بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنِ اهتدى بهداه. وبَعْدُ.
فهذه أسئلةٌ وردودٌ عن عقودٍ شائِعَة، وصورٍ من المعاملات، يَكْثُر وقوعها بين الناس في حياتنا المعاصرة، بَذَلْتُ وسْعِي لأبَيِّنَ فيها وجه الصَّواب، بعد التفتيشِ عنها في مصادر فِقْهِنا الإسلامي، الذي يتميز بقيمته التشريعية الفذَّة، ممَّا يتضمنه من أحكام وقواعد، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، لا يَنِدُّ عنها ما يُحْدِثه الناس من أصناف التعامل على مرِّ الأيام، ولا يشذُّ، ما حسن استثماره، وأُنعِم النظر فيه.
أسأل الله الكريم أن ينفع بها، ويُجْزِل المثوبة، بمنِّه وفضله.
المؤلف(1/1)
العلم قبل العمل
س: هل يجوز الإقدام على عَمَلٍ، أو صفقة تجارية قبل السؤال عنها ومعرفة حُكْمِ الله فيها؟
الجواب: لا يجوز الإقدامُ على عَمَلٍ حتى يعلم حكم الله فيه: قال الله تعالى: (فَاعْلَمْ أنَّه لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (محمد: آية 19)، فبدأ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بالعلم، في قوله: (فاعلم)، ثم أمر بالعمل بعد العلم، وفي صحيح البخاري (انظر البخاري مع فتح الباري 1/169): "باب العلم قبل القول والعمل"، واستدلَّ عليه البخاري بهذه الآية، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ يسأل فيما يطرأ لأصحابه من حوادث، فلا يجيب ولا يأذن لهم في العَمَل حتى ينزلَ عليه الوحي، قال تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) (النساء: آية 176)، وقال تعالى: (وَيْسَأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: آية 220)، وهذا في القرآن كثيرٌ.
وفي الصحيح أنَّ رجلًا سأل النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بالجُعْرَانة، وعليه جُبَّة، وعليه أثر خَلُوق أو صُفْرَة (طيب)، فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟، فلم يُجبْه
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نزل عليه الوحي، فسُتِر بثوب، فلمَّا سرِّي عنه، قال: "أين السائل عن العمرة؟، اخْلَع عنك الجُبَّة، واغسل أَثَر الخَلُوقِ عنك، وانق الصُّفرة، واصنع في عمرتِكَ كما تصنع في حِجِّكَ" (البخاري مع فتح الباري 4/363، وسُرِّي عنه: أي زال ما به ممَّا يلاقيه من الشِّدة في نزول الوحي)، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يحرص ألا يَدخل أحدٌ السوق تاجرًا إلا إذا كان عالمًا بحكم ما يتَّجر فيه. ونقل الإجماع على هذه القاعدة الشافعي رحمه الله ـ تعالى ـ في الرسالة، والغزالي في إحياء علوم الدين، ولهذه القاعدة حرُم على الجاهل كسبه الحرام، كالعامد. (انظر الذخيرة 6/28).(1/2)
وقد عدَّ العلماء من فروض العين، عدم الإقدامِ على العمل حتى يعلم حكم الله فيه، وعليه يُحْمَل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "طلبُ العلمِ فريضةً على كلِّ مسلم" (صحيح سنن ابن ماجة 183، وانظر كشف الخفاء 3/56) فقد قالوا: إن المُتَعَيِّن على المرء إذا بلغ الحُلُمَ من العلم أمران:
1-الإيمان بالله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ ورسله، وما جاؤوا به عن الله، وكذلك معرفة أحكام العبادات، والمتعلقة بالطهارة والصلاة، وباقي أركان الإسلام. (انظر الإنصاف فيما يجب ولا يجوز الجهل به ص21)
2-ما يحتاج إليه المسلم ويعرض له في حياته من التعامل، فلا يجوز له أن يُقْدِم على عمل حتى يعلم حكم الله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فيه.
قالوا: ومَنْ تَعَلَّم وعَمِل فقد أطاع الله مرتين بالتعلم الواجب، ويعمل القربة، ومَنْ لم يَتَعلم ولم يعمل، فقد عَصَى الله معصيتين، بترك التعلُّم، وبترك العمل، إن كان واجبًا.
وقلَّ من الناس اليوم من يتوقف عن العمل حتى يتبين له الحكم، بل الشائع في التعامل في الأموال، إذا كانت الصفقة رابحة التمادي فيها، وميزانُها بميزانِ الكَسب والخسارة، لا بميزان الحلال والحرام.(1/3)
الصوَّاغون وتُجَّار الذَّهب
س: هل مهنة الصياغة والصرافة جائزة، وهل ورد في الشرع ما يدل على ذمِّها؟
الجواب: مهنة الصرافة والصياغة جائزة، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب كيف شئتم"، (البخاري مع فتح الباري 5/283)
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فإذا اخْتَلَفَتْ الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ" وقد كانت الصياغة في زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقرَّها.
إلا أنَّ المعروف عند العلماء أنَّ الصَّرف من أضيق أبواب الرِّبَا، والتخلص من الرِّبا في الصرف عسير، إلا لِمَن كان من أهل الوَرَعِ والعِلْمِ بأحكامه، وهم قليل، والمشاهدة دليل على ذلك، فإنَّ أكثر معاملات سوق الذهب اليوم ربوية؛ ولذلك كان الحَسَن يقول: "إنِ استسقيتَ ماءً فسُقِيتَ من بيتِ صرَّاف فلا تشربْه"، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل الصيرفي، قال ابن حبيب: لأن الغالب عليهم الربا، وقيل لمالك رحمه الله ـ تعالى ـ: أتكره أن يعمل الرجل بالصرف؟ قال: نعم، إلا أنْ يكون يتَّقي الله في ذلك (المقدمات الممهِّدات 2/14).(1/4)
صرف العملات يدفع في بلد ويستلم في بَلَدٍ آخر:
س: هل استبدال العُمْلات بعضها ببعضٍ من قبيل الصَّرف، وهل يجوز ما يفعله النَّاس اليوم، يدفع أحدهم عملة محلية في بلده ويأخذ عنها عملة أجنبية في بلد آخر؟
الجواب: لا يجوز؛ لأن استبدال العملات هو من قبيل الصَّرف، والصرف شرطه قبض العِوَضين في مَجْلِسِ العقد باتِّفاق العلماء، قال ابن المنذر: (أجمع كلُّ مَنْ نَحفظُ عنه من أهل العلم على أنَّ المصطرفَيْن إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسدٌ) (المغني 4/59)، وفي الموطَّأ من حديث مالِك بن أوس بن الحَدَثان: أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف منِّي، وأخذ الذهب يقلِّبها في يده، ثمَّ قال: حتى يأتيني خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تُفَارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبُرُّ بالبُرِّ ربًا إلا هاء وهاء، والتَّمر بالتَّمر ربًا إلا هاء وهاء، والشَّعير بالشَّعير ربًا إلا هاء وهاء" (الموطأ ص 636، هاء وهاء: اسم فعل بمعنى خُذْ وخُذْ؛ أي حاضرًا بحاضرٍ).
فلا يجوز صرف مؤخَّر بين ذهب وفضة، ولا بين عملات محلية أو أجنبية، كأن يقول شخصٌ لآخر: اصرف لي ألف دينار في عملة أجنبية، بالسعر الذي اتفقنا عليه، وأقْبِضُ منك ما يساويها من العملة الأجنبية في مصر، فهذا لا يجوز؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ"، وما يعطى هنا ليؤخذ مقابلة في مصر ليس يدًا بيد (انظر المنتقى 5/28).(1/5)
والتشديد على القبض في مجلس دون تأخير، الذي أطبقت عليه الأحاديث، واتفَّق عليه المسلمون، ظهرت حكمته واضحة في العصر الحديث، في ضوء التغيرات السريعة التي تحدث بين لحظة وأخرى في أسواق (البورصة) وبيع الذهب والعملات، حيث إن التأخير فيه لدقائق قليلة تترتَّب عليه أحيانًا فروق قد تَصِل إلى الملايين، ووجود مثل هذه الفروق إذا لم يتم القبض في عقد الصَّرف في الحين يفتح الباب واسعًا للنزاع والتحايل والإنكار وأكل المال بالباطل.(1/6)
استبدال الذَّهب المُصَنَّع بغير المُصَنَّع:
س: التعامل الشائع في سوق الصياغة، هو استبدال (الكسر) من الذهب بالجديد المُصَنَّع، يتم الاستبدال في الحال، مع زيادة الأجرة ، فهل يجوز التعامل على هذه الصورة؟
الجواب: التعامل على هذه الصورة لا يجوز، لاشتماله على الرِّبا، فلابد من المُمَاثلة والمساواة في الوزن عند استبدال الذهب المُصَنَّع بغير المُصَنَّع، أو الفضة المُصَنَّعة بغير المُصَنَّعة، ولا اعتداد بالصياغة والصناعة، والمساواة في الوزن ضرورية، ففي الموطَّأ: "أمر رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ السَّعدين أن يَبِيعا آنيةً من المغانم من ذهب أو فضة، فباعا كل ثلاثة بأربعةٍ عينًا ـ أي ثلاثة مثاقيل بأربعة ـ وكل أربعة بثلاثة عينًا، فقال لهما رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أربيتُما فردَّا" (الموطأ ص632 وانظر التمهيد 24/104)، وفي الموطأ: "أن معاوية بن أبي سفيان باع سِقَاية من ذهبٍ بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء، سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهى عن مِثْلِ هذا إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: مَنْ يَعْذُرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويخبرني عن رأيه، لا أُسَاكِنُكَ بأرضٍ أنت فيها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب، فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: ألا تبيع ذلك إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وزنًا بوزنٍ" (الموطأ ص 634، والسقاية: آنية كالكأس يشرب فيها. وانظر التمهيد 4/70)، وفي صحيح مسلم إن هذه الحادثة وقعت لمعاوية مع عبادة بن الصامت (انظر صحيح مسلم 3/1210).
وفي الموطَّأ عن مجاهد، قال: "كنتُ مع عبد الله بن عمر، فجاءه صائغ، فقال له: يا أبا(1/7)
عبد الرحمن، إني أصوغ الذَّهَبَ، ثم أبيعُ الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر يدي، فنهاهُ عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردِّد عليه المسألة، وعبد الله ينهاهُ حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابَّة يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فَضْلَ بينهما، هذا عهدُ نبينا إلينا، وعهدُنا إليكم" (الموطأ ص633).
قال مالك: "مَنْ أتى إلى صائغ بوَرِقِه ـ أي فِضته ـ ليعملَ له خَلْخَالًا، فوجد عنده خَلْخَالًا معمولًا، فراطَله فيه بوَرِقِه، وأعْطَاهُ أجرة عملِ يده، فلا خيرَ فيه)، وقال ابن رشد: (لم يُجِزْ مالك ولا أحد من أصحابه شراءَ حُلِي الذهب أو الفضة بوزن الذهب أو الفضة وزيادة قدر الصِّناعة) (انظر البيان والتحصيل 6/444 والمواق 4/317..)(1/8)
الطريقة الصحيحة لتصنيع الذهب:
س: إذا كانت الأجرة على الصنعة تُعَدُّ رِبًا، فما هو الحل؟ وكيف يتمُّ الحصول على الذهب المُصَنَّع دون دفْعِ الأجرة؟
الجواب: الحلُّ ميسَّر سَهْل، ولكن أصحاب السوق صاروا اليوم يتعجَّلون، فوقعوا في الرِّبا، فعليهم أن يَرجعوا إلى الطريقة التي كان السوق يتعامل بها في الماضي، كان الزبائن يأتون إلى الصانع بالذهب المكسور، أحدهم يريد خواتم، والآخر يريد أساور، والثالث يريد قِلادة، فيِزِن الصانع ذهب كلِّ واحدٍ، ويستلِمُه منه ويثبته في دفاتره، ويصهر ما تجمَّع له مع بعضه، ثم يقوم بتصنيعه، ويضرب أجلًا للزبائن؛ ليستلم كل حاجته، بالوزن الذي له، ويُعطيه الأجرة المتَّفَق عليها يوم الاستلام، نقودًا، أو ذهبًا، فالصانع له أن يجمع الذهب من الناس ويصنعه مختلطًا، فإذا فَرَغَ أعطى لكل واحد بقدر وزنه، قال ابن يونس: هذا هو الصواب لأجل الرفق بالناس. (انظر البيان والتحصيل 6/443و484 والموّاق 4/318، وفي المغني لابن قُدَامة 4/11: يجوز للشَّخص أن يقول للصائغ: صُغْ لي خاتمًا وزنه درهم، وأعطيك مثلَ وزنِه وأجرتك درهمًا، وقال: ليس ذلك بيع درهم بدرهمين، وللصائغ أخذ الدرهمين، أحدهما في مقابلة الخَاتَم، والثاني أجرة له، وانظر: الأم 3/30).
والتعامل على هذه الصورة جائز خالٍ من الرِّبَا، وبإمكان أهل السوق أن يرجعوا إليه إذا أرادوا الكسبَ الطيِّبَ، وترك الربا.(1/9)
المساواة في الوزن عند استلام المُصَنَّع:
س: هل يجب استيفاء الوزن عند قبض الذهب المصنوع من الصانع مضبوطًا مساويًا لوزن المكسور، أم يجوز قبض أقل أو أكثر؛ لأن الحِسَاب جارٍ؟
الجواب: إذا أعطيت الصائغ كيلو ذهبًا ليصنعه لك، فاقبض منه كيلو ذهبًا بعد أن يصنعه، ولا تقبضْ منه كيلو ومائة جرام مثلًا، على أن يطلبك بالمائة جرام تدفعها له المرة القادمة، كما هو الشائع اليوم في عرف السوق؛ لأن ذلك ذَهَبٌ بِذَهَبٍ مع التأخير، وهو ربًا، وكذلك لا تقبض منه أنقص من كيلو على أن تستكمل منه الباقي في المرة القادمة، للعِلَّةِ نفسها؛ إذ لا يجوز الذهب بالذهب إلا يدًا بيدٍ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ... مِثْلًا بمِثْلٍ، يدًا بيدٍ، فمَنْ زادَ، أو استزاد فقد أرْبى" (مسلم 3/1211).(1/10)
بيع الذهب القديم للتاجر وشراء الجديد منه:
س: من التعامل الشائع بين الناس أن يأتي الزبون لمحلِّ الصائغ بذهب (قديم)، فبيعه له، بسعرٍ، ويشتري منه ذهبًا جديدًا بسعرٍ أعلى، فيزن الصائغ الذهبين، وتقع المقاصَّة بينهما، ويكمل أحدهما للآخر النقص، فهل يجوز التعامل على هذه الصورة؟
الجواب: إذا ذهبت إلى الصائغ ومعك ذهبٌ تريد أن تستبدله بنوعٍ آخَرَ من الذهب، فالواجب لكي تتجنب الرِّبَا، أن تبيعَ ما معك من الذهب بالنقود، وتقبِضَ منه، ثم تشتري منه ذهبه بالنقود، وتجعل كلَّ بيعة منفصلةً عن الأخرى، بحيث تستطيع بعد أن تبيع ما مَعَكَ أن تشتري منه أو من غيره، فلا تَعِده، أو تَتَّفِقَ معه على الشِّرَاء منه من بادئ الأمر، وإلا كان التعامل استبدال ذهبٍ بذهبٍ متفاضلًا؛ لأن النقود التي أخذتها منه قد رجَّعتها إليه فكأنك لم تأخذ منه شيئًا، وإنما استبدلت ذهبًا بذهب مختلف الوزن، وهو عين الربا (يجوز البيع على هذه الصورة في رواية عن الإمام أحمد إذا لم يكن هناك شرطٌ أو اتِّفاق مسبق بين المتبايعَين بأنَّ كلَّ واحدٍ يبيع من الآخر ويشتري منه، والرواية الأخرى عنه بالمنع، وكذلك المالكية يمنعون أن يتمَّ مثل هذا البيع من الجانبين في مجلسٍ واحدٍ، أو بقرب ذلك مثل اليوم واليومين ولو من غير شرط، وذلك بناء على قاعدتهم في الأخذ بسدِّ الذرائع؛ لأن ما خرج من اليد وعاد إليها بعد خروجه لغوًا، أمَّا الذين يُجيزون بيع العينة كالشافعية، فينظرون إلى كل بيعة على انفراد، وكل بيعة عندهم هي عقد مستقلٌّ مستوفٍ لشَرْطِ الصحة فلا يُفسده غيره؛ ولذا يُجوِّزون البيع في مثل هذه الصورة، ويستدلون عليه بحديث الرجل الذي جاء إلى النبي من خيبر بتمر جنيب (جيد)، فقال رسول الله: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال الرجل: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله: لا تفعل، بِع الجميع (التمر الرديء) بالدراهم، ثم(1/11)
ابتع بالدراهم جنيبًا، ودلالة الحديث على مسألتنا عند الشافعية من جهة أن
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمَرَ الرَّجل أنْ يبيع التَّمر الرديء بالدَّراهم، ثمَّ يشتري بالدَّراهم تَمْرًا جيدًا، ولم يُحَجِّرْ عليه أن يشتري ممَّن باع له أولًا، أو من غيره، لكن إذا تشارطا في نفس العقد على أنَّ كل واحدٍ يبيع للآخَرِ فالبيع باطلٌ، وعلى صاحب المحلِّ أن يُبين للزبون من أوَّل الأمر أنه حُرٌّ يشتري منه أو من غيره، لينفي عن نفسه تهمة التحايل على الربا. وانظر البخاري مع فتح الباري 5/305، وشرح مسلم 11/21، والبيان والتحصيل 6/448، وإعلام الموقعين 3/231، ومواهب الجليل 4/374، وتحرير الالتزام ص238، والدسوقي 3/55) وهو معنى قَول العُلماء: إنَّ ما دخل اليد وخرج منها لغوٌ.(1/12)
شراء الذهب بالدَّيْن:
س: هل يجوز شراءُ الذَّهب بالدَّيْنِ إلى أجلٍ؟
الجواب: هذه المسألة في جوازها خلافٌ بين العلماء، والأحوط ألا تشتري الذهب والفضة بالنقود إلى أَجَلٍ، فإن النقود يجري فيها الرِّبَا كما يجري في الذهب والفضة، لوجود علَّة الثمنيَّة فيها، وهي صنف وحدها مستقلٌّ عنهما، وإذا اختلفت الأصناف جاز البيع إذا كان يدًا بيد (هذا هو الأحوط للدَّين، وجوَّز بعض العلماء بيعَ الذَّهب بالفلوس إلى أجَلٍ للخلافِ في رِبَوِيَّتها، والرَّاجح الذي ينبغي التعامل على أساسه في العصر الحاضر أنَّها ربوية. انظر حاشية الرهوني 5/11، وفي المغني 4/12 عندما ذكر ابن قدامة ما يجري فيه الربا من صنفين لعلة واحدة كالذهب والفضة، والبُرُّ والشَّعير، وأنه يحرم بيعهما نساءً: قال: إلا أن يكون أحد العِوَضَينِ ثمنًا والآخر مثمَّنًا، فإنه يجوز النَّساء بينهما بغير خلاف، وهي نسخة) كما ورد في الحديث.(1/13)
تركُ الذَّهب أمانَةً عند البائع:
س: مَن اشترى ذهبًا، ودفع الثمن فهل يجوز له أن يترك ما اشتراه أمانةً عند البائع؟
الجواب: إذا اشتريت ذهبًا بالنقود أو بالفضة ودفعت الثَّمن، أو اشتريت نقودًا بنقود، فلا تترك ما اشتريته أمانةً عند البائع لتَرْجِعَ إليها بعد ذلك، بل عليك أن تَقْبِض حاجتك، وتأخذَها معك، حتى لا يقعَ التأخير في قبض الصَّرف.(1/14)
شراء الخام مِنَ الصانع وتركه له ليصنعه:
س: هل يجوز أن نشتري ذهبًا مكسورًا من الصانع وتتركه عنده ليصنعه؟
الجواب: إذا كنتَ ممَّن يشترون الذهب الخام أو المكسور ويصنعونه، فلا تشترِ الذَّهَبَ المُكَسَّر من الصانع نفسه وتتركه عنده ليصنعه، قال في مواهب الجليل: لا يجوز، لعدم المناجزة (انظر مواهب الجليل 4/316)(1/15)
الذهب المُحَلَّى بالفصوص:
س: هل يجوز بيع قِلادة، أو عُقْدٍ من الذهب به فصوص؟
الجواب: يجوز بيعه بالنقود، أو بشيء آخَرَ غير الذهب، كالفضة، بشرط أن يتمَّ قَبْضُ العِوَضين في الحال، دون تأجيل، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "... فإذا اختلفتْ الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ".
ولا يجوز بيع قِلادة الذهب المُرَصَّعة بالفصوص ـ بذَهَبٍ، لما جاء في الصحيح من حديث فُضالةَ بنِ عُبيد الأنصاري، قال: "اشتريتُ يوم خيبر قِلادَة باثني عشر دينارًا، فيها ذَهَبٌ وخَرَزٌ ففصلتُها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرتُ ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: لا تُبَاع حتَّى تُفْصَل" (مسلم 3/1213)، فمنع النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ مِنْ بيعِ الذَّهَبِ والخَرَزِ بالذَّهب دون أن يفصل الذهب عن الخَرَزِ، لعدم التحقق من المُمَاثلة بين الذهبين قبل تمييز الخَرَزِ من الذهب. (وهو قولُ الشافعي وعبد الحكم من علمائنا، والمشهور عند علمائنا جواز بيعها يدًا بيدٍ، بثلاثة شروط: الشرطان السابقان في بيع المُحَلَّى بغير صنفه، ويضاف لهما شرطٌ ثالثٌ، وهو أن يكون الذهب في القِلادة قليلًا تبعًا لغيره، لا تزيد قيمته عن ثُلُثِ القِلادة، أو تكون الفُصُوص قليلة كذلك تبعًا للذهب، بحيث لا تزيد قيمتها عن ثُلُثِ القِلادة بذهبها؛ وذلك لأنَّ الشارع أباح تحليتَها، ونَزْعُهُ منها فيه فَسَادٌ أو كُلْفَةٌ ومَشَقَّةٌ، وهو في ذاته تَبَعٌ لغيره وقليل، والأتباع لا تقصد في العقود).(1/16)
وزن الفُصُوص عند البيعِ وإسقاطها عند الشراء:
س: جرى عمل السوق أنَّ الذهب يوزن بالفصوص عند البيع، وعند شراء الذَّهب المُسْتعمل من الزبون ينزع الصائِغ فصوصه قبل الوزن، فهل هذا جائز؟
الجواب: بيعُ الذَّهب بالفصوص جائز إذا كان الثمن شيئًا آخر غير الذهب، كما تقدَّم، واشتراط نزع الفصوص من الذهب قبل وزنه من قبل الصائغ، جائز أيضًا إذا رضي البائع؛ لأن الذهب المستعمل يراد في الغالب للصهر والتذويب، والفصوص لا تَصلُح لذلك، بخلاف الجديد المرصَّع بالفصوص، فإن الفصوص فيه تزيُّد من حسنه، وتزيُّد الرغبة فيه، فالشاري يريدها.(1/17)
اشتراط رد السلعة إلى البائع بعد مدة، إذا كسدت:
س: بائع (جملة) باع لمُوزِّع سلعة بالدَّيْنِ، واتَّفق معه على أن يُحاسبه بثمنها بعد ثلاثةِ أشهر، وذلك على الجُزء الذي يَبيعه الموزِّع من السِّلعة، وما لم يَبعْه، ردَّه إلى بائع الجملة، في نهاية المدة، فما حكم هذا البيع؟ وإذا كان هذا غير جائز، فما البديل لتصحيح مثل هذا العقد؟
الجواب: هذا عقد فيه جهالة بالمقدار المُبَاع من السلعة بالفعل، ويترتب على الجهل به، الجهل بالثمن وقتَ العَقْدِ، إذْ لا يدري بائعُ الجملة ما سيبيعه الموزِّع في نهاية المدَّة ويُحاسبه عليه، مَنْ الذي سيكسد، ويردُّه إليه، وبيع المجهول غَرَرٌ لا يجوز، ففي الصحيح "نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع حبل الحَبَلة، وعن بيع الغَرَرِ" (مسلم 3/1153 وانظر الزرقاني والبناني 5/26، ومنح الجليل 2/497).
