فهذه "الغربة" لا وحشة على صاحبها. بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس. وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا. فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
وفي حديث القاسم عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال - عن الله تعالى -: "إن أغبط أوليائي عندي: لمؤمن، خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاته. أحسن عبادة ربه، وكان رزقه كفافًا، وكان مع ذلك غامضًا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وصبر على ذلك حتى لقي الله. ثم حلت منيته (نص الترمذي: ثم نفض بيده فقال: عجلت منيته. . . إلخ والمراد بقوله: "أغبط الناس: أحق من يتمنى الناس مثل حاله. و"خفيف الحاذ": أي خفيف الظهر من العيال. "كفافًا": أي بقدر الحاجة. "لا يشار إليه بالأصابع": أي أنه مغمور غير مشهور. ومعنى "عجلت منيته": أنه لم يعمر طويلاً، فقد يصاب أو يستشهد في سبيل الله. "قل تراثه": لم يترك مالاً كثيرًا. "قلت بواكيه": ربما لموته في الغربة) وقل تراثه، وقلت بواكيه" (رواه الترمذي في الزهد -2348- من طريق عبد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم، وهو إسناد ضعيف، وإن حسنه الترمذي، كما رواه ابن ماجه بنحوه بإسناد آخر -4117- وفيه راويان ضعيفان كما في الزوائد).
ومن هؤلاء الغرباء: من ذكرهم أنس في حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب أشعث أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره" (أورده الهيثمي بنحوه في المجمع 10/264، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن موسى التميمي وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح،عدا جابر بن هرم، وقد وثقه ابن حبان على ضعفه، وأورد نحوه من حديث ابن مسعود، وإسناده أجود وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" الحديث رقم -2622).(2/48)
وفي حديث أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "كل ضعيف أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره" (رواه ابن ماجه -4115- وفيه سويد بن عبد العزيز، ضعفوه، وحسنه بعضهم لشواهده. انظر: فيض القدير: حديث -2852) وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب.
ومن صفات هؤلاء الغرباء - الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم-: التمسك بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم - فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم!.
ومعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هم النزاع من القبائل" أن الله سبحانه بعث رسوله، وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان ونيران، وعباد صور وصلبان، ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبًا، وكان من أسلم منهم، واستجاب لله ولرسوله: غريبًا في حيه وقبيلته، وأهله وعشيرته.(2/49)
فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعًا من القبائل، بل آحادًا منهم. تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباء حقًا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجًا. فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريبًا كما بدأ. بل الإسلام الحق - الذي كان عليه رسول الله وأصحابه - هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة. فالإسلام الحقيقي غريب جدًا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس.
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدًا، غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات، ومناصب وولايات. ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم.(2/50)
فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبًا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجب كل منهم برأيه؟ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، فإن وراءكم أيامًا، الصابر فيهن كالقابض على الجمر" ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت - إذا تمسك بدينة - أجر خمسين من الصحابة (وهذا يقوي قول الحافظ ابن عبد البر في أن تفضيل قرن الصحابة تفضيل للمجموع لا لكل فرد، باستثناء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأهل بدر وأهل أحد، وأهل بيعة الرضوان، ومن كان له فضيلة خاصة من الصحابة، وهذا يفتح باب الأمل للأجيال اللاحقة، ويؤيده حديث الترمذي: "مثل أمتي كمثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره"). ففي سنن أبي داود والترمذي - من حديث أبي ثعلبة الخشني - قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (المائدة: 105)، فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله" قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم" (رواه أبو داود في الملاحم برقم (4341)، والترمذي في التفسير برقم (3060) وقال: حسن غريب، وابن ماجه في الفتن (4014). وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم.(2/51)
فإذا أراد المؤمن، الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهًا في سنة رسوله، وفهمًا في كتابه، وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط: فليوطن نفسه على قدح الجهال، وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه (في عصرنا دخل عنصر يزيد من غربة المؤمنين الداعين إلى الله، وإلى كتابه وسنة نبيه، وهو اضطهاد السلطات الحاكمة لهم، ومطاردتها لهم، واستخدام كل ما تملك من قوة لإيذائهم والتضييق عليهم، والتنكيل بهم، إلى حد القتل علنًا برصاص الشرطة في الطرقات أو البيوت. أو سرًا تحت أدوات التعذيب وفي غيبة القانون ثم كيد القوى المعادية للإسلام وما أكثرها عددًا، وأقواها عدة). كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه -صلى الله عليه وسلم-، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعدًا ولا معينًا، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف) (مدارج السالكين شرح منازل السائرين لابن القيم 1/194-200، ط. السنة المحمدية).
بشائر من القرآن بظهور الإسلام من جديد: .(2/52)
أما ما سأل عنه الأخ من وجود بشائر ودلائل على انتصار الإسلام في المستقبل، فهي كثيرة ومتوافرة، في كل من القرآن والسنة، وإن كان كثير من الخطباء والوعاظ يغفلونها، ولا يبرزون إلا ما يوحي ظاهره بالقنوط.
أما القرآن فحسبنا قول الله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (التوبة: 33).
وقد تكررت هذه الآية بهذه الصيغة مرتين، في التوبة وفي الصف، وفي سورة الفتح (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا) (الفتح: 28).
فهذا وعد من الله تعالى بظهور دين الحق - الإسلام - على الدين كله، أي على الأديان كلها، وكان وعد الله حقًا، فلن يخلف الله وعده، ولا زلنا ننتظر تحقيق هذا الوعد: غلبة دين الإسلام وظهوره على جميع الأديان سماوية أو وضعية.
ونضيف إلى ذلك قوله تعالى في محاولات أهل الكفر النيل من الإسلام، وعرقلة تقدمه وانتشاره: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) (الصف: 8).
(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (التوبة: 32).
والتعبير القرآني يسخر من هؤلاء حين يشبه محاولاتهم في إطفاء نور الإسلام، كالذي يحاول أن يطفئ الشمس بنفخة من فيه، كأنما يحسبها شمعة ضئيلة من شموع البشر.
وبشارة قرآنية أخرى، وهي قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) (الأنفال: 36).
بشائر من الأحاديث النبوية: .
وأما المبشرات من الحديث فحسبنا منها هذه الأربعة: .(2/53)
1-ما رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وأحمد عن ثوبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله زوى لي الأرض - أي جمعها وضمها - فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها. . . " الحديث (رواه مسلم برقم -2889-، وأبو داود -4252-، والترمذي -2203- وصححه، وابن ماجه -3952-، وأحمد 5/278، 284).
وهو يبشر باتساع دولة الإسلام، بحيث تضم المشارق والمغارب، وهذا لم يتحقق من قبل بهذه الصورة، فنحن بانتظاره كما أخبر الصادق المصدوق.
2ـ ما رواه ابن حبان في صحيحه: "ليبلغن هذا الأمر - يعني الإسلام - ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل دليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر" (ذكره الهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان -1631، 1632).
فإذا كان الحديث السابق يبشر باتساع دولة الإسلام، فهذا يبشر بانتشار دين الإسلام، وبهذا تتكامل قوة الدولة وقوة الدعوة، ويتحد القرآن والسلطان.(2/54)
3ـ ما رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو روميَّة؟ فدعا عبد الله بصندوق له حَلَق قال: فأخرج منه كتابًا (هذا يدل على مدى عنايته بما كتبه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه لم يكن وحده يكتب، لقوله: بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نكتب. وهو يؤكد ما أصبح معلومًا لدى الدارسين اليوم أن كتابة الحديث وتدوينه بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم).، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نكتب، إذ سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي المدينتين تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مدينة هرقل تفتح أولاً" يعني قسطنطينية (رواه أحمد برقم -6645- واللفظ له، وقال شاكر: إسناد صحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/219: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير أبي قبيل وهو ثقة، والدارمي برقم -493- وابن أبي شيبة والحاكم 3/422، 4/508 وصححه ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في الصحيحة برقم -4).
ورومية هي ما ننطقها اليوم: "روما" عاصمة إيطاليا.
وقد فتحت مدينة هرقل، على يد الشاب العثماني ابن الثالثة والعشرين: محمد بن مراد والمعروف في التاريخ باسم "محمد الفاتح" فتحها سنة 1453م.
وبقى فتح المدينة الأخرى: رومية، وهو ما نرجوه ونؤمن به.
ومعنى هذا أن الإسلام سيعود إلى أوربا مرة أخرى فاتحًا منتصرًا، بعد أن طرد منها مرتين: مرة من الجنوب، من الأندلس، ومرة من الشرق بعد أن طرق أبواب أثينا عدة مرات. وظني أن الفتح هذه المرة لن يكون بالسيف، بل سيكون بالدعوة والفكر.(2/55)
4ـ ما رواه أحمد والبزار - الطبراني ببعضه - عن النعمان بن بشير عن حذيفة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا (الملك العاض أو العضوض: هو الذي يصيب الرعية فيه عسف وتجاوز، كأنما له أسنان تعضهم عضًا)، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكًا جبرية (ملك الجبرية: هو الذي يقوم على التجبر والطغيان).، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" ثم سكت (أحمد في مسند النعمان بن بشير 4/273 من طريق الطيالسي، وأورده الهيثمي في المجمع 5/188، 189، وقال: رواه أحمد والبزار أتم منه، والطبراني ببعضه في الأوسط ورجاله ثقات، وهو في -منحة المعبود- برقم -2593-، وفي كشف الأستار عن زوائد البزار، برقم -1588- وصححه الحافظ العراقي في كتابه: محجة القرب إلى محبة العرب وذكره الألباني في: الصحيحة برقم -5).
إن فتح رومية وانتشار الإسلام حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار، واتساع دولة الإسلام حتى تشمل المشرق والمغرب، إنما هو ثمرة لغرس، ونتيجة لمقدمة، هي عودة الخلافة الراشدة، أو الخلافة المؤسسة على منهاج النبوة بعد بقاء الملك الجبري، والملك العاض، أو العضوض ما شاء الله أن يبقيا من القرون.
إن بعد الليل فجرًا، وإن مع العسر يسرًا، وإن المستقبل للإسلام، وقد بدت بشائر الفجر، والحمد لله.
ومن هذه البشائر: .(2/56)
1ـ ظهور الصحوة الإسلامية، التي أعادت للأمة الثقة بالإسلام، والرجاء في غده، وقد أقلقت أعداء الإسلام في الداخل والخارج. وهي جديرة أن تقود الأمة إلى مواطن النصر، إذا قدر الله لها أن يتولى زمامها المرشدون الراشدون، من أولي الأيدي والأبصار، الذين آتاهم الله الفقه في سنن الله، والفقه في دين الله، والحكمة في النظر، والحكمة في العمل (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) (البقرة: 269).
2ـ انهيار الأنظمة الشمولية، وخصوصًا الشيوعية التي زعمت يومًا أنها ستغزو العالم، وترث الأديان، وتهزم الفلسفات، والتي لقيت أولى هزائمها على أيدي إخواننا المجاهدين في أفغانستان، والذين انتصروا بأسلحتهم العتيقة على أعتى دولة ملحدة في التاريخ.
لقد سقطت قلاع الشيوعية واحدة بعد الأخرى، بدءًا بالاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية، وانتهاء بألبانيا.
والبقية تأتي، سيمحق الباطل، وينتصر الحق (ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله) (الروم: 4،5).
حديث: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود".
قرأت في عدد من الكتب الحديث الشريف: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا عبد الله - أو يا مسلم - هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله".
وسؤالي: هل يفهم من الحديث أن معركتنا مع اليهود ستستمر إلى قيام الساعة، وهل يدل الحديث على أن الحجر والشجر ينطق حقيقة؟ وهل يكون ذلك "كرامة" للمسلمين؟ وهل المسلمون اليوم أهل لهذه الكرامة، أو أن هذا مدخر لأجيال أخرى قرب قيام الساعة كما يشير أول الحديث؟.
أرجو إيضاح ذلك حتى لا يلتبس علينا فهم كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفع الله بكم وجزاكم عنا وعن الإسلام وأمته خيرًا.
مسلم مهتم بقضية فلسطين.
جـ: الحديث المذكور حديث صحيح رواه أكثر من صحابي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد صح من حديث ابن عمر، ومن حديث أبي هريرة.(2/57)
فقد روي الشيخان عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله" (ذكره في: صحيح الجامع الصغير برقم -7414).، وفي رواية لمسلم: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله. . إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود" (ذكره في: صحيح الجامع الصغير أيضًا -7427).، ورواه الشيخان من حديث ابن عمر بلفظ: "تقاتلون اليهود، فتسلطون عليهم، حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر، فيقول الحجر: يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله" (ذكره في صحيح الجامع الصغير -2977).
فالحديث من حيث سنده صحيح بغير نزاع، وهو من أعلام نبوة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
وقد مضت قرون، وقارئ هذا الحديث يعجب مما تضمنه من نبأ لا ينبئ عنه الواقع الملموس لحال المسلمون وحال اليهود، نحو ثلاثة عشر قرنًا.
فقد كان اليهود في ذمة المسلمين وحمايتهم، وقد اضطهدوا في كل أنحاء العالم، ونبذهم أصحاب الملل كلها، ولم يجدوا دارًا تؤويهم وتحوطهم إلا دار الإسلام، ولم يجدوا من يحميهم ويذود عنهم وعن حريتهم الدينية والمدنية إلا المسلمين، الذين اعتبروهم أهل كتاب، وأعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، وذمة جماعة المؤمنينن، فكيف يحدث قتال بينهم وبين المسلمين؟ وكيف يقاتل الإنسان من يحميه ويعيش في كنفه؟ ومن أين لهم القوة حتى يقاتلوا المسلمين؟!.
وقد بدأ القتال بالفعل بين المسلمين واليهود، منذ اغتصبوا أرض فلسطين، وأخرجوا أهلها من ديارهم، وانتهكوا كل الحرمات، وغدا المسجد الأقصى أسيرًا في أيديهم، وهم يخططون لهدمه ؛ ليبنوا هيكلهم على أنقاضه، والمسلمون في غمرة ساهون، وفي غفلة لاهون.(2/58)
ولكننا مؤمنون بأن المعركة التي نبأ بها الحديث الصحيح قادمة لا ريب فيها، تلك المعركة التي "يسلط" فيها المسلمون على اليهود، بعد أن كانوا هم المسلطين على المسلمين، تلك المعركة التي "يقاتل المسلمون فيها اليهود، فيقتلهم المسلمون " بعد أن مضت سنون وعقود، والمسلمون يقتلهم اليهود!!.
هذه المعركة التي أخبر بها الحديث الشريف آتية لا ريب فيها، هذا ما يوقن به كل مسلم، ويترقبه كما يترقب قدوم الفجر بعد ظلام الليل.
ولكن متى؟... علم ذلك عند الله عز وجل.
قد تكون غدًا.أو بعد غد...أو بعد ما شاء الله من السنين.
المهم أن هذه المعركة، كما ينبئ بها الحديث ليست معركة وطنية ولا قومية. . . إنها معركة دينية.
إنها ليست معركة بين العرب والصهاينة كما يقال اليوم، وليست معركة بين اليهود والفلسطينيين، أو بينهم وبين السوريين أو العراقيين أو المصريين.
إنها "بين المسلمين واليهود" هذا ما جاء في الحديث بصريح العبارة، فليست معركة "فئة" من المسلمين ضد "فئة" من اليهود، بل معركة "مجموع" المسلمين، مع "مجموع" اليهود، كما يفهم من الألفاظ.
والواقع إلى اليوم أن مجموع اليهود يقاتلوننا بكل ما لديهم من طاقة، بذلوا أموالهم وهم أبخل الناس بالمال، وجادوا بنفوسهم وهم أحرص الناس على حياة، ولكنهم أخذوا الأمر جدًا لا هزل فيه، وخططوا وصمموا وأجمعوا ونفذوا. . مستمدين قوتهم من تعاليم التوراة، وأحكام التلمود.
أما نحن، فما زال الإسلام مستبعدًا من معركتنا معهم، وما زال الكثيرون منا يريدونها معركة قومية لا دخل للدين فيها، ولا صلة له بها، فهم يجتمعون تحت راية اليهودية، ونحن لا نجتمع تحت راية الإسلام، وهم يحترمون السبت، ونحن لا نحترم الجمعة، وهم يتنادون باسم موسى، ولا نتنادى نحن باسم محمد -صلى الله عليه وسلم- !.(2/59)
ولا بد أن نصارح أنفسنا: إننا إذا أردنا أن تتحقق معركة النصر الموعودة، فلا بد لنا أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا، لا بد لنا أن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به، كما قال أبو بكر لخالد.
وهذا ما نادينا به، ونادى به كل المخلصين الذين أنار الله بصائرهم، وعرفوا الطريق الصحيح والوحيد لتحرير فلسطين (انظر في كتابي: درس النكبة الثانية: لماذا انهزمنا وكيف ننتصر؟).
إن الحديث الذي بشرنا بالنصر، حدد ملامح المقاتلين الذين ينصرهم الله على اليهود من خلال نداء الحجر أو الشجر للواحد منهم، فهو يقول: "ياعبد الله، يا مسلم، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله"!.
فهو هنا ينادي "عبد الله"، أما عبد نفسه، عبد أهوائه وشهواته، عبد الدينار والدراهم، عبد المرأة والكأس، عبد الجاه والمنصب، أما هؤلاء فلن يناديهم حجر ولا شجر، بل سينادي عدوهم عليهم.
وهو هنا يقول: "يا مسلم" لا يا عربي، ولا يا فلسطيني، ولا يا أردني، ولا يا سوري، ولا يا مصري، ولا يا شامي، ولا يا مغربي، إنه يناديه بوصف واحد وعنوان واحد عرف به: إنه "مسلم".
فحين ندخل المعركة تحت شعار العبودية لله، وتحت راية الإسلام، حينذاك نرتقب النصر، وأن يكون كل شئ معنا حتى الشجر والحجر.
وهنا نتساءل: أيكون نطق الحجر والشجر بلسان المقال أم بلسان الحال؟.
والجواب: أنه لا يبعد على قدرة الله تعالى أن ينطق الحجر الأصم، وما ذلك على الله بعزيز، ويكون ذلك كرامة للمؤمنين من باب خوارق العادات، وقد رأينا في عصرنا من العجائب المذهلات، ما قرب إلينا كل ما كان يستبعده الماديون الجاحدون.
على أنه لا مانع أن يكون نطق الشجر والحجر بلسان الحال، وقد قيل: لسان الحال أفصح من لسان المقام. والكلام لغة: كل ما يفيد معنى، وإن لم يكن بطريق النطق المعتاد.(2/60)
المهم أن من كان النصر حليفه كان كل شئ يعمل لحسابه، ويدل على عدوه، حتى النبات والجماد، ومن كتب عليه الخذلان، كان كل شئ ضده، حتى السلاح الذي في يديه.
أما سؤال الأخ: هل يفهم من الحديث أن معركتنا مع اليهود ستستمر حتى قيام الساعة؟.
فالجواب: أن الصيغة لا يفهم منها ذلك بالضرورة، إنما تدل على أن الأمر الواقع بعد حرف الغاية "حتى" سيقع لا محالة ولا ريب في ذلك قبل قيام الساعة، وكلمة "قبل قيام الساعة" تمتد من بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلى أن تطوى صفحة هذا العالم، وبعبارة أخرى: إلى أن تقوم الساعة.
وقد نظرت فيما ورد بهذه الصيغة "لا تقوم الساعة حتى. . . " في كتاب صحيح الجامع الصغير، فوجدته قد أورد خمسة وعشرين حديثًا، منها ما قد وقع بالفعل، أعني ما بعد "حتى" ومنها ما لم يقع، ولا زال منتظر الوقوع.
فمما وقع: ما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ القرون قبلها، شبرًا شبرًا، وذراعًا بذراع"، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك؟" (صحيح الجامع الصغير -7408).
وتقليد الأمة لمن قبلها من الأمم، واتباعها لسننها شبرًا شبرًا، وذرعًا بذراع، قد وقع واأسفاه، وكلنا يشكو منه. .
ومنها: ما جاء في حديث أنس عند أحمد وابن حبان: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" (صحيح الجامع الصغير -7421). أي التباهي بزخرفتها وفخامتها، وهذا قد حدث منذ قرون.
ومنها: ما جاء في عدد من الأحاديث: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك. . " (صحيح الجامع الصغير -7413-، -7415-، -7416-، -7426).، وقد حدث هذا من قرون، ثم هدى الله الترك، ودخلوا في الإسلام، وأصبحوا من أعظم المقاتلين من أجل الذود عنه، وإعلاء كلمته.(2/61)
وهناك أمور تضمنتها أحاديث أخرى لم تقع بعد، مثل: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها". ويبدو أن السائل ظن أن الانتصار على اليهود، من هذا النوع المؤخر إلى قرب الساعة، ولا دليل في الحديث على ذلك.
بل المرجو - إن شاء الله - أن ذلك قريب، وقد لاحت تباشيره، وظهرت بواكيره، في الصحوة الإسلامية المرجوة لغد هذه الأمة، وفي ثورة المساجد، ثورة أطفال الحجارة، وحركة المقاومة الإسلامية الصامدة الباسلة، وفي التنادي في كل مكان بضرورة العودة إلى الإسلام، وهو ما يبشر بقرب يوم النصر (ألا إن نصر الله قريب) (البقرة: 214).(2/62)
حديث: " أكثر أهل الجنة البُلْه " هل هو صحيح؟
س: سمعت من بعض الخطباء في إحدى الجمع حديثًا استوقفني كثيرًا، ونصه كما ذكره الخطيب أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: "أكثر أهل الجنة البُلْه" أي الموصوفون بالغباء والبلاهة، لا بالذكاء والنباهة، وقد سألت بعض الأصدقاء ممن أعتبرهم أعلم مني بأمور الدين، فأكد لي أنه قرأه كذلك في "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي.
فهل هذا الحديث ثابت حقًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وكيف يتفق هذا مع ما دعا إليه الإسلام من التنويه بالعقل والعلم، حتى كانت أول آية من كتابه أنزلت على رسوله: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (العلق: 1)
بينوا لنا الحق في ذلك بارك اللّه فيكم ومد في عمركم في خدمة الإسلام.
س. ص
جـ: آفة كثير من الخطباء في مساجدنا أنهم "حاطبو ليل" فهم يأخذون الأحاديث من أي كتاب وجدوه، أو من أي مقال قرأوه، أو من أي متحدث سمعوه، دون أن يكلفوا أنفسهم معرفة مصدر الحديث، ومن أخرجه من أصحاب الكتب المعتمدة؟ ومن رواه من الصحابة؟ وما قيمته من حيث الصحة والضعف، والقبول والرد؟ وهل يصلح الاستشهاد به في هذا الموضع أو لا يصلح؟ وهل يليق ذكره لكل الناس بكل مستوياتهم أو هو لا يليق إلا بالخاصة؟
إن كثيرًا من الخطباء، بل أكثرهم يعتمدون على كتب الوعظ والتصوف، وهي تجمع الغث والسمين ولا تمحص ما تنقله، وكذلك معظم كتب التفسير.
وكثيرًا ما حضرت خطبًا للجمعة في بعض المساجد في بلاد شتى، فأصدم بعدد من الأحاديث تنسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي مردودة سندًا، مرفوضة متنًا ومعنى.
وقد ذكر العلامة ابن حجر الهيثمي الشافعي -رحمه اللّه- في "فتاواه الحديثية " وجوب الإنكار على الخطباء الذين يذكرون الأحاديث دون إضافتها إلى مخرجيها، بل الحيلولة بينهم وبين المنابر، حتى لا يفسدوا على الناس دينهم.(2/63)
على أن نسبة الحديث إلى كتاب من كتب الحديث فيما عدا الصحيحين لا يعني أن الحديث صحيح أو حسن، ما لم ينص على ذلك إمام معتبر من فرسان الحديث ونقاده، وإلا فقد يوجد فيها الضعيف، والضعيف جدًا، والموضوع، وقد نبهت على ذلك في أكثر من كتاب، وخصوصًا كتابي "ثقافة الداعية" و"كيف نتعامل مع السنة النبوية" ومقدمة "المنتقى من الترغيب والترهيب"
وتساهل بعض العلماء في رواية الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب والرقائق وفضائل الأعمال، ليس على إطلاقه، فهو مشروط بشروط ذكرها المحققون من العلماء، وهي:
1ـ ألا يكون الحديث ضعيفًا جدًا.
2ـ وأن يكون مندرجًا تحت أصل كلي من أصول الشرع.
3ـ وألا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.
4ـ وألا يقول فيه: قال رسول اللّه بصيغة الجزم بل يذكر صيغة تدل على التضعيف، مثل روي، وحكي ونحوها.
وقد أضفت بعض القيود إلى هذه الشروط، في كتبي الثلاثة المذكورة يحسن بالخطباء والدعاة أن يرجعوا إليها.
أما الحديث المذكور "أكثر أهل الجنة البُلْه" فقد ذكره الإمام الغزالي في "الإحياء" مستشهدًا به في أكثر من موضع، والغزالي وإن كان بحرًا زاخرًا، وإمامًا يشار إليه بالبنان في العلوم، مثل فقه الشافعي، وأصول الفقه والفلسفة، وعلم الكلام والتصوف. ولكنه كما قال عن نفسه -رضي اللّه عنه- منصفًا: إن بضاعته مزجاة في علوم الحديث، وكان هو طابع المدرسة الفكرية التي نشأ فيها، ولذا تضمن كتابه بل موسوعته "إحياء علوم الدين" كثيرًا من الأحاديث الواهية والمنكرة، بل الموضوعة، والتي لا أصل لها.
وقد قال الحافظ زين الدين العراقي الذي خدم " الإحياء " بتخريج أحاديثه، قال في تخريج حديث " أكثر أهل الجنة البله"(2/64)
ومن حق الأخ السائل أن يتوقف في قبول هذا الحديث من ناحية معناه، فهو يتعارض مع ما دعا إليه الإسلام في كتابه وسننه، من التنويه بالعقل والذكاء والفكر والعلم، والإشادة بأولي الألباب وأولي النهى، والذين يعقلون ويعلمون ويتفكرون، وقد تكرر ذكر "أولي الألباب" في القرآن ست عشرة مرة.
إن القرآن الكريم وصف أهل الجنة في أكثر من موضع بأنهم من "أولي الألباب" أي أصحاب العقول والذكاء، كما قال تعالى: (إن في خَلْق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون اللّه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فَقنا عذاب النار. . . ) إلى أن قال في شأن هؤلاء: (لأكَفِّرَنّ عنهم سيئاتهم ولأُدْخِلَنَّهُم جَنّات تَجْرِي من تحتها الأنهار. . . ) (آل عمران: 190 - 195).
وفي سورة أخرى: (أفَمَنْ يعلم أنما أُنْزل إليك من ربك الحق كَمَنْ هو أعمى إنما يَتَذَكَّرُ أولو الألباب. الذين يُوفُون بِعَهْدِ اللّه ولا يَنقُضُون الميثاق)
وبعد سرد جملة أوصاف وفضائل لهؤلاء الناس " أولو الألباب " يقول في جزائهم: (أولئك لهم عُقْبَى الدار. جنات عَدْن يدخلونها ومن صَلَح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. . . . ) (الرعد: 19 - 23).
وفي سورة أخرى ذكر القرآن الخاسرين يوم القيامة من أهل الكفر وما فوقهم وما تحتهم من ظلل من النار، ثم ذكر في مقابلهم أهل الجنة، فقال: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البُشْرى فَبَشِّرْ عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنهُ أولئك الذين هداهمُ الله وأولئك هم أولو الألباب) (الزمر: 17، 18).
وإذا كان أهل الجنة عمومًا هم (أولي الألباب) فإن أهل النار، كما صورهم القرآن هم أهل الغباء والجهل والغفلة، وليس كما يوحي به مفهوم ذلك الحديث. فما دام أكثر أهل الجنة البلهاء، فإن أكثر أهل النار العقلاء والأذكياء!(2/65)
الحق أن القرآن يكشف لنا عن الجانب العقلي لأهل النار، بأنهم أغبياء عطلوا الأجهزة التي منحهم الله إياها من الأفئدة والأسماع والأبصار، ولهذا انحطوا إلى درك صاروا به أضل سبيلاً من البهائم العجماوات.
يقول تعالى: (ولقد ذَرَأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوبُ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعونَ بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الأعراف: 179).
ويحدثنا القرآن عن أصحاب جهنم حين يلقون فيها، فيسمع لها شهيق وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ على من يدخلها من الملاحدة والمشركين والضالين، يقول القرآن حاكيًا عن أهل النار (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير) (الملك: 10، 11).
إن أغبى الناس وأجهلهم حقًا هم من انتهى بهم غباؤهم إلى النار وبئس المصير، وأي صفقة أخسر من دخول النار؟!
وإن أذكى الناس وأعلمهم وأعقلهم حقًا هم الذين انتهى بهم ذكاؤهم إلى الجنة، وأي صفقة أربح من دخول الجنة؟!
على أن الحديث مع ضعفه تعارضه أيضًا أحاديث أخرى، مثل: "المؤمن كيس فطن"
رواه الديلمي والقضاعي عن أنس مرفوعًا وهو ضعيف (انظر: كشف الخفاء للعجلوني، حديث (2683). والعجيب أن كلا الحديثين المتعارضين مروي عن أنس رضي الله عنه!
والدليل على فطنة المؤمن وحذره الحديث الصحيح المتفق عليه: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " (رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع الصغير (7779).(2/66)
بقي أن أذكر أن الغزالي ومن تبعه حين يذكرون هذا الحديث يؤولونه بأن المراد بهؤلاء " البله " الذين لا يعنيهم أمر الدنيا، ولا يجعلونها أكبر همهم ولا مبلغ علمهم، فهم في أمر الدنيا بلهاء، وفي أمر الآخرة أذكياء، وقد قال بعض السلف: أدركنا أناسًا لو رأيتموهم لقلتم: مجانين! ولو رأوكم لقالوا: شياطين! بخلاف أكثر الخلف الذين كانوا في أمر الآخرة أغبياء بل بلهاء، وفي أمر الدنيا في غاية النباهة والذكاء! وفي مثلهم يقول الشاعر:
أبُنيّ، إن من الرجال بهيمة
في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله
وإذا أصيب بدينه لم يشعر
وقد وصف الله بعض الناس بقوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (الروم: 6، 7).
فاعتَبَر علمهم بظاهر الحياة الدنيا دون النفاذ إلى باطنها وأعماقها، كَلاَ علم، فهو علم أشبه بالجهل.
وقد قال العلامة المناوي في شرح الحديث: (البُلْه الذين خلوا من الدهاء والمكر وغلبت عليهم سلامة الصدر، وهم عقلاء، أو البليد في أمور الدنيا دون الآخرة) (التيسير في شرح الجامع الصغير للمناوي 1/ 199).
ولكن هذا التأويل إنما يقبل لو صح الحديث، أما وهو غير صحيح ولا حسن، فلا معنى لتأويله.
وقد ضلل لفظه كثيرًا من عامة المسلمين، فأصبحوا يعتقدون في أن كثيرًا من البلهاء والمجاذيب وأشباه المجانين العاطلين، حول الأضرحة والمزارات أولياء لله! وغدوا ينسجون حولهم أساطير وحكايات، ويضيفون إليهم خوارق وكرامات، جلها -إن لم يكن كلها- من نسج الخيال، أو افتراء الدجالين.(2/67)
على أن البلاهة في أمر الدنيا التي ذكرها الإمام الغزالي وغيره، مرفوضة في نظرة المنهج الإسلامي، الذي يقوم على التوازن بين الدنيا والدين، والمزج بين الروح والمادة، والتوافق بين العقل والقلب، وهذه هي الوسطية التي جاء بها الإسلام الصحيح، وهذا ما كان عليه الصحابة ومن تبعهم بإحسان في خير القرون، فقد كانوا أهل دين لا ينعزل عن الدنيا، وأهل دنيا لا تنفصل عن الدين.
والحمد لله رب العالمين.
كلمة (النظافة من الإيمان)
هل هي حديث؟
س: شاعت بين المسلمين هذه الكلمة: (النظافة من الإيمان) وتوارثتها الأجيال بعضها عن بعض، وظنها الكثيرون حديثًا مأثورًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن بعض الإخوة من المطلعين على الكتب الدينية، قال: إنها ليست بحديث، ولم يقل ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فهل ما قاله هذا الأخ صحيح؟ وإذا لم تكن هذه الكلمة حديثًا نبويًا، فهل هي متفقة مع ديننا الإسلامي الحنيف؟ وما دليل ذلك من الشرع الشريف؟
أفيدونا أفادكم الله.
جـ: هذه الكلمة (النظافة من الإيمان) بهذا اللفظ لم ترد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أعلم، بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف.
ولكن روى الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود مرفوعًا: " تخللوا فإنه نظافة، والنظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة" أورده الهيثمي في (مجمع الزوائد) جـ 1 / ص 632 وذكر أن في إسناده إبراهيم بن حبان. قال ابن عدى: أحاديثه موضوعة.
وقال الألباني في (غاية المرام): ضعيف جدًا.
ولكن من المؤكد أن معنى هذه الكلمة صحيح، وهو مقتبس من نصوص صحيحة أخرى.
ففي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " الطهور شطر الإيمان " (رواه أحمد ومسلم، واليرمذي، كما في الجامع الصغير، وهو من أحاديث الأربعين النووية الشهيرة).(2/68)
والطهور -بضم الطاء- هو الطهارة، والطهارة في الإسلام تشمل الطهارة المعنوية من رجس الكفر والمعصية والرذيلة، كما تشمل الطهارة الحسية، وهي تعني: النظافة، وهي شرط لصحة الصلاة، سواء كانت الطهارة من الحدث بالوضوء والغسل، أم من الخبث؛ بالتنظيف المناسب، وهي طهارة الثوب والبدن والمكان.
ولهذا كان (باب الطهارة) أول ما يدرس في الفقه الإسلامي؛ لأنه مدخل ضروري للصلاة، فمفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور.
وفي الحديث الصحيح: " لا يقبل الله صلاة بغير طُهور " (رواه مسلم، وابن ماجه عن ابن عمر، وابن ماجه عن أنس وأبي بكرة، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن والد أبي المليح).
وقد أثنى القرآن الكريم على أهل قباء لحرصهم على التطهر وحبهم له، فقال تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين) (التوبة: 108).
وقال تعالى في سياق التطهر بعد الحيض: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (البقرة: 222).
ومن درس السنة النبوية وجد فيها حشدًا من الأحاديث الصحاح والحسان، تحث على النظافة في كل المستويات: نظافة الإنسان، ونظافة البيت، ونظافة الطريق.
وفي نظافة الإنسان أمرت بغسل يوم الجمعة، حتى عُبر عنه في بعض الأحاديث بلفظة واجب: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" (رواه مالك، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي سعيد).
وفي حديث آخر: "حق لله على كل مسلم في كل سبعة أيام: يوم يغسل فيه رأسه وجسده " (متفق عليه عن أبي هريرة).
ويتأكد ذلك إذا وجدت أسبابه من العرق والوسخ ونحوه، حتى لا يكون مصدر إيذاء لمن يخالطه.(2/69)
وأكدت السنة وشددت على أجزاء معينة من الجسم تحتاج إلى عناية خاصة مثل الفم، والأسنان، ومن ثم كان الأمر بالسواك وتأكيد استحبابه، وقال فيه -عليه الصلاة والسلام-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " (رواه مالك، وأحمد، والشيخان، واليرمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة وأحمد، وأبو داود، والنسائي عن زيد بن خال الجهنمي). أي أمر إيجاب وإلزام.
وقال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" (رواه الشافعي عن أبي بكر، والشافعي، وأحمد، والنسائي، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عن عائشة، وابن ماجه عن أبي أمامة، والبخاري في التاريخ، والطبراني في الأوسط عن ابن عباس، كما في صحيح الجامع الصغير).
ومن ذلك: نظافة الشعر، وفيه جاء الحديث: "من كان له شعر فليكرمه" (أبو داود عن أبي هريرة كما في صحيح الجامع الصغير).، وعن جابر بن عبد الله، قال: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زائرًا في منزلنا فرأي رجلاً شعثًا قد تفرق شعره، فقال: " أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره؟ "! ورأي رجلاً آخر، وعليه ثياب وسخة، فقال: "أما كان يجد هذا ما يغسل به ثيابه؟! " (أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم).
وتكميلاً لذلك جاءت الأحاديث بما عرف باسم (سنن الفطرة) التي تدل رعايتها على مدى حرص الإنسان على النظافة والتجمل، والمحافظة على نعمة الصحة والزينة، وتشمل: تقليم الأظافر، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك. وهي في الصحيحين.
ومما عنيت السنة بنظافته: البيت، فلا بد من تنظيفه من كل الأقذار والأخباث التي يسوء منظرها، ويضر مخبرها.(2/70)
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن سعيد بن المسيب قال: "إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود" (رواه اليرمذي في الأدب، باب ما جاء في النظافة، وقال: غريب وضعفه الألباني في غاية المرام، ص 89، لكنه استثنى قوله: " فنظفوا أفنيتكم " بأن له طريقًا أخرى عن سعد بإسناد حسن).
ومثل ذلك: نظافة الطريق، ومن الأحاديث الشهيرة التي يكاد يحفظها جميع المسلمين: " إماطة الأذى عن الطريق صدقة " (متفق عليه عن أبي هريرة، وهو جزء من الحديث).
ومما حذرت منه السنة أشد التحذير: التخلي في الطريق، ومواضع الظل، وقد جعله مما يجلب اللعنة على صاحبه، سواء لعنه الله أم لعنه الناس فقال عليه الصلاة والسلام:
(اتقوا اللاعنين: الذي يتخلى في طريق الناس، وفي ظلهم" (رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود عن أبي هريرة).، وفي حديث آخر: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل" (رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي عن معاذ، وحسنه في صحيح الجامع الصغير).
وبهذا سبقت السنّة بالحث على حماية البيئة من التلوث.
ومثل ذلك البول في الماء الراكد أو الجاري، وفي الحديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه" (متفق عليه عن أبي هريرة).
كما حثت السنة على العناية بالطعام والشراب، وحمايتهما من أسباب التلوث. . . وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "إذا نمتم فأطفئوا المصباح، وأغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية -اربطوا قرب الماء- وخمروا الشراب " (رواه أحمد، والطبراني، والحاكم عن عبد الله بن سرجس، كما في صحيح الجامع الصغير).، " أغلقوا أبوابكم، وخمروا آنيتكم -غطوها- وأطفئوا سرجكم، وأوكئوا أسقيتكم " (أحمد، ومسلم، وأبو داود، واليرمذي عن جابر، كما في صحيح الجامع الصغير).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الإمام رشيد رضا وحديث سحر النبي -صلى الله عليه وسلم-(2/71)
س: أنا طالب علم يحب أن يستزيد من المعرفة، ويعطي العلماء حقهم من التقدير والتوقير، وخصوصًا الذين كان لهم حظ وافر في تنوير العقول، وإيقاظ الوعي الإسلامي، وتحريك الهمم والعزائم، للنهوض بالأمة الإسلامية، وإخراجها من حالة الجمود والموات التي ظلت عليها مدة طويلة في الأزمنة الأخيرة.
ومن هؤلاء العلامة السيد رشيد رضا، وقد كنا نعده من دعاة السلف، ومن المدافعين عن السنة، والمقاومين للبدع والضلالات، ولكن علمت أخيرًا أنه كذب حديثًا من أحاديث صحيح البخاري، وهو من حديث سحر اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم- تبعًا لشيخه الشيخ محمد عبده، الذي وافق المعتزلة في إنكاره لهذا الحديث.
ومن قراءتي لكتبكم لمست أنكم من المعجبين بالشيخ رشيد رضا -رحمه الله- فما تفسيركم لهذا الموقف منه؟ وقبل ذلك هل هذا هو موقفه من الحديث فعلاً؟ وكيف يعتبر إمامًا في الدين من ينكر أحاديث الصحيحين أو أحدهما؟
أرجو بيان ذلك تفصيلاً، بارك الله في جهودكم وأيدكم بتوفيقه.
طالب علم
جـ: شكر الله للأخ السائل حسن تأنيه وتثبته فيما ينقل إليه، وحرصه على المعرفة، ورغبته في الاستزادة من العلم، فقد قال الله تعالى لرسوله: (وقل رب زدني عِلْمًا) (طه: 114).
وشكر الله له كذلك تقديره وتوقيره للرجال الكبار، الذين قاموا بدور بارز في إحياء هذه الأمة، وتجديد دينها، وإيقاظ وعيها، فهذه فضيلة طيبة يجب أن يثبت عليها، ويعض عليها بالنواجذ، فإني أرى كثيرين -للأسف- لا همَّ لهم إلا هدم القمم، وتشويه الأبطال والعظماء، في تراثنا وفي حاضرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وشكر الله له بعد ذلك حسن ظنه بي، وأرجو أن أكون أهلاً لذلك، وأن أقول كلمة إنصاف في شأن الشيخ رشيد -رحمه الله- وجزاه عن دينه وأمته خيرًا.(2/72)
وأنا لا أنكر أني من أشد المعجبين بالشيخ رشيد، وأعتبره أحد مجددي الإسلام، وواحدًا من أعلامه الراسخين في العلم، المستقلين في الفكر، المجتهدين في الدين، وقد كان لمجلته "المنار" وتفسيره، وكتبه، وفتاويه، أثر لا يجحد في تنبيه الأمة الإسلامية من غفلتها، وتحريرها من أغلال التقليد التي وضعتها في أعناقها، والعمل على إعادتها إلى الينابيع الصافية من كتاب ربها وسنة نبيها، وهدى سلفها الصالح في خير القرون، وتنقية الدين مما شابه وعلق به على مر العصور، من البدع والزوائد والانحرافات التي كدرت صفاءه، ولوثت نقاءه، والدعوة إلى الإسلام، بوصفه عقيدة وشريعة وحضارة.
فهو في طليعة دعاة السلفية، وأنصار السنة المحمدية، الذين أحيوا علوم السلف ونوهوا بها، وناصروا المدرسة السلفية بالعقل والنقل، وبالبينات التي تخاطب العقل المعاصر، وبالحجج التي تدحض شبهات الخصوم، وافتراءات الأعداء، وتدعو إلى الإسلام في شمول وتكامل وتوازن، كما أنزله الله في كتابه، وبعث به رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ولا يعني هذا أن الشيخ رشيدًا مبرأ من كل عيب أو معصوم من كل خطأ، فهذا ما لم يقله عن نفسه، وما لا نقوله نحن عنه. وقد عاش عمره يحارب الذين يقدسون شيوخهم إلى حد يكاد يجعلهم معصومين لا يخطئون في قول أو فعل.
وأحب أن أبادر فأقول للأخ السائل الكريم: هب أن الإمام المجدد السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله- هفا هذه الهفوة التي تذكرها، وهي إنكاره لحديث من أحاديث الصحيحين أو أحدهما، وانتقاده لسنده أو متنه، فهل يوجب هذا أن نجحد فضله، ونعزله عن منصب الإمامة في الدين، والاجتهاد فيه لزلة يزلها فكره وقلمه، أو لعثرة تنزلق فيها قدمه؟! وأي امرئ يسلم من العثرات؟ وأي عالم تخلو صفحته من زلات؟
وقديمًا قيل: لكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة.
وقالوا: الكامل من عدت سقطاته، وأحصيت زلاته.
وقال الشاعر العربي:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها(2/73)
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
الأمر المهم في ذلك ألا يكون ردّه للحديث المروي في الصحيح لهوى متبع، سواء كان هوى النفس أم هوى الغير، ممن حذر الله منهم في مثل قوله: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتَّبِعْها ولا تَتَّبِع أهواء الذين لا يعلمون) (الجاثية: 18).
وقال تعالى: (ومن أضَلُّ ممن اتبَّعَ هواه بغير هُدًى من الله) (القصص: 50).
وكم رأينا من الأئمة المتبوعين والمقبولين في الأمة من رد حديثًا ثابتًا عند غيره ولم يثبت عنده؛ لعلة رآها. وربما روي هذا الحديث بعد في أحد الصحيحين أو في كليهما. ولم ينقص هذا من قدر هؤلاء، ولم يخدش من إمامتهم شيئًا.
