر الحاضر ما تحقق في الماضي الذي عبر الله عنه بقوله تعالى: (واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبِكم فأصبحتم بنعمتِه إخوانًا).
ولابد من هذه الوَحدة، لابد منها لمصلحة العرب أنفسهم من أجل أوطانهم، ولابد منها دينيًّا، فالله سبحانه وتعالى يقول: (واعتَصِموا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفرَّقوا) ويقول سبحانه: (وأَطيعوا اللهَ ورسولَه ولا تَنازَعوا فتَفشَلوا وتَذهبَ ريحُكم واصبِروا إن اللهَ مع الصابرين).(1/387)
والواقع أن الصهيونيين يعملون جاهدين بكل الوسائل على التفرقة بين المسلمين في كل مكان، كان هذا وما يزال دأبَهم ودَيْدَنَهم، وحادثةُ شاس بن قيس مشهورة؛ لقد مر على نفر من الأوس والخزرج في مجلسٍ جمَعهم، فغاظه صلاحُ ذاتِ بينِهم وقال في نفسه: قد اجتمع فلان وفلان قبلَه في هذه البلاد وما لنا معهم إذا اجتمع مَلَؤُهم بها مِن قرار. وأمر شابًّا من اليهود كان معهم أن ينتهز فرصة يذكِّرهم فيها بيوم بُعاثٍ، ذلك اليوم الذي انتصر فيه الأوس على الخرزج، وتكلم الغلام وأنشدهم ما قيل في ذلك اليومين من أشعار، فذكَر القوم ذلك اليوم وتنازعوا وتفاخروا واختصموا، وقالوا بعضهم لبعض: إن شئتم عدنا إلى مثلها. وبلَغ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك الأمرُ فخرج إليهم فيمن معه من الأنصار والمهاجرين، فذكَّرهم بما ألَّف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانًا متحابِّين، وكان مما قال: "أدَعوَى الجاهليةِ وأنا بين أظهُرِكم بعد إذ أكرَمكم اللهُ بالإسلامِ وقطَع به عنكم أمرَ الجاهليةِ؟" وما زال بهم حتى بكى القوم وعانق بعضهم بعضًا واستغفَروا اللهَ جميعًا، فما رُئيَ يومٌ أقبحَ أوَّلًا وأحسنَ آخِرًا من ذلك اليوم.
وما كانت هذه المؤامرة الأولى أو الأخيرة من مؤامرات اليهود ضد الأخوة العربية، ولقد تغلب عليها العرب بمبدأ الأُخُوة التي غرَسها الإسلام منهم. وإذا كان هذا المبدأ قد نجح في الماضي فهو لا محالةَ ناجح في العصر الحاضر. ومما لا شك فيه أن الصهيونية تعمل جاهدة على غرس بذور العداوة بين الدول العربية حتى يفشلوا وتذهب ريحهم، ولكن السلام الوحيد الذي يجب أن نتحصن به دائمًا لرد باطلهم الخبيث إنما هو التمسك بالأُخُوة.(1/388)
في شرح حديث كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور
"كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور فزُورها؛ فإنها تذكِّرُكم بالآخرة"
فأباح ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك زيارةَ القبور، وعلل السبب في ذلك وهو تَذكُّرُ أمورِ الآخرة وما يتصل بها من الموت وعذاب القبر. ويماثل هذا الحديثَ ما رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن زيارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقبر أمه وقوله: "فزوروا القبور؛ فإنها تذكِّر بالموت".
أما بالنسبة للنساء فإن كثرة زيارة القبور بالنسبة لهن ممنوعة، لما رُويَ من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعَن زوَّارات القبور.
قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثِرات من الزيارة، لِمَا تَقضتيه الصيغة من المبالغة، ولعل السببَ ما يُفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج وما ينشأ منهنَّ من الصياح ونحوه. فإذا خفَّت زيارتهنَّ ولم تقترن بسوءٍ؛ من كشف عورة أو قول قبيح ونحو ذلك، فلا حرج منها لِمَا رُويَ من أن عائشة سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما تقول إذا زارت القبور فقال: "قولي: السلامُ على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يَرحَمُ اللهُ المستَقدِمين منا والمستأخِرين، وإنا إن شاء اللهُ بكم لاحِقون".
وعلى ذلك فزيارة القبور مندوبة للرجال، جائزة للنساء بشرط ألاّ يَقترِنَ بها ما يَتنافَى مع الغرض منها، وهو التذكير بالموت والتذكير بالآخرة.(1/389)
في الشِّرك الخفيِّ
الشرك الخفيُّ مرادفٌ للنفاق؛ وذلك لأن النفاق أن يُظهِرَ المرءُ خلافَ ما يُبطِنُ، فيبدو المنافق في صورة المؤمن وهو في حقيقته من الكافرين، إنه يَستر شركه ويُخفيه ولكنّ الله تعالى يكشفه بعلاماته، ويُبرز أهم صفاته في كثير من الآيات القرآنية التي تحدد منابع الإيذاء في هذا الشرك، وأسباب التنفير منه، ومواطن الخطر الناتجة عنه، يقول تعالى: (ومن الناس مَن يقولُ آمنّا باللهِ وباليومِ الآخِرِ وما هم بمؤمنين. يخادعون اللهَ والذين آمَنوا وما يَخدَعون إلا أنفسَهم وما يَشعرون. في قلوبِهم مرضٌ فزادهم اللهُ مرضًا ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يَكذبون).
وتُتابِعُ الآيات في كشف صفاتهم وتمثيل حالهم بأظهر صورة وأبلغ تعبير، وينتج عن هذا الشركِ الخفيِّ أو النفاقِ شرورٌ كثيرة تَلفَح المؤمنين بأذاها وتَلسَعهم بشرورها، ومن هذه الشرورِ المؤذيةِ الرياءُ، ويتحدث القرآن عن ذلك فيقول: (إن المنافقين يخادعون اللهَ وهو خادِعُهم وإذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسَالَى يُراءُون الناسَ ولا يَذكرون اللهَ إلا قليلًا).
وينتج عن الرياء أن يُعطيَ المسلمُ ثقتَه للمرائي، فيَستغلَّ هذه الثقةَ في إيذائه وإيصال الشرور إليه، ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم وشِرْكَ السرائر" قالوا: ما شِرْكُ السرائر يا رسول الله؟ قال: "الرياء".
ومن الشرورِ المؤذيةِ الحسدُ، لقد كان المنافقون يفرحون لمصيبة المسلمين ويحزنون لِمَا يَسرُّهم، يقول تعالى: (إن تُصِبْكَ حسنةٌ تسُؤْهم وإن تُصِبْكَ مصيبةٌ يقولوا قد أخَذْنا أَمْرَنا من قبلُ ويَتولَّوا وهم فَرِحون).(1/390)
وأظهر هذه الشرورِ المؤذيةِ ثثبيطُ الهِمَمِ والعملُ بالقولِ والفعلِ على إطفاء نور الإسلام والقضاء على المسلمين، ويتمثل ذلك في وضوح فيما حدث في غزوة الأحزاب، لقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبشر بالفتح، وكان المنافقون يقولون: هذا محمد يَعِدُنا كسرى وقيصر، وأحدُنا لا يأمَنُ على بيته بالمدينة. ويصور القرآن ذلك فيقول: (وإذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبِهم مرضٌ ما وعَدَنا اللهُ ورسولُه إلا غُرورًا) ويَجمَعُ صفاتِ المنافقين في وضوحٍ وشِرْكَهم الخَفيَّ المانعَ للخيرِ الجالبَ للشرِّ قولُه سبحانه: (ومنهم مَن عاهَدَ اللهَ لئن آتانَا من فضلِه لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكونَنَّ من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بَخِلُوا به وتَوَلَّوا وهم مُعرِضون. فأعقَبَهم نفاقًا في قلوبِهم إلى يومِ يَلقَونَه بما أخلَفوا اللهَ ما وعَدوه وبما كانوا يَكذبون).
أما الطريقة المُثلَى للتخلص من هذا الشرك وآثاره فتَتمثَّلُ في العمل بقول الله سبحانه: (لئن لم يَنتَهِ المنافقون والذين في قلوبِهم مرضٌ والمُرجِفون في المدينةِ لَنُغرِيَنَّكَ بهم ثم لا يُجاورونك فيها إلا قليلًا. ملعونِين أينما ثُقِفُوا أُخِذوا وقُتِّلوا تَقتيلًا. سُنَّةَ اللهِ في الذين خَلَوا من قبلُ ولن تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تبديلًا).(1/391)
في شرح حديث من لم تَنْهَهُ صلاتُه...
للعمل المقبول علاماتٌ ودلائلُ تدُل عليه وتُرشد إلى بلوغ القصد به ومنه، وقد حدد القرآن وحددت السنة كثيرًا من هذه العلامات والدلائل، يقول تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر اللهُ وَجِلَت قلوبُهم وإذا تُليَت عليهم آياتُه زادتهم إيمانًا وعلى ربِّهم يتوكلون. الذين يُقيمون الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقون. أولئك هم المؤمنون حقًّا) ويقول: (ألاَ بذكرِ اللهِ تَطمئنُّ القلوبُ) ويقول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كنَّ فيه وجَد حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يَكرهُ أن يُقذَفَ في النار".
ومن هذا الباب قوله تعالى: (إن الصلاةَ تَنهَى عن الفحشاءِ والمنكَرِ) ولا يَعني ذلك أن المخطئ لا تُقبل له صلاة، لأن الإنسان في حرب مع الشيطان، ومهما كان تسلُّحُه وتيقُّظُه فقد تَعتريه غفلة أو فترة فيتمكنُ الشيطان منه فيقعُ في المعصية، ولكنّ إيمانَه القويَّ وعملَه الصالح سَرعانَ ما يعود به إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، ويجد من عفو الله ومغفرته ما يُتيح له السير من جديد في طريق الخير والصلاح. وقد يقف المرء على حافة المعصية فيؤذِّنُ المؤذِّنُ فيدخُلُ إلى الصلاة، وما يكاد يَفرُغُ منها حتى يجد نفسَه وقد هدَأت وغرائزه وقد استسلمت ويَقينَه وقد استيقظ، فيحُس بأثر الصلاة إحساسًا في غاية القوة والظهور.
وحديث "من لم تَنهَهُ صلاتُه الفحشاء والمنكر لم يَزدَدْ من الله إلا بُعدًا" رجَّح الحافظ ابن كثير أنه من كلام بعض الصحابة لا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/392)
وليس من شكٍّ في أن الصلاة التي يداوم عليها المؤمن، فلا تؤثر في سلوكه وقوله وعمله، صلاة غير كاملة، لأنها غير مؤثِّرة، وعلى المؤمن إذا ما واجَهَ المنكَرَ أو قابَلَ الفحشاءَ إن يتذكر موقفه بين يدَي الله في الصلاة ليَرتدعَ عن ذلك.(1/393)
في محاربة اكتناز الأموال وحبسها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَهرَمُ ابن آدم وتَشبُّ معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر".
ما يجب شرحه
1ـ اثنتان: خصلتان سيئتان.
2ـ لماذا كان الحرص على المال والحرص على العمر؟
ما يُراعَى عند الحديث
1ـ كَنزُ المال وعدمُ استثماره وحرمانُ المجتمع من الانتفاع به منهيٌّ عنه شرعًا. وفي سبيل الحد من ضخامة الأموال أوجب الإسلام الصدقات وفرَض الزكاةَ وجعلها ركنًا من أركان الدين، وأوجب المساهمة في نفقات ما يَعرِضُ للأمة وما يجب لها من عُدة الدفاع لحفظ الأمن والنظام أو المساهمة في أعمال البر .
1ـ الآيات التي تتعرض للموضوع (ليس البر) البقرة 177 (وأنفِقوا في سبيل الله) البقرة 195 (والذين يَكنِزون الذهبَ والفضة) التوبة 34.
2ـ آفة الحرص على العمر .
3ـ الإسلام يدعو إلى بذل الروح رخيصة في سبيل الله والوطن.(1/394)
في حُرمة العَود في الهِبة
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما روَى البخاري: "العائد في هِبته كالكلب يَقيءُ ثم يعودُ في قَيئه" أي لا ينبغي لنا ـ معشرَ المؤمنين ـ أن نتَّصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخَسُّ الحيوانات في أخَسِّ أحوالها، قال تعالى: (لِلَّذين لا يؤمنون بالآخرة مَثَلُ السَّوْءِ وللهِ المَثَلُ الأعلى) ومن هنا حرم الإسلام على المرء الرجوعَ في هبته، ولم يُجِزْ له هذا الرجوعَ ولو دفَع ثَمَنَ هبته لمن وهَبها له في سبيل الحصول عليها، روى البخاري بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: حمَلت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريَه منه وظننت أنه بائعُه بِرُخْصٍ، فسألت عن ذلك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "لا تَشتَرِهِ وإن أعطاكه بدرهم واحد؛ فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قَيئه".
لقد أعطى عمر ـ رضي الله عنه ـ رجلًا فرسًا ليحارب عليه، فأهمل الرجل العناية بالفرس، أو رَغِبَ في بيعه بثمن بسيط، وأراد عمر شراءه فمنعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك لأنه لا يحل .
فمن أسدَى إلى شخص معروفًا يَحرُمُ عليه الرجوع فيه، وإذا تصرَّف المُهدَى إليه في هذا المعروف فلا رجوع لصاحب المعروف عليه. وحجه بهذا المعروف نافذ، ورجوع صاحب المعروف فيه لا يبطل الحج.
وثواب صاحب المعروف على ذلك مستمر؛ حيث لم يحصل على ما رغب في الرجوع فيه من المعروف، وإن قل عن الثواب قبل الرغبة في الرجوع، حيث دلت تلك الرغبة على ضعف عاطفة الخير عنده.(1/395)
في عدد الرسل من السنة
لم يَرِدْ في عدد الأنبياء والمرسَلين أثرٌ صحيح إلا ما رُويَ عن أبي ذر، رضي الله عنه، وبسند قيل إنه مقبول، وفيه: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء ؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" قلت: يا رسول الله، كم الرسلُ من ذلك؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمٌّ غَفيرٌ كثيرٌ طيبٌ" قلت: فمن كان أولَهم؟ قال: "آدم" قلت: أنبيٌّ مرسل؟ قال: "نعم، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وسواه قبيلًا" ثم قال: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون؛ آدمُ وشِيثُ وخَنُوخُ، وهو إدريس وهو أول من خَطَّ بقلم، ونوحٌ، وأربعة من العرب؛ هود وشعيب وصالح ونبيُّك يا أبا ذر".
وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد. فالذين كُلِّفوا برسالةٍ من الأنبياء ـ بحسَب هذا الحديث الذي قيل إنه مقبول ـ ثلاثمائة وثلاثة عشر. والأنبياء الذين لهم علاقة بمكة من حيث بناؤُها أو النشأةُ فيها الذين ذكرهم القرآن الكريم هم إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام. والرسل الذين يَنتمون إلى العرب من هؤلاء ـ كما في الحديث ـ هود وشعيب وصالح ومحمد عليه الصلاة والسلام. أما الرسلُ والأنبياءُ الآخَرون الذين لا علاقة لهم بمكة والأنبياءُ الآخرون الذين لا يَنتمون إلى العرب فلا يَعلم عددهم إلا الله سبحانه. وهذا الذي ذكرناه هو أقرب الآراء إلى الصحة.(1/396)
في السُّنَّة الحسنة والسُّنَّة السيئة
"من سَنَّ سُنَّةَ خيرٍ فاتُّبِعَ عليها فله أجرُه ومثلُ أجور من اتَّبَعه غيرَ منقوصٍ من أجورِهم شيءٌ، ومن سَنَّ سُنَّةَ شرٍّ فاتُّبِعَ عليها كان عليه وزرُه ومثلُ أوزارِ من اتَّبَعه غيرَ منقوصٍ من أوزارِهم شيءٌ"
إن أعمال الخير يُثاب عليها من فعَلها ومن اقتَدى به في فعلها، وإن ثواب المبتدئ بفعلها يَزيد بزيادة عدد من اقتَدى به فيها؛ إذ له مثل أجر من اقتَدى به، ولكنّ هذه الزيادة بسبب اقتداء الناس به لا تؤثر في أجر المقتَدِي، فلا يَتوهَّمَنَّ إنسان أن زيادةَ أجرِ الداعي إلى الخير أو مَن ابتدأ العملَ الصالح تكون بالتنقيصِ من أجر التابع وضمِّه إلى أجر الداعي، إن الأمر ليس كذلك، بل للتابع أجرُه كاملًا وللمتسبِّب الأصلي أجرُ دعوته إلى الخير بفعله أو بقوله فضلًا عن أجر عمله للخير إذا فعله، ولهذا عظُم شأن الفقيه الداعي المنذِر حتى فضَل على العدد الكثير من العِباد، لأن نَفْعَه يعُم الأشخاص والعصور .
وإذا كان هذا العمل الصالح، فالأمرُ في العمل غير الصالح على العكس؛ إن من دعا إلى ما يخالف الدينَ يَحملُ وِزرُ عمله، وإذا اقتَدى به غيرُه فيه تَحمَّلَ المقتدِي وِزرَ عمله وتَحمَّلَ المتسبِّبُ وِزرَ التسبُّبِ في هذا العمل.
ومما ينبغي أن يفهم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ومِثْلُ أجورِ مَن اتَّبَعه" لا يَستلزم المساواةَ في قيمة الأجر، بل المِثليَّةُ تتحقق بمجرد حصول الأجر لكل منهما، وإن اختلفت قيمة الأجر على العمل عنها عن التسبُّب في العمل، والأمر بالعكس في العمل السيئ.
ومن هنا يمكننا أن نفهم قيمة القدوة وأهمية الوظائف العليا أو مراكز التوجيه والتأثير وما يتحمل أصحابها من مسئوليات تَجلب لهم الخير إن أصلَحوا وتُوقِعُهم في الشر المستمر إذا أساءوا أو انحرفوا.(1/397)
والأمثلة كثيرة، ففَرْقٌ بين من يدعو إلى الله على بصيرة ومن يدعو إلى طريق الشيطان والهوى على أساسٍ من العَمَى والضلال، وفَرْقٌ بين من تُربِّي أبناءَها على الدين ومن تُربِّيهم على الاستهتار بتعاليمه ومبادئه في الزي والخلق والسلوك (قل هذه سبيلي أدعو إلى اللهِ على بصيرةٍ أنا ومن اتَّبَعني وسبحان اللهِ وما أنا من المشركين).
عن سفيان بن عبد الله الثقفي، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل: آمنت بالله. ثم استقِم"
ما معنى هذا الحديث؟
الإسلام يقوم على دِعامتين أساسيتين: الإيمان والعمل الصالح، فعبَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث عن الإيمان بقوله: "قل: آمنت بالله" فإذا كانت المرء مؤمنًا فإن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "قل: آمنت بالله" جدِّد شعورك بها وردِّد كلمة التوحيد بلسانك وعايشها بكيانك.
ثم عبَّر عن العمل الصالح بقوله" "ثم استقِم" أي: الزَمْ الطاعات واجتنِبْ المخالفات ولازِمْ الأعمال الصالحات، قال تعالى: (إن الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثم استقاموا تَتنزَّلُ عليهم الملائكةُ ألاّ تَخافوا ولا تَحزنوا وأَبشِروا بالجنةِ التي كنتم تُوعَدون. نحن أولياؤُكم في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تَشتهي أنفسُكم ولكم فيها ما تَدَّعُون. نُزُلًا من غفورٍ رحيمٍ)
والاستقامة عرَّفها بعضهم بأنها: المتابعة للسنن المحمدية مع التخلق بالأخلاق المرضية. وهى كما قال القُشيري: درجة بها كمالُ الأمور وتمامُها، وبوجودها حصولُ الخيرات ونظامُها. وهى تستلزم مراقبةَ الأعمال ومتابعةَ الشرع وعدمَ الخروج على حدوده بحال .
ومن هنا كان دعاء المؤمنين في كل صلاة عدة مرات: (اهدنا الصراط المستقيم) فعلى المسلم أن يتبين طريقه على أساس من الدين وأن يتجنب الانحراف، فالخيرُ في الاتباع والشرُّ في كل ابتداع .(1/398)
في إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق
ولقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس خُلُقًا، لقد ربط حسن الخلق بالإيمان، فقال في حديث صحيح رواه الترمذي: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا" وفي حديث آخر رواه أبو داود عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن المؤمنَ لَيُدرِكُ بحُسنِ خُلُقِه درجةَ الصائم القائم".
والخُلُقُ الإسلامي الأول الذي من أجله كانت الرسالة الإسلامية نفسُها إنما هو خُلُقُ الرحمة، ولقد روت الأحاديث أن أعرابيًّا دخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجده يقبِّل أحد حَفَدَته، فاستَغرَب الأعرابي وقال: أتقبِّلون أبناءكم؟ إن لي عشرةً من الأبناء ما قبَّلتُ أحدًا منهم قط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَ أَملِكُ أن نزَع اللهُ الرحمةَ من قلبِك!" وفي موقف آخر مثل هذا قال رسول الله لأعرابي آخر: "ابتعدْ عني؛ لا تَحرقني بنارك" ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنزَعُ الرحمةُ إلا من قلبِ شقيٍّ".
بل إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَقبل تفسير الرحمة على أنها خاصة بالأهل والعشيرة مقتصرة عليهم، فقد قال في وجه من فسَّر الرحمة بذلك: "أنا أعني الرحمة العامة".
فمن أساء لأبنائه فقد نُزعت الرحمة من قلبه ودخل بذلك في عداد الأشقياء، وقطَع رَحِمَه ودخل بذلك في عداد هؤلاء الذين قال الله فيهم: (أولئك الذين لَعَنَهم اللهُ فأَصَمَّهم وأَعمَى أبصارَهم) وذلك أن هذه الآية نزلت في الذين يُفسدون في الأرض ويَقطعون أرحامَهم.
ولقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذا رحمة بالحيوانات، وهو القائل: "الشاة إن رَحِمتَها رحمك الله".
فعلى كل إنسان بصورة عامة أن يَتحلَّى بصفة الرحمة حتى يدخل في نطاق قوله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يَرحَمُهم اللهُ، ارحَموا من في الأرضِ يَرحَمْكم من في السماءِ".(1/399)
في حق التوكل على الله
عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيما رواه الإمام الترمذي وحسنه قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّلِه لرزَقكم كما يَرزُقُ الطيرَ، تَغدُو خِماصًا وتَروحُ بِطانًا".
فإن الطير تذهب أول النهار ـ كما يقول الإمام النووي ـ خِماصًا، أي ضامرة البطون من الجوع، وترجع آخر النهار بِطانًا، أي ممتلئة البطون.
والواقع أن الحديث الشريف يوجه الأذهان إلى أن الطير تُصبح فتذهب للبحث عن رزقها، تُصبح جائعةً فتعمل وتجتهد في طلب الرزق، وبعد رحلة عملٍ مستمرٍّ ساعاتٍ تعود إلى عشها ممتلئة البطن شِبَعًا ورِيًّا.
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل إن الله يرزقها وهى ساكنة في عشها، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إمام المتوكلين وكان إمام المجاهدين المكافحين الآخذين بالأسباب.
وسيدنا أبو بكر، رضي الله عنه، حينما بويع بالخلافة أصبح ذاهبًا إلى السوق يَتَّجِرُ كعادته، فتكاثر عليه المسلمون قائلين: كيف تفعل ذلك وقد أُقِمتَ لخلافة النبوة؟ فقال لهم: لا تَشغلوني عن عيالي، فإني إن أضَعتُهم كنت لِمَا سواهم أضيَعَ. حتى فرَضوا له قُوتَ أهل بيت من المسلمين.
لقد كان كبار الصحابة، رضي الله عنهم، يعملون ويكتسبون وكانوا مع ذلك من كبار المتوكلين.
ومما ينبغي التنبُّه له أن أنبياء الله ورسله لم يبلِّغوا الدعوةَ وهم في مساكنهم آمنين مطمئنين، وإنما جاهدوا في سبيلها جهادًا مستميتًا، وكانوا في جهادهم مُثُلًا كريمةً للمتوكلين، يقول الله تعالى على لسان سيدنا هود عليه السلام: (إني توكلتُ على اللهِ ربِّي وربِّكم ما من دابَّةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتِها إن ربِّي على صراطٍ مستقيمٍ) أخَذ هود، عليه السلام، يعمل على نشر الحق المُوحَى إليه، الحق الذي دعا إليه كل نبيٍّ ورسولٍ، والذي يتلخص فيما قاله هود عليه السلام.(1/400)
في شرح زيارة المريض وتشييع الجنازة
عن أبي سعيد، رضي الله عنه، فيما رواه الإمام أحمد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "عُودُوا المريضَ وامشُوا مع الجنازةِ تُذكِّرْكم الآخرةَ".
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مع الجنازة" لا يُوجب تقدمًا ولا تأخرًا وإنما في معنى الإباحة في المشي في المقدمة أو خلف الجنازة. ومن أجل ذلك يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها، قريبًا منها. وكان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، يمشيان أمام الجنازة. وكان عليٌّ، رضي الله عنه، يمشي خلفها، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراكب يمشي خلفها".
والواضح من كل ذلك أن الماشيَ بالخيار في سيره مع الجنازة، أما الراكب فإنه لا يسير إلا خلفها.
وسواء أكان الماشي مع الجنازة أمامها أم خلفها فإن من السنة ألاّ يَرفعَ صوتَه بقراءة أو بذكر، وعليه أن يَتدبرَ الموتَ ويَعتبِرَ به، فإن أراد ذكرًا فليذكُرْ في نفسه.
ومن السنة ألاّ يقعدَ مشيِّعُ الجنازة حتى تُوضَعَ، فقد روَى أبو سعيد الخدري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا رأيتمم الجنازة فقوموا، فمن تَبِعَها فلا يَقعُدْ حتى تُوضَعَ".
ومن السنة ألاّ يَتَّبِعَ الجنازةَ نساءٌ، فقد روى ابن ماجه والحاكم عن علي، رضي الله عنه، قال: خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا نسوة جلوس، فقال: "ما يُجلِسُكنَّ؟" قُلنَ: نتنظر الجنازة. قال: "هل تُغسِّلنَ؟" قلن: لا. قال: "هل تَحمِلنَ؟" قلن: لا. قال: "هل تُدلِّينَ فيمن يُدلِّينَ؟" قلن: لا. قال: "فارجِعنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ".(1/401)
في شرح حديث السبعة الذين يُظلهم الله في ظله
السبعة الذين يُظلهم الله تحت ظله ورد ذكرهم في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "سبعةٌ يُظلهم اللهُ في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادة الله تعالى، ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله، اجتَمَعا عليه وتَفرَّقا عليه، ورجلٌ دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أخاف اللهَ. ورجلٌ تَصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تَعلَمَ شمالُه ما تُنفقُ يمينُه، ورجلٌ ذكَر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه".(1/402)
وأما بَدؤُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإمام العادل فلأن العدل من جوهر شريعة الله سبحانه وتعالى، إذ به يَرتفع الجَورُ والظلمُ من الأرض، وبه يَنتشر الأمن والطمأنينة بين الناس، يَأمنون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم؛ فلا قتلَ ولا اغتيالَ للأنفس ولا سَلْبَ ولا اختلاسَ ولا اغتصابَ للأموال ولا تَعدِّيَ ولا انتهاكَ للأعراض والحُرُمات، ويطمئنون على أرزاقهم في اليوم والغد والمستقبل، جادِّين في السعي لتحصيلها مما أحلَّه الله لهم في أرضه الواسعة وكَفَلَه لعباده؛ من النعيم في الدنيا إن هم أقاموا ما أمرَهم الله وانتَهَوا عما نهاهم عنه سبحانه، وكل لك لا يتحقق ولا يتم إلا بإقامة العدل في الأرض، ولا يتأتَّى هذا إلا أن يقوم به رجل موفَّق يرجو الآخرة ويرجو رحمة ربه، ويعمل على الخير على تحقيق الخلافة في أرض الله بإقامة شرائعه، ذلكم هو الإمام العادل الذي ائتَمَر بأمر ربه (إن اللهَ يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ...) والقائل: (...وأَقسِطوا إن اللهَ يحبُّ المُقسِطين) لذلك كانت له البشرى في الحديث بأن يكون في ظلِّ الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، وبأن يكون مقدَّمًا في الذكر. وقد توالت عليه البُشرَيَات في الدنيا والآخرة (إن اللهَ يحبُّ المُقسِطين) والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "خيارُكم أئمتُكم الذين تُحبونهم ويُحبونهم، وشرارُكم أئمتُكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم وتَلعَنونهم ويَلعَنونكم". كما يقول صلى الله عليه وسلم: "أهلُ الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسِطٌ موفَّقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلبِ لكل ذي قُربَى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعفِّفٌ ذو عيالٍ".
وهذا وغيره كثير يُوجِبُ على أئمة المسلمين أن يُحقِّقوا العدل في الأرض ويَحكموا بين الناس بما أنزل الله.(1/403)
وذكر هؤلاء السبعة لا يعني أن الأمر مقصور عليهم، إذ العمل بأمر الله فرائضَ ونوافلَ وقرباتٍ، والانتهاءَ عما نهَى مع الإخلاص وصدق النية في كل عمل يجعل من الإنسان وليًّا يَحظَى بالقرب والحب الإلهي، ومن حَظيَ بالقرب والحب لم يَقتصر الأمر معه على أن يكون في ظل الله يوم لا ظلَّ لا ظلُّه وحَسْبُ، بل له في الدنيا البشرى وله في الآخرة ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطَر على قلب بشر .
وانظر إلى قوله تعالى في وضوح عن أوليائه الذين ائتَمَروا بأمره وانتَهَوا عما نهاهم عنه: (ألاَ إن أولياءَ اللهِ لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزَنون. الذين آمَنوا وكانوا يَتَّقون لهم البشرَى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ لا تبديلَ لكلماتِ اللهِ ذلك هو الفوزُ العظيمُ) وقولِه تعالى: (إن الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثم استقاموا تَتَنزَّلُ عليهم الملائكةُ ألاَّ تَخافوا ولا تَحزَنوا وأَبشِروا بالجنةِ التي كنتم تُوعَدُون. نحن أولياؤُكم في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تَشتهي أنفسُكم ولكم فيها ما تَدَّعُون. نُزُلًا من غفورٍ رحيمٍ).(1/404)
في وعظ الرجال والنساء يوم العيد
عن جابر بن عبد الله قال: قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفطر، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرَغ نزَل فأتَى النساءَ فذكَّرَهنَّ، وهو يَتوكَّأُ على يد بلال، وبلالٌ باسطٌ ثوبَه، يُلقي فيه النساءُ الصدقاتِ. قال ابن جُريج: قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قال: لا، ولكنْ صدقةٌ يَتَصدَّقنَ حينئذٍ، تُلقي فَتَخَها (الفَتْخ: الخاتمُ العظيمُ يُلبَسُ في الرِّجلِ أو الخاتمُ العظيمُ بلا فَصٍّ) ويُلقِينَ. قلت: أترى حقًّا على الإمام ذلك ويُذكِّرُهنَّ؟ قال: إنه لحقٌّ عليهم، وما لهم لا يفعلونه.
وفي الحديث من الفوائد:
استحبابُ وعظ النساء وتعليمُهنَّ أحكامَ الإسلام وتذكيرُهنَّ بما يجب عليهنَّ، ويُستَحَبُّ حَثُّهنَّ على الصدقة وتخصيصهنَّ بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أُمن الفتنة والمفسدة.
وفيه خروج النساء إلى المصلَّى، عن أم عطية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِيَخرُجْ ذواتُ الخُدورِ والحُيَّضُ، وتعتزلُ الحُيَّضُ المصلَّى، وَلْيَشْهَدْنَ الخيرَ ودعوةَ المؤمنين". قال ابن حجر: وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواءٌ كُنَّ شَوَابَّ أم لا، ذواتِ هيآتٍ أم لا .
وعن أم عطية قالت: أُمرنا أن نُخرِجَ العواتقَ وذاتِ الخُدور. وعنها قالت: أُمرنا أن نَخرُجَ، فتَخرُجُ الحُيَّضُ والعواتقُ وذواتُ الخُدور .(1/405)
في السيدة سارة زوجة الخليل إبراهيم عليه السلام
السيدة سارة زوجة الخليل إبراهيم كانت مصاحبة له حين قدم إلى مصر، وكان مَلِكُها وقت ذاك من الطغاة الذين يَحلو لهم أن يَستحوذوا على ما يُعجبهم من زوجات الآخرين، فأوصاها سيدنا إبراهيم أن تخبر هذا الطاغيةَ حين يسألها عن صلتها بإبراهيم بأنها أختُه، ويقصد بذلك أنها أختٌ في الدين، فليست سارة أختًا لإبراهيم من النسب بل هي زوجتُه وأختُه في الإسلام.
رُوِيَ عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لم يَكذب إبراهيمُ النبي، عليه السلام، قط إلا ثلاثَ كذبات: اثنتين في ذات الله، قولُه (إني سَقيمٌ) وقولُه (بل فَعَلَه كبيرُهم هذا) وواحدةٌ في شأن سارة؛ فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يَعلَمْ أنك امرأتي يَغلِبْني عليك، فإن سألَكِ فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرَكِ. فلما دخل أرضَه رآها بعضُ أهل الجبار، فأتاه فقال له: لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا يَنبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسَل إليها فأُتيَ بها، فقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بَسَطَ يدَه إليها فقُبِضَت يدُه قبضةً شديدة، فقال لها: ادعِي اللهَ أن يُطلِقَ يَدي ولا أضرُّك. ففعَلَتْ، فعاد، فقُبِضَت أشدَّ من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعَلَتْ، فعاد، فقُبِضَت أشدَّ من القبضتَين الأُولَيَين، فقال: ادعِي اللهَ أن يُطلِقَ يَدي، فلَكِ اللهُ ألاّ أضرَّك. ففعَلَت وأُطلِقَت يدُه، ودعا الذي جاء بها فقال: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان. فأخرَجَها من الأرض وأعطاها هاجر..." الخ الحديثِ الذي أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء وأخرجه مسلم في الفضائل، وورد مثل ذلك في حديث الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة، وفيه أنهم جميعًا يأتون إبراهيم ـ عليه السلام ـ يطلبون(1/406)
منه الشفاعة، يقول: لست لها؛ إني كذَبت ثلاث كذبات؛ قوله: (إني سقيم) وقوله: (بل فَعَلَه كبيرُهم هذا) وقوله لامرأته: "أخبريه أني أخوك" فالصحيح أن السيدة سارة زوجة سيدنا إبراهيم لم تكن أختَه من النسب بل هي أخته في الإسلام، والكذب المنسوب لسيدنا إبراهيم لا يَقدَحُ في النبوة؛ لأنه ليس كذبًا على سبيل الحقيقة بل هو من قَبيل المَعَاريض، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ قد صرح بذلك إذ قال: "إنك أختي في الإسلام" وحينئذ فليس فيه نسبةُ الكذب حقيقةً إليه، وامتناعُه في الشفاعة عن الشفاعة لأنه يرى أنه وإن لم يَرتكب خطأ فقد ارتَكَب ما هو في صورة الخطأ.(1/407)
في الحديث رجَعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
بسم الله الرحمن الرحيم : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد .
فقد روى الخطيب عن جابر، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "قَدِمتُم خيرَ مَقدَمٍ، وقَدِمتُم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
إن الظروف التي قيل فيها هذا الحديث الشريف تُلقي بالضوء على المعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه بينما كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ راجعًا من إحدى الغزوات قال: "قَدِمتُم من الجهاد الأصغر" أي من الجهاد الحربي، وهو جهاد في سبيل الله قد يَشُوبُه عند بعض الناس ما يَشُوبُ النفسَ التي لم تُخلِصْ بعدُ إخلاصًا كاملًا لله سبحانه وتعالى. ومثل ذلك ما رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أرأيتَ رجلًا غزًا يَلتَمسُ الأجرَ والذكرَ، ما له ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيءَ له" فأعاده ثلاث مرات ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيءَ له" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ ـ عز وجل ـ لا يَقبَلُ من العملِ إلا ما كان خالصًا وابتُغِيَ به وَجْهُه".
ومعنى الذكر في الحديث الشريف أن هذا الرجل يَلتمس مع الأجرِ والثوابِ أن يَتحدث الناس على شجاعته وأن يَمدَحوه وأن يكون من أصحاب الشهرة والثناء فيما بينهم، ومثل هذا لم تَخلُصْ نيتُه لله وحده .(1/408)
أما الجهاد الأكبر فإنه جهاد النفس حتى تَتزكَّى وتَطهُرَ ، فإذا ما تَزَكَّت النفس وتَطَهَّرَت فإن صاحبها يَهَبُ نفسَه في سبيل الله، فهو يجاهد الجهاد الحربيَّ بروح لا تُبالي على أيِّ جنب كان في الله مصرعُها، ويجاهد الجهاد الحربي بإيمان قد وضَح في عناصره أن اللهَ اشتَرَى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأن لهم الجنةَ، ويجاهد الجهاد الحربيَّ وقد تَشبَّعَ بالمبادئ الإسلامية في الحرب.
وفي قوله تعالى، مخاطِبًا المؤمنين مبيِّنًا لهم ما يجب عليهم عند اللقاء والتحامِ الصفوف: (يا أيها الذين آمَنوا إذا لَقِيتُم فئةً فاثبُتوا واذكُروا اللهَ كثيرًا لعلكم تُفلِحون. وأَطِيعوا اللهَ ورسولَه ولا تَنازَعوا فتَفشَلوا وتَذهَبَ ريحُكم واصبِروا إن اللهَ مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرَجوا من ديارِهم بَطَرًا ورئَاءَ الناسِ ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ واللهُ بما يعملون محيطٌ) (الأنفال: 45 ـ 47) ومن ذلك نتبين أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر؛ لأنه الأساس لكل خير، فهو الأساس للأمن في المجتمع، وهو الأساس للثبات والصبر والنصر على الأعداء في الجهاد الحربي، يقول الله سبحانه: (قد أفلَح مَن زَكَّاها. وقد خاب مَن دَسَّاها) (الشمس: 9ـ 10).(1/409)
في الذكر
لقد حث الله سبحانه وتعالى على الذكر في كثير من آيات القرآن وأمر به ورغَّب فيه، وأعَدَّ للذاكرين الله كثيرًا مغفرةً لذنوبهم وأجرًا عظيمًا في آخرتهم، فضلًا عن الاطمئنان النفسي الذي يصاحبهم دائمًا في حياتهم، قال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا اذكروا اللهَ ذكرًا كثيرًا. وسبِّحوه بُكرةً وأصيلًا) وقال: (واذكُرْ ربَّك في نفسِك تضرُّعًا وخِيفةً ودونَ الجهرِ من القولِ بالغُدُوِّ والآصالِ ولا تكُن من الغافلين) وقال: (الذين آمَنوا وتَطمَئنُّ قلوبُهم بذكرِ اللهِ ألاَ بذكرِ اللهِ تَطمَئنُّ القلوبُ).
ولقد ذكر الرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السبعة الذين يُظلُّهم اللهُ تحت ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: "ورجلًا ذكَر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه".
وروَى البيهقي في "الشُّعَب" من حديث عمر بن الخطاب: قال الله عز وجل: من شَغَلَه ذكري عن مسألتي أعطَيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين.
وروَى البخاري ومسلم وغيرهما بإسناد صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول اللهُ تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذَكَرني، فإن ذَكَرني في نفسِه ذَكَرتُه في نفسي، وإن ذَكَرني في ملأٍ ذَكَرتُه في ملأٍ خيرٍ منه، وإن تَقَرَّبَ إليَّ شبرًا تَقَرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تَقَرَّبَ إليَّ ذراعًا تَقَرَّبتُ إليه باعًا ، وإن أتاني يَمشي أتيتُه هَروَلَةً".
وذكر الله هو حياة النفوس والقلوب، كما ورد عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الذي يَذكُرُ اللهَ والذي لا يَذكُرُ اللهَ مَثَلُ الحيِّ والميتِ".(1/410)
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي تشير إلى فضل الذكر وأجر الذاكرين. وليس الذكر محصورًا في عدد معيَّن بل هو متروك يأتي منه كلُّ مُحِبٍّ للاستزادة من الخير بقدر الوُسعِ والطاقة، ولا يَغفُلُ أيَّ لحظة من لحظاته عن ذكر الله واستشعار عظمته، كما ورَد عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه قال: إن آخر كلام فارَقتُ عليه رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنْ قلتُ: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: "أن تموتَ ولسانُك رَطْبٌ من ذكرِ الله" وما روَى الترمذي أيضًا عن عبد الله بن بُسر ـ رضي الله عنه ـ أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كَثُرَت عليّ، فأخبِرني بشيء أتشبَّثُ به. قال: "لا يزل لسانك رطبًا من ذكر الله".
وما زاد على السبعين يُعَدُّ في العُرف من الذكر الكثير، عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزو فجعلنا لا نَصعَدُ شَرَفًا (مكانًا عاليًا) ولا نَعلُو شَرَفًا ونَهبِطُ واديًا إلا رفَعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: "يا أيها الناس، أربَعُوا على أنفسكم (أشفقوا بأنفسكم) فإنكم لا تَدْعُون أصَمَّ ولا غائبًا، إنما تَدْعُون سميعًا بصيرًا، إن الذي تَدْعُون أقربَ إلى أحدِكم من عنقِ راحلتِه". أخرجه الإمام أحمد والإمامان البخاري ومسلم .(1/411)
وفي هذا الحديث نَلمَحُ المراد من الآية الكريمة أنها دعوة إلى التأدب في الدعاء وتَرْكِ الجهر الزائد بالصوت فيه لقوله تعالى: (ادعُوا ربَّكم تضرُّعًا وخُفيةً إنه لا يحبُّ المعتَدِين) والآية تبين السبب في ذلك، أن الله تعالى قريب قربًا معنويًّا من الداعين، إنه أقرب إلى الإنسان من كل ما يُتَصوَّرُ، يقول تعالى: (ولقد خلَقْنا الإنسانَ ونَعلَمُ ما تُوَسوِسُ به نفسُه ونحن أقربُ إليه من حبلِ الوريدِ) فعلى الإنسان أن يستشعر قُرْبَ الله تعالى، وأن يتوجه إليه بكل جوارحه ومشاعره، وأن يُنزِلَ به حاجاتِه، فهذا هو السبيل الوحيد للنجاح.
والآية بعد هذا وقبله تدعو المؤمنين إلى الدعاء، وتحمل رحمة ربانية مباركة من الله إلى عباده حيث نَدَبَهم إلى عبادته ودعائه، ووعدهم بالثواب العظيم والإجابة، وذلك وحده طريق الرجاء.
وهذه الآية الكريمة تتوسط آيات الصيام، وذلك أن الله سبحانه جمَع آيات الصيام في مكان واحد من سورة البقرة، ويتلو الإنسان هذه الآيات فيُفاجأُ بهذه الآية الكريمة (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب...) تتوسط آيات الصيام، ولله سبحانه وتعالى حكمة في ذلك، إنه سبحانه يشير بذلك إلى أن استجابة الدعاء تتحقق بتقوى الداعي، وأنه لابد للاستجابة من التقوى، وذلك أن حكمة الصوم هي أن يقود الصومُ الإنسانَ إلى التقوى (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم...) إلى (...تَتَّقون) فالصيام إذًا من وسائل استجابة الدعاء، وإذا قاد الصيامُ الإنسانَ إلى التقوى تَحقَّقَ ما قاله الله تعالى في آية الدعاء كشرط من شروط استجابته (...فَلْيَستجيبوا لي وَلْيُؤمنوا بي لعلهم يَرشُدون).(1/412)
في الدعاء بالأسماء الحسنى
يقول الله تعالى: (ولله الأسماءُ الحسنى فادعُوه بها) ويقول تعالى: (قلِ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرحمنَ أيًّا ما تَدْعُوا فله الأسماءُ الحسنى) في هذه الآيات الكريمة يبين الله سبحانه أنه شرع الدعاء بأسمائه الحسنى، ويقول سبحانه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أُجِيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعَانِ فَلْيَستَجيبوا لي وَلْيُؤمنوا بي لعلهم يَرشُدون) وقد بين سبحانه في هذه الآية وفي غيرها أنه يجيب دعوة الداعي وأنه يجيب المضطَّرَّ إذا دعاه ويَكشفُ السوء. ولقد بين الله سبحانه بما لا لَبْسَ فيه أن الاستغفار من أسباب السِّعة في الرزق ومن أسباب زيادة القوة، فضلًا عن فوائده فيما يتعلق بالمغفرة والرحمة، وقد ورد في الأخبار الصحيحة قراءةُ الفاتحة من أجل شفاء المريض، وورد في الأخبار الصحيحة نصيحةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبعض المَرضَى باستشارة الأطباء، ونصَح بعضَهم الآخَرَ بشرب عسل النحل.
ولكن لم يَرِدْ في الأخبار الصحيحة كتابةُ أسماء الله الحسنى في لوحٍ ثم غَسْلُه بالماء وشُرْبُ الماء طلبًا للرزق أو كشفًا عن الأمراض، ولم يَرِدْ ذلك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طريق صحيح، ومع ذلك فإنه لم يَرِدْ ما يَنهَى عن ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة، وقد ورَد قوله تعالى: (ونُنزِّلُ من القرآنِ ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يَزيدُ الظالمين إلا خَسَارًا) فالقرآن شفاءٌ بأوسع معاني الشفاء ورحمةٌ بأوسع معاني الرحمة، فإذا كُتب بحبرٍ طاهرٍ غيرِ مُضِرٍّ بالبدن وغُسل بماءٍ نقيٍّ غيرِ مُضِرٍّ بالبدن وشُرب فإن ذلك غيرُ محرَّم ولا يأثم فاعله، ولم يَرِدْ ما يحرِّمه. ولعل حالة المريض النفسية تتأثر بذلك فيكونُ مساعدًا على الشفاء، كما هو معروف عند علماء النفس من أن للحالات النفسية صلةً مؤكَّدةً بالأمراض.(1/413)
في الشكر في الجو الإسلامي
معنى الشكر في الجو الإسلامي يتكون من جملة عناصر:
أولها، معرفة النعمة وأنها من الله سبحانه (وما بكم من نعمةٍ فمن اللهِ)
ثانيها، استعمال النعم فيما أحبه الله وقصده بها.
ثالثًا، حمد الله سبحانه وتعالى عليها باللسان.
فإذا ما تمَّت هذه العناصر كان الشكر. وما من شك في أن الإنسان مغمور بنعم الله تعالى، يقول سبحانه: (وأسبَغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطنةً) وأن هذه النِّعَمَ إنما أتَت للإنسان عن طريق وسائط مسخَّرة لله تعالى. وأفضل الشاكرين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان حقيقة الشكر هو استعمال النعَم فيما أحبَّ اللهُ سبحانه فإن الحمد هو التعبير اللساني عن الشكر، والحمد كلمة تدل على معرفة النعمة من الواحد الحق.
والإنسان بإزاء النعمة على أنواع:
ومن هذه الأنواع أن يَتلقَّى النعمة فيَفرَحَ بها لذاتها كما يَفرَحُ التاجر بالمكسب؛ لأنه مال أتاه، ولأنه زيادة في ثروته، ولأن تجارته ستصبح بهذا المكسب أوسعَ، ولا يَنظر في كل ذلك إلى مصدر النعمة ولا إلى مانِحِها ومُوهِبِها الذي لو شاء لأمسَكَ ولو شاء لمَنَحَ، وهذا ليس له في الشكر نصيبٌ حتى لو لم يستعمل هذا المكسبَ في المعاصي؛ لأن نظره لم يَتعَدَّ النعمة ويَتجاوَزْها إلى المنعِم.
ومن هذه الأنواع أن يَتلقَّى الإنسان النعمة فيَنظرَ إليها على أنها دليل رضًا من الله سبحانه، وينظر إليها على هذا الوضع ويشكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليها. وهذا داخل في معنى الشكر، بَيْدَ أن الشكر التام الكامل أن يُضيفَ الإنسانُ إلى فرحِه بالنعمةِ كدليلٍ على رضاء اللهِ استعمالَها فيما أحَبَّ اللهُ وفي القربِ منه سبحانه، فإذا ما نظَر الإنسان إلى النعمة على أنها من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وحده وإذا ما استَعمَلَها فيما يُرضي اللهَ ورسولَه ويُقربُ منهما، فإنه ينطبق عليه المعنى الحقيقي .(1/414)
في فائدة الشكر بالنسبة للفرد
إن شكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما يكون على نِعَمِه، وقد وعد الله الشاكرين وعدًا مؤكَّدًا أن يَزيدَهم من نعمه إذا شكَروه سبحانه عليها، يقول سبحانه: (لئن شكَرتم لأَزيدَنَّكم) وقد وعد الله، سبحانه، الشاكرين الجزاءَ الحسنَ، فقال تعالى: (...ومن يُرِدْ ثوابَ الآخرةِ نُؤتِه منها وسنَجزي الشاكرين) أي جزاءً كبيرًا حسنًا، ويقول سبحانه: (وسيَجزي اللهُ الشاكرين) سيَجزيهم سبحانه بالزيادة في الدنيا، فيزداد الغنيُّ الشاكرُ غنًى ويزدادُ القويُّ الشاكرُ قوةً، وهكذا، وسيَجزيهم خيرًا ورضًا في الآخرة.
فقد رُوي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "يُنادَى يوم القيامة: لِيَقُمْ الحمّادون. فتقوم زُمرة فيُنصَبُ لهم لواءٌ فيَدخلون الجنة" قيل: ومن الحمّادون؟ قال: "الذين يشكرون الله على كل حال". ففائدة الشكر بالنسبة للفرد ليست مقصورة على الدنيا دون الآخرة ولا على الآخرة دون الدنيا، وإنما هي في الدنيا والآخرة.(1/415)
في فائدة الشكر بالنسبة للمجتمع
فائدة الشكر بالنسبة للمجتمع ظاهرةٌ ظهورًا واضحًا من تعريف الشكر، وذلك أن جوهر الشكر هو استعمال نِعَمِ الله فيما أحبَّ اللهُ، فإذا استعمل المُنعَمُ عليهم النِّعَمَ فيما أحبَّ اللهُ فإننا نرى في المجتمع التاجرَ الصدوقَ، والعاملَ المتقِنَ، والصانعَ يراعى اللهَ في صنعته، والغنيَّ يؤدي حقَّ الله في ماله من زكاةٍ ومن صدقةٍ، وصاحبَ الجاه يُنفقُ من جاهه عونًا للمظلومين يبتغي بذلك شكر الله على نعمة الجاه. ونرى المدرسَ مربِّيًا لا معلمًا فحَسْبُ، والحاكمَ أبًا للجميع لا طاغيةً متحكمًا، والرئيسَ أخًا لِمَرؤوسيه، والمَرؤوسين متعاونين مع رئيسهم لمصلحة العمل والوطن. ونرى كلَّ راعٍ يتحمل المسئولية بالنسبة لرعيته شكرًا لله على أن استرعاه وجعل له ثوابًا على حسن الرعاية. ثم نرى نتيجة الشكر في المجتمع وهى زيادة النعم (لئن شكَرتم لأَزِيدَنَّكم).(1/416)
في دعاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم
استفتاح الدعاء واسم الله الأعظم
عن عبيد الله بن بُريدة عن أبيه، رضي الله عنهما، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع رجلًا يقول : اللهم إني أسألُك بأني أشهدُ أنك أنت اللهُ، لا إله إلا أنت الأحدُ الصمدُ، الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ. فقال: "لقد سألتَ اللهَ باسمه الأعظم، الذي إذا دُعيَ به أجاب وإذا سُئل به أعطَى" رواه الترمذي وحسَّنه، وقال الحافظ أبو الحسن المقدسي: إسناده لا مَطعَنَ فيه، ولم يَرِدْ في هذا الباب حديثٌ أجودُ إسنادًا منه.
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلًا وهو يقول يا ذا الجلال والإكرام. فقال: "قد استُجيبَ لك فسَلْ" رواه الترمذي.
وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: مر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأبي عيَّاشٍ زيد بن الصامت الزُّرَقي وهو يصلي ويقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمدَ، لا إله أنت، يا حَنّانُ يا مَنّانُ، يا بديعَ السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيُّومُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألتَ اللهَ باسمه الأعظمِ، الذي إذا دُعيَ به أجاب وإذا سُئل به أعطَى". رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
وعن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوةُ ذي النون إذ دعاه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فإنه لم يَدْعُ بها مسلمٌ في شيء قطُّ إلا استجاب اللهُ له". رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ا.هـ.(1/417)
في قول الله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أُجِيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعانِ)
وقوله تعالى: (وقال ربُّكم ادعُوني أَستَجِبْ لكم)
هذه الآيات وغيرها في القرآن الكريم لم تحدِّد وقتًا معيَّنًا للدعاء أو مكانًا له وإنما أطلَقَت إطلاقًا، والواقع أن الدعاء مستحب في كل الأوقات، لأنه تضرُّعٌ إلى الله ورجوعٌ إليه في الاستعانة وتحققٌ بقوله تعالى: (وإياك نستعين). والأوقاتُ التي بعد الصلاة من الأوقات الشريفة التي يُرجَى استجابةُ الدعاء فيها، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ الدعاء أسمعُ؟ قال: "جوفُ الليلِ الآخِرُ ودُبُرُ الصلوات المكتوبات" وهذا الحديث الشريف الذي رواه الإمام الترمذي يحُث على انتهاز الدعاء بعد الصلوات المفروضة؛ لأنه أرجَى فيما يتعلق بالإجابة، فعلى المسلم أن يدعوَ اللهَ كلما شرَح الله صدرَه للدعاء، وخصوصًا في جوف الليل وفي دُبُرِ الصلوات المكتوبات.(1/418)
في ظروف وأمكنة الدعاء
يقول الله تعالى: (وإذا سألَك عبادي عني فإني قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعَانِ) ويقول سبحانه: (ادعُوني أَستَجِبْ لكم).
ولإجابة المطالب ظروف وأمكنة تُهيَّأُ لها، فرحمة الله قريب من المحسنين، والإحسان إذًا من الحالات التي تكون أرجَى لقبول الدعاء، والله تعالى إنما يتقبل من المتقين، والتقوى من هذه الحالات التي تكون أرجَى لإجابة الدعاء، ويقول الرسول صلوات الله عليه: "أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ، فأكثِروا من الدعاء فقَمِنٌ (أي جَديرٌ) أن يُستجابَ لكم".
وقد ورد أن الأزمنة التي يكون الدعاء فيها أقربَ إلى أن يُستجابَ هي: ما بين الأذان والإقامة، وفي السفر، وعند نزول المطر، وعند الإفطار من الصيام.
أما الأمكنة التي تُهيئُ للاستجابة أيضًا فهي الأمكنة الطاهرة، كالمسجد الحرام والحرم النبوي وفي رحاب الصالحين أحياءً كانوا أم أمواتًا .
أما فيما يتعلق بالنذور فالإنسان في هذه الحالة الظاهرة يَستشفع إلى الله بإحسانه وبتقواه وبعمله الصالح على وجه العموم، ويقدم النذور لله سبحانه وتعالى، فالنذور لغيره لا تجوز، وهذه النذور التي توضع في صناديق الأضرحة إنها صدقة للفقراء والمساكين، يجب أن تُصرف إليهم، وهى أساس قوي لإزالة كثير من البلاء ولإجابة الله سبحانه وتعالى مطالبَ الخير، يقول صلوات الله عليه: "حصِّنوا أموالَكم بالزكاة، وداوُوا مرضاكم بالصدقة، ودافِعُوا أمواجَ البلاء بالدعاء والتضرع".(1/419)
في صيغ الدعاء من السنة الشريفة
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، فيما أخرجه الحاكم والإمام أحمد والترمذي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ليس شيءٌ أكرمَ على الله من الدعاء".
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السموات والأرض".
وعن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: (وقال ربُّكم ادعُوني أستجِبْ لكم إن الذين يَستكبرون عن عبادي سيَدخلون جهنم داخرين).
ورُوي عن أنس، رضي الله عنه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي.
وعن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها أو صرَف عنه من السوء مثلَها، ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم" فقال رجل من القوم: "إذًا نُكثِرَ" فقال: "اللهُ أكثرُ" رواه الترمذي والحاكم.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يَنصِبُ وجهَه لله، عز وجل، في مسألة إلا أعطاها إياه؛ إما أن يُعجِّلَها له، وإما أن يَدَّخرَها في الآخرة" رواه أحمد.(1/420)
وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "عبدي، إني أمرتُك أن تدعوني ووعدتُك أن أستجيبَ لك، فهل كنت تدعوني؟ فيقول: نعم يا رب. فيقول :أمَا إنك لم تدعوني بدعوة إلا استجبتُ لك، ألست دعوتَني يوم كذا وكذا لِغَمٍّ نزَل بك أن أفرِّجَ عنك ففرَّجتُ عنك؟ فيقول: نعم يارب. فيقول: إني عجَّلتُها لك في الدنيا. ودعوتَني يوم كذا وكذا لِغَمٍّ نزَل بك أن أفرِّجَ عن فلم تَرَ فَرَجًا؟ قال: نعم يارب. فيقول: إني ادَّخَرتُ لك بها في الجنة كذا وكذا. ودعوتَني في حاجة أن أقضيَها لك في يوم كذا وكذا فقضيتُها؟ فيقول: نعم يا رب. فيقول: إني عجَّلتُها لك في الدنيا. ودعوتَني يوم كذا وكذا في حاجة أن أقضيَها لك فلم تَرَ قضاءَها؟ فيقول: نعم يا رب. فيقول: إني ادَّخَرتُ لك بها في الجنة كذا وكذا" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا يَدَعُ اللهُ دعوةً دعا بها عبدُه المؤمن إلا بيَّن له؛ إما أن يكون عُجِّل له في الدنيا وإما أن يكون ادُّخِرَ له في الآخرة" قال: "فيقول المؤمن في ذلك المقام: "يا ليتَه لم يكن عُجِّل له شيءٌ من دعائه".
وإذا أردتَ استجابة الدعاء فابدأ بالتوبة الخالصة النصوح وتَحَرَّ الحلال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، فيما أخرجه الحافظ ابن مِرْدَوَيهِ: تُليَت هذه الآيةُ عند النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناسُ كُلُوا مما في الأرض حلالًا طيبًا) فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله، ادعُ اللهَ أن يَجعلَني مستجابَ الدعوة. فقال: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطعَمَكَ تَكُنْ مستجابَ الدعوة والذي نفسُ محمد بيده، إن الرجلَ لَيَقذفُ اللقمةَ الحرام في جوفِه ما يُتقبَّلُ منه عملٌ أربعين يومًا، وأيُّما عبدٍ نَبَتَ لحمُه من السُّحت والربا فالنارُ أولى به".(1/421)
ومن صيغ الدعاء المباركة التي دعا بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما نقلته كتب السنة الشريفة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ صَرِّفْ قلوبَنا على طاعتك" رواه مسلم.
وعن ابن حَوشَبٍ قال: قلت لأم سلمة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، ما كان أكثرَ دعاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان عندكِ؟ قالت : كان أكثرَ دعائه: "يا مُقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبي على دينك".
وعن أبي الفضل العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، علِّمْني شيئًا أسأل اللهَ تعالى. قال: "سَلُوا اللهَ العافيةَ" فمكَثتُ أيامًا ثم جئت، فقلت: يا رسول الله، علِّمْني شيئًا أسأل اللهَ تعالى. قال لي: "يا عباسُ، يا عمَّ رسول الله، سَلُوا اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة" رواه الترمذي .(1/422)
في الذكر والدعاء بغير المأثور
ويصح الذكر والدعاء بغير المأثور، والأحاديث التالية دليل على ذلك في جانبَي الذكر والدعاء، عن أنس، رضي الله عنه، قال: كنت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالسًا في الحلقة، إذ جاء رجل فسلم على رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقومِ فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فرد الرسول صلى الله عليه وسلم: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" فلما جلس الرجل قال: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا أن يُحمَدَ ويَنبغي له" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلتَ؟" فرَدَّ عليه كما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لقد ابتَدَرَها عشرةُ أملاك، كلُّهم حريص على أن يَكتبَها، فما دَرَوا كيف يكتبونها حتى رفَعوها إلى ذي العزة، فقال: اكتبوها كما قال عبدي" رواه أحمد ورواته ثقات، والنسائي وابن حبان في صحيحه، إلا أنهما قالا: "كما يحب ويرضى" (انظر "الترغيب والترهيب" كتاب: الذكر والدعاء).
عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فيما رواه الإمام أحمد وابن ماجه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدثهم أن عبدًا من عباد الله قال: "يا ربِّ، لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك" ولم يَدرِيَا كيف يَكتُبانِها، فصَعِدَا إلى السماء فقالا: يا ربنا، قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها! قال الله وهو أعلم بما قال عبده: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربِّ، إنه قال: يا ربِّ، لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطان. فقال لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيَه بها".(1/423)
في آداب الدعاء
يذكر الإمام الغزالي آدابًا للدعاء، منها أن يَترصَّدَ لدعائه الأوقاتِ الشريفةَ: كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، قال تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) وقال صلى الله عليه وسلم: "يَنزل الله تعالى كل ليلة إلى سماءِ الدنيا حين يَبقَى ثلثُ الليل الأخيرُ فيقول عز وجل: من يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألني فأُعطيَه؟ من يستغفرني فأغفرَ له".
ومنها أن يَغتنم الأحوال الشريفة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن أبواب السماء تُفتح عند زحف الصفوف في سيبل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، فاغتَنِموا الدعاء فيها. وقال مجاهد: إن الصلاة جُعلت في خير الساعات، فعليكم بالدعاء خلف الصلوات. وقال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ" وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: "الصائم لا تُرَدُّ دعوته".
ويتابع الإمام الغزالي حديثه فيقول:
وبالحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضًا، إذ وقتُ السحَر وقتُ صفاء القلب وإخلاصه، ويومُ عرفة ويومُ الجمعة وقتُ اجتماع الهِمَم وتَمادي القلوب على استدرار رحمة الله، عز وجل، فهذا أحد أسباب شرف الأوقات، سوى ما فيها من أسرار لا يَطَّلعُ البشر عليها. وحالة السجود أيضًا أجدر بالإجابة، قال أبو هريرة، رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه، عز وجل، وهو ساجد فأكثِروا فيه من الدعاء". وروَى ابن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إني نُهِيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا، فأما الركوعُ فعظِّموا فيه الربَّ، وأما السجود فاجتَهِدوا فيه بالدعاء، فقَمِنٌ أن يُستجابَ لكم".(1/424)
في كيف يدعو الإنسان ربه؟
لأنه تعالى يقول: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعَانِ)
أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالدعاء والابتهال والتضرع إليه في كل وقت وحين، ووعدهم على ذلك بالإجابة فقال: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعَانِ) وقال: (وقال ربُّكم ادعوني أستَجِبْ لكم) وقال صلوات الله وسلامه عليه: "الدعاء مخ العبادة" و: "من لم يَسألْ اللهَ يَغضَبْ عليه".
والدعاء له آداب ينبغي على الداعي أن يراعيَها ليكون دعاؤه أرجَى للقبول، ومن هذه الآداب: 1ـ أن يَتحرَّى الحلالَ في مأكله ومشربه، لقول سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلَني مستجابَ الدعوة. فقال: "ياسعدُ، أَطِبْ مَطعَمك تكنْ مستجابَ الدعوة".
2ـ استقبالُ القبلة إن أمكن.
3ـ تحرِّي الأوقات الفاضلة: كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، والسجود، وبين الأذان والإقامة، وعقب الصلوات، فإن هذه أوقات يستجاب فيها الدعاء.
4ـ رفعُ اليدين إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله لا يردُّهما خائبَتَين.
5ـ حضورُ القلب وإظهارُ الخشوع والضراعة والتذليل إلى الله، عز وجل، مع خفض الصوت، كما قال تعالى: (ادعُوا ربَّكم تضرُّعًا وخُفيةً إنه لا يحبُّ المعتَدين).
6ـ البَدءُ بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا صلَّى (أي دعا) أحدكم فليبدأ بتحميد ربه، عز وجل، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يدعو بما شاء".
7ـ أن يدعوَ الإنسان بغير إثم أو قطيعة رحم، وألاّ يَستبطئَ الإجابةَ، وأن يختار المأثورَ من القرآن والسنة النبوية الشريفة، مثل قوله تعالى: (ربَّنا آتِنَا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النارِ) وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة".(1/425)
في هل يجب أن يُقرأ الدعاء بعد صلاتَي الفجر والمغرب؟
مذهب الشافعية أن القنوت في الصلاة الصبح بعد الركوع من الركعة الثانية سُنّة، رواه الجماعة إلا التزمذيَّ عن ابن سيرين أن أنس بن مالك سئل: هل قنت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصبح؟ فقال: نعم. فقيل له: قبل الركوع أو بعده؟ قال: بعد الركوع. ولما رواه أحمد والبزار والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه، عنه قال: مازال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.
أما في صلاتَي المغرب فلا قنوتَ فيها إلا عند النوازل، فإنه شُرع القنوت فيها وفي غيرها من الصلوات. روى أبو داود وأحمد عن ابن عباس قال: قنت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دُبُر كل صلاة، إذا قال: "سمع الله لمن حمده" من الركعة الأخيرة يدعو عليهم، على حيٍّ من بني سُليم: على رَعْلٍ وذَكوانَ وعُصَيَّةَ، ويؤمِّنُ مَن خلفَه، وكان قد أرسل إليهم جماعة من الصحابة يدعونهم إلى الإسلام، فقتلوهم.
أما الأحناف فإنهم يقنُتون في الوتر في الركعة الثالثة قبل الركوع، لما رواه الأمام أحمد وغيره بإسنادهم عن الحسن بن علي، رضي الله عنه، قال: علَّمني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلمات أقولُهنَّ في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هَدَيتَ، وعافِني فيمن عافَيتَ، وتَوَلَّني فيمن تَولَّيتَ، وبارِكْ لي فيما أعطَيتَ، وقِني شرَّ ما قَضَيتَ، فإنك تَقضي ولا يُقضَى عليك، وإنه لا يَذِلُّ من والَيتَ ولا يَعِزُّ من عادَيتَ، تباركتَ ربَّنا وتَعالَيتَ، وصلى اللهُ على النبي محمد".(1/426)
في دعاء الوالدين
دعاء الوالدين مستجاب إذا صدر بسبب عقوق من الولد أو إساءة أدب أو ما إلى ذلك، فإذا أدى الولد حق أبيه فلا شيء عليه بعد ذلك، دعا الوالد له أو دعا عليه، لأن الله سبحانه وتعالى قد وضع لنا مقاييس الخير ومقاييس الشر، وعلى أساس هذه المقاييس يكون الحساب. وقد يخطئ بعض الناس في استغلال حقه فيُسيءُ إلى مَن أحسَنَ إليه أو لا يَقنَعُ بما يُقدَّمُ إليه، ومثل هذا لا يَستجيب الله له دعاءً على من أحسَنَ إليه، بل قد يتحول دعاؤه على غيره إلى دعاء عليه، يُصيبه شرُّه ولا يتحقق له عن طريقة أيُّ خير. والدعاء على "الغير" لا يُقبل إلا إذا كان صادرًا عن إحساس بظلم صادر منه، لأن الله تعالى عَدْلٌ لا يَقبل الظلم، وقد أنذر الظالمين وفتح للمظلومين باب الانتصار بالقول والفعل وبالدعاء، وفي الحديث الصحيح: "ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتُهم..." وذكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم "...دعوةَ المظلوم يَرفعها الله فوق الغَمَام ويقول: وعزَّتي لأنصُرَنَّكِ ولو بعد حين".
والسائلة تعلم من نفسها إذا كان دعاء والدها له سببٌ مقبولٌ أم لا، فإن كانت تُسيءُ إلى حقه أو تُقصِّرُ فيما يجب عليها نحوَه فعليها أن تتوب إلى الله من ذلك، وأن تَستسمحَ والدها، وأن تُسرِّيَ عنه وتطلبَ منه الدعاءَ لها. وإن لم يكن منها شيء من ذلك استمرت في أداء واجبها نحوه، ولا عليها بعد ذلك دعا أم لم يَدعُ؛ لأنها أدت حق الله عليها.
وحق الوالدين معلوم من الدين بالضرورة، ولهما الحق أحياءً وأمواتًا. ومن الممكن بوسائل المقدرة تفريجُ همومهما، والوصولُ إلى حبهما، والابتعادُ عن كل ما يُسبب غضبَها.
وعلى كلٍّ فالمدار على حسن المعاملة، والوفاء بالحق والواجب، والسير على أساس من الخوف من الله والرغبة في الوصول إلى رضاه.(1/427)
في التوبة هل تَمحو الذنوبَ كلها؟
نعم، فإن رحمة الله بعباده التائبين واسعة، والله تعالى يقول: (إن اللهَ لا يَغفرُ أن يُشرَكَ به ويَغفرُ ما دون ذلك لمن يشاءُ) ويقول سبحانه: (قل يا عباديَ الذين أسرَفوا على أنفسِهم لا تَقنَطوا من رحمةِ اللهِ إن اللهَ يَغفرُ الذنوبَ جميعًا)
غير أن التوبة لا بد أن تكون نصوحًا، عسى الله أن يَقبلَها فيكفرَ الذنوب ويعفوَ عن السيئات، قال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا توبوا إلى اللهِ توبةً نصوحًا عسى ربُّكم أن يُكفرَ عنكم سيئاتِكم ويُدخلَكم جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ يوم لا يُخزِي اللهُ النبيَّ والذين آمَنوا معه نورُهم يَسعَى بين أيديهم وبأيمانِهم يقولون ربَّنا أَتمِمْ لنا نورَنا واغفرْ لنا إنك على كلِّ شيءٍ قديرٌ).
ومن شروط التوبةِ النصوحِ الندمُ، والإقلاعُ عن المعاصي كلها، ورَدُّ الحقوق لأصحابها، وعدمُ العودة بما يغضب الله سبحانه، والإكثارُ من الأعمال الصالحة صلاةً وذكرًا وصومًا وصدقةً، وأداءُ الفرائض كلها، والتقربُ إلى الله بالنوافل، وألاّ يَراه الله حيث نَهاه وألاّ يَفقدَه حيث أمره، فعسى الله أن يَقبلَه ويبدلَ سيئاته حسنات، والله تعالى يقول: (وهو الذي يَقبلُ التوبةَ عن عبادِه ويَعفو عن السيئاتِ) ويقول سبحانه: (إلا من تاب وآمَن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدلُ اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ وكان اللهُ غفورًا رحيمًا. ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوبُ إلى اللهِ متابًا)(1/428)
في التوبة والشباب
إذا خلَصت منه النية وصح منه العزم، وكانت توبته الأخيرة توبة نصوحًا، وذلك بالندم على ما فعَل، وعدمِ العودة إليه، والإكثارِ من طاعة الله، والإقلاعِ عن جميع المعاصي صغيرِها وكبيرِها، والإخلاصِ لله في العبادة، ومراقبتِه في السر والعلن ـ فإنا نرجو أن يَقبلَ توبتَه وأن يَعفوَ عن سيئاته، قال تعالى: (وهو الذي يَقبلُ التوبةَ عن عبادِه ويَعفو عن السيئاتِ) وقال تعالى: (إن الحسناتِ يُذهِبنَ السيئاتِ) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا توبوا إلى اللهِ توبةً نصوحًا عسى ربُّكم أن يُكفرَ عنكم سيئاتِكم ويُدخلَكم جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ يوم لا يُخزِي اللهُ النبيَّ والذين آمَنوا معه نورُهم يَسعَى بين أيديهم وبأيمانِهم يقولون ربَّنا أَتمِمْ لنا نورَنا واغفرْ لنا إنك على كلِّ شيءٍ قديرٌ).
هذا، ونكرر النصح لشبابنا ونُهيبُ بهم أن يُقلعوا عن ممارسة (العادة السرية) فإنها مَقيتة، تُودي بالصحة وتُضعِفُ الدينَ وتُعقِبُ الندامةَ، وهى كما قررنا في مقالة سابقة يشملها التحريمُ المأخوذُ من قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجِهم أو ما ملَكت أيمانُهم فإنهم غيرُ مَلُومِين. فمن ابتَغَى وراءَ ذلك فأولئك هم العادُون)
وعلى الشباب الذين لا يستطيعون الزواج أن يصرفوا ما عندهم من طاقة في طاعة الله، سبحانه وتعالى، صلاةً وصيامًا وذكرًا لله وتسبيحًا، وعليهم أن يَتسامَوا بغرائزهم فيَصرِفوها فيما يعود عليهم وعلى وطنهم بالنافع المفيد.
في: ماذا يفعل الإنسان الذي يبتليه الله بمصائبَ ومتاعبَ مع أن سلوكه طيب ويفعل الخير؟(1/429)
الحياة الدنيا دار ابتلاء بالمتاعب والمصائب، ولم يَسلَمْ من ابتلائها أحد، حتى الأنبياء، وليس ذلك دليلاً على غضب الله أو عدم رضاه عن العبد، لأن الله جعل المصائب اختبارًا وامتحانًا، قال تعالى: (ولَنَبلُوَنَّكم حتى نَعلَمَ المجاهدين منكم والصابرين ونَبلُوَ أخبارَكم) وعلى الإنسان الذي يُبتلَى في حياته أن يصبر لينال أجر الصابرين، قال تعالى: (إنما يُوفَّى الصابرون أجرَهم بغير حساب) ومن كان يفعل الخير ويؤدي الطاعات وهو مبتلًى مع ذلك بالمصائب فقد يكون ذلك من محبة الله تعالى له ورضائه عنه، كما روى في الحديث: "إذا أحبَّ اللهُ عبدًا ابتلاه حتى يَسمعَ تضرعَه". ولقد مدح اللهُ أيوبَ على صبره على ابتلاء الله، وقال فيه: (إنا وجدناه صابرًا نعم العبدُ إنه أوابٌ) وقال عليه السلام: "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل". وليس هناك من باب للفرج وإزالة البلاء إلا باب الله سبحانه وإلا الالتجاء إليه والدعاء، وقد ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الدعاء يرفع البلاء وأنه ينفع فيما نزَل من البلاء وفيما لم يَنزل. والتضرعُ إلى الله سبحانه باب عظيم من أبواب الفرج.(1/430)
في هل الصدقة والدعاء والقراءة تنفع الميت؟
إن الصدقة والدعاء والاستغفار للميت ينفعه، وكذلك العلم الذي تركه بالإجماع، وأما تلاوة القرآن فالأحسن فيها الدعاء للميت والترحم عليه والاستغفار له، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له" رواه مسلم.(1/431)
في ما حكم الدعاء للميت بعد الصلاة وقبل دخوله إلى القبر؟
إن الدعاء للميت قبل الصلاة عليه وقبل دخوله القبر وبعد دخوله القبر جائز، بل مستحب، لأن الميت إن كان مذنبًا وهو من المسلمين فهو محتاج إلى الدعاء ليغفرَ الله له ذنوبه، ويعاملَه بلطفه، ويُسبِغَ عليه من رحمته، وقد دعا الأنبياء للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياء وأمواتا، وقال تعالى في سورة نوح: (ربِّ اغفرْ لي ولِمَن دخل بيتيَ مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات) بل إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالاستغفار للمؤمنين أحياءً وأمواتا، فقال تعالى: (فاعلَمْ أنه لا إلهَ إلا اللهُ واستغفرْ لذنبِك وللمؤمنين والمؤمناتِ واللهُ يَعلمُ مُتقلَّبَكم ومَثواكم) (محمد: 19) وهذه الآية الكريمة تعليم للأمة وتوجيه لها إلى الدعاء لموتاها المؤمنين تأسيًا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالدعاء للميت مطلقًا وفي أي وقتٍ كان جائزٌ، بل مستحب.(1/432)
في أدعية تفريج الكرب وجلب الرزق وسداد الديون
هناك أدعية لتفريج الكرب وجلب الرزق وتسديد الديون وما إلى ذلك، أخرج مسلم عن عبد الله ابن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى". وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوالِ نعمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك، وفُجاءةِ نِقمتِك، وجميعِ سَخَطِك".
وصفات عباد الرحمن في القرآن الكريم يعبِّر عنها قول الله سبحانه: (والذين يقولون ربَّنا هَبْ لنا من أزواجِنا وذرياتِنا قرةَ أعينٍ واجعَلنا للمتقين إمامًا).
ويرى بعض الناس أن هذه الأدعية الصحيحة وما يماثلها يمكن للإنسان أن يجعلها في حِرز مانع من القماش أو الجلد وأن يعلِّقَها على جسمه، فيقومُ تعليقُها مقام الدعاء بها، وقد روَى أحمد والحاكم والطبراني، ورجاله ثقات: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من علَّق وَدَعةً فلا ودَّع اللهُ له، ومن علَّق تَميمةً فلا تمَّم اللهُ له". والوَدَعة شيء يخرج من البحر يشبه الصَّدَفَ يَتَّقون به العين، والتميمة خَرَزات تُعلَّقُ على الأولاد لحمايتهم من ضرر العين. قال ابن حجر: محل ما ذُكر من الخبر وما قبلَه تعليقُ ما ليس فيه قرآنٌ ونحوه، أما ما فيه ذكرُ الله ونحوُه فلا نَهيَ عنه، فإنه إنما جُعل للتبرك والتعوذ بأسمائه.
وعلى ذلك فلا شيءَ في تعليق ما فيه ذكر وقرآن إذا كان في حرز مانع من قماش أو جلد بقصد استجلاب الرزق. وأما إن كان فيه شيء غير الذكر فلا يجوز تعليقه وسيكون سببًا في تحصيل ما يخالف الغرض المقصود منه.(1/433)
في الدعاء على الغير دون حق
إن الدعاء على (الغير) دون حقٍّ ولا سببٍ غيرُ مقبول ولا يُستجابُ لفاعله، بل إن فاعله بفعله هذا اكتسب خطيئة ومعصية واحتمل بذلك بهتانًا وإثمًا، يقول الله سبحانه: (ومن يَكسِبْ خطيئةً أو إثمًا ثم يَرْمِ به بَريئًا فقد احتَمَل بهتانًا وإثمًا مبينًا) فالدعاء على (الغير) دون سببٍ إثمٌ وقطيعةُ رحم كما أخبرنا بذلك الشارع المعصوم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ يُستجابُ للعبد ما لم يَدْعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رَحِمٍ".
وحَسْبُ الداعي على غيره دون سببٍ من الشرِّ والإيذاءِ رجوعُ الدعاء إليه واستعجالُ نزول العقوبة به، فعن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبدَ إذا لعَن شيئًا صَعِدَت اللعنةُ إلى السماء، فتُغلَقُ أبوابُ السماء دونَها، ثم تَهبِطُ إلى الأرض، فتُغلَقُ أبوابُها دونها، ثم تأخذُ يمينًا وشمالاً، فإذا لم تَجِدْ مَسَاغًا رجَعت إلى الذي لعَن، فإن كان أهلاً لذلك وإلا رجَعت إلى قائلها" رواه أبو داود.
وكما أنه كان من محض عدل الله سبحانه أنه لا يَظلم مثقالَ ذرة وإن تَكُ حسنةً يضاعِفْها، فإن من محض عدله تعالى أيضا أن جعَل ظَهيرًا وعَونًا للمظلوم، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قَرَابةً أَصِلُهم ويَقطعونني، وأُحسنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهلون عليَّ! فقال: "لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك" رواه مسلم.(1/434)
في سؤال يقول:
يقول الله سبحانه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعَانِ)
وأنا أدعو الله ولا يستجاب لي، فكيف ذلك؟
يقول الله سبحانه وتعالي: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعَانِ) وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ليس شيءٌ أكرَمَ على الله من الدعاء". بل إن للدعاء دخلاً في تلطيف القضاء أو تخفيفه أو عفو الله سبحانه، فلقد روَى الترمذي عن سيدنا سلمان الفارسي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يردُّ القضاءَ إلا الدعاءُ، ولا يَزيدُ في العمر إلا البرُّ". إذًا فالدعاء مطلوب، وعلى كل مسلم أن يَضرَعَ إلى الله سبحانه ويتجه إليه وحده، فهو الذي يُعطي ويَمنع ويُجيب المضطَّرَّ إذا دعاه.
ولأجل أن يكون الدعاء مقبولاً ومستجابًا لابد من:
1ـ التوبة الخالصة النصوح.
2ـ تحري الحلال.
3ـ عدم الدعاء بما فيه إثم أو قطيعة رحم.
4ـ والشرط الأساسي هو أن يحقق الإنسان العبوديةَ لله سبحانه.
فإذا تحققت هذه الشروط من الداعي فلا ريب أن الدعاء يستجاب منه ويُعطَى سُؤلَه.
علينا أن نتدبر الحديث التالي: عن ابن عباس، قيل أخرجه ابن مردويه: تُليَت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا) فقال: "يا سعد، أَطِبْ مَطعَمك تكنْ مستجابَ الدعوة. والذي نفسُ محمد بيده، إن الرجل لَيَقذفُ الحرامَ في جوفه ما يُتقبل منه أربعين يومًا. وأيُّما عبدٍ نبَت لحمُه من السحت والربا فالنار أولَى به".
ولقد بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه عن ربِّه الشروطَ التي إذا تحققت كانت استجابةُ الدعاء مضمونةً وكانت مؤكَّدةً، فعلى من يريد استجابة دعائه أن يُحققَها فيَضمَنَ الاستجابة.(1/435)
في عدم اهتمام بعض الأئمة والعلماء بالدعاء
الدعاء ليس له وقت من الأوقات، وإنما يكون في أي ساعة من النهار أو الليل، مثلُ: قبلَ الصلاة وبعدها. وليس له صيغة معروفة، وإنما أي لفظ يؤدي إلى المعنى المراد به الدعاء، على شرط أن يكون مستوفيًا للشروط التي تُشترط في الدعاء؛ من الأكل الحلال والمطعم الحلال والمَلبَس الحلال ـ فالله سبحانه وتعالى يستجيب هذا الدعاء، يقول الله تعالى في محكم كتابه: (إن الذين يَستكبرون عن عبادتي سيَدخلون جهنمَ داخرين) وقال تعالى: (قل ما يَعبأُ بكم ربي لولا دعاؤُكم) ويقول: (وللهِ الأسماءُ الحسنى فادعُوه بها) وقال تعالى: (واسألوا اللهَ من فضلِه).
وإن الذين يقولون: عليك بالدعاء وحدك في بيتك. مخطئون. والدعاء يكون بالجماعة والواحد سواء، والجماعة أفضل، ليعلم الجاهل رأي الدين الإسلامي في ذلك أن الدعاء عام للجميع، في البيت، والمصنع، والمزرعة، والعمل، وفي كل شيء، فالدعاء مطلوب ويُستحب، وهو مخ العبادة.(1/436)
في هل تُقبل توبة المذنب وهو على فراش الموت؟
نعم، تُقبل التوبة عن المذنب وهو على فراش الموت ما لم يُغَرغِرْ، إذا كانت توبته نصوحًا اجتَمَعَ فيها الأمرُ برَدِّ المظالم إلي أهلها، والندمُ على ما فرَط منه، والعزمُ على ألاّ يعود إلى معصيته أبدًا، إن كان ذنبه بسبب اغتصابِ حقٍّ لآدمي، أما إن كان ذنبه يتعلق بحق من حقوق الله فشروطُ توبتِه الإقلاعُ عن معصيته، والندمُ على ما فرَط منه، والعزمُ على ألاّ يعود إلى ما ارتكبه من الذنوب أبدًا، قال تعالى: (قل يا عباديَ الذين أسرَفوا على أنفسِهم لا تَقنَطوا من رحمةِ اللهِ إن اللهَ يَغفرُ الذنوبَ جميعًا إنه هو الغفورُ الرحيمُ. وأَنِيبوا إلى ربِّكم وأَسلِموا له من قبلِ أن يأتيَكم العذابُ ثم لا تُنصَرون) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخرَ كلامِه من الدنيا: لا إله إلا الله. دخَل الجنةَ".(1/437)
في الدين هادٍ للعقل
القضية أن الدين نزل هاديًا للعقل، إننا جميعًا نؤمن بهذه القضية؛ الدين نزل هاديًا للعقل، لكن حينما نقول الدين نزل هاديًا للعقل يتساءل كثير من الناس: في أي المجالات؟ ونحن لا نريد أن نقول: نزل هاديًا للعقل في مجال الماديات. فالدين أطلق للعقل الحرية الكاملة فيما يتعلق بالبحث والكشف في مجال الماديات في السماء وفى الأرض وفيما بين السماء والأرض، وفقط قيَّده بأن يكون ذلك في خير الإنسانية، إنه ما دام الأمر فيما يتعلق بمجال الماديات والبحث والكشف فيها في خير الإنسانية فللعقل الحرية الكاملة في هذا، بل إن أسلافنا رضوان الله عليهم كانوا يسمون هذه العلوم المادية؛ الطبيعة والكيمياء والفلك والأحياء ـ كانوا يسمونها علوم الكشف عن سنن الله الكونية، وما دامت كشفًا عن سنن الكونية فهي كشف عن بعض صفات الله سبحانه وتعالى. مادام الأمر كذلك فهي عبادة من هذا الجانب؛ العلم بالماديات. الكشفُ عن سنن الله الكونية في المادياتِ زيادةُ إيضاح لصفات الله تعالى، وهو عبادة، لكن الأمر فيما يتعلق بـ(نزل الدين هاديًا للعقل) إنما هو في أمور المجتمع ومجالاته. العقيدة نزل الدين هاديًا فيها، الأخلاق نزل الدين هاديًا فيها، نظام المجتمع نزل الدين هاديًا فيه، التشريع نزل الدين هاديًا فيه أيضًا.(1/438)
هذه الهداية فيما يتعلق بالتشريع أحيانًا تكون مفصّلةً تفصيلاً دقيقًا، كالميراث مثلاً وككتابة الدين، وأحيانًا تكون كلياتٍ تضم تحتها جزئياتٍ كثيرةً. ولا ريب في أنه نزل الدين هاديًا للعقل في جميع مبادئ التشريع، لكن في وسائل التشريع أحيانًا يكون مفصِّلاً لها. إن رسائل المبادئ أحيانًا يكون الدين مفصِّلاً لها وأحيانًا يتركها للعقل الإنساني يتصرف فيها حسب الظروف. مثلاً: الشورى مبدأ من المبادئ التي أقرها الإسلام، وسيلة الشورى تركها الإسلام للعقل الإنساني يحددها حسب ظروفه وحسب أمكنته وأزمنته، أما مبدأ الشورى فهو مبدأ لا يتغير.
وحينما نقول نزل الدين هاديًا للعقل، فإنما نعني بذلك أن العقل لا يتحكم في الدين إنما يهتدي به. ومعنى أيضا نزل الدين هاديًا للعقل أن العقل يفهمه وينقله ولا يتناقض أو يتعارض هو والعقل، لأنه نزل هاديًا له.
ولأنه نزل هاديا له، ولأننا نؤمن بأن الدين من قِبَلِ الله سبحانه وتعالى، فهناك القضية التي تتلو ذلك وهي أن هذه الهداية معصومة لأنها من قِبَلِ الله، وما دامت معصومة لأنها من قِبَلِ الله فلابد من اتِّباعِها، لا مَنَاصَ من اتباعِها. من أجل ذلك كانت الآيات التي تدل على وجوب الاتباع في غاية الصرامة أو في غاية القوة، قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ويقول سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ويقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ويقول أيضًا: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلما تسليما).
هذه الصرامة لماذا؟
لماذا هذا التحديد وهذه الدقة فيما يتعلق بضرورة وجوب اتباع هذه المبادئ التي نزلت من السماء؟(1/439)
في تناقض الفكر البشري
أما عن ضرورة ذلك فإن كل من درس تاريخ الفكر البشري ـ منذ أن كُتب هذا الفكر في الأزمنة القديمة إلى الآن ـ كل من درسه تبين له قضية في غاية السهولة؛ هي أن هذا الفكر البشري على تتابع الأزمنة، بل في العصر الواحد وفى القرن الواحد، وفى الأمة الواحدة، هذا الفكر البشري متعارِض متضارب متناقض مختلف.
أين هو الحق فيما يتعلق بهذا التضارب؟ وهذا التعارض وهذا الاختلاف والتعارض والتضارب في جميع المجالات الفكرية البحتة!
لسنا بصدد المجالات المادية؛ لأن المجالات المادية تحكمها التجربة، فالتجربة فيصل، ولكننا بصدد المجالات النظرية: التشريع، الأخلاق، العقيدة، نظام المجتمع أين هو الحق، وأين هو الباطل في الآراء البشرية الخاصة بهذه الموضوعات.
ليس هنالك مقياس للحق والباطل، كل المقاييس التي حاولت الإنسانية أن تخترعها منذ الأزمنة القديمة، كل هذه المقاييس أثبتت فشلها وبطلانها.
من أوائل هذه المقاييس مثلا في الفصل بين الحق والباطل فيما يتعلق بالآراء النظرية، ومنها التشريع بطبيعة الحال، من أوائل هذه المقاييس (منطق أرسطو) لقد أخفَقَ إخفاقًا كاملاً في تمييز الحق عن الباطل.
ومنها مقياس (ديكارت) إنه أخفق إخفاقًا كاملاً أيضًا فيما يتعلق بالتمييز بين الحق والباطل.
هذا من جانب.
ومن جانب آخر، ما دام لا سبيل إلى القطع بأن هذا الرأي حق وهذا الرأي باطل، كان هناك المجال المتسع الكبير لتزييف الآراء أو صناعة الآراء، وفى علم الاجتماع وفى علم النفس كثير من المباحث التي تتحدث عن صناعة الرأي العام.