والبديل لتصحيح مثل هذا العقد أن تبقى السلعة على حساب المالك الأول بائع الجملة، ويتولى الموزِّع بيعها له مقابل نسبة من الرِّبح، وما لم يبعْ منها رَجَّعَهُ إليه.(1/18)
بيع الحيوان بالوزن:
س: هل يجوز بيع الحيوان حيًّا بالوزن؟
الجواب: إذا لم يحدِّد الشرع للسلعة معيارًا تُباع به، من وزنٍ أو كيلٍ أو غيره، فمعيارها في البيع والمعاوضات يكون بالعادة التي اعتادها النَّاس لتلك السلعة، فإذا اعتادوا وزنها تُباع وزنًا، وإذا اعتادوا كيلها تباع كيلًا، وإذا اختلفت العادة فيها من بلد إلى آخر فإنه يعمل في كل بلد بالعادة التي اعتادوها، وذلك كما في العَسَلِ والسَّمْنِ فإنه يُباع كيلًا في بعض البلاد، ويباع وزنًا في بعضها الآخر. (انظر المواق 4/360، والمجموع 10/224).
ولم يرد عن الشَّرع تحديدٌ في المعيار الذي يباع عليه الحيوان، وكانت العادة في بيع الحيوان أن يُبَاع بالعدِّ بعد أن يُحْزَر ويُقَدَّر، ولم يتعرض الفقهاء لبيعه بالوزنِ.
وهناك من الفقهاء مَنْ ذَكَر أن كل ما لم يرد فيه معيار محدَّد عن الشرع، كالحيوان والمعدودات فإن معيار التماثل فيه يكون بالوزن لا بغيره، قال ابن قدامة في المغني: وأمَّا غير المكيل والموزون، فما لم يكن له أصل بالحجاز في كيل أو وزن، ولا يشبه ما جرى فيه العُرْفُ بذلك، كالثياب والحيوان والمعدودات من الجوز والبيض... فهذه المعدودات إذا اعتبر التماثل فيها، فإنه يُعتبر في الوزن؛ لأنه أحصر..) (المغني 4/23، وقال ابن رشد في المقدمات 3/22: لا يجوز بيع الحيوان بالوزن ولم يَذْكر تعليلًا، ولعله مبني على العُرْفِ في بيع الحيوان في زمنه؛ لأن ما لا تحديد فيه من الشرع يجب الرجوع فيه إلى العُرْفِ).
ثم إنه إذا جاز بيع الحيوان بالتحرِّي، فجوازه بالوزن من باب أولى؛ لأن الوزن أرفع للجهالة من التحري، قال الباجي في المنتقى: يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا كان من غير جنسه، وتكون المماثلة بينهما بالتحري، ولم يَعُدَّه من بيع اللحم المغيَب (المنتقى 5/25، والمواق 4/364).(1/19)
ويشهد للجواز قول التتائي في شرحه على المختصر نقلًا عن البرزلي: إنه يجوز بيع الشاة المذبوحة قبل السَّلخ بالوزن على أحدِ القولين المشهورين، قياسًا على الحيِّ الذي لا يُراد إلا للذبح، ثم قال: ومشى المصنف على الجواز، ونقل الزرقاني هذا القول وعزاه إلى التتائي أيضًا. (انظر فتح الجليل في حلِّ ألفاظ خليل لمحمد بن إبراهيم التتائي مخطوط رقم 617 بمركز جهاد الليبيين ج2 ورقة8، والزرقاني 5/25)
وعلى هذا القول بالجواز فليس هناك ما يمنع من بيع الحيوان الحي بالوزن، سواءٌ كان الحيوان متعينًا للحمِ كالمرِيض والكَسير؛ لأنه في حكم الشَّاة المذبوحة قبل السلخ، أو غير متعيِّن كالسالم الصغير، والقول المشهور الآخر هو منع بيع الحيوان المذبوح قبل السلخ بالوزن؛ لأنه متعيَّن للَّحم، أمَّا الحي فلا يتعين للحم، فلا يأخذ حكمه، إلا إذا كان مريضًا مشرفًا على الهلاك، فله حُكْمُ اللحم، وعلَّلوا منع بيع المذبوح بالوزن قبل السلخ، بأنه من باب بيع اللحم المغيب، فالمنع للجهالة بالحال التي يكون عليها اللحم بعد السَّلخ، أو أنه من باب بيع اللحم والعرض وزنًا، وكلا التعليلينِ غير موجود في بيع الحي وزنًا، فإن بيع الحيوان الحيِّ الذي من شأنه أنْ يُقْتَنَى، ليس من بيع اللحم، بدليل أنه ليس ربويًّا، فيجوز بيعه بحيوان من جنسه أو من غير جنسه، الواحد منه باثنين، أو بأكثر حالًا، أو إلى أجَلٍ، ولو كان حكمه حكم اللحم، لما جاز التفاضل فيه في الجنس الواحد، ولا الأجل، فقد صحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحيوان بيع واحدٍ باثنين من صنفه متفاضلًا (مسلم 3/1225)، وفي الموطَّأ أن ابن عمر اشترى راحلة بأربعةِ أبعرة، يوفيها صاحبها بالربدة (الموطأ ص: 652)(1/20)
بيع المذبوح بالوزن مع ما في بطنه من أحشاء:
س: هل يجوز بيع الدجاج المذبوح بالوزن، مع ما في بطنه من مصارين ومخلَّفات؟
الجواب: لم أرَ مَنْ رَخَّصَ في ذلك من الفقهاء إلا ما تقدم عن التتائي من القول بجواز بيع الشاة المذبوحة قبل السَّلخ بالوزن، فإنه يقتضي جوازَ بيعِ الدَّجَاج المذبوح بالوزن، وكذلك ما كان في حكمه من حيوان بجلده.
وقد يستأنس لذلك بما جاء في (الأم) عندما تعرَّض الشافعي إلى أنه لا يجوز السلم في الرؤوس والأكارع؛ لأنه بيع شيء غائب لا يقدر على وصفه، ولاشتماله على ما يُطرح من السَّقْطِ، قال: ولو تحامل أحدٌ فأجازه، لم يَجُز عندي أن يُجيزه إلا موزونًا، ولإجازته وجهٌ يَحتمل بعض مذاهب أهل الفقه ما هو أبعد منه، والله أعلم. (انظر الأم 3/98، والزرقاني 5/25)(1/21)
البيع بما يبيع به أهل السوق:
س: هل يجوز في ثمن البيعِ أو الأجرة على العَمَلِ الإحالة على ما يبيع به الناس، أو ما يُؤَجَّر به الناس، دون تحديد للقيمة؟
الجواب: لا يجوز إلا في الشيء الذي يُتسامح فيه عرفًا، كأجرة الخبَّاز، قال في المدونة: يمتنع الكِراء بمثل ما يتكارى به الناس للجهالة.(1/22)
بيع مالا يحل لُبْسُه:
س: هل يجوز بيع ملابس الرجال المصنوعة من الحرير للمسلمين؟ وهل يجوز كذلك أن تُبَاع لهم خواتم الذهب الخاصَّة بالرجال؟ وما حكم بيع هذه الأشياء ليَلبَسَها الصِّبيان؟
الجواب: لُبْس الحرير والذهب حرامٌ على الرجال بالإجماع، وهو مباحٌ للنساء بالإجماع، ولا يجوز بيع الحرير أو الذهب لِمَنْ لا يحل له لُبْسُه إذا كان المعروف من حاله إنما يشتريه ليلبسه؛ لأنه إعانة على الإثم والمعصية، قال تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ والْعُدْوَانِ)، ويجوز بيعُه لغير المسلم، ولِمَن يعلم أنه يشتريه لغير اللبس، فقد أعطي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُلَّةً من حرير إلى عُمَر، فأهداها عُمَر إلى أخٍ له مُشْرِك، وبيع هذه الأشياء ليلبسها الصبيان، مكروه.(1/23)
للبائع إعادة النظر في السِّعر إذا أخفضه لأمر فلم يحدث:
س: رجل باع سيارة قبل دفع الرسوم المترتِّبة عليها، على أن يتحمَّل المشتري دفع الرسوم، وبعد أن تَمَّ البيعُ أعفي المشتري من الرسوم لسببٍ ما، فهل يَحِقُّ للبائع أن يُعِيد النَّظر في السعر المتَّفق عليه؟
الجواب: نعم له الحقُّ في ذلك، والواجب على المشتري أن يَرُدَّ مقدار هذه الرسوم للبائع؛ لأنه ما شرط عليه ذلك إلا وقد خَفَّضَ له من الثمن بمقدارها، فإذا لم يدفعها إلى الجهة التي تأخذها عادة فهي من حقِّ البائع.
بهذا أجاب ابن زيد عند ما سُئِلَ عن مثل هذا السؤال، وقال: أمَّا إن اشترط المشتري بأنَّ مقدار هذه الرسوم له إذا تركتها الجهة المعنية، وإن أغرمتْه إيَّاها غَرِمَها، فالبيع يكون فاسدًا، يفسح إلا أن يفوت، فإذا فات صحَّ بالقيمة، وذلك للتغرير والجهالة بالثمن. (انظر المعيار الجديد 5/113)(1/24)
البيع وشرط:
س: هل يجوز لِمَن باع سلعة لشخصٍ أن يشترط عليه شراء سلعة أخرى معها لا يُريدها، أن يحجر عليه التصرف فيها، كأن يقول له: يُمنع عليك بيعُها، أو تأجيرُها مدَّةً معيَّنة؟
الجواب: هذا النوع من الشروط لا يجوز، يفسد به البيع مادامَ البائع متمسِّكًا بشرطه، فإذا ترك الشرط صحَّ البيع؛ وذلك لأنه بيعٌ مع إكراه، وفيه تحجير على المشتري في تصرفه في ملكه، وذلك مناقضٌ للغرض من عقد البيع، وقد جاء أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته، فاشترطَتْ عليه: إن بِعْتَها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به، فقال له عمر بن الخطاب: لا تقربْها، وفيها شرط لأحد. (السنن الكبري 5/336، انظر البيان والتحصيل 6/264، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 358) ومعناه إن تركت لكَ الشرط فامضِ في بيعِكَ.(1/25)
البيع بأكثر من السعر:
س: هل يجوز استغلال حالة المضطَّر، أو مَنْ يجهل السِّعر، فيباعُ له ما ثَمَنُه دينار بدينارين؟
الجواب: المضطَّر الذي لا يجد حاجَتَهُ إلا عند (س) من النَّاس لا يجوز استغلاله، وينبغي أن يُبَاع له بالسعر المُعْتاد، فقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع المضطر، إذا كانت السلعة من السلع الضرورية، كالطَّعام واللباس، واضطرَّ إليها الناس فللناس أن يأخذوها بقيمتها المعروفة، ولا يعطوا البائع زيادة، ولو لم يرض (انظر مجموع الفتاوى 29/300)، والذي يَجهل السعر، ويُسمى المسترسل، كذلك لا يجوز أن يَغْبُنَ في البيْع، ففي الحديث: "غَبْنُ المسترسل ربًا" (السنن الكبرى 5/349، وانظر الشرح الكبير 3/140، وأحكام السوق، ص: 137).(1/26)
البيع بأقل من السعر:
س: ما حكم بيع البضاعة بسعرٍ أقلَّ مِنَ سِعر السوق، لغرضِ ضَرْبِ التُّجَّار؟
الجواب: مَنْ كان في السوق يبيع سلعة مثل سلعة أهل السوق في الجودة، يَمنع من البيع بسعرٍ أقلَّ منهم، إذا كان ذلك يضرُّ بأهل السوق، ويُسبب فسادًا؛ (ومن العلماء من قال: إن الواحد والاثنين لا يمنعون من البيع بأقل من السعر المحدود؛ إذْ لا يُلام أحدٌ على المسامحة على البيع، بل يشكر عليه. انظر التيسير في أحكام التسعير ص62) لأن الضرر يُزال، وفي الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه مرَّ بحاطب ابن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر: إمَّا أن تزيد في السعر، وإمَّا أن ترفع من سوقنا. (الموطأ بشرح الباجي 5/17)، قال مالك: ومن حطَّ من السِّعر أقيم، وهذا ما لم يكن الغالب على أهل السوق الجَشَعُ، ومضاعفة الأرباح، فإن كانوا كذلك، فإن مَنْ يبيعُ بسعرٍ أقلَّ منهم يشكر، ويكون عمله محمودًا لرِفقه بالعامة.
وإذا باع الجانب بأقل من سعر السوق أمر بمساواة أهل السوق أو رحل عنهم (انظر أحكام السوق ص 107 والتيسير في أحكام التسعير ص48 و 52).(1/27)
المواعدة على بيعِ السلعة قبل شرائها:
س: رجل يتَّفق مع مشترٍ ليُحْضِر له بضاعة، وهى ليست عنده، ويتَّفقان على سعرها، فيذهب ويشتريها من السوق، ويبيعها له، ويأخذ فَرْقَ البيعتين، فهل يجوز ذلك؟
الجواب: بيع ما ليس عند بائعه ممنوعٌ إذا حَصَلَتْ فيه مواعدة صريحة بين الطرفين على الثمن الذي يَشْتَري به الأول السلعةَ، وعلى الثَّمن أو نسبة الربح، التي يَبيعها به إلى الثاني الذي وَعَدَ بالشراء، سواء كان شراء الثاني من الأول بالنَّقد الحاضر أو بالآجل، ومن أمثلته:(1/28)
أن يلتقي شخصٌ مع آخر، ويقول له: اشترِ لي بمائة ألف من مَالِك الشيء الفلاني، وأنا أشتريه منك وأربحك فيه عشرة بالمائة، سواء كان شراؤه منه بالنقد الحاضر أو بالتقسيط، أو يقول مَنْ عنده النقود لِمَن يريد السلعة: أنا أشتريها على حِسَابك على أن تربحني فيها عشرة بالمائة، أو تُرْبِحَني فيها ألفًا ونحوه، قال ابن رشد: فهذا لا يجوز الإقدام عليه (وإذا وقع، فقيل: يمضي، ويلزم المشتري ثَمَن السلعة حَسَبَ الاتفاق؛ لأن البائع كان ضامنًا لها لو تلفَت قبل أنْ يَستلمها المشتري، إلا أنه يستحب للبائع أن يتورَّع فلا يأخذ من المشتري إلا الثمن الذي اشتراها به، وقيل: إنَّ البيعَ يُفسخ وتُرَدُّ السلعة إلي البائع، إلا أن تفوت عند المشتري، فتلزمه قيمتها كما يفعل بالبيع الحرام. انظر البيان والتحصيل 7/78) وقال القاضي عِياض في التنبيهات: هذا ربًا صُرَاح، فكأنه أسلفه ثَمَنَ البضاعة ورجعه إليه بزيادة الربح (انظر منح الجليل 2/604) فقد نَهَى ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يأتي الرجل إلى آخَر ويقول له: "اشترِ كذا وكذا وأنا أشتريه منك بربحِ كذا وكذا". وقال له: "لا تَبِع ما ليس عندك" (الموطأ ص 642 والسنن الكبرى 317/5). وفي حديث حكيم بن حِزام قال: "قلتُ: يا رسول الله، يأتيني الرجل يسألني البيعَ ليس عندي أبيعه منه، ثم أتكلَّفه له من السوق، قال: لا تَبِعْ ما ليس عندك" (خرَّجه أحمد والأربعة والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 317، وقال الترمذي 3 /536: حديث حكيم حُزَام حديث حَسَنٌ، قد روي عنه من غير وجهٍ، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، وانظر الفتح الرباني على المسند 15/ 46)(1/29)
والشافعي يجوِّز البيع على هذه الصورة بشرط أن يَكون المشتري الذي وَعَدَ بالشراء بالخيار، إنْ شاء أخذ السلعة، وإنْ شاء ترك؛ لأن الخيار يرتفع معه الغَرَر والمُخَاطرة الحاصلة من بيع الشيء قبل مِلْكه، فيصح البيع عنده. (انظر الأم 3/ 33، "وبيع المُرابحة للأمر بالشِّراء كما تُجريه المصارف الإسلامية" ص33 وما بعدها، وقد أخذت المصارف الإسلامية بهذا الرأي، وصَدَرَت لها فتاوى من رقاباتها الشرعية بشرعية المعاملة، على أن يُجَدَّد عقد الشراء بعد إحضار السلعة من قبل المصرف ـ كما يقول الشافعية ـ حتّى لا يقع البيع على ما ليس في مالك البائع، وعلى أن تكون السلعة في ضمان البائع وعُهْدَته وهو المصرف إلى أنْ يستلمها العميل، ولو اقتصرَ الأمرُ على هذا الحدِّ لما كان في الأمر ما يستوقف، فإنَّ المعاملة صحيحة عند الشافعي بهذه الصورة، ولكن ما جعل المسألة في محلِّ النَّظر، وأثار حولها اعتراضات متعددة، أهمُّها عندي أن المصرف جعل الاتِّفاق المبدئي، الذي هو في صورة وعدٍ جعله مُلْزِمًا للطرفين، مُجبَرين على تنفيذه، وبذلك ـ في تقديري ـ ألغى المصرف من الناحية العملية ما اشترطه أولًا من وجوب تجديد عقد بعد إحضار السلع، فإن الأمر آلَ إلى أنَّ الإلزام للطرفين مستمرٌّ منذ الاتِّفاق الأوَّل الذي أعطى صورة الوعد من الناحية الشكلية وأخذ في الواقع العملي قوَّة العَقْدِ يجعله مُلْزِمًا لا يصحُّ للطرفين التخلي عنه، فاشتراطُ إنشاءِ عَقْدٍ جديد بعد إحضار السلعة صار مسألةً شكلية يتوصل به إلى تبرير الصفقة؛ لأن الإلزام موجود بدونه، وبذلك انخرمت القاعدة التي بَنَى عليها الشافعية جواز التعامل على هذا النحو.(1/30)
وقد أخذت الفتاوى التي استند إليها المصرف في مسألة الإلزام هذا برأي المالكية القائلين بوجوب الوفاء بالوعد بصفة عامة؛ لأن الشافعي يجعل العميل الذي وَعَد بالشراء في حِلِّه إن شاء أخَذَ وإنْ شاء تَرَكَ، فوعده بالشراء غير مُلْزِم.
وهذا ـ في رأيي ـ هو الفارق الذي اختلف بسببه الحُكْم بين المالكية والشافعية في المسألة. فإنَّ عدم إلزام العميل بالشراء يجعل التهمة بالتحايل على الرِّبا ضعيفة جدًّا أو معدومه؛ لأن العميل ينشأ عقدًا حقيقيًّا بالشراء بالثمن الآجل مختارًا فيه، قد يُنشئه مع المصرف وقد ينشئه مع غيره، فلو أنشأه مع غيره لا يُختلفُ في جوازه، فإن شاءوا مع المصرف، كذلك لا ينبغي أن يُختلفَ في جوازه.
أما على رأي المالكية القائلين بالإلزام بالوعد فالتُّهمة في التَّحايل على الرِّبا قويٌّ؛ ولذلك منعوا التعامل على هذه الصورة؛ ولذا لو كان البيع واقعًا على الخيار وليس فيه إلزامٌ بعد إحضار السلعة فليس لمنعه وجوه حتى عند المالكية؛ لأن الخِيَار عندهم بعد حضور السلعة يعطي للمعاملة حكم العَقْدِ الجديد المستقلِّ، والله ـ تعالى ـ أعلم)(1/31)
الأجرة على الشِّراء:
س: رجلٌ قال لآخر: خُذْ هذا المال واشترِ به السلعة الفُلانية، وإذا أحْضَرْتَها أنا أشتريها
منك، وأُرْبِحُكَ فيها عشرةً بالمائة مثلًا، فهل هذا جائز؟
الجواب: هذا جائز، والعَشَرَة بالمائة تُعَدُّ أجرة على شراء البضاعة وإحضارها، (انظر الشرح الكبير3/90) والله أعلم.(1/32)
البيع قبل القبض:
س: هل يجوز لِمَن اشترى طعامًا أن يَبيعه قبل أن يَقْبِضَه؟
الجواب: لا يجوزُ لِمَن اشترى طعامًا أن يبيعه قبل أن يَقبضه، لِمَا جاء في الصحيح عن ابن عبَّاس ـ رضي الله عنه ـ قال: "أمَّا الذي نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو الطعام أن يُبَاع حتى يقبض" (البخاري مع فتح الباري5/252) وفي الصحيح من حديث ابن عُمَر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَنِ ابتاع طعامًا فلا يَبعْه حتى يَستوفيَه" (المصدر السابق: 5/253، والموطَّأ بشرح الباجي: 4/279)؛ لأنَّه لا يَجوز أن يتوالى على الطَّعام عَقْدَا بيعٍ لا يتخلَّلُهما قبضٌ، قال العلماء: "لأنَّ الشارع له غرضٌ في ظهور الطعام؛ لأنه ينتفع به الكيَّال والحمَّال، ويظهر للفقراء فتقوى به قلوبُ النَّاس لا سيما في زَمَن المسغبة والشدَّة" (الدسوقى3/151) سواءٌ كان الطعام ربويًّا كالدقيق والأرز والشعير، أو كان غير ربوي كالفاكهة والخضراوات، لدخولها في عُمُوم الطعام المنهي عنه (وقيل يجوز بيع ما ليس ربويًّا من الطعام كالفاكهة قبل قبضه؛ لتخصيصِ الطعام الوارد في الحديث بِعُرْف الاستعمال، فإن العُرْفَ يخصِّصه بالقمح وما في معناه. انظر المنتقي 4/279)
وقالوا: كلُّ حديث ذكر فيه النهي عن البيع قبل القبض فالمراد به الطعام؛ لأنه الثابت في الأحاديث الصحيحة.(1/33)
بيع ما لا يُملك:
س: هل يجوز بيع السِّلعة قبل شرائها؟
الجواب: لا يجوز للإنسان أن يبيعَ سلعةً قبل أن يَشتريَها؛ لأنه من بيع ما لا يُملك، وبيع ما لا يملكه بائعه من الغرَرِ؛ لأنه قد يعجز عن تسليمه لمشتريه، ففي الموطأ عن ابن عمر: "لا تَبِعْ ما ليْس عندك" (الموطأ ص642) وفي حديث حكيم بن حزام قال: "سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: يا رسولَ الله، يأتي الرَّجل يسألني البيعَ ليس عندي فأبيعه منه، ثم ابتاعه من السوق، فقال: لا تَبِعْ ما ليس عندك" (ذكره الباجي وساقَ إسناده، ثم قال: وهذا عندي أشْبَه إسناد ورد موصولًا لهذا الحديث، انظر المنتقي 4/286، وقد تقدَّم تخريج الحديث في بيوع العينة ص182)(1/34)
س: هل يَجوز بيع السِّلَع غير الطعام قبل قَبْضِها؟
الجواب: يجوز عند علمائنا بيع السِّلع كلها غير المطعوم والمشروب قبل قَبْضِها، سواء كانت مَكِيلَةً أو مَوْزُونة، أو غير مَكِيلة ولا مَوْزُونة؛ وذلك لأنَّ الحديث قيَّد النَّهى بالطعام، فوجب أن يكون ما عداه بخلافه، (وذهب الشافعي وجماعة إلا أنه لا يجوز بيع شيء قبل قبضه طعامًا أو غيره؛ لحديث ابن عباس المتقدِّم، فقد قال ابن عباس في آخر الحديث: وأحسبُ كلَّ شيء مثله، أي مثل الطعام، ولحديث حكيم بن حزام: "قلت يا رسول الله: إني أشتري بيوعًا، فما يَحِلُّ لي منها، وما يحرم؟ فقال: إذا اشتريتَ شيئًا فلا تبعْه حتى تَقبضه". رواه أبو داود، وفي إسناده مقال. انظر التمهيد: 13/332، ونيل الأوطار: 5/179) وقالوا: كل حديث ذُكر فيه النهي عن البيع قبل القبض فالمراد به الطعام؛ لأنه الثابت في الأحاديث الصحيحة.(1/35)
بيع الواصلات:
س: هل يجوز ما يُعرف ببيع (الواصلات)، وهو أن يَحْجِزَ الإنسان في سلعة، ويَدْفَع ثَمَنَها، وقبل أن يتسلَّمها يبيعها بأكثر من الثمن الذي دفعه، ويسلِّم (الواصل) للمشتري ليَقْبِضَ به السلعة؟
الجواب: بيع (الواصل) معناهُ التَّنازل عن الحجز في سلعة لم يَتمَّ شراؤها بعد، والتنازل على الحجز مقابِل مالٍ، الظَّاهر أنه غير ممنوعٍ، ولذلك في الفقه شواهد:
قال علماؤنا: يجوزُ للمُسَاوم أنْ يدفع لبعضِ النَّاس أجرة ليتركوا شراء سلعة يريد هو شراءها، ويجوز أيضًا أن يقول لغيره: كُفَّ عن الزيادة في البضاعة وأنتَ شريكي فيها إذا اشتريتها، وهذا قريب ممَّا يفعله الناس اليوم: يَحْجِزُ الرجل سلعةً من السلع القليلة في السوق، ويكون له الحقُّ في شرائها، بمقتضى ذلك الحجز، ثم يتنازل عن هذا الحجز لغيره بمقابل، ويعطيه السند (الإيصال) ليُتِمَّ الصفقة لنفسه، كما قالوا: إنه يجوز لِمَن يتقدَّم إلي عملٍ أو وظيفة تَشْتَدُّ عليها المنافسة أن يُعْطِي لبعض المتقدمين مالًا ليتركوا له الوظيفة، حتى ينفردَ هو بها، أو تَقِلَّ عليها المنافسة، ويجوز كذلك لِمَن يَخطب امرأة يُريد أن يتقدَّم إليها غيرُه أن يُعطيَه أجرًا ليكفَّ عن خِطبتها ويتركَها له، كلُّ ذلك تجوز الأجرة عليه؛ لأنها أُجْرَة على ترك حقٍّ يجوز أخذها وإعطاؤها (انظر الشرح الكبير3/68، والزرقاني 5/91) هذا إذا كانت الجهة التي أصدرت (الواصلات) تعني بها أن مَنْ أعطيت له هذا الحجز ليس له إلا مجرَّد الأسبقية من غيره في الحصول على السِّلعة عند حضورها، وهو الاحتمال الأقرب، أمَّا إذا كانَ الحجز بإصدار (الواصلات) هذه يعبِّر عن عقد البيع نفسه، وأنَّ السلعة صارت في ضمان المشتري بذلك الحجز الذي يعبِّر عن العقد ـ فإن السلعة لا يجوز لصاحب الحجز بيعُها قبل قبضها بالاتفاق إذا كانت طعامًا، للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، أمَّا غير الطعام فيجوز بيعُه قبل قبضه عند(1/36)
علمائِنَا، ومنَعه الجمهور.