وقد رأينا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ترد بعض الأحاديث التي تسمعها من بعض الصحابة، حين رأتها تخالف القرآن في رأيها، أو تخالف ما سمعته هي من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يزدها هذا إلا فضلاً ورفعة عند الأمة.
ثم إنه لا يجوز أن يقال فيمن رد حديثًا أو حديثين من البخاري أو مسلم أو كليهما: إنه رد أحاديث الصحيحين أو كذبهما، فهذا تصوير غير صحيح للقضية، واتهام في غير موضعه.
هذا كله من ناحية المبدأ أو الشكل، أما من ناحية الموضوع، فإن الشيخ رشيدًا لم يكذب الحديث المروي في السحر ولم ينكره، تبعًا لشيخه الإمام محمد عبده، فقد كان السيد رشيد رغم إعجابه بعبقرية شيخه وإيمانه بقوة دينه وحبه لله ولرسوله مستقلاً في تفكيره واجتهاداته، وقد استفاد من عقلانية شيخه، وثورة فكره، ولكنه ضبطها بتبحره في السنة وتراث السلف.(2/74)
والناظر في شخصيات المدرسة التجديدية الإحيائية الإسلامية التي بدأت بجمال الدين الأفغاني، يجد أن أولها وهو السيد جمال الدين كان أكثرها انطلاقًا، وأقلها انضباطًا بقيود الشرع وضوابط الكتاب والسنة، فقد كان أقلهم حظًا من التبحر في علوم الشريعة ومصادرها، ونجد تلميذه وصديقه الأستاذ الإمام محمد عبده أقرب إلى الالتزام والانضباط منه؛ لأنه أكثر علمًا بالشرع، وأكثر تبحرًا في معارفه بحكم تكوينه الأزهري الأصيل، ونجد تلميذ الأستاذ الإمام رشيد رضا أكثر التزامًا، وانضباطًا من شيخه، وشيخ شيخه من باب أولى.
فقد أتيح له أن يطلع على آثار المدرسة السلفية التجديدية الكبرى المتمثلة في شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه، ومن خلالها اطلع على التراث السلفي الضخم، واستطاع أن ينهل منه، وينتفع به في دعوته للإصلاح والتجديد. فالسيد جمال الدين أقرب إلى عقلية «الفلاسفة»، أعني فلاسفة المدرسة المشائية الإسلامية من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا، وغيرهم.
والإمام محمد عبده أقرب إلى عقلية المتكلمين من أمثال الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم.
والسيد رشيد أقرب إلى عقلية «فقهاء المحدثين» الجامعين بين المعقول والمنقول، أمثال الإمام محمد بن إدريس الشافعي وابن دقيق العيد، وابن تيمية وابن القيم وابن الوزير وأمثالهم.
وقول السائل: إن الشيخ محمد عبده أنكر حديث السحر، تبعًا للمعتزلة في ذلك، غير مسلَّم على إطلاقه.
فليس المعتزلة وحدهم هم الذين أنكروا حديث السحر، فقد أنكره بعض أهل السنة أيضًا، مثل الإمام أبي بكر الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، صاحب كتاب: "أحكام القرآن" وبعض المتكلمين.
ولكن جمهور علماء أهل السنة أثبتوا الحديث، لروايته من طرق صحيحة، وكان لهم في توجيهه تأويلات شتى، كلها تؤكد عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنفي عنه ما لا يليق به، كما حفلت بذلك كتب الشروح.(2/75)
ولم يخرج صاحب المنار السيد رشيد عن خطهم في الجملة، بل أثبت الحديث، وأوله التأويل اللائق بمنصب النبوة، ومقتضى العصمة.
نص الحديث وكلام الشراح عليه:
ويحسن بنا أن نسوق نص الحديث كما رواه البخاري، ونسوق رأي بعض الشراح فيه، ثم نختم برأي الشيخ رشيد الذي خطه بقلمه في تفسير سورة "الفلق" ورده فيه على من اتهمه بتكذيب البخاري.
قال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله (في رواية البخاري من حديث في باب هل يستخرج السحر حديث (5765) من طريق ابن عيينة أن عائشة قالت: " حتى كان يرى أنه يأتي نساءه ولا يأتيهن "، وهو تفسير وبيان لما أجمل وعمم في هذه الرواية). حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما اسفتيته فيه (أي أجابني فيما دعوته فيه). ؟ أتاني رجلان ( في رواية عند أحمد والطبراني: أتاني ملكان). فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب مطبوب: أي مسحور، يقال: طب بضم الطاء إذا سحر كنوا عن الطب تفاؤلاً. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مُشْط (المشط: معروف وهو ما يسرح به شعر الرأس أو اللحية). ومُشاطة (المشاطة: ما يخرج من الشعر الذي يسقط من الرأس إذا سرح بالمشط، وكذا اللحية). كما قال ابن قتيبة. وجف طَلْع نخلة ذكر (وهو الغشاء الذي يكون على الطلع). قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروانَ". فأتاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناس من أصحابه. فجاء فقال: " يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء (أي أن لون مائها أحمر كالماء الذي ينقع فيه الحناء). وكأن(2/76)
رءوس نخلها رءوس الشياطين (تشبيه يراد منه التقبيح ؛ لأن كل ما ينسب إلى الشيطان مستقبح شرعًا وعرفًا). ". قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: " قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًا ". فأمر بها فدفنت (أخرجه البخاري في: كتاب الطب. باب السحر. حديث (5763). البخاري المطبوع مع الفتح. ط دار الفكر ببيروت، المصورة عن السلفية بالقاهرة).
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في " الفتح":
قوله " باب السحر " قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان:
أحدها: ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئًا فقد سحر، ومنه قول الأطباء: الطبيعة ساحرة، ومنه قوله تعالى: (بل نحن قوم مسحورون" (الحجر: 15). أي مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث "إن من البيان سحرًا"، وسيأتي قريبًا في باب مفرد.
الثاني: ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (يُخَيَّل إليه من سِحْرِهم أنها تَسْعَى) (طه: 15). وقوله تعالى: (سحروا أعين الناس) (الأعراف: 116). ومن هنا سموا موسى ساحرًا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية بالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغناطيس.
الثالث: ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة قوله تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يُعَلِّمُون الناس السحر) (البقرة: 102).
الرابع: ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها بزعمهم.
قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب، فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب وهي سرقسطة فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بعضهم بين الأمرين الأخيرين، كالاستعانة بالشياطين، ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم.(2/77)
قال أبو بكر الرازي في "الأحكام" له: كان أهل بابل قومًا صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة، ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانًا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم -عليه السلام- وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب، لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم.
ثم السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها، ويطل ق ويراد به فعل الساحر، والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقي والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصور على صورة المسحور، وتارة بجمع الأمرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ.
واختلف في السحر فقيل: هو تخييل فقط ولا حقيقة له، وهذا اختيار أبى جعفر الاسترباذى من الشافعية، وأبي بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري وطائفة.
قال النووي: والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عليه أولاً؟ فمن قال: إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال: إن له حقيقة اختلفوا: هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعًا من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلاً وعكسه؟
فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني. فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل خلاف، فإن كثيرًا ممن يدعى ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه.
وقال الخطابي: إن قومًا أنكروا السحر مطلقًا، وكأنه عنى القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة.(2/78)
وقال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر، وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق، أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى الضار منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعًا.
وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله(يُفَرِّقُون به بين المرء وزوجه) (البقرة: 102). لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره.
وقال المازري: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصًا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك، ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم الساحر بما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبًا اتفاقًا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي.
ونقل النووي في زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك، وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكًا بالشريعة، متجنبًا للموبقات، فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر؛ لأنه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين.
وقال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة، وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون:
(وجاءوا بِسِحْرٍ عظيم) (الأعراف: 116).(2/79)
مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالاً وعصيًا. ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانًا أو عكسه بسحر الساحر ونحو ذلك.
قوله: " سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم " ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم " سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- من يهود بني زريق حليف اليهود وكان منافقًا "، ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقًا نظر إلى ظاهر أمره.
وقال ابن الجوزي: هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقًا وهو واضح، وقد حكى عياض في " الشفاء " أنه كان أسلم.
ويحتمل أن يكون قيل له يهودي؛ لكونه كان من حلفائهم، لا أنه كان على دينهم. وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وإخاء وود، فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرءوا منهم.(2/80)
قوله: " حتى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله " قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحطّ منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أ ن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، وقال المازري: وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يتعرض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس: إن المراد بالحديث أنه كان -صلى الله عليه وسلم- يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن، وهذا كثير ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت القائل ابن حجر: وهذا قد ورد صريحًا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا، ولفظه:
" حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن " وفي رواية الحميدي " أنه يأتي أهله ولا يأتيهم، قال الداودي: " يُرَى " بضم أوله أي يظن، وقال ابن التين: ضبطت " يرى " بفتح أوله، قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن. وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق " سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عائشة حتى أنكر بصره " وعنده في مرسل سعيد بن المسيب " حتى كاد ينكر بصره".
قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده.(2/81)
قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد " فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيًا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله". قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح"
وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك. وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سباق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن "المعقود " (المعقود: ويسمى عرفًا المربوط، وهو من حبسه السحر عن القدرة على الاتصال بزوجته). ويكون قوله في الرواية الأخرى " حتى كاد ينكر بصره " أي صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأي الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار: أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر به.
وقال المهلب: صون النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانًا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: " أما أنا فقد شفاني الله"، وفى الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل: " فكان يدور ولا يدرى ما وجعه"، وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: " مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- وأُخِذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان" الحديث.(2/82)
قوله: "وهو عندي لكنه دعا ودعا" كذا وقع، وفي الرواية الماضية في بدء الخلق "حتى كان ذات يوم دعا ودعا"، وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث. قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا الاستداراك من قولها "عندي" أي لم يكن مشتغلاً بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل، أي كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث إنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم.
ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: " فدعا، ثم دعا، ثم دعا" وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثًا. وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد: فرأيته يدعو.
قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك.
قلت القائل ابن حجرـ: سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته، جنح إلى التداوي، ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال.
قوله: " قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته" في رواية أبي أسامة، " فقال: لا " ووقع في رواية ابن عيينة أنه استخرجه، وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب.
قوله: " فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًا " في رواية الكشميهي: " سوءًا " ورفع في رواية أبي أسامة " أن أُثَوِّر " بفتح المثلثة وتشديد الواو وهما بمعنى، والمراد بالناس التعميم في الموجودين.
قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررًا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة.(2/83)
ووقع في رواية ابن نمير " على أمتي " وهو قابل أيضًا للتعميم؛ لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة وعلى ما هو أعم، وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد ابن الأعصم؛ لأنه كان منافقًا فأراد -صلى الله عليه وسلم- ألا يثير عليه شرًا؛ لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام، ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضًا في رواية ابن عيينة، وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرًا.
نعم، وقع في حديث عمرة عن عائشة، فقيل: يا رسول الله لو قتلته، قال: "ما وراءه من عذاب الله أشد "، وفي رواية عمرة: " فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعترف فعفا عنه"، وفي حديث زيد بن أرقم: " فما ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك اليهودي شيئًا مما صنع به ولا رآه في وجهه".
وفي مرسل عمر بن الحكم: " فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير ".
وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتله.
وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضًا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله، ومن ثم حكى عياض في " الشفاء " قولين: هل قتل، أم لم يقتل؟
وقال القرطبي: لا حجة على مالك (أي في قوله بقتل الساحر). من هذه القصة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس من الدخول في الإسلام، وهو من جنس ما رعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- من منع قتل المنافقين حيث قال: " لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (الحديث (5763) فتح الباري 10/221 232).
هذا بعض ما ذكره الشراح حول حديث سحر اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبين مدى ما أثاره الحديث من استشكالات، ومدى اهتمام العلماء بمواجهتها ببينات النقل والعقل.
فلا عجب أن يكون هذا الحديث مثار اهتمام لدى العقل الحديث، وخصوصًا بعد التقائه بعقول الآخرين، وتعرفه على أفكارهم.(2/84)
ومن هنا تكلم فيه العلامة رشيد رضا، لا كلام النافي له أو المكذب، بل كلام من يصدق به ويؤوله أحسن تأويل، يقنع أهل العقل والنظر ولا يرده أهل النقل والأثر.
وإليك ما ذكره في نهاية تفسير سورة الفلق، من قصار السور تحت عنوان: علاوة لتفسير السورة في حديث سحر منافق من أشرار اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد أن ذكر رواية الشيخين للحديث من طريق عائشة -رضي الله عنها- وهي التي أوردناها من قبل أشار إلى الرواية الأخرى، حيث قال: وفي رواية الشيخين: كان -صلى الله عليه وسلم- سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن بنحوه، وفيه: سحره رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقًا (بنو زريق بطن من الخزرج فهو على هذه الرواية يهودي بالحلف لا بالنسب).، وعن زيد بن أرقم سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل من اليهود فاشتكى لذلك أيامًا فأتاه جبريل، فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا فأرسل -صلى الله عليه وسلم- فاستخرجها فحلها فقام كأنما أنشط من عقال فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط. رواه النسائي. والأيام جمع قلة، ولكن بالغ بعض الرواة في غير الصحيحين فجعلوها أشهرًا.(2/85)
قال السيد رشيد: فهذا الحديث صريح في أن المراد من السحر فيه خاص بمسألة مباشرة النساء، ولكن فهم أكثر العلماء أنه -صلى الله عليه وسلم- سحر سحرًا أثر في عقله، كما أثر في جسده. فأنكره بعضهم، وبالغوا في إنكاره، وعدوه مطعنًا في النبوة، ومنافيًا للعصمة؛ لقول عائشة: حتى إنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء، ولم يكن فعله. فعظمت هذه الرواية على علماء المعقول، وعدوها مخالفة للقطعي في النقل، وهو ما حكاه اللّه تعالى عن المشركين من طعنهم فيه كعادة أمثالهم في رسلهم بقولهم: (إن تتبعون إلا رجلاً مسحورًا) وتفنيده تعالى لهم بقوله: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً) (الفرقان: 8،9). ومخالفة للقطعي في العقل من عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- من كل ما ينافي النبوة والثقة بها؛ إذ يدخل في ذلك التخييل ما هو من التشريع، ومخالفة لعلم النفس الذي يعلم منه أن الأنفس السافلة الخبيثة لا تؤثر في الأنفس العالية الطاهرة، فأنكر صحة الرواية بعض العلماء، وأقدم من عرفنا ذلك عنهم من المفسرين الفقهاء: أبو بكر الجصاص في كتابه" أحكام القرآن " وآخرهم: شيخنا الأستاذ الإمام في تفسير" جزء عم "(2/86)
وقد أطال شيخنا في هذا وبالغ فيه. وبنى إنكاره له على القاعدة المتفق عليها عند علماء العقائد وأصول الفقه في معارضة الظني للقطعي، إذ الحديث آحاد، وهو يفيد الظن، فيرد بالقطعي عقلاً ونقلاً، وهو ما ذكرناه آنفًا، وقد اتفقوا على أن أحاديث الآحاد لا يحتج بها في أصول العقائد. وقال: إن كونه يفيد الظن خاص بمن صح عنده، وإن له أن يتأوله أو يفوض الأمر فيه، على قاعدتهم الأخرى في النصوص المعارضة للعقل. ولعمري إن ما نعرفه عن شيخنا محمد عبده -قدس اللّه روحه- من إجلاله وإكباره لشأن محمد رسول اللّه وخاتم النبيين في نفسه الزكية، وروحه القدسية، وعلو مداركه العقلية، مما لم نعرف مثله عن أحد من العلماء العقليين كفلاسفة المسلمين ومتكلميهم، ولا من العلماء الروحيين كالصوفية، ولا من علماء النقل كجامعي الروايات الكثيرة في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- وحسبك منها تلك الآثارة البليغة في رسالة التوحيد، بل كان يقول: إن روحه -صلى الله عليه وسلم- كانت منطوية على جملة هداية الدين ومدارك التشريع التي فصلت في كتاب اللّه تعالى وسنته تفصيلاً تامًا، كما نقلناه عنه في تاريخه.
وأجاب عن الرواية المحدثون المصححون لها علمًا والمقلدون لهم بأن غاية ما تدل عليه: أن ذلك السحر إنما أثر في بدنه دون روحه وعقله، فكان تأثيره من الأعراض الجسدية، كالأمراض التي لم يعصم الأنبياء عليهم السلام منها.(2/87)
وقد محصت هذه المسألة مرارًا آخرها في الرد على مجلة الأزهر" نور الإسلام " في زعمها المفترى أنني كذّبتُ حديث البخاري في سحر النبي -صلى الله عليه وسلم-فبينت: أن الحديث الصحيح في المسألة عن عائشة -رضي الله عنها- توهم عبارة بعض رواياته ما هو أعم من المعنى الخاص الذي أرادته منه، وهو مباشرة الزوجية بينه -صلى الله عليه وسلم- وبينها، فقولها: كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله كناية عن هذا الشيء الخاص، لا عام في كل شيء، فلا يدخل فيه شيء من أمور التشريع، ولا غير غشيان الزوجية من الأمور العقلية، أو الأمراض البدنية، فضلاً عما كان يريده الذين يرمون الأنبياء بسحر الجنون؛ لأن أمورهم فوق المعقول عند أولئك الكافرين، فالمسألة محصورة فيما يسمونه حتى الآن " الربط " أو
" العقد " أي عقد الرجل المانع من مباشرة زوجته فقط.
وبينت أيضًا: أن الرواية في أصح أسانيدها عند الشيخين عن هشام عن أبيه عن عائشة فيها علة من علل الحديث الخفية التي يشترط في صحة الحديث السلامة منها، وهي أن بعض منكري الحديث أعلوه بهشام هذا، وألف بعضهم كتابًا خاصًا فيه، محتجًا بقول بعض علماء الجرح والتعديل: إنه كان في العراق يرسل عن أبيه عروة بن الزبير ما سمعه من غيره، وعروة هو راوية عائشة الثقة، وهي خالته. وقال ابن خراش: كان مالك لا يرضاه، يعني هشامًا، وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغير قبل موته. ولا شك أن تعديل الجماعة له ومنهم الشيخان خاص بما رواه قبل تغيره، فهذا عذر من طعن في روايته لهذا الحديث الذي أنكروا متنه بما علمت، والأمر فيه أهون مما قالوا (راجع تفصيل المسألة في: كتاب المنار والأزهر ص 95 -105). فالتحقيق أنه خاص بمسألة الزوجية، كما جاء التصريح به في الرواية الثانية كما تقدم، ولا يعتد بغير هذا.(2/88)
أما ما رواه البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس في مرضه -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان شديدًا، وأنه كان سحرًا في بئر تحت صخرة في كربة (الكرب: أصول السعف التي تقطع معها، وواحدتها: كربة. المصباح المنير).، وأنهم أخرجوها فأحرقوها فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت عليه هاتان السورتان يعني المعوذتين فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة.اهـ ملخصًا، فهذا حديث باطل مخالف لحديث الصحيحين في المسألة، ولروايات نزول السورتين بمكة، وهو من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والكلبي هذا متهم بالكذب، وطريقه أوهي الطرق عن ابن عباس، واسمه محمد بن السائب.
وأما ما رواه أبو نعيم في الدلائل عن أنس قال: صنعت اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فأصابه من ذلك وجع شديد، فدخل عليه أصحابه فظنوا أنه ألم به، فأتاه جبريل بالمعوذتين فعوذه بهما، فخرج إلى أصحابه صحيحًا، فهو من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، وهما ضعيفان. وليس في متنه ذكر السحر ولا أن المعوذتين نزلتا في ذلك الوقت، ولا في أي شيء من روايات الصحيحين. فالاستدلال به على أنهما مدنيتان ضعيف، فالحق أنهما مكيتان كما تقدم. ا هـ.
هذا هو كلام العلامة السيد رشيد -رحمه اللّه- تعالى في الحديث وتأويله، وهو كلام عالم فقيه جارٍ على نهج المحدثين الأصلاء، في الجرح والتعديل، والشرح والتعليل، وهو كلام إمام مصلح، حريص على البناء لا الهدم، وعلى التجديد لا التبديد، يعرف قدر السلف، ولا ينكر حق الخلف. يخالف شيخه، ولكنه يدافع عنه ويؤكد مقدار حبه وتوقيره لرسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو العدل والإنصاف. فرضي اللّه عن الشيخ رشيد وجزاه عن الإسلام وأمته خيرًا وأثابه على كل ما اجتهد فيه، أخطأ أو أصاب: أجرًا أو أجرين. آمين.
حول أحاديث كتاب الحلال والحرام(2/89)
س: يذكر بعض الناس أنكم اعتمدتم في كتابكم الشهير: (الحلال والحرام في الإسلام) على بعض الأحاديث الضعيفة، كما ظهر ذلك في كتاب الشيخ ناصر الدين الألباني (غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام) فقد حكم فيه على عدد من الأحاديث بالضعف، والمعروف أن الأحاديث الضعيفة - وإن أجازها الأكثرون في فضائل الأعمال بشروط معينة - لم يجز أحد الاحتجاج بها في الأحكام وأمر الحلال والحرام.
فهل لكم من رد أو تفسير لهذا الكلام، وبخاصة أن كتابكم قد انتشر في العالم كله، وقد يثير مثل هذا القول بلبلة عند بعض قراء الكتاب والمعتمدين عليه؟ وما منهجكم الذي اعتمدتموه في تأليف كتابكم واختياركم للأحكام فيه؟
ج-:
أولا: أحمد الله تعالى أن وفقني منذ أوائل حياتي الفكرية والدعوية لتبني المنهج الوسط الذي يقوم على النظرة المعتدلة والشاملة، ويبتعد عن الإفراط والتفريط، وقد بينت منهجي هذا في مقدمة الكتاب نفسه (الحلال والحرام) في أول طبعة له حين قلت:
وربما بدا موضوع (الحلال والحرام) سهلاً لأول وهلة، ولكنه في الواقع صعب المرتقي، فلم يسبق لمؤلف في القديم أو الحديث، أن جمع شتات هذا الموضوع في كتاب خاص، ولكن الدارس يجد أجزاءه موزعة في أبواب الفقه الإسلامي كلها، وبين ثنايا كتب التفسير والحديث النبوي.
منهجي في الكتاب:
ثم إن موضوعًا كهذا يضطر الكاتب إلى أن يحدد موقفه من أمور كثيرة اختلف في حكمها علماؤنا القدامى، واضطربت فيها وفي تعليلها آراء المحدثين.
وترجيح رأي على غيره في مسائل الحلال والحرام يحتاج إلى أناة وطول بحث ومراجعة، بعد أن يتجرد الباحث لله في طلب الحق، جهد الإنسان.
وقد رأيت معظم الباحثين العصريين في الإسلام، والمتحدثين عنه يكادون ينقسمون إلى فريقين:(2/90)
فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية، وراعهم هذا الصنم الكبير، فتعبدوا له، وقدموا إليه القرابين، ووقفوا أمامه خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، هؤلاء الذين اتخذوا مبادئ الغرب وتقاليده قضية مسلمة لا تعارض ولا تناقش، فإن وافقها الإسلام في شئ هللوا وكبروا، وإن عارضها في شئ وقفوا يحاولون التوفيق والتقريب، أو الاعتذار والتبرير، أو التأويل والتحريف، كأن الإسلام مفروض عليه أن يخضع لمدنية الغرب وفلسفته وتقاليده، ذلك ما نلمسه في حديثهم عما حرم الإسلام من مثل: التماثيل واليانصيب، والفوائد الربوية، والخلوة بالأجنبية، وتمرد المرأة على أنوثتها، وتحلى الرجل بالذهب والحرير. . . الخ ما نعرف. وفي حديثهم عما أحل الإسلام من مثل: الطلاق وتعدد الزوجات، كأن الحلال في نظرهم ما أحله الغرب، والحرام ما حرمه الغرب، ونسوا أن الإسلام كلمة الله، وكلمة الله هي العليا دائمًا، فهو يُتبع ولا يَتبع، ويَعلو ولا يُعلى، وكيف يتبع الربُّ العبدَ أم كيف يخضع الخالق لأهواء المخلوقين؟ (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) (المؤمنون: 71). (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبَع أمن لا يَهِدِّي إلا أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون) (يونس: 35). هذا فريق.
والفريق الثاني جمد على آراء معينة في مسائل من الحلال والحرام، تبعًا لنص أو عبارة في كتاب، وظن ذلك هو الإسلام، فلم يتزحزح عن رأيه قيد شعرة، ولم يحاول أن يمتحن أدلة مذهبه أو رأيه، ويوازنها بأدلة الآخرين ويستخلص الحق بعد الموازنة والتمحيص.(2/91)
فإذا سئل عن حكم الموسيقى، أو الغناء، أو الشطرنج، أو تعليم المرأة أو إبداء وجهها وكفيها، أو نحو ذلك من المسائل، كان أقرب شئ إلى لسانه أو قلمه كلمة: حرام، ونسي هذا الفريق أدب السلف الصالح في هذا حيث لم يكونوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعًا، وما عدا ذلك قالوا فيه: نكره، أو لا نحب، أو نحو هذه العبارات.
وقد حاولت ألا أكون واحدًا من الفريقين:
فلم أرض لديني أن أتخذ الغرب معبودًا لي، بعد أن رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً.
ولم أرض لعقلي أن أقلد مذهبًا معينًا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب، فإن المقلد - كما قال ابن الجوزي -: (على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة) (تلبيس إبليس ص81).
أجل لم أحاول أن أقيد نفسي بمذهب فقهي من المذاهب السائدة في العالم الإسلامي، ذلك أن الحق لا يشتمل عليه مذهب واحد وأئمة هذه المذاهب المتبوعة لم يدعوا لأنفسهم العصمة، وإنما هم مجتهدون في تعرف الحق، فإن أخطأوا فلهم أجر وإن أصابوا فلهم أجران.
قال الإمام مالك: (كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-)، وقال الإمام الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
وغير لائق بعالم مسلم يملك وسائل الموازنة والترجيح أن يكون أسير مذهب واحد، أو خاضعًا لرأي فقيه معين، بل الواجب أن يكون أسير الحجة والدليل فما صح دليله وقويت حجته، فهو أولى بالاتباع، وما ضعف سنده، ووهت حجته فهو مرفوض مهما يكن من قال به، وقديمًا قال الإمام على -رضي الله عنه-: (لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله).(2/92)
ثانيًا: أحمد الله تعالى حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وجزيل نعمه التي لا أحصيها، والتي لم أقم بأقل القليل من شكرها.
ومن هذه النعم أن منح الله الكريم الوهاب كتبي القبول عند المسلمين حيثما كانوا، وهذا من فضل ربي عليّ، وإحسانه إليّ، تباركت آلاؤه، وتقدست أسماؤه، حتى إن كتابي (الحلال والحرام) قد بلغت طبعاته - بالعربية - حوالي الأربعين، ذلك أنه يطبع في عدة أماكن، ويصدر من عدة جهات: القاهرة ولبنان والجزائر والمغرب، والكويت، وغيرها. .
هذا بالإضافة إلى ترجمته إلى عدد من اللغات مثل: التركية، والأوردية والماليزية، والأندونيسية والفارسية والبنغالية، أو الماليبارية، والسواحلية، والإنجليزية والألمانية والصينية وغيرها. . .
تخريج أحاديث الكتاب تكريم له:
ثالثًا: لا شك أن تخريج العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - حفظه الله - لأحاديث كتابي: (الحلال والحرام) هو نوع من التكريم للكتاب وصاحبه، فعلماء الحديث من قديم لا يخرجون أحاديث الكتب التافهة أو المغمورة، إنما يخرجون الكتب التي لها قيمة ووزن علمي، وشهرة عند أهل العلم وجماهير الناس.
ولهذا نجد مثل الحافظ الزيلعي يخرج أحاديث كتاب: (الهداية) في الفقه الحنفي في كتاب: (نصب الرواية) لمنزلة الكتاب وشهرته عند علماء الحنفية، وكذلك فعل الحافظ ابن حجر في تخريج الهداية ثم في تخريج (فتح العزيز)، أو الشرح الكبير للرافعي، على (الوجيز) للغزالي في فقه الشافعي، وذلك في كتابه المعروف بـ (تلخيص الحبير)، وكذلك خرج أحاديث (الكشاف) للزمخشري.
ومثل ذلك ما صنعه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث: (إحياء علوم الدين) للغزالي.
وكتب أخرى كثيرة معروفة عند أهل الاختصاص.
ولهذا سرني أن يعني المحدث المعروف الشيخ الألباني من زمن بعيد بتخريج أحاديث كتابيّ: (الحلال والحرام)، و(مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام).(2/93)
كما خرج كذلك أحاديث كتاب: (فقه السيرة) للداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي.
وقد رأيت كتاب الشيخ الألباني: (غاية المرام) ورأيت ما حكم عليه بالضعف من الأحاديث.
وأود أن أسجل هنا بعض الملاحظات المهمة:
بعض الأحاديث يذكر للاستئناس لا للاحتجاج:
الأولى: أنني قد أذكر بعض الأحاديث الضعيفة للاستئناس بها لا للاحتجاج بها. والاعتماد عليها وحدها في الاستدلال.
فكثيرًا ما يكون الحكم ثابتًا بأدلة أخرى من النصوص الثابته، أو القواعد المقررة ثم يذكر الحديث هنا - وإن كان ضعيفًا - للاستئناس كما قلت، وهذا ما لم يتحرز منه أحد من السابقين فيما أعلم.
ومن قرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه المحقق ابن القيم يجد فيها الكثير الكثير من ذلك.
بل الإمام البخاري نفسه، مع ما عرف عنه من التشدد في رفض الضعيف يذكر في جامعه الصحيح، بعض الأحاديث المعلقة الضعيفة وهي ما يرويه بغير صيغة الجزم، مثل قوله: قيل وروي ويذكر، ونحو ذلك.
وهذا ما صنعته في بعض الأحيان، فإذا ذكرت حديثًا مثل: "تنظفوا فإن الإسلام نظيف" فهذا - وإن كان ضعيفًا - لا يثبت به حكم، فأمر النظافة ثابت بمحكمات القرآن والسنة.
مرحلة التقليد للمتقدمين:
الثانية: هناك أحاديث اعتمدت فيها على تصحيح أو تحسين المتقدمين من أئمة الحديث، وفقهاء السنة، وأعترف أني لم أناقشهم فيما صنعوا، بل كنت مقلدًا لهم، ناقلاً عنهم، ولا غرابة أن يأخذ رجل الفقه عن رجل الحديث، فلم يوجد عالم أحاط خبرًا بكل علم.
وهنا قد يظهر في الحديث علة يلحظها المتأخر، غابت عن المتقدم وكم ترك الأول للآخر!
مثال ذلك: أني اعتمدت على تحسين الحافظ ابن حجر لحديث "من حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه من يهودي أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرًا، فقد تقحم النار على بصيرة".
فقد ذكره في كتابه: (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) وقال: رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.(2/94)
وابن حجر هو أمير المؤمنين في الحديث، ونادرة الدنيا في الحفظ والاستيعاب، فإذا قلدته أو قلده غيري فليس بملوم، وإذا استدرك عليه من بعده فليس هو بمعصوم.
وقد رأيت العلامة الصنعاني شرح الحديث في (سبل السلام) وسكت على تحسين الحافظ، كما ذكره العلامة صديق حسن خان في (الروضة الندية) وقال: (وإسناده حسن كما قال الحافظ، وأخرجه أيضًا البيهقي وزاد: "أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا" ويؤيده حديث أبي أمامة عند الترمذي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام" وفي الباب أحاديث. وأخرج مالك عن ابن عمر: أن رجالاً من أهل العراق قالوا: يا أبا عبد الرحمن إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فنعصره خمرًا، فنبيعها! فقال عبد الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته، ومن سمع من الجن والإنس: أني لا آمركم أن تبيعوها، ولا تبتاعوها، ولا تعصروها، ولا تسقوها، فإنها رجس من عمل الشيطان قلت: وعليه أهل العلم) (الروضة الندية 2/99). أ. هـ.
هذا ما غرني بالحديث المذكور، وجعلني أقبله تقليدًا كما قلت، إذ كنت في مرحلة التقليد المطلق في الحديث، ولم أبدأ البحث في أمر الحديث، والخروج جزئيًا من إسار التقليد فيه، إلا عندما بدأت أكتب في فقه الزكاة.
ثم جاء العلامة الألباني، وبين أن الحديث ضعيف جدًا بسبب أحد رواته، وهو الحسن بن مسلم المروزي التاجر (وقد ذكر الهيثمي الحديث في (مجمع الزوائد) ونسبه إلى الطبراني في الأوسط، وقال: فيه عبد الكريم بن عبد الكريم، قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب 4/90.
حصر الحافظ الهيثمي آفة الحديث في عبد الكريم هذا.(2/95)
والحافظ ابن حجر ترجم لعبد الكريم هذا في (لسان الميزان) وذكر فيه قول أبي حاتم، ثم قال: وبقية كلامه لا أعرفه، وفي ثقات ابن حبان: عبد الكريم بن عبد الكريم البجلي عن عبد الله بن عمر، وعنه جبارة بن المغلس: مستقيم الحديث. فالظاهر أنه هو، ولعل ما أنكره أبو حاتم من جهة صاحبه جبارة، ويؤيده أن أبا حاتم قال قبل ذلك: لا أعرفه. أ هـ من لسان الميزان 2/256).، قال الذهبي في (الميزان): أتى بخبر موضوع في الخمر. قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب، وقال ابن حبان: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد ثنا عبد الكريم بن عبد الكريم (الأصل: عبد الله) السكري ثنا الحسن بن مسلم التاجر. . . قلت: فذكر الحديث. . وعلق الشيخ على تحسين ابن حجر بقوله: وهم لا أدري من أين منشؤه، فإنه وَهْم فاحش من مثله!
والعجيب أني رأيت الحافظ ابن حجر ذكر الحسن بن مسلم المروزي - وهو آفة هذا الحديث - فذكر ما ذكره الذهبي في (الميزان) وكلام ابن أبي حاتم وابن حبان بالحرف! وسبحان من تفرد بالكمال.
تضعيف الشيخ قابل للمناقشة:
الثالثة: أن الشيخ الألباني - في رأيي - هو أشهر علماء الحديث في عصرنا وخصوصًا في فن التخريج والتوثيق والتضعيف، ومع هذا ليست كلمته هي النهائية في كل حديث يصححه أو يضعفه، فقد يخالفه غيره من علماء العصر، كالشيخ العلامة حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ شعيب الأرناءوط، والشيخ عبد الفتاح أبي غدة وغيرهم.
ولا غرابة أن يخالفوه كما خالف هو من قبله من الكبار في بعض الأحاديث، وقد يتخذ بعضهم نهجًا في التصحيح غير نهجه، كما كان العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
فحكم الشيخ بتضعيف حديث ليس هو الحجة القاطعة، والكلمة الفاصلة.
بل أقول: إن الشيخ الألباني -حفظه الله- قد يضعف الحديث في كتاب، ويصححه في كتاب آخر.(2/96)
وهذا ما رأيته بالنسبة لحديث: "ما من مسلم يقتل عصفورًا فما فوقها، بغير حقها، إلا سأله الله عز وجل عنها"، قيل: يا رسول الله، وما حقها، قال: "يذبحها، فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي بها" رواه النسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث عبد الله بن عمرو. فقد ضعفه في (تخريج الحلال والحرام) حديث رقم (47).
ومثله حديث: "من قتل عصفورًا عبثًا، عج إلى الله يوم القيامة، يقول: يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا، ولم يقتلني منفعة" رواه النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث الشريد. وقد ضعفه الشيخ أيضًا في الحديث (46).
وقد خالفته في تعليقي على الحديثين في كتابي (المنتقى من الترغيب والترهيب) للإمام المنذري، فقلت عن حديث عبد الله بن عمرو: رواه النسائي.
وقد قال الحافظ ابن حجر في التلخيص في تخريج حديث "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" الذي أعله ابن الجوزي: كفاه قوة تخريج النسائي له. وقد رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (4/233)، والحديث رواه أحمد أيضًا في المسند برقم (6551) وبأخصر منه برقم (6550) وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وخالف هؤلاء جميعًا العلامة الألباني فضعف الحديث في تخريجه للحلال والحرام، بسبب رواية صهيب مولى ابن عامر الحذاء، بدعوى أنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير، فلم يذكر فيه جرحًا، وفرق أبو حاتم بينه وبين أبي موسى الحذاء فترجم الأول ولم يذكر فيه جرحًا، وقال عن الثاني: لا يعرف ولا يسمى وهمًا عند غيره شخص واحد معروف مسمى، وفيه أن الثوري روى عن حبيب بن أبي ثابت عنه، وترجمه الذهبي في (الميزان) فذكر أن بعضهم قواه، وقد روى حديثه شعبة، على تشدده في الرجال.
والحديث رواه الطيالسي أيضًا في مسنده برقم (2279) عن شعبة وابن عيينة، ورواه من طريقه البيهقي في السنن الكبرى (9/279)، والدارمي في سننه (2/84)، والحميدي في مسنده الحديث رقم (587) بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.(2/97)
وقلت عن حديث الشريد: هو في النسائي (7/239) ط المطبعة المصرية بالأزهر، وفي موارد الظمآن (1071)، باب النهي عن الذبح لغير منفعة، ورواه أيضًا أحمد (4/389) وهذا الحديث يشهد للحديث قبله، وقد صححه ابن حبان، وأقره المنذري، ولكن الألباني ضعفه أيضًا؛ لأنه من طريق عامر الأحول من صالح بن دينار، بدعوى أن صالحًا مجهول، وعامر ضعيف لسوء حفظه، والأول ذكره ابن حبان في الثقات، وقد نقل الآجري عن أبي داود ما يدل على أن معمرًا روى عنه أيضًا وكناه بـ- (أبي شعيب). ولم يذكره الذهبي في الضعفاء والثاني - وهو عامر الأحول - لينه أحمد، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن معين ليس به بأس، وقال أبو حاتم ثقة لا بأس به، وقال ابن عدي: لا أرى برواياته بأسًا، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال الساجي: يحتمل لصدقه وهو صدوق (تهذب التهذيب). ولخص هذا الحافظ في تقريبه، فقال: صدوق يخطئ، ولم يصفه بأنه كثير الخطأ أو فاحشه، ومثل هذا لا يرد حديثه بإطلاق ولكن ينتقى منه، وهذا ما صنعه النسائي، فقد قال فيه: ليس بالقوي، وروى عنه في (مجتباه) الذي قالوا: إن شرطه فيه أقوى من شرط أبي داود والترمذي، وذكره الذهبي في الضعفاء فقال: لينه أحمد وغيره، ووثقه أبو حاتم ومسلم، هذا وقد أخرج له مسلم في صحيحه فضلاً عن أصحاب السنن.
والعجيب أني رأيته بعد ذلك في الجزء الأول من كتابه: (صحيح الترغيب والترهيب) ذكر حديث عبد الله بن عمرو محكومًا عليه بالحسن! انظر الحديث رقم (1084).
وهكذا سرعان ما يتغير اجتهاد الشيخ في التصحيح والتضعيف، حتى إن هناك اختلافًا بين الطبعة الأولى من صحيح الجامع الصغير وزيادته، وضعيف الجامع الصغير وزيادته، وبين الطبعة الثانية منهما، فقد حدث نقل بعض الأحاديث من هذا الكتاب إلى ذاك بالعكس.(2/98)
وهذا لا ينكر على الشيخ، بل يذكر له ويشكر؛ لأنه يرجع إلى الحق إذا تبين له، بالعثور على طريق أخرى للحديث، أو الاطمئنان إلى راو لم يكن مطمئنًا إليه من قبل، أو ظهور علة قادحة في سند الحديث أو متنه، أو غير ذلك، والمقصود أن هذا المجال قابل للاجتهاد واختلاف الآراء، وقد يتنبه المفضول إلى ما يفوت الفاضل.
تضعيف حديث مّا لا يسقط القضية كلها:
الرابعة: كثيرًا ما أذكر الحديث - في مسألة من المسائل - من باب تضافر الأدلة، فلا يكون هو العمدة، بل يكون العمدة آية، أو حديثًا آخر صحيحًا أو حسنًا، أو قاعدة من القواعد الكلية، والحديث تقوية وتعضيد، فهو مؤكد لا مؤسس.
فإذا نظرنا إلى الحديث الذي رواه الدارقطني: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها".
وقد حكم الشيخ بضعفه، برغم تحسين النووي له، ونظمه في سلك (الأربعين) النووية الشهيرة فهذا لا يضر بالقضية التي سيق من أجلها، وهي: أن الأصل في الأشياء الإباحة.
فليس هذا الحديث هو العمدة في إرساء هذا الأصل، بل العمدة فيه آيات محكمة وأحاديث لا مرية في صحتها، مثل حديث: "ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو".
فضعف الحديث المذكور لا يعني سقوط القضية كلها، كما قد يتوهم المتعجلون.
وفي موضوع مثل موضوع الاحتكار ذكرت عدة أحاديث في ذم الاحتكار وأهله، العمدة فيها هو الحديث الذي رواه مسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ" فلا يضره بعد ذلك ذكر أحاديث أخرى فيها ضعف أو لين، مثل: "من احتكر طعامًا أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه".
على أن هذا الحديث الذي ضعفه الشيخ قد حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح، وفي القول المسدد في الذب عن المسند، ونقله السيوطي في (اللآلئ المصنوعة).
تضعيف حديث بسند ما أو لفظ ما لا يعني تضعيف المتن:(2/99)
الخامسة: أن الشيخ -حفظه الله- قد يضعف الحديث بلفظه المذكور، ولكن معناه صحيح أو حسن بلفظ آخر، وعند مخرج آخر، أو عن صحابي آخر.
وقد يشير الشيخ إلى ذلك أحيانًا، وبذلك يفيد القارئ.
وأحيانًا لا يشير.
مثال ذلك: حديث (رقم 347) كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الدَّين ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال".
حكم الشيخ بضعفه من حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود، ومن وقف عند كلمة (ضعيف) في تخريج الشيخ، يظن أنها حكم نهائي على الحديث، على حين أنه نبه في النهاية على أن الحديث صحيح، رواه البخاري عن أنس، مع خلاف طفيف في الألفاظ، قال: كنت أسمعه -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن وضلع الدين، وغلبة الرجال".
هذا مع أنه حين خرج حديث (374) كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن".
قال في تخريجه: صحيح، ثم بين أنه صحيح عند البخاري، لا عند أبي داود، وهو جزء من الحديث السابق!!
عمل المحدث وعمل الفقيه:
السادس: أن الشيخ الألباني ليس مجرد محدّث محايد، يكتفى بتخريج الحديث، والحكم عليه، تصحيحًا أو تضعيفًا، وينتهي دوره، ولكنه رجل له آراءه وفقهه الخاص، وهذا يتضح على تخريجه شاء أم أبي، كما أنه يتدخل أحيانًا، معلقًا على رأي المؤلف وترجيحاته، بما يتفق ورأيه هو وترجيحه، كما فعل في موضوع الغناء بآلة وبغير آلة. وهذا التدخل منه أوصل بعمل الفقيه منه بعمل المحدث، ولو أردت التعقيب على تعقيبه أو الرد عليه، لاقتضاني ذلك أن أؤلف كتابًا كاملاً في الموضوع، مناقشًا أدلة المبيحين والمحرمين، ومرجحًا ما أراه أقوى دليلاً وأقوم قيلاً، وقد أفعل ذلك إذا يسر الله تعالي.(2/100)
هذه بعض الملاحظات المهمة والملازمة على تخريج المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني، على ماله من فضل لا ينكر، أضعها أمام الذين رأوا كتابه وتساءلوا عما ضعفّه من أحاديث.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
***في مجال الأصول والقواعد***
هل يجوز العمل بما يخالف المذاهب الأربعة؟
سؤال وجهه بعض القراء إليّ منذ أكثر من ثلث قرن، بمناسبة ما ينشر في مجلة "نور الإسلام" (كانت هذه المجلة تعبر عن علماء الدعوة والإرشاد في الأزهر الشريف). من بحوث فقهية اتخذ لها كاتبها عنوان "غريب الأحكام".