الرأي العام يُصنع عن طريق الصحف، ويُصنع عن طريق الإذاعة، ويُصنع عن طريق التكرار، يُصنع بوسائل مختلفة، ويُصنع تزييفًا أو إحقاقًا الرأي العام، وما دام الرأي العام يُصنع فهناك هذه الوسائل التي تَصنع الرأي العام.(1/440)
هذه هي الوسائل التي تَصنع الرأي العام، هناك كثير من الناس استخدمها، ولكن الذين استخدموها في قوةٍ هم اليهود، استخدموا صناعة الرأي العام في قوة بالنسبة لأغراضهم، وهم يقولون مثلاً في تكييفهم الرأيَ العام بالنسبة لشخصيات معينة: ونحن الذين رتبنا نجاح كارل ماركس. يقولون هذا في كتبهم، ويقولون هذا في كتاب (بروتوكولات حكماء صهيون) لقد رتَّبوا نجاحه ونجاح آخرين. لماذا رتَّبوا نجاحهم؟ لأنه هدم لكل الأفكار الروحية، وهم يريدون ألاّ تسود الأفكار الروحية في الإنسانية. ويقولون أيضا عن (البروتوكولات): نحن الذين رتَّبنا نجاح دارون صاحب نظرية التطور، ونحن الذين رتبنا نجاح نيتشه صاحب نظرية الأخلاق. إنه يرى أنْ ليس هناك فضيلة ولا شجاعة أو عفة أو كرم أو ما شاكَلَ ذلك، كل هذه الألفاظ اخترعتها الإنسانية من أجل حماية الضعفاء، وتشبثوا بها من أجل حماية أنفسهم.
أراد اليهود أن تسود هذه الفكرة في العالم لتحلُّل الأخلاق، ولينتهوا من تحلُّل الأخلاق إلى السيادة في العالم.
نعود فنقول: هناك صناعةٌ لآراء. ما هو المقياس الذي نفصل به بين الحق والباطل؟ ليس هناك هذا المقياس. ولقد حاول ـ في مواجهة الوحي الإلهي وفى مواجهة التشريع الإلهي ـ حاول بعض الناس عمل نظم اجتماعية، حاول مثلاً أفلاطون أن يكوِّن جمهورية على ما ينبغي بأدقِّ ما يمكن أن يكون من تفكير فلسفي، وألَّف أفلاطون جمهوريته، كتَبها ونسَّقها ودرَسها وعقَد فيها ندوات كثيرة، ودُعِيَ أفلاطون لتحقيق جمهوريته في جمهورية صغيرة، وذهب أفلاطون إلى هذه الجمهورية وقيل له: إنك مفوَّض تفويضًا مطلقًا في تحقيق جمهوريتك. وحاول أفلاطون أن يحقق جمهوريته فأخفَقَ إخفاقًا كاملاً، وبعد عشرين سنة، بعد فترة من النضج، دُعِيَ مرة أخرى لتحقيق جمهوريته بعد التجربة وبعد هذا الإخفاق الذي ناله وبعد أن اكتسب معرفة وخبرة، فأخفق إخفاقًا كاملاً مرة أخرى.(1/441)
أما الإسلام فقد طُبِّق، طُبِّق في جمهورية أو في دولة أو في أمَّة، إن هذه الألفاظَ اللفظُ المستعمل فيها إسلاميًّا هو كلمة أمّة (إن هذه أمّتُكم أمّةً واحدةً).
طُبِّق الإسلام في أمّة، وانتهى هذا التطبيق بأن انتقل الإسلام من النظرية إلى الواقع، لقد أصبح واقعًا في أمّة تَمتد من كذا إلى كذا، لا تكاد تَغرب الشمس عنها، طُبِّق بالفعل وانتقل من النظرية إلى الواقع، لكن كل الآراء التي قيلت ـ فيما يتعلق بالأنظمة التي اختُرِعَت أو ابتدعتها البشرية كلها ـ عُرِضت وأخفَقَت ووُوجِهَت بالنقد الذي أثبَتَ تَعارُضَ بعضها مع بعض.
ولتوضيح ذلك نقول: النظام الرأسمالي اختراع بشري في أمريكا، يتعارض تعارضًا كاملاً مع النظام الشيوعي الذي هو اختراع بشري فيما يتعلق بروسيا، ولكن أي هذين النظامين حق؟ لا سبيل مطلقًا إلى أن تُثبت أن هذا أحق من هذا نظريًّا بالدليل والبرهان، وكل ما يقام من أدلة أو براهين في أمريكا تنقُده روسيا، وكل ما يقام من أدلة أو براهين في روسيا تنقُده أمريكا.
إذن من هنا كانت الصرامة فيما يتعلق بالدعوة إلى اتخاذ الإسلام أساسًا، ومن هنا كانت هذه الآيات التي تتحدث عمن لا يحكم بما أنزل الله، بالظلم مرة، وبالفسق مرة أخرى، وبالكفر مرة ثالثة.(1/442)
في هداية الدين للعقل دائمةً لا تتأثر بزمان ولا مكان
ونزَل الدين كما قلنا هدايةً للعقل، هذه الهداية للعقل ليست مقصورة على زمن دون زمن ولا على مكان دون مكان، إنها في الوضع الديني الإلهي لكل المؤمنين تتبلور في قضية نتحدث عنها في كل وقت وفى كل آنٍ، هذه القضية هي الشريعة الإسلامية صالحةً لكل زمان ومكان، وهذا هو منطق الدين، خصوصًا حينما يكون هذا الدين هو آخر الأديان، بإعلانه سبحانه وتعالى عن ذلك: (اليومَ أكمَلتُ لكم دينَكم وأتمَمتُ عليكم نعمتي ورَضيتُ لكم الإسلامَ دينًا) هي إذن صالحةٌ لكل زمان ومكان، هذه الكلمة أو هذه القضية (صالحة لكل زمان ومكان) إذا كانت في معناها السطحي أو الشكلي أو معناها اللغوي واضحةً فإن بعض الناس قد اتخذها أساسًا لتفسير منحرِفٍ كلَّ الانحراف، من هؤلاء مثلاً من قال: إنها صالحة لكل زمان ومكان لأنها تتكيف بحسب الزمان والمكان. ثم انتقل نقلة أخرى فقال: إنها صالحة لكل زمان ومكان لأننا نكيفها بحسب الزمان والمكان.
كيف يكون التكييف؟
قال بعضهم، وعمل على ذلك جاهدًا: نحن الآن في بعض الأقطار نعمل في بناء الدولة، وبناء الدولة جهاد أكبر، وإذا كان الجهاد الأصغر يُبيح الإفطار في رمضان فالجهادُ الأكبر ـ وهو بناءٌ ـ أولَى أن يبيح الإفطار في رمضان.
وحاول أن يطبق الإفطار في رمضان على الدولة فأخفق، لأن الناس كان شعورهم إيمانيًّا دينيًّا فلم ينصاعوا، ولكنه حاول وبذَل وجنَّد الشرطة وجنَّد كل شيء فيما يتعلق بتطبيق الإفطار في رمضان، فكان يقدم مثلاً للمدارس الثانوية الداخلية وللجامعات والجيش ونحوِها الوجباتِ العاديةَ في شهر رمضان بدلاً من الإفطار والسحور، ولكن في النهاية ـ برغم كل ما بذله من جهد ـ أخفق.(1/443)
ونعود فنقول: كيف نكيِّفها بحسب الزمان والمكان؟ نمنع تعدد الزوجات مثلاً! منَعَ تعددَ الزوجات وحصَلَت حادثة أمام سمعه وبصره، حصَلَت حادثة، هذه الحادثة تتلخص في أن شخصًا من الأشخاص متزوج وعنده أولاد من زوجته، ثم أصبحت زوجته في وضع غير صالح لاستمرار الزوجية، من الناحية الجنسية، فكان هو بين أمرين: إما أن يَزنيَ وإما أن يَتزوجَ، والتعدد ممنوع، فماذا يصنع؟ امرأته الأولى لم تَزْنِ، ليست مسئولةً عما حدث لها، هذا قضاء الله بالنسبة لها، فما ذنبها لتُطلَّقَ؟ ولِمَ يُطلِّقُها؟ إنها لم تُسئْ إليه، ولم يُطلِّقْ وإنما ذهب وعقَد عقدًا شرعيًّا على امرأة وتزوَّجها بحسب الشرع، وأسكَنَها في مسكن، وكان يذهب إليها ويبيت عندها، وبلغ عنه أنه تزوج امرأة أخرى، والقانون في هذه الناحية لا يتساهل، وذهبت الشرطة وضبطوه متلبسًا بالجريمة، جريمةِ الزواج بامرأة أخرى، وأُتِيَ به للتحقيق، وقالوا له: هل تزوجتَ امرأة أخرى؟ فقال: كلا. فقيل له: ولكنك كنتَ عندها. قال: نعم. وتُنفق عليها؟ نعم. وقد استأجرتَ لها هذا المسكَنَ؟ نعم. وتَبيتُ عندها؟ وأَبيتُ عندها. ماذا تكون إذن؟ إنها عشيقة. فقيل له: تفضل اذهب لا مَلاَمَ عليك، لا لومَ عليك. حرَّموها زوجة وأباحوها عشيقة بقانونهم! حدث هذا بالفعل والتحقيق، تحقيق البوليس.(1/444)
ويأتي أيضًا فيما يتعلق بالتعدد أن (أتيين دينييه) مستشرق فرنسي كان قد ذهب إلى الجزائر في عهد الفرنسيين، وهو فرنسي أقام في الجزائر في بلدة اسمها (بوسعادة) استراح إلى الجو، واستراح إلى الناس، واستراح إلى الخلق، وكلها أغرته: الجو، الطبيعة، الصحراء، الناس، كلها أغرته بأن يقيم في الجزائر فأقام، أقام في عهدين: عهد كان فيه التعدد مسموحًا به. وعهد حدث فيه عدمُ التعدد أو الدعوةُ إلى عدم التعدد أو الإقلالُ من التعدد. وبعد ذلك لاحظ ثلاث ملاحظات كتبها باللغة الفرنسية في أحد الكتب، كتَب يقول: حينما مُنِعَ التعددُ والطلاقُ وُجِدَت ظواهرُ لم تكن موجودة أيام كانت إباحةُ التعدد والطلاق.
ما هي هذه الظواهر التي وُجدَت عندما مُنع التعدد؟
أولاً كثرة العوانس. هذا أمر.
الأمر الثاني كثرة اللُّقَطاء.
الأمر الثالث كثرة الأمراض السرية.
هذه المسائل الثلاثة حدثت بعد أن مُنع التعدد وبعد أن مُنع الطلاق، وليس معنى إباحة التعدد أنه مفروض، وليس معنى ذلك أنه لابد من التعدد، كلاّ. وأنتم تعلمون أنه مع إباحة التعدد الآن في القاهرة يمكن أن يكون نصف في الألف هم الذين يعددون الزوجات، وإذا ارتفعت عن أكثر من الاثنتين يمكن أن يكون ربع في الألف، وهكذا الأمر، نعني يكاد يكون التعدد مع إباحته معدومًا.
ولكن من الوجهة النظرية، لو فرضنا أن شخصًا من الأشخاص إمّا أن يَتزوجَ وإمّا أن يَزنيَ، فيُباح له أن يتزوج.(1/445)
هذا رأي الكاتب الفرنسي، يقول ويستشهد بالتعداد وبالتجربة، ماذا حدث، وماذا كان. لكننا نتساءل الآن ما هو إذن المعنى الصحيحة للقضية (الشريعة صالحة لكل زمان ومكان) إن الشريعة أنزلت للإنسان من حيث هو إنسان، لا للإنسان من حيث هو مصري، أو من حيث هو فرنسي، أو من حيث هو كذا وكذا فيما يتعلق بالوطن. إنها نزلت للإنسان من حيث هو إنسان. وما دامت قد أنزلت للإنسان من حيث هو إنسان فإنها صالحة لكل زمان ومكان، لا تتغير، لأن الإنسان هو أينما كان، الإنسان هو الإنسان في عواطفه، وفي انفعالاته، وفي سلوكه، في تصرفه، في عقله، في ذكائه، في إحساسه، وأنزلت الشريعة إذن للإنسان من حيث هو إنسان، فهي إذن صالحة لكل زمان ومكان، صالحة في مبادئها، وصالحة في وسائلها إذا حدِّدت، وكل خروج عليها إنما يكون انحرافًا.(1/446)
في الانحراف ودواعيه
لكن ماذا حدث عندنا في مصر؟ الذي حدث عندنا نحن في مصر أننا كنا نطبق نظام الشريعة الإسلامية ثم جاء الاستعمار ونسف الشريعة الإسلامية من القطر المصري، وأحل محلها القانون الوضعي، واستَقدَموا قضاةً ومستشارين من الأقطار العربية، ثم رُئِيَ أن هذا النظام لا يتأتَّى أن يستمرَّ كثيرًا، فأنشأوا مدرسة الحقوق، وكانت تسمى مدرسةً قبل أن تكون كليةً، فأُنشئَت مدرسة الحقوق لتخريج قضاة أو محامين أو مستشارين إلى آخره ليحكموا بالقانون الوضعي، وكان لابد أن يكون المنهج والبرامج فيها هو القانون الوضعي.
وزال الاستعمار، وحاولنا أن نتخلص من كل آثار الاستعمار، ولكننا أَلِفْنَا كليات الحقوق وأَلِفْنَا مدرسة الحقوق، فخُيِّلَ إلينا أن الأمر عادي، ولكن الأمر في حقيقته ليس بعادي، إنه غاية الغرابة أن نقيم ـ نحن ـ في بلدنا وفى قطرنا كلياتٍ للغزو الفكري لنتابع آثار الاستعمار ولنعمل على استمرار آثار الاستعمار، نُنفِقُ عليها، ونُربِّي فيها أبناءنا، ونَضَعُ أبناءَنا في جو لِيَغزوَهم هذا الجوُّ فكريًّا ليكونوا أوربيِّين أكثرَ منهم مسلمين أو أكثرَ منهم وطنيِّين، لأن الوطنية تَقتضي أيضًا أن نتخلص من الغزو الفكري ومن آثار الاستعمار، ولكننا أَلِفْنَا الأمر. ذهبتُ إلى كلية حقوق عين شمس لإلقاء محاضرة وسألت: كم عدد المحاضرات في الكلية في الأسبوع؟ فقيل: اثنتان وعشرون محاضرة. كم منها للشريعة الإسلامية؟ درسان في الأسبوع، وعشرون درسًا للقوانين الوضعية.
لو كانت هذه الكلية في فرنسا ما كانت تزيد على ذلك، أو لو كانت في إنجلترا ما كانت تزيد على ذلك. وأحب أن أقول: إنه لو كانت في إسرائيل أيضًا ما كانت تزيد على ذلك.
محاضرتان للشريعة الإسلامية في بلد إسلامي، محاضرتان فقط مقابل عشرين محاضرة لاستمرار الاستعمار، أو لاستمرار آثار الاستعمار، أو للغزو الفكري فيما يتعلق بالاستعمار.(1/447)
هذا لا يتأتَّى أن يستمر طويلاً، ولكن لأننا أَلِفْنَا ولأننا لم نفكر في الوضع ولأننا أَلِفْنَاه كما أَلِفَ الناس التعارضَ والتناقضَ الفكري، ولكنهم أَلِفُوه واستمروا عليه، لم يفكر فيه أحد.
من أجل ذلك كانت الأمانة الآن موضوعةً في أعناقكم أنتم، إنني تحدثت عنها، ولكن الحديث عنها كان في مجالات ربما لا تتصل كثيرًا بمجالات القانون، ولكن مجالات القانون حينما نفكر في الأمر، وحينما نتبصر في هذا الموضوع فإنه تصبح مسئوليتنا كبيرة، ونحن مؤمنون، ومن غير شك هنا مجموعة كبيرة ـ إن لم يكن الكل ـ من الصالحين المؤمنين، كيف يتأتَّى أن يسكت الصالحون المؤمنون وهم يسمعون (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شَجَرَ بينهم) يحكِّموك في حياتك، ويحكِّموك بعد مماتك بسُنَّتِك، فيما شَجَرَ بينهم (ثم لا يَجدوا في أنفسهم) في صدورهم، في قلوبهم (حَرَجًا مما قَضَيتَ ويُسلِّموا تسليمًا) نقول: أين القانون الذي تحكم به؟ وهذا سؤال من أسخف الأسئلة، كيف وأنت مسلم تتحدث اللغة العربية تقول: أين القانون؟ القانون أمامك في الكتب، موجود في كتب الفقه، وكتب التشريع الإسلامي.(1/448)
هل يتأتَّى أن يكون شخص تَخصَّصَ في التشريع ثم لا يَفهمُ كتابًا في التشريع باللغة العربية، وليس بلغة لاتينية ولا أعجمية أو شيء من هذا القبيل، إنما هو باللغة العربية، ليس في ذلك حجة، ليس في ذلك مطلقًا أيُّ مستَنَد للدفاع عن تطبيق التشريع الإسلامي، ومع ذلك فهناك هذه المقوِّمات الكثيرة التي كتبت فيما يتعلق بالموضوع، والتي تيسر كثيرًا فيما يتعلق بالموضوع، وأحب أن أقول: إن مجمع البحوث الإسلامية وضع القانون المدني كله على مذاهب مختلفة وقَنَّنَه، وكان في لجانه المختلفة مستشارون من القانون، وفيه علماءُ وفقهاءُ في كل مذهب من المذاهب، وهو الآن بصدد تقنين القانون الجنائي، لكن مع ذلك أعتقد أنه عمل ما كان ينبغي أن يكون، مع أني أنا شخصيًّا الذي بدأت به والذي شرَعت فيه، لكن الآن ما كان ينبغي أن يكون، لأنه ما دامت كتب التشريع باللغة العربية، وما دامت هي في التشريع، وما دامت فيها الفصول والأبواب والفقرات فعلماء التشريع المشرِّعون المستشارون القضاة من السهل عليهم جدًّا أن يستخرجوها من هذه الكتب باللغة العربية.
نعود فنقول: إن الدين نزل هداية للعقل.
ونعود فنقول: إن الآيات فيما يتعلق بهذا الموضوع صارمة.(1/449)
في الاجتهاد وموقعه
قد يتساءل إنسان: ما هو موقع الاجتهاد فيما يتعلق بهذا الموضوع؟ أليس الاجتهاد فتحًا لباب التصرف عقليًّا فيما يتعلق بالتشريع؟
وعن هذه النقطة أتحدث الآن، فيما يتعلق بالاجتهاد هناك فكرة في الواقع خاطئة عند الكثيرين ـ حتى كبار المثقفين ـ أن الاجتهاد إما أن يكون في أمر سبق في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإما أن يكون في أمر استُحدث من بعده، حدث في العصر الحاضر مثلاً.
ومعنى الاجتهاد أن الأمور التي كانت في عصر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ينبغي أن يبذل الإنسان جهده وطاقته في البحث ليصل عن طريق المراجع والكتب والسيرة والتاريخ والأحاديث النبوية وتفاسير القرآن إلى ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا ما وصل إلى ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد انتهى البحث وسُلم الأمر.
أما الاجتهاد فيما يتعلق بالمسائل التي لم تكن في عهد الرسول، وإنما حدثت في العصر الحاضر، فليس معناه مطلقًا ابتداعًا أو اختراعًا أيضًا، وإنما معناه بذل الجهد لوضع هذا النمط الحديث أو المشكلة الحديثة أو المسألة الحديثة في موضعها تحت قاعدة كلية من القواعد القرآنية أو النبوية، تحريمًا أو تحليلاً.
يعني مثلاً مسألة (الحشيش) لم يكن موجودًا الحكم فيه، والمجتهد فيها يتعلق بأمر الحشيش يبذل جهده ليضع الحشيش تحت قاعدة كلية من قواعد الدين، إما تحريمًا وإما تحليلاً، لأنه في المبدأ لا يدري إن كان هذا الأمر محرَّمًا أو حلالاً، فيبذل جهده ليضع هذا الأمر تحت قاعدة كلية.
(البيرة) مثلاً لم تكن موجودة، وكل هذه الأنواع من الخمور (ويسكي) وغيره لم تكن موجودة، ما هو موقف المجتهد فيما يتعلق بالحكم في هذه المسألة أو تلك؟(1/450)
موقفه هو أن يبذل جهده مع التقوى، مع الإخلاص، مع النزاهة الكاملة، يبذل جهده مع عدم التحيز، يبذل جهده ليضع هذه المسألة أو تلك تحت القاعدة الكلية المحرِّمة أو المحلِّلة، فإذا أدَّى به اجتهاده إلى أنها توضع في قاعدة كلية تحرِّم يصبح الحكم محرَّمًا، وإذا أدى به اجتهاده ـ مع الإخلاص من التقوى مع النزاهة ـ إلى أن هذه المسألة تدخل في قضية محلِّلة تدخل تحت التحليل أو الحِلّ، هذا هو الاجتهاد.(1/451)
في مقدمات الاجتهاد ووسائله
لكن هذا الاجتهاد أيضا له مقدمات وله وسائل، هذه المقدمات بَدَهية ليس فيها شيء من التعقيد.
معرفة اللغة العربية
إن من أوائل الشروط فيما يتعلق بالمجتهد معرفةَ اللغة العربية معرفةً تمكنه أو تصل به إلى مستوى فهم القرآن العربي المبين.
معرفة الأحاديث النبوية
ولابد من معرفة الأحاديث ومن الإلمام بها إلمامًا يجعله على معرفة فيما يتعلق بجو الأحاديث النبوية، لأنه لا يجوز أن يُفتيَ وهناك حديث من الأحاديث معارِض أو مخالِف لفتواه.
معرفة السيرة النبوية
لمعرفة الواقع الذي كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما دام الدين قد طُبِّقَ عمليًّا وطُبِّقَ في فترة طويلة من الزمن، طبَّقه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطبَّقه الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الخلفاء الراشدين، وتحدث عنه الصحابة وتحدث عنه الرسول ـ ما دام قد طُبِّقَ فإننا إذا اختلفنا في أمر من الأمور لا نلجأ إلا إلى التطبيق، ما هو الواقع الذي كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ماذا كان؟
النتيجة التي أريد أن أنتهيَ إليها وبها تكون الخاتمة: ما هو الموقف؟
الموقف لخَّصه أحد الصحابة في كلمة تشبه أن تكون إعجازًا، يقول: (اتَّبِعوا ولا تَبتَدعوا فقد كُفيتُم) فقد كُفيتُم، هذه برهان كامل على (اتَّبِعوا) وهي أيضًا برهان كامل على (ولا تَبتَدعوا) اتَّبِعُوا فقد كُفيتُم ولا تَبتَدعوا فقد كفيتم. لأن من يَبتدعُ إنما هو الشخص الذي لا يكون عنده الكفاية، ونحن عندنا الكفاية منذ (اليومَ أكمَلتُ لكم دينَكم وأتمَمتُ عليكم نعمتي ورَضيتُ لكم الإسلامَ دينًا) عندنا الكفاية، إذن الخاتمة أو النتيجة التي نحب أن ننتهيَ إليها هي (اتَّبِعوا ولا تَبتَدعوا فقد كُفيتُم) إذا اتَّبَعْنا ولم نَبتدعْ، ما هي النتيجة؟(1/452)
النتيجة هي ما تحدث الله، سبحانه وتعالى، عنه وضَمِنَه لمن اتَّبَع شريعته، ضَمِنَ له السعادة في الدنيا والآخرة، وضَمِنَ له الفوز، وضَمِنَ له النصر، وضَمِنَ له سعة الرزق، وضَمِنَ له كَفَالَتَه وعنايتَه سبحانه ورعايتَه، ضَمِنَ له كل هذه النواحيَ، ووَعْدُ الله سبحانه وتعالى لا يتخلف.
خاتمة
وأريد أن أختتم بواقعة حدثت في الأيام الأخيرة، حدث في هذه الأيام الأخيرة أن وفدًا من أوربا، من كبار علماء أوربا، من فرنسا، وفيه واحد من إيطاليا، وواحد من إنجلترا، وفدٌ على مستوى رفيع جدًّا ذهب إلى السعودية، ذهب بالفعل، وقبل أن يذهب تَكاتَبَ وتَراسَلَ هو ووزير العدل السعودي، ووزير العدل السعودي رجل نابِهٌ متطور متفتح الأفق، راسَلوه واتفَقوا على أن هذا الوفد الأوربيَّ يذهب إلى السعودية ليتحدث مع علماء السعودية فيما يتعلق بحقوق الإنسان في الإسلام، وذهب الوفد والتقى هو والوفد العربي ـ كان وزير العدل، وكان مستشار الملك (معروف الدوليبي) وكان (محمد بن مبارك) من سوريا، وكان بعض علماء السعودية ـ وأخذوا يتحدثون فيما يتعلق بحقوق الإنسان في الإسلام، وانبهر الوفد الأوربي وما كان متصوِّرًا مطلقًا أن هذا الذي يقال هو حقوق الإنسان في الإسلام، وصل الإسلام بحقوق الإنسان إلى ما لم تصل إليه أوربا، وفى نهاية الجلسة التي تعددت طبعًا عدة مرات، وفى نهاية الأبحاث سأل الوفد الأوربي: ولكن ماذا عن قطع يد السارق؟ وأجاب (معروف الدوليبي) الذي كان رئيس الوزراء سابقًا في سوريا، وقد كان مستشارًا لجلالة الملك، وكانوا في الرياض، قال له: انظر إلى الصحراء، يمكن إذا كنت في الوسط واتجهت يمينًا تجد ألفَ كيلو متر، ويسارًا ألفَ كيلو متر، وأمامًا ألفَ كيلو متر، وخلفًا ألفَ كيلو متر، وتَصوَّرْ أن سيارة قامت من الرياض، وهذه السيارة محملة بالذهب والفضة، قامت من الرياض لتذهب إلى مكان على بعد عشرين كيلو متر، لا يتأتَّى مطلقا أن يَتعرَّضَ لها(1/453)
متعرِّض في هذه الصحراء التي لا بلدةَ فيها ولا شرطةَ ولا حرسَ ولا بوليسَ، لا شيءَ من هذا القَبيل في هذه الصحراء الشاسعة، تقوم سيارة محملة بالذهب والفضة لتذهب من الرياض إلى هذه المدينة الأخرى ولا يتعرض لها متعرض، لماذا؟ لأننا نطبق الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بقطع يد السارق، لكن انظر الآن إلى بلد مثل (نيويورك) التي يقولون عنها إنها وصلت إلى قمة الحضارة، كم فيها من القتلى في ساعة واحدة من أجل السرقة؟ وكم فيها من القتلى في اليوم الواحد في أربع وعشرين ساعة بسبب السرقة؟ قتلى وجرحى، وقطع أكباد، وقطع أمعاء بالسكاكين، وضرب بالنار، وبكل شيء، في أربع وعشرين ساعة. ثم تعال إلى المملكة العربية السعودية بأكملها، كم قطعنا من يد فيها في مدة عشرين سنة؟ قطَعنا أيديَ تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة، وتقولون بعد ذلك: إن الإسلام قاسٍ فيما يتعلق بقطع يد السارق، هناك القتل والذبح والسحل وكل ما يتأتى أن يكون من أجل السرقة، وهنا لا شيءَ، قطع يد السارق أو عدد من السارقين في مدى عشرين سنة. وأجمع الوفد الأوربي أن هذا أحكم نظام فيما يتعلق بمنع السرقة، وقالوا: لو طبقناه لكان الأمن على كل حال.
وفى النهاية أُهِيبُ بأعضاء مجلس الشعب في جمهورية مصر العربية أن يعتصموا بالإيمان ويقرروا العودة إلى تطبيق التشريع الإسلامي؛ ليؤدوا الأمانة ويفوزوا بالسعادة في الدنيا والآخرة. والله تعالى ولي التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم طريق.(1/454)
في الاجتهاد
إن باب الاجتهاد لم يُغلَقْ ولم يُغلِقْه أحد، ولا يَتأتَّى أن يُغلقَه أحد، ولم يقل عالم من العلماء المستنيرين إن باب الاجتهاد قد أُغلق، بيد أن هذا الموضوع يحيط به كثير من اللبس في أذهان الكثيرين من الناس؛ وذلك لأن الاجتهاد ينصب على أمرين:
أحدهما، الاجتهاد في المسائل التقليدية المذكورة في كتب الفقه، من عبادات ومعاملات. وهذا معناه أن يبذل المجتهد ما يستطيع ليصل إلى الوضع الحقيقي الذي كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه المسألة أو تلك، فهو في بحثه هذا يجب عليه أن يتخلى عن كل فكرة شخصية في الموضوع، وأن يسير موطِّنًا النفسَ على أن يستجيب لنتيجة البحث، فيقررَ النتيجة التي وصل إليها في تحقيق ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المسألة التي يبحث عنها.
إن المجتهد في هذا الموضوع لا يبتدع ولا يخترع ولا يقول من عنده شيئًا، وإنما دوره الوحيد هو التثبت مما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا ما وصل إليه انتهى دوره، ومن أجل ذلك يقول كل متديِّن، كما قال أئمة المذاهب: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وليس لأحد أن يقول برأي شخص إذا كان للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الموضوع حديث من الأحاديث.
والأمر الآخر من الاجتهاد، هو الاجتهاد فيما لم يَرِدْ فيه نص من الأمور المستَحدَثة التي أحدثها التطور الزمني. والمجتهد في هذا مهمتُه محدَّدةٌ، إنها بذل كل ما يستطيع من جهد فكري لربط هذه المسألة بقاعدة عامة من قواعد الدين الكلية تحريمًا أو تحليلاً، وذلك لأن كثيرًا من المسائل الجزئية التي تحدث بتطور الزمن تندرج تحت قاعدة كلية من القواعد الموجودة في الدين.(1/455)
فمثلاً هذه الأنواع الكثيرة من المسكِرات أو الأنواع الكثيرة من المخدِّرات لم تكن في الصدر الأول، وعمل المجتهد بالنسبة لها أن يَربطَها بقاعدة (كلُّ مُسكِرٍ حرامٌ) بالنسبة لأنواع الخمور، وبقاعدة (كلُّ مُفتِّرٍ حرامٌ) بالنسبة لأنواع المخدِّرات.
ولقد قال أئمة الفقه الذين اجتَهَدوا في مثل هذه المسائل بالنسبة للمخدِّرات: إن من شرب الحشيش مستَحِلاًّ له فقد كفَر، لا يُصلَّى عليه ولا يُدفَنُ في مقابر المسلمين.
المجتهد في الأمور المستَحدَثة التي أحدثها التطور الزمني لا يبتدع، إذ هو الآخر لا يأتي بشيء من عنده وإنما هو يجتهد في الربط بين الجزئيات المستَحدَثة والقواعد الكلية، لأن هذه الجزئيات تَندرج تحتها.
وليس هناك نوع ثالث من أنواع الاجتهاد.
وإذا كان بعض الناس يظن أن الاجتهاد اختراع وابتداع وإتيانٌ بالرأي الشخصي ومحاولة تغيير الدين بحسب التطور الزمني، فإنه مخطئ. والواقع أن الذين يظنون أن الاجتهاد اختراع وابتداع كثيرون، حتى في كبار المثقَّفين من الحقوقيِّين، ففي بعض اللجان التي تضم حقوقيِّين وعلماءَ دينيِّين يأتي بعضُ الحقوقيِّين مكوِّنًا رأيًا معيَّنًا في الطلاق أو تعدد الزوجات أو الميراث، ويعلق رأيه في اللجنة، فإذا اعتَرَض على رأيه بعضُ علماء الدين قائلين إنه غير موافق للشرع، يقولون لهم: اجتهدوا. ومعنى هذا بكل بساطة: غيِّروا الدينَ ليتفقَ مع رأينا أو افهموا النصوص الدينية في ضوء ما نقول. ومن يقول اجتَهِدوا بهذه الكيفية يَكفينا منه هذا التقولُ، إنه لا يصح أن يكون في لجنة من اللجان التي تدرس أمورًا متعلقة بالدين، وذلك أنه في مظهره وفى أقواله لا يَعبأ بالدين، ويظن أن رأيه هو الصحيح.(1/456)
في الدين هادٍ للعقل
ولقد نزل الدين هاديًا للعقل، وقضية (الدين هادٍ للعقل) يؤمن بها كل متدين، وذلك أنه لو كان القائد في العقيدة أو التشريع هو العقل لِمَا كان من ضرورة للدين.
الدين إذًا من أمور العقائد، وفى أمور التشريع هو القائد للعقل، والله سبحانه تعالى أعلم بالصالح للإنسان، ورَسَمَه سبحانه في الوحي عقيدةً وتشريعاتٍ. ويجب على المؤمن أن يستجيب استجابة كاملة للوحي. وإذا كان الأمر كذلك فلا يتأتَّى أن يقول إنسان يزعم أنه مسلم: اجتهدوا. حينما يقال له: إن رأيك مخالف للدين. ودولة الإيمان لا تخرج عن الوحي في أحوال المسلمين الشخصية المتصلة بالدين، كالزواج والطلاق ونظام الأسرة على وجه العموم، وإلا أصبحت الأسرة تقوم على أساس محرَّم، وأصبحت العلاقات الأسرية تسير على نسق لا دينيٍّ، وهذه هي المعارضة التامة، بل هذا مناقض لوجوب تحقيق دولة الإيمان.
وإذا كان الاجتهاد مفتوحًا على النسق الذي قلنا فإن للاجتهاد شروطًا يجب أن تتوافر منها ثلاث:
معرفة اللغة العربية معرفة دقيقة
لقد كان الإمام الشافعي مثلاً يُعتبر أديبًا من كبار الأدباء، لقد كان يحفظ شعر الهُذَليِّين على كثرته، وأسلوبُه نفسه يُنبئ عن فُحولة في الأدب يَندُرُ وجودُها، وهكذا كان بقية الأعلام، وذلك أنهم اتصلوا عن قرب بالقرآن الكريم حفظًا وفهمًا، واتصلوا بآلاف الأحاديث في أسلوبها العالي، أسلوب النبوة، أسلوب جوامع الكلم. إن معرفة اللغة العربية معرفة عميقة شرط مهم من شروط الاجتهاد.(1/457)
والشرط الثاني هو حفظُ القرآن وفهمُه حفظًا وفهمًا في الدرجات العليا للحفظ والفهم، يتمكن معهما من استحضار النصوص القرآنية المتصلة بموضوع البحث. ومعرفةُ أسباب النزول، وذلك أن آيات القرآن الكريم قد نزل الكثير منها في مناسبات، ويَزيد فهمُ الإنسان لها حينما يعرف أسباب النزول، وقد ألَّف أسلافنا كتبًا كثيرة في أسباب النزول، وهي متداوَلة معروفة. وحفظُ الأحاديث النبوية الشريفة المتصلة بالأحكام عبادات ومعاملات أو التمكنُ من الأحاديث المتصلة بموضوع الاجتهاد.
أما الشرط الأخير للمجتهد، وهو شرط لا يتوافر للكثيرين، فهو الذكاء، وذلك لأن المجتهد يربط بين المواضيع مستنبِطًا ومستنتِجًا، فإذا لم يكن عنده الذكاء الكافي لذلك فإنه لا يتأتَّى أن يستنتج ويستنبط في إحكام ودقة.
فإذا توافرت هذه الشروط فإن لصاحبها أن يجتهد، وسيكون موفَّقًا بإذن الله إذا أخلص النية وإذا أراد بعمله وجه الله.(1/458)
في الغصب والسرقة واللُّقَطة
الغصب هو أخذ شيء له قيمة بغير إذن المالك ورغمًا عنه.
وحكمه: على الغاصب ردُّ العين المغصوبة ما دامت قائمة، لقوله عليه السلام: "على العبد ما أخَذ حتى يَرُدَّ" وقال عليه الصلاة والسلام : "لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يأخذ متاعَ أخيه لاعبًا أو جادًّا، فإن أخَذه فليَرُدَّه عليه، وإن نَقَصَ في يدِه رَدَّ ما نَقَصَ أو رد ثَمَنَه".
أما السرقة فقد قال الله تعالى: (والسارقُ والسارقةُ فاقطَعوا أيديَهما جزاءً بما كَسَبَا نَكَالاً من اللهِ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ) وهذا الحكم صريح لا لبس فيه، فمن سرق تُقطَعْ يده.
وإذا كان هذا محلَّ اتفاق فإن الفقهاء اختلفوا في المقدار الذي تُقطَعُ فيه اليد؛ فمذهب الجمهور: تُقطَعُ يدُه إذا سرَق نصابًا. إلا أنهم اختلَفوا في قدره، فعند الإمام مالكٍ النصابُ ثلاثةُ دراهم، فمتى سرَقها أو ما يَبلُغُ ثَمَنَها فما فوقه وجَب القطع، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قطَع في مِجَنٍّ ثمنُه ثلاثةُ دراهم. وقال مالك رحمه الله: وقطَع عثمان، رضي الله عنه، في أُتْرُجّة قُوِّمَت بثلاثة دراهم. وقال مالك: وهو أحبُّ ما سمعت في ذلك.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق ربعُ دينار أو ما يساويه، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان من طريق الزهري عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تُقطَعُ يدُ السارق في ربع دينار فصاعدًا".(1/459)
أما اللُّقَطة فإن نافعًا، رضي الله عنه، يَروي أن رجلاً وجد لُقَطة فجاء إلى ابن عمر فقال: إني وجدت لقطة فما تأمرني فيها؟ فقال ابن عمر: عَرِّفْها. أي أَعلِنْ عنها، قال: قد فعلتُ. قال: زِدْ. قال: قد فعلتُ. قال: آمُرُك أن تأكلَها، لو شئتَ لم تأخذْها. وهذه الإجابة من ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ مظهر من مظاهر ورعه وتقواه. يقول الإمام محمد بن أبي الحسن: من التَقَطَ لُقَطَة تساوي عشرة دراهم فصاعدًا عرَّفَها حَولاً، فإن عُرفَت وإلا تَصدَّقَ بها، فإن كان محتاجًا أكلها، فإن جاء صاحبها خيَّره بين الأجر (أي الثواب من الله) وبين أن يَغرَمَها له (أي يَرُدَّ قيمتها عند مقدرته على ذلك).(1/460)
في الزنى
لا يثبُت الزنى إلا باعتراف الزاني، أو رؤية أربعة شهود عدول، أو بإتيان المرأة للولد مكتمِلاً في أقلَّ من ستة أشهر.
ويجب في حالة ثبوت الزنى أن يُرجَمَ الزاني إن كان مُحصَنًا، ويُجلَدَ إن لم يكن مُحصَنًا، وَلْيَشْهَدْ عذابَهما طائفةٌ من المؤمنين يقول الله تعالى: (الزانيةُ والزاني فاجلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأخُذْكم بهما رأفةٌ في دينِ اللهِ إن كنتم تؤمنون باللهِ واليومِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عذابَهما طائفةٌ من المؤمنين).
أما الرجم فقد ثبت بالسنة كما في قصة ماعزٍ والغامدية، والذي يقوم بالحد هو الإمام أو نائبه لا الزوج، حتى لا يكون المجتمع فوضَى إذا اقتَصَّ كلُّ إنسان ممن أساء إليه.
أما في الحالة التي ذكرها السائل ـ في حالة رؤية الزوج وحده ـ لا يثبُت الزنى من الوجهة القضائية الشرعية ما دام الزاني لم يعترف، وبذلك لا يصح قتله، فإن قتَلَه الزوجُ فقد اعتَدَى وظلَم وخالَفَ الشرعَ، وفى هذه الحالة يُقدِّرُ القاضي العقوبةَ التي يراها والتي تُوجبُها الظروف والملابسات، ويجوز أن تكون هذه العقوبة قَتْلَ القاتلِ إذا رأى القاضي أنه كاذب، أو الأشغالَ الشاقةَ المؤبَّدةَ، أو السجنَ فترةً من الزمن تَطول أو تقصُر بحسَب ما يرى القاضي من صدق القاتل أو الرِّيبة في أمره، والحكمُ الذي صدَر لا يُعارضه الدينُ ما دام قد تبين للقاضي الظروفُ المخفِّفة.(1/461)
في حد الزنى
يعمل دين الإسلام على صيانة الأعراض وعلى حماية الأسرة مترابطةً قويةً، وهو في نفس الوقت يَدرأ الحدود بالشبهات كما قال صلى الله عليه وسلم: "ادرَءُوا الحدودَ بالشبهات" وخاصة فيما يَهدم الكرامةَ إلى الأبد كالزنى، وهو لهذا شدَّد في إثبات جريمة الزنى لخطورة حكمها وسُمْعَتِها، وبيَّن أن الزنى لا يثبُت إلا بأربعة شهداءَ رَأَوا حقيقةَ الزنى.
وحد الزنى للمتزوجِ وللمتزوجةِ الرجمُ حتى الموت ولغيرِهما الجلدُ مائةَ جلدةٍ، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، وهذا إذا كان برضا الزاني والزانية، وإذا أُكرِهَ أحدُهما إكراهًا حقيقيًّا سقَط عنه الحد، قال تعالى (الزانيةُ والزاني فاجلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ) وقال: (لولا جاءوا عليه بأربعةِ شهداءَ فإذ لم يأتوا بالشهداءِ فأولئك عند اللهِ هم الكاذبون).
على أن الرجمَ للمُحصَنِ رجلاً كان أو امرأةً، والجلدَ لغيرِ المُحصَنِ رجلاً كان أو امرأةً، إنما هو شريعة الأديان كلها. ومن المعروف أن النصارى يَتَّبِعون في شريعتهم التوراةَ، والتوراةُ تقول بالرجم، وكتب السيرة تَروي القصة التالية:
زنى يهوديان من خيبر، وكانا مُحصَنَين، وكَرِهَ اليهودُ رَجْمَهما لشرفهما فيهم، فبعثوا رهطًا منهم يسألون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمرهم برجمهما، فأنكر اليهود حكم الرجم في التوراة، فبيَّن ابنُ صًورِيَا ـ وكان أعلَمَهم باعترافِهم ـ كَذِبَهم وأثبَتَ أن حكم الرجم موجود في التوراة ثم أسلم، يقول سبحانه: (وكيف يُحكِّمونك وعندهم التوراةُ فيها حكمُ اللهِ ثم يَتولَّون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين).(1/462)
في شروطُ قبول التوبة ردُّ الحقوق لأصحابها
فما الحكمُ إذا كان صاحبَ الحق قد مات؟
إن الله سبحانه وتعالى أمر بالتوبة، وحَثَّ عليها الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأجمعت الأمة على وجوبها على كل مسلم ومسلمة، فقال سبحانه وتعالى: (وتوبوا إلى اللهِ جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تُفلحون) وعن الأغَرِّ بن يسار، رضي الله عنه، فيما رواه الإمام مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوبُ في اليوم مائةَ مرة". وقد استعمل القرآن واستعملت السنة الشريفة مختَلَفَ الأساليب المؤثِّرة، وذلك لقيادة النفوس إلى الله بالتوبة، مفتاحِ كل خير واللَّبِنَةِ الأولى في طريق الله. ولا ريب أن التوبة المتحدَّثَ عنها إنما هي التوبة الخالصة النصوح، توبة تنبعث من قلب تفجَّرت فيه ينابيع الهداية فاتجه إلى الله في إخلاص مستغفِرًا منيبًا.
والتوبة من هذا النوع تَستَتبِعُ حتمًا ردَّ الحقوق بقدر الاستطاعة، إنها تَفي أن يَبرَأَ التائب من الحقوق التي عليه. فإن كانت مالاً أو نحوَه رَدَّه إلى صاحبه، وإن كانت حَدَّ خلافٍ ونحوَه مَكَّنَه منه أو طَلَبَ عَفوَه، وإن كانت غِيبةً استَحلَّه منها. أما إذا استحال رَدُّ الحقوق أو كان أشبَهَ بالمستحيل بالنسبة للتائب فإن اللهَ لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فإذا بذَل التائب جهدَه في رد الحق ثم لم يتمكن مِن ردِّه فقد أبرأ ذمتَه أمام الله سبحانه وتعالى، وفى هذه الحالة نرجو الله أن يتقبل توبته وأن يتجاوز عما استحال تحقيقُه.(1/463)
في عقد القران بعد زنى العروسين
إن العقد في هذه الحالة صحيح ما دام قد استَوفَى الشروطَ؛ من المهر والوَكالة والشهود، أما الحياة التي قبل العقد والزواج فإنها حياة سِفاح وإثم ومعصية، وكلاَ الشخصين آثمٌ، وإثمُهما لا شكَّ وعقابُهما هو إثمُ الزاني والزانية.
أما الولد الذي أنجباه فهو ولد سِفاح، والقوانين الوضعية تبيح الاعتراف به وتعطيه الحقوق التي يُعطاها الولدُ الشرعي.
ولكن الدين لمحافظته دائمًا على الطُّهر والعفاف والحياة الفاضلة لا يُقِرُّ هذا الاعتراف، لأنه يكون إقرارًا لشرعية الثمرة التي نتجت عن الزنى، وهذا ما لا يتأتى أن يُقِرَّه الدين.(1/464)
في سيدة وضعت يوم الخميس، والزوج تُوُفِّيَ يوم الجمعة مباشرة،
فكيف تكون عدة هذه السيدة؟
عدَّة المتوفَّى عنها زوجُها أربعةُ أشهر وعشرةُ أيام، وهذه السيدة التي ذُكرت في السؤال تُوُفِّيَ عنها زوجها بعد الولادة، فينطبق عليها هذا الحكم. وربما التبس على السائل أن الحامل عدَّتُها وضعُ الحمل، ولكنّ هذه لم تكن حاملاً عند الوفاة، فقد تُوُفِّيَ عنها زوجُها بعد أن وضعت لا قبل أن تضع، قال تعالى: (والذين يُتَوفَّونَ منكم ويَذَرُونَ أزواجًا يَترَبَّصْنَ بأنفسِهنَّ أربعةَ أشهر وعشرًا فإذا بلَغْنَ أجلَهنَّ فلا جُناحَ عليكم فيما فعَلنَ في أنفسِهنَّ بالمعروفِ واللهُ بما تعملون خبيرٌ) ولو تُوُفِّيَ عنها زوجُها قبل أن تَلِدَ ثم ولَدت بعد وفاته بيومين أو أكثرَ أو أقلَّ فعدَّتُها تنتهي بالوضع، يقول تعالى: (وأُولاتُ الأحمال أجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ).(1/465)
في نشوز الزوجة
هذا الامتناع إما أن يكون لعذر من مرض ونحوه أوْ لاَ، فإن كان لعذر فعلَى الزوج أن يعالجها ما استطاع، فإن كان عيبًا مانعًا من الجماعِ أو الاتصالِ بها ـ مما نص الفقهاء على أنه يُفسَخُ به النكاح ـ فُسخَ ولها جميعُ حقوقها الزوجية. وإن كان العيب مما يُرجَى بُرؤُه عالَجَها من مالِها أو من مالِه.
وأما إن كان الامتناع نشوزًا أو إباءً منها، فقد أرشد القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى العلاج، قال تعالى: (واللاتي تَخافون نُشوزَهنَّ فعَظُوهنَّ واهجُروهنَّ في المضاجعِ واضربُوهنَّ فإن أطَعنَكم فلا تَبغُوا عليهنَّ سبيلاً إن اللهَ كان عليًّا كبيرًا. وإن خفتم شقاقَ بينِهما فابعَثوا حَكَمًا من أهلِه وحَكَمًا من أهلِها إن يُريدَا إصلاحًا يُوفِّقِ اللهُ بينهما إن اللهَ كان عليمًا خبيرًا)
قال العلماء: ليس للمرأة التي تمتنع عن زوجها إذا طلَبَها نفقةٌ ولا حقٌّ حتى ترجع عن هذا النشوز، فإن أطاعت ورجَعت إلى الحق، وإلا انفَصَلَت عنه بلا حقوق.
ونذكر في هذا المجال قولَه صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجلُ امرأتَه إلى فراشه ولم تأتِهِ فبات غضبانَ عليها لَعَنَتها الملائكةُ حتى تُصبِحَ" متفق عليه. وقولَه: "لو كنتُ آمِرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمَرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجِها" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.(1/466)
في حكم زيارة القبور
زيارة القبور مطلوبةٌ شرعًا، لِمَا رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كنتُ نهيتُكم عن زيارةِ القبور فزُورُوها، فإنها تذكِّرُكم الآخرةَ" وكان ذلك في بدء الإسلام حيث كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهَى عنها أولاً ثم أمر بها، وبعد أن اطمأنت القلوب بالإيمان أصبحت الزيارة مطلوبةً إلى الآن؛ لأخْذِ العبرةِ والعظةِ منها والاستعدادِ والتذكرِ للدار الآخرة.(1/467)
في حكم من أفتَى بغير علم
الإسلام يكره الادعاء والتدخل فيما لا يُحسنه الإنسان وليس من شأنه، لأن ذلك فيه إضلال للناس وتضليل لهم. والإسلام يدعو إلى إسناد الأمور إلى أهلها، قال تعالى: (فاسألوا أهلَ الذكر إن كنتم لا تعلمون) فمن سُئل عن شيء لا يُحسنه يجب عليه ألاّ يَتجرأَ على الكلام فيه، خوفًا من الخطأ والزلل الذي يترتب عليه ضياع الحقوق وفساد الأحكام. وقد ورد في الأثر: "أجرؤُكم على الفُتيا أجرؤُكم على النار" وجاء أيضا: "من أفتَى بغير بعلم فقد ضَلَّ وأضَلَّ".
ويجب على من يريد أن يَستفتيَ عن شيء من الدين أن يَتوجهَ بسؤاله دائمًا إلى من يُتقِنُ ذلك، كما ورد في الآية السابقة، ويَبتعدَ عن الأدعياء الذين لا يُحسنون القول في هذه الأمور، إن كان يريد الوصول إلى الصواب. والناس دائمًا يَستفتُون أهلَ العلم الصادقين، وليس للفُتيا طريقٌ غيرَ هذا.(1/468)
في الفروق والمميِّزات بين الرجل والمرأة
هناك فروق ومميِّزات بين الرجل والمرأة من حيث التكوين الجسمي والنفسي، ومن حيث الخصائص الطبيعية المميِّزة لكل منهما. ولقد راعَى الإسلام كلَّ هذه الخصائص والمميِّزات التي يختلف فيها الرجلُ عن المرأةِ والذكرُ عن الأنثى، وجعَل لكلٍّ دَورَه ومَجالَه مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ ميسَّرٌ لِمَا خُلق له".
فجعَل التزينَ ولُبْسَ الحرير والتحلِّيَ بالذهب مما تَختَصُّ به الأنثى في مَلبَسِها وزينتِها؛ لكي تتفق مع رسالة الأنوثة التي خُلقت من أجلها.
أما الجهادُ والنضالُ والعملُ والسعيُ ومجاهدةُ الأعداء ومغالبةُ الشدائد، فقد جُعلَت كلُّ هذه الخصائص والخصال للرجال.
وحتى لا يَتشبَّهَ الرجل بالمرأة ولا يَنحرِفَ عن مميِّزاته واختصاصاته حرَّم الله عليه لُبْسَ الحرير واستعمالَ الذهب، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ حريرًا فجعله في يمينه وذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: "إن هَذَين حرامٌ على ذكور أمتي" رواه أبو داود بإسناد حسن. وعن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "حُرِّم لباسُ الحريرِ والذهبِ على ذكورِ أمتي، وأُحِلَّ لنسائِهم". وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التختم بالذهب.
يُحرِّمُ الشرعُ إذن على الرجال لُبْسَ الذهب، وكذلك الفضةُ.(1/469)
أما من حيث استعمالُ الذهب والفضة فإن الإسلام يُحرِّمُ استعمالهما على الرجال والنساء على السواء، فيَحرُمُ اتخاذُ الآنية من الذهب والفضة، فلا يَحِلُّ لرجل مسلم ولا لامرأة مسلمة أن تأكل في آنية من الذهب أو الفضة، عن أم سلمة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الذي يَشرَبُ في آنية الفضة إنما يُجَرجِرُ في بطنه نارَ جهنم". وما من شك في أن استعمال الذهب والفضة في الأكل والشرب تَرَفٌ وإسرافق يَتنافيان مع الوضع الاقتصادي السليم الذي تُقِرُّه الأديانُ وتدعو إليه.(1/470)
في الميراث
إن الله سبحانه وتعالى حينما شرَع نظامَ الميراث فإنما شرَعه لحكمة عَلِمَها سبحانه، ولقد أراد من الذين آمنوا بالله ورسوله أن يَتَّبِعوا نظامه في الميراث كما يَتَّبِعون نظامه في غيره، والمؤمن الصادق الإيمان هو الذي يستجيب لله ورسوله في الصغير من أمور الدين والكبير منها، فإذا ما أراد تغييرَ ذلك بنحوٍ من الأنحاء فإنه يَدُلُّ بعمله على أنه غيرُ مطمئن القلب للتشريع الإلهي، يقول تعالى: (يأيها الذين آمَنوا استَجِيبوا للهِ وللرسولِ إذا دعاكم لِمَا يُحْييكم واعلَموا أن اللهَ يَحولُ بين المرءِ وقلبِه وأنه إليه تُحشَرون).
ومن المعروف أن الهبة قبل الوفاة صحيحةٌ شكلاً، فإن كان الهدفُ منها حرمانَ بعضِ الورثة فإنها حرام من ناحية جوهر الموضع، فإذا لم يكن هناك ورثةٌ فالهبةُ لا بأس بها، أما إذا وُجد ورثةٌ فعلَى الإنسان أن يَتَّبِعَ الوضع الإسلامي السليم، وهو تَرْكُ الأمرِ لنظام الميراث الإسلامي.(1/471)
في الثمن المؤجَّل
لقد أباح جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجَّل أغلى من الثمن المدفوع فورًا؛ وذلك لأن الثمن المدفوع فورًا يمكن الانتفاع به في معاملات تجارية أخرى، أما الثمن المؤجَّل فإنه لا يَتأتَّى فيه ذلك. وهذا النوع من المعاملات ليس داخلاً في نطاق الربا.
ومع ذلك يجب أن يُراعَى أن تكون المعاملات التي من هذا النوع معاملاتٍ سليمةً تجاريًّا وأخلاقيًّا، فلا يجوز أن تُستَغَلَّ حاجةُ المشتري فيَرفَعَ البائعُ الثمنَ كما يريد مضاعِفًا المكسَبَ أضعافًا مضاعفةً فإن ذلك ـ فضلاً عن كونه إثمًا من وجهة النظر الأخلاقية ـ لا يجوز شرعًا.
وإن التاجر الذي يراعي حقَّ الله ويراعي واجباتِ الخلق الكريم يَنعَمُ بالبشرَى التي أعلنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "التاجر الصدوق يُحشَرُ مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء".(1/472)
في نجاة صاحب الكبيرة
يرى بعض العلماء عدمَ نجاة صاحب الكبيرة، كالزاني، سَبَقَ له الزواج أو لم يَسبق، وكذلك الزانية، إذا ماتَا بغير توبة، للأحاديث الواردة في كفر صاحب الكبيرة بحسَب الظاهر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرق السارق حين يَسرق وهو مؤمن، ولا يَشرب الخمر حين يَشربها وهو مؤمن". وجمهور المسلمين على جواز الغفران لهما في الآخرة؛ لقوله تعالى: (إن اللهَ لا يَغفرُ أن يُشرَكَ به ويَغفرُ ما دون ذلك لمن يشاءُ).
وقد قرن الله تعالى الزنى بالشركِ وقتلِ النفس، وبيَّن أن عبادَ الله حقًّا لا يَزنُون وأن الزانيَ خارج عن نطاق العبودية، فقال تعالى في وصف عباد الرحمن: (والذين لا يَدْعُون مع اللهِ إلهًا آخَرَ ولا يَقتلون النفسَ التي حرَّم اللهُ إلا بالحقِّ ولا يَزنون ومن يَفعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا. يُضاعَفْ له العذابُ يوم القيامة ويَخلُدْ فيه مُهَانًا. إلا من تاب) وأمرُ الغفران في غير الشرك موكولٌ إلى الله سبحانه وتعالى؛ إن شاء غفَر وإن شاء عذَّب.
ولكن الذي ينبغي أن يُعرَفَ هو أن الاعتماد على الغفران مع ارتكاب المعاصي لا يجوز، لقوله تعالى: (فلا يَأمنُ مَكْرَ اللهِ إلا القومُ الخاسرون) والندمُ على المعصية والخوفُ من العذاب عليها والعزمُ على عدم العودة إليها، شرطٌ لقبول التوبة منها.
فعلَى الزاني والزانية الإقلاعُ عن غَيِّهما، والمبادرةُ بالتوبةِ والتضرعِ إلى الله تعالى، واستيفاءُ شروط التوبة الصحيحة. فإن حالت ظروفٌ بينهم وبين التوبة مع عَزْمِهما عليها وقَصْدِهما إليها كان احتمالُ المغفرة أكبرَ. وإن تَهَاوَنَا بالتوبة وفَرَّطَا في المبادرة إليها كان احتمالُ العقاب أشدَّ. وفى النهاية لا يَسَعُنا إلا أن نَذكُرَ قوله تعالى: (ولا تَقرَبوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً).(1/473)
في تولِّي المرأةِ القضاءَ
لا يُجيز مذهبٌ من مذاهب المسلمين تولِّيَ المرأة القضاءَ، ويخطئ كثير من الناس الحقيقةَ، أو لا يفهمون الأمر على وجهه الصحيح حينما يقولون: إن مذهب الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ يُجيز تولِّيَ المرأة القضاءَ. ذلك أن أبا حنيفة مثله كمثل الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، لا يُجيز تولِّيَ المرأة القضاءَ.
وتوضيحًا للأمر نقول: إن مذهب الإمام أبي حنيفة يرى أن المرأة لا تصلح للقضاء وليست أهلاً له، ولا يجوز أن يولِّيَها الوالي منصبًا من مناصبه، ولكن لو فرضنا أن الواليَ أقدَمَ على المحرَّم ولم يُبالِ بالممنوع شرعًا فولاّها القضاءَ آثمًا بذلك ومخالفًا للشرع، فهل في هذه الحالة يَنفُذُ حكمُها وقضاؤُها أو لا يَنفُذُ؟
ويرى الإمام أبو حنيفة أن حكمَها يَنفُذُ فيما عدا الجنايات، أما المذاهب الأخرى فإنها ترى أن حكمها لا يَنفُذُ لا في الجنايات ولا في غيرها.
ليس الخلاف إذن بين المذاهب في جواز تولية المرأة القضاءَ، فذلك ممنوع بالإجماع، ومن يولِّيها القضاء آثمٌ بالإجماع ومخالف للشرع بالإجماع، والخلاف ينحصر في أنه إذا وقعت جريمةُ تَولِيَتِها القضاءَ هل يَنفُذُ حكمُها أو لا يَنفُذُ؟ هذا هو رأيُ الشرعِ وكلِّ متبصِّرٍ مستنيرٍ مخلِصٍ في تولِّي المرأة القضاءَ.(1/474)
وفى حكم من يخون الأمانة
يقول الله تعالى في آية صريحة وفى أمر واضح: (إن اللهَ يأمرُكم أن تؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها) ولقد بيَّن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَضْعَ خائن الأمانة أنه منافق، يقول صلوات الله وسلامه عليه: "آية المنافق ثلاث؛ إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان".
أما الذين يؤدُّون أماناتِهم فإن الله، سبحانه وتعالى، يذكُرُهم فيمن أفلَحَ من المؤمنين، فيقول: (والذين هم لأماناتِهم وعَهدِهم راعُون) ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الإمام أحمد: "أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتَمنَك، ولا تَخُنْ من خانَك".
والأمانة التي أحَبَّ الله سبحانه وتعالى أن تُؤدَّى هي:
أولاً، أمانة الإنسان بالنسبة إلى نفسه هو شخصيًّا. فلا يَتدنَّس بإثم، ولا يَتلوَّث بمعصية، ولا يعمل عملا يَشينُه في المجتمع، ولا يَسعَى مَسعًى لا يَليق بالكرامة الإنسانية.
وثانيًا: هي أمانة الرجل بالنسبة لأسرته. فإن عليه رعايتَها والعنايةَ بها؛ من تهذيب وتربية وتعليم، وعليه السعيُ لكفاية رزقها.
والأمانة ثالثًا، هي أمانة حقوق العباد التي اؤتُمِنَ عليها، كالودائع وصيانة السر. وذلك أن السر أمانة وإفشاءَه خيانة للأمانة.
والأمانة بالنسبة للمجتمع هي ألاّ يخونَ الوطنَ بأي نوع من أنواع الخيانة.
والأمانة ـ من قبل ذلك ومن بعده ـ هي مراعاة ما أمر الله سبحانه وتعالى به، وذلك بأدائه على وجهه، وفى الوقت الذي أحَبَّ الله سبحانه وتعالى أن يُؤدَّى.
وخيانة الأمانة إنما هي خيانة لله ورسوله، يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا لا تَخونوا اللهَ والرسولَ وتَخونوا أماناتِكم وأنتم تعلمون) فخائن الأمانة منافق أغضَبَ اللهَ ورسولَه، إنه آثم، فهو في النار.(1/475)
في تَرِكَة المتوَفَّى
إذا مات إنسان وله تَرِكَةٌ فإن أول شيء يؤخذ من التَرِكَة إنما هو تكاليف دفن الميت، ثم يؤخذ منها الدين، ثم يُنظر بعد ذلك في نصيب كل وراث من التَرِكَة، فإذا لم يسدد الورثة الدَّينَ من التَرِكَة فالتَّبِعةُ عليهم. ومع ذلك فإن الميت يناله نصيب من المسئولية إذا كان قد ماطَلَ في سداد الدين، وإذا عاجَلَه القدر قبل سداده فالتَّبِعةُ كلها على الورثة.
وقد بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صراحة لا لَبْسَ فيها عِظَمَ جريمةِ المماطلة في سداد الدين والتباينِ في أمر حقوق الناس، حتى لقد ورد في صحيح مسلم عن أبي قتادة، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام فيهم فذكر أن الجهادَ في سبيل الله والإيمانَ بالله أفضلُ الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله أتُكفَّرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتَسِبٌ مُقبِلٌ غيرُ مُدبِرٍ" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلتَ؟ قال: أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله أتُكفَّرُ عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، وأنت صابرٌ محتَسِبٌ مُقبِلٌ غيرُ مُدبِرٍ، إلا الدينَ، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك" رواه مسلم.
والحديث الذي أشار إليه السؤال حديث وارد، ولمَّا وضَحت خطورة إثم المماطلة في الدَّين وضوحًا سافرًا لا لَبْسَ فيه كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهتم بمن مات وعليه دَين؛ يحاول أن يَسُدَّ عنه دَينَه بوسيلة من الوسائل الكريمة.(1/476)
في العلم بالعبادة
إن العبادة لابد في صحتها من العلم الصحيح بورودها، ولابد من العلم الصحيح بكيفيتها عن طريق الشرع الذي أنزله الله تعالى على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يُعبَدُ اللهُ إلا بما شرَع على الكيفية التي شرَعها، لأنه وحده العالِمُ بما يَليق به، فهو وحده الذي يرسم طريق الوصول إليه، فمن جَهِلَ ذلك لا تَصحُّ عبادته، فالعابد لا عبادة له، بل إنه في الوضع الصحيح ليس بعابدٍ، فلابد إذًا من تصحيح العبادة بالعلم بها وبكيفيتها. وأما العالم الذي لا يَعمل بعلمه فإنه من الذين أضلَّهم الله على علم، وعِلْمُه حجةٌ عليه، والذي يَعلم ولا يَعمل أسوأُ حالاً من الذي لا يَعلم ولا يَعمل.
وأما من ناحية المقارنة بينهما فقد قيل لأحد الأثرياء، وكان عنده خادمان: أي خادمَيْكَ شَرٌّ؟ فقال : هذا ثم هذا.
وإن العابدَ الجاهلَ بالعبادة والعالِمَ الذي لا يَعمل بعلمه كلاهما شَرٌّ. والصورة التي يريدها الإسلام إنما هي صورة العالِم العامل (فلولا نَفَرَ من كلِّ فرقةٍ منهم طائفةٌ لِيَتفقَّهوا في الدينِ ولِيُنذِروا قومَهم إذا رجَعوا إليهم لعلهم يَحذَرون).(1/477)
في الخلاف يبن الأئمة
من المشاهَدِ أن ثَمّةَ اختلافًا يبن العلماء المجتهدين في كثير من مسائل الأحكام، مما لم يَرِدْ فيه نص صريح أو واضح الدلالة على المراد، أو ما ورَد فيه بصور مختلفة تُبيح جوازَ العمل على عدة وجوه.
وكلٌّ من الأئمة مصيبٌ في اجتهاده، حيث بذَل وُسعَه وكان مستكمِلاً لوسائل الاجتهاد، ولكنّ المتأخرين تعصَّبوا لمذاهبهم وظنوا أن مذهب إمامهم هو السُّنَّةُ وما يخالفُه لا أساسَ له. ومنهم من يدفعه إلى ذلك قِصَرُ العلم عن إدراك أدلة الأئمة ومكانتهم من العلم والدين.
والسائل هنا يظن أن تكرار (الله أكبر) في الأذان أربع مرات هو السُّنَّةُ لا غير، وأن إفراد كلمة (قد قامت الصلاة) في إقامة الصلاة هو السُّنَّةُ لا غير، وكذا تَرْكُ قراءة البسملة في الفرض هو السُّنَّةُ دون سواه.
ولكن هذه الأمور التي ظنَّها مخالفةً للأحاديث النبوية قد وُجدت في كتب الحديث المعتمَدة بأسانيد موثوق بها، ووجودها لا يعني التضاربَ بين المذاهب أو التعارضَ بين نصوص الدين، إذ هذه الأمور ليست من الأمور التي تَتناقض فيها الآراء أو تَتصادم فيها الأفكار، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحدد لها صيغة معينة لا يجوز غيرها، بل أجاز فيها هذه الوجوه التي وردت في المذاهب، ورأى بعضُ الصحابة وجهًا فحمَلَه عنه غيرُه، ووصَل الأمر إلى هذا الإمام فعَمِلَ به، ورأى بعضُ الصحابة وجهًا آخَرَ فحمَلَه عنه مَن بعده حتى وصَل إلى إمام آخَرَ فعَمِلَ به، ويجوز لكل مكلَّف العملُ بأي وجهٍ أراد.(1/478)
وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على يسر الدين ورفع الحرج منه، وعلى عناية المسلمين بكل ما صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أفعال، وعَمَلِهم بالوجوه المتنوِّعة لكل عمل من الأعمال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى المسلم ألاّ يتعصب لمذهب من المذاهب دون سواه إلا بعد تعرُّفِ وجوه الأدلة، والنظرِ في كتب الحديث المعتمَدة، ومعرفةِ أساس الحكم من النصوص قبل الحكم بمخالفة النصوص.(1/479)
في إذا دخل اللص المنزل بقصد السرقة وقتله صاحب المنزل
فما حكم القتل شرعًا في هذه الحالة؟
روي البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من قُتل دون مالِه فهو شهيد".
وقال ابن بطَّال عن هذا الحديث: إن للإنسان أن يَدفَعَ عن نفسه ومالِه ولا شيءَ عليه، فإنه إذا قُتل في ذلك كان شهيدًا، ولا قَوَدَ (قصاص) عليه ولا دِيَةَ إذا كان هو القاتلَ. وهذا كله إذا كان مَن قصَد أَخْذَ مالِه ظالمًا له ولم يكن سلطانًا أو حاكمًا، روَى أبو داود والترمذي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من أُريدَ مالُه بغير حق فقاتَلَ فقُتل فهو شهيد" وفى رواية لابن ماجه "من أُريدَ مالُه ظلمًا فقُتل فهو شهيد".
إن كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعِرضه، وظلم المسلم حرام. والدفع عن النفس والمال والعِرض واجب، قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يَدفَعَ عن ماله إذا أُريدَ ظلمًا بغير تفصيل، إلا أنَّ مَن يُحفَظُ عنه من علماء الحديث كالمُجمِعين على استثناء السلطان؛ للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جَوْرِه وتَرْكِ القيامِ عليه.
وقد وقع حديث أبي هريرة عند مسلم أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ إن جاء رجل يريد أَخْذَ مالي؟ قال: "فلا تُعطِهِ" قال: أرأيتَ إن قاتَلَني؟ قال: "فاقتُله" قال: أرأيتَ إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيتَ إن قتلتُه؟ قال: "فهو في النار" أي: وأنت لا شيء عليك؛ لأنه ظالمٌ مُفتَرٍ، والله لا يحب الظالمين. وهذا هو فصل المقام في الجواب عن هذا السؤال.(1/480)
في النية
يقول الله تعالى: (فمن كان يرجو لقاءَ ربِّه فليَعمَلْ عملاً صالحًا ولا يُشركْ بعبادةِ ربِّه أحدًا) ولكن مما يجب التنبُّه له أن النية محلُّها القلب، وأنه لا ضرورة مطلقًا للنطق بها باللسان، إنها القصدُ القلبيُّ للشيء، فإذا قصَد الإنسان بقلبه ولم يَنطق بلسانه كان ذلك كافيًا.
يقول الإمام ابن القيم عن النية:
النية هي القصد والعزم على الشيء. ومحلُّها القلب، لا تَعلُّقَ لها باللسان أصلاً، ولذلك لم يُنقَلْ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن الصحابة في النية لفظٌ بحال، وهذه العبارات التي أُحدثَت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعَلها الشيطان معتَرَكًا لأهل الوسواس يَحبِسُهم عندها، ويعذِّبُهم فيها، ويُوقِعُهم في طلب تصحيحها، فتَرَى أحدَهم يكرِّرُها ويُجهِدُ نفسَه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شيء.(1/481)
في الرهن
رأي الدين الإسلامي في الرهن أن منفعة العين المرهونة لمالكها الأصلي، أي الراهن لا المرتَهِن. وعلى هذا فعمرٌو الذي يَملِكُ عمارةً ثم رهَنها لزيد، فإن عَمْرًا المالكَ الأصليَّ هو الذي يأخذ إيجار هذه العمارة كلَّه، وليس لزيد حقُّ الانتفاع بالعمارة، لا يأخذ إيجارَها ولا يستغلها بأي وجه من الوجوه ولا يسكنها.
وليس لأحد أن يقول: ما فائدة الرهن إذًا؟
وذلك أن فائدته إنما هي ضمان وصول الحق إلى صاحبه، فالرهنُ ضمانُ السدادِ إذا رَغِبَ عن قرض الضمان، هذا فضلاً عن الثواب والأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى في فك الكُرُبات، فضلاً عن تقوية العلاقات بين المجتمع حيث تكون الألفةُ والمحبةُ والمروءةُ التي يَحرص الشرع الكريم على غرسها في النفوس، وتعويدُ الثقة بين الأفراد والجماعات، وإنجازُ المشاريع التي تُقام بتلك المبالغ التي يأخذها صاحب العين المرهونة، كالمؤسسات والمصانع.
فإذا استولَى صاحب المال على العين المرهونة بقصد الانتفاع بها في أخذ الإيجار ونحوه كان ما يأخذه ربًا وتَنطبق عليه هذه القاعدة (كلُّ قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا) وقد حرم الله تعالى الربا حيث قال سبحانه وتعالى: (وأحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الربا).
مع أن الاستيلاءَ على العين والانتفاعَ بها مخالفٌ للمروءة، ومعطِّلٌ للمشاريع، ومورِّثٌ للأحقاد التي تملأ القلوب بين الراهن والمرتَهِن، حتى في ذريتهما، لأنه كثيرًا ما يُجبِرُ التضييقُ على الراهن إلى بيع العين المرهونة فيراها أولادُ الراهن وأقاربُه ويتحسرون على ضياعها، ويلعنون من تسبَّب في هذا الضياع، وهذا كله فضلاً عن الوزر الذي يرتكبه المرتَهِنُ بأخذه الفائدةَ وأكلِه الربَا. إذًا يحرُم أخذُ إيجار العين المرهونة عمارةً كانت أو غيرَها.(1/482)
في ثبوت النسب
من المقرر شرعًا أن الولد يَثبُتُ نَسَبُه ما دام الفراش بين الزوجين قائمًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولدُ للفراشِ وللعاهِرِ الحَجَرُ". كما تَثبُتُ النسبة بالبينة الشرعية بالإقرار. وقرَّر الفقهاء أن أقلَّ مدة الحمل ستة أشهر وأكثرها سنتان، لقوله تعالى: (وحَمْلُه وفِصالُه ثلاثون شهرًا) وقولِه في آية الرَّضاع: (والوالداتُ يُرضِعْنَ أولادَهنَّ حولَين كاملَين لمَن أراد أن يُتمَّ الرضاعةَ...) إلخ، قالوا: فإذا كان للفصال، أي الفطام، سنتان فإنه يَبقَى الحمل ستة أشهر، وهي أقل مدة الحمل.
وفرَّعوا على ذلك ما يأتي:
جاء في باب "ثبوت النسب" من كتاب الهداية وفتح القدير من كتب الحنفية ما نصه: (إذا تزوج الرجل امرأة فجاءت بولد أقلَّ من ستة أشهر منذ يوم تزوجها، لم يَثبُتْ نسبُه؛ لأن العُلوق سابق على النكاح، فلا يكون منه. وإن جاءت به بعد تسعة أشهر فصاعدًا ثبَت نسبُه منه، اعتَرَف به الزوج أو سكَتَ؛ لأن الفراش قائم والمدة تامة).
وفى نفس المصدر مانصه: (وإن كان لها زوج وزعمت ـ أي ادَّعَت ـ أنه ابنُها منه وصدَّقها الزوج فهو ابنهما وإن لم تُشهِدْ امرأةً، لأنه التَزَم نَسَبَه فأغنَى ذلك عن الحجة)
وفى حادثة السؤال، فإن الزوجية كانت قائمة بين الزوجين في المدة التي كانت تُنسَبُ الأولاد فيها إلى أبيهم، والفراشُ قائم بينهما تلك المدةَ، والزوج صدَّق زوجتَه فيما كانت تدَّعيه، أو على الأقل سكَتَ ولم يَنْفِ نَسَبَ أحدٍ من هؤلاء الأولاد إليه، فيكونُ مُقِرًّا بالنسب.
فنسبُ الأولاد في هذه الحالة ثابت بالفراش، وثابت بالإقرار، فضلاً عن ثبوته بشهادة الميلاد، وهي ورقة رسمية وحجة في ثبوت نسب الولد إلى أبيه ما لم يطعن عليها بالتزوير. وما دام الأمر كذلك فإن نسب الأولاد ـ موضوع السؤال ـ إلى أبيهم صحيح شرعًا ولهم الحق في ميراث أبيهم.(1/483)
أما مسألة أن ميراثهم ظلم للأولاد الآخرين فليس بظلم، فذلك مترتِّب على واقع الأمر وحقيقته، فإن كان هؤلاء أولادًا للرجل حقيقةً فلا ظلمَ في ميراثهم، بل هو حقٌّ فرَضه الله لهم، وإن لم يكونوا في واقع الأمر وحقيقتِه أولادًا له كان ميراثُهم ـ عند الله تعالى ـ أكلاً لأموال الناس بالباطل، ووِزْرُ ذلك واقعٌ على من زعَمت نِسبَتَهم إلى هذا الرجل، والله سبحانه وحده هو العليم بأسرار الناس وحقائق أمورهم، وهو سبحانه سيجازيهم عليها.
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحُث الناس على تحرِّي الحق فيما يَدَّعُون، ومراقبةِ ربِّهم ودينِهم فيما يُقدِّمون من حججٍ وبراهينَ، فيقول صلى الله عليه وسلم: "إنكم تَختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحَنَ بحجته من بعض، وإنما أنا بشرٌ أَقضي بما أسمع، فمن قَضَيتُ له من مالِ أخيه شيئًا بغير حقِّه فإنما أقطعُ له قطعةً من النار" ويقول صلى الله عليه وسلم: "أنا أَقضي بالظاهرِ واللهُ يَتولَّى السرائرَ".(1/484)
في الوصية
الأصل في إجازة الوصية بثلث المال قولُه صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ تَصدَّقَ عليكم بثُلُثِ أموالِكم عند وفاتِكم زيادةً في حسناتِكم ليَجعلَها لكم زيادةً في أعمالِكم".
والحكمة التي يَهدِفُ إليها الشارعُ الحكيم من ذلك هي تَدارُكُ ما فات المالِكَ من تقصير في حياته لمن كان يجب عليه رعايتُه، ومساعدةُ بعض ذوي الحاجة، أجنبيًّا كان أو قريبًا، تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى.
ولهذا المعنى أجاز القانون رقم 71 لسنة 1946 في المادة 227 الوصيةَ بثلث المال للوارث وغيره، وتنفُذ من غير حاجة إلى إذن الورثة. كما أجاز الوصيةَ بأكثر من الثلث، ولا تَنفُذُ فيما زاد على الثلث إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة المُوصِي.
وبناءً على ما ذُكر فإنه يجوز للسائل أن يُوصِيَ بثلث تَرِكَتِه لِبَنيه، وتَنفُذُ من غير حاجة إلى إجازة باقي الورثة، غير أن الوصية التي أباحها الإسلام تقربًا من المُوصِي إلى الله ـ سبحانه ـ بسد حاجة ذي القُربَى يجب أن يُراعَى فيها ألاّ تكون سببًا في أحقاد أو ضغائنَ بين الأولاد وأبيهم، وبين بعض الإخوة وبعضهم الآخر، بسبب تفضيل بعض الورثة أو هضمٍ لحقوق البعض الآخر، فإن أدت الوصية إلى إثارة الكراهية والبغضاء بين الإخوة وأبنائهم مِن بعدِهم فالأفضلُ تَرْكُها وإبقاءُ التَّرِكة لتوزيعها على الوجه الذي فرَضه الله وقدَّره لكل وارث، حَسَبَ حكمتِه السامية في مُحكَمِ كتابه، حفاظًا على صلة الرحم ومنعًا لقطعها.(1/485)
في فوائد التقسيط
المبالغ التي ستُدفَعُ زيادةً على ثمن الأرض في صورة فوائد، بعد أن تَمَّ الاتفاق على دفعِ الربع ثم تقسيطِ الباقي بدون فوائد، هذه الزيادة ربًا، والربَا حرام بصريح القرآن الكريم، كما أن الفوائد التي تُدفَعُ على القروض ربًا، وإنها حرام كذلك، وقد قرر المؤتمر الثاني لمَجمَعِ البحوث الإسلامية أن فوائد القروض ربًا، والربا حرام كله بنص القرآن الكريم، وليس لأحدٍ ـ فردًا أو هيئةً ـ أن تُقرِضَ المال بالربا.
ولا يجوز لأحد أن يَقترِضَ بالفائدة إلا للضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات، غير أن الضرورة تُقدَّرُ بقَدْرِها، وكل إنسان موكول لدينه وضميره في تقدير ضرورته، وهو المسئول عن ذلك أمام ربه.(1/486)
في فوائد البنوك
الفوائد على السلف والقروض ربًا، كما قلنا في الإجابة على السؤال السابق، سواء كانت هذه الفوائد يأخذها البنك من العملاء على السلف أو يأخذها العملاء على أموالهم المُودَعة في البنوك.
أما المرتبات التي يتقاضاها الموظفون بالبنوك فهي حلال؛ لأنها أجر على الأعمال التي يقومون بها، فالمال الذي يأخذه الموظف نظيرَ عمله بالبنك مال حلال، فإن كان للموظف سهمٌ في فوائد السلف والقروض كان هذا المالُ المأخوذُ من هذه الفوائد المحرَّمة، أو يَتصدقُ به على الفقراء؛ لأنه مال حرام، والمال الحرام سبيلُه الصدقة.(1/487)
في أسرار العبادات في الإسلام
إن الفقه الإسلامي هو مواد السلوك للمسلم، إنه يتناول حياته في الصغير منها والكبير، وينظِّمُ سلوكه الأخلاقي بأوسعِ ما تتضمنه كلمة (أخلاق) منذ أن يُصبِحَ إلى أن يُمسيَ ومنذ ميلاده إلى أن تنتهيَ به الحياة، ثم ينظِّمُ شئون ميراثه ـ إن كان له ميراثٌ ـ بعد حياته. إنه ينظِّمُ سلوكه مع نفسه ويشرح له من ذلك ما خَفِيَ وما ظهَر. وينظِّمُ سلوكه مع الله فيبيِّنُ له ما ينبغي أن يتحلَّى به حتى يصيرَ ربانيًّا. وينظِّمُ سلوكه مع إخوانه في المجتمع سلبًا وإيجابًا، قولاً وفعلاً. إنه القانون الذي يبيِّنُ أنواع السلوك من حيث كونِه جائزًا أو واجبًا أو مستَحَبًّا، ومن حيث كونه حرامًا أو مكروهًا، وذلك في ميادين الحياة. لقد تَتبَّعَ الأحاديثَ النبوية تَتبُّعًا دقيقًا ونسَّقها، فأصبح بذلك صورة واضحة لحياة المسلم، وتَغَلغَلَ بذلك في جميع الميادين، حتى تلك التي ما كان الإنسان يظن أنه يَنتبِهُ إليها أو يَتَّجهُ نحوها.
خذ مثلاً مسألة الروائح الزكية أو العطرة، نجده يذكر عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من عُرِضَ عليه طِيبٌ فلا يَرُدَّه؛ فإنه خفيفُ المَحمِلِ طيِّبُ الرائحة" وعن أبي سعيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في المسك: "هو أطيَبُ طِيبِكم".
ويُذكر في الفرق بين التزيُّنِ والكِبْرِ عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرّةٍ من كِبْرٍ" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنةً! قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْصُ الناسِ".
ومن هذا الوادي، وادي التزين والروائح الطيبة، عن جابر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" متفق عليه.(1/488)
ويتحدث الفقه عن الذهب والحرير والأقمشةِ المُحَلاّةِ بالتصاليب فيَذكُرُ عن أبي موسى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أُحِلَّ الذهبُ والحريرُ للإناثِ من أُمتي وحُرِّمَ على ذُكُورِها" رواه أحمد والنسائي والترمذي. وعن حذيفة قال: نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نشرب في آنية من الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لُبْسِ الحرير والديباج وأن نجلسَ عليه. رواه البخاري. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ رخَّص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لُبْسِ الحريرِ لِحَكَّةٍ كانت بهما. وعن عائشة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يَتركْ في بيته شيئًا فيه تَصالِيبُ إلا نَقَضَه. رواه البخاري، وأبو داود وأحمد ولفظه: لم يكن يَدَعْ في بيته ثوبًا فيه تَصليبٌ إلا نَقَضَه.
ويتحدث الفقه عن نواحي التحفظ الصحي، فيَذكُرُ عن جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه نَهَى أن يُبالَ في الماء الراكد. رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. وعن جابر بن عبد الله في حديث له أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أَوْكِ سِقاءَك واذكُرْ اسمَ اللهِ، وخَمِّرْ إناءَك واذكرْ اسمَ الله، ولو أن تَعرِضَ عليه عودًا" متفق عليه. ولمسلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "غَطُّوا الإناء، وأَوكُوا السِّقَاءَ، فإن في السنة ليلةً يَنزل فيها وَبَاءٌ لا يَمرُّ بإناءٍ ليس فيه غطاءٌ أو سقاءٍ ليس عليه وكاءٌ إلا نزَل فيه من ذلك الوَبَاءِ".
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اتقوا اللاعنَين" قالوا : وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يَتخلَّى في طريق الناس أو في ظلِّهم". أي الذي يَقضي حاجته في الطريق الذي يسير فيه الناس أو تحت الأشجار التي يَستظلون بها. رواه أحمد ومسلم وأبو داود.(1/489)
أما عن التبرج والتخنث فإنه يشرح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صِنفان من أهلِ النارِ لم أرَهما بعدُ: نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مُمِيلاتٌ، على رءوسِهنَّ أمثالُ أَسنِمةِ البُخْتِ المائلةِ، لا يَرَينَ الجنةَ ولا يَجِدنَ رِيحَها. ورجالٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقر، يَضربون بها الناسَ" رواه مسلم وأحمد.
وعن أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعَن الرجلَ يَلبَسُ لِبْسةَ المرأةِ والمرأةَ تَلبَسُ لِبْسةَ الرجلِ) رواه أحمد وأبو داود.
والحديث عن التبرج والتخنث يجر إلى الحديث عن كشف العورة، عن بَهْزِ بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، عوراتُنا ما نأتي منها وما نَذَرُ؟ قال: "احفَظ عورتَك إلا مِن زوجتك أو ما ملَكَت يمينُك" قلت: فإذا كان القوم بعضُهم في بعض؟ قال: "إن استطعتَ ألاّ يَراها أحدٌ فلا يَرَيَنَّها" قلت: إذا كان أحدُنا خاليًا؟ قال: "فاللهُ تبارك وتعالى أحقُّ أن يُستَحيَا منه". وعن عليٍّ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُبْرِزْ فَخِذَك، ولا تَنظُرْ إلى فَخِذِ حيٍّ ولا ميتٍ" رواه أبو داود وابن ماجه. وعن محمد بن جحش قال: مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مَعمَرٍ وفَخِذاه مكشوفتان، فقال: "يا مَعمَرُ، غَطِّ فَخذَيكَ؛ فإن الفَخِذَين عورة" رواه أحمد والبخاري في تاريخه. وعن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الفخذ عورة" رواه الترمذي، وأحمد ولفظه: مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رجل وفَخِذُه خارجةٌ، فقال: "غَطِّ فَخِذَيكَ؛ فإن فَخِذَ الرجل من عورته". وعن يَعلَى بن أمية أن رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى رجلاً يغتسل في فضاء مكشوف، فصَعِدَ المنبر فحَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله، عز وجل، حَييٌّ سِتِّيرٌ، يحب الحياءَ والسَّتْرَ، فإذا اغتَسَل أحدكم فَلْيَستَتِرْ" رواه أبو داود والنسائي.(1/490)
ويأخذ الجانب الأخلاقي شأنًا كبيرًا في الفقه نذكر منه على سبيل المثال:
عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر بقبرين فقال: "إنهما يُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يَستترُ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" رواه أصحاب الصحاح، وفى رواية للبخاري والنسائي: "وما يُعَذَّبان في كبير" ثم قال: "بلَى، كان أحدهما..." وذكر الحديث.
ويصل الأمر إلى تنظيم كيفية الأكل والشرب، وما يقوله الإنسان عند خروجه من البيت وعند دخوله، وعند ركوبه وعند نزوله.
ففي الملابس مثلاً: عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا لبس قميصًا بدأ بمَيَامنِه. وعن أبي سعيد قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا استَجَدَّ ثوبًا سمّاه باسمه، عمامةً أو قميصًا أو رداءً، ثم يقول: "اللهم لك الحمدُ، أنت كَسَوتَنيهِ، أسألك خيرَه وخيرَ ما صُنع له، وأعوذُ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنع له" رواهما الترمذي.
وما كان الفقه في يوم من الأيام خاصًّا بجانب من الحياة الاجتماعية دون جانب، لقد كان يتضمن الأخلاق ويتضمن التشريع، كان يشتمل على العبادات والمعاملات؛ بيعًا وشراءً وجهادًا وقتالاً وسلامًا، نكاحًا وميراثًا، لقد كان الفقه يشرِّع للإنسان في جميع أقطاره وزواياه.
وكانت الطريقة المُثلَى للتأليف في الفقه هي الطريقة التي اتَّبَعها السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ لقد اعتقَدوا اعتقادًا موفقًا هو أن مهمتَهم إنما هي جَمْعُ الأحاديث في كل مجال، وتنسيقها وتبوبيها وتقسيمها إلى فصول وإلى فِقَرات، تنتظم جميعُها تحت وَحدة متَّحِدة هي الحياة الإسلامية. والحياة الإسلامية لا تنقسم إلى ميادين لتُفصِّلَ وتُعدِّدَ، إنها وَحدة متماسكة، ومن هنا كانت هذه الكتب الأولى في (الحياة الإسلامية) تبدأ بالحديث عن الوحي وعن الإيمان وعن العلم.(1/491)
وإذا تصفحت كتابًا مثل "الموطأ" للإمام مالك، رضي الله عنه، وهو كتاب فقه برغم كل ما يمكن أن يقال، بل هو في نظرنا كتاب الفقه المثالي ـ فإنك تجد فيه فصلاً عن حسن الخلق، وفصلاً يَطول عن صفة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للتأسِّي به ومتابعتِه في أخلاقه وسلوكه، وفصلاً عن الرؤيا، وتجد فصلاً عن العلم، وفصلاً عن أسمائه صلى الله عليه وسلم.
كان الفقه الإسلامي صورةً كاملة لحياة المسلم على صورتها الصحيحة وفى ترابطها الذي لا انفصامَ له ولا انفكاكَ. لقد كان شرحًا للإسلام وتفصيلاً للإيمان. والإسلام هو تصوير للحياة التي أحبها الله لمن كانوا خيرَ أمة أخرجت للناس، والإيمان الإسلامي تعبير عن الحياة الإسلامية الخالصة المخلصة.
والإيمان في وَحدته التامة شعب كثيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: "الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شعبةً، والحياةُ شعبةٌ من الإيمان". وحينما بيَّن سادتُنا العلماءُ المحققون الذين أخلصوا لله ورسوله تلك الشُّعَبَ عن طريق الأحاديث الشريفة التي وضحت الإيمان، وعن طريق الآيات القرآنية الكريمة التي تحدثت عن الإيمان، قسَّموا تلك الشعب إلى ما يَختَصُّ منها بالقلب وما يَختَصُّ باللسان وما يَختَصُّ بالبدن، أي إن الإيمان يغمُر الكيان الإنساني كله اعتقادًا وقولاً وفعلاً.(1/492)
ومن الأحاديث الشريفة نتبين أن الحبَّ في الله والبغضَ في الله من الإيمان وأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يجبُّ لنفسه، وأن الذي يؤذي جارَه ليس بمؤمن، وكذلك من شَبِعَ وجارُه جائع، وأن الجهاد من الإيمان، يقول صلوات الله عليه وسلامه: "انتَدَب اللهُ لمَن خرَج في سبيلِه، لا يُخرِجُه إلا إيمانٌ بي وتصديقٌ برُسُلي، أن أُرجِعَه بما نال من أجرٍ وغنيمةٍ أو أُدخلَه الجنةَ، ولولا أن أشُقَّ على أمتي ما قَعَدتُ خلفَ سَرِيَّةٍ، ولَوَدِدتُ أن أُقتَلَ في سبيلِ اللهِ ثم أَحيَا، ثم أُقتَلَ ثم أَحيَا، ثم أُقتَلَ".