لكن على هذا التقدير، وهو إيصال الحجز يعبِّر عن عقد البيع بالفعل، لا بد من مراعاة شروط البيع، وعلى الأخصِّ ما يجري عادةً إهماله عند الحجز، كتحديد السِّعر النهائي للسلعة، وتحديد موعد التسليم، وإلا كان العقد فاسدًا للجهالة (انظر فيما سبق بيع الطعام قبل قبضه ص187)(1/37)
تبرِّي المشتري من عيوب المبيع:
س: لأي مدًى يَستطيعُ البائعُ المسلم الاعتماد على مذهب (ليحذر المشتري)؟
الجواب: لا يجوزُ للبائع التبرِّي من العيوب الخفيَّة في السلعة؛ بل لابد أن يُبيِّنها للمشتري، وإلا يكون غاشًّا له. (انظر المعاملات أحكام وأدلة للمؤلف ص250 وما بعدها)(1/38)
بيع الإسمنت (المُكَيَّس):
س: هل بيع كيس الأسمنت (المُكَيَّس) الذي ينقص وزنه عن (50) كجم يُعَدُّ غِشًّا، وإذا قال البائع: هكذا أنا اشتريته هل يُعَدُّ قولُه عذرًا؟.
الجواب: المُتَعارف عليه بين الناس أن كيس الإسمنت يزن 50 كجم، والمعروف في عُرْفِ الناس كالمشروط، فإذا أراد أحدٌ أن يَبيع أكياسًا ينقص وزنها عن هذا القدر المعروف عند النَّاس فعليه أن يُبين، وإلا يكون غاشًّا بتطفيف الميزان، ولا عُذْرَ له أنَّه اشتراه هكذا، وأنه لا يقصدُ الغشَّ، بل يجب أن يَكُفَّ، ويُمْنَع من البيع إذا لم يُبَيِّن، والله أعلم.(1/39)
بيْع الحديد بالوزنِ دون أن يُوزَن:
س: هل يجوز بيع أسياخ حديدِ البناء على المعروف اليوم بين التجار أن كلَّ (9)
أسياخ ـ مثلًا ـ يساوي قنطارًا، فيقع البيع بين البائع والشاري على الوزن، علمًا بأن بعضها يكون ناقصًا في طوله أو قِصَره، فلو وَزَنَ المشتري (9) أسياخ فقد يَجدها تَنقص عن القِنْطَار؟
الجواب: إذا وقع الاتِّفاق على البيع بالوزن، ثم وجده المشتري ناقصًا، فهذا غشٌّ وعيبٌ، يُعطيه الحق في مراجعة البائع، ليوفِّي له وزنه، أو يَخصم له من السعر، وإلا يكون البائع غاشًّا آكلًا المال بالباطل، والذي ينبغي للتخلص من هذا المزلق أن يتمَّ بيعُ الأسياخ بالقطعة، لا بالوزن. والله أعلم.(1/40)
بيع الحيوان المعلوف بعلفِ التَّسمين:
س: هل من الغشِّ بيعُ الحيوان المعلوفِ بِعَلَفِ التَّسمينِ، علمًا بأنه مرغوبٌ من الجزَّارين عند الشِّراء؟
الجواب: إذا كان العلف ينتجُ عنه عيبٌ في اللحم، مثل عفونةٍ أو غيرها، فلابد من البيان للمشتري وقتَ البيع، بأن الحيوان معلوفٌ بِعَلَفِ التسمين، وإلا يكون البائع غاشًّا، وإن كان لا يَنتج عن العَلَفِ عيبٌ في اللحم عدا السَّمن، فالسَّمن ليس غِشًّا.(1/41)
معنى الاحتكار:
س: ما معنى الاحتكار؟
الجواب: الجواب الاحتكار معناه شراء السلع وجمعها من الأسواق وقت قلَّتِها لبيعها طلبًا للربح عند شدة حاجة الناس إليها. (انظر المنتقى5/15. وشرح مسلم 11/43) فالاحتكار مأخوذٌ في مفهومه جمع السِّلع وقت نقصها من السوق، قصد الربح والاتِّجار فيها.
وعليه فليس من الاحتكار ما يأتي:
ـ ادِّخار الفلاح والجالب الذي يُنتج السلعة ولا يشتريها من السوق.
ـ وليس من الاحتكار اشتراء السلعة في وقت الرخص وادِّخارها.
ـ وليس من الاحتكار شراء السلعة وقْتَ غلائِهَا لتُبَاع في حِينِهَا.(1/42)
السلع التي يَحْرُم احتكارُها:
س: ما هي السلع التي يَحْرُم احتكارها؟ وما حكم احتكار السلع الكمالية، مثل الشيكولاته؟
الجواب: اتَّفَق العلماء على منعِ الاحتكار في طعام القوت، واختلفوا هل يُمنع احتكارُ غير القُوت من السلع الأخرى كاللباس والأثاث، والمُعدات وغيرها من كماليات الطعام، كالمُكَسَّرات والحلويات والفواكه، فمنع مالِك الاحتكار في السلع كلها، في القوت وفي غيرها، (وجوّز الشافعي وغيره الاحتكار في غير القوت انظر شرح مسلم11/43) من كل ما يضر بالناس ويحتاجون إليه، لعموم قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يحتكر إلا خاطئ" (مسلم 3/1228)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَنِ احتكر على المسلمين طعامًا ضربه الله بالجذام والإفلاس" (ابن ماجة 2/729، وفي الزوائد: إسناده صحيحٌ ورجالُه موثقون) وفي الموطَّأ عن عمر ابن الخطاب أنه قال: (لا حُكْرَة في سوقنا، لا يَعْمِد رجالٌ بأيديهم فضولٌ من أذهابٍ إلى رزقٍ من رزق الله نَزَل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيُّما جالبٍ جَلَبَ على عَمُودِ كَبِدِه في الشتاء والصيف (كناية عمَّا يلاقيه من الشدَّة، وقوله: فذلك ضيف عمر؛ أي فعمر يمنعه ممَّن أرادَ إجباره على البيع)، فذلك ضيف عمر، فلْيبعْ كيف شاءَ الله، وليُمْسِك كيف شاءَ الله" (الموطأ 5/10).(1/43)
استصدار رسائل عامَّة لشراء سلع شخصية:
س: هل يجوز لِمَن يعمل في جهةٍ أن يُصْدِر رسالة باسم تلك الجهة، يطلب تزويد الجهة بكميَّاتٍ من السلع وهو في الواقع يريدُها ليتاجر فيها لنفسه؟
الجواب: من الاحتكار المذموم أن يوجِّه صاحب (المصلحة) رسالةً إلي جهةٍ من الجهات التي تبيع سلعةً يعاني الناس فيها نقصًا وغلاءً، فيطلب تزويده بكميَّاتٍ هائلة من تلك السلعة، زاعمًا أن الإدارة أو المؤسَّسة محتاجة إليها، وفي الواقع هو يريد بيعها للنَّاس بأضعافِ سعرها لصالح نفسه، فمثلُ هذا العمل عِلاوة على ما فيه من كَذِبٍ وتزويرٍ واستغلالٍ للنفوذِ، فيه أيضًا احتكارٌ للسلع وتضييقٌ على النَّاس، بحيث يصبح حصول الإنسان على حاجته في غاية الصعوبة إذا لم يَسلك تلك المسالك غير المشروعة.(1/44)
عقوبة المُحْتَكِر:
س: ما عقوبة المُحْتَكِر؟
الجواب: مَن احتكر سلعةً من السِّلع على الوجه الممنوع يجبُ عليه أن يتوبَ إلى الله ويُخْرِج السلعة إلي السُّوق ويَبيعها من أهل الحاجة إليها بالسعر الذي اشتراها به، لا يَزيد عليه شيئًا؛ لأنه منع الناس منها بشرائها من غير وجه حق، فيجب أنْ يمكِّنهم منها بالسعر الذي كانوا يشترونها به لو لم يتعدَّ عليها.
فإن لم يفعل ذلك بنفسه أُجْبر عليه، وأخِذت السلعة منه ليشترك فيها الناس، ولا يعطي إلَّا رأس ماله الذي اشتراها به. (الباجي5/17)(1/45)
الخُلُوُّ
س: هل يجوز بيع العتبة (الخُلُوُّ)؟
الجواب: بَحَثَ مجمع الفقه الإسلامي مسألة الخُلُوِّ في ضَوء ما جاء عنها في كتب الفقه (انظر الزرقاني 6/127، والفروق 1/187، وفتاوى عليش 2/249، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي 3/2329) وانتهى فيها إلي أنَّ بيع الخُلُوِّ، منه ما هو جائز، ومنه ما هو ممنوعٌ.(1/46)
الخُلُوُّ الممنوع:
1ـ امتناع المستأجِر بعد انتهاء مدَّة العقد من الخروج من المَحِلِّ إلا إذا دفع له المالك (خُلُوًّا)، فهذا من أكل المال بالباطل لا يجوز؛ لأن المالك أحقُّ بمِلْكِه بعد انتهاء العقد، وليس للمستأجر أن يستغلَّ عَجْزَ المالك عن إخراجه من المَحِلِّ بقوة القضاء لو عَجَزَ؛ لأن بقاءه بعد انتهاء مدة العقد يُعَدُّ غيرَ مشروع.
2ـ أخْذ المستأجر خُلُوًّا من مستأجرٍ آخر دون رضَا المَالِكِ، سواءٌ كان المالك فردًا، أو كان جهةً عامة، ولو لم ينتهِ العقد، إذا كان العقد من العقود الطويلة المدة كما يفرضها القانون.
3ـ أخْذ المستأجر مالًا من مستأجرٍ جديد بعد انتهاء مدَّة عقد الإيجار.(1/47)
الخلو الجائز:
1ـ أخْذ المالك من المستأجر مالًا زائدًا على الأجرة الشهرية المقرَّرة، وذلك عند إبرام العقد وتسليمه للعقار، فهذا جائز؛ لأنه يُعَدُّ جزءًا مقدمًا من الأجرة موزَّعة على المُدَّة المتَّفق عليها في العقد.
2ـ دفْع المالك للمستأجر مالًا قبل انتهاء مدة العقد ليترك له المَحِلَّ، ويتنازل عن بقية حقِّهِ في العقد، فهذا جائز أيضًا؛ لأنه تعويضٌ له عن ترك حقِّه في الانتفاع بالعين المؤجَّرَة برضاه.
3ـ أخْذ المستأجر مالًا قبل انتهاءِ مدَّة عقْدِه من مستأجِرٍ جديدٍ ليترك له المَحِلَّ ينتفع به مدة صلاحيةِ العقد المبرم بين المالك والمستأجر الأول، وهذا جائز أيضًا؛ لأن المستأجِر الأول أخذ عِوَضًا مقابل تنازله عن منفعة يملكها، فإذا انتهى العقد، فللمالِكِ الخَيَار بين أن يُجَدِّدَ العقد مع المستأجِر الجديد أو يُلغيه؛ لأن المستأجِر الجديد انتهى حقُّه بانتهاء صلاحية العقد الأول.(1/48)
خروج الموظَّف قبل الوقت المحدَّد:
س: موظف يخرج من عمله قبل الوقت المُحَدَّد، بحُجَّة أنه أنجز عَمَلَهُ، فما الحكم؟
الجواب: كلُّ مَن أُجِّرَ على عملٍ مدةً محددةً، لا يجوز له أن يتركَ العَمَلَ قبل انتهاءِ تلكَ المُدَّة، حتى لو بَقِيَ جالِسًا دون عمل، وإذا ترك العمل، واشتغل لنفسه في تلك المدة بأجرة لا تَحِقُّ له، وإنَّما هي من حقِّ صاحب العمل الأول. (انظر الشرح الكبير4/23)(1/49)
العمل في مَحَلٍّ بنسبةٍ من الرِّبح
س: رجل اشتغل عند صاحبِ مَحَلٍّ، يتولَّى له البيع، على أن يعطيه نسبةً من الأرباحِ آخِرَ كلِّ شهرٍ(30% أو 25%مثلًا)، فهل هذه الإجارة المحرَّمة لجهالة قيمتها؟ أو هي من الشَّرِكَة الجائزة؟
الجواب: هذا من قبيل الإجارة، ليس شركة، والأجرة بنسبة معلومة، مثل 20% أو غيرها، يجوزها بعض أهل العلم، لحديث خيبر، فقد أعطاها رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ لليهود بِشَطْرِ ما يَخْرُج منها، كما ثبت في الصحيح، ولا تجوز الأجرة بنسبةٍ معلومةٍ عند علمائِنَا، فقد قالوا: لا يجوز أن تقعد شريكًا في حانوت، تقول له: أنا أوفِّر لك السلع والمواد، وأنتَ تتولَّى البيع، ولكَ الثُّلثُ، أو النِّصْفُ من الربح؛ لأن الربح تابعٌ للضمان، وضمان السلع مِن الذي تعهَّد بإحضارها، فيجب أن يكون له جميع الربح، وللعامِل أجرةُ مِثْلِهِ.(1/50)
الفتوى بالضعيف والأجرة على الفتوى:
س: هل تجوزُ الأجرةُ على الفتوى؟
الجواب: أكثر علمائِنَا يمنعونَ أخْذَ الأجرة على الفتوى مطلقًا، من غير تفصيل، قال البرزلي: "أمَّا الإجارة على الفتوى، فنقل المازري في شرح المدوَّنة الإجماع على مَنْعِهَا" وقال اللَّخمي: "ويجوز للمفتي أن يكونَ له أجْرٌ من بيت المال، ولا يأخذ أجْرًا ممَّن يُفتيه" (مواهب الجليل1/33)
ومِن علمائنا مَن يُجَوِّز أخْذَ الشيء القليلِ على الفتوى، بثلاثِ شروطٍ:
ـ ألَّا تتعيَّن الفتوى على المُفْتِي لعدمِ وجودِ غيره؛ لأنَّ الإنسان لا يأخذ أجرًا فيما وجب عليه ديانةً.
ـ أن تكون الفتوى بما رَجَحَ وصحَّ من العلم، لا بالضعيف والشاذِّ.
ـ ألَّا تكون الفتوى للعَون على خصومة.
قال ابن عرفة: "مَنْ شغلته الفتوى عن جُلِّ تكسبه، فأخذه الأجرة من غير بيت المال، لتعذُّرها منه، عندي خفيف، وهو محمل ما سمعته من غير واحدٍ عن بعض شيوخ شيوخِنَا، وهو الشيخ أبو علي بن علوان، أنه كان يأخذ الأجْرَ الخفيفَ في بعض فتاويه" (مواهب الجليل: 5/418)
ولا تجوز الأجرة على الفتوى بالأقوال الضعيفة، وقد صنَّفها العلماء في بابِ الرِّشوة، ففي طرر ابن عاتٍ، عن ابن عبد الغفور: "ما أهدي للفقيه من غير حاجة، فجائزٌ له قبوله، وما أهْدِيَ له رجاءَ العون على خصومَةٍ، أو في مسألةٍ رجاءَ قضائِها على خلافِ المعمولِ به، فلا يَحِلُّ، وهو رِشْوَة)، قال البرزلي: "كأخْذِ فقهاءِ البادية أخذ الجعائل على ردِّ المُطَلَّقَةِ ثَلاثًا، ونحوها من الرخص) (مواهب الجليل 1/33)(1/51)
وبهذا يعلم أن تتبع شواذِّ المسائل الضعيفة، والفتوى بها من أجْلِ المال، هو مِنَ الطَّمَعِ في الدنيا على حساب الدين، وهي خيانة في الأمانة التي اختصَّ الله ـ تعالى ـ بها أهل العلم، وائْتمنَهم عليها، وهي نقضٌ للعهد الذي كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأخذه على النَّاس، من النَّصِيحة لله ولرسوله، ولأئِمَةِ المسلمينَ وعامَّتهم، فإن مَنْ تَرَكَ صحيح العلم في تبليغ الناس، إلى ضعيفه، من أجلِ الدُّنيا فقد غشَّهم، وهو دليل على فراغِ القلب من تعظيم
الله ـ تعالى ـ والخوف منه، وتعميره بالدنيا وحبِّ الرياسة، وكل ذلك من صفاتِ الغافلين، فالأجرة عليه لا تجوز؛ لأن ما حَرُمَ فِعْلُه حَرُمَ أخْذُ الأجرة عنه، والله أعلم.(1/52)
س: هل تجوز الفتوى بالأقوال الضعيفة؟
الجواب: أقوالُ الأئمة متضافِرَةٌ على أنَّ المفتي إنْ كانَ من أهْلِ الاجتهاد، فالواجبُ عليه الفتوى بالرَّاجِح الذي أدَّاه إليه اجتهاده، المستند إلى أدلة الشرع المعروفة، وإن كان مُقَلِّدًا فالواجب عليه تقليدُ الرَّاجح من الأقوال التي رجَّحَها مَنْ سبقه من أهلِ التَّرجيح، إلا أن يكون فيه أهليَّة للنَّظر في الأدلة وترجيح الأقوال، فعليهِ أن يختارَ ما بانَ له ترجيحه.
العدول عن هذا المنهج، إلى الضعيف من الأقوال هو من اتِّباع الهوى المذموم، بإجماعِ العلماء، قال الله تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ)، وقد أمر
الله ـ تعالى ـ داود بالحكم بين الناس، وقال له: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).
وممَّن نقل الإجماع على هذا الأمر، أبو عُمر ابنُ عبد البر وابنُ حزم والقرافي.
ولا يجوز للمفتي أن يترخَّص في الأخذ بالأسهل، إذا كان ضعيفًا، مستندًا إلى رفع الحرج في الدين، وإلى مثل ما جاء في الحديث من أنَّ الله ـ تعالى ـ يُحِبُّ أن تُؤْتَى رُخَصُه كما يحبُّ أن تُؤْتَى عزائِمه، وأمثال ذلك من النصوص التي جاء فيها التخفيف، والتيسير، فإنَّ هذا من سوء الفهم واتِّبَاع الهوى؛ لأن ذلك في الرُّخَص الواردة عن الشرع، كالقَصْرِ في السَّفَر، والفِطْرِ في السَّفر، والمَسْحِ على الخُفَّيْنِ، وأمثال ذلك، ممَّا يُعَدُّ الأخذُ به من الأخذ بالرَّاجح لا بالضعيف.
وكذلك لا يجوزُ له أن يُغْلِظَ في الفتوى على مَنْ لا يحبُّه، فيفرق في فتواه بين الصديق وعامة الناس، بل يجب عليه اتبِّاع الحق.(1/53)
أمَّا مَنْ قَلَّد قولًا شاذًّا؛ لأنه يراه حقًّا في حقِّ مَنْ قَلَّدَه، ولم يحملْه عليه مجردُ الهوى، أو شيء مِنْ مَتَاع الدنيا، بل الحاجة والاستعانة على دَفْعِ ضررٍ دينيٍّ أو دنيويٍ، يؤدي إلى فتنة في الدين، ثم شكر الله ـ تعالى ـ على كونِ ذلك القولِ وافَقَ غرضَه وهواه، ولو لم يجدْ من الحق ما يوافق غرضه لصبر وخاف الله ـ تعالى ـ فهذا تُرْجَى له السلامة في تقليده، وعليه يُحمل كلامُ من قال من العلماء بالعمل بالضعيف، والله تعالى أعلم (من المعيار 12/8 و45و46)(1/54)
الأكل بالعلم والتشبه بالصالحين:
س: ما حكم مَنْ يتأكَّل بالعلم أو المشيخة، ويتشبَّه بالصالحين، لتكونَ له منزلةٌ عند الناس؟
الجواب: الأكل بالعلم والمشيخة، والتشبُّه بالصالحين أمْرٌ تحبُّه النَّفس وتشتهيه، طلبًا للراحة، والمنزلة عند الناس، وهو من الرياء، وصاحبه لا يُفْلِح، ومَن صدَّق بما في كتاب
الله ـ تعالى ـ من قوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) وقوله: (يَعْلَمُ مَا فِي أنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوه) فلا يكون هكذا، وكلُّ مَنْ قَصَدَ بعلمِه أو تشبُّهه بالصَّالِحِين غيرَ وجه الله فقد تعرَّض لسَخَطِ
الله ـ تعالى ـ وعرَّض نفسه لعذابِ الله في النَّار يوم تُبْلَى السرائر.
قال سحنون: طلبُ الدُّنيا بالدفِّ والمِزْمَار أحبُّ إليَّ مِن طلبِهَا بالدِّين.
وتبجيل العلماء والمنقطعين إلى الله وإكرامهم، وخدمتهم مطلوب ومحمود، فمَنْ خدم
الله ـ تعالى ـ كان حقيقيًّا أن يُخدم، ولكن مع سلامة القلب، وصحة المقصد، ومن نصح لله ولرسوله وللمؤمنين من العلماء والصالحين، عليه أن يبتعد عن مواضع الشُّبُهات حتى لو صحَّت نيَّته، حتى لا يفتح بابًا لغيرهِ يُقتدَى به فيه، فإنَّ زَلَّةَ العالِم مضروبٌ لها بالطَّبل، فيتخذ غيرُه هذا الطريق شُبَّاكًا لتحصيل جاهٍ أو مالٍ، أو ترويجِ باطلٍ، فَيَضِلُّ ويُضِلُّ.
وينبغي للمسلم أن يفي عمله، فإن إفاء العمل نجاة، وأن يَبتعد عن الادعاء، والإفراط في التقشُّف، بما لا حقيقة له، فلا خيرَ في الشُّهرة.