والسؤال: هل يجوز العمل بهذه الأحكام الغريبة، وإن خالفت المذهب الذي ارتضاه القاريء وقلد إمامه؟ على أن في هذه الأحكام ما خالف المذاهب الأربعة المعتمدة جميعًا، فكيف تطمئن النفس للعمل به؟ وهل يليق بمجلة شعبية عامة أن تنشر مثل هذه الغرائب، وتثير بين قرائها الجدل والخصام وهي تدعو إلى الوحدة والإخاء والوئام؟!
ج-: وللإجابة على هذا التساؤل في وعي وإنصاف يجدر بكل قارئ يعنيه أمر دينه ويبحث عن الحق المجرد أن يضع أمام عينه الحقائق التالية:
كثرة الأئمة المجتهدين:
أولاً: إن مذاهب الفقه الإسلامي ليست محصورة في أربعة كما يظن من لا علم له، وأن الأئمة ليسوا هم مالكًا وأبا حنيفة والشافعي وأحمد فحسب، فقد عاصر هؤلاء أئمة كانوا في مثل مرتبتهم من العلم والاجتهاد إن لم يكونوا أفقه وأعلم.
كان الليث بن سعد معاصرًا لمالك، وقد قال فيه الشافعي: "الليث أفقه من مالك لولا أن أصحابه لم يقوموا به".
وكان في العراق سفيان الثوري الذي لا يقل في مرتبته الفقهية عن أبي حنيفة.
وقد عده الغزالي أحد الأئمة الخمسة في الفقه، فضلاً عن إمامته في علم السنة، حتى لقب "بأمير المؤمنين في الحديث".
وكان الأوزاعي إمام الشام غير منازع، وقد ظل مذهبه معمولاً به هناك أكثر من مائتي عام.(2/101)
وكان هناك من آل البيت الإمام زيد بن على، وأخوه الإمام أبو جعفر محمد بن على الباقر، وابنه الإمام جعفر الصادق، وكل منهم إمام مجتهد مطلق، معترف بإمامته عند أهل السنة جميعًا.
وكان الطبري بعد هؤلاء مجتهدًا مطلقًا، وإمامًا في الفقه، كما هو إمام في التفسير والحديث والتاريخ، وكان لمذهبه أتباع ثم انقرضوا.
وقبل الأئمة الأربعة كان هناك أئمة وأساتذة لهم، بل لشيوخهم وشيوخ شيوخهم، يشار إليهم بالبنان: بحور علم ومصابيح هدى. وأي دارس للعلم يجهل مثل: سعيد بن المسيب، والفقهاء السبعة بالمدينة، وطاووس وعطاء وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والأسود، وعلقمة، وإبراهيم، ومسروق، ومكحول، والزهري، وغيرهم من فقهاء التابعين الذين تخرجوا في مدرسة الصحابة رضوان الله عليهم؟ والذين كان الأئمة بعدهم عيالاً عليهم، وقبل هؤلاء كان فقهاء الصحابة الذين تخرجوا في مدرسة النبوة، وشاهدوا أسباب تنزيل القرآن وورود الحديث، وكانوا أصفى فهمًا للدين، وأعلم بمقاصد القرآن، وأدرى بدلالات اللغة وألفاظها. ومن يجهل فقه أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعائشة وغيرهم من أئمة الصحابة الذين بهم يقتدي فيهتدي؟
الأئمة الأربعة لم يدَّعوا لأنفسهم العصمة:(2/102)
ثانيًا: إن الأئمة الأربعة - كغيرهم من المجتهدين - لم يدعوا لأنفسهم العصمة، ولم يزعمها لهم أحد من العلماء، وغاية الأمر أنهم مجتهدون يتحرون الصواب ما وسعتهم طاقتهم البشرية فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر، ولهذا كانوا كثيرًا ما يرجعون عن آرائهم، ويختارون غيرها تبعًا لما ظهر لهم من الدليل، وهذا سر ورود أكثر من رواية في المسألة الواحدة عن الإمام الواحد، وقد عرف أن الشافعي كان له مذهبان: مذهب قديم في العراق، ومذهب جديد في مصر، ولا تكاد تخلو مسألة مهمة من الفقه إلا ولمالك وأحمد فيها أكثر من رواية، وقد رجع أبو حنيفة عن بعض آرائه قبل موته بأيام.
وقبلهم كان عمر يفتي برأي في عام ثم يفتي بما يخالفه في العام القابل، فإذا سئل في ذلك قال: ذلك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم!
وقد خالف أبا حنيفة أصحابه في مئات من المسائل لما لاح لهم من الأدلة، أو وصل إليهم من الآثار، أو أدركوا من مصالح الناس وحاجاتهم بعد إمامهم، ولهذا كثيرًا ما يقول بعض علماء الحنفية في المسائل الخلافية "هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان" (قد عقد ابن القيم فصلاً ممتعًا في: إعلام الموقعين عن "تغير الفتوى بتغير الأزمان" ينبغي أن يراجع).
وحين اجتمع أبو يوسف أكبر أصحاب أبي حنيفة وأفضلهم بإمام دار الهجرة مالك ابن أنس، وسأله عن مقدار الصاع ومسألة الأحباس - الوقف - وصدقة الخضروات، فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: "رجعت لقولك يا أبا عبد الله، ولو رأي صاحبي - يعني أبا حنيفة - ما رأيت، لرجع كما رجعت". وهذا هو الإنصاف الذي يثمره العلم الراسخ، والاجتهاد الصحيح. وكل ما جاء عن الأئمة -رحمهم الله- يؤكد هذه الحقيقة الناصعة.
قال أبو حنيفة: "هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه".(2/103)
وقال مالك: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة". وقال الشافعي: "إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي".
ومن روائع ما يروى عنه قوله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
لا دليل على وجوب تقليد مذهب بعينه:
ثالثًا: إن اتباع مذهب من هذه المذاهب، وتقليد إمامه في كل ما يقول ليس فرضًا ولا سنة، فقول بعض المؤلفين: "إن تقليد إمام معين واجب"، قول مرفوض.
أ - فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى إنما افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصومًا في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا جاء عن ابن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وإذن فاتباع غير المعصوم في كل ما يقوله ضلال بين، إذ يجعل كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) (التوبة: 31). وما ذاك إلا أنهم كانوا يطيعونهم فيما يحللون ويحرمون، كما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ب - على أن الأئمة أنفسهم قد نهوا عن تقليدهم، ولم يزعموا يومًا أنهم يشرعون للناس دينًا يجب أن يتبع، وحذروا من أخذ أقوالهم بغير حجة، فقال الشافعي: "مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى، تلدغه وهو لا يدري".
وقال المزني في أول مختصره: "اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله؛ لأقربه على من أراده - مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره - لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه".(2/104)
وقال أحمد: "لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا" وقال: "من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال".
وقال أبو يوسف: "لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا" (ذكر هذه الأقوال ابن القيم في: إعلام الموقعين 2/139 ط منير).
ج- - إن تقليد هذه المذاهب والتعصب لها أمر مبتدع في هذه الأمة، مخالف لهدي السلف والقرون الثلاثة الأولى، يقول صاحب "تقويم الأدلة" (لمؤلفه العلامة أبي زيد الدبوسي). :
(كان الناس في الصدر الأول - أعني الصحابة والتابعين والصالحين - يبنون أمورهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم السنة، ثم بأقوال من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصح بالحجة، فكان الرجل يأخذ بقول عمر في مسألة ثم يخالفه بقول عليّ في مسألة أخرى، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريًا ولا علويًا، بل النسبة كانت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا قرونًا أثنى عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم، فلما ذهبت التقوى عن عامة القرن الرابع وكسلوا عن طلب الحجج، جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم، فصار بعضهم حنفيًا وبعضهم مالكيًا وبعضهم شافعيًا، ينصرون الحجة بالرجال، ويعتمدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب).
وقال الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام: (لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب، ومتعصبوها من المقلدين؛ فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدًا له فيما قال، كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب).(2/105)
وإذًا فالواجب على المسلم إذا تعذر عليه إدراك الأحكام من أدلتها أن يسأل أهل الذكر، ولا يجب عليه التزام مذهب معين؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، وهما لم يوجبا على أحد أن يكون حنفيًا أو شافعيًا أو غير ذلك، قال شارح "مسلم الثبوت": (فإيجابه تشريع شرع جديد) (انظر مقدمة "مقارنة المذاهب" للأستاذ الأكبر الشيخ شلتوت، والشيخ محمد السايس).
مخالفة إمام ليست طعنًا في إمامته:
رابعًا: إن مخالفة الأئمة الأربعة كلهم أو بعضهم ليست طعنًا في إمامتهم، ولا حطّا من شأنهم، ولا قدحًا في سعة علمهم، وصحة اجتهادهم، وصدق تحريهم للحق، ومن ظن ذلك فقد جهل حقيقة هذه الأمة وتاريخها.
بل إن حب هؤلاء الأعلام وتوقيرهم والثناء عليهم، من صميم دين الإسلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة كتابه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": (يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصًا للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم وروايتهم. . . فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا. . . ) (انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام).(2/106)
قال ابن القاسم: (سمعت مالكًا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس كما قال ناس فيه توسعة (بلى، فيه توسعة ورحمة كما جاء ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، كما نقل ذلك ابن عبد البر وغيره؛ لأنهم كانوا أسوة لمن بعدهم في التسامح وتقدير رأي الآخرين، وإن كان أحد الرأيين خطأ، انظر: كتابنا: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، ص59 وما بعدها، ط 3 دار الوفاء والصحوة).، ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. وقال مالك أيضًا في اختلافهم: مخطئ ومصيب، وعليك بالاجتهاد) (الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6/883).
فإذا كان الصحابة الكرام - في نظر مالك والليث - منهم المخطئ والمصيب، فما بالك بغيرهم؟!
ابن حزم يحرم التقليد:
خامسًا: أننا اخترنا أخف العبارات في شأن التقليد، فذكرنا أنه ليس واجبًا ولا سنة. ولكن أمانة العلم توجب علينا أن نطلع القارئ المسلم على ما ذكره فقيه قوي الحجة كابن حزم حيث قال: (إن التقليد حرام، ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا برهان):
أ - لقوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) (الأعراف: 3). وقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) (البقرة: 170). وقال مادحًا لمن لم يقلد: (فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) (الزمر: 17، 18).
ب - وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) (النساء: 59). فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلي أحد دون القرآن والسنة، وحرم كذلك الرد عند التنازع إلي قول قائل؛ لأنه غير القرآن والسنة.(2/107)
ج- - وقد صح إجماع الصحابة كلهم، أولهم عن آخرهم، وإجماع التابعين كلهم، أولهم عن آخرهم، وإجماع تابعي التابعين، أولهم عن آخرهم، على الامتناع والمنع من أن يقصد منهم أحد إلي قول إنسان منهم أو من قبلهم، فيأخذه كله. فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد - رضي الله عنهم - ولم يترك قول من اتبعه منهم أو من غيرهم إلي قول إنسان بعينه، أنه قد خالف إجماع الأمة كلها، أولها عن آخرها، بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفًا ولا إنسانًا في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة؛ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، نعوذ بالله من هذه المنزلة.
د - وأيضًا فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليدهم، فقد خالفهم من قلدهم.
هـ- - وأيضًا فما الذي جعل رجلاً من هؤلاء أو من غيرهم أولى أن يقلد من عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب، أو ابن مسعود، أو ابن عمر، أو ابن عباس، أو عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم؟ فلو ساغ التقليد لكان كل واحد من هؤلاء أحق أن يتبع من غيره) أ هـ (من الإحكام في أصول الأحكام).
وأولى من يوجه إليهم هذا الكلام هم العلماء الذين قرأوا القرآن والحديث، والفقه والأصول، ودرسوا اللغة والأساليب، ومع هذا لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والمقارنة والتمحيص، إخلادًا إلى الكسل، وركونًا إلى الدعة، فإذا قام منهم من يبحث ويوازن ويرجح - كما هو شأن العالم الحق - قالوا له: قف، من أنت؟ ودع الناس على ما نشأوا عليه، وثاروا عليه كأنما يدعو إلي شئ منكر!
أما عوام الناس، فلا نسلم بقول ابن حزم أن التقليد بالنسبة لهم يكون حرامًا، ولعلنا نناقشه في مناسبة أخرى.
غرابة الأحكام نسبية:(2/108)
سادسًا: إن غرابة الحكم أمر نسبي، فرب حكم غريب في بيئة تراه متعالمًا مشهورًا في بيئة أخرى، ورب حكم يثير الغرابة والدهشة في عصر، يصبح في عصر آخر مسلمًا، متلقى بالرضا والقبول، ويصبح خلافه هو الغريب. فالغرابة ليست مطلقة، كما أنها ليست ثابته، بل تتغير بتغير المكان كما تختلف باختلاف الزمان.
ونضرب لذلك بعض الأمثلة: فالمجتمع الذي يتعبد أبناؤه على مذهب "الشافعي" يجدون من الغريب الشاذ أن يصلي قوم الجمعة دون ركعتين قبلها، على حين يرى المجتمع " المالكي" عكس ذلك.
والبيئة الشافعية تستغرب أشد الغرابة أن يقرأ المصلي الفاتحة دون "بسم الله الرحمن الرحيم" خلافًا للمالكية الذين لا يقرءونها أصلاً، والحنفية الذين لا يجهرون بها. وتستغرب البيئة الشافعية صلاة المسلم إذا مس المرأة ولم يتوضأ، وصلاة من أصابته أبوال الإبل والبقر والغنم وأرواثها دون أن يغسلها، خلافًا للمالكية وغيرهم ممن يقرر: أن كل ما أكل لحمه فبوله وروثه طاهر. بل تستغرب جدًا أن يصلي المرء وقد مسه كلب مبلل، عكس مذهب مالك الذي يرى طهارة الكلب. . وهكذا.
وفي عصرنا نجد بعض الأحكام التي أفتى بها بعض الأئمة قد استقبلت في بدء أمرها بموجة من الدهشة بل الاستنكار والاستياء، وما لبثت أن شقت طريقها إلي العقول والقلوب، فاتضحت حجتها، وأضاءت وجهتها، وظهر لجمهور الأمة موافقتها لحكمة الشريعة التي جاءت بكل ما يجلب المصالح، ويدرأ المفاسد، فأصبحت مقبولة بعد رد، ومعروفة بعد إنكار.(2/109)
ومن ذلك تلك التعديلات الضخمة التي أدخلت على تشريعات الأسرة التي تسمى بالأحوال الشخصية، مثل عدم إيقاع الطلاق المعلق، والذي يراد به الحمل على فعل شيء أو المنع منه، وإيقاع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة، ومثل قانون الوصية الواجبة الذي سلمت بها ذرية الأب المتوفى من قسوة الأعمام، وإهمال الأجداد، وقد استغربه الناس أول الأمر، ثم أصبح في غاية القبول عند الأمة، وكيف لا، وأصله مأخوذ من القرآن؟
إن كلمة "الغريب" ليس لها من مدلول محدد، فإن كان المراد من الأحكام ما يخالف قول جمهور العلماء، فقد قال ابن حزم: (لقد أخرجنا علي أبي حنيفة والشافعي ومالك مئات كثيرة من المسائل، قال فيها كل واحد منهم بقول لا نعلم أحدًا من المسلمين قال قبله، فأعجبوا لهذا) (الإحكام في أصول الأحكام ص535)!.
لا تلازم بين الصواب وشهرة الرأي:
سابعًا: إن الصواب ليس لازمًا للمشهور من الآراء، والخطأ ليس لازمًا للغريب، فالصواب والخطأ لا يتبعان الشهرة ولا الغرابة عند المحققين من العلماء، فكم من حكم مشهور إذا نوقشت أدلته تهاوت دعائمه، وخارت قواه. وكم من حكم غريب يبدو بأدلته في وضوح الشمس ليس دونها سحاب.
والمسلم الذي يتحرى لدينه يجب أن يكون معياره لمعرفة الحق هو قوة الحجة ونصاعة الدليل، لا شهرة الرأي، أو كثرة القائلين به والذاهبين إليه.
ولو كان مقياس الحق هو اتباع الأغلبية له، وإيمان الأكثرية به، لكان الإسلام باطلاً بين الأديان الضالة والنحل المضلة، التي يعد أتباعها مئات الملايين، وقد قال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف: 103). (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116). (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (الرعد: 1). (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الأنعام: 37). (لا يعقلون) (الحجرات: 4). (لا يشكرون) (يونس: 60).(2/110)
وقد خالف عبد الله ابن مسعود جمهور الناس في بعض المواقف والآراء، فسأله بعض أصحابه: ألا يتبع الجماعة؟ فقال: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك!
وقد حذر ابن مسعود من زمان تختل فيه الموازين فيألف الناس الباطل، ويستغربون الحق، ويعرفون المنكر، وينكرون المعروف. قال: كيف إذا لبستكم فتنة يشب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، تجري على الناس، يتخذونها سنة، حتى إذا غيرت قيل: غيرت السنة، أو هذا منكر!
ويكفي دليلاً على أن الغرابة ليست دليل الخطأ أن بعض الآيات المحكمة من كتاب الله قد هجر العمل بها، حتى في عهد الصحابة، بحيث أصبح حكمها غريبًا على الناس، مثل قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفًا) (النساء: 8). وقد ظن بعض العلماء أنها منسوخة لذلك ترك العمل بها. وقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم. . ) (النور: 58). الآية. وقد قال ابن عباس: "إن الشيطان غلب الناس على هذه الآيات فلم يعملوا بها" (انظر تفسير ابن كثير 3/303 ط الحلبي).
الاختلاف في الفروع لا يؤدي إلى تفرق:
ثامنًا: إن الخلاف في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص قاطع الثبوت والدلالة لا يجوز أن يؤدي إلى تفرق أو تنازع، وقد خالف الصحابة بعضهم بعضًا ولم يُحدِث ذلك بينهم فرقة ولا عداوة ولا شحناء.(2/111)
وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرأ، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت في الفجر، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ مما مسته النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. . ومع هذا فكان يصلي بعضهم خلف بعض مثلما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم -رضي الله عنهم- يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لا يقرأون البسملة، لا سرًا ولا جهرًا.
وصلى هارون الرشيد إمامًا، وقد احتجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه، ولم يعد، وكان قد أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه.
وكان الإمام أحمد يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له، فإن كان الإمام خرج منه الدم ولم يتوضأ، هل تصلي خلفه؟ قال: كيف لا أصلى خلف مالك وسعيد ابن المسيب؟!
وصلى الشافعي قريبًا من مقبرة أبي حنيفة، فلم يقنت تأدبًا معه، وقال: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق.
وفي البزازية - من كتب الحنيفة - عن الإمام الثاني أبي يوسف - أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحمام وصلى بالناس وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام. فقال: إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا (هذه النقول من (حجة الله البالغة 1/159) لشاه ولي الله الدهلوي).
وما ذلك إلا أن هذه المسائل وأشباهها محتملة مرنة، وكثيرًا ما يكون كلا الوجهين في المسألة مشروعًا، فإن لم يكن فالصواب غير مقطوع به، والخطأ معذور صاحبه بل مأجور. ولهذا كان الأئمة في هذه المواضع يصححون القول، ويثبتون خلافه. يقول أحدهم: هذا أحوط، وهذا هو المختار. وهذا أحب إلى، أو يقول: ما بلغنا إلا ذلك. وهذا كثير في المبسوط، وآثار محمد، وكلام الشافعي، رحمهم الله (المرجع السابق 145).(2/112)
ورضي الله عن الإمام مالك ما كان أفقهه؛ فقد حكى السيوطي: أن الرشيد شاوره أن يعلق كتاب "الموطأ" في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه. فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل سنة مضت. قال الرشيد: وفقك الله يا أبا عبد الله!! وحكى مثل هذه القصة مع المنصور أيضًا (المرجع السابق، وانظر: كتابنا: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ص 59 وما بعدها، ط 3 دار الوفاء والصحوة).
وبعد: فلست أكتب هذا دفاعًا عن كاتب "غريب الأحكام" ولست مؤيده في كل الجزئيات التي يعرض لها، ولكنما أؤيد منهج البحث والمقارنة وتمحيص الأقوال. وعلى المسلم أن يجعل نفسه أسير الدليل والحجة، فأي حكم قوي عنده دليله، واقتنع به عقله، واطمأن إليه قلبه، فعليه أن يعمل به. ولا حرج عليه أن يكون من "غريب الأحكام". ولا يخوفه أن يكون في هذا الحكم تيسير على الناس فإن ديننا لم يجئ إلا باليسر والتخفيف والرحمة. قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت بالحنيفية السمحة. . . . " (رواه الطبراني في: المعجم الكبير (7715)، وهو في مسند أحمد). وقال لأصحابه: "يسروا ولا تعسروا" (متفق عليه من حديث أنس). ،"إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (رواه البخاري والترمذي والنسائي من (حديث أبي هريرة).، وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185).، (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا) (النساء: 28).، (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) (المائدة: 6).
اختلاف الأئمة وحكم تقليدهم(2/113)
س: لماذا اختلف الأئمة؟ وما الحكم في تقليدهم؟ وهل ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كل هذه الأمور التي اختلف فيها الفقهاء؟ ولماذا يكون الشيء فرضًا عند إمام، ومكروهًا عند إمام آخر مثلاً، في أمور العبادات؟ وما الحكم لو قلد الإنسان إمامًا في أمر، وقلد إمامًا آخر في أمر سواه؟ وهل يمكن تقليد غير الأئمة الأربعة، أم ينبغي الاعتماد على الكتاب والسنة مباشرة دون التقيد بمذهب في وقتنا هذا؟
ج-: أجيب عن الفقرة الأولى من هذا السؤال وهي:
لماذا اختلف الأئمة؟
اختلف الأئمة؛ لأن مصدر الدين شرعه الله تعالى لعباده في نصوص، والنصوص لا بد أن يختلف الناس في فهمها، هذا شئ طبيعي في الحياة، الناس يختلفون ما بين حرفي يعنى بظاهر اللفظ، وآخر يعنى بروح النص، وهذا موجود حتى في شراح القوانين أنفسهم، فتوجد المدرسة الضيقة الحرفية، والمدرسة المتوسعة التي تعنى بروح النصوص.
وقد وجد هذان الفريقان منذ عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحينما قال -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة الأحزاب: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" (رواه البخاري ومسلم وغيرهما). اختلف الصحابة في ذلك حين دنا الغروب، فقال بعضهم: إنما أراد منا سرعة النهوض، وآخرون قالوا: لا. لقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة". فنحن لا نصليها إلا في بني قريظة ولو بعد الغروب. . وصلوها بعد الغروب، وبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل هؤلاء، وفعل هؤلاء، فلم يعنف أحدًا من الفريقين، إقرارًا منه -صلى الله عليه وسلم- للاجتهاد، حيث ترك الناس لاجتهادهم، فهذا من أسباب الاختلاف.(2/114)
ومن أسباب الاختلاف: أن الناس فيهم المتشدد وفيهم المترخص، هذه طبيعة البشر، فابن عمر غير ابن عباس. ابن عمر كان يتوضأ فيأبى إلا أن يدخل الماء إلى باطن عينيه، حتى عمي -رضي الله عنه- وابن عباس لا يرى هذا ضروريًا. ابن عمر يخشى أن يقبل أولاده وأن يسيل لعابهم عليه، وابن عباس يقبلهم ويعانقهم ويقول: إنها زهرات نشمها، فكان الفرق بين فقه الرجلين، فرقًا بين روح كل منهما. من هنا جاءت شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، المشهورة في تراثنا الفقهي.
هناك أيضًا: اللغة نفسها. . قد تكون اللغة سببًا من أسباب الاختلاف. إذ قال الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء) (البقرة: 228). ما القروء؟ جاء في اللغة ما يدل على أن القرء هو الحيض. . وما يدل على أن القرء هو الطهر، ومن هنا اختلف الأئمة تبعًا للتفسير اللغوي لهذه اللفظة ونحوها من الألفاظ المشتركة.
ومثل ذلك: أن يحتمل بعض الألفاظ الحقيقة والمجاز، فيأخذ أحدهم بالدلالة الحقيقية للفظ، ويأخذ غيره بالدلالة المجازية، كما في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) (المائدة: 6). هل المراد: الملامسة باليد كما هو رأي ابن عمر، أو هو كناية عن الجماع كما هو رأي ابن عباس؟
ومن الأسباب كذلك:
اطمئنان الأئمة إلى الرواية أو عدم اطمئنانهم، فهذا يطمئن إلى هذا الراوي، ويأخذ بروايته، والآخر لا يطمئن إليه، ولا يأخذ بما يرويه.
وبعضهم يشترط شروطًا في الحديث لا يشترطها الآخر، خصوصًا في بعض المسائل، مثل الأمور التي عمت بها البلوى.
ومن ذلك:
اختلافهم في تقدير الأدلة واعتبارها. . فالإمام مالك مثلاً: يرى أن عمل أهل المدينة فيما توارثوه من العبادات ونحو ذلك مقدم على الخبر الذي يرويه الواحد.
وبعضهم يرى ضعيف الحديث (وهو الذي سمي فيما بعد: الحسن) مقدمًا على القياس، وغيره بالعكس، وهكذا. . .
وبعضهم يأخذ بالحديث المرسل مطلقًا، وبعضهم يرفضه مطلقًا، وبعضهم يأخذ به بشروط.(2/115)
ومنهم من يعتبر شرع من قبلنا شرعًا لنا، ومنهم من لا يعتبر ذلك.
ومنهم من يستدل بالمصالح المرسلة - التي لم يدل دليل خاص من الشرع على اعتبارها، ولا على إلغائها - ومنهم من لا يرى ذلك.
ومن أسباب ذلك: اختلافهم في دلالة الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، إلي غير ذلك مما فصله "علم أصول الفقه".
الذي يجب تأكيده هنا:
أن هناك أسبابًا كثيرة ومتنوعة لاختلاف الأئمة، وقد ألفت فيها كتب خاصة قديمًا وحديثًا، منها: "الإنصاف في أسباب الاختلاف" للعلامة الدهلوي، و"أسباب اختلاف العلماء" للشيخ على الخفيف، ومنها كتابي: "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" وقد بينت فيه أن الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة وثروة، كما شرحت الدعائم الفكرية والخلقية التي يقوم عليها فقه الاختلاف وأدبه بين أبناء الأمة المسلمة.
ومن رحمة الله بهذه الأمة، أنه لم يضيق عليها، بل جعل هناك متسعًا للآراء، ومتسعًا للأفهام المختلفة، وما يصلح لبيئة، قد لا يصلح لأخرى، وما يصلح لزمن قد لا يصلح لآخر، وقد كان بعض الصحابة يفتي في القضية برأي، ثم يرجع عنه، كما روي عن عمر، وقد سئل: كيف رجع؟ فقال: هذا على ما علمنا، وذاك على ما نعلم، فقد تختلف البيئة أو الحال، فيتأثر الإنسان بما يرى وبما يسمع فيغير رأيه.
ولهذا كان للشافعي - رحمه الله - مذهبان، مذهب يسمى القديم يوم كان في العراق، ومذهب يسمى الجديد حين نزل بمصر، وعرف في كتب الفقه: هذا قول الشافعي في القديم، وهذا قوله في الجديد، لأنه حينما نزل بمصر رأي ما لم ير، وسمع من الأحاديث والآثار ما لم يكن سمع من قبل، فعدل رأيه، والمجتهد كثيرًا ما يعدل رأيه، كل هذا من أسباب الاختلاف.(2/116)
ولهذا حين أراد أبو جعفر المنصور من الإمام مالك أن يضع كتابه "الموطأ" وقال له: تجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، ووطئه للناس توطيئًا فقام بهذا الأمر، وألف الكتاب المعروف في الإسلام باسم "الموطأ".
وأراد الخليفة أن يحمل الناس عليه، ولكن الإمام مالكًا - رضي الله عنه - لفقهه وإنصافه وورعه قال له: "لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تفرقوا في الأمصار، وأصبح عند كل قوم علم، والناس قد سبقت إليهم أقاويل ورضوا بها، فإن حملتهم على رأي واحد تكون فتنة".
هكذا كانوا ينظرون إلى هذا الاختلاف على أنه خلاف في الفروع لا يضر، ولا بد منه، ولا يمكن أن تجتمع الأمة على رأي واحد في مثل هذه الفروع، وهذا من لطف الله عز وجل وبره بهذه الأمة، أن ترك لها فرصة للاجتهاد ولاتساع تعدد الأفهام.
تصوروا لو أن المسلمين كلهم على رأي واحد في كل أمر، ما وجد أحد رخصة في شئ، وما استطاع أحد أن يأتي في وقت، فيرجح رأيًا على رأي، أو قولاً على قول، أو رواية على رواية. . .
هذا بالنسبة للسؤال: لماذا اختلف الأئمة؟
حكم تقليد الأئمة:
وأما قوله: ما الحكم في تقليدهم؟
فهناك من ذهب إلى وجوب تقليد الأئمة الأربعة، وفي هذا يقول صاحب الجوهرة في التوحيد:
وواجب تقليد حبر منهم
كما حكى القوم بلفظ يُفهم
والبعض غلا في هذا الأمر، وقال: يجب تقليد واحد بعينه من الأئمة.
فالشافعي يقول: يجب تقليد الشافعي.
والحنفي يقول: يجب تقليد أبي حنيفة.
والمالكي والحنبلي. . . وهكذا. . .
وقد خطأ المحققون هذا القول، بل قالوا: إن القول بوجوب تقليد إمام بعينه، بأن تُلتزم أقواله فقط وترفض أقوال غيره، حرام في الدين، وأكثر من ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن تاب قائل هذا الكلام وإلا قتل.(2/117)
ولأن من قال: يُقلد رجل بعينه في الدين، وتؤخذ أقواله، وتؤخذ أقواله وحده، وتُسقطُ أقوال غيره، كأنه يجعله شارعًا، كأنه يجعله نبيًا معصومًا. . فهذا لا يجوز في دين الله، يجب أن يستتاب قائل هذا الكلام، وإن أصر عليه، فيرى ابن تيمية أنه قد مرق من الإسلام.
وقال ابن القيم: نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة، رجل واحد آثر رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله بحيث لم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئًا، ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين، وليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون المفضلة على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلك هي القرون الثلاثة الأولى المفضلة في الأحاديث الصحيحة. . . وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه -صلى الله عليه وسلم-.
وردّ ابن القيم هذا القول - تقليد الأربعة فقط، أو تقليد واحد منهم بعينه - في كتابه: إعلام الموقعين، وخطأه من نحو خمسين وجهًا، وقد أطال في هذا الموضوع فأجاد، وأفاد، فليراجعه من أراد.
ومحصل كلامه هناك، أنه إذا وصل إلى أحد قول إمام من الأربعة أو من غيرهم، ممن قبلهم أو بعدهم، على وجه الصحة، جاز له تقليده، إذا كان من غير أهل الاجتهاد.
المجتهد عليه أن يجتهد لنفسه، أما العامي، ومن لا يستطيع الاجتهاد، فيجوز له الأخذ بقول أي إمام كان، وأي فقيه، ممن بلغ مرتبة الاجتهاد، كما يرشد إليه قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء: 7). هذا من حيث حكم التقليد.
المسائل المختلف فيها:
ويقول السائل أيضًا:
هل ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كل هذه الأمور التي اختلف فيها الفقهاء؟(2/118)
وأقول: هناك كثير من الأمور عملها النبي -صلى الله عليه وسلم- ورويت عنه فعلاً وإن كان واظب على بعضها أكثر من الآخر، فمثلاً: التكبير في الأذان. الله أكبر الله أكبر. . هل هو أربع مرات أم مرتان؟ ورد هذا وورد هذا. فالمالكية أخذوا بالاثنتين، وغيرهم أخذ بالتربيع. والترجيع في الشهادتين بصوت خفيف، كذلك ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- فأخذ به بعض العلماء ولم يأخذ الآخر.
فهذه الأمور، بعضها مما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- وإن كان أكثر في ناحية وأقل في ناحية أخرى. كالجهر بالبسملة، فالمروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يجهر بالبسملة، ولكن جاءت أحاديث تدل على أنه أيضًا جهر بها، وهذا ليس بممتنع أن يكون قد جهر في بعض الأحيان لتعليم من خلفه من المصلين ونحو ذلك، ولهذا قال ابن تيمية في هذا الموضوع: يجوز أن يترك الأفضل في أمور العبادات لتأليف القلوب، كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بناء البيت - الكعبة - على قواعد إبراهيم، من خشية تنفيرهم، نص الأئمة كأحمد، على ذلك. في البسملة، ووصل الوتر، وغيره، مما فيه العدول من الأفضل إلى الجائز، مراعاة للائتلاف، أو لتعريف السنة أو نحو ذلك.
ويقول السائل:
لماذا يكون الشيء فرضًا عند إمام، مكروهًا عند إمام آخر في أمور العبادات؟
وأقول:
إن هذه الصورة قليلة بل نادرة، ومثلها: القراءة خلف الإمام فهي عند الشافعية فرض في كل الصلوات، جهرية وسرية، وعند الحنفية يرون هذه القراءة خلف الإمام مكروهة، فهما طرفان.
وهناك واسطة بين الطرفين وهو أن القراءة مشروعة في الصلاة السرية حيث لا يسمع المأموم، أما في الصلاة الجهرية حيث يسمع المأموم، فتنصت، كما جاء في صحيح مسلم: ". . . وإذا قرأ فأنصتوا" فهذا التوسط هو الأولى.
الاعتماد على الكتاب والسنة:
ويقول الأخ السائل أيضًا:
وهل يمكن تقليد غير الأربعة؟ أو الاعتماد على الكتاب والسنة مباشرة، دون التقيد بمذهب الآن؟؟
أقول:(2/119)
نعم، يجوز تقليد غير الأربعة. .
ويجوز الاعتماد على الكتاب والسنة لمن يقدر على الاعتماد عليهما، من أهل الفقه والنظر، فلهم أن يجتهدوا ويبحثوا، وأن يستخرجوا من الكتاب والسنة، وأن يرجحوا، وأن يرجعوا إلى علماء الترجيح، وعلماء المقارنة، والذين يقارنون ويرجحون بالدليل كابن دقيق العيد، وابن تيمية وابن القيم وابن حجر العسقلاني والصنعاني والشوكاني وغيرهم. . ثم يأخذ العالم بما هو أرضي لدينه وما هو أرجح في نفسه، وما يطمئن إليه قلبه، فهذا هو الذي يكلف به، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
والقول الذي شاع في عصور التراجع والتخلف بأن باب الاجتهاد قد أغلق، قول مردود، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل قال الحنابلة وغيرهم: إنه لا يجوز خلو عصر من العصور من مجتهد يفتي الناس وفق الأدلة. ولا حرج على فضل الله تعالى أن يمنح بعض عباده من المواهب والقدرات ما يؤهله لمرتبة الاجتهاد، وهو ليس بالأمر المستحيل. بل هو في عصرنا أيسر بالنسبة لتيسر وسائل علمية لم تكن ميسرة لمن كان قبلنا، مثل الطباعة والتصوير، و(الكمبيوتر) وغيرها (انظر في ذلك: كتابنا: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، فصل "تيسر الاجتهاد اليوم"). . .
أما من لا يعرف اللغة وعلومها ودلالاتها ولا يعرف ما يتعلق بالقرآن والسنة من معارف وعلوم متنوعة، ولا يعرف مواضع الإجماع والخلاف، ولا يعرف أصول الفقه والقياس وقواعد التعارض والترجيح. . إلى غير ذلك من أدوات الاجتهاد الأساسية، فالواجب عليه أن يرجع إلى أهل الذكر، كما يرجع الناس بالفطرة في كل اختصاص إلى أهله. قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء: 7).
ولا يتصور تكليف الناس جميعًا بالاجتهاد كما يزعم بعضهم، فإن هذا غير ممكن، وليس عليه دليل.
حكم التلفيق بين المذاهب:
بقي سؤال وهو: ما الحكم لو قلد الإنسان إمامًا في أمر وقلد غيره في أمر آخر؟(2/120)
هذا يسمى التلفيق. . بعض العلماء أجازوا هذا الأمر، وبعضهم منعه، والذي أراه، أن التلفيق، إذا كان يقصد أن يلفق، أو كأن يتتبع رخص المذاهب، يبحث عن الأسهل والموافق لهواه، وعما يحلو له، دون مراعاة لأي دليل، فهذا لا يجوز. . ولهذا قال السلف: من تتبع رُخص المذاهب فسق.
ومثل ذلك: أن يأخذ بمذهب معين إذا كان في جانبه ومصلحته، كان يأخذ بقول أبي حنيفة في أن للجار الشفعة إذا كان هو جارًا يريد العقار لنفسه، فإذا كان المذهب مع خصمه أخذ بضده كما في الصورة المقابلة، يقول: آخذ بقول الشافعي وأرفض ما سواه.
وذلك أنه هنا يتبع هواه، ويتلاعب بالدين، ويجعل المذاهب خادمة لمصلحته. والمؤمن ينبغي أن يكون مع الحق، كان له أو عليه، وقد ذم الله تعالى المنافقين بقوله: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلي الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين) (النور: 47 - 49).
فقد أرادوا أن يدور الحق معهم، لا أن يدوروا هم مع الحق، كما هو شأن المؤمنين الصادقين.
وأما إن كان المسلم يتبع ما هو أرجح في نظره، وما هو أقوى في قلبه، فلا بأس أن يقلد الحنفية في أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، ويقلد الشافعية في أن سيلان الدم لا ينقض الوضوء. ويقلد المالكية في أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، إذا اطمأن إلي الدليل في ذلك. وهذا ما نفتي به.
والله تعالى يوفقنا إلى التفقه في دينه، "فمن يرد الله به خيرًا يفقه في الدين"، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حول قاعدة: "نتعاون فيما اتفقنا
عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"
س: قرأت لكم في أكثر من كتاب، وسمعتكم في أكثر من محاضرة تدعون إلى القاعدة التي تقول: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".(2/121)
فمن الذي وضع هذه القاعدة في صيغتها هذه؟ وهل لها دليل من الشرع؟ وكيف نتعاون مع المبتدعين والمنحرفين؟ وكيف نعذر من يخالفنا إذا كان هو مخالفًا للنصوص من الكتاب والسنة؟
أليس مطلوبًا منا أن ننكر عليه ونهجره، بدل أن نسامحه ونعذره؟ أليس القرآن الكريم يقول: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 59)؟ فلماذا لا نرد هذا المخالف إلى الكتاب والسنة، وهو المراد بالرد إلى الله والرسول، بدل أن نلتمس له العذر، وأي عذر له في مخالفة النص؟
أصارحكم أن الأمر قد التبس علينا، وغدونا في حاجة إلى توضيح معالمه وإقامة الأدلة عليه، وأنتم لذلك أهل بما أفاء الله عليكم، فلا تضنوا على إخوانكم وأبنائكم بذلك، ولكم منا الشكر، ومن الله الأجر.
ج-: الذي وضع القاعدة المذكورة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" في هذا الصيغة هو العلامة السيد رشيد رضا -رحمه الله- زعيم المدرسة السلفية الحديثة، وصاحب "مجلة المنار" الإسلامية الشهيرة، وصاحب "التفسير" و"الفتاوى" والرسائل والكتب التي كان لها تأثيرها في العالم الإسلامي كله، وقد أطلق عليها: "قاعدة المنار الذهبية"، والمقصود منها: "تعاون أهل القبلة" جميعًا ضد أعداء الإسلام.
ولم يضع السيد رشيد هذه القاعدة من فراغ، بل الذي يظهر للمتأمل أنه إنما استنبطها من هداية الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وإملاء الواقع وظروفه وضروراته، وحاجة الأمة الإسلامية إلى التلاحم والتساند في مواجهة أعدائهم الكثيرين، الذين يختلفون فيما بينهم على أمور كثيرة، ولكنهم يتفقون على المسلمين وهو ما حذر منه القرآن أبلغ التحذير: أن يوالي أهل الكفر بعضهم بعضًا، ولا يوالي أهل الإسلام بعضهم بعضًا، يقول تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (الأنفال: 73).(2/122)
ومعنى (إلا تفعلوه): أي إن لم يوال بعضكم بعضًا ويساند بعضكم بعضًا كما يفعل أهل الكتاب في جانبهم، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير؛ لوجود التماسك والتلاحم والموالاة بين الكفار، في مقابلة التفرق والتخاذل بين المسلمين.
فلا يسع أي مصلح إسلامي إلا أن يدعو أمة الإسلام إلى الاتحاد والتعاون، في مواجهة القوى المعادية لهم، المتعاونة عليهم، وهي قوى عاتية جبارة، وأن ينسوا خلافاتهم الجزئية، من أجل القضايا المصيرية، والأهداف الكلية.
وهل يملك عالم مسلم يرى تعاون اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والشيوعية الدولية، والوثنية الشرقية، خارج العالم الإسلامي - إلى جوار الفرق التي انشقت عن الأمة ومرقت عن الإسلام، داخل العالم الإسلامي - إلا أن يدعوا أهل القبلة الذين التقوا على الحد الأدنى من الإسلام، ليقفوا صفًا واحدًا في وجه هذه القوى الجهنمية التي تملك السيف والذهب، وتملك قبلهما المكر والدهاء والتخطيط، لتدمير هذه الأمة ماديًا ومعنويًا؟!
ولهذا رحب المصلحون بهذه القاعدة، وحرصوا على تطبيقها بالفعل، وأبرز من رأيناه احتفل بها الإمام الشهيد حسن البنا، حتى ظن كثير من الإخوان أنه هو واضعها.
أما كيف نتعاون مع المبتدعين والمنحرفين، فالمعروف أن البدع أنواع ومراتب. فهناك البدع المغلظة، والبدع المخففة، وهناك البدع المكفرة، والبدع التي لا تخرج صاحبها عن الملة، وإن حكمنا عليه بالابتداع والانحراف.
ولا مانع أن نتعاون مع بعض المبتدعين فيما نتفق عليه من أصول الدين ومصالح الدنيا، ضد من هم أغلظ منهم في الابتداع، أو أرسخ في الضلال والانحراف، وفقًا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين.(2/123)
والكفر نفسه درجات، فكفر دون كفر، كما ورد عن الصحابة والتابعين. ولا مانع من التعاون مع أهل الكفر الأصغر، لدرء خطر الكفر الأكبر. بل قد نتعاون مع بعض الكفار والمشركين - وإن كان كفرهم وشركهم صريحًا مقطوعًا به - دفعا لكفر أشد منه عداوة أو خطرًا على المسلمين.
وفي أوائل سورة الروم، وما عرف من سبب نزولها: ما يشير إلى أن القرآن اعتبر النصارى - وإن كانوا كفارًا في نظره - أقرب إلى المسلمين من المجوس عبدة النار، ولهذا حزن المسلمون لانتصار الفرس المجوس أولاً على الروم من نصارى بيزنطة، على حين كان موقف المشركين بالعكس؛ لأنهم يرون المجوس أقرب إلى عقيدتهم الوثنية.
فنزل القرآن يبشر المسلمين أن هذا الوضع سيتغير، وتتجه الريح لصالح الروم في بضع سنين، (ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) (الروم: 4،5). يقول القرآن: (آلم غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) (الروم: 1 -5).
وقد استعان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة ببعض مشركي قريش في مواجهة مشركي هوازن، وإن كان شركهما في درجة واحدة، لما لمشركي قريش من الصلة النسبية الخالصة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحميتهم له من ناحية العصبية، حتى قال صفوان بن أمية قبل أن يسلم: لأن يربني - أي يسودني - رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن!