ومنها نتبين أيضا أن قيامَ ليلة القدر من الإيمان، والإنصافَ من النفس من الإيمان، وبَذْلَ السلام للعالَم من الإيمان، والإنفاقَ من الاقتدار من الإيمان، وتطوعَ قيام رمضان من الإيمان، والصلاةَ من الإيمان، بل لقد عبَّر الله تعالى عنها بالإيمان في قوله تعالى: (وما كان اللهُ لِيُضِيعَ إيمانَكم) ويتغلغل الإيمان في الحياة الاجتماعية حتى يصل إلى السهل من أمرِها والميسورِ، فتكونَ إماطةُ الأذى عن الطريق من الإيمان، ويكونَ إفشاءُ السلام تعارُفًا وتودُّدًا من الإيمان. وإذا ما تَغَلغَلَ الإيمان في النفس وجَد المؤمنُ حلاوةَ الإيمان، وهو لا يَنعَمُ بحلاوة الإيمان إلا أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعودَ في الكفر كما يَكرَهُ أن يُقذَفَ في النار.
لقد كان الفقه بيانًا للحياة الإسلامية حسبما رسمها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان يلبي حاجات المجتمعات فيما يتعلق بالأحكام الإسلامية كلما أحدَثَت المجتمعاتُ جديدًا من الأمر أو ابتَدَعَت شأنًا من الشئون. لقد كان الصحابة يَلجئون إلى الآيات الكريمة يَستلهِمونها الصوابَ، وإلى الأحاديث النبوية يَستمدون منها الرشدَ.(1/493)
ما كان الفقهُ في يوم من الأيام وما كانت هذه الموادُ التي تُنظِّمُ الحياةَ آراءً بشريةً، إنها ليست نتيجةَ منطقٍ بشريٍّ أو تفكيرٍ إنسانيٍّ يصدُر عن الذات الإنسانية فيَختلفُ فيه الناسُ، من فرد إلى فرد ومن بيئة إلى بيئة ومن زمن إلى آخر، كما يختلفون بحسب ذلك في كل ما هو نتاج بشريٍّ.
كلاّ، إن الفقه الإسلامي إنما هو ميراث النبوة، إنه شرح للوحي، أو بتعبير أدقَّ: إنه ترجمةٌ للوحي واستنتاجٌ من قواعده العامة واتباعُ سلوك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ باعتباره المسلمَ الأولَ (وأنا أولُ المسلِمِين) أو باعتباره المطبِّقَ الدقيقَ لِمَا أوحاه تعالى على قلبه رسالةً إلى الإنسانية لهدايتها إلى الصراط المستقيم.
إن الفقه الإسلامي اتِّباعٌ وليس ابتداعًا، وإنه محاولة جاهدة لكشفِ الآثار النبوية والتزامِها، وليس اختراعًا يؤلِّفُه بشرٌ. ولقد كان أئمتنا، رضي الله عنهم، ينبِّهون بأقوالهم ونزعاتهم وسلوكهم إلى هذا الأمر البَدَهي عند ذَوِي الشعور الديني. لقد كان شعار أئمتنا جميعًا رضي الله عنهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي ـ إنما أنا متَّبِعٌ لا مبتدِعٌ ـ كلُّ إنسان يُؤخَذُ منه ويُرَدُّ عليه إلا صاحبَ هذه الروضة الشريفة)(1/494)
وصاحب هذه الروضة الشريفة هو وحده الإمام، وكان الإمامَ لأنه الكائن الوحيد الذي اجتَبَاه اللهُ رسولاً خاتمًا للرسل ونبيًّا خاتمًا للأنبياء، وكلُّ ما أتَى به قرآنًا كان أو حديثًا قدسيًّا أو حديثًا نبويًّا شريفًا إنما هو مقدَّسٌ؛ لأنه ما يَنطق عن الهَوَى، ولأنه يدعو إلى الله على بصيرة، ولأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن اتَّبَعَه فقد أحبه الله (قل إن كنتم تُحبُّون اللهَ فاتَّبِعُوني يُحبِبْكُمُ اللهُ) كان سلفنا الصالح يَنزِعون هذه النزعة، نزعة الخضوع المطلَق لما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقد كانوا يسجدون للنص، يسجدون له بجوارحهم وقلوبهم وأرواحهم وعقولهم، لقد كانوا يُخضِعون عقولَهم للنص ويجعلونه القائدَ الحَكَمَ المُهَيمِنَ. وكانوا يعرفون أن إدخالَ شخصيتهم في النص إنما هو انحراف يَعظُمُ أو يَقلُّ بحسب مدى التدخل البشري في النص، وكانوا يعرفون أن الوحيَ جاء هاديًا للعقل قائدًا له في الأمور التي لا يَتأتَّى للعقل أن يَلِجَ ميادينَها، أو يَقتحمَ حِمَاها، أو يُدلِيَ فيها برأي يَتفقُ عليه الناس. وهذه الميادين هي الدين، وما دام الدين ليس رأيًا بشريًّا ـ لأنه تنزيل من حكيم حميد ـ فإن كل موقف من الشخصية البشرية تِجاهَ النص الإلهيِّ إنما هو موقف لتبديل الدين من أن يكون إلهيًّا إلى أن يكون بشريًّا. ولو كان يستقيم الأمر على ذلك ـ أي على التبديل ـ لَمَا كان هناك من حاجة إلى الدين. يَروي أبو داود والدارقطني عن سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفلُ الخُفِّ أولَى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمسح على ظاهر خُفَّيه.
إن الدين ليس رأيًا وليس بالرأي، وانظر إلى الحديث التالي، إنه معبِّر أقوى ما يكون التعبير، ودقيق في مغزاه دقة بالغة:(1/495)
عن البَرَاء بن عازب، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتَيتَ مَضجَعَك فتَوضأْ وضوءَك للصلاةِ، ثم اضطَّجِعْ على شقِّك الأيمنِ، ثم قل: اللهم إني أسلَمتُ نفسي إليك، ووجَّهتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا مَلجَأَ ولا مَنجَا منك إلا إليك، آمَنتُ بكتابك الذي أنزَلتَ، ونبيك الذي أرسَلتَ. فإن مِتَّ في ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهنَّ آخرَ ما تَتكلمُ به" يقول البراء بن عازب: فردَدْتُها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أي أخذتُ في إعادتها عليه صلى الله عليه وسلم) فلما بلَغتُ: آمَنتُ بكتابك الذي أنزَلتَ. قلتُ: ورسولِك. قال: "لا ونبيِّك الذي أرسَلتَ" رواه الستة. وزاد البخاري والترمذي: "فإنك إن متَّ من ليلتك متَّ على الفطرة، وإن أصبَحتَ أصَبتَ خيرًا".(1/496)
إن الصحابيَّ الجليلَ البراءَ بن عازب، رضي الله عنه، أبدَلَ كلمة بكلمة نسيانًا منه، لقد قال: (رسولك) بدل أن يقول: (نبيك) وكلمة "رسول" تتضمن معنى "النبوة" فهي إذن فيها المعنى وزيادة، وبحسب منطقنا وبحسب عقلنا تكون صالحة، ولكنها في منطق الحق لم تكن صالحة، إننا لا نرى بعقلنا ومنطقنا إلا الشكلَ والظاهرَ، أما بواطن الأمور وأسرارُ الكلمات وحكمةُ الأوضاع المحددة واكتِناهُ خفايا التقديرات الإلهية ـ كل ذلك إذا لم يَكشِفْ اللهُ عنه أو عن بعضه فإننا لا نصل إليه بمنطق البشر (إنَّا كلَّ شيءٍ خلَقناه بقَدَرٍ) بمقدار محدَّد وتقدير معيَّن. واكتناهُ سرِّ هذا القَدَرِ أو هذا التقديرِ اكتناهًا تامًّا لا يصل إليه الإنسان، بل لا تصل إليه الملائكة (وعلَّم آدَمَ الأسماءَ كلَّها ثم عرَضَهم على الملائكةِ فقال أنبِئوني بأسماءِ هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا عِلْمَ لنا إلا ما علَّمتَنا إنك أنت العليمُ الحكيمُ) إن العلم الصحيح الصادق في عالم الهداية الإلهية والتربية الربانية إنما هو من الله سبحانه، وكل ابتعاد عنه أو خروج عليه أو تغيير فيه إنما هو ضلال.
وما من شك في أن الإنسان منذ أن وُجد على ظهر الأرض يحاول أن يَنزِعَ نزعة بشرية بحتة، ويَتصرفَ في الوحي الإلهيِّ نقصًا وزيادةً وبَترًا وإضافةً وتغييرًا وتبديلاً، يحاول أن يقيم كل ذلك على قواعدَ يَزعُمها صحيحةً، فيقول مثلاً: إن الحكمة في تحريم شرب الخمر إنما هي المفاسدُ التي تَنشأ من الشخص الشارب، فإذا ما انتَفَت تلك المفاسد فلا مانعَ من شرب الخمر. ويقول: إن التكاليف الدينية إنما جاءت لإصلاح الضمير، فإذا كان الضمير صالحًا فلا لزومَ للتكاليف الدينية. ويقول: إن أعمال العبادة إنما هدفها التقرب إلى الله، فإذا حصل القرب فلا حاجةَ إليها.(1/497)
وهكذا يَخرجُ الإنسان بأهوائه ـ ولا نقول: بعقله. لأن كل ذلك أهواءٌ يصوِّرُها الشيطان كأنها منطقٌ معقولٌ ـ عن الدين كما خرَج إبليس قديمًا بأهوائه، التي تَمَثَّلَت لذهنِه منطقًا، عن الدين.
والإمام الغزالي، رضي الله عنه، يمثل لنا ذلك بمثال معبِّر، فيذكر قصة رجل بَنَى له أبوه قصرًا على رأس جبل، ووضَع فيه شجرًا من حشيش طيب الرائحة، وأكَّد الوصية على ولده مرةً بعد أخرى ألاّ يُخلِيَ هذا القصرَ من هذا الحشيش طول عمره، وقال: إياك أن تَسكُنَ هذا القصرَ ساعة من ليل أو نهار إلا وهذا الحشيشُ فيه. فزرَع الولد حول القصر أنواعًا من الرياحين، وطلَب من البر والبحر أوتادًا من العود والعنبر والمسك، وجمَع في قصره جميعَ ذلك من شجرات كثيرة من الرياحين الطيبة الرائحة، فانغمرت رائحة الحشيش لمّا فاحت هذه الروائح، فقال: لا شك أن والدي ما أوصاني بحفظ هذا الحشيش إلا لطيب رائحته، والآن قد استَغنَينا بهذه الرياحين عن رائحته فلا فائدة فيه الآن إلا أن يُضيِّقَ عليَّ المكان. فرماه من القصر، فلما خلا القصر من الحشيش ظهَر من بعض ثقوب القصر حيةٌ هائلةٌ، وضربته ضربة أشرف بها على الهلاك، فتَنَبَّهَ حيث لم يَنفَعْهُ التَّنبُّهُ أن الحشيشَ كان من خاصيته دفعُ هذه الحية المهلِكة، وكان لأبيه بالوصية بالحشيش غرضان:
أحدهما انتفاع الولد برائحته، وذلك قد أدركه الولد بعقله.
والثاني اندفاع الحيات المُهلِكات برائحته. وذلك ما قَصَرَت عن إدراكه بصيرةُ الولد، فاغتَرَّ الولد بما عنده من العلم وظنَّ أنه لا سرَّ وراء معلومه ومعقوله، كما قال تعالى: (ذلك مَبلَغُهُم من العلم) وقال: (فلما جاءتهم رسلُهم بالبيناتِ فَرِحُوا بما عندَهم من العلم) والمغرور من اغتَرَّ بعقله فظنَّ أن ما هو مُنتَفٍ عن علمه فهو مُنتَفٍ في نفسه.(1/498)
وما من شك ـ كما يَروي كتاب إحصاء العلوم ـ في أن آراء المِلَلِ وكلَّ ما فيها من الأوضاع ليس سبيلَها أن يُمتَحنَ بالآراء والرَّوِيَّة والعقول الإنسية؛ لأنها أرفع رتبة منها، إذ كانت مأخوذةً من وحيٍ إلهيٍّ، لأن فيها أسرارًا إلهيةً تضعُفُ عن إدراكها العقولُ الإنسيةُ ولا تبلغها، وأيضًا فإن الإنسانَ سبيلُه أن تُفيدَه المِلَلُ بالوحي مما لا يُدرِكُه بعقله وما يَخُورُ عقله عنه، وإلا فلا معنَى للوحي ولا فائدةَ إذا كان إنما يُفيدُ الإنسانَ ما يَعلَمُه وما يمكن إذا تأمَّلَه أن يُدرِكَه بعقله، ولو كان كذلك لَوُكِلَ الناسُ إلى عقولهم، ولَمَا كانت بهم حاجةٌ إلى نبوة ولا إلى وحي، لكن لم يُفعَلْ بهم ذلك، فلذلك ينبغي أن يكون ما تُفيدُه المللُ من العلوم ما ليس في طاقةِ عقولِنا إدراكُه، ثم ليس هذا فقط بل ما تَستنكرُه عقولُنا أيضًا؛ وذلك أن التي يأتي بها المَلَكُ ـ مما تَستنكرُه العقولُ وتَستَبشعُه الأوهامُ ـ ليست هي بالحقيقة منكَرةً ولا مُحَالةً، بل هي صحيحة في العقول الإلهية، فإن الإنسان وإن بلَغ نهايةَ الكمال في الإنسانية فإن منزلتَه عند ذَوِي العقول الإلهية منزلةُ الصبيِّ والحَدَثِ والغَمْرِ عند الإنسان الكامل، وكما أن كثيرًا من الصبيان والأغمار يَستنكرون بعقولهم أشياءَ كثيرةً مما ليست في الحقيقة منكَرةً ولا غيرَ ممكنةٍ، ويَقعُ لهؤلاء أنها غيرُ ممكنةٍ، فكذلك منزلة مَن هو في نهاية كمال العقل الإنسيِّ عند العقول الإلهية.(1/499)
وكما أن الإنسانَ من قبلِ أن يَتأدَّبَ ويَتحنَّكَ يَستَنكرُ أشياءَ كثيرةً ويَستَبشعُها ويُخيَّلُ إليه فيها أنها مُحَالةٌ، فإذا تأدَّب بالعلوم واحتَنَك بالتجارب زالت عنه تلك الظنون فيها وانقلَبَت الأشياء التي كانت عنده مُحَالةً فصارت هي الواجبة، وصار ما كان يَتعجَّبُ منه قديمًا في حدٍّ ما يَتعجَّبُ من ضده ـ كذلك الإنسان الكامل الإنسانية، لا يَمتَنعُ من أن يَستَنكرَ أشياءَ ويُخيَّلُ إليه أنها غيرُ ممكنةٍ، من غير أن تكون في المحافظة كذلك.
ويشرح الشيخ الجليل أبو سليمان المنطقي كل ذلك في دقة دقيقة وفى أسلوب جميل، فيقول:
إن الشريعة مأخوذة عن الله، عز وجل، بوساطة السفير بينه وبين الخلق عن طريقِ الوحي وبابِ المناجاة وشهادةِ الآيات وظهورِ المعجِزات وفى أثنائها ما لا سبيلَ إلى البحث عنه والغوص فيه، ولابد من التسليم المدعوِّ إليه والمنبَّهِ عليه، وهناك يسقط (لم) ويبطُل (كيف) ويزول (هلاّ) وتذهب (لو) و(ليت) في الريح، ولو كان العقل يَكتفي به لم يكن للوحي فائدةٌ ولا غَنَاءٌ. على أن منازلَ الناس متفاوتةٌ في العقل وأنصباءَهم مختلفةٌ فيه، فلو كنا نَستغني عن الوحي بالعقل كيف كنا نصنع؟ وليس العقل بأَسْرِه لواحدٍ منا فإنما هو لجميع الناس. ولو استَقَلَّ إنسان واحد بعقله في جميع حالاته، في دينه ودنياه، لاستَقَلَّ أيضا بقوته في جميع حاجاته، في دينه ودنياه، ولكان وحدَه يَفي جميعَ الصناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى أحد من نوعه وجنسه، وهذا قول مرذول ورأي مخذول اهـ.(1/500)
يقول هذا الشيخ الجليل: إن منازلَ الناس متفاوتة في العقل وأنصباءَهم مختلفة فيه. ومعنى ذلك أن هذا الذي يَروقُ لشخص عقليًّا ربما لا يَروقُ لغيره عقليًّا، ويحب من أجل ذلك ألاَّ يَتدخَّلَ العقل في الدين وإلاّ لاختَلَف الناس فيه اختلافَ عقولهم، وادَّعَى كلٌّ أن ما عليه إنما هو الحقٌّ وما عليه غيرُه هو الباطلُ، ونتَج عن ذلك اتِّباعُ كلٍّ أهواءَه (أرأيتَ من اتَّخَذَ إلهَه هَواه) فتَتَفرَّقُ الأمةُ وتَخرُجُ على ما أحَبَّه اللهُ وأمَر به (واعتَصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفَرَّقُوا).
وإذا تَساءلتَ الآن: ما هو إذن موقف العقل من الدين وموقف الدين من العقل؟
فإننا نُجمِلُ الموضوع في النقط الآتية؛ أُنزِلَ الدينُ هاديًا للعقل في جميع الأمور التي لو تُرِكَ العقلُ وشأنَه فيها ضَلَّ السبيلَ وعجَز عن الوصول إلى الحقيقة، وهذا الأمور هي:
(أ) عقائد في فيما وراء الطبيعة.
(ب) المبادئ الأخلاقية إجمالاً وتفصيلاً.
(ج)التشريع في قواعده العامة وفى بعض تفصيلاته. وقواعدُه العامةُ تَتضمن الجزئياتِ على مر الزمن وعلى اختلاف البيئات.
أما الطبيعة والكون؛ من سمائه وأرضه، ومن جباله وبحاره، ومن كواكبه وأقماره وشموسه... أما المادة والطاقة، أما أعماق البحار وآفاق السماء ـ فإن كل ذلك قد ترَكه للإنسان يَدرُسُه في مصنعه ومعمله بآلاته وأدواته، وحَثَّه على أن يَجولَ في ذلك ما استطاع إليه سبيلاً حتى يَكتَشفَ سُننَ الله الكونية ونَواميسَه الطبيعية، ويَرَى صُنعَ الله الذي أتقَنَ كل شيء. ولم يَحجُرْ الدينُ على الإنسان في هذا المجال، اللهم إلا الواجبَ الذي يَنبغي أن يكون شعارَه دائمًا، وهو أن يكون هَدَفَه من كلِّ ذلك الخيرُ.(1/501)
ونزل الدين ليقود الإنسان نحو الكمال الروحي. والإنسان إنسان بالجانب الروحي منه، وكلما سَمَا الإنسان روحيًّا كان أسمى في معنى الإنسانية. والمعنى الروحي ووسيلة المعنى الروحي لا سبيل إلى تحديدهما من الإنسان نفسه وإنما تحديدهما مَرَدُّه إلى الله سبحانه. والقربُ من الله، أو بتعبير أدقَّ: تقريبُ اللهِ للإنسان إنما مرجعُه هدفًا ووسيلةً هو اللهُ نفسُه، وكل من حاول أن يَتخذ طريقًا آخرَ فإنما يجري وراء سراب. والغايةُ والوسيلةُ حدَّدهما في كتابه الكريم، إنه حدَّدهما بالأسلوب الإلهي نفسه، أي أن التعبيرَ عنهما ـ التعبيرَ نفسَه ـ إنما هو من الله سبحانه، ومِن فضلِ اللهِ على المسلمين وعلى اللغة العربية أنْ كانت وسيلةَ فَهْمِ الإسلام، كما أنها التعبيرُ الإلهيُّ، التعبيرُ الإلهيُّ بما فيه من دقةٍ كاملةٍ وجمالٍ مُعجِزٍ وكمالٍ غيرِ منقوص. وما دام الأمر كذلك فليس للعقل إلا التسليمُ والخشوعُ والخضوعُ، أو بتعبير أدقَّ: السجودُ. وهو ليس سجودًا تعسفيًّا أو تحكميًّا، وإنما هو سجودٌ مصدرُه الإيمانُ اليقينيُّ بأن هذا من عند الله، وما دام من عند الله فإنه (لا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يدَيهِ ولا مِن خلفِه) لأنه (تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ) ولأنه (أُحكِمَت آياتُه ثم فُصِّلَت مِن لَدُنْ حكيمٍ خبيرٍ).
من ذلك نتبين أن الدين هادٍ للعقل، وأن العقل يجب أن يَخضَعَ ويَسجدَ للوحي الآلهي.(1/502)
بَيدَ أن ذلك يُسلِمُنا إلى سؤال آخر أو مشكلة أخرى؛ هي أن القرآن يطالب دائمًا بالتفكير والتدبر (فاعتَبِروا يا أُولي الأبصار) (إن في ذلك لَذِكرَى لِمَن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ) ويَنعِي على المشركين التقليدَ، ويَتهكَّمُ بهم في اتِّباعهم آباءَهم، فيَتساءلُ (أوَلَو كان آباؤُهم لا يَعقلون شيئًا ولا يَهتدون) وكثيرًا ما نجد الآياتِ تُختَمُ بـ (أفلا تعقلون) (أفلا تفكرون) (أفلا تبصرون) وكل ذلك يدل على أن القرآن يدفع الناس إلى استعمال العقل.
والواقع الذي لاشك فيه هو أن القرآن الكريم لا يَستشير الملائكة ولا بَني الإنسان في أية قضية من القضايا التي جاء بها الوحي، ولا يَحتكم إلى الإنسان باعتباره حَكَمًا في أي مبدأ من مبادئه، ولا يَطلب منه مَشورة في أية قاعدة من القواعد التي شرَعها الله، بل هذه الأوهامُ تدور بخَلَدِ المتديِّن فقط، ذلك أن الوحيَ نزَل على أنه رسالة السماء النهائية إلى العالم، ونزَل يُبلِّغُ أن هذه الرسالة صِدْقٌ كلها، ليس فيها جملةٌ زائفةٌ ولا كلمةٌ ليست في غير موضعها ولا حرفٌ كان يَحسُنُ ألاّ يُوجَدَ، كلاّ، إنها الحق الخالص، ومن اتَّبَعها فقد اهتَدَى، ومن حاد عنها انحرَفَ، ومن ابتَغَى الهدَى في غيرها أضَلَّه الله، ومَن تَرَكها مِن جبارٍ قَصَمَه الله، لأنها صراطُ الله المستقيمُ ونورُه اللَّأْلَاءُ.(1/503)
وكل ما ذكَره، تعالى، من التفكر والنظر والتدبر إنما أراد به الاعتبارَ، وأراد أن يقول: تَفكَّروا لِتَرَوا أن ذلك هو الحق، انظروا لِتَعلَموا أن ذلك هو الخير، أمّا إذا رأيتم غير ذلك فإنما العيب في بصركم أو في بَصيرتكم أو فيهما معًا، إذا رأيتم غير ذلك فاعلَموا أن فِطرَتَكم فسَدت، وأن قلوبَكم رانَ عليها الإثمُ فضَلَّت، وأن عقولَكم قد صَدَأت فأصبحت لا تَرَى الحقَّ حقًّا ولا الخيرَ خيرًا، وأصبَحَت من الضلال بحيث تَرَى الخيرَ شرًّا والشرَّ خيرًا، وأصبح أصحابُها كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً، كل ذلك لانحرافِكم عن الصراط المستقيم، صراط الله.
إن الله، في عظمته وجلاله، سبحانه، لا يُلقي برسالته ليَبحَثَها الإنسانُ ويُبديَ فيها رأيَه، نفيًا وإثباتًا، سلبًا وإيجابيًّا، كلاّ، بل كلُّ من تَوهَّمَ ذلك فإنه لا يَقدِرُ اللهَ حقَّ قَدْرِه، وتَعالَى اللهُ عن ذلك علوًا كبيرًا، وإنما ألقاها سبحانه لِتُتَّبَعَ، ولِتُتَّبَعَ في خضوع وسجود، ولِتُتَّبَعَ دون حرج يَحيكُ في الصدر أو شكٍّ يَجُولُ في النفس (فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شَجَرَ بينهم ثم لا يَجدوا في أنفسهم حَرَجًا مما قَضَيتَ ويسلِّموا تسليمًا) وكلُّ من وجَد في نفسه حَرَجًا من قضايا الدين، وكلُّ مَن لم يُسلِّمْ تسليمًا كاملاً مطلَقًا تامًّا، كل مَن كان كذلك فإنه يَحسُنُ به أن يَرجِعَ إلى إيمانه لِيُصححَه ولِيَتوبَ إلى الله توبة نصوحًا، وباب الله مفتوح للتائبين آناءَ الليل وأطرافَ النهار، وفى كل نفَس وفى كل لحظة، يقول أبو عمرٍو محمد بن إبراهيم الزَّجَّاجي النيسابوري: كان الناس في الجاهلية يَتَّبعون ما تَستحسنُه عقولُهم وطبائعُهم، فجاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرَدَّهم إلى الشريعة والاتِّباع، فالعقل الصحيح هو الذي يَستحسِنُ محاسن الشريعة ويَستقبِحُ ما تَستقبِحُه.(1/504)
ومسألة أخرى، هي مسألة تعليل الأحكام وأن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، وهي مسألة تَرتبط بما قدمنا ارتباطًا وثيقًا؛ ذلك أن التعليل ذو صلةٍ وثيقةٍ عادةً بالمنهج في فهم الدين، وهذه المسألة لابد فيها من التفصيل.
أولاً: إذا كان الشارع، سبحانه، قد حدَّد العلةَ وحَصَرَها فإن لنا أن نقول: إنها الحكمة من القاعدة التي شُرعت. وما دام الشارع هو الذي حدَّدها فإن الحكم يدور معها وجودًا وعدمًا.
ثانيًا: إذا كان الشارع قد ذكَر علة دون أن يذكر حصرًا فإنه ليس لنا أن نقوم نحن بالتحديد والحصر، وإنما موقف المسلم هو أن يؤمن بالحكمة التي ذكَرها الشارع، من إيمانه بأنه يجوز أن تكون هناك حكمةٌ أخرى.
ثالثًا: إذا لم يذكر الشارع حكمةً للحكم فإن لنا أن نَلتمِسَ إذا شئنا حكمةً، ولكن يجب علينا ألاّ نَزعُمَ أنها الحكمة الحقيقية التي أرادها الشارع، ويجب علينا ألاّ نَزعُمَ أنها الحكمة الوحيدة. وكل ذلك أن العقل البشريَّ لا يُحيط بالأسرار الإلهية، وأن حكمة الشارع في أحكامه أَسمَى من أن يُحيطَ بها البشر إحاطةً تامةً.(1/505)
الحج المبرور وثوابه:
في حديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة".
روى الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما بسنَدِهِما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارة لِمَا بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة"، والحديث صحيح.
أما كون الحج كافِيًا لدُخول الجنة.. فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل الحج ليس له جزاء إلا الجنة، ولكنه قال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، والمسألة ـ إذن ـ هي تفسير الحج المبرور، والحج المبرور من أفضل الأعمال؛ فقد روى الإمام البخاري والإمام مسلم بسنَدِهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سُئِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".
ومِن تفسير الحج المبرور نقول: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمَنْ فرَضَ فيهنَّ الحجَّ فلا رفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ وما تفعلوا من خيرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خيرَ الزادِ التقوَى واتَّقُونِ يَا أُولِي الألبابِ).(1/506)
ومن شروط الحج المبرور ـ إذن ـ الانتهاء عن آثام اللِّسان التي تتلَخَّص في الرفث والجدال، أو الكلام العابِث والكلام المُشاحِن والانتهاء عن آثار الفعل التي عبَّر الله عنها بالفُسوق، وهذا المعنى هو ما رواه الإمام عبد بن حُمَيْد بسنده عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن قضى نُسُكَه وسلِم المسلمون من لسانِه ويدِه غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه"، فيجب الانتهاء عن الرفَث والفُسوق والجدال، وهو سلامة المسلمين من لسان الحاجِّ وجوارِحِه، وفضلًا عن هذا فإن أعمال الحج تبدأ أول ما تبدأ بالتوبة الخالِصة النَّصُوح.
إنها تبدأ بالندَم على ما فاتَ من ارتكاب المعاصي وبالعزم الذي لا تُزعْزِعه الأعاصير على ألا يأتي الذنب في المستقبَل، إنها تبدأ بالنية المُؤَكَّدة على أن يستقبل حياةً يَتَزَوَّد فيها بالتقوى لِيَنال رِضْوان الله، وما دام الأمر كذلك فإنه يدخُل في نِطاق مَن يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم، حسبما روى الإمام البخاري والإمام مسلم في سندهما عن أبي هريرة: "مَن حجَّ فلم يَرْفُث ولم يفسُق رجَع كيومَ ولدتْه أمُّه".(1/507)
في شروط الحج المبرور:
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الله ـ تعالى ـ: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فلا رفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ وَما تَفْعَلُوا من خيرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فإن خيرَ الزادِ التقوى واتَّقُونِ يَا أُولِي الألبابِ).
إن الحج فريضة من فرائض الإسلام مِثْلُها كمِثْل بقية الفرائض في أن هدفها تطهير النفس وتزكِيَتها، ومن أجل ذلك فإن مَن أوجب على نفسه الحج بأن أحرم في أشهُرِه المعلومة: شوال وذي القعدة، والأيام الأولى من ذي الحجة فعليه أن يلتزم الخُلُق الفاضل، أي أن ينتهي عما نهى الله عنه من آثام اللسان والقلب والجوارح، وأن يتحلَّى بالخلُق الكريم.
ولقد لخَّص الله ـ سبحانه وتعالى ـ آثام اللسان والقلب والجوارح المنهي عنها في قوله ـ تعالى ـ: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدالَ فِي الحجِّ).(1/508)
وهذا المعنى تُرَدِّده الأحاديث النبوية الشريفة حاثَّةً عليه، مُوجِبَة له، جاعلةً الحج المبرور مُتَرَتِّبًا على تحقيقه، يقول رسول الله ـ فيما رواه الإمام عبد بن حميد بسنده، عن جابر بن عبد الله ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن قضى نُسُكَه، وسَلِم المسلمون من لسانه ويده غُفِر له ما تَقَدَّم من ذنبه". وروى الشيخان وغيرُهما بسندهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن حجَّ فلم يَرْفُث ولم يَفْسُق، رجَع من ذنوبه كيومَ ولدتْه أمُّه". وأحسن تفسير للرفَث قالَه الحافِظ المنذري من أن الرفَث يُطلَق، ويُراد به الجِماع، ويُطلق ويُراد به الفُحْش، ويُطلَق ويُراد به خطاب الرجل المرأةَ فيما يتعلق بالجماع، وما من شك في أن المُراد في هذه الآية الكريمة كل هذه المعاني، أما الفسوق فإنه المعاصي؛ فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن الفُسوق هو: ما أصيب من المعاصي، صيدًا أو غيره، ومنه السِّباب؛ فقد ثبت في الصحيح قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" سِباب المسلم فُسوق، وقِتَالُه كُفْر".
أما الجدال فهو الأمر الثالث المنهِيُّ عنه في الحج، وهو بمعنى المِراء والمُلاحاة والنِّزاع اللساني الذي يُغضب ويسيء، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: إنه المراء والملاحاة حتى تُغضِب أخاك وصاحبَك، فنهى الله عن ذلك.
ولا يتأتَّى في الأوضاع السليمة أن ينتهي الإنسان عن معاصي اللسان والقلب والجوارح إلا إذا بدأ أعمال الحج بالتوبة الخالِصة النَّصوح، التوبة التي لا تَرَدُّد فيها ولا فُتور، التوبة العازمة التي تُفْتَح لها أبواب السماء، والتي تُغَيِّر من اتجاه الإنسان ومن سلوكه فيُصبح بعدها من المُصْطَفَيْنَ الأخيار.(1/509)
وبعد: فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، ويقول فيما رواه الترمذي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنهماـ: "تابِعُوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما يَنْفِيَان الفقر والذنوب، كما ينفي الكِير خبَث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة.(1/510)
في مراحل الحج:
إن أول شيء يقوم به الحاج هو أن يتوضَّأ ثم يَلْبِس ملابس الإحرام بيضاءَ نَقِيَّةً؛ رمزًا إلى الصفاء والطُّهْر، ثم يُصَلِّي ركعتين سنَّة الإحرام ثم يتجه إلى الله في ضراعة مُستقبِلًا القبلة ويتوب إلى الله توبةً خالصةً نَصوحًا، ثم يُحرِم، أي أنه يقول بلسانه مُصَدِّقًا بقلبه: "نويتُ الحج، اللهمَّ يَسِّرْه لي وتَقَبَّلْه مني"، أو يقول: "اللهمَّ، إني نَوَيْتُ العمرةَ فيَسِّرْها لي وتَقَبَّلْها مني"، ثم يلبي فيرفع صوته قائلًا: "لبيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريك لك لبيكَ، إن الحمدَ والنعمةَ لك، والمُلْكَ لا شريك لك".
وهذه الأمور يُمكن أن يفعلها في بيته قبل ركوب الطائرة، ويُمكن أن يفعل في بيته منها ما لا يتيسَّر له فِعْله في الطائرة، ثم يُتَمِّم الأمور بمُجرد أن تنطَلِق الطائرة في الجو، حتى إذا ما وصل مكةَ اتجه إلى البيت فيَطُوف طوافَ القُدوم إن كان قد نَوَى الحج، أو يَطُوف طواف العمرة إن كان قد نوى العمرةَ. فإذا كانت العمرةُ فإنه يذهب بعد الطواف إلى مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويُصلي ركعتين ثم يذهب إلى بئر زمزم ويشرب وينوي مع شُربه أمرًا يُحِبُّه راجيًا الله أن يُيَسِّرَه، فزمزم لِمَا شُرِب له، ثم يذهب إلى السعي فيسعى سبع مرات مبتدئًا من الصفا منتهيًا بالمروة.
وبذلك تَتِمُّ عُمْرَتُه بعد الحلْق أو التقصير.(1/511)
ثم ينوي الحج في اليوم الثامن من ذي الحجة مبتدئًا به ـ كما ذكرناـ في ابتداء العمرة ثم يذهب إلى مِنًى يَبِيت فيها، وهذه سُنَّة، ولو بات ليلة التاسع في مكة ما كان عليه وِزْر، وأهم أعمال الحج الوُقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الحجُّ عرفةُ"، ويستمر في عرفة إلى غروب الشمس، ثم يأخذ في الرحيل إلى المُزْدَلِفة ويَبِيت فيها اتباعًا للسنَّة، يأخذ منها الحصا الذي يرمي به إبليسَ، وإذا مكث في المزدلفة مدة ساعة مثلًا أجزأه ذلك، ثم يذهب إلى مِنًى، وبعد صلاة الصبح من اليوم العاشر من ذي الحجة يتوجَّه لرمي جمرة العقَبة ثم يَحْلِق أو يُقَصِّر ويتحلَّل التحلُّل الأصغر، ثم يذهب إلى مكة للطواف ويتحلَّل التحلُّل الأكبر فيُباح له كل ما كان ممنوعًا مما أحله الله ـ سبحانه ـ ثم يعود إلى مِنًى يَبِيت فيها، ولابد من البَيَات فيها، ويرمي في اليوم الحادي عشر الجمَرات الثلاث، أي يرجِم رمز إبليس، وهي ثلاث رموز يَرْمِيها بعد الزوال، يرمي كلًّا منها سبع مرات قائلًا: في كل مرة: بسم الله والله أكبر. وكذلك الأمر في اليوم الثامن عشر ثم هو بالخِيَار إن شاء أنهى إقامتَه في مِنًى. وإن شاء أقام فيها يومًا آخرَ هو اليوم الثالِث عشر من ذي الحجة. يقول ـ تعالى ـ: (فَمَنْ تَعَجَّلَ في يومينِ فلا إثمَ عليه ومَن تأخَّرَ فلا إثمَ عليه).
ويعود في أمانِ الله إلى مكة يُكثر فيها من الطواف بالبيت فإذا ما عزَم السفر طاف طواف الوَداع وسافَر في رعاية الله.(1/512)
في حكمة الحج:
في الحديث الصحيح: "مَن حجَّ لله فلم يرفُث ولم يفسُق رجع كيومَ ولدتْه أمُّه" وفيه ـ أيضًاـ: "العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لِمَا بينهما، والحجُ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنةُ"، والحج من الفرائض التي تُكَفِّر كل الذنوب عن العبد، وتجعله خالصًا من الآثام، فإذا مات بعد حجِّه مباشرةً فقد مات طاهرًا من الإثم، نَقِيًّا من الذنوب بشرط أن يكون الحج خاليًا من كل ما يُفسد، سالمًا من كل ما يَعِيب.
إن الحج المبرور هو الذي لا يَرْتَكِب صاحبُه فيه معصِيَةً ولا يُقارِفُ إثمًا، والواقع أنه من فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل لها منافِذ لتطهير النفس وتزكِيَتِها، حتى تنال رضا الله وتَنْعَم بثوابه. ومن النوافذ الكبرى: الحج المبرور.
وليس من العسير على الإنسان أن يُخلِص وجهه لله في أيام معدودات، يُصبح الإنسان بعدها من البَراءة والطُّهْر كيومَ ولدته أمه، خالصًا من الدَّنَس، مُبَرَّءًا من الآثام.
وفي الحج تَعَرُّف على الله ـ سبحانه وتعالى ـ مصدر الخير كل الخير، ومصدر النعمة كل النعمة، ومصدر الكمال على المعنى الصحيح للكمال الإنساني.
إن الذي يَتَعَرَّف على الله يُصبح من الكمال الإنساني في الذروة.
ولَمَّا كانت طريقة التعرُّف إلى الله في الحج توبة نصوحًا، واستجابةً مُخلِصة، وطوافًا بالبيت في تضرُّع، وابتهالًا إلى رب البيت، وسِيَاحة من الصفاء إلى الرِّيِّ، ومن رِيٍّ يَزْداد إلى صفاء يصفو، لمَّا كانت كذلك كانت تزكية للنفس.
فإذا ما تزكَّت النفس بكل ذلك يُفِيض الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليها نورًا يعرفه به فتتعرَّف عليه وتَلْزَمُه، وتقف عنده وتنتهي إليه: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى).
وإذا ما تَوَجَّه الإنسان بكل كِيَانه إلى مَوْلَاه، غمَرَه بنِعَمِه، وأكرمَه بالمغفرة وأهَّله لدخول الجنة والتنعُّم بالثواب.(1/513)
ولقد فتح الله ـ سبحانه ـ أبوابًا كثيرة يدخل منها طُلَّاب المغفرة والرحمة إلى مغفرته ورحمته، من هذه الأبواب الحج، وفي حديث عمرو بن العاص ـ فيما رواه مسلم ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أَمَا علمتَ أن الإسلامَ يَهْدِم ما كان قبلَه، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله".
وقد بيَّن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فائدة الحج في أوضح بيان، فقال فيما رواه الشيخان وغيرهما: "مَن حجَّ فلم يَرْفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
وعن عبد الله بن مسعود فيما رواه الترمذي وغيره، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تَابِعُوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما يَنْفِيَان الفقرَ والذنوب، كما يَنْفِي الكير خَبَث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة"، وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الحُجَّاج والعُمَّار وفد الله: دَعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم".
وفريضة الحج مرة واحدة في العمر.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "يا أيها الناسُ، إن الله قد فرَض عليكم الحج فحُجُّوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لو قلتُ نَعَم لَوَجَبتْ ولَمَا استطعتُم قال: ذَرُوني ما تركتُكُم؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتُكم بشيء فأْتُوا به ما استطعتُم وإذا نهيتُكم عن شيء فدَعُوه".(1/514)
إن الله ـ تعالى ـ فرض الحج لحكمة سامِيَة هي تزكِيَة النفس وتطهيرها، ومن أجل ذلك كانت أعمالُه هي من أجل هذا التطهير، إنه منذ ابتداء شعائر الحج يتوب توبة نَصوحًا ويلبس الملابس البيضاء علامةً على الطُّهْر والصفاء، ويُلَبِّي قائلًا: "لبيكَ اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك، لا شريك لك".
والتلبية استجابة لله ـ سبحانه وتعالى ـ فيما أمرَه، واستجابة له في الانتهاء عما نهى، ثم إن الطواف والصلاة في مقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ والسعي والوقوف بعرفة داعيًا مستغفرًا تائبًا، ورجم إبليس مصدر الشر والإثم، أي: معاهدة الله في نهاية الحج على ترك المعصية برجم مصدرها وهو إبليس، إن كل ذلك إنما هو تطهير وتصفِيَة للنفس وتزكِيَة لها، ومن هنا كانت حكمة الحج.(1/515)
في نَفقات الحج:
إن الحج جائز دائمًا إذا كان المال حلالًا، سواء أكان ذلك المال من مال الشخص نفسه أم كان من مال الغير المُتَبَرَّع به عن طِيب نفس، والله طَيِّب لا يَقْبَل إلا طَيِّبًا، وقد كان بعض الصالحين الأثرياء من سَلَفِنا الصالِح يَحُجُّ ويأخذ معه مجموعة من الفقراء الذين لم يُؤَدُّوا فريضة الحج فيُنْفِق عليهم، ومن هؤلاء الأثرياء الصالحين الذين لهم قدَم راسخة في العلم والزهد والثراء والكرم الإمام الرباني عبد الله بن المبارك؛ فقد كان يحُجُّ على نفقته كلَّ عام عشَراتٌ ممَّن لم يَحُجُّوا من قبل، وهي سُنَّة جميلة لها ثوابُها الجزيل، وحبَّذا لو اتبعها أثرياؤنا في العصر الحاضر.(1/516)
هل للزوجة أن تحج من مال زوجها؟ وهل للإنسان أن يحج من مال مُهْدًى من أجنبي؟
الحج ركن من أركان الإسلام، واجب في العُمْر مرة على المُسْتَطِيع، وسواءً كان الحج حج الفريضة أم كان حج النافلة فإنه قُرْبَى إلى الله ـ سبحانه ـ والقُرْبى يجب أن يتحرَّى الإنسان فيها أن تكون بمال حلال.
ومال الزوج بالنسبة للزوجة حلال إذا كان بإذنه وعن رِضًا منه، ومالُها بالنسبة له حلال ـ أيضًاـ إذا كان عن رضًا منها وبإذنها.
والأمر كذلك فيما يتعلَّق بمال الوالد بالنسبة للولد، ومال الولد بالنسبة للوالد.
أما المال المُهْدَى من أجنبي فللإنسان أن يَحُجَّ منه إذا بَرِئ المال من الشُّبَه، فلا يكون المال المَهْدِي من تاجر مخدرات مثلًا، أو ممَّن يَتَّجِر في الخمر، وما دام الله ـ سبحانه ـ لا يُوجِب الحج على غير المُستطيع فإن في سَعة رحمة الله عُذْرًا لمَن لم يجد المال الحلال الصافي.(1/517)
هل يجوز لمسلم أن يُعطي مبلغًا من المال لمَن يُريد أداء فريضة الحج لكي يدعو له في أثناء مناسك الحج؟
إن الإنسان يُمكِنُه أن يُقدِّم مبلغًا من المال على سبيل الهدية لمَن عزَم على الحجِّ ثمَّ يرجوه الدعاء له.
ويُمكنه أن يُقَدِّم مبلغًا من المال على سبيل الصدقة، ثم يرجو مَن عزَم على الحج أن يدعو له في أثناء تأديَتِه مناسِك الحج.
وإذا كان يَصِح للإنسان أن يدفع نَفَقات وتكاليف شخص لِيَذْهَب إلى الحج ويُؤَدِّي فريضة الحج عنه، ويدعو في أثناء فريضة الحج في الطواف مثلًا أو على عرَفات فإنه يجوز له أن يدفع بعض هذه النفَقات فقط في سبيل أن يُكرِمَه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بقَبُول دَعَوات الحاج في البِقاع الطاهرة المُبارَكة.(1/518)
ما حكم مَن ذهبت إلى الحج على حساب أحد أقاربها، وفي أثناء الذهاب إلى الحج سرقَت مبلغًا من المال فهل حجُّها يُقْبَل أو لا؟
نقول أولاً: إن الحج لم يكن واجبًا عليها؛ لأن الحج واجب على المُستَطِيع وهي غير مستطيعة.
ونقول ثانيًا: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في كتابه العزيز: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فيهنَّ الحجَّ فلا رفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ وما تفعلوا من خيرٍ يعلمْهُ الله وتَزَوَّدُوا فإنَّ خيرَ الزادِ التقوى واتَّقُونِ يا أولي الألبابِ).
وبمُقْتَضى هذه الآية الكريمة، واستنادًا إلى الجوِّ الإسلامي كلِّه في موضع الحج نرى أن جريمة السرقة أو أي جريمة من الجرائم الكبرى بعد الإحرام بالحج تكون مُبْطِلَة له.
وقد يُغْتَفَر في الحج بعد الإحرام بعض توافِه الأمور أو بعض صغائر الذنوب. أما الجرائم الكبرى بعد الإحرام فإنها مُبطِلَة له كما ذكرنا.
أما إذا كانت جريمة السرقة قبل الإحرام بالحج أي في أثناء الذهاب، ولكن قبل الوُصول إلى الميقات الذي يُحرِم منه الإنسان فإن ذلك لا يُبطِل الحج، وتكون السرقة مَعْصِيَة يُقَام على السارقة الحدُّ فإن لم يُقَم عليها الحد فإن التوبة الخالِصة الصادِقة النَّصوح كفيلة بمَحْوِها فتُحْرِم بعد التوبة، وهي على طهارة ونقاء، ولا يَبْطُل حجُّها بالسرقة قبل الإحرام.
بيد أنه يجب أن يكون معلومًا أن من صدق التوبة ردَّ ما سرقت.(1/519)
في الإحرام:
إن الإحرام ركن من أركان العمرة، مِثْلُه فيها كمِثْله في الحج، سواءً بسواء، ولكنَّنا نُحِب أن نُنَبِّه إلى أن الإحرام شيء، ولُبْس الملابس الخاصة ـ وهي الرداء والإزار أو البشكيران ـ شيء آخر.
فالإحرام هو النية التي يَنْوِي بها الإنسان العمرة أو الحج، وهذه النية هي الركن، ولها ميقاتها أي مكانُها المُعَيَّن، أما لُبْس الملابس البيضاء فإنه ليس بركن، ويُمَكَّن أصحاب الأعذار أن يستمروا بملابسهم العادِيَة ويُخرِجُوا فِدْيَة، أي صدقة تتراوَح بين اثني عشر وعشرين ريالًا كلٌّ بحسب مستواه.(1/520)
في ملابس الإحرام:
إن الحج فترةُ تَجَرُّد كامل لله ـ سبحانه وتعالى ـ وتوبة استغفار وإنابة، وأداء شعائر ومناسك وقطع الصِّلَة بالماضي الذي تَشُوبه شوائب من هوَى النفس ونَزَغات الشيطان.
ومن الرموز لقَطْع الصلة بالماضي واستقبال عهد جديد، أن يتخلَّى الإنسان عن ملابسه لِيَلْبِس ملابس الإحرام بيضاء ناصعة طاهرة نَقِيَّة؛ تَوْجيهًا لِمَا ينبغي أن يكون عليه الإنسان في سِرِّه وعلانيته من الصفاء والطُّهر، فمَن كان به مرَض يمنَعُه عن لُبس ملابس الإحرام فإن الله ـ سبحانه ـ أرأَفُ به وأرحمُ من أن يُبْطِل حجَّه، وإنما عليه أن يذبَح شاةً بالحرَم المكي، أو يُطْعِم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، وهو مُخَيَّر في هذه الأمور الثلاثة.
أما المرأة فإنها تَلْبَس ملابِسَها العادِيَة التي تَسْتُر كل جسمها، وإحرامها معناه: ألا تُغَطِّي وجهَها ولا كفَّيْها، وأمَّا ما عدا ذلك ففرض عليها أن تستُرَه.(1/521)
في الحج عن الغَيْر:
روى أبو داود وابن ماجة وغيرهما، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع رجلًا يقول: "لبيك عن شبرمة" فقال له: ومَن شبرمة؟
قال: أخ لي أو قريب لي.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أحجَجْتَ عن نفسك؟" قال: لا.
قال: "فحُجَّ عن نفسك، ثم عن شبرمة".
روى الإمام مسلم بسنده عن بُرَيْدَة، عن أبيه ـ رضي الله عنهما ـ أن امرأة أتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذت تسألُه عن مسائل، وكان من بينها أن قالت عن أمها: إنها لم تَحُجَّ قط، ثم سألتْ أفأحجُّ عنها؟
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: حُجِّي عنها.
وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: جاءت امرأة من خشعم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يَثْبُت على الراحلة أَفَأَحُجُّ عنه؟ قال ـ صلوات الله عليه ـ: "نعم" ثم علَّل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك بقوله: "فإنه لو كان على أبيك دَيْن قَضَيْتِه".
وعن أبي رزين العقيلي: أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحجَ ولا العمرةَ ولا الظعن، أي لا يَقْوَى على السَّيْر ولا الركوب لكِبَر سِنِّه، فقال ـ صلوات الله عليه ـ: "حُجَّ عن أبيك واعتَمِر".
والإنابة في الحج مشروعة عند عَجْز الإنسان عن مُباشَرة أعمال الحجِّ، وإذا تبَرَّع إنسان لإنسان فحَجَّ بنفسه عنه، أو دفَع عنه قيمة تكاليف الحج مُتَبَرِّعًا، وأنابَ شخصًا آخر ليقوم بأداء ذلك صحَّ هذا وسقطت الفريضة عمَّن تمنَعُه حالته الصحية من أدائها ولا يُحرِّم الله ـ سبحانه ـ صاحب الهدية المُتَبَرِّع من الأجر الجزيل.(1/522)
في حج الصبيان:
روَى مسلم بسنَده عن ابن عباس قال: "رفعت امرأة صبيًّا لها، فقالت: يا رسول الله، أَلِهَذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر".
وروى البخاري بسنَده عن ابن عباس والسائب بن يزيد ـ ما يُفيد حَجُّهما مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البُلوغ.
والسؤال الآن: هل يُسقِط هذا الحج فريضةَ الحج عن الصبي بعد البلوغ أَوْ لَا؟
إن هذه الحَجَّة لا تُسقط الفريضة عن الصبي بعد البلوغ؛ لِمَا رُوِي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: "أيما غلام حجَّ مع أهله، ثم بلَغ فعليه حَجَّة أخرى".
أما قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمرأة التي سألتْه عن الصبي أَ لِهَذا حج: نعم، فلا يُفيد إلا أن للصبي ثواب الحج، ولأمه ـ أيضًاـ الثواب؛ لأنها هي التي مَكَّنَتْه من ذلك، ولكنه لا يفيد سُقوط الفريضة.
فلِلصبي مهما كان صغيرًا ـ إذا حج ـ ثواب الحج، وعليه إذا بلغ الحُلُم أن يحج حَجَّةَ الفريضة إذا توافَرَت له شروطها.
ولعل السبب في مَنْح الثواب للصبي ولأهل الصبي هو تشجيع الحُجَّاج على اصطحاب الصِّغَار في الحج، وعدم تركهم فترةَ الحج بغير رعاية ولا عِنَاية، وتعوُّد الصبي منذ الصِّغَر على أداء الشعائر، وعلى التعرُّف على المناسك، وعلى تحمُّل بعض المشاقِّ التي لا مناصَ منها في الحج، والجميع على كل حال مأجورون من الله، تعالى.(1/523)
في حج مَن عليه دَيْن:
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
ومن الاستطاعة أن تُوجَد النفقة دون أن يكون على الإنسان دَيْن للآخَرِين، فإذا كان على الإنسان دَيْن يَسْتَغْرِق ما معه من نقود، أو يستغرق جزءًا من نَفَقات الحج فإنه غير مستطيع، فلا يجب عليه الحج.
وإذا كان على الإنسان دَيْن، فحجَّ دون أن يُبالي بالدَّيْن أو الدائن، فإن حجه مردود عليه، وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتشَدَّد جدًّا في أداء الدَّيْن، بل كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُصَلِّي على المَدِين أبدًا، فإن كان على الميت دَيْن، قال: "صَلُّوا على صاحِبِكم".
فإذا ما سُدِّد دَيْنُه صلَّى عليه.
وما دام الحج لا يجب إلا عند الاستطاعة، وما دام المَدِين غير مستطيع فالأولى ـ بل الواجب عليه ـ أداءَ الدَّيْن ثم الحج عند الاستطاعة.(1/524)
ما حُكم تَرْك طواف الإفاضة جهلًا أو سهوًا أو عمدًا؟
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: "سُئِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي العمل أفضل؟
قال: إيمان بالله ورسوله.
قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله.
قيل: ثم ماذا: قال حج مبرور".
وروى ابن حبان صحيحه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أفضل الأعمال عند الله ـ تعالى ـ إيمان لا شك فيه، وغزو لا غُلول فيه، وحج مبرور"، والمبرور الذي لا يقع فيه معصية.
وقد جاء من حديث جابر مرفوعًا: إن بِرَّ الحج: إطعام الطعام وطيب الكلام، وعند بعضهم إطعام الطعام وإفشاء السلام. ومما لا شك فيه أن ذلك من بِرِّ الحج. ولقد حدَّد الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسوقَ وَلا جِدالَ في الْحَجِّ).
والحج الذي تسقط به الفريضة ويُثِيب الله ـ تعالى ـ عليه هو الحج الذي استوفى أركانه وواجباته، وكان خاليًا مما عبَّر الله ـ تعالى ـ عنه بقوله: (فَلَا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ) ومن أركان الحج طواف الإفاضة أي طواف الرجوع من منى إلا مكة.
وإذا لم يُؤَدِّ الإنسان الركن على أي وضع كان عند الأداء وبأي صورة حدَث، فإنه لا حج له ولكن ينبغي أن يكون معروفًا أنه ليس من الضروري أن يكون طواف الإفاضة عَقِب رَمْي الجمرة، والجمَرات مُباشرةً، ولكن زمنَه مُمْتَدٌّ في ذي الحِجَّة.
أما إذا أدى الإنسان الحج بأركانه وواجباته وسنته فإنه يَصْدُق على أدائه ما يقوله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفْسُق رجع من ذنوبه كيومَ ولدتْه أمُّه".
وفي رواية للترمذي أنه قال: "غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبِه".(1/525)
وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنهماـ: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تَابِعُوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنهما يَنْفِيَان الفقر والذنوب، كما ينفي الكِيرُ خبَث الحديد والذهب والفضة وليس للحجةِ المبرورة ثواب إلا الجنة، وما من مؤمن يظل يومُه مُحْرِمًا إلا غابت الشمس بذنوبه".
وعن عبد الله بن جوَاد الصحابي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "حُجُّوا؛ فإن الحج يَغْسِل الذنوب كما يغسل الماءُ الدرَنَ".(1/526)
في أداء النُّذُر عن الغير:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: أن امرأةً من جُهَيْنة جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: "إن أمي نذَرَتْ أن تَحُجَّ ولم تَحُجَّ حتى ماتت أفأحجُّ عنها؟
قال: نعم، حُجِّي عنها أرأيتِِ لو كان على أمك دَيْن أكنتِ قاضِيَتِهِ؟
اقضُوا الله؛ فاللهُ أحقُّ بالوفاء".
يقول الإمام النووي: "والجمهور على أن النيابة في الحج جائزة عن الميت".
ويقول: "إن الجمهور على أن النيابة في الحج جائزة عن العاجز، الميئوس من بُرْئِه".
والوضع الطبيعي في هذه المسألة أنه ما دام السائل قد حج عن نفسه، فإنه يجوز له أن يَحُجَّ عن غيره: العاجز، أو الميت، ويجوز في النيابة في الحج أن يَحُجَّ الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل.
ويقول الإمام النووي: قال الشافعي: "يجوز الحج عن الميت، عن فَرْضه ونَذْره، سواءَ أوصى به أم لا، ويُجزي عنه".
ومذهب الشافعي وغيره أن ذلك واجب في تَرِكَته. ويستوي في ذلك أن يَنُوب في الحج عنه شخص في مكة، أو في المدينة، أو في إقليم آخر بَعُد أو قَرُب". ولا حرج.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف في حَجَّة الوَداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل:
لم أشعر، فحلَقْتُ قبل أن أذبح؟
قال: "اذبح ولا حرَج".
وجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرتُ قبل أن أرمي؟
قال: "ارمِ ولا حرَج".
فما سُئِل يومئذ، عن شيء قَدَّم ولا أَخَّر إلا قال: "افعل ولا حرج".(1/527)
في بعض ما لا يفعله المُحْرِم:
عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَنْكِح المُحرِم ولا يُنْكَح ولا يَخْطُب".
وعن أبي قتادة الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ في مصيدة الحمار الوحشي، وهو غير مُحرِم، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه وكانوا مُحرمين: "هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟".
قالوا: لا... قال: "فكُلوا ما بقي من لحمه".(1/528)
في دوابَّ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "خمس من الدوابِّ كلهن فواسقُ، يُقْتَلْنَ في الحل والحرم: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العَقُور".(1/529)
في (أولئكَ لَهُم نصيبٌ ممَّا كَسَبُوا):
سأل رجل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال: إني أكري نفسي إلى مكة، وقد زعم الناس أنه ليس لي حج. فقال: بل أنتَ ممَّن قال الله فيهم: (أُولئكَ لهم نَصيبٌ ممَّا كَسَبُوا).
وفي رواية فقال: "فإذا فعلتَ المناسِكَ فأنتَ حاجٌّ".(1/530)
في إذا بلغ الصبي:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أيما صبي حج، ثم بلغ الحِنْث فعليه أن يَحُجَّ حَجَّةً أخرى، وأيما عبدٍ حجَّ، ثم أُعْتِق، فعليه أن يَحُجَّ حجة أخرى".(1/531)
المحلقون والمقصرون:
روى البخاري ومسلم ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اللهمَّ ارحَم المحلقين".
قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال في الثالثة: "والمقصرين".
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ليس على النساء حَلْق، وإنما يُقَصِّرون".(1/532)
في إذا حاضت المرأة قبل الطواف:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا نذكر إلا الحج، حتى جِئْنا سرف، فطمثتُ فدخلتُ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا أبكي فقال: ما يبكيكِ؟
فقلتُ: والله لَوَدِدْتُ أني لم أكن خرجتُ هذا العام.
قال: مالكَ؟ لعلَّكِ نفستِ. قلتُ: نعم.
قال: هذا شيء كتبَه الله على بنات آدمَ، افعلي ما يفعل الحاج غير أنك لا تَطُوفي بالبيت حتى تَطْهُرِي.
قالت: فلمَّا كان يومُ النحر طهُرْتُ، فأمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأفَضْتُ.
قالت: فأُتِينا بلحم بقر، فقلتُ: ما هذا؟
قالوا: أهدى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نسائه بقرة".(1/533)
في الحج بعد الطُّهْر:
مَن أتاها الحيض، وهي في الحج تفعل كل ما يفعله الحاج من المناسك ما عدا الطواف، فهي تسعى، وتقف بعرفة، وترمي الجِمار، وتستمر إلى أن تنتهي حيضتُها فتَطْهُر ثم تطوف بالبيت بعد الطُّهْر.
وقد حدث ذلك لبعض أمهات المؤمنين ولبعض الصحابِيَّات في حَجة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكنَّ يسأَلْنَه، فيقول لهن: افعلْنَ كلَّ ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت حتى تَطْهُرْنَ، والحج ـ بعد الطُّهْر والطواف ـ صحيح لا شك في ذلك، وتسقط به الفريضة، وله ثوابُه الجَزِيل.(1/534)
في الصلة الجِنْسية بالزوجة، وهل هي مُباحة أيام الحج؟
وما هي الأوقات التي تَحْرُم فيها الصلة الجنسية بالزوجة؟
لقد حدد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أيامًا مُعَيَّنة وأوقاتًا مُحَدَّدة لا يجوز فيها الاتصال الجنسي بين الرجل وزوجته، منها مثلًا أيام الحج للرجل الحاج أو المرأة الحاجة، يقول الله ـ تعالى ـ: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمَنْ فرضَ فيهنَّ الحجَّ فلا رفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ)، ومنها أوقات الإمساك في شهر رمضان أي في نهار الشهر المُبارَك، يقول ـ تعالى ـ: (أُحِلَّ لَكُمْ ليلةَ الصيامِ الرفَثُ إلى نِسائِكُمْ هنَّ لِباسٌ لكمْ وأنتُمْ لِباسٌ لهنَّ عَلِمَ اللهُ أنكم كنتُم تَخْتَانونَ أنفُسَكُمْ فتَابَ عليكُمْ وعَفا عنكُمْ).
فالاتصال الجنسي في ليالي رمضان حلال، أما في نهاره فحرام، ومنها أيام الحيض، يقول الله ـ تعالى ـ: (وَيسألونَكَ عن المَحِيضِ قُلْ هوَ أذًى فاعتَزِلُوا النساءَ في المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ).
ومنها أيام الاعتكاف، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (ولا تُباشِروهنَّ وأنتُمْ عاكفونَ في المساجدِ).(1/535)
في الحج وغُفران الذنوب:
روى الشيخان بسنَدِهما، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَن حجَّ فلم يَرْفُث ولم يَفْسُق، رجع كيومَ ولدتْه أمُّه".
وروى الشيخان ـ بسندهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارة لِمَا بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
والحج المبرور، هو الحج الذي يتقبَّله الله ـ سبحانه ـ والحج الذي يتقبله الله ـ سبحانه ـ هو الحج الذي تَوافَر فيه الإخلاص.
ويبدأ توافُر الإخلاص بالنية نفسها، بنية الحج. لابد أن تكون خالصةً لله ـ سبحانه ـ فلا يَعْتَبِر الإنسان الحج دِعَايَة لنفسه، أو رِحْلة سياسية للمُتْعة، أو رحلة يُراد بها غير وجه الله ـ سبحانه ـ بأي وضع من الأوضاع.
ولابد أن يُصاحب الإخلاص كل أعمال الحج، ومن أول هذه الأعمال:
التوبة الخالصة النصوح.. التوبة التي تَجُبُّ ما قبلَها من سيئات ومعاصِ؛ لأنها إقلاع باتٌّ عن الذنوب والآثام، وندم باكٍ على حياة مَضَتْ، لم يَرْضَ ـ سبحانه ـ عما شابَها من سيئات وعَزْم مُصَمِّم على الطُّهْر الطاهر النقِيِّ بتوفيق الله، فيما يُستَقْبَل من حياة تتغَيَّر مجراها من خُضوع لهوى النفس ونَزَعات الشيطان إلى خُضوع للخير ومُتابَعة للرحمن.
ويُسَجِّل كل ذلك بلبس الملابس البيضاء النقية بعد الاستحمام؛ تطهيرًا للظاهر، ليكون الصفاء شكلًا ومعنى، وتكون الطهارة ظاهرةً وباطنةً.
ويُسجل ذلك كله نُطقًا بلسانه، كما سجله عملًا بجوارحه، وعَزْمًا بقلبه.
فيُعاهد الله على الاستجابة له فيما أمر، وعلى الاستجابة له فيما نَهَى، وعلى أن يكون له وحده، قائلًا سرًّا وجهرًا: "لبيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيكَ، إن الحمدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلْك، لا شريكَ لك".(1/536)
هذا العهد يُعلِنه إذا كان في جَمْع من الناس، ويُعلِنُه إذا كان منفردًا، إنه يُعلنه إذا لقي صديقًا ويُعلنه إذا فارَق الصديق.
في اللهم حِجَّة لا رِيَاء فيها:
ليس الحج ترَفًا، ولا سياحة استمتاعية، ولقد ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثَل في التقشُّف في الحج، وسار على نَسَقِه مَن اتَّبَع هَدْيَه.
عن أنس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حج على رَحْل رَثٍّ، وقطيفة تُساوِي ـ أو لا تساوي ـ أربعة دراهم، فقال: "اللهمَّ حِجةً لا رِيَاء فيها".
وعن أنسَ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حج على رَحْل رَثٍّ، وتحتَه قطيفة، وقال: "حَجةٌ لا رِيَاء فيها، ولا سُمْعة".
وعن بِشر بن قدامة الضبابي، قال: "أبصرتْ عينايَ حبيبي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واقفًا بعرفات مع الناس على ناقة له حمراءَ قصواءَ تحت قطيفة بولانية، وهو يقول: "اللهم اجعلها غيرَ رِيَاء، ولا مُباهاة، ولا سُمْعة"، والناس يقولون: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعن ثمامة قال: "حج أنس على رَحْل رَثٍّ ولم يكن شحيحًا".(1/537)
في صيد البر:
الأرانب والحمام وغيرها من الطيور تُعْتَبَر صيد البر إذا لم تكن مِلْكًا لأحد من الناس. ولا مانع من صيدها، لغير المُحرِم بالحج أو العمرة لقوله ـ تعالى ـ: (أُحِلَّ لَكُمْ صيدُ البحرِ وطعامُهُ مَتاعًا لكمْ ولِلسَّيَّارةِ وحُرِّمَ عليكُمْ صيدُ البَرِّ ما دمتُم حُرُمًا)، وقوله ـ تعالى ـ: (يَا أيُّهَا الذينَ آمنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ من الصيدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ ورِماحُكُمْ لِيعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بالغيبِ فمَنَ اعْتَدَى بعدَ ذلكَ فلهُ عَذابٌ أليمٌ). ولابد من استيفاء شروط الصيد وهي مُفَصَّلة في كتُب الفقه، نذكر منها ما رواه البخاري في كتاب الفقه بسنَدِه عن عَدِي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال: سألتُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صيد المعراض ـ عصا في طرَفها حديدة ولها حَدٌّ ـ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أصاب بحدِّه فكُلْه، وما أصاب بعَرْضِه فهو وَقِيذ، أي مقتول بما لا حدَّ له، ولم يَنْفُذ في المقتولة ما يَخْدِش اللحم ويُخرج الدم، وسألتُه عن صيد الكلب فقال: ما أمسكَ عليكَ فكُل، فإن أخذ الكلب ذكَّاه أي: هو بمثابة الذبح الشرعي، وإن وجدتَ مع كلبك أو كلابك كلبًا غيره فخَشِيتَ أن يكون أخذَه معه، وقد قتَله فلا تأكل، فإنما ذكرتَ اسم الله على كلبك ولم تذكره على غيره.
وروى البخاري بسنده أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما صِدْتَ بقوسك فذكرتَ اسم الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبك المُعَلَّم فذكرتَ اسم الله فكُلْ، وما صدتَ بكلبك غير مُعَلَّم فأدركتَ ذكاتَه فكُلْ".
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا أرسلتَ كلبَك وسَمَّيْتَ فأمسكَ وقتلَ فكُلْ، وإن أكل فلا تأكلْ، فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالَط كلابًا لم يُذْكَر اسم الله عليها فأمسكتْه فقتَلْنَ فلا تأكُل؛ فإنك لا تدري أيها قتل، وإن رميتَ الصيد فوجدتَه بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكُلْ".(1/538)
الحج للمقيمين في الحجاز:
إنما الأعمال بالنِّيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وإن الذين يُقيمون بالحجاز ويعملون به يَصِحُّ لهم أن يَنْوُوا القيام بالحج ويُؤَدُّوا مَناسِكَه في وقته؛ فالإقامة بالحجاز والعمل به لا يمنعان من صحة أداء النُّسُك، وذلك تخفيف من الله سيق إليه لا يَنْقُص أجره والإقامة بقصد العمل إن كانت سببًا يرضاه الله في طلب الرزق الحلال يُعِفُّ به نفسه وأهله فإنها في سبيل الله، لا تنقُص أجرًا ولا تُعَدُّ شائبةً دنيوية في عباداته، وانتقال الإنسان من مكان إلى مكان لا يُغَيِّر من صحة العبادة شيئًا، بل إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (وَأَذِّنْ في الناسِ بالحجِّ يأتوكَ رِجالًا وعَلى كلِّ ضامرٍ يَأْتِينَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عميقٍ. ليشهدوا منافِعَ لهم).
والمنافع التي يشهدونها إنما هي منافع دينية ودنيوية، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فيما رواه البخاري، قال: كانت عُكاظ ومِجَنَّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتَأَثَّموا أن يَتَّجِروا في المواسم، فنزلت: (لَيْسَ عليكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فضلًا من ربِّكُمْ) أي: في مواسم الحج.(1/539)
في مَن عزم على الحج ولم يتمكَّن من أدائه:
يقول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ: "مَن همَّ بحسنةٍ فلم يعملْها كُتِبَت له حسنةٌ، فإذا عَمِلها كُتِبَت له عشرًا"، فمَن عزم على الحج صادقًا في عزمه، مُخْلِصًا في نيته، ولكن الظروف الخارجة عن إرادته لم تُمَكِّنْه من أدائه فله ثواب نيته وعزمه وسعيه من الله، تعالى.
بيدَ أن ذلك لا يُسقِط الفرض؛ ذلك أن الحجَّ فريضة الله، فمَن فاتَه في سنَة من السنين بقي مُطالِبًا به، يجب عليه أداؤه متى أمكنتْه الفرصة، فإذا أمكنتْه الفرصة في عام ولم يُؤَدِّه أَثِم؛ لأنه ركن من أركان الدِّين يجب عند الاستطاعة، قال الله ـ تعالى ـ: (وللهِ على الناسِ حَجُّ البيتِ مَن استطاعَ إليه سبيلًا ومَن كفرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عنِ العالَمِينَ).(1/540)
في جواز شراء بضائع لمَن يُؤَدِّي فريضة الحج من الأراضي المُقَدَّسة ليُتَاجر بها بعد عودته إلى وطنه:
الحج هو زيارة البيت الحرام، والوُقوف بعرفة في أوقات الحج، وله أركان وشروط فمَن أتى بها صحَّ حجُّه.
وما يكون بعد ذلك من شراء بضاعة وغيرها لا يُؤَثِّر في الحج، قال الله ـ تعالى ـ: (لَيْسَ عليكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فضلًا من ربِّكم)، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية إلى إباحة التجارة وسائر أنواع المكاسب الحلال في الحج.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كانت عكاظ ومجنة، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتأثَّموا أن يَتَّجِروا في الموسم، فسألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فنزلت الآية: (ليسَ عليكُم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فضلًا من ربِّكُم).
غير أنه يلزَم أن يكون خُروج الحاج لأجل الحج لا للتجارة، وأن ينوي بخروجه أداء الحج حتى لا يَضيع ثوابُه في حجه لقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى، فمَن كان هجرتُه إلى الله ورسوله فهِجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصيبها أو امرأةٍ يَنْكِحُها فهجرته إلى ما هاجَر إليه".(1/541)
في أصل رمي الجِمار والحكمة فيها وحُكْم مَن لم يَرْمِ:
يُرْوَى أن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ حينما همَّ بذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ جاءه الشيطان مُوسوسًا يُريد صَرْفَه عن طاعة الله في رؤيا يعتقد إبراهيم ـ عليه السلام ـ أنها إشارة له من لَدُن الله ـ سبحانه ـ مِثْلُها مِثْل الوحي سواءً بسواء، وأحس سيدنا إبراهيم بالشيطان يُحاول أن يَنْفُذ إلى ظهره، وطاعته وعصمته وتَفانيه في الله ـ سبحانه وتعالى ـ فرجمَه بسبع حَصَيَات، فانصرف عنه الشيطان إلى الابن يُوَسْوِس بعدم الطاعة، إنها رؤيا، مجرد رؤيا أيَذَبْحه أبوه من أجل رؤيا؟.
وأحسَّ الابن بالشيطان ومُحاولته الخبيثة فرجمَه بسبع حَصَيَات، فانصرف عنه الشيطان إلى الأم موسوسًا: أدركي ابنَكِ، إن أباه يُريد أن يَذْبَحه استَنْقِذِيه من قَبْل فوات الأوان، ورجمتْه الأم لثِقَتِهَا بأن زوجها لا يتصرَّف إلا تَبَعًا لِمَا يُرضِي الله.
فحكمة رمي الجمار إنما هي رَجْم مصدر من أهم مصادر الشر والإثم والمعصية، رَجْمُه مرارًا وتكرارًا، وتنتهي أعمال الحج بهذه الصورة الرائعة، صورة العزم المُصَمِّم على الابتعاد المُطلَق عن الإثم والمعصية.
وذلك تسجيل مُؤَكَّد، وإعلان مشهور، وإشهاد سافر على أن الحاج قد عزَم عزمًا لا تُزَعْزِعُه أعاصير الشهوة ومُغْرِيَات الفتنة، عَزْم على أن يُصبح خيرًا كلَّه، لا مجال لنَزَعات الشيطان للتسلُّل إلى نفسه؛ فقد أصبح بتطهير نفسه وبرجم الشيطان من عباد الله المُخْلِصين الذين لا سلطان للشيطان عليهم.
فمَن تعذَّر عليه الرجم بسبب الزِّحام الشديد فله أن يُوَكِّل كل مَن يرمي عنه أما إذا لم يرمِ ولم يُوَكِّل مَن يرمي عنه فعليه ذبيحة يَذْبَحُها ولا يفسد حجُّه.(1/542)
في الأضحية:
الأضحية غير واجبة على المسلم، بل هي على الراجح سنَّة مُؤَكَّدة، ولا يُشْتَرَط لأدائها تكليف ولا بلوغ، ولا سِنٌّ مُعَيَّنة، فمِن المُمْكِن للصبي أن يُضَحِّي عن نفسه من ماله الخاص، أما وليُّ اليتيم والسفيه فلا يُضَحِّي عنهما، قال النووي: مذهبنا أنه لا يجوز لوَلِيِّ اليتيم والسفيه أن يُضَحِّي عنهما من مالهما؛ لأنه مأمور بالاحتياط لِمَا لهما، ممنوع من التبرُّع به، والأضحية تبرُّع.
ومن المعروف أن الأضحية تكفي عن الرجل وعن أهل بيته، قال عطاء بن يسار، سألت أبا أيوب، كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فقال: "كان الرجل يُضحِّي بالشاة عنه وعن أهل بيته، يأكلون ويُطعمون حتى تَباهَى الناس فصارت كما ترى". رواه مالك وابن ماجة والترمذي وصحَّحه، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكبش أقرنَ يَطَأ في سواد، ويَبرَك في سواد، وينظر في سواد، فأتى به ليُضَحِّي به، فقال: يا عائشة، هَلُمِّي المدية؟ ثم قال: اشحَذِيها بحجر، ففعلت، ثم أخذَها وأخذ الكبش فأضجَعَه ثم ذبحه، ثم قال: باسم الله. اللهمَّ تَقَبَّل من محمد وآل محمد، ومن أُمَّة محمد ثم ضَحَّى به". رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
والمقصود أن للمسلم أو المسلمة ثواب الأضحية في أي سِنٍّ أخرجها، ولكنها تُسَنُّ تأكيدًا في حق الرجل عن نفسه وعن أهله إن كان له أهل.. والله أعلم.
ومن أسرار تشريع سُنَّة الأضحية التوسِعَة على العِيَال وعلى الأسرة في أيام العيد، وكذلك التوسِعَة على الفُقَراء، وذلك أنه يُسَنُّ أن يَنال الفقراءُ ثُلُثَها يُوَزَّع عليهم، حتى يَشْعُروا هم ـ أيضًاـ بالتوسعة في أيام العيد، وإذا كان الله ـ سبحانه ـ قد فرض صدقة الفطر تُوَزَّع في مناسبة عيد الفطر تَوْسِعَةً على الفقراء؛ فإن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سنَّ الأضحية في عيد النحر للهدف نفسه.(1/543)
ومما يجب أن يُلاحَظ أن من أسرار تشريع سنَّة الأضحية أنها فِداء من الآفات والكوارث والمصائب في أثناء العام، كما كان الكبش الذي ضحَّى به سيدنا إبراهيم فداءً لسيدنا إسماعيل من كارِثَة عظيمة هي كارثة ذبحه، فالأضحية فداءٌ من كثير من الكوارث، وهي توسعة على الأهل وعلى الفقراء.(1/544)
في الهَدْي:
إن وقت ذبح الهدي إنما هو يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة، يقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيما رواه أحمد: "وكل أيام التشريق ذبح، ولا يصح تأخيره عن أيام التشريق".
أما فيما يتعلق بالانتفاع بالمذبوح فذلك واجب الدول الإسلامية، وقد أصبح من السهل جدًّا في العصر الحاضر الاحتفاظ بالمذبوح وتوزيعه على الفقراء بحسب الحاجة والظروف. ويُخطئ مَن يَظُنُّ أن الذبح إنما هو من أجل الفقراء، فليس ذلك هو العلة الوحيدة للذبح، بل ربما لم يكن علة أصلًا؛ ذلك أنه يُمكن من الوِجْهة النظرية البَحْتة في عُرْف الإمكان المحض أن يمر الحج بأكمله دون أن يَحْدُث فيه ذبح، فمن صوَر الحج الإفراد، وقد فضَّل الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ هذه الصورة من صوَر الحج على غيرها، وهذه الصورة لا تقتضي ذبحًا، فلو أفرد الحُجَّاج جميعًا لَمَا كانت هناك ذبيحة واجبة، على أننا مع هذا نضُمُّ صوتنا إلى آلاف الأصوات التي ترتفع سنويًّا مُطالِبَةً الأمم الإسلامية أن تسلُك كل سبيل للاحتفاظ بهذه الذبائح حتى ينتفع بها الفقراء.(1/545)
الفَرْق بين الفدية والهَدْي في الحج:
هناك فَرْق بين الفدية والهدي في الحج، فالفدية تكون في حالة مُخالفة لشعائر الإحرام بفعل محظور من محظوراته. وإليها يشير قوله ـ تعالى ـ: (وَأَتِمُّوا الحجَّ والعُمرةَ للهِ فإنْ أُحْصِرتُمْ فما استَيْسَرَ من الهَدْي ولا تَحْلِقُوا رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فمَنْ كانَ منكم مريضًا أو به أذًى من رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ).
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمَن كان مُحرِمًا معه فأذاه القُمَّل في رأسه فأمره بأن يَحْلِق رأسه ثم قال له: صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، مُدَّيْن لكل إنسان، أو أَنْسِك بشاة، أي ذلك فعلتَ أجزأَ عنك. وموضع الفِدْية على ما رأَى الإمام مالك أنها تُفْعَل في أي مكان بمكة أو بغيرها، وإن شاءَ ببلده، وسواءٌ في ذلك الذبح أو الإطعام أو الصيام.
وعلى مذهب الإمام مالك، تجوز الفِدْية بالبلد، ولا داعي للإنابة في إرسالها إلى مكة.. وعلى كلٍّ فإنه يجوز أن يُنِيب المرءُ شخصًا في الفِدْيَة عنه بالحرَم بالذبح أو الإطعام، أما الهَدْي فهو ما يُقَدِّمه الحاج من الحيوان باسم الله إلى الحرَم يُذْبَح فيه ويُطعِم منه المسكين الفقير، ويكون في حالات خاصة، منها:
1ـ حدوث مانع يمنع من إتمام الحج والعمرة كمرض أو عَدُوٍّ؛ لقوله ـ تعالى ـ: (وَأَتِمُّوا الحجَّ والعُمرةَ للهِ فَإِنْ أحصرتُم فما استيسرَ من الهَدْي). ولا يكون إلا حيوانًا يُذْبَح. وإذا عجز الإنسان عنه، فليس له أن يَسْتَبْدِل به غيرَه ولا أن يَقْتَضِيَه إذا تيسَّر له.
2ـ التمتُّع بالتحلُّل من إحرام العمرة لاستئناف إحرام آخر للحج عند الخُروج إلى عرفة، وهو ما يُعَبِّر عنه قولُه ـ تعالى ـ: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعُمرةِ إلى الحجِّ فما استيسرَ من الهدْي).(1/546)
فإذا لم يجد الحاج هديًا كان عليه ما عبَّر الله ـ تعالى ـ عنه بقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةٍ أيامٍ في الحجِّ وسبعةٍ إذا رجَعْتُم تلكَ عشَرةٌ كاملةٌ).
وهذا النَّوْع من الهدي يُجيز الإمام مالك نحرَه بغير مكة كالفدية.
3ـ الهَدْي الواقع جزاءً للصيد في الحرَم، ولا يجوز فِعْلُه بغير الحرم؛ لقوله ـ تعالى ـ: (يَا أيها الذين آمنوا لا تقتُلُوا الصيدَ وأنتُمْ حُرُمٌ ومَن قتَلَه منكم متعمدًا فجزاءٌ مِثْلُ ما قتَلَ من النعَمِ يَحْكُم به ذوَا عَدْلٍ منكم هديًا بالِغَ الكعبةِ أو كفَّارةٌ طعامُ مسكينٍ أو عَدْلُ ذلكَ صِيامًا).
ومن المُمْكِن لمَن رجع من الحج ولم يُرِد الصيام أن يُنيب غيره عنه فيه.(1/547)
في الذبح بمكة ومنى:
الذبح بمكة جائز، والذبح بمنى جائز، وفي هذه الأيام الذبح بمكة له فوائدُه وله نفعه: إذ إن الذبيحة بمكة تجد من الفقراء مَن يتقاسَمُونها، ولكن مما يجب التنبيه إليه هو أن يتحرَّى المعتَمِر أو الحاج أن تكون الذبيحة صالحةً حقًّا للأكل، وذلك لتَجِد مَن يُقبل عليها، ومن الأفضل أن يقف عليها حتى تُسْلَخ ويُوَزِّعَها بصورة حسنة نافعة، فإن ذلك له ثمرته المرجُوَّة من هذا النُّسُك.(1/548)
في الذبح في عرفات:
إن الذبح لا يجوز إلا في الحَرَم، ولو ذَبَح في عرفات فإنه لا يُجزئه الذبح؛ وذلك أن عرفات ليست من الحَرَم، وإذا كان الذبح في عرَفات لا يُجزِئ فإنه من باب أولى لا يجزئ الذبح بعد العودة.
ونُحب أن نقول للعِلْم: إن الإحرام أنواع هي:
إحرام الإفراد بالحج، وإحرام القِران، وإحرام التمتُّع، وهو الإحرام بالعمرة أولاً في أشهر الحج، ثم الإحرام بالحج، قبل يوم عرفة أو حتى في صباح عرفة.
والإفراد بالحج هو أن يُحرم بالحج وحده قائلًا: "اللهم إني نويتُ الحجَّ فيَسِّرْه لي وتَقَبَّلْه مني". ويستمر لابسًا ملابس الإحرام إلى أن يتحلَّل بعد أداء الشعائر، وهذا النَّوْع من الحج لا ذبيحة فيه، فليس على المُفْرِد بالحج ذبيحة فإذا ما تَحَلَّل بعد الانتهاء من المشاعر يُمكنه أن يذهب إلى المكان المُسَمَّى بالتنعيم قُرْب مكة، وينوي العُمْرة، ويَتِم له بذلك حج وعمرة دون أن يذبح ذبيحة. أما إذا حج قِرانًا أو حجَّ تمتُّعًا فلابد من الذبيحة، ولا يجوز أن تكون الذبيحة إلا في الحرم، فإذا لم يستطع فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.(1/549)
هل لغياب الزوجة تأثير في طلب الأضحية؟
الأضحية تُسَنُّ تأكيدًا على الرجل لنفسه ولأهل بيته، وغياب الزوجة لا تأثير له في طلب الأضحية من الزوج؛ لأنها مطلوبة منه لنفسه أولاً ولأهل بيته تبَعًا له، ولا يُعْتَبَر غياب الزوجة مُبَرِّرًا شرعيًّا للامتناع عن ذبح الأضحية؛ لأن غيابها أو حُضورها فيما يتصل بذبح الأضحية سواء.
وقد ورد في فضل الأضحية وثوابها من الأحاديث ما يدفع المسلم إلى المُبادَرَة إليها، والبُعْد عن التهرُّب منها، أو الْتِماس الوسائل لعدم أدائها، ومن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما عَمِل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم لَيقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فَطِيبوا بها نفسًا". رواه ابن ماجة والترمذي، وقال: حسن غريب.
هذا، ويجوز لمَن له مال خاصٌّ من أهل البيت أن يُضَحِّي عن نفسه وله الثواب على ذلك.(1/550)
في كيفية توزيع الذبائح:
استحبَّ كثير من العلماء أن تُقَسَّم ذبيحة الأضحية ثلاثة أقسام وتُوَزَّع ثُلُثًا للأقارب، وثُلُثًا للفقراء، وثلثًا يحتَجِزُه المُضَحِّي لنفسه وأهله، وإن كان بعض الفقراء لا يستطيع طهي ما يُعطاه من لحم الأضحية، فالأفضل أن يأخذ نصيبه منها مطهيًّا.
أما عن أي أنواع الدواب أفضل للذبح، فقد أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام.. والأفضل من ذلك الكِباش أو الضأن، فإن لم يتيسر ذلك فمن المَعْز، ولابد أن تكون خالِيَةً من العيوب الشديدة كالعرَج البَيِّن، والمرَض الشديد، ونحو ذلك، وينبغي أن يكون عمر الأضحية أكثر من سنة.(1/551)
هل الأضحية واجبة في الحج؟
الأضحية واجِبَة عند الإمام أبي حنيفة وسُنَّة مُؤَكَّدة عند غيره، قال ـ تعالى ـ: (إِنَّا أَعْطَينَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إنَّ شانِئَكَ هُوَ الأبتَرُ) وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "مَن وجد سَعة ولم يُضَحِّ فلا يَقْرَبَنَّ مُصلَّانا". وسأل الصحابةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأضحية فقال: "هي سُنَّة أبيكِم إبراهيم".
غير أن الحاج لا يجب عليه أن يُضَحِّي، وليس مُكَلَّفًا بها؛ لأنه مشغول بأداء الحج، وقد يُشَقُّ عليه التضحية قال ـ تعالى ـ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسْعَها)، (وَما جَعَلَ عليكُمْ في الدِّينِ مِنْ حرَجٍ).
وما ذبحه الحاج في منًى ليس أُضحية، وإنما هو هَدْي، إما واجب أو مسنون لأداء نُسُك الحج والعمرة، ولا يُقال عنه: إنه يكفي؛ لأن الأضحية ليست واجبةً على الحاج لانشغاله بأعمال الحج.(1/552)
في حكمة الأضحية:
أما لِماذا شُرِعَت الأضحية فإنه موضوع من أهم ما ينبغي أن يتدبَّره المسلمون، إن مما شُرِعت الأضحية من أجله أمرينِ:
الأولى منهما: أنها شُرِعت من أجل الفِداء، أي: أنها فداء من كثير من الأذَى والسُّوء يُصيب الإنسان أو الأسرة في أثناء العام، وهي فِداء بنسبة ما يَخرُج منها للصدقة لصِلَة الأرحام، وهي ترتبط في ذلك بقاعدة الصدقة العامة؛ إذ إن الصدقة فداء ـ أيضًا ـ ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "دَاوُوا مرضاكُمْ بالصدقات"، ويقول: "الصدقةُ تَسُدُّ سبعين بابًا من أبواب الشر"، فكل صدقة فداء، ومع ذلك فإن الأضحية لهاـ أيضًاـ وضعُها الخاصُّ، وذلك أنها ترتبط في الذهن بذِكْرَى معروفة: هي ذِكْرى الفِداء لسيدنا إسماعيل، يقول الله ـ تعالى ـ: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
وهي ـ إذن ـ فداء من حدث هائل هو الموت ذبحًا، وهي من باب أولى فداء لِما دونه، إنها فداء.(1/553)
والأمر الآخَر أنها مُرْتَبِطة بالعيد، أي أنها تكون إحدى الحلْقات في مظاهر الابتهاج بالعيد، والابتهاج في العيد إنما هو ابتهاج بطائفة من الأمة الإسلامية يَسَّر الله لهم سُبُل الحج، وكتب لهم قَبُوله، فظَفِروا بالحج المبرور، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، والحج المبرور يُطَهِّر الإنسان من ذنوبه، فيُصبح الإنسان بحَجِّه كيومَ ولدته أمُّه براءةً وطُهْرًا. فنحن في الصيام إنما نَحتَفِل بالبراءة والطُّهْر، ونحتفل بالبذل والتضحية والفداء، وفي ذاكرتنا صُوَر هؤلاء الذين استجابوا لله استجابةً تامةً في الحج على مدار السنين، وهؤلاء الأُوَل: إبراهيم وإسماعيل وأم إسماعيل، الذين قدَّموا لله راضينَ أعزَّ ما لديهم، وهي نفسُهم أو نفس عزيزٍ لديهم، تأمَّل مدى ما وصلت استجابتُهم لله في هذه الصورة التي قصَّها القرآن الكريم: (يَا بُنَيَّ إني أرى في المنام أني أذبحُكَ فانظرْ ماذا ترى قالَ يا أبتِ افعلْ ما تُؤْمَر ستَجِدُني إنْ شاءَ اللهُ من الصابِرينَ).
فالأضحية فداء، وهي ابتهاج بمَن كتب الله لهم حجًّا مبرورًا فأسلموا وجهَهم لله، واستجابوا إليه، مسلمين كِيانهم كله له، سبحانه وتعالى.(1/554)
في حكم الأضحية:
إن أحب حكم للأضحية إلى نفسي إنما هو قول الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ: "الضَّحِيَّة سنَّة. وليست واجبةً، ولا أُحِبُّ لأحدٍ ممَّن قَوِيَ على ثَمَنِها أن يَتْرُكَها".
وقت الذبح:
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذبح بعد فراغه من صلاة العيد، وقد أخرج البُخاري ومسلم ومالك ـ رضي الله عنهم ـ بسندهم عن بشير بن يسار أن أبا بردة بن نيار ذبح ضحيته، قبل أن يذبح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الأضحى، فزعم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرَه أن يعود بضَحِيَّة أخرى، قال أبو بردة لا أجد إلا جذعًا "ما استكمل سنَةً لم يدخل في الثانية"، قال: وإن لم تجد إلا جذعًا فاذبح". وقد روى ابن ماجة بسنده عن عباد تميم أن عويمر بن أشقر ذبح ضَحِيَّته قبل أن يغدو يوم الأضحى، وأنه ذكر ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمره أن يعود بضَحِيَّة أخرى.
صفة الأضحية:
ويُشْتَرَط في الأضحية:
1ـ أن لا تكون عرجاءَ واضحةَ العَرَج.
2ـ أن لا تكون عوراءَ بَيِّنٌ عَوَرُها.
3ـ أن لا تكون مريضةً ظاهرٌ مرضُها.
4ـ أن لا تكون هزيلةً لا شحمَ فيها.