سُئل مالك عن اللباس الخَشِنِ من الصوف، فقال: لا خيرَ في الشُّهرة، فلْيَحْذَرِ المرء من التظاهر بالخشوع والمَسْكَنة أكثر ممَّا هو عليه في واقع الأمر، فقد قيل لرجل كان يُظْهر الخشوع ويتماوت: أتُرَى هذا أخشع من عمر، الذي كان ينزُو على الفَرَس من الأرض، ولْيحرص في هذا الباب على اتِّباع مَنْ مَضَى، فإن مَنْ مَضَى أعلمُ ممَّن بقي، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى.(1/55)
قال الغزالي: من الذنوبِ ذنوب عقوبَتُها ـ والعياذ بالله ـ سوءُ الخاتمة، قيل هي عقوبة دعوى الولاية والكرامة بالافتراء (انظر المعيار 12/364،366) والعامة يُولَعون بمثل هذه الأمور، ويُحبون الحديث فيها، ويُبالغون في تعظيمِ مَن اكتسبَ أيَّ شيءٍ من هذا، بحق أو بغير حقٍّ، ويَهابونَه ويُطيعونَه طاعةً عمياءَ، لا يطيعون الله ـ تعالى ـ مثلها، حتى حُكِيَ عن الحلَّاج أن أصحابه بالغوا في التبرُّك به، حتى كانوا يتمسَّحون ببولِه، ويتبخَّرون بعَذْرَتِه، قال العلَّامة ابن مرزوق: شاهدتُ بمصرَ بعضَ جَهَلَةِ العوامِّ الأغبياء ينتفون شَعْرَ حِمَار شيخنا، الفقيه ابن التبَّان تَبَرُّكًا به أيام تجرده للوعظ والتذكير، وبركة الإفادة والتعليم (المعيار 12/13).
والاستسلام لمثل هذا التعظيم والتقديس، مِن أعظم الضرر على الشيخ، وعلى العامَّة، فضرره على الشيخ، من جهةِ أنه قد يفسد قلبه، بسكونِه إليه، ومخبئه، والحرص عليه، فينقلب عمله للدنيا، وضرره على العامة، من حيث إنهم يهيمون بهذه الحكايات والتبرُّكات، ويتركون أعمالهم، ويظهرون الدعاوى، ويتكلمون فيما لا يعنيهم ولا يحسنونه من أمورِ العلم والغيبيات، وحقُّ العوامِّ أن يشتغلوا بعبادتهم ومعاشهم، ويتركوا الكلام في مثل هذه المسائل، حتى قالوا: إنَّ العاميَّ لو زَنَى أو سرق، كان خيرًا له من أن يتكلَّم في العلم. (المعيار 12/366).(1/56)
الأجرة على تغسيل الميت:
س: هل تجوز الأجرة على تغسيل الميت؟
الجواب: تغسيل الميت عبادة تَقْبَلُ النِّيابة، وكل عبادة تقبلُ النِّيابة يجوزُ أخْذُ الأجرة عنها، مثل جمع الزكاة وتوزيعها، والحَجُّ نيابة عن الغير، وكذلك تغسيل الميِّت، وكل عبادةٍ لا تقبلُ النيابة لا تجوز الأجرة عنها، مثل الصلاة والصيام. (انظر الذخيرة 5/401)(1/57)
التأجير أو الصلاة فيما بُنِي بمالٍ حرامٍ:
س: هل يجوز تأجير المَحَلَّات المبنية بمالٍ حرامٍ، وما حُكْمُ الصلاة في مسجدٍ مبنيٍّ بمالٍ حَرَامٍ؟
الجواب: المَحَلَّات المبنية بمالٍ حرام، يُكره كراؤها ويُكره العمل فيها ولا يَحرُم؛ لأن البنيان لبانيه، والحرام مترتِّب في ذمته، وكذلك المسجد، تُكْرَه الصلاة فيه ولا تُحَرَّم، وهذا بخلاف المَحَلِّ المغصوبِ، والمسجد المبنيِّ على أرض مغصوبة، فإن العملَ والصلاةَ فيه حرام (انظر شرح الزرقاني 7/19)(1/58)
استثمار أموال الزكاة:
س: هل يجوز جمع الزكاة من أشخاص عديدين، ثم يأخذها أحدهم ويعمل بها مشروعًا، يكون فيه عائد وأرباح أكثر، ثم توزَّع على الفقراء على شَكْلِ دخلٍ شهري؟ وهل يأخذ متولِّيها راتبًا مقطوعًا، باعتباره مُشغِّلًا للمال؟
الجواب: لا يجوز؛ لأن مالَ الزكاة هو حقُّ الفقير، ولا يجوزُ حبسُه عنه، ولا التصرفُ فيه من غير إذنه، وقد يُعَرِّضُه التصرفُ فيه للضياع، أو النقص.(1/59)
الأجرة على تقديم خدمة:
س: هل يجوز أخْذُ الأجرة لشخص مقابِلَ أنْ يَدُلَّ آخَرَ على مَنْ يَشتري منه سلعة، أو يَدُلَّه على الطريق، أو على امرأة يتزوجها؟
الجواب: يجوز أخذُ المال على أن يدله على مَنْ يبيع منه، أو يشتري أو يستأجر، أو يَدُلَّه على الطريق، أو يحصّل له أموالًا عند الناس، فقد أجَّرَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو
بكر ـ رضي الله عنه ـ عامرَ بنَ فُهَيرة، ليَسْلُك بهما طريقًا آمنًا إلى المدينة، ولا يجوز أخذُ المال على دلالة الرجل على امرأة يتزوجها؛ لأن النِّكَاح لا بَيْعَ فيه ولا كِرَاء (انظر الواق 5/422)(1/60)
الأجرة على المُحَاماة:
س: هل تجوزُ الأجرة على الخصومة والمحاماة؟
الجواب: إذا كانت الخُصُومة على المُطالبة بحق، أو دَفْعِ ظُلْمٍ فهي جائزة، وتجوز الوكالة فيها، وأخذُ الأجرة عنها، بعد أن يُوصف أصل الحقِّ، وكيف ترتَّب على الخصم.
والأجرة على الخُصومة، يجوز أن تكون من باب الإجارة، بحيث الأجرة على العمل بالمدة، أو بالجلسات، ويجوز أنت أن تكون من قبيل الجُعْلِ بقدرٍ معلومٍ، مائة أو ألف عند إدراك الحق، أو انتهاء الخصومة، ويجوز الجُعْلُ على الخصومة بنسبة معلومة، كعشرة في المائة من الدَّين، أو الحقِّ المُطالَبِ به.
وإذا ترك المحامي الطَّلب، أو قَصَّر في دفاعه، فُسِخ العقد ولا شيء له، فإنْ لم يُقَصِّر فليس لصاحبِ الخُصومة عَزْلُه، وإذا ترك المحامي قبل التمام من عند نفسه، فليس له شيء إلا إذا طالت الخصومة، وانتفع صاحب الحق بالدفاع والحِجَاج. (انظر البيان والتحصيل 8/490 والذخيرة 6/12)
فإن كانت الخصومة على باطل فهي حرام، ولا تجوز الأجرة عنها، قال تعالى: (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أنْفُسَهُمْ إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أثِيمًا).(1/61)
الأجير إذا غاب وأكمل زميلُه العمل:
س: أجيران حصل الاتفاق معهما على القيام بعملٍ. وبعد البَدْءِ مَرِضَ أحدُهما أو غابَ، فأكمل الآخر العملَ، فهل للغائب حقٌّ في الأجرة ؟
الجواب: نعم له الحقُّ في الأجرة ، ويُعَدُّ زميله متطوعًا له بالعمل الذي أدَّاه نيابة عنه، وهذا بخلافِ الشُّركاء في العمل، فإنه إذا غاب أحدهما فلا حقَّ له في الربح؛ لأن الشريك ضامنٌ عن شريكه ما يَقبله من العمل، فلا يكون متطوِّعًا عنه به، بخلاف الأجير، فليس ضامنًا لزمليه، لذا عُدَّ عملُه تطوعًا. (انظر المواق ومواهب الجليل /5/140)(1/62)
الأجْرَة على الغِنَاء:
س: هل يجوز تأجير النساء للغناءِ في العرس وغيره؟
الجواب: لا تجوز الأجرة على اللَّهو واللعب. (المعيار 5/188)(1/63)
للمستأجِر الحق في التعويض إذا أُخْرِج قبل المدة:
س: اتَّفق زيد مع عمرو على الاستئجار لمنزل عمرو مدةَ سَنَةٍ، ودَفَع له قيمة الإيجار مدة شهرين، ثم بَدَا لصاحبِ المنزل أن يُخْرج المستأجِرَ قبل نهاية السنَّة، فهل يجوز له ذلك، وهل يلزم المستأجر بالخروج، هل للمستأجر أن يطلبَ تعويضًا عن عدم إتمام السنة؟
الجواب: لا يجوز له أن يُخرجه قبل السنة؛ لأن المسلمين عند شروطهم، وله أن يُطَالب بالتعويض عمَّا فاته من المنفعة إذا خَرَج.(1/64)
قول المالك للوسيط في البيع: "أريدُ في السلعة كذا وما زاد فهو لكَ".
س: شخصٌ أعطى سلعة لآخر ليبيعَها له، وقال له: أريدُ فيها مائة، وما زادَ فهو لكَ، فهل تجوزُ هذه الإجارة؟
الجواب: لا يجوز هذا عند جمهور العلماء، للجهالة بمقدارِ الأجرة ، والواجبُ أن يُبين له مقدار الأجر، عشرة مثلًا، وهذا أحسن، ولو أعطاه نسبة من ثمن البيع، كعشرة في المائة لجازَ أيضًا؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَامَل أهل خيبر بِشَطْرِ ما يَخرج منها (انظر البخاري مع فتح الباري5/358، والموَّاق 5/390)
الأجرة على الخبرة القضائية وعلى الشهادة:
س: هل يجوز أخْذُ أجْرَة على أداءِ الشَّهَادة، أو أداء الخبرة أمام القضاء؟
الجواب: لا يجوزُ لمن تعيَّنت عليه الشَّهَادة الامتناعُ عن أدائِها، ويجبُ عليه أن يؤديَها مجانًا، ولا يجوز له أن يأخذ عنها أجرة؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: 283) ولا يحل أن يأخذَ أجْرًا عن شيء وجب عليه ديانة، فإذا أخذ الشاهد أجرًا عن الشهادة فهو رِشْوَة، ويُعَدُّ جُرْحًا تَسْقُطُ به شهادته، ولا تُقْبَل، فقد بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبدَ الله بنَ رواحة إلى نخلِ خيبرٍ، ليخرِّصَ على اليهود، ويخبرَ رسولَ
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، فجمعوا له هدية من حُلِيّ نسائهم، فقال: أمَّا ما عرضتم من الرِّشوة، فإنَّها سُحْتٌ ولا نأكلها، قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن كل ما أخَذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق، أو الشهادة بالحق سُحْتٌ.(1/65)
والخبير الذي تُعيّنه المحكمة، كالطبيب والمهندس لأخذِ رأيه، ليس له أن يأخذ أجرًا من المتخاصمين؛ لأن له حكمَ الشَّاهد، بل شهادة أهل الخِبْرة في اختصاصاتهم أقوى من شهادة الشهود، فقد يُكْتَفى بالشاهد الواحد منهم في الإثبات أو النفي، إذا لم يمكن غيره، على حين أنه لا تَكفي شهادة الواحد من غير أهل الخبرة، لا في نفيٍ، ولا إثبات (انظر التمهيد: 2/17 و9/140 والمغني: 9/157،و270، والشرح الصغير: 4/285)
ويجوزُ للخبير أخْذُ الأجرة من الجهة العامَّة التي تكلفه بالعمل؛ إذ لا تُهْمَة في ذلك، وهي كأرزاق العمال والقضاة المترتبة على الخزينة العامة، وبيت المال.(1/66)
إعطاء السيَّارة لِمَن يعمل عليها مِن كسبها:
س: شخصٌ أعطى سيارة لآخر وقال له: اعمل عليها، وما تحصَّلت عليه نَقْتَسِمه، أو أعطاه عقارًا ليتولَّى تأجيره له بنسبةٍ من إيجارِه، فهل يجوز هذا العقد؟
الجواب: إعطاء السيارة أو العقد لآخر، ليعمل على السيارة، أو يؤجِّرَ له العقار ويقتسم معه ما يتحصل عليه بنسبةٍ معلومة مناصفَةً أو غيرها، جوَّزه بعض العلماء تشبيهًا له بالمُضَاربة؛ لأن النَّاتج عن السيارة حصل بسبب العمل، فهو كنَمَاءِ المال في المضاربة، وقد تقدم أن
النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى خيبرَ لأهلها على شَطْرِ ما يخرج منها، فالعمل به جائز. (انظر المغني 5/442، والعَقْد على هذا النحو فاسدٌ عند علمائِنَا للجهالة بما يتحصل عليه من الأجرة ، وإذا وقع فتصحيحه، أن يأخذ العامل جميع ما يتحصل عليه من عمله على السيارة، ويعطي لصاحب السيارة أجرة مثلها، والأخذُ بالقولِ الأوَّل أوْلَى وأرْفَق بحال الناس، انظر الشرح الكبير4/8)(1/67)
عصر الزيتون بجزء من الزيت:
س: هل يجوز عصر الزيتون بنسبة من زيته، وإعطاء الزرع لِمَن يَحْصُد ويَدْرِس بنسبة من محصوله وإعطاء النَّسج للحائك، والثوب للخيَّاط، على أن تكون أجرتُهُمَا نسبةً من ثمنِ الثوب بعد النسج، أو الخياطة؟
الجواب: التعامل على هذا النحو وهو الإجارة بنسبة معلومة من الرِّبح الناتج عن العمل، جوَّزه بعض أهل العلم، لحديث جابر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامَلَ خَيْبَر بَشَطْرِ ما يَخْرُج منها. (البخاري مع فتح الباري5/409) وهو أرفق بحالِ الناس، لشيوعِه في التعامل اليومي بينهم. (انظر المغني 5/9-11)
ومَنَعَ علماؤنا أن يُعْطِيَ الزيتون لصاحب المعصرة بعصره، على أن يأخذ نسبة ممَّا يُخرجه من الزيت، وكذلك طحْن الحَبِّ بجزء من الدقيق غير معلوم المقدار، للجهالة بمقدار ما يُخرجه الحَبُّ قلَّة وكثرة، ولجهالة صفته جَودة ورداءة، فلو عُيّن مقدار من الزيت أو الدقيق كصاع أو قنطار جازت الإجارة.
وكذلك لا يجوز أن يقول لصاحب الزرع للعامل: احصده وادرسْهُ ولك نصفه، للعلة نفسها، وهي جهالة ما يخرج الحب، والإجارة فاسدة عندهم، وللعامل أجرُ مِثْلِه، فلو قال له: احصده، ولكَ نصفُه جاز؛ لأنها أجرة بشيءٍ مرئيٍّ، وكذلك لو حدَّد له النصف ومَلَّكَه إيَّاه قبل الحصد، وقال له: هو لك على أن تَحْصُد الجميع وتَدْرُسه جاز، لعلم العامل بمقدار نصيبه (انظر الشرح الكبير 4/906)(1/68)
إيجار المحلَّات قبل بنائها:
س: مؤسسة تملك قطعةَ أرضٍ، عَزَمَتْ أن تنشئ عليها محلات تجارية، للإيجار أو التمليك، وكل مَنْ له رغبة، عليه أن يتقدَّم إلى المؤسسة، ويدفع 10000 آلاف دينار اشتراك، وعندما يتمُّ التجهيز يُسَلَّم له المَحَلُّ، ويحدَّد له قيمة إيجار شهرية، أو أقساط لإتمام التمليك، فهل هذا العقد جائز؟
الجواب: هذا من إيجار المعدوم، إن كانَ العقد عَقْدَ إيجارٍ، أو مَن بيع المعدوم، إن كان العقد عقدَ تمليك، وهو جائز عند كثير من العلماء (وهو ممنوع عند علمائنا؛ لأنه غرَر ومخاطرة، لنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع الغرر) بشرط أن يكون ما تمَّ العقد عليه متحقِّق الوجود عادة، وبشرط بيان وقت التسليم ، تخفيفًا للغَرَر والجَهَالة.
وجوَّزوا العقد على المعدوم على هذه الصورة، مراعاة لحاجة الناس؛ ولأنه لم يثبت النهي عن إيجارِ المعدوم، ولا عن بيعه، وإنَّما ثَبَتَ النهي عن بيع الغَرَرِ، سواء كان موجودًا أو معدومًا، ولا غَرَر في العقد على المعدوم، إن كان معلوم التسليم، بل إن الشارع جوَّز البيع والإجارة في المعدوم في بعض الصُّور كتأجير المُرِضِع واللبن غير موجودٍ يتجدد يومًا بعد يومٍ، وكما في عقود الاستصناع والمساقاة والسلم وكبيع الثمار على رؤوس الأشجار بعد بدء صلاحِها وبعضها غير موجود.
ويُعد المال المدفوع في وقت الاشتراك جزءًا من الإيجار مضافًا إلى الإيجار الشهري إن كان العقد إيجار أو جزءًا من الثَّمن أن كان العقد عقد تمليك (انظر المغني 5/426 وأعلام الموقعين 2/28)
لكن هذا بشرط سلامة العقد من الآفات الأخرى كعدم صحة ملكية الأرض أو غير ذلك.(1/69)
تشاركيات الأطباء وأرباب المهن مع صاحب العقار:
س: من العقود المُسْتَحدَثَة الشائعة هذه الأيام أنَّ الأطباء وأصحابَ المِهَنِ يَصْعُبُ على كلِّ واحدٍ منهم بمفرده أن يَجِدَ لنفسِهِ مبنًى يزاول فيه نشاطه فيشترك أربعة أو خمسة من الأطباء مثلًا في مختلف التخصصات مع صاحب مبنًى يجهِّزه لهم، ويقدم لهم بعض الخدمات مثل القيام بنظافة المبنى والإشراف على النواحي المالية والحسابات، ويأخذ الطبيب غرفةً في المبنى يُجهزها بالمُعِدَّات الطبية اللازمة مِنْ عندِه ويزاول فيها المهنة على أنْ يدفع لصاحب المبنى نسبة من الدَّخل الذي يتحصَّل عليه فهل لمثل هذا التعامل وَجْهٌ عند العلماء.
الجواب: العقد مع صاحب المبنى على هذه الصورة أن جَعَلَ من قبيل الإجارة فهو إجَارَة فاسدة عند كثيرٍ من العلماء؛ لأنها إجارة مجهولة؛ إذ لا يُعلم مقدار ما يتحصَّل عليه صاحب المبنى من هذه النسبة وإن جعل من قبيل المضاربة فهو أيضًا عَقْدٌ فاسدٌ؛ لأن المُضَاربة تكون بالمنقود مقابل عمل ولا تكون بالعروض مثل المباني والآلات أو غيرها مقابل عمل، وهذه الصورة من التعاقد لم يتعرض لها العلماء في الماضي منها أنه إذا كان لشخص آخر بيت واشتركًا على أن يعملا معًا بالآلة والبيت والكسب بينهما جاز.
ومنها أن يدفع رجل لآخر دابَّة أو شبكة صيدٍ ليعمل عليها، وما يحصل عليه العامل يكون بينهما أنصافًا أو أثْلاثا أو كيفما شَرَطَا .(1/70)
ومنها أنهم قالوا بالأثواب تدفع للخياط يُفَصلها قمصانًا ويبيعها وله الثُّلُثُ أو الرُّبع من ربحها بالفرس تدفع لمن يجاهد عليها بالنصف من الغنيمة وكذلك الغزل مالك والشافعي وأبو حنيفة شيئًا منها؛ لأنها عِوَض مجهولٌ وعَمَلٌ مَجْهُولٌ وجوَّزها أحمد جميعًا؛ لأن هذه الأشياء كالدَّابة والشَّبَكَة والسيارة والمبنى هي عينٌ تُنَمَّى بالعمل عليها فَصَحَّ العقد عليها ببعض نمائها كالدَّراهم والدَّنانير وكالشجر في المُسَاقَاةِ والأرض في المزرعة؛ فالتَّعاقد على الأرض والعمل من جانبٍ آخر والناتج شركة بين صاحبِ الأرض أو الشجر والعامل وقد صحَّ أن
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى خبير على شَطْرِ ما يخرج منها. (البخاري مع فتح البارى 5/409)
فمَنْ جوَّز هذا النوع من العقود وهم الحنابلة قالوا لشبهة بالمُسَاقاة والمُزَارعة، وقد صحَّ الحديثُ بجوازِها. (انظر المغني /9 وما بعدها)(1/71)
خدمة المسلم عند الكافر:
س: هل يجوز للمسلم أن يؤجِّر نفسه في خدمة كافرٍ؟
الجواب: يَحْرُم على مسلم أن يؤجِّر نفسه في خدمة كافر بحيث يكون تحت يده خادمًا في بيته وكإجارة المرأة لتُرْضِعَ له ولده؛ لأن في ذلك إذلالًا للمسلم قال تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وتُفْسَخ الإجارة إذا انْعَقَدَتْ فإن وَقَعَتْ ومَضَتْ كان للأجير أجرة مثله؛ لأنه عَقْدٌ باطلٌ.
ويُحْرَمُ كذلك على المسلم أن يؤجِّر نفسه للكافر في عَمَلٍ غيرِ مشروعٍ كبيعِ الخَمْرِ والمَيْتَة وحملها والقيامِ بالخنزير ورعيه؛ لأنه معصيةٌ وتُفْسَخُ الإجارة إن طلع عليها قبل العمل فإنْ عَمِل الأجير وَجَبَ عليه أن يتصدَّق بالأجرة على المِسْكِينِ.
ويجوز للمسلمِ الذي يعمل لنفسه كخيَّاط ونجَّارٍ وأن يعمل لغيرِ المسلم كأن يَخيط له ويبني له، وكذلك يجوز مع الكراهية أن يأخذ المسلم من الكافر عَمَلًا يستقلُّ به له غير خدمته في ذاته كأن يبيع له أو يشتري (انظر مواهب الجليل 5/419، والمغني 5/554) لأن عليًّا ـ رضي الله عنه ـ أجَّر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبيَّ ـ صلى الله عليه
وسلم ـ بذلك فلم يُنكرْه. (المغني 5/554)(1/72)
الأجرة على ما يجب فعله:
س: هل تجوز الأجرة على ما يجب على المسلم فعله من جهة الدين؟
الجواب: لا تجوز الأجرة على ما يجب على الإنسان أن يعمله ديانة كمَنْ وَجَدَ شيئًا ضائعًا فإنه يجب عليه إرجاعه إلى صاحبه، ولا يجوز له أن يشترط على صاحبة أجرة، فإن تطوَّع له صاحبه بشيء إكرامًا (بشارة) جاز، وكذلك من طُلب منه شيء ممَّا يُعَدُّ من باب النصح للمسلم لا يجوز له أن يأخذ عن نصحه أجرًا كمن قال لشخصٍ: دلَّني على امرأة أتزوَّجها وَلَكَ كذا فلا شيء له؛ لأنه يجب عليه أن يبدل ذلك نصيحة إن كان يقدر، بخلاف مَنْ قال لشَخْصٍ: دُلَّني على مَن يشتري مِنِّي سلعة أو على مَنْ أبيع له سلعة ولكَ كَذَا، فالأجرة على ذلك جائزة؛ لأنه لا يجب عليه أن يبيع له. (انظر المواق 5/422)(1/73)
إيجار البيت لبائعه قبل تسلُّمه منه:
س: رجل له بيتٌ يسكنُ فيه اشتراه منه آخَر وأبقاه فيه بعقد إيجار قبل أن يسلِّمه إيَّاه ويخليه من أمتعته فهل يجوز الإيجار على هذا النحو؟
الجواب: مما يقع كثيرًا بين الناس أن يشتري إنسان بيتًا من صاحبه الذي يسكنُ فيه ثم يؤجِّره له قبل أن يقبضه المشتري، وقبل أن يخليه البائع من أمتعته بل يستمر البيت في حَوزة البائع ويدفع الأجرة المتَّفق عليها قال علماؤنا: هذا لا يجوز؛ لأن الأجرة غَلَّة والغَلَّة بالضمان والبيت لا ينتقل ضمانه للمشتري إلا بقبضه وتخليته له؛ بل قالوا: حتى لو قبض المشتري المبيع وأجَّره من فوره للبائع على الوجه المتقدم لم يَجُزْ؛ لأنَّ ما خَرَجَ من اليد وعاد إليها لغو كما هو مقرَّر في بيوع الآجال الممنوعة التي يؤول الأمر فيها إلى صريح الرِّبَا. (انظر مواهب الجليل 4/374، وتحرير الالتزام ص 238)(1/74)
عقد الإيجار لا ينفسخ بالموت:
س: إذا مات الساكن فهل ينفسخ عقد الإيجار بموته أم ينتقل حق الإيجار للورثة؟
الجواب: لا تنْفَسِخ الإجارة بموتِ المُسْتَأجِرِ ويقوم وارثه مقامه في استلامِ المنفعة ودفع الكراء وإتمام العقد. (انظر الذخيرة 5/495)(1/75)
الصانع يجد المتاع في مَحِلِّه لا يعرف صاحبه:
س: محل لتصليح الأجهزة والمُعِدَّات وَجَدَ صاحبه بعض أجهزة لم يَعْرِف أصحابها، وبقيت في المَحِلِّ سنواتٍ عديدةً لم يسأل عنها أحدٌ فكيف يتصرف فيها؟
الجواب: إذا كان يعرف أصحابها يجب أن يبحث عنهم ويعطيَها إياهم وله أن يحاسبهم على بقائها عنده، وإذا لم يعرفْهم ويئس مِن مَجيئهم، له أن يَبيعها ويتصدَّق بأثمانها على أصحابها كما يُفعل باللُّقَطة والله أعلم.(1/76)
الأجرة على السِّحْرِ والكَهَانَة:
س: هل تجوز الأجرة على الكَهَانَة وضَرْبِ الخَطِّ والكِتَابة على المَحَبَّة والبُغْضِ، وعقد العروس، والعلاج بالجنِّ، وشَبَه ذلك كالأجرة على الرُّقْيَة وغيرها؟
الجواب: الكهانة وضرب الخطِّ من أكبر المنكر، وقد نَهَى النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ عنها وعن إتيان الكُهان في أحاديث كثيرة ولا يجوز تصديقهم، وأمَّا الكتابة بالبغض وربطِ العروس فهو من السِّحْر المتَّفَقِ على تحريمه، وإنَّه من الكبائر، واختلف العلماءُ في تكفير الساحر.