وأهل السنة - رغم تبديعهم للمعتزلة - لم يمنعهم ذلك أن يستفيدوا من إنتاجهم العلمي والفكري، في المواضع المتفق عليها، كما لم يمنعهم ذلك أن يردوا عليهم فيما يرونهم خالفوا فيه الصواب، وحادوا عن السنة.(2/124)
وأبرز مثل لذلك كتاب "الكشاف" في التفسير للعلامة الزمخشري، وهو معتزلي معروف، ولكن لا نجد عالمًا من بعده ممن له اهتمام بالقرآن وتفسيره إلا أخذ منه وأحال عليه، كما هو واضح في تفاسير الرازي والنسفي والنيسابوري وي وأبي السعود والألوسي وغيرهم.
ولأهميته عندهم نجد رجلاً كالحافظ ابن حجر يخرج أحاديثه في كتاب سماه "الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف"، ونجد العلامة ابن المنيّر يؤلف كتابًا في التعقيب عليه، خصوصًا في مواضع الخلاف يسميه "الانتصاف من الكشاف".
والإمام أبو حامد الغزالي حين رد على الفلاسفة، الذين كانت أقوالهم فتنة لكثير من الناس، حتى غدت أصلاً تحاكم إليه نصوص القرآن والسنة، فإن وافقته فبها، وإلا أعمل فيها مشرط التأويل، مهما تكن قاطعة الدلالة. أقول: حين قام بهذه المهمة استعان عليها بكل الفرق الإسلامية التي لم تبلغ درجة الكفر، ولهذا لم يجد حرجًا أن يأخذ من المعتزلة وأمثالهم ما ينقض به قول الفلاسفة، وقال في ذلك في مقدمة "التهافت":
(ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا مدع مثبت، فأكدر عليهم ما اعتقدوه، مقطوعًا بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطورًا مذهب الواقفية، ولا أنتهض ذابًا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبًا واحدًا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد) (من المقدمة الثالثة للتهافت).
والأخ الذي يقول: كيف نعذر من يخالفنا إذا كان هو مخالفًا للنص القرآني أو النبوي، والله تعالى يقول: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 59). ؟(2/125)
هذا الأخ غاب عنه أمر مهم، هو: أن النصوص تختلف في ثبوتها ودلالتها اختلافًا كبيرًا من حيث القطعية والظنية.
فمن النصوص ما هو قطعي الثبوت كالقرآن الكريم، والأحاديث المتواترة ،وهي قليلة، وألحق بعض العلماء بها أحاديث الصحيحين التي تلقتها الأمة بالقبول، واحتفت بها القرائن المتنوعة، حتى أصبحت تفيد العلم اليقيني، ونازعهم في هذا آخرون، ولكل أدلته.
ومنها ما هو ظني الثبوت، وهو جمهرة الأحاديث من الصحاح والحسان التي رويت في كتب السنن والمسانيد والمعاجم والمصنفات المختلفة.
وفي دائرة الظنية تتفاوت درجات الحديث ما بين الصحة والحسن، بالذات أو بالغير، تبعًا لتفاوت الأئمة في شروط التوثيق والتصحيح للحديث، من حيث السند أو المتن، أو كلاهما، فقد يقبل أحدهم المرسل ويحتج به، وقد يقبله آخر بشروط، وقد يرفضه غيره بإطلاق.
وقد يوثق أحدهم راويًا، هو عند غيره ضعيف.
وقد يشترط بعضهم شروطًا خاصة في موضوعات معينة تتوافر الدواعي على نقلها، فلا يكفي فيها نقل فرد، وهذا ما جعل بعض الأئمة يقبل بعض الأحاديث، ويستنبط منها أحكامًا، في حين يردها إمام آخر لأنها لم تثبت لديه، ولم تستوف الشروط التي بها يغدو الحديث عنده صحيحًا، أو عارضها عنده معارض أقوى منها، كأن يكون العمل على خلافها.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، يعرفها الدارسون لأحاديث الأحكام، وللفقه المقارن، وللفقه المذهبي في كتبه التي تعنى بالتدليل للمذهب والرد على المخالفين.
وكما تختلف النصوص في ثبوتها، تختلف أكثر وأكثر في دلالتها.
فمن النصوص ما هو قطعي الدلالة على الحكم، بحيث لا يحتمل النص وجهًا آخر للفهم والتفسير، كدلالة النصوص الآمرة بالصلاة والزكاة والصيام والحج على فرضيتها، ودلالة النصوص الناهية عن الزنا والربا وشرب الخمر ونحوها على حرمتها، ودلالة معظم النصوص القرآنية التي وردت في تقسيم المواريث.
وهذا النوع من النصوص قليل جدًا.(2/126)
ومن النصوص ما هو ظني الدلالة، على معنى أنها تحتمل أكثر من وجه في فهمها وتفسيرها.
فقد يفهمه بعض العلماء على أنه عام وهو عند غيره مخصوص.
أو على أنه مطلق، وهو في نظر الآخرين مقيد.
أو على أنه حقيقة وغيره يراه من باب المجاز.
أو على أنه محكم وهو في رأي آخر منسوخ.
أو على أنه يفيد الوجوب وسواه لا يجاوز به الاستحباب.
أو على أنه يدل على الحرمة، والآخر لا يرى في دلالته أكثر من الكراهية.
والقواعد الأصولية التي قد يظن البعض أنها كافيه ليرجع الجميع إليها، فيحسم الخلاف، وينقطع النزاع، هذه القواعد ذاتها هي موضع خلاف في كثير من جوانبها، ما بين مثبت وناف، ومطلق ومقيد.
خذ مثلاً: دلالة الأمر، هل تفيد صيغة الأمر الوجوب؟ أو الاستحباب؟ أو ما هو مشترك بينهما؟ أو لا تفيد شيئًا إلا بقرينة؟ أم يختلف أمر القرآن عن أمر السنة؟ الخ. سبعة أقوال ذكرها الأصوليون في دلالة الأمر، ولكل قول دليله ووجهته.
فإذا جاء حديث مثل: "أحفوا الشوارب، ووفروا اللحى"، أو حديث: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، أو حديث: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له"، أو حديث: "سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك".
فهل هذه الأوامر تفيد الوجوب أو الاستحباب أو الإرشاد؟ أو كل أمر منها له حكمه الخاص بدلالة السياق والقرائن؟
ومثل ذلك يقال في دلالة النهي: هل تفيد بصيغته التحريم أو الكراهية أو ما هو مشترك بينهما أم لا تفيد شيئًا إلا بقرينة خاصة أو يختلف النهي في القرآن عن النهي في السنة؟
سبعة أقوال أيضًا حفلت بها كتب الأصول.
وهناك الاختلاف في العام والخاص والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والمحكم والمنسوخ. . الخ.(2/127)
وحتى ما اتفق عليه من ناحية المبدأ، قد يختلف عليه من جهة التطبيق، فقد يتفق الطرفان على جواز النسخ ووقوعه، ولكنهما يختلفان في نص معين: هل هو منسوخ أم لا؟ كما في حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم "، وحديث وقوع طلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة فقط في عهد رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر، وصدر خلافة عمر.
وقد يتفق الطرفان على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصدر عنه بعض الأقوال والتصرفات بصفة الإمامة والرياسة للأمة، وهذه لا تكون من التشريع العام الدائم للأمة ولكنهما يختلفان في قول معين أو تصرف معين أهو من هذا الباب أم لا؟
وذلك مثل ما ذكره الإمام القرافي في كتابيه: "الفروق " و"الأحكام" من التمثيل بقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، وقوله: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له": أَصَدر عنه هذا بصفة التبليغ عن اللّه، فيعتبر هذا من التشريع العام الدائم؟ أم صدر عنه بصفته إمام المسلمين ورئيس دولتهم، وقائدهم الأعلى في معاركهم فلا ينفذ حكمها إلا إذا صدر عن القائد أو الإمام؟
اختلف الفقهاء في تكييف ذلك، فاختلفت لذلك أحكامهم.
وقد يتفقان على أن من أقواله وتصرفاته -صلى الله عليه وسلم- ما ليس من باب التشريع الديني المتعبد به، بل هو من أمر الدنيا الموكول إلى تقدير البشر واجتهادهم، كما قال في الصحيح: " أنتم أعلم بأمر دنياكم "
ولكنهما يختلفان في قول أو تصرف معين: أهو من أمر الدنيا الذي لا نلزم باتباعه، أم من أمر الدين الذي لا يجوز لنا الخروج عنه؟
ومن ذلك الوصفات الطبية التي جاءت في عدد من الأحاديث، واعتبرها الإمام الدهلوي من أمر الدنيا، على حين بالغ آخرون فاعتبروها دينًا وشرعًا مطاعًا.(2/128)
وهناك سبب من أهم الأسباب للخلاف في تفسير النصوص وفهمها، وهو الخلاف ما بين مدرسة "الظواهر" ومدرسة " المقاصد "، أعني المدرسة التي تقف عند ظواهر الألفاظ، وتتقيد بحرفية النص في فهمها، وفي مقابلها المدرسة التي تهتم بالفحوى، وبروح النص ومقصده، فقد تخرج عن ظاهر النص وحرفيته، تحقيقًا لما ترى أنه مقصد النص وهدفه.
وهاتان المدرستان موجودتان في الحياة في كل الأمور، وفي القوانين الوضعية أيضًا نجد الشراح يختلفون كذلك ما بين مدرسة اللفظ ومدرسة الفحوى، أو بين المضيقين والموسعين.
والإسلام لأنه دين واقعي وسع المدرستين جميعًا، ولم يعتبر إحداهما خارجة عن الإسلام، وإن كانت مدرسة " المقاصد " في رأينا هي المعبرة عن حقيقة الإسلام، بشرط ألا تهمل النصوص الجزئية إهمالاً كليًا.
وفي سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يؤيد قبول هذا النوع من الاختلاف، وذلك في الواقعة الشهيرة، وهي واقعة صلاة العصر في بني قريظة، بعد غزوة الأحزاب.
روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب: "لايصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدًا منهم (رواه البخاري في: "كتاب المغازي" باب " مرجع النبي من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة "، (4119) الفتح، ورواه مسلم أيضًا في: الجهاد (1770) وجعل الصلاة هي الظهر، وقد روي الحديث من طريق كعب بن مالك وعائشة وفيه: أن الصلاة العصر. كما في الفتح 7/408،409).
قال العلامة ابن القيم في "زاد المعاد ":
(واختلف الفقهاء: أيهما كان أصوب؟ فقالت طائفة: الذين أخروها هم المصيبون، ولو كنا معهم لأخرناها كما أخروها، ولما صليناها إلا في بني قريظة امتثالاً لأمره، وتركًا للتأويل المخالف للظاهر.(2/129)
وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق، وكانوا أسعد بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادروا إلى اللحاق بالقوم، فحازوا فضيلة الجهاد، وفضيلة الصلاة في وقتها، وفهموا ما يراد منهم، وكانوا أفقه من الآخرين، ولا سيما تلك الصلاة، فإنها كانت صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى بنص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيح الصريح الذي لا مدفع له ولا مطعن فيه، ومجيء السنة بالمحافظة عليها، والمبادرة إليها، والتبكير بها، وأن من فاتته فقد وُتِر أهله وماله، أو قد حبط عمله (أخرجه البخاري 2/26،53 من حديث بريدة بلفظ: " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله "، وأخرجه مسلم (626) من حديث ابن عمر بلفظ: " الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله " وهو في البخاري 4/24)، فالذي جاء فيها أمر لم يجئ مثله في غيرها، وأما المؤخرون لها، فغايتهم أنهم معذورون بل مأجورون أجرًا واحدًا، لتمسكهم بظاهر النص، وقصدهم امتثال الأمر، وأما أن يكونوا هم المصيبين في نفس الأمر، ومن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئًا، فحاشا وكلا، والذين صلوا في الطريق جمعوا بين الأدلة وحصلوا الفضيلتين، فلهم أجران، والآخرون مأجورون أيضًا رضي اللّه عنهم) (زاد المعاد 3/131).
والمقصود بعد هذا كله أن نقول: إن من خالفنا في نص قطعي الثبوت والدلالة لا يستحق منا أن نعذره بحال، لأن القطعيات لا مجال فيها للاجتهاد، وإنما مجاله الظنيات، وفتح باب الاجتهاد في القطعيات إنما هو فتح لباب شر وفتنة على الأمة لا يعلم عواقبها إلا اللّه تعالى؛ لأن القطعيات هي التي يرد إليها عند التنازع، وهي التي تحكَّم عند الاختلاف، فإذا أصبحت هي موضع تنازع واختلاف، لم يبق في أيدينا شيء نحتكم إليه، ونعول عليه!(2/130)
وقد نبهت في أكثر من كتاب لي إلى أن من أشد الفتن والمؤامرات الفكرية خطرًا على حياتنا الدينية والثقافية، تحويل القطعيات إلى ظنيات، والمحكمات إلى متشابهات.
بل قد تكون المخالفة في بعض القطعيات من الكفر البواح، وذلك ما بلغ منها المرتبة التي يسميها علماؤنا «المعلوم من الدين بالضرورة» وهو ما اتفقت الأمة على حكمه، وتساوى في معرفته الخاص والعام، مثل فرضية الزكاة والصيام، وحرمة الربا وشرب الخمر، ونحوها من ضروريات دين الإسلام.
أما من خالفنا في نص ظني، لسبب من الأسباب التي ذكرناها أو ما شابهها مما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام "، وقد ذكر فيه عشرة أسباب أو أعذار، تجعل الإمام من الأئمة لا يأخذ بنص أو بحديث معين، وهذا من عظيم فقهه وإنصافه -رضي اللّه عنه- فهذا نعذره وإن لم نوافقه على رأيه.
فهكذا ينبغي أن يكون موقفنا، وهو موقف التسامح مع المخالفين ما دام لهم مستند، يعتمدون عليه، ويطمئنون إليه، وإن خالفناهم نحن في ترجيح ما رجحوه.
فكم من قول اعتبر في وقت من الأوقات ضعيفًا أو مهجورًا، أو شاذًا، ثم هيأ اللّه له من ينصره ويقويه ويشهره، كما رأينا ذلك بجلاء في أقوال الإمام ابن تيمية، ومدرسته السلفية، وخصوصًا في مسائل الطلاق وما يتعلق بها، فقد ارتضاها الكثيرون من علماء المسلمين ولجان فتاواهم، وأصبحت هي عمدتهم، وأنقذ اللّه بها الأسرة المسلمة من الدمار والانهيار، وكانت إلى عهد قريب مثالاً للشذوذ والشرود عن الصواب، حتى في داخل المملكة العربية السعودية.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.
تجديد أصول الفقه
بين الإثبات والإنكار
س: جرت مناقشة حامية بين بعض المعنيين بالدراسات الإسلامية وبعض، حول قضية أثارها بعض الدعاة والمثقفين الإسلاميين في هذا العصر، وهي قضية " تجديد أصول الفقه "(2/131)
وبعض الزملاء اعتبر هذه المقولة مرفوضة كليًا، فإن أصول الفقه يحتكم إليها عند الخلاف، فكيف تصبح هي محلاً للخلاف، فهذا يجددها في اتجاه، وذاك يجددها في اتجاه آخر.
وبعض آخر لم ير في هذا الأمر بأسًا، وإنما يضيق بتجديده الجامدون والحرفيون الذين يريدون أن يبقى كل قديم على قدمه.
وقد رأينا أن نحكمك في هذا النزاع الفكري، وقد ارتضاك الطرفان المتنازعان حكمًا بينهما.
نرجو ألا تضن علينا بكلمة فاصلة، وإن كنا نعرف كثرة مشاغلك.
نفع اللّه بكم، ووفقكم لإضاءة الطريق للحائرين.
من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية
بالجزائر قسطنطينة
جـ: يدور السؤال حول كلمتين أساسيتين هما: التجديد.... وأصول الفقه.
أما كلمة " التجديد " فقد اقترنت بها ملابسات تاريخية جعلت كثيرًا من المتدينين الملتزمين يتخوفون من إطلاقها.
لقد قامت محاولات من بعض المستغربين من بني جلدتنا، أريد بها طمس هويتنا التاريخية، وذاتيتنا الإسلامية، تحت عنوان " التجديد ". وهؤلاء الذين ظهروا باسم التجديد هم الذين سخر منهم أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي، حين قال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر!!
وهم الذين ندد بهم أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته عن " الأزهر " فقال:
لا تحذ حذو عصابة مفتونة
يجدون كل قديم أمرٍ منكرا !
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا
من مات من آبائهم أو عُمِّرا !
من كل ساع في القديم وهدمه
وإذا تقدم للبناية قصرا !
وهم الذين أشار إليهم شاعر الإسلام في الهند د. محمد إقبال، حين قال في بعض محاوراته: إن جديدهم هو قديم أوربا. . . وقال: إن الكعبة لا تجدد، ولا تجلب لها حجارة من الغرب! .(2/132)
هذا اللون من دعوى التجديد مرفوض يقينًا. وقد قلت في بعض ما كتبت: (إن هذا أولى بأن يسمى "تبديدًا " من أن يسمى " تجديدًا ") (انظر: فصل: " أصالة لا رجعية، وتحديث لا تغريب " من كتابنا: بينات الحل الإسلامي).
فالتجديد الحقيقي مشروع بل مطلوب في كل شيء: في الماديات، والمعنويات، في الدنيا والدين، حتى إن الإيمان ليحتاج إلى تجديد، والدين يحتاج إلى تجديد.
وفى الحديث الذي رواه عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا: " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم، كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " (رواه الحاكم وقال: رواته ثقات، ووافقه الذهبي 1/4).
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (صححه العراقي وغيره، وذكره في صحيح الجامع الصغير) المهم هو تحديد مفهوم التجديد ومداه (انظر في ذلك: بحث " تجديد الدين في ضوء السنة " من كتابنا: من أجل صحوة راشدة).
وإذا كان الشارع قد أذن " بتجديد الدين " نفسه، وعرف تاريخ المسلمين فئة من الأعلام أطلق عليهم اسم « المجددين » من أمثال الإمام الشافعي والإمام الغزالي، وغيرهما. . . فلا حرج علينا إذن من " تجديد أصول الفقه "
وما " أصول الفقه "؟
إنه العلم الذي وضعه المسلمون ليضبطوا به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وبعبارة أخرى: العلم الذي يضع القواعد الضابطة للاستدلال فيما فيه نص، وفيما لا نص فيه.
وهو علم إسلامي صرف، ومن مفاخر تراثنا الفكري الإسلامي، وقد اعتبره شيخ مؤرخي الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث الشيخ مصطفى عبد الرازق أحد العلوم الأساسية المعبرة عن الفلسفة الإسلامية، أكثر من فلسفة المدرسة المشائية الإسلامية: مدرسة الكندي والفارابي وابن سينا.(2/133)
وإذا كان " علم أصول الفقه " قد وضعه المسلمون بالأمس ووسعوه وطوروه ابتداء من " رسالة " الإمام الشافعي (ت: 204 هـ) إلى " إرشاد الفحول " للإمام لشوكاني (ت: 255 هـ) إلى مؤلفات المعاصرين. . . فلا عجب أن يقبل التجديد اليوم. المسلمون هم الذين أسسوه، وهم الذين يجددونه.
كل العلوم الإسلامية قابلة للتجديد. الفقه وأصوله، والتفسير، وعلم الكلام، والتصوف، بل الواجب على الأمة متضامنة أن تعمل على تجديد هذه العلوم كلها.
ومنذ ما يقرب من عشرين عامًا شاركت في مؤتمر " الحضارة الإسلامية بين الأصالة والتجديد " في بيروت، وكان بحثي حول " الفقه ": وقد نشر في مجلة " المسلم المعاصر" ثم في رسالة مستقلة: بعنوان " الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد "، وفيه تحدثت عن جوانب التجديد المطلوبة في الفقه الإسلامي المعاصر (نشرته "دار الصحوة " بالقاهرة)
وأهم جوانب التجديد المنشود في الفقه هو " إحياء الاجتهاد " بضوابطه الشرعية، بعدما شاع في وقت ما، أن باب الاجتهاد قد أغلق.
وما دامت علوم الفقه والتفسير والكلام والتصوف قابلة للتجديد، بل محتاجة إليه، فلماذا لا يدخل " علم أصول الفقه " ضمن هذه المنظومة؟
لقد كتبت في مجال آخر عن حاجة علم الأصول إلى مزيد من التحقيق والتعميق والتطبيق. كما كتب في ذلك أخونا الدكتور حسن الترابي الأمين العام للحركة الإسلامية في السودان رسالة حول " تجديد أصول الفقه " لم يتح لي أن أراها، ولكني سئلت عنها كثيرًا في أكثر من بلد، وأكثر من ملتقى.
بل ذكرت في كتابي عن: " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " أن بعض مسائل الاعتقاد قابلة للاجتهاد، وهي المسائل التي اختلفت فيها الأمة، وتعددت فيها الأقوال، ولا شك أن الحق واحد منها، والمخطئ فيها مغفور له، بل مأجور أجرًا واحدًا، إن شاء الله، على قدر تحريه للحق، وتعبه من أجله.(2/134)
وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا، قال في إحدى رسائله: (فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية والعلمية، أو المسائل الفروعية العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-وجماهير أئمة الإسلام.
وأما تفريق المسائل إلى أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها. فهذا التفريق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة الإسلام. وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض) ا هـ.
وإذا كان بعض مسائل الاعتقاد قابلاً لأن يدخل دائرة الاجتهاد، فأولى منه بالدخول بعض مسائل "أصول الفقه "، على الرغم مما شاع لدى كثير من الدارسين أن أصول الفقه قطعية، وأن الأصول إذا لم تكن قطعية ودخلها الاجتهاد كغيرها، لم يعد لنا معيار نحتكم إليه إذا اختلفنا في الفروع ! .
ومنذ سنوات ثارت هذه القضية على صفحات العدد الافتتاحي من مجلة "المسلم المعاصر " حيث تبنت المجلة الدعوة إلى اجتهاد معاصر قوي يعتمد على أصول الإسلام، ولا يغفل حاجات العصر، ولم تقصر دعوتها على الاجتهاد في الفقه، بل شملت الاجتهاد في أصوله.
واعترض بعض الباحثين المعاصرين (هو الكاتب الاقتصادي الإسلامي المعروف الأستاذ محمود أبو السعود). على هذه الدعوة بأن أصول الفقه قطعية، فكيف نجتهد فيها؟.
وكان لي شرف المشاركة في تجلية هذه القضية في العدد (التالي مجلة "المسلم المعاصر " مقالة: "نظرات في العدد الأول " للمؤلف).، وكان مما قلته فيها:
لا ريب أن الشاطبي -رحمه اللّه- بذل جهده لإثبات أن الأصول قطعية، ولكن ما المراد بالأصول هنا؟ يحسن بنا أن ننقل من تعليق العلامة الشيخ عبد اللّه دراز على " الموافقات " ما يوضح المقام حيث يقول:(2/135)
(تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة: مثل " لا ضرر ولا ضرار " الحديث، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أَخْرَى) (فاطر: 18). (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج) (الحج: 78).، "إنما الأعمال بالنيات" الحديث. وهكذا. وهذه تسمى أدلة أيضًا كالكتاب والسنة والإجماع. . . إلخ وهي قطعية بلا نزاع.
وتطلق أيضًا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي من الأصول. فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية.
فالقاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني (الموافقات: 1/29 ط: التجارية).، والشاطبي قد عارض هذا بأدلة ذكرها، مقررًا في النهاية أن ما كان ظنيًا يطرح من علم الأصول، فيكون ذكره تبعيًا لا غير) (انظر الموافقات 1/29).
والذي يطالع علم أصول الفقه يتبين له أن رأي القاضي ومن وافقه هو الراجح، وذلك لما يرى من الخلاف المنتشر في كثير من مسائل الأصول. فهناك من الأدلة ما هو مختلف فيه بين مثبت بإطلاق، وناف بإطلاق، وقائل بالتفصيل، مثل اختلافهم في المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وغيرها. مما هو معلوم لكل دارس للأصول. والقياس، وهو من الأدلة الأربعة الأساسية لدى المذاهب المتبوعة، فيه نزاع وكلام طويل الذيول من الظاهرية وغيرهم.
حتى الإجماع لا يخلو من كلام حول إمكانه ووقوعه، والعلم به، وحجيته.(2/136)
هذا إلى أن القواعد والقوانين التي وضعها أئمة هذا العلم، لضبط الفهم، والاستنباط من المصدرين الأساسيين القطعيين: " الكتاب والسنة "، لم تسلم من الخلاف وتعارض وجهات النظر، كما يتضح ذلك في مسائل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ. . . وغيرها. فضلاً عما تختص به السنة من خلاف حول ثبوت الآحاد منها، وشروط الاحتجاج بها، سواء كانت شروطًا في السند أم في المتن، وغير ذلك مما يتعلق بقبول الحديث، واختلاف المذاهب في ذلك أمر معلوم مشهور، نلمس أثره بوضوح في علم أصول الحديث، كما نلمسه في علم أصول الفقه.
وإذا كان مثل هذا الخلاف واقعًا في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافق الإمام الشاطبي على اعتبار كل مسائل الأصول قطعية. فالقطعي لا يسع مثل هذا الاختلاف ولا يحتمله، من ثم ألف العلامة الشوكاني كتابه الذي سماه: " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " محاولاً فيه تمحيص الخلاف، وتصحيح الصحيح، ونبذ الضعيف، وقال في مقدمته:(2/137)
(إ ن علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يُلجأ إليه عند تحرير المسائل، وتقرير الدلائل، في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة، وقواعده المحررة، تؤخذ مسلمة عند كثير من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين، وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد بكلمة من كلام أهل الأصول، أذعن له المنازعون، وإن كانوا من الفحول؛ لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعد مؤسسة على الحق الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية أي يقينية من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيء منها أيدي الفحول، وإن تبالغت في الطول. وبهذه الوسيلة صار كثير من أهل العلم واقعًا في الرأي رافعًا له أعظم راية، وهو يظن أنه لم يعمل بغير علم الرواية حملني ذلك بعد سؤال جماعة لي من أهل العلم على التصنيف في هذا العلم الشريف، قاصدًا به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحًا لما يصلح منه للرد إليه، وما لا يصلح للتعويل عليه. ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا يبقى بينه وبين درك الحق الحقيقي بالقبول حجاب. . . لأن تحرير ما هو الحق هو غاية الطلبات، ونهاية الرغبات، لا سيما في مثل هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليد من حيث لا يشعرون، ووقع غالب المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون) (إرشاد الفحول ص2،3 ط. السعادة).
وبهذا كله يتضح أن للاجتهاد في أصول الفقه مجالاً رحبًا، هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة، ومحاولة الشوكاني " تحقيق الحق " منها لا يَعْنِي أنه لم يدع لمن بعده شيئًا، فالباب لا يزال مفتوحًا لمن وهبه اللّه المؤهلات لِوُلُوجه، ولكل مجتهد نصيب، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل.(2/138)
الأمر الذي يجب تأكيده بقوة هو أن ما ثبت بدليل قطعي لا يجوز أن ندع للمتلاعبين أن يجترئوا على اقتحام حماه. فإن هذه " القطعيات " هي عماد الوحدة الاعتقادية والفكرية والعملية للأمة. وهي لها بمثابة الرواسي للأرض، تمنعها أن تميد وتضطرب. ولا يجوز لنا التساهل مع قوم من الأدعياء، يريدون أن يحولوا القطعيات إلى محتملات، والمحكمات إلى متشابهات، ويجعلوا الدين كله عجينة لينة في أيديهم يشكلونها كيف شاءت لهم أهواؤهم، ووسوست إليهم شياطينهم.
ولقد بلغ التلاعب بهؤلاء إلى حد أنهم اجترءوا على الأحكام الثابتة بصريح القرآن، مثل توريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، فهم يريدون أن " يجتهدوا " في التسوية بين الذكر والأنثى! بدعوى أن التفاوت كان في زمن لم تكن المرأة فيه تعمل مثل الرجل! وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن المرأة وإن عملت وخرجت من مملكتها وزاحمت الرجال بالمناكب تظل في كفالة الرجل ونفقته: ابنة وأختًا وزوجة وأمًا، غنية كانت أو فقيرة، وأن أعباءها المالية دون أعبائه، فهو يتزوج فيدفع مهرًا، ويتحمل نفقة، وهي تتزوج فتأخذ مهرًا، وينفق عليها، ولو كانت من ذوات الثراء.
وبلغ التلاعب ببعضهم أن قالوا: إن الخنازير التي حرمها القرآن وجعل لحمها رجسًا، كانت خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتربى تحت إشراف لم تنله الخنازير القديمة.
وهكذا يريد هؤلاء لشرع اللّه أن يتبع أهواء الناس، لا أن تخضع أهواء الناس لشرع اللّه (وَلَو اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَوَاتُ وَالأرْض وَمَن فِيهِنَّ) (المؤمنون: 71).(2/139)
إننا نقول لهؤلاء الذين عبّدوا أنفسهم لفكرة التطور المطلق ويطالبون الإسلام أن يتطور! نقول لهم: لماذا تطالبون الإسلام أن يتطور، ولا تطالبون التطور أن يسلم؟! والإسلام إنما شرعه اللّه لِيَحْكُم، لا ليُحْكَم، وليقود لا ليقاد، فكيف تجعلون الحاكم محكومًا، والمتبوع تابعًا؟! (أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لقَوْمٍ يُوقِنُون) (المائدة: 50).
***في مجال العقائد والغيبيات***
موعد قيام الساعة
لا يعلمه إلا الله
الرد على مزاعم رشاد خليفة
أرسل إليّ بعض الإخوة صورة مما كتبه المدعو: " د. رشاد خليفة " حول تحديد موعد قيام الساعة، ذلك الرجل الذي خدع الناس يومًا بحكاية الرقم " 19 " وتطبيقه على بعض ما جاء في القرآن الكريم، وتوهم بعض الناس أنه جاء بوجه جديد من وجوه الإعجاز القرآني، ونوه به من نوه، وكتب من كتب، وكنت من الذين لم يستريحوا لهذا النوع من الاستنباط الذي لا يستحق كل ما أثير حوله من ضجيج الإطراء، وأقصى ما يقال فيه إنه من " مُلَح العلم " وطرائفه، وليس من صلبه ولبابه، حسب تقسيم الإمام أبي إسحق الشاطبي رحمه الله.
وقد تبين بعد، أن الكاتب المذكور، كان يتخذ من ذلك الرمز الذي اصطنع له دعاية ضخمة ذريعة إلى أمور أخر، منها: التشكيك في السنة النبوية، المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، ومنها: تحريف كلم الله عن مواضعها، والقول على الله بغير علم، وتفسير القرآن بالهوى والرأي المحض، كما يبدو ذلك من هذه المقالة التي نحن بصدد الرد عليها، والتي نشرها في أكثر من مجلة، بعضها مما يروج لكل باطل، وبعضها مما ينخدع بأي بريق.
مزاعم رشاد خليفة حول تحديد موعد نهاية العالم:
يحسن بي أن أسوق ما قاله هذا الرجل المغرور بحروفه، دون تلخيص أو تصرف، لأرد على كل دعاويه بالحجة الدامغة.
يقول رشاد خليفة:(2/140)
(عندما نزل القرآن الكريم على خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم- كان الله وحده يعلم عن موعد نهاية العالم ولذلك عندما سئل محمد -عليه السلام- عن موعد نهاية العالم أعطى نفس الإجابة: " الله وحده يعلم" (الأعراف: 87، الأحزاب: 63، النازعات: 42)
يعلمنا خالقنا عز وجل أن هذا العالم سوف ينتهي لا محالة (يونس: 24، إبراهيم: 48، الكهف: 8، الحاقة: 14).
كما نتعلم من الآية (15) من سورة طه أن موعد نهاية العالم سوف يتم الإزاحة عنه قبل حلول النهاية: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها).
ومن كلمة " أكاد " ندرك أن الكشف عن موعد نهاية العالم سوف يحتاج إلى بعض العمل أو بعض الحسابات. .
وتعلمنا الآية (187) في سورة الأعراف أن الله سبحانه سوف يكشف عن موعد نهاية العالم " في الوقت المناسب ": (لا يجليها لوقتها إلا هو).
ومن البديهي أن يكشف المولى عز وجل عن موعد نهاية العالم في رسالته الختامية إلى العالم وهي القرآن الكريم.
دعنا الآن نلخص هذه الحقائق القرآنية:
1ـ هذا العالم سوف ينتهي (الكهف: 8).
2ـ نهاية العالم لن تظل مخفاة: (أكاد أخفيها) (طه: 15. )
3ـ سوف يكشف الله سبحانه عن نهاية العالم في الوقت المناسب (الأعراف: 187).
4ـ الكشف عن موعد نهاية العالم يحتاج إلى بعض العمل بعض الحسابات (طه: 15).
علامات على الطريق:
نظرًا لحساسية وأهمية هذا الموضوع، شاء المولى عز وجل أن يعضد هذا الكشف بعلامات واضحة وبراهين دامغة. . بحيث تزول جميع الشكوك والريبة من قلوب المؤمنين. . هذه العلامات والبراهين تؤكد لنا أن الحسابات كلها صحيحة.
لقد اتضح أن موعد نهاية العالم يرتبط ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا بالحروف القرآنية فواتح السور (الم، كهيعص، طسم، ن. . . . إلخ).
منذ بداية الإسلام وموعد نهاية العالم مرتبط ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا بالحروف القرآنية فواتح السور.(2/141)
هذه الحقيقة تتضح لنا من الحادثة التاريخية المشهورة التي التقى بموجبها يهود المدينة بالرسول -عليه السلام- هذا الحدث التاريخي نجده في كثير من المراجع الهامة من بينها تفسير ي المشهور الذي نجد صورة منه أدناه: يروي هذا الحدث أن يهود المدينة ذهبوا إلى الرسول -عليه السلام- لمناقشته. وكان يهود المدينة كغالبية اليهود ماهرين في علم القبالة، أو حساب الجُمَّل، وهو علم مبني على أساس القيم العددية للحروف الأبجدية.
ويلزم هنا تنبيه القارئ إلى أنه عندما نزل القرآن الكريم لم تكن هناك أرقام مكتوبة، كانت الحروف تستعمل كأرقام.
فالحرف (1) قيمته (واحد)، والحرف (ل) قيمته (30)، والحرف (م) قيمته (40)، وبناء عليه فإن الحروف القرآنية « الم » مجموع قيمتها هو (1 + 30 + 40=71).
ذهب يهود المدينة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالوا: " كيف تتوقع منا أن نؤمن بدين سوف يعيش في هذا العالم 71 سنة فقط؟؟
فمن الواضح أن علماء اليهود قد ربطوا بين الحروف القرآنية (الم) الآية الأولى من سورة البقرة وهي أول سورة مدنية. . ربطوا بين هذه الحروف ومدة حياة الرسالة المحمدية.
ومن أهم الملاحظات هنا أن الرسول -عليه السلام- وافقهم على حساباتهم، وعلى هذا الربط المباشر بين الحروف القرآنية وبين عمر الدين الإسلامي. . فالرسول لم يعترض على طريقتهم في الحساب. .
بالعكس، لقد قال لهم الرسول كما تخبرنا مراجع التاريخ قال لهم: " ولكن "الم " ليست الحروف الوحيدة في القرآن فعندنا: " المص، والر، والمر، إلخ ".
ولما كان محمد -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم النبيين (سورة الأحزاب الآية: 40) فإن نهاية دينه هي ذاتها نهاية العالم.
هذا الحدث التاريخي يعلمنا أن الحروف القرآنية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا بنهاية العالم.(2/142)
ولقد بقي معنى الحروف القرآنية سرًا إلهيًا محفوظًا لمدة (14) قرنًا. (سورة يونس الآية: 20 وسورة الفرقان الآيات: 4 6).
ثم تبين من دراسات الحاسب الإلكتروني للقرآن الكريم أن هذه الحروف تساهم في نظام حسابي قرآني فائق الدقة، بحيث يثبت للعالم بطريقة مادية ملموسة أن القرآن الكريم هو رسالة الله إلى العالم وأن كل كلمة فيه بل كل حرف قد حفظت على مدى السنين والقرون: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
وهكذا فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يثبت للعالم أصالة رسالته وأصالة هذه الحروف، قبل إزاحة الستار عن علاقة هذه الحروف بنهاية العالم.
فالحروف القرآنية ليست فقط دليل أصالة وعظمة القرآن الكريم، ولكنها أيضًا تفيدنا عن موعد نهاية العالم كما يشاء المولى عز وجل.
إذ يعلمنا القرآن الكريم أن عمر الرسالة المحمدية الختامية يساوي مجموع القيمة الحسابية للحروف القرآنية.
فعدد السنوات التي خصصها الله سبحانه للرسالة المحمدية يبينه القرآن الكريم في السورة رقم (15) وهذه أول علامة على الطريق. فنحن نرى أن نهاية العالم لن تبقى خافية وذلك في الآية رقم (15) من سورة طه. . بينما نجد عدد السنوات في السورة رقم (15).
إن عدد السنوات التي خصصها المولى -عز وجل- لدين محمد -عليه السلام- نجده محددًا في سورة الحجر، رقم (15) الآية 85 إلى 88.
فالآية (85) تفتتح هذا الموضوع بالقول إن نهاية العالم آتية لا محالة: (وإن الساعة لآتية فاصْفَحِ الصَّفْح الجميل).
والآية (86) تذكرنا أن الله سبحانه يعلم موعد الساعة لأنه هو الذي خلق السموات والأرض ويعلم نهايتهم: (إن ربك هو الخلاق العليم).
ثم تحدد الآية (87) بالضبط عمر الرسالة المحمدية: (ولقد آتيناك يا محمد سبعًا من المثاني والقرآن العظيم)(2/143)
فالقرآن الكريم عدد فواتح السور فيه هو بالضبط سبع من المثاني أي (14) فكلمه "مثنى " معناها " اثنين " أو " زوج " كما في القول مثنى وثلاث ورباع، أي اثنين أو ثلاثة أو أربعة. . . وجمع مثنى هو المثاني. . سبعًا من المثاني.
وهكذا يقول الله عز وجل: إن المدة التي خصصها لرسالة نبيه محمد تساوي مجموع السبع المثاني أي الـ 41 فاتحة قرآنية. فإذا تذكرنا أنه لم تكن هناك " أرقام " عندما نزل القرآن يمكننا النظر إلى الحروف القرآنية فواتح السور، باعتبارها (14) رقمًا.
ومما يزيد الأمر وضوحًا أن الآية التالية، وهي الآية (88) من سورة الحجر تقول للرسول عليه السلام: إن الفترة التي منحها الله إياه أطول من الفترة التي منحت لأي رسول آخر: (لا تمَدَنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما متعنا به أزواجًا منهم ولا تحزن عليهم).
فمن المعروف أن الفترة التي منحها الله سبحانه لرسالة موسى -عليه السلام- كانت 1463 سنة، والفترة التي منحها الله سبحانه لرسالة عيسى -عليه السلام- كانت 570 سنة. أما الفترة التي منحها الله عز وجل للرسالة المحمدية فهي السبع المثاني.
ما هي القيمة العددية للسبع المثاني؟. . إن هذه القيمة العددية تساوي عمر الدين الإسلامي أي عدد السنوات التي حددها الخالق سبحانه من بعثة محمد -عليه السلام- حتى نهاية العالم.
فيما يلي قائمة " السبع المثاني " وقيمتهم العددية:
1ـ ق = 100.
2ـ ن =50.
3ـ ص = 90.
4ـ حم = 8 + 40 = 84.
5 يس = 10 + 60 = 70.
6ـ طه = 9 + 5 = 14.
7ـ طس = 9 + 60 = 69.
8ـ الم = 1 + 30 +40 = 71.
9ـ الر = 1 + 30 + 200 = 231.
10ـ طسم = 9 + 60 + 40 = 109.
11ـ عسق = 70 + 60 +100 =230
12ـ المص = 1 + 30 + 40 + 90 = 161.
13 المر = 1 + 30 + 40+ 200 = 271.
14ـ كهيعص = 20 + 5 + 10 + 70 + 90 = 195.
المجموع الكلي = 100+50 + 90 + 48 +70 + 14 + 69 + 71 + 231 + 109 + 230 + 161 + 271 + 195 = (1709)(2/144)
إذن عمر الرسالة المحمدية كما حدده القرآن الكريم هو 1709 سنة قمرية. . نظرًا لأن سنوات القرآن دائمًا قمرية (سورة التوبة: 36)
وهذا الرقم (1709) يقدم لنا أربعة علامات جديدة على الطريق:
أولاً: هذا الكشف شاء المولى -عز وجل- أن يظهره في عام 1400 هـ علمًا بأن التواريخ السائدة في العالم هي التواريخ التي يشاؤها الله -عز وجل- بوصفه الملك الحاكم الحقيقي لهذا العالم. . هذا يعني أن هذا الكشف قد ظهر قبل نهاية العالم بـ (1709 - 1400 = 309)309 سنة. . . وهذا الرقم (309) رقم قرآني (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعًا) (سورة الكهف: 25)
ثانيًا: الرقم (309) نجده مكتوبًا في القرآن بطريقة خاصة جدًا: " ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا ". . ولقد اكتشف العلماء حديثًا أن الفرق بين ثلاثمائة سنوات شمسية وثلاثمائة سنوات قمرية هو بالضبط تسعة سنوات قمرية. . فكتابة الرقم (309) بهذه الطريقة يوفر علينا النقاش والجدل فيما إذا كانت السنوات قمرية أو شمسية. . فالحمد لله رب العالمين. . ونرى بوضوح أن نهاية العالم كما حددها القرآن سوف تأتي بمشيئة الله بعد 309 سنة قمرية أو 300 سنة شمسية وذلك بعد سنة الاكتشاف (1400 هـ 1980 م).
ثالثًا: طبقًا للآية (78) من سورة الحجر، فإن الفترة التي خصصها الله سبحانه للرسالة المحمدية هي مجموع السبع المثاني أي 1709 سنة. وهذا معناه أن السنة التالية لعام 1079 هـ هي سنة انتهاء العالم وهي سنة 1710 هـ. . وهذا الرقم من مضاعفات الرقم 19. . ولعل القاريء يعلم الآن أن الرقم (19) عدد حروف البسملة هو الرقم القاسم المشترك الأعظم للنظام الحسابي القرآني انظر التفاصيل في كتابي بعنوان: "الكمبيوتر يتكلم " فالرقم 1710 عام انتهاء العالم من مضاعفات الرقم 19. . وهذه من أهم العلامات على طريق هذا البحث.(2/145)
رابعًا: العام الهجري 1710 هـ عام نهاية العالم يتفق مع العام الميلادي 2280 وهذا الرقم أيضًا (2280 من مضاعفات الرقم 19)
كل هذه العلامات تؤكد لنا أن نهاية العالم التي لا بد من وقوعها قد كتبها الله سبحانه في قرآنه العظيم. . وأن الموعد الصحيح لها هو العام الهجري 1710 هـ الموافق للعام الميلادي 2280 م.
ملحوظة هامة:
عندما ظهر هذا الاكتشاف ونشر لأول مرة اعترض بعض الناس على أساس أن الساعة لا بد وأن تأتي " بغتة " كما يقول القرآن (لا تأتيكم إلا بَغْتَةً).
والحقيقة أن القول (لا تأتيكم إلا بغتة) هو بالضبط مثل القول: (لا تقربوا الصلاة) وبالضبط مثل القول: (وَيْلٌ للمُصَلِّين) ويكشف عن الجهل بالقرآن.
ولقد حذرنا المولى -عز وجل- ألا نكون من المقتسمين الذين يجعلون القرآن عضين، أي يأخذون قسمًا من القرآن دون القسم الآخر، ويأتي هذا التحذير للمقتسمين في سورة الحجر عقب تحديد موعد الساعة مباشرة (الآية90)
فالبغتة نجدها في القرآن الكريم 13 مرة. . وفي كل مرة نجد البغتة (للكافرين فقط) آيات البغتة هذه نجدها في الأنعام: 31، 44، 47، والأعراف: 95، 187، ويوسف: 107، والأنبياء: 40، والحج: 55، والشعراء 202، والعنكبوت: 53، والزمر: 55، والزخرف: 66، ومحمد 18، البغتة في القرآن للكافرين فقط ؛ لأنهم لن يصدقوا هذه التعليمات القرآنية الواضحة، ولذلك ستكون الساعة مفاجأة لهم) ا هـ مقال رشاد خليفة.