وتَكْفِي أضحية واحدة عن الأسرة مهما كثُر عدد أفرادُها، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُضحي بأضحية واحدة عنه وعن أسرته.(1/555)
حكم مَن يرتدي ثياب الحج وهو غير حاج:
مَن يرتدي ثياب الحج، وهو غير حاج لا شيء عليه؛ لأن الواجب على المسلم ستر عورته، ما بين سُرَّته ورُكْبَتِه، وما زاد على ذلك فهو من تمام الزينة التي أباح الله أن يتحلَّى المسلمون بها، بل أمر بها عند الذهاب إلى المسجد، قال ـ تعالى ـ: (يَا بَنِي آدمَ خُذوا زِينتَكُمْ عندَ كُلِّ مسجدٍ) وقال ـ تعالى ـ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هي للذينَ آمنوا في الحياةِ الدنيا خالصةً يومَ القيامةِ) غير أن الأولى بمَن لديه ما يَسْتُر به جسده غير ثياب الإحرام أن يدَع ثياب الإحرام ويتحلَّى بغيرها، كي لا يقع الناس في الظن أنه مُحرِم بحج أو عمرة، أو أنه بقي عليه بعض نسك الحج التي لا ينبغي للمُحرِم أن يتحلَّل من إحرامه إلا بأدائها كرمي جمرة العقبة الأولى يوم النحر وطواف الإفاضة والحلق أو التقصير.(1/556)
في عدم استطاعة الفقراء الحجَّ:
الحج في اللغة العربية هو السعي والقصد إلى مُعَظَّم، وفي الشرع هو قَصْد مكة لأداء عبادة الطواف حول الكعبة، والسعي والوُقوف وسائر المناسك استجابة لأمر الله، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو فرض عَيْن مرة واحدة في العُمْر على المستطيع، لقوله ـ تعالى ـ: (وَللهِ على الناسِ حَجُّ البيتِ مَنِ اسْتَطاعَ إليهِ سَبِيلًا)، وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: خطَبَنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يا أيها الناسُ كُتِب عليكم الحجُّ، فقام الأقرع بن حابس فقال: أَفِي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتُها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا، الحج مرة، فمَن زاد فهو تطوُّع".
ومن ذلك نعلم أن الحج فُرِض على القادر المستطيع أما غير القادر فليس الحج فرضًا عليه، وقد خفَّف الله عنه فلم يُكَلِّفْه بما لا يَقْدِر عليه.
ولا يَصِح الحج لأي مكان إلا للكعبة، البيت الحرام، الذي أمر الله خليلَه إبراهيم برفع قواعده، والأذان في الناس بالحج إليه، قال ـ تعالى ـ: (وَأَذِّنْ في الناسِ بالحَجِّ يأتوكَ رجالًا وعلى كلِّ ضامرٍ يأتينَ من كلِّ فَجٍّ عميقٍ. ليشهدوا منافعَ لهم ويذكروا اسمَ الله في أيامٍ معلوماتٍ).
على أن غير القادر على الحج لم يُحْرِمه الله بل جعل له حجًّا في صلاته دون سعي ومشقة، فهو في صلاته يَتَّجِه إلى البيت الحرام وتَطُوف رُوحه حوله، فيخرج من صلاته وقد غُفِر له، كما يعود الحاج مغفورًا له.(1/557)
مِن أين تُؤخَذ جِمار الرجم؟ وأين تذهب بعد رجمها؟
رمي الحجارة من مناسك الحج، ويكون يوم النحر والأيام التي تَلِيه، والحكمة فيه ـ كما ذكرها الإمام الغزالي في الإحياء ـ بقوله: وأما رمي الجِمار فلْيَقْصِد الرامي به الانقيادَ للأمر؛ إظهارًا للرِّقِّ والعبودية وانتهاضًا لمجرد الامتثال، من غير حظٍّ للنفس والعقل في ذلك، ثم ليقصد به التشبُّه بإبراهيم، عليه السلام.
حيث عرض له إبليس ـ لعَنه الله ـ في ذلك الموضع، ليدخل على حَجِّه شُبْهة أو يَفْتِنَه بمعصية، فأمره الله ـ عز وجل ـ أن يرمِيَه بالحجارة طَرْدًا له وقطعًا لأمله.
والحجارة التي يرمي بها الحُجَّاج يأتون بها من المُزْدَلِفة، وبعد أن تُرْمَى وينتهي موسم الحج تُرْفَع من أماكِنها حتى يخلو المكان للرمي الجديد، وهكذا، والمُزْدَلفة بها من هذه الأحجار الصغيرة ما لا يُحصيه إلا الله ـ تعالى ـ وقد هيأها الله في سابق علمه لذلك، ولا غرابة في الموضوع.(1/558)
أماكن الحفَلات للحُجَّاج:
ليس في الإسلام تخصيص أماكن مُعَيَّنة في الحفلات وغيرها، وإنما هذا يرجع إلى العُرْف والعادة، وتخصيص بعض الناس أماكنَ للحُجَّاج في الحفلات عند الزفاف أو العقيقة إنما هو عُرْف حسن وعادة حميدة، وفيه تكريم للطائعين الذين أتَمَّ الله عليهم نعمة الدين، وإن كان هذا العمل من نية حسنة تعظيمًا للصالحين من عباد الله فصاحبُه مُثاب عليه من الله ـ سبحانه ـ ومن الآداب الإسلامية إنزال الناس منازِلَهم.
وقد كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يُكَرِّم ابن عباس ويُقَدِّمُه على الأشياخ من قريش مع حَداثة سِنِّهِ؛ وذلك لعِلْمِه وفهمه لكتاب الله.
ومرجع التقدير هو الدِّين، وما دام الأمر كذلك فهو سنَّة حسنة، وإن أكرمَكم عند الله أتقاكم.(1/559)
هل الأفضل الحج قبل الزواج أو بعده:
إن الحج ركن من أركان الإسلام، وهو واجب على كل مسلم عاقل بالغ إذا توافَرت شروطه، وشروطه تتوافر في كلمة واحدة هي الاستطاعة. الاستطاعة من حيث أمن الطريق، والاستطاعة من حيث توافر التكاليف، والاستطاعة من حيث طريق المواصلات، وقد فسَّر بعض أسلافنا ـ رضوان الله عليهم ـ الاستطاعة بأنها الزاد والراحلة.
وهذا التفسير يَصْدُق عندما يكون الأمن أرجحَ من الخطر، وعندما يكون الإنسان في صحة تسمَح له بالسفر.
فإذا ما توافرَت الاستطاعة فإن الحج واجب على الفَوْر، سواء أكان الإنسان متزوجًا أم غير متزوج؛ وذلك أن الزواج ليس شرطًا في الحج، ويجب على الإنسان الذي توافرت له الاستطاعة أن يُعَجِّل بالحج؛ فإنه لا يدري متى يَحِين أجلُه، إذ إنه إذا مات وقد توافرت له الاستطاعة ولم يحجَّ فإنه يكون آثمًا.
ولقد قال الإمام الكبير طاووس: "إذا عَلِمْتُ شخصًا توافرت له الاستطاعة، ولم يحجَّ ومات ودُعِيتُ للصلاة عليه صلاة الجنازة فإنني لا أفعلُ".
والحج رحلة للتطهير، وإذا ما حج الإنسان فإنه يخرج من ذنبه ويُصبِح كيومَ ولدتْه أمُّه. يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق خرج من ذنوبه كيومَ ولدتْه أمُّه". ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".(1/560)
في سَنِّ تعجيل صلاة عيد الأضحى وتأخير صلاة عيد الفطر:
السبب في ذلك أن يوم الأضحى يوم يُضَحِّي فيه المسلم بالذبائح، والذبح إنما يكون بعد الصلاة لا قبلها، فلو تأخَّرتِ الصلاة لتوهَّم بعض الناس انتهاءَها فبادروا بالذبح قبل الصلاة فتفسد الأضحية ولم تُؤَدَّ عن صاحبها، وصارت لا تَزِيد عن كونها لحمًا لا يَختَلِف عن اللحم المذبوح في غير أيام العيد، روى البخاري بسنده عن البراء: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب، فقال: "إن أولَ ما نبدأ به في يومنا هذا أن نُصَلِّي ثم نَرْجِع فنَنْحَر، فمَن فعل فقد أصابَ سُنَّتَنا".
وفي رواية للبخاري عن البراء قال: "خطبنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: "مَن صلَّى صلاتَنا ونَسَك نُسُكَنا فقد أصاب النُّسُك، ومَن نَسَك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة لا نُسْك له"، فقال أبو بردة بن نيار خال البراء: "يا رسول الله، فإني نَسَكْتُ شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببتُ أن تكون شاتي أول شاة تُذبح في بيتي، فذبحتُ شاتي وتغذيتُ قبل أن آتيَ الصلاة، قال شاتُك شاةُ لحم".
أما تأخير صلاة عيد الفطر فذلك ليأكل قبل أن يخرُج فيُخالِف عادةَ الصيام بالأكل قبل طلُوع الفجر، عن أنس بن مالك ـ فيما رواه البخاري ـ قال: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تَمَرات ولم يكن الأكل قبل الخروج لصلاة عيد الفطر كثيرًا، بل كان يسيرًا، يُشعر بالاستجابة لأوامر الله ـ تعالى ـ والشكر له، ولو كان الأكل للقضاء على الجوع أو لمُتابعة حالة الجسد إلى الطعام لَمَا اقتصر على الثمَرات ولَوَصل بالطعام إلى حدِّ الشِّبَع.(1/561)
ومما ينبغي التنبُّه إليه أن صلاة العيد لا تُصَلَّى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها وإنما بعد طلوعها بوقت تَحِلُّ فيه النافلة، أي بعد أن ترتَفِع عن مطلِعِها قَدْر ذراع، والفرق بين وقت صلاة عيد الأضحى وعيد الفطر ليس بكثير.(1/562)
في لقب حاج:
لقد حج أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن أحد منهم يُنادِي مَن حَجَّ بيت الله باسم حاج، وإنما كان يُنادِي بعضُهم بعضًا بأسمائهم التي عُرِفوا بها. وحج بيت الله المُحَرَّم الركن الخامس من أركان الإسلام، وهذا الركن مِثْلُه كمثل غيره من بقية أركان الإسلام، فقول الناس: يا حاجُّ لمَن حج بيت الله إنما هو تكريم له، ولكن لا ينبغي له أن يطلب من أحد تكريمه به؛ لأن مَن عبَد الله ـ تبارك وتعالى ـ مُخلِصًا لا يطلب جزاءه إلا من ربه ـ عز وجل ـ والرجل الذي يحُج من أجل أن يقول الناس له: يا حاجُّ إنما هو لم يخلص إخلاصًا كاملًا لله ـ سبحانه ـ وقول الناس: يا حاجُّ، إنما هو مُجَرَّد عادة من عادات التكريم، وليست مُوجِبةً، فيجوز أن يُنادي مَن حج بيت الله الحرام باسمه مُجَرَّدًا من كلمة حاج.(1/563)
في شهر رمضان:
يقول الله ـ تعالى ـ: (شهرُ رمضانَ الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هدًى للناسِ وَبَيِّناتٍ منَ الهُدَى والفُرْقَانِ فمَن شَهِدَ منكم الشهرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُريدُ اللهُ بكمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكُمُ العُسرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّروا اللهَ على ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ).
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بيَّنَ في هذه الآية الكريمة أن القرآن أُنزِل في شهر رمضان، وأنه أنزل هُدًى للناس.
والهداية هي أحسن نِعمة أنعم الله ـ تعالى ـ بها على الإنسانية، وهذه النعمة تقتضي شكرًا.
ويَتَمَثَّل الشكر على الهداية في عبادة تُزَكِّي النفس، وتسمو بالروح، وتستغرق الشهر كله، فكانت هذه العبادة هي الصوم الذي يُثْمِر التقوى.
ويقول الله ـ تعالى ـ عن ذلك: (يَا أَيُّهَا الِّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فصوم شهر رمضان الذي أُنْزِل فيه القرآن إنما هو شُكر على العبادة، وهذا الشكر يُثْمِر التقوى، والتقوى تُثْمِر رعاية الله للمتقي في كل ضيق: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يجعلْ له مَخرجًا ويَرْزُقْهُ من حيثُ لا يَحْتَسِبُ).
ويقول: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لكم فُرقانًا ويُكَفِّرْ عنكم سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لكم واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ).
والتقوى التي هي ثمرة الصوم لها ثِمارها الطيبة ـ إذن ـ في هذه الحياة الدنيوية وفي الحياة الأخروية.(1/564)
في اسم شهر رمضان، ولماذا خصَّه الله بالصوم؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (شهرُ رمضانَ الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هدًى للناسِ وَبَيِّناتٍ من الهدَى والفُرقانِ فمَنْ شَهِدَ منكم الشهرَ فَلْيَصُمْهُ).
فقد أمر الله ـ تعالى ـ بالصوم بعد أن ذكر أن هذا الشهر الكريم نزلت فيه الهداية الكاملة مُمَثَّلةً في القرآن، فكان لابد أن نحتفل به، والاحتفال بشيء ما إنما يكون بما يُناسبه، فالاحتفال بالهداية ممثلةً في القرآن إنما يكون بما يُعِدُّ النفس ويُمَهِّدها لاستقبال هذه الهداية على خير ما ينبغي، وذلك بالصوم، فكأننا بالصوم إيمانًا واحتسابًا نصل إلى مستويات من شَفَافِيَة النفس وتطهيرها وتزكيتها فتَتَنَسَّم هَدْيَ السماء وتَتَشَرَّبه، وتمتزج به فَرِحةً مُغْتَبِطَةً، فتفهم في عُمق قول الله ـ تعالى ـ: (اليومَ أكملْتُ لكُمْ دينَكُمْ وأتمَمْتُ عليكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دِينًا).
والشهر فيما قيل: أصله من الشهرة، يُقال عنه: قد شهَر فلانٌ سيفَه، إذا أخرجه من غِمده، فاعترض به مَن أراد ضربَه ـ يَشْهَرُه شهرًا، وكذلك شَهَر الشهرُ، إذا طلع هلالُه، وأشهرنا نحن إذا دخلنا في الشهر، هذا عن كلمة شهر.
أما عن كلمة رمضان: فإنها من الرمَض، يقول صاحب مختار الصحاح، "الرَّمَض" بفتحتين: شدة وَقْع الشمس على الرمل وغيره، والأرض "رمضاء" بوزن حمراء، وقد "رَمِض" يومنا: اشتد حرُّه، وبابه طَرِب، وأرض "رَمْضة" الحجارة. و"رَمِضت" قَدَمُه ـ أيضًاـ من الرمضاء، أي: احترقتْ، وفي الحديث: "صلاة الأولين إذا رَمِضَت الفِصال من الضحا"، أي إذا وجد الفصيل حر الشمس من الرمضاء، يقول: صلاة الضحا تلك الساعةَ، وأرمضتْه الرمضاء أحرقتْه . شهر "رمضان" جمعه "رمضانات" و"أرمضاء" بوزن أصفياء، قيل: إنهم لمَّا نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سَمَّوْها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافَق هذا الشهر أيام رمض الحر فسُمِّي بذلك.(1/565)
وكان مجاهد ـ رضي الله عنه ـ يكره أن يُقال: "رمضان"، ومن كلامه لكن نقول ما قاله الله: شهر رمضان.(1/566)
في تاريخ شهر رمضان:
صيام شهر رمضان فريضة فرضها الله، تعالى. أما صيام رجب وشعبان فمندوب فقط، وشهر رجب من الأشهر الحُرُم التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في كتابه ونَبَّه المسلمين إلى حُرْمَتِها، وهو من الأشهر الحرُم المُعَظَّمة في الجاهلية والإسلام، وفيه ليلة الإسراء والمعراج التي كرَّم الله فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكرمنا فيها بفرضية الصلاة علينا وعلى المسلمين، فشهر فيه هذه الليلة جدير بشُكْر الله فيه، وشهر شعبان خَصَّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصيام فيه أكثر من غيره، ونبَّه إلى أن شهرًا يَغْفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرْفَع فيه الأعمال إلى الله، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحِبُّ أن يُرْفَع عملُه وهو صائم، أما مَن صام الأشهر الثلاثة: رجب، وشعبان، ورمضان، لا يُحاسبه الله يوم القيامة، مهما كانت ذُنوبه فظني أنه غير وارد.(1/567)
في حكمة الصوم:
الحكمة الأولى: يقول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا كُتِبَ عليكُمُ الصيامُ كمَا كُتِبَ على الذينَ مِنْ قبلِكُمْ لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فإذا ما وَطَّن الإنسان نفسه على الصلاح والخير بعد أن مهَّد له الصوم إلى ذلك، وأعدَّه؛ ليسير في سهولة ويُسْر على الصراط المستقيم، فقد فاز بثمرة الصوم وهي التقوى.
والتقوى هي تَجَنُّب المعصية الكبرى التي لا يَغْفِرُها الله أبدًا وهي الشرك بالله، وكذلك تجنُّب ما دونَها من المعاصي، وهذا جانبها السلبي. أما جانبها الإيجابي فإنه القيام بكل واجب افترضه الله، تعالى. وإذا ما حقَّق الإنسان التقوى فقد فاز، ودخل في نِطاق الآية القرآنية الكريمة: (أَلَا إِنَّ أولِيَاءَ اللهِ لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنونَ. الذينَ آمَنُوا وكانوا يتقونَ. لهم البُشْرَى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ لا تبديلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلكَ هوَ الفوزُ العظيمُ).
وقد رُوِي في الحديث: إن الله يُنادي يوم القيامة: يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، فتَرْفَع الخلائق رءوسَهم، فيقولون: نحن عباد الله، عز وجل. ثم ينادي الثانية: (الذينَ آمنُوا بآياتِنا وكانوا مُسلِمينَ)، فيُنَكِّس الكفَّار رءوسهم، ويبقَى المُوَحِّدون رافعي رءوسهم، ثم يُنادي الثالثة: (الَّذِينَ آمَنُوا وكانَ يَتَّقُونَ) فيُنَكِّس أهل الكبائر رءوسهم ويبقى أهل التقوى رافعي رءوسهم، قد أزال الكريم عنهم الخوف والحزن كما وَعَدَهم.
أما الحِكمة الثانية: التي من أجلها فُرِض الصوم فهي ما يُمكننا أن نَلْتَمِسه في قول الله ـ تعالى ـ: (شهرُ رَمَضانَ الذي أُنْزِل فيه القرآنُ هدًى للناسِ وبَيَّناتٍ من الهدَى والفُرْقانِ فمَنْ شَهِدَ منكم الشهرَ فَلْيَصُمْهُ).(1/568)
فقد أمر الله بالصوم بعد أن ذكر أن هذا الشهر الكريم نزلت فيه الهداية الكاملة مُمَثَّلةً في القرآن، فكان لابد أن نَحتَفِل به، والاحتفال بشيء ما إنما يكون بما يُناسبه، فالاحتفال بالهداية مُمَثَّلةً في القرآن إنما يكون بما يُعِدُّ النفس ويُمَهِّدها لاستقبال هذه الهداية على خير ما ينبغي، وذلك هو الصوم فكأنَّنا بالصوم إيمانًا واحتسابًا نَصِل إلى مُستَويات من شفَافِيَة النفس، وتطهيرها وتَزْكِيَتها، فتَتَنَسَّم هدْيَ السماء وتَتَشَرَّبه وتَمتَزِج به فَرِحةً مُغْتَبِطَة، فنفهم في عُمق قول الله ـ تعالى ـ: (اليومَ أكملتُ لكمْ دينَكم وأتمَمْتُ عليكم نِعمتِي ورَضِيتُ لكمُ الإسلامَ دينًا).
وأما الحكمة الثالثة: لفرض الصيام فإننا نَلْتَمِسُها في قوله ـ تعالى ـ مختتمًا بعض آيات الصوم: (وَلِتُكَبِّروا اللهَ على ما هداكُم ولعلَّكم تَشكُرُونَ).
فقد فُرِض الصوم لِنَنْتَهِي منه ونحن في رحاب الله مُغْتَبِطين مُسْتَبْشِرِين قد تَزَكَّت عنَّا النفوس وتطهَّرت منَّا الأفئدة فيترتَّب على ذلك أن نُكَبِّر الله ونَحْمَدُه على هدايته السماوية أولًا، وعلى توفيقه لنا بإتمام الصوم ثانيًا، ونشكره على كل ذلك فيَزِيدُنا ـ سبحانه ـ بهذا الشكر هدايةً وتوفيقًا: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
ومما له مغزاه العميق أنه في ثنايا هذه الآيات الكريمة التي تتحدث عن الصوم وتُوَجِّهنا إلى التقوى وإلى تكبير الله وإلى الشكر يُخاطب الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: (وَإِذَا سألكَ عِبادِي عنِّي فَإِنِّي قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعانِ فلْيَسْتَجِيبوا لي وليؤمنوا بي لعلَّهم يَرْشُدونَ).
ولا ريب أن النفوس التي صامت إيمانًا واحتسابًا وتَزَكَّت وتَطَهَّرت والتزمت التقوى وكبَّرت الله وشكرتْه إنما هي نفوس قريبة من الله، إذا دعتْه استجاب، وإذا استلهمتْه الرُّشْد والصواب أُلْهِمَ واستهدتْه هُدِي.(1/569)
في متى فُرِض صيام رمضان؟
فُرِض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة.
روى ابن سعد في طبَقاته الكبرى بسنَده عن أبي سعيد الخدري قال: نزل فرض شهر رمضان بعد ما صُرِفت القِبْلة إلى الكعبة بشهر، في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.(1/570)
في قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخَّرَ".
صيام رمضان يُكَفِّر خطايا الإنسان الماضِيَة، كما ورد في الحديث المذكور، ومعنى أنه يصوم إيمانًا واحتسابًا: أن يكون الصيام مُوَجِّهًا له في كل سلوكه فيتعلم من الصيام مراقبة الله في أعماله والإخلاص له، وعند ذلك يَحْتَرِز عن الخطايا والمُنكَرات، ويكون ممَّن انتفع من الصيام، ولا حرَج على فضل الله؛ فهو الذي يَغْفِر الذنب ويَقْبَل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ولقد اشترط رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مغفرة الذنوب أن يكون الصوم إيمانًا واحتسابًا، ومما يشرح كلمة "إيمانًا واحتسابًا" ما رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن صام رمضانَ وعرف حدودَه وتحفَّظ مما ينبغي له أن يتحفَّظ منه كفَّر ما قبله". لابد ـ إذن ـ في تحقيقه "إيمانًا واحتسابًا" أن يعرف الإنسان حدوده، وأن يتحفظ من السيئات، وبذلك يتحقق قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح: "الصيام جُنَّة وحصن من النار".
وشرط الصيام إيمانًا واحتسابًا أن يبدأ الإنسان فيه بالتوبة الخالصة النَّصُوح، التوبة التي تُنادي كل خَلِيَّة من خلايا جسم الإنسان بها، التوبة التي تنبُع من أعماق الإنسان فتكون توبة صادقة تأخذ صفة النصوح، وإذا ما كانت التوبة كذلك فإنها تُثْمِر التقوى، فإذا ما أثمرت التقوى كان الإنسان في رِضا الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الدنيا والآخرة.(1/571)
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشهر رمضان.
عبَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فضل شهر رمضان فيما كان يخطب به المسلمين إذا أهلَّ عليهم هذا الشهر المُبارَك، فعن سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال: خطَبَنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخر يوم من شعبان قال: "يا أيها الناسُ، قد أظلَّكم شهر عظيم مُبارَك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامَه فريضة، وقيامه تطوُّعًا، مَن تقَرَّب فيه بخَصْلة من الخير كان كمَن أدَّى فريضةً فيما سواه، ومَن أدَّى فريضة فيه كان كمَن أدَّى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابُه الجنة، وشهر المُواساة، وشهر يُزاد رزق المؤمن فيه، مَن فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مِثْل أجرِه من غير أن ينقُص من أجره شيء".
قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يُفَطِّر الصائم. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يُعطي اللهُ هذا الثوابَ مَن فطَّر صائمًا على تمرة، أو على شَرْبة ماء، أو مَذْقَة لبن، وهو شهر أولُه رحمة وأوسطُه مغفرة، وآخرُه عتق من النار، مَن خفَّف عن مملوكه فيه غَفَر الله له وأعتقَه من النار، فاستَكْثِرُوا فيه من أربع خِصال: خَصْلتين تُرْضُون بهما ربكم، وخَصْلَتَيْنِ لا غناء بكم عنهما.
فأما الخَصلتان اللتان تُرضون بهما ربَّكم فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه . وأما الخصلتان اللتان لا غَناء بكم عنهما فتسألون الله الجنةَ، وتَعُوذُون به من النار.
ومَن سقَى صائمًا سقاه الله من حوضي لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة"، رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال: صحَّ الخبر.(1/572)
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين". أما عن ثواب الصيام فيُبَيِّنه ما رُوِي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "قال الله ـ عز وجل ـ: "كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" والصيام جُنَّة، فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرْفُث ولا يَصْخَب، فإن سابَّه أحد أو قاتَلَه فلْيَقُل: إني صائم إني صائم.
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "والذي نفسُ محمدٍ بيدِه لخَلُوف فمِ الصائم أطيبُ من ريح المسك".
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه".(1/573)
في جهاد النفس في رمضان:
على الصائم أن يُجاهد نفسه في رمضان بالبُعد عن مجالس الهوى والبُعد عن كل ما لا يُقَرِّبه من ربه ولا يَحْفَظ عليه صيامه، وعليه أن يُقْبِل على تلاوة كتاب الله، وعلى الإكثار من الاستغفار وذِكْر الله، ومُجالَسة العلماء والصالحين في نهاره، وأن يَشغل ليلَه بطُول القيام لله رب العالمين، وأن لا يستجيب لشهَوَات نفسه من طعام أو شراب؛ لأن القصد من الصوم كسرُ شهوة النفس، وتعويدها الاكتفاء باليسير من الطعام والشراب، وما يفعله المسلمون في هذا الزمان من التفنُّن في إعداد الطعام والتكلُّف فيه وإيجاد المُرَغِّبات في تناوُله مما يُضِرُّ بصحة الصائم يُنافي مشروعيته، وعلى الصائم في سُلوكه في رمضان أن يَتَأَسَّى برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيصوم نهاره مُبْتَعِدًا عن كل ما يُغْضِب الله ـ عز وجل ـ بل وعليه أن يترُك المُباحات طلبًا لتَرَقِّي المَقامات العَلِيَّة في كل أحواله، وأن يجتهد في ليله بطاعة ربه وإيقاظ أهله للقيام فيه، وأن يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، إن كان من ذوي العلم بذلك، وأن يُسرِع بالخير فيُكْسِب المعدوم ويُغِيث الملهوف، ويتحلَّى بالفضائل بعد التخلِّي عن الرذائل، ويكون بحقٍّ من عباد الرحمن الذين يَمْشُون على الأرض هَوْنًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا.(1/574)
في رؤية هلال رمضان:
تختلف رؤية الهلال من بلد إلى بلد بحسب اختلاف المطالع كما هو مُشاهد، ومن المعلوم أن رؤية العدل أو العدلين إذا أَخَذ بها الحاكم تُلْزِم الجميع في نفس البلد أو القطر وهذا متفق عليه.
أما أهل البلاد الإسلامية الأخرى فما هو الحكم بالنسبة لهم؟ هل يلتزم كل بلد بما التزم به أهل بلد مُعَيَّن أو لا؟
يرى كثير من الفقهاء أن الرؤية في بلد ما من بلاد الإسلام تُلزم أهل البلاد الأخرى، وأنهم إذا أفطروا فتَبَيَّن لهم صيام غيرِهم في بلد آخر عليهم قضاء اليوم الذي أفطروا فيه، وهم يَرَوْنَ ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية في الوضع الإسلامي أمة واحدة فأي جزء منها إنما يُعْتَبر مُمَثِّلًا لها كلها، يقول ـ سبحانه ـ: (إنَّ هذه أمتُكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدونِ) ويقول ـ سبحانه ـ: (وَإِنَّ هذه أمتُكُمْ أمةً واحدةً وأنا ربُّكُمْ فَاتَّقُونِ).
ويرى آخرون أن الرؤية لا تَلْزم أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤيا. روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثتْه إلى معاوية بالشام فقال: قَدِمْتُ الشامَ فقضيتُ حاجتها واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيتُ الهلال ليلةَ الجمعة، ثم قَدِمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتُم الهلال؟ فقلتُ: رأيناه ليلةَ الجمعة، فقال: أنتَ رأيتَه؟ فقلتُ: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنَّا رأيناه ليلةَ السبت فلا نزال نصوم حتى نُكَمِّل ثلاثين أو نراه، فقلتُ: أوَ لَا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا، هكذا أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فظاهِرُ هذا الأثر يقتضي أن لكل بلد رؤيتَه قَرُب أو بَعُد.
وما من شك في أنه من المُمْكِن الاتفاق على توحيد وقت الصيام، وعلى موعد العيدينِ، وذلك باتفاق رؤساء البلاد الإسلامية على الأخذ برؤية وبشهادة العُدول في أي بلد إسلامي.(1/575)
وذلك له وِجْهة في الشرع من ناحية النظر ومن ناحية الأثر، فإذا فعلت ذلك الأمة الإسلامية تحقَّقت لها الوَحْدة في مواسمها وأعيادها.(1/576)
في اتِّباع أوامر الحاكم في الصيام والفطر:
المسلمون بالنسبة إلى الصوم لرؤية الهلال في بلد غير بلدهم، أو في قَبُوله مَن رآه ببلدهم، واعتبار شعبان تسعة وعشرين يومًا تابعين لسُلْطانهم. إن قال بالصيام صامُوا وإن قال بالفطر أفطروا، ويُسْتَثْنَى من ذلك مَن رأى الهلال بنفسه، فيَلْزَمُه الصيام لتحقُّق الرؤية بالنسبة إليه، والدليل على ذلك ما رواه مسلم بسنَده عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثتْه إلى معاوية بالشام، قال: فقدمتُ الشامَ فقضيتُ حاجتَها واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة ثم قَدِمْتُ المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتمُ الهلالَ؟ فقلتُ: رأيناه ليلةَ الجمعة، فقال: أنت رأيتُه؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكَمِّل ثلاثين أو نراه، فقلت: أوَ لَا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وعلى ذلك فليس بلازم الصيام على رؤية أهل القُطْر المُجاور اللهمَّ إلا إذا قرر ذلك السلطان، فإن الصيام يَتَعَيَّن حينئذ أو الفطر إذا قرَّر الحاكم الفطر، وهذا من الإسلام احترام للإمارة، وتنظيم لأمور الدولة، على أن هذا لا يَمْنَع في هذا العصر الذي تقدَّمت فيه وسائل المواصلات وتَحَوَّل العالَم إلى كُتَل تتجمَّع لأوهى الأسباب من أن نتقدَّم برجاء إلى الله نسأله فيه توحيد مواعيد الصيام والفطر في كل بلاد الإسلام واتفاق الوُلاة على ذلك.(1/577)
في اختلاف وقت الصيام:
يقول الله ـ تعالى ـ في آيات الصيام من سورة البقرة الآية رقم 187: (وَكُلُوا واشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لكم الخيطُ الأبيضُ منَ الخيطِ الأسودِ مِنَ الفجرِ ثمَّ أَتِمُّوا الصيامَ إلى الليلِ).
ويُنَبِّه الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذه الآية الكريمة أن وقت الصيام إنما يبدأ من الفجر وينتهي عند غروب الشمس، وقد كان ابن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ يؤذن إعلانًا بطلوع الفجر، وبوُجوب الإمساك عن الطعام والشراب، وقد كان الرسول ـ صلوات الله عليه ـ يقول: إذا أقبل الليل من هنا، وأدبر النهار من هنا فقد أفطر الصائم.
وعلى هذا الأساس يَخْتَلِف وقت الصيام من قطر لآخر باختلاف توقيت الغروب سواءً طالت ساعاتُه في الأربع والعشرين ساعة أم قَصُرت، ومَن لا يُطيق الصيام، وهو في الأمكنة التي يَطُول فيها النهار أو حتى في غيرها فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد جعل الدين يُسرًا وفتح له باب القضاء عندما يستطيع، أو الفِدْية عند عدم الاستطاعة.(1/578)
في الصوم كل عام:
يصوم المسلمون كل عام امتثالًا لقوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا كُتِبَ عليكُمُ الصيامُ كما كُتِبَ على الذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلى قوله ـ تعالى ـ: (فَلْيَصُمْهُ) ومعنى (شهد) أي عاش فيه، وهو مُكَلَّف بتحمُّل مسئولياته تِجاه الإسلام.
والصوم عبادة، والعبادة مَظهَر من مظاهر الاستسلام لله ـ تعالىـ وتنفيذ أوامره وتوجيهاته، لعِلْمِنا بأن تدبيره لنا خير من تدبيرنا لأنفسنا، ومعرفتنا بغِناه عن أعمالنا، وأن تشريع هذه الأعمال ليس إلا لنفعنا وتحصيل الثواب لنا.
ومع ذلك فقد تَلَمَّس العلماء الحِكَم المُرادة من العبادات وخرجوا من ذلك بمحصول لا بأس به؛ ففي الصوم تحكيم للمسلمين في عادات الحياة، وتربية لإرادتهم، وتدعيم لإيمانهم وتَذْكِير بوَحْدتهم، وجمع لمشاعرهم على هدف واحد وسلوك واحد، وإعداد لهم لمُقابلة المصاعب من الشدائد، وإراحة الجسم من تعَب الهضم، وما إلى ذلك مما تحدَّث عنه العلماء، والهدف الأساسي للصوم تحصيل التقوى، ليَسْعَد بها الإنسان دنيا وأخرى، أما متى فُرِض الصوم لأول مرة في الإسلام؟ فقد فرض في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: إن فريضته كانت في شعبان من هذه السنة.(1/579)
في النية في الصوم:
النية في الصيام رُكن من أركانه لا يَصِح بدونها؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إنما الأعمال بالنِّيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
ولابد من النية في كل ليلة من ليالي رمضان؛ لأن الصيام كل يوم عبادة مُسْتَقِلَّة، وتَصِح النية في أي جزء من أجزاء الليلة، وليس المقصود هو التلفُّظ بها؛ لأنها عمل قلبي، وحقيقتها: القصد إلى الفعل امتثالًا لأمر الله ـ تعالى ـ وطلبًا لوجهه الكريم.
ومَن تسحَّر بالليل قاصدًا الصيام تقربًا إلى الله بهذا الإمساك فهو ناوٍ للصيام، ومَن عزم أثناء الليل على الكفِّ عن المُفْطِرات أثناء النهار مُخْلِصًا لله فهو ناوٍ للصيام كذلك وإن لم يتسحر.(1/580)
في شروط الصوم الصحيح:
شروط الصيام الصحيح: الإمساك عن إيصال شيء إلى الجوف عَمْدًا مع ذكر الصوم، فيفسد بالأكل أو الشرب عَمْدًا. أما إذا أكل أو شرب ناسيًا، فلا يُفْسِد ذلك صومه، وكذلك الإمساك من الناحية الجنسية. هذه هي شروط الصيام الصحيح من الناحية المادية، وهي على كل حال تُسْقِط الفرض.
بيد أن هذه الشروط مع إسقاطها الفرض، لا تكفي مُطلقًا في نظر الصالحين، وللصالحين شروط أخرى منها:
1ـ غَضُّ البصر عما حرَّم الله ـ تعالى ـ يقول الله ـ تعالى ـ: (قلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا من أبصارِهم ويَحْفَظُوا فُروجَهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يَصنَعُونَ. وقل للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ ولا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا ما ظهَرَ منها). ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "النظرةُ سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليسَ لعَنَه الله، فمَن تركها خوفًا من اللهِ أتاه الله ـ عز وجل ـ إيمانًا وجدَ حلاوتَه في قلبِه".
2ـ حفظ اللسان من الغِيبة والنميمة والكذب، وقد نهى القرآن عن كل ذلك.
ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الشيخان: "إنما الصوم جُنَّة فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرْفُث، ولا يَجهَل، وإن امرؤٌ قاتَلَه أو شاتَمَه، فَلْيَقُلْ: إني صائم، إني صائم".
3ـ كَفُّ السمع عن المُحَرَّم حتى لا يدخل فيمَن قال الله ـ تعالى ـ فيهم: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ). وبالجملة كف الجوارح كلها عما حرَّم الله، تعالى.
وما مِن شك في أن كف الجوارح عما حرَّم الله ـ تعالى ـ له درجة أرقى من درجة مُجَرَّد الامتناع عن الأكل والشُّرْب والناحية الجنسية.
أما الدرجة العُلْيَا في الصوم، فإنها صوم القلب عما سِوَى الله، تعالى. يقول أبو سعيد الخراز: "كلُّ ما فاتَكَ من الله سوى الله يَسيرٌ، وكلُّ حظٍّ لكَ سِوَى الله قليلٌ".(1/581)
في أقسام الصوم:
قسَّم الفقهاء الصوم إلى ستة أقسام:
1ـ فرض. 2ـ واجب.
3ـ مسنون. 4ـ مندوب.
5ـ نفل. 6ـ مكروه.
فالصوم المفروض: هو صوم رمضان أداءً وقضاءً، وصوم الكفَّارات والمنذور.
والصوم الواجب: هو قَضاء ما أفسدَه من نفل ومِثْله في الوُجوب صوم الاعتكاف المنذور.
والصوم المسنون: هو صوم عاشوراء لِمَا ثبت من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صام العاشر من المحرَّم، وقال: لئن بَقِيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ والعاشرَ.
وأما المندوب: فهو صوم ثلاثة أيام من كل شهر ويندُب أن تكون الأيام البِيض التي يتكامَل ضَوْء الهلال فيها، وهي الثالِث عشر والرابِع عشر والخامس عشر من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس وصوم ست من شوال مُتَتابِعَة أو مُتَفَرِّقة، ويندُب صوم ما ثبت طلبه والوعد عليه بالسنة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولًا أو فعلًا كصوم داود ـ عليه السلام ـ فقد كان يصوم يومًا ويُفْطِر يومًا، هو أفضل الصيام وأحبُّه إلى الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد رُوِيَ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: "صُمْ في كل شهر ثلاثةَ أيام قلتُ: إني أقوَى من ذلك، فلم يَزَلْ يرفعني حتى قال: صُمْ يومًا بعد يوم؛ فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود، عليه السلام".
وأما النفل فهو: ما سِوَى ذلك ممَّا لم يَثْبُت كراهيَّته.
والصوم المكروه قِسمان: مكروه كراهة تنزيهية، ومكروه كراهة تحريمية.(1/582)
فالأول كصوم عاشوراء منفردًا عن يوم التاسع، والثاني: هو صوم العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى، وصوم أيام التشريق، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وكُرِه إفراد يوم الجمعة وإفراد يوم السبت بالصوم، فقد رُوِي عن جنادة الأزدي قال: دخلتُ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في يوم الجمعة في سبعة من الأزد وهو يتغدَّى، فقال: هَلَمُّوا إلى الغداء، فقلنا: يا رسول الله، إنَّا صيام، فقال: أصمتُم أمسِ؟ قلنا: لا، قال: أفتَصُومون غدًا؟ قلنا: لا. قال: فأفطروا، فأكلنا معه، فلما خرج وجلس على المنبر دعا بإناء من ماء فشَرِب وهو على المنبر، والناس ينظرون. إنه لا يصوم يوم الجمعة، وعن ابن عباس: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تَصوموا يوم الجمعة وحده" رواهما أحمد، وعن عبد الله بن بسر عن أخته وأَسماء الصماء أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم فإن لم يجد أحدُكم إلا عود عنب أو لحاء شجرة فلْيمضغه" رواه الخمسة إلا النسائي.
ويُكْرَه صوم الوِصال ولو يومين، وهو ألا يُفْطِر بعد الغروب أصلًا حتى يتصل صوم الغد بالأمس، كما يكره صوم الدهر.
هذا، وإنَّا لنرجو أن يكون صوم الصائم سنَّة كان أو مفروضًا أو مندوبًا ليس صومًا عن الطعام والشراب والمُتْعة فقط، بل أن يكون كما يُريده الله ـ سبحانه ـ صومًا للجوارح كلها عن كل ما لا يَلِيق من عبد أسلمَ وجهَه لله رب العالمين، حتى تتحقَّق الغاية من الصيام التي أجملها القرآن الكريم في قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا كُتِب عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذينَ من قبلِكُمْ لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ).(1/583)
في مظاهر التيسير في الصوم:
قال الله ـ تعالى ـ: (يُرِيدُ اللهُ بكمُ اليُسْرَ وَلَا يُريدُ بكُمُ العُسْرَ) وقال ـ سبحانه ـ: (وَما جعلَ عليكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ) ومن مظاهر التيسير على المسلم إعفاؤه من فريضة صوم رمضان إذا فَنِيَت قوته وعجَز عن أداء الصوم لكِبَر سِنِّه، وهو ما يُسَمِّيه الفقهاء بالشيخ الفاني والعجوز الفانية، قالوا: ويجوز الفِطْر لشيخ فانٍ أو عجوز فانِيَة وتَلْزَمُها الفِدْية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم غداءً وعشاءً أو فطورًا وسحورًا، أو غداءين أو عشاءين، أو يُخرِج عن كل يوم نصف صاع من بُرٍّ أو صاعين تمرًا أو قيمة ذلك، والأصل فيه قول الله ـ تعالى ـ: (وَعَلَى الذينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيةٌ طعامُ مِسْكِينٍ). قال العلماء: أي لا يُطيقون صيامه، وتقدير حرف النفي "لا" أسلوب معروف في القرآن الكريم، كما في قوله ـ تعالى ـ: (تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يوسفَ) أي: لا تفتأ، وقوله ـ تعالى ـ: (يُبَيِّنُ اللهُ لكمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي: لا تضلوا.. إلخ.
ويرى بعض العلماء أن المعنى: وعلى الذين يُطيقونه: أي يَقْدِرون عليه بمشقة وعُسْر. روى عطاء أنه سمع ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقرأ على الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين، قال ابن عباس: ـ رضي الله عنهما ـ هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيُطعمان مكان كل يوم مسكينًا. رواه الترمذي.
قال الفقهاء: فمَن لم يَقْدِر على الفدية لعُسْرَتِه يَسْتَغْفِر اللهَ ـ سبحانه ـ ويستقيله، أي طلب منه الإقالة أو العفو.
ومن الفقهاء مَن قال: إنه لا فدية على الشيخ الفاني والعجوز الفانية وهو مذهب المالكية، وبعض فقهاء الحنفية؛ لأنه عجز مستمر إلى الموت، فكان كالمريض إذا مات قبل أن يَصِح، والمسافر قبل أن يُقِيم، وإن كان المُسَتَحَبُّ أن يُفْدِي.(1/584)
ومن هذا يَتَبَيَّن أنه ليس على الشيخ الفاني ـ إذا كانت حالتُه كما شرحنا ـ صيام ولا فدية، وليس عليه إلا أن يَسْتَغْفِر الله ـ سبحانه ـ ويطلُب عفوه، والله ـ تعالى ـ لا يُكَلِّف نفسًا إلا وُسْعَها.(1/585)
في أي سِنٍّ يجب على الطفل أن يصوم؟ وهل على الآباء مسئولية في هذا الواجب؟
الصيام كسائر العبادات لا يُكَلَّف بها إلا البالِغ العاقل، فمتى وصل الطفل إلى سِنِّ البلوغ أصبح مُكلَّفًا بسائر العبادات، ومنها الصيام.
وسن البلوغ غير مُحدَّد، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والبيئات، ولكن الدليل عليه هو الاحتلام، فمتى احتلم الطفل أصبح مُكَلَّفًا، وعلى الوالدين مسئولية تبصير الولد بدِينه، ومُطالبته بأداء ما افتُرِض عليه، وتعويده ذلك من صِغَره ليَشِبَّ على الطاعة.
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مُروا أولادَكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفَرِّقُوا بينهم في المضاجع".
وفي الحديث أن إحدى الصحابِيَّات أخبرت أنهم كانوا يُصَوِّمون أطفالهم في الصغر، حتى إذا جاعوا عالَلَوهُم وأحضروا لهم اللُّعَب من العِهْن.
روى البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ قالت: "أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صبيحةَ عاشوراء إلى قُرى الأنصار ـ مَن كانَ أصبح صائمًا فلْيَتِمَّ صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فلْيَصُم بقية يومه". فكنَّا نصوم بعد ذلك ونُصَوِّم صبياننا الصِّغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللُّعْبة من العِهْن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياه حتى يكون عند الإفطار.(1/586)
في تأخير السحور:
إن تأخير السحور مُسْتَحَبٌّ: ذكر ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيد أنه ينبغي أن يكون السحور قبل الفجر بوقت كافٍ، فإذا استيقظ للسحور مُتأخرًا وأدركه أذان الفجر والطعام في فمه فإن الأحوط بالنسبة له أن يُمْسِك عن الطعام إلى نهاية النهار، ثم يقضي اليوم بعد رمضان، والمُؤَذِّنُون عادةً يَتَثَبَّتون من حُلول الوقت فيُؤَخِّرون الأذان ولو نصف دقيقة.
ومن أفضل العادات في رمضان أن يجعل الإنسان مدفع الإمساك حدًّا فاصلًا بين إباحة الأكل والإمساك عنه، وهو عادة ينطلِق قُبَيل الفجر بثلث ساعة.(1/587)
في ما يَتَحَلَّى به الصائم من سلوك:
يتَّخِذ بعض الناس تَعِلَّة يتعلَّلون بها في أنواع السلوك لا يحبها الله ورسوله: منها ضيق الخلُق الذي يتمثَّل في الغضب، وهو خُلُق يَبْغَضُه الله ورسوله. وقد طلب رجل النصيحة مرة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: لا تغضب. وإن من آثار الصوم الصحيح الصبر، بل إن الصوم نفسه نَوْع من الصبر، بل هو نصف الصبر على حد تعبير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا لم يتحلَّ الإنسان بالصبر في رمضان؛ فإن في صيامه خلَلًا.
والصائم الصادق فَرِح بصومه، مُتَفائل به، راجٍ به المغفرة، فإذا تفاءل الصائم بصومه ورجا به المغفرة من الله تحلَّى بحُسْن الخلُق وبمكارم الأخلاق، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما بُعِثْتُ لأتَمِّم مكارم الأخلاق".(1/588)
في الاعتكاف في رمضان:
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخل المسجد قبل غروب شمس يوم العشرين من شهر رمضان حتى يستقبل ليلة الحادي والعشرين منه، ويبتدئ في العبادة ولا يخرج من المسجد، ولا يتحدث فيه مع أحد اللهم إلا للضرورة القصوى، إلى أن ينتهي رمضان.
وهذا الطريق هو الأكمل، وهو ما يُسَمَّى بالاعتكاف، وقد لا يَتَيَسَّر لبعض الناس فيكون الطريق الآخر، وهو التفرُّغ بقَدْر الاستطاعة للعبادة في البيت.
وسواءً أكان الإنسان مُتَّخِذًا طريق الاعتكاف أم طريق التفرغ بقدر الاستطاعة فإن العبادة وإحياء الليل في هذه الأيام يكون بقراءة القرآن والصلاة والذكر والدعاء.
أما قراءة القرآن فقد رُوِيَ في فضلها الكثير، من ذلك ما رواه البخاري عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمَه"، وما رواه الترمذي عنه: "مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف.
وقد وردت الآثار في الحث على سورة وآيات مخصوصة. والفاتحة أعظم سورة في القرآن.(1/589)
في رُخصة الفطر:
يقول الله ـ تعالى ـ: (شهرُ رَمضانَ الَّذِي أُنْزِل فيه القرآنُ هدًى للناسِ وَبَيِّناتٍ منَ الهُدَى والفُرقانِ فمَنْ شَهِدَ منكُمُ الشهرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مريضًا أو على سفرٍ فعدةٌ من أيامٍ أُخَرَ يُريدُ اللهُ بكم اليُسرَ ولا يُرِيد بكم العُسْرَ وَلِتُكْملوا العدةَ ولتُكَبِّروا اللهَ على ما هَداكُمْ ولَعلَّكم تَشكرونَ).
والآية الكريمة تُرشد إلى أن المريض يُفْطِر ثم يقضي ما أفطره فيما بعد حينما يُكْتَب الشفاء.
ويجوز له أن يقضي ما لم يَصُمْه يومًا يومًا، أي يَقِيه متفرقًا أو مُتَتابعًا بحسب الظروف المُوَاتية.
فإذا استمر به الضعف في العام الأول فلْيَقْضِه في العام التالي أو في العام الذي يَلِيه.
ولقد علَّل الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذا الفطر وإرجاء القضاء بتعليل جميل جليل هو قوله ـ تعالى ـ: (يُرِيدُ اللهُ بكم اليُسرَ ولا يُريد بكم العُسرَ) والجو جو تيسير، ولا فدية على المريض المُنْتَظِر الشفاء إذا تأخَّر الصيام، عامًا أو أعوامًا فيما رَوَى السادة الأحناف، وعليه أن يقضي حينما يَمُنُّ الله عليه بالشفاء.(1/590)
في مَن رُخِّص له بالفطر:
يقول حبر الأمة ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: "رُخِّص للشيخ الكبير أن يُفْطِر، ويُطعِم كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليه، وهذا الحكم إنما هو للرجل والمرأة على السواء، وهو حكم يتفق عليه جمهرة الأئمة، وهو حكم يسير في انسجام مع ما ورَد في آيات الصيام من قوله ـ تعالى ـ: (يُريدُ اللهُ بكم اليُسرَ ولا يريدُ بكم العسرَ)، والفدية بإطعام مسكين، ولقد روى الإمام البخاري في التفسير: أن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أطعم بعد ما كبَر، عامًا أو عامين ـ كل يوم مِسْكينًا، خبزًا ولحمًا، وأفطر، فإذا لم يقدم المُسِنُّ طعامًا ما وأراد أن يُقَدِّم نقدًا فإن المبلغ المُناسب في العصر الحاضر هو على التقريب مبلغ أربعين قرشًا.
ولا يجوز الصيام عن إنسان ما دام على قَيْد الحياة؛ لأن الصيام من الأمور التي لا يجوز فيها الإنابة مِثْل الصلاة سواءً بسواء.(1/591)
في حكم مَن يصوم رمضانَ ولا يُصلِّي:
إن هذا السؤال يتردَّد في أذهان كثير من الناس؛ وذلك لِما يَرَوْنَه في مُختلَف البيئات في المشرق والمغرب من عشَرات من الأفراد، بل من مئات منهم مَن يصومون شهر رمضان، بل يَسْتَعِدُّون له قبل مجيئه، وذلك مع تركهم للصلاة، ومن أجل ذلك نستفيض قليلًا في بيان أهمية الصلاة، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ:
الصلاة عماد الدين، مَن أقامها فقد أقام الدين، ومَن هدمها فقد هدم الدين.
وبعد، فقد يسأل سائل: وما حكم الصوم؟ ونقول: إن صومه صحيح، بمعنى أنه تأدية للفرض، وأنه لا عقاب عليه فيما يتعلَّق بالصوم، وحسابُه وعقابه إنما هو على تَرْك الصلاة، والله نرجو أن يُوفِّق هؤلاء الذين يصومون ولا يصلون إلى صراطه المستقيم.(1/592)
في مَن أخبره الطبيب بأن في الصوم ضررًا عليه:
إذا أخبره طبيب مسلم أو مأمون بأن في الصوم ضررًا عليه، أو كان لا يستطيع سنُّه جاز له الفطر ولو استغرق المرض شهر رمضان كله، وعليه إعادة صوم الشهر إذا بَرِئ من المرض وتَمَكَّن من الصوم، وأما إذا لم يبرأ من المرض فإنه يُخرِج فدية عن كل يوم من شهر رمضان.
وإذا كان شيخًا كبيرًا لا يستطيع الصوم فعليه فدية عن كل يوم إطعام مسكين يُطعمه من طعامه العادي، من غالِب قُوت البلد، أو ما يُعادل ذلك نقودًا يُقَدِّمها لمسكين أو مُحتاج، والأصل في ذلك قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا كُتِب عليكم الصيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم لعلَّكم تَتَّقُون. أيامًا معدوداتٍ فمَن كان منكم مريضًا أو على سفَرٍ فعدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ وعَلَى الذين يُطيقونه فِدْيةٌ طعامُ مِسْكينٍ فمَن تطوَّعَ خيرًا فهو خيرٌ لهُ وأنْ تَصوموا خيرٌ لكمْ إنْ كنتُمْ تعلمونَ).
وهكذا يرى السائل من بين ثَنايا الآية الكريمة ما قدمنا من الحُكم ويتعرَّف على سماحة الشريعة الإسلامية، ومُناسبة الإسلام لكل البيئات والظروف.(1/593)
في حكم مَن شَرِب الدواء في نهار رمضان ولكن لم يتناول شيئًا آخر، وبعد ذلك لم يستطع قضاء هذا اليوم لمدة ثلاث سنوات:
يقول الله في تحديد فترة الامتناع عن الأكل والشرب امتناعًا كليًّا: (وكُلُوا واشرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ ثم أتِمُّوا الصيامَ إلى الليلِ).
ومن الفجر إلى الليل ـ إذن ـ يَحْرُم تناوُل أي مأكولات، ويحرُم شرب أي مشروب عمدًا، فإذا فعل شيئًا من ذلك عمدًا فإن صيامه يَبْطُل، وشرب الدواء ـ إذن ـ في نهار رمضان مُفْطِر، وعلى مَن شرب الدواء قضاء يوم بدل اليوم الذي أفطر فيه.
يقول الله ـ تعالى ـ: (فمَنْ شَهِدَ منكم الشهرَ فَلْيَصُمْهُ ومَنْ كانَ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فعدةٌ منْ أيامٍ أُخَرَ يُريدُ اللهُ بكم اليُسرَ ولا يُريدُ بكم العسرَ).
أما كونه قد مضى عليه عام أو عامان أو ثلاثة أعوام فإن ذلك لا يُوجب شيئًا آخر غير صوم اليوم؛ لأن شارب الدواء معذور في إفطاره، فشرب الدواء ضرورة من الضرورات. فعليه ـ إذن ـ أن يُعيد صيام اليوم فقط.(1/594)
في مَن كان يُكثر الغسل في نهار رمضان هل يَصِحُّ صومه أو لا؟
لا فرق في الغسل بين رمضان وغيره، غير أنه يجب الاحتراز في أثناء الغسل في رمضان مِن أن يدخُل شيء من الفم أو الأنف لئلَّا يُفسِدَ الصوم.
ويقول الحسن ـ رضي الله عنه ـ كما أورده البخاري: "لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم".
وأخرج مالك وأبو داود ـ رضي الله عنهما ـ من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "رأيتُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعوج يَصُبُّ الماء على رأسه وهو صائم، من العطش أو من الحر".
والإمام البخاري ـ رضي الله عنه ـ لا يَكْرَه الاغتسال للصائم، ويقول الإمام ابن المنير في تفسير ذلك: لأنه إن كَرِهَه خشية دُخول الماء حَلْقَه؛ فالعِلَّة باطلة بالمضمضة والسواك، وإن كَرِهَه للرَّفاهية فقد استَحَبَّ السلَف للصائم الترفُّه والتجمُّل.
أما أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال عن نفسه: إن لي أَبْزَن أتقحَّم فيه وأنا صائم، والأبزن: حجر منقور يُشبه الحوض أو يشبه ما يُسَمِّيه الناس الآن "البانيو"، وأتَقَحَّم فيه، أي أدخل.
وفي رواية أخرى عن أنس ـ رضي الله عنه ـ يقول: "إن لي أبزن إذا وجدتُ الحر تقحَّمتُ فيه، وأنا صائم".
ويقول صاحب فتح الباري عن ذلك: "وكأن الأبزن كانا ملآنًا ماءً فكان أنس إذا وجد الحر دخل فيه يَتَبَرَّد بذلك".
وكل هذه الآثار تدل على أن للصائم أن يغتسل في نهار رمضان دون أن يُبطل ذلك صومه، ومن ذلك فإننا نقول: يَغْتَسِل في حدود المعقول دون إسراف.(1/595)
في حكم صيام مَن أصبح على جَنابة حتى طُلوع الشمس:
روى الإمام مسلم ـ رضي الله عنه ـ عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن عائشة زوجَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُدركُه الفجر في رمضانَ، وهو جُنُب من غير حِلْم فيغتسل ويصوم".
وروى الإمام مسلم ـ أيضًاـ عن عائشة ـ رضي الله عنهاـ: أن رجلًا جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَسْتَفْتِيه، وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله، تُدركني الصلاة وأنا جنُب، أفأصوم؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا تُدركني الصلاة وأنا جنُب فأصوم. فقال: لستَ مِثْلَنا يا رسول الله؛ فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر.
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمُكم بما أتَّقِي". ولقد ذهب سلمان بن يسار ـ رضي الله عنه ـ يومًا إلى أم سلمةَ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألها عن الرجل يُصبح جنُبًا من غير احتلام ثم يصوم، وكل ذلك يُرشد إلى أن مَن أدركَه الفجر وهو جنُب فعليه أن يُعَجِّل بالاغتسال حتى يُدرك صلاة الصبح ويُتِمَّ صوم اليوم.
وهذا كله مُوافق للقرآن الكريم، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ كما يقول الإمام النووي، أباح الأكل والمُباشَرة إلى طُلوع الفجر، قال الله ـ تعالى ـ: (فالآنَ باشِروهنَّ وابتغوا ما كتبَ الله لكم وكُلوا واشرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ).(1/596)
في إذا أكل وشرب ناسيًا... هل يفسد ذلك صومه؟
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا نَسِي فأكل وشَرِب فلْيُتِمَّ صومَه فإنما أطعمَه الله وسَقاه" فالأكل والشرب نسيانًا لا يُفسدان الصوم.(1/597)
تسأل كثيراتٌ من النساء عن الكحل هل يفسد الصوم أو لا يفسده؟
قال الحسن وغيره ـ رضي الله عنهم ـ:"إنه لا بأس بالكحل في رمضان، فاستعمال الكحل في رمضان لا يُفسد الصوم".(1/598)
في صيام المسافر:
إن السفر لا يُسقط فريضة الصوم، ولكنه يُتِيح للإنسان الحرية في أن يصوم ـ كما لو كان مقيمًاـ وفي أن يُفْطِر فإذا ما أفطر في رمضان بسبب السفر فإنه من الواجب عليه أن يقضي الأيام التي أفطر فيها حينما يُقيم.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: إن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن شئتَ فصُمْ وإن شئتَ فافطر"، وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كنَّا نسافر مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يَعِب الصائم على المُفْطِر ولا المفطر على الصائم.(1/599)
في مَن أدركه الفجر وهو غير طاهر:
ثبت أن بعض أئمتنا من المسلمين في الصدر الأول كان يُدركه الفجر ولم يغتسل بعدُ، ثم يغتسل متطهرًا ويُصلي ويتابع صيامه.
والفقهاء نَصُّوا على مَن أدركه الفجر وهو غير طاهر لا يُبطل صيامه بذلك، ومبطلات الصيام حدَّدها الفقهاء، وليس ذلك منها.(1/600)
في استعمال السواك في رمضان
يذكر الإمام البخاري ـ رضي الله عنه ـ أنه استاك وهو صائم.
وقال ابن سيرين ـ رضي الله عنه ـ: لا بأس بالسواك الرطِب، فقيل له: إن له طعمًا، فقال: والماء له طعم وأنت تتمضمض به، يريد أن يقول: إذا كان الماء لا يُفسد الصوم إذا تمضمض الإنسان به مع أن له طعمًا فإن السواك لا يفسد الصوم.(1/601)
في شمِّ العطر أو الأكل هل يفسد الصوم؟
شم العطر أو الأكل لا يفسدان الصوم، ورائحة العطر أو الطعام إذا استنشقها الإنسان لا تُبطل صومه؛ ذلك أن الصوم عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والإمساك فيما يتعلق بالطعام والشراب معناه العمل على عدم إدخال شيء منهما من مَدْخَلِه المعتاد، وهو الفم أو الأنف في بعض الأحيان.
أما رائحة العطر أو رائحة الأكل فلا تُعْتَبَر أكلاً مُعتادًا أو شرابًا معتادًا، إنها مجرد رائحة.
وانسيابُها إلى الحلق ليس انسياب طعام أو شراب، وإنما هو كانسياب النفَس. وليس في الصيام قطع للهواء أو إمساك عن النَفس، والإنسان هو يتنفس في الشارع مثلًا أو في أي مكان قد يشم الروائح العطرية، وقد يَشُمُّ الأطعمة الشهية.
فإذا كان صائمًا زادتْه رائحة الطعام شوقًا إلى الطعام. فيزداد احتياجه إلى قوة الصبر اللازمة لإتمام الصيام.
نعم: كَرِه بعض العلماء شمَّ تلك الروائح للصائم، مُبالغةً في الاحتياط؛ ولأنها تضر الصائم أكثر مما تنفعه، إذ تفتَح شهيَّته، وتُضعِف مقاومته لتأثير الطعام والشراب وغير ذلك مما يُمسك عنه الصائم.(1/602)
في الوِصال في الصيامِ:
روى الإمام البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تُواصلوا، قالوا: إنك تُواصل. قال: لستَ كأحدٍ منكم، إني أَبِيت أُطْعَم وأُسْقَى". وفي رواية لهذا الحديث: "إني أبيتُ عند ربي يُطعمني ويَسْقِيني"، ويرشدنا هذا الحديث الشريف إلى أن الوِصال في الصيام منهي عنه، ولكن بعض الصحابة حاول الوصال تأسيًا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وألحَّ في طلب الإذن من رسول الله بذلك، فأراد ـ صلوات الله عليه ـ أن يَقْسُوا عليهم ليزدجروا، وكان ذلك في رمضان، فواصَل بهم يومًا ثم رأوا الهلال فقال ـ صلوات الله عليه وسلم ـ: "لو تأخَّر عني الهلال لزِدْتُكم" أي: الوصال بهم بعد ذلك يومًا ثالثًا، قال أبو هريرة وذلك كالتنكيل لهم لَمَّا أَبَوْا ألا يَنْتَهُوا عن الوصال.
الوصال ـ إذن ـ منهي عنه نهيَ تحريم، إذا أضرَّ بالإنسان، ونَهْي كراهية إذا لم يُضِرَّ؛ لأنه ـ وإن لم يُضِرَّ ـ يبعث في الإنسان فُتورًا عن العمل، على أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخَّص في الوِصال إلى السحَر، فعنه ـ صلوات الله عليه ـ أنه قال: لا تُواصلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصل فلْيُواصل حتى السحَر ـ أي إلى ما قبل الفجر بوقت كافٍ لتناول الطعام والشراب.
ويُؤْخَذ من كل ذلك أن الوِصال خاصٌّ بالرسول ـ صلوات الله عليه ـ وأما الترخيص بالوِصال فإنما هو إلى السحَر فقط، وأن بعض الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يُريدون أن يُواصلوا، ولكنهم عدَلوا عن ذلك اتباعًا لأمره، صلوات الله عليه وسلامه.
وأما الطريقة المُثْلَى للصيام فإنها تعجيل الفِطْر وتأخير السحور كما ورد عن رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ من قوله: "لا تَزال أمتي بخير ما عجَّلوا الفطر وأخَّروا السحور"، والإنسان يُمْكِنه بالرياضة أن يُواصِل ثلاثةَ أيام، ولكن ذك في الإسلام حرام.(1/603)
في الغسل والاستحمام نهار رمضان:
لا مانع يمنَع الصائم من أن يغتسل أو يستَحِمَّ، في نهار رمضان؛ إذ الصوم عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجِماع، والاغتسال أو الاستحمام ليس فيه إحداث شيء يَخْرِق هذا الإمساك، وقد روى البخاري أن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ كان له أبزن يُشبه "البانيو" للاستحمام ـ يتقحَّم فيه، وهو صائم.
إن الغسل في نهار رمضان جائز ولا مانع منه، بل قد يكون واجبًا إذا ترتَّب على تأخيره فوات أوقات الصلاة.
وقد ورد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُؤَخِّر الغسل إلى ما بعد الفجر، روى البخاري بسنده، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن عائشة وأم سلمة أخبرَتَاه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُدركُه الفجر وهو جُنُب من أهله ثم يغتسل ويصوم.
والواقع أن الصيَام إمساك عن الطعام والشراب والجِماع من طُلوع الفجر إلى غروب الشمس، والإمساك معناه: منع دخول الطعام والشراب من المداخل المُعْتادة للحُلْقوم كالفم، وأحيانًا الأنف، ولا يَستَلْزِم الاستحمام خَرْق هذا الإمساك أو دُخول شيء إلى البطن.
فإذا ما غلب الماء على المرء في الغُسل أو الاستحمام فدخل في بطنِه فعليه القضاء وإلا فلا شيء عليه.(1/604)
في صائم يضطر لاستخدام دواء لعلاج رأسه، وجميع أجزاء جسمه في نهار رمضان فما حكمُه؟
إن حقيقة الصوم تكمُن في الإمساك عن شَهْوَتَي البطن والفَرْج من طُلوع الفجر إلى غروب الشمس.. ولذلك لابد أن يكون الصائم مُتَمَكِّنًا من نفسه، مُحْتَرِزًا من أن يدخل شيء إلى جوفه من المنافذ المُعْتادة كالفم والأنف.. وما عدا ذلك ممَّا لا يُمْكِن عادةً أن يصل شيء عن طريقه إلى الجوف لا نظر فيه، فاستخدام الدواء لعلاج الرأس أو غيره، من أجزاء البَدَن لا يؤدي إلى الفطر ما دام هذا الاستعمال بعيدًا عن أن يدخُل به شيء إلى الجوف عن طريق الفم أو الأنف، فإذا ما دخل شيء من الدواء عن طريق الأنف أو الفم "إلى الجوف" بطل صومه وأصبح مُفْطِرًا لخروجه عن حدِّ الصيام وحقيقته، وعليه أن يُعِيد اليوم.(1/605)
في هل يجوز للصائم أن ينام في الصباح وهو صائم؟
ورد في الآثار أن نوم الصائم عبادة؛ لأن فيه كف الجوارح وصيانتها عما حرم الله ـ تعالى ـ ومع ذلك فإن النوم بعد صلاة الصبح وقبل طلوع مما يكرَهُه الصالِحون، لقد كانت عادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُصَلِّي الصبح، ثم يأخذ في ذِكْر الله حتى تَطلُع الشمس، وقد روى الإمام الترمذي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله ـ تعالى ـ حتى تطلُع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حَجَّة وعُمرة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تامة تامة تامة": أي أن الحجة تامة، وأن العمرة تامة إذا فعل ما ذكره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إخلاص وخشوع.
ثم له أن يَنام بعد ذلك ما شاء الله إذا لم يكن عليه من الأعمال الواجبة ما يستلزم يقظتَه وانتباهه.(1/606)
في حكم مَن أخذ حقنة طبية تحت الجلد أو الوريد:
أخذ الحُقْنة تحت الجلد في نهار رمضان أو في الوريد يختلف باختلاف نَوْع الحقنة نفسها، فإن كانت الحقنة للتغذيَة وللتقوية، فلا تُؤْخَذ؛ لأن الحكمة من الصوم تنتفي بأخْذها؛ وذلك أن حقنة التغذية تقوم لدى أخْذها مَقام الطعام، أما إن كانت الحقنة لمجرَّد التداوي فإن جمهور الفقهاء على أنها لا تَضُرُّ بالصوم ولا تُفْسِد، وذلك أن جمهور الفُقَهاء يرى أن الذي يُفْسِد الصوم هو الطعام والشراب الذي يَصِل إلى الجوف عن طريق الفم، واستُثْنِيَ من ذلك حُقَن التغذية، والحِكْمة في هذا الاستثناء واضِحَة.
والنية التي يَنْوِيها الصائم في يوم صيامِه كلُّه هي أنه يَقْصِد الامتناع عن الطعام والشراب بقَصْد الصِّيَام، ولو قال عند ذلك: نَوَيْتُ صيام غدٍ من رمضانَ إيمانًا واحتسابًا لوجه الله الكريم اللهم يَسِّرْه لي وأعِنِّي، وتَقَبَّل مني، لَكان خيرًا، والتلَفُّظ بالنية ليس واجبًا بل هو مستحب، خصوصًا عند الذين يتشكَّكون هل نَوَوا الصوم أوْ لَا: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". ويكفي في النية أن يتهيَّأ الإنسان للسحور، وأن يتسحَّر بالفعل، بيد أنه لو لم يتسحَّر، ونوى ابتداءً من الليل أو في أثناء الليل، فإن ذلك يَكْفِيه ولو لم يتلفَّظ. وإنما نوَى بقلبه، فإن ذلك كافٍ، أيضًا.(1/607)
في إذا دخلت ذُبابة في حَلْق الصائم:
إذا دخلت الذبابة في حَلْق الصائم فإنه لا يُفْطِر؛ لأن دخولها بغير اختيار من الصائم وفي الحديث: "عُفِيَ عن أمتي الخطأ والنِّسْيان وما استُكْرِهُوا عليه".
ومن المعلوم أن دخول مِثْل هذه الذبابة لا يكون إلا قَسْرًا، وعلى ذلك فالصيام صحيح ولا قضاء على الصائم.
وقال البُخاري في صحيحه، قال الحسن: إن دخل حلقه الذباب فلا شيء عليه، وروى ابن عباس لقد نقل ابن المنير الاتفاق على مَن دخل في حلْقه الذباب، وهو صائم أن لا شيء عليه.(1/608)
في حكم مَن تَقَيَّأ في رمضان هل يَصِح صومه؟
القيء إذا خرَج قهرًا عن الإنسان فلا يُبطِل صومه، أما إذا استقاء عامدًا بشمِّ شيء يَقيئه أو إدخال يده في فمِه فإن صومَه فاسد وعليه القضاء فقط.
روى أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن درَعَه القيء ـ أي غلبه ـ فليس عليه قضاء، ومَن استقاء عمدًا فلْيَقْضِ".(1/609)
في مَن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه:
الزور: هو الباطل كله، وهو اللهو، وهو العبَث، وهو الإثم بجميع ألوانه، إنه الإثم قولًا يتمثل في الغِيبة والنميمة، والكَذِب، وغير ذلك من آثام اللسان الذي قالت العرب فيه: "مَقْتَل الرجل بين فَكَّيْه".
وهو الإثم فِعْلًا، ويتمثَّل في كل ما يأتيه الإنسان من أفعال على خِلاف السُّنَن الشرعية ممَّا نهَى الله ـ سبحانه ـ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه.
وإن من الأوصاف الجميلة التي مدح الله ـ سبحانه وتعالى ـ بها عباد الرحمن الصادقين أنهم لا يشهدون الزور، وإذا كانوا لا يشهدونه ولا يُشاهدونه فإنهم من باب أولى لا يقولونه ولا يفعلونه، ولا يأتُونه بوجه من الوجوه.
والحديث الشريف يقول في صراحة لهؤلاء الذين يَنْغَمِسون في الزور قولًا وينغمسون فيه فعلًا على خلاف ما أحب الله لعباده وما رَضِيَه للمؤمنين. يقول لهم: إن الله لا حاجة له في أن يَدَعُوا طعامهم وشرابهم مع إتيانهم ما نهى عنه، أي: أنه لا فائدةَ لهم من ثواب مَن قَبِلَه أو مَن رَضِي عنه أو مَن لهم منه، فإنَّهم أَخَلُّوا بقواعد الثواب ومبادئ الرِّضا وأُسُس المحبة.
وما من شك في أن الحديث مع هذا دعوة قَوِيَّة في توجيه المؤمنين إلى الرجوع إلى الله مُؤْتَمِرين بأمره، مُنْتَهِين عمَّا نهَى وتَعَرُّضًا للرِّضا الإلهي ورجاءً في قَبُول الصوم وكسب الثواب.(1/610)
في مَن أفطر على خمر:
مَن أفْطَر على خمر بطَل صومُه وعليه القضاء فقط، على رأي بعض المذاهب، وعليه إثم شُرْب الخمر، وحدُّ شاربها أربعون جلدة.
وبعض المذاهب الإسلامية يقول بقضاء اليوم الذي أفطره، وبالكفَّارة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يستطع أن يَعْتِق رقبة لعدم وجودها أو لعدم استطاعته دَفْع ثمنَها، صام ستين يومًا مُتَتابِعة غير اليوم الذي أفطره فإن لم يستَطِع أطعم ستين مسكينًا، يُعطي كل مسكين مُدًّا من غالِب قُوت بلده والمُدُّ نصف قَدَح تقريبًا.(1/611)
في معنى (فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخُرَ):
روى مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنهاـ قالت: "إن كانتْ إحدانا لتُفطِر ـ يعني في رمضانَ ـ في زمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما تَقْدِر على أن تَقْضِيَه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يأتي شعبان"، وهذا الحديث مُبَيِّن لقوله ـ تعالى ـ: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي: أن القضاء لا يلزم فيه أن يكون عَقِب رمضانَ مُباشرة إذا كان هناك عُذْر يمنع من المُسارَعة في القيام به، كاستعداد المرأة لزوجها، أو تأدُّبُها بعدم الصوم إلا في أيام صَوْمِه، بل قال الجمهور بجواز تأخُّر القضاء لغير عُذْر إذا كان الفِطْر في رمضان لعُذْر، وإذا أخَّر قضاء الصيام حتى دخل رمضان الآخر فإن كان لعذر ـ بأن دام مرضُه مثلًا حتى دخل رمضان الثاني ـ صام رمضان الحاضر ثم يقضي الأول، ولا فديةَ عليه عند الأئمة الأربعة والجمهور. وإن أخَّر القضاء لغير عُذْر فعليه مع القضاء فدية طعام مسكين.(1/612)
في إذا أفطر إنسان على أساس أن الشمس قد غربت ثم رأى الشمس بعد ذلك وهو لم يتعمَّد:
إذا أكل الصائم أو شرب ظانًّا أن الشمس قد غربت ثم تَبَيَّن له خلاف ذلك بأن كانت الشمس مُحْتَجِبَة في غَيْم ثم ظهرت أو كانت الشمس وراء مُرْتَفَع وعلاه فرآها فإنه يُعْتَبَر مُفْطِرًا في هذا اليوم، وعليه قضاء يوم بدل هذا اليوم، وهذا عند الأئمة الأربعة، ولا كفارة عليه؛ لأنه غير مُتَعَمِّد.
ولا إثم عليه؛ لأنه غير مُتَعَمِّد ـ أيضًاـ وإنما أخطأ التقدير، يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الإمام مسلم، عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا أقبل الليل وأدبَرَ النهار، وغابت الشمس فقد أفطر الصائم". والإمساك عن الأكل إلى غياب الشمس شرط في صِحَّة الصوم عند جميع الأئمة.(1/613)
في خروج المذي من الصائم هل يفسد الصوم؟
خروج المذي من الصائم لا يُفْسِد الصوم عند الحنفية والشافعية، وقال المالكية: إذا تسبَّب الصائم في إخراج المذي بقُبْلة أو نحوها، أو استدامة نظر أو فِكر فسد الصوم وعليه القضاء فقط، أما إذا خرج المذي لمرض فلا يفسد الصوم، كما لا يفسد إذا غلب عليه المذي فخرج بمجرد نظر أو فكر من غير استدامة، متى كان ذلك يكثُر عُروضه له، بأن كان حصوله مُساوِيًا لعدم حصوله في الزمن أو زائدًا، أما إذا كان عُروضه أقل من زمن ارتفاعه فإنه يفسد الصوم.
ويَفْسُد الصوم عند الحنابلة إذا مذي بيد غيره، أو بسبب تقبيل، أو لمس، أو مُباشرة دون الفرج ويجب القضاء فقط.(1/614)
في شأن الحيض:
قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأن الحيض: "هذا شيء كتبَه الله على بنات حواء". يعني لهنَّ العُذْر ولا إثم عليهن في ترك الصلاة والصيام في أثناء الحيض، لكن الصيام يُقْضَى دون الصلاة.
وقضاء أيام رمضان التي كانت في أثناء الولادة أو في أثناء الحيض لا يُشتَرط أن تكون مُتَوالِيَة، بل المهم أنها تُقْضَى لو مُتَفَرِّقة، سواء أكانت بسبب الحيض أم بسبب غيره.
وعلى هذا فصيامها الذي أكمل ثلاثين يومًا كافيًا في قضاء رمضان قضاءً صحيحًا.(1/615)
في حكم مَن أفطرت بسبب الوضع:
الحكم فيمَن أفطرت بسبب الوضع والمرض في رمضان عليها القضاء إلى رمضان المقبل، فإن لم تستطع بأن خافت على نفسها المرض بشهادة طبيب مسلم عدل، أو خافت على ولدها ـ إن صامت ـ أن يَمْرَض بسبب قلة اللبن، لم تَصُم وعليها الكفارة عن كل يوم أفطرته، وهو مُقَدَّر عند الشافعية بنصف قدح من قمح أو شعير أو ذرة من غالِب قُوت البلد، أو زبيب أو تمر أو أَقِط ـ وهو اللبن ـ وإن لم تَصُم حتى دخل رمضان الثاني فعليها عن كل يوم مُدَّان مما تقدم، هذا على مذهب الشافعي ومالك وأحمد ـ رضي الله عنهم ـ أما مذهب السادة الأحناف ـ رضي الله عنهم ـ فليس عليها إن لم تصم حتى دخل رمضان المُقبِل إلا مد واحد إن لم تَقْدِر على الصوم.(1/616)
ما حكم صيام مَن يحسد الناس ويتمنى لهم الشر؟
يقول الله ـ تعالى ـ: (يَا أيُّها الذينَ آمنُوا كُتِبَ عليكُمُ الصيامُ كما كُتِبَ على الذينَ من قبلِكُم لعلكم تتقونَ).
في هذه الآية الكريمة يُحدثنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه كتب علينا الصيام وفرضه لغاية مُعَيَّنة وهدف محدود ذكرَه الله ـ تعالى ـ في قوله: (لعلَّكم تَتَّقُونَ).
والتقوى هي اتُّقاء الله ـ سبحانه وتعالى ـ في القول والصمت، وفي الفعل والترك، أي أنها اتباع الله فيما أمَر، والانْتِهَاء عما نهَى، والصيام المقبول هو ما كان "إيمانًا واحتسابًا"، كما في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي: يَصُوم الإنسان على التصديق، والرغبة الطيبة بالصوم نفسه، غير كارهٍ ولا مُستثَقِل لأيامه، وصام لوجه الله ـ تعالى ـ وصدقَتْ نيته في النجاة، واستشرفت نفسه لمَرْضَاة الله وغُفرانه.
والإنسان الذي يُريد أن يصوم إيمانًا واحتسابًا ـ أي صيامًا مُتَقَبَّلًا ـ يفعل كما كان يفعل أسلافنا، فإنهم كانوا يُقَدِّمون التوبة والإنابة إلى الله، ويَرْعَوْن الله طيلة شهر الهداية فيما يأتون وفيما يَدَعون، فإذا لم يفعل الإنسان ذلك وإنما أخذ يحسد الناس ويتمنى لهم الشر فإنه لا يكون قد صام إيمانًا واحتسابًا، فيدخل في نِطاق الذين تشملهم الأحاديث النبوية الشريفة.
يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري: "مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يَدَع طعامه وشرابه"، وقول الزور والعمل به يدخل فيه الحسد وتَمَنِّي الشر؛ وذلك لأن الزور هو الباطل، وهو الشر، وهو الفساد على أي وضع كان، ومن أجل ذلك يقول الإمام الأكبر سفيان الثوري: "إن الغِيبة تُفسد الصوم"، ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه ابن ماجة: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".(1/617)
فالصائم الذي يحسد الناس ويتمنى لهم الشر ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ونسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يَهْدِيَه إلى التوبة الخالِصة النَّصوح ليدخل في نِطاق، من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه.(1/618)
في مَن جامَع زوجته في نهار رمضان:
أجمع الفقهاء على أن مَن جامَع زوجته في نهار رمضان فقد فسد صومه وعليه القضاء والكفارة، فأما القضاء فهو أن يَصُوم عِوَضًا عن اليوم الذي أفسد صومَه، وأما الكفارة فهي أن يصوم ستين يومًا مُتَتَابِعَة، ليس فيها عيد ولا يوم من أيام التشريق، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا فيُطعِم مسكينًا عن صيام كل يوم غداءً وعشاءً أو غداءين وعشاءين مُشْبِعَين تكفيرًا عن انتهاكه لحُرْمَة نهار رمضان؛ لما ثبت من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسولَ الله، هلكتُ وأهلكتُ فقال له: ماذا صنعتَ؟ قال: واقعتُ امرأتي في نهار رمضان مُتَعَمِّدًا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: اعتق رقبة. فقال: لا أملِك إلا رَقَبَتِي هذه، فقال: صُمْ شهرين، فقال: وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم، فقال: أطعم ستين مسكينًا فقال: لا أجد فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُؤْتَى بفِرْق من تمر ـ ويروى بعِرْق ـ فيه خمسة عشر صاعًا، وقال: فَرِّقْها على المساكين، فقال الرجل ما بين لابَتَي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي.
قال: فضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى بدت ثناياه، ثم قال: خذْه فأطعمه أهلك يجزيك ولا يجزي أحد بعدك، والفِرْق بسكون الراء: مكيال معروف بالمدينة، والعِرْق هو الزنبيل.
وأما مَن استمنى بيده، ـ هو ما يُسمَّى بالعادة السرية ـ في نهار رمضان متعمدًا فعليه القضاء فقط ولا كفارة عليه؛ لأنه، وإن وجد فيه معنى الجماع ـ وهو الإنزال بشهوة ـ فإنه لم تُوجَد صورة الجماع ولم تكتمل عنده الحالة المُوجِبة للكفارة، وإن كان ذنب ذلك كله عند الله عظيمًا.(1/619)
في إنسان أفطَر عَمْدًا فَلَزِمَتْه الكفَّارة، وبينما هو في صومها أفطر ـ أيضًاـ عامدًا أو غير عامد:
ذهب الإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعي ـ رضي الله عنهما ـ إلى أن مَن أفطر متعمدًا في شهر رمضان، وكان إفطاره بالأكل والشرب فإن عليه قضاء يوم واحد، وذهب أهل الظاهر جميعًا إلى ذلك ـ أيضًاـ وهو أن الأكل والشرب لا يُوجِب إلا قضاء يوم فقط، أما الأمر الذي يُوجِب الكفارة فهو الجماع عمدًا في شهر رمضان، فإذا جامَع في شهر رمضان فعليه الكفارة مُتَتابِعَة، فإن أفطر في أثناء الكفارة فعليه أن يُعيدها من جديد، اللهم إلا إذا كان إفطاره لعُذْر قاهر، فإنه في هذه الحالة يستمر في الكفارة ويقضي اليوم الذي أفطر فيه لعذر اضطراري يومًا واحدًا.(1/620)
في صدقة الفطر:
المصريون مسلمون، يلتزمون بأحكام الدِّين وحدوده، ومن ذلك صدقة الفطر فهم يُؤَدُّونها على الوجه الذي تَقَرَّر لها في الشرع.
وقد فرضَها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كل مسلم عن نفسه وعمَّن تَلْزَمُه نفقتُه صاعًا من غالب الطعام المُسْتَعْمَل في البلد، وهي صدقة لمَن يَمْلِك قوت يومه وليلته على مَن يملِك أقل منه، أو يشعر بأنه أشد حاجة إلى مطالب الحياة وأحوج إلى المُعاونة، يُخرجها المرء بنفسه إلى المُسْتَحِقِّين لا إلى الحكومة، وإذا ما قامت بعض الجمعيات بتحصيلها ممَّن يرغب في تقديمها وتوزيعها على المُستحقين كان ذلك حسنًا، ولكن لا يجوز أن يكون تحصيلها عن طريق السطوة والسلطان أو القهر والإلزام، ومما تقدَّم يمكن القول بأن الغني والفقير يشتركان في تقديم صدقة الفطر وإخراجها، بل إن بعض الناس يأخذها ممَّن فوقه لحاجته، ويُخرجها عن نفسه وعمَّن تَلْزَمُه نفقته إلى مَن هو دونه، ويشعر الجميع بفرحة العيد، ويُحَقِّقون حكمته وهي الجُود والبَذْل، وتحقيق أُخُوَّة الإسلام، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمه ولا يُسْلِمه ولا يَخْذُلُه، مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُرْبة من كُرَب الدنيا فرَّج الله عنه بها كُرْبَة من كُرَب يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة".(1/621)
هل زكاة الفطر واجِبَة على كل شيء؟ أو أنها تجب بشروط مخصوصة؟ وهل يُخرجُها الشخص عن زوجته؟
زكاة الفطر واجبة على كل مسلم وُجِد لديه من المال ما يَزِيد على حاجته، وحاجة مَن تَلْزَمُه نفقته، يوم العيد وليلته ويُخرِجُها عن نفسه، وعن كل مَن تَلْزَمُه نفقتُه من ذكَر وأُنثَى من المسلمين، الزوجة والأولاد، والخدَم المُتَكَفَّل بهم.
يقول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيما رواه الإمامان البخاري ومسلم: "فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين".
وعن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بزكاة الفطر أن تُؤَدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
وروى الإمام مسلم، بسنَد عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بإخراج زكاة الفطر أن تُؤَدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وتيسيرًا لأهل المُدُن نُعَرِّفهم أن أربعين قرشًا تكفي في سَعة عن الفرد الواحد، ويجوز أن يُخرجها الإنسان بمجرد الدخول في شهر رمضان، ويكون عنده شهر رمضان كله فرصة لإخراجها، والوقت المُسْتَحب للإخراج هو يوم العيد قبل صلاة العيد.
فقد روى البيهقي والدارقطني، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر، وقال: "اغنُوهم في هذا اليوم"، وفي رواية للبيهقي: "اغنوهم عن طواف هذا اليوم". وصدقة الفطر حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهي كأي حق من حقوق الله لا تَسْقُط بفَوَات وقتها، وإنما تستمر دَيْنًا على مَن لم يُؤَدِّها، ويكون في تأخيرها، إثم على مَن أخَّرها، وعليه أن يُعَجِّل بأدائها. وهي على كل حال دَيْن في ذِمَّته، يستمر حتى تُؤَدَّى، ولو في آخر العُمْر، وإذا مات قبل أدائها فعلى ورثته أن تُخرجها من تركته قبل تقسيمها.(1/622)
فعلى كل مَن لم يؤدِّ زكاة الفطر فيما مضى أن يُخرِجها الآن، فإنها مَطْهَرة للصائم من اللغو والرفَث، وثوابها عند الله جزيل.(1/623)
هل يجوز لشخص غني أن يتقبل الزكاة بعد صيام رمضان كقَبُول الهدايا أو الألماظ؟
لا يجوز للغني أن يتقبل الزكاة مطلقًا من أحد، سواء كانت تلك الزكاة زكاة فطر أو زكاة مال؛ لأن الله ـ عز وجل ـ بيَّن لنا في مُحكَم كتابه الأشخاص الذين تُصرَف الزكاة إليهم في قوله ـ تعالى ـ: (إنَّما الصدَقاتُ لِلْفُقَراءِ...) الآية، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما معناه: إن الذي يتعرَّض لسؤال الناس، وهو غني أو قادر على الكسْب يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم. والتحايل على أخذ زكاة الفطر باعتبار أنها هدية لا يجوز بحال من الأحوال؛ لأن الله لا يَخْفَى عليه خافِيَة. هذا وإن كانت هذه الزكاة المُؤَدَّاة زكاة مال مُدَّخَر كالذهب أو الفضة. فلا ينبغي له أخذها كذلك؛ لأنها ـ أي الزكاة ـ حق الفقير.(1/624)
في فضل الأيام العشرة الأخيرة من رمضان:
إن فيها أولاً فضل الذي في جميع أيام شهر رمضان، ثم هي تَزِيد على هذا بأنها مَظِنَّة ليلة القدْر التي هي خير من ألف شهر.
وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها، إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان طيلة حياته مُجِدًّا في العبادة، ولكنه كان في شهر رمضان يجتهد أكثر، ثم إذا حلَّ العشر الأواخر يتفَرَّغ إلى الله، عن السيدة عائشة ـ رضوان الله عليها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كلَّه، وأيقظ أهل وشدَّ المِئْزر، ومعنى شد المِئْزَر أنه شمَّر عن ساعد الجِدِّ، وكان بكِيانه كله نشاطًا واجتهادًا في العبادة .(1/625)
متى تكون ليلة القدْر؟ ومنزلتها في نظر الإسلام؟ ولماذا تُسَمَّى ليلة القدْر؟ وما الواجب نحوَها؟
في هذا الشهر المُبارَك، أُنزِل القرآن الكريم، يقول ـ سبحانه ـ: (شهرُ رمضانَ الذي أُنزِل فيه القرآنُ هدًى للناسِ وبَيِّناتٍ منَ الهدَى والفُرقانِ). ويقول ـ سبحانه ـ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في ليلة القَدْر. وما أدراكَ ما ليلةُ القَدْرِ. ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهرٍ. تَنَزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها بإذنِ رَبِّهِمْ مِنْ كلِّ أمرٍ. سلام هي حتى مطلع الفجر).
ولقد سمَّى القرآنُ الليلةَ التي نزلت فيها ليلة القدر، أي ليلة الشرَف والرِّفعة، ووصفها بأنها مُبارَكة، يقول الله ـ تعالى ـ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السمِيعُ العليمُ).
وما دام القرآن الكريم قد أُنْزِل في ليلة القَدْر، وأنه ـ سبحانه ـ قد أنزله في شهر رمضان، فإنه يَتَعَيَّن أن تكون ليلة القدْر في شهر رمضان.
وإذا نظرْنا إلى القرآن الكريم، فإننا نجد أنه لم يُحَدِّدْها، ولم يحددها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحديدًا تامًّا، وإنما حدَّد على التقريب. فإنه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ يقول فيما رواه البخاري ومسلم ـ رضي الله عنهماـ: "تَحَرَّوْا ليلةَ القَدْر في العشر الأواخر"، أي في العشر الأواخر من رمضان".