والأجرة على هذه الأشياء كلِّها ممنوعة؛ لأنها حرام، وكلُّ عمل حرام لا يجوز الإجارة عليه أمَّا الرقية فإن كانت شرعية بالقرآن وبذكر الله ـ تعالى ـ والاستعانة به بالألفاظ الواردة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهي جائزة وقد صحَّ الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجوز أخذ الأجرة عليها فإن كانت الرقية بما لا يجوزُ شرعًا فالأجرة عليها حرام.
وحلُّ المربوط بالسِّحْرِ أكثرُ العلماء على منعه وتحريمه. والغالب على مَنْ يشتغِلُ به الكذب والتغرير بالعامَّة والاحتيال على أكل أموالهم بالباطل.
والعلاج بالجنِّ والاستعانة بِهِم في ذاتها ليست سحرًا لكن يكون معها عمل السحر فإن الشياطين يُعلمون الناس السحر، والذي يحكم على العمل هل هو سِحْرٌ أم لا، هم أهل المعرفة، والنُّشرة لحلِّ المربوط، وهي أن يُكْتَب شيءٌ من القرآن أو من أسماء الله ـ تعالى ـ فيغسل بالماء ثم يشربه المربوط ويمسحَ به بَدَنَه جائزة، وما جاز عمله جازت الأجرة عليه والله أعلم. (انظر المعيار: 12 /55 ، 56)(1/77)
تصرُّف الشريك في المال المشترك بدون إذن شريكه:
س: شريك له أرض مشتركة مع غيره فهل يحق له التصرف في حصته قبل قسمتها وما الحكم لو تصرف كأن بنى فيها بيتًا أو غَرَسَ شَجرًا بغير إذن شريكه؟
الجواب: لا يحقُّ له التصرف في الأرض على انفراد قبل قسمتها من غير إذن شريكه، فإن تصرف من غير إذن شريكه ولا علمه بأن كان شريكه غائبًا أو حاضرًا لا عِلْم له، فالواجب هو قسمة الأرض، ثم إن كان البناء أو الغرس وقع في حصة من بنى أو غرس، كان الغرس والبناء له وعليه كراء الأرض لصاحبه بقدر ما انتفع من المدة قبل القسمة، وإن وقع البناء في حصة الشريك الآخر دفع للباني قيمة بنائه ويكون الغرس للغارس وعليه كراء الأرض.(هذا بناء على أن الاشتراك يعطي شبهة مِلك الرواية الأخرى عند علمائِنَا أن المتصرِّف من غير إذن شريكه يعدُّ كالغاصِبِ، وعليه فلا يعطي الباني قيمةَ بنائه قائمًا وإنَّمَا يعطي قيمته منقوصًا (مواد) أو ينقض ويسلم إليه النقض انظر البيان والتحصيل: 11 / 139، ومواهب الجليل 5/117)(1/78)
غيابُ الشَّريك عن العَمَل في الشَّركة:
س: ثلاثة كوَّنوا شركة عملٍ بأبدانِهم دون رأسِ مالٍ، والترخيص باسم أحدهم ثم تَركَ العمل معهم، وأراد أن يقاسمهم فهل له الحقُّ في ذلك؟
الجواب: مَنْ تَرَك العمل في شركة الأبدان ليس له الحق في مقاسمة الآخرين؛ بل عليه أن يعمل معهم، والترخيص لا يقوم مقامَ عمله إلا إذا أحبَّ الشركاءُ أن يقسموا له تبرعًا وفضلًا، ولا يجوز أن يشترطَ في أصل العقد أن من غَابَ قاسم أصحابه الربح عن أيام الغياب فإن اشترط ذلك فسدت الشركة؛ لأنه شرط يؤدي إلى أكل المال بالباطل ويتضمن غررًا فقد يتَّكل أحدُهم على الشرط ويُكثر الغياب. (انظر مواهب الجليل والمواق 5/140، والشرح الكبير 3/363)
س: ثلاثة اشتركوا برؤوس أموالهم في تجارة، واتَّفقوا على أن يعملوا جميعًا ويقتسموا الأرباح فصار بعضهم يُكثر الغياب ولا يعمل مثل الآخرين فهل له الحق في الربح كاملًا حسب الاتفاقية الأولى أو يُخصم منه قَدْرَ الغياب.
الجواب: في شركة الأموال إذا عَمِلَ أحد المشتركين وغاب الآخر فإنهما يقتسمان الربح حسب النسبة المتفق عليها، وعلى الغائب أن يدفع أجرة العمل لشريكة عن المدة التي غابها؛ لأن الرِّبح في شركة الأموال إنما هو عن المال وهم شركاء فيه، والعمل تبعٌ للمال، فمَنْ عَمِل زائدًا أخذ أجرة على عَمَلِه.(1/79)
توزيع الربح في الشركة بالنِّسب لا بالمرتب الثابت:
س: هل يجوز لأحد الشركاء أن يشترط مرتبًا شهريًّا علاوة على حصَّته في الشركة نظرًا لقيامة بعمل زائد؟
الجواب: لابد أن يكون الربح في الشركة معلومًا بالنسبة على الشيوع، ولا يجوز أن يكون مرتبًا ثابتًا سواء كان مرتبًا مع نسبة شائعة في الربح أو مرتبًا فقط بدون نسبة؛ لأن جعل المرتب للشريك منافٍ لأصل عقد الشركة القائم على احتمال الربح والخسارة، فصاحب المرتَّب هو الرابح في كل الأحوال. قال ابن المنذر: أجمع كل مَنْ نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة، وممَّن حُفِظَ عنه ذلك مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. (انظر المغني5/38)(1/80)
انخفاض العملة لا يبرِّر الزيادة عند ردِّ القرض:
س: من تسلف ألف دينار مثلًا قبل عشرين سنة، وكانت في ذلك الوقت لها قيمة كيلوا ذهب والآن انخفضت قيمتها عن ذلك كثيرًا فهل يُرَاعَى انخفاض قيمتها عند ردِّ القرض؟
الجواب: إذا اقترض شخص ألف دينار إلى أجَلٍ، وعند حلول الأجل انخفضت القيمةُ الشرائية للعُملة فصار ما يمكن أن يُشترى من السلع بألف دينار يوم القرض يحتاج إلى ألفين يوم السداد أو أكثر، فالواجب على المَدِين ردُّ مثل ما أخذ وهو ألف. ولا يجب عليه ردُّ أكثر؛ لأن الواجب في المثليات كالنقود ردُّ مثلها وليس قيمتها، إلا إذا ألغيت العملة وانعدمت بالكلية فالواجب حينئذٍ ردُّ قيمتها لتعذُّر ردِّ المثل، وتقدَّر القيمة التي تُقوَّم بها النقود يوم ألغيت، وبَطُلَ التعامل بها إذا كان الدَّيْن حالًا يوم الإلغاء، وإن لم يكن الدَّين حالًا يوم الإلغاء فالواجب قيمتها التي تقوم بها يوم حُلول الأجل؛ لأنه وقتُ الاستحقاق. (انظر مواهب الجليل 4/340، والشرح الكبير 3/45).(1/81)
ومثل النقود غيرها من الأموال الرِّبوية فلو تسلَّف إنسان قنطارًا من قمح يُساوي مائة، وعند الأجل انخفضت قيمته فصار يساوي عشرة، فالواجب عليه ردُّ قنطار فقط بِغَضِّ النظر على القيمة التي يساويها، ولم يقل أحدٌ: إنه يجب عليه ردُّ عشرة قناطير والدليل على أن الملاحَظ في المثليات المِثلُ وليس القيمة، ما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ: "أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمرٍ جَنِيب، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أكُلُّ تَمْرِ خيبرٍ هكذا؟ قال: لا، والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصَّاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا تفعل بِعِ الجَمْعَ بالدرهم ثمَّ ابتعْ بالدراهم جنيبًا". (البخاري مع فتح الباري: 304/5 ، والجَنيب: التمر الطيب الذي أخرج منه رديئه، والجمع: التمر المختلط)
وفى رواية قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هذا الربا فردُّوه" فقد أوجب رسول(1/82)
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التماثل في القدر وأهمل في القيمة الذي كان يفعله عامله على خيبر حيث كان يعطي في الجيد مثليه من الرديء. (وقد خالف أبو يوسف من الحنفية جمهور الفقهاء في هذه المسألة، وقال: إذا كَسَدَت الفلوس أو انقطعت أو غَلَت أو رَخُصَت فالواجب على مَنْ ترتَّبت عليه ردُّ قيمتها لا مثلها. والمراد بالكساد في كتب الحنفية ـ كما جاء في الدر المختار 268/5 ـ أن تترك المعاملة بالفلوس في جميع البلاد. والمراد بالانقطاع عدم وجود الفلوس في السوق مع إمكان وجودها عند الصيارفة والبنوك. وقد جاء في حاشية رد المحتار 4/534 "والتصريح بأن قول أبي يوسف المتقدم هو المُفْتَي به، وإنه يُعْمَل به في حالة كساد الفلوس وانقطاعها، وفى حالة رخصها وغلائِها هكذا لا فرق عند أبي يوسف بين الكساد والرخص والغلاء في وجوب ردِّ القيمة خلافًا لأبي حنيفة ومحمد القائلَيْن بوجوب رد المِثْل في جميع الأحوال؛ لكن ابن عابدين أعاد في الجزء 5/270 ما يُفِيد الكلام السابق لأبي يوسف، ونقل عن حاشية مسكين ما نصه: "أنَّ تقييد الاختلاف في ردِّ المِثْل أو القيمة بالكساد يشير إلى أنها إذا غلت أو رخصت وجب ردُّ المِثْل بالاتِّفاق. وقد مرَّ نظيره فيما إذا اشترى بغالب الغش، أو بفلوس نافقة" فهذا النقل الأخير يجعل قول أبي يوسف موافقًا للجمهور؛ لأنه قَصَرَ القولَ المنسوبَ إليه بردِّ القيمة على حالة كَسَاد الفلوسِ دونَ رخصها أو غلائِها. والكساد معناه حسب السابق إلغاء العملة، وعدم وجودها أصلًا، وفى هذه الحالة يتَّفق الفقهاء جميعًا على وجوب ردِّ القيمة لعدم وجود المِثْل. انظر في هذه المسألة أحكام الأوراق النقدية،
ص: 42)(1/83)
ردُّ السَّلف عند إلغاء النقود:
س: كيف يُرَدُّ السلف إذا ألغيت النقودُ؟
الجواب: إذا ألغيت النقود، فالواجب فيما ترتَّب منها على الآخرين قبل إلغائها دفْع قيمتها وقت الإلغاء من العملات الأخرى أو من النقدين الذهب والفضة. (وقيل: تجب قيمتها التي تقدَّر بها وقت السَّلَف. انظر المعيار 5/46)(1/84)
تحويل السَّلَف إلى رأس مال في شرِكة قراض:
س: رجل أسلف آخر مقدارًا من المال وبعد مدَّة قال المتسلِّف لصاحب المال: أنا أتاجر لك بالمال الذي عندي وأعطيك عليه ربحًا فهل يجوز هذا؟
الجواب: يشترط لجواز ذلك إحضار المتسلِّف المال لصاحبة والإشهاد عليه بأنه انتقل من دَيْنٍ عليه إلى أمانة يتاجر فيها لصاحبها؛ لأنه إن بقي دينًا وتاجَرَ له فيه يؤدي إلى سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا ولابد من بيانِ مدَّة التجارة ونوعها، وألا يتَّجر له في الربح؛ بل كلما ربح شيئًا سلمه، ويستمرُّ التجر في رأس المال إلى آخر المدَّة المتَّفَق عليها. (انظر المواق 5/413 والشرح الكبير 4/15)(1/85)
68 جمعية الموظفين:
س: اتَّفق خمسة أصدقاء على أن يأخذوا من كل واحدٍ منهم مائة دينار كلَّ شهرٍ يعطونه لواحدٍ منهم بالتناوب حتى يأخذ الجميعُ، كلَّ مرة يأخذ واحد خمسمائة دينار حتى يأخذ الجميع فينتهي الاتِّفاق، أو يتجدَّد بنفس الصورة السابقة، ويسمون هذا الاتفاق "جمعية". فهل يجوز هذا التعامل؟
الجواب: هذه الجمعية جوَّزها بعض العلماء؛ لأنها تقوم على التعاون والمعروف ـ كما في حاشية قليوبي على المنهاج ـ فلا بأس من عملها لمن يحتاج إليها. (ومنعها علماؤنا ورأوا أن فيها بيع نقد بنقد نسيئة، انظر حاشية الدسوقي 4/99، وحاشية قليوبي على المنهاج 2/258)(1/86)
قروض الادِّخار
س: بعض المصارف لا تأخذ فائدة من عملائها على القروض؛ لكن تشترط على العميل أن يُودِع لديها قيمة مالية محدَّدة على دُفعات قبل أن يأخذ القرض، فإذا استوفاها كان له الحقُّ في قرضٍ من غير فائدة. فهل يجوز هذه القروض؟
الجواب: هذا في الواقع سلف بفائدة بصورة أخرى، فإن المصرف سلف عملاءه ليستفيدَ من ودائعهم بتشغيلها لديه، والسلف بفائدة ربًا، والسَّلَف على هذا النَّحو ممنوعٌ حتَّى لو وقع بين الأفراد.
وفى القَرْض على هذه الصورة عِلَّة أخرى، وهي السلف بشرط، والسَّلف بشرطٍ ممنوعٍ؛ لأن السلف من الأمور التي لا تكون إلا لله، فقد ورد في الحديث "ثلاثة لا تكون إلا لله: القَرْضُ والجَاه، والظمآن".(1/87)
القراض من الباطن:
س: رجل أخذ من آخر مالًا ليعمل به على أن يأخذ 50% من الرِّبح فأعطى المال لشخص آخر ليعمل به ويأخذ الوسيط 60% من ربحه يعطي منها 50% لصاحِبِ المال، و10% تبقى له. فما حكم هذا العقد؟ وإذا كان هذا العقد غير جائزٍ، فما هو البديل الذي يكون معه العقد صحيحًا؟
الجواب: هذا العقد قراض من الباطن، والقراض من الباطن إن كان بدون إذن من صاحب المال فهو تَعَدٍّ، لا يجوز، خسارته ـ إن حصلت ـ خسارة على العامل الأول الوسيط؛ لأنه مُتعَدٍّ، وإن حصل ربحٌ فهو بين صاحب المال والعامل الثاني، ولا شيء للعامل الأول؛ لأن الربح في القراض لا يستحق إلا بتمام العمل، والوسيط لم يعمل بالمال فلا ربح له.
وإذا كان القراض من الباطن بإذن من صاحب المال فلا شيء على الوسيط من الخسارة، وإن خسر المال؛ لأنه غير متَعَدٍّ، ولا شيء أيضًا له من الربح؛ لأنه لم يعمل بل أخذ العامل الثاني الذي اشتغل بالمال نسبة الربح المتَّفق عليهما مَعَه والباقي لصاحبِ رأسِ المالِ .
والبديل الصحيح ألَّا يأخذ الوسيط المال من صاحبه؛ بل يقول له: أنا أدلُّك على مَن يعمل لك بالمال وبشرط أن تُعطيني كذا وكذا أجرة، ويكون عمله هذا من باب الإجارة، وليس من القراض من الباطن والأجرة على أن تدلَّ أحدًا ليتعامل مع أحد جائزة. (انظر المواق 5/422 والشرح الكبير والدسوقي 3/526 وشرح الزرقاني 6/223 وص 37 فيما سبق)(1/88)
الخسارة في القراض على صاحب المال دون العامل:
س: رجل أخَذَ مِن آخَر مالًا يعمل به في التجارة (قرضًا) فَخَسِرَ وضاع المال. فهل يضمنه لصاحبه؟
الجواب: العامل في التجارة على وجه القراض أمين، والأمين لا يضمن إلا إذا ثَبَتَ تفريطه في الحافظ على المال إذا لم يفرط، فلا ضمان عليه، ولا يتحمَّل الخسارة في رأس المال؛ بل يتحمَّلها صاحبُ المالِ، والعاملُ خَسِر جهده وعمله.(1/89)
اشتراط الخسارة على العامل يُفسد القراض:
س: ما الحكم لو شرط صاحب المال في التجارة أن يتحمَّل معه الخسارة؟ وما الحكم لو تطوَّع العامل بتحمُّل الخسارة مِنْ عنده دون أن تُشْتَرط عليه.
الجواب: لا يجوز لصاحب المال أن يَشترطَ على العامل ضمان الخسارة في رأس المال؛ لأنه أمينٌ، والأمين لا يضمن فلو حصل هذا الشرط كان القراض فاسدًا؛ لأنه ليس من سُنَّة القراض فإذا لم يبدأ العمل في القراض ردَّ المال لصاحبه، وإذا اطلَعَ على هذا الشرط بعد بدء العمل، فإن العامل يعطي من الرِّبح قراض مثله إن حصل ربحٌ، وإن حصلت خسارة فلا شيء له، والشرط باطلٌ فلا يتحمَّل من الخسارة شيئًا.
أمَّا لو تطوَّع العامل بتحمل الخسارة من عنده دون أن تُشترط عليه، فَمِنَ علمائِنَا من جوَّز ذلك، ومنهم مَنْ مَنَعَه. (انظر مواهب الجليل: 5/ 360 والشرح الكبير: 3 / 520) والله أعلم.(1/90)
تحديد القراض بأجَلِ:
س: هل يجوز تحديد المدة في القراض، كأن يقول صاحبُ المال للعامل: خُذْ هذا المَال واعمل فيه سنَةً فقط مثلًا؟
الجواب: لا يجوز تحيد المُدَّة في القراض؛ لأن فيه تحجيرًا على العامل، وإذا وَقَع الشَّرط فالقراض فاسدٌ، ويأخذ العامل نسبة من الربح حسب المُتَعارف عليه بين الناس في مثل المال الذي أخذه، وهو ما يُعْرَف بقراضِ المِثْلِ، ولا يلزمه البَقَاءُ إلى السَّنَة؛ بل يجوز له أن ينفصلَ قبلها. (انظر الشرح الكبير: 3/519)(1/91)
السَّلَف في صورة القراض ممنوع:
س: رجل اشترى لنفسه كميَّةً من الحديد وعَجَز عن دفعِ الثمن، فقال لآخر: ادفع الثمن وكن شريكي فإذا بعتُ الحديد قاسمتُك الربح. فهل هذا من القراض الجائز؟
الجواب: هذا من القراض الفاسد؛ لأنه يؤول في حقيقته إلى سَلَفٍ بفائدة في صورة قراض والسلف بفائدة ممنوع، وإذا وَقَع فيجب ردُّ القرض لصاحبه على الفور والربح لصاحب الحديد والخسارة عليه؛ لكن لو لم يُخبرْه بشراءِ الحديدِ لنفسه؛ بل قال له مثلًا: أعطني عشرة آلاف أشتري بها سلعةً على وجه القراض بيننا ونتقاسم الرِّبح، كان القراض صحيحًا حتى لو دفعها في الحديد الذي اشتراه بادئ الأمر لنفسه. (انظر الشرح الكبير: 3/521)(1/92)
التعاقد على القراض بعد وجود السلعة:
س: رجلٌ قال لآخر: ادفع لي مالًا أعمل فيه قراضًا فقد وجدت سلعة رخيصة أشتريها. فهل يجوز هذا العقد؟
الجواب: نَعَم يجوز بشرطِ ألَّا يسمي له السلعة ولا البائع، فان سمَّى له السلعة أو البائع كأن قال له: وجدت كذا مع فلان تُبَاع رخيصة ودفع له مالًا على ذلك كان قراضًا فاسدًا؛ لأن المال المدفوع في هذه الحالة إلى السلف أقرب منه إلى القراض. (انظر الشرح الكبير: 3/524)(1/93)
عامل القراض يتاجر لنفسه مع مال القراض:
س: رجل أخذ من آخر عشرة آلافٍ على وجه القراض يشتري بها سلعة ويقاسِمه الرِّبحَ مناصفةً، وعَمِلَ فترةً، ثم تكونت له علاقات في السوق فصار يأخذ كميات كبيرة من البضائع بالدَّين يصل إلى عشرة آلاف أخرى، فهل يجوز هذا، وإذا وَقَع فكيف يقسَّم الربح الحاصل بينهما وقدره ثمانية عشرَ ألفًا؟
الجواب: لا يجوز للعامل أن يشتري سلعة من غير مال القراض سواء كان بالحاضر أو بالدَّين إلا بإذن صاحب القراض، وإذا اشترى شيئًا من عنده سواء كان بإذن صاحب القراض أو من غير إذنه اختصَّ بربحِهِ، ولا شيء فيه لصاحب مال القراض إلا أنه إذا اشترى سلعةً لنفسه بالدَّين بعشرة آلاف ـ كما جاء في السؤال ـ فإن السلعة تُقوَّم، فيقال: كم ثمنها لو اشتُريَت بالحاضر والنقد؟ فإذا فُرِض أنَّ ثَمَنَها بالحاضر هو ثمانية، فإنه يكون شريكًا لصاحب القراض بالثمانية، وليس بالعشرة فيوزَّع الرِّبح في المثال السابق كالآتي:
يقسَّم الربح أولاً إلى حصتين بنسبة عشرة إلى الثمانية فيكون ربح مال القراض المشترك عشرة آلاف، نصفها خمسة آلاف لصاحب المال، وخمسة آلاف للعامل، والثمانية آلاف الأخرى هي ربح العامل في المال الذي اشتراه لنفسه بالدَّين. (انظر الشرح الكبير 3/524)(1/94)
القراض على صفقة واحدة وكيفية إنهاء القراض:
س: هل يجوز القراض على صفقة واحدة كأن يُعطي شخصٌ لآخَرَ مالًا ليشتري به كمية من الإسمنت فإذا باعها انفَضَّ القراض وتَحَاسبَا الأرباح، وكيف تكون القسمة عند فَضِّ القراض؟
الجواب: يجوز؛ لكن لا داعي للتحديد، فإن الواجب في القراض أن يكون إلى غير أجل؛ لأنه ليس بعقدٍ لازمٍ، ولكل واحدٍ من الطَّرفين تركُه في أي وقتٍ (خمس مسائل لا تلزم بالعقد، والترك فيها جائز بعد العقد لمن شاء الجعالة والقراض والوكالة والمغارسة وتحكيم الحكم، ما لم يشرع في الحكومة انظر الذخيرة: 6/18) ما دام المال باقيًا على الصفة التي انعقد عليها القراض وهي النقدية، إمَّا لكون المال لا يزال في يد العامل ولم يشترِ به سلعة بَعْدُ، أو لكونه اشترى به سلعةً وباعها، وعاد المال نقدًا كما كانَ، فَفِي هاتينِ الحَالَتَين من طلب منهما الترك وإنهاء القراض أجيب إليه، فإن أراد صاحب المال أنْ يُنْهِي القَرَاضَ بعد أن اشترى العامِل السلعة وبدأ في العمل فليس له ذلك حتى يبيع ويرجع المال إلى ما كان عليه وكذلك العامل إذا طلب الفصل بعد أن اشترى السلعة فليس له ذلك، ولزمه العمل حتى يبيع ويرجع المال نقدًا فإن اتَّفقا معًا على الفصل جاز في أي وقتٍ.