بنى صاحب المقالة استنتاجه لموعد قيام الساعة من القرآن على أسس واهية، بل منهارة لا ثبات لها ولا صحة، ولا تقوم على ساقين من دين أو علم، أو منطق سليم.(2/146)
ومحورها جميعًا تفسير القرآن برأيه وهواه، دون أن يرجع إلى القرآن نفسه، فخير ما فسر القرآن بالقرآن. . ولا إلى السنة النبوية، فالرسول هو المبين للناس ما نزل إليهم. . ولا إلى سلف الأمة وخير القرون وأفقه الناس لحقيقة الإسلام ومقاصد القرآن. . ولا إلى خَلَفِها من المفسرين والشراح والفقهاء والمتكلمين وغيرهم من نجوم الدراية، وبحور الرواية.
وقد جهل أو تجاهل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"، " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " ولا غرو، فهو لا يؤمن بالسنة كلها.
أما هذه الأسس المنهارة فهي:
1- تفسيره المردود للآية (15) من سورة طه.
2ـ تفسيره الخاطئ للآية (187) من سورة الأعراف.
3ـ تفسيره الباطل المحض للآية (87) من سورة الحجر.
4ـ اختياره الرأي المضعف المردود في تأويل الحروف المقطعة في فواتح السور، وهو القائم على " حساب الجمّل " الذي لا تعرفه لغة العرب، ولا يسنده عقل ولا علم ديني أو تجريبي.
5- اعتباره فواتح السور أربع عشرة، وهو اعتبار تحكمي لا يؤيده منطق.
وإليكم البيان:
خطأ الكاتب في تفسير آية سورة طه:
زعم الكاتب أن الآية 15 من سورة طه: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) تعلمنا أن موعد نهاية العالم سوف يتم الإزاحة عنه قبل حلول النهاية. وأخذ من كلمة " أكاد " أن الكشف عن هذا الموعد سوف يحتاج إلى بعض العمل، أو بعض الحسابات !!
ومن المعلوم الواضح أن هذه الآية جاءت في سياق خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام، فلو كان المعنى كما فهم لكشف الله هذا الموعد لموسى أو لنبي بعده من أنبياء بني إسرائيل، أو للمسيح عيسى بن مريم عليهم السلام. . . ولكن الواقع أنه لم يكشف لهم ولا لأحد من الأنبياء ولا لخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام.(2/147)
ولو تواضع الكاتب قليلاً، ورجع إلى أئمة التفسير لفهم المراد من عبارة " أكاد أخفيها " يقول صاحب " روح المعاني " في تفسيرها: أقرب أن أخفي الساعة ولا أظهرها بأن أقول: إنها آتية، ولولا أن في الإخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت.
وروي عن ابن عباس وجعفر الصادق: أن المعنى: أكاد أخفيها من نفسي. أي فكيف أظهرها لكم (قال الفراء: " أكاد أخفيها من نفسي، فكيف أطلعكم عليها " الدر المنثور للسيوطي 4/249، دار بيروت. وذكر صاحب " الدر " قول ابن عباس أيضًا وهو: " أكاد أخفيها من نفسي"). . وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي. ويقرب من هذا ما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: « ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ".
ما فهمه الكاتب من آية الأعراف مردود عليه:
وزعم صاحب البحث كذلك أن الآية 187 من سورة الأعراف: (لا يجليها لوقتها إلا هو) تعلمنا أن الله سبحانه سوف يكشف عن موعد نهاية العالم في الوقت المناسب. . . ومن البديهي أن يكشف عنه في رسالته الختامية إلى العالم، وهو القرآن، كما قال.
وهذا فهم خاطئ للآية الكريمة، وسياق الآية بتمامها - لو تأمله الكاتب الجريء - يبطل فهمه بوضوح.
يقول تعالى في هذه الآية الكريمة: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
فانظر كيف سأل السائلون رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- عن موعد الساعة. . وكيف كان جوابه عنها بأمر الله تعالى، أنه لا يعلم عن وقت قيامها شيئًا، وإنما علمه عند الله. وقد كرر هذا المعنى للتأكيد مرتين (قل إنما علمها عند ربي. . . قل إنما علمها عند الله).(2/148)
وقد أتى صاحبنا من سوء فهمه للعربية، ومعنى اللام في قوله: (لوقتها) واللام هنا بمعنى " في " كما في حديث: " أفضل الأعمال الصلاة لوقتها " أي في وقتها. فهذه الجملة كما قال الألوسي بيان لاستمرار إخفائها إلى حين قيامها، وإقناط كلي عن إظهار أمرها بطريق الإخبار (روح المعاني 9/133، دار إحياء التراث العربي، بيروت).، وإنما يظهرها بأن يقيمها في وقتها المعلوم، فيعلموها على أتم وجه حينئذ.
التفسير المبتدع لآية الحجر:
اخترع صاحب هذا الرأي تفسيرًا لقوله تعالى في سورة الحجر: (ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم) (الآية: 87) جعله عمدته في مدعاة، وهو تفسير لا تدل عليه الآية لا بالتصريح ولا بالإشارة، ولم يخطر ببال أحد من المتقدمين ولا المتأخرين، ولم يقل به أحد من أهل الرواية، ولا من أهل الدراية، بل هو مخالف كل المخالفة لما صح به النقل، وما دل عليه العقل، وما يقتضيه السباق والسياق. وموجب أن الأمة كلها من الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم طوال أربعة عشر قرنًا، عاشوا وماتوا، ولم يفهموا ما أنزل إليهم من ربهم، مع أن الله أنزل كتابه بلسان عربي مبين، ووصفه بأنه (كتاب مبين) ويسره بلسانهم لعلهم يتذكرون، ومع هذا لم يتبينوا ولم يتذكروا حتى جاء صاحبنا من أمريكا، ليبين ما كان خافيًا، ويذكر بما كان منسيًا!
قال الإمام لشوكاني في كتابه "فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية في التفسير ": اختلف أهل العلم في السبع المثاني: ماذا هي؟ فقال جمهور المفسرين: إنها الفاتحة. قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب، وهو قول عُمَر وعلى وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والربيع والكلبي، وزاد القرطبي أبا هريرة وأبا العالية، وزاد النيسابوري الضحاك وسعيد بن جبير، وقد روي ذلك من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي بيانه فيتعين المصير إليه.(2/149)
وقيل: هي السبع الطول أي السور السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، والسابعة: الأنفال والتوبة لأنهما كسورة واحدة، إذ ليس بينهما تسمية. روي هذا عن ابن عباس. وقيل: المراد بالسبع أقسام القرآن، وهي الأمر، والنهي، والتبشير، والإنذار، وضرب الأمثال، وتعريف النعم، وأنباء القرون الماضية، قاله زياد ابن أبي مريم.
ولا شك أن القول الأول هو الصحيح، فعند نزول هذه الآية وهي مكية لم تكن أكثر السبع الطوال نزلت، لأنها مدنية، وكذلك الأمر والنهي إنما نزل أكثرهما في المدينة، وظاهر قوله تعالى: (ولقد آتيناك. . . ) تقدم إيتاء السبع على نزول هذه الآية.
وحسبنا لصحة القول الأول أن الإمام البخاري روى في ذلك حديثين في صحيحه:
الأول: من حديث أبي سعيد بن المعلي، وفيه قال -صلى الله عليه وسلم-: " (الحمد لله رب العالمين) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".
وثانيهما: من حديث أبي هريرة، قال: " أم القرآن يعني الفاتحة هي السبع المثاني والقرآن العظيم ".
فأما كونها سبعًا ؛ فلأنها سبع آيات، والبسملة آية منها.
وأما كونها مثاني، فلأنها تثنى، أي تكرر في كل صلاة.
وعطف القرآن عليها من باب عطف العام على الخاص، وهو معروف في العربية.
فأما قول صاحب التفسير المبتدع: إن (سبعًا من المثاني) معناها: 14 لأن المثاني جمع " مثنى "، ومثنى تعني " اثنين " كأنه قال: يا محمد أعطيناك أربعة عشر!! فهذا من القول على اللّه بغير علم، ومن الاجتراء على كتاب الله بالرأي المحض والهوى الصرف، الذي جاء النهي عنه والوعيد عليه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهل لهذا نظير في كلام العرب شعرًا أو نثرًا؟!
تحكمات لا دليل عليها:
ولو افترضنا صحة ذلك، وما هو بصحيح، فما معنى أعطيناك أربعة عشر؟ وماذا تفيده هذه الكلمة، ولم يتبين منها المعدود ما هو؟ أهو إبل أم بقر أم غنم أم دراهم أم دنانير؟ أم أي شيء هو؟(2/150)
وما الذي جعل صاحبنا يقول: إن الـ14 تعني فواتح السور في القرآن؟
وأي دليل على هذا من الشرع أو من اللغة أو من العقل؟
على أن فواتح السور ليست أربعة عشر، بل هي تسعة وعشرون، فلماذا اكتفى بالأربعة عشرة؟
وإذا كان قد اكتفى بغير المكرر، فلماذا لم يحذف الحروف المكررة أيضًا ويقتصر على الحروف الأربعة عشرة المذكورة في فواتح السور؟
إن هذا كله تحكم من قائله لا يسنده دليل من دين أو علم.
ومن العجائب أن صاحب هذا التفسير المبتدع يقول مؤيدًا بدعته:
ومما يزيد الأمر وضوحًا: أن الآية التالية وهي الآية 88 من سورة الحجر تقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن الفترة التي منحها الله إياه أطول من الفترة التي منحت لأي رسول آخر: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنَا به أزواجًا منهم ولا تَحْزَنْ عليهم)!!
فسيادته يجعل الضمير في (أزواجًا منهم) للمرسلين مثل موسى وعيسى !
هذا مع أن ما تدل عليه الآية بوضوح هو النهي عن التطلع إلى أصناف من الناس مُتِّعوا بأشياء لم يمتع هو بها من متاع الحياة الدنيا، فأما إذا كان ما عنده فوق ما عندهم، فلماذا يمد عينيه إليهم؟
وأين ذكر المرسلين فيما سبق حتي يعود الضمير إليهم؟
ولو أن صاحبنا فسر القرآن بالقرآن، ورجع إلى سورة " طه " لوجد فيها آية شبيهة بهذه الآية توضح المقصود منها تمامًا. قال تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى).
يقول ابن كثير في تفسير الآية: (أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية) (تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت 2/ 557).
وقال لشوكاني: (لما بين لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ما أنعم عليه به من هذه النعمة الدينية نفّره عن اللذات العاجلة فقال: (لا تمدن. . . . ) الخ أي لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمنّ لها) (فتح القدير 3/142).(2/151)
قال: (لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم، نهاه عن الالتفات إليهم فقال: " ولا تحزن عليهم " حيث لم يؤمنوا، وصمموا على الكفر والعناد) (فتح القدير 3/142).
القصة التي ذكرها البيضاوي لا يحتج بها:
على أن القصة التي ذكرها البيضاوي (حاشية الشهاب على البيضاوي، المكتبة الإسلامية، تركيا 1/172). وذكرها غيره أيضًا من المفسرين واستشهد بها صاحب المقال على أن النبي -صلى الله عليه وسلم-أقر اليهود على ما فهموه من الحروف المقطعة في فواتح السور، وأنها تشير إلى مدة الرسالة المحمدية على طريقة "حساب الجمل" لأنه -صلى الله عليه وسلم- تبسم عند سماع قولهم، وتبسمه يدل على إقراره لهم!
هذه القصة من الناحية العلمية غير ثابتة، ولم ترو بسند صحيح أو حسن، بل بإسناد ضعيف لا يحتج به، ضعفه الحافظ ابن كثير في تفسيره (تفسير القرآن العظيم 1/38) والسيوطي في الدر المنثور (الدر المنثور 1/23). ولشوكاني في فتح القدير (فتح القدير 1/31).، وأحمد شاكر في تخريج تفسير الطبري (تفسير الطبري 1/218، مطبعة دار المعارف). . فسقط إذن الاحتجاج بها، إذ لا يحتج بضعيف عند أهل العلم.(2/152)
على أن هذه القصة لو سلمنا بصحتها ليست نصًا في الدلالة على صحة ما يقوله اليهود في حساب الجمل، وما استنتجوه من الحروف، وهذا ما ذكره البيضاوي نفسه الذي استشهد به الكاتب. فإنه ذكر هذا القول في جملة أقوال أخرى في تفسير هذه الحروف، مع ذكر ما استدل به كل قول، ومنها دليل هذا القول من القصة المذكورة، بزعم أن تقرير الرسول لهم على استنباطهم دليل على ذلك. . . ثم أخذ العلامة البيضاوي يرد على الأقوال التي حكاها واحدًا واحدًا، ومنها هذا القول اليهودي في مصدره. فذكر أن هذه الحروف لم تستعمل لحساب الجمل فتلحق بالمعرّبات، قال: والحديث لا دليل فيه، لجواز أنه -عليه الصلاة والسلام- تبسم تعجبًا من جهلهم. . أي لتفسيرهم النازل بلسان عربي بما ليس من معاني لغة العرب كما قال الشهاب في حاشيته على البيضاوي (حاشية الشهاب المصدر السابق).
قال الشيخ شاكر: (ولله در الحافظ ابن كثير، فقد وضع الحق في موضعه حين قال في التفسير: وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره ! .
قال: وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. ثم ذكر الحديث الذي يروي القصة المذكورة نقلاً عن الطبري ثم قال: (فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به) (تفسير الطبري 1/220).
على أن هناك من العلماء قديمًا وحديثًا من رفض الخوض في تفسير هذه الحروف، ورجح ما نقل عن أبي بكر الصديق وسائر الخلفاء الأربعة: أنها سر استأثر الله بعلمه، فهي بهذا عندهم من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، ولهذا يقولون عندها: الله أعلم بمراده.(2/153)
وقد أنكر الإمام لشوكاني في تفسيره على من زعم أن لها معنى مقطوعًا به. قال: (إن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازمًا بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل، فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط.
فإن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعًا إلى لغة العرب وعلومها، فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك. . . فلم يبق حينئذ إلا أحد أمرين: الأول: التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصد عنه، والتنكب عن طريقه. وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به، ويضعون حماقات أنظارهم، وخزعبلات أفكارهم عليه. الثاني: التوقيف عن صاحب الشرع، وهذا المهيع الواضح، والسبيل القويم. . . فمن وجد شيئًا من هذا فغير ملوم أن يقول بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه. ومن لم يبلغه شيء من ذلك، فليقل: لا أدري. أو: الله أعلم بمراده. . . ) (فتح القدير 1/30، 31).
ثم قال: (فإن قلت: هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت القائل لشوكاني: لا أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكلم في شيء من معانيها) (فتح القدير 1/31، 32)
وتساءل لشوكاني: هل يجوز تقليد أحد الصحابة في تفسير هذه الفواتح إن صح إسناد القول إليه؟
وأجاب بالنفي؛ لأنه مجرد رأي له قاله باجتهاده، ثم إن المروي عن الصحابة هنا مختلف متناقض، فلو عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكمًا لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف ومتناقض، ولا يجوز.
على أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-لاتفقوا عليه ولم يختلفوا، كسائر ما هو مأخوذ عنه. . . ثم لو كان عندهم شيء من هذا لما تركوا حكايته عنه، ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم.
ثم قال:(2/154)
(والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة: ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأنه في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا. . ) (فتح القدير 1/31، 32)
هذا هو موقف من رأي السلامة في عدم التعرض لهذه الفواتح بتفسير قد لا يكون هو مراد الله تعالى.
وأما من خاض في تفسيرها من المتقدمين أو المتأخرين، فلم يرجح أحد منهم ما ذكر من أنها إشارة إلى أرقام على طريقة حساب الجمل، الذي شاع عند اليهود، كما ذكرنا من قبل.
حساب الجمل لا يقوم على أساس منطقي:
ثم إن "حساب الجمل " نفسه مجرد اصطلاح من جماعة من الناس، ولكنه اصطلاح تحكمي محض، لا يقوم على منطق من عقل أو علم.
فمن الذي رتب الحروف على هذا النحو: ا ب جـ د هـ و ز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ؟
ولماذا لم تترتب هكذا: ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز إلخ؟ أو تترتب على أي نحو آخر؟
ومن الذي جعل للألف رقم (1) والباء رقم (2) وهكذا آحادًا إلى حرف ط، ثم أعطى للحرف " ي " رقم (20) وللحرف ك (30) وهكذا الزيادة بالعشرات إلى الحرف الذي يعادل (100) وبعده تكون الزيادة بالمئات.
لماذا لم تكن الزيادة آحادًا إلى آخر الحروف؟ ولماذا لم تبدأ بعشرة أو بمائة أو بألف؟ ولماذا لم تكن هكذا: ألف (1)، و ب (10)، وجـ (20) وهكذا؟ ولماذا لم تكن هكذا: 1، 10، 100، 1000 إلخ. . . ؟ ولماذا ولماذا؟
كل هذا تحكم من واضعيه المصطلحين عليه. صحيح أنه لا مشاحّة في الاصطلاح، ولكن هذا لا يلزم أحدًا.
مخالفة هذا الرأي لصريح القرآن:
ثم إن هذا الرأي الجريء الذي حدد زمن قيام الساعة، يخالف صريح ما نطق به القرآن الكريم من كيفية قيام الساعة.
فقد أثبت القرآن أن الساعة لا تأتي إلا بغتة، كما في آية الأعراف: (ثَقُلتْ في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بَغْتَةً) الآية: 187.(2/155)
والقول بأن هذا بالنسبة للكفار، وليس للمؤمنين، غير صحيح، فالخطاب للجميع، وليس هناك دليل على اختصاص هذا الخطاب بالكفار.
على أن الساعة إذا علمت وعرف وقتها بالتحديد عند المؤمنين، فإن هذه المعرفة ستنتقل حتمًا إلى الكفار، ولو على سبيل الظن والشك، وهنا تزول المباغتة والمفاجأة التي تحدث عنها القرآن.
دعوى صاحب هذا الرأي أنه علم من القرآن ما لم يعلمه رسول الله:
وأمر آخر: إن صاحب هذا الرأي يزعم لنفسه أنه علم من القرآن ما لم يعلمه من أنزله الله عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عن الله، لم يكن يعلم عن موعد الساعة شيئًا، وجبريل أمين الوحي الذي نزل عليه بالقرآن لم يكن يعلم عن موعدها شيئًا، وهذا ثابت بنص الحديث المشهور المتفق على صحته، المعروف لدى الخاص والعام من المسلمين، وهو الذي يروي قصة مجيء جبريل في صورة رجل يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-عن أصول ومفاهيم أساسية، تعلم الناس دينهم، ومنها سؤال عن الساعة متى هي؟
فكان الجواب الواضح الصريح من الرسول البشري إلى الرسول الملكي: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل "
وجاء في هذا الحديث الصحيح في رواية مسلم: "في خمس لا يعلمهن إلا الله "، ثم تلا الآية الأخيرة من سورة لقمان: (إن الله عنده علم الساعة ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويعلم ما في الأرحام. . ) الآية.
وإنما شددنا الإنكار على مثل هذا القول لما فيه من جرأة على كتاب الله، وفتح الباب للمتلاعبين به، المحرفين للكلم عن مواضعه، فيصبح كتاب الله ملعبة لهواة الإغراب، وتصبح آياته الهادية الخالدة كأنها كرة يتقاذفها اللاعبون !
ورحم الله أبا بكر الذي كان يقول: أي سماء تقلني، وأي أرض تظلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟.(2/156)
ما تكتبه الصحف عن الطوالع
حقيقة أم خيال؟
تخصص كثير من الصحف والمجلات جانبًا منها - صفحة أو جزءًا من صفحة - تحدث الناس فيه عما ينتظرهم في يومهم أو غدهم من خير أو شر، تحت عنوان "حظك اليوم" أو ماذا تقول الطوالع؟ أو أنت والنجوم أو نحو ذلك من العناوين .
وهي في العادة تخبر الناس بحظوظهم حسب تواريخ ميلادهم التي تتوزع على البروج المعروفة، وعددها اثنا عشر.
ومن الناس من يصدق ما تكتبه هذه الصحف، فيفرحون ويتفاءلون إذا بشرتهم بسرور، ويحزنون ويتشاءمون إذا أنبأتهم بسوء ينتظرهم. وقد تصدق هذه في بعض الأحيان فيزدادون تصديقًا بهذه الطوالع والأخبار، واعتقادًا بصحتها.
وبعض الناس يقرؤها لمجرد التسلية وإن كان لا يصدقها ولا يؤمن بها.
وقد طلبت إلى إدارة مدرسة قطر الإعدادية إبداء الرأي في هذا الموضوع وبيان حكم الشرع فيه، فأقول وبالله التوفيق:
جاء الإسلام ليحرر الناس من الأوهام والأباطيل في أي صورة كانت، وفي سبيل ذلك ربط الناس بسنة الله تعالى في خلقه، وأمرهم باحترامها ورعايتها، إن هم أرادوا السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة.
ومن أجل هذا شن الإسلام حملة واسعة على ما أشاعته الجاهلية من خرافات وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها برهان، وشدد النكير على أصحابها والمتجرين بها في سوق التضليل والاستغلال للغافلين من العوام وأشباه العوام الذين لا يخلو منهم مجتمع في أي عصر كان.
ومن ذلك: السحر والكهانة والعرافة والتنجيم، وادعاء معرفة الغيب المستور بوسائط علوية أو سفلية تخرق حجاب الغيب، وتنبئ عما يكنه صدر الغد المجهول، عن طريق النجوم أو الاتصال بالجن، أو الخط في الرمل، أو غير ذلك من أباطيل الجاهليات شرقيها وغربيها.
وحسبنا أن نقرأ بعض آيات القرآن الكريم، وبعض أحاديث النبي الكريم، لنتبين ضلال هؤلاء الأفاكين.(2/157)
يقول الله تعالى في سورة النمل: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) (الآية: 65). فقد نفى عن أهل السموات والأرض علم الغيب، الذي خص به نفسه سبحانه.
وفي سورة الأعراف: (قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) (الآية: 188).
فقد أمر خاتم رسله هنا أن يعلن أنه لا يعلم الغيب المستور، ولهذا يصيبه ما يصيب غيره من البشر، ولو كان في قدرته معرفة الغيوب المكنونة لاستكثر من الخير وما مسه السوء.
وفي سورة الجن يقول تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول) (الآيتان: 26،27).
فوصف الله تعالى نفسه بأنه وحده عالم الغيب، وأنه لا يطلع على هذا الغيب أحدًا من خلقه، إلا من ارتضى من رسول، وأنه يعلمه منه بقدر ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
وتقرأ في أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من أتى عرافا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" رواه مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
" من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه البزار بإسناد جيد قوي عن جابر.
" من أتى عرافا أو ساحرًا أو كاهنا، يؤمن بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه الطبراني عن ابن مسعود ورجاله ثقات.
والعراف والكاهن والمنجم كلهم من فصيلة واحدة، وهم الذين يدعون معرفة الغيوب والمضرات عن طريق الجن والنجوم وغيرها.
وقد كان لكثير من الأمم اعتقادات في النجوم وتأثيرها في أحداث الكون، حتى ألّهها بعضهم وعبدوها من دون الله، أو أشركوها مع الله تعالى، ومن لم يعبدها صراحة أضفى عليها من التقديس ما يجعلها في حكم المعبود!(2/158)
ومن بقايا ذلك: الاعتقاد بأن ما يجري في عالمنا الأرضي من أموره، له صله بتلك النجوم العلوية، إيجابًا أو سلبا، وأن السعود والنحس، والسرور والحزن، والغلاء والرخص، والسلم والحرب، مرتبطة بحركات الأفلاك وسير النجوم.
وهذا ما يرفضه الإسلام جزمًا، فالنجوم ما هي إلا جزء من مخلوقات الله تعالى في هذا الكون العريض، والعلوية والسفلية بالنسبة لها أمور نسبية، وهي كائنات مسخرة لخدمتنا كما قال تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون). (الأنعام: 97).
وقال تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (النحل: 12).
وقال: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشياطين) (الملك: 5).
ومن هنا كان علم "التنجيم" القائم على ادعاء معرفة الغيب علمًا جاهليًا مرفوضًا في الإسلام، ومعتبرًا من ضروب السحر كما في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم، اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود وابن ماجة.
قال العلماء:
والمنهي عنه من علم النجوم هو ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان، مثل تغير الأسعار، ووقوع الحروب ونحو ذلك، ويزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب واقترانها وافتراقها، وظهورها في بعض الأزمان.. وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره. فأما ما يعرف عن طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة... إلخ فإنه غير داخل في النهي.
ومثل هذا ما يقوم عليه علم الفلك المبني على الملاحظة والتجربة والقياس. فهذا محمود، وقد كان لعلماء المسلمين فيه اليد الطولي.(2/159)
ومن هنا تكون فكرة ربط حظوظ الناس وما يحدث لهم بالطوالع والنجوم حسب تواريخ ميلادهم - فكرة جاهلية لا يؤيدها نقل ولا عقل، ولا يقوم على أساس من دين ولا علم. ومن جادل في شأنها جادل بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير.
والحقيقة أن وجود هذه الظاهرة وانتشارها، واهتمام الصحف بها، وحرص كثير من الناس على قراءتها، بل تصديقها في بعض الأحيان، ليدل على عدة حقائق هامة:
1- وجود فراع في حياة الناس في هذا العصر، ولا أعني بالفراغ فراغ الوقت، بل فراغ الفكر والنفس: الفراغ العقائدي والروحي، والفراغ دائمًا يتطلب ملؤه بأي صورة من الصور، ولهذا قيل: من لم يشغل نفسه بالحق شغلته نفسه بالباطل.
2- غلبة القلق النفسي وفقدان الشعور بالأمان والسكينة، أعني الأمان الداخلي والسكينة النفسية، وهما سر السعادة. وهذا أمر يسود العالم كله، حتى أولئك الذين بلغوا أرقي مستويات المعيشة المادية، وسخر لهم العلم أزمة الأشياء، يحيون في توتر واضطراب ومخاوف.
3- وهذا القلق وذاك الفراغ، هما في الواقع نتيجة لفقدان شئ مهم غاية الأهمية في حياة الإنسان وفي تقرير مصيره، وهذا الشيء هو: الإيمان، فالإيمان هو مصدر الأمن والطمأنينة. وصدق الله إذ يقول: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) (الأنعام: 82)، (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد: 28).
4- وأمر آخر وراء هذه الظاهرة، وهو ضعف الوعي الديني السليم، وأعني به الوعي المستمد من الينابيع الصافية للإسلام: من محكم القرآن والسنة، كما فهمها السلف الصالح، بعيدًا عن الشوائب والبدع والانحرافات. هذا الوعي هو الذي تصفو به العقيدة، وتصح العبادة، ويستقيم السلوك، ويستنير العقل، ويشرق القلب، وتتجدد الحياة.(2/160)
ولو وعى الناس وفقهوا أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن نفسًا لا تدري ماذا تكسب غدا، وأن التهجم على ادعاء الغيب ضرب من الكفر، وأن تصديق ذلك ضرب من الضلال، وأن العرافين والكهنة والمنجمين وأشباههم كذبة مضللون - ما نفقت سوق هذا الباطل، ولا وجد من يكتبه أو يقرؤه بين المسلمين، وبالله التوفيق.
هل الإنسان خليفة الله في الأرض؟
س: قرأت في مجلة إسلامية مقالا لكاتب إسلامي تحت عنوان: هل الإنسان خليفة الله في الأرض؟"، وقد أجاب الأستاذ عن هذا السؤال بالنفي، منكرًا بشدة ما شاع على ألسنة الباحثين المعاصرين وفي كتاباتهم أن الإنسان خليفة الله في الأرض. قائلاً : "ولا شك أن فكرة خلافة الإنسان لله في الأرض مأخوذة عن نظرية الحلول والاتحاد، ونظرية القطب والغوث لغلاة الصوفية".
فهل توافقون على هذا الرأي؟ وهل مما ينافى الإسلام أن نقول: إن الإنسان خليفة الله في الأرض؟ فقد كنا نحسب أن فكرة خلافة الإنسان لله فكرة مسلمة في الدين، ولا حرج في القول بها، حتى قرأنا هذه المقالة فشككنا في الأمر. لذا نرجو توضيح وجهة نظركم في هذه القضية مع الأدلة المقنعة، نفع الله بكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
جـ: لا ريب أن للموضوع خطرة وأهميته في الفكر الإسلامي القديم والحديث حيث يتعلق بتحديد مكانة الإنسان في نظر الإسلام، وتعيين درجته في سلم الكائنات، وهو أمر تعرض له المتكلمون والفلاسفة والمفسرون والمتصوفون في مناسبات شتي، كما جرى في هذا العصر على ألسنة العلماء والأدباء والباحثين الإسلاميين. حتى أصبح كالحقيقة.. كما أن بعض المستشرقين المتعصبين حاولوا أن ينفثوا سمومهم في هذه القضية مستغلين بعض العبارات ليتهموا الإسلام بالتحقير من شأن الإنسان.
ومن هنا أرى الأمر يحتاج إلى إيضاح لحقيقته وكشف لغوامضه، حتى يكون السائل على بينة من الأمر.(2/161)
وأود أن أذكر السائل وقبله الكاتب الفاضل أن هذا القول "خلافة الإنسان لله في الأرض" ليس من مبتكرات الأدباء الإسلاميين المعاصرين، وليس أيضًا من مخترعات الغلاة من الصوفية، بل هو مروي عن سادات المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو أحد الرأيين أو الآراء المذكورة في معنى الخلافة في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة: 30)، ولم يكد يخلو من ذكره كتاب من كتب التفسير في القديم أو الحديث. وأكتفي هنا بمقالين من كتب التفسير القديم:
الأول: ما ذكره ابن الجوزي في تفسيره: فقد ذكر في معنى خلافة بني آدم قولين أحدهما: أنه: خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه، ودلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود.
والثاني: ما قاله الفخر الرازي: القول الثاني: إنما سماه الله خليفة؛ لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه، وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي، وهذا الرأي متأكد بقوله: (إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (ص: 26). ا هـ.
وإذا كانت الآيات الكريمة تتحدث عن قصة آدم فإن السياق يدل على أن المرشح للخلافة هو وذريته من بعده، بدليل قول الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (البقرة: 30). فإنهم لا يقصدون بقولهم هذا آدم عليه السلام، بل يقصدون به هذا النوع الجديد من الخليقة بوجه عام بما عرفوا من طبيعة تكوينه، أو بقياسه على من سبقه من سكان الأرض، أو بإعلام من الله لهم- على اختلاف الأقوال والاحتمالات في الموضوع.(2/162)
ولست أريد هنا أن أرجح أحد القولين أو الأقوال في معنى "الخليفة" في الآية الكريمة وإن كان سياق القصة، من إعلان الله لملائكته، مقدم هذا المخلوق الجديد قبل وجوده، وتعاليمه الأسماء كلها، وإظهار تفوقه على الملائكة في اختبار علني، وأمر الملائكة بالسجود لهذا الكائن الفريد، وجعل هذا السجود مرتبًا على قوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) وطرد إبليس من رحمة الله، وتجليله باللعنة إلى يوم الدين، حين أبى أن يستجيب لأمر الله بسجود التحية والتكريم لهذا المخلوق - كل هذا قد يجعل النفس أميل إلى أن الإخبار الإلهي للملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة لا يدل على أنه مجرد مخلوق يخلف من كان قبله من سكان الأرض، بل نختار ما قاله السيد صديق حسن خان في تفسيره "فتح البيان" بعد أن ذكر الأقوال في المراد بالخلافة والخليفة: (والصحيح أنه إنما سمي خليفة، لأنه خليفة الله في أرضه، لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه).
ومعروف أن السيد صديق أحد المستمسكين بالسلفية وهو من علماء أهل الحديث المستقلين.
أقول: لست في مقام الترجيح، وحسبي أن هذا الرأي مأثور ومتكرر في مصادر التفسير، ولم يطعن فيه أحد - فيما أعلم - قبل الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وإن كان ابن القيم أدنى إلى الرفق والاعتدال في القضية من شيخه. فقد عرض للمسألة في كتابه "مفتاح دار السعادة" وهو يشرح الحديث الذي رواه أبو نعيم وغيره عن كميل بن زياد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فضل العلم وأهله وحملته وفيه: (أولئك خلفاء الله في أرضه ودعاته إلى دينه).(2/163)
قال: (قوله "أولئك خلفاء الله في أرضه" حجة أحد القولين في أنه يجوز أن يقال: فلان "خليفة الله في أرضه") وساق حجج أصحاب هذا القول من القرآن والحديث، ثم ساق دليل الطائفة التي منعت هذا الإطلاق - وهي التي سنذكرها ونناقشها بعد - ثم قال: (إن أريد بالإضافة إلى الله أنه خليفة عنه، فالصواب قول الطائفة المانعة منها، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله، فهذا لا يمتنع فيه الإضافة.. حقيقتها: خليفة الله الذي جعله خلفًا عن غيره. وبهذا يخرج الجواب عن قول أمير المؤمنين "أولئك خلفاء الله في أرضه") ا هـ.
وأنا من أكثر الناس إعجابًا بشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه المحقق ابن القيم، وبالثروة العلمية العظيمة التي خلفاها لهذه الأمة، كما أقدر دوافعهما النبيلة التي جعلتهما ينكران هذه الفكرة "خلافة الله" بعد أن غلا فيها بعض المتصوفة غلوا أفسدها، ولكني أرى أن الأدلة التي اعتمدا عليها في منع القول بخلافة الإنسان لله في الأرض، ليست قاطعة ولا راجحة.
وعمدة أدلتهما هنا أمران:
أحدهما: أن أبا بكر رضي الله عنه حين قالوا له: يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبي ذلك.
الثاني: أن الخليفة من يقوم مقام غيره... والله تعالى لا يجوز أن يكون أحد خلفا عنه: لأنه لا سمي له ولا كفء، بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره. كما في حديث: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل".(2/164)
وبالنظر في الدليل الأول نجده قيل في مقام معين له خصوصية ينفرد بها عن سواه. ذلك هو مقام الإمام الأعظم الذي بويع رئيسًا للدولة بعد رسول الله. مظنة الغلو في مثل هذه الحالة قائمة ومعروفة لدى كثير من الأمم، التي ورث المسلمون ملكهم، وأقربهم الفرس: الذين يضفون على ملوكهم ورؤسائهم نوعًا من التقديس والتأليه، وأبو بكر رضي الله عنه - مع أنه رئيس دولة - صاحب عقيدة يريد لها أن تسود وأن تظل سليمة من التشويه والتحريف، وتخصيصه وحده - دون المسلمين جميعًا - بأنه خليفة الله، يخشى منه أن يكون غلوا في التعظيم الذي ينفرد به الحكام عادة. لهذا رفضه رضي الله عنه، واكتفى بأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: "حسبي ذلك" فهذا التعقيب منه يدل على ما ذكرناه. وقد ورد أن أحد الشعراء خاطب أبا بكر بقوله:
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا حق الزكاة منزلاً تنزيلا
وسواء بلغ هذا الشعر أبا بكر أم لم يبلغه، فقد قيل في عصر أبي بكر، ولم ينقل ألينا أن أحدًا من الصحابة أنكره.
وبذلك يبين لنا أن عبارة أبي بكر ليست نصًا في إنكار خلافة الله العامة لكل البشر، لأنها سيقت في مناسبة خاصة لغرض خاص.
ونظير هذا ما روي عن أبي ذر أنه أنكر على معاوية أن يسمى مال الخزانة الإسلامية "مال الله" وأصر على أن يسميه " مال المسلمين " مع أن إضافة المال إلى الله تعالى واردة في القرآن الكريم: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور: 33)، ولكنه هنا خشي أن تهون كلمته " مال الله " من حق أفراد الجماعة في المال، فتمتد إليه يد ولي الأمر في غير مصلحة المسلمين أصحاب المال الحقيقيين.
والذي يعنينا هنا أن العبارة، قد تكون جائزة في نفسها، ولكن يأتي اعتبار معقول، يمنع استعمالها في مقام معين.(2/165)
وبالنظر إلى الدليل الثاني: لا نسلم أن الخلافة عن الله تستلزم أن يكون الإنسان سميًا لله وكفوًا، تعالى الله عن ذلك. فإن الخليفة هو الوكيل والنائب، ولله تعالين يوكل من يشاء من خلقه فيما شاء من أمره. كما وكل ملائكته في بعض شئون خلقه، وكما أناب الإنسان في تنمية المال وإنفاقه، على ما يرضي الله سبحانه مالك المال وصاحبه الحقيقي، قال تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد: 7).
قال الزمخشري في تفسير الآية: يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب أ هـ.
وقد شاع بين جمهور المسلمين حديث قدسي يقول:" المال مالي والفقراء عيالي والأغنياء وكلائي، فإذا بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي" وليس لهذا الحديث سند يعرف، ولكن معناه لا غبار عليه، وتلقيه بالقبول يدل على أن فكرة الاستخلاف في مال الله عميقة الجذور في عقلية المسلمين.
وقد أصبحت هذه الفكرة أساسًا لما عليه المفكرون الإسلاميون في هذا العصر، لتوضيح معالم نظرية الإسلام الاقتصادية.
وابن القيم نفسه بعد أن رجح عدم الجواز بأن يقال: (إن أحدًا وكيل الله؛ لأن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة، والله عز وجل لا نائب له..) عاد فقال: (على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه ورعايته والقيام به) (مدارج السالكين 2/126، 127، ط. السنة المحمدية بالقاهرة).
والخلاصة:(2/166)
إن القول بالخلافة لله في حد ذاته ليس خطأ ولا خطرًا ولا يؤدي إلى كل هذا الانزعاج، وإن في استطاعتنا أن ننتفع بهذه الفكرة، ونجردها من تحريف الغلاة من الصوفية، ونبرز بها نظرة الإسلام إلى الإنسان، وموضعه الرفيع في هذا الكون، في مقابل النظرات المادية الحديثة التي هبطت به إلى أسفل سافلين، وجعلته من أحفاد القردة، وأقارب الخنازير.
إن الخلافة عن الله توحي بأمور أربعة ليس منها ولا في واحد منها ضرر ولا خطر على الإنسان، بل فيها الخير الكثير لمن تدبرها:
أولها: أن الإنسان ليس مطلق التصرف في هذا الكون يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يسأل عما يفعل، ولا يحاسب على ما يحكم، إنما هو مخلوق مستخلف من خالق الكون وخالقه، موكل بأن يعمره ويتصرف فيه وفق أمر موكله وإرشاد مستخلفه.
ثانيها: أن الله قد أعطاه شرفًا عظيمًا بهذه المنزلة التي خصه بها دون سائر المخلوقات العلوية والسفلية. شرفًا غبطته عليه الملائكة المقربون وعبر عنه الإمام الرازي بقوله: إن الله جعل آدم خليفة له... ومعلوم أن أعلى الناس منصبًا عند الملك من كان قائمًا مقامه في الولاية والتصرف وكان خليفة له... وهذا متأكد بقوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض...) (لقمان: 20)، ثم أكد هذا التعميم بقوله: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) (البقرة: 29)، فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات، فالدنيا خلقت متعة لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبر عليه، والجن رعيته، والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته، وبعضهم منزلين لرزقه، وبعضهم مستغفرين له.
ثالثها: أن هذا الإنسان المستخلف لا بد أن يكون قد أعطي من الطاقات والمواهب وهيئ له من الأسباب والمعينات والآلات ما يمكنه من القيام بحق هذه الخلافة، وإلا كان استخلافه في هذه الأرض عبثًا يتنزه عنه الإله العليم الحكيم.(2/167)
ولعلنا نلمح من هذه المواهب موهبة العلم والمعرفة التي برزت في تعلم آدم للأسماء كلها بتعليم الله عز وجل.
كما نجد الوسائل المعينة على مهمة الخلافة في مثل قوله تعالى في الآية السابقة لقصة استخلاف آدم: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29)، أو في آيات أخرى مثل (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه). (الجاثية: 13).
رابعها: أن الإنسان الذي لا يقوم بحق هذه الخلافة ولا يرعى أمانتها، لا يستحق أن يحظى بشرف اسمها، وحمل عنوانها، ووجب أن يسحب منه لقب " خليفة الله " فخلفاء الله هم المؤمنون الصادقون المذكورون في قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (الأنبياء: 105).
وأخيرًا فإن في ديار العرب والمسلمين اليوم من المذاهب المنحرفة، والأفكار الهدامة، والعقائد المستوردة، والفرق الباطنية المناوئة للإسلام وأمته - ما هو أولى بأن توجه إلى مقاومته جهود العلماء والكتاب والمفكرين من الغيورين على عقيدة الإسلام، وشريعة الإسلام، وأمة الإسلام.
بفضل الله
وجهود المخلصين
شهدت حفلاً كبيرًا حضره جلة من العلماء والباحثين والمفكرين وافتتح الحفل بالقرآن الكريم، ثم بعدد من الكلمات التي تقال في مثل هذه الأحفال والمؤتمرات...
والذي لفت نظري ونظر الكثيرين من الحاضرين، أن أحد المتكلمين وهو عالم وأديب مرموق، جاء في كلمته عبارة كثيرًا ما تتكرر على ألسنة الخطباء، وأقلام الكتاب، وهي: أن النجاح الذي تحقق للمؤسسة إنما تم بفضل الله تعالى وجهود العاملين المخلصين وبذلهم ونشاطهم... الخ.
وهنا قام عالم كبير معقبًا على كلمة العالم السابق بأن هذا التعبير " بفضل الله وجهود العاملين.. الخ" لا يجوز؛ لأنه ينافي إخلاص التوحيد لله تعالى، ويوهم إشراك الآخرين معه وتسويتهم به جل جلاله، وأن الواجب دفع هذا الإيهام بأن يقال: بفضل الله تعالى ثم بجهود العاملين المخلصين.(2/168)
وانتهى الحفل ولم يعقب أحد على التعقيب، ولكن تساءل الكثيرون عن مدى الخطأ في مثل العبارة المنقودة، وعن مدى الوجوب والإلزام في العبارة المقترحة، وهل هناك دليل على لزوم مثل ذلك؟
نرجو البيان والإيضاح المصحوب بالدليل الشرعي، داعين لكم بالصحة ودوام التوفيق في خدمة الإسلام ونفع المسلمين.
جـ: العقيدة هي جوهر الإسلام، والإيمان بالله تعالى هو جوهر العقيدة، والتوحيد هو جوهر الإيمان، والتوحيد يعني إفراد الله سبحانه بالعبادة والاستعانة، فلا يعبد غيره، ولا يستعان إلا به، وهو الذي يتجلى في مناجاة المسلم لربه في كل صلواته: (إياك نعبد وإياك نستعين). (الفاتحة: 5).
والتوحيد هو المحرر الحقيقي للبشر من العبودية لكل ما سوى الله تعالى، فهو يحررهم من العبودية للطبيعة، ومن العبودية للأشياء، ومن العبودية للأشخاص، ومن العبودية للأوهام، ومن العبودية للأهواء، ومنها هوى الإنسان نفسه، وبهذا يحيا الإنسان سيدًا في الكون عبدًا لله وحده.
والأديان السماوية كلها تدعو الناس إلى التوحيد، وكل رسول من عند الله، كان أول ما يوجه إلى قومه هذا النداء: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). (هود: 50، 61،84).