وتَحَرَّوْا أي: اطلبوها بجِدٍّ في العبادة، ثم يُقَرِّب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمر أكثر من ذلك، فيقول فيما رواه الإمام البخاري: "تَحَرَّوا ليلة القدْر في الوِتْر من العشر الأواخر من رمضان".(1/626)
روى الإمام أحمد عن عُبادة بن الصامت قال: "أخبرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ليلة القدْر، قال: هي في شهر رمضان في العشر الأواخر، ليلة إحدَى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو آخر ليلة من رمضان، مَن قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه".
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن قام ليلة القدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه".
يقول الإمام الصاوي في حاشيتِه على الجلالين: وأحسنُ ما يُدْعَى به في تلك الليلة العفو والعافية كما ورد.
وينبغي لمَن شقَّ عليه طُول القيام، أن يتخيَّر ما ورد في قراءته كثرة الثواب، كآية الكرسي، فقد ورد أنها أفضل آية في القرآن.
كأواخر البقرة؛ لِما ورد: مَن قام بهما في ليلة كَفَتاه، وكسورة "إذا زلزلت"؛ لِمَا ورد: أنها تَعْدِل نصف القرآن.
وكسورة "الكافرون" لِمَا ورد أنها تَعْدِل ربع القرآن.
و"الإخلاص": تَعْدِل ثلثه.
ويس لِما ورد أنها قلب القرآن، وأنها لِما قُرِئَت له.
ويُكثِر فيها من الاستغفار، والتسبيح والتحميد، والتهليل، وأنواع الذِّكْر، والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدعو بما أحب لنفسه، ولأحبابه أحياءً وأمواتًا. ويتصدق بما تَيَسَّر له، ويَحفَظ جوارحَه عن المعاصي.(1/627)
في صيام رجب وشعبان:
روى البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم حتى نقول: لا يُفطِر، ويُفطِر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استكمل صيام شهر غير رمضان، وما رأيتُه أكثر صيامًا منه في شعبان".
وعنها قالت:" لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله.
على هذا فلم يَصِحَّ، بل لم يَرِد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صام شهرًا كاملًا غير شعبان، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَنْهَ عن صيام شهري: رجب وشعبان، فمَن أراد صيامهما قبل رمضان فلا بأس وله ثوابه، ومَن أراد الاقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أن يصوم كثيرًا من رجب، وأن يصوم شعبان بأكمله فحَسَن، وثواب الصيام إيمانًا واحتسابًا كثير جدًّا.
ولكن الثواب لا يمنع من الحساب، وكل إنسان مُحاسَب ومُجزًى بما فعل، والصيام الصادق يدفع إلى العمل الصالح، ومَن عمل صالحًا أَمِن في الدنيا والآخرة، ولَقِي الله وهو عنه راضٍ، وإذا لم يدفع الصيام إلى العمل الصالح، فإن ذلك دليل على ضيَاع أو ضعف تأثير.(1/628)
في جواز صيام يوم العيد:
لا يجوز للمسلم صيام يوم العيد لنهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صوم يوم عيد الفطر، ويوم عيد النحر، روى البخاري ومسلم ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما عن عمر أنه قال في خطبة عيد: "إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم عيد الفطر ففطرُكم من صياكم، وأما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نُسُكِكم، وإلى هذا يُشير قوله ـ تعالى ـ فيما يتعلق بعيد الفطر: (وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) فإكمال العدة ـ أي عدة الصيام ـ ومتى كمُلت العدة فلابد من الفطر ليتحقق هذا الإكمال.
أما ما قيل مِن أن المسلم يجب أن يصوم ويفطر على قلب خروف العيد فلا أصل له، وهو اختراع في الدين مذموم؛ لأنه يُحَرِّم ما أحل الله ويَعْدِل عن وجوب الفطر كما جاء به الشرع إلى وجوب الصوم.
وأما القول بأن الخروف يجب أن لا يَأكُل شيء قبل ذبحه فهو ـ أيضًاـ من الخُرافات التي لا يجوز للمسلم أن يأخذ بها أو يُعَوِّل عليها، فلم تَرِد في كتاب ولا سنَّة، ولا في عمل السلَف، رضوان الله عليهم.(1/629)
في الصيام والمغفرة:
صيام يومي: الاثنين والخميس، خلال شهري: رجب وشعبان، طاعة مندوبة لله ـ تعالى ـ وليست طاعة أحد بمُوجِبَة على الله ـ تعالى ـ مغفرة ذنب الطائع لقوله ـ تعالى ـ: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
ومغفرة الله للعبد إنما تكون بمحض الفضل من الله ـ تعالى ـ وقد وعد عباده التائبين بمغفرة الذنوب جميعًا قال ـ تعالى ـ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، وقال ـ تعالى ـ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وأداؤك لفُروض الله ـ تعالى ـ منذ الصِّغَر يُقَرِّبُك من الله ـ تعالى ـ ما لم يتخلَّل طاعتك لله اقتراف كبائر الذنوب، أما صِغار الذنوب فإن الله واسع المغفرة، يغفرها جميعًا، وليست طاعة أحد لله ـ تعالى ـ بمُوجبة المغفرة لذنوبه؛ فإن مغفرة الذنوب بمحض فضل الله، عز وجل.
ومع ذلك فإن صيام يومي: الاثنين والخميس خلال شهري: رجب وشعبان، وأداء الفروض منذ الصِّغَر ـ فإن كل ذلك ـ يُهَيِّئ الإنسان لمغفرة الله ـ سبحانه ـ ولدخول الجنة، ومَن يفعل ذلك يتعرَّض لنَفَحات الله وتَجَلِّيَاته بالرحمة والمغفرة والرضا، والأمل كبير في فضل الله لِمَن يفعل ذلك.
وزكاة شهر رمضان لا يجوز إخراجها لِمُسْتَحِقٍّ لها من المسلمين الذين ذكرهم الله ـ تعالى ـ في كتابه، وليس منهم الآنَ إلا الفقراء والمساكين وابن السبيل، أما المسيحي فليس من أهلها؛ لأن القصد منها أن لا يكون ـ من المسلمين ـ يوم العيد مَن يحجزه الفقر عن مشاركة إخوانه المسلمين أفراحَهم.
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "اغنُوهم في هذا اليوم" أي يوم العيد.(1/630)
في مَن أتبع صيام رمضان بصيام ستة من شوال:
حكم مَن صام شهر رمضان إيمانًا واحتسابًا ثم أتبعَه بصيام ستٍّ من شوال، عن أبي أيوب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر". رواه مسلم، ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه" "رياض الصالحين".
وعلى هذا الأساس فصيام ستة أيام بعد العيد ـ وهو اليوم التالي مُباشرة ـ مُسْتَحَبٌّ، وله ثواب عليه، بشرط أن يكون صومُه لله إيمانًا واحتسابًا.(1/631)
في المال:
حدد الله ـ سبحانه وتعالى ـ لرأس المال وظيفة اجتماعية من الدرجة الأولى. تُحقق المصلحة لصاحبه وللمجتمع المُحتاج المُحيط به بفرض الزكاة التي تلت في أهميتها الصلاة التي فرضها الله ـ سبحانه وتعالى ـ لذاته العَلِيَّة. وحدد الزكاة للمحتاجين باعتباره ـ سبحانه وتعالى ـ مانح المال وصاحبه. فقال ـ تعالى ـ: (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدوا اللهَ مُخْلِصينَ له الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيموا الصلاةَ وَيُؤتُوا الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). وقال: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الذي آتاكُمْ).
وأصبح على مَن منحه الله المال إيتاء الزكاة بشروطها الشرعية. وكان عليه أن يؤدي الزكاة ولا يكتنز المال الذي يَنْقُص بأدائها في حالة اكتنازه دون توظيفه لمصلحته ومصلحة المجتمع الإسلامي. وبرزت الزكاة كدافع أساسي للمسلمين على تحريك رأس المال وتوظيفه لصالح صاحبه والمجتمع الإسلامي توظيفًا شرعيًّا طاهرًا بالمتاجرة أو بالتصنيع أو بالاستزراع لمَن يملِك الخبرة ورأس المال أو بالمُشاركة في التجارة أو الصناعة، أو الزراعة عن طريق عقد المُضارَبة لمن يَملِك رأس المال فقط ليتمكن من أداء زكاته واستثمار ماله.
وحدَّد الإسلام الطريق الشرعي إليه بديلًا عن المعاملات الربوية التي تَتَمَثَّل في إقراض أصحاب المشروعات بالربا المُحدد منسوبًا إلى رأس المال.
لهذا نرى فيما حدَّده الإسلام من معاملات شرعية ما يدفع المسلمين الذين وهبهم الله الخبرة والمال في التعامل بذواتهم فيما يُحَقِّق لهم ولمجتمعهم الخير، كما يدفع مَن لا يملكون الخبرة أو القدرة أو الوقت لمباشرة هذه المشروعات بأنفسهم إلى أن يُشاركوا أصحاب الخبرة بالمال فقط.(1/632)
وهنا تظهر حكمة الشرع الإسلامي في إباحة المُضاربة مما يُمَكِّن المُضارِبين بأموالهم رجالًا ونساءً من استثمار أموالهم، وفي نفس الوقت مُتابعة نجاح شركائهم أو تقصيرهم، أو نصيحتهم حينما تجب النصيحة؛ حفاظًا على أموالهم؛ فأموالهم ـ وإن كانت في يد أخرى ـ فإنها مُدَّعَمة بمتابعة يَقِظة مُخْلِصَة أمينة، تَحْمِل على إنجاح المشروعات التي تُوَظَّف فيها أموالهم لخدمة مصالحهم ومصالح المجتمع الإسلامي.
وكان تحريم الإسلام للربا؛ لأنه استعباد من الدائن للمدين، واستغلال بالقهر لاحتياجاته، كما أنه سلاح بتَّار في يد الدائن الذي لا همَّ له إلا استخلاص ماله مصحوبًا بالعائد الربوي المُحَدَّد الذي فرَضه على المَدِين دون مُراعاة لظروفه الخاصة أو للظروف العامة التي أحاطت بمشروعه حتى لو استنفد في سبيل ذلك ضرورات المَدِين وقُوتِه. مما قد يُودي بحياته.
لهذا كانت المُشاركة عن طريق عقد المُضاربة مشاركة أخوِيَّة رحيمة تتفق مع هَدْي الشريعة الإسلامية بأن يكونوا رُحَمَاء بينهم، ولهذا تتضافر جهود الشُّركاء لإنجاح المشروع فإن قدَّر الله له الربح فلهما، وإن قدَّر له الخسارة فعليهما، وهذا هو العدل.
فعلى حضراتكم أن تُقَنِّنوا شروط وتفصيلات المعاملات الشرعية في التجارة والصناعة والزراعة والخِدْمات وكافة المُعاملات الاقتصادية التي يَتَعَرَّض لها المجتمع الإسلامي المُعاصر، لينطلق إلى الآفاق التي نرجوها له، خصوصًا وقد منح الله المسلمين ثروات وقدرات اقتصادية هائلة يُمكن أن تُغَيِّر مسار المعاملات الاقتصادية العالمية غير المشروعة إلى معاملات طاهرة شرعية، تخدِم المجتمع الإسلامي والمجتمع العالمي في الوقت نفسه.(1/633)
في الزكاة:
تأتي الزكاة بعد الصلاة، في ترتيب منهج الحياة الذي نحن بصددِه. لقد مرَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إسرائه على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، فقال: مَن هؤلاء؟
فقال جبريل ـ عليه السلام ـ: هؤلاء الذين لا يُؤَدُّون زكاة أموالهم وما ظلمهم الله، وما ربك بظلَّام للعبيد.
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ولقد حارب عليها سيدنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وذلك أنه حينما انتقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى، قال بعض القبائل من الأعراب: إِنَّا نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنستمر نؤدي الصلاة ونصوم رمضان ونحج، أما الزكاة فإنها مادة ومال ولا شأن لله بذلك وأعلنوا الامتناع عن أدائها، فقال سيدنا أبو بكر: سأُحارِبُهم، فقيل له: كيف تُحارب مَن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فكانت إجابتُه أن الشهادتين لهما حقوق إذا امتنع إنسان عن أدائها فإنه يُحارَب عليها، وإن من حقوق الشهادتين أداء الزكاة.
وما من شك في أن الزكاة رابطة بين الإنسان وربه، إنها رابطة رضوان من الله، وأجر وثواب ونَماء وبَركة، ورابطة شُكْر من الإنسان لله ـ تعالى ـ على ما أنعم به وتَفَضَّل وأحسن، وهي من ناحية أخرى رابطة بين الإنسان وأفراد المجتمع الذي يعيش فيه، رابطة مودَّة وتعاطُف وتراحُم.
وقد أنذر الله ـ تعالى ـ المُمْتَنِع من أدائها وتَوَّعده بعذاب أليم.(1/634)
أما الذي يُؤَدِّيها: فقد ذكره الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيمَن رَضِي الله عنهم وأجزل لهم ثوابه يقول ـ سبحانه ـ: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظَّى. لا يَصْلَاهَا إِلَّا الأشْقَى. الَّذِي كذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُها الأتقى. الذي يُؤتِي مالَهُ يَتَزَكَّى. وما لأحدٍ عندَه من نعمةٍ تُجْزَى. إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّهِ الأعلى. وَلَسَوْفَ يَرْضى).
ويقول ـ سبحانه ـ: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِين يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بهِ يَوْمَ القيامةِ وَلله مِيراثُ السماواتِ والأرضِ والله بما تعملونَ خبيرٌ).
وبِجوار الزكاة يَحْسُن الحديث عن الصدقة، وسواء كانت بصدد الزكاة أو بصدد الصدقة فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أموالَهُمْ في سبيلِ الله كمَثَلِ حَبَّةٍ أنبتتْ سبعَ سنابِلَ في كلِّ سُنْبُلةٍ مائةُ حبةٍ واللهُ يُضاعفُ لِمَنْ يَشاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ويقول ـ سبحانه ـ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) ويقول ـ سبحانه ـ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شيءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقينَ). لقد رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صُوَر المُمْتَنِعين عن الزكاة، ورأى ـ أيضًا ـ فيما يراه النائم صُوَر آكلي الرِّبَا. ورأينا أن نتحدَّث عن الربا بعد الحديث عن الزكاة والصدقة مُباشرةً لِمَا بينهما من فَرْق هو الطريق بين الخير والشر.(1/635)
فقد رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهرًا من الدم يفور كفَوَرَان المِرْجل وعلى حافَّتَي النهر ملائكة بأيديهم نار. كلما اطَّلع طالع قَذَفوه بها فيقع فيه فيشتعل إلى أسفل ذلك النهر. فلَمَّا سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: أولئك الذين أكلوا الربا، فهم يُعَذَّبُون بها حتى يَصِيروا إلى النار. أما في رحلة الإسراء والمعراج فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بقوم بُطونُهم أمثال البيوت. كلما نهض أحدُهم وقع على الأرض، فلما سأل عنهم جبريلَ قال: "هم أَكَلَة الربا".(1/636)
في أمر الله نبيَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأخذ الزكاة:
يأمر الله ـ تعالى ـ نَبِيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل مَن قام مُقامه في وِلاية المسلمين ـ بأخذ زكاة المال ممَّن وَجَبَتْ عليهم في أموالهم للفقراء المُعْدَمِين، الذين ليس لديهم مال قط، ولا يَجِدون من العمل ما يَقْتَاتُون منه، وللمساكين الذين لديهم مال ولكن لا يَفِي بكل ما يحتاجون إليه من شئون المعيشة، وللعاملين عليها، والمُؤَلَّفة قلوبُهم من الذين أسلموا حديثًا، وفي عِتْق الرِّقاب للَّذين كُوتُبوا من ساداتهم واشتُرط عليهم لأجل عتقهم دفع مقادير من المال يَعْجَزُون عن سَدادها في مواعيد مُحَدَّدة، وللغارمين في مُصالَحات المُتخاصمين من المسلمين، وللجهاد في سبيل الله، ولابن السبيل المُسافر الذي نفَد زادُه كيلَا يُرِيق ماء وجهه بمَدِّ يده وسؤال مَن قد يَرُدُّه.
والزكاة تُطَهِّر نفس صاحبها من رذيلة الشُّحِّ وتُطَهِّر ماله من الآفات التي تَذْهَب به لو لم يُزَكِّه، قال ـ تعالى ـ: (خُذْ مِنْ أموالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهم بها وصَلِّ عليهم) في الآية أمر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومَن قام مقامه بالدعاء لمَن دفع زكاة ماله؛ فإن الدعاء له يجعله رَضِيَّ النفس مُطمَئِن القلب قَرِيرَ العين بما قَدَّم لدينه وللمسلمين من ماله ويجعله في كل شئونه مُقْبِلًا على الله غير مُدْبِر، ويُوَثِّق الصِّلَة بينه وبين حاكمه، وكفَى بذلك رباطًا بين المسلمين، وقصة الذين تَخَلَّفوا عن غزوة تبوك وأنزل الله في شأنهم قرآنًا: جاء سبعة من المؤمنين تائبين وأوثقوا أنفسَهم بسواري المسجد حتى تاب الله عليهم وأمر نبيَّه بأخذ صدَقات أموالهم منهم.(1/637)
في المجتمع والزكاة:
لو عَلِم الله وجود مجتمع لا يحتاج فيه فرد إلى الزكاة أو لا يُوجَد مصرف من المصارف التي حدَّدها الله لها ليس في حاجة إلى ما يَنْتُج عنها لَمَا فرضها، أو لَقَيَّد فرضيتَها بوجود الفقر أو وجود المساكين، ولَما توسَّعت مصارفُها هذا التوسع.
إن مصارف الزكاة مُتَعَدِّدة وفسيحة، يقول ـ تعالى ـ: (إنما الصدَقاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمُؤَلَّفةِ قلوبُهم وفي الرِّقابِ والغارمينَ وفي سبيلِ الله وابنِ السبيلِ فريضةً منَ اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ).
فالزكاة ليست مقصورةً على الفقراء والمساكين وإنما تشمل غيرَهم من مصارف الزكاة. وإخراج الزكاة ينبغي أن يكون أولاً للدولة، وهي التي تتولَّى توزيعها على مصارفها، ومن الواجب أن تأخذ الدولة الزكاة جَبْرًا ممَّن لا يُخْرِجها أو يتعلَّل في مَنْع إخراجها بعلة من العِلَل، وتتصرَّف فيها بما تراه تَبَعًا لتوجيه الشرع.(1/638)
في حِكْمة الزكاة:
إن الحكمة المقصودة من الزكاة قد ذكرها الله ـ تعالى ـ وبيَّنها في قوله ـ تعالى ـ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
أي تطهرهم من الذنوب وحب المال إلى درجة أن يَصْرِفَهم عن حب الله وعبادته، وتُزَكِّيهم وتُنَمِّي بها حسَناتهم، وتَرْفَع بها درجاتهم إلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين.
وذلك لِمَا في الزكاة من رَبْط الصِّلات وتوثيق العلاقات بين المُزَكِّي وآخذ الزكاة، ولِمَا فيها من الذَّهاب بالأحقاد بينهما، ولِمَا فيها من سدِّ الخلَل والتخفيف من آلام الحياة وضيق المعيشة، ولِمَا فيها من التقريب بين الطبَقات حتى لا تُكْسَر قلوب الفقراء بتكَبُّر الأغنياء عليهم.
ولِمَا فيها ـ أيضًاـ من تقليل الجرائم والحوادث من السرقة والقتل. إلى غير ذلك مما نسمع منه الكثير. بل إن أمر الزكاة يَسْمُو إلى محافظة الفقير على الغني الذي أُخِذ منه الزكاة.
والزكاة تُبارك في المال المُزَكَّى، وتكون سببًا في دفع كثير من الأضرار، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "حَصِّنوا أموالَكم بالزكاةِ، ودَاوُوا مرضاكم بالصدقة، ودافِعُوا أمواجَ البلاءِ بالدعاء والتضرعِ".(1/639)
في أداء الزكاة:
نرجو اللهَ أن يَجْزِي مَن يَتَحَرَّى تأدِيَة الزكاة على وجهها الصحيح خير الجزاء، وإننا لنُسَرُّ حينما نرى وحينما نسمع الاهتمام بأمر الزكاة التي يُهْمِلها بعض الناس في العصر الحاضر، والتي نأسَف حينما نرى أن إهمالها يَزِيد يومًا عن يوم مع أنها ركن من أركان الإسلام. قرنَها الله ـ سبحانه وتعالى ـ كثيرًا في كتابه العزيز بالصلاة، وحارَب عليها سيدنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ واعتبر مَن امتنع عن أدائها مرتدًّا.
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: لَمَّا تُوُفِّي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وكَفَر مَن كفَر من العرب "أي كَفَرُوا بامتناعهم عن تأدية الزكاة" فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: كيف نُقاتل الناس، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أُمِرْتُ أنْ أُقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمَن قالَها فقد عَصَم مني مالَه ونفسَه إلا بحقِّه، وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاتَلْتُهُمْ على مَنْعه. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شرَح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنه الحق.(1/640)
وكانت تَتَحرَّى تأدية الزكاة ـ أيضًاـ زينب امرأة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ وعنه قالت: كنتُ في المسجد فرأيتُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "تَصَدَّقْنَ ولو من حَلْيِكُنَّ"، وكانت زينب تُنْفِق على عبد الله وأيتام في حِجْرِها، قالت لعبد الله اسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أيجزِي عني أن أُنْفِق عنك وعلى ابنايَ في حجري من الصدقة؟ فقال: سَلِي أنتِ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلقتْ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجدتْ امرأة من الأنصار، وعلى الباب حاجتها مثل حاجتي، فمرَّ علينا بلال. فقلنا: سَلْ أيُجْزِي عني أن أُنْفِق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ وقلن: لا تُخْبِر بنا، فدخل فسأله فقال: مَن هما؟ قال زينب، قال: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله قال: نعم، ولها أجران: أجر القَرابة، وأجر الصدقة، والصدقة هنا بمعنى الزكاة، كما رأى ذلك الشافعي ـ رضي الله عنه ـ ولا يجوز نقلُها من بلد إلى بلد اللهم إلا إذا كان للمُزَكِّي قَرابة فقراء في بلد آخر على ما رآه الأحناف.(1/641)
في العَقارات العينية والزكاة:
العقارات العينية إذا كانت تُسْتَغَلُّ في سكَن مالكها فلا زكاة عليه فيها، فقد قرَّر الفقهاء أنه لا زكاة في دُور السكن وعبيد الخِدْمة وثياب البِذْلة، وأما إذا أُجِّرت فزكاتها فيما تَغُلُّه من الإيجار، فما يبقى من الإيراد عند دفع الضريبة وغيرها من المصروفات إذا بلغ نِصابه خاليًا من الدَّيْن، ومن الحاجات الأصلية، وحالَ عليه الحَوْل ـ وجبت الزكاة.
وتدخل هذه الزكاة في زكاة النقدين: الذهب والفضة، فإذا بلغ صافي الإيراد بعد الضريبة وغيرهاـ كما ذكرناـ ما يُساوي عشرين مثقالًا من الذهب أو مائتي درهم من الفضة وحال عليه الحَوْل وجبت فيه الزكاة، وهي ربع العشر أي 2.5% وللمُزَكِّي الخِيَار في التقدير بالذهب أو الفضة، وإن كان الأولى النظر لِمَا فيه مصلحة الفقير، فإن كان المال يبلغ ما يُساوي من الفضة ولا يُساوي نِصاب الذهب قُدِّر بالفضة.
وإذا كانت العقارات تُسْتَغَلُّ في التِّجارة، أي يُتَّجَر فيها بيعًا وشراءً، ودخلت في عُروض التجارة، فيُقَوَّم العقار ذاته وتُقَدَّر بنِصاب الذهب أو الفضة، وفي العقار إذا كان إيراده الشهري تسعين جنيهًا فإنه يَبْلُغ في السنة ألفًا وثَمانين جنيهًا يُخْصَم من هذا المبلغ 250 مائتان وخمسون جنيهًا الضريبة العقارية في السنة، ويُخْصَم كذلك جميع المصروفات التي تُنْفَق على العِمارة في الصِّيانة وغيرها، كما يُخْصَم ما يحتاج إليه المالك لنفسه، ولمَن تجب عليه نفقتهم، ويُخْصَم ما عليه من الدَّيْن، إن وُجِد ما يبقى بعد ذلك تَجِب فيه الزكاة إذا حال عليه الحَوْلُ، ويُقَدَّر بالذهب أو الفضة.(1/642)
في مِقْدار الزكاة:
استعمل أسلافنا ـ رضي الله عنهم ـ كلمة الصاع في بيان مِقدار الزكاة، والصاع عبارة عن سدس كيلة بالكيل المصري.
يقول أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: كنَّا إذا كان فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نُخرج زكاة الفطر، عن كل صغير وكبير حُرٍّ ومملوك صاعًا من طعام، أو صاعًا من أَقِطٍّ، والأقط هو الجبن، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزل نُخرِجه ـ أي: نخرج هذا الصاع من هذه الأصناف ـ حتى قدم معاوية حاجًّا أو معتمرًا، فاعتلى المنبر، فكان فيما كلَّم به الناس أن قال: إني أرى أن مُدَّين من سمراء الشام تَعْدِل صاعًا من تمر، أي: أن نصف صاع من تمر الشام تُساوي صاعًا من التمر. يُريد معاوية أن يقول: إن الكيلة من القمح على الخصوص تكفي زكاة فطر عن اثني عشر شخصًا.
يقول أبو سعيد: فأخذ الناس بذلك، أي برأي معاوية، بيد أن أبا سعيد لم يأخذ بهذا الرأي ويقول: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشتُ.
والواقع أن رأي أبي سعيد هو الرأي الأمثل فيما يتعلق بمصلحة الفقير، ومن هنا أخذ به الشافعي؛ إذن فإن الكيلة المصرية من الأصناف التي ذكرناها تكفي عن ستة أشخاص.(1/643)
في وجوب زكاة الزروع:
زكاة الزرع واجِبَة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال ـ تعالى ـ: (وَآتُوا حقَّهُ يَومَ حَصادِهِ) وحقه هو نصاب الزكاة، وقال: (يَا أيُّها الَّذينَ آمنُوا أنفِقُوا من طيباتِ ما كسبتُمْ ومِمَّا أخرَجْنَا لكُمْ مِنَ الأرضِ). ونصاب زكاة الزرع ـ أي مِقدار ما يخرج منها ـ حدَّده قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فيما سقت السماء والأنهار والعيون العُشْر، وفيما سُقِي بالساقية نصف العشر" والساقية: آلة السقي ووسيلته، ولا يُشْتَرط لوجوب هذه الزكاة مِلْك الأرض المزروعة، وإنما يُشْتَرط المِلْك التام للخارج من الأرض أو للزرع لعموم قوله ـ تعالى ـ: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ) وقوله: (وَآتُوا حقَّهُ يَومَ حَصادِهِ). وتحديد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنصاب زكاة الزرع دون اشتراط تَحَقُّق مِلْكية الأرض المزروعة؛ ولذلك كانت الزكاة على زارع الأرض مستأجرًا كان أو مالكًا.
وهذا هو ما جرى عليه الجمهور.
وعلى ذلك فالزكاة تجب على جُملة المحصول من الأرض المُسَدَّد ثمنُها أو غير المُسَدَّد ثمنها، ولا يُخْصَم منها شيء. ويجب على المالك إذا كان هو الزارع ما يجب على المُسْتَأْجِر من إخراج الزكاة، وعزلها بمجرد الحصاد دون مُراعاة لمقدار المصاريف كثُرتْ أو قَلَّت، استدان هذه المصاريف أو لم يَسْتَدِنْها.(1/644)
في نظام إخراج الزكاة بالنسبة للزارع:
إن النظام الذي ينبغي أن يُتْبَع في مِثْل هذه الحالة هو أن يُخرج المُزارع والمالِك لزكاة قبل تقسيم المحصول ثم قِسْمَته بعد ذلك.
أما إذا بدأ بقَسْم المحصول وأخذ المالِك نصيبَه فعلى كل منهما إخراج زكاة ما أخذ فقط، وإذا لم يُخرج المالك زكاة نَصِيبه فلا مسئولية على المُزارع، وعليه أن يُخرج زكاة ما خصَّه بعد القسمة أي يُخرج نصف العشر، إن كان الزرع يُسْقَى بالآلة، ويُخْرِج العشر إن كان يُسْقَى بغير الآلة.
وبهذه المناسبة نقول: إن الزكاة ركن من أركان الإسلام، والامتناع عن أدائها إنما هو هدم لركن من أركان الدين. إنها الركن الثالث يدفعها مَن تجب عليه لمستَحِقِّيها ليُحيى بها نفوسًا، ويُشبع بها بطونًا، ويَمسح بها دموعًا، ويُزِيل بها آلامًا، وينال بها ثوابًا وأجرًا من الله ـ تعالى ـ وقد جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ الزكاة برهانًا على الإيمان. يقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: "الصدقة بُرهان"، وكل مَن يُخادع نفسَه ـ إذن ـ فيَدَّعِي الإيمان ثم يمتنع عن أداء الزكاة فإن هذا الامتناع نفسه برهان كَذِبِه.
وإذا كانت برهانًا فإنها ـ أيضًاـ امتحان يَسْتَبِين فيه مَن أجاب داعي الله ومَن أعرض عنه. ثم هي تطهير للنفس وتزكِيَة لها، وتطهير للمال وتزكية له، قال ـ تعالى ـ: (خُذْ مِنْ أموالِهِمْ صَدقةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
والمال الطاهر المُزَكَّى ينمو باستمرار ويجعل الله فيه البركة، ويحفظه الله من التلَف، ويُبْعِد عنه الآفات ثم يُخلِفُه الله، وما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه، وهو ـ سبحانه ـ يُعَوِّضه أضعافًا مُضاعَفَة: (مَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أموالَهُمْ في سبيلِ اللهِ كمَثَلِ حَبَّةٍ أنبتَتْ سَبْعَ سنابِلَ في كلِّ سُنبلةٍ مائةُ حبةٍ واللهُ يُضاعِفُ لمَنْ يَشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ).(1/645)
في نِصاب الإبل:
أول نصاب الإبل خُمْس، ويُزَكَّى عنها بشاة لها سنة ودخلت في الثانية. أو عنزة لها سنتان ودخلت في الثالثة، وفي كل خمس شاة، فإذا وصلت خمسًا وعشرين، زُكِّي عنها بناقة صغيرة لها سنة ودخلت في الثانية.
فإذا وصلت ستًّا وثلاثين أخرج عنها ناقة لها سنتان ودخلت في الثالثة، فإذا بلغت ستًّا وأربعين أخرج عنها ناقة لها ثلاث سنوات، ودخلت في الرابعة.
فإذا وصلت إحدى وستين أخرج عنها ناقة لها أربع سنوات، ودخلت في الخامسة.
فإذا كان هناك رجل لديه من الإبل قطيع يُؤَجِّره فهل تجوز الزكاة منها أو من أجرتها؟
الإبل من الأنعام التي تجب عنها الزكاة.
وشرط وجوب الزكاة فيها أن تكون سائمةً، بمعنى أن تَرْعَى من الكلأ المُباح طول العام أو أكثره، وأن تبلغ نصابًا، وأن يحول عليها الحَوْل، وأن يقتنيها صاحبها للدَّرِّ والنسل.
فإن كان صاحبها قد اتخذها للعمل فلا زكاة عليها؛ لأنها فقدت شرطًا من شروط الزكاة، وذلك كما في موضوع السؤال.
أما أجرتُها، فإن بلغت نصابًا من الذهب والفضة وحالَ عليها الحول ففيها الزكاة.
في هل يصلح أن تخرج الزكاة من الديون التي في يد المَدِينين ولم يُسَدِّودها بعدُ؟
إن الله ـ تعالى ـ قد فرض الزكاة تزكيةً للمال وتطهيرًا للإنسان، وعطفًا على الفقراء، يقول ـ تعالى ـ: (خُذْ مِنْ أموالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). والصدقة في الآية الكريمة هي الزكاة المفروضة، ولقد حدد الله ـ سبحانه وتعالى ـ مصارف الزكاة في قوله ـ تعالى ـ: (إِنَّمَا الصدقاتُ للفقراءِ وَالمساكينِ وَالعاملينَ عليها والمُؤَلَّفةِ قلوبُهم وفي الرِّقاب والغارمينَ وفي سبيلِ اللهِ وابنِ السبيلِ فريضةً من اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ).(1/646)
وعلى ذلك فإنه يُنْظَر إلى المَدِين هل هو أحد مصارف الزكاة التي ذكرها القرآن أو لا، فإذا كان المَدِين لا يَنْطبق عليه أنه أحد مَصارِف الزكاة فإن الدَّيْن لا يُمكن أن يُعْتَبَر زكاة؛ لأن مصارف الزكاة مُحدَّدة بنص القرآن.
أما إذا كان المدين أحد مَصارف الزكاة فإنه في هذه الحالة يُمكن اعتبار الدَّيْن من الزكاة، ويكون في ذلك تيسير كبير على المدين، بشرط أن يعلم المدين أن ما عليه من دَيْن صار له من قَبِيل الزكاة.
ومن المعروف أن الدَّيْن لا تجب فيه الزكاة إلا إذا كان في يد الإنسان، وحالَ عليه الحَوْل فإنه حينئذ يُزَكَّى.
في الصدقة يُعْطَاها الإنسان إذا كان من أصحابها المذكورين في قوله ـ تعالى ـ: (إِنَّمَا الصدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ).
فإن كان من هؤلاء كان من أهل الاستحقاق، فإن كان غير صالح وعلم المتصدق أن الصدقة تُوَجِّهه إلى الخير وتَصْرِفه عن الشر فيكون إعطاؤها له من الخير؛ لأنه عمل على هداية، وسعى في خير، أما إذا علم أنه سيستعين بها على ارتكاب ما حرَّم الله فإنه يمنع منها سدًّا للذريعة، فإذا لم يَعلم عنه شيئًا فإنه يُعْطَى منها ما دام من مستحقيها.
ويَحْسُن أن يَخُصَّ الإنسانُ بالصدقة أهلَ الصلاح وأربابَ المروءات والخير، كما ورد في الحديث عن أحمد: "أَطْعِمُوا الطعامَ الأتقياء وأوُلو معروفكم المؤمنين".
قال ابن تيمية: "مَن لا يُصَلِّي من أهل الحاجات لا يُعْطَى شيئًا حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة؛ وذلك لأن ترك الصلاة إثم كبير لا يَصِحُّ أن يُعان مُقْتَرِفُه حتى يُحْدِث لله توبة".
ويُلْحَق بتارك الصلاة العابِثُون المُسْتَهْتِرُون الذين لا يَتَوَرَّعُون عن مُنْكَر، ولا ينتهون عن غَيٍّ، فهؤلاء لا يُعْطَوْنَ من الصدقات إلا إذا كان العطاء يُوَجِّههم الوِجْهة الصالحة، ويُعِينهم على صلاح أنفسهم بإيقاظ باعث الخير فيهم واستثارة عاطفة التديُّن.(1/647)
في إعطاء الزكاة للأقارب:
إن إعطاء الزكاة للأقارب الفقراء، تُعْتَبَر زكاة وصِلَة رَحِم وهي من أفضل من إعطائها لغيرهم ما دام هؤلاء الأقارب من الفقراء.
بَيْدَ أنه لا يجوز إعطاؤها للأصول أي: الآباء والأمهات، ولا الفروع أي: الأبناء والحفَدة؛ وذلك أن النفقة على هؤلاء واجبة على المُزَكِّي. أما غير الأصول والفروع فإنه يجوز أن تُؤَدَّى الزكاة إليهم.(1/648)
في إدارة البِرِّ والخيرات:
في وزارة الأوقاف إدارة تُسَمَّى البر والخير، تقوم بِتَلَقِّي طلَبات المحتاجين وبحثها بحثًا دقيقًا بواسطة الإخصائيين الاجتماعيين والباحثين، ثم تُقَرِّر صَرْف الإعانة لهم في حدود الميزانية المرصودة لها.
وكلما اتسعت ميزانية هذه الإدارة زادت قُدْرتها على تقديم الخيرات، ومن المُمْكن للسائل تقديم الزكاة إلى هذه الإدارة والتوصِيَة بصَرْفِها على الفقراء والمحتاجين.
ولا يُمكن القول بانعدام وجود مَن يَسْتَحِقُّ الزكاة نظرًا لتطور الحياة؛ ذلك لأن تطور الحياة يُوَسِّع دائرة المَطالب والاحتياجات، ويُوَسِّع الفجوة بين طوائف الناس فيما يتصل بالغني والفقير.
(إنَّما الصدقاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمُؤَلَّفةِ قلوبُهم وفي الرقابِ والغارمينَ وفي سبيلِ اللهِ وابنِ السبيلِ). وسبيل الله مَصْرف واسع يحتاج باستمرار إلى الموارد، وهو الآن أحوج ما يكون إلى ما يجب على الأفراد إخراجه كالزكاة ونحوها وما إلى ذلك.
فعلى السائل إخراج زكاته إلى ما اطمأنَّ إليه من المصارف، أو تقديمها، إلى جهات الاختصاص التي تنُوب عنه في ذلك كإدارة البر والخيرات.
وعليه ألا يستجيب لمِثْل هذه الخواطر التي تَحُول بينه وبين أداء ما ينبغي من الفرائض، ذلك لأن مثل هذا التعلُّل باعثه شيطاني مُضِرٌّ.
والمسلم الحقيقي لا يَتَعَلَّل لترك الفرائض التي فرضها الله وعلم باستمرار الحاجة إليها على الدوام.(1/649)
في الوصي على أولاد قُصَّر هل يُخرج الزكاة؟
نعم يَلْزَمُه أن يُخرج زكاة مال الأولاد القُصَّر الذين تَوَلَّى أمورهم بطريق أموالهم؛ لأن الزكاة حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ وحق الله يجب أداؤه وإلا فإن القانون الإسلامي يُبِيح للحاكم ـ حينئذ ـ أخذَه بطريق الإكراه ولو بالسيف، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أُمِرْتُ أن أُقَاتِلَ الناسَ حتى يَشْهَدُوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، ويُقِيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلام وحسابُهم على الله". رواه البخاري ومسلم.
وعدم أدائها قصدًا يُفَسَّق به الوَلِيُّ فيُعْزَل عن وِلاية هؤلاء القُصَّر؛ لأنه قد وَلِيَ عليهم وعليه واجبانِ: واجب لدَفْع الحرَج عنهم، بأداء ما وَجَب في أموالهم، وواجب تثمير أموالهم حسبما ينبغي في ذلك المال الذي تحت يديه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن وَلِي يتيمًا له مال، فلْيَتَّجِرْ له، ولا يَتْرُكْه حتى تأكله الصدقة". رواه الترمذي والدارقطني.(1/650)
في مَن لم يُخرِج الزكاة في عيد الفطر:
زكاة الفطر واجِبَة على كل مسلم وجد لديه من المال ما يَزِيد عن حاجته وحاجة مَن تَلْزَمُه ونفقته يوم العيد وليلته، ويُخرجها عن نفسه وعن كل مَن تلزمه نفقته من ذكر وأنثى من المسلمين، ويقول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيما رواه البخاري ومسلم: "فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين". ويجوز أن يُخرِجَها على الإنسان بمجرد الدخول في شهر رمضان، ويكون عنده شهر رمضان كله فرصة لإخراجها، والوقت المُسْتَحَبُّ للإخراج هو يوم العيد، فقد رَوَى البيهقي والدارقطني عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر، وقال: "اغنُوهم في هذا اليوم"، وفي رواية البيهقي: "اغنوهم عن طَوَاف هذا اليوم".
وصدقة الفطر حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهي كأي حق من حقوق الله لا تسقُط بفوات وقتها، وإنما تستمر دَيْنًا على مَن لم يُؤَدِّها، ويكون في تأخيرها إثم على مَن أخَّرها. وعليه أن يعمل على أدائها.
وهي على كل حال دَيْن في ذِمَّته يستمر حتى تُؤَدَّى ولو في آخر العُمْر، وإذا مات قبل أن يُؤَدِّيَها فعلى وَرَثَته أن تُخْرِجَها من تركته قبل تقسيمها.
فعلى كل مَن لم يُؤَدِّ زكاة الفطر من المسلمين أن يُخرجها الآنَ؛ فإنها مَطْهَرة للصائم من اللغو والرفَث.(1/651)
في الأعياد والصدقة:
إن أعيادنا الإسلامية أعياد مبادئ، وهذه المبادئ تتركَّز كلها وتَتَبَلْوَر في كلمة الإسلام، والواقع أن هذه الكلمة هي التعبير الصادق عن هدف كل العبادات والتكاليف الإسلامية، فالإسلام إنما هو إسلام الوجه لله، أن يُسلِم الإنسان كِيَانه كله لله، تعالى.
وقد سُئِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن معنى الإسلام فقال: "أن يَسْلَم لله قلبُك، وأن يسلَم المسلمون من لسانك ويدك".
ومن الحق أنَّه إذا أسلمَ القلب أسلمت الجوارح، بل أسلم الكِيان الإنساني كله، فكانت النفس وكان المال لله.
قال ـ تعالى ـ: (إِنَّ اللهَ اشترَى منَ المؤمنينَ أنفسَهم وأموالَهم بأن لهم الجنةَ).
إن في الجسد مضغة إذا صلُحت صلح الجسد كله، وهي القلب، وصلاح القلب إنما هو إسلامه، أو هو أن يُسلِم لله نفسه، فيكون ربانيًّا.
وهل هناك عقَبات أمام إسلام الوجه لله؟
إن من العقَبات التي تقف في سبيل إسلام الوجه لله ـ تعالى ـ حب المادة، وسيطرة المادة على البشر، واستعباد المادة للإنسان.
ومن أجل ذلك كان من مظاهر الأعياد الرسمية، وبتعبير أدقَّ من مظاهر الأعياد التي نحتفل فيها بمَن أسلَمَ وجهه لله ـ عن طريق الصوم، وعن طريق الحج، إذا كان الصوم وكان الحج سببًا في أن يُصلح الإنسان ما بينه وبين الله.
من مظاهر هذه الأعياد الاستعلاء على المادة ببذلِها وإنفاقها في سبيل الله، فصدقة الفطر استعلاء على المادة عام شامل، إنه استعلاء على المادة حتى من هذا الذي لا يَمْلِك منها الكثير.
الأضحية التي يُتَصَدَّق بالكثير منها إنما هي استعلاء على المادة وتَضحِيَة بها.
وهذا الاحتفال في جميع أرجاء العالَم الإسلامي بمَن أصلحوا ما بينهم وما بين الله ينبغي أن يكون عامًّا شاملًا، ولا يتأتَّى ذلك إلا إذا كان الفقراء والمساكين في سَعَة، ومن أجل ذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اغنُوهم في هذا اليوم"، ويقول: "اغنوهم عن طواف هذا اليوم".(1/652)
وإذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك بمناسبة عيد الفطر فهو سارٍ بالنسبة لعيد الأضحى، أيضًا.
ومن أجل كل ذلك ارتبطت الأعياد عندنا بالصدقة، أو ارتبطت بالاستعلاء على المادة من أجل إسلام الوجه لله.(1/653)
في إذا حان وقت الزكاة، وأنتَ تستعد بدفع أموالك، وفجأة ضاع المال كله قبل أن تتمكَّن من دفع الزكاة فماذا تفعل؟
إذا حالَ الحَوْل على المال الذي تجب فيه الزكاة وجب إخراجها، ولزم على صاحب المال المُبادرة إلى ذلك.
فإن هلك المال في هذه الحالة بدون تَعَدٍّ منه، وهو يَسْتَعِدُّ للإخراج فلا شيء عليه وسقطت عنه الزكاة، وإن هلك جزء من المال سقط نصيبُه من الزكاة.
أما إذا ضاع المال بسبب تَعَدٍّ منه فإن الزكاة لا تسقُط وتبقى دَيْنًا في ذِمَّة المُزَكِّي يجب عليه أداؤها عند الميسرة.(1/654)
في حقوق المال غير الزكاة:
وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقًا سوى الزكاة، كالنخعي والشعبي، وعطاء، ومجاهد، قال الشعبي بعد أن قيل له: هل في المال حق سوى الزكاة؟ قال: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ قوله ـ عز وجل ـ: (وَآتَى المالَ على حبِّه ذَوِي القُرْبَى واليتامَى والمساكينَ وابنَ السبيلِ والسائلينَ وفي الرقابِ وأقامَ الصلاةَ وآتَى الزكاةَ والمُوفونَ بعهدِهم إذا عاهدوا والصابرينَ في البأساءِ والضرَّاءِ وحينَ البأسِ أولئكَ الذينَ صدقوا وأولئكَ هم المتقونَ).
واستدلوا بقوله ـ عز وجل ـ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، وبقوله ـ تعالى ـ: (وَأَنْفِقُوا ممَّا رزقناكم). وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة، بل هو داخل في حق المسلم على المسلم، ومعناه أنه يجب على المُوسِر إذا وجد مُحتاجًا أن يُزِيل حاجَتَه، فضلًا عن مال الزكاة.(1/655)
في قِيام الأبناء بالصدقة على رُوح آبائهم وأمهاتهم.
إن قيام الأبناء بالصدقات ـ كالأغنام، والنقود.. الخ على آبائهم وأمهاتهم، وذلك في ليلة وصباح التاسع من شهر ذي الحجة سنويًّا والتزامهم ذلك جميعًا ذكورًا وإناثًا على السواء هذا العمل وتلك الصدَقات، وإذا كانت من أموال المُتَصَدِّقين خاصة ولم يكن فيها حق لقاصر أو يتيم فهي من أعظم ما ينفع الميت، وهي في الوقت نفسه ثواب وأجر للذكور والإناث، ثواب وأجر كامل لا نقص فيه، كأنهم تَصَدَّقوا على أنفسهم.
فهذا العمل له أجران كاملان: أجر للميت ورحمة وصدقة يُخَفِّف عنه العذاب إن كان في عذاب، ويرفع قَدْره، ويَزِيد في نعيمه، إذا لم يكن في عذاب.
وأجر آخر للقائمين بهذه الصدَقات، حيث إنهم المُتَسَبِّبون فيها، وهي من أطيب العادات التي تُقَرِّب الميت والحي من الله زُلْفَى، وتَزِيد البركة في الصحة والمال، وتدفع الكُرُبات، وتدفع الآفات، وتُخَفِّف وتُلَطِّف من وقع القَدَر على الإنسان، وهذا العمل له ثلاث جهات:
الأولى: أنه بِرٌّ بالوالدين.
والثانية: أنه صدقة.
والثالثة: صِلَة رحم.
وبر الوالدين كما يكون في حياتهما يكون ـ أيضًاـ بعد وفاتهما، أما في الحياة فهو الإحسان إليهما والإكرام لهما. وأما بعد وفاتهما فبالزيارة لقبرهما، وبالتصدُّق عليهما، والدعاء لهما.
وأما أنها صدقة وصلة رحم فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الصدقة على المِسْكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة".
وأما البركة في المال وفي الصحة والتخفيف من دفع القَدَر، فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "حَصِّنوا أموالَكم بالزكاة، ودَاوُوا مرضاكم بالصدقة، ودافِعُوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع".(1/656)
وعلى هذا فتلك عادة من أطيب العادات، وقُربة من أعظم القرُبات، تحدَّدت بوقت أم لم تُحَدَّد، على أن إخراجها في ليلة ويوم عرفات إنما هو توفيق من الله ـ سبحانه ـ فإنه يوم مُبارَك يُسَنُّ فيه الصوم على مَن ليس بعرفات، وتُسَنُّ فيه الصدقة وعمل الخير.(1/657)
في الصدقة في سبيل الله:
الصدقة في سبيل الله فضلُها كبير وثوابُها عظيم عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولقد حث عليها القرآن الكريم ورغَّب فيها، وورد في الحثِّ عليها والترغيب فيها كثير من الأحاديث والآثار.
قال ـ تعالى ـ: (مَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أموالَهُمْ في سبيلِ اللهِ كمثلِ حَبَّةٍ أنبتَتْ سبعَ سنابِلَ في كلِّ سُنبلةٍ مائةُ حبةٍ واللهُ يُضاعِفُ لمَنْ يَشاءُ واللهُ واسِعٌ عليمٌ).
وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "المرء في ظل صدقته يوم القيامة".
ومَن نَوَى أن يتصدق ثم حالت ظروف خارجة عن إرادته فحالت دون تنفيذ نيته فله ثواب هذه الصدقة.
أما مَن تصدَّق بأكثر من الصدقة التي نَوَاها فله ثواب ما تَصَدَّق به لا ما نواه فقط؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في إطلاق وفي تعميم الشمول: (مَن جَاءَ بالحسنةِ فلَهُ عَشْرُ أمثالِهَا).
وقال ـ جل شأنه ـ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذرَّةٍ شرًّا يَرَهُ)، والله يُضاعف ثواب الخير ولا ينقُص منه شيئًا، وقد يُثاب المرء برغم أنفه، كما ورد في الآثار.(1/658)
في ثواب الصدقة:
الصدقة لها ثواب عظيم عند الله، فلقد حث القرآن الكريم عليها ورغَّب فيها فقال ـ تعالى ـ: (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصدَقاتِ) وقال ـ أيضًاـ: (إِنَّ المُصَّدِّقينَ والمُصَّدِّقاتِ وأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حسنًا يُضاعَف لهم ولهم أجرٌ كريمٌ).
وقال ـ عليه السلام ـ: "المرء في ظل صدقته يوم القيامة"، وقال: "اتقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرة"، وقال ـ عليه السلام ـ:" ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب إلا كان الله آخذها بيمينه، فيُرْبِيها كما يُرْبِي أحدكم فُلُوَّه (الفُلُوُّ: المُهْر) حتى تبلُغَ التمرةُ مثل أُحد" إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة.
وإذا كان هذا ثواب الصدقة فلِلْمُتَصَدِّق أن يهَب ثواب صدقته إلى الأموات ليرحمهم الله.(1/659)
في أيهما أكثر ثوابًا: مَن يتصدَّق بفَضلات طعامه أو مَن يُخَصِّص طعامًا يتصدق به دون أن يتذوَّقه:
(يَا أَيُّها الَّذينَ آمنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وممَّا أخرَجْنَا لكمْ منَ الأرضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الخبيثَ منه تُنْفِقُونَ ولستُمْ بآخذِيهِ إلَّا أنْ تُغْمِضُوا فيه واعَلَمُوا أنَّ اللهَ غَنِيٌّ حميدٌ).
يأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين بالصدقة من طيبات أموالهم، قال حَبْر الأمة ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: "أمرَهم بالإنفاق ومن أطيب المال وأجودِه وأنفسِه، ونهاهم عن التصدُّق بحُثالة المال ودنيئته، وهو خبيثه؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طَيِّبًا".
ويقول الإمام ابن كثير: ولهذا قال: (وَلَا تَيَمَّمُوا الخبيثَ) أي: تَقْصِدُوا الخبيث. (ولستُم بآخذيه إلا أن تُغمضوا فيه)، أي: لو أُعْطِيتُمُوه ما أخذتُموه إلا أن تتغاضَوْا فيه؛ فالله غَنِي عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهونه، والهدف الذي من أجله ذكرنا هذه الآية الكريمة أن كثرة الثواب في الصدقة تابعة لطِيب المتصدَّق به وجودته، فإن كانت فضَلات الطعام في الأطهر والأجود والأنفس فثوابها أكبر، على أن كثرة الثواب في الصدقة متعلِّق بأمر آخر ـ أيضًاـ هو صفاء نية المُتصدِّق وإخلاصه وإرادته وجهَ الله ـ سبحانه ـ في تَصَدُّقه.
والخُلاصة أن كثرة الثواب إنما تكون على الطَّيِّب من الصدقة، أي أن يكون المتصدَّق به طيِّبًا في النَّوع وطيبًا من حيث نية المتصدِّق.
ويقول الله ـ تعالى ـ: (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنَّ اللهَ بهِ عَلِيمٌ).
ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما الأعمال بالنيات" فعلى قَدْر جودة المتصدَّق به وعلى قدْر صفاء نية المتصدِّق يكون الثواب.(1/660)
في حكم مَن أسهم بماله في بناء مسجد أو كنيسة:
إن المساجد لها شأن كبير، قال ـ تعالى ـ: (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَن آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ وأَقَامَ الصلاةَ وَآتَى الزكاةَ ولَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا من المهتدينَ).
وعِمارة المساجد كما تكون بالذَّهاب إليها والصلاة فيها والجُلوس بها تكون ببنائها وتكون بإصلاحها.
ويقول صاحب الكشاف: "العِمارة" تتناول رمَّ ما سقط منها وقَمِّها ـ أي كنسها ـ وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر.
وروى الإمامان: البخاري ومسلم عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن بنَى لله مسجدًا يَبْتَغِي به وجه الله ـ تعالى ـ بنى الله له بيتًا في الجنة"، والمُساهِم بماله في بناء مسجد ـ إذن ـ إنما يُسهم في عمل شريف حثَّ عليه القرآن وجعل صاحبه في عِداد المُهْتَدِين وحثَّت عليه السنة وجعلت صاحبه من أهل الجنة.
أما المساهمة في بناء كنيسة فإن ذلك مُحَرَّم على المسلم؛ لأنه يُعْتَبر نشرًا لدين غير دينه، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (إِنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ). ويقول: (وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسلامِ دينًا فَلَنْ يُقْبَلَ منهُ) فليس لمَن يُسهم في بناء كنيسة من المسلمين أجر، وإنما عليه وِزْر وإثم.
1(1/661)
في زكاة الزروع والخضر.
قرَّر الفقهاء أن زكاة الزروع والخضر تخرُج بعد قطعها، وزكاة الحبوب بعد كيلها وتنقيتها، وذلك ليُعْرَف مِقدار الخارج من الأرض فيُعْرَف بذلك حق الزكاة، قال ـ تعالى ـ: (وَآتُوا حقَّهُ يومَ حَصادِهِ)، قال: العلامة الألوسي في تفسيره لهذه الآية: "ليس الأداء وقت الحصاد والحب في سُنْبله، كما يُفْهَم من الظاهر بل بعد التنقية والتصفية".(1/662)
في الكفارة:
إن الكفارة من الأمور التي حدَّد الله كيفيتها تحديدًا دقيقًا لا لُبْس فيه، والآيات التي تتحدث عن مُخْتَلَف أنواع الكفَّارات لا تحتمل تأويلًا ولا صَرْفًا لها من ظاهرها. يقول الله ـ تعالى ـ في كفارة اليمين: (لَا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ باللغوِ في أيمانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بما عقَّدْتُم الأيمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عشْرةِ مساكينَ من أوْسطِ ما تُطعمونَ أهلِيكُمْ أَوْ كِسْوتُهُمْ أو تحريرُ رقبةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فصِيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلكَ كفَّارةُ أيمانِكُمْ إذا حَلَفْتُمْ واحفَظُوا أيمانَكُمْ كذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لعلَّكم تشكرونَ).
وفي هذه الآية يُبَيِّن الله الكفارة محددًا أنواعَها، فخيَّره بين عِدَّة أنواع، فإذا لم يتيسر له نوع منها أجاز له ـ سبحانه ـ النوع الرابع وهو الصيام، ثم قال ـ سبحانه ـ مُشيرًا إلى هذه الأنواع: (ذَلِكَ كَفَّارةُ أيمانِكُمْ إذَا حلفْتُمْ) فلا يجوز لمسلم أن يتخطَّى هذا التحديد.(1/663)
في حجم الصدقة:
يقول الله ـ تعالى ـ: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خيرٍ فَإِنَّ اللهَ بهِ عَلِيمٌ).
إن الذي يتصدَّق بقَدْر صغير أو كبير له ثوابُه، فإن تصدَّق بعشرة قروش وهو ينوي أن يتصدق بقرش فلْيَنْظُر إلى قلبه: هل فَرِح بذلك أو نَدِم عليه؟ فإن كان قد فَرِح فله ثوابهما وإن كان قد نَدِم فليس له إلا ثواب ما قصَد وهو القِرْش فقد يُثاب المرء برغم أنفه، قال ـ تعالى ـ: (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حبةٍ من خردلٍ أتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حاسبينَ) ثم إنه يتفاوت الثواب في القليل والكثير الذي يُنْفَق بحسب درجة الإخلاص وبحسب العُسْر واليُسْر.(1/664)
كسب شخص من اليانصيب خمسة وعشرين ألف جنيه وبنى بهذا المبلغ مسجدًا، واشترى بعض الحاجات بما بقي وأوْقَفها على المسجد، فهل هذا جائز شرعًا؟
إن الله طَيِّب لا يَقبل إلا طيبًا، وهذا المال حرام.. وما ينبغي أن يكون الحرام طريقًا للوصول إلى الله، والوصول إلى الله لا يكون إلا بما شرع الله.
قال ـ تعالى ـ: (يَا أيُّها الذينَ آمنوا أَنْفِقُوا من طيباتِ ما كسبتُم وممَّا أخرجنا لكم من الأرضِ ولا تَيَمَّموا الخبيثَ منه تُنْفِقُونَ ولستُمْ بآخذِيهِ إلا أن تُغْمِضُوا فيه واعلَمُوا أن اللهَ غَنِيٌّ حميدٌ).
والخبيث المَنْهَيُّ عنه في الآية كل ما حرَّم الله الانتفاعَ به لتحريم مصدره، كمالِ الميسر واليانصيب، ومال الاتِّجار بالخمر، والحشيش والأفيون، والربا من أي طريق كان.
والحاجات التي اشتُرِيَتْ بما بقي من ربح اليانصيب وأُوقِفت على المسجد وقفُها باطل، ولا ينعقد شرعًا، كبُطلان إقامة المسجد بهذا المال الذي حرَّمه الله، وحرم طريق الوُصول إليه.(1/665)
في حُكم مَن امتنع عن الزكاة:
لقد امتنع عن أداء الزكاة قبائل من العرب في عهد سيدنا أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فقاتَلهم ـ رضي الله عنه ـ على أنهم من المُرْتَدِّين، أي على أنهم كفروا بعد إيمان.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه الإمام البخاري قال: "لمَّا تُوفِّي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وكفر مَن كفر من العرب: فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: كيف تُقاتِل الناس وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أُمِرْتُ أن أُقاتِل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمَن قالَها فقد عصَم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابهُ على الله"، فقال: والله لأقاتِلَنَّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِناقًا كان يؤدونها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاتَلْتُهم على منعها.
قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: "فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فعرفتُ أنه الحق". فمَن امتنع عن الزكاة إنكارًا لها فهو كافر.
أما مَن امتنع عنها شُحًّا بها فإنه داخل في نِطاق المسلم العاصي، إنه داخل في نطاق مَن يقول الله ـ تعالى ـ فيهم: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أليمٍ. يومَ يُحمَى عليها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بها جِباهُهُمْ وَجُنوبُهم وظُهورُهم هذَا ما كَنزَتُمْ لأنفسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كنتُمْ تَكْنِزُونَ).(1/666)
في أول صلاة صلاّها رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى الشافعي في الأم بسنده عن ابن عباس، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أمَّني جبريل على باب الكعبة مرتين، فصلَّى الظهر حين كان الفَيءُ مثلَ الشِّراك، ثم صلَّى العصر حين كان كلُّ شيء بقدر ظله، وصلَّى المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلَّى العشاء حين غاب الشَّفَقُ، ثم صلَّى الصبح حين حرُم الطعامُ والشراب على الصائم، ثم صلَّى المرة الآخرةَ الظهرَ حين كان كلُّ شيء قَدْرَ ظله، ثم صلَّى العصر حين كان ظلُّ كل شيء مثلَيه، ثم صلَّى المغرب القدرَ الأولَ لم يؤخرها، ثم صلَّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلثُ الليل، ثم صلَّى الصبح حين أسفَرَ، ثم التفت فقال: يا محمد، هذا وقتُ الأنبياء من قبلِك فيما بين هذين الوقتين". ورواه أبو داود بنحوه عن ابن عباس أيضًا.
وفى هذا الحديث ما يدل على أن أول صلاة من الصلوات المفروضة صلاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي صلاة الظهر. ويجب أن نعلم أن أوَّلية الصلاة لا تَعني فضلاً ما لها على سواها. ومما لا شك فيه أن تحديد أول صلاة أَمَّ فيها جبريلُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدل على حرص كامل من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تسجيل تفاصيل هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وبيان التوجيه الإلهي الحميد والعناية الإلهية الكريمة بهذا الركن (الصلاة) حيث فُرض من أرفع مكان ليلة الإسراء، في أرفع موقف للرسول صلى الله عليه وسلم (قاب قوسين أو أدنَى) وتولَّى جبريل بالتدريب العملي تعليمَ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هيآته وأوقاته.(1/667)
في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المتفق عليه أن الصلاة المعهودة فُرضَت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء، عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: فُرضَت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة أُسريَ به الصلاةُ خمسين، ثم نقَصت حتى جُعلَت خمسًا، ثم نوديَ: يا محمد، إنه لا يُبدَّلُ القولُ لديَّ، وإن لك بهذه الخمس خمسين. أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح.
وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة صلاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها ما رواه الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ عن أبي حُميد الساعدي قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا ورفَع يديه حتى يُحاذيَ (يقابل) بها مَنكِبَيه، فإذا أراد أن يركع رفَع يديه حتى يُحاذيَ بهما مَنكِبَيه، ثم قال: "الله أكبر" وركَع ثم اعتدَل، فلم يصوِّبْ رأسه (يَخفصه) ولم يُقنِعْ، ووضَع يديه على ركبتيه، ثم قال: "سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه" ورفع يديه واعتدل (أرخَى يديه) حتى يَرجِعَ كلُّ عظم في موضعه معتدلاً، ثم أهوَى إلى الأرض ساجدًا، ثم قال: "الله أكبر" حتى جافَى (أبعَدَ) عَضُدَيه عن إبطَيه، وفتَح (ألاَن وأرخَى) أصابع رجلَيه، ثم ثنَى رجلَه اليسرى وقعد عليها، ثم اعتدل حتى يَرجِعَ كلُّ عظم في موضعه معتدلاً، ثم أهوَى ساجدًا، ثم قال: "الله أكبر" ثم ثنَى رجلَه وقعد واعتدل حتى يَرجِعَ كلُّ عظم في موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبَّر ورفع يديه حتى يُحاذيَ بهما مَنكِبَيه، كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع كذلك، حتى كانت الركعة التي تَنقضي فيها صلاتُه أخَّر رجلَه اليسرى وقعد على شقِّه متورِّكًا ثم سلَّم.(1/668)
وهنا صفات أخرى لصلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا فرق بينها إلا في بعض الهيئات، كقبضِ اليد على جسده وإرسالِها حال الوقوف، ونحو ذلك، وكل من الأئمة اعتَمَدَ ما رجَح عنده، والخلاف هنا ليس خلافًا مضِرًّا وإنما هو من باب التوسعة، وكلٌّ صحيح، فإذا قبَض المصلِّي يدَيه في أثناء الوقوف فصلاته صحيحة، وإذا أرسَلَ يدَيه في أثناء الوقوف فصلاته صحيحة. ويجب ألاّ تفرق أمثالُ هذه الأمور بين طوائف المسلمين، وذلك أنه لم يقل إمام من أئمة المسلمين قط إن من أرسَلَ يدَيه فسَدت صلاتُه، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين قط إن من قبَض يدَيه فسَدت صلاته، إن الصلاة صحيحة قبَض المصلِّي يدَيه أو أرسَلَها.(1/669)
في شروط الصلاة
لا يُشترط في الصلاة أن تكون في المسجد أو في مكان معين، بل تصح في كل مكان ما دامت شروطها من الطهارة واستقبال القبلة قد توافرت، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "جُعلَت لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا، فأيُّما عبدٍ أدرَكَتْهُ الصلاةُ فعنده طَهورُه ومسجدُه" وقد ورد في الصحيح أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصلي حيث أدركته الصلاة، فالصلاة في المدينة التي ليست بها مساجدُ جائزةٌ في أي مكان منها بشرط طهارته.
وهذا من فضل الله على المسلمين وقدسية الإسلام الرحبة التي لا تُحتم على المسلم ألاّ يصليَ إلا بين الجدران. بيد أن من حكمة المساجد أن يؤذَّنَ للصلاة فيها حتى يجتمعَ المسلمون فيَستأنسَ بعضهم ببعض ويتعارفَ بعضهم على بعض فيتعارفوا، ولذلك ينبغي على أهل المدينة من المسلمين أن يَتآزروا ويَتعاونوا على بناء مسجد يَجمع شَملَهم ويوحد جمعهم، ومع ذلك فإن الصلاة تجوز في أي مكان توافرت فيه شروط الطهارة واستَقبَلَ فيه المصلِّي القبلةَ. والشروط التي يلزم توافرُها لصحة الصحة، ويجب على المصلِّي أن يأتيَ بها، بحيث لو تَرَكَ شيئًا منها تكون صلاتُه باطلةً، هي:
1 ـ العلمُ بدخول الوقت بأي سبب من الأسباب التي يَتأتَّى بها العلم ولو بغلبة الظن.
2 ـ الطهارةُ من الحدث الأصغر والأكبر.
3 ـ طهارةُ البدن والثوب والمكان الذي يصلِّي فيه من النجاسة الحسية متى قدَر على ذلك.
4 ـ ستر العورة. وحدُّها في الرجل ما بين السُّرة والرُّكبة، وفى المرأةِ جميعُ البدن ما عدا الوجه والكفين.
5 ـ استقبالُ القبلة. لقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطرَ المسجدِ الحرامِ وحيثما كنتم فَوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَه).
6 ـ أداءُ الصلاة على وجهها. أي العلمُ بكيفية الصلاة، من قيام وقراءة وركوع وسجود وتشهد، فمتى توافرت هذه الأمور صحت الصلاة، وإن فُقد شيءٌ منها لا تصح الصلاة.(1/670)
في شروط ملابس المصلِّي
قال الله تعالى في مُحكَم كتابه: (وثيابَكَ فطَهِّرْ) ظاهر الآية يدل على أن تطهير الثياب من النجاساتِ واجبٌ في الصلاة محبوبٌ في غيرها، وذلك بغسلها، وبحفظها عن النجاسة بتقصيرها مخافةَ جرِّ الذيول فيها، وهو أول ما أُمر به من رفض العادات المذمومة.
وعلى هذا الأساس يجوز أن يصليَ بثياب عليها بقعة من العسل مع خلاف الأَولَى، والأفضل أن يُزيلَها؛ لأن بقاء العسل في الثوب يجمع عليه الذباب، وقد يَعلَقُ بالثوب بعضُ التراب، لأن العسل أقرب إلى أخذ التراب والأشياء الأخرى. هذا إن قدَر على إزالتها، أما إذا لم يقدر على إزالتها صلَّى بها ولا إعادةَ عليه (ص 219 من "فقه السنة" للأستاذ سيد سابق).
وإذا كان الإنسان يَستنكف أن يقابل عظيمًا من الناس بثوب مثل ذلك، فالمثول بين يدي الله عز وجل يجب أن يكون على الهيئة اللائقة بجلال الله.
والشروط التي يجب توافرها في الملابس في أثناء الصلاة:
أولاً، أن تكون طاهرةً أثناء الصلاة.
ثانيًا، أن تكون ساترةً للعورة.
ثالثًا، ألاّ تكون طويلةً بحيث تُجَرُّ على الأرض، وإنما تكون مرتفعةً قليلاً.
رابعًا، ألاّ تكون الثياب من الحرير الخالص.
خامسًا، ألاّ يكون على الثياب صورةُ تماثيلَ تَصرف بعضَ الناس إلى النظر، مثل حيوانات أو تماثيل، لكراهة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك.(1/671)
في الصلاة على الأرض الطاهرة
أجمع الفقهاء على صحة الصلاة على الأرض الطاهرة، فيستطيعُ الرُّعاة أن يُصلوا في مكان عملهم وبجوار أغنامهم ما دامت الأرض طاهرة، يقول صلى الله عليه وسلم: "جُعلَت ليَ الأرضُ مسجدًا وتربتُها طهورًا". فيصلي المسلم حيث وجَبت الصلاة غيرَ مقيَّد ببيت أو مسجد، وليست هناك ضرورة تُلجِئُ راعيَ الغنم في مثل هذه الحالة إلى تأخيرِ الصلاة عن وقتها أو الذَّهابِ بغنمه إلى البيت لأداء الصلاة فيَفوتَ وقتُ الرَّعْيِ على الأغنام، ويستطيعُ أن يصليَ الظهر في آخر وقته ويصلي العصر في أول وقته، وبذلك يؤدِّي الصلاة في وقتها ولا يَفوته من رعايته لغنمه وقتٌ طويل.(1/672)
في الأوقات التي تُكرَهُ فيها الصلاة
الأوقات التي تُكرَهُ فيها الصلاةُ ثلاثةٌ:
1 ـ عند طلوع الشمس حتى ترتفع.
2 ـ عند استوائها في وسط السماء حتى تزول.
3 ـ عند اصفرارها حتى تَغرُب.
هذه الأوقات الثلاثة نهَى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة فيها، وأخذ الأحناف من ذلك عَدَمَ جواز الصلاة في هذه الأوقات، إلا عصرَ اليوم، فإنه يُصلَّى مع الكراهة. وكَرِهَ غيرُهم الصلاةَ في هذه الأوقات. والشافعيةُ أجازوا الصلاة التي لها سبب في هذه الأوقات الثلاثة، مثل تحية المسجد، وعلى ذلك إذا دخل إنسانٌ المسجدَ في الأوقات الممنوعة فله أن يصليَ تحية المسجد عند الشافعية من غير كراهة؛ لأنها صلاةٌ لها سبب، وهو دخول المسجد.(1/673)
في النقطة الهابطة
إن كثيرًا من الناس ـ طلبةً وموظفين وعمالاً ـ يَسألون في هذا الموضوع:
يَتوضأ الواحد منهم، وفى نهاية الوضوء أو في أثناء الصلاة يحُس بقطرة ماء تنزل منه دون أن يكون عنده المقدرةُ على إمساكها، ودون أن يكون له اختيارٌ في عدم نزولها، ويُعيدون الوضوء ويُعيدون الصلاة، ويكون عندهم قليلٌ أو كثيرٌ من القلق فيما يتعلق بنجاسة الثوب.
إلى كل هؤلاء وأولئك نقول:
إن كُتُبَ بعض الفقهاء تتحدث في هذا الموضوع تحت عنوان (النقطة الهابطة) وكانت النتائج التي وصلوا إليها أن هذه النقطة الهابطة لا تَنقُضُ وضوءًا ولا تُبطلُ صلاة ولا تُنجِّسُ ثوبًا، وأن مَن أحَسَّ بها هابطةً في أي وضع كان فعليه ألاّ يُعيرَها التفاتًا. وهذا من يُسر الإسلام ومن تخفيفه على المسلمين حتى لا يكون عليهم في الدين من حرج.
فعلى المسلم أن يتطهر تطهيرًا كاملاً، ثم إذا هبطت منه بعد التطهرِ الكاملِ قطرةٌ ما من ماء بعد الوضوء فلا يلتفت إليها، وليس عليه إعادتُه، وإذا هبطت في أثناء الصلاة فلْيُكمِلْ الصلاة وليس عليه إعادتُها.
وهي لا تمنع مِن مَسِّ المصحف؛ وذلك لأن هذه النقطة لا تنقُضُ الوضوء، فمن هبطت منه فتَوَضأَ يفعل كلَّ ما يفعله المتوضئُ، من صلاة ومِن مَسِّ المصحف ومن العبادة الصادقة بجميع ألوانها.(1/674)
في الأذان
حين قدم الرسول ـ صلوات الله عليه ـ المدينةَ كان الناس يجتمعون إليه للصلاة في مواقيتها بغير دعوة، وحينما انتشر الإسلام في أطراف المدينة فكر الرسول ـ صلوات الله عليه ـ في وسيلة لإعلام المسلمين ودعوتهم لحضور الصلاة، وبينما هو في مشورة مع الصحابة في ذلك قدم عبد الله بن ثعلبة يقُص على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رُؤيَا، فقال له: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مر بي رجل عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسًا في يده، فقلت له: يا عبد الله، أتبيع لي هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قال: قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أُخبِرَ بها رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنها لَرُؤيَا حقٍّ إن شاء الله، فقُم مع بلال فألقِها عليه فليؤذِّنْ بها؛ فإنه أندَى صوتًا منك" فلما أذَّن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثلَ الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد على ذلك". أما حكم الأذان فهو سنة مؤكدة.(1/675)
في إضافات الشيعة للأذان
ليس مما أضافه الشيعة في الأذان من قولهم: (أشهد أن عليًّا وليُّ الله) أصلٌ مقبولٌ أو وجهٌ جائزٌ، وليس لقولهم في الأذان: (حيَّ على خير العمل) أصلٌ، إلا ما رواه الطبراني في الكبير ـ بسند فيه عبد الرحمن بن عمار بن سعد، ضعَّفه ابن معين ـ عن بلال أنه كان يؤذن للصبح فيقول: حيَّ على خير العمل. فأمَر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يَجعَلَ مكانها: "الصلاةُ خير من النوم" ويترك (حيَّ على خير العمل).
والأذان فعل شرعي، تواترت الأدلة على وقوعه، وعلى صيغته، وعلى ما فيها من اختلاف في أعداد التكبيرات وترجيع الشهادة ونحو ذلك، ولا يجوز الزيادة فيه أو عليه؛ لأن في ذلك افتِئاتًا على الشارع وخروجًا عن حدوده. وهو بوقته وصيغته وحدوده يجب التزامُه على ما ورَد ولا يجوز أيُّ تغيير فيه.
وعلى ذلك فلا حكمة لتلك الزيادات إلا المخالفةُ للسنة والافتئاتُ على الشارع استنادًا إلى روايات قد تكون مكذوبة وقد تكون ضعيفة. ومثل هذه الأمور المخالِفة للسنة يُعتبر الإصرارُ عليها كبيرةً من الكبائر وإن كانت في أمر غير واجب؛ لأنها تفرِّق بين الأمة وتُثير اضطرابًا وبلبلةً بين المسلمين.
وليس الأذان من الأمور السرية أو الأمور الخفية، لقد كانوا يؤذِّنون في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعهد خلفائه الراشدين فلم يَرِدْ عنهم أيُّ زيادة من هاتين الزيادتين أو التزامُها، وعلى فرض ثبوت الحديث الذي ذكرناه فإن (حيَّ على خير العمل) قد استُبدل بها "الصلاةُ خير من النوم" فلم يَبْقَ لها وجود.(1/676)
في فضل الصلاة وفى عقوبة الترك والتهديد عليه
وكيف ينسى الإنسان صلاةَ سنةٍ كاملة ويَدَعُ هذا الفضلَ الوافر الذي جعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها، والخيرَ الذي جعله الله سبحانه جزاءً عليها؟ قال تعالى: (وأقِمِ الصلاةَ إن الصلاةَ تَنهَى عن الفحشاءِ والمُنكَرِ) وقال جل شأنه: (إن الإنسانَ خلقَ هَلُوعًا. إذا مَسَّه الشرُّ جَزُوعًا. وإذا مَسَّه الخيرُ مَنُوعًا. إلا المصلِّين) وقال صلى الله عليه وسلم: "خمسُ صلواتٍ كتَبَهنَّ اللهُ على عباده، فمن جاء بهنَّ ولم يُضيِّعْ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقِّهنَّ، كان له عند الله عهدٌ أن يُدخلَه الجنة، ومن لم يَأتِ بهنَّ فليس له عند الله عهدٌ، إن شاء عذَّبه وإن شاء أدخَلَه الجنةَ".
وكيف يترك المسلم الصلاة أو يَتغافل عنها وقد ورَد التحذير على تركها بقوله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجلِ وبين الكفرِ تَرْكُ الصلاةِ"؟ ولَمّا أوشَكَ بصرُ ابنِ عباس أن يَذهب قيل له: نُداويك وتَدَعُ الصلاةَ أيامًا؟ قال: لا، إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن ترَك الصلاة لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبان" وآثَرَ ذَهابَ بصره على ترك الصلاة.(1/677)
في المحافظة على الصلاة
يقول سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيما رواه الإمام مالك : لا حَظَّ في الإسلام لمَن ترَك الصلاةَ.
وإن من الأدب النبوي الكريم أن يُؤمَرَ الأولادُ بالصلاة لسبع وأن يُضرَبوا عليها لعشر، ذلك لِيَرتاضَ الإنسانُ عليها ويُحيطَ بها عن طريق المران علمًا وعملاً. وعلى مَن ترَك الصلاةَ فترة من الزمن أن يبادر في غير تردد ولا تَوَانٍ إلى تعلمها وإلى أدائها، لا يَحول بينه وبين ذلك خَجَلٌ من الناس أو حياء، ويُمكنه أن يتعلمَها ممن لا يَعرفه، والمسلمون بحمد الله تعالى على استعداد تام لتعليم الصلاة وما يتصل بها بكل سهولة ويسر لمن لا يَعرفها، وكل كتاب من كتب الفقه به باب لشرح أوقاتها وكيفيتها، ومن خير الكتب في ذلك وأسهلها (كتاب إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي. فإذا تعلم الإنسان الصلاة، وتاب إلى الله توبة نصوحًا، وقَضَى ما فاته بأن يصليَ مع كل صلاةٍ ما وفَّقه الله لأدائه، أو يَقضيَ في كل يوم صلاةَ يومٍ أو أيامٍ ـ ذلك أَرجَى لمغفرة الله له.(1/678)
في القصد من الصلاة
من صلى الصلاة على أنها حركات رياضية تُفيد البدن فقد خرَج بها عما شُرعت له وما قُصدت به، فالحركات الرياضية متعددة ومتنوعة، وليست محدَّدةً بشروط خاصةٍ؛ من طهارةٍ وإخلاصٍ ووقتٍ محددٍ وشروطٍ خاصةٍ، وقد لا يستطيع القيامَ بها الرجلُ الكبير أو الطفلُ الصغير. ولكن الصلاة في حقيقتها عبادةٌ تعبر عن الإيمان وتدل على الصدق فيه، وشروطُها الإخلاصُ فيها لله وحده، فلا يُقصد بالطهارة نظافةُ الظاهر فقط، ولا يُقصد بحركات الصلاة تنشيطُ الجسم، وهكذا، ولا يَنصرف عما يَتلوه من قرآنٍ أو يَنطق به من ذكرٍ.
ومع ذلك فهل في الصلاة حركات رياضية؟
الواقع أن الصلاة، مع ما فيها من عبادةٍ لله تعالى وقيامٍ بما أوجَب فيها، تنشيطٌ للجسم، وأن حركاتها ـ فيما يرى العارفون بتركيب الأعضاء وألوان الحركات ـ من أعظم الحركات فائدةً لجسم الإنسان في كل مراحله. وكأنما أراد الله تعالى أن تكون الصلاة جامعةً لفائدة الجسم والنفس وخير الدنيا والآخرة.
ونظرةُ الناس للصلاة تختلف؛ فمن يهتم بالآخرة وصلاح النفس والمشاعر ورضا الله لا يرى منها سوى الجانب التعبدي. ومن يهتم بالدنيا وصلاح الجسد ولا يهتم بالآخرة ورضا الله لا يرى منها سوى الجانب الرياضي أو الحركي. والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَثَلُ الصلواتِ الخمسِ كمَثَل نهرٍ جارٍ عَذبٍ على بابِ أحدِكم يَغتسلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، فما يَبقَى بعد ذلك من الدَّنَس؟". وعلى ذلك فإنه يجب أن يُقصد بالصلاة أداءُ الفرض الذي أوجبه الله تعالى على جميع البالغين العقلاء، مرضاةً لله ورغبةً في ثوابه، أما ماعدا ذلك من الفوائد فإنها تأتي تبعًا ولا تأتي على أنها هدف أو غاية، فغايةُ الصلاة أداءُ الفرض ومراضاةُ الرب.(1/679)
في الصلاةُ طريق للوصول إلى الله تعالى
الطاعة ـ ومنها الصلاةُ ـ كانت ولا تزال منذ الأزل وإلى أن يَرِثَ الله الأرضَ ومَن عليها وهو خيرُ الوارثين طريقًا للوصول إلى الله تبارك وتعالى والقرب منه جل وعلا. وللطاعة الموصِّلة إلى الله تبارك وتعالى شروطٌ لا غنَى عنها، وهي منها بمنزلة الروح من الجسد، تلك الشروط هي:
1 ـ أداؤها على الوجه الصحيح الذي صحت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 ـ أداؤها في الأوقات المحددة لها إن كانت ذات وقت، وإن فات وقتُها لعذر شرعي قُضيَت ولا تُترَكُ؛ لأنها دَين على مؤدِّيها لله تعالى لا خلاصَ له منه إلا بأدائها.
3 ـ تخليصها من شوائب الهوى المستَتبِعِ مصلحةً دنيويةً أو حالاً من الأحوال التي اشتهر بها بعض الصالحين، من الكشف ونحوه، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل اللهَ أعبُدُ مخلِصًا له ديني).
4 ـ التخلصُ من المَذَامِّ كلها بالإقبالِ على الله وتَرْكِ المحرماتِ والمكروهاتِ والرفقُ بالناس في حدود ما أمر الله.(1/680)
متى فُرضت الصلاة
الصلاة فُرضت ليلة الإسراء والمعراج، وقبل ذلك كان المسلمون يصلون ركعتين، وقد علَّم جبريل عليه السلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف يصلي، ثم علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابَه وانتقلت إلينا كيفيةُ الصلاة بالتواتر.(1/681)
في فرض الصلوات كلها في وقت واحد
قال الله تعالى: (إن الصلاةَ كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا) أي فرضًا مؤقتًا بأوقات محددة. وقال أيضًا: (وأقِمِ الصلاةَ طَرَفي النهارِ وزُلَفًا من الليلِ).
أخذ العلماء من الآية عدد الصلوات، فطَرَفَا النهار: الصبحُ في أوله، والظهرُ والعصرُ في آخره، وزُلَفًا من الليل: المغربُ والعشاءُ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمسُ صلوات كتَبهنَّ الله على العباد" رواه أحمد. وروى البخاري ومسلم أن أعرابيًّا جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثائرَ الشعر فقال: يا رسول الله، أخبِرني ما فرَض الله عليَّ من الصلوات. فقال: "الصلوات الخمس".
وقد فُرضت هذه الصلوات الخمس في وقت واحد ولم تُفرض متفرقةً الواحدةَ بعد الأخرى.
أما كيف فُرضت هذه الصلوات، فإنها فُرضت في ليلة المعراج حينما تجاوز ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ السماوات سماءً سماءً، وحينما فُتحت له السماواتُ: سماواتُ المعرفة وسماواتُ المكانة والسماواتُ المادية، في تلك الليلة المباركة التي وصل فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سدرة المنتَهَى، وهي الحد الفاصل بين عالم المادة وعالم الروح، ثم تجاوَزَ ذلك إلى مرتبة أعلَى، هي ما سماها الله سبحانه وتعالى بقوله: (قاب قوسَين أو أَدنَى) فأوحَى الله إليه ما أوحَى، وكان مما أوحاه الله إليه في تلك الليلةِ الصلاةُ، ومن أجل ذلك كانت الصلاة معراجَ المؤمنين، يناجُون فيها ربهم ويتقربون بها إليه.(1/682)
في تعويد الأولاد على الصلاة
يهتم الإسلام اهتمامًا كبيرًا بإعداد المسلم وتعويده على مطالب الإسلام وتأديبه بآدابه، والصلاةُ من أهم أركان الإسلام، وآياتُ القرآن وأحاديثُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ متعددةٌ ومتنوعة في الأمر بإقامتها والتحذير من التهاون فيها، قال تعالى: (وأقيموا الصلاة) وقال: (اتْلُ ما أُوحيَ إليك من الكتابِ وأقِمِ الصلاةَ إن الصلاةَ تَنهَى عن الفحشاءِ والمُنكَرِ) ولأن الصلاةَ تَنهَى عن الفحشاءِ والمُنكَرِ، ولأنها صلة بالله سبحانه، ولأنها معراج المؤمن إلى الله سبحانه فقد عمل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يَغرِسَها المسلمون في أبنائهم منذ الصغر.
وللصلاة شروطٌ وأركانٌ وآدابُ. وتحتاج الصلاة إلى إيمان راسخ وعزم قوي وتعويدهم عليها وتعليمهم إياها بل ضربهم عليها. وحدد السن الملائمة للتربية بالحسنى والموعظة الطيبة والسن المتطلبة للضرب والتعنيف، روى أبو داود وأحمد والحكم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناءُ سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع". فأدنَى سنٍّ يجب علينا فيه تعليمُ الولد الصلاةَ سنُّ السابعة، ويستمر ذلك التعليم والتهذيب ثلاث سنوات كاملة، فإذا لم تُثمر تلك الطريقةُ في حملِ الصبي على الصلاة وتعويدِه ضرَبناه على ذلك وسنُّه عشر سنوات، وهو أسلوب تربوي جميل يُثمر كل خير ويَدفع كل شر، ولا يستطيع كشف علمي أن يعارضه، قال الشاعر:
ويَنشأ ناشئُ الفتيان مِنّا على ما كان عَوَّده أبوه
ويقول صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" ثم يقول: "والرجلُ راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته". ومِن رعيتِه أولادُه خصوصًا إذا كانوا من الصغار، فيجب تعويدُهم منذ الطفولة على الصلاة، حيث تَنهاهم عن الفحشاء والمنكَر، وفى ذلك خير كثير.(1/683)
الصلاة تفرق بين المؤمن والكافر
بين الكافر والمسلم تركُ الصلاة، أما أعمال الخير التي يؤديها المسلم فله ثوابُها؛ لأن الله لا يُضيع أجر المحسنين، ولكنها مهما كثُرت لا تُغني عن الصلاة ولا تسُد مَسَدَّها، وقد يكون الخير الذي يَعمله نافلةً لا يُعاقَبُ على تركها، ولكن الصلاة فريضة يُعاقِبُ الله تعالى عليها مَن لم يؤدِّها كاملة. وأما حفظ القرآن فليس فرضًا على كل مسلم، ولكن لابد أن يحفظ كل مسلم منه آياتٍ يستعملها في صلاته.(1/684)
في جواز قراءة المصلي القرآنَ نَظَرًا من المصحف
يجوز للمصلي أن يقرأ من المصحف نظرًا وهو في الصلاة ما لم تبلُغْ حركاتُه ثلاث حركات متواليات في الركعة الواحدة عند الشافعية، وعند المالكية لا تبطُل الصلاة بالحركات ما دامت الحركات لا تُشعر بخروج المصلي من صلاته.(1/685)
في الحكم في الصلاة في مسجد به الوَطواط
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فنُفيد بأن هذا مما تعُم به البلوى ويشُق الاحترازُ عنه فيُعفَى عنه بشرط ألاّ يتعمده بالوقوف أو السجود عليه. واشترط بعضهم ألاّ يكون الذَّرْقُ رَطبًا أو القَدَمُ مبتلَّةً. وبمقتضى القاعدة الفقهية (المشقة تَجلب التيسير) لا يُشترط ذلك.(1/686)
في الصلاة في منزلِ مَن ليس مسلمًا
لا مانع من الصلاة في منزلِ مَن ليس مسلمًا إذا تحققت الطهارة وخلا من الهياكل أو الصلبان وما إلى ذلك من كل ما يخالف تعاليم الإسلام، والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن عمر أنه قال: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور. وكان ابن عباس يصلي في البِيعةِ إلا بِيعةً فيها تماثيل. وأخرج ابن أبي شيبة عن بكر قال: كُتب إلى عمر من نجران أنهم لم يجدوا مكانًا أنظفَ ولا أجودَ من بِيعةٍ، فكتَب: انضَحوها بماء وسدر. أي: وصَلُّوا فيها.
والمهم في الصلاة أن تكون على وقتها وأن تتحقق شروطها؛ من ستر العورة وطهارة البدن والثوب والمكان، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: "الصلاة على وقتها". وحذر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تأخير الصلاة عن وقتها وبيَّن أن ذلك من دلائل الابتداع.
على أن الصلاة في منزلِ مَن ليس مسلمًا قد تكون سببًا في تفتُّح قلبه على الإسلام وبصفة خاصة إذا كانت الصلاة نابعة من قلب نقي وصادرة عن إيمان عميق، عن جُبير بن مُطعم، رضي الله عنه، قال: أتيت المدينةَ والنبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ في المغرب بالطور، (أي: سورة الطور) وذلك أول ما وقَر الإيمان في قلبي. وكان جُبير هذا من أسارى بدر. فمن الممكن أن تكون الصلاة المستكمِلة لشرائطها وسيلةً من أنجح الوسائل للدعوة إلى الإسلام وإظهار محاسنه، وهذا ما ينبغي أن يَحرص عليه المسلمون.(1/687)
في الصلاة في السوق
إن الصلاة في السوق صحيحة متى استوفَت شروطَها؛ من دخول الوقت والوضوء والطهارة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جُعلَت ليَ الأرضُ مسجدًا وطَهورًا". بَيدَ أن من المعروف أن الصلاة مناجاة قلبية ولسانية بين العبد وربه، وكلما كانت هذه المناجاة واعية صافية كانت الصلاة أكثرَ قَبولاً وأكثر تحقيقًا لأهدافها التي منها النهيُ عن الفحشاء والمنكر.
والسوق عادةً مليءٌ بالحركة، ومليءٌ بالضجيج، ومليءٌ بكثير مما يَصرف المصليَ عن هذه المناجاة، ويَجعلُ الذهنَ مشتَّتًا وموزَّعًا بين الصلاةِ والأحوالِ التي تجري في السوق، ومن أجل ذلك كَرِهَ بعض الفقهاء الصلاة في السوق، ولكن هذه الكراهة لا تؤدي إلى بطلانها.
وإذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ما معناه "ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقَل منها" فإن من الخير للمسلم أن يَتلمس من أجل الصلاةِ الجوَّ الذي يناسب صفاء المناجاة، مع استكمال تعقُّله لكل حركة أو فعل أو قول تتضمنه الصلاة، وبذلك تتوافر أهداف الصلاة كاملة تامة.