وطريقة القسمة إذا اتَّفقا عليها، وبعض المال نقد وبعضه سلعة، أن يأخذ صاحب المال مثلما دَفَعَ من النَّقد، أو يأخذ به سلعة إنْ اتَّفقا على ذلك، ويقتسمان الربح أيضًا نقدًا أو سلعة. ويجوز أن يَتَقَبَّل أحدهما الديون. (انظر المنتقى 5/162، 177 والموّاق 5/360).(1/95)
ضمان الطبيب والبيطري:
س: هل الطبيب أو البيطري ضامن إذا مات المريض أو الحيوان أو تضرَّر بسببِ العِلاج؟
الجواب: البيطري يعالج الحيوان فيموتُ والخاتن يختن الصبي فيموت من الختان أو الطبيب يعالج المريض بدواء أو جراحة فيموتُ من الدواء أو من الجراحة أو يسبب له عاهة، أو يقلع له ضِرسًا فيموت منه، أو يكويه فيموت من الكيِّ كلُّ هؤلاء لا ضَمَانَ عليهم فيما نَتَج عن فِعْلِهم وذلك بشرطين:
1-أن يكونَ فاعل ذلك من أهلِ المهنة المؤهَّل لها.
2-أن يتناول المعالِج العملَ على وجهه الصحيح دون خطأٍ أو تقصير، أمَّا إذا كان غيرَ مؤهَّل للمهنة أو قَصَّرَ في الاحتياطاتِ اللَّازمة كإهمال التحاليل أو الأشعة المطلوبة، وترتَّب على إهمالها الضَّرر فعليه الضمان، وكذلك إذا تناول العَمَل على غيرِ وجهه الصحيح كأن يُخطئ الطبيبُ فيسقي المريض دواء لا يوافق مرضه من حيث القوَّة أو الضَّعف أو النُّوع أو يقلع الطبيبُ الضِّرس أو العُضْوَ السليم ويترك العليل أو تَزِلُّ يدُ الخاتن فيتجاوز في القطع الحدَّ المُتَعارَف عليه أو تخطئُ يدُ الكاوي فتصيبُ النار عصبًا أو مكانًا قاتلًا فيجب على كل واحد منهم حينئذٍ ضمانُ ما أتلف. (والضمان أو الدية تكون على العاقلة إن كان فاعل الخطأ موهلًا للعمل ويعلم من نفسه أنه يؤديه على وجهه إلَّا أن يكون أقلَّ من ثُلُثِ الدِّية ففي ماله الخاص، وإن كان المخطئ غير مؤهَّل للعملِ أساسًا، أو يعلم مِنْ نفسه أنه لا يُحسنه فعليه العقوبة، والدِّية يتحملها في ماله، وهو قول مالك، وقيل على العاقلة. انظر المواق 5/431)(1/96)
عقوبة المتعامل بالرِّبا:
س: ما عقوبة المتعامل بالرِّبا؟
الجواب: الرِّبا حرام، عدَّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الموبقات من السَّبع الكبائر، ونَصَّ القرآنُ على تحريمه بلفظ التحريم الذي لا يَحتمل التأويل، وجعل مَنْ يتعامَل به محاربًا لله ورسوله، وأجمع المسلمون على تحريمه، وتحريمُه ليس في شريعتنا فقط بل في جميع الشرائع والأديان، وهو حرام سواء كان في دار الإسلام أو دار الحرب، وسواء جرى بين الأفراد أو بين الدُّول أو بين الدولة والفَرْد، وسواء كان بين مسلمَيْن أو بين مسلم وكافرٍ؛ وذلك لعموم تحريمه في الكتاب والسُنَّة من غير فَرْقٍ، ولأن ما حُرِّمَ على الفرد حُرِّمَ على الدولة كالخمر وسائر المعاصي. قال الله ـ تعالى ـ: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة آية 275) وقال تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِه) (البقرة آية: 278)(1/97)
وقد جاء في تفسير هذه الآية أنه يُقال لآكِلِ الرِّبا يوم القيامة: جَرِّدْ سِلاحك للحرب. وفي الصحيح قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اجتنبوا السبع المُوبقاتِ: الشرك بالله، والسحر، وقَتْلُ النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكلُ الرِّبَا، وأكل مالِ اليتيم، والتَّولِّي يوم الزَّحف، وقذف المُحْصَنات المؤمنات الغافلات" (البخاري مع فتح الباري 6/322) وفى الصحيح من حديث الرؤيا "وأمَّا الرجل الذي أتيت عليه يسبح في نهر ـ مِن دَمٍ ـ ويَلْقَم الحَجَر فإنَّه آكِلُ الرِّبا" (البخاري مع فتح الباري 16/106) وفى الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نهي عن ثَمَن الدَّم، وثَمَن الكلب، وكَسْب البَغِيِّ، ولَعَنَ آكل الرِّبا وموكِّله" (البخاري مع فتح الباري 12/517. والآكل والموكِّل المراد بهما: الآخِذ والمُعطي، وثَمَن الدَّم: قيل أجرة الحِجَام، وقيل غير ذلك)
وفى رواية "وموكِّله وكاتِبَه وشاهِدَيه" وقال: "هم سواء" (مسلم: 3/1219)
وبيع الربا إذا وَقَعَ مفسوخًا أبدًا لا يُعْتَدُّ به، عَلِم صاحبه ذلك أو جهله لعدم العذر فيه بالجهل.(1/98)
فائدة البنوك هي الرِّبَا:
س: هل تُعَدُّ الفائدة التي تأخذها المصارف على القروض ربًا أم قرطسية وأجور خدمات؟
الجواب: الفائدة اسم مستحدث في المعاملات المصرفية وهي ترجمة للكلمة الأجنبية (intrest انترست) التي تعني الرِّبا، فالفائدة معناهَا في قوامِيس البُنوك: الرِّبا، والربا محرَّم بالإجماع سواء كان قليلًا أو كثيرًا، فإن المُقْرِض لا يجوز أن يأخذ له أن يأخذ أكثر ممَّا أقرض بنصِّ القرآن قال تعالى: (وإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) وكلمة "رؤوس أموالكم" لا تحتمل أن تكون معها أجرة قليلةٌ ولا كثيرة، وقال تعالى (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، وكلمة (ما بَقِيَ) شاملة ـ أيضًا ـ لكل فائدةٍ، سواء كانت قليلة أو كثيرة، فكل قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا وفائدة فهو حرامٌ.(1/99)
ومِنْ أنواع الرِّبا الذي كانت تفعله الجاهلية ونَزَل القرآن بتحريمه قَرْضَ الدَّراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادةٍ على قَدْرِ القَرْضِ حسبما يتَّفِقُونَ عليه، وقوله تعالى: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضْعَافًا مُضَاعَفَةً) ليس معناه إباحة القليل من الرِّبا، وإنَّما هو بيانٌ لشَنَاعَةِ ما كانوا يشترطونَه فِي الغَالب من إجحافٍ وظلمٍ بتضعيفِ الرِّبَا فهو قيدٌ لبيان الغالب من حالهم، وليس يُفهم منه أن القليل من الرِّبَا حلالٌ على حدِّ قوله تعالى: (فَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أرَدْنَ تَحَصُّنًا) فلا يتبادر منه إلى ذهن عاقلٍ أنه يجوز الإكراه على الزِّنَا لمن لا تريد التحصُّن والعِفَّة، وإنَّما هو القيدُ لبيانِ الغالِبِ من حالهم أنَّهم كذلك، وتسميةُ النَّاسِ للرِّبا بالفائدة من تسهيل الأمر على المُرَابين ومخادعة النفس بتسمية الأشياءٍ بغيرِ الحقيقةِ حتَّى نستسهل الحرام، كما سمَّوُا الخَمْرَ بغير اسمها فقالوا: مشروبات روحية، وسمُّوا الرَّقص والغِنَاءَ الفاحش فنًّا، وسمَّوُا الرِّشوة عُمُولة الخ.. وذلك كله من تلبيس الشيطان وتزيينه، وهذه التسميات لا تُغَيِّر من الواقع شيئًا، فإن الرِّبا هو الرِّبَا سواءٌ سمِّي فائدة أو سمِّي بأي اسم آخر، والفائدة على رأس المال في القرض ربا سواء سُمِّيَت فائدة أو سميت خدمات وقرطاسية، أو أجور موظفين، أو غير ذلك.(1/100)
وقد أنبأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حال الناس هذا الذي تحايلوا فيه عن الحرام وسمَّوْه بغير اسمه، ففي الصحيح في باب مَنْ يستحِلُّ الخمر ويسميهِ بغيرِ اسمِه، خَرَّج البخاري حديث أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "ليكونَنَّ من أمتي أقوامٌ يستَحِلُّونَ الحِرَّ والحَرِيرَ والخمر والمعازف" (البخاري مع فتح الباري 12/ 150) وفى رواية: "يشربُ الناس مِن أمتي الخمر يسمُّونَها بغيرِ اسْمِها" (خرَّجه ابن حبان انظر موارد الظمآن ص: 336)
وفى الحديث عن ابن عباس يُرْوَى مرفوعًا وموقوفًا "يأتي على النَّاس زمانٌ يستحِلُّون فيه خمسةَ أشياء بخمسة أشياء: يستحِلُّون الخمر باسمٍ يسمُّونها إياه، والسُّحْتَ بالهدية، والقتلَ بالرَّهْبَة، والزِّنا بالنِّكاح، والربا بالبيع" (انظر إعلام الموقعين: 3/ 116)(1/101)
الضرورة والاقتراض بالفائدة:
س: هل يجوز القرض بالفائدة للضرورة، وإذا كان كذلك فَمَا هي الضرورة التي تبيح؟
الجواب: لا يجوز للإنسان أنْ يبرِّر لنفسه الافتراض بالفائدة من المصارف أو غيرها، ويحتجَّ بالضرورة والحاجة إلى السَّكن، فإن الضرورة التي تبيح الحرام هي أنْ يَخَاف الإنسان هلاك نفسه أو تَلَف عضو من أعضائه يقينًا أو ظنًّا إذا هو امتنع عن تناول الحرام هذا هو تعريف الفقهاء للضرورة الشرعية. (انظر: الشرح الكبير 2/115، هذا، وتعريف الفقهاء للضرورة في المذاهب المختلفة يدور حول هذا المعنى. انظر المغني: 8/ 595، وكشف الأسرار: 4/ 1518).
وهي تبيح لصاحبها أكل الميتة بالاتفاق، واختلف العلماء في إباحتها للرِّبا كما ذكر ذلك الونشريسي في القواعد الفقهية. (انظر إيضاح المسالك ص 132)
ويفهم من صنيعهم هذا أنَّ أكل الميتة أخفُّ من أخذ الرِّبا حيث اتفقوا على إباحة الضرورة للميتة واختلفوا في إباحتها للربا، فالضرورة التي تُبِيح أخذ الرِّبا لبناء سكن أو حاجة إلى غذاء أو كساء عند مَن يرى من العلماء أن الضرورة تبيح الرِّبا هي بناء على تعريف الضرورة الشرعية بالمعنى المتقدِّم أن لا يجد الإنسان ما يَسُدُّ به رَمَقَه من الغذاء، ولا يجد ما يستر به عورته من اللباس ولا يجد ما يقيه من حَرِّ الشمس أو بَرْدِ الشتاء من المسكن بحيث يتعرض بسبب تركة إلى الهلاك، وما زاد على هذا القَدْرِ الذي يحفظ النفس من الهلاك في المسكن أو في غيرة لا يُسَمَّى ضرورة في نَظَرِ الشرع، وتسمية الناس له ضرورة هو من التساهل في الكلام البعيد عن ميزان العلم فلا يُلْتَفَتُ إليه.(1/102)
شراء العقار المبني بقرض ربوي:
س: بناء مبني بقرض ربوي يريد صاحبه أن يبيعه، فهل يجوز شراؤه؟
الجواب: مكروه شراؤه ولا يَحْرُم؛ لأنَّ البِنَاء صار مِلْكًا لبانيه، وعقد الربا تعلَّق بذمته فلا ينتقل مع البناء من مالِكٍ إلى مالِكٍ، وهذا ما لم يكن هناك أقساط باقية ويقبل المشتري تسديدها؛ لأنه إذا قبل تسديد الأقساط صار شريكًا في المعاملة الربوية. والله أعلم.
نقل ابن يونس عن مالك أن أهل المدينة يقولون: مَنْ كان بيده مالٌ حرامٌ فاشترى به دارًا من غير أن يُكْرِه على البيع أحدًا فلا بأس أن تُشترى منه تلكَ الدار التي اشتراها بالمال الحرام.
(انظر المعيار: 12/ 66)(1/103)
معنى (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضْعَافًا مُضَاعَفَةً):
س: ما معنى قول الله ـ تعالى ـ: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضْعَافًا مُضَاعَفَةً)؟ وهل الآية تفيد حلِّيَّة ما يسمى بالفائدة البسيطة؟
الجواب: لا تفيد؛ لأن هذه الآية إنما نزلت تَصِفُ واقعًا كان موجودًا في جزيرة العرب وقت نزولها وهو تضعيفُ الفوائدِ لتحرمه، ولم تنزل لتُشَرِّع نوعًا آخر مِنَ الرِّبَا تكون فيه الفائدة قليلة، فذكْر قيد ـ أضعافًا مُضَاعفة ـ هو لبيان الواقع، وليس لإباحة الرِّبَا القليل غير المضاعف، وقد عُرِف في علم أصول الفقه ـ الذي يبيِّن قواعد استنباط الأحكام من الأدلة ـ أنَّ القيد الوارد في نَصِّ القرآن والسُّنَّة يعد مفهومه مُلغًى بالاتفاق إذا كان القيد المقارن بالنَّصِّ مُسَاقًا لبيان الواقع، كما في هذه الآية، وكما في قوله ـ تعالى ـ: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)
إذْ يجوز لأحد من المسلمين أن يقول: إنَّ إكراه الفتيات على البغاء جائزٌ إذا لم يردن التَّحصن، فكذلك لا يجوز لأحد أن يقول: إنَّ الرِّبَا جائز إذا كان قليلًا، ولم يكن أضعافًا مضاعفة، ويشهد لذلك سبب نزول الآية، فقد جاء في سبب نزولها عن مجاهد، قال: كانوا يبيعون البيع إلى أجَلٍ، فإذا حَلَّ الأجل زادوا في الثَّمَن على أنْ يؤخِّرُوا، وهكذا كل عام، فربَّمَا تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفًا، فنزلت الآية، (انظر تفسير القرطبي 4/202، ومختصر تفسير ابن كثير 1/318) وفي الموطأ عن عبد الله بن مسعود: (مَنْ أسلف فلا يشترط أفضل منه، وإن كانت قبضة من عَلَفٍ فهو ربًا)، وسأل رجل ابنَ عمر فقال: (إنِّي أسْلَفْتُ رجلًا سَلَفًا واشترطتُ عليه أفْضَل ممَّا أسلفته، فقال عبد الله بن عمر: فذلك الرِّبا).(1/104)
فإذا تبيَّن من هذه الآية أنها لا تُفِيد تحليل القليل من الرِّبا، وإنَّما تفيد تحريم الكثير الذي كان يتعامل به أهل الجاهلية، وأنَّ الآيات الأخْرَى في سورة البقرة حَسَمت المادة وحَرَّمَتْ قليل الربا وكثيره، وكانت من آخر القرآن نزولًا؛ إذْ لم يَعِشْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد نزولها إلا تِسْع ليالٍ، وتبيَّن من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الذهب بالذهبِ .. مِثْلًا بِمِثْلٍ، فمَن زادَ أو استزادَ فقد أرْبَى" (مسلم 3/1211)، تحريمُ كل زيادة ـ لم يبقَ بعد ذلك عُذْرٌ ولا متمسَّكٌ بشبهةٍ لِمَن يُحِلُّ شيئًا من الرِّبَا أو يُسمِّيه بغير اسمه.(1/105)
تعريفها وحكمها:
س: ما هي الرشوة، وما حكمها؟
الجواب:
الرشوة ـ بتثليث الراء ـ معناها: التوصُّل إلى الحاجة بالمُصانَعة، ودفع المال، فهي أخذ مال بغير عِوَض يُعاب صاحبُه ويُذَمُّ.
والراشي: هو الذي يدفع المال ليُبطل الحق أو يُحِقَّ الباطل، والمُرتَشِي هو القابض للمال.
والرائش: الواسطة بين الراشي والمرتشي، يسعى بينهما حتى تَتِمَّ لهما الصفقة. (انظر تحفة الأحوذي 4/471، وفتح الباري 6/148).
والرشوة حرام وسُحت، أجمع العلماء على تحريمها، وصاحبها فاسق، قال تعالى: (سَمَّاعُونَ للكذبِ أكَّالُونَ للسُّحْتِ) (المائدة، آية 42)، فقد جاء عن عمر وعلى وابن مسعود، وزيد ابن ثابت وجماعة من التابعين في السحت، بأنه الرشوة، والسحت محرَّم عند اليهود أيضًا، وإلا لَمَا عيَّرهم الله ـ تعالى ـ في القرآن بأكله (انظر التمهيد 9/140 وفتح الباري 5/360)، وفي الحديث: "كلُّ لحم أنبتَه السُّحتُ فالنارُ أولى به، قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم" (قال الحافظ في فتح الباري 5/360: رجاله ثقات ولكنه مُرسَل)، وفي حديث عبد الله بن عمر: "لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الراشي والمرتشي" (الترمذي، وقال: حسن صحيح. انظر العارضة 6/80)، وفي رواية: "والرائشَ بينهما".(1/106)
الرشوة لدفع الضرر:
س: إنسان له مال لم يَقدِر على استرجاعه إلا بدَفْع جزء منه رشوةً لمَن يُخَلِّصه، فهل يجوز له ذلك؟
الجواب:
الرشوة كلها ممنوعة، سواءٌ كانت لدفع ضرَر، أو للوُصول إلى حق، أو لغير ذلك، وذلك لعموم ما تَقَدَّم من النصوص الدالَّة على تحريم الرشوة، حيث لم يَرِد مُخَصِّص لهذا العموم، فيَبقى تحريم الرشوة على عمومه، سواءٌ كانت الرشوة مدفوعةً في الباطل، أو للوصول إلى الحق (انظر نيل الأوطار 8/277) فلا تأخذ مالَك بمالِك.
إلا إذا كانت حاجة الإنسان إلى ماله ـ الذي يُريد تخليصه ـ وصلت إلى درجة الحاجة الشديدة أو الضرورة، كالمسكن والكِساء والقُوت، فيجوز لمَن هذا حالُه أن يُصانع بماله ليصل إلى ماله الذي يَسُدُّ حاجته؛ لأن الضرورات تُبيح المحظورات، وفي هذه الحالة، وإن جازت للمعطي، فهي حرام وسُحْت على الآخذ.
ويجوز كذلك لمَن خاف على نفسه، أو كان محبوسًا ظلمًا، أن يبذل مالًا لمَن يتكلم في تخليصه، نقل النووي عن بعض الشافعية، أن هذه جَعالة "أجرة" مُباحة حلال، وليست من باب الرشوة (انظر فتاوى النووي ص 84).
فقد رُوِيَ أن ابن مسعود أُخِذ بأرض الحبشة في شيء، فأعطى دينارين حتى خُلِّي سبيله، ورُوِيَ عن جماعة من أئمة التابعين، قالوا: لا بأس أن يُصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. (النهاية في غريب الحديث 2/266، وانظر تحفة الأحوذي 4/471 والعارضة 6/80).(1/107)
ومن قواعد العلماء أن الحرام إذا عمَّ ولم يصل الإنسان إلى حاجته إلا عن طريقِه فله أن يأخذ منه بقَدْر حاجته التي لابدَّ له منها، فلا يتوسَّع أصحاب الأموال عن طريق الرِّشوة في التِّجارات والأعمال، وتملُّك المباني والعقارات، فإن التوسُّع فيها بالرشوة ودفع المال، يفتح باب الفساد والحرام على مِصْرَاعَيْهِ، فتنهار الأمة، ثم إنه لو تمسَّك الناس بالحق، ولم يستجيبوا لطلَبات الطامعين والمُرتَشِين، وصبروا على الأذى بتعطيل مَصالحهم مرةً بعد مرة، لَيَئِس الطمَّاعون، ولانحصَرَ الفساد في أضيَق نِطاق.(1/108)
التوبة من الرشوة:
س: مَن أخذ هدية لا يستحقها، أو رشوةً، فماذا يصنع إذا نَدِم وتاب؟
الجواب:
إذا ارتشى العامل والمُوظَّف أو قَبِل هدية ليست من حقه فالواجب عليه أن يردَّها إلى أصحابها؛ لأنه أخذها بغير حق، فأشبهت المأخوذ بعقد باطل، وإذا استُهلِكت وفاتت، فالواجب عليه قيمتها يومَ قَبْضِها على القاعدة في العقود الفاسدة (انظر المغني: 9/78).(1/109)
الهدايا والعمولات للموظفين:
س: هل يجوز الهدية إلى الموظف؟
الجواب:
الهدية التي تُقَدَّم إلى المُوظَّف من أجل وظيفته، من قِبَل شخص لم يتعوَّد أن يُهدِي إليه قبل الوظيفة، إن كانت من أجل التوصُّل إلى باطل، بأَخْذِ حق الغير، فهي حرام؛ لأنها في معنى الرشوة، وإن سُمِّيت هدية، لا يجوز أخذها ولا إعطاؤها، فقد جمع اليهود لعبد الله بن رواحة حُلِيًّا حين بعثَه إليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليَخرُص عليهم النخل، فأهدَوْهُ له، فقال: هذه الرشوة سُحت، وإنَّا لا نأكلها (انظر التمهيد 2/16).
وإن كانت الهدية للمُوَظَّف ليس فيها إبطال حق، ولكنها تُعطَى له على عمل وجب عليه أن يعمله بمقتضى وظيفته، إلا أنه يُماطل فيه، حتى يضطر الناس للدفع إليه، فهي حرام ـ أيضًا ـ إذاً لا يجوز للإنسان أن يأخذ مالًا فيما وجب عليه، وما يأخذه هو من قبيل الرشوة، وأكل المال بالباطل.
فإن لم تكن الهدية لأجل الوظيفة، بأن جرَت بها عادةٌ قبل الوظيفة فلا تُمنَع بعدها، إلا أن تُقَدَّم بين يَدَيْ خُصومة أو قضاء حاجة، فيَحرُم أخذها.
وإن كانت الهدية قُدِّمت للعامل من آحاد الناس، شكرًا للعامل وتكريمًا له من أجل حسن سِيرته، وإخلاصه في عمله فالأَوْلَى له ألا يَقبَلها، فقد اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحًا، فقال: لو كان عندنا شيء من تفاح فإنه طيب الريح، طيب الطعم، فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحًا، فلما جاء به الرسول، قال عمر: ما أطيبَ طعمَه وريحَه يا غلام، أرجِعْه، وأقرئ فلانًا السلام، وقل له: هديتُك قد وقعت عندنا بحيث نُحِبُّ، فقيل لعمر: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فقال: إن الهدية كانت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هدية، وهى لنا اليوم رشوة.(1/110)
وإذا قَبِل مَن أُعْطِيَت له الهدية من آحاد الناس على الوجه المشروع، تقديرًا له، ومكافأة له على عمله وإخلاصه، فلا يجوز له أن يستأثر بها، بل تكون للمسلمين، يتصدق بها على المحتاجين منهم، إلا أن يُكافئ صاحبها من ماله، فتكون خالصة له (انظر التمهيد 2/14و18 والمغني 9/77).(1/111)
العمولة للموظفين رشوة:
س: هل يجوز إعطاء رُخصة لموظَّف في مصنع أو مُنْشَأة للحصول على كمية من الأسمنت أو الحديد بتلك الرخصة، على أن يُعطِي جزءًا من السلعة لذلك الموظَّف؟
الجواب:
لا يجوز الإقدام على هذا العمل؛ لأن صاحب الرُّخصة يدفع رشوة، والموظَّف بعمله هذا يقبل الرشوة، ويأكل المال بالباطل.