ثم جاء الإسلام ليؤكد ما جاءت به الرسالات السابقة من التوحيد وتنقيته مما علق به من خرافات الوثنية، وتحريفات الغلاة والمفرطين، وكانت رسالته إلى أهل الكتاب دعوة قوية إلى هذا التوحيد النقي الناصع تمثله الآية الكريمة التي ختم بها النبي رسائله إلى قيصر والنجاشي والمقوقس وغيرهم من أمراء النصارى، وهي قوله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). (آل عمران: 64).(2/169)
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تثبيت دعائم التوحيد في المجتمع المسلم، حتى إن المسلم يستقبل الحياة في أول لحظة بكلمة التوحيد، ويودعها في آخر لحظة بكلمة التوحيد، حيث علمنا أن نؤذن في أذن الطفل حين يولد لنسمعه " لا إله إلا الله"، وأن نلقن المحتضر على فراش الموت كلمة " لا إله إلا الله "، فهذه الكلمة أول ما يسمعه وآخر ما يسمعه.
كما حرص الرسول الكريم على حماية حمى التوحيد من أي شائبة تشوبه، حتى لا يتسرب إلى عقيدة المسلمين ما تسرب إلى أهل الكتاب من قبلهم، حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه، من (التشبيه والتجسيم) الذي يقول به اليهود، و(التثليث) الذي يقول به النصارى، وحتى لا يقعوا فيما وقعت فيه الأمم القديمة مثل قوم نوح الذين وضعوا صورًا لصالحيهم يتذكرونهم بها، فما زالوا بعظمونها، ويزيدون في تعظيمها، حتى انتهى بهم المطاف إلى عبادتها.
وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقاوم أي مظهر من مظاهر الغلو في شخصه. فإن الغلو أوسع أبواب الشرك.
ومن ذلك: الألفاظ الموهمة للتقديس أو المشعرة بالمساواة مع الله تعالى، وهذا يعرف بدلالة الحال ودلالة المقال معًا.
ولهذا حين قال رجل في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله، وشئت يا رسول الله، أنكر عليه ذلك بشدة وقال: "أجلتني مع الله عِدْلا؟ - وفي لفظ: ندا - لا بل ما شاء الله وحده". (رواه البخاري في: الأدب المفرد (787)، وابن ماجة (2117)، وأحمد (1839و2561)، وقال شاكر: إسناده صحيح).
وفي الحديث الآخر: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان". (رواه أحمد (5/384، 394)، وأبو داود (4980) من حديث حذيفة، وذكره الألباني في سلسلة الصحيحة برقم (137).(2/170)
وحديث ثالث: أن حبرًا - أي من أهل الكتاب - جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال إنكم تشركون: تقولون: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: ما شاء الله ثم شئت". (رواه أحمد (6/371،372)، والحاكم (4/297) وصححه ووافقه الذهبي من حديث قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة، ذكره في الصحيحة 136).
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على ضرورة التحرز من الألفاظ الموهمة للشرك، وإن لم يقصد قائلها إليه.
ولكن السؤال المهم هنا:
أهذا واجب في جميع الألفاظ والعبارات بحيث لا يجوز العطف بالواو على فعل أو أمر أسند إلى الله تعالى أم هذا التشديد خاص ببعض الألفاظ والعبارات التي لها إيحاء خاص مثل لفظ" المشيئة "، ومثله لفظ " التوكل "، كأن يقول توكلت على الله وعلى فلان، وأمثالهما؟
إن الذي يقرأ القرآن الكريم ويجول فيه متدبرًا، يجد أن الكتاب العزيز استعمل تعبيرات مشابهة للتعبير الذي اعترض عليه: "بفضل الله وجهود المخلصين " وذلك في مناسبات متعددة.
ومن ذلك:
1 ـ قوله تعالى: يخاطب رسوله: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم). (الأنفال: 62). ولم يقل سبحانه: هو الذي أيدك بنصره ثم بالمؤمنين.
ب ـ قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير) (لقمان: 14)، ولم يقل: أن اشكر لي ثم لوالديك.
جـ ـ قوله تعالى: (كبر مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا) (غافر: 35)، ولم يقل: ثم عند الذين آمنوا.
د ـ قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (التوبة: 105)، ولم يقل: ثم رسوله ثم المؤمنون.
هـ ـ ومثلها: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (المنافقين: 8)، (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) وما كان من هذا القبيل، وهو كثير.
و ـ قوله: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان (النساء: 75).، ولم يقل: ثم المستضعفين.(2/171)
ز ـ قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) (التوبة: 59)، ولم يقل هنا: ما آتاهم الله ثم رسوله، سيؤتينا الله من فضله ثم رسوله.
ح ـ قوله تعالى: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) (التوبة: 62)، ولم يقل: والله ثم رسوله.
هذه النماذج المتعددة وما شابهها في القرآن الكريم، تدلنا بوضوح على أن استخدام حرف "ثم" في العطف بدل " الواو " - في مثل الموقف الذي كان بسبه السؤال والاستفسار - ليس بواجب ولا لازم دائمًا، وأن استعمال " الواو " ليس منكرًا ولا ممنوعًا في كل حال.
إنما يمنع في حالات معينة توهم التسوية في الصورة بين الله وخلقه، كما في حالات نسبة المشيئة إلى الله عز وجل، فعطف مشيئة العبد المخلوق على مشيئة الله الخالق، في سياق واحد بالواو التي تفيد مطلق الجمع، ينفر منه حس الإنسان الموحد، وهو ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال له من قال: ما شاء الله وشئت! قائلاً: " أجعتني لله عدلاً أو ندًا؟".
وهو ما أنكره بعض الأحبار على المسلمين، وأقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويشبه ذلك ما يقوله بعض الناس، باسم الله واسم فلان، باسم الله واسم الوطن.
ونحوه أو قريب منه ما يقال: لوجه الله ووجه فلان.
فالذي ينبغي هنا هو الاحتياط، سدًا للذريعة، وحماية لجناب التوحيد، وبعدًا عن مظنة الغلو والتقديس، فإنما هلك من كان قبلنا بالغلو في الدين. وبالله التوفيق.
رأي ابن تيمية وابن القيم
حول فناء النار
س: كان الاعتقاد السائد والمستقر في نفسي من عهد الصبا. مما سمعته وتلقنته، ومما قرأته بعد ذلك وطالعته، أن عذاب النار أبدي بالنسبة للكفار الذين ماتوا على كفرهم مصرين، وأن النار لا تفنى أبدا، شأنها شأن الجنة ونعيمها.(2/172)
ولكني قرأت في بعض الكتب أخيرًا كلمات مقتضبة: أن لشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رأيًا آخر خالفا فيه جمهور أهل السنة، أو جمهور المسلمين عامة، وهو الذي يقول بأن النار ليست أبدية، وأنها ستفنى يومًا بمشيئة الله تعالى وأمره، وأنها سيأتي عليها زمن لا يكون فيها أحد.
فهل هذا القول المنسوب إلى الشيخين صحيح؟ أو هو من اتهامات خصومهما لهما وتشنيعهم عليهما؟
أرجو بيان ذلك من خلال ما كتباه في كتبهما؛ لا من نقل الآخرين عنهما والله يحفظكم ويجزيكم خيرا.
ت. د. غ
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله، وبعد:
فإن الرأي الذي يسأل عنه الأخ الكريم قد نسب إلى الإمامين: ابن تيمية وابن القيم، وقد قرأت ذلك في بعض الكتب، كما قرأه السائل، ولكني مع طول ما قرأت لابن تيمية - لم أعثر عليه في كتبه ورسائله الكثيرة، وقد طبعت المملكة العربية السعودية منها بعض الكتب الكبيرة مثل:" منهاج السنة" ومثل " درء تعارض العقل والنقل"
كما طبعت الرسائل والفتاوى في سبعة وثلاثين مجلدًا، بفهارسها.
ولم أجد في شئ منها هذا الرأي لابن تيمية. بل وجدته لتلميذه ابن القيم.
ولا أدري سبب الخطأ في نسبته إلى شيخ الإسلام، ولعلهم ظنوا أن ابن القيم لا يقول رأيًا مستقلاً من عند نفسه، إنما آراؤه تأييد وتأكيد لآراء شيخه في الغالب. وربما فصلها وشرحها ودلل عليها أكثر من شيخه.
ولكن الواقع أن هذا الرأي إنما هو رأي ابن القيم رحمه الله.
وها أنا أنقل خلاصة له هنا من نصوص كتبه، لنتبين موقفه من هذه القضية.
خلاصة ما ذكره ابن القيم في المسألة:
تعرض ابن القيم لمسألة دوام النار وأبديتها في كتابين له:
1 ـ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح من ص 254 إلى ص 280.
2 ـ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة التعليل من ص 252 إلى ص 264.
وزبدة ما ذكره في كتابيه يتلخص فيما يلي:(2/173)
أولاً: ذكر في أبدية النار أو فنائها سبعة أقوال، أفاض القول في سابعها وهو: أن للنار أمدًا تنتهي إليه، ثم يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى. وقد أيد هذا القول بوجوه عديدة - على لسان أصحابه - منها:
1 ـ أن الله تعالى أخبر في ثلاث آيات عن النار بما يدل على عدم أبديتها:
أ ـ آية سورة النبأ: (لابثين فيها أحقابًا) (الآية: 23). فتقييد لبثهم فيها بالأحقاب يدل على مدة مقدرة يحصرها العدد، لأن ما لا نهاية له لا يقال فيه: هو باق أحقابًا، وقد فهم ذلك من الآية الصحابة - وهم أفهم الأمة لمعاني القرآن - كما سنذكر بعد.
ب ـ آية سورة الأنعام: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) (الآية: 128).
جـ ـ آية سورة هود: (خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) (الآية: 107).. وقال بعدها في الجنة وأهلها: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) (الآية: 108). ولولا الأدلة القطعية الدالة على أبدية الجنة ودوامها، لكان حكم الاستثناء ين في الموضعين واحدًا. كيف؟ وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناء ين فإنه قال تعالى في أهل النار: (إن ربك فعال لما يريد) فعلمنا أنه تعالى يريد أن يفعل فعلاً لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة: (عطاء غير مجذوذ) فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدًا - وسنذكر ما قاله الصحابة في الاستثناء.
2 ـ هذا القول منقول عن عدد من الصحابة والتابعين وجلة الأئمة:
فمن الصحابة:
عمر رضي الله عنه قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل " عالج " لكان لهم يوم يخرجون فيه".
وابن مسعود رضي الله عنه قال: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا".
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه روي عنه نحوه.(2/174)
وأبو هريرة قال: "أما الذي أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ: (فأما الذين شقوا..) الآيتين.
وأبو سعيد الخدري قال في آية: (إلا ما شاء ربك): "أتت على كل آية في القرآن، أي آية وعيد".
وابن عباس - في رواية عنه - قال في الآية: (إلا ما شاء ربك): "استثنى الله قال: أمر الله النار أن تأكلهم".
ومن التابعين وأئمة السلف:
الشعبي قال: "جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خرابًا".
وأبو مجلز قال عن النار: "جزاؤه، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه".
وإسحاق بن راهويه - وقد سئل عن آية هود - قال: "أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن".
3 ـ دل العقل والنقل والفطرة على أن الرب تعالى حكيم رحيم:
والحكمة والرحمة تأبيان بقاء هذه النفوس في العذاب أبد الآباد، وقد دلت النصوص والاعتبار على أن ما شرعه الله وقدره من العذاب والعقوبات في الدنيا، إنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ، وقطع النفوس عن المعاودة - وغير ذلك من الحكم - وفي القرآن والسنة ما يدلنا على أن جنس الآلام إنما هو لمصلحة الإنسان (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ) (التوبة: 120). الخ، (وليمحص الله الذين آمنوا) (آل عمران: 141).إلخ، ورب الدنيا والآخرة واحد، وحكمته ورحمته موجودة في الدارين، بل رحمته في الآخرة أعظم، فقد ورد في الصحيح: أن رحمته في الدنيا جزء من مائة جزء من رحمته في الآخرة، فإذا كان العذاب في هذه الدار رحمة بأهله ولطفا بهم ومصلحة لهم، فكيف في الدار التي تظهر فيها مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض.(2/175)
وليس لله غرض في العذاب كما قال تعالى: (ما يفعل بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) (النساء: 147). كما أنه لا يفعله سدي، وإذن فلا بد من حكمة ومصلحة تعود على عباده، وهي إما مصلحة أحبائه وأوليائه بتمام نعيمهم وبهجتهم بما يفعله في أعدائه وأعدائهم، وإما مصلحة الأشقياء ومداواتهم، أو لهذا ولهذا. وعليه، فالتعذيب مقصود لغيره، قصد الوسائل لا قصد الغايات، والمقصود من الوسيلة إذا حصل على الوجه المطلوب زال حكمها. ونعيم أهل الجنة ليس متوقفًا في أصله ولا كماله على استمرار عذاب أهل النار ودوامه، ولو كان أهل الجنة أقسى خلق الله لرقوا لحال أعدائهم بعد طول العذاب. ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام واستمرار العذاب، وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم.
4 ـ أخبر الله تعالى أن رحمته وسعت كل شئ:
وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه كتب على نفسه الرحمة، فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب إلى غير غاية لم تسعهم رحمته، وهذا ظاهر جدًا، والثابت أن رحمته لا بد أن تنتهي حيث ينتهي العلم كما قالت الملائكة: (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلمًا). (غافر: 7).
وقد تسمى الله بالغفور الرحيم ولم يتسم بالمعذب ولا بالمعاقب، بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) (الحجر: 49، 50). وغيرها من الآيات، فإنه يتمدح بالعفو والمغفرة والرحمة والحلم... إلخ ويتسمى بها، ولم يتمدح بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المنتقم إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى ولم يثبت.
5 ـ يوضح هذا أن الله لم يخلق الإنسان عبثًا ولم يخلقه ليعذبه:(2/176)
وإنما خلقه ليرحمه ولكن اكتسب موجب العذاب بعد خلقه له، فتعذيبه ليس هو الغاية، وإنما تعذيبه لحكمة ورحمة، والحكمة والرحمة تأبيان أن يتصل عذابه سرمدًا إلى غير نهاية، أما الرحمة فظاهر، وأما الحكمة فلأنه إنما عذب على أمر طرأ على الفطرة وغيرها، ولم يخلق عليه من أصل الخلقة، لأن الله خلق عباده حنفاء، ولم يخلق له؛ لأنه لم يخلق للإشراك ولا للعذاب. بل خلق للعبادة والرحمة ولكن طرأ عليه موجب العذاب فاستحق العذاب، وذلك الموجب - وهو الكفر - لا دوام له فكيف يكون موجبه دائمًا؟
6 ـ أهل السنة على أنه يجوز تخلف الوعيد:
بل إخلافه كرم وعفو وتجاوز يمدح الرب تعالى به، ويثني عليه به، لأنه حقه، والكريم لا يستوفي حقه فكيف بأكرم الأكرمين؟ واستشهد ابن القيم لذلك بآثار وأشعار. هذا في وعيد مطلق، فكيف بوعيد مقرون باستثناء معقب بقوله: (إن ربك فعال لما يريد)؟ ولهذا قالوا: أتت على كل وعيد في القرآن.
ثانيًا: فند ابن القيم الأدلة التي استند إليها القائلون بدوام النار، وأهمها:
1 ـ الآيات التي دلت على خلود الكفار وتأبيدهم في النار، وقد قال: إن ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، والخلود هو المكث الطويل كقولهم: قيد مخلد والتأبيد في كل شئ بحسبه، فقد يكون لمدة الحياة، ولمدة الدنيا. وقد ورد النص بالخلود على بعض الكبائر من الموحدين وقيد في بعضها بالتأبيد، كما في قاتل المؤمن عمدًا: (فجزاؤه جهنم خالدًا فيها) (النساء: 93). وكما في قاتل نفسه: "فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".(2/177)
2 ـ الآيات التي دلت على عدم خروجهم منها: (وما هم بخارجين من النار) (البقرة 167). (وما هم منها بمخرجين) (الحجر: 48)، (لا يقضى عليهم فيموتوا) (فاطر: 36).إلى آخر تلك الآيات قال: فطائفة قالت: إن إطلاقها مقيد بآيات التقييد بالاستثناء بالمشيئة، فيكون من باب تخصيص العموم وكأن هذا قول من قال من السلف في آية هود: أتت على كل وعيد في القرآن.
والذي صححه ابن القيم أن هذه الآيات على عمومها وإطلاقها، فهم باقون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية، ولكن ليس فيها ما يدل على أن نفس النار دائمة بدوام الله لا انتهاء لها، وفرق بين أن يكون عذاب أهلها دائمًا بدوامها، وبين أن تكون هي أبدية لا انقطاع لها، فلا تستحيل ولا تضمحل.
3 ـ الإجماع، قال ابن القيم: وإنما يظن الإجماع في المسألة من لم يعرف النزاع، وقد عرف النزاع فيها قديمًا وحديثًا، كيف وقد نقل عن الصحابة والتابعين التصريح بخلاف ما يدعون؟
ثالثًا: بعد هذا كله مال ابن القيم إلى التفويض في المسألة إلى مشيئة الله فلا جزم بفناء النار، كما لا جزم بدوامها. قال في شفاء العليل: وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين على؛ فإنه ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ووصف ذلك أحسن صفة ثم قال: ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء، وعلى مذهب ابن عباس حيث يقول: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا. ذكره في تفسير قوله تعالى: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله)، وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول: انتهى القرآن كله إلى هذه الآية: (إن ربك فعال لما يريد)، وعلى مذهب قتادة حيث يقول: (إلا ما شاء ربك): الله أعلم اثنياه: علام وقعت؟، وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول: أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: (عطاء غير مجذوذ) ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.(2/178)
والقول بأن النار وعذابها دائمان بدوام الله خبر عن الله بما يفعله، فإن لم يكن مطابقًا لخبره عن نفسه بذلك كان قولاً عليه بغير علم، والنصوص لا تفهم ذلك، والله أعلم.
المسجد والسياسة
س: اشتد الجدل بيننا في مسألة مهمة، واختلفنا فيما بيننا، فمنا من يثبت، ومنا من ينفي، ولم يستطع أحد من الفريقين أن يقنع الآخر.
فرأينا أن نحتكم إلى فضيلتكم، لأهمية القضية وخطورتها، وخصوصًا في الوقت الحاضر.
والمسألة هي: هل يجوز استخدام المسجد لأغراض سياسية؟
وما دليل الجواز إن كان جائزًا؟ أو المنع إن كان ممنوعًا؟
وفقكم الله تعالى ونفع بعلمكم المسلمين.
جـ:
المسجد مركز الدعوة ودار الدولة في عهد النبوة:
كان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محور أنشطة الجماعة المسلمة كلها، فلم يكن مجرد دار للعبادة والصلاة، بل كان جامعًا للعبادة، وجامعة للعلم، ومنتدى للأدب، وبرلمانًا للتشاور، ومجمعًا للتعارف، إليه تفد الوفود من شتى جزيرة العرب، وفيه يلتقي الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الوفود، وفيه يلقي خطبه وتوجيهاته في أمر الحياة كلها دينية واجتماعية وسياسية.
ولم يكن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فصل بين ما يسميه الناس الآن دينًا وما يسمونه سياسة، ولم يكن عنده مكان آخر للسياسة ومشكلاتها غير المسجد، حتى يجعل هذا للدين، وذلك للدنيا.
فكان المسجد في العهد النبوي مركز الدعوة، ودار الدولة. (انظر كتابنا العبادة في الإسلام).
المسجد بين عصور الازدهار وعصور التخلف:
وكذلك كان الخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم لم يكن المسجد إلا منطلقهم لشتى الأنشطة، السياسية منها وغير السياسية.
في المسجد خطب أبو بكر الصديق خطبته الأولى الشهيرة التي حدد فيها منهجه السياسي، أو " استراتيجيته" في الحكم. وفيها يقول: "أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني".(2/179)
وفي المسجد قال عمر: "أيها الناس، من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني"، فرد عليه أحد المصلين: "والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفينا"! فيرد عليه عمر قائلاً: "الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوم اعوجاجه بحد سيفه"!
وهكذا ظل المسجد في خير قرون هذه الأمة وفي عصور ازدهارها، فلما أفل نجم الحضارة الإسلامية، وتخلف المسلمون في شتى نواحي الحياة، تغير حال المسجد، واصبح مقصورًا على أداء الصلاة، وغدت الخطب التي تقال فيه خطبًا ميتة، لأنها تقرأ من ديوان، مذوق العبارات، مسجوع الكلمات، تدور كلها حول موضوع واحد، هو التزهيد في الدنيا، والتذكير بالموت، وفتنة القبر، وعذاب الآخرة.
ولهذا حين دبت الروح في الجثة الهامدة، وعادت الحياة بقدر ما إلى المسجد، وطفق بعض الخطباء يتحدث في قضايا المسلمين العامة، منتقدًا بعض الأوضاع العوج في حياة الأمة وبخاصة انحراف حكامها، وظلم أقويائها لضعفائها، وأغنيائها لفقرائها، وصمت علمائها. وسكوت حكمائها، قال بعض الناس: إن الخطيب قد تدخل في السياسة..!
السياسة المقبولة والسياسة المرفوضة:
ولا أدري، لماذا تذكر كلمة "السياسة" وكأنها رذيلة أو جريمة؟!
مع أن السياسة - من حيث هي علم - تعد من أشرف العلوم.
ومن حيث هي عمل وممارسة، تعد من اشرف المهن والحرف.
والعجيب أن بعض السياسيين هم الذين يسألون: هل يجوز أن يقحم المسجد في الأغراض السياسية؟ هذا وهم منغمسون في السياسة من قرنهم إلى أقدامهم.
إن السياسة ليست منكرًا ولا شرًا في ذاتها، إذا كانت وفق أصول الإسلام، وفي إطار أحكامه وقيمه.
السياسة المرفوضة هي السياسة "الميكافيلية" التي ترى أن الغاية تبرر الوسائل، ولا تلتزم بالأخلاق، ولا تتقيد بقيم، ولا تبالي بحلال أو حرام.(2/180)
أما السياسة التي يراد بها تدبير أمر الناس العام بما يحقق المصلحة لهم، ويدرأ المفسدة عنهم، ويقيم الموازين القسط بينهم، فهي مع الدين في خط واحد، بل هي جزء من ديننا نحن المسلمين، فهو عقيدة وعبادة وخلق ونظام شامل للحياة كلها.
ورسالة المسجد كما أرادها الإسلام الصحيح لا يتصور أن تنعزل عن السياسة بهذا المعنى .
فالمسجد موضوع لأمر المسلمين، ولكل ما يعود عيهم بالخير في دينهم ودنياهم، ومن خلال المسجد يتعلم الناس الحق والخير والفضيلة في شئون حياتهم كلها، روحية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية.
وهذا يدخل في الفرائض الإسلامية المعروفة فهو من "النصيحة" التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم "الدين كله" في قوله: "الدين النصيحة.." قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وهو من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، الذي جعله القرآن شرطًا للنجاة من خسران الدنيا والآخرة: (والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). (سورة العصر كلها).
وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي جعله الله تعالى السبب الأول في خيرية هذه الأمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (آل عمران: 110).
وجعله من الأوصاف الأساسية للمؤمنين والمؤمنات: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله) (التوبة: 71). فقدم فريضة الأمر والنهي على الصلاة والزكاة وهما ما هما من أركان الإسلام، دلالة على أهمية تلك الفريضة.(2/181)
وأخبرنا بلعن الذين تركوا هذه الفريضة العظيمة من الأمم: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة: 78، 79).
ومن خلال النصيحة والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد أن يكون للمسجد دور في توجيه السياسة العامة للأمة، وتوعيتها في قضاياها المصيرية وتبصيرها بكيد أعدائها.
وللمساجد من قديم دور في الحث على الجهاد في سبيل الله، ومقاومة أعداء الملة من الغزاة المتسلطين.
والانتفاضة المباركة في أرض النبوات "فلسطين" إنما انطلقت من المساجد، وانبثقت نداءاتها الأولى من المآذن، وقد سميت أول ظهورها بثورة المساجد.
وللمساجد في الجهاد الأفغاني، وكل جهاد إسلامي دور لا ينكر.
وأذكر أني في سنة 1956م عند العدوان الثلاثي على مصر، استدعيت من وزارة الأوقاف، وكان وزيرها الشيخ أحمد الباقوري، لأتولى خطة الجمعة في أحد المساجد الكبرى بالقاهرة، لتقوية الروح المعنوية عند الناس، برغم أني كنت ممنوعًا من الخطابة والتدريس وكل عمل له علاقة بالتأثير في الجمهور في ذلك الوقت، ولكن الضرورة فرضت عليهم الاستعانة بي.
ووزارة الأوقاف وشئون المساجد تطلب من خطبائها بين الحين والحين أن يخطبوا في موضوعات معينة تعين الدولة على تحقيق أهدافها وتطبيق سياستها، مثل الاقتصاد في الاستهلاك أو مقاومة العنف، أو محاربة التطرف، أو الدعوة إلى الوحدة الوطنية، أو الحملة على المخدرات.. وكلها في صميم السياسة!
فما المراد - إذن - بالأغراض السياسية التي هي موضوع السؤال؟
الذي يفهم من مثل هذا السؤال هو ما يكون من السياسة في اتجاه المعارضة للحكم القائم؟
ورأيي أن هذا لا يمنع على إطلاقه، ولا يجوز على إطلاقه.(2/182)
إنما الذي يمنع منه ما كان على وجه تذكر فيه أسماء محددة وتفاصيل جزئية، على وجه الطعن والتجريح والتشهير، فهذا لا ينبغي أن يعرض المنبر لمثله، ولا يجوز أن يسلك سبيل المهاترة والتعصب الحزبي.
إنما يتعرض لكل ما يخالف الشريعة، وإن كان هو سياسة الحكومة، فالمسجد قد أقيم لتأكيد شرع الله، لا لتأييد سياسة حكومة معينة.
فإذا خالفت الحكومة شرع الله، كان المسجد في صف الشرع، لا في صف الحكومة.
ولا يجوز بحال من الأحوال حرمان المسجد من هذا الحق الطبيعي والمنطقي والتاريخي: توعية الأمة وتحذيرها من الطواغيت الذين يعطلون شريعتها ويحكمونا تبعًا لأهوائهم أو أهواء سادتهم، الذين لن يغنوا عنهم من الله شيئًا.
في بعض البلاد الإسلامية أصدرت الحكومة قانونًا للأسرة مخالفًا لشريعة الإسلام، فقاومه العلماء، ونددوا به في المساجد، إذْ لا يملكون غيرها، فكل وسائل الإعلام الأخرى ملك الحكومة.
فما كان من السلطة الطاغية إلا أن حكمت على هؤلاء العلماء الشجعان بالإعدام والإحراق!
هذا ما حدث في الصومال على وجه التحديد. (في عهد سياد بري الذي ثار عليه الشعب وخلعه، بعد صبر طويل).
إن السلطات الحاكمة تريد استخدام المسجد بوقًا لسياستها فإذا اصطلحت مع إسرائيل فالصلح خير (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وإن ساءت علاقتها معها، فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والصلح مع العدو الغاصب حرام وخيانة!
وهكذا لا يصبح المنبر لسان صدق لرسالة الإسلام، بل جهاز دعاية لسياسة الحكام، وهذا ما يفقد المسجد مصداقيته، ويلغي تأثيره في الأمة، ويحط من كرامة العلماء والدعاة إلى الله، ونسأل الله العافية في ديننا ودنيانا.
ليس كل جديد بدعة
التحقيق فيما يدعي من بدع يوم الجمعة
جاءتني الرسالة التالية بتوقيع الأخ الكريم صاحبها من الجزائر الشقيقة :(2/183)
س : إن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ـ ما في ذلك شك ـ وفيه فرضت الصلاة " جماعة " وقت الظهر. ولبيان هذا الفضل، ورفع
شأنه، وتخليد ذكره، سميت السورة الثانية والستون من القرآن باسمه" سورة الجمعة ". كما ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة ـ في الصحيحين وغيرهما ـ تؤكد هذا الفضل، وتشيعه، وتشيد به.
ولما ليوم الجمعة من فضل، جند إبليس اللعين جنده، ليوسوسوا للناس ـ عامتهم وخاصتهم ـ ويلبسوا عليهم أمورهم، ويزينوا لهم وضع أشياء، وعبادات، في مكان عبادات أخرى شرعت يوم الجمعة، وقد فعلوا ـ عن غفلة ـ وبذلك قد دخلوا تحت مضمون الآية الكريمة الواردة في سورة الكهف برقم : 401 .
وهل يجوز القول ـ على سبيل الاستئناس ـ : إذا كان يوم الجمعة أكثر الأيام تعرضًا للبدع، فإن أكثر الناس تعرضًا للبلاء: الأنبياء والرسل؟
إن البدع التي أحدثها الناس يوم الجمعة، أصلها ـ في الحقيقة ـ عبادات، يتقرب بها إلى الله تعالىـ ولا خلاف في ذلك ـ وما صارت " بدعًا " إلا لكونها وضعت في غير موضعها زمانًا، ومكانًا ... ومثال ذلك:
أولاً : قراءة القرآن الكريم بمكبر الصوت، الذي يضبط في آخر درجة القوة، وقد صار ـ وبهذه الصورة ـ من شعارات الجمعة، إن لم أقل من سننها، مع أن رفع الصوت بالقراءة في المسجد غير جائز لوجود الضرر...
ثانيًا : درس الوعظ والإرشاد قبيل الخطبتين، فإنه ـ وإن كان عبادة، ومفيدًا ـ فإنه ليس بمشروع في هذا الوقت، إذ الوقت: وقت نافلة، وتلاوة، وذكر، وصلاة على نبي الرحمة... ثم إن السلف الصالح ـ المشهود لهم بالفلاح والصلاح ـ لم يفعلوه، مع وجود المقتضي لفعله، وهم من هم: أفقه بالحال، وأعرف بالمقال، فما يسعنا إلا الاقتداء بهم، واتباعهم فيما فعلوه، وفيما تركوه...(2/184)
ثالثًا : بدع كثيرة، أحدثها الناس يوم الجمعة، ذكر بعضها العلامة ابن الحاج في كتابه" المدخل " الجزء الثاني من صفحة 302 إلى صفحة 282، منها ما يوجد في كل المساجد على مستوى المعمورة بصفة عامة، ومنها ما يوجد في جلها، ومنها ما يوجد في هذا، ولا يوجد في غيره .. ولا يوجد مسجد سالم من البدع...
رابعًا : أما البدعة " الجديدة " التي أضيفت إلى هذه " البدع " ـ بدون ترحيب ـ فقد انفردت بها الجزائر، وفي عاصمتها ـ البيضاء ـ ولدت، وأزعم أن الذي يئدها لا يسأل ـ وأيم الله ـ بأي ذنب قتلت، بل يثاب يوم تجزي كل نفس بما كسبت، ويسر يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، وهي " عبارة عن خطبة ثالثة في شكل" بلاغ في صفحتين اثنتين من الحجم الكبير !
ذلك ما وقع بمسجد عبد الحميد بن باديس في بلدية الجزائر الوسطى بالعاصمة، يوم فاتح سبتمبر .1989م فقد وقع الإعلان عن هذا البلاغ ـ الذي اسميه خطبة ثالثة ـ بعد فراغ الواعظ من الدرس، حيث أخذ أحدهم" مكبر الصوت" وتوجه إلى المصلين قائلاً: أيها المؤمنون، لا تنفضوا بعد الصلاة، والزموا مواضعكم، فإن " بلاغًا " سيلقي على مسامعكم! وفعلا ألقى هذا البلاغ، وهو وإن كانت له قيمته، ليس هذا محله، وإنما محله:
ـ في غير هذا الوقت من يوم الجمعة .
ـ ومحله الطبيعي: الصحف، والمجلات، والندوات ...
ـ وأيضًا : يسلم لأهل الشأن، الذين بيدهم الحل والعقد، كوزارتي : التعليم العالي، والتربية والتكوين ... مثلاً: يسلمه وفد يتكون من شخصيات بارزة..
هذا، ولا يفوتني أن أؤكد : أني مع مضمون " البلاغ " مائة في المائة، ولكن أعلن ــ بقوة ــ معارضتي للطريقة التي تم التبليغ بها ... محافظة على ما درج عليه السلف الصالح.
والذي يراجع" سورة الجمعة يجد آية من آياتها، ترشد المصلين إلى الانصراف فور انقضاء الصلاة مباشرة، ولا يمكثون في المسجد، ولو للنافلة، ومن أراد" الراتبة " ففي بيته!(2/185)
كما لا يفوتني ـ أيضًا ـ القول: إن الغالب على ظني، أن ما وقع كان عن " غفلة " والعلماء يؤتون من هذا الباب، وجل من لا يخطئ.
ألا توافقونني أن هذه بدعة تستوجب المقارنة والإنكار ؟؟
جـ : ليست البدعة يا أخي كل ما استحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق، فقد استحدث المسلمون أشياء كثيرة لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم تُعَدّ بدعة، مثل استحداث عثمان أذانًا آخر يوم الجمعة بالزوراء لما كثر الناس، واتسعت المدينة.
ومثل استحداثهم العلوم المختلفة وتدريسها في المساجد، مثل: علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم النحو والصرف، وعلوم اللغة والبلاغة، وكلها علوم لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اقتضاها التطور، وفرضتها الحاجة، ولم تخرج عن مقاصد الشريعة، بل هي لخدمتها وتدور حول محورها .
فما كان من الأعمال في إطار مقاصد الشريعة، لا يعد في البدعة المذمومة، وإن كانت صورته الجزئية لم تعهد في عهد النبوة، إذ لم تكن الحاجة إليه قائمة.
ومن ذلك: إلقاء بيان أو بلاغ للناس في قضية تهمهم بعد الفراغ من صلاة الجمعة، كما كان يفعل الإخوة في مساجد غزة وغيرها من مدن فلسطين في بداية حركة الانتفاضة الإسلامية، حيث كانت بلاغاتهم وبياناتهم ونداءاتهم تنطلق من بيوت الله، وتنادي بها المآذن، ولهذا سميت في أول الأمر: ثورة المساجد.
والمسجد هو محور النشاط في الحياة الإسلامية، وقد كان في عهد النبوة دار الدعوة ومركز الدولة، كما بينت ذلك في كتابي" العبادة في الإسلام ". فيه تلقى الدروس والمواعظ، ومنه تنطلق كتائب الجهاد، وفيه يَلقى الرسول صلى الله عليه وسلم الوفود والسفراء، وفيه يعلن النكاح، بل فيه يلعب الحبشة بحرابهم ويؤدون رقصاتهم المعروفة في يوم من أيام الأعياد، والرسول يشجعهم، ويساعد زوجه عائشة حتى تنظر إليهم.(2/186)
فلم لا يكون المسجد موضوعًا لإلقاء البلاغات الإسلامية، التي لا ينكر الأخ السائل شيئًا من مضمونها، بل يقول: إنه مع المضمون مائة في المائة (100%)؟
وما المانع من إلقاء درس في المسجد بعد الجمعة، لشرح بعض ما جاء في الخطبة مما لم يتسع له وقتها وهو محدود، أو للإجابة عن بعض الأسئلة التي تعن لبعض المصلين في أمور الدين والحياة؟
وأنا شخصيًا ممن أتخذ هذا المنهج من قديم، منذ كنت أخطب الجمعة في جامع الزمالك بالقاهرة في الخمسينيات. فبعد صلاة الجمعة وركعتي السنة، أعقد حلقة للإجابة عن الأسئلة حول الخطبة أو غيرها وكانت حلقة نافعة، شعر الناس بالاستفادة منه، وحرصوا عليها.
ولا زلت أفعل ذلك ما بين حين وآخر في المسجد الذي أصلى فيه بالدوحة، كلما اتسع لي الوقت، وساعدت الصحة والظروف .
وقوله تعالى: (فإذا قُضِيَت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (الجمعة :10)، يدل على أن الانتشار وابتغاء الكسب بعد الصلاة أمر جائز ومباح، وليس واجبا، إذ الرأي الصحيح أن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة ولا يقتضي الوجوب، كما في قوله تعالى: (وإذا حَلَلْتُمْ فاصطادوا) (المائدة :2) . وقوله عن النساء في المحيض : (فإذا تَطَهَّرْن فأتوهن من حيث أمركم الله). (البقرة: 222).
وهنا كذلك، فقد حرم الله البيع وما في حكمه من ابتغاء الكسب عند النداء ليوم الجمعة، فإذا قضيت الصلاة رفع الحظر، وعاد الأمر كما كان .
والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المساجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة" وحسنه الترمذي، ذكروا فيه أن التقييد بـ " قبل الصلاة " يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر.
وكذلك الدرس قبل الجمعة، قد تدعو إليه الحاجة، أو توجبه المصلحة المتوخاة من ورائه.(2/187)
ومن ذلك: أن كثيرًا من البلاد غير العربية يخطبون الجمعة فيها باللغة العربية، وجمهور الحاضرين ــ وإن لم يكن كلهم ــ لا يعرفون العربية، فلا يستفيدون من الخطبة شيئًا يذكر، ولهذا تكون في العادة قصيرة موجزة .
ومن ثم يكملون هذا النقص بدرس باللغة المحلية، قبل الجمعة، يحضره من لا عذر لديه ممن يريد أن يتفقه في دينه .
وقريب من هذا ما يحدث في الجزائر وبعض البلاد في المغرب وإفريقيا، حيث كثير من الخطباء الرسميين لا ينقعون اللغة بخطبهم، ولا ينتظر الناس بعد الصلاة فكان درس الجمعة عوضًا عن ضعف الخطبة، وخصوصًا إذا كان من يلقي الدرس ممن لا يستطيع أن يؤدي الخطبة؛ لأنه غير مستوطن أو نحو ذلك .
طبيعي أن هذا ليس هو الوضع الأمثل، والواجب أن تكون الخطبة كافية شافية، ولكن هذا هو الواقع، وكثيرًا ما نضطر عن النزول من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى، والإسلام يجيز ذلك وفقا لقاعدة الضرورات وأحكامها.
بقي الحديث الذي ذكرناه عن عمرو بن شعيب، والخلاف فيه معروف، ومع تسليمنا بحسنه كما ذكر الترمذي، فهو لا يدل على أكثر من الكراهة، والكراهة تزول بأدنى حاجة أو مصلحة.
قال الترمذي: وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق.
وقد روي عن بعض أهل العلم من التابعين الرخصة في البيع والشراء في المسجد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة إنشاد الشعر في المسجد. (الترمذي ـ كتاب الصلاة، حديث رقم 322).
على أنهم بينوا العلة في النهي عن التحلق قبل الصلاة، فذكر صاحب " تحفة الأحوذي " أنه ربما قطع الصفوف، مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف، الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين. (تحفة الأحوذي 2/272 ط . المدني بالقاهرة).(2/188)
وكذلك ذكر الإمام ابن العربي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " : أنه إنما نهى عن التحلق يوم الجمعة؛ لأنهم ينبغي لهم أن يكونوا صفوفا يستقبلون الإمام في الخطبة، ويعتدلون خلفه في الصلاة ا.هـ (انظر عارضة الأحوذي 2/119 ط . دار العلوم للجميع بيروت الصورة عن الطبعة المصرية) أي والتحلق ينافي هذا لأنهم يكونون دوائر متعددة، غير متجهة إلى القبلة، ولا متراصة تراص صفوف الصلاة، وهذا غير وضع المصلين، وهم مصطفون مستقبلو القبلة، متهيئون للصلاة عندما يحين وقتها.
وأخذ العلماء من النهي عن التحلق قبل الجمعة، أن التحلق بعدها مشروع ولا حرج فيه، كما نبه على ذلك الإمام الخطابي في " معالم السنن :.
والله الموفق والهادي إلى الصواب.
الحساب الفلكي
وإثبات الصيام والفطر
س : لا ريب أنكم تحسون بما نحس به من أسى وأسف، في كل عام مرة أو مرتين، كلما جاء شهر رمضان، الذي فرض الله صيامه، وكلما جاء شوال ومعه عيد الفطر .
ففي هاتين المناسبتين الكريمتين اللتين يتوقع أن يجتمع عليهما المسلمون كل المسلمين، فيتحد صومهم إذا صاموا، وفطرهم إذا أفطروا، أعني أنهم يبدءون الصيام معًا، والعيد معًا، نرى الخلاف منتشرًا في إثبات دخول الشهر، والخروج منه، بين بلد وآخر، وربما كانا متجاورين، حتى رأينا الفرق بين البلدان الإسلامية بعضها وبعض يبلغ ثلاثة أيام.
ولقد رأيتنا في بعض السنين ونحن في بلد واحد (المغرب العربي) نختلف فيما بيننا اختلافًا شاسعًا، في بداية الصيام ونهايته، تبعًا لاختلاف البلاد الإسلامية والعربية في ذلك .
فبعضنا صام في يوم .. مع المملكة العربية السعودية، وبعض بلاد الخليج في المشرق، وبعضنا صام في اليوم التالي مع جيراننا في الجزائر وتونس في المغرب، وجمهور الناس صاموا في اليوم الذي بعده، تبعًا لإعلان الجهات الدينية المسئولة في بلدنا.(2/189)
وحدث مثل ذلك مرة أخرى عند نهاية رمضان وبداية شوال، وثبوت العيد، فبعضنا عيّد في يوم، والآخر بعد يومين!!
فهل يقبل الاختلاف بين المسلمين إلى هذا الحد ؟
ولماذا لا يأخذ المسلمون بالحساب الفلكي، وقد بلغ في عصرنا مبلغًا عظيمًا، حتى استطاع الإنسان الصعود إلى القمر ذاته، فهل يعجز ـ بواسطة ما علّمه الله ـ أن يعرف أوُلِدَ الهلالُ أم لا ؟
إن بعض العلمانيين يتخذ من ذلك دليلاً على عجز الإسلام عن مواجهة العصر، والأكثر أدبًا من هؤلاء يضيفون العجز والتخلف إلى ممثلي الإسلام من العلماء والجامعات المنتسبة إلى الشرع والدين .
فهل الباب مسدود حقًا أمام أي اجتهاد في هذا الأمر ؛ لأن الحديث الشريف يقول: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " أي الهلال، فعلق الصوم والفطر بالرؤية لا بالحساب، أو أن الأمر قابل للاجتهاد؟
نرجو أن تنورونا في هذا الموضوع بما يشرح اللّه به صدركم، بعيدًا عن تزمت المتزمتين، وتسيب المتسيبين، أطال الله عمركم في نصرة الدين، وتفقيه أمة المسلمين.
ش . ف
الرباط / المغرب
جـ : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد...
فقد تعرضت لمسألة إثبات دخول الشهر بالحساب الفلكي في كتابين من كتبي، وهما:
1ـ فقه الصيام.
2ـ وكيف نتعامل مع السنة النبوية.
وفي أولهما بينت: أن الشريعة الإسلامية السمحة حين فرضت الصوم في شهر قمري ـ شرعت في إثباته الوسيلة الطبيعية الميسورة والمقدورة لجميع الأمة، والتي لا غموض فيها ولا تعقيد، والأمة في ذلك الوقت أميَّة لا تكتبُ ولا تحسب، وهذه الوسيلة هي رؤية الهلال بالأبصار.
فعن أبي هريرةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صوموا لرؤيته ــ أي الهلال ــ وأفطروا لرؤيته فإن أغبى عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين ". (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 656، معنى (أغبى) : من الغباء وهو الغبرة في السماء).(2/190)
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال : " لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تُفطروا حتى تروه، فإن غَمَّ عليكم فاقدروا له " نفسه، 653، ومعنى (غم) : أي أخفي وغطي بسحاب أو قترة أو غير ذلك
وكان هذا رحمةً بالأمة، إذ لم يكلفها اللهُ العمل بالحساب، وهي لا تعرفه ولا تحسنه،، فلو كلفت ذلك لقلدت فيه أمة أخرى من أهل الكتاب أو غيرهم ممن لا يدينون بدينها .
ثلاث طرق لإثبات دخول رمضان :
وقد أثبتت الأحاديث الصحاح أن شهر رمضان يثبت دخولهُ بواحدة من ثلاث طرق:
1ـ رؤية الهلال.
2ـ أو إكمال عدة شعبان ثلاثين.
3ـ أو التقدير للهلال.