ولا يفوتنا في نهاية هذه الإجابة أن نذكِّرَ أهلَ الأسواق من تجار وعمال بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا إذا نُودِيَ للصلاة..) إلى قوله: (...خيرُ الرازقين).(1/688)
في مَن تَذكَّرَ في أثناء الصلاة أن وضوءه ناقص
مَن تَذكَّرَ وهو في صلاة الجماعة أنه نَسيَ فرضًا من فرائض الوضوء فإن صلاته باطلة، وعليه أن يخرج من الصلاة إذا تيسر له الخروج دون أن يمر أمام أحد من المصلين، ودون أن يتضرر به في خروجه أحد من المصلين في أثناء الصلاة، وإن لم يتيسر له الخروج ظل في مكانه من الصف بلا صلاة حتى تنتهيَ الصلاة، ثم يذهبُ فيتوضأُ ويُحسِنُ الوضوء ويصلي بعد ذلك، قال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسِلوا وجوهَكم..) الخ الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شَطرُ الإيمان" فكلُّ صلاةٍ بوضوءٍ ناقصٍ فرضًا من فروضه فهي صلاة باطلة.(1/689)
في صلاة الأغلَف
تصح صلاة الأغلَف، وليس في ذلك شيء من الكراهية أو عدم الصحة؛ ذلك لأن الختان سنة، وتاركُ سُنّةٍ مثل سُنّة الختان ـ ما دام ليس مستهتِرًا بالسنة أو مستنكِفًا عن الاتِّباع ـ لا مانع يَمنع من قبول صلاته. وليس من شروط صحة الصلاةِ الاختتانُ. وليس من صلةٍ بين الصلاة والاختتان. والصلاة كما هو معلوم ركن هام من أركان الدين وأساس راسخ من أسس الإيمان، لا تسقُط عن أحد من المسلمين إلا بالموانع الشرعية، كما حددها الإسلام في وضوح.
فعلى هذا الأغلَفِ أن يَختَتِنَ اتِّباعًا للسنة واقتداءً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن لم يَختَتنْ فعليه الصلاةُ، وهي صحيحة منه، وليس فيها شيء يَنزل بها عن درجة صلاة المُختَتِنِين.(1/690)
في إعفاء الشيخ الطاعنِ السنُّ من أداء الصلاة
باعتباره ضعيفًا لا يستطيع أداءها
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: "بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامُ الصلاة، وإيتاءُ الزكاة، وصومُ رمضان، وحَجُّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً".
وللصلاة أهمية كبرى في الإسلام؛ وذلك أنها تَنهَى عن الفحشاء والمنكَر، يقول الله تعالى: (إن الصلاةَ تَنهَى عن الفحشاء والمنكَر) وهي تُذهب السيئات، وهي عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، وهي الفارقة بين المؤمن والكافر.
ومن يُسر الإسلام وسماحته أنه خفَّف على المريض والضعيف في أداء الصلاة؛ فمن عجَز عن القيام صلى قاعدًا، ومن عجَز عن الركوع والسجود صلى بالإيماء، ولا تسقط عنه الصلاة بحال من الأحوال، لأنه يستطيع أن يؤديَها بأية كيفية، إلا إذا لم يستطع الإيماءَ ولا الحركةَ فإنه تُؤخَّرُ عنه الصلاة، فإذا دام عجزه أكثرَ من خمس صلوات سقَطت عنه. يقول تعالى: (أَقِمِ الصلاةَ طَرَفَيِ النهارِ وزُلَفًا من الليلِ إن الحسناتِ يُذهِبنَ السيئاتِ) ويأمر الله سبحانه وتعالى أمرًا صريحًا جازمًا بالمحافظة على الصلاة، فيقول: (حافِظوا على الصلواتِ والصلاةِ الوسطى) ويقول صلى الله عليه وسلم: "الصلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعةُ كفارةٌ لِمَا بينهنَّ ما لم تُغْشَ الكبائرُ".(1/691)
في حكم مَن صلَّى قبل أن يُقيم الإمامُ الصلاة
إذا كان المراد من السؤال مَن صلى منفردًا بعد الأذان وقبل أن يُقيم الإمام الصلاة، فصلاته صحيحة غير أنه آثمٌ لتركه السنةَ المؤكدة، وهي الصلاة مع الجماعة. أما إذا كان المراد أنه دخل في صلاة الجماعة متابِعًا للإمام قبل أن يصليَ الإمام، أي قبل أن يدخل في الصلاة، فصلاته باطلة؛ لأن من شروط صحةِ صلاةِ الجماعةِ ألاّ يَسبِقَ المأمومُ الإمامَ، وهذا قد سبَقه بتكبيرة الإحرام.(1/692)
في التلفُّت في أثناء الصلاة
إن التلفُّت في الصلاة مكروه؛ وذلك لاشتغال المصلِّي بغير الله عز وجل. وقولُه تعالى: (وقوموا لله قانتين) أي خاشعين متبتِّلِين وَجِلِين من ألاّ تُقبَلَ الصلاةُ. والصلاة التي يحبها الله ورسوله إنما هي صلاة الخاشعين، والخاشع في الصلاة مستغرق في أدائها على خير وجه، فلا يَتأتَّى أن يتلفت يمينًا أو يسارًا، ولقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رجل غير هادئ في الصلاة: "لو خشَع قلبه لَخَشَعَت جوارحه" وكان ذلك ذَمًّا له. والعبد في صلاته واقف بين يدَي ربه، والمؤمن الصادق يَلتزم الأدب بين يدَي الله سبحانه، فهو حينما يقول بادئًا الصلاةَ: الله أكبر. فإنه يَنصرف عن كل ما عدا اللهَ سبحانه، ويَستغرق فيما يؤديه على ما يحب اللهُ ورسوله.(1/693)
في البصق في أثناء الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين.
الصلاة يجب فيها الخشوع والخضوع وعدم الإتيان بما يتنافى مع الآداب، لأن المصليَ بين يدي ربه، وهو منذ أن يقول: (الله أكبر) يجب أن يكون ذلك شعارَه بالفعل، ويجب عليه منذ افتتاح الصلاة أن يَلزم منتهَى الأدب مع مَن هو واقف بين يديه، وهو الله سبحانه، ولذا يُكرَهُ البصقُ في أثناء الصلاة؛ لأن الإنسان لا يفعله مع رئيس أو غيره إذا كان واقفًا بين يديه، لأن فيه إساءةَ أدب مع من يتحدث معه. بيد أنه إذا غلَبه ذلك ولم يجد مفرًّا منه فإنه يأخذُه بطرف ثوبه أو منديله. ومن المعروف أن من آداب الإسلام عَدَمَ البصق تجاه القبلة في الصلاة وعَدَمَ البُصاق في المسجد.(1/694)
في مَن تَذكَّرَ صلواتِ سنةٍ فاتت
لا تبطُل الصلاة التي يقوم بها بأدائها مَن تَذكَّرَ صلواتِ سنةٍ كاملةٍ فاتته، وقد ورد في مثل ذلك عن ابن عمر قال: (من نَسيَ صلاة، فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فَلْيُتِمَّ صلاته، فإذا فرَغ منها فَلْيُصَلِّ التي نَسيَ ثم لْيُعِدْ التي صلاها مع الإمام) أخرجه مالك والطحاوي والدارقطني وغيرهم. وعليه أن يَقضيَ هذه الفوائتِ بمجرد تذكُّرها، لحديث أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من نَسيَ صلاة فَلْيُصَلِّها إذا ذكَرها، لا كفارة لها إلا ذلك، فإن الله تعالى قال: (أقم الصلاة لذكري) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
أما كيفية قضاء هذه الصلوات؛ فإن على من يريده أن يبادر إليه في كل وقت يتمكن فيه من ذلك ويترك النوافل، ما عدا ركعتَي الفجر والشفعَ المتصلَ بالوتر، ويجوز أن يَقضيَ مع كل صلاةٍ مثلَها أو صلاتين مثلَهما تيسيرًا له. وتُرك هذه الصلوات المتعددة لا يُسقط أداءها بل هي معلقة بذمة صاحبها. على أننا نستبعد أن يَنسَى الإنسان صلواتِ سنةٍ كاملة؛ فالأذان يُذكر، وطلوعُ الشمس وغروبُها وتبدلُ الليل والنهار وغيرُ ذلك مما يدُل على وقت الصلاة. ومن هنا فإن على من يترك الصلاة سنةً كاملةً إذا قضَى هذه الصلواتِ إثمَ التأخير.(1/695)
في صلاة المسلم وبجواره فاسق أو فاجر
لا يُبطل الصلاةَ أن يصليَ الإنسان وبجواره فاسق أو فاجر أو حتى كافر، فإنه ليس من شروط الصلاة أن يصليَ الإنسان وبجواره رجل صالح. بيد أن على المصلي الصالح واجبًا اجتماعيًّا ودينيًّا، هو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب الإرشاد والهداية، ولَأَن يَهديَ الله به رجلاً خير من الدنيا وما فيها. فعلَى المصلي المستقيم أن يبينَ للمصلي المنحرف حكمَ الله في انحرافه، ويبينَ له الضرر الذي يعود عليه وعلى المجتمع من أذى الانحراف، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكرًا فَلْيُغَيِّرْهُ..." الخ.(1/696)
في مَن رُفعت عنه الصلاة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يَحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق". فالصبي قبل البلوغ لا تجب عليه الصلاة، أما قوله ـ صلوات الله عليه ـ حاثًّا على الصلاة: "مروا أولادكم بالصلاة لِسَبعٍ واضربوهم لِعَشرٍ" فإن الرسول صلوات الله عليه يهدِف من وراء ذلك إلى فرض التعود على الصلاة منذ الصغر حتى تصبح مألوفة متعوَّدة عند البلوغ، لأن التعود مما يُسهل الأعمال، وفترة الصبي إذًا لا تكليف فيها، ولذلك فإنه يجب قضاءُ ما فاته منها. وعلامةُ البلوغ الذي يُوجب التكليف إنما هي الاحتلامُ عند الذكرِ والحيضُ عند الأنثى، كما هو معروف في كتب الفقه.(1/697)
في أمر الأولاد بالصلاة
أهم أركان الإسلام وأولها الصلاة، فهي عماد الدين، وقد شُرعت للمسلمين قبل أن تُشرع الأركان الأخرى. وطبقا لحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤمر الأولاد بالصلاة وهم في سن السابعة ليتعودوا عليها، فإذا بلغ الناشئُ العاشرةَ ولم يُصلِّ ضرَبه وليُّ أمره كي يؤديَ الصلاة، وهو في هذه السن طبعًا غير مكلَّف ولكن يُضرب عليها حتى يتعودَها ويُدرَك أهميتها، والطفل في سن العاشرة لا يصوم لمشقة الصيام عليه ولكنه يصلي.(1/698)
في كيفية الصلاة
إذا دخل الإنسان في حضرة مولاه ـ أعني في الصلاة ـ فينبغي ألاّ يَنشغل بشيء من النوافل أو الفرائض الأخرى التي شرَعها الله سبحانه وسنها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سوى الصلاة؛ لأننا مأمورون بالتأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أقواله وأفعاله، لا سيما أنه أمَرنا أن نؤديَ فريضة الصلاة كما أداها، فقال: "صلُّوا كما رأيتموني أصلي". ولم يُؤثَرْ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه صلَّى على نفسه أو أمَر أحدًا من أصحابه أن يُصلِّيَ عليه ويُسلِّمَ في الصلاة في غير التشهد.
والعبادات المشروعة سُنَّة متَّبَعة يجب ألاّ يَدخلَها ما ليس منها، وألاّ يُتأولَ في ذلك لِتَبقَى على هَيبتِها كما أُخذت عنه صلى الله عليه وسلم. وليس لأحد من المجتهدين أن يَتأولَ وأن يُشرِّعَ في الصلاة غير ما شرَّع الله تعالى وسَنَّ رسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا ما عليه الجمهور.
غير أنه إذا صلَّى وسلَّم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلاة في غير التشهد الأخير، والتشهد الأول عند الشافعي رضي الله عنه، فإن ذلك لا يُفسد الصلاة.
وعلى المصلي أن يَلتزم بما نص عليه الشارع ليكون متأسِّيًا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك المشهد العظيم، مشهدِ الصلاة، ولا يكون كالذي يَرَى نقصًا فيما شرَع الله سبحانه وسَنَّ رسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتَزِلَّ قدمُه ولا يكونَ له ثبات فى طريق الله سبحانه.
أما خارج الصلاة، فالصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خير ما يَتقرب به العبد إلى الله عز وجل، ولا سيما أن الله أمرنا بالصلاة عليه (يا أيها الذين آمَنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا) وتجب الصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ذكر اسمه، قال صلى الله عليه وسلم: "أرغَم اللهُ أنفَ رجلٍ ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ". صلى الله عليه وسلم.(1/699)
في قراءة البسملة في الصلاة
إن البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) من القرآن باتفاق الأئمة جميعًا، وهي جزء من آية من سورة النمل بلا خلاف، قال تعالى: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) أما غير سورة النمل ففيها خلاف؛ فعند الشافعية هي آية من كل سورة من سورة القرآن الكريم ـ أي أنها مائة وثلاثَ عشرةَ آيةً بعدد سور القرآن ـ ما عدا سورة براءة فليست آية منها. وعند الحنفية أنها آية واحدة من جميع القرآن، أُنزلت للفصل بين السور.
ومن ترَكها في الصلاة فقد ترَك آية من الفاتحة التي هي ركن من أركان الصلاة، عند الشافعية، وعلى ذلك فلا تصح صلاته بدونها. وعند الحنفية صلاته صحيحة؛ لأنها ليست آيةً من سورة الفاتحة.
والخَطْبُ إذًا في أمرِ قراءتها وعدمِ قراءتها هيِّن ما دام الأئمة قد اختلَفوا فيها، فبأيِّ الرأيَين أخَذ الإنسانُ فصلاتُه صحيحة، غير أن الأخذَ بتلاوة البسملة في كل فاتحة في الصلاة أولَى للحَيطة وللخروج من كل خلاف.(1/700)
في وضع اليدين على الصدر في أثناء الصلاة
إن وضع اليدين على الصدر أو تحت الصدر أو عدم وضعهما لا يُفسد الصلاة؛ وذلك أن وضع اليدين على الصدر من سنن الصلاة، إنه من السنن وليس من الواجبات أو الفروض، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة. ولقد قال الكمال بن الهُمَام، وهو من أئمة علماء الفقه: لم يثبُت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث صحيح يوجب كونَ وَضْعِ اليدين تحت الصدر أو على الصدر، والحقُّ أن وَضْعَ اليدين على الصدر أو تحتَه أو إرسالَهما قد فعَله الصحابة. ولكن الأمر المهم في ذلك بالنسبة للرجل والمرأة هو أنه إذا وضَع الرجل أو المرأة اليدَ على الأخرى فإن اليمنى هي التي تُوضَعُ على اليسرى، فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه الإمام أحمد قال: مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل وهو يصلي، وقد وضع يده اليسرى على اليمنى، فانتزعهما ووضع اليمنى على اليسرى.
وللمرأة إذًا أن تَضَعَ يدَيها على صدرها أو تحت صدرها أو تُرسلَهما.(1/701)
في ذَهاب النساء لصلاة الجمعة
لا يجب على النساء الذهاب لصلاة الجمعة، ويجوز لهنَّ إذا أُمنت الفتنة عليهنَّ حضورُ الصلاة وأداؤُها، ويُجزي ذلك عنهنَّ، لأن إسقاط الجمعة للتخفيف عنهنَّ، فإذا لم تذهب النساء لحضور الجمعة أو إذا خِيفَت الفتنة من ذلك الحضورِ فصلاةُ الجمعة بالنسبة إليهنَّ هي صلاة الظهر أربع ركعات.
مما تَجدر الإشارة إليه في هذا المقام عنايةُ الإسلام بحفظ كرامة النساء، والعملُ على منع ما يمكن أن يُصيبَهنَّ من مضايقات، وفى نفس الوقت حرصُه على منع العبادة من أن يَتطرقَ إليها ما يُفسدها أو يخرُج بها عما حُدَّ لها من حدود.
أليس في ذلك ما يشير إلى وجوب احترام المرأة لتعاليم دينها وبعدِها عن كل ما يسبب الخروج عن هذه التعاليم في الزي أو السلوك أو الاجتماع أو الاختلاط؟
ثم إن فيه أيضًا وجوبُ تجريد العبادة من كل خروجٍ بها عن حدودها والابتعادِ بها عن كل ما يَشغلُ أو يُبعِدُ عن الجو المطلوب لأدائها على أكمل الوجوه.(1/702)
في صلاة المسافر في القطار أو السيارة
إن كان المصلي يعلم بالجهة التي يَتوجه إليها بالقطار أو السيارة فيَستدير نحو القبلة ثم يُكمل صلاته، ولا إعادة عليه. أما إذا كان لا يَعلم أن القطار أو السيارة ـ وهو في الصلاة ـ قد غيَّر جهةَ السير، واستمر في صلاته إلى آخرها ولم يَسأل بعد ذلك فالصلاةُ صحيحة لعدم علمه، ولا إعادة عليه. وإذا استدار القطار أو السيارة إلى أي جهة غير جهة القبلة، يَستديرُ إلى القبلة حتى يُتِمَّ صلاتَه مستقبِلاً القبلة، ولو تَحوَّلَ عن القبلة لا تُجزئ صلاتُه في قولهم جميعًا.(1/703)
في صلاة الجنازة على المولود
المولود الذي مات بعد ولادته مباشرةً يُصلَّى عليه صلاةُ الجنازة ما دام قد نزَل حيًّا من بطن أمه، فقد أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عُرفت حياته واستَهَلَّ يُصلَّى عليه.
ومعنى الاستهلالِ الصياحُ أو العطاسُ أو أيُّ حركة يُعلم بها حياة الطفل بعد ولادته.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن المغيرة بن شعبة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الراكب خلفَ الجنازة، والماشي أمامَها، قريبًا منها، عن يمينها أو عن يسارها، والسُّقْطُ لا يُصلَّى عليه، ويُدعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة".(1/704)
في قصر الصلاة والفطر في السفر الذي لا مشقة فيه
قال الله تعالى: (ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيامٍ أُخَرَ). هذه الآية تُبيح للمريض والمسافر الفطرَ؛ وذلك لأن السفر مَظِنَّة المشقَّة، لذلك رخَّص الله للمسافر أن يُفطر فيه. روى مسلم عن حمزة الأسلمي قال: يا رسول الله، أجد مني قوة على الصوم في السفر، فهل عليَّ جُناح؟ فقال: "هي رخصة من الله تعالى، فمن أخَذَ بها فحَسَنٌ، ومن أحب أن يصوم فلا جُناح عليه".
والمسافة التي تسمَّى مسافةَ سفر هي ما يساوي اثنين وثمانين كيلومتر تقريبًا، وما بين مصر وطنطا أو بينها وبين أسيوط يُعتبر مسافةَ سفر. غير أن من لم يَتضرر بالسفر ولم يجد فيه مشقة فصيامُه أولَى من فطره، عملاً بقوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون).(1/705)
في من يصلي وأولادُه الصغار يَحومون حوله
من يصلي وأولادُه الصغار يَحومون حوله أو يَتعلقون به صلاتُه صحيحة، ما لم يكن بمَن يَتعلق به أو يَحوم حوله نجاسةٌ تَبطُلُ بها الصلاة، فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي وهو يحمل حفيدتَه ابنةَ السيدةِ زينب في أثناء صلاته، حتى إذا ركع وضعها على الأرض فإذا رفع من الركوع احتملها. وقد ورد أن الحسن والحسين، رضي الله عنهما، كانا يتعلقان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ساجد، فما كان يرفع من السجود رأسه حتى يَنزِلاَ. وفى ذلك تأليف للأولاد وشفقة ورحمة بهم.
والصلاة في حقيقتها خشوع لله، سبحانه وتعالى، وتهذيب للنفس وتكميل لها بجميع الفضائل التي يجب أن يَتحلَّى بها المسلم في كل شئونه، فكيف يَضيق المصلي بمن يَحوم حوله من الأولاد وهو بين يدَي مولاه، الذي يُحب منه أن يكون بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا وبأولئك الأولاد الصغار عَطوفًا وَدودًا!(1/706)
في أوقات الصلاة
للصلوات الخمس أوقاتٌ محدودةٌ لابد أن تؤدَّى فيها، لقوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا). وقد حددت السنة هذه الأوقات؛ رُوِيَ عن جابر بن عبد الله أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاءه جبريل عليه السلام فقال له: "قمْ فصلِّه. فصلَّى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قمْ فصلِّه. فصلَّى العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثلَه، ثم جاءه المغرب فقال: قمْ فصلِّه. فصلَّى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاءه العشاء فقال: قمْ فصلِّه. فصلَّى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاءه الفجر حين بَرِقَ الفجر (أو قال: سطَع الفجر) ثم جاءه من الغد للظهر فقال: قمْ فصلِّه. فصلَّى الظهر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثلَه، ثم جاءه العصر فقال: قمْ فصلِّه. فصلَّى العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثلَيه، ثم جاء المغرب وقتًا واحدًا لم يَزُلْ عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل (أو قال: ثلث الليل) فصلَّى العشاء، ثم جاءه حين أسفر جدًّا فقال: قمْ فصلِّه. فصلَّى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت" رواه أحمد والنسائي والترمذي، وقال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت. يعني إمامة جبريل. أما وقت الجمعة فهو وقت صلاة الظهر فلا تصح قبلها ولا بعدها.(1/707)
في جواز الاعتماد على الساعة في أداء فريضة الصلاة
إن الإسلام في بساطته ويُسره ربط كثيرًا من شعائره بالنسبة لأوقاتها بالمظاهر الطبيعية للكون، ومن ذلك أوقات الصلاة، وأوقات الصلاة التي حددها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحسب المظاهر الطبيعية هي كما حددها الحديث السابق. وعن عقبة بن عامر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخِّروا المغرب حتى تشتبك النجوم" وعن ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الشَّفَقُ الحُمرةُ، فإذا غاب الشفقُ وجبت الصلاةُ" أي صلاة العشاء. ولما اختُرعَت الساعات ـ وكان اختراعها في الحضارة العربية ـ حاول علماؤها تحديد وقت الصلاة بحسَبها، فعيَّنوا الأزمنة والأوقات لكل فرض من الفروض متَّبِعين في ذلك توجيهاتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالساعة تحديد للوقت بحسَب الأصول الإسلامية، فيجوز الاعتماد عليها فى أداء فريضة الصلاة.(1/708)
في السُّنَّة بعد تكبيرة الإحرام
السُّنَّة بعد تكبيرة الإحرام أن يتريث المصلي قبل قراءة الفاتحة فترة يَتمكن فيها من افتتاح الصلاة؛ لِمَا صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يفتتح الصلاة به، من قوله: "اللهُ أكبرُ كبيرًا" ثلاثًا "والحمدُ للهِ كثيرًا" ثلاثًا "وسبحانَ اللهِ بكرةً وأصيلاً" ثلاثًا "وجَّهتُ وجهيَ للذي فطر السمواتِ والأرضَ حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومَحياي ومَماتي للهِ ربِّ العالَمين، لا شريكَ له وبذلك أُمرتُ وأنا من المسلمين" ثم يقرأ البسملة مع الفاتحة خروجًا مِن خلاف مَن اعتبَرها آية مستقلة من الفاتحة وقال بأن تَرْكَها يُبطل الصلاة.(1/709)
في التشهد في الصلاة
إن الصلاة من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على أحد أفراد عباده إنما هي الرحمة تَفيض منه ـ سبحانه وتعالى ـ على عبده. ورحمة الله إنما هي رضاه وتجلياته، وهذه التجليات لا تُحَدُّ ولا نهاية لها، وهي فياضة باستمرار؛ لأن الله كريم جوَّاد. والصلاة على إبراهيم ـ عليه السلام ـ هي رحمة الله وبركاته عليه وعلى أهل بيته، وقد ورد في القرآن الكريم بالنسبة لسيدنا إبراهيم قوله تعالى: (رحمةُ اللهِ وبركاتُه عليكم أهلَ البيتِ إنه حميدٌ مجيدٌ) وفى قوله تعالى: (سلامٌ على إبراهيم) وصلاة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على إنسانٍ هي كاملة بالنسبة لهذا الإنسان؛ أي أنها تتناسب هي وما فطَره الله عليه من خير وصلاح وإحسان. ونحن حينما نقول: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) فالمعنى: اللهم صلِّ على محمد بما يناسب ما فطَرتَه عليه من كمال ذاتيٍّ كما صلَّيتَ على إبراهيم بما يناسب ما فطَرتَه عليه من فطرة طيبة. والمِثليَّة هنا إذًا ليست مِثليَّة اتحاد كَمًّا وكيفًا، وإنما هي مِثليَّةُ تَشابُهٍ في الصلاة، وإن اختلفت الصلاة على كل منهما كَمًّا وكيفًا، كلٌّ بحسَب ما يناسبه وما فطَره الله عليه.
أما لماذا نصلي عليه نحن وقد صلى الله عليه وصلَّتْ ملائكته عليه وليس بعد صلاة الله وملائكته من حاجة لصلاتنا نحن عليه؟ فإنما ذلك من أجل فائدتنا نحن، فإننا كلما ارتبطنا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوساطة الصلاة عليه زادنا الله نورًا وأكرمنا، ففائدة الصلاة عليه تعود علينا نحن، لقد أراد سبحانه أن يوثق صلتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/710)
في هل يجوز عند المذاكرة الجمع بين الصلوات؟
لا يجوز ذلك؛ فليست المذاكرة عذرًا مُبيحًا للجمع عند القائلين به، والجمع لا يجوز عند الحنفية إلا في عرفة ومُزدلِفة للحاج، فيصلي الحاج الظهر والعصر قصرًا وجمعًا مع الإمام في وقت الظهر؛ أي أنه يصلي في عرفةَ الظهرَ ركعتين ويصلي العصرَ بعده مباشرة ركعتين كذلك بلا سُنَّةٍ بينهما، ويصلي المغرب والعشاء جمعًا ـ وقصرًا للعشاء ـ في وقت العشاء بمُزدلِفة، والأول جمع تقديم والثاني تأخير.
وأباح الشافعية الجمعَ ـ تقديمًا أو تأخيرًا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ـ للمسافر والقصرَ بشرط السفر عندهم. ويجوز جمعها جمعَ تقديم فقط بسبب نزول المطر، ويُشترط لذلك شروط مبسوطة في كتاب فقه الشافعية.
غير أنه يجوز للطالب ـ إذا ما ضاق وقته بسبب كثرة المذاكرة وقُرب الامتحان مثلاً ـ أن يجمع بين هذه الصلوات جمعًا صوريًّا؛ كأن يصليَ الظهرَ في آخر وقت الظهر ويصليَ العصرَ في أول وقت العصر وهكذا، وبذلك يكون مؤديًا كلَّ فريضة في وقتها وموفِّرًا لنفسه زمنًا يَستغله في مذاكرته. والله الموفق.(1/711)
في معرفة أوقات الصلاة في البلاد التي لا تظهر الشمس
في سمائها في بعض شهور السنة
هناك بلاد لا تظهر فيها الشمس في بعض شهور السنة، وأهل هذه البلاد يؤدون الصلاة بحسَب المواقيت في أقرب البلاد المعتدلة إليهم.
والصلاة لا تسقط ظهرت الشمس أو لم تظهر، والله سبحانه وتعالى يقول: (إن الصلاةَ كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا).
والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، إنها الركن الذي يتلو شهادةَ (أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) مباشرةً، وهي لا تسقط بأي حال من الأحوال سواء أشرَقَت الشمس أو لم تُشرق. وأمر تحديد مواقيت الصلاة في هذه البلاد أصبح الآن أمرًا ميسَّرًا بفضل الوسائل العلمية اليسيرة التي تُعين على ضبطِ الوقت وتحديدِه بحسَب أقرب البلاد المعتدلة إلى الإقليم الذي لا تُشرق فيه الشمس شروقًا عاديًّا.(1/712)
في أداء الصلاة قبل الوقت
لا يجوز أداء الصلاة قبل الوقت ولا تصح إلا في حالات خاصة محددة هي حالات جمع الصلاة جَمْعَ تقديم. وأجمع العلماء على أن الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة سُنَّةٌ، وهو جمع تقديم، والجمع بين المغرب والعشاء بالمُزدَلِفة في وقت العشاء سُنَّةٌ أيضًا، وهو جمع تأخير، وما عدا ذلك من ألوان الجمع غيرُ جائز إلا في وقت السفر فإنه يجوز جمع الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء جمع تأخير؛ لِمَا أخرجه البخاري ومسلم عن أنس قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا ارتَحَل قبل أن تَزيغ الشمس (أي قبل حلول وقت الظهر) أخَّر الظهرَ إلى وقت العصر، نزَل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس (أي حَلَّ وقت الظهر) قبل أن يَرتحل صلَّى الظهر ثم ركب. وما أخرجاه عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أعجَلَ السيرُ في السفر يؤخِّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء.
والسبب في ذلك هو امتداد وقت الظهر والمغرب لِمَا بعد العصر والعشاء إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وعلى ذلك فتقديم الصلاة عن وقتها لا يجوز، وتأخير الصلاة عن وقتها لا يجوز، إلا في يوم عرفة وفى السفر. وحكمُ تأخير الصلاة في السفر حكمُ النومِ الاضطراري والنسيانِ والمرضِ المُذهِبِ للعقل طولَ الوقت، وقد حذَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تأخير الصلاة عن أول وقتها وبيَّن أن في ذلك خروجًا عن السنة وإقامةً للبدعة. ومع ذلك فإذا خرج وقت الصلاة وجب أداؤها متى تيسرت الفرصة ليسقط الفرض عن المصلي، وعليه إثم التأخير إن لم يكن عُذْرٌ دعا إليه.(1/713)
في الشك في الوضوء والصلاة
تكفي غلبة الظن بزوال آثار البول لإتمام الطهارة، ولا يَلزم، بل يُكرَهُ، بل يَحرُمُ إعادةُ التطهر من النجاسة؛ لأن ذلك استسلام للوسوسة وخروج عن حد الاعتدال، وعليك إزالةُ هذا الشك من نفسك بقطع أسبابه، وهو معاودة التطهر مرةً بعد مرة.
وفى الوضوء يكفي غَسلُ كل عضو مرةً لتحقيق الطهارة، ويندُب تكرارُ الغسل ثلاث مرات لكل عضو، وما عدا ذلك يُعتبر إسرافًا عليك تجنُّبُه. وإذا ما انتابك الشك في غَسل عضوٍ ما أخَذتَ بغالب الظن، فإن غلَب على ظنك عدمُ غَسلِه أعَدتَّه وأعَدتَّ ما بعده ما دامت الأعضاءُ لم تَجِفَّ، وإلا أعَدتَّ غَسْلَ العضو الذي شكَكتَ فيه وحده. أما إذا كان الشك في وقوع الوضوء أو عدم وقوعه، أخَذتَ بما غلَب على ظنك أو اعتَمَدتَ ما يُناقض الشكَّ ويَقضي عليه.
وفى الصلاة، إذا شكَكتَ في أنك أتممتَ الصلاة أو بَقِيَتْ ركعة أو صلَّيتَ ركعتين أو ركعة، بَنَيتَ على ما تَيَقَّنتَ أنك صلَّيتَه وأَكمِلْ الصلاةَ، فقد روَى مالك ومسلم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إذا شكَّ أحدكم في صلاته؛ فلم يَدْرِ كم صلَّى، أثلاثًا أم أربعًا، فَلْيُصَلِّ ركعة وَلْيسْجُدْ سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلَّى خامسةً شفَعها بهاتين السجدتين، وإن كان رابعةً فالسجدتان تَرغيمٌ للشيطان". وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: إذا شكَّ أحدكم في صلاته فَلْيتَوَخَّ الذي يظنُّ أنه نَسيَ من صلاته، فَلْيُصَلِّهِ، ثمَّ لْيَسجُدْ سجدتَي السهو وهو جالس. ورُوِيَ مثلُه عن عبد الله بن عمرو.
على أن هذا الشكَّ في التطهرِ والصلاةِ بهذه الصورة لا يدل إلا على انصرافٍ عن العمل وابتعادٍ عن التفكير فيه، وعلى صاحبه محاولةُ القضاء عليه بإهمالِه، والعملِ على الظن، وجَبْرِ ما يمكن أن يكون من نقص في الصلاة بسجود السهو كما في الحديث.(1/714)
ومما وُصف لإزالة الشك قراءةُ المعوِّذتين قبل الصلاة ثلاث مرات، وقراءةُ (ربِّ أعوذُ بك من هَمَزات الشياطين. وأعوذُ بك ربِّ أن يَحضُرون) ثلاث مرات. وقد وُصفَت لإزالة الشكِّ تكرارُ الصيغة التالية (سبحان الملك الخلاّق، إن يَشَأْ يُذهِبْكم ويأتِ بخلقٍ جديدٍ).(1/715)
في وقت صلاة الصبح
وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، فإذا طلَعت الشمس مضَى وقتُ صلاة الصبح أداءً ووجَب قضاؤُها وتُصلَّى على أنها قضاء.
ولا يَلزم الأذانُ على المرء لصلاة الصبح بعد طلوع الشمس، وإنما عليه أن يُقيم لها الصلاةَ. ولو كانوا جماعةً غلَبهم النومُ فعليهم الأذانُ والإقامةُ والصلاةُ جماعةً؛ لِمَا رواه البخاري بسنده عن أبي قتادة قال: سرنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال بعض القوم: لو عَرَّستَ بنا يا رسول الله! قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة" قال بلال: أنا أُوقِظُكم. فاضطَّجَعوا وأسنَد بلال ظَهْرَه إلى راحلته فغلَبَته عيناه فنام، فاستيقظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد طلَع حاجب الشمس، فقال: "يا بلال، أين ما قلتَ؟" قال: ما أُلقيَت عليَّ نومةٌ مثلها قط. قال: "إن الله قبَض أرواحَكم حين شاء ورَدَّها عليكم حين شاء. يا بلال، قُم، فأذِّنْ بالناس بالصلاة" فتَوضَّأَ، فلما ارتفعت الشمس قام فصلى.(1/716)
في متى يمكن الجمع بين صلاتين؟
ولماذا لا يجوز الجمع بين الصبح والظهر ولا بين العصر والمغرب؟
يمكن الجمعُ بين صلاتَي الظهر والعصر وبين صلاتَي المغرب والعشاء جَمْعَ تقديم بصلاة الثانية في وقت الأُولى معها؛ أي صلاة العصر مع الظهر في وقت الظهر، وصلاة العشاء مع المغرب في وقت المغرب. ويمكن الجمعُ بين كلٍّ من الصلاتين جَمْعَ تأخير؛ بصلاة الظهر مع العصر في وقته وصلاة المغرب مع العشاء في وقت العشاء، وذلك كله مشروط بالسفر، فإذا كان وصوله إلى الجهة التي يَقصد إليها بعد فوات وقت العصر أو العشاء جَمَعَ جَمْعَ تقديم قبل السفر، وإذا كان سفرُه قبل حلول وقت الصلاة الأُولى ووصولُه في وقت الثانية جَمَعَ جَمْعَ تأخير بعد الوصول، وذلك عند مالك والشافعي وأحمد خلافًا لأبي حنيفة.
وقيل: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء للمطر لمَن يصلي جماعةً بمسجد يُقصَدُ من بُعدٍ؛ لئلاّ يَتأذَّى بالمطر إذا عاد مرة ثانية لصلاة العشاء.
وهل يجوز الجمع للخوف؟ قيل: نعم. والراجح أن الجمع لا يجوز.
وننتهي من ذلك كله إلى أن الجمع للسفر هو الأساس، والجمع للمطر يجوز أحيانًا عند بعض العلماء. أما الجمعُ المتفق على جوازه فهو الجمعُ بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر بيوم عرفة، والجمعُ بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمُزدَلِفة بعد الوقوف بعرفة والانصراف منها إلى المشعر الحرام. والأساس في ذلك كله التيسيرُ على المسلم والترخيصُ له في تمام العبادة في كل الظروف.
أما الجمع الذي لا يجوز فهو ما لم يكن في إطار ما قدمناه؛ كمن يجمع الظهرَ مع العصر في وقت العصر والمغربَ مع العشاء في وقت العشاء كسلاً أو تراخيًا؛ لأن أول الوقت رضوان الله، ولأن إقامةَ الصلاة الإتيانُ بها في وقتها المحدد لها على ما شرَعها الله.
أما صلاة العصر أو العشاء قبل وقتها فلا يجوز؛ لأن العلم بدخول وقت الصلاة بالتعيين شرطٌ في صحة الصلاة.(1/717)
في تحديد القبلة في الصلاة
إن استقبال القبلة أمر ضروري للمصلي، فهو شرط في صحة الصلاة وقَبولها، والله سبحانه وتعالى يقول: (فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المسجدِ الحرامِ وحيث ما كنتم فَوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَه) ولابد من تحرِّي القبلة والوصول إلى العلم اليقيني في ذلك من أجل أمر آخر أيضًا وهو أن يَفرُغَ المصلي لتوجيه وجهه للذي فطَره، فلا يكون موزَّعَ القلب بين صحة الصلاة وبطلانها وبين التفكير فيما إذا كان متَّجِهًا نحو القبلة أو متَّجِهًا إلى غير القبلة. وأمرُ تحقيق القبلة الآن ميسور، فقد وُجدت الآلات التي تُحدد اتجاه القبلة، وهي أدوات خفيفة يمكن أن تُحمل في الجيب دون أن يكون في ذلك إرهاق أو مشقة، وقد تعددت اختراعات هذه الآلات وأصبحت متداوَلةً بين الناس، ولو فرضنا أنها ليست في ميسور الطالب فيمكنه أن يَشتريَ بوصلة ويذهب إلى أي مسجد من مساجد إنجلترا ويحدد على البوصلة في المسجد اتجاهَ القبلة، فإذا تَعذَّرَ كل ذلك ـ ولا أظن أن يَتعذَّرَ ـ فإنه يَجتهد ما استطاع مسترشدًا بآراء الآخرين. ونحن إذ نَحمَدُ في النهاية محاولةَ الطالبِ التحرِّيَ في أمور دينه فإنا لنرجو له التوفيق.(1/718)
في الصلاة فوق القمر
نؤدِّي الصلاةَ ونحن فوق القمر كما نؤديها ونحن فوق الأرض، مع مراعاةِ ما يحدث فوق الأرض من ظهور الفجر الصادق بالنسبة لصلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومراعاةِ وقت الزوال، وهو وقتُ تحولِ الشمس إلى جهة الغرب وتحولِ الظل إلى جهة الشرق إلى أن يصير ظلُّ كلِّ شيء مثلَه بعد ظل الزوال بالنسبة لصلاة الظهر. أما صلاة العصر فيدخل وقتها حين يصير ظلُّ كلِّ شيء مثلَه بعد ظل الزوال إلى أن تغرب الشمس. ووقت المغرب يبدأ من غروب الشمس إلى وقت ظهور الشفق الأحمر. ووقت العشاء يبدأ من ظهور الشفق الأحمر إلى ظهور الفجر الصادق.
والجانب المظلم من القمر يُراعَى فيه بالنسبة للصلاة المقدار الزمني في كل وقت، ويمكن للذي يريد الصلاة فوق القمر أن يتجه نحو القبلة بالاستدلال بالشمس والنجم القطبي والبوصلة.(1/719)
في الصلاة في البيت
الصلاة المفروضة في البيت جائزة ومجزئة، غاية الأمر أن صلاتها في جماعة أفضل من صلاة الفَذِّ بخمس وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة، وصلاة المسجد أفضل من صلاة البيت. وليس من المحتَّمِ على الرجل أن يؤديَ الصلاةَ في المسجد ـ ما عدا الجمعةَ ـ إلا في مذهب أحمد لمَن كان بجوار المسجد، لحديث: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" لكنّ الحديث لم يصح، غير أن أحمد، رحمه الله، كان يقدم الحديث الضعيف على رأي الرجال.(1/720)
في صلاة الفريضة في المسجد
صلاة الفرض في المسجد أفضل أجرًا وأكثر ثوابًا وأرفع درجةً من الصلاة في البيت، وقد ورد في فضل المشي إلى المسجد والرجوع منه ما بيَّن هذا الفضلَ وذلك التفاوتَ في الدرجات، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من غَدَا إلى المسجد أو راح أعَدَّ اللهُ له في الجنة نُزُلاً كلما غَدَا أو راح". وقال صلى الله عليه وسلم: "من تَطهَّرَ في بيته، ثم مضَى إلى بيت من بيوت الله ليقضيَ فريضةً من فرائض الله، كانت خطواتُه إحداها تَحُطُّ خطيئة والأخرى تَرفعُ درجة". والسبب في ذلك أن المساجد بيوت الله، فإذا كان المرء مِنَّا يُكرم من يزوره ويُقدر ما تَكَبَّده من مشقة في سبيل هذه الزيارة، فالله تعالى أكثر كرمًا وأعظم تفضلاً على من يَزوره في بيوته الطاهرة، وهي المساجد.
ولقد كان الصحابة يُسَرُّون ببُعد منازلهم عن المسجد لتكونَ خطواتِهم إليه أكثرَ ومَشْيَهم إليه أطولَ، عن أُبيِّ بن كعب، رضي الله عنه، قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدًا أبعَدَ من المسجد منه، وكان لا تُخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريتَ حمارًا لتَركَبَه في الظلماء وفى الرمضاء! قال: ما يَسُرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتب لي مَمْشَايَ إلى المسجد ورجوعي إذا رجَعتُ إلى أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد جمَع الله لك ذلك كلَّه" وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأناس أرادوا أن ينتقلوا قرب المسجد: "ديارَكم تُكتَبْ آثارُكم، ديارَكم تُكتَبْ آثارُكم" فقالوا: ما يَسُرُّنا أنا كنا تَحوَّلنا. أي: انتقلنا من ديارنا البعيدة عن المسجد إلى ديار قريبة منه. ويزداد فضل الصلاة في المسجد إذا كانت في جماعة كما هو معلوم.(1/721)
هذا، وقد جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أسباب مَحْوِ الخطايا ورَفْعِ الدرجات كثرةَ الخطا إلى المسجد، وجَعَلَ المَشْيَ إليها في الظلمات سبيلاً إلى النور التام يوم القيامة، فقال: "بَشِّرْ المَشَّائين إلى المسجد بالنور التامِّ يوم القيامة" وقال: "إذا رأيتم الرجلَ يَعتادُ المساجدَ فاشهَدوا له بالإيمان".(1/722)
موقف المسلم من قراءة الفاتحة وسورةٍ بعدها في الصلاة
إن موقف المسلم في الصلاة بالنسبة لقراءة الفاتحة وسورةٍ بعدَها لا يخلو حالُه من أمرين: أحدهما أن يكون مقتديًا، وثانيهما أن يكون منفردًا. فإن كان المصلي خلف الإمام وكانت الصلاة جهرية فلا تجوز له القراءةُ مطلقًا، لا الفاتحةُ ولا غيرُها، عملاً بقوله سبحانه: (وإذا قُرِئَ القرآنُ فاستَمِعوا له وأَنصِتوا لعلكم تُرحَمون). أما في الصلاة السرية فإنه يَقرأ ما تَيَسَّرَ له من القرآن بعد الفاتحة. هذا بالنسبة للمقتدي.
أما بالنسبة للمنفرد في صلاته فالواقع أن هناك شيئًا من التفصيل؛ وذلك أن المصليَ إما أن يكون يُحسن القراءة ويَحفظ شيئًا من القرآن أوْ لاَ، فإن كان يُحسن القراء ويَحفظ شيئًا من القرآن وجبت عليه قراءةُ السورة أو آيةٍ أو آياتٍ بعد الفاتحة، وإن ترَك ذلك وجَب عليه السجودُ للسهو. وإن كان لا يُحسن القراءة ولا يَحفظ شيئًا من القرآن مطلَقًا جاز له أن يَكتفيَ بالفاتحة، وصلاتُه على ذلك صحيحة.(1/723)
في قراءة القرآن في أثناء الصلاة
افترض الله على المسلم أن يُقيمَ الصلاة، ويُؤتيَ الزكاة، ويصومَ رمضان، ويَحجَّ البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وليس من الفرائض إجادةُ قراءة القرآن إلا بالقدر الذي تَجوز به الصلاة، فما دام المسلم يَحفظ من القرآن الكريم ما تَصح به صلاتُه فلا إثمَ عليه في عدم إجادة ما عدا ذلك.
غاية ما هنالك أن قراءة القرآن عبادة مرغَّب فيها ولها ثوابها، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشرُ حسنات، لا أقول (الم) حرف، ولكنْ ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف". فإذا أراد المسلم أن يضاعف اللهُ له الحسنات ويَزدادَ قربًا من ربه فعليه بقراءة القرآن الكريم.(1/724)
في الجمع والقصر في صلاة السفر
السفر مَظِنَّة المشقة والتعب، لذا كان من سماحة الشريعة الإسلامية ويُسرها أنها رخَّصت في تخفيف الصلاة على المسافر حتى لا يكون في أدائها مشقةٌ أو إرهاقٌ له.
وصلاةُ السفر الصلاةُ الرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء، يؤديها المسافر ركعتين قصرًا. وله أن يصليَ جَمْعَ تقديمٍ الظهرَ والعصرَ في وقت الظهر، والمغربَ والعشاءَ جَمْعَ تأخيرٍ في وقت العشاء؛ ليكون عنده من الوقت متَّسَعٌ لقضاء مصالحه ومهامِّه في السفر، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك في سفره، وكذلك الصحابة مِن بعده، وعليه إجماع المسلمين، وهي رخصة من الله سبحانه وتعالى لعباده، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن اللهَ يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يحب أن تُؤتَى عزائمُه" والمسافر إذًا يَقصُرُ ويَجمعُ متى كان السفر أكثرَ من ثلاثة وثمانين كيلومترًا.
والمسافر يفعل في قيامه وركوعه وسجوده وقراءته كما يفعل المُقيم. والفرقُ بين المقيم والمسافر إنما هو في إباحةِ جمع الظهر والعصر، وأداءِ كلٍّ منهما ركعتين فقط، وجَمْعِ المغرب والعشاء في وقت واحد، وأداءِ العشاء ركعتين فقط.(1/725)
كيفية صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الليل
في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم بسنده عن أبي سلمة قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمانيَ ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس.
قال النووي: الصواب أن هاتين الركعتين فعَلَهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد الوتر جالسًا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر وبيانِ جواز النفل جالسًا، ولم يواظب على ذلك، بل فعَله مرة أو مرتين أو مرات قليلة، إذ الروايات المشهورة في الصحيحين وغيرهما عن عائشة، مع روايات خلائقَ من الصحابة في الصحيحين، تُصرح بأن آخر صلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العمل كانت وترًا، وفى الصحيحين أحاديثُ كثيرة مشهورة بالأمر بجعل آخر الصلاة بالليل وترًا، منها: "اجعَلوا آخِرَ صلاتكم بالليل وترًا" "صلاةُ الليل مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خِفتَ الصبحَ فأوتِرْ بواحدة".
وبعدُ، فالأفضلُ جَعْلُ آخر الصلاة بالليل وترًا. ويجوز عند الضرورة صلاةُ نفلٍ بعد الوتر في الليل اغتنامًا للخير وتحصيلاً للبركة. ومن يخاف غلَبةَ النوم فعليه أن يوتر قبل أن ينام. ومن يتأكد أو يَغلب على ظنه اليقظةُ قبل الفجر يؤخِّرْ الوترَ بعد اليقظة.(1/726)
في السجود في الصلاة
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتَدِلوا في السجود ولا يَبسُطْ أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" وفى رواية: "لا يَتبسطْ أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". وروَى بسنده عن البَرَاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجَدتَ فَضَعْ كفَّيك وارفَعْ مِرفَقَيكَ". وعن عبد الله بن مالك ابن بُحينة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا صلَّى فرَّج بين يديه حتى يبدوَ بياض إبطَيه. وفى رواية: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سجد يَجنَحُ في سجوده حتى يُرَى وَضَحُ إبطِه. أي يباعد مِرفَقَيه وعَضُدَيه عن جنبه.
وهذا الأحاديث تدل على أنه ينبغي للساجد أن يَضَعَ كفه على الأرض ويَرفَعَ ذراعيه عن الأرض وعن جنبيه رفعًا بليغًا بحيث يَظهر باطن إبطَيه إذا لم يكن مستورًا. وقال النووي: (وهذا أدب متفَق على استحبابه، فلو تَرَكَه كان مُسيئًا، والنهيُ للتنزيه، والصلاةُ صحيحة). ولا يَخفَى أن متابعة السنةِ خاصةً في مثل هذا المظهر التعبدي أولَى وآكَدُ.(1/727)
في كيفية السجود
نعم، هناك ما يمنع من بسط الذراع كلِّها على الأرض عند السجود في أثناء الصلاة، لِمَا ورد في النهي عن ذلك وتقبيحِه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اعتَدِلوا في السجود، ولا يَبسُطْ أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا سجَدتَ فَضَعْ كَفَّيك وارفَعْ مِرفَقَيك". وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سجد فرَّج (أي وسع) بين يديه وجنبِه حتى يبدوَ قريبٌ من إبطَيه.
وفى ذلك كله ما يُفيد أهمية رفعِ الذراعين والامتناعِ عن بسطِهما على الأرض، قال الإمام النووي: والمقصود من هذه الأحاديث أن يَضَعَ الساجد كفَّيه على الأرض ويَرفَعَ مِرفَقَيه ـ أي ذراعيه ـ عن الأرض وعن جنبَيه رفعًا بليغًا، بحيث يَظهر باطن إبطَيه إذا لم يكن مستورًا، وهذا أدب متفَق على استحبابه، فلو تَرَكَه كان مُسيئًا، والنهيُ للتنزيه، وصلاته صحيحة.
والحكمة في هذا أنه أشبهُ بالتواضع، وأبلغُ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعدُ من هيئات الكُسَالَى، فإن المنبسط يُشعر حالُه بالتهاونِ بالصلاة وقلةِ الاعتناء بها والإقبالِ عليها، ومع ذلك فإنه لو بسَط ذراعَيه على الأرض في السجود فإن ذلك لا يُفسد الصلاة، وصلاتُه صحيحة، ولكنه خلاف السُّنَّة.(1/728)
في قوله صلى الله عليه وسلم سُبُّوح قُدُّوس في سجوده
س: أسمع بعض الناس في سجودهم يقولون: سُبُّوح قُدُّوس. فلا أفهم لها معنًى، فهل ذلك وارد في الشرع؟ وما معناهما؟
جـ: (سُبُّوح) من صفات الله تعالى، قال صاحب القاموس: (سُبُّوح قُدُّوس) من صفاته تعالى؛ لأنه يُسبَّحُ ويُقدَّسُ. وقال صاحب "المختار": سُبُّوح من صفات الله تعالى. وقال صاحب القاموس: و(سبحان الله) تنزيهًا لله من الصاحبة والولد، معرفةٌ، ونُصب على المصدر، أي: أُبرِّئُ اللهَ من السوء براءةً. أو معناه السرعةُ إليه والخفةُ في طاعته. هذا كلام صاحب المختار وصاحب القاموس.
ولو نظرنا إلى أصل الاشتقاق لوجدنا أن كلمة سبوح تفيد معنيين:
الأُول التنزيهُ، والثاني السرعةُ. وهما بالنسبة إلى الله تعالى يُفيدان تنزيهَ الله تعالى عما لا يَليق به وسرعةَ الاتجاه والوصول إليه. وعلى هذا فمعنى (سبحان الله): أُنزِّهُ الله تعالى عما لا يَليق به وأتوبُ إليه وأتصلُ به مسرعًا.
وهل (سُبُّوح قُدُّوس) معناها: أسبح الله وأنزهه عما لا يليق به؟
(سُبُّوح قُدُّوس) أبلغ من (أسبِّح الله وأنزِّهه عما لا يَليق به) لأن المعنى المصدريَّ يُفيد التأكيد بخلاف الفعل فإنه لا يفيد. وفى صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوح قُدُّوس ربُّ الملائكة والروح".
س: هل ورد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول في سجوده شيئًا آخر؟(1/729)
ج: ورد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: "أعوذُ برضاك من سَخَطِك، وبمعافاتِك من عقوبتِك، وبكَ منكَ، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أَثنَيتَ على نفسِك". ويصح أن يقول الإنسانُ الدعاءَ الذي علَّمه رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسيدنا أبي بكر، رضي الله عنه، وهو: "اللهم إني ظلَمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يَغفرُ الذنوبَ إلا أنت، فاغفرْ لي مغفرةً من عندك وارحَمني إنك أنت الغفورُ الرحيمُ".(1/730)
في سجود السهو
لا يجب سجودُ السهو عند نسيان سُنَّةٍ من سُنن الصلاة، كدعاء الاستفتاح وغيره من السنن، ولا يجب السجود على مذهب الشافعية إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان المصلِّي مقتديًا وسجَد إمامُه سهوًا، ففي هذه الحالة يجب عليه أن يسجد تَبَعًا لإمامه، فإن لم يفعل عمدًا بطَلَت صلاته، ووجب عليه إعادتها إن لم يكن قد نوَى الموافقةَ قبل أن يسجد إمامُه، ويكون السجود سُنَّةً في حق المنفرد.(1/731)
في صلاة الصبح والفجر والضحى
س: ما هي صلاة الصبح وصلاة الفجر وصلاة الضحى؟
ج: صلاة الصبح هي الصلاة المفروضة المحدَّدُ وقتُها بطلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، وهي ركعتان، القراءة فيهما جهرية، ومن السنة طولُ القراءة فيهما وإتيانُها في جماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولو يَعلمون ما في العتمة والصبح لأَتَوْهما ولو حَبْوًا".
أما صلاة الفجر فهي سنة الصبح، وهي ركعتان خفيفتان، القراءة فيهما سرية، وتُصلَّى قبل صلاة الصبح وبعد أذان الفجر. وقد وردت أحاديث صحيحة في بيانها، منها ما رواه الإمام مسلم بسنده عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما. وقد ورد ما يُفيد هذا التخفيف فيهما، رُوي عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ في ركعتي الفجر (قل يأيها الكافرون) و(قل هو الله أحد). وقد حث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هاتين الركعتين فقال: "ركعتَا الفجر خير من الدنيا وما فيها". وإذا كان هذا في النفل فما بالك بالفرض؟ هذا وقد شرَّف الله صلاة الفجر ووَقْتَه فأقسَمَ بها، قال تعالى: (والفجرِ. وليالٍ عشرٍ. والشفعِ والوترِ. والليلِ إذا يَسْرِ. هل في ذلك قَسَمٌ لِذي حِجْرٍ).
وأما صلاة الضحى فهي صلاة تُؤدَّى في وقت الضحى، أي وقت ارتفاع الشمس أولَ النهار، وهي سُنَّةٌ ورَد فيها فضل كبير وأجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: "يُصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقةٌ، فكلُّ تسبيحة صدقةٌ، وكلُّ تحميدة صدقةٌ، وكلُّ تهليلة صدقةٌ، وكلُّ تكبيرة صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن منكَرٍ صدقةٌ، ويُجزئُ من ذلك ركعتان يَركعُهما من الضحى".(1/732)
والسُّلامَى العَرْقُ والمَفصِلُ، ولن يستطيع الإنسان الوفاءَ بحق كل عَرْقٍ ومَفصِلٍ من الصدقات، ومن هنا كانت أهمية صلاة الضحى، إنها تكمل للإنسان ما لم يستطع تحقيقه من الصدقات، وبدونها يكون مقصرًا فيما طُلب منه أداؤُه والقيامُ به، وقد أوصى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصلاة الضحى أبا هريرة وأبا الدرداء. وأقلُّها ركعتان، وأكثرُها اثنتا عشرة ركعة. وأكثرُ ما نُقل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها أنه صلاها ثمانيَ ركعات.(1/733)
في صلاة الفجر
صلاة الفجر ركعتان بعد أذان الفجر، والقراءة فيها سرية، وهي نافلة الصبح وليست فرضًا. وورد في الترغيب فيها الكثير، وهي بنص الأحاديث خير من الدنيا وما فيها.
أما صلاة الصبح فركعتان، والقراءة فيها جهرية، وهي الفرض المطلوب، وإحدى الصلوات الخمس اللائي كتبهنَّ الله على العباد.
ووقت صلاة الفجر بعد أذان الصبح إلى طلوع الشمس، وهو وقت صلاة الصبح الذي يحرُم تأخيرُ الصلاة عنه إلا لعذر، والعذر المقبول يحدده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلمُ عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتَلَى حتى يَبرَأ، وعن الصبي حتى يَكبَرَ" وقوله: "رُفع عن أمتي الخطأُ والنسيانُ وما استُكرِهوا عليه". فإذا ما طلعت الشمس كانت صلاة الصبح قضاءً، ومع ذلك لم يسقط الفرض عن صاحبه، وصلاة الفجر تُصلَّى إذا لم يَحُلَّ وقت الظهر بعد صلاة الصبح.(1/734)
في فضل ركعتي الفجر
ذكر الإمام مسلم في صحيحه جملة من الأحاديث في فضل ركعتَي الفجر والحث عليهما، ومن هذه الأحاديث: عن حفصة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين. وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما. وعنها رضي الله عنها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن على شيء من النوافل أشدَّ معاهدةً منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". وفى هذه الأحاديث دلالة على فضل الركعتين وعلى أنهما من السنن الهامة التي يحرص عليها الإسلام.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس، فيما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال ما معناه: عرَّسنا (أي نزلنا آخر الليل للنوم) مع نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتأهب للرحيل، ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين (أي السُّنَّة) ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة. أي الصبح. وفى رواية لمسلم بسنده عن أبي قتادة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استيقظ والشمس في ظهره. أي بعد أن طلعت وارتفع قرصها. وفيه: فصلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ركعتين (أي السُّنَّة) ثم صلى الغداة. أي الصبح. وعلى ذلك فعلى المسلم إذا استيقظ بعد طلوع الشمس أن يصليَ ركعتَي الفجر ثم يصليَ الصبح كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/735)
في حكم من ترك القنوت
إن القنوت سنة عند الصاحبين وأبي حنيفة وأحمد، وعند الشافعي وعند مالك مندوب، وقد اختلفوا في وقته. وعلى كلٍّ فلا تبطُل الصلاة بتركه، ويسجد سجود السهو.
في: من أدرك ركعة من المغرب
من أدرك ركعة من المغرب يقوم بعد تسليم الإمام فيصلي ركعة يقرأ فيها جهرًا بالفاتحة وبعض آيات من القرآن ثم يتشهد في هذه الركعة التشهد الأول للصلاة، حيث إنها الركعة الثانية بالنسبة إليه شخصيًّا، ثم يقوم من التشهد فيصلي الركعة الثالثة ويقرأ فيها جهرًا بفاتحة الكتاب وبعض القرآن ويتشهد التشهد الأخير. وبذلك يكون قد صلى ثلاث ركعات بثلاثة تشهدات: الأول اقتضته ضرورةُ متابعةِ الإمام، والثاني والثالث التشهدان الأصليان في الصلاة.
والقاعدة في قضاء ما فات من الصلاة، كما قال المالكية، أن يَبنيَ على الأفعال فيَعتبِرَ نفسَه حال القضاء كأنما كان يصلِّي ما صلَّى مع الإمام منفردًا، ويبني عليه ويُكمل الصلاة، ويَقضى ما فاته بحسَب الوضع العادي الطبيعي.(1/736)
في صلاة الشفع والوتر وركعتي الفجر
صلاة الشفع والوتر وركعتا الفجر حكمها أنها سنة مؤكدة، فهي آكد السنن التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشفع يكون بعد العشاء، وهو ركعتان. والوتر ركعة واحدة فتكمل ثلاث ركعات. أما ركعتا الفجر فتُصلَّيَان قبل صلاة الصبح. وقد ورد في الترغيب فيهما وفى فضلهما كثير من الأحاديث الصحيحة، ومن ذلك ما رواه الشيخان وأحمد وأبو داود عن عائشة قالت: لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على شيء من النوافل أشدَّ معاهدةً من الركعتين قبل الصبح. وروى أحمد ومسلم والترمذي عن عائشة أيضا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".(1/737)
في سنة المغرب
سنة المغرب المؤكدة ركعتان بعده، ويُندب ست ركعات بعد صلاة المغرب خلافَ السنة المؤكدة ـ وهذا عند الحنفية ـ وعند الشافعية ركعتان بعد المغرب سنة مؤكدة وركعتان قبل المغرب غير مؤكدة. ويُسن تحقيقهما وفعلهما بعد إجابة المؤذن لحديث: "بين كل أذانين صلاة" والمراد الأذان والإقامة. ويقول المالكية: إن من السنة الراتبة ستَّ ركعات بعد صلاة المغرب وهي مندوبة ندبًا أكيدًا.(1/738)
في صلاة الوتر
يجوز صلاة ثلاث ركعات من الوتر بسلام واحد عند الشافعي وأحمد، والحنفيون يعتبرون هذه الصورةَ ـ صورةَ صلاة الوتر مع التشهد في الوسط دون سلام كصلاة المغرب ـ أمرًا لا يجوز سواه، ويستدلون على ذلك بما رُوي عن علي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يوتر بثلاث. أخرجه أحمد والترمذي. واستدلوا أيضًا بما رُوي عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهنَّ. وقال مالك: الوتر ركعة واحدة يسبقها شفع. أي صلاة ركعتين فأكثر من الركعات المزدوجة لا المفردة.
ويمكن القول بأن الأدلة الصحيحة فيما يتصل بعدد ركعات الوتر قد تفاوتت وتعددت، فرُوي أنه ركعة واحدة بعد ركعات مزدوجة، ورُوي أنه ثلاث ركعات متصلة سواء سبَقها نَفل أوْ لا. ورُوي أنه خمس ركعات متصلة متتابعة لا جلوس إلا في آخرها قبل السلام. ورُوي أنه سبع ركعات متصلة.
وكل هذه الروايات صحيحة صريحة وكلها سنة. والعمل بأيِّها على سبيل الاتِّباع يُجزئ، ولا ضرورة للاختلاف ما دام قد ثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل هذه الصورة ليبين للناس أنها كلها صحيحة وأنها من السنة.(1/739)
في هل بعد الوتر صلاة؟
وهل ورد شيء في فضل صلاة الليل؟
يسأل كثير من الناس في هذا الموضوع، والأصل فيه ما رواه الإمام مسلم عن جابر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أن يُقيم من آخر الليل فليُوترْ أوله، ومن طَمِعَ أن يقوم آخره فليوترْ آخر الليل، فإن صلاة الليل مشهودة، وذلك أفضل". وكان للصحابة عادات في ذلك معروفة، فقد روى الإمام مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان أبو بكر الصديق إذا أراد أن يأتي فراشه أوتَرَ، وكان عمر بن الخطاب يوتر آخر الليل. قال سعيد بن المسيب: فأما أنا فإذا جئت فراشي أوتَرْتُ. وقد يصلي بعض الناس الوتر في أول الليل خشية ألاّ يستيقظ من آخره وينام بعد الفراغ من صلاته، ثم يستيقظ في أثناء الليل ويمنحه الله نشاطًا ويرزقه قوةً على العبادة وانشراحًا للصلاة، وعلى هذه الحالة له أن يصليَ ما يشاء الله له، وليس عليه أن يُعيد الوتر، يقول الإمام مالك : من أوتَرَ أول الليل ثم نام ثم قام فبدا له أن يصليَ فليُصلِّ مثنَى مثنَى. ويقول صاحب بداية المجتهد: ذهب كثير من العلماء إلى أن المرء إذا أوتر ثم نام فقام يتنفل فإنه لا يوتر ثانية لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وِتران في ليلة".
أما عن فضل صلاة الليل فقد روى الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل صلاة الليل، وهي تفسير وشرح لما ورد في القرآن أمرًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باعتباره قدوةً، أو ورَد وصفًا للصالحين، ومن ذلك قوله تعالى: (ومن الليل فتَهجَّدْ به نافلةً لك عسى أن يَبعثَك ربُّك مقامًا محمودًا) وقوله تعالى: (تَتجافَى جنوبُهم عن المضاجع يَدْعُون ربَّهم خوفًا وطمعًا).(1/740)
في أداء صلاة التراويح
لا تؤدَّى صلاة التراويح إلا في ليالي رمضان فقط، فإذا انقضت ليالي رمضان فقد انقضَى وقت التراويح حتى لِلَّذين عليهم قضاءُ رمضان كلِّه أو شيءٍ منه، والدليل على ذلك قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم في صحيحه: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر الله ما تقدم من ذنبه". وقيامه هو صلاة التراويح.
أما الذي يصومون في غير رمضان فليس لهم إلا قيامُ الليل، فإنه نافلة عامة في جميع ليالي السنة كلها، وردت بها نصوص الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، قال الله تعالى: (إن المتقين في جناتٍ وعيونٍ. آخِذِين ما آتاهم ربُّهم إنهم كانوا قبل ذلك مُحسِنين. كانوا قليلاً من الليل ما يَهجَعون) وعن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ عن أبيه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "نعم الرجلُ عبدُ الله لو كان يصلي من الليل" قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام الليل إلا قليلاً. متفق عليه. وعن أبي هريرة، رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" رواه مسلم.(1/741)
في صلاة العيدين
صلاة العيدين سنة مؤكدة وليست واجبةً، أي فرضًا، لأن الصلوات قد حددها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخمس في كثير من الأحاديث الصحيحة، كحديث الأعرابي حينما أخبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فريضة الخمس الصلوات في اليوم والليلة فقال: "هل عليَّ غيرها؟ قال: "لاَ، إلاّ أن تَطَّوَّعَ". وما ورد في حديث الإسراء: "هنَّ خمس" أي في العمل "وهنَّ خمسون أي في الأجر". ومن لم يدرك صلاة العيد يَقضيها في وقت من أوقات إباحة صلاة النفل. أما عن حكم القضاء فهو تابع لحكم صلاة العيد نفسها، من أنها سنة مؤكدة.(1/742)
في سَنِّ تعجيل صلاة عيد الأضحى وتأخير صلاة عيد الفطر
السبب في ذلك أن يوم الأضحى يوم يضحِّي فيه المسلم بالذبائح، والذبح يكون بعد الصلاة لا قبلها، فلو تأخرت الصلاة لَتَوهَّمَ بعض الناس انتهاءَها فبادَرَ بالذبح قبل الصلاة ففسَدَت الأضحية ولم تُؤَدَّ عن صاحبها، وصارت لا تزيد على كونها لحمًا لا يَختلف عن اللحم المذبوح في غير أيام العيد، لم يَستوف شروط القربة ولم تَجتمع فيها شروط القبول، ومما يوضح ذلك ويقرره ما رواه البخاري بسنده عن البراء قال سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب فقال: "إن أولَ ما نَبدأ به في يومنا هذا أن نصليَ ثم نرجعَ فنَنحَرَ، فمن فعل فقد أصاب سُنَّتَنا". وفى رواية للبخاري عن البراء قال: خطبنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: "من صلَّى صلاتنا ونسَك نُسُكَنا فقد أصاب النُّسُك، ومن نسَك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة ولا نُسُكَ له" فقال أبو بُردة بن نِيَار خالُ البراء: يا رسول الله، إني نَسَكت شاة قبل الصلاة وعرَفت أن اليومَ يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أولَ شاه تُذبَحُ في بيتي، فذبحت شاتي وتَغدَّيت قبل أن آتيَ الصلاة. قال: "شاتُك شاةُ لحم".
أما تأخير صلاة عيد الفطر فذلك ليأكلَ قبل أن يخرجَ فيخالفَ عادة الصيام بالأكل بعد طلوع الفجر، عن أنس بن مالك، فيما رواه البخاري قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. ولم يكن الأكل قبل الخروج لصلاة عيد الفطر كثيرًا بل كان يسيرًا يُشعر بالاستجابة لأوامر الله تعالى والشكر له، ولو كان الأكل للقضاء على الجوع أو لمتابعة حاجة الجسد إلى الطعام لَمَا اقتَصرَ على التمرات ولَوَصَلَ بالطعام إلى حد الشبع.(1/743)
ومما ينبغي التنبيه إليه أن صلاة العيد لا تُصلَّى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها، وإنما بعد طلوعها بوقت تَحِلُّ فيه النافلة، أي بعد أن ترتفع عن مطلعها قدر ذراع، والفرق بين وقت صلاة عيد الأضحى وعيد الفطر ليس بكثير.(1/744)
في تكبيرات صلاة العيد
تكبيرة الإحرام في الافتتاح لصلاة العيد تكون بقول (الله أكبر) بعد نية صلاة العيد والقيام لها، وهي في ذلك لا تختلف عن أي صلاة عادية. ولكن صلاة العيد تتميز بتكبيرات أخرى عدا تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى وعدا تكبيرة القيام في الركعة الثانية.
ويرى الشافعية ومن وافقهم أن عدد التكبير في صلاة العيد سبع تكبيرات في الركعة الأولى غير تكبيرة الإحرام، وخمس في الثانية غير تكبيرة القيام.
ويرى المالكية ومَن وافَقهم أن التكبير في صلاة العيد سبعٌ في الأولى بتكبيرة الإحرام وخمسٌ في الثانية غير تكبيرة القيام، ويستحب الفصل بين كل تكبيرتين فصلاً يَتميز به العدد ويَتمكن المأمومون من ترديد التكبير.
وقال الشافعي وأحمد: يستحب الذكر بين كل تكبيرة وأخرى بأن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
والاختلاف في التكبير إنما هو اختلاف في عَدِّ تكبيرة الإحرام منها أو عَدَمِ عَدِّها، والصورتان صحيحتان، وكل منهما جائز.(1/745)
في ذهاب النساء إلى صلاة العيد كما يَذهَبنَ إلى الجمعة
لا يجب على النساء الذهاب إلى صلاة الجمعة، ويجوز لهنَّ إذا أُمنَت الفتنةُ عليهنَّ أو الفتنةُ بسببهنَّ حضورُ الصلاة وأداؤُها، ولا يجوز لرجل منعُهنَّ من هذا الحضور.
وإذا كانت النساء في هذا العصر قد تَغَلغَلنَ في كثير من شئون الحياة، ودخَلنَ في كثير من المجالات، وأصبَحنَ يَحضُرنَ في أكثر الأماكن العامة ولو كان مما يَصرف عن الدين، كالسينما ونحوهما، فإن في ذَهابهنَّ إلى المساجد لحضور صلاة الجمعة تدعيمٌ لإيمانهنَّ وتقويةٌ لدينهنَّ وزيادةٌ في عملهنَّ بما يَستمعنَ إليه من آيات الله وأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعاليم الدين الرشيدة في خطبة الجمعة، ولهنَّ الثواب على هذا الانتفاع، خاصة وقد اتسعت المساجد وتحددت فيها أماكن خاصة للسيدات، بل لقد خصصت مساجد خاصة لصلاة النساء.
وقد ورد عن السلف ما يفيد ذلك، فقد ورد أن ابن عمر، رضي الله عنه، روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تَمنَعوا إماءَ الله مساجدَ الله" فقال ابن له: واللهِ لَنَمنَعُهنَّ. فقال له: أحدثُك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقول: واللهِ لَنَمنَعُهنَّ؟ واللهِ لا أكلمُك أبدًا. ولم يكلمه حتى مات.
إذا لم تذهب النساء لحضور الجمعة وإذا خيفت الفتنة من ذلك الحضور فصلاة الجمعة بالنسبة إليهنَّ هي صلاة الظهر أربع ركعات، ويسقط بأدائها عنهنَّ الفرضُ.
وواجب النساء في الذهاب إلى صلاة الجمعة لُبْسُ الملابس السابغة الواسعة وأن يكون شعورُهنَّ في الذهاب أداءَ الواجب الديني، وقد كانت زوجة سيدنا عمر ـ رضي الله عنها وعنه ـ تذهب إلى المسجد على هذه الصورة وكان لا يمنعها.(1/746)
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام عنايةُ الإسلام بحفظ كرامة النساء والعملُ على منع كل ما يمكن أن يُصيبَهنَّ من مضايقات، وفى نفس الوقت حرصُه على منع العبادة من أن يَتطرق إليها ما يُفسدها أو يَخرجَ بها عما حُدَّ لها من حدود.
أليس من ذلك ما يشير إلى وجوب احترام المرأة لتعاليم دينها وبُعدها عن كل ما يسبب الخروج عن هذه التعاليم في الزي أو في السلوك أو الاجتماع والاختلاط؟
ثم إن فيه أيضًا وجوبَ تجريد العبادة من كل خروج عن حدودها أو الابتعاد بها عن كل ما لا يتوافر لها من أجواء.
صلاة العيدين تَخرج النساء إليها ليتدعم الإيمان وتعُم الفرحة، وروى البخاري وغيره عن أم عطية قالت: أُمرنا أن نُخرج العواتق وذوات الخُدور. أي البالغات من النساء والمحتَجِبات في ذلك اليوم. وقد بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ علة ذلك فقال: "يَشهَدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين" وزاد في تأكيد خروج النساء في ذلك اليوم فقال: "من ليس عندها جلبابٌ تَخرج به لِتُلْبِسْها صاحبتُها من جلبابها، فيَشهَدنَ الخير ودعوةَ المسلمين". وكل ذلك ما لم تَخرج المرأة من حدود الشرع في اللباس أو الوقار وإلا مُنعَت من الخروج.(1/747)
في الزوجة التي خرجت متزينة لصلاة العيد
الزوجة التي خرجت لصلاة العيد في أحسن ملابسها وطيبها لا إثم عليها ما دامت غير متبرجة، لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإخراج النساء العواتق وذوات الحَيض يوم العيد؛ يَشهَدنَ العيد والصلاةَ والتكبير واجتماع المسلمين، فإن كانت متبرجة فهي آثمة ولا حقَّ لها في الخروج ولو بإذن زوجها.(1/748)
في صلاة العيدين، من السنة أن يعود المصلون من طريق
غير الطريق إلى ذهبوا منها إلى المصلَّى
روى الإمام البخاري بسنده عن جابر قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان يوم عيد خالف الطريق. وأخرج أبو داود والبيهقي والحاكم، بسند رجاله الثقات، عن ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ يوم العيد في طريق ثم رجع في طريق آخر.
السنة إذًا هي المخالفة بين الطريقين، وإن جاز عدمُ المخالفة لِمَا رواه أبو داود والحاكم والبيهقي عن بكر بن مبشر الأنصاري قال: كنت أغدو مع أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المصلَّى يوم الفطر ويوم الأضحى فنَسلُكُ بطن بُطحان حتى نأتيَ المصلَّى فنصلي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم نرجع من بطن بُطحان إلى بيوتنا.
أما السبب في تغيير طريق العودة أو الرجوع من المصلَّى في العيد فيشمل وجوهًا متعددة منها:
1 ـ أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان وسكانهما من الجن والإنس.
2 ـ وقيل: ليسويَ بينهما في مزية الفضل بمروره فيهما أو في التبرك به أو ليُشَمَّ رائحة المسك من الطريق التي يمر بها لأنه كان معروفًا بذلك.
3 ـ إن ذلك كان لإظهار الإسلام في الطريقين برفع الصوت بالذكر وإظهار الشكر لله على العيد.
4 ـ ومن أسباب ذلك عموم السرور به ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا اليوم والتبرك بمروره ورؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء والتعلم والاقتداء والاسترشاد والصدقة على المستحقين والسلام عليهم وغير ذلك.
5 ـ ويمكن أن يُضم إلى ذلك التفاؤلُ بتغير الحال إلى تمام الرضا وكمال المغفرة.
وأجمل ما قيل في ذلك قول أبي جَمرة رحمه الله: هو في معنى قول يعقوب لبَنيه: (لا تَدخلوا من بابٍ واحدٍ) فأشار إلى أنه فعل ذلك حَذَرَ إصابة العين. وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخَذ بهما وترَك ما سواهما.(1/749)
ويمكن أن نضم إلى ما تقدم أن الناس كانوا يسيرون خلفه، فلم يكن لِيَشُقَّ على نفسه وعليهم بالنفاذ بينهم وتحويل اتجاههم، ولذلك كان يسير في طريق آخر باعتباره امتدادًا لطريق القدوم، بدلاً من إعادة تنظيم السير والعودة إلى الخلف.(1/750)
في صلاة الاستخارة
روى الإمام البخاري بسنده عن جابر، رضي الله عنه، قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليَركَعْ ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تَقدر ولا أقدر وتَعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنتم تَعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري" أو قال: "في عاجل أمري وآجله فاقدُرْه لي ويسِّرْه لي ثم بارِكْ لي فيه. وإن كنت تَعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري" أو قال: "في عاجل أمري وآجله فاصرِفْه عني واصرِفْني عنه واقدُرْ ليَ الخير حيث كان ثم رَضِّني به". ويسمِّي حاجته.
والمقصود في هذه الاستخارة أساسًا هو الدعاء، وهذه الصلاة تهيئةٌ وتمهيدٌ لهذا الدعاء. وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين (الكافرون والإخلاص) لِما فيها من الإخلاص والتوحيد مما يُعين على صحة الاستخارة. قال العراقي: ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: ( وربُّك يَخلُقُ ما يشاء ويَختارُ) وقوله: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى اللهُ ورسولُه أمرًا أن يكونَ لهم الخِيَرةُ من أمرِهم). وقال ابن حجر: الأكمل أن يقرأ في كل ركعةٍ السورةَ مع الآية.
وهذا كله يدل على أن المرء في الصلاة والدعاء ينبغي أن يكون طالبًا من الله أن يختار له الخير، وأن يهيئَ له أسباب السعادة والتوفيق.(1/751)
في سجدة التلاوة
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، فيما رواه مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابنُ آدم السجدة فسجَد اعتزَل الشيطانُ يبكي ويقول: وَيلَهُ، أُمِرَ بالسجود فسجَد فله الجنةُ، وأُمِرتُ بالسجود فعصَيتُ فليَ النارُ".
وفى القرآن الكريم بضعَ عشرةَ آية ذُكر فيها السجود أو الركوع، وشُرع عند تلاوتها أو سماعها السجودُ من التالي والسامع طاعةً للأمر، واقتداءً بالصالحين، ورمزًا لتقديس الله وتعظيمه والخضوع له، وذكرًا لجلاله، وشكرًا لنعمه، وابتغاءً لرحمته، وخشيةً لعذابه. والسجود من أعمق الإشارات لمعاني العبودية والتذلل والخضوع لله العلي الكبير. ويَلزم لسجود التلاوة ما يَلزم للصلاة، من الطهارة في البدن والثوب والمكان واستقبال القبلة ونحو ذلك، غير أنه لا تشهُّدَ له ولا تسليمَ.
وقد نص بعض الفقهاء أن سجدة التلاوة لا تجب عند السماع من الصدَى، فلعل سماعَها من المذياع كذلك حكايةً للصوت الملتَقَط المختَزَن، وبناءً على ذلك يرجَّح أن مَن سمعها مِن المذياع أو التليقزيون من المتكلِّم نفسه ساعةَ نطقه لا من الشريط الذي يُستعاد ـ فإنه يكلَّف بالسجود. ومن تلاها في الصلاة سجَد هو والمقتَدون به، ثم عاد إلى حيث كان من الصلاة.(1/752)
في جهر المرأة عند قراءتها في الصلاة
جهر المرأة عند قراءتها في الصلاة ينبغي أن يكون بحيث تُسمع نفسَها أو نفسَها ومَن يَليها، أما رفع الصوت كالرجال فمكروه، وصوت المرأة ليس بعورة.
وهناك نوعان من الكلام:
الكلام العادي الجاد الذي لا تكسُّر فيه ولا تمطيط، بحيث يسمعه السامع فلا يَستشعر غرابة ولا يجد فيه مظهرًا من مظاهر التكلف.
وهناك الكلام المرقَّق الممتلئ بالتكلُّف وإظهار نغمات الصوت المُثير للأحاسيس والغرائز.
وقراءة القرآن للمرأة إذا لم تكن عالمة بأحكامها كثيرًا ما تَخرج من اللون المتوازن إلى اللون غير المتوازن، فيثير الصوت ما لا ينبغي إثارته، ويخرج بجوِّها عن جو الصلاة. وقد أرشد الله سبحانه إلى الفرق بين النوعين في قوله: (يا نساءَ النبيِّ لَستُنَّ كأحدٍ من النساءِ إنِ اتَّقَيتُنَّ فلا تَخْضَعنَ بالقولِ فيَطمَعَ الذي في قلبِه مرضٍ وقُلنَ قولاً معروفًا). قال القرطبي: أمَرَهنَّ الله أن يكون قولُهنَّ جَزْلاً وكلامُهنَّ فَصْلاً، ولا يكون على وجهٍ يُظهر في القلب علاقةً بما يَظهر عليه من اللِّين، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولِينه، مثل كلام المربِّيات والمومسات، فنَهاهنَّ عن مثل هذا.(1/753)
في شرائط صلاة الجمعة
يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا إذا نُوديَ للصلاة من يومِ الجمعةِ فاسْعَوا إلى ذكرِ اللهِ وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قُضيَتِ الصلاةُ فانتَشِروا في الأرضِ وابتَغُوا من فضلِ اللهِ واذكروا اللهَ كثيرًا لعلكم تُفلحون) ويقول سبحانه وتعالى ناصحًا ومحذِّرًا: (وإذا رأَوْا تجارةً أو لَهْوًا انفَضُّوا إليها وترَكوك قائمًا قلْ ما عند اللهِ خيرٌ من اللهوِ ومن التجارةِ واللهُ خيرُ الرازقين).
فالغرض من يوم الجمعة هو صلاة الجمعة في وقت الظهر على من استَكمَل شرائطَها؛ وهو أن يكون مقيمًا، خاليًا من الأمراض، وأن يكون بالغًا عاقلاً، ولا يكونَ على ثغر من ثغور المسلمين، ووجودُه في حراسةِ ما لابد من حراسته يَجوزُ معه تَرْكُ الجمعة وأداؤُها ظهرًا، فمن استَكمَل شرائطَ الجمعة ولم تكن لديه أعذار شرعية مانعة وجَبت عليه صلاة الجمعة، لا يُعفيه عنها أي شغل. ويجب على المسئولين عن العمل أن يهيئوا الفرصة لصلاة الجمعة، وأن يعوضوها بوقت آخر، فهي لا تَعدو أن تكون ساعةً كل أسبوع، وتَرْكُها معصية.(1/754)
في طهارة المكان الذي تؤدَّى فيه الصلاة
من شروط صحة الصلاة طهارةُ المكان واستقبالُ القبلة، فمتى كان المكانُ طاهرًا واستقبالُ القبلة متحقِّقًا صحَّت الصلاة في أي مكان ولو كان ذلك المكان بيتَ مسيحي، قال عليه الصلاة والسلام: "جُعلَت ليَ الأرضُ مسجدًا وطهورًا، فأيُّما عبدٍ مسلمٍ أدرَكَته الصلاةُ فليُصَلِّ". ولا حَرَجَ في ذلك، وربما كانت الصلاة في بيت المسيحي داعيةً له إلى التأمل في وقوف المسلم يبن يدي ربه على طهارة كاملة، مستقبلاً القبلة، يناجيه بكلامه، ويوحده ولا يشرك بعبادته أحدًا من خلقه، ربما كان ذلك داعيًا له إلى التأملِ فيما هو عليه والمقارنةِ بين هذه العبادة في بساطتها وصحتها في أي مكان وبين الطقوس التي لا يجوز له أن يؤديَها إلا في الكنائس وبواسطة القسيس، فيَهديه بذلك إلى الطريق الحق ويُرشده إلى الصواب في العبادة ويفتح له باب الخير والسعادة.(1/755)
في شد الرحال إلى المساجد
روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من أصحاب الكتب المعتمَدة عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجدَ: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" والسبب في ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" وما عدا ذلك من المساجد هل يوجد تفاضل بينهما يُبيح للمسلم أن يَترك أحدَها إلى غيره؟ يروي البخاري وغيره عن ابن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأتي مسجد قباء كلَّ سبت ماشيًا وراكبًا فيصلي ركعتين.
واستدل بعض العلماء بذلك على أن أفضلية المساجد بحسَب القدم، فالقديم أولَى من غيره بالصلاة فيه. ولكن زيارة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمسجد قباء إنما تُفيد الجواز ولا تُفيد التفضيلَ وإلا الداومَ على ذلك. وقيل: أفضل المساجد ما كثُر جمعه. وقيل: ما بعُد لكثرة الأجر. وقيل: ما قرُب لعدم العُسر.
والذي نراه أن ذلك أمر جائز بشرط ألاّ يكون مَن يترك المسجدَ الذي يوجد في الحي إمامًا يَحتاج إليه أهل حيه، وبشرط ألاّ يُحدثَ تركُ المسجد تشويشًا على إمام المسجد أو على المصلِّين حين يتركه شخص يزعم أن الصلاة في غيره من المساجد البعيدة عن الحي أفضل.(1/756)
في أداء صلاة الجمعة في جماعة
نؤدي ـ نحن المسلمين ـ صلاة الجمعة في جماعة لأن الجمعة لنا بمثابة عيد أسبوعي نجتمع فيه إلى الله ونتوجه إليه ونتشاور في أمورنا، ولهذا شُرعت لها الخطبة، ومن لم يدركْ صلاة الجمعة في جماعة فلا حظَّ له في الجمعة، ولا يصليها ركعتين بل يؤديها ظهرًا، ومن تَعمَّدَ تَرْكَ الجمعة واكتفَى بصلاة الظهر بدلاً منها فهو آثم. والله أعلم.(1/757)
في صلاة الجمعة في المذهب الشافعي
لا يُجمع بين صلاة الجمعة والظهر ـ في المذهب الشافعي ـ إذا لم تَزِدْ المساجد التي تقام فيها الجمعة عن حاجة البلد الذي تَعددت فيه المساجد، فقد كان الإمام الشافعي بالعراق لا يصلي الظهر بعد الجمعة لعدم زيادة المساجد عن حاجة البلد. أما لو زادت المساجد التي تُصلَّى فيها الجمعة في البلد الواحد عن حاجة أهل ذلك البلد فإنه لابد حينئذ من صلاة الظهر، لأن جمعة مَن تأخروا عن غيرهم في الركعة الأولى باطلة، وهو أمر غير معروف للمصلِّين جميعًا، فتُعاد صلاةُ الظهر بعد الجمعة في البلد الذي تعددت مساجده لغير حاجة احتياطًا.(1/758)
في خطبة الجمعة
خطبة الجمعة موعظة وتذكير للمسلمين في أمور دينهم وبيان للوضع السليم في كل ما يحدث في المجتمع من انحرافات، وإذا كانت الغالبية العظمى من المصلين لا تفهم اللغة العربية فإن فائدة الخطبة تَضيع ويُصبح إلقاؤُها عبثا، ومن أجل ذلك فإنه على الخطيب الذي يخطب الجمعة في مجتمع لا يفهم اللغة العربية أن يُلقيَ أولاً كلمةً موجَزةً كلَّ الإيجاز، يبدؤها بحمد الله والصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويوصي بتقوى الله ويقرأ شيئًا من القرآن ويدعو للمسلمين، ويكفي مقدار أربع دقائق مثلاً لذلك، وفى هذا من الفائدة أن يُذكِّرَ الناسَ، ثم يبدأُ في إلقاء خطبةٍ تامة بلغة القوم الذين يخاطبهم، فيؤدي بذلك جميع ما يَتطلبه الموقف الشرعي؛ من قراءة القرآن باللغة العربية في الخطبة التي بدأ بها ومن الموعظة والنصيحة بلغة القوم فيما تحدث به بعد ذلك.
أما كونُ خطبةِ الجمعة فرضًا أم سنةً، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنها فرض، وهي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها.(1/759)
في حكمة فرض الجمعة
إن من حكمة فرض الجمعة أمورًا، منها الاجتماعُ للتعارف والتآلف والمودة والتشاور بين المسلمين بعضهم لبعض والتعاون فيما بينهم، ومنها الاجتماعُ في فترة من فترات الأسبوع على ذكر الله، ومنها سماعُ خطبة الجمعة، وخطبتُها موعظة وعبرة وتذكير بالله، وخطبةُ الجمعة في الوضع السليم درس أسبوعي من فوق المنبر، إنها تعليم للجاهل، وتبصرة للمسترشد، وتذكير للغافل.
ولابد أن يَنصرف الناس قَسرًا لتجديد الإيمان عن طريق درس بصورة جبرية هو خطبة الجمعة، لابد من صرفهم عن الانغماس في المادة بصورة اضطرارية ليسمعوا ما يذكِّرهم بالدار الآخرة وما يبصِّرهم بأمور دينهم، ولهذه المعاني وغيرها يؤدي المسلمون صلاة الجمعة جماعة.
وعن هذه المعاني وغيرها يقول الله سبحانه: (يا أيها الذين آمَنوا إذا نُودِيَ للصلاةِ من يومِ الجمعةِ فاسعَوْا إلى ذكرِ اللهِ وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون).
في أداء صلاة الفريضة في مسجد الجمعة الذي يجتمع فيه المسلمون
لا مانع من أداء صلاة الفريضة في مسجد غير مسجد الجمعة الذي يجتمع فيه المسلمون، ومن النعم الإلهية التي افتَخَرَ بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبَيَّنَ أنه فُضل بها على الأنبياء أن الأرض كلها جُعلَت له مسجدًا وطهورًا، يُصلي في أيِّها شاء ما دام المكان طاهرًا، وما دام لم يَرِدْ نهيٌ من الصلاة فيه أو كراهيةٌ لفعلها فوقه، كالمقابر والمجازر وما إلى ذلك.
وما دام المسجد قد بُنيَ للصلاة فيه حلَّت فيه صلاة الجماعة، ووجَب على المسلمين عمارتُه بالعبادة والأذان والصلاة فيه، ولا يَحلُّ لهم هجرُه أو تخريبُه تحت أي دعوى ومع أي شعار، ما دام المسجد لم يُقصد به الإضرارُ بالمسلمين وتفريقُ كلمتهم وثَلْمُ وَحدتهم. على أن كثيرًا من الأئمة قالوا بجواز صلاة الجمعة في مسجد غير المسجد الجامع، خاصة إذا كثر الناس وضاق بهم المسجد الجامع.(1/760)
وما يحرص عليه الإسلام ـ قبل كل شيء وبعده ـ هو أداءُ الصلاة مستوفيةً شروطَها والمحافظةُ على وَحدة المسلمين الفكرية والعمليةِ وإزالةُ أسباب التفرق والشقاق بينهم، ذلك لأن العبادة الحقيقية هي التي تُثمر إخاءً وتعاطفًا حقيقيًّا بين المسلمين.(1/761)
في شروط الإمامة في الصلاة
شروط الإمامة في الصلاة أن يكون الإمام مسلمًا، فلا تصح إمامة الكافر إجماعًا، وأن يكون عاقلاً حالَ إمامته، وأن يكون بالغًا عند البعض، وتجوز إمامة الصبي عند البعض الآخر في الفرض والنفل، وان يكون ذكرًا، فلا تصح إمامة المرأة ولا الخنثَى للرجال، وتجوز إمامة المرأة للنساء في الفرائض والنوافل على الراجح، وأن يكون الإمام مستوفيًا لشروط الصلاة، سالمًا من الأعذار إذا وُجد مَن هو أصح منه. ومن فقَد شرطًا من هذه الشروط حرُمت إمامته لتسببه في فساد صلاة المأمومين إذا لم يعلموا بما هو عليه مِن فَقْدِ شروط الصلاة.