س: شخص له رخصة تِجارية، يَحِقُّ له بها الحصول على أقمشة ومنسوجات من المصنع، لكن إجراءاته تتعطَّل، فعرَض عليه أحد المُستَخْدِمِين في المصنع أن يُسَهِّل له كلَّ شهر الحصولَ على المِقْدار المُقَرَّر من الأقمشة لتلك الرُّخْصة، على أن يأخذ منها لنفسه مقدارًا بالثمن الذي يَبيع به المصنع، فهل تجوز هذه العمولة؟
الجواب:
لا تجوز، وهى من قَبِيل الرشوة؛ لأنها عمولة لموظف على عمل داخل ضمن وظيفته.
س: اشترك اثنان في دفع رأس مال لاستيراد بعض السلع، ونظرًا لأن إجراءاتهم تتعقَّد في بعض الجهات الإدارية، فقد تعرَّفوا على موظَّف في تلك الإدارة، وأدخلوه شريكًا ثالثًا معهم من غير رأس مال، يُعطونه نسبةً من الربح، مُقابِل تسهيل الإجراءات لهم داخل إدارته، فهل يُعَدُّ هذا شريكًا يجوز إعطاؤه من الربح؟
الجواب:
الشركة تكون إما برأس مال من كل الأطراف، وإما برأس مال مقابلَ عمل، وهذا الشريك الثالث عملُه في الشركة محدود، مُقتَصِر على تسهيل الإجراءات التي هو مسئول عنها داخل إدارته، فما يُعطَى له، هو أُجْرَة، وليس له حظٌّ في الشرِكَة، والأجرة للموظَّف على عمل داخل ضمن وظيفتِه، رشوة وسُحت، لا يَحِلُّ له أخذُه.(1/112)
الأجرة على الجاه:
س: وَضِّح لنا الأجرة على الجاه، وهل يجوز أخذها؟
الجواب:
الأجرة على الجاه أن يشفع الإنسان شفاعة أو يتوسَّل في قضاء حاجة لآخر، ويأخذ عنها أجرًا، فهذا لا يجوز، ففي حديث أبي أمامة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن شفَع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقَبِلَها، فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا" (أبو داود 3/292. وفي سنده القاسم بن عبد الرحمن الأموي وفيه مقال، انظر عون المعبود 9/457).
فالحديث ذكر الهدية على الشفاعة وحذَّر منها؛ لأنها أجرة مُتَسَتَّرة في صورة هدية، ومن باب أولى الأجرة المشروطة مقدَّمًا على الجاه والشفاعة (هناك ثلاثة أشياء لا تكون إلا لله، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها: الضمان والجاه والقرض. انظر الشرح الكبير 3/77).
وقد سُئِل عبد الله بن مسعود عن السحت، فقال: "السحت أن يَستعينك الرجل على مَظلَمة، فيُهدِي لك، فإن أهدى لك فلا تَقبَل" (انظر المغني 9/87، ونيل الأوطار 8/ 278).
ومن الجاه الذي لا يجوز أخذ الأجرة عليه أن يتوسَّل الإنسان لشخص عند آخر ليُوَظِّفه أو ليَستَخْلِص له حقه، أو يُمَكِّنه من شراء ما يتعذَّر عليه شراؤه، أو استلامه لولا شفاعته، كأن يَحجِز له سيارة، أو يتكلم عنه ليُخَصِّص له عقارًا أو سلعة يَصعُب عليه الحصولُ عليها، فإن فعل ذلك من باب العَوْن والمعروف لمَن يَستَحِقُّه، جاز وأجرُه على الله؛ لأن الله في عَوْن العبد ما دام العبد في عون أخيه، كما جاء في الحديث، أما فِعْل ذلك بمُقابل، هدية أو أجرة فلا يجوز، سواءٌ كانت الأجرة مشروطة أو بغير شرط (وقيل: لو قضى أحد لآخر حاجة من غير طمع ولا شرط، فأهدَى إليه بعد ذلك، فهو حلال لا بأس به. انظر حاشية رد المحتار 5/362).(1/113)
هذا إذا كانت الأجرة على الجاه الذي هو التوسُّل والشفاعة بمجرد كلمة خير ومعروف، ولا يتطلب منه الأمرُ جهدًا، أما إذا كان الساعي في أمر يُكَلِّفه ذلك جهدًا ووقتًا وذهابًا ومجيئًا، أو كتابة وخُصومة، فله أن يأخذ أجرًا على عمله.(1/114)
العمولة الجائزة:
س: ما هي العمولة، وهل هي جائزة؟
الجواب:
"العمولة": ما يأخذ العامل، أو مكتب الخدمات على خدمة مشروعة، كأن يبيع لك عقارًا، أو يُقَدِّم لك خدمة بنقل أوراق أو مستندات، ويقوم بالمراجعة عليها في الدوائر حتى تأخذ إجراءاتها المُعتَادة، أو يقوم لك المكتب الهندسي بتخطيط أرض وتقسيمها، فيأخذ على عمله قيمة مالية محدَّدة، أو نسبة في المائة من قيمة المشروع، والعمولة على هذا الوجه جائزة، لأنها أجرة معلومة على عمل معلوم، لكن بشرط أن تَسلَم من الأمور الآتية:
1ـ ألا يكون العمل الذي قام به صاحب العمولة من الأعمال الواجبة عليه، الداخل ضمن وظيفته، يتقاضَى عليه مرتبًا شهريًّا، مثل الحُصول على مُستَنَد مِلْكِيَّة على عقار "علم وخبر أو غيره" من الموظف المُخْتَص، أو الحجز في سِلْعة من قِبَل الموظَّف المُخَوَّل بالحجز، في شركة أو مُؤَسَّسة، فهؤلاء وأمثالهم، لا يَحِقُّ لهم أخذ مُقابل على أعمالهم، إذا لا يجوز للإنسان أن يأخذ مالًا فيما وجب عليه، وما يأخذونه من العمولات من المواطنين هو من قبيل الرشوة والسُّحت، وأكل المال بالباطل.
2ـ أن يكون العمل الذي قدَّمه صاحب العُمولة خدمة مشروعة، خالِيَة من التزوير والكذِب، ليس فيها استيلاء على شيء من حقوق الآخرين.
3ـ أن يكون العمل الذي قدَّمه صاحب العُمولة خدمة تتطلَّب جهدًا، وليس مجرد أنه استعمل جاهه، كأنه كلم فلانًا فقُضِيَت المصلحة، فهذا لا يحق له أخذ أجرة؛ لأن الأجرة على الجاه ممنوعة.
وقد تَساهَل الناس اليومَ فصاروا يُسَمُّون كل مال يدفعونه مُقابِل خدمة عمولة، سواءٌ كان مدفوعًا بوجه مشروع أو غير مشروع، فلا يُفَرِّقون بين العمولة الجائزة، وبين الأجرة على الجاه الممنوعة، بل صاروا يُسَمُّون الرشوة الصريحة عمولة.(1/115)
أجرة الوسيط في البيع:
س: هل يجوز للوسيط بين بائع ومُشترٍ، أخذ ما يُسَمَّى بالعمولة؟
الجواب:
هذه العمولة جائزة، بشرط أن تكون معلومة، وهى أجرة على عمل مشروع.(1/116)
العمولة للمندوب المُوفَد للتعاقُد في الخارج:
س: جرت عادةُ الشركات في الخارج عند بيع الصفقات الكبيرة، أن تُخصِّص نسبة "عمولة" من قيمة الصفقة للشخص الذي تمَّ عن طريقه التعاقد، فهل يجوز للموظف المُوفَد للتعاقد أن يأخذ هذه العمولة؟
الجواب:
يجوز له، ولكن ليس لحسابه، وإنما لعامة المسلمين في خزينتهم، أو للمحتاجين منهم؛ لأنه لم يُهْدَ إليه إلا بسبب وظيفته، فلولا وظيفته ما وصل إليه هذا المال، والدليل على أن العامل لا يختص بما يُهدَى إليه بسبب وظيفته، ما جاء في الصحيح من حديث أبي حميد الساعدي ـ رضى الله عنه ـ استعمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللُّتْبيّة على الصدقة، فلما قدِمَ قال: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ إليَّ، فقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثُه، فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظُر أيُهْدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يَحمِلُه على رقبتِه، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاه تَيعَر، ثم رفع يديه حتى رأينا عُفر إبطيه، ألا هل بلَّغْت، ثلاثًا (البخاري مع فتح الباري 6/148، 16/286)، وعن بُرَيْدَة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَنِ استَعْمَلْناه على عمل، فرزقناه، فما أخذ بعدُ، فهو غُلول" (أبو داود 3/134، ورجاله ثقات. انظر نيل الأوطار 4/186).(1/117)
العمولة لمَن يَدل الزبائن إلى مكتب أعمالك:
س: بعض مكاتب الأعمال الحُرَّة، مثل المحامين والمهندسين ومُحَرِّري العقود يتفقون مع بعض الموظفين في الدوائر، والإدارات؛ ليكونوا عملاءَ لهم يُوَجِّهون إليهم الزبائن، ويُعطُونهم على ذلك عمولة، وأجرًا، فهل يجوز ذلك؟
الجواب:
العمولة على البيع والشراء على الخدمات، كأن يقول التاجر لشخص، أو تقول المؤسسة لوكيلها: أحضرْ لي مَن يشتري مني سلعتي، أو مَن يتعامل معي، أو مَن يُوَثِّق عندي أو يُوَكِّلني على قضيته أمام القضاء ولك كذا، هذه العمولة جائزة لأنها جَعل وعمولة على عمل، لكن جوازها مُقَيَّد بشرطين، وذلك لتَسْلَم من التغرير والخديعة:
1ـ عدم إظهار زيادة نصيحة للزبون، ومبالغة في مدح الجهة أو المؤسَّسة بما لا تستحق؛ لأن ذلك من التغرير القولي الذي قد يَؤُول إلى الغشِّ والخديعة، فيكون ما أخذه من الأجرة مقابل احتياله على خداع الناس وغشهم، وهو حرام وأكل مال بالباطل.
2ـ أن يُبَيِّن العميل للزبون أنه يشتغل مع المكتب أو الجهة التي يوجه إليها زبائنه، حتى لا يُوهمه أنه يقوم بخدمته لله من باب النصح، فيُغَرِّر به، ولا يأخذ الزبون حَيْطَتَه في زيادة السؤال عن تلك الجهة، وخدماتها، وأسعارها؛ لأن الزبون إذا أظهرتَ له النصح استسلم وقنع، وإذا علم أنك تأخذ أجرًا من الجهة التي تنصح بها تريَّث وسأل إذا أظهرتَ له النصح وأنت غير ناصح، فقد غرَّرْتَ به.(1/118)
وقد ذكر العلماء مثالًا للتغرير المحرَّم الذي يقوم به العميل، وهو أن يقول شخص لآخر يريد شراء سلعة: أنا أذهب معك إلى فلان، وأتوسَّط لك في شراء ما تُريد منه بسعر مُخَفَّض، وجودة في السلعة، ويُظهِر له الوُدَّ والنصيحة، وأنه يخدمه في ذلك، وفي الباطن هو متفق مع البائع على أن يأخذ منه عمولة على كل زبون يُحضرُه، ويَتِمُّ البيع معه على يديه، قال العلماء: لا يجوز مثل هذا العمل؛ لأنه غش وخداع، وأكل للمال بالباطل، حيث غرَّر العميل بالمشتري، وأظهر له النصيحة وجودة الصفقة، وفي الواقع ليس الأمر على هذه الصورة ( انظر المعيار الجديد 5/ 76 ـ 77).(1/119)
العطاء لشخص من أجل صفة فيه:
س: مَن أُعْطِي عطاء أو رخِّص له في أمر لصفة فيه، ككونه معاقًا، أو فقيرًا، أو لكونه عاملًا في جهة ما، وتلك الجهة تَصرِف لمستخدميها بعض المزايا، مثل تذاكِر مجانية، أو شُقَق سكنية، فهل يجوز لمَن لم تتوافر فيه هذه الصفة التمتُّع بتلك المزايا؟
الجواب:
إذا أُعطِي إنسان مالًا لصفة فيه، مثل كونه فقيرًا أو طالبًا، أو عالمًا، أو صالحًا، فلا يجوز له الأخذ إذا لم تكن تلك الصفة فيه في واقع الأمر، فَمَن علم أنه أعطي لفقره مثلاً فلا يجوز له الأخذ إذا لم يكن محتاجًا، ومَن علِم أنه أُعْطِي لدينه وصلاحه، فلا يَحِلُّ له الأخذ إذا كان حاله على خلاف ذلك، بحيث لو عَلِم المعطي ما هو عليه ما أعطاه، وهكذا (انظر المجموع 9/383. والفروق 1/187).
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن أحدهم ليسألني المسألة فأُعطِيها إياه، فيَخرج بها متأبِّطها وما هي لهم إلا نار، قيل: يا رسول الله، فلِمَ تُعطيهم؟ قال: "إنهم يأبَوْنَ إلا أن يسألوا، ويَأبى الله لي البخل" (المسند 3/16).(1/120)
العمولة الجائزة:
س: ما هي العمولة، وهل هي جائزة؟
الجواب:
"العمولة": ما يأخذ العامل، أو مكتب الخدمات على خدمة مشروعة، كأن يبيع لك عقارًا، أو يُقَدِّم لك خدمة بنقل أوراق أو مستندات، ويقوم بالمراجعة عليها في الدوائر حتى تأخذ إجراءاتها المُعتَادة، أو يقوم لك المكتب الهندسي بتخطيط أرض وتقسيمها، فيأخذ على عمله قيمة مالية محدَّدة، أو نسبة في المائة من قيمة المشروع، والعمولة على هذا الوجه جائزة، لأنها أجرة معلومة على عمل معلوم، لكن بشرط أن تَسلَم من الأمور الآتية:
1ـ ألا يكون العمل الذي قام به صاحب العمولة من الأعمال الواجبة عليه، الداخل ضمن وظيفته، يتقاضَى عليه مرتبًا شهريًّا، مثل الحُصول على مُستَنَد مِلْكِيَّة على عقار "علم وخبر أو غيره" من الموظف المُخْتَص، أو الحجز في سِلْعة من قِبَل الموظَّف المُخَوَّل بالحجز، في شركة أو مُؤَسَّسة، فهؤلاء وأمثالهم، لا يَحِقُّ لهم أخذ مُقابل على أعمالهم، إذا لا يجوز للإنسان أن يأخذ مالًا فيما وجب عليه، وما يأخذونه من العمولات من المواطنين هو من قبيل الرشوة والسُّحت، وأكل المال بالباطل.
2ـ أن يكون العمل الذي قدَّمه صاحب العُمولة خدمة مشروعة، خالِيَة من التزوير والكذِب، ليس فيها استيلاء على شيء من حقوق الآخرين.
3ـ أن يكون العمل الذي قدَّمه صاحب العُمولة خدمة تتطلَّب جهدًا، وليس مجرد أنه استعمل جاهه، كأنه كلم فلانًا فقُضِيَت المصلحة، فهذا لا يحق له أخذ أجرة؛ لأن الأجرة على الجاه ممنوعة.
وقد تَساهَل الناس اليومَ فصاروا يُسَمُّون كل مال يدفعونه مُقابِل خدمة عمولة، سواءٌ كان مدفوعًا بوجه مشروع أو غير مشروع، فلا يُفَرِّقون بين العمولة الجائزة، وبين الأجرة على الجاه الممنوعة، بل صاروا يُسَمُّون الرشوة الصريحة عمولة.(1/121)
أجرة الوسيط في البيع:
س: هل يجوز للوسيط بين بائع ومُشترٍ، أخذ ما يُسَمَّى بالعمولة؟
الجواب:
هذه العمولة جائزة، بشرط أن تكون معلومة، وهى أجرة على عمل مشروع.(1/122)
العمولة للمندوب المُوفَد للتعاقُد في الخارج:
س: جرت عادةُ الشركات في الخارج عند بيع الصفقات الكبيرة، أن تُخصِّص نسبة "عمولة" من قيمة الصفقة للشخص الذي تمَّ عن طريقه التعاقد، فهل يجوز للموظف المُوفَد للتعاقد أن يأخذ هذه العمولة؟
الجواب:
يجوز له، ولكن ليس لحسابه، وإنما لعامة المسلمين في خزينتهم، أو للمحتاجين منهم؛ لأنه لم يُهْدَ إليه إلا بسبب وظيفته، فلولا وظيفته ما وصل إليه هذا المال، والدليل على أن العامل لا يختص بما يُهدَى إليه بسبب وظيفته، ما جاء في الصحيح من حديث أبي حميد الساعدي ـ رضى الله عنه ـ استعمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللُّتْبيّة على الصدقة، فلما قدِمَ قال: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ إليَّ، فقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثُه، فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظُر أيُهْدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يَحمِلُه على رقبتِه، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاه تَيعَر، ثم رفع يديه حتى رأينا عُفر إبطيه، ألا هل بلَّغْت، ثلاثًا (البخاري مع فتح الباري 6/148، 16/286)، وعن بُرَيْدَة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَنِ استَعْمَلْناه على عمل، فرزقناه، فما أخذ بعدُ، فهو غُلول" (أبو داود 3/134، ورجاله ثقات. انظر نيل الأوطار 4/186).(1/123)
العمولة لمَن يَدل الزبائن إلى مكتب أعمالك:
س: بعض مكاتب الأعمال الحُرَّة، مثل المحامين والمهندسين ومُحَرِّري العقود يتفقون مع بعض الموظفين في الدوائر، والإدارات؛ ليكونوا عملاءَ لهم يُوَجِّهون إليهم الزبائن، ويُعطُونهم على ذلك عمولة، وأجرًا، فهل يجوز ذلك؟
الجواب:
العمولة على البيع والشراء على الخدمات، كأن يقول التاجر لشخص، أو تقول المؤسسة لوكيلها: أحضرْ لي مَن يشتري مني سلعتي، أو مَن يتعامل معي، أو مَن يُوَثِّق عندي أو يُوَكِّلني على قضيته أمام القضاء ولك كذا، هذه العمولة جائزة لأنها جَعل وعمولة على عمل، لكن جوازها مُقَيَّد بشرطين، وذلك لتَسْلَم من التغرير والخديعة:
1ـ عدم إظهار زيادة نصيحة للزبون، ومبالغة في مدح الجهة أو المؤسَّسة بما لا تستحق؛ لأن ذلك من التغرير القولي الذي قد يَؤُول إلى الغشِّ والخديعة، فيكون ما أخذه من الأجرة مقابل احتياله على خداع الناس وغشهم، وهو حرام وأكل مال بالباطل.
2ـ أن يُبَيِّن العميل للزبون أنه يشتغل مع المكتب أو الجهة التي يوجه إليها زبائنه، حتى لا يُوهمه أنه يقوم بخدمته لله من باب النصح، فيُغَرِّر به، ولا يأخذ الزبون حَيْطَتَه في زيادة السؤال عن تلك الجهة، وخدماتها، وأسعارها؛ لأن الزبون إذا أظهرتَ له النصح استسلم وقنع، وإذا علم أنك تأخذ أجرًا من الجهة التي تنصح بها تريَّث وسأل إذا أظهرتَ له النصح وأنت غير ناصح، فقد غرَّرْتَ به.(1/124)
وقد ذكر العلماء مثالًا للتغرير المحرَّم الذي يقوم به العميل، وهو أن يقول شخص لآخر يريد شراء سلعة: أنا أذهب معك إلى فلان، وأتوسَّط لك في شراء ما تُريد منه بسعر مُخَفَّض، وجودة في السلعة، ويُظهِر له الوُدَّ والنصيحة، وأنه يخدمه في ذلك، وفي الباطن هو متفق مع البائع على أن يأخذ منه عمولة على كل زبون يُحضرُه، ويَتِمُّ البيع معه على يديه، قال العلماء: لا يجوز مثل هذا العمل؛ لأنه غش وخداع، وأكل للمال بالباطل، حيث غرَّر العميل بالمشتري، وأظهر له النصيحة وجودة الصفقة، وفي الواقع ليس الأمر على هذه الصورة ( انظر المعيار الجديد 5/ 76 ـ 77).(1/125)
العطاء لشخص من أجل صفة فيه:
س: مَن أُعْطِي عطاء أو رخِّص له في أمر لصفة فيه، ككونه معاقًا، أو فقيرًا، أو لكونه عاملًا في جهة ما، وتلك الجهة تَصرِف لمستخدميها بعض المزايا، مثل تذاكِر مجانية، أو شُقَق سكنية، فهل يجوز لمَن لم تتوافر فيه هذه الصفة التمتُّع بتلك المزايا؟
الجواب:
إذا أُعطِي إنسان مالًا لصفة فيه، مثل كونه فقيرًا أو طالبًا، أو عالمًا، أو صالحًا، فلا يجوز له الأخذ إذا لم تكن تلك الصفة فيه في واقع الأمر، فَمَن علم أنه أعطي لفقره مثلاً فلا يجوز له الأخذ إذا لم يكن محتاجًا، ومَن علِم أنه أُعْطِي لدينه وصلاحه، فلا يَحِلُّ له الأخذ إذا كان حاله على خلاف ذلك، بحيث لو عَلِم المعطي ما هو عليه ما أعطاه، وهكذا (انظر المجموع 9/383. والفروق 1/187).
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن أحدهم ليسألني المسألة فأُعطِيها إياه، فيَخرج بها متأبِّطها وما هي لهم إلا نار، قيل: يا رسول الله، فلِمَ تُعطيهم؟ قال: "إنهم يأبَوْنَ إلا أن يسألوا، ويَأبى الله لي البخل" (المسند 3/16).(1/126)
توثيق العقود المُحرَّمة:
س: هل يجوز توثيق العقود الربوية، أو المشتملة على حرام، كالاستغلال والغصب والخمر؟
الجواب:
لا يجوز توثيقها، ولا أخذ الأجرة عليها؛ لأنها معصية، والمعصية لا يُعان صاحبُها، قال تعالى: (ولا تَتعاوَنُوا على الإثمِ والعُدْوانِ)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لعن الله آكِلَ الربا وموكِّله وكاتبَه وشاهَديه".(1/127)
توثيق فكِّ رهن القرض الربوي:
س: رجل عليه رهن بسبب قرض رِبَوي بعد أن سدَّد القرض يريد فك الرهن، هل يجوز توثيق فك هذا الرهن؟
الجواب:
الظاهر أنه جائز؛ لأن الغرض ليس توثيق العقد الربوي، وإنما الخلاص منه يُستَأْنَس له بما في المُدَوَّنة: يجوز الأجرة على طرْح المَيْتة والدم والعَذِرة؛ لأن الغرض إبعادُها لا هي. (الذخيرة 5/399).(1/128)
لزُوم مَن تنازل عن شيء أن يَفي بوعده:
س: لزيد دَيْن على عمرو فأسقطه عنه، وأعلمه بذلك، ثم بعد مدة من الزمن جاء زيدٌ مطالبًا بدَيْنِه، فهل يجوز ذلك، وهل يجب على عمر ردُّه؟
الجواب:
مَن تنازَل عن شيء لا يجوز له الرُّجوع فيه، ولا يلزَم عمرو شيئًا، قال الله ـ تعالى ـ: (وَأَوْفُوا بالعهدِ).
والوفاء بالوعد عند علمائنا على قسمين:
منه ما هو واجب وجوب السُّنَن، وفي آداب الناس، ومكارم الأخلاق، وليس بواجب فرضًا، وهو الوعد بفعل شيء، أو تركه، كأن يسأل الشخص أن يفعل شيئًا، أو يَقضي دَيْنًا فيقول: افعل، ولم يجب هذا النَّوْع من الوعد، لإجماع العلماء على أن مَن وعد بشيء، ليس من حقه أن يتمسَّك بهذا الوعد، ويُقاسِم الغُرَماء، فيما لو أفلس صاحب الوعد.