فأما الرؤيةُ:
فقد اختلف فيها الفقهاء : أهي رؤية واحد عدل، أم رؤية عدلين اثنين، أم رؤية جم غفير من الناس ؟
فمَنْ قال : يقبل شهادة عدل واحد، استدلَّ بحديث ابن عمر، قال : تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه (رواه أبو داود (2342)، والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم، قال الدارقطني : تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة، ذكره النووي في المجموع 6/276) . . وبحديث الأعرابي الذي شهدَ عند النبي أنه رأى الهلال، فأمر بلالاً فنادى في الناس " أن يقوموا ويصوموا " (رواه أبو داود (2341)، والترمذي مرسلا ومسندا، وقال : فيه اختلاف (691)، والنسائي، وقال : المرسل أولى بالصواب، وابن ماجة 1652)، وفي سنده مقال . كما قالوا : إن الإثبات بعدل واحد أحوط للدخول في العبادة، وصيام يوم من شعبان أخف من إفطار يوم من رمضان.(2/191)
ومَنْ اشترط في الرؤية عدلين، استدل بما روى الحسين بن حريث الجدلي قال : خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب، فقال : أمرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ننسكَ لرؤيته، فإن لم نَرهُ فشَهدَ شاهدان عدلانِ نَسَكْنا بشهادتيهما (رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري، ورجاله رجال الصحيح، إلا الحسين بن حريق وهو صدوق وصححه الدارقطني في نيل الأوطار 4/261 ط دار الجيل بيروت). وقياسًا على سائر الشهود، فإنها تثبت بشهادة عدلين ..
أمّا من اشترط الجم الغفير أو الجمع الكثير فهم الحنفية، وذلك في حالة الصحو، فقد أجازوا في حالة الغيم أن يشهد برؤيته واحد، إذ قد ينشقُّ عنه الغيم لحظة فيراه واحد، ولا يراه غيره من الناس . ولكن إذا كانت السماءُ مصحة، ولا قَتَر ولا سحابَ ولا علةَ، ولا حائل يحول دون الرؤية، فما الذي يجعل واحدًا من الناس يراه دون الآخرين ؟ لهذا قالوا: لابد من إخبار جمع عظيم؛ لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية ـ مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه، مع فرض عدم المانع، وسلامة الأبصار ـ وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطه (ذكره في حاشية ابن عابدين نقلا عن البحر 2/92).
وأما خبر ابن عمر والأعرابي ـ وفيهما إثبات الهلال برؤية واحد ـ فقد قال العلامة رشيد رضا في تعليقه على " المغني" : (ليس في الخبرين أن الناس تراءوا الهلالَ، فلم يره إلا واحد، فهما في غير محل النزاع، ولاسيما مع أبي حنيفة، وبهذا يبطل كل ما بني عليهما). (انظر التعليق على المغني مع الشرح 3/93).
وأمَّا عدد الجمع العظيم فهو مفوض إلى رأي الإمام أو القاضي من غير تقدير بعدد معين على الصحيح
(انظر الاختيار في شرح المختار 1/29) . ومن الواجب على المسلمين التماس الهلال يوم التاسع والعشرين من شعبان عند الغروب ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إلاَّ أنه واجب على الكفاية .
والطريقة الثانية:(2/192)
إكمال عدة شعبان ثلاثين، سواء كان الجو صحوًا أم غائمًا، فإذا تراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ولم يره أحد، استكملوا شعبان ثلاثين .
وهنا يلزم أن يكون ثبوت شعبان معروفا منذ بدايته، حتى تعرف ليلة الثلاثين التي يتحرى فيها الهلال، ويستكمل الشهر عند عدم الرؤية . وهذا أمرٌ يقع فيه التقصير؛ لأن الاهتمام بإثبات دخول الشهور لا يحدث إلا في أشهر ثلاثة فقط : رمضان لإثبات الدخول في الصيام، وشوال لإثبات الخروج منه، وذي الحجة لإثبات يوم عرفة وما بعده . وينبغي على الأمةِ، وعلى أولي الأمر فيها التدقيق في إثبات الشهور كلها ؛ لأن بعضها مبني على بعض .
والطريقة الثالثة:
هي التقدير للهلال عند الغيم، أو كما قال الحديث : " إذا غمَّ عليكم " أو " غمي عليكم " أو "غبي عليكم" أي حال دونه حائل، ففي بعض الروايات الصحيحة، ومنها مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وأصَحّ الأسانيد عند البخاري : " إذا غم عليكم فاقدروا له "، فما معنى " اقدروا له"؟
قال النووي في المجموع : (قالَ أحمد بن حنبل وطائفةٌ قليلة : معناه : ضيِّقوا له، وقدروه تحت السحاب، من " قدر " بمعنى ضيق كقوله : (قُدِرَ عليه رِزْقهُ) وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم .
وقال مطرِّف بن عبد الله ـ من كبار التابعين ـ وأبو العباس بن سريج ـ من كبار الشافعية ـ وابن قتيبة وآخرون : معناه : قدروه بحسب المنازل .
وقال أبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف : معناه : قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا .
واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها، وكلها صحيحة صريحة : " فأكملوا العدة ثلاثين "، " فاقدروا له ثلاثين "، وهي مفسرة لرواية : " فاقدروا له " المطلقة). (المجموع 6/270).(2/193)
ولكن الإمام أبا العباس بن سريج لم يحمل إحدى الروايتين على الأخروي، بل نقل عنه ابن العربي أن قوله : " فاقدروا له " : خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله : "أكملوا العدة " خطاب للعامة. (انظر : فتح الباري 6/23، ط .الحلبي).
واختلاف الخطاب باختلاف الأحوال أمر وارد، وهو أساس لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال
قال الإمام النووي في المجموع : (ومن قال بحساب المنازل، فقوله مردود، بقوله ص في الصحيحين : " إنَّا أمةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نكتب ولا نحسب " ... الحديث .
قالوا : ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم ؛ لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار). (المجموع 6/270، ط .المنيرة).
والحديث الذي احتج به الإمام النووي ـ رحمه الله ـ لا حجة فيه ؛ لأنه يتحدث عن حال الأمة، ووصفها عند بعثته لها عليه الصلاة والسلام، ولكن أميتها ليست أمرًا لازمًا ولا مطلوبًا، وقد اجتهد عليه الصلاة والسلام أن يخرجها من أميتها بتعليم الكتابة، وبدأ بذلك منذ غزوة بدر، فلا مانع أن يأتي طور على الأمة تكون فيه كاتبة حاسبة . والحساب الفلكي العلمي الذي عرفه المسلمون في عصور ازدهار حضارتهم، وبلغ في عصرنا درجة من الرقي تمكن بها البشر من الصعود إلى القمر، هو شيء غير التنجيم أو علم النجوم المذموم في الشرع .
وأمَّا الاعتبار الآخر الذي ذكره النووي، وهو أن الحساب لا يعرفه إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار، فقد يكون صحيحًا بالنسبة إلى زمنه ــ رحمه الله ــ ولكنه ليس صحيحًا بالنسبة إلى زمننا، الذي أصبح الفلك يدرس فيه في جامعات شتى، وغدت تخدمه أجهزة ومراصد على مستوى رفيع وهائل من الدقة . وقد أصبح من المقرر المعروف عالميًا اليوم : أن احتمال الخطأ في التقديرات العلمية الفلكية اليوم هو نسبة 1 ـ 00000 1 في الثانية!!.(2/194)
كما أن البلدان الكبار والصغار الآن أصبحت متقاربة، وكأنما هي بلد واحد، بل غدا العالم، كما قيل " قرية كبرى" ! ونقل الخبر من قطر إلى آخر، ومن مشرق إلى مغرب، وبالعكس لا يستغرق ثواني معدودة .
وقد ذهب أبو العباس بن سريج من أئمة الشافعية، إلى أن الرجل الذي يعرف الحساب، ومنازل القمر، إذا عرف بالحساب أن غدا من رمضان فإن الصوم يلزمه ؛ لأنه عرف الشهر بدليل، فأشْبَهَ ما إذا عرف بالبينة . واختاره القاضي أبو الطيب ؛ لأنه سبب حصل له به غلبة ظن، فأشبه ما لَوْ أخبره ثقة عن مشاهدة . وقال غيره : يجزئهُ الصوم ولا يلزمه . وبعضهم أجاز تقليده لمن يثق به. (انظر : المجموع 6/279، 280).
وقد ذهب بعض كبار العلماء في عصرنا إلى إثبات الهلال بالحساب الفلكي العلمي القطعي، وكتب في ذلك المحدث الكبير العلامة أحمد محمد شاكر ـ رحمه الله ـ رسالته، في " أوائل الشهور العربية : هل يجوز إثباتها شرعًا بالحساب الفلكي ؟ " وسنعود لنقل رأيه مفصلا .
ومن المنادين بهذا الرأي في عصرنا الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا ـ حفظه الله ـ.
والذي يظهر من الأخبار أن الذي رفضه الفقهاء من علم الهيئة أو الفلك، هو ما كان يسمى " التنجيم " أو " علم النجوم " وهو ما يُدَّعَى فيه معرفة بعض الغيوب المستقبلية عن طريق النجوم، وهذا باطل، وهو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس مرفوعًا : " مَنْ اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر ". (رواه أبو داود في الطب (3905) وابن ماجة في الأدب (3726)، وأحمد في المسند (2000) وقال شاكر : إسناده صحيح، وصححه النووي في الرياض، والذهبي في الكبائر كما في فيض القدير 6/80).(2/195)
وقال الإمام ابن دقيق العيد: الذي أقول : إن الحساب لا يجوز أن يُعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون، فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيوم أو يومين، وفي اعتبار ذلك إحداث شرع لم يأذنْ به الله . وأما إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع على وجهٍ يُرَي، لكن وُجِدَ مانع من رؤيته كالغيم، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي . ا هـ .
وعقب على ذلك الحافظ ابن حجر بقوله : (لكن يتوقف قبول ذلك على صدق المخبر به، ولا نجزم بصدقه إلا لو شاهد، والحال أنه لم يشاهد، فلا اعتبار بقوله إذن، والله أعلم). (تلخيص الحبير مع المجموع 6/ 266، 267).
ولكن علم الفلك الحديث يقوم على المشاهدة بوساطة الأجهزة وعلى الحساب الرياضي القطعي . ومن الخطأ الشائع لدى كثير من علماء الدين في هذا العصر، اعتقاد أن الحساب الفلكي هو حساب أصحاب التقاويم، أو النتائج، التي تطبعُ وتوزع على الناس، وفيها مواقيت الصلاة، وبدايات الشهور القمرية ونهايتها، وينسب هذا التقويم إلى زيد، وذاك إلى عمرو من الناس، الذين يعتمد معظمهم على كتب قديمة ينقلون منها تلك المواقيت، ويصفونها في تقويماتهم .
ومن المعروف أن هذه التقاويم تختلف بين بعضها وبعض، فمنها ما يجعل شعبان (29) يومًا، ومنها ما يجعله (30)، وكذلك رمضان، وذو القعدة وغيرها .
ومن أجل هذا الاختلاف رفضوها كلها ؛ لأنها لا تقوم على علم يقيني ؛ لأن اليقين لا يعارض بعضه بعضًا . وهذا صحيح بلا ريب، ولكن ليس هذا هو الحساب العلمي الفلكي الذي نعنيه .(2/196)
إن الذي نعنيه هو ما يقرره علم الفلك الحديث، القائم على المشاهدة والتجربة، والذي غدا يملك من الإمكانات العلمية والعملية " التكنولوجية " ما جعله يصل بالإنسان إلى سطح القمر، ويبعث بمراكز فضائية إلى الكواكب الأكثر بعدًا، وغدت نسبة احتمال الخطأ في تقديراته (1 ـ 100000 )" واحدًا إلى مائة ألف " في الثانية . وأصبح من أسهل الأمور عليه أن يخبرنا عن ميلاد الهلال فلكيًا، وعن إمكان ظهوره في كل أفق بالدقيقة والثانية، لو أردنا .
رؤية الهلال لإثبات الشهر وسيلة متغيرة لهدف ثابت:
وفي كتابي : " كيف نتعامل مع السنة " عدت إلى الموضوع عند الحديث عن أحد المعالم الأساسية في فهم السنة، وهو : التمييز بين الهدف الثابت والوسيلة المتغيرة . وضربت لذلك أمثلة :
ثم قلت : ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب : ما جاء في الحديث الصحيح المشهور : " صوموا لرؤيته ـ أي الهلال ـ وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له " وفي لفظ آخر " فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " .
فهنا يمكن للفقيه أن يقول : إن الحديث الشريف أشار إلى هدف، وعيّن وسيلة .
أما الهدف من الحديث فهو واضح بين، وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه، أو يصوموا يومًا من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه، بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس، لا تكلفهم عنتًا ولا حرجًا في دينهم.
وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها ؛ لأنه لو كلفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي ــ والأمة في ذلك الحين أمية ولا تحسب ــ لأرهقهم من أمرهم عسرا، واللَّه يريد بأمته اليسر ولا يريد بهم العسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : " إن اللّه بعثني معلمًا ميسرًا، ولم يبعثني معنتًا ". (رواه مسلم وغيره).(2/197)
فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق هدف الحديث، وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون وجيولوجيون وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغًا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، ويجوس خلال أرضه، ويجلب نماذج من صخوره وأتربته ! فلماذا نجمد على الوسيلة ــ وهي ليست مقصودة لذاتها ــ ونغفل الهدف الذي نشده الحديث ؟ !
لقد أثبت الحديث دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدعيان رؤية الهلال بالعين المجردة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمة، فكيف يتصور أن يرفض وسيلة لا يتطرق إليها الخطأ أو الوهم، أو الكذب، وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع، ويمكن أن تجتمع عليها أمة الإسلام في شرق الأرض وغربها، وتزيل الخلاف الدائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد، إلى مدى ثلاثة أيام تكون فرقا بين بلد وآخر (في رمضان هذا العام (1409هـ) ثبت دخول رمضان يوم الخميس الموافق السادس من أبريل 1989 م في المملكة العربية السعودية، والكويت، وقطر، والبحرين، وتونس وغيرها، كلها برؤية المملكة، وثبت دخوله في مصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب وغيرها يوم الجمعة، أما باكستان والهند وعمان وإيران وغيرها فصاموا يوم السبت !!.)، وهو ما لا يعقل ولا يقبل لا بمنطق العلم، ولا بمنطق الدين، ومن المقطوع به أن أحدها هو الصواب والباقي خطأ بلا جدال .(2/198)
إن الأخذ بالحساب القطعي اليوم وسيلة لإثبات الشهور، يجب أن يقبل من باب " قياس الأولي"، بمعني أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدني، لما يحيط بها من الشك والاحتمال ــ وهي الرؤية ــ لا ترفض وسيلة أعلى وأكمل وأوفي بتحقيق المقصود، والخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد بداية صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها، وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي .
على أن العلامة المحدث الكبير الشيخ أحمد شاكر ــ رحمه اللّه ــ نحا بهذه القضية منحى آخر، فقد ذهب إلى إثبات دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي، بناءً على أن الحكم باعتبار الرؤية معلل بعلة نصت عليها السنة نفسها، وقد انتفت الآن، فينبغي أن ينتفي معلولها، إذ من المقرر أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
ويحسن بنا أن ننقل هنا عبارته بنصها لما فيها من قوة ونصاعة، قال رحمه اللّه في رسالته " أوائل الشهور العربية " :
(فمما لا شك فيه أن العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام لم يكونوا يعرفون العلوم الفلكية معرفة علمية جازمة، كانوا أمة أميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا منهم شيئًا من ذلك فإنما يعرف مبادئ أو قشورا، عرفها بالملاحظة والتتبع، أو بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية ترجع إلى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرجع إثبات الشهر في عبادتهم إلى الأمر القطعي المشاهد الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم . وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا أحكم وأضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهو الذي يصل إليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم، ولا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها .(2/199)
لم يكن مما يوافق حكمة الشارع أن يجعل مناط الإثبات في الأهلة الحساب والفلك، وهم لا يعرفون شيئًا من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادون لا تصل إليهم أنباء الحواضر، إلا في فترات متقاربة حينا، ومتباعدة أحيانا، فلو جعله لهم بالحساب والفلك لأعنتهم، ولم يعرفه منهم إلا الشاذ والنادر في البوادي عن سماع إن وصل إليهم، ولم يعرفه أهل الحواضر إلا تقليدًا لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب .
ثم فتح المسلمون الدنيا، وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها، وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها، وكشفوا كثيرًا من خباياها، وحفظوها لمن بعدهم، ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم .
وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك، أو هم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم، أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن إليه، بل كان بعضهم يرمي المشتغل بها بالزيغ والابتداع، ظنا منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب ــ التنجيم ــ وكان بعضهم يدعي ذلك فعلا، فأساء إلى نفسه وإلى علمه، والفقهاء معذورون، ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه، بل كان يشير إليها على تخوف .
هكذا كان شأنهم، إذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء .
وهذه الشريعة الغراء السمحة، باقية على الدهر، إلى أن يأذن اللّه بانتهاء هذه الحياة الدنيا، فهي تشريع لكل أمة، ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشئون، فإذا جاء مصداقها فسرت وعلمت، وإن فسرها المتقدمون على غير حقيقتها .(2/200)
وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا ... " يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين (رواه البخاري في كتاب الصوم) . ورواه مالك في الموطأ (الموطأ 1/ 269) . والبخاري ومسلم وغيرهما بلفظ : " الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " .
وقد أصاب علماؤنا المتقدمون رحمهم اللّه في تفسير معنى الحديث . وأخطأوا في تأويله، ومن أجمع قول لهم في ذلك قول الحافظ ابن حجر (فتح الباري 4/108، 109).: المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير . فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك . بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب الأصلي . ويوضحه قوله في الحديث الماضي : " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين "، ولم يقل : فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء استوى فيه المكلفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك، وهم الروافض (لا ندري من ذا يريد الحافظ بالروافض ؟ إن كان يريد الشيعة الإمامية فالذي نعرفه من مذهبهم أنه لا يجوز الأخذ بالحساب عندهم، وإن كان يريد ناسًا آخرين فلا ندري من هم !! أحمد شاكر : أقول : أظن أن المراد بهم الإسماعيلية . فقد نقل أنهم يقولون بذلك "القرضاوي")، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي : وإجماع السلف الصالح حجة عليهم، وقال ابن بزيزة : وهو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل ا هـ.(2/201)
فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في أنه لو حدث من يعرف استمر الحكم في الصوم ـ أي باعتبار الرؤية وحدها ـ لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة " أمية لا تكتب ولا تحسب "، والعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس ــ عامتهم وخاصتهم ـ أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوي، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية : وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده، وألا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين استعصى عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب .
وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضًا الرجوع إلى الحساب الحقيقي للأهلة، وإطراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة. (المرجح أن يبقى بعد الغروب مده يمكن فيها ظهوره، بحيث يمكن رؤيته بالعين المجردة، وذلك نحو (15) أو (20) دقيقة على ما ذكر أهل الاختصاص، "القرضاوي").(2/202)
وما كان قولي هذا بدعًا من الأقوال : أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم، ومن أمثلة ذلك في مسألتنا هذه : أن الحديث : " فإن غم عليكم فاقدروا له " ورد بألفاظ أخر، في بعضها : " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ففسر العلماء الرواية المجملة : " فاقدروا له " بالرواية المفسرة: " فأكملوا العدة " ولكن إمامًا عظيمًا من أئمة الشافعية، بل هو إمامهم في وقته، وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج ( "سريج" بالسين المهملة المضمومة وآخره جيم، ويكتب خطأ في كثير من الكتب المطبوعة " شريح " بالشين والحاء، وهو تصحيف . وأبو العباس هذا توفي سنة 306 هـ وهو من تلاميذ أبي داود صاحب السنن، وقال في شأنه أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء ص 89 : " كان من عظماء الشافعيين وأئمة المسلمين، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي، حتى على المزني " وله تراجم جيدة في تاريخ بغداد للخطيب 4 /278 - 290، وطبقات الشافعية لابن السبكي 2/ 67 - 96)، جمع بين الروايتين، بجعلهما في حالين مختلفين : أن قوله : " فاقدروا له " معناه : قدروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه اللّه بهذا العلم، وأن قوله : " فأكملوا العدة "خطاب للعامة (انظر : شرح القاضي أبي بكر بن العربي على الترمذي 3 /207، 208، وطرح التثريب 4/ 111 - 113 وفتح الباري 4/ 104).(2/203)
فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج، إلا أنه جعله خاصًا بما إذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الأخذ بالحساب للأقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم، وبطء وصول الأخبار إلى البلاد الأخرى، إذا ثبت الشهر في بعضها، وأما قولي فإنه يقضي بعموم الأخذ بالحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الأخبار وذيوعها . ويبقي الاعتماد على الرؤية للأقل النادر، ممن لا يصل إليه الأخبار، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر .
ولقد أرى قولي هذا أعدل الأقوال، وأقربها إلى الفقه السليم، وإلى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب). (رسالة " أوائل الشهور العربية " ص 7 - 17 نشر مكتبة ابن تيمية)
هذا ما كتبه العلامة شاكر منذ أكثر من نصف قرن ـ ذي الحجة 1357 هـ الموافق يناير 1939 م .
ولم يكن علم الفلك في ذلك الوقت قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم من وثبات استطاع بها الإنسان أن يغزو الفضاء، ويصعد إلى القمر، وانتهى هذا العلم إلى درجة من الدقة، غدا احتمال الخطأ فيها بنسبة واحدة إلى مائة ألف في الثانية !!
كتب هذا الشيخ شاكر وهو رجل حديث وأثر قبل كل شيء، عاش حياته -رحمه اللّه- لخدمة الحديث، ونصرة السنة النبوية، فهو رجل سلفي خالص، رجل اتباع لا رجل ابتداع، ولكنه -رحمه اللّه- لم يفهم السلفية على أنها جمود على ما قاله من قبلنا من السلف، بل السلفية الحق أن ننهج نهجهم، ونشرب روحهم، فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهم، ونعالج واقعنا بعقولنا لا بعقولهم، غير مقيدين إلا بقواطع الشريعة، ومحكمات نصوصها، وكليات مقاصدها .(2/204)
هذا وقد قرأت مقالاً مطولاً في شهر رمضان لهذا العام (1409 هـ) لأحد المشايخ الفضلاء (هو سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية، وقد نشر مقاله في عكاظ وغيرها من الصحف اليومية بالمملكة في 21 رمضان 1409 هـ)، أشار فيه إلى أن الحديث النبوي الصحيح : " نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " يتضمن نفي الحساب، وإسقاط اعتباره لدى الأمة .
ولو صح هذا لكان الحديث يدل على نفي الكتابة، وإسقاط اعتبارها، فقد تضمن الحديث أمرين دلل بها على أمية الأمة، وهما : الكتابة والحساب .
ولم يقل أحد في القديم ولا في الحديث : إن الكتابة أمر مذموم أو مرغوب عنه بالنسبة للأمة، بل الكتابة أمر مطلوب، دل عليه القرآن والسنة والإجماع.
وأول من بدأ بنشر الكتابة هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما هو معلوم من سيرته، وموقفه من أسرى بدر.
ومما قيل في هذا الصدد : أن الرسول لم يشرع لنا العمل بالحساب، ولم يأمرنا باعتباره، وإنما أمرنا باعتبار " الرؤية " والأخذ بها في إثبات الشهر.
وهذا الكلام فيه شيء من الغلط أو المغالطة، لأمرين:
الأول : أنه لا يعقل أن يأمر الرسول بالاعتداد بالحساب، في وقت كانت فيه الأمة أمية، لا تكتب ولا تحسب، فشرع لها الوسيلة المناسبة لها زمانًا ومكانًا، وهي الرؤية، المقدورة لجمهور الناس في عصره، ولكن إذا وجدت وسيلة أدق وأضبط وأبعد عن الغلط والوهم، فليس في السنة ما يمنع اعتبارها:
الثاني : أن السنة أشارت بالفعل إلى اعتبار الحساب في حالة الغيم، وهو ما رواه البخاري في كتاب الصوم من جامعه الصحيح بسلسلته الذهبية المعروفة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، فقال : " لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " (قدر يقدر - بالضم والكسر - بمعنى قدّر، ومنه قوله تعالى: (فقدرنا فنعم القادرون).(2/205)
وهذا " القَدْر " له أو "التقدير " المأمور به، يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه، ويصل به إلى أمر تطمئن الأنفس إلى صحته، وهو ما أصبح في عصرنا في مرتبة القطعيات، كما هو مقرر معلوم لدى كل من عنده أدنى معرفة بعلوم العصر، وإلى أي مدى ارتقى فيها الإنسان الذي علمه ربه ما لم يكن يعلم .
وقد كنت ناديت منذ سنوات بأن نأخذ بالحساب الفلكي القطعي ــ على الأقل ــ في النفي لا في الإثبات، تقليلاً للاختلاف الشاسع الذي يحدث كل سنة في بدء الصيام وفي عيد الفطر، إلى حد يصل إلى ثلاثة أيام بين بعض البلاء الإسلامية وبعض . ومعنى الأخذ بالحساب في النفي أن نظل على إثبات الهلال بالرؤية وفقا لرأى الأكثرين من أهل الفقه في عصرنا، ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، وقال : إنها غير ممكنة، لأن الهلال لم يولد أصلاً في أي مكان من العالم الإسلامي ــ كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال؛ لأن الواقع ــ الذي أثبته العلم الرياضي القطعي ــ يكذبهم . بل في هذه الحالة لا يطلب ترائي الهلال من الناس أصلاً، ولا تفتح المحاكم الشرعية ولا دور الفتوى أو الشؤون الدينية أبوابها لمن يريد أن يدلي بشهادة عن رؤية الهلال.
هذا ما اقتنعت به وتحدثت عنه في فتاوى ودروس ومحاضرات وبرامج عدة، ثم شاء اللّه أن أجده مشروحًا مفصلاً لأحد كبار الفقهاء الشافعية، وهو الإمام تقي الدين السبكي (ت 756هـ) الذي قالوا عنه : إنه بلغ مرتبة الاجتهاد.
فقد ذكر السبكي في فتاواه أن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود، قال : (لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظني لا يعارض القطعي، فضلاً عن أن يقدم عليه).(2/206)
وذكر أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده، في أي قضية من القضايا، فإن رأي الحس أو العيان يكذبها ردها ولا كرامة . قال : (والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسًا وعقلاً وشرعًا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعًا على عدم الإمكان استحال القول شرعًا، لاستحالة المشهود به، والشرع لا يأتي بالمستحيلات .
أما شهادة الشهود فتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب). (انظر : فتاوى السبكي 1/219، 220 نشر مكتبة القدس بالقاهرة).
فكيف لو عاش السبكي إلى عصرنا ورأي من تقدم علم الفلك ـ أو الهيئة كما كانوا يسمونه ـ ما أشرنا إلى بعضه ؟!
وقد ذكر الشيخ شاكر في بحثه أن الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الشهير في وقته، كان له رأي ـ حين كان رئيسًا للمحكمة العليا الشرعية ـ مثل رأي السبكي، برد شهادة الشهود إذا نفى الحساب إمكان الرؤية، قال الشيخ شاكر : (وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه، وأنا أصرح الآن أنه كان على صواب. وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال . إلا لمن استعصى عليه العلم به). (رسالة "أوائل الشهور العربية" للشيخ شاكر ص 15) . ا هـ
حقائق ينبغي أن يتفق عليها :
ومع ترجيحي للعمل بالحساب على الأقل في النفي لا في الإثبات كما ذكرت، يجب أن أؤكد هنا حقائق ثلاثًا، ينبغي ألا يختلف عليها :(2/207)
الأولى : أن في هذا الأمر ـ أعني ما يتعلق بإثبات دخول الشهر ـ سعة ومرونة بالنظر إلى نصوص الشرع، وأحكامه، واختلاف العلماء في هذا المقام توسعة ورحمة للأمة . فمَنْ أثبتَ دخول الشهر بعدل أو عدلين، أو اشترط جمًا غفيرًا لم يبعد عما قال به بعض فقهاء الأمة المعتبرين، بل مَنْ قال بالحساب وجد له في السلف قائلاً، منذ عهد التابعين فمَنْ بعدهم . ومن اعتبر اختلاف المطالع، ومَنْ لم يعتبرها له سلفه، وله دليله، فلا يجوز أن ينكر على من أخذ بأحد هذه المذاهب والاجتهادات، وإن رآها هو خطأ، إذ القاعدة : « أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية " .
الثانية : أن الخطأ في مثل هذه الأمور مغتفر، فلو أخطأ الشاهد الذي شهد بأنه رأى هلال رمضان، أو شوال، وترتب عليه أن صام الناس يومًا من شعبان أو أفطروا يومًا من رمضان، فإن الله تعالى أهلٌ لأن يغفر لهم خطأهم، وقد علمهم أن يدعوا فيقولوا : (ربنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطأنا). (البقرة : 286)
حتى لو أخطأوا في هلال ذي الحجة، ووقفوا بعرفة يوم الثامن أو العاشر، في الواقع ونفس الأمر، فإن حجهم صحيح ومقبول، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
الثالثة : أن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم، وسائر شعائرهم وشرائعهم، أمرٌ مطلوب دائما، ولا ينبغي اليأس من الوصول إليه، ولا من إزالة العوائق دونه، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال، هو : أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد .
فلا يجوز أن نقبل بأن ينقسم أبناء البلد الواحد، أو المدينة الواحدة، فيصوم فريقٌ اليوم على أنه من رمضان، ويفطر آخرون على أنه من شعبان، وفي آخر الشهر تصومُ جماعة، وتعيد أخري، فهذا وضع غير مقبول .(2/208)
فمن المتفق عليه أن حكم الحاكم، أو قرار ولي الأمر يرفع الخلاف في الأمور المختلف فيها .
فإذا أصدرت السلطة الشرعية المسئولة عن إثبات الهلال في بلد إسلامي ــ المحكمة العليا، أو دار الإفتاء، أو رئاسة الشؤون الدينية، أو غيرها ــ قرارها بالصوم أو بالإفطار، فعلى مسلمي ذلك البلد الطاعة والالتزام ؛ لأنها طاعة في المعروف، وإن كان ذلك مخالفا لما ثبت في بلد آخر، فإن حكم الحاكم هنا رجح الرأي الذي يقول : إنَّ لكل بلد رؤيته .
وقد ثبتَ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون " (الترمذي : وقال : حسن غريب 697)، وفي لفظ " وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون " أبو داود (2324)، وابن ماجة (1660)، بلفظ : "الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون " رواه من طريق حماد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال الشيخ شاكر : (وهذا إسناد صحيح جدًا على شرط الشيخين)، وقد روى أبو داود هذا الحديث تحت عنوان "باب إذا أخطأ القوم الهلال " .
قال الإمام الخطابي : معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قومًا اجتهدوا، فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعًا وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض، فلا شيء عليهم من وزر أو عنت، وكذلك هذا في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة، فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك، وإنما هذا تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده . ا هـ .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الزكاة في حلي الزوجة
بعد وفاتها
س : انتقلت زوجتي إلى رحمة الله تعالى، بعد عشرة دامت نحو أربعين سنة ورزقني الله منها البنين والبنات، وبعد وفاتها وجدت في تركتها كمية كبيرة من الحلي، بعضها من الجواهر والأحجار الكريمة من الماس واللؤلؤ والعقيق ونحوها، وبعضها من الذهب .(2/209)
ولم نستطع التصرف في هذا الحلي، بتوزيعه على بناتها، فهن موسرات وزوجات لموسرين، وعندهن من حليهن الخاص الكثير والكثير، ولا ببيعه، فهذا صعب وشاق على نفسي وعلى جميع أبنائها وبناتها .
فما حكم هذا الحلي ؟ وهل تجب فيه الزكاة ؟ وهل يكون وجوبها إذا وجبت في كل حول ؟
أرجو الإفادة وفقكم الله ونفع بكم .
جـ : من المعلوم أن الفقهاء اختلفوا في زكاة الحلي للنساء إذا كان من الذهب والفضة .
فمذهب أبي حنيفة يوجب الزكاة فيه إذا بلغ نصابًا بنفسه أو بمال آخر عند مالكه .
ومذهب الأئمة الثلاثة ـ فيما كان من الحلي مباحًا مستعملاً معتادًا ـ عدم وجوب الزكاة فيه .
وهذا هو الذي أرجحه وأفتى به، لأدلة واعتبارات، فصلتها في كتابي : " فقه الزكاة " .
وفي قضيتنا هذه نرى الحلي هنا نوعين :
1 ـ الحلي من الجواهر والأحجار النفيسة من الماس ونحوه، وهذه في الأصل معفاة من وجوب الزكاة، إلا أن تتخذ للاكتناز والادخار .
2ـ وحلي الذهب، هنا نراه ـ كما وضّح السؤال ـ مخزونا غير مستعمل، فهو ثروة مكنوزة، بمثابة كمية معطلة من النقود .
وهي ملك الورثة، ومنهم الزوج، فإذا بلغ نصيب كل واحد منهم نصابًا بنفسه أو بمال آخر عنده ـ والنصاب يقدر بـ (85) جرامًا من الذهب ـ وجب على كل منهم أن يزكي نصيبه . والزكاة هنا حولية بلا ريب، ففي كل سنة قمرية يقوّم حلي الذهب : كم تبلغ قيمته لو أريد بيعه، ويخرج ربع عشر قيمته، أي (2.5%) منها . ويستمر هذا في كل حول إلى ما شاء الله .
ومعنى هذا : أن على الورثة أن يدفعوا من أموالهم الخاصة زكاة هذه الحلي المعطلة حتى يتصرف فيها .
وأولى من هذا وأنفع للحي والميت أن تباع هذه الحلي، ويجعل ثمنها صدقة جارية على المتوفاة، يبقى لها أجرها، ما انتفع بها كائن حي إلى يوم القيامة .(2/210)
كما أن الزوج والورثة الذين يقومون بهذه الصدقة أو هذا الوقف الخيري لهم أجرهم ومثوبتهم بما قدموا من خير . ولا يضيع الله أجر من أحسن عملاً .
صرف الزكاة لإقامة المساجد
س : أنا رجل مسلم أتاني الله من فضله ما أعجز عن شكره مهما عملت، فإن عملي نفسه نعمة منه تستوجب الشكر .
وبعض فضل الله على هو المال، وهو بحمد الله كثير، وأنا أزكيه في كل عام، وآخذ برأيك في تزكية إيراد العمارات التي أملكها كل شهر عند قبضها ودون انتظار حولان الحول، وبنسبة نصف العشر من إجمال الإيراد .
والسؤال الذي أطرحه عليك اليوم هو صرف الزكاة لعمارة المساجد، حتى تقام فيها الصلوات، وحلقات العلم وتجمع المسلمين على طاعة الله تعالى.
فكثيرًا ما يأتينا ـ ونحن في بلاد الخليج ـ إخوة لنا من البلاد الفقيرة في آسيا وإفريقيا، والتي تعاني من البؤس وقلة الموارد، وكثرة البشر، وتوالي النوازل، مع ضغط الفئات المعادية للإسلام عليها، من الغرب والشرق من الصليبيين والشيوعيين وغيرهم .
فهل لي أن أدفع من زكاتي لهولاء الإخوة من المسلمين الفقراء المهددين في دينهم ودنياهم أو أن ذلك لا يجوز ؟ فقد اختلف على المُفتون ما بين مانع ومجوز، ولن أطمئن إلا بجوابكم .
سدد الله خطاكم وأعزكم، وأعز بكم .
جـ : بارك الله للأخ الكريم صاحب السؤال فيما أعطاه، وأتم عليه نعمته، وأعانه على ذكره وشكره، وحسن عبادته، وقد سرني منه أداؤه لزكاة العمارات على الوجه الذي رجحته، دون انتظار أن يمر على إيرادها الحول، ولعله ينفق كله أو بعضه .(2/211)
أما دفع الزكاة لبناء المساجد وعمارتها، حتى يذكر فيها اسم الله، وتقام شعائره وتؤدي الصلوات، وتلقي المواعظ، فهو من المصارف التي اختلف فيها العلماء قديمًا وحديثًا : أتعتبر " في سبيل الله " فتكون بذلك داخلة في مصارف الصدقات الثمانية، التي نصت عليها الآية الكريمة من سورة التوبة : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمُؤَلَّفَة قلوبهم وفي الرِّقاب الغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فَرِيضَة من الله والله عليم حكيم). (التوبة : 60)
أم أن " سبيل الله " مقصورة على " الجهاد " كما هو رأي الجمهور ؟ .
وقد فصلت الكلام عن هذا الموضوع في كتابي : " فقه الزكاة " مما لا يتسع المجال لذكره هنا .
وقد أيدت هناك رأي الجمهور مع توسيع معنى الجهاد، بحيث يشمل الجهاد العسكري، وهو المتبادر إلى الذهن، والجهاد الفكري والتربوي والدعوى والديني ونحوها من كل ما من شأنه حماية الوجود الإسلامي، والمحافظة على الشخصية الإسلامية من الهجمات الشرسة التي تريد أن تقتلعها من الجذور، سواء كان هذا الهجوم من المؤسسات الصليبية التنصيرية، أم من القوى الماركسية الشيوعية، أم من التيارات الماسونية والصهيونية، أم من عملاء هؤلاء أو أولئك من الفرق المنشقة عن الإسلام من بهائية وقاديانية وباطنية، ومثلهم دعاة العلمانية واللادينية في عالمنا العربي والإسلامي .
وبناء على هذا أقول : إن البلاد الغنية التي تستطيع الدولة ووزارات الأوقاف فيها أن تنشئ ما تحتاج إليه من المساجد، مثل بلاد الخليج، لا ينبغي أن تصرف الزكاة فيها لبناء المساجد؛ لأنها في غير حاجة إلى ذلك، ولوجود مصارف أخرى متفق عليها، لا تجد من يدفع لها من الزكاة أو من غير الزكاة .
ثم إن إقامة مسجد واحد في أحد أقطار الخليج تبلغ نفقاته ما يكفي لبناء عشرة مساجد أو أكثر في الأقطار المسلمة الفقيرة، والكثيفة السكان، حتى إن المسجد الواحد يخدم عشرات الآلاف ...(2/212)
ومن هنا أرى مطمئنا جواز دفع الزكاة لإقامة المساجد في البلاد الفقيرة المعرضة لخطر الغزو التنصيري أو الشيوعي، أو اليهودي، أو غيرها، كالغزو القادياني والباطني، وأمثالهما، بل قد يكون دفع الزكاة في هذه الحال أفضل من غيرها من المصارف ...
وحجتي في جواز ذلك أمران:
أولا : أن القوم فقراء، ويجب أن تتم لهم كفايتهم بسد الحاجات الأساسية التي لابد للإنسان منها حتى يحيا حياة كريمة تليق بإنسان مسلم .
والمسجد من الحاجات الأساسية للجماعة المسلمة، فإذا لم يكن لديها ما تقيم به مسجدًا من موارد الدولة، أو من تبرعات الأفراد ومن أهل الخير، فليس هناك ما يمنع من إقامته من مال الزكاة، بل الواجب أن يقام، حتى لا يبقى القوم بلا مسجد .
وكما يحتاج المسلم الفرد إلى الطعام والشراب لجسمه ليعيش، تحتاج الجماعة المسلمة إلى المسجد لروحها وإيمانها .
ولهذا كان أول مشروع أقامه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، بعد هجرته إليها، هو تأسيس مسجده الشريف، الذي كان محور النشاط الإسلامي في ذلك العهد.
ثانيًا : أن المسجد في حالة البلاد المعرضة لخطر الغزو، أو الواقعة تحت تأثيره بالفعل، ليس مجرد دار للعبادة، بل هو مركز للمقاومة، ومنطلق للتعبئة والجهاد، وقلعة للدفاع عن الهوية الإسلامية، والحفاظ على الشخصية الإسلامية .
وأقرب دليل على ذلك دور المسجد في بعث حركة المقاومة الشعبية الإسلامية في فلسطين التي يعبر عنها بـ " الانتفاضة " وقد كانوا في أول الأمر يسمونها : " انتفاضة المساجد "، ثم حولتها أجهزة الإعلام إلى " انتفاضة الحجارة " خشية أن ترتبط بالإسلام، الذي يرعب ذكره اليهود ومن وراءهم .
والخلاصة :
أن الصرف إلى المساجد في مثل هذه الأحوال هو صرف " في سبيل الله " وفي إعلاء كلمته، ونصرة دينه وأمته، وكل صرف في عمل تكون نتيجته أن تكون " كلمة الله هي العليا " فهو في سبيل الله .
وبالله التوفيق .(2/213)
الصرف على الأمور الإدارية
من أموال التبرعات
فضيلة الدكتور / يوسف القرضاوي ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته !!
نرسل إليكم هذا الخطاب سائلين المولى عز وجل أن ينفعنا بكم وأن يهبكم الصواب.
وبعد:
" هيئة الإغاثة الإسلامية " ببريطانيا عبارة عن هيئة خيرية تقوم بجمع التبرعات من بريطانيا وخارجها وتوزيعها على المسلمين في مختلف مناطق العالم الإسلامي خاصة أفغانستان ولبنان وفلسطين وإفريقيا وبنجلاديش .
وحيث أن الهيئة بحاجة إلى مبني يكون مقرًا دائمًا لها فنود أن نعرف الرأي الشرعي في هذه المسألة وأنه هل يجوز أن نشتري مبنى من الأموال المتبرع بها من عدمه وبخاصة أن المتبرع أحيانا يتبرع بأمواله لصرفها في الجهات المشار إليها، وأحيانا أخرى يترك للجهة المشرفة على الهيئة حرية التصرف في صرفها على المحتاجين.
كذلك نود أن نعرف الحدود المسموح لنا بها لشراء المبنى إذا لم يكن هناك مانع شرعي.
نرجو الإفادة وجزاكم الله خيرًا .
رئيس هيئة الإغاثة
برمنجهام إنجلترا
جـ : الأخ الفاضل الأستاذ / رئيس هيئة الإغاثة الإسلامية "حفظه الله ".
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن والاه .. أما بعد..
فلا يجوز إقامة مبنى للهيئة المذكورة من الأموال التي تبرع بها أصحابها للصرف على جهات محددة، مثل إغاثة الملهوفين والمنكوبين في المجتمعات والكوارث والحروب ونحوها .. ويجب مراعاة نيات المتبرعين في ذلك، وبخاصة أن كثيرًا من هذه الأموال يكون من الزكاة، وللزكاة مصارفها الشرعية المعلومة، التي لا يجوز أن تصرف في غيرها.(2/214)
وإن كان بعض المتبرعين يترك أحيانا للجهة المشرفة على الهيئة حرية التصرف في صرفها على المحتاجين ــ كما يقول السؤال ــ فالواضح أنه قد حدد المصرف، وإن لم يحدد المصروف إليهم بالضبط، وترك ذلك للمشرفين ثقة منه بأمانتهم وإخلاصهم وحسن تقديرهم، ومعنى هذا أنهم يستطيعون أن يوجهوها إلى فلسطين أو أفغانستان أو بنجلاديش أو إفريقيا، أو غيرها، على شرط أن يكون الصرف إلى المحتاجين.
أما المصاريف الإدارية التي لا بد منها لإيصال التبرعات إلى مستحقيها، فلا بأس أن تؤخذ من جملة التبرعات، اعتبارًا بما قرره القرآن الكريم في مصارف الزكاة" من إعطاء العاملين عليها" من حصيلة الزكاة نفسها، وبناء على أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
على أن يكون ذلك في أضيق الحدود المستطاعة، حفظًا لأموال المتبرعين أن تنفق على المكاتب والأثاث والإداريات والتنقلات ونحوها، وهذه آفة من الآفات التي يشكو منها الحكماء والمخلصون.
أما إقامة مبنى مستقل مملوك للهيئة فينبغي ـ إذا تأكدت الحاجة إليه، وأجمع على ذلك أهل الرأي والصدق ـ أن تجمع له تبرعات بهذا القصد، يدفعها من يدفعها وهو عالم بمصرفها وغرضها. وهو مأجور على ذلك أيضا، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي.
والله نسأل أن يرزقنا سلامة القصد، وسداد المنهج، وشرف الغاية، واستقامة الطريق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته !!