والفرق بين صلاة الفرض والنفل والركوع والسجود غير موجود، إن الركوع هو الركوع، والسجود هو السجود بهيئته، ولزومُه في الصلاة وعدمُ صحة الصلاة فرضًا كانت أو نفلاً بدون واحد منها.
ومما لا يمكن التسامح فيه التنازعُ على منصب الإمام بحجة الفضل في العلم أو القراءة أو السن أو الورع أو ما إلى ذلك، فإن تقديم الأفضل في ذلك أمر مندوب وليس بواجب، فإذا تَرتَّبَ عليه تنطُّعٌ من غير الأفضل فلا تصحُّ منازعته في ذلك ما دام مستوفيًا لشروط الإمامة. والآداب الإسلامية يمكن الدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد اتفق العلماء على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل ما دام مستوفيًا لشروط الإمامة.(1/762)
في إمامة الجمعة للمسافر
الحنفية يجيزون إمامة الجمعة للمسافر، فقد قالوا: يشترط في الجماعة التي تصح بها الجمعة أن تكون بثلاثة غير الإمام، وإن لم يحضُروا الخطبة، فلو خطب بحضور واحد ثم انصرف قبل الصلاة وحضر ثلاثة رجال بعد ذلك وصلى بهم صحت من غير أن يُعيد عليهم الخطبة. ويُشترط فيهم أن يكونوا رجالاً، ولو كانوا عبيدًا أو مرضَى أو مسافرين أو أُمِّيِّين أو بهم صَمَمٌ، لأنهم يَصلحون للإمامة في الجمعة إما لكل أحد، وإما لِمِثلِهم في الأمِّيِّ والأخرسِ بعد أن يخطب واحد غيرهم، إذ لا يُشترط أن يكون الخطيب هو الإمام للجمعة، فصلاحيتهم للاقتداء لغيرهم أولَى، بخلاف النساء أو الصبيان فإن الجماعة في الجمعة لا تصح بهم وحدهم لعدم صلاحيتهم للإمامة بمثلهم فيها.
والشافعية تجوِّز إمامة المسافر في صلاة الجمعة إذا كان زائدًا على الأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة، فإن كان منهم فلا تجوز إمامته، فقد قالوا: من شروط الخطبة أن يكون الخطيب ذكرًا وأن تصح إمامته للقوم، فإن كان من الأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة ـ إذ لا تنعقد عندهم بأقل من أربعين ـ فيُشترط في الإمام ما يُشترط في المأمومين، بأن يكونوا أحرارًا ذكورًا مكلَّفين متوطِّنين بمحل واحد، فلا تنعقد بالعبيد والنساء والصبيان والمسافرين. وإن كان الإمام زائدًا على الأربعين صح أن يكون صبيًّا أو عبدًا أو مسافرًا.
والمالكية يشترطون في إمامة الجمعة أن يكون ممن تجب عليه الجمعة، ولو كان مسافرًا نوى الإقامة أربعة أيام، لكن بشرط أن تكون الإقامة بغير قصد الخطبة، فإن أقام بقصد الخطبة فلا يصح أن يكون إمامًا.
ويشترط المالكية أن يكون الإمامة هو الخطيب، فلو صلى بهم غير مَن خطَب فالصلاة باطلة، إلا إذا منَع الخطيبَ من الصلاة مانع يُبيح له الاستخلافَ ـ كرُعاف ونقض وضوء ـ فيصح أن يصليَ غيرُه إن لم يُنتظر زوالُ عذره في زمن قريب وإلا وجب انتظاره.(1/763)
والحنابلة يشترطون أن يكون الخطيب ممن تجب عليه الجمعة بنفسه، فلا تُجزئ خطبة عبد أو مسافر، ولو نوى إقامة مدة ينقطع بها السفر فيشترطون فيه ما يشترطونه في الجماعة الذي تنعقد بهم الجمعة وهم:
1 ـ أربعون ولو بالإمام
2 ـ أن يكونوا ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم، وهم الأحرار الذكور البالغون المستوطنون بالمحل الذي يصح أن تقام فيه الجمعة. فلا يصح أن يكون من جماعة الجمعة رقيقٌ ولا أنثى ولا صبي ولا مسافر ولا مقيم غير مستوطن ولا مستوطن بمحل خارج عن بلد الجمعة.(1/764)
في صلاة النافلة في أثناء خطبة الإمام
لقد حث الله سبحانه وتعالى على التقرب إليه بفعل الطاعات، وأرشد رسولُه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى الإكثار من النوافل ليكون ذلك جبرًا للإنسان عما سبق من تقصير أو خطأ. وعلى الرغم من أن النافلة زيادة عما فرضه الله، سبحانه وتعالى، على عباده فإنها تَجبُرُ الإنسانَ وتَزيده قربًا من الله تعالى، لذلك أمر بها الله سبحانه وحث عليها نبيُّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير أن الأمر لم يكن على طريق الفرض أو الوجوب.
أما من دخل المسجد والخطيبُ فوق المنبر، فإن السادة الفقهاء اختلفوا فيما بينهم؛ هل تجوز له صلاة ركعتي تحية المسجد أو لا يجوز له ذلك؟
والجواب عن ذلك أن السادة الفقهاء منهم من قال بجواز ذلك شرعًا، بل إن الإنسان مأمور بذلك، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين". والبعض الآخر يقول بعدم جواز ذلك واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صَعِدَ الخطيب فوق المنبر فلا صلاة ولا كلام".
هذه ما ورد عن السادة الفقهاء في حكم مَن دخل المسجد والإمام يخطب، فهل له أن يصليَ تحية المسجد أو ليس له ذلك. أما الوجه الآخر، وهو الراجح والذي نختاره، أن من دخل المسجد والإمام فوق المنبر له أن يصليَ ركعتين خفيفتين ويتجوزَ فيهما.(1/765)
في إذا لحق المأموم الإمام بعد الصلوات
إذا لحق المأمومُ الإمامَ في بعض الركعات اعتبَر ما صلاّه معه أولَ صلاته ثم أكمَلَ الصلاةَ بعد سلام الإمام. فإذا أدرك الركعةَ الأخيرة من الإمام اعتبَرها أولَى ركعات صلاته، فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعة ثم جلس للتشهد الثاني ثم قام فأكمل الصلاة. وإذا أدرك ركعتين مع الإمام قام بعد سلام الإمام فأكمل باقيَ الصلاة، وبما أن القراءة في الصلاة تكون في الركعتين الأُولَيَين بفاتحةٍ وسورةٍ وفى الركعة الثالثة والرابعة بفاتحةٍ فقط، فإن المأموم إذا أدرك الركعة الأخيرة مع الإمام أتَمَّ صلاته على ما بَيَّنَّا وقرأ في الركعة الثانية والثالثة من صلاته بفاتحة وسورة، ثم قرأ الفاتحةَ فقط في الركعة الرابعة، وإذا أدرك ركعتين مع الإمام قام فأكمَلَ الركعتين الأُخرَيَين أو الركعةَ الثالثة في المغرب وقرأ بفاتحة وسورة.
وهذا هو ما يَعنيه الفقهاء بقولهم: يَبني على الأعمال ويَقضي الأقوال.(1/766)
في جواز تجمُّع أهل المذاهب المختلفة للصلاة في مسجد واحد
صلاة الجماعة سنة مؤكدة، وورد في فضلها أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تَضعُفُ على صلاته في بيته وسوقه خمسة وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا تَوضأ فأحسَنَ الوضوءَ ثم خرج إلى المسجد لا يُخرجه إلا الصلاةُ لم يَخطُ خطوة إلا رُفعت له بها درجة وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تَزَلْ الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاّه، ما لم يُحدِثْ: اللهم صلِّ عليه اللهم ارحمه. ولا يزال في صلاة ما انتظَرَ الصلاة".
فاجتماع الناس في مسجد واحد لصلاة الجماعة صحيح مندوب إليه، وكان أهل المدينة جميعًا يجتمعون لصلاة الجماعة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ما من ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بلدٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استَحوَذَ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
والمذاهب الأربعة مستمَدة من القرآن والسنة، كلها صحيحة، فإذا اجتمع أهل المذاهب المختلفة في مسجد واحد فمن السنة المؤكدة أن يؤدوا جميعًا صلاة الجماعة، ولا يضرُّ اختلاف المذاهب.(1/767)
في الجمع بين صلاة الجمعة والظهر
يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والظهر في بلد تعددت فيه المساجد لغير حاجة وأُقيمت الجمعة فيها كلها؛ وذلك للاعتداد بجمعة مَن سَبَقَ غيرَه بالركعة الأولى من المصلين في تلك المساجد، قال بهذا الشافعية. أما إن تعددت المساجد لحاجةٍ فجمعةُ أهل كل مسجد صحيحةٌ، ولا يحتاجون إلى إعادة صلاة الظهر. وذهب بعض الفقهاء إلى أن الجمعة لا تنعقد إلا بالمسجد العتيق الذي أُنشئَ قبل غيره. وذهب آخرون إلى أن الجمعة في كل المساجد صحيحة ولا يحتاج المصلون بعدها إلى إعادة صلاة الظهر، غاية ما في الأمر أنهم رجَّحوا الصلاة في المسجد الذي بُنيَ أولاً، قالوا: إن الصلاة به تَعدل الصلاة في غيره بسبعين ضعفًا.(1/768)
في هل صلاة النافلة في المسجد تتوقف على حضور الإمام؟
صلاة النافلة في المسجد لا تتوقف على حضور إمام المسجد ما دام قد حان وقتها، لأنها للوقت وليست للإمام، كنافلة الصبح القبلية والظهر والعصر والعشاء. والنوافلُ التي لا وقت لها ولا سببَ تؤدَّى متى شاء من يريد أداءَها ما دام ذلك في غير أوقات الكراهة المنصوص عليها في كتب الفقه: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع قدر رمح، وعند الزوال قبل الظهر، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس. ويجوز أداء نافلةِ الجمعة بعد صلاة الجمعة في المسجد وفى غيره حسَب ظروف المصلِّي.(1/769)
في السهو والتفكير في العدو في أثناء الصلاة في الحرب
إن الشكوى من تشتت الذهن ـ في أثناء الصلاة بهذا الذي ذكره السائل أو بما يَترتب عليه من سهو أو سرحانِ ذهن ـ كثيرةٌ متعددة، ولا مفرَّ من الالتجاء إلى الله في هذه الحالة، ولابد مع ذلك من المحاولات الصادقة للتخلص منها، وليس الأمر في الحقيقة بالعسير عسرًا شديدًا، فلو وطَّن الإنسان العزم على أن يَجمع شَتات فكره وصدَقَت نيته في ذلك فإنه سينتهي إلى ما يحب إن شاء الله.
ومن المعروف في الجو الإسلامي أنه ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقَل منها، وأن ثوابه إنما هو بمقدار انتباهه وتعقله للصلاة، أو بمقدار إقامة الصلاة على حد التعبير القرآني، وإقامتها إنما تكون بأدائها على أتم ما تكون التأدية. وإنه من المفيد أن يقرأ الإنسان عدة مرات سورة الناس قبل الدخول في الصلاة وأن يقول: (ربِّ أعوذُ بك من هَمَزاتِ الشياطين. وأعوذُ بك ربِّ أن يَحضُرون) فإذا ما تأمل الإنسان بذلك وتهيأ للصلاة أعانه الله ووفقه.
ومن المفيد في ذلك أيضًا أن يقوم بمِرَانٍ يوميٍّ على ذكر الله، مع جمع شَتات أفكاره لمدة خمس دقائق، فإذا ما نجح في ذلك فهو ناجح لا محالة ـ بتوفيق الله ـ في تركيز ذهنه في الصلاة. على أنه إذا وطَّن نفسه على تدبُّر ما يقول وما يفعل منذ ابتداء الصلاة إلى انتهائها فإن ذلك يَصرف ذهنه عن الدنيا إلى ما هو فيه، وهو الصلاة.(1/770)
من سُننِ الهدَى الصلاةُ في المسجد
يقول ـ صلوات الله عليه ـ فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان" قال الله عز وجل: (إنما يَعمُرُ مساجدَ اللهِ مَن آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ وأقام الصلاةَ وآتَى الزكاةَ ولم يَخْشَ إلا اللهَ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتَدين) ويقول ـ صلوات الله عليه ـ فيما رواه مسلم: "مَن تَطهَّرَ في بيته ثم مضَى إلى بيتٍ من بيوت الله لِيقضيَ فريضةً من فرائض الله، كانت خطواتُه إحداها تَحُطُّ خطيئةً والأخرى تَرفعُ درجةً". ومن أجل ذلك كان سلفنا الصالح يؤمُّون المساجد في غبطة وسرور، وكانوا يحاولون ما استطاعوا المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد، وذلك لِمَا رُوِيَ في التهديد على تركها، روَى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أثقلَ الصلاةِ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجرِ، ولو يَعلمون ما فيهما لأَتَوهما ولو حَبْوًا، ولقد همَمتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثم آمُرَ رجلاً فيصلِّيَ بالناس، ثم أنطلقَ ومعي رجالٌ ومعهم حُزَمٌ من الحطب إلى قوم لا يَشهَدون الصلاةَ فأحرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنار".
أخَذ من هذا الحديث وغيره بعضُ الأئمة وجوبَ الصلاة في المسجد، وقال بعضهم بفرضيتها، وأكثر العلماء، كما يقول القاضي عياض، ذهب إلى أنها سنة مؤكدة.(1/771)
والصلاة المفروضة في البيت إذًا على هذا الرأي الأخير ـ وهو رأي أكثر العلماء ـ مُجزِئةٌ، وإن كان فيها مخالفةٌ واضحةٌ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأمر فيها هو ما قاله ابن مسعود، رضي الله عنه، معبِّرًا عن الروح الإسلامية الصحيحة حيث قال: (مَن سرَّه أن يَلقَى اللهَ تعالى غدًا مسلمًا فليحافِظْ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادَى بهنَّ، فإن اللهَ شرَع لنبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُنَنَ الهدَى، وإنهنَّ من سُنَن الهدَى، ولو أنكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّفُ في بيته لتركتم سُنَّةَ نبيكم، ولو تركتم سُنَّةَ نبيكم لَضَلَلتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلومُ النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتَى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقام في الصف) وفى رواية قال: (إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علَّمنا سُنَنَ الهدَى، وإن من سُنَنِ الهدَى الصلاةَ في المسجد الذي يؤذَّن فيه).(1/772)
في آداب المسجد
للمسجد آدابٌ تؤخذ من نص الآيات القرآنية المتعلقة بالمساجد ومن روحها، يقول الله تعالى: (وأن المساجدَ للهِ فلا تَدْعُوا مع اللهِ أحدًا) والآية الكريمة تَنهَى في صراحة عن أن يَخطِرَ في أذهاننا أو يَجريَ على ألسنتنا ذكرُ أحد من الناس، وتُعلل ذلك بهذا التعليل المعبِّر الواضح الذي تذكُرُه ابتداءً، وهو أن المساجد لله، وإذا كانت له فلا ينبغي في الذوق السليم أن نشرك معه فيها غيرَه.
ويقول سبحانه: (في بيوتٍ أَذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُه يسبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ. رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ يَخافون يومًا تَتقلبُ فيه القلوبُ والأبصارُ ليَجزيَهم اللهُ أَحسَنَ ما عملوا ويَزيدَهم من فضله).
لقد أَذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ المساجدُ التي هي بيوت الله لِيُذكَرَ فيها اسمُه، أما تسبيحُ الله فيها ـ أي تنزيهُه التنزيهَ المعتَدَّ به المُثَابَ المتقبَّلَ من الله سبحانه وتعالى ـ فهو الصادقُ من هؤلاء الذين لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وليس المقصودُ التجارةَ والبيعَ فحسبُ وإنما المقصود كل شئون الدنيا. والآية الأولى إذًا إنما تَنهَى عن أن يُذكَرَ أحدٌ إلا اللهَ، والثانية توجِّهنا إلى أن نشتغل في المسجد بأمر من أمور الدنيا.
ومهما يكن من شيء فإن الإنسان بمجرد دخول المسجد ينبغي أن يصليَ ركعتين تحية المسجد، وينبغي أن يلتزم الأدب اللائق برب البيت؛ لا يَتخطَّى رقاب الناس، ولا يَرفعُ صوته في صخب، ولا يَغتابُ ولا يُحدِثُ أيَّ شيء يَصرف الناس عن سكونهم وخشوعهم وطمأنينتهم. ومن أهم آداب المسجد النظافةُ وطيبُ الرائحة، يقول الله تعالى: (يا بني آدمَ خُذوا زينتَكم عند كلِّ مسجدٍ).(1/773)
من كل ذلك نَتبين آداب المسجد، ونتبين أن الحديث في المسجد عن أمور الدنيا إنما هو خلاف الأَولَى، وهو عمل يَتنزَّهُ عنه كل صاحب شعور ديني صحيح، اللهم إلا إذا كان الحديث في أمور الدنيا ضروريًّا لجماعة المسلمين نافعًا مفيدًا، فيتحدث بقدر الحاجة.(1/774)
في اتِّخاذ القبورِ مساجِدَ:
اختلف العلماءُ في المراد بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مَرَضِ مَوْتِه: "لَعَنَ الله اليهودَ والنصارى اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" هل كانوا يسجدون إلى القبور ويُعَظِّمُون القبور، أو كانوا يبنون فوقها المساجد ويُصَلُّون فيها؟
فإنْ كان المراد تعظيم القبور والسجود لها أو لأصحابها، فلم يُعْهَد ذلك في بلاد الإسلام ولا يقول مسلم بذلك أو يَرْضَى به، وعلى ذلك فالصلاة في مسجد فيه قبر لا شيء فيها، وإن كان المراد بناء المساجد على القبور أو اتخاذ القبور في المساجد فالصلاة في مسجد فيه قبر حرام، وقد نَهَى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها.
على أنَّ الصلاة في المقابر نفسها اختلف فيها العلماء: فقيل بِحُرْمَةِ الصلاة وقيل بِكَراهِيَّتِها، وقيل بجوازها، وهذا فيما إذا لم تتحقَّق النجاسة من لحوم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم وإلَّا لم تَصِحَّ الصلاة. ومن المعلوم أن المسجد إن كان فيه قَبْرٌ ـ أو قبران أو ثلاثة ـ محفوظٌ من النجاسة مُرَاعَى فيه تَحَقُّق الطهارة ـ أي إنَّ الخوف من الصلاة على النجاسة غير موجود فيه، وتَصِحُّ الصلاة فيه.
ولكن هذا لا يمنع من أنَّ الصلاة في غير هذا المسجد أوْلَى من الصلاة فيه ما دام هناك غيره ـ ما لم يُفْصَل القبر عن المسجد بحائط أو حاجز مثلًا ـ وإلَّا استوى هو وغيره من المساجد.
ومن الأمور المكروهة تخصيص مسجد ما بصلاة التراويح أو العيدينِ ونحوهما دون غيره؛ إذ هو تخصيصٌ بغير مُخَصَّصٍ، وقد يؤدِّي إلى الوقوع في الابتداع المذموم، فالمساجد كلها في مرتبة واحدة عدا المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، وتخصيص غيرهم من المساجد بصلاة خاصَّة أو عبادة معيَّنة لا يجوز، فالأوْلَى الابتعاد عنه.(1/775)
في الصلاة من قعود للقادر على القيام:
لا تصح الصلاة المفروضة من قعودٍ للقادر على القيام، ولم يكن الكَسَل في يوم من الأيام ولا في بيئة من البيئات عُذْرًا مقبولًا، ومَن صلَّى الصلاة المفروضة قاعدًا كسلًا وهو قادر على القيام بها فإنها لا تَصِحُّ، وإنَّ في التأدُّب لله ـ سبحانه وتعالى ـ ما يُوجِب أن يَنْفُضَ الإنسان عن نفسه الكَسَل، وأن يَنْهَضَ إلى الصلاة في تفاؤل وفى غِبْطة متمثلًا قول الرسول ـ صلوات الله عليه ـ لبلال ـ رضي الله عنه ـ: "أرِحْنَا بها يا بلال"؛ أي أرحنا بالصلاة: أي إن الصلاة راحة. وبقوله صلوات الله عليه: "جُعِلَت قُرَّةُ عيني في الصلاة". أمَّا إذا عَجَزَ حقيقة عن القيام في الصلاة المفروضة فله أن يصليها من قعود أو حسب ما يستطيع دون أنْ يُنْقَصَ من أجره شيء، أمَّا الصلاة التي يجوز للإنسان أنْ يُصَلِّيها من قعود فإنها النافلة على وجه العموم، ولكن ثواب القاعد فيها، وهو قادر على القيام يكون نصف ثواب القائم.(1/776)
في مَنْ مَنَعَ زوجته من الذهاب إلى المسجد:
كانت زوجة سيدنا عمر ـ رضي الله عنهما ـ تذهب إلى المسجد للصلاة، وتقول ما معناه: "والله لا أمْتَنِعُ من الصلاة في المسجد إلا إذا منَعَنِي عُمَر".
فما كان سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ يمنعها، وذلك لأنه يعلم أن سُنَنَ الإسلام أن يصلِّي النساء في المسجد مُحْتَشِمات غير مُتَبَرِّجَات ولا مُتَعَطِّرَات.
وإذا كانت صلاة النساء في المساجد وسماعهن الدروس فيها من الأمور الضرورية في العصور الماضية فإنها في هذا العصر أكثر ضرورة فلعل جوَّ المسجد وما يَستَمِعْنَ فيه من عِظَاتٍ وآيات قرآنية وأحاديث نبوية يكون موجِّهًا لَهُنَّ إلى الخير والإنابة.
ويقول أسْلَافُنا ـ رضي الله عنهم ـ في أمر خروج المرأة لطلب العلم في غير المساجد: إن على الرجل أن يقوم بتعليم زوجته، ومتى كان الرجل قائمًا بتعليم ما يجب لزوجته امتنع عليها الخروج لسؤال العلماء، وكذا إن ناب عنها في السؤال وعرَّفها الجواب.. فإن لم يكن ذلك فلها الخروج للسؤال، بل يجب عليها ذلك ويَعْصِي الرجلُ بِمَنْعِهَا.
ومهما أهملت امرأة حكمًا من الأحكام الواجبة ولم يعلِّمها الرجل إيَّاه شاركها في الإثم، وصدق الله العظيم إذ يقول:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)(1/777)
في ردِّ المُصَلِّي للسَّلام:
المصلِّي لا يجب عليه ردُّ السلام، ولو ردَّ السلام بالكلام بَطُلَتْ صلاتُه، ويرى علماء الحنفية أن ردَّ السلام في الصلاة بالإشارة مكروه، ويرى البعضُ أن الإشارة باليد أو بالرأس لردِّ السَّلام جائزة في الصلاة بشرط أن تكون إشارة خفيفة.(1/778)
في صلاة الجمعة مع الراديو والتليفزيون:
لا تجوز صلاة الجمعة مع الراديو أو التليفزيون أو غيرهما من الإذاعات المنقولة من المساجد؛ وذلك لفُقْدَان المعنى المطلوب من صلاة الجمعة في المساجد، ولوجود الفاصل المانع من صِحَّةِ الاقتداءِ بين الإمام ومأموميه في الجمعة أو في غيرها.(1/779)
في ترك الصلاة وتأخيرها:
يَتَبَيَّنُ الإنسان أهمية الصلاة في الدين الإسلامي حينما يعلم أن الحرب نفسها في وَضْعِ الإسلام لا تُسْقِطُ الصلاةَ؛ فقد نَظَّمَ الإسلام صلاة معينة للحرب.
وعدم وجود الماء لا يُسْقِطُ الصلاة فقد بَيَّنَ الله أنَّ التيمم يُغْنِي إذا لم يكن من ذلك مَنَاصٌ، والمرض ليس عُذْرًا لترك الصلاة اللهمَّ إلا إذا استحال ذلك بأنْ فَقَدَ المَرِيض عَقْلَه، وفى هذه الحالة عليه القضاء.
من ذلك وغيره نرى الأهمية الكبرى للصلاة في نَظَرِ الإسلام، فليس بغريبٍ أن تكون عِمَاد الدين، وأنَّ مَنْ أقَامَها؛ أي أدَّاها على ما ينبغي أن تكون عليه، فقد أقام الدينَ، ومَنْ هَدَمَها فقد هدم الدين.
وأنَّ محاولة جعل العمل عذرًا في تأخيرها إنَّما هي محاولة باطلة؛ وذلك أن هذا الذي يعمل اثنتي عشرة ساعة، يأكل ويشرب ويذهب لقضاء حاجته، وقد يتكرر ذهابه لقضاء حاجته عدة مرَّاتٍ في اليوم الواحد فلا يمنعه العمل من ذلك.
والوقت الذي تستغرقه الصلاة أقلُّ من وقت الغداء أو العشاء، وذلك أن الوضوء والصلاة يستغرقان أقل من عشر دقائق.
فعلى العمال أن يُرَاعوا ما فرضه الله، وألا يتمحَّلوا المَعَاذير، لو عزَّ الواحد منهم على إرضاء الله لَوَفَّقه الله ـ تعالى ـ إلى مرضاته.
بمناسبة الحديث عن أهمية الصلاة ما الحكم في مَنْ تَرَكها؟
إنَّ مَنْ تَرَكَ الصلاة متعمدًا أو مُسْتَهْتِرًا أو غير مُقِرٍّ بها فقد كَفَرَ، أما مَنْ تَرَكَهَا لأنَّ الحياة قد جرفته بتيَّارِهَا المادِّي فأصبح مُسْتَعْبَدًا لها لا يُفَكِّر إلا فيها فإنه من كبار العُصاة في نَظَرِ الدين، وهو كلَّمَا تَهَاوَى وتَكَاسَلَ عنها أظْلمَ قلبُه وازداد انغماسًا في غَضَبِ الله، وعليه أن يُبَادِرَ بالتوبة الخالصة النَّصُوح، ويرجع إلى الله بالطاعة، فلعلَّ الله يَتَفَضَّلُ عليه بالمغفرة ويرحمه بِحُسْنِ الخَاتِمَة.(1/780)
في الصلاة على الميِّت:
إن المسلم إذا مات فإنه يُغَسَّلُ قبل دفنه ويُصَلَّى عليه، ولا يَحْتَاجُ في ذلك إلى شهادة شخصٍ من الأشخاص بأنه كان يُصَلِّي، ولا يحتاج ذلك إلى عِلْمِ فلانٍ أو فلانٍ، أو عِلْمِ أهل القرية، أو علم الإمام، إن ذلك كله لا يدخل في الموضوع بِمَنْعٍ أو إبِاحَةِ الغُسْلِ أو الصلاة، فإن ذلك على المسلمين بالنسبة لِمَنْ مات مسلمًا ولو كان مسلمًا عاصيًا لا يؤدِّي الصلاة.
والأمرُ الوحيد الذي كان يُؤَخِّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة على الميت من أجله الدَّيْن، فإنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان يسأل عن الميت قبل الصلاة عليه فيقول: أعليه دَيْن؟ فإن قالوا له نعم أخَّر الصلاة عليه إلى أن يُسَدَّدَ دينُه، أما إذا لم يكن عليه دَين فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُصلِّي عليه دون أن يسأل عن أي شيء مِن سيرته، فلا يجب عندما يموت إنسان ـ أن يسأل الإمام أو غيره عنه في صلاته أو زكاته أو صومه فإن هذا ليس من السنَّة.(1/781)
في حضور النساء صلاة الجنازة:
يجوز للنساء حضور صلاة الجنازة إذا خرجن مُتَسَتِّرات غير متبرجات ولا متعطرات وأُمِنَتْ الفتنة.
لِمَا أخرجه الطبراني بسند حسن من أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ انتظر أم عبد الله حتى صَلَّتْ على عُتْبَة.
فإن كُنَّ مع الرجال صَلَّيْنَ مقتديات بإمامِ الرجال.
وإن كنَّ منفردات قيل: يُسْتَحَبُّ أن يُصَلِّينَ منفردات، وقيل: يُصَلِّين جماعة وتؤمُّهُنَّ إحداهن.
والإسلام لا يفرِّق بين النساء والرجال إلا فيما تقتضيه الفطرة، وتطلبه الطبيعة لكل منهما كإسقاط الصلاة عن الحائض وعدم إلزام النساء بحضور صلاة الجمعة مثلًا تاركًا لهنَّ الاختيار في الذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة أو في المُكْثِ في البيت وصلاة الظهر.(1/782)
في جواز النيابة في الصلاة عن الميت إذا لم يكن يؤدي الصلاة:
العبادات التي فرضها الله ـ سبحانه وتعالى ـ على عباده تنقسم إلى ثلاثة أقسام: بدنية محضة ـ كالصلاة والصَّوم، ومالية محْضَة كالزَّكاة، ومركَّبَة منهما كالحج.
والقَصْدُ من العبادة البدنية التذلُّل والخضوع لله ـ تعالى ـ ولا تصح النيابة فيها؛ لأن التذلُّل والخضوع إنَّما يحصل من الشخص المؤدِّي.
فمَن مات ولم يكن يؤدي الصلاة لا يُرْفَع عنه إثْمُ تَرْكِ الصلاة، ولا يخرج من عهدة المؤاخذة بأداءِ أحد أبنائِه، وهو مُرتكِب كبيرة وأمره مفوَّض إلى ربه.(1/783)
في حكم صلاة ركعتي السُّنَّة قبل صلاة الجمعة:
عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَنْ اغتسل يوم الجمعة، وتَطَهَّر ما استطاع مِنْ طُهْرٍ ثم ادَّهَنَ أو مَسَّ من طيب، ثم راح فلم يفرِّق بين اثنين فَصَلَّى ما كُتِبَ له، ثم إذا خرج الإمام أنصت غُفِرَ له، ما بينه وبين الجمعة الأخرى". وهذا الحديث يرسم صورة واضحة لِما ينبغي على المؤمن من سلوك يوم الجمعة. إنه بعد أن يَخْرُج من بيته يدخل المسجد فيجلس في المكان الذي يَتَيَسَّرَ له، ويُصلِّي ما تيسَّر له من الركَعات إلى أن يَصْعَد الإمامُ المِنْبَرَ، فإذا خرج الإمام وصعد المنبر تأهَّبَ المصلُّون للاستماع له والأخذ عنه وكَفُّوا عن الصلاة وعن الكلام.
وإذا دخل رجلٌ والإمام على المِنْبَر فهل يُسَنُّ له الجلوس، أو يُسَنُّ له صلاة ركعتين؟ روى المالكية والحنفية أنه إذا جلس الإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام، وعلى الداخل الجلوس، أمَّا عن صلاة السُّنَّة بعد الأذان الأول للجمعة وقبل الآذان الثاني الذي يَتِمُّ بعد صعود الإمَامِ على المِنْبَرِ فقد اختُلِف فيه:
فالشافعية: يَرَوْن أن سُنَّةَ النفل بعد الآذان الأول للجمعة ثابتة ومقررة؛ لِمَا رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنة عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "بين كل أذانين صلاة لمَن شاء"، ولا فَرْق في ذلك بين الجمعة وغيرها.
ويرى غيرهم من العلماء أن الجمعة ليست داخلةً في هذا المجال؛ لأن الخطبة هي الفاصل بين الأذان والإقامة.(1/784)
وكان الصحابة يدخلون المسجد مبكِّرين، فإذا دخل أحدهم صلَّى ما تيسَّر له من الركعات. وممَّا يستحق الإشارة أن الآذان الثاني فعَلَه عثمان ـ رضي الله عنه ـ وفِعْلُه سُنَّة؛ لأنه من الخلفاء الراشدين الذي اعتبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُنَّتَهُم جزءًا من سنته وأمر باتباعها ولم يختلف منهج الصحابة بعد هذا الآذان عن منهجهم قبله، إذا دخلوا المسجد ثم لا يقومون بعد الآذان.(1/785)
في ما يجب على الإمام والخطيب:
روى الإمام مسلم بسنده: عن عثمان بن أبي العاص قال: "آخِرُ ما عَهِدَ إليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذَا أمَمْتَ قومًا فأخِفَّ بهم الصَّلاة"، ويروي الإمام مسلم ـ أيضًاـ بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مِنْ أخَفِّ الناس صلاةً في تمام، عن أبي مسعود الأنصاري فيما رواه مسلم قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إني لأتأخَّرُ عن صلاة الصُّبح من أجل فلان ممَّا يطيل بنا، فما رأيتُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غَضِبَ في موعظة قط أشد ممَّا غَضِبَ يومئذ فقال: "أيُّها الناس، إن منكم مُنفِّرين، فأيُّكم أمَّ الناسَ فليُوجِز، فإنَّ مِنْ ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة).
وروى الإمام مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا أمَّ أحدكم الناس فلْيُخَفِّف؛ فإن منهم الصغير والضعيف والمريض، فإذا صلَّى وحْدَهُ فليصلِّ كيف شاء". وقد بينَتْ هذه الأحاديث الأمر بيانًا كافيًا؛ فالإنسان إذا صلَّى وحده فليُطِل الصلاة كيفما أحب، ليُطِلْها في وقوفها وقراءتها، وفى ركوعها وفى سجودها، مُسَبِّحًا الله فيهما وداعيًا، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أقربُ ما يكون العبد لربه وهو ساجد، ولْيُطِلْها في التشهد والدعاء بعد التشهُّد، أما إذا صلى بالناس فليُخَفِّف ولم يأمر الرسول ـ صلى الله عليه
وسلم ـ أمْرَ التخفيف هذا إلا بسبب الضعيف الذي لا يستطيع تَحَمُّل إطالة الصلاة، والمريض الذي يتعذَّر عليه متابعة الإمام في الإطالة، والصغير الذي يَمَلُّ الإطالة، وذي الحاجة الذي يَهُمُّه قضاءُ حاجته، ولكن الأمر بالتخفيف ليس معناه الإخلال بشيء من إقامة الصلاة، كلَّا بل لابُدَّ من إقامتها، وإنها لَلَفْتَةٌ مُوَفَّقَةٌ من سيدنا أنس حين يصف رسول الله بتخفيف الصلاة يضيف قوله "في تَمَامٍ" وفي رواية أخرى:(1/786)
يقول عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كان يُوجِز ويُتِمُّ"، فالصلاة خَلْفَ الإمام الذي يؤدي أركانها كلَّها كاملة صلاة صحيحة ولا شيء فيها، وهي مقبولة ـ إن شاء الله تعالى ـ "فإنَّمَا بُعِثْتم مُيَسِّرِين لا مُعَسِّرِينَ"، لقد عبَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إطالة الإمام للصلاة بقوله: "أيُّهَا النَّاس، إن منكم منفِّرِين فأيُّكم أمَّ النَّاس فليُوجِزْ".
وحسبُنَا في ذلك أن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أمر الإمام بالتخفيف والتجوز في الصلاة؛ شَفَقَةً على المأمومين، فهو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ.(1/787)
في بعض أخطاء الإمام والمصلين:
لقد أخطأ كل من الخطيب والإمام والمصلين الذين لم يستجيبوا لطلَبِه بجمع المسابح في جيوبهم وأساءوا إلى جلال الموقف، وهم في صلاةٍ جامِعةٍ في بيتٍ من بيوت الله (كانت هذه الفتوى نتيجة خلاف حدث في مسجد من المساجد أدَّى إلى نزاع بين المصلين وإمامهم ترتَّب عليه فساد الجمعة في نظر البعض، فكانت فتوى الإمام عبد الحليم محمود ـ رضي الله عنه ـ النبراس المضيء لهذا الموضوع). فأما الخطيب فقد كان عليه ـ وهو يخطب ـ أن يَقِفَ موقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن يلتزم آداب الإسلام التي أدَّب القرآن الكريم بها مَن يتصدَّى للدعوة إلى الله ونشر دينه؛ فقال ـ تعالى ـ لرسوله المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أدَّبَه ربه فأحسن تأديبه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وقال ـ تعالى ـ لرسوله ولمَن يَحمِل من بعده عبء الدعوة إلى الإسلام: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ).
وأما أولئك المانِعون الذين لم يستجيبوا لنداء الخطيب فقد أساءوا إلى نفوسهم، وإلى دينهم، وإلى جماعة المسلمين، فإنَّ الذين يحضرون خطبة الجمعة ممنوعون من كل ما من شأنه أن يَشْغَلَهُم عن الإنصات للخُطْبَة أو يشغل الخطيب عن إلقاء خطبته وقد ورد: "إذا خرج الإمام، ـ أي من حجرته ـ متَّجهًا إلى المِنْبَر فلا صلاةَ ولا كلامَ"، كما ورد: "إذا قُلْتَ لصاحبك ـ والإمام يَخْطُب ـ: أَنصِتْ فقد لَغَوْتَ ومَنْ لَغَا فلا جُمْعَةَ له"، أمَّا كونُ صلاة الجمعة في هذه الحالة صحيحة فمن المقرَّر أنَّ خُطْبَة الجُمُعَة شرط من شروط صحة صلاة الجمعة؛ لأنها بديل عن ركعتين من صلاة الظهر.(1/788)
وقد قرر الإمام أبو حنيفة أن ركن الخطبة هو مُطْلَق الذِّكر الشامل للقليل والكثير، فيكفي لتحقق الخطبة المفروضة عندهم تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة، وإنْ كان يُكرَه تعمُّد الاقتصارعلى ذلك لعدم تحقُّق سُنَن الخطبة، وهي حمد الله والثناء عليه بما هو أهله، والشهادتان والصلاة على النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والعَظَة بالزَّجر عن المعاصي والتخويف والتحذير مما يُسبِّب مَقْتَ الله وعِقَابه، والتذكير بما به النجاة في الدنيا والآخرة، وقراءة آية من القرآن الكريم، وتَكْرَار الخُطْبَة واستكمال الخُطْبَة الثانية على حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والدُّعاء للمؤمنين والمؤمنات والاستغفار لهم.. الخ، فإن كان القَدْر الذي افتتح به الخطيب خطبته قبل أن يحدث ما حدث مشتملًا على مُطْلَق ذكر الله تعالى ـ والمفهوم أنه كذلك ـ فإن صلاة الجمعة صحيحة على رأي الحنفاء.
وأمَّا الشافعية فقد اشترطوا لصحَّة خُطْبَة الجمعة أن لا ينصرف عنها الخطيب بصارفٍ فإذا انصرف عنها ولم يُعِدَّهَا قبل الصلاة فَقَدْ فَسَدَت الخطبة، وإذا فَسَدَت الخُطْبَة فقد فسدت الصلاة؛ لأن صحة الخطبة شرط من شروط صِحَّةِ صلاة الجمعة.
هذا، وما دامَتْ صَلَاة جُمْعَتِكُم هذه قد صحَّتْ على مذهبٍ من المَذَاهِبِ الإسلامية فقد انتهى الأمر، غير أنَّنَا نَهِيبُ بالمسلمين سواء مَنْ يَقصِدون للإمامة أو مَنْ يحضرون الجماعة أن يتأسَّوْا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته وأن يتخلَّقُوا بأخلاق القرآن الكريم ولا يُثيروا بينهم الخلافات حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّين كلُّه لله، وليكن المسلمون صفًّا واحدًا خَلْفَ أئمتهم وليستمعوا إلى قول الله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).(1/789)
وليُحْسِنِ الأئمة النصيحة أمرًا بمعروفٍ ونهيًا عن منكر، وليُحْسِنِ المسلمون الاستماع إلى إرشادِ أئمتهم، وحُسْن توجيهاتهم وليعملوا بها حتى يكونوا ممَّن قال الله فيهم: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْألْبَابِ).(1/790)
في بناء المسجد وسط مقبرة:
لا يَصِحُّ بناء مسجد وسط مقبرة مسلمين إذا كان ذلك يَسْتَدْعِي هدم بعض المقابر وإزالتها ونَبْشِها؛ لأن حرمة موتى المسلمين وهم في قبورهم كحرمتهم في حالِ حياتهم، وقبورهم التي حلُّوا بها صارت مِلْكًا لهم دون غيرهم، ولا يَحِلُّ لأحدٍ نَبْشُهَا، أو النُّزول بأحدِ قبورها إلَّا لضرورة مُلِحَّة كدفن بعض الأموات بقبر أسرته إن لم يتيسر دفنه بقبره منفردًا.
وقد ورد عن سيدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لأنْ يَجْلِسَ أحدُكُم على جَمْرَةٍ فتحرق ثيابه، ثم تَخْلُص إلى جلده خير له مِنْ أن يَجْلِسَ على قبرٍ أو يَتَّكِئَ عليه"، أمَّا إذا كان في وسط المقبرة مكان خلاء لا قبور فيه، وكان بناء المسجد فيه لا يستدعي هدم قبر أو إزالته فإن ذلك جائز ولا شيء فيه.(1/791)
في الصلاة في مسجد فيه ضريح:
أحِبُّ ـ إجابة على هذا السؤال ـ أن أنُبِّه الناس في قوة إلى مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنه مسجد مبارك، الصلاة فيه بألف صلاة ويتوسطه ثلاثة أضرحة مباركة هي: الضريح الشريف ـ صلوات الله وسلامه على صاحبه ـ وضريح الصِّدِّيق، وضريح الفاروق، رضوان الله عليهما.
ونحن في هذا المسجد المُبارَك نُصَلِّي عن يمين الأضرحة، وعن يسارها، ومِنْ أمَامِهَا ومِنْ خَلْفِهَا.
فالأضرحة الشريفة تكون تارة عن يميننا، وتارةً عن يسارنا، وتارةً خَلْفَنَا، وتَارَةً أمَامَنَا، والصلاة في هذا المسجد المُبارَك بألف صلاة.
ولا يتأتَّى بَعْدَ ذلك أن يُثَار سؤالٌ عن الصلاة في مسجد به ضريح، إنَّها جائزة، وليس معنى هذا أنَّنا ندعو إلى إقامة الأضرحة في المساجد، كلَّا وإنَّما نقول: إنه لو فُرِضَ أن ذهب المسلم إلى مسجد به ضريح فلا يتحرَّج من الصلاة فيه، فإنَّها مُبَاحة لا حُرْمة فيها ولا كراهية ومسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير شاهد.(1/792)
في الصلاة خارج المسجد والإمام بداخله:
لقد بُنِيَ الإسلام على اليُسْرِ ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا". وصلاة الجماعة خارج المسجد والإمام داخله تجوز إذا كان المأموم عَالِمًا بانتقالات الإمام في الصلاة من ركنٍ إلى ركنٍ، ومِنْ وَضْعٍ إلى آخر، وذلك إمَّا برؤيته أو بسماع صوته أو صوت مُبَلِّغ عنه، وبشرط أنْ لا يكون المأموم أمَامَ الإمام، اللهمَّ إلا إذا كانت هنا ضرورة اقتضت ذلك.(1/793)
في عَجْزِ الإمام عن القيام في أثناءِ صلاته بالمأمومين:
ذهب الشافعي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صِحَّةِ إمامة الذي لا يَقْدِرُ على الصلاة من قِيامٍ، وذهب إلى أنه يجوز للقادر على القيام الصلاة وراء القاعد العاجِز، والقاعد وراء المضطجع وللقادر على الركوع والسجود وراء المُومِئ بهما.
ولا يجوز للقادر على شيء من ذلك موافقة، العاجز في ترك القيام أو القعود أو الركوع أو السجود، قال الإمام النووي: ولا خلاف في شيء من هذا عندنا.
واستدلَّ الشافعي ـ رضي الله عنه ـ على ذلك بأن النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري ومسلم: صَلَّى جَالِسًا والناس خَلْفَهُ قِيامٌ".
وعلى ذلك تَصِحُّ الصلاة من قيامٍ خلف الإمام الذي يصلي من قعودٍ لعجزه عن القيام، وعلى المأمومين أن يُتابعوه من قيام ما داموا يستطيعون ذلك، وتكون صلاة كل من الإمام والمأمومينَ صحيحة كاملة الأجر والثواب، وليس لهم أنْ يَجْلِسوا لأنَّ الجلوس إنَّما رُخِّص للعاجز عن القيام فقط.(1/794)
في الصلاة خلف حليق لِلَّحية:
الصلاة خَلْفَ حليق اللحية صحيحة مع الكراهة، لمُخالفته أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والثابت عنه طول حياته.
وما دَامَ عليه هو والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأمر أمرًا مشدَّدًا ومكررًا كثيرًا وكثيرًا الظاهر فيه الوجوب، والواجب حرامٌ تركُه.
وهذا هو الذي قال به علماء الأمة وجمهور الأئمة قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "قُصُّوا الشَّارِب واتركوا اللِّحى"، "جُزُّوا الشَّارب واعفوا اللِّحى". "احفوا الشَّارب وأعفُوا اللِّحى" إلى غير ذلك لدرجة أن كثيرًا من الحُفَّاظ والجَهَابذة ألَّفَ في ذلك كُتُبًا منها كتاب "الدعامة في أحكام اللحى والعِمَامَة".
وعلى هذا فالصلاة خلفه صحيحة مع الكراهة..(1/795)
في إمامة شارب الدخان:
إن المطلوب في الإمام الذي يُصلي بالمسلمين أن يكون قدوة حسنة؛ لأن المُلاحَظَ فيه أنه إمام أي قدوة لغيره ـ وصلاته إمامًا بالناس تدريب على الاقتداء به حتى في سلوكه، يتبعه الناس صغارًا وكبارًا، ويتسامع به أهل القرية والمدينة كمعلم للدين، وكخليفة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُلقِي الأضواء على المجتمع الذي يعيش فيه بل على الإمام أن يكون صورة واضحةً سليمة للكتاب والسنة في سلوكه قولًا وعملًا وحركة وسكونًا، وذلك لا يتأتَّى إلا باتباع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو الطريق الوحيد المُوصِّل إلى الله ـ تعالى ـ قال تعالى: (وَإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، وقد صحَّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذَا حانَ وقتُ الصَّلاة.. فليؤذِّن أحدُكُم ويؤمُّكُم أفضلُكُم".
نعم، تجوز وتصحُّ إمامة المفضول مع وجود الفاضل، لكن ذلك غير المشروع وغير المطلوب وغير الثابت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى هذا فصلاة الإمام شارب "التنباك" تَصِحُّ، وليست بِبَاطلة، ولكن إذا وُجِدَ في المُصلِّين مَنْ لا يشربُه وكان مستقيمًا عنه وأعلم منه فهو أوْلَى بالإمامة منه.
وذلك لما يراه الكثيرون مِنْ أنَّ شُرْبَ "التِّنْباك" إسرافٌ وتبذيرٌ، حتَّى ولو كان الشارب غنيًّا مُوسِرًا؛ ولأن فقراء المسلمين أوْلى وأحقُّ بهذا المال الذي يضيع في شرب "التنباك"، فضلًا عن الضرر الصحي الذي تكلم عنه الأطباء، والإمَامُ قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ حتى في الاقتصاد والمعيشة والمحافظة على الصِّحَّة.(1/796)
في ثواب الذهاب إلى المساجد:
إن كل خطوة إلى المسجد لها ثوابها.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"صلاة الرجل في الجماعة تضعُف على صلاته في بيته وفى سوقه خمسًا وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضَّأ فأحَسْنَ الوضوء، ثمَّ خرج إلى الصلاة لا يُخْرِجُه إلا الصلاةُ، لم يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تَزَلْ الملائكة تُصَلِّي عليه ما دام في مُصَلَّاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يَزال في صلاة ما انتظر الصلاة".
وفى رواية: "اللهمَّ اغفر له، اللهمَّ تُبْ عليه، ما لم يُؤْذِ فيه، ما لم يُحْدِثْ فيه". أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، ومالك في الموطأ، ولفظه: "مَنْ توضَّأ فأحْسَن الوضوء، ثم خرج عامدًا إلى الصلاة، فإنه في صلاة ما كان يعمِد إلى الصلاة، وإنه يُكْتَبُ له بإحدى خطوتيه حسنة، ويُمْحَى عنه بالأخرى سيئة، إنَّ أعظمكم أجرًا أبعدُكُم دارًا، قالوا: لم يا أبا هريرة؟ قال: مِنْ أجْل كثرةِ الخُطَى" والأحاديث في هذا المَعْنَى كثيرة.
ولقد كان يحدث أحيانًا أو يحاول بعض الصحابة أن يُقيم له مسكنًا بالقرب من المسجد، ثم يعلم بثواب الذين يكثرون الخُطَى إلى المسجد فيلتزم مكانه.
ومن ذلك ما رُوِي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ من أن بعض الأنصار ـ وكانت منازلهم بعيدة عن المسجد ـ أرادوا أن يتقربوا، فنزلت: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).(1/797)
في النهي عن دخول المساجد برائحة كريهة:
لقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدخل المسجد من أكل الكُرَّاث أو البَصَل أو الثَّوْم وكانت رائِحَتُها لا تَزَال بِفَمِه، وذلك من أجْل ألا يتأذَّى المُصَلُّون بالرائحة.
ومن آداب المساجد أن يتزيَّن الإنسان لها لقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
ومن آدابها أن يَتَعَطَّر الإنسان إذا استطاع.
وإنَّ ممَّا تَحَدَّثَ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أن الملائكة تتأذَّى ممَّا يتأذَّى مِنْهُ بنو آدم من الخبائث. وآداب المساجد على وجه العموم أن لا يحدث فيها ما يُخِل بجلالها وقُدْسِيَّتِها، ولا يجوز كذلك أن يُدَخِّنَ الإنسان فيها "السجائر أو التِّنَباك" أو ما شَاكَلهما؛ فإن رائحتهما يتأذَّى منها كثير من الناس فضلًا عن أن فعل ذلك لا يُنَاسب ما ينبغي للمسجد من حُرْمَةٍ وإجلالٍ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يذكر فيقول: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وُيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ).(1/798)
في بناء المساجد:
إنَّ المؤمن فَطِنٌ حَكِيمٌ يضع الأمور في نِصَابِهَا، ويُكيِّف الظُّروف والمُقْتَضَيات تكييفًا يتَّفِقُ والحاجة والضرورة، فمثلًا البُقْعَة التي لا مساجد فيها، ولا مآذنَ يُنَادَى للصلاة من فوقها، ومن أجل ذلك لا وعظ فيها ولا إرشاد ولا تعليم لأمور الدِّين، يكون من أقرب المُقَرِّبَات إلى الله بِنَاءُ مسجد بها.
والبُقْعَةُ التي تكثُر فيها المساجد ويكثر فيها الفقراء يكون مما يُثَابُ عليه الإنسان ثوابًا جَزِيلًا أن يتصدَّق بِمَا يستطيع عليهم.
وإذا كانت قرية في مكان بعيد عن المطابع والمكاتب ومن أجل ذلك تَقِلُّ فيها المصاحف فإنه يكون من الخير أن يتصدَّق الإنسان بِنُسَخٍ من القرآن الكريم.
من ذلك تَرَى أن الحَالَةَ الاجتماعية توجِّه عَمَل الخير.
على أنَّ الثواب يتفاوت بتفاوت قَدْرِ الإخلاص وصفاء النِّية. يقول الله تعالى: (أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ). وكل عَمَلٍ من أعمال الخير تَشُوبه أية شائبة من الرياء فإن ذلك يُبطِله، وقد تحدَّث الله ـ سبحانه ـ عن هؤلاء الذين يتقبَّل أعمالهم قَبُولًا حسنًا، ويَصِفُهم بأنَّهم الذين يعملون الخير ابتغاءَ وجْهِ الله، يقول تعالى: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) ويقول سبحانه: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ). فعلى قَدْرِ الإخلاص وعلى قَدْرِ الحاجة، وعلى قَدْرِ المتصدَّق به يكون الثواب.(1/799)
في نظافة المساجد:
إنَّ من شرط صحة الصلاة طهارة المكان، فإذا كان المكان قد تَنَجَّسَ بِرَوَثِ الخيل والحمير فإنه لا يكون مسجدًا ولا تَصِحُّ فيه الصلاة.
والمسجد في الإسلام مكانٌ طاهِرٌ، إنه طاهِرٌ من الناحية المادية، وينبغي أن يكون طاهرًا من الناحية الروحية.
أمَّا طهارتُه من الناحية المادية فذلك واجب وجوبًا حتميًّا من أجل صحَّة الصلاة، والمسلمون في جميع أوقاتهم يحافظون على هذه الطهارة ويشمئزُّون ممَّن يكون سببًا في تلويث المسجد.
ولقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحاول دائمًا أن تكون الرائحة في المسجد عَطِرَةً جَمِيلَةً، وكان يَحُثُّ بسلوكه على اتخاذ العِطْر عند الذهاب إلى المسجد؛ لأنه هو كان يَمَسُّ الطِّيب عند ذهابه إلى المسجد اتباعًا لقول الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ومن الزينة اللباس الحَسَنُ والرائِحَة الحَسَنةُ. ولقد حَثَّ الإسلام على الطهارة والنظافة، وأوْجَبَ ذلك إيجابًا في كثير من الحالات، وطهارة الثوب والجسم والمكان من شروط الصلاة، والوضوء ـ وهو نظافة وطهارة ـ من شروطها أيضًا، والاغتسال من الجنابة واجبٌ شَرْعًا وهو طهارة ونظافة.
ولقد وصل الأمر برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نَصَحَ مَنْ أَكَلَ الثوم والبصل أن لا يقرب المسجد؛ لأن المصلين يتأذُّوْن برائحتهما.
ولقد ذهب أبو يزيد البسطامي ـ رضي الله عنه ـ يومًا مع صديق له لزيارة رجل قد شَهَرَ نفسه بالوِلاية، وكان رجلًا مقصودًا مشهورًا بالزهد، قال: فمضينا إليه فلمَّا خَرَجَ من بيته ودَخَلَ المسجد رمَى بِبُصَاقَةٍ تِجَاه القِبْلة، فانصرف أبو يزيد ولم يُسَلِّم عليه، وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف يكون مأمونًا على ما يدَّعيه؟!(1/800)
والذي نريد أن ننتهي إليه هو أن المكان الذي فُرِش بروث الخيل والحمير لا يُسمَّى مسجدًا ولا تجوز الصلاة فيه، وبيوت الله أطهر وأزكى وأجلُّ من أن تُفْرَش بمثل هذه القاذورات.
وطهارة المساجد لا تقتصر على الناحية المادية، فحسب وإنما يجب أن تكون المساجد طاهرة من الناحية الروحية ـ أيضًاـ فلا يدور بين المصلين حديث في غِيبة أو نميمة أو غير ذلك من آثام اللسان أو من آثام الجوارح.
إنَّ المساجد لله، وهي بيوت الله، وما كان لله يجب أن يكون مقدَّسًا مادة وروحًا.(1/801)
في تعمير المساجد:
المساجد ينبغي أن تكون خالصة لعبادة الله القائمة على أساس من توحيده وإخلاص العمل له، فلا ينبغي أن تُشغَل بغير الذِّكْر والعبادة وتدريس العلم ونحو ذلك: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا). ومعنى الآية الكريمة: أن كل مكان يُسجَدُ فيه لله ينبغي أن يكون مكانًا لهذه العبادة، وكل سجود ينبغي أن يكون قائمًا على أساس التوحيد ليكون سجودًا حقيقيًّا جائزًا للقَبُول عند الله.
وقد حدد الله للمساجد أهلها، وبَيَّن ما ينبغي أن تكون عليه صفاتهم ومظاهرهم فقال: (إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). والمراد بعمارة المساجد كما يقول الألوسي: ما يعمُّ إصلاح بنائها وتنظيفها وتزيينها بالفرش التي لا تشغل قلب المُصلِّي عن الحضور وتحقيق الراحة والاستغراق في العبادة، وتنويرها بالسُّرُج وإدامة العبادة والذكر، ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها من حديث الدنيا والغناء.(1/802)
في إمامة الابن لوالده:
الأحقُّ بالإمامة هو الأعْلَمُ بأحكام الصلاة، والأقْرَأ لكتاب الله، فإذا كان الابن عالِمًا وأبوه ليس بعالِمٍ فهو أحقُّ بالإمامة من أبيه؛ وذلك لأنَّ الإمامة أمْرٌ يتصل بالدين، والمُقدَّم فيها هو الأعلم بالدين، وليس على الأب من غضاضة أن يأتمَّ بابنه. روى مسلم والإمام أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يَؤُمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنَّةِ، فإن كانوا في السُّنَّة سواء فأقدمُهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سوءا فأقدمهم سِنًّا".
وروى عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا كانوا ثلاثةً فليؤمَّهُم أحدُهُم وأحقُّهُم بالإمامة أقرؤهم".(1/803)
في حكم إمام المسجد الذي يتقاضَى أجرًا عن عَمَلِه:
إن سيدنا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ حينما تولَّى الخِلَافة أصبح ذاهبًا إلى السوق ليَتَّجِر كعادته ولِيَكْسِب عيشَه بيده فمنعه أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الذهاب إلى السوق للتجارة، وفرضوا له من بيت المال ما يَكفِيه ويَكفِي مَنْ يَعُول من أفراد أسرته مئونة العيش، وعمل سيدنا أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في الخلافة عَمَلٌ ديني، فإنه يُصَرِّف أمر الدين وأمور الدنيا، وهو في تصريفه أمور الدين إمام المسلمين، يُصَلِّي بهم، ويخطب فيهم يوم الجمعة، ويُفتِيهم في أمور دينهم.
وهذا هو الأصل والأساس في إباحة أخذ الإمام أجرًا عن وظيفته؛ وذلك أنه متفرِّغ لها، ويتأسَّى بسيدنا أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في أخذ ما فرضه له الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ويجوز أن يتبرَّع إمام بالإمامة دون أن يأخذ على ذلك أجرًا، وهذا ليس حُجَّة على غيره.
والأفضل أنه إذا كان الإمام ميسورًا قد وسَّع الله عليه في الرزق وبسط له في النعمة أن لا يأخذ أجرًا على إمامته.
أمَّا إذا كان لا مال له كان مُحتاجًا إلى الأجْر لعيشهِ وعيشِ أسرتِه التي يَعُولها فله أن يأخذ الأجر ولا بأسَ بذلك.(1/804)
في سَدْل الإمام يديه:
ما دام الإمام يصلِّي الصلاة مستوفية لأركانها وشروطها فإن صلاته صحيحة والصلاة خلفه جائزة، ولو سَدَلَ يديهِ ولم يقبضهما؛ لأن قَبْضَ اليدين ليس من أركان الصلاة ولا من شروطها، بل هو مندوبٌ فقط، فمَنْ فَعَلَه فَحَسَنٌ، ومَنْ تَرَكَهُ لا اعتراض عليه.
كما أنَّه لا يجوز للإمام أن يَنتقِدَ الذين يَقبِضون أيديَهم في الصلاة؛ لأنَّ هذا الفعل مندوبٌ إليه، وقد وَرَدَ فيه الأحاديث عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها قوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: "إنَّا ـ مَعْشَرَ الْأنبياء ـ أُمِرْنَا بتعجيلِ فِطْرِنَا وتأخيرِ سُحُورِنَا، ووَضْعِ أيْمانِنَا على شَمَائِلِنَا في الصلاة".
وقال ابن عبد البرِّ: إنه قول جمهور الصحابة والتابعين، وذكره مالك في الموطأ وقال: لم يزل مالك يَقبِض حتَّى لَقِيَ الله، عَزَّ وجَلَّ.(1/805)
في صلاة الجمعة في مسجد يعتقد المؤمن أن إمامه مشرك:
قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
وعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يُصَلِّي الجمعة معتقدًا أن إمامَهُ مشرك؛ لأن النية شرط في الصلاة، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يَقبَل كل تائب إلا المُشرِك، ويغفر كل الذنوب ما عدا الشرك حيث يقول في سورة النساء:
(إنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا).
وعلى هذا الأساس لا يجوز للمسلم أنْ يُصَلِّي الجمعة في مسجد يَعتَقِد أن إمامه مشرك.(1/806)
في إذا أُمِرَ إنسان بتَرْك الصلاة:
من المبادئ المُقَرَّرة في الدين الإسلامي، أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخَالِق، والصلاة من أهم أركان الإسلام، ينفي سيدنا عُمَر الإسلام عمَّن تركها، فيقول ـ رضوان الله عليه ـ: "لاحظَّ في الإسلام لِمَنْ تَرَك الصلاة"، ويقول الرسول ـ صلوات الله عليه ـ: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فَمَنْ تركها فقد كَفَر".
فلا يجوز أبدًا أن يترك إنسان الصلاة من أجل مرضاة إنسان آخر أو بسبب تهديده له، ولن يُضيع الله إنسانًا أدَّى ما أوجبَه الله عليه، يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
بيد أن المؤمن كَيِّس فَطِنٌ لَبِقٌ يجب عليه أن يعمل بكل وسيلة ذكية للمحافظة على دينه كما يحتال في ذكاءٍ للمحافظة على دنياه.(1/807)
في تهديد الخادم والأجير إذا لم يترُكا الصلاة:
يقول الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا)، ويقول سبحانه: (وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) ويقسم ـ سبحانه ـ على ذلك نظرًا لضعف الإنسان وقلقه فيما يتعلق بالرِّزق فيقول تعالى: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).
هذا، ومن المبادئ المقرَّرة أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالِق، من كل ذلك نتبين الإجابة هذا السؤال فيما يتعلق بالأجير، وفيما يتعلق بوجوب أداء الصلاة برغم كل الظروف في أول الوقت، أو في منتصفه أو قرب نهايته إذا لم يكن يُدْمِنُ هذا، ولتكن النتيجة بعد ذلك ما تكون، ومَنْ اتَّجَه إلى الله فإن الله لا يُضَيِّعه.(1/808)
في المُكْره على ترك الصلاة:
يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (وَأقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ويقول ـ صلوات الله عليه ـ عندما ذكر الصلاة يومًا: "مَنْ حَافَظَ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومَن لم يُحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا بُرهانًا ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبَيِّ بن خَلَفٍ).
وممَّا له مغزى عميق في الدين الإسلامي أن الصلاة تُقَام حتى في حالة الحرب، وعندما يكون الجيشان وجهًا لوجه، ومع كل ذلك فإن الإنسان إذا أُكْرِهَ على ترك الصلاة وهُدِّدَ في ذلك بالقتل ولم يَجِدْ مَفَرًّا مِنْ تركها أو القتل فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرحم بعبده من أن يُوجِب عليه فعلها في هذه الظروف، وعليه أن يقضيها فَوْر استطاعته وحسب استطاعته.(1/809)
في حكم المرور أمام المصلي في أثناء الصلاة:
روى الإمام البخاري ـ رضي الله عنه ـ عن أبِي الجَهْمِ عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه لَكان أن يقف أربعين حَبْرًا له من أن يَمُرَّ بين يديه. قال الراوي: لا أدري قال أربعين يومًا أو شهرًا او أربعين سنة.
والمرور بين يدي المُصَلِّي مكروه، ومن أجل ذلك يُستَحَبُّ للمصلي أن يقف في مكان لا يكون طريقًا للمارَّة، فإذا لم يكن ذلك فعليه أن يضع حدًّا لِيَمُرَّ الناس من بَعْدِه أو يَخُطَّ خَطًّا.
وعليه أن يُنَبِّهَ المَارَّ بالإشارة أو بالتسبيح أو برفع الصوت بالقراءة، فإذا كان المُصَلِّي سيدةً فإنَّهَا تُصَفِّق ولا ترفع صوتها بالقراءة. وفى المُرور أمام المصلي في أثناء تسليمه في ختام الصلاة خلاف الأولى. والأوْلى في هذه الحالة انتظار التسليم، وذلك لا يُعَدُّ أن يكون ثواني محدودة.(1/810)
في إذا صلَّى المَرْءُ كما رأى الناس يُصَلُّون:
إذا صلَّى المَرْءُ كما رأى الناس يصلُّونَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ وتسقط الفريضة، إن كانت الصلاة فريضة أي: اتفقت فيه نِيَّة الإمام مع نية المأموم، أما إذا لم تَتَّفِق فليست مُسقِطة للفريضة، وإنما له بها حسنات وعليه إعادة الصلاة.
أما قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صَلُّوا كَمَا رأيتمونِي أُصَلِّي"، فيُريد الرسول به أن يُبَيِّن موضع كيفية الصلاة لهم بأركانها ومستحباتها وسُنَنها، فقال لهم: صَلُّوا كَمَا رأيتمُوني أصلِّي، وسَبَبُ ورودِ الحديثِ أنَّ المَقَامَ مَقَامُ تعليمٍ وتَعْرِيفٍ وانتقالٍ بهم من النَّظَرِ إلَى العَمَل، لأجلِ أنْ تستقِرَّ الصورة في أذهانهم ويسيرون عليها ويُؤَدُّونَها.(1/811)
في إغلاق المساجد وتعطيلها:
المساجد بيوت الله في الأرض تُقَام فيها الصلَوَات، وتُؤَدَّى فيها شعائر الدِّين، ولا يَصِحُّ إغْلَاقُها ولا تعطيل الشعائر فيها بأيِّ عُذْرٍ من الأعْذَارِ، وإلا دَخَل مَنْ فَعَل ذلك تَحْتَ قوله تعالى: (وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا). ورحيل إمام المسجد عن القرية ليس عُذْرًا يُجيز منع الصلاة في المسجد أو إغلاقه بل يلزم فتحه للمسلمين يُصَلُّون فيه، وليست الصلاة خاصة بالإمام الرَّسْمِي، بل لكل مسلم يَعْلَمُ أحكام الصلاة أن يَؤُمَّ الناس في الصلاة.
فلْيُبادِر أهل القرية بفتح المسجد وأداء العبادة فيه وعدم تعطيل شعائر الإسلام.(1/812)
في تَسَبُّبِ إنسانٍ في إفساد صلاةِ الجَمَاعَة:
إذا تسبَّب إنسان في إفساد صلاة آخَرَ فإنه يُحَرَّم عليه ذلك، إلا إذا كان مُضطرًا إلى هذا الفعل وليس له مَخلَص منه.
وإذا كانت الصلاة في الطريق العام تَقطَع الطريق على السيارات أو تَشغَل المصلين بحركة المُرور أو تَفصِل بين المصلين وبين الإمام ـ فإنَّها تكون مكروهة.
والسائل الذي قَطَعَ الصلاة على المصلين إذا كان يُمكِنُه أن يَتَفَادَى ذلك دونَ قَطْعِ صَلاتِهم أو إفسادها فإنه يُحرَّم عليه هذا الفعل.
إن الصلاة عبادة أوجبَها الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنها رُكْنٌ من أركان الإسلام، وهي الرُّكْنُ الثَّاني، وهي عِمَادُ الدين: مَنْ أقَامَها فقد أقام الدين، ومَنْ هَدَمَها فقد هَدَم الدين، وهي مَنْ أول ما يُحَاسَبُ عليه العبد، ومن أجل كلِّ ذلك يجب أن يُسَاعد المُصلِّين ويُعينَهم كل مسلم على إتمام صلاتهم في هدوء وفى سُكون وطمأنينة، فإذا قَطَع عليهم قَاطِعٌ صَلَاتَهُم فإنَّه يكونُ آثِمًا.
ولكن من جانبٍ آخر على المُصَلِّين أن لا يُصلُّوا في مكان يمنع الناس من أداء مصالحهم إذا أمكنهم أن يُصَلُّوا في مكان آخر.(1/813)
في مَنْ يُصَلِّي صلاةً على فَتَرَاتٍ مُتَقَطِّعَة:
الصلاة ركْنٌ من أركان الإسلام لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "بُنِيَ الإسلام على خَمْسٍ شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيتِ لمَن استطاع إليه سبيلًا".
وهي عِمَادُ الدين وركنه الرَّكِين، وهي الفَارِقَة بين المؤمن والكافر وهي فرض على المسلم منذ أن يصل إلى مرحلة البلوغ حتى وفاته، يلزمه أن يُؤَدِّيها ويُحافظ عليها امتثالًا لأمر الله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ).
ومَنْ قَصَّرَ في أدائها يُعَاقَبُ على تركها، وإذا أدَّى بعض الفرائض دون البعض سَقَطَ عنه الفَرْضُ الذي أدَّاه وبَقِي الآخر في ذمته لا تبرأ عنه إلا بالأداء. وإن لم يستطع حَصْرَ ما فاته من الصلوات اجتهد وقَضَى على غَالِبِ ظَنِّه، ويَنوِي عند القضاء آخر فرض عليه سواء كان ظهرًا أو عصرًا وهكذا، وبعد الصلاة تكونُ البَاقية آخرَ صلاة عليه.
ولسهولة الأداء يَلزَمُه أن يُصلِّي مع كل فرض من الصلوات الخمس فرضين أو أكثر قضاء على تبرأ ذمته والله الموفِّق والمُعِين.(1/814)
في تهاوُن الحاجِّ في أداء الصلاة:
الصلاة رُكْنٌ من أركان الدين، وهي عِمَاده وعليها بِنَاؤه، قال تعالى: (إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).
وقال عليه السلام: "الصَّلاة عِمَادُ الدِّين، مَنْ أقامها فقد أقام الدين، ومَنْ هدمها فقد هَدَم الدين". وقال: "يَبْنَ الْمَرْءِ وبَيْنَ الكفر تَرْكُ الصلاة".
فمَن أهمل في أداء الصلاة أو تكاسَل أو تَهَاوَن في أدائها صدق عليه قول الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) وكان مستحقًّا لهذا الوعيد، ولا يَشْفَعُ له حِجُّهُ في التَّهاون في أداء الصلاة أو التَّكاسُل عنها، بل يَزِيد من مسئوليته ووجوب محافظته على أدائها في أوقاتها؛ لأن مَنْ حَجَّ فقد كَمُلَ دينه، فيلزمه أن يُحافظ على كماله، ولا يَتهاوَن في شيء مِنْ فَرائِضِه وأركانه حتى يَتَقَبَّل الله حِجَّه؛ لأن من علامات الحَجِّ المبرور أن يَرْجِعَ أحسنَ حَالًا ممَّا كان عليه؛ ولأنَّ الحاجَّ بتهاونه في أداء الصلاة يكون قُدْوَةً سَيِّئَةً لِمَنْ يريدون الحج، ويتسبَّب في سبِّ النَّاس لهم والتشنيع عليهم.
لذا يجب على الحاجِّ أن يَبْتَعِدَ عن كل ما يُغْضِبُ الله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.(1/815)
في موقف المُسْلِم مِن تَارِك الصلاة:
إنَّ موقف المسلم مِنْ تارك الصلاة هو موقفُ الإنكار؛ وذلك أن ترك الصلاة مُنْكِرًا يَبْغَضُه الله ورسوله.
وإنكار المُنْكَرِ يكون تَارَةً باليد، وتارة باللسان، وتارة بالقلب؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَنْ رَأَى منكم مُنْكَرًا فليغيِّرْهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وموقف المسلم إذن من تارك الصلاة ـ هو في أقل الدرَجات ـ إنكار بالقلب، والإنكار بالقلب اعتزال وتجنُّب، فلا يجوز ـ إذن ـ شراء شيء منه طعامًا كان أو غير طعام، وهذا هو ما يترتَّب على الإنكار القَلْبِي.
أمَّا أن يَرَى المسلم تارك الصلاة فيُصاحبه ويُجالسه ويشتري منه ويُفيده مكسبًا بالشراء فإن كل ذلك يُخالِف الوضع الإسلامي ويُشبِه عَمَل بني إسرائيل. وإذن فالموقف السليم إسداء النصيحة، فإن لم يَستَجِب واستمر على ترك الصلاة فأضعف الإيمان مُقاطَعة كاملة.(1/816)
في الصلاة في المساجد التي بَنَاها المستشرقون بأموالهم:
إنَّ بِنَاء المساجد أمْرٌ قد رسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ شروطه من حيث الهدف الذي بُنِي المسجد من أجله، ومن حيث الباعث الذي جعل الباني يَبْنِيه ـ بَيَّن الله ذلك بمناسبة مسجد الضِّرار الذي بناه أبو عَامِر بالمدينة مُنافسًا به مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ـ سبحانه ـ في سورة التوبة: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا..) إلى آخر الآيات..
فإذا كان المسجد الذي بناه المستشرق أُريد به التفرقة بين جماعة المسلمين أو أريد به غرض سيئ أيَّما كان هذا الغرض فإنه يجب على المسلمين ألا يدخلوه، وذلك توحيدًا لكلمتهم، وتلافيًا للضَّرَرِ الذي يُنبئ عن الغرض السيئ الذي من أجله بَنَى المستشرق المسجد.
أما إذا لم يكن في الأمر أي غرض سيئ ولم يحدث تفريق في كلمة المسلمين ولا خَوْف فيما بينهم فإنه لا بأس بالصلاة في المسجد.(1/817)
في المسجد:
إنَّ الجلوس في المسجد لسمَاعِ الخُطْبَة عبادة، فإذا طالت الخُطْبَة فقد كَثُر الثَّواب، والمؤمنون الأوفياء لِعَقْد الإيمان قُلُوبُهم مُعَلَّقَةٌ بالمساجد فإذا أتِيحَتْ لهم الفرصة لإطالة الإقامة فإنَّهم يستبشرون بذلك ويَعُدُّونه من فضل الله، أما هذا الذي يَضِيق بطول الخُطْبَة فقد شغلته الدنيا وألهاه التَّكَاثُر، فإذا ضَاقَ بالخُطْبَة خَرَجَ على الأوضاع الإسلامية وَصَلَّى الظُّهْرَ مُنْفَرِدًا فهو آثِمٌ مُذْنِب فإنَّ الظُّهر لا يُغْنِي عن الجمعة في مثل هذا الحال، وبعض هؤلاء الذين يَضِيقون بطول الخُطْبَة يقضُون الساعات في المَلاهي والمقاهي، أو في الأحاديث التي ليست دائمًا برئية، ومع ذلك فإن السُّنَّة تَقْصِير الخُطْبَة وإطالة الصلاة، وقدْ كَانَتْ خطبته ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ من القِصَر والتركيز بحيث لا تستغرق أكثر من عَشْرِ دقائق في أغلب الأحايين، فعلى خُطَباء المساجد مُراعاة ذلك، فإذا أطَال أحدُهم إلى حدٍّ يَتَجاوز الوضع السَّلِيم فإنه يُنَبِّه في رِفْقٍ حتى يعود إلى السُّنَّة الشريفة، وهو على كل حالٍ مأجورٌ بَقَدْرِ إخلاصه وصفاءِ نِيَّتِه فيما يتعلق بإطالة الخُطْبَة.(1/818)
في المرأة والمسجد:
يقول ـ صلوات الله عليه ـ فيما رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه: "لا تمنعوا إمَاءَ اللهِ مساجِدَ اللهِ". ويقول الإمام النووي في ذلك، بشرط أن لا تكون مُتَعَطِّرَة أو مُتَزَيِّنَة أو يُخشَى منها الفتنة، وفَيْصَل الأمر إذن في هذا الموضوع أنَّ ذهاب النساء إلى المساجد مُحْتَشِمَاتٍ لا يَمْنَع منه مَانِع، بل هو في هذا العَصْرِ مطلوبٌ، ينبغي أن نُشَجِّعَ عليه النساءَ، لعلَّ الله يَهْدِيهِنَّ بِسَمَاعِ كلمة موعظة أو بالتعرُّض لنفحات الله في مساجده.
ولقد فُتِحَتْ أبوابُ السِّينمَا والمَسَارِح على مصاريعها أمام النساء، فَمِنْ الحكمة والأمر كذلك أن نفتح أمامهنَّ أبوابَ المساجد، أما ما روته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ مِنْ أنَّه لو رأى رسول الله ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ما أحدثتْه النساء في زينتهن لَمَنَعَهُنَّ المساجد، فإن مُرادَها أنَّه على النساء أن يذهبن إلى المساجد مُحْتَشِمَات، وحَاشَاها ـ رضي الله عنها ـ أن تَقْصِدَ منع شيء أباحه الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فإذا ما كان الاحتشام، وانتفت أسبابُ الفتنة، فلا يأتي ذهاب النساء إلى المساجد إلا بخير: بخير لَهُنَّ وبخير للمجتمع، بخير في الدنيا، وبخير في الآخرة.(1/819)
في الميت الذي لم يُصَلَّ عليه:
الصلاة على الميت يَلْزَمُ أداؤها قَبْلَ الدَّفْنِ، فإذا دُفِنَ الميِّت من غير أن يُصَلَّى عليه أُخْرِجَ من القبر ـ إن كان لم يُهَلْ عليه الترابُ ـ يصلَّى عليه ثم يُعَاد دَفْنُه، وإنْ كان قد أُهِيلَ عليه الترابُ حَرُمَ نَبْشُ قبره وإخراجه منه، ويُصَلَّى عليه وهو في القبر، وقد وَرَد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى على شهداءِ أُحُد بعد ثماني سنين، ومن السُّنَن الجميلة ما نَفْعله نحن الآن من الصلاة على الغائب، والسؤال الذي معنا لا يجوز فيه إخراج رُفَاتِ الميت بحالٍ من الأحوال بعد هذه المُدَّة الطويلة؛ لأن فيه انتهاكًا لِحُرْمَةِ الميت، ونَبْشًا للقبر، وهو حرام، والإسلام يحترم الميت كما يحْتَرَم الحيُّ.
وممَّا لاشك فيه أنَّ فَتْحَ القَبْرِ بعد هذه المدة الطويلة وإخراج ما بَقِي من الميت من عِظَامٍ ورُفَاتٍ إنَّما هو إساءة لم يتعارَف عليه الناس من حُرْمَةٍ واجبةٍ للميت، ثمَّ إن الصلاة تُصَلَّى على الميت، سوءًا كان قريبًا أم بعيدًا وسواء كان في القبر أو خارجه. ومن أجل كلِّ هذا يَحْرُم فتحُ القبر وإخراجُ المَيِّت منه.(1/820)
في الأمور التي تَمْنَعُ الإنسان من ثواب صلاة الجُمُعة:
روى الإمام البخاري بسنده عن سَلْمَان الفارسي قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ:"لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طُهْرٍ ويَدْهَنُ من دُهْنِه أو يَمَسَّ من طِيبِ بيته، ثم يخرج فلا يُفَرِّق بين اثنين ثم يصلِّي ما كُتِبَ له ثم يُنْصِت إذا تكلَّم الإمامُ إلَّا غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى".
ومن هذا الحديث نَلْمَح الأمور التي تمنَع الإنسان من ثواب صلاة الجمعة، وأول هذه الأمور التفريق بين اثنين أو تخطِّي الرِّقاب.
وفى حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص:" فمَنْ تَخَطَّى أو لَغَا كانت له ظُهْرًا"، وقد استثنى العلماء مِنْ تخطِّي الرقاب، التخطِّي لسدِّ فُرْجَةٍ في صفٍّ تَقَدَّم وأن يقيم إنسان إنسانًا من مكانه ليجلس فيه، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: "نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُقِيمُ الرَّجلُ أخَاهُ مِنْ مقعدٍ ويَجْلِسُ فيه؛ لأنه إن كان فعله هذا من جهة الكِبْرِ كان قبيحًا، وإن كان من جهة الأثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ كَانَ أقبح".
أمَّا ثاني هذه الأمور فهو عدم الإنصات حَالَ خطبة الإمام، أو التَّلاعُب عن هذا الاستماع، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَنْ توضَّأ فأحْسَنَ الوضوء ثمَّ أتَى الجمعة فاستمع وأنْصَتَ غُفِرَ له ما بينه ويبن الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومَنْ مَسَّ الحَصَا فَقَدْ لَغَا".
ومن الأمور التي تُنقِص من ثواب الجمعة تركُ الغُسْلِ لها وعَدَم الاستعداد لها، وقَصُّ الأظفار وتحسين الهيئة، وتطييب الرائحة بالطِّيب، والمُبادَرة بالخروج إليها قبل الخطبة بوقتٍ كافٍ بَقِيَ أن نقول ما هو ثواب الجمعة؟
إن ما بيَّنَتْه الأحاديث الصحيحة: غفران الذنوب الصغائر وإزالة ذنوب ثلاثة أيام من الأيام التي بعدها، فإن لم تكن صغائر زادت الحسنات وكثر الثواب.(1/821)
في ترك الزوجة للصلاة:
أجمع العلماء على أن مَنْ أنْكَرَ فريضة الصلاة أو استخفَّ بها كافِر، لإنكاره أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة وعليه يُحمَل قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنَّ بَيْنَ الرجل وبين الشِّرك والكُفْر تَرْكَ الصَّلاة" رواه مسلم وقوله: "إنَّ العَهْدَ الذي بيننا وبينهم الصلاة فَمَنْ تَرَكَها فقد كفر"، رواه أحمد وغيره. وأمَّا مَنْ تَرَكها كَسَلًا مع اعتقاد فرضيَّتِها فإنه مسلمٌ عاصٍ، ومصيره أن يُعَذَّبَ عذابًا أليمًا في جهنم.
يقول الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).
وعلى هذا كل فتاركها عمدًا أو كَسَلًا مُفْرِط مُستَحِقٌّ للعقاب والتأديب، وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْهَا).
والخِطَاب فيها شامل لكل مسلم رعاية للقرابة وسعيًا إلى تكميل الخير بعد تكميل النفس الأقرب فالأقرب. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُوقِظ أهله للصلاة، وكان عُمَر يفعل ذلك ويَتَمَثَّل بهذه الآية.
وبعد، فإن كانت الزوجة جاحِدَة لفريضة الصلاة بعد إخبارها بأهميتها وبما يترتب عليها من الكفر فهي كافرة يُفْسَخ نكاحها ولا تَحِلُّ مُعَاشرتُها.
وإن كان تركُها الصَّلاة لِكَسَلٍ ونحو ذلك فعلى الزوج دعوتها إلى الصلاة برفقٍ ولينٍ ومصابرةٍ حتى تتعود عليها، فإن أبت اشتدَّ عليها بقَدْر الوُسْع ولا يلزمه طلاقها، وعلى الزوجة ومثيلاتها أن يعلَمْن أن المرأة مسئولة عن عملها وأن مسئولية الزوج عنها مسئولية فرعية. قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِينَّهُمْ أجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي مَن يعمل صالحًا مِنْ ذكر أو أنثى فسيلقى جزاءه.(1/822)
يقول سبحانه: (وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أعْمَى) أي معيشة ضنكًا في هذه الحياة، أمَّا في يوم القيامة فإنه ـ سبحانه ـ يحشره مُتَخَبِّطًا ضَالًّا كالأعمى الذي لا يهتدي لطريقه.(1/823)
في دخول المسجد وقت الجُمُعة والإمام يَخْطُب:
إنَّ الصلاة هي الركن الإسلامي الذي يلي مباشرة في أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولقد حثَّ عليها الإسلام، وحَبَّبَ فيها كثيرًا مع فرضيتها التي يصل إنكارها إلى الكفر، وذلك من أهم العوامل في إصلاح المجتمع وتدعيم الأمن فيه.
فقد فرضها الإسلام في أوقات معينة، وسَنَّها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مناسبات كثيرة جدًّا، منها تحية المسجد، روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا دخل أحدُكُم المسجد فلا يَجْلِس حتى يصلِّي ركعتين"، وهذا عام في كل وقتٍ يدخل فيه الإنسان المسجد ما عَدَا الأوقات التي تُكْرَهُ فيها الصلاة.
أما فيما يتعلق بدخول المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فقد روى البخاري ومسلم عن
جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: "دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُب فقال له: أصليتَ؟ قال: لا قال: فصلِّ ركعتين، وقال: إذا دَخَل أحدُكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" أي يخفِّفهما، وروى البخاري ومسلم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام ـ أي خرج من غرفته واعتلى المنبر يخطب ـ فليصلِّ ركعتين".(1/824)
صلاة النفل التي تنوب عن خَمْسِ فروضٍ:
هذه الصلاة صلاة مُبْتَدَعَةٌ ليس لها أصلٌ من كتاب الله أو سُنَّة رسوله ـ صلى الله عليه
وسلم.
وأمْرُ الصَّلاة مَشْهور وواضح، وليس من المعقول أن تنوب صلاةَ نَفْلٍ عن خَمْسَةِ فروض أو عن فرض.
فالفرض مُعَلَّقٌ بذمة صاحبه وعليه قضاؤه، وإن لم يقبل ذلك في الدنيا حُوسِبَ عليه يوم القيامة.
ونحبُّ أن نُنَبِّه إلي أن أي صلاة تُخالِف في كيفيتها الصلاة المشروعة من قيام وركوع وسجود وألوان الذِّكر وصيَغِه ونحو ذلك، هي صلاة مبتدعة، وتغيير في الدين بما لم ينزل به شرع، وخروج من حدود الاتِّبَاع، وهي مُبْعَدَةٌ عن الله ـ تعالى ـ فضلًا عن كونها غير مقرِّبة إليه. وفيما ورد عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصلوات الثابتة الواردة ما يُغْنِي وما يفيد . وقد أكْمَلَ الله لنا الدين وأتمَّ الشريعة، وحَدَّد ما يقرِّبُنا إليه وحَذَّرَنَا ممَّا سواه.(1/825)
في مَنْ لَا يُصَلِّي ولا يُنْكِر الصلاة:
يقول الله تعالى: "إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا"، وعن جابر ـ رضي الله
عنه ـ فيما رواه الإمام مسلم قال: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
وقد روى الترمذي في حديث حسن صحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمَن تركَها فقد كفر"، أي مَنْ تركها إنكارًا لها وجحودًا وتكذيبًا فَقَد كَفَر. إنَّ للصلاة في الجوِّ الإسلامي منزلة كبيرة فهي عِمَاد الدين، وهي ركنٌ من أركانه باتِّفَاق الأئمة، وعلى تارِكِها أن يسارع بالتوبة، وأن يحافظ عليها، وما دام لا ينكر الصلاة باعتبارها ركنًا من أركان الدين، وما دام يُقِرُّ بها فإنه لا يكون كافرًا، وإنما يكون بتركها عاصيًا.
والعاصي يُحاسبه الله على عصيانه ويُكافئه خيرًا على ما يأتيه من خير، فالمسلم تُحصَى عليه حسناته وسيئاته وهو مَجْزِيٌّ بالخيرِ خيرًا، وبالشر شرًّا، وأنَّ العاصي أو تارك الصلاة الذي يتصدَّق لوالِدَيْه تُقْبَل صدقَتُه، ويُثِيبُه الله ـ سبحانه وتعالى ـ خيرًا على ذلك، وعسى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يَشرَح صدره للصلاة بسبب ما يعمله من خير وهو تصدُّقه لوالديه فيكون مصيره الصلاح والهداية.(1/826)
في مَنْ قالوا بإسقاط الأعمال وفيها الصَّلاة عنهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وبعد، فقد قال جلَّ ذكره: (فَإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). وإقامة الصلاة هي أداؤها على ما يحب الله ورسوله، ومعنى ذلك أن الإنسان يَستغرِق في الصلاة منذ ابتدائها، فلا يُفَكِّر في شيء خارجها، إنَّ مَنْ يقيم الصلاة لا يفكِّر في أثنائها في وظيفةٍ ولا مالٍ ولا جاهٍ ولا مَشَاغِل دنيوية أيًّا كانت، وذلك لتكون الصلاة حقًّا صلة بين العبد وربه، ولن تكون كذلك إلا حينما يكون الإنسان بحيث لا تلعب به ـ في صلاته ـ دُنْيَا، ولا يلعب به شيطان يَصرِفه عن صلاته ليُفَكِّر في أمْرِ آخر، وحينما يُؤَكِّد الله ـ سبحانه ـ نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر فإنَّما يُعبِّر الله ـ سبحانه ـ عن الصلاة المُقَامة.
أمَّا كونُها كتابًا موقوتًا فمعناه أنَّها فَرْضٌ له وَقْتٌ مُعَيَّن، أي مؤقَّت بأوقاتٍ محدَّدة لا يجوز أن نتجاوزه دون أدائها، وذلك يَعنِي أوقاتها الخمسة المحدَّدة في الشريعة الإسلامية، وهذا التحديد بالوقت باقٍ ببقاءِ الإنسان، لا يسقط في أي سِنٍّ، ولا يَسْقُطَ مَهْمَا وَصَلَ الإنسان من الدرجات الروحية، بل إنَّ الدرجات الروحية تبعث الإنسان في صورة أقوى على المحافظة على الصلاة، ومن أجل ذلك فإن كل مَن يزعم أنه وصل إلى درجة تسقط فيها الصلاة عنه فإنه مُفْتَرٍ على الحقِّ، وخَائِنٌ للأمانة الدينية.
وقديمًا قال رجال: أهل المعرفة بالله يَصِلُون إلى ترك الحُرُمَات من باب البر والتقرب إلى
الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فقال الجُنَيد ـ رضي الله عنه ـ: إن هذا قول قوم تكلَّموا بإسقاط الأعمال وهي عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسنُ حالًا مِنَ الَّذي يقول هذا. وبعدُ، فيقول الله تعالى: (إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا).(1/827)
في الرجل يصلِّي في دُكَّانِه مع قُرب المسجد منه:
إنَّ الرجل الذي يصلِّي في دكانه مع قرب المسجد منه واعتذاره عن ذلك أنه يكون وحده في الدُّكان ويصلِّي جالسًا لتعبه ـ إن هذا الرجل صلاته صحيحة، إلا أنَّه مَحْرُوم مِنْ ثواب الجماعة، ومع أنَّ صَلَاتَه صحيحة فإنَّنَا نُريد أن نَضَع تحت سمعه وبصره الحديث الصحيح التالي الذي رواه إماما السُّنَّة: البخاري ومسلم ـ رضي الله عنهما ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صلاة الرجل في جماعة تضعُف على صلاته في بيته. وفى سُوقه ـ أي في دُكَّانِه ـ خَمْسًا وعشرين ضِعْفًا" وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرج إلَّا لصلاةٍ لم يَخْطُ خُطْوَة إلا رُفِعَتْ له بِهَا دَرَجَة، وحُطَّتْ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزل الملائكة تُصَلِّي عليه ما دام في مُصَلَّاه، ما لم يُحْدِث تقول: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة".(1/828)
في تأخير الصلاة عن موعدها:
مَنْ أدَّى فريضة الصلاة في غير موعدها ولم يكن متعمدًا في ذلك التأخير، وكان تأخيرها نتيجة نسيان أو نوم فلا حرج عليه لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه".