ومنه ما هو واجب وجوب الفرائض، وهو ما يترتَّب على تركه ضرر لمَن وعد به كأن يسأل آخر تأخير الدَّيْن الذي عليه، فيُؤَخِّره، أو يسأله أن يترُكه له، فيقول: تركتُه، أو يقول له: اهدم دارك، وأنا أسلِّفك أو اشتر الشيء الفلاني، وأنا أدفع عنك، فهذا لا يجوز الإخلال به، والوفاء به واجب (انظر التمهيد 3/206 والبيان والتحصيل 13 / 464).(1/129)
التأمين والاقتصار على الإجباري منه:
س: هناك أشكال مُتَعَدِّدة للتأمين في دول النظام الرأسمالي المُعاصِر، أيها ـ إن صحَّت ـ يصح للمسلم التعامُل به: تأمين الحياة ـ تأمين السيارة ـ الطرَف الثالث والنار والسرقة.. الخ؟
الجواب:
التأمين بجميع أنواعه لا يجوز، وإذا اضطر المسلم إليه في البلاد الرأسمالية ليدفع عن نفسه ضرَر الغرامات الفادحة فعليه أن يقتصر منه على القَدْر الضروري، وهو تأمين الطرَف الثالث، بحيث يدفع عن نفسه الضرر في حالة وُقوع المكروه، ولا يجني منه مَكسبًا لنفسه.(1/130)
حكم استفادة الورَثة من التأمين على الحياة:
س: قامت إدارة الشركة "أموال الدولة، قطاع عام" بالتأمين على حياة موظفيها فهل يجوز للورثة أو لمَن حدَّد الموظَّف له الاستفادة من وثيقة التأمين أن يأخذوا مبلغ التأمين في حالة وفاة الموظف مع العلم بأن الأيتام لا يُوجَد مَن يقوم بأمرهم، ولا مَن يَعُولهم.
الجواب: التأمين من عقود الغَرَر الباطلة، وكل ما يترتَّب على العقد الباطل فهو باطل، وبذلك لا يجوز لأحد أن يأخذ العِوَض، بل يجب أن يُطالب بالمال المستَقْطَع من مُوَرِّثه.(1/131)
ترك الحرام أشقُّ على النفس من الصلاة والحج:
س: ما حكم المسلم الذي يَحُجُّ ويعتَمِر ويُصَلِّي مع الجماعة، لكنه في معاملاته لا يتورَّع عن الحرام، يأكل المال بالباطل، ويتعامل بالربا، ويغشُّ، ويَكذِب؟
الجواب:
هذا تناقُض في الشخصية قبيح، وهو دليل الخِذْلان، وعدم التوفيق؛ لأن العبد لا يزال يتقرَّب إلى الله بالعبادة، حتى يُحبه الله، فإذا أحبَّه، كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، فلا يجده حيث نهاه، ومَن استهان بالحرام من أجل شهواته؛ ليجمع المال، فهو بعيد من الله،، ومن محبَّته، وإن عبد الله وصلى وصام، فالاستقامة هي ثمرة العبادة، فمَن حُرِم الاستقامة، فعبادته لم تُؤْتِ ثمارَها، يقول الله ـ عز وجل ـ في الحديث القدسي: "ما تقرَّب إليَّ عبدي بمِثْل ما افترضْتُه عليه، وما زال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحبَبْتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإن سألني لأعْطِيَنَّه، ولئن استعاذَنِي لأعِيذَنَّه" (البخاري مع فتح الباري 14 /128).
فسوء السلوك، والانغماس في الحرام ممَّن يُصلي ويحُج ويعتمر، السنةَ بعد السنة، دليل عدم القَبُول، وأن عبادته خاوِيَةٌ خالية من الخشوع؛ ولذلك ترَكَتْه حيث كان، لم تُقَرِّبه من الله، ولم ينتفع بها، قيل لعبد الله بن مسعود: إن فلانًا كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا مَن أطاعها. أي خشع فيها وأخلَص، والتصرف على النحو السابق هو من الجهل، وقلة الفهم عن الله، وليس مثلَ الجهل عدوٌّ، فإن تَرْك الحرام أفضل من العبادة عند مَن عَلِم أحكام الله، ووقف عند حدوده، ويَزِيد قُبْح هذا السلوك أن صاحبَه يضع هذه الشعائر الصلاة والحج في موضع التُّهَمَة، حتى تَصير في أعيُن الناس كأنها هي المسؤولة عن تصرُّفاته الخاطئة.(1/132)
الدين المعاملة:
س: يقولون: إن الدين المعاملة، فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب:
هذا القول ما رأيتُه في كتُب الحديث، لكن معناه صحيح؛ فإن المعاملات المالية محكُّ يُخْتَبَر به دِين المسلم ووَرَعُه، ووقوفه عند حدود الله ـ تعالى ـ فالمال شقيق الروح، وفيه إغراء وإغواء، يصعُب معه على ضعيف الدين أن ينُصِف الناس من نفسه، ويترك منه ما ليس له، ما دام يَقدِر عليه ولو بالاحتيال والغِش، أو القهر والغصب، فالدينار والدرهم يوقفك على حقيقة الرجال؛ ولذلك كانوا يقولون: اختبروهم بالمفروش والمنقوش، فقد تجد الرجل يصلي ويصوم ويحج، ويُعجبك مظهرُه وسمتُه، فإذا ما خالطْتَه في المال رأيتَ عجبًا، فكأنه إنسان آخر، يُخاصم بهتانًا، ويأكل المال بالباطل، ويُخاصم في المحاكم فُجورًا، يبحث عن ثغرة في القوانين، ويَسْتَعْدِي على خصمه بالمحامين؛ ليستولي على ما في يد غيره، ويعلم أنه ليس له فيه حق.
استسهل الناس أكل الحرام، وافتتنوا بالمال، فلم تَعُد لأموال الغير عندهم حُرْمة، ولا فيما يُقدِمُون عليه من أبواب تحصيل المال ضوابط شرعية متى سَلِمَت من عقوبة القانون، وقد حذَّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا الافتتان بالمال في حديث هو من دلائل نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد جاء عنه في الصحيح الذي بوَّب له البخاري: "باب مَن لم يُبال من حيث كسبَ المالَ". قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "يأتي على الناس زمان لا يُبالي المرءُ ما أخذ منه، أَمِنَ الحلال، أم من الحرام" (البخاري مع فتح الباري 5/200).(1/133)
فَشَا سُوء المعاملة بين المسلمين ووصل إلى حدٍّ صار الناس يَتَمَدَّحون به الكفَّارَ ويَذُمون المسلمين، فظلَم بذلك المسلمون دينَهم الذي يقوم على الحق والعدل، وبَجَّلُوا أهل الكفر، وقوانينهم التي تقوم على الجَوْر والظُّلْم؛ فما يتعاقد اثنان على عمل في الغالب والكثير أو يتشارَكان؛ حتى من أولئك الذين يدل مظهرُهم على المُحافظة على دين الله ـ تعالى ـ وشرعه، والوُقوف عند حدوده أمرًا ونهيًا ـ إلا وتسمع عن تعاملهما بعد حين ما يسوء ويُخَيِّب الآمال؛ مماطلةً في دفع الحقوق والديون، خلف في العهود والمواثيق، تحايُل على التنصُّل من الالتزامات، بعضهم لا يُراجع عمله منذ بدايته ليعرِف ما إذا كان يَتَّفِق مع شرع الله أو يُخالِفُه، فيكون بناء العمل من أساسه على باطل وما كان أساسه باطلًا لا يَصِير بعد ذلك صالحًا، وبعضهم يُراجع عمله على الشرع، ولكن يأخذ منه ويترك؛ لأنه يريد كسبًا سريعًا ـ ويرى أن بعض القيود تُعَوِّقه عن الصفَقات المُغرِية والكسب السريع، فيأخذ من الشرع ما يناسبه، وما لا يُناسبه من الأقوال المعروفة المشهورة في الدِّين يتركه، ليبحث عن فتوى شاذة أو قول غريب يُحلِّل له التعامل الذي يُريده، ويترك بذلك فتوى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "دع ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك"، ومَن تتبَّعْ شواذَّ المسائل، وغرائب الفتاوي اجتمع فيه الشر كله.(1/134)
حُرْمة الأموال وتعظيمها في الشرع:
س: يتساهل كثير من الناس في الحقوق والأموال، وقَل مَن يحتاط فيها الاحتياط المطلوب، فما مدى حُرْمة الأموال، وتعظيمها في الشرع، وما هي عقوبة آكِل المال بالباطل؟
الجواب:
حذَّر الله ـ تعالى ـ من أكل المال بالباطل، فقال ـ تعالى ـ: (يا أيُّهَا الذينَ آمنُوا لا تأكلُوا أموالَكُمْ بينَكم بالباطلِ) (النساء، آية: 29)، وعظَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحقوقَ وأموالَ الناس وجعل حُرْمَتَها كحُرْمة الدماء والأعراض، فكان مما قاله، في خطبته يوم النحر في حِجَّة الوداع: ".. فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا .. " (البخاري مع فتح الباري 1 / 168).
وفي الصحيح عن سعيد بن زيد أن أرْوى خاصمَتْه في بعض داره فقال: "دعوها وإياها، فإني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "مَن أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه، طُوِّقَه في سبع أرَضِين يوم القيامة"، اللهم إن كانت كاذبةً، فاعمِ بصرَها واجعل قبرها في دارها"، قال: فرأيتُها عمياءَ تلتمس الجدار، تقول: أصابتْني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرَّت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها. (مسلم 3/ 1231، وانظر البخاري مع فتح الباري 6/28).
وفي الصحيح عن أبي أمامة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: "وإنْ قضيبًا من أراك" (مسلم 1/122)، وفي الصحيح أن أبا سلمة كان بينه وبين أناس خصومة في أرض، وأنه دخل على عائشة ـ رضى الله عنها ـ فذكر لها ذلك، فقالت: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض؛ فإني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ قال: "مَن ظلم قيدَ شِبْر من الأرض طُوِّقَه من سبع أرَضِين يوم القيامة" (السنن الكبرى 6/ 99).(1/135)
وفي الصحيح أن رجلًا أتى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشكو رجلًا آخر، ويقول: إنه قد غلبني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ألَكَ بَيِّنة"، قال: لا، قال: "فلك يمينه"، قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر، لا يُبالي على ما حلف عليه، وليس يتورَّع من شيء، فقال: "ليس لك منه إلا ذلك"، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمَّا أدبر: "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ، وهو عنه مُعرِض" (مسلم 1/ 124)، وفي رواية: "لَقِي الله، وهو عنه غضبان"، فنزلت: (إِنَّ الذينَ يَشتَرُونَ بعهدِ اللهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنًا قليلًا) (مسلم1/123)، وقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اليمين المُنْفِقَة للسلعة المُمْحِقة للبركة، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إياكم وكثرةَ الحلف في البيع، فإنه يُنفِق ثم يَمحَق" (مسلم 3/1228)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الحلِف مَنْفَقة للسلعة مَمْحَقَة للبركة " (مسلم 3/1228)، وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى ـ رضى الله عنه ـ أن رجلًا أقام سلعةً وهو في السوق، فحلف بالله لقد أُعطيَ بها ما لم يُعطَ ليُوقعَ فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت: (إِنَّ الذينَ يَشتَرُونَ بعهدِ اللهِ وأيْمانِهِمْ ثمنًا قليلًا أولئكَ ما يأكُلونَ في بُطونِهم إلا النارَ) (البخاري مع فتح الباري 5 /220).
وأكل أبو بكر يومًا شيئًا من خَراجه، فقال له غلامه: إنه من أجرة كِهانة، كان الغلام تكهَّنها فأدخل أبو بكر يدَه، فقاءَ كلَّ شيء في بطنه (السنن الكبرى 6/97).(1/136)
وقد عرَّف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المُفلس بوم القيامة بأنه مَن ظلَم وأكلَ المال بالباطل، وإن كان قد صلى وصام وزكَّى، ففي الصحيح قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا درهمَ له ولا متاع، فقال: إن المفلس مَن أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتَم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرَب هذا، فيُعْطَى هذا من حسَناته، وهذا من حسناته، فإذا فَنِيَت حسناتُه قبْل أن يَقضي ما عليه أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار" ( مسلم 4/ 1997، وانظر البخاري مع فتح الباري 6/26).(1/137)
حكم القاضي لا يُحَلِّل الحرام:
س: مَن حُكِم له بشيء، وهو يعلم أنه لا يَحِق له فيه، فهل يصير حلالًا في حقه بعد الحكم؟
الجواب:
حكم القاضي لا يُحَلِّل الحرام، فمَن قُضِىَ له بشيء، وهو يعلم أنه ليس له، حُرِّم عليه وإذا أخذه يجب عليه ردُّه، وقبضه لا يُصَحِّح له مِلْكَه، فهو حرام دائمًا مهما قدُم عهده، فحيازته السنينَ الطويلةَ لا تُصَيِّره حلالًا، والحائز بالظلم لا تفيده حيازة، وإنما يُسأَل: كيف وصل المال إليه؟
ففي الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضَكم أن يكون أبلغَ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمَن قَضَيْتُ له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فلْيأخذْها، أو فلْيتركها" (البخاري مع فتح الباري 6/132).(1/138)
معاملة مُستَغْرِقي الذمة:
س: ما معنى تعبير: مستغرقي الذمة، وهل هؤلاء الناس تجوز معاملتهم؟
الجواب:
مستغرقو الذمة: هم الذين في أعناقهم ظُلامات للعباد، تأتي على جميع أملاكهم، من غصب أو سرقة، أو تَسَبُّب في إتلاف أموال الناس ظلمًا من غير وجه حق، ولو كانوا لا يأخذون منها لأنفسهم شيئًا، بحيث لو أرادوا ردَّ هذه المظالم لأصحابها لا تَفِي جميع أملاكهم بها.
أما حكم مُعاملتهم ففيه خلاف بين العلماء، والقول المُختار، أنه لا يُقبَل منهم ما يُعطونه بغير عِوَض، كالهبة والصدقة والضيافة، وتجوز معاملتهم بعِوَض، كالشراء منهم فيما علم أنهم كَسَبوه بوجه جائز، ولو أن أصل المال الذي كسبوا به حرام، قال مالك ـ رحمه الله تعالى ـ: مَن بيده مال حرام، فاشترى به دارًا، من غير أن يُكرِه على البيع أحدًا، فلا بأس أن تشتري منه أنت تلك الدار التي اشتراها بالمال الحرام (انظر المعيار 12/66).(1/139)
تنمية المال الذي أصله حرام:
س: ما حكم مال مَن يتعامَل بالربا أو أخذ مالًا بالغصْب أو الرشوة، ثم نمَا هذا المال، فما يَحِل له من ذلك؟
الجواب:
مَن أخذ مالًا حرامًا رِشْوةً أو غصبًا أو ربًا، فإن توبته لا تَتِمُّ إلا بردِّ المال المغصوب إلى أصحابه إن كانوا موجودين، أو وَرَثَتِهم إن ماتوا، فإن لم يعلم أصحابه أنفقَه وتصدَّق به عليهم، والربح الناتج عن أصل المال لا يجب عليه التصدُّق به، والأَوْلَى أن يتصدق بجزء منه عسى الله أن يقبل توبتَه (انظر مجموع الفتاوي 29 / 307).(1/140)
مَن بنى بيتًا بقرض ربوي وتاب، ماذا يفعل؟
س: رجل بنى بيتًا من قرض ربوي، ثم تاب، فهل يجب عليه تَرْك البيت، وإذا باعَه فماذا يفعل بالمال؟
الجواب:
الحرام تعلَّق بذمة المُقتَرِض بالرِّبا، لا بالبناء، والإثم عليه باقٍ، إلا أن يعفوَ الله عنه، سواء بقي في البيت، أو باعَه، وإذا باعَه فلا يجب عليه التصدُّق بثمنه، إلا أن يشاء أن يتصدق بشيء من المال، رجاءَ المغفرة، وقَبُول التوبة.(1/141)
مُعاملة مَن مالُه مُخَتَلِط:
س: هل يجوز معاملة مَن كان ماله مختَلِطًا بالحرام، ثم الشراء منه وقبول هديته؟
الجواب:
مَن كان مالُه مختلطًا والغالب عليه هو الحرام، فلا يُقبَل منه شيء من غير عِوَض كالهدية والضيافة (قيل: على وجه الكراهة، وقيل: على وجه التحريم، قال في المجموع 9/385: المشهور أنه مكروه) إلا فيما عُلِم من السِّلَع أنها حلال وصلت إليه بطريق مشروع كالميراث والهِبَة، فيجوز قَبُولها منه، وتجوز معاملتُه بعِوَض، كالشراء منه، فيما عُلِم أنه كسبه بوجه جائز، ولو أن أصل المال الذي كسب به حرام، كما تقدم عن مالك، رحمه الله تعالى.
وإن كان المال مُختَلِطًا. والغالب عليه الحلال فمعاملة صاحبه وأكل طعامه جائز (انظر مسائل ابن رشد 1 / 555)، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه يُعامِلون المشركين وأهل الكتاب، مع عِلْمِهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله (انظر جامع العلوم والحكم 1 / 153)، وقد وردت عن السلَف آثار بالجواز، كابن عمر، وابن مسعود، وهذا ما لم يُعلَم شيء من المال بعينه حرام، فإن عُلِم الحرام بعينه، فلا يجوز أكلهُ ولا التعامل به، فإنِ اشتبه الأمر فالورَع التَّرْك، فمَن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضه (انظر المجموع، شرح المهذب 9/385).(1/142)
توبة مَن مالُه حرام:
س: مَن كان ماله كله أو بعضه مُنْتَزَعًا من العباد بالرشوة والظلم، وأراد التوبة وندم فماذا يصنع؟
الجواب:
صاحب المال الحرام إذا أراد التوبة، إن كان المال من ربا أو رشوة أو غصْب فلْيَرُدَّه إلى أصحابه إن علمهم، أو لورَثَتِهم، ولا توبة له بغير ردِّ المال، فإن تعذَّر عليه معرفتهم تَصدقْ بالمال عليهم، ولا يَبقى لنفسه إلا مِقدار الضرورة الشرعية لقُوته، وإذا كان مُختلِطًا، ولم يعلم مقدار الحرام، فعليه أن يَجتهد، ويَحتاط في التخلُّص من الحرام، حتى يَغلِب على ظنه أن ذمته بَرِئَت منه (انظر المجموع 1 / 544، وتفسير القرطبي 3/ 366).(1/143)
توبة مَن مالُه من تجارة المخدِّرات والحرام:
س: شاب عَمِل في تجارة المُخَدِّرات والخُمور، ثم تاب، فماذا يفعل بالمال الموجود عنده، وهل يتصدق بالحرام، وإن كانت أمواله من عقود ليس فيها رأس مال حلال فماذا يصنع؟
الجواب:
له أن يَحتَفِظ برأس مالِه إن كان حلالًا، وما تحصَّل عليه من الأرباح، يجب عليه أن يتخلَّص منه جميعًا، ويُنفِقه في مصالح المسلمين.
فإن كانت الأموال من عقود ليس فيها رأس مال حلال، كمهر البَغِيِّ وحُلْوان الكاهن، فالواجب التخلُّص منها جميعًا في مصالح المسلمين، ولا تُرَدُّ إلى أصحابها.(1/144)
توبة مَن كان ماله حلالًا، لكنه يدفع الرشوة والفائدة الربوية:
س: مَن كان أصل ماله حلالًا، ولكن في تعامله يدفع الرشوة، أو يتسلَّف ويدفع الفائدة، أو يعقد عقودًا فاسدة، وفات التدارُك بتصحيحها، ويُنَمِّي ماله على هذا الوجه، فكيف تكون توبته؟
الجواب:
مَن عقد عقودًا مُحَرَّمة دفع فيها الحرام ولم يَقبِضْه، كالدافع للرشوة والمقترض بالربا، ونمَّى ماله على ذلك فهو ظالم آثِم، يتوب إلى الله ـ تعالى ـ ويندم على سوء فعله، ويُكثِر من القُرُبات وفعل الطاعات بالصدقة والصلاة والصوم، لعل الله ـ تعالى ـ يعفو عنه ويتجاوز، وكذلك مَن كانت عقودُه في البَيْع والشراء فاسدة، لعدم توافر الشروط المطلوبة فيها شرعًا، كعدم التقابُض في المجلس فيما شُرِط فيه التقابُض، دون أن تكون في ذمَّتِه حقوق للعباد مُتَرَتِّبة عليها، فتوبته، إن أمكن التدارُك، تكون بإبطال البَيْع ونقضه، ويُرجِع كل واحد ما أعطاه للآخر، وإن فاتَ الآوان، وتصرَّف كل واحد فيما أخذ، وتعذَّرت معرفة مَن حصل معه التعامُل، لطُول العهد، فالتوبة كذلك تكون بالندم والإكثار من الصدقات والطاعات.(1/145)
شراء المسروق:
س: ما حكم مَن اشترى سلعة فظهر أنها مسروقة؟
الجواب:
إنْ عرَف مالكها، فهو أحق بها بلا ثمن؛ لأن الإنسان لا يَشتَرِي ماله، وعلى الذي اشتراها من السارق أن يُطالب السارق بردِّ الثمن، فإنْ لم يجد السارق، أو وجده ولم يَقدِر عليه، فهي مصيبة نزلت به، وليس له أن يُمسِك السلعة بعد معرفة صاحبه، فإن علم أن السلعة التي اشتراها مسروقة، ولم يَعرِف مالكها، فعليه أن يبيعها ويأخذ رأس ماله، ويتصدق بالربح على صاحبها (انظر مجموع الفتاوى 29 / 269).(1/146)
امتناع الابن من الأكل من مال أبويه للشبهة:
س: إذا كان مال الأبوين فيه شُبْهة، أو مُخْتَلِطًا بالحرام، فهل للابن أن يمتنع من الأكل معهما إذا طلبا منه ذلك؟
الجواب:
إذا كان في مال الأب والأم شبهة أو كان مُختَلِطًا، وأرادَ الابن ترْك الأكل معهما من باب الورَع، وكَرِها منه ذلك، فعليه أن يعلم أن هذه الشبهة عارضها طلب استرضائهما والبر بهما وهو واجب، فليتَلَطَّف في الامتناع عن الأكل برفق، فإن عجز فلْيَأْكُل ولا يتوسَّع، أما إذا كان مال الأبوين كله حرامًا، أو عَلِم أن ما يُقدَّم له بعينه حرامًا، فالواجب عليه الامتناع عن الأكل، ولو كرِها منه ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (انظر المجموع 4 / 389).(1/147)
حكم الكسْب والعمل في محلٍّ مغصوب:
س: ما حكم العمل والاتِّجار في محلٍّ مغصوب، وما حكم الكسب الذي يتحصَّل عليه صاحب المحل، وهل يجوز الشراء منه؟
الجواب:
لا يَحِل المقام في محلٍّ مغضوب، لا للاتِّجار، ولا لغيره، حتى للصلاة والعبادة، وإذا اتَّجَر فيه أحد، وكسب شيئًا بطريق مشروع، كان عاصيًا بتجارته وعمله في ذلك المكان، ولا يَحرُم عليه كسبُه، ويلزمه الكِراء في ذمَّته، دَيْنًا عليه، وللناس أن يشتروا منه، ولكن إذا وجدوا سوقًا آخرَ فالشراء من غيره أولى، ويُكْرَه أكل طعامه (انظر البيان والتحصيل 18 / 564، والمجموع 98 /287).
وإذا كان المحلُّ مبنيًّا بمال حرام، كالرشوة والربا، ليس اكتراؤه للتجارة بحرام، وإنما هو مكروه يُستَحَبُّ تَرْكُه؛ لأن البُنْيَان لبانيه، والحرام مُتَرَتِّب في ذمته، وكذلك المسجد المبني من المال الحرام، يُستَحَبُّ ترك الصلاة فيه إلى غيره، ولا تَحرُم؛ لأن التبعية فيه على الباني.(1/148)
الزكاة والحج بالمال الحرام:
س: ما حكم الصدقة والزكاة وحج المسلم الذي يُؤَدَّى بأرباح من فوائد ربوية، أو مال حرام؟
الجواب:
الحج والصدقة من المال الحرام يُسقِط عن المسلم الواجب فلا يجب عليه الحج مرة أخرى، ولا يجب عليه أن يُعيد دفع الزكاة، ولكن لا ثواب له في حَجِّه ولا في زكاته؛ لأن الله ـ تعالى ـ طيب لا يقبل إلا طيبًا، فعليه أن يجتهد في تقديم أعمال جديدة طيبة؛ عسى الله ـ تعالى ـ أن يقبلها.(1/149)