وإن كان تأخيرها: نتيجة اشتغالٍ بِبَعْضِ الأعمال فمؤخِّرُها آثمٌ وعليه أداءها فورًا إذا تذكَّر حَقَّ الله عليه في أدائها لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "العهدُ الذي بينَنَا وبينهم الصلاة، فمَنْ تَرَكَهَا فقد كفر".
وعلى المسلم الذي يُريد أن لا يتعرَّض لغضب الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ويريد الحظوة برضوان الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يُبادِر بالصلاة لأول وقتها وفى جماعتها الأولى مَتَى تيسر له ذلك. وفى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "والذي نفسي بيده قد هممتُ أنْ آمُرَ بَحَطَبٍ فيُحْطَب ثم آمُرَ بالصلاة فيؤذن لها. ثم آمُرَ رجُلًا فيؤمَّ لها. ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أُخالِف إلى رجال أحرق عليهم بيوتهم".
لهذا نرى المبادأة بالصلاة في وقتها كيلًا يعرض للإنسان من شواغل الحياة ما قد يحول بينه وبينها، بل ربَّما وافاه الأجل المحتوم قبل أدائها، فيكون مَلُومًا بِتَرْكِ المُبَادَرة إليها.(1/829)
في البُصَاق في الصلاة:
روى مسلمٌ بسنده عن أبي سعيد الخُدْري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى نُخَامَةً في قِبْلَةِ المسجد فَحَكَّها بِحَصَاةٍ ثمَّ نَهَى أن يَبْزُقَ الرَّجل عن يمينه أو أمامه.
وفى رواية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى نُخَامَة في قِبْلَةِ المْسَجْدِ، فأقبل على الناس فقال: "ما بالُ أحدِكُم يقوم مُسْتَقْبِلَ ربِّه، فيَتَنَخَّع أمامه، أيحبُّ أحدُكم أن يُسْتَقْبَل، فيُتَنَخَّع في وجهه؟".
قال العلماء: أمَّا البَصْقُ في المسجد فلا يجوز لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "البُزَاقُ في المسجد خطيئة".
والمتأمِّل فيما تقدَّم من الحديثين يجد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمنع من البزاق في الصلاة مطلقًا وإنَّما مَنَع بعض مظاهره في الصلاة وأباح البعض الآخر، فالبُصَاق في الصلاة جائِزٌ، ولا تبطُل به الصلاة إذا كان عن غَلَبَةٍ وعدم اختيار، أو يستخرج منديلًا ويَبْصُق فيه، وذلك إذا لم يجد مناصًا من البُصَاق.
أمَّا إذا كان يَغلِبُه البُصَاقِ دائمًا، وهو في الصلاة، فعليه أن يَضع المِنْدِيل في مكان قريب منه بحيث يتناوله في سهولة وهو في الصلاة.
في الحكم في إمام قرأ الفاتحة جهرًا حتى وصل إلى قوله تعالى: (إياكَ نعبُدُ وإياكَ نَستَعِينُ) فقال بصوت مرتفع:"استعنَّا بالله".
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أمَّا بعدُ، فنُفِيدُ بأن هذا دُعاء لا يُشبِه كلام الناس، فلا تَبطُل به الصلاة، وحكم قراءته أنه إن كان عامدًا عالِمًا أن الذِّكر يقطع مُوالاة القراءة وَجَبَ عليه استئنافُ قراءة الفاتحة، وإن كان ناسيًا أو جاهلًا، صَحَّت قراءته، ولا يُحسَب عليه الاستئناف، هذا بالنسبة للإمام، وأما المأموم فصلاته صحيحة لعُذْرِه والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/830)
في مَنْ فاتتْه صلاةٌ في عمره:
حاول كثير من المنحرفين أن يَدُسُّوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرًا من الأحاديث، ولقد جاهد علماؤنا ـ رضي الله عنهم ـ في تخليص الأحاديث من هذا الباطل، فوفَّقهم الله ـ سبحانه ـ في ذلك إلى ما يُرْضِي الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس في الأحاديث الصحيحة حديث بقول: إنَّ مَنْ فاته صلاة في عمره ولم يحصلها، فليقم في آخر جمعة من رمضان، ويُصلِّي أربع ركعات بتشهُّدٍ واحدٍ، بِنيَّة الكفَّارة، وإنَّما مَنْ فاتته صلاة فإنه يحب عليه يتجه إلى ـ الله سبحانه ـ في إخلاص تائبًا توبة نصوحًا، مُسْتَغْفِرًا في خضوع وخشوع، فإذا ما قَامَ بالتوبة على الوجه الصحيح، فإنه يبدأ بقضاءِ ما فاتَهُ من الصلاة، على قَدْرِ استطاعته فإن لم يكن يَعْرِف عددها أو أوقاتها فليفعل بحسب غالب ظنِّه، ولن يُكَلِّف الله إلا وُسْعَها.
وممَّا بجب التنبيه عليه أن الإنسان إذا اخترع حديثًا حتَّى ولو أرَادَ به العِظَة والاعتبار فإنه يتبوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فلْيَتَبَوَّأ مقعده من النَّار". ويشترك في الإثم والمعصية مَن روَّج لحديث مزيَّف، فإنه ناشر للباطل، ومُرَوِّج للكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن مَن يأتي بهذه الصلوات التي ذُكِرت في الحديث المزيَّف فإنه بذلك يُشَجِّع غيره على فِعْلِها فيكون آثمًا بصلاته وعليه مثل إثم مَنْ اقتدى به. الواجب ـ إذن ـ على المؤمن أن يَنْهَى عن ذلك، ويُبَيِّن خطأه ويوضِّح الوَضْعَ الصحيح لقضاء الفوائت، فإنه بذلك يَنَال ثَوابًا ويُؤْجَر على عَمَله ويكون في زُمْرَةِ هؤلاء الذين يأمرون بالمعروف ويَنْهَوْنَ عن المنكر، وهم الذين آمنوا بالله إيمانًا سليمًا، قد صحَّ عن رسول(1/831)
الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "مَنْ نَامَ عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذَكَرها" وفي رواية أخرى بزيادة "لا كفَّارة لَهَا إلا ذلك"، وبهذا نعلم يقينًا أنه لا كفارة للصلاة الفائتة إلا قضاؤها.
في الذين يعملون يوم الجمعة، ويقولون: نحن نصليها ظُهْرًا والمدارس التي جَدْوَل حِصَصِهَا يَمْنَع من صلاة الجمعة:
يقول الله تعالى: (يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وهذه الآية الكريمة تُبَيِّن الوضع الإسلامي عند الأذان للجمعة، والبيع مَثَل من الأمثلة للأمور التي تشغل الإنسان عند الأذان للجمعة، وليست المسألة خاصة بالبيع فحسب وإنَّمَا هي لكل ما يشغل الإنسان، والآية صريحة في أمْرِها وفي إيجايها. وصلاة الجمعة في الوَضْعِ الصحيح لا تأخذ أكثر من نصف خُطْبَة وصلاة، فإذا ما انتهت عاد الإنسان إلى عَمَلِه، وفي ذلك يقول
الله ـ تعالى ـ: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ولقد كان بعض الناس مِمَّن لم يتغلغل الإيمان في أعماق قلوبهم يتركون جزءًا مِنَ صلاة الجمعة منصرفين إلى غيرها فنَبَّهم الله على ذلك قائلًا: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وليس لصلاة الجمعة من بديلٍ إذا كان في الاستطاعة أداؤها.(1/832)
أمَّا المدارس التي تعمل يوم الجمعة ويَمْنَع جدول حصصها من صلاة الجمعة فإنَّنا نشكو إلى السيد وزير التربية والتعليم لمنع هذا المُحَرَّم في دور التعليم؛ لأن التربية الإسلامية في المدارس أساس لمنع كثير من الفِتَن التي تحيط بشبابنا في عالمنا المعاصر، وما انحرف كثير من شبَابِنَا إلا لعدم وجود التطبيق السليم للنواحي الإسلامية في دُورِ التعليم.(1/833)
في إقامة حفلات المسرح لأجل بناء المساجد:
يقول الله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُوُم فِيهِِ. فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ) ويقول الله تعالى: (إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) إنه ـ سبحانه ـ يحب المتطهرين في نِيَّاتِهم، ويحب المتطهرين في أعمالهم، ويحب المتطهرين في أموالهم، ومِنْ أول شروط بناء المساجد أن يكون المَال طَاهِرًا مَبْذُولًا من مُتَطَهِّرٍ نِيَّةً وعَمَلًا وأموالًا، وما مِنْ شكٍّ في أن بِنَاء المساجد من أفضل القربات إلى الله وأن الإقامة بها من أفضل القربات إلى الله، وأن الآية القرآنية الكريمة: (إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).
تشمل البانين لها والمقيمين فيها، بيد أن ذلك كله لابد أن يكون أساسه الحلال، والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يقبل إلا طيِّبًا، ومن المعروف أن الحفلات التمثيلية مهما حاول القائمون بها من تطهيرها، إنَّما هي حفلات لا تخلو من المُجُونِ والعَبَث، أو مِنَ التَّبَرُّج والسُّفُور المستهتر، ولا يجوز ـ والأمر كذلك ـ أن يُؤْخَذ من مالِهَا لبناء المساجد، أو أن تُقَام من أجل بناء المساجد. وإذا كان هناك جهة تخلو من المساجد فهل الضرورة والحاجة إلى بناء المساجد تبيح مثل هذا التصريف؟(1/834)
إن أمْرَ المساجد في الإسلام هَيِّنٌ سَهْلٌ، فقد جُعِلَت الأرض كلها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأمته مسجدًا وطَهُورًا، وحينما يدرك الإنسان وقت الصلاة يُصَلِّي في أيِّ مكانٍ طَاهِرٍ ومسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في غاية البساطة، ويستطيع الكثيرون أن يبنوا مِثْلَه دون حاجة إلى أن يكون سبيل الطاعة ـ وهو بناء المساجد ـ المعصية وأقصد الحفلات التمثيلية، وسيصبح قوم في ثورة مُعارَضة متحدثين عن طُهْرِ الفن وبراءته، ولكن هؤلاء بالتأكيد لا يُصدِّقون أنفسهم، ولا يصدِّقُهم الواقع، ولا يصدِّقُهم الآخرون، والنتيجة هي أن الله طيب لا يَقْبَلُ إلا طيِّبًا.(1/835)
في فروض الوضوء وسننه
إن سادتنا الفقهاء حينما يتحدثون عن الوضوء فإنهم يبيِّنون فروضًا وسننًا، أما الفروض فإنها تستند إلى الآية القرآنية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق وامسَحوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين) (المائدة: 6) ويُضاف إلى ما تَضمَّنَتْهُ هذه الآيةُ الكريمة من فروضٍ أربعةٍ فرضٌ خامسٌ هو النية، وليس من شرط النية أن يَنطق بها الإنسان وإنما يَكفي فيها الاتجاهُ القلبي.
أما سننُ الوضوء ـ ويصح أن نُسمِّيَها: آدابَه المستَحَبَّةَ ـ فهي أولاً التسميةُ، أي بسم الله الرحمن الرحيم، والتسمية مطلوبة من المسلم في ابتداء كل عمل من أعمال الخير يَشرَعُ فيه. ومن سنن الوضوءِ السواكُ، روَت عائشة، رضي الله عنها، عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "عليكم بالسواك؛ فإنه مَطهَرةٌ للفمِ ومَرضاةٌ للربِّ". ومن سنن الوضوءِ الدعاءُ، ومن المأثور عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يقول في ختام الوضوء: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" وكان يقول أيضًا: "سبحانك اللهم وبحمدِك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". ورُوِيَ أيضًا أنه كان يقول في ختام الوضوء ما حدَّث به أبو موسى الأشعري، رضى الله عنه، قال: أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوَضوء فتتوضأ، فسمعته يقول: "اللهم اغفرْ لي ذنبي، ووسِّعْ في داري، وبارِكْ في رزقي" فقلت: يا نبيَّ الله، سمعتك تدعو بكذا وكذا! قال: "وهل تَرَكْنَ من شيء!".(1/836)
في الآداب الواجبة في أثناء الوضوء
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق وامسَحوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين) (المائدة 6).
الوضوء نوع من أنواع الطاعات، يَلتزم المتوضِّئُ منه النيةَ والتسميةَ عند غسل أول جزء، واستحضارَ عظمة الله وجل، واستقبالَ القبلة إن تيسر ذلك، وألاّ يتكلمَ في أثناء الوضوء بأي كلام حتى ينتهيَ من الوضوء، ثم يقولَ بعد الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. لقد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن من قالها فُتحت له أبوابُ الجنة الثمانية يدخلُ من أيِّها يشاء. وورَدَ استحبابُ قولِ المتوضِّئِ قبل الوضوء أو في أثنائه أو بعده: "اللهم اغفِرْ لي ذنبي، ووسِّعْ في داري، وبارِكْ لي فيما رزَقتَني، وقَنِّعني به، ولا تَفتِنِّي بما زَوَيتَ عنِّي".(1/837)
في الوضوء من البِرَكِ الراكدة
هذه البِرَكُ الراكدة إذا لم تَلْقَ نجاساتٍ تُغيِّرُ طعمَها أو لونَها ورائحتَها فلا مانعَ من الوضوء منها، خاصة أن مياه المطر النقية تُغذِّيها وتُحرِّكُ ركودَها. والماء طَهور لا يُنجسه إلا ما غيَّر لونَه أو طعمَه أو ريحَه بغير مَقَرِّه، أو ما يَرِدُ عليه بواسطة ريح ونحوِها من الأشياء الطاهرة. وعلى ذلك فمثلُ هذه المياه ينبغي على الأهالي المحافظةُ على طهارتها وعدمُ إلقاء النجاسات فيها. وإنه من الدينِ ـ ومراعاةً لقواعدِ الصحةِ ـ تنزيهُ مثل هذه المياه عن النجاسات والأقذار.(1/838)
في نواقض الوضوء على حسَب مذاهب العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين.
أشار القرآن الكريم إلى نواقض الوضوء بقوله: (أو جاء أحدٌ منكم من الغائطِ أو لامَستُم النساءَ) وقد أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء بما يخرُجُ من السبيلين، من غائطٍ وبولٍ وريحٍ ومَذْيٍ، لظاهر الكتاب ولِتَظاهُرِ الآثار بذلك، روَى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبلُ صلاةُ مَن أحدَثَ حتى يَتوضأَ".
وقد اختلف العلماء فيما تدل عليه هذه الآثار؛ فعند أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأحمدَ وجماعةٍ أن كلَّ نجاسة تَسيلُ من الجسد وتَخرجُ منه يجبُ منها الوضوءُ، كالدم والرُّعَاف الكثير والفَصد والحِجامة والقَيء، إلا البلغمَ عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة: إنه إذا ملأ الفمَ ففيه الوضوء.
ولم يَعتبر أحدٌ من هؤلاء اليسيرَ من الدمِ إلا مجاهد.
وعند الشافعية أن كلَّ ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء من أي شيءٍ خرج، من دم أو حصاة أو بلغم، وعلى أي وجهٍ خرَج، سواء أكان خروجُه على سبيل الصحة أم على سبيل المرض.
وعند المالكية أن ما ينقُضُ الوضوءَ كلُّ ما خرَج من السبيلين مما هو مُعتادٌ خروجُه، من البول والغائط والمَذْي والوَدْي والريح، إذا كان خروجه على وجه الصحة، ولم يَرَوا في الدم والحصاة والدود يَخرج من أحد السبيلين وضوءًا ولا في السَّلَسِ.
ومما اختُلف في نقضِه الوضوءَ النومُ، فقيل: يَنتقضُ الوضوء بقليله وكثيره. وقيل: لا يجب منه الوضوء إلا إذا تَيقَّنَ من الحدث أو شكَّ فيه. وقيل: يُفرَّقُ بين النوم القليل الخفيف والكثير الثقيل، فلا يَنتقض الوضوء إلا من الثقيل.
وأما عن لمس النساء والسلام عليهنَّ، فيمكن تفصيل مذاهب العلماء كما يلي:
1 ـ يرى الحنفية عدم انتقاض الوضوء من لمس النساء.(1/839)
2 ـ ويرى الشافعية الفرق يبن اللامس والملموس؛ فيجب الوضوء على اللامس دون الملموس. وقيل: يجب على الاثنين. وقيل: يجب الوضوء مِن لَمْسِ الزوجة دون ذوات المحارم.
3 ـ وللمالكية تفصيل جميل في اللمس؛ إن قَصَدَ اللذةَ ووجَدها فعليه الوضوء، وإن وجَد ولم يَقصد فيه فعليه الوضوء، وإن قَصَدَ ولم يجد فعليه الوضوء، وإن لم يَقصد ولم يجد فلا وضوءَ عليه.
هذا، وفيما يتصل بالسلام على السيداتِ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يصافح السيدات، وقد روت عائشة، رضي الله عنها، قالت: ما مسَّت يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدَ امرأة قط في المبايعة، ما بايَعَهنَّ إلا بقوله: "قد بايعتُكِ على ذلك" رواه البخاري وغيره. وروى أحمد والترمذي وصحَّحه عن أُميمة بنت رقيقة قالت: أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نساء لِنبايعَه، فأخَذ علينا ما في القرآن، قلنا: ألاَ تُصافحُنا؟ قال: "إني لا أصافح النساء".
هذا وبالله التوفيق.(1/840)
في الريح الذي ينقُضُ الوضوء
هذا الهواء الذي يخرج من فَرْجِ السيدة السائلة هو ما يسميه الفقهاء بالريح، والريح ينقُضُ الوضوء بإجماع الفقهاء إذا خرج من الدُّبُر (مكان خروج البراز) أما إذا خرج من القُبُل فإنه لا ينقُضُ الوضوء عند الحنفية، سواء كان خروجُه من ذَكَرِ الرجل أم من فَرْجِ المرأة.
وعبارةُ كُتُب الحنفية: ينقُضُ الوضوءَ كلُّ ما خرج من السبيلين، إلا ريحَ القُبُل، فإنه من ذَكَرِ الرجل اختلاجٌ، أي حركةٌ تَنبعث من الذكر لا شيء فيها، ومن المرأة ريحٌ لا تَنبعث من محل النجاسة، فإن كانت المرأة مُفضاةً أو اختَلَط سَبيلاها استُحِبَّ لها الوضوء؛ لاحتمال أن يكون هذا الريح من الدبر. ورُوِيَ عن محمدٍ وجوبُ الوضوء للمُفضاة، وقيل عنه: إن كانت منتنة وجب الوضوء وإلا فلا يجب.
وعن الإمام الشافعي والإمام أحمد، رضى الله عنهما، ومحمد بن الحَكَم من أصحاب مالك: الريحُ الخارجُ من القُبُل من الرجل أو المرأة ينقُضُ الوضوء، كالريح الخارج من الدبر.
وعند الإمام مالك، رضي الله عنه، وجُلِّ أصحابه: كلُّ ما خرج من السبيلَين مما هو مُعتادٌ خروجُه، وهو البولُ والغائطُ والمَذْيُ والوَدْيُ والريحُ، إذا كان خروجُه على وجه الصحة من غير مرض فهو مُنقِضٌ للوضوء (راجع نواقض الوضوء في الهداية وفتح القدير وابن عابدين من كتب الحنفية، وكتاب الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد من كتب المالكية، وكتاب الفقه على المذاهب الأربعة).(1/841)
هذا، والأخذ بمذهب الحنفية دَفْعٌ للحرج الذي تشكو منه السائلة، فإن شاءت الأخذَ بمذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فعليها أن تتوضأ كلما خرَج منها هذا الهواء إذا أرادت الصلاة وغيرَها مما لا يَحِلُّ لغير المتوضئ. فإن كان هذا الهواء قد استمر معها وقتًا كاملاً من أوقات الصلاة بحيث لم ينقطع زمنًا يَتَّسعُ للوضوء أو الصلاة فإنها حينئذ تكون معذورةً، والمعذورُ يتوضأ لوقت الصلاة ويصلي بوضوئه ما شاء من الفرائض والنوافل، ويُنقَضُ وضوؤُه بخروج الوقت، ما لم يَنتقض بناقض آخر غيرَ العذر الذي تشكو منه، ويجددُ وضوءَه كلما دخل وقت من أوقات الصلاة، فيعودُ صاحبُه صحيحًا ويأخذُ حكم الأصحَّاء في الوضوء. والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/842)
في نواقض الوضوء
اتفق الفقهاء على أن ما خرج من السبيلين ـ القُبُل أو الدُّبُر ـ ناقضٌ للوضوء.
النوم على غير هيئة المتمكِّن.
زوال العقل بالسُّكْرِ أو المرض.
أما ما عدا ذلك فقد اختلف الفقهاء فيه، وللإنسان في اختلافهم سعة وفى اختلافهم رحمة.(1/843)
في حكم بول الصبي هل ينقُضُ الوضوء؟
لا ينقُضُ بولُ الصبي الوضوءَ؛ لأن الوضوء لا ينقُضُه إلا ما خرج من الشخصِ نفسِه، كالبول، أما إذا أصاب بولُ آخَرَ جَسَدَ المتوضِّئِ أو ثوبَه أو نحوَ ذلك فلا ينقُضُ وضوءَه. وعليه إذا أراد الصلاة أن يُطهر موضع النجاسة بالماء المطهِّر.
وفيما يتصل بتطهير النجاسة من البول إذا أصابت ثوب الشخص أو بدنه، اختلف العلماء في بول الصبي على ثلاثة مذاهب:
أولها، أن بول الصبي إذا وقع على الثياب يُرَشُّ موضعُه بالماء الطاهر ولا يُغسل، وأما بول البنت الصغيرة فيُغسل. والمراد بالصبي والصبية مَن لم يَستَغنِ عن اللبن الذي يَرضَعُه في غذائه، وروَى البخاري بسنده عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: أُتيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصبيٍّ، فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبَعَه إياه. وعن أم قيس بنت مِحصَنٍ أنها أتَت بابنٍ لها لم يأكل الطعام إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأجلَسَه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنَضَحَه ولم يَغسله.
وثانيها، يَكفي نَضْحُ الماء. أي رَشُّه من بول الصبي والصبية.
وثالثها، هما سواءٌ في وجوب الغسل من بولهما.
والحكمة في ذلك ـ فيما قال العلماء ـ أن الصبيَّ أقربُ إلى قلب أهله، وكثيرًا ما يَحملونه، فيَبولُ فيَتعذرُ تطهيرُ الثوب من بوله.
إن الإسلام بذلك ييسر على الآباء أعباءَ التربية، ويخفف في مقابل العناية بالأطفال بعضَ مشقات التطهير، وهي لفتة لطيفة تبين مدى عناية الإسلام بالأجيال الناشئة ورعايته؛ لِمَا تَتطلَّبُه تربيتُها من مَشَاقَّ.(1/844)
في ما يحرُم على المحدِث حَدَثًا أصغَرَ
أولاً، ما يحرُم على المحدِث حدثًا أصغرَ هو الصلاة فرضًا أو نفلاً، وكذلك صلاةُ الجنازة، لأن الطهارة من الحدث شرط في صحة الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبل صلاةُ أحدكم إذا أحدَثَ حتى يَتوضأ". ومن ذلك مجردُ التلاوة ومجردُ الشكر، لأنه في معنى الصلاة. كما يَمنعُ الحدثُ من الطواف بالبيت فرضًا أو نفلاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطوافُ بمنزلة الصلاة إلا أن الله قد أحَلَّ فيه المنطقَ، فمن نطَق فلا يَنطقُ إلا بخير". وقال الحنفية: من طاف محدِثًا صحَّ طوافُه وإن كان آثمًا، لأن الطهارة من الحدث واجبة للطواف وليست شرطًا في صحته. ويَمنعُ الحدثُ كذلك مِن مَسِّ المصحف كلِّه أو بعضِه ولو آيةٍ، لقوله تعالى: (لا يَمَسُّه إلا المطهَّرون).
ثانيًا، يُزاد على ذلك بالنسبة للجنب أنه يحرُم ـ وقال المالكية: يجوز ـ مَسُّ المصحف وحَملُه للبالغ الحدث، ولو حائضًا، إذا كان معلِّمًا أو متعلِّمًا؛ لأن عليه قراءةَ القرآن ودخولَ المسجد. كما لا يجوز ذلك للحائض والنفساء إلا أن تكون هناك ضرورة داعية لدخول المسجد. وقال المالكية: يجوز للجنب قراءة اليسير من القرآن إذا قرأه للتحسن أو الاستدلال.
وقال الحنفية: يجوز للجنب إذا كان معلِّمًا أن يلقِّنَ المتعلِّمَ القرآنَ كلمةً كلمةً، بحيث يفصل بينهما، كما يجوز له أن يَفتح أمرًا من الأمور ذات البال بالبسملة، وأن يقرأ الآية القصيرة بقصد الدعاء أو الثناء. ومثلُ الجنب في ذلك الحائضُ والنفساءُ.
أما الصيد والذبح فلا يحرُمان على الجنب، وليس في القرآن آية تُحرم الصيد أو الذبح على الجنب.(1/845)
في التنزُّه عن البول
يأمر الإسلام بالنظافة ويحث عليها ويرغِّب فيها، ولذا جعل الطهارة شرطًا من شروط صحة الصلاة. ولقد أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتنزه عن البول بقوله: "تَنَزَّهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه". وقد مر صلوات الله وسلامه عليه بقبرين فقال: "إنهما يُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يَستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة".
من كل ذلك نعلم أنه يجب على المسلم أن يَتنزَّهَ عن البول ويَتحرَّزَ أن يُصيبَ ثوبَه أو بدنَه. ومن آداب البول الجلوسُ، لكن إذا كان الإنسان محتاطًا لنفسه من إصابة البول مستبرِئًا منه يجوز له أن يبول قائمًا ولا إثم عليه ولا عقاب، والمهم هو الاحتياط بحيث لا يصيب الإنسانَ رَذَاذٌ من بوله، وبحيث يستبرئ من البول ويتنزه منه.(1/846)
في صلاة الفرائض جميعها بوضوء واحد
هل يجوز لشخص أن يصليَ جميع الفرائض الخمسة طوال اليوم بوضوء واحد دون الاستنجاء؟
الإجابة: لا تُقبَلُ الصلاة ولا تصح إلا بشرط الطهارة، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا إذا قمتم إلى الصلاةِ فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وامسَحوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّروا وإن كنتم مَرضَى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائطِ أو لامَستُم النساءَ فلم تجدوا ماءً فتَيَمَّموا صَعيدًا طيبًا فامسَحوا بوجوهِكم وأيديكم منه ما يُريدُ اللهُ لِيَجعلَ عليكم من حَرَجٍ ولكن يُريدُ لِيُطهِّرَكم ولِيُتمَّ نعمتَه عليكم لعلكم تَشكرون).
فمتى كان الإنسان متوضئًا فقد تحقق فيه شرط صحة الصلاة، وله أن يصليَ بهذا الوضوء ما شاء من الصلوات، ما دام لم يحصل منه ناقضٌ للوضوء، ولو بَقيَ طوال اليوم، وصلَّى الخمس الصلوات بالوضوء الواجب. والاستنجاء ليس واجبًا إلا إذا خرج من أحد السبيلين نجسٌ يحتاج إلى التطهير.(1/847)
في المسح على الباروكة
إن الله تعالى يقول في الحديث عن الوضوء: (وامسحوا برءوسكم) والباروكة ليست الرأسَ، فالمسح عليها باطل، وليس لمن مَسَحَت على الباروكة وُضوءٌ.
في الوضوء على طلاء الأظفار
إن الوضوء على طلاء الأظفار باطل، وذلك أنه لا يتمثل في طلاء الأظفار عذر شرعي، إن الطلاء طبقة على الأظفار تحجُبُ وصولَ الماء إليها، وهو طبقة متعمَّدة، ومعروف عند فاعلتها أنه طبقة حاجبة، وهي طبقة لا تدعو إليها ضرورة ولا حاجة ماسة. إذًا وضوء من يتخذ الطلاء باطل، وكل ما قيل عن قياسه بأشياء أخرى لا يصح.(1/848)
في كيّ المرأة شعرَها هل يَنقض الوضوء؟
كي شعر المرأة لم يُذكَرْ في نواقض الوضوء عند الفقهاء، ما دامت المرأة هي التي تكويه بنفسها، والأمر الهام في كي الشعر ليس هو أن يَنقض الكيُّ الوضوءَ أو لا يَنقضه، وإنما هو الكي نفسه، هل تستسيغ الشريعة أن تَكويَ المرأة شعرَها أو لا تَستسيغه؟ عن عبد الله بن عمرٍو رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "يكون في آخر أمتي رجالٌ يركبون الخيل يركبون على سُرُجٍ، كأشباه الرجال، وينزلون على أبواب المساجد، نساؤُهم كاسيات عاريات، على رءوسهنَّ كأسنمة البُخْتِ العِجاف، العَنُوهنَّ فإنهنَّ ملعونات". وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: لعَن اللهُ الواشماتِ والمستوشِماتِ، والمتنمصاتِ، والمتفلِّجاتِ للحسن المغيِّراتِ خلقَ الله. والوشمُ هو الدقُّ، والتنمصُ هو اقتلاعُ الشعر، والتفلُّجُ الأخذُ من الأسنان تحديدًا أو ترقيعًا. فلما قال ذلك عبد الله بن مسعود قامت امرأة تعترض مستفسرة، فقال رضى الله عنه: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد قال الله في كتابه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
من هذه الأحاديث ومن غيرها نأخذ أن ضياع الوقت في كي الشعر أمر لا تستسيغه الشريعة.. أما إذا ذهبَت المرأة إلى صالون الحلاق وأسلَمت نفسَها إلى الرجل يَجول في شعرها بيديه، فإن ذلك حرام ناقضٌ للوضوء.(1/849)
في الوضوء من أكل لحم الجَزُور
عن جابر بن سَمُرة رضى الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئتَ توضأتَ، وإن شئتَ فلا تتوضأ" قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، تَوضأْ من لحوم الإبل" قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم" قال: أصلي في مَبَارِكِ الإبل؟ قال: "لا" رواه أحمد ومسلم.
ويرى الخلفاء الأربعة ـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ـ أن أكل لحم الجَزُور لا يَنقض الوضوء، وليس هذا رأيَ الخلفاء الأربعة فقط وإنما هو رأيُ جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء.
بيد أنه ورد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من أكل لحم جَزُور فليتوضأ" ويبدو أن الأمر بالوضوء في هذه الأحاديث ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب والندب، ومن أجل ذلك سار الجمهور على عدم نقض الوضوء بأكل لحم الجزور، أي لحوم الإبل، ولحم الجزور هو لحم الإبل ولا يدخل فيه لحم البقر ولا الغنم.(1/850)
في استحباب الوضوء لمن أراد النوم
جاء في كتاب "استحباب الوضوء لمن أراد النوم، نيل الأوطار الجزء الأول": عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتَ مضجعك فتَوَضأْ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجِعْ على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا مَنجَى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلتَ، ونبيك الذي أرسلتَ. فإن متَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهنَّ آخرَ ما تتكلم به" قال: فرددتها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما بلغت "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت: ورسولِك. قال: "لا، ونبيِّك الذي أرسلتَ" رواه أحمد والبخاري والترمذي.(1/851)
في استحباب الوضوء لمن أراد النوم
جاء في كتاب "استحباب الوضوء لمن أراد النوم، نيل الأوطار الجزء الأول": عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتَ مضجعك فتَوَضأْ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجِعْ على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا مَنجَى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلتَ، ونبيك الذي أرسلتَ. فإن متَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهنَّ آخرَ ما تتكلم به" قال: فرددتها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما بلغت "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت: ورسولِك. قال: "لا، ونبيِّك الذي أرسلتَ" رواه أحمد والبخاري والترمذي.(1/852)
في إلقاء السلام على من يتوضأ
الأَولَى عدمُ إلقاء السلام على من يتوضأ، لأنه مشغول في كل حركة من حركات الوضوء بالذكر المناسب له، وقد حدَث أن ألقَى السلامَ أحدُ الصحابة على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى انتهى من وضوئه.
والأصل في إلقاء السلام أنه سنة، ولكن رده واجب. ويستحب كما يقول الإمام النووي أن يقول المبتدئُ بالسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّمُ عليه واحدًا، ويقول المُجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فيأتي بواو العطف في قوله: وعليكم. وفيما رواه البخاري وغيره أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يُسلِّمُ الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير". وعن أبي أمامة رضي الله عنه: قيل يا رسول الله: الرجلان يَلتقيان، أيُّهما يبدأ بالسلام؟ قال صلوات الله عليه: "أَوْلاَهما بالله تعالى".(1/853)
في صحة الغُسل دون النية
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكل امرئٍ ما نَوَى، فمَن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، ومن كانت هجرتُه لِدُنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يَنكِحُها فهجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه".
يدلنا هذا الحديث الشريف على أن صحة الأعمال الصالحة إنما هي بالنية الخالصة لله ورسوله. والواقع أنه ليس الأمرُ أمرَ النية فَحَسْبُ، وإنما الأمرُ أيضا خلوصُ النية في أعمال الخير كلها، ومعنى خلوصِ النية: أن يريد الإنسانُ بالعمل الصالح وَجْهَ الله وحده. عن الضحاك بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ، تبارك وتعالى، يقول: أنا خيرُ شَرِيكٍ، فمن أشرَكَ معي شَرِيكًا فهو لِشَرِيكي" ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس أخلِصوا أعمالَكم، فإن اللهَ، تبارك وتعالى، لا يَقبَلُ من الأعمال إلا ما خَلَصَ له، ولا تقولوا: هذه للهِ وللرَّحِمِ. فإنها للرَّحِمِ، وليس للهِ منها شيء، ولا تقولوا: هذه للهِ ولوجوهِكم. فإنها لوجهِكم، وليس للهِ منها شيء" ويقول الله تعالى: (فمن كان يرجو لقاءَ ربِّه فليَعمَلْ عملاً صالحًا ولا يُشرِكْ بعبادةِ ربِّه أحدًا).
والغُسل بغير نية لا يصح. ولكن مما يجب التنبُّهُ أن النية هي القصد والعزم على الشيء، ومحلُّها القلبُ، لا تعلُّقَ لها باللسان أصلاً، ولذلك لم يُنقَلْ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن الصحابة في النية لفظٌ بحال، وهذه العبارات التي أُحدثَت عند افتتاح الطهارة والصلاة جعَلَها الشيطان معترَكًا لأهل الوَسواس، يَحبسهم عندها ويعذبهم فيها ويُوقعهم في طلب تصحيحها، فتَرَى أحدَهم يكررها ويَجهَدُ نفسَه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شيء.(1/854)
في غُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى البخاري بسنده عن أنس بن مالك قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار. وروى مسلم في صحيحه عن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يطوف على نسائه بغُسل واحد. وفى رواية لمسلم عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذ أتَى أحدُكم أهلَه ثم أراد أن يعودَ فليتوضأ".
وهذه الأحاديث ظاهرة في أنه يجوز للجنب أن يُجامِعَ قبل الاغتسال وأنه يُستحَبُّ له أن يتوضأ. وقد ثبت هذا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله. وثبت في بعض روايات أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طاف على نسائه ذات ليلة، يغتسل عند هذه وعند هذه، فقيل: يا رسول الله، ألاَ تَجعلُه غسلاً واحدًا؟ فقال: "هذا أزكَى وأطيبُ وأطهَرُ". وحمَل العلماءُ ذلك على الندب. وعلى ذلك فيَكفي الغُسل مرةً واحدةً من هذه المباشرة.
أمّا كيفية الاغتسال فيبينها ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسلُ يديه، ثم يُفرغ بيمينه على شماله، فيَغسلُ فرجَه، ثم يتوضأُ وضوءَ الصلاة، ثم يأخذ الماءَ فيخلِّلُ أصابعَه في أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استَبرَأَ حَفَنَ على رأسه ثلاثَ حَفَناتٍ، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه.
قال العلماء: والمستَحَب أن يبدأ بناحية اليمين قبل الشمال، وبأعلى بدنه قبل أسفله، وأن يقول بعد الفراغ من الغُسل وتَرْكِ مكانِ الاستحمام: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا رسول الله. ولابد أن يَنويَ بالغسلِ التطهرَ من الجنابة.(1/855)
في المَبِيت على طهارة
عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من بات طاهرًا بات في شِعارِه مَلَكٌ، فلا يستيقظُ من ليل إلا قال المَلَكُ: اللهم اغفر لعبدك كما بات طاهرًا" (رواه البزار والطبراني في الكبير) والشعار: الثوب على الجسد.
ومعنى الحديث أن من بات على طهارةٍ لازَمَه في نومه مَلَكٌ يحرُسه ويقوم على رعايته ويستغفر له كلما تَنبَّهَ من نومه، تحقيقًا لبركة الطهارة وتكريمًا للمتطهرين.
وقد ندب سبحانه وتعالى المؤمنين إلى الطهارة وحثهم عليها وجعلها شرطا للصلاة ولا تصح إلا بها ولا تتم بدونها، يقول تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا إذا قمتُم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المَرافقِ وامسَحوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّروا وإن كنتم مَرضَى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائطِ أو لامَستُم النساءَ فلم تَجدوا ماءً فتَيَمَّموا صعيدًا طيبًا فامسَحوا بوجوهِكم وأيديكم منه ما يريدُ اللهُ لِيَجعلَ عليكم من حَرَجٍ ولكن يريدُ لِيُطهِّرَكم ولِيُتمَّ نعمتَه عليكم لعلكم تَشكرون).
وفى حديث جامع يرويه الإمام مسلم بسنده، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطُّهورُ شطرُ الإيمان" أي تنظيفُ الأعضاء الحسية بالماء، وتنظيفُ السلوك والأفعال الخارجية للإنسان بما يتفق مع الدين، نصفُ الإيمان.
أما النصف الآخر فهو النوايا الطيبة والمشاعر الكريمة والطهارة الداخلية التي هي أساس السلوك.(1/856)
وعن عمرِو بن عَبَسة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمٍ يَبِيتُ على طُهرٍ ثم يَتعَارُّ من الليلِ فيذكُرُ اللهَ ويسألُ اللهَ خيرًا من خيرِ الدنيا والآخرةِ إلا آتاه اللهُ إياه" (رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وإسناده حسن، مجمع الزوائد 1/ 223) وهذه الطهارة إما طهارة من الجنابة بالاغتسال، أو طهارة من الحدث الأصغر ـ ما يَنتقضُ الوضوءَ ـ بالوضوءِ.
ولكن البرد قد يكون شديدًا، وقد يتكاسل الإنسان عن الطهارة، فماذا يكون الجزاء؟ لقد وردت عدة أحاديث تحذر من البقاء على الجنابة بلا اغتسال أو التباطؤ في تحقيق الطهارة، فعن عمار بن ياسر، رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الملائكة لا تَحضُرُ جنازة الكافر بخير" أي مُنكِرَ الجَميل "ولا المُتضمِّخِ" أي المتلطِّخَ "بزعفران ولا الجنب". وروَى البزار بسند صحيح عن ابن عباس قال: ثلاثة لا تَقرَبُهم الملائكةُ: الجُنُبُ، والسكرانُ، والمتضمِّخُ بالخَلُوق. أي ما فيه صُفرة من الطِّيب، وهو مثل الزعفران.
والسبب في ذلك أن الجنابة تمنع من الصلاة ـ كما ذكرنا ـ وتمنع من قراءة القرآن، وتمنع من إقبال الملائكة، حيث تجذبُهم الطهارةُ والروائحُ الطيبة وتُبعدُهم النجاساتُ والأقذارُ.
ولكن الدين يسر، وما جعل الله على الناس فيه من حرج، وربما لا يَتيسر الغسلُ بالليل لتَعَبِ أو برد أو نحو ذلك، فما هو موقف الدين حينئذ؟
لقد خفَّف الله عنا وأباح لنا النوم على وضوء بدلاً من الغسل، عن شداد بن أوس الصحابي، رضي الله عنه، قال: إذا أجنَبَ أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ؛ فإنه نصفُ غُسل الجنابة.
ولكن لابد للإنسان من التطهر قبل شروق الشمس؛ وذلك من أجل صلاة الصبح.
ونخلُصُ من ذلك إلى أن غُسل الجنابة مطلوب، ويتأكد طلبُه عند حلول وقت الصلاة، ويستحب عند النوم جَلْبًا للملائكة وطردًا لكل المؤذيات.(1/857)
والمسلم إذا صار جنبًا لا يصير بذلك نجسًا، لقد قطع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الوهم ـ فيما رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَقِيَه في بعض طرق المدينة فانخَنَسَ ـ أي تَهَرَّبَ منه ـ فذهب فاغتسل ثم جاء، فقال: "أين كنت يا أبا هريرة؟" قال: كنت جنبًا فكَرِهتُ أن أجالسَك وأنا على غير طهارة. فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، إن المسلمَ لا يَنجُسُ".
إن الطهارة نور لمن أراد النور، وكمال لمن ينشُد الكمال، وسبب لجلب البركات والخيرات لكل من داوم عليها. وإذا ما حضر وقت الصلاة تأكد الأمر بها وحرُم تأخيرها؛ إذ إن هذا التأخير سوف يخرُجُ بالصلاة عن وقتها، وما أدَّى إلى الحرام فهو حرام.
وبعد، فلو لم تكن الطهارة دينًا لكانت دُنيا، والتنظفُ بعد الجماع بالوضوء مما دعا إليه الطبُّ وحذَّر من التكاسل عنه أو التهاونِ فيه. وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن عمر استَفتَى النبي صلى الله عليه وسلم: هل ينام أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم، لِيَتَوضأْ ثمَّ لْيَنَمْ حتى يَغتسلَ، إذا شاء".(1/858)
في وجوب غُسل الجنابة
يجب الغسل من الجنابة لقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمَنوا إذا قمتُم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المَرافقِ وامسَحوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّروا) وقد ورد النهي من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قراءة القرآن من كلٍّ من الجنبِ والحائضِ والنُّفَساءِ.
وشأنُ المؤمنِ الصادقِ الإيمانِ لزومُ الطهارةِ، فقد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "الطُّهورُ شطرُ الإيمان" وقد ورد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لبلال رضي الله عنه: "أخبِرني بأرجَى عمل عملتَه منذ دخَلتَ الإسلامَ" فقال بلال: لماذا يا رسول الله؟ قال: "لأني سمعتُ دُفَّ نعلَيكَ بين يدَيَّ في الجنة" قال: يا رسول الله، ما أحدَثتُ حدثًا إلا وتَطهَّرتُ وصَلَّيتُ بذلك الطَّهور ما شاء اللهُ أن أصليَ.
وكفَى بهذا الشرفِ باعثا على الطهارة من الأحداث والأنجاس كلها، والمحافظةِ عليها ما أمكَنَ.(1/859)
في فرائض الغسل المطلوبة
(أ) فرائض الغسل ثلاثة أشياء:
الأولُ النية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكل امرئٍ ما نَوَى، فمَن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، ومن كانت هجرتُه لِدُنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يَنكِحُها فهجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه".
والثاني إزالة النجاسة إن كانت على شيء من بدنه.
الثالثُ تعميم الماء إلى جميع أجزاء الجسم ومَنبِتِ الشعر.
(ب) الوضوء قبل الغسل سنة، ولقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اغتسل من الجنابة توضأ وضوءه للصلاة. رواه الشيخان.
(ج) ومُبطِلاتُ الغسلِ كلُّ ما أوجَبَ الغُسلَ؛ من خروج المَنِيِّ، أو الاتصالِ الجنسي، أو الحيضِ والنفاسِ.(1/860)
في المَبيت على جنابة
واضح أن السائل يريد أن يعرف حكم العودة إلى الجماع في الليلة الواحدة؛ هل يجوز قبل الاغتسال من الجنابة أو لابد من الاغتسال بعد كل جماع؟
وعلى السائل أن يعرف أن الجنابة توجب الاغتسال لقولِه تعالى: (وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّروا) وقولِه صلى الله عليه وسلم: "إذا التَقَى الختانان وجَب الغُسلُ، نزَل أو لم يَنزلْ".
غير أنه لا يَتحتم عليه الاغتسال فور الجنابة، فوقت الوجوب موسَّع، أي أنه يغتسل وقتما يشاء. إلا إذا أراد الصلاةَ أو قراءةَ القرآن أو مَسَّ المصحفِ أو غيرَ ذلك مما يحرُم على الجنب فعله ـ فحينئذ يَلزَمُه أن يغتسل، حتى لو لم يَبْقَ من الوقت إلا ما يَسَعُ للطهارة أو الصلاة، فيجب عليه أن يتطهر.
أما إذا جامَعَ زوجتَه وأراد الأكلَ أو النومَ أو العودةَ إلى الاجتماع بها فلا يلزمه الاغتسالُ، بل يُستحب له الوضوء فقط، فعن ابن عمر أن عمر قال: يا رسول الله، أينامُ أحدُنا وهو جُنُبٌ؟ قال: "نعم إذا تَوَضَّأَ" وعن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن ينام وهو جُنُبٌ غسَل فرجَه وتَوضَّأَ وضوءَ الصلاة. رواهما الجماعة. ولأحمد ومسلم: إذا كان جُنُبًا فأراد أن يأكل أو ينام تَوَضَّأَ. وعن عمار بن ياسر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخَّص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوء الصلاة. رواه أحمد والترمذي وصححه.
وفى استحباب الوضوء عند إرادة العودة إلى الجماع رُوِيَ عن أبي سعيد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا أتَى أحدُكم أهلَه ثم أراد أن يعود فلْيَتَوَضَّأْ" رواه الجماعة إلا البخاريَّ، ورواه ابن ماجه وابن حِبَّان والحاكم وزادوا: "فإنه أنشَطُ للعَوْدِ". وهذه الزيادة تَصرِفُ الأمرَ في الحديث "فلْيَتَوَضَّأْ" من الوجوب إلى الندب.(1/861)
ومما ورد في ترك الوضوء ما رُوِيَ عن عائشة قالت: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجامِعُ ثم يعودُ ولا يَتَوضأُ.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يأكل أو يشرب وهو جنب يغسل يديه ثم يأكل ويشرب. رواه أحمد والنسائي. وعنها أيضا قالت: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان له حاجة إلى أهله أتاهم، ثم يعودُ ولا يَمَسُّ ماءً. رواه أحمد. ولأبي داود والترمذي عنها: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينام وهو جنب ولا يَمَسُّ ماءً.
فهذه الروايات الواردة بترك الوضوء للجنب، عند الأكلِ أو الشربِ أو النومِ أو العَوْدِ للجماع، تدل على أن الأمر بالوضوء في الروايات الأخرى للندب لا للوجوب.
أمّا أن الغسل يكون بالصابون والليفة، فالواجب أن يكون بالماء الطاهر المطهِّر، ولم يقل أحد بوجوب استعمال الصابون والليفة، غير أنه لا مانع منهما لإزالة الأقذار عن الجسم، بل إن ذلك مستحَبٌّ لإزالة الأقذار فقط وليس لإزالة الحدث، فالحدث يزول بالماء الطَّهور، وفى حديث ميمونة المبِّينِ لصفة غسل النبي، صلى الله عليه وسلم، في الإجابة عن السؤال السابق: ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسَل مَذَاكيرَه، ثم دَلَكَ يدَه بالأرض ـ ما يدل على استحباب ما يُزيل الأقذار عن الجسم.(1/862)
في جواز الصلاة بعد الغُسل مباشرة
نعم، يجوز للإنسان أن يصليَ بعد الغُسل مباشرةً بدون وضوء جديد إذا كان الغُسل مستوفيًا للشروط الشرعية المطلوب فيه.
ويجمع هذه الشروطَ كلَّها أن يُزيل المرءُ النجاسةَ عن جسده بماء طاهر، ثم يتوضأ، ثم يغسل رأسَه فذراعَيه، فجانِبَه الأيمَنَ مع الرجل اليمنى، فجانِبَه الأيسَرَ مع الرجل اليسرى، كلُّ ذلك بماء طاهر، ويُراعي وصولَ الماء إلى سائر أجزاء الجسم وتخليلَ أصابع الرجل وتخليلَ الشعر.
فإذا لم يَنتقضْ وُضوؤُه بعد هذا الغسل، بأن لم يخرُجْ منه شيء ولم يَمَسَّ ذَكَرَه ونحو ذلك، كفاه هذا الغُسلُ عن إحداث وضوء جديد للصلاة.(1/863)
في الطهارة هل هي شرط من شروط صحة العقد
هذا الذي حدث لهذا الرجل لا يُبطل عقدَ القران، حتى لو كان هذا السائل لَزِجًا وكانت له رائحة، فليست الطهارة شرطًا من شروط صحة العقد، وليس عقد الزواج من الأمور المحرَّمة على المُحدِثِ حَدَثًا أصغَرَ أو أكبَرَ، ماذا يفعل؟ فإن الواضح من السؤال أن هذا الخارج مَذْيٌ وليس مَنِيًّا، فإن كان كذلك فلا شيء عليه إلا أن يَغسلَ عضوَه وموضعَ إصابة المَذْي من جسمه وملابسه، ويَتَوضأَ إن أراد أن يكونَ على طهارة، أو أراد الصلاةَ أو فِعْلَ ما لا يَحِلُّ للمُحدِثِ عملُه كَمَسِّ المصحفِ مثلاً، فقد رُوِيَ عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: كنت رجلاً مَذَّاءً، فاستَحيَيتُ أن أسأل رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمَرتُ المقدادَ بن الأسود فسأله، فقال: "فيه وضوء" أخرجه البخاري ومسلم، ولمسلم: "يَغسلُ ذَكَرَه وأُنْثَيَيهِ ويَتَوضأُ".(1/864)
في الفرق بين الاستحمام والاغتسال
لا فرق بين الاستحمام والاغتسال، فهما اسمان لمسمًّى واحد، وهو غسل جميع البدن، وهو واجب للطهارة من الحدث الأكبر (الجنابة) والحيض والنفاس، والواجب فيه غسلُ البدن كلِّه وما كان غائرًا فيه، إذا كان لا يضر غَسْلُه، كالسُّرَّة والقُلْفةِ التي لا عُسرَ في فسخِها، والمضمضةُ والاستنشاقُ، وذلك بعد إزالة ما يكون ببدنه من نجاسة وغَسلِ فرجٍ. كما يكون في الاستحمامِ الاستنجاءُ ثم الوضوءُ، وهو قبل الغُسل سنةٌ، فإن لم يتوضأ فعليه أن يتمضمض ويستنشق؛ لأنهما فرض في الاغتسال، ثم يُفيض الماءَ على بدنه، والأفضل أن يبدأ بغسل رأسه ووجهه ثلاثًا مع تخليل شعر الرأس، حتى يطمئن إلى أن الماء وصل إلى منابت الشعر، ثم على بدنه. والغُسلُ مرة واحدة هو الفرضُ والتثليثُ سنةٌ. ويلاحظ تأخيرُ غَسْلِ الرجلين إن كان يقف في محلٍّ يجتمع فيه الماء.(1/865)
وقد جاء في صفة الغسل ما رُوِيَ عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسلُ بدنه، ثم يُفرِغُ بيمينه على شماله فيغسلُ فرجه، ثم يتوضأُ وضوء الصلاة، ثم يأخذ الماء ويُدخل أصابعَه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أنْ قد استَبرَأَ حَفَنَ على رأسه ثلاثَ حَفَنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غَسَلَ رجلَيه. وفى رواية لهما: ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أَرْوَى بَشرَتَه أفاض عليه الماءَ ثلاثَ مرات. وعن ميمونة قالت: وضعتُ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثًا، ثم أفرغ يمينَه على شماله وغَسَلَ مَذَاكيرَه، ثم دَلَكَ يدَيه بالأرض، ثم مَضمَضَ واستَنشَقَ، ثم غَسَلَ وجهَه ويدَيه، ثم غسَل رأسَه ثلاثًا، ثم أفرَغَ الماءَ على جسده، ثم تَنَحَّى من مقامه فغسَل قدَميه. قالت: فأتيته بخرقةٍ فلم يُرِدْها وجعل يَنفُضُ الماء بيده. رواه الجماعة، وليس لأحمد والترمذي نَفْضُ اليد. نيل الأوطار للشوكاني، باب صفة الغسل.(1/866)
في كَيِّ شعر المرأة
والحكم في هذا لا غموض فيه من ناحية الشرع، ولا يمكن أن يماريَ فيه أحد، وهو أن المرأة لا يجوز لها أن تُسلمَ رأسها إلى رجل يجول بيده في شعرها كما تشاء له مهنته. ونحن نحسن الظن بالسائلات، فإنهن يَسألْنَ عن أمور دينهنَّ، ونَفترض أن الذي يكوي الشعرَ امرأةٌ مثلهنَّ، وعلى أساس من هذا الغرض الطبيعي فيمن يسأل عن أمور دينه نقول: لا فرق بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بوجوب تخليل الشعر، حتى يظن الإنسان أنه قد أروَى بشرتَه، ثم يُفيض على رأسه الماء بعد ذلك، ولقد روى الإمام البخاري بسنده عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوء للصلاة، ثم اغتسل، وخلَّل بيده شعرَه، حتى إذا ظن أنه قد أروَى بشرتَه، وأفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده.
ويَروي يحيى عن مالك أنه بلغه أن عائشة، رضي الله عنها، سُئلت عن غُسل المرأة من الجنابة فقالت: لِتَحفِنْ على رأسها ثلاث حَفَنات ماء. ولم تقتصر السيدة عائشة رضوان الله عليها على ذلك بل أضافت: وَلْتَضغَثْ رأسَها بيدَيها.
وفى معنى (تَضغَثُ رأسَها بيديها) يقول ابن الأثير: الضَّغْثُ معالجةُ شعر الرأس باليد عند الغُسل، كأنها تَخلطُ بعضه ببعض، ليَدخلَ فيه الغَسولُ والماءُ.
وروَى الإمام مسلم بسنده عن السيدة عائشة أن أسماء سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المحيض، فكان فيما قال صلى الله عليه وسلم: "ثم تصبُّ على رأسها فتَدلُكُه دَلكًا شديدًا، حتى تَبلغَ شئونَ رأسها، ثم تصب عليها الماء". معناه: أصول شعر رأسها.(1/867)
في نسيان الغُسل من الجنابة
على من نَسيَ الغسلَ من الجنابة لمدة معينة أن يُعيدَ ما صلاّه بعد هذه الجنابة وقبل الغسل، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا إذا قمتُم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المَرافقِ وامسَحوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّروا) وقولِه صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبَلُ صلاةُ أحدِكم إذا أحدَثَ حتى يَتَوضأَ".
أما النسيان المرفوع في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ عن أمتي الخطأُ والنسيانُ وما استُكرِهوا عليه" فالمرادُ رفعُ إثمِ التأخير بسبب هذا النسيان. أما رفعُ الفرضِ نفسِه، كالصلاة وعدمِ وجوبِ إعادتِها، فلاَ.
وعلى المؤمن أن يكون مستيقظًا في عبادته متحرِّزًا من كل شُبَهٍ تُفسد صلاته. ولعل في توجيه الإسلام إلى الاغتسال يوم الجمعة ونحوه ما يَمنعُ من آثار هذا النسيان، ذلك لأن مكانة الصلاة كبيرة وفضلها عظيم، والمحافظة على أدائها بشروطها مطلوبة، قال تعالى: (إن الصلاةَ كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا) وقال: (حافِظوا على الصلواتِ والصلاة الوسطى) وقال صلى الله عليه وسلم: "إن بين الرجلِ وبين الشركِ والكفرِ تَرْكَ الصلاةِ" رواه مسلم وقال : "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تَرَكَها فقد كَفَرَ" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وروى الإمام مسلم بسنده عن عثمانَ بن عفان، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ما من امرئٍ تَحضُرُه صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحسِنُ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها، إلا كانت كفارةً لِمَا قبلَها من الذنوب، ما لم تُؤْتَ كبيرةٌ، وذلك الدهرَ كلَّه".(1/868)
في هل تُشتَرَطُ الطهارة في انعقاد اليمين؟
ليست الطهارةُ من الجنابة شرطًا لانعقاد اليمين، فاليمين صحيحة ومنعقدة سواءٌ كان الحالف طاهرًا أو غيرَ طاهر، غير أن مَسَّ المصحف يحرُم على من ليس على طهارة، لقوله تعالى: (لا يَمَسُّه إلا المُطَهَّرون) فإذا كان السائل وضَع يدَه على المصحف أو مَسَّه أو لَمَس شيئًا منه في أثناء الحَلِف، فقد ارتَكَب إثمًا مضاعَفًا إلى ما ارتَكَبه من ذنوب وآثام في حق الله وفى حق نفسه ومجتمعه.
وإذا كان السائل يريد أن يتوب إلى الله تعالى فبابُه سبحانه مفتوح لكل من قصَده ليلاً أو نهارًا، فهو سبحانه يَبسُطُ يده بالليل ليتوب مُسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيءُ الليل، وسبحانه القائل: (وهو الذي يَقبَلُ التوبةَ عن عبادِه ويَعفو عن السيئاتِ).
وإذا كان السائل يريد راحةَ ضميره واستقرارَ النفس فعليه بالتوبةِ إلى الله والإقلاعِ عن هذه الرذيلة وعدمِ العودة إليها ولا إلى غيرها من المعاصي، وأولُ الطريق إلى التوبة أن يكفِّرَ عن اليمينَين اللذَين حَنِثَ فيهما، وكفارةُ كل يمين إطعامُ عشرة مساكين أو كسوتُهم، فإن لم يَستَطعْ فصيامُ ثلاثة أيام، قال تعالى: (لا يُؤاخذُكم اللهُ باللغوِ في أيمانِكم ولكن يُؤاخذُكم بما عقَّدتم الأيمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عشرةِ مساكينَ من أوسَطِ ما تُطعمون أهليكم أو كِسوتُهم أو تحريرُ رقبةٍ فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلك كفَّارةُ أيمانِكم إذا حلَفتم واحفَظوا أيمانَكم كذلك يُبيِّنُ اللهُ لكم آياتِه لعلكم تَشكرون).
وعلى السائل وغيرِه أن يُجِلَّ ويُنزِّهَ كتابَ الله الكريم عن الحَلِفِ على الصغيرة والكبيرة حتى يظلَّ للهِ ولكتابِه مقامُ الجلالة والتقدير، قال تعالى: (ولا تَجعلوا اللهَ عُرْضةً لأيمانِكم).(1/869)
وعلى السائل بعد الكفارتَين أن يتوبِ إلى الله توبةً صادقةً خالصةً، وأن يُقلِعَ عن المعاصي، وأن يُكثرِ الطاعات، مؤديًا الفرائض ومتقربًا إلى الله بالنوافل، مكثِرًا من العبادة والذكر والاستغفار، مبتعدًا عن كل ما يُثيرُ مما يُقرأُ أو يُشاهَدُ. والله يوفقه إلى سواء السبيل.(1/870)
في هل يَكفي أن تَرُشَّ المرأةُ شعرَها بدل أن تَغسلَه
في أثناء غسل الجنابة؟
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى بنعم كثيرة ظاهرة وباطنة، من بين هذه النعم نعمةُ الطهارة من الأنجاس والأخباث، فالطهارةُ في السلام أو الطهارةُ للمسلم لها هدفُها الأسمى من جهة كونها وسيلةً وغايةً.
أما هدفُها من كونِها وسيلةً، فهي تُلبِسُ الإنسانَ ثوبَ الجمال والحسن والحشمة والوقار والزينة والبهاء، وتُحلِّيه بمظاهر الشِّيَمِ ومكارم الأخلاق.
وأما هدفُها من كونِها غايةً، فهي التي تَزِنُ عبادةَ المرء وتجعلها في التجارة الرابحة التي تقرب العبد من ربه ويكون جليسًا للملائكة، فالله طيب لا يَقبل إلا طيبًا.
وما من شك في أن أطيبَ الطيبات طهارةُ القلوب والأبدان، لذلك أمَر الإسلامُ بالطهارة وحَثَّ بالحرص عليها، والقرآن حافل بالكثير من الآيات الكريمة التي تبين ما للطهارة من قيمة حتى يكون المتطهر حبيبًا لله سبحانه، يقول تعالى: (وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّروا..) الخ، ويقول: (إن اللهَ يحب المتطهِّرين) ويقول: (واللهُ يحب المتطهِّرين) وغير ذلك كثير من الآيات التي تتضمن الحث على الطهارة والأمر بها.
ومن ذلك فلا يَتأتَّى لمسلم ولا مسلمة ولا يجوز لامرأة أن تَرُشَّ شعرها بالماء بعد الجنابة بدلاً من الغسل، فقد قرر بعض علماء الفقه، عليهم رضوان الله، أن المرأة تَنقُضُ ضفائرَ شعرها حتى يصل الماء إلى مَنبِتِ الشعر في حالة الغسل.(1/871)
في تطهير الميت في صحراء لا ماءَ فيها
من مات في صحراء لا ماءَ فيها يُمِّمَ وجوبًا عند الأئمة الأربعة؛ لأن الغسل تطهير لا يتعلق بإزالة نجاسة، فيجب الانتقال عن الماء عند عذر وجوده إلى التيمم. والمقصود من الغسل ليس مجردَ التنظيف، وإنما هو التطهير الشرعي من الحدث المتوقَّعِ غالبًا باسترخاء الجسد عند الموت وزوال العقل. وإذا كانت حياة الميت بالروح دون الجسد فذلك لا يمنع من التطهير، إذ إن الأمور الشرعية لا تفرق بين روح وجسد وإنما تتعلق بالإنسان ككلٍّ.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن الإنسان يوم البعث سيُرَدُّ إلى جسده الذي تحلَّل أو ذاب، والطهارة هي التي تليق بالمؤمن في هذا المجال، مجال الحساب والثواب أو العقاب.
هذا وفى الغسلِ احترامٌ للمؤمن، وإظهارٌ لأخوة الإسلام، ورعايةُ المسلمين حقَّ أخيهم حتى بعد الوفاة.(1/872)
في الجهاد فَرْض عَيْن:
إن الجهاد الآنَ فرض عين على كل الأمم الإسلامية دون استثناء، ولكن ليس معنى ذلك أنه على كل مسلم أن يَحْمِل سلاحه ويترك عمله أيًّا كان للذَّهاب إلى ميدان القتال، وإنما على كل دولة وعلى كل فرد أن يجعل حياتَه مُوَجَّهةً نحو النصر: العامل بعمله، والصانع بصناعته، والجندي بسلاحه، ويجب أن تُوَجِّه جميع الدوَل الإسلامية أعمالَها واقتصادِيَّاتها توجيهًا يُمَكِّنها من ردِّ العُدْوان مُتَعاونةً مُتَساندةً. إن على الدول الإسلامية أن تضع نُصْب عينيها هدف النصر على العدو المحتل فإذا لم يعمل الأفراد ولم تعمل الدول على الوُصول إلى هذا الهدف أو إذا ما تناسَتْه فإنها تكون آثمةً، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (إِنَّما المؤمنونَ الذينَ آمنوا بالله ورسولِه ثم لم يرتابوا وجاهَدُوا بأموالِهم وأنفسِهم في سبيلِ الله أولئكَ هم الصادقونَ).(1/873)
في المقصود بالجهاد في سبيل الله:
المقصود بالجهاد في سبيل الله هو قتال أعداء الدِّين الذين يُقاتلون المسلمين أو يمنعونهم من تبليغ رسالتهم، رسالة العدل والحق والخير.
ويُشْتَرط لتحقيق هذا الجهاد واعتباره في سبيل الله صدق النية والإخلاص. فالحرب مع اليهود مثلًا ومع مَن يُساندونهم ويُساعدونهم بشتى الوسائل الحربية والسياسية والإعلامية والاقتصادية هي جهاد في سبيل الله. وهي في نفس الوقت فرض على كل مسلم ومسلمة في كل دولة إسلامية بقَدْر ما تُؤَهِّل الظروف وتتيسَّر الإمكانيات، والتهاوُن في الاشتراك في هذه الحرب سبب من أسباب الذلِّ وطريق من طرُق الهوان للمسلمين لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما من امرئ يَخْذُل امرأً مسلمًا في موطن يُنْتَقَص فيه من عِرْضه ويُنْتَهك فيه من حُرْمته إلا خذَله الله ـ تعالى ـ في موطن يجب فيه نُصرتَه، وما من أحد ينصُرُ مسلمًا في موطن يُنْتَقَص فيه من عِرْضه، ويُنْتَهَك فيه من حُرْمَتِه إلا نصرَه الله في موطن يجب فيه نصرته".
وإن ظروف الحرب الحالِية ومُلابساتها هي ظروف وملابسات الحرب الأولى الإسلامية؛ وذلك أن الله ـ سبحانه ـ يذكر الظروف والمُلابسات للحرب الأولى في الإسلام فيقول: (أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بأنهم ظُلِموا وإنَّ اللهَ على نصرِهم لَقديرٌ. الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ).
إن ظروف الحرب الإسلامية الأولى ـ كما تذكر الآية الكريمة ـ هي أن المسلمين:
1ـ قُوتلوا.
2ـ ظُلِموا.
3ـ أُخْرِجوا من ديارهم بغير حق.
وهذه الآية الكريمة كأنها نزلت اليوم تُذَكِّر ظروف الحرب الحالية، فلقد قُوتِلْنا وظُلِمْنا وأُخْرِجْنا من ديارنا بغير حق.
إن الحرب الحالية جهاد في سبيل الله، وكل مَن حمل السلاح فيها فهو مُجاهد في سبيل الله، والمُجاهد في سبيل الله له الجنة، سواءً انتصر وعاد سالمًا أو استُشهد، والجنة تحت ظلال السيوف.(1/874)
في الأسرار الحربية:
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بالاستعداد للجهاد ولا يُعَرِّف أحدًا بالمكان الذي يقصِدُه ولا بالهدف الذي يَهْدِف إليه، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُخفِي ذلك حتى عن أقرب المُقَرَّبين إليه. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك حتى لا يعلم أعداؤه بتدبيره، وحتى يكون عامل المُفاجأة سببًا من أسباب النصر، وكانت السيدة عائشة ـ رضوان الله عليهاـ كغيرها من الرجال والنساء لا تعلم عن الغزوة شيئًا إلا في اللحظات الأخيرة من الوُصول إلى الهدف.
ولكن بعد أن تقع الغزوة وتتحقَّق فإن أمرها يَذِيع فلا تُصبح سرًّا ويعلمها القاصي والداني، ولقد عُرِفت كل الغزوات للكبير والصغير، والمُرَجَّح الذي يُشبه اليقين هو أنه لم تُوجَد غزوة لا تعلَم السيدة عائشة ـ رضوان الله عليهاـ مكانَها واسمَها.
والله أعلم.(1/875)
في الحديث الشريف: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر":
فما هو الجهاد الأكبر؟ وما هو الجهاد الأصغر؟
قال ـ تعالى ـ: (وَالذينَ جاهدوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) سورة العنكبوت، الآية الأخيرة منها.
الجهاد الأصغر جهاد الأعداء، وكان أصغرَ؛ لأن الذي يُباشِرُه لا يتحمَّل فيه من عنائه أي شيء أكبر من قتل عَدُوِّه أو أسره أو قهره حتى يُقْهَر.
وكان الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس أكبر من جهاد العدو؛ لأن مطالب النفس كثيرة، وهي دائمًا تَوَّاقة إلى المَلَذَّات والحظوظ الدنيوية، وكبْح جِماحها في كل ما تشتهي شيء يَطُول شرحُه لتعدُّده بتعدُّد ما يَعْرِض لنا من مُشْتَهَيَات الحياة.
فالجهاد معها لا يَنْقَطِع حتى تَفِيض الرُّوح إلى بارئها، وتنتهي النفس بنهايتها، أما الجهاد الأصغر بالنسبة إلى الجهاد الأكبر فهو مدة يسيرة في عمر الزمن الذي يمتد بامتداد الحياة، ولهذا كانت رُتبة الصِّدِّيقين عند الله أعلى من مرتبة الشهداء.
والله أعلم.(1/876)
في الشهادة:
الشهادة في الإسلام فضلُها عظيم وعاقِبَتُها حميدة: إنها سبيل الحياة الدائمة، والنعيم الذي لا يَنْفَد يقول الله ـ تعالى ـ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقونَ. فَرِحينَ بما آتاهمُ اللهُ من فضلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذينَ لم يَلْحَقُوا بهم من خَلْفِهم ألا خوفٌ عليهم ولاهم يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بنعمةٍ من اللهِ وفَضْلٍ وأن اللهَ لا يُضيع أجر المؤمنينَ). وقال: (وَلا تَقولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سبيلِ الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكنْ لا تشعرونَ) ولهذا الفضل كان لابد من توافُر شروط لتحصيلها، وتَحَقُّق أمور للحصول على خَيْراتِها ونتائجها الشريفة المجيدة.
وأول هذه الشروط، أن يَقْصِد المُجاهد بموقفه في ميدان القتال وجه الله دون سواه؛ فقد سُئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرجل يُقاتِل شجاعةً ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل ليُرَى مكانُه، فمَن في سبيل الله ؟ فقال: مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
أما ثاني هذه الشروط: فهو أن يُقاتِل مُقْبِلًا على الأعداء غيرَ مُدْبِر ولا فارٍّ، قال ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إذا لَقِيتُمُ الذينَ كفروا زحفًا فلا تُوَلُّوهُمُ الأدبارَ ومَن يُوَلِّهِمْ يومئذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفًا لقتالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلى فئةٍ فقد باءَ بِغَضَبٍ من اللهِ ومأواهُ جهنمُ وبئسَ المصيرُ)، وهناك شروط أخرى مثل بذل الجهد في القتال وتَرْك الغُلول: أي السرقة من مال الغنيمة ونحو ذلك.(1/877)
وقد أخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حال الشهداء وصوَّرهم تصويرًا رائعًا جميلًا فقال لمَن سأله عنهم: أرواحُهم في جوف طير خُضْر لها قناديلُ مُعَلَّقة بالعرش تسرَح من الجنة حيث شاءت، ثم تَأْوِي إلى تلك القناديل، فاطَّلع عليهم ربُّهم اطلاعةً فقال: هل تشتهون شيئًا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل، ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتْرَكُوا من أن يُسْأَلُوا قالوا: يا ربِّ نُريد أن تَرُدَّ أرواحَنا في أجسامنا حتى نُقْتَل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا.
أما قتل المسلم أخاه بسبب المادة فلا يجوز، إنه قتل نفس بغير حق، وجزاء القاتل على ذلك جهنم خالدًا فيها، وغَضِب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا.
أما المقتول فإن كان مستعدًّا لقتل صاحبه فهو كالقاتل في الإثم؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" "إذا التقى المسلمانِ بسيفهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار"، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: "لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه".
وإذا كان غيرَ حريص على قتل صاحبه أو كان مُدافعًا عن ماله أو عن نفسه أو عن أهله فهو شهيد؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن قُتِل دون نفسه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون أهله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون ماله فهو شهيد".
والله أعلم.(1/878)
في صفة الشهيد:
إن صفة الشهيد تُتاح لأصناف عِدَّة؛ وذلك أن الغريق مثلًا شهيد والمسموم شهيد، ومَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل دون عِرْضِه فهو شهيد.
بيد أن كل هؤلاء ـ وإن كانوا شُهَداءَ ـ فإن أجرَهم لا يُماثل أجر شهيد المعركة، ولو قُدِّر للقريب من خط النار أن يموت بقذائف العدو، ولم يكن من الجنود الذين يقفون على خط النار للدفاع عن الوطن ولردع العدو فإن له أجر شهادة الموت قتيلًا.
أما الذي يموت دفاعًا عن دينه ووطنه، بأيدي أعدائه الحربيين، فإن له أجر شهيد المعركة وهو من الذين قال الله فيهم: (وَلا تَحْسَبَنَّ الذينَ قُتِلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرْزَقونَ).
أما غيره فإنه إن قُتِل بسلاح عدوه فليس له أجر شهادة المجاهد؛ لأنه لم يتدرَّب لذلك ولم يكن يقصد ـ قبل أن يُقْتَل ـ أن ينال من عدو الله بقتل، ومع ذلك فإنه إن كان يقوم بعمل يتصل بالجيش، وهذا العمل لا يُمكِن التخلُّص عنه، وفيه نفع للمجاهدين فيُرْجَى حينئذ أن يكون له بموته أجر شهيد المعركة.(1/879)
صورة الحرب في العصر الراهن وتأثيرها على صفة الشهيد:
تغيَّرت صورة الحرب في هذه الأيام، عنها في أيام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه الكرام، رضوان الله عليهم.
لقد كانت الحرب فيما مضى تستلزم تَصادُم المُتحاربين وجهًا لوجه، وتصارُعهم بالسلاح ولذلك كان الشهيد عبارة عن جندي قُتِل في ميدان القتال أو في الطريق إلى ميدان القتال.
أما الآن فقد تَحَوَّلت الحروب إلى حروب شاملة، تشمل بنيرانها وآثارِها المُدَمِّرة الجندي وغير الجندي، فاتسع بذلك مجال الشهادة وتَنَوَّعت أصناف الشهداء.
ومن هنا فإن كل مَن يُصيبه سلاح الأعداء ـ مُباشرة أو بالوَاسِطة كهدم البيت عليه ونحو ذلك ـ شهيد في نظر الإسلام.
والسبب في ذلك أن المسلم الذي يكون في دولة مُحاربة، يُعتَبَر مُحارِبًا، ببذل جهده في تسيير دَفَّة الدول من الحرب ويتحمل ما تستلزمه الحرب من أعباء، ومنها التعرُّض لسلاح الأعداء.
والحصول على ثواب الشهادة يكون ـ أيضًاـ بأن يتَلَقَّى الإنسان الموت في الغارات أو في حالة هجوم الأعداء، وهو رابط الجأش، ثابت النفْس، مطمئن الإيمان، فالهلَع والجزَع والسخْط ومُقابلة الموت بنفس هالعة وإيمان مُزَعْزَع فإنه ينأَى بصاحبه عن درجة الشهيد ويجعله من غير الصابرين والمُحْتَسِبين في القتال.
يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مالك والبخاري والترمذي عن أبي هريرة: "ما تَعُدُّون الشهداءَ فيكم؟ قالوا: يا رسول الله، مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداءَ أمتي ـ إذن ـ لَقليل قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال: مَن قُتِل في سبيل الله فهو شهيد ومَن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومَن مات في الطاعون فهو شهيد، ومَن مات من البطن فهو شهيد".(1/880)
في مَن قُتِل في المقاومة الشعبية:
مَن قُتِل في أثناء عمله في المقاومة الشعبية فهو من شُهَداء الحرب؛ لأنه يدافع عن الوطن ويُحارب أعداء الله وأعداء العرب والمسلمين.
ومن المعروف أن ألوان الحرب وأنواعها قد تغيَّرت في هذه الأيام، وأن المقاومة الشعبية هي لون من ألوان الحرب وقسم من أقسامها، والجهاد بواسطتها جهاد مُسْتَكْمِل لكل ألوان الجهاد.
وسواءً في ذلك أكان القتل نتيجة إصابة مباشرة من قذيفة أو نتيجة سقوط بناء أو حادث مفاجئ في أثناء المقاومة فكل ذلك شهادة في سبيل الله.
وقد سُئِل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرجل يُقاتِل حَمِيَّةً، ويقاتل رياءً، ويقاتل ليُرَى مكانُه، فمَن في سبيل الله؟ فقال: مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وإذا كان مَن جهَّز الغازي له مِثْل أجر المُجاهد؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"مَن جهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا" فإن مَن يشترك في المقاومة الشعبية له ثواب المجاهد، بل والمُرابط الذي يحرُس الثغور ويُدافع عن المصالح الحيوية للمسلمين.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "رباطُ يومٍ في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها"، "ورباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه"، وأن مَن مات مُرابطًا جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجْرِي عليه رزقُه، وأَمِن من الفتَّان".
أي: أن مَن قُتِل في المُقاوَمة الشعبية، وهو مُخلِص في حراسته، جادٌّ في عمله يستمر له أجر العمل الصالح، ومنه الرباط الذي بيَّنت الأحاديث ثوابه الجسيم إلى يوم القيامة، فضلًا من الله ونعمة.
والكل يعلم أن الجهاد أو الرباط لو لم يكن دِينًا لكان وطنيةً وخلُقًا كريمًا وغريزةً فطريةً، فالحيوان يُدافِع عن نفسه إذا هُوجِم.. وكل كائن حي يُقاوِم ما استطاع كل اعتداء، أو هجوم عليه، وكرامة الإنسان في ذاتها تُحَتِّم عليه أن يعيش عزيزًا أو يموت كريمًا.(1/881)
وقد تفضَّل الله ـ تعالى ـ على الإنسان أن أثابَه على هذا العمل الذي تدعو إليه مصلحة؛ (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
لمصلحة الإنسان في ذاته ومصلحة أسرته ومصلحة وطنه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).(1/882)
هل كان للمرأة دَوْر في الجهاد أيام رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟
نعم: إنها كانت تجاهد حسبما تستطيع، لقد كانت تعمل الأعمال التي تُناسبها؛ فعن أم عطية الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ قالت: غزوتُ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوات ـ أَخْلُفهم في رِحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأُداوي الجرحى، وأقوم على المرضى. وتقول بنت معوذ ـ رضي الله عنهاـ: كنَّا نغزو مع رسول الله نسقي القوم، ونخدِمُهم، ونَرُدُّ القتلى والجَرْحى إلى المدينة.
لكن ألَم يُشارِكْن في الحرب بمعنى الكلمة؟
لقد شاركْن في الحرب بمعنى الكلمة؛ فعن أم سعد بنت سعد بن الربيع ـ رضي الله عنهما ـ قالت: دخلتُ على أم عمارة ـ رضي الله عنها ـ فقلتُ لها: يا خالةُ، أخبريني خبرك. فقالت: خرجتُ يوم أحد أولَ النهار أنظُرُ ما يصنع الناسُ ومعي سقاء فيه ماء فانتهيتُ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلمَّا انكشف المسلمون انحزتُ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقمتُ أُباشِرُ القتال وأَذُبُّ عنه بالسيف، وأرمي عنه القوس حتى خلُصتِ الجراح إليَّ، قالت: فرأيتُ على عاتقها جُرحًا أجوف له غَوْر فقلتُ لها: مَن أصابكِ بهذا؟
قالت ابنُ قَمِئة أقمأه الله، لمَّا ولَّى الناس عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقبل يقول: "دُلُّوني على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا نجوتُ إن نجا، فاعترضتُ له أنا ومصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ وأناس ممَّن ثبت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضربني هذه الضربة، ولقد ضربتُه على ذلك ضرَبات، لكن عدو الله كانت عليه دِرْعان".
وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها: "ما التفتُّ يمينًا ولا شمالاً إلا وأراها تُقاتل دوني".(1/883)
هل الدفاع عن المسجد الأقصى وتطهيره من العدوان، وحِفْظه خاصٌّ بقوم دون قوم أو فرض على كل مؤمن بالله وقرآنِه ورَسُوله؟
قال ـ تعالى ـ: (قَاتِلُوا الذينَ لا يُؤمِنُونَ باللهِ وَلا باليومِ الآخرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدِينونَ دين الحقِّ من الذينَ أُوتوا الكتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يدٍ وهم صاغرونَ).
فنشر كلمة التوحيد عامة والدفاع عن الإسلام كذلك، وإجلاء الكافرين عن كل بُقعة احتَلُّوها من أرض المسلمين عامة، وإجلاء اليهود عن المسجد الأقصى وعن كل ما احتلوه من بلاد المسلمين واجب مُقَدَّس وفريضة مفروضة على كل مسلم.
وعلى كل مسلم أن يَسْتَعِدَّ لأداء هذا الواجب، وألا ينتظر دفاع غيره ممَّن لا يَدِينون بدينه عنه؛ لأن الكفر مِلَّة واحدة، ولن تَمُدَّ دولة ما لا تَدِين بدين الإسلام يدها للمسلمين مُدافِعَة معهم عن أوطانهم إلا إذا كان لها في ذلك العمل مصلحة تعود عليها.
لهذا نرى أن الدفاع عن المسجد الأقصى واجب المسلمين وحدَهم؛ لِيَسْتَرِدُّوا أرضهم ويُطَهِّروا المسجد الأقصى وغيره من رِجْس عدوهم. والله أعلم.(1/884)
جزاء القاعدين عن الجهاد والمُثَبِّطين، وكيف يَعرِفُهم الناس ليتقوا شرهم؟
لقد تحدث الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتحدث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن القاعدين عن الجهاد والمُثَبِّطين، وفضح القرآن وفضحت السنَّة نَوَايَاهم وكَشَفَا عن سرائرهم بحيث أصبح أمرهم واضحًا.
يقول الله ـ تعالى ـ لرسوله عن القاعدين عن الجهاد: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ) أي: لو كانت هناك غنيمة سهلة ورحلة مُيَسَّرة لساروا معك، ثم يُتابع القرآن الحديث عن هؤلاء فيقول: (وَلَكِنْ بَعُدَتْ عليهُمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ باللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أنفسَهم) أي: أنهم يُهلكونها بهذا الحَلِف الكاذب، يستأذنون النبي في القُعود عن الجهاد، فيقول الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُبَيِّنًا موقف المؤمنين وغير المؤمنين من الجهاد، فيقول: (لَا يستأذِنُكَ الذينَ يُؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ أن يُجاهدوا بأموالِهم وأنفسِهم واللهُ عليمٌ بالمتقينَ. إنما يَستأذِنُكَ الذينَ لا يُؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ وارْتابتْ قلوبُهم فهمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).
ولقد نفَى الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإيمان عن الذين لم يخرجوا للجهاد مُستأذنين في القُعود، وأعلن أنهم لا يُؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وأنهم قلوبُهم مُرتابة، وأنهم في ريبهم يترددون. أما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يقول فيما رواه مسلم: "مَن مات ولم يغزُ ولم يُحَدِّث نفسه بغزو، مات على شُعْبة من النِّفاقِ".(1/885)
ومعنى الحديث الشريف أنه إذا أُتِيحت الفرصة للمسلم في أن يغزو فإنه يجب عليه أن ينتهزها أما إذا لم تُتَح الفرصة لسبب من الأسباب القاهرة التي تَخْرُج عن إرادته فإنه على الأقل يتمنَّى أن لو أُتِيحت الفرصة. أما إذا لم تُتَح الفرصة للغزو ولم يتمنَّ إتاحة الفرصة فإنه يموت حين يموت على شُعبة من النفاق. والحكم بعد كل ذلك أن المُتَخَلِّف عن القتال مع استطاعته غير مؤمن فهو في النار في الآخرة، وأما في الدنيا فإنه يَسْتَحِقُّ بكل بساطة كل ما تَفْرِضُه قوانين الدولة من عقوبات.
أما كيف نَعْرِفهم فإن ذلك سهل فَسِيمَاهُم ومواقفُهم وكل أحوالهم تَفْضَحُهم وتُشير إليهم. والله أعلم.(1/886)
هل الحرب القائمة بين العرب والإسرائيليين حرب جهاد أو هي دفاع عن النفس؟
إن الحرب بين العرب والإسرائيليين هي جهاد، وهي في الوقت نفسه دفاع عن النفس، ومَن مات فيها فهو شهيد، ولا نجد في التاريخ جهادًا يُشبه تمامًا الجهاد الإسلامي الأول أكثر من هذه الحرب القائمة، وإذا تدبَّرنا الأسباب الأولى التي أَذِنت بالجهاد الإسلامي في أول الأمر نجد أن الأسباب التي ذكرتْها الآيات الشريفة هي نفس الأسباب التي أدَّت إلى هذه الحرب يقول الله ـ تعالى ـ: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ).
وعرب فلسطين أُخرِجوا من ديارهم بغير حق، وشُتِّتوا وشُرِّدوا، ومَن بَقِي فيها الآن من العرب يُنَكَّل بهم ويُعَذَّبون في صورة لا إنسانية ولا رحمة ويُهانون بكل أنواع المهانة، والواجب على جميع الدول الإسلامية الآنَ أن تَهُبَّ لنجدتهم وللعمل على أن تعود فلسطين عربيةً، وعلى أن تتحرَّر من هذه الشِّرْذِمة الأفَّاقة، وإذا تخلَّفت دولة عربية عن هذا الجهاد المُقَدَّس فإنها تكون آثِمَةً يَمْقُتُها الله ورسوله.
فالحرب الحالية هي جهاد، وهي دفاع عن المُقَدَّسات، وهي حرب في سبيل الله وفي سبيل العدالة، وفي سبيل استرجاع الحق المُغْتَصَب، وهي دفاع عن النفس وعن المال وعن العِرْض، وهي مُحارَبة في سبيل الله، وفي سبيل الحق، ومَن يَتَخَلَّف عنها فهو غير مؤمن.
نرجو الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يُعيد فلسطين عربية إسلامية كما كانت، وأن يُنَكِّل بهؤلاء الذين اغتصبوا الحقوق وقتلوا الأبرياء وأسالوا دم الشُّرَفاء، ومِن الله يُسْتَمَدُّ العَوْنُ والنصر.(1/887)
الشباب والجهاد:
عن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال: إني لَواقِف يوم بدر في الصف فنظرتُ عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غُلامين من الأنصار حديثة أسنانُهما، تَمَنَّيْتُ أن أكون بين أضلع منهما، فغَمَزَنِي أحدُهما فقال: يا عمَّاه، أتعرِف أبا جهل؟ فقلتُ: نعم، وما حاجتُك إليه؟
قال: أُخْبِرْتُ أنه يَسُبُّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي نفسي بيده لَئِن رأيتُه لا يُفارق وجهي وجهَه حتى يَمُوت الأعجَلُ منا، فتعجَّبتُ لذلك، فغمزني الآخر، فقال: لي ـ أيضًاـ مِثْلَها. فلم يَطُل الوقت حتى نظرتُ إلى أبي جهل، وهو يَجُول في الناس، فقلت: ألا تَرَيَانِ هذا صاحبُكم الذي تسألاني عنه؟
فابتدَرَاه بسيفهما فضرَباه حتى قَتَلاه، ثم انصرفَا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبراه فقال: أيُّكما قتَلَه؟
قال: كلٌّ منهما أنا قتلتُه.
قال: هل مَسحتُما سيفيكما ؟ قال: لا.
قال: فنظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السيفينِ فقال: كِلاهُما قتَلَه، وقضى بسلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخر معاذ بن عفراء، رضي الله عنهما.(1/888)
الشباب في المعركة:
تَدافَع الشباب في سن الخمس عشرة سنة فأكثر على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُريد كل منهم أن يَظْفَر بالإذن له في المُساهمَة في شرَف العمل في سبيل الله.
لقد جاء إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمُرة بن جندب، وجاء إليه رافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة فردَّهما.
فقيل له: يا رسول الله، إن رافعًا رامٍ فأجازَه، فلما أجازَ رافعًا، قيل له: يا رسول الله، إن سمرة يصرعُ رافعًا فأجازَه.
ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ردَّ: أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت أحد بني مالك بن النجار، وردَّ البراء بن عازب أحد بني حارثة، وعمرو بن حزم، وأسيد بن ظهير.
ردَّ جميع هؤلاء؛ لصِغَر سِنِّهم على الرغم من أنهم كانوا في شَوْق شديد لخوض المعركة، معركة الشرف في سبيل الله.
ولقد بلغت فرحتُهم حينما أجازَهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرَف المُساهمة في غزوة الخندق.
أما مَن كان أكثر من خمس عشرة سنة، وكان في حالة تُمَكِّنه من الحرب فقد أجازه رسول الله، صلى الله عليه وسلم.(1/889)
في مَن ليس عنده مال ولا ثياب، ويُريد التطوُّع للجهاد دفاعًا عن ديننا ومقدساتنا، ووطننا وحرُماته:
إن هذا المواطن الكريم يُذَكِّرنا بعمرو بن الجموح، وكان شيخًا كبيرًا طاعِنًا في السنِّ، وكان أعرجَ شديد العرَج، وكان له بَنُونَ أربعة مِثْل الأسْد يشهدون مع رسول الله المشاهد، فلما كان يوم أحد أراد الجهاد، وقالوا له: "إن الله ـ عز وجل ـ قد عذَرَك فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إن بَنِيَّ يُريدون أن يَحْبِسُوني عن هذا الوجه، والخروج معك، فيه فوَالله لأرجو أن أطأ بعَرْجَتِي هذه في الجنة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَمَّا أنت فقد عذرَك الله فلا جهادَ عليك.
وقال لبَنِيه: ما عليكُم أن تمنعوه لعلَّ الله أن يَرْزُقَه الشهادة فخرج معه فقُتِل يوم أحد.
وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أمًَّا أنتَ فقد عذرَك الله فلا جهاد عليك، إنما هو إشارة إلى قول الله ـ تعالى ـ: (لَيْسَ عَلَى الأعمَى حرَجٌ و لا على الأعرَجِ حرَجٌ ولا على المريضِ حرَجٌ ومَن يُطِع اللهَ ورسولَه يُدْخِلْه جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ ومَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْه عذابًا أليمًا).
ثم إن الله ـ سبحانه تعالى ـ يقول: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسْعَهَا).
فهذا المُواطن ـ لشيخوخته ـ مَعْفِيٌّ من الجهاد الحربي والوُقوف جنديًّا في الميدان، ومع ذلك فإنه يستطيع أن يُقَدِّم نفسه للقائمين على هيئة الدفاع ليُوَجِّهوه الوِجْهة التي تُناسب حالته.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ يَجْزِيه عن شعوره الكريم خير الجزاء.(1/890)