بناء المراكز الإسلامية
من أموال الزكاة
فضيلة الشيخ / د. يوسف القرضاوي .. " حفظه الله "
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته !!
وبعد:
نرجو من فضيلتكم إفتاءنا في أمر بالغ الأهمية لنا ولجميع المسلمين في أمريكا وبلاد الغرب عمومًا، ويمس قضية بناء المراكز الإسلامية والمساجد في الغرب، والتي تمس بدورها حياة المسلمين هنا مسًا مباشرًا.(2/215)
تحتاج الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب، والطلاب الذين يدرسون هناك مؤقتا، يحتاجون إلى مركز إسلامي في مدينتهم حاجة كبيرة، فوجوده أمر لا غنى عنه وله دور كبير في الحفاظ على دين الجاليات والطلاب.
والسؤال المهم الذي يطرح دائمًا خلال عملية جمع التبرعات، والتي هي المصدر الرئيسي لتمويل تلك المشروعات، هو :
هل يجوز إنفاق مال الزكاة في بناء مركز إسلامي في بلاد الغرب؟
إذ أن كثيرًا من المتبرعين يشترط هذا الأمر للتبرع، كما أن القائمين على المشروع يتحرجون من قبول مال الزكاة لعدم تيقنهم من جواز إنفاقه في هذا المصرف.
فهل ترون فضيلتكم أن هذا مصرف من مصارف الزكاة؟ علمًا بأن المركز يحتوي مسجدًا ـ قاعة للصلاة ـ وقد يحتوي مكتبة، وقاعة صلاة للنساء، ومسكنا للإمام الراتب، وبعض المرافق الأخرى. مع العلم أيضًا أن المالك القانوني لمعظم المراكز في أمريكا هو" الوقف الإسلامي في أمريكا الشمالية NAIT " التابعة " للاتحاد الإسلامي في أمريكا الشمالية، وكلاهما من الهيئات الإسلامية الموثوق بها أمانة وكفاءة.
نرجو من فضيلتكم التكرم بالرد على استفتائنا هذا، خاصة ونحن الآن في أوج جمع التبرعات لبناء مركزنا، ولا بد لنا من جمع مبلغ كبير من المال للبدء بالبناء وإلا سوف ـ لا سمح الله ـ نخسر موافقة البلدية ومعها مبالغ كبيرة وجهودًا غالية بذلت لإنجاح هذا المشروع.
وفقكم الله وحفظكم ونفع بكم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ابنكم هـ . ع
رئيس المركز
جـ :السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد :
فقد وصلتني رسالتكم الكريمة حول بناء مركز إسلامي في مدينة " توسان " بأمريكا ومدى جواز الإنفاق عليه من مال الزكاة.
ونظرًا لأهمية الموضوع وخطورة الوضع في مدينتكم خاصة، سارعت بالكتابة إليكم، برغم ضيق وقتي وكثرة مشاغلي.(2/216)
وأود أن أبين هنا: أن من مصارف الزكاة التي نص عليها القرآن الكريم: مصرف " في سبيل الله "
وقد اختلف الفقهاء في تفسير سبيل الله، فمنهم من قصره على " الجهاد " لأنه المتبادر عند إطلاق الكلمة، وهذا هو رأي الجمهور .
ومنهم من جعله يشمل كل طاعة أو مصلحة للمسلمين .. ويدخل في ذلك بناء المساجد والمدارس والقناطر وتكفين الموتى من الفقراء، وغير ذلك من كل ما هو قربة أو مصلحة.
والذي أراه أن مصرف " في سبيل الله " يتسع ــ على الرأيين جميعًا ـ لينفق منه على إنشاء مراكز إسلامية للدعوة والتوجيه والتعليم في البلاد التي يهدد فيها وجود المسلمين بالغزو التنصيري أو الشيوعي أو العلماني، أو غير ذلك من الملل والنحل، التي تعمل على سلخ المسلمين من عقيدتهم أو تضليلهم عن حقيقة دينهم، وذلك مثل وضع المسلمين خارج العالم الإسلامي، حيث يكونون أقلية محدودة الإمكانات في مواجهة الكثرة صاحبة النفوذ والسلطان والمال.
وأما على الرأي الآخر، فلا شك أن إنشاء هذه المراكز هو ضرب من الجهاد الإسلامي في عصرنا، وهو الجهاد باللسان والقلم والدعوة والتربية .. وهو جهاد لا يستغني عنه اليوم لمقاومة الغزو المكثف من قبل القوى المعادية للإسلام.
وكما أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، فكذلك من دعا وعلم ووجه لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
إن المركز الإسلامي اليوم بمثابة قلعة للدفاع عن الإسلام، وإنما لكل امرئ ما نوى ويتأكد هذا الأمر بصفة خاصة في مدينة " توسان " حيث يوجد مركز " رشاد خليفة " الذي أنكر بعض آيات القرآن الكريم، وأنكر السنة المطهرة إنكارًا كليا، وترتب على ذلك إنكار الصلاة المعلومة من الدين بالضرورة، والتي اعتبرها صلاة حابطة وسماها "صلاة المشركين ".
ثم ختم هذا الضلال بفرية كبري، وهي ادعاء أنه " رسول الله "!!.(2/217)
فلا بد من مركز للحق يقاوم الباطل، ومن قلعة للإسلام في مواجهة الكفر المدعوم من الداخل والخارج.
(ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيل الله فَمِنْكُم من يَبْخَلُ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). (محمد: 38).
سدد الله خطاكم، وأعانكم على إحقاق الحق، وإبطال الباطل ولو كره المجرمون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!.(2/218)
هل في النفط زكاة ؟.
س: في إبَّان أزمة الخليج التي جرت على الأمة ما جرت من الكوارث المادية والمعنوية، أثيرت بعض قضايا لم تحسم من الناحية الشرعية التي تهمنا نحن المسلمين الحريصين على تحكيم الإسلام في كل شؤوننا.
ومن هذه القضايا: قضية عدالة توزيع الثروة العربية بين البلاد الغنية القليلة السكان، والبلاد الفقيرة الكثيفة السكان، وقد كانت هذه كلمة حق أريد بها باطل، فإن الذي قالها لم يوزع شيئًا من ثروة بلاده الطائلة والضخمة على البلاد الفقيرة، بل أنفقها في حرب جيرانه من العرب والمسلمين.
ولكن الذي أسأل عنه هنا: ما أثاره بعض الإخوة في الصحف من وجوب الزكاة في النفط أو في عائداته - باعتباره "ركازًا" - وفي الركاز الخمس، كما هو مذهب أبي حنيفة. على أن يؤخذ هذا الخمس (20%) من العائدات، من بلاد النفط الغنية لينفق على إخوانهم في الدول الفقيرة، فيحقق هذا بعض العدالة المنشودة بين الأغنياء والفقراء، كما قال تعالى في توزع الفيء: (كيلا يكون دُولَة بين الأغنياء منكم). (الحشر: 7).
فهل هذا القول صحيح من الناحية الشرعية؟ فقد رأيت من علماء الدين من أنكرها، وهل إذا وجبت الزكاة تنفق في داخل البلاد النفطية أم في خارجها؟.
نرجو توضيح القضية في ضوء الأدلة من الكتاب والسنة.
حفظكم الله ونفع بكم.
م. ك. ع.
القاهرة.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:.
مما لا خلاف فيه أن الزكاة تجب في النفط أو في عائداته إذا كان مملوكًا ملكية خاصة، سواءً كان ملكًا لأفراد أم لشركات.
وقد اختلف الفقهاء هنا في مقدار الواجب في الزكاة: أهو ربع العشر أي 2.5 % أم الخمس؟ أي عشرون بالمائة (20%).
والذي أرجحه في ذلك هو المذهب الثاني، الذي يوجب الخمس في النفط ونحوه باعتباره ركازًا، وقد صح الحديث أن "في الركاز الخمس" (متفق عليه من حديث أبي هريرة). وهو مذهب أبي حنيفة وأبي عبيد وغيرهما.(2/219)
(انظر في ذلك: كتابنا: فقه الزكاة 1/436).
ولكن الخلاف هنا يأتي في النفط الذي يكون مملوكًا للدولة؟ فهل يكون وعاءً للزكاة؟ وبعبارة أخرى: هل تجب فيه الزكاة كما لو كان مملوكًا خاصًا؟.
لم أر أحدًا من علماء الفقه في عصرنا قال بذلك، ولكن ذهب إلى ذلك بعض إخواننا من الباحثين الاقتصاديين المعنيين بالاقتصاد الإسلامي.
وقد أثار ذلك بعضهم في المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي سنة (1976م) الذي انعقد في مكة المكرمة بدعوة من جامعة الملك عبد العزيز - رددت عليه حينذاك، وأيدني الفقهاء المشاركون في المؤتمر.
كما ناقشت ذلك منذ سنين على صفحات كتابي "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" في معرض النقد لبعض الاجتهادات المعاصرة التي تتجاوز "الإجماع" الثابت.
وفيه ناقشت ما ذهب إليه الأستاذان: الدكتور شوقي إسماعيل شحاته، والدكتور محمد شوقي الفنجري، من وجوب الزكاة في أموال النفط "البترول" مما تملكه الحكومات الإسلامية، في بلاد الخليج وغيرها. وهو بمقدار الخمس، بناءً على أنه ركاز.
أما أن النفط ونحوه من المعادن ركاز، وأن في الركاز الخمس، فهو ما رجحته ودللت عليه، في كتابي: "فقه الزكاة".
ولكن وجوب الخمس فيه إنما يتجه إذا كان يملكه أفراد أو شركات، فهنا يؤخذ منه الخمس ويصرف مصارف الزكاة على ما رجحناه.
أما إذا كان ملك الدولة، فشأنه شأن كل أموال الدولة، وهذه لا زكاة فيها بالإجماع، وسر ذلك يرد إلى عدة أمور:.
أولاً: أن الزكاة فرع المِلْك ولهذا أضيفت الأموال إلى مالكيها في مثل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (التوبة: 103). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أدوا زكاة أموالكم". ومال الدولة ليس ملك رئيس الدولة ولا وزير المالية، ولا غيرهما، حتى يطالب بتزكيته وتطهير نفسه بإخراج حق الله فيه.(2/220)
ثانيًا: أن من أخرج الزكاة من ماله - ربع العشر أو نصف العشر أو العشر أو الخمس - طاب له الاستمتاع بالباقي ولا حرج عليه، إلا أن يطَّوَّع أو تأتي حاجة عامة أو خاصة. وهنا في مال النفط لا يكفي أن تخرج الحكومة مقدار الزكاة منه، وإن قدرناه بالخمس على ما هو المختار عندنا، إذ لا بد من صرفه كله في مصالح المسلمين، ومنها مصالح الفقراء والمساكين وغيرها من الفئات المحتاجة. بل هي في مقدمة المصالح المنصوص عليها في مصارف الفيء والمساكين (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). (الحشر: 7).
ثالثًا: إن الدولة هي المأمورة بأخذ الزكاة (خذ من أموالهم) فكيف تأخذ من نفسها وتصبح آخذا ومأخوذا منه في وقت واحد؟.
أنا أعرف أن الدوافع إلى هذا القول دوافع خيرة، وهي محاولة التغلب على أوضاع التجزئة الحالية التي تعانيها الأمة الإسلامية، بحيث تجعل بعض الدول أو الدويلات الصغيرة الحجم، القليلة السكان، التي منّ الله عليها بالنفط في أرضها، تملك المليارات من الدراهم أو الدنانير أو الريالات، تغص بها خزائن البنوك الأجنبية، على حين ترى بلادًا إسلامية أخرى، كثيفة بالسكان، قليلة الموارد، تهددها المجاعات، وينشب فيها الفقر أنيابه، ويغدو أبناؤها من ضحايا الجوع فرائس سهلة لدعاة التنصير والشيوعية، على نحو ما قال بعض السلف: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك!.
فأراد هؤلاء الإخوة الباحثون في الاقتصاد الإسلامي أن يحتالوا على هذه الأوضاع القائمة التي لا يقرها الإسلام، فذهبوا إلى وجوب الزكاة في النفط باعتباره "ركازًا". وفي الركاز الخمس، وما دامت هذه زكاة فإنها ترد على فقراء الإقليم ومصالحه أولاً وفق المنهج الإسلامي في التوزيع المحلي. وما زاد عن حاجة الإقليم يوزع على الأقاليم الإسلامية الأخرى: الأقرب فالأقرب، أو الأحوج فالأحوج.(2/221)
ولو كانت الخلافة الإسلامية قائمة، والبلاد الإسلامية موحدة تحت رايتها كما كان الأمر من قبل، ما قالوا هذا القول، ولا ظهر هذا الاجتهاد أصلاً ولا كانت هناك حاجة إليه.
ورأيي أن القول بوجوب تزكية "النفط" لا يحل مشكلة التجزئة الإسلامية القائمة، ولا يترتب عليه بالضرورة حل مشكلات البلاد الفقيرة من العالم الإسلامي.
حتى لو فرضنا أن الدولة النفطية أخذت بهذا القول: أن في النفط الذي تملكه الدولة حقًا، وأنه الخمس لا ربع العشر، وأنه يصرف مصرف الزكاة لا مصرف الفيء. فمن يضمن ألا تنفق حصيلة هذا على الفقراء الإقليم ومصالحة الاجتماعية والعسكرية وخصوصًا إذا قيل: إن تسليح الجيوش والإنفاق عليها من "سبيل الله" وهو أحد مصارف الزكاة؟ وعندئذ لا يبقى للمسلمين الآخرين شيء أو يبقى لهم الفتات.
وأولى من هذا في رأيي، أن تعلن الحقائق الإسلامية الأساسية واضحة، وهي: أن المسلمين - مهما اختلفت أوطانهم - أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناها، وهم متكافلون في العسر. واليسر، متعاونون على البر والتقوى. ولا يجوز أن يعاني بلد إسلامي الفقر والمرض والجوع، وهناك بلد أو بلاد إسلامية أخرى تنفق على الكماليات آلاف الملايين، ولديها من الاحتياطي مئات البلايين!.
كما لا يجوز أن يتحمل بلد إسلامي محدود عبء الجهاد ونفقاته الطائلة ضد أعدائه وأعداء الإسلام. على حين تقف الدول الإسلامية الغنية موقف المتفرج، دون أن تؤدي فريضة الجهاد بالمال، كما توجبه أخوة الإسلام.(2/222)
وما قاله الفقهاء من ملكية النفط ونحوه من الموارد "للإمام " لا يعني حاكم الدولة الإقليمية، وإنما يعني السلطة الشرعية للدولة الإسلامية الموحدة تحت راية العقيدة الواحدة، والشريعة الواحدة، وهذا يعني أن هذا المال ليس ملكًا لمجموعة معينة من الناس دون سواهم، بل ملك للأمة المسلمة والمسلمين حيثما كانت مواقعهم في دار الإسلام ا.هـ (من كتابنا: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، نشر دار القلم، الكويت).
هذا ما قلته منذ نحو عشر سنوات، ولا زلت أؤكد اليوم، من وجوب التكافل والتعاون بين البلاد الإسلامية بعضها وبعض، فهو فريضة دينية، وضرورة قومية، فلا يجوز أن يستأثر الأغنياء بفضل الثروة وحدهم، ويدعوا إخوانهم في الأقطار الفقيرة يعانون الفقر والمرض والجوع.. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع" وهذا ينطبق على الجماعات كما ينطبق على الأفراد.
ولا بأس أن يحدد ما تدفعه البلاد الغنية للبلاد الفقيرة بالخمس (20%) - قياسًا على ما هو الواجب على الأفراد في "الركاز".
وقد رأينا مجلس التعاون الخليجي بعد حرب الخليج وأزمة الكويت، يعلن عن إنشاء صندوق لهذا الغرض، تساهم فيه كل دول المجلس، وأملنا ألا يكون هذا رد فعل للأزمة يتبخر بعد حين. كما نرجو أن يقوى هذا الصندوق وتتسع حصيلته، ويأخذ طريقه إلى حيز التنفيذ، ولا تتغلب الأنانية الإقليمية الضيقة، التي لا تقرها أحكام الدين، ولا مصلحة الدنيا، والتي لا تخدم في النهاية إلا أعداء الإسلام، وأعداء العروبة، وأعداء التحرر والتقدم لأوطاننا، والتي تجعل الكيانات الإقليمية الممزقة كلها لقمة سائغة في فم هؤلاء الأعداء الماكرين.
وبالله التوفيق.
إخراج.
النقود في زكاة الفطر.(2/223)
س: تعودت منذ مدة طويلة أن أخرج زكاة الفطر عني وعن أسرتي مبلغًا من النقود هو قيمة صاع من أوسط الأطعمة التي ورد بها الحديث الشريف، وقد سمعناكم تقدرونها بخمسة عشر (15) ريالاً قطريًا، كما أني أرسل هذه النقود إلى الفقراء من الأهل والأقارب والجيران في الأراضي المحتلة من فلسطين، ولم يكن عندي شك في جواز ذلك بناءً على فتاوى متعددة سمعتها من فضيلتكم شخصيًا، ومن علماء كثيرين، على رأسهم فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود - رئيس المحاكم الشرعية في قطر.
ولكني قد فوجئت في أحد الأيام - وأنا أفتح المذياع - بفتوى من أحد الشيوخ، بأن إخراج القيمة أي النقود في زكاة الفطر لا يجوز بحال، ومن فعل ذلك فزكاته باطلة؛ لأنها مخالفة للسنة. كما شن حملة قاسية على العلماء الذين أجازوا إخراج القيمة في زكاة الفطر، واتهمهم بمخالفة النصوص الشرعية بالرأي المجرد.
ولا أكتمكم أني تحيرت وتبلبل خاطري بعد سماعي لهذه الفتوى، وخصوصًا أنني سمعت حديثًا يقول: "صوم رمضان معلق بين السماء والأرض، لا يرفع إلا بزكاة الفطر".
ومعنى هذا أن صومي وصوم البالغين من عائلتي لا زال معلقًا طوال تلك السنين، ولم يقبل مني.
وما قيمة العبادة إذا عملناها ولم تقبل منا، أو وقعت باطلة كما قال هذا المفتي؟.
وماذا يفعل المسلم العادي إذا وجد العلماء يختلفون في الفتوى ؟.
أرجو أن تريحوا خواطري وخواطر أمثالي وهم ألوف بل ملايين وملايين... يدفعون زكاة فطرهم بالنقود، جزاكم الله خيرًا.
جـ: في رأيي أن المفتي الذي استمع إليه السائل والذي شنع على إخراج زكاة الفطر بقيمتها من النقود، لم يكن موفقًا في فتواه إذا صح ضبط المستمع لها، ونقلها عنه نقلاً صحيحًا مستوعبًا، وهو ما أعتقده، فقد سمعت عن هؤلاء المفتين والخطباء الذين يشنون في كل عام غارة على إخراج القيمة في صدقة الفطر.
وخطأ هذا المفتي يتمثل في جملة أمور:.(2/224)
1- أن المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الأئمة وتعددت فيها الآراء، لا يجوز فيها التشنيع والإنكار على من اقتنع برأي منها وأخذ به.
فمن كان من أهل الاجتهاد والقدرة على الترجيح بين الآراء، فلا يطالب شرعًا أن يعمل إلا بما انتهى إليه اجتهاده، فإن كان صوابًا فهو مأجور أجرين: أجرًا على اجتهاده، وأجرًا على إصابته الحق في المسألة، وإن كان اجتهاده خطأ فهو مأجور أيضًا، ولكنه أجر واحد، هو أجره على اجتهاده وتحريه.
وأقصى ما يقوله مجتهد عن نفسه ما جاء عن الإمام الشافعي رضي الله عنه: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وكل مسألة ليس فيها نص قطعي الثبوت والدلالة فهي من مسائل الاجتهاد بيقين ومسألتنا من هذا النوع بلا ريب.
ومن كان يسوغ له التقليد - ومعظم الناس كذلك - جاز له أن يقلد أيقلد أحد المذاهب المتبوعة، المتلقاة بالقبول لدى الأمة، وهذا هو المستطاع بالنسبة لمثله فليس عنده أدوات الاجتهاد ولا شروطه، و (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) (البقرة: 286)، وقد قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن: 16)، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". (متفق عليه).
2- إذا نظرنا للمسألة المبحوث فيها على هذا الأساس المذكور، رأينا أن أبا حنيفة وأصحابه والحسن البصري، وسفيان الثوري، وخامس الراشدين عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أجازوا إخراج القيمة في الزكاة، ومنها زكاة الفطر.
وهو قول الأشهب وابن القاسم عند المالكية.
قال النووي: وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه.
قال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل.
ولهم في ذلك أدلة اعتمدوا عليها، واعتبارات استندوا إليها، كما أن المانعين لإخراج القيمة لهم أيضًا أدلة واعتبارات مخالفة.(2/225)
وقد فصلنا القول في ذلك في موضعه من كتابنا: "فقه الزكاة " فصل: إخراج القيمة من باب طريقة أداء الزكاة.
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية مذهبًا وسطًا بين الفريقين المتنازعين، قال فيه: (الأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة، ولا مصلحة راجحة، ممنوع منه، ولهذا قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- الجبران بشاتين، أو عشرين درهمًا ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه: متى جوز إخراج القيمة مطلقًا، فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه. وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة، أو العدل، فلا بأس به: مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه، ولا يكلف أن يشتري ثمرًا أو حنطة، إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه. وقد نص أحمد على جواز ذلك.
ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة.
ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع. فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أنها أنفع للفقراء، كما نُقِلَ عن معاذ بن جبل: أنه كان يقول لأهل اليمن: "ائتوني بخميس أو لبيس، أيسر عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار، وهذا قد قيل: إنه قاله في الزكاة وقيل في الجزية). (مجموع فتاوى ابن تيمية 25/82، 83 ط. السعودية).
وهذا، وإن قاله في زكاة المال، فهو ينطبق على زكاة الفطر.
وجوهر الخلاف إنما هو بين مدرستين: المدرسة التي تراعي في اجتهادها المقاصد الكلية للشريعة، ولا تهمل النصوص الجزئية، والمدرسة التي لا تنظر إلا إلى النصوص الجزئية وحدها.
وقد عمل بهذا القول في خير القرون، بعد قرن الصحابة، وهو قرن التابعين لهم بإحسان، وعمل به خليفة أجمعوا على أنه من الراشدين المهديين.(2/226)
روى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة - وعدي هو الوالي -: يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم (مصنف ابن أبي شيبة 4/37، 38).
وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطي الدراهم في صدقة الفطر. (مصنف ابن أبي شيبة 4/37، 38).
وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام. (المصدر السابق).
وعن عطاء: أنه كان يعطي في صدقة الفطر ورقًا - دراهم فضية -. (المصدر السابق).
ومما يدل لهذا القول:.
أ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أغنوهم - يعني المساكين - في هذا اليوم"، والإغناء يتحقق بالقيمة، كما يتحقق بالطعام، وربما كانت القيمة أفضل، إذ كثرة الطعام عند الفقير تحوجه إلى بيعها، والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات.
ب ـ كما يدل على جواز القيمة ما ذكره ابن المنذر من قبل: أن الصحابة أجازوا إخراج نصف الصاع من القمح؛ لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر أو الشعير، ولهذا قال معاوية: "إني لأرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من التمر".
ج ـ ثم إن هذا الأيسر بالنظر لعصرنا وخاصة في المناطق الصناعية التي لا يتعامل الناس فيها إلا بالنقود، كما أنه - في أكثر البلدان وفي غالب الأحيان - هو الأنفع للفقراء.
3ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فرض زكاة الفطر من الأطعمة السائدة في بيئته وعصره، إنما أراد بذلك التيسير على الناس، ورفع الحرج عنهم. فقد كانت النقود الفضية أو الذهبية عزيزة عند العرب، وأكثر الناس لا يكاد يوجد عنده منها إلا القليل، أو لا يوجد عنده منها شيء. وكان الفقراء والمساكين في حاجة إلى الطعام من البر أو التمر أو الزبيب، أو الأقط.(2/227)
لهذا كان إخراج الطعام أيسر على المعطي، وأنفع للآخذ، ولقصد التيسير أجاز لأصحاب الإبل والغنم أن يخرجوا "الأقط" - وهو اللبن المجفف المنزوع زبده - فكل إنسان يخرج من الميسور لديه.
ثم إن القدرة الشرائية للنقود تتغير من زمن لآخر، ومن بلد لآخر، ومن حال لآخر، فلو قدر الواجب في زكاة الفطر بالنقود لكان قابلاً للارتفاع والانخفاض حسب قدرة النقود.
على حين يمثل الصاع من الطعام إشباع حاجة بشرية محددة لا تختلف، فإذا جعل الصاع هو الأصل في التقدير فإن هذا أقرب إلى العدل، وأبعد عن التقلب.
4ـ أن المحققين من علمائنا قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، وهذه قاعدة عظيمة حققناها في رسالتنا: "عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية" وأقمنا الأدلة على صحتها من القرآن والسنة، وهدي الصحابة رضي الله عنهم، فضلاً عما ذكرناه من أقوال العلماء وتطبيقاتهم عليها.
ومن نظر بعين الإنصاف والتقدير للواقع المعاصر، يعلم أن إخراج الطعام لا يصلح إلا في المجتمعات البسيطة والمحدودة، التي يتيسر فيها الطعام لمن يريد إخراج الزكاة، ويحتاج فيها الفقير إلى الانتفاع بالطعام.
أما المجتمعات الكبيرة والمعقدة، والتي تتمتع بكثافة سكانية عالية، والتي يندر فيها وجود الأطعمة بحيث يعنت المخرج طلبها، ولا يحتاج الفقير إليها؛ لأنه لم يعد يطحن ويعجن ويخبز، فلا يماري منصف في أن إخراج القيمة في هذه الحال هو الأولى.
وقد أحسن الإمام ابن تيمية حين أجاز لمن باع ثمر بستانه بدراهم أن يخرج عشرة منها، ولا يكلف أن يشتري ثمرًا، إذ قد ساوى الفقراء بنفسه، كما أجاز لمن لم يجد في مدينته من يبيعه شاة عن إبله، أن يخرج قيمتها ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى لشرائها، وهذا هو الفقه حقًا
وكيف نكلف المسلم - في مدينة كالقاهرة فيها أكثر من عشرة ملايين من المسلمين - بإخراج الحبوب، التي لم يعد من الميسور إحضارها، ولا من النافع للفقير إعطاؤها؟.(2/228)
وفرق بين من يكون عنده الطعام ويضن به على الفقير، ومن ليس عنده إلا النقود كأهل المدن، فهو يسوي الفقراء بنفسه.
والزكاة إنما جعلت لإغناء الفقير عن الطواف في يوم العيد، والأغنياء يتمتعون بمالهم وعيالهم، ولينظر امرؤ لنفسه: هل يرى أنه يغني الفقير عن الطواف إذا أعطاه صاع تمر أو صاع شعير، في بلد مثل القاهرة في مثل هذه الأيام؟! وماذا يفعل بهما الفقير إلا أن يطوف ليجد من يشتريهما ببخس من القيمة، ليبتاع لنفسه أو لأولاده ما يتقوتون به؟! (انظر: هامش المحلى وتعليق العلامة أحمد شاكر 6/131، 132).
على أن فقهاء المذاهب المتبوعة أجازوا إخراج الزكاة من غالب قوت البلد وإن لم يكن من الأطعمة المنصوصة، رعاية للمقصد.
أما نقل الزكاة إلى بلد آخر، فهو جائز إذا كان ذلك لاعتبار صحيح، كأن يكون ذلك بعد استغناء البلد الذي فيه المزكي في زكاة الفطر، أو الذي فيه المال في زكاة المال، أو يكون البلد الآخر أشد حاجة لنزول مجاعة أو كارثة به.. أو اجتياح عدو له يحتاج إلى مقاومته.. أو يكون له قرابة محتاجون في البلد الآخر، وهو أعرف بحاجتهم، وأولى بهم.
ومثل هذه الاعتبارات تجعل نقل زكاة الفطر أو زكاة المال إلى المسلمين المحتاجين في الأرض المحتلة من فلسطين، وخصوصًا الذين يقاومون العدو منهم. أو الإخوة المجاهدين والمهاجرين من الأفغانيين، أو الذين يقتلهم الجوع ويهددهم التنصير في بنجلاديش، أو بورما أو الصومال أو إريتريا أو غيرها.
وأما ما ذكره الأخ من اختلاف أهل الفتوى في بعض المسائل، بحيث يبيح هذا، ويحرم ذاك، أو يوجب واحد، ولا يوجب آخر، فالمسلم يأخذ بقول من يطمئن إليه قلبه، ويترجح لديه أنه أفقه في الدين، وأعرف بمصادره، وأعلم بمقاصده، وأنه لا يتبع الهوى، ولا يبيع دينه بدنياه، ولا بدنيا غيره.
وهذا كما يفعل المريض إذا اختلف عليه الأطباء، فإنه يأخذ بقول من يطمئن إليه، لأنه أحذق أو أشهر أو نحو ذلك.(2/229)
والخطأ في هذه الفروع مغفور، وإنما لكل امرئ ما نوى.
بقي الكلام عن حديث: "صوم رمضان معلق بين السماء والأرض، لا يرفع إلا بزكاة الفطر" وهو حديث لم يثبت، وقد تكلمنا عليه في موضع آخر.
والله أعلم.
دور حواء.
في إخراج آدم من الجنة.
س: هل صحيح أن أمنا حواء هي السبب في إخراج أبينا آدم من الجنة؛ لأنها هي التي أغرته بالأكل من الشجرة الممنوعة، فكانت بذلك سببًا في حرماننا من الجنة، وشقائنا - نحن ذرية آدم - بدنيانا هذه التي نعاني بؤسها وويلاتها؟.
إن هذه المقولة تتخذ تكأة للحملة على المرأة والنيل من مكانتها، وأنها وراء كل مصيبة حدثت في الأولين، أو تحدث في الآخرين.
فهل في الإسلام ما يدل على ذلك، أو على خلافة؟.
نرجو التكرم بالإيضاح.. آجركم الله وأيدكم.
جـ: هذه المقولة التي يسأل عنها الأخ، والتي تحمّل المرأة - ممثلة في أمنا حواء - مسئولية شقاء البشرية، وتعزو إليها أنها التي أغوت آدم، حتى أكل من الشجرة المنهي عنها...إلخ. مقولة غير إسلامية بلا ريب.
إن مصدرها هو التوراة وأسفارها وملحقاتها، وهو ما يؤمن به اليهود والنصارى، ويتحدث عنه مفكروهم وشعراؤهم وكتابهم. وقلدهم في ذلك بعض كتاب المسلمين تقليدًا ببغاويًا، دون نقد ولا تمحيص.
والذي يقرأ قصة آدم في القرآن الكريم، ويجمع بين آياتها المتفرقة في عدد من سوره الشريفة، يتبين له ما يأتي:.
1- أن التكليف الإلهي بعدم الأكل من الشجرة المعنية كان لكل من آدم وزوجه: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين). (البقرة: 35).
2- أن الذي أغرى الاثنين وأزلهما وأغواهما بالخداع والحيلة والقسم الكاذب هو الشيطان، كما قال تعالى في سورة البقرة: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه). (البقرة: 36).(2/230)
وفي سورة الأعراف تفصيل أوفي لما قام به الشيطان من كيد وإغراء كما قال تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). (الأعراف: 20- 23).
وفي سورة "طه" ما ينبئ بأن آدم -عليه السلام- هو المسئول الأول عن المعصية، وليس حواء، ولذا كان التحذير من الله تعالى موجهًا إليه أساسًا وعلى الخصوص، وكان التقصير منسوبًا إليه، وكان العصيان محسوبًا عليه، وإن شاركته زوجه في المخافة، ولكن دلالة الآيات الكريمة ناطقة بأن دورها ليس كدوره، وكأنها أكلت وخالفت تبعًا له.
يقول تبارك وتعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزمًا. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى). (طه: 115- 122).
3- أن القرآن مصرح بأن آدم قد خلقه الله لمهمة حددت له من قبل أن يخلق، وهي المهمة التي تطلعت إليها الملائكة، وحسبوا أنهم أولى بها من آدم، وهذا ما نطقت به آيات سورة البقرة التي ذكرها الله تعالى قبل الآيات التي تحدثت عن سكنى الجنة والأكل من الشجرة ..إلخ.(2/231)
يقول تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون). (البقرة: 30- 33).
وقد صح في الحديث أن آدم وموسى عليهما السلام التقيا في عالم الغيب، وأن موسى أراد أن يحمل آدم ما تعانيه البشرية بسبب أكله من الشجرة، ولكن آدم حج موسى وأفحمه بأن هذا كان أمرًا رتبه القدر الإلهي قبل أن يخلق ليقوم بعمارة الأرض، وأن موسى يجد هذا مكتوبًا عنده في التوراة.
وهذا الحديث يفيدنا فائدتين:.
الأولى: أن موسى وجه اللوم إلى آدم، ولم يوجهه إلى حواء، وهذا يدل على أن ما في التوراة من تحميل حواء عليها السلام تبعة الأكل من الشجرة المحرمة غير صحيح، وهو من التحريفات التي أدخلت على التوراة.
الثانية: أن إهباط آدم وذريته إلى الأرض أمر سبق به القدر الأعلى، وسطره القلم الإلهي في أم الكتاب، ليقوم هذا النوع المكلف المبتلى المختار برسالته فوق هذا الكوكب، كما أراد الله، فكان لا بد أن يقع.(2/232)
4- أن الجنة التي أمر آدم أن يسكنها وأن يأكل من كل شجرها، إلا شجرة واحدة، والتي أمر بالهبوط منها بعد المخالفة، ليس مقطوعًا بأنها هي الجنة التي أعدها الله للمتقين في الآخرة، وجعل فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فقد اختلف علماء المسلمين في جنة آدم هذه: أهي تلك الجنة الموعودة ثوابًا للمؤمنين أم هي جنة من جنان الدنيا، كما قال الله تعالى: في سورة "القلم": (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) (القلم: 17).، وكما قال في سورة الكهف: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا وفجرنا خلالهما نهرا). (الكهف: 32).
وقد ذكر المحقق ابن القيم القولين وأدلة كل منهما في مطلع كتابه "مفتاح دار السعادة "فليراجعه من يريد تحقيق المسألة. والله أعلم.
فتنة النساء.
وصوت المرأة.
س: بعض الناس يسيئون الظن بالمرأة، ويعتبرونها مصدر كل بلاء وفتنة، ويقولون إذا حدثت حادثة، أو نزلت كارثة: فتش عن المرأة!.. بل يقولون: إنها هي سبب كل ما عانته وتعانيه البشرية من عهد أبي البشر آدم إلى اليوم ؛ لأنها التي حرضته على الأكل من الشجرة، حتى أخرج من الجنة، وجرى عليه وعلينا ما كان من معاناة وشقاء!.
للأسف إنهم يستدلون على بعض ما يدعون ببعض النصوص الدينية، التي ربما لم تكن صحيحة وربما - حتى لو صحت - فهموها على غير وجهها، مثل ما ورد في بعض الأحاديث من التحذير من فتنة النساء، وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
فما المراد بهذا الحديث وأمثاله مما يذكره بعض الوعاظ والخطباء أحيانًا، فيستغله قوم في الإساءة إلى المرأة، ويستغله آخرون في الإساءة إلى الإسلام الذي يتهمونه زورًا بأنه قسا على المرأة وربما جار عليها؟.
وقالوا: إن صوتها- كوجهها - عورة، وصلاحها أن تظل حبيسة الدار إلى الموت!.(2/233)
مع أننا نعتقد أنه لا يوجد دين كالإسلام أنصف المرأة ورعاها وكرمها وأعطاها حقوقها، ولكنا لا نملك من البيان والأدلة ما ملككم الله، فالمأمول منكم أن توضحوا لهؤلاء الذين يجهلون الإسلام أو يتجاهلونه معنى هذه الأحاديث والمقصود بها.
زادكم الله سدادًا وتوفيقًا وعمم النفع بكم آمين.
جـ: لا توجد قضية التبس فيها الحق بالباطل، واختلط فيها الصواب بالخطأ ووقع فيها الغلو والتقصير، مثل قضية المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية.
فالحق أنه لا توجد ديانة سماوية أو أرضية، ولا فلسفة مثالية أو واقعية، كرمت المرأة وأنصفتها وحمتها، مثل الإسلام..
فقد كرم الإسلام المرأة وأنصفها وحماها إنسانًا.
وكرم الإسلام المرأة وأنصفها وحماها أنثى.
وكرم الإسلام المرأة وأنصفها وحماها بنتًا
وكرم الإسلام المرأة وأنصفها وحماها زوجة.
وكرم الإسلام المرأة وأنصفها وحماها أمًا
وكرم الإسلام المرآة وأنصفها وحماها عضوا في المجتمع.
كرم الإسلام المرأة إنسانًا حين اعتبرها مكلفة مسئولة كاملة المسئولية والأهلية كالرجل، مَجْزِيَّة بالثواب والعقاب مثله، حتى إن أول تكليف إلهي صدر للإنسان كان للرجل والمرأة جميعًا، حيث قال الله للإنسان الأول: آدم وزوجه: (اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين). (البقرة: 35).
ومما يذكر هنا أن الإسلام ليس في شيء من نصوصه الثابتة في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة نص يُحَمِّل المرأة تبعة إخراج آدم من الجنة، وشقاء ذريته من بعده، كما جاء ذلك في "أسفار العهد القديم". بل القرآن يؤكد أن آدم هو المسئول الأول: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزمًا) (طه: 115).، (وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى). (طه: 121، 122).(2/234)
ولكن بعض المسلمين، للأسف الشديد، ظلموا المرأة ظلمًا كبيرًا، وجاروا على حقوقها، وحرموها مما قرره الشرع لها، باعتبارها إنسانًا، أو أنثى، أو ابنة أو زوجة أو أمًا.
والعجيب أن كثيرًا مما وقع عليها من ظلم وافتئات وقع باسم الدين وهو منه براء.
لقد نسبوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في شأن النساء " شاوروهن وخالفوهن"، وهو حديث موضوع لا قيمة له ولا وزن من الناحية العلمية.
هذا مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شاور زوجته أم سلمة في أمر من أهم أمور المسلمين، وأشارت عليه، فأخذ برأيها راضيًا مختارًا، وكان فيه الخير والبركة.
ونسبوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها" وهو قول غير مقبول قط، لا من منطق الإسلام، ولا من نصوصه. (فنّدنا هذه المقولة بالجزء الأول من فتاوى معاصرة ص421).
كيف والقرآن الكريم يقرن المسلمات بالمسلمين، والمؤمنات بالمؤمنين والقانتات بالقانتين، إلى آخر ما هو معلوم من كتاب الله تعالى؟.
وقالوا فيما قالوا: إن صوت المرأة عورة، فلا يجوز لها أن تتكلم مع الرجل، غير زوج ولا محرم؛ لأن صوتها بطبيعته الناعمة يغري بالفتنة، ويوقظ في القلب الشهوة.
وسألناهم عن الدليل، فلم نجد لهم دليلاً يعول عليه ويستند إليه.
ترى هل جهل هؤلاء أن القرآن أجاز سؤال أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من وراء حجاب، رغم التغليظ في أمرهن، حتى حرم عليهن ما لم يحرم على غيرهن؟ ومع هذا قال الله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب) (الأحزاب: 53). والسؤال يقتضي جوابًا، وهو ما كانت تفعله أمهات المؤمنين، حيث كن يفتين من استفتاهن، ويروين الأحاديث لمن يريد أن يتحملها عنهن.
وقد كانت المرأة تسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حضرة الرجال ولم تجد في ذلك حرجًا ولا منعها النبي -صلى الله عليه وسلم-.(2/235)
وقد ردت المرأة على عمر رأيه، وهو يخطب على المنبر، فلم ينكر عليها، بل اعترف بصوابها وخطئه، وقال: "كل الناس أفقه من عمر".
وقد رأينا الفتاه ابنة الشيخ الكبير المذكورة في صورة القصص تقول لموسى: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا). (القصص: 25).
كما تحدثت إليه هي وأختها من قبل حين سألهما: (ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير). (القصص: 23).
كما حكى لنا القرآن ما جرى من حديث بين سليمان -عليه السلام- وملكة سبأ، ومثل ذلك بينها وبين قومها من الرجال.
وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ما ينسخه من شرعنا، كما هو المذهب المختار.
كل ما يُمنع هنا هو التكسر والتميع في الكلام، الذي يراد به إثارة الرجل وإغرائه، وهو ما عبر عنه القرآن باسم "الخضوع بالقول" وذلك في قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفًا). (الأحزاب: 32).
فالمنهي عنه هو هذا "الخضوع" الذي يطمع الذين أمرضت قلوبهم الشهوات، وهذا ليس منعًا للكلام كله مع الرجال كلهم، بدليل قوله تعالى تتمة للآية: (وقلن قولاً معروفًا).
ومن الأحاديث التي أساءوا فهمها ما رواه البخاري عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما تركت بعدي فتنه أضر على الرجال من النساء ".
فقد توهموا وأوهموا أن الفتنة هنا تعني أنهن شر ونقمة، أو مصيبة يبتلى بها الإنسان كما يبتلى بالفقر والمرض والجوع والخوف، وغفلوا عن شيء مهم، وهو: أن الإنسان إنما يفتن بالنعم أكثر مما يفتن بالمصائب. وقد قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). (الأنبياء: 35).
وليس أدل على ذلك من اعتبار القرآن الأموال والأولاد، وهما من أعظم نعم الحياة الدنيا وزينتها، فتنة يحذر منها، كما قال تعالى في كتابه العزيز: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (التغابن: 15)، (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة). (الأنفال: 28).(2/236)
وفتنتها أنها قد تلهي الإنسان عن واجبه نحو ربه، وتشغله عن مصيره، وفي هذا يقول الله: (يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). (المنافقون: 9).
وكما يخاف على الناس أن يفتنوا بالأموال والأولاد، يخاف عليهم أن يفتنوا بالنساء، يفتنوا بهن زوجات يثبطنهم عن البذل والجهاد، ويغرينهم بالاشتغال بالمصالح الخاصة عن الواجبات العامة، وفي هذا جاء التحذير القرآني: (إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم). (التغابن: 14).
ويفتنوا بهن إذا أصبحن أدوات للإثارة، وتحريك الشهوات، وتأجيج نيران الغرائز في صدور الرجال، وهذا هو الخطر الأكبر، الذي يخشى من ورائه تدمير الأخلاق، وتلويث الأعراض، وتفكيك الأسر والجماعات.
والتحذير من النساء هنا كالتحذير من نعمة المال والرخاء وبسطة العيش وهو ما جاء في الحديث الصحيح: "والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم". (متفق عليه من
حديث عمرو بن عوف الأنصاري).
فلا يعني هذا الحديث أن الرسول يعمل على نشر الفقر، وهو الذي استعاذ بالله منه، وقرنه بالكفر، ولا أنه يكره لأمته السعة والرخاء والغنى بالمال، وهو الذي قال: "نعم المال الصالح للمرء الصالح " (رواه أحمد 4/197 و202 والحاكم في المستدرك 2/2 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي). إنما هو يضيء الإشارات الحمراء للفرد المسلم والمجتمع المسلم أمام المزالق والأخطار حتى لا تَزِلَّ أقدامه ويسقط في الهاوية من حيث لا يشعر، ولا يريد.
مناقشة رأي في التفسير.
فيه إجحاف بالمرأة.
س: من المراد بالسفهاء في قوله تعالى في سورة النساء: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا). (النساء: 5.؟).(2/237)
فقد نشرت مجلة الأمة في عددها التاسع والأربعين مقالاً لأخت فاضلة (حنان لحام)، ذكرت فيه ما نقله ابن كثير عن حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس، أن السفهاء هم النساء والصبيان!.
واستنكرت الكاتبة هذا التفسير، وإن نقل عن ابن عباس، واستبعدت وصف النساء عامة بالسفه، وفيهن مثل خديجة وأم سلمة وعائشة من أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - وغيرهن من الصالحات الفضليات.
وقد كتب إليَّ بعض الإخوة يسألني عن هذا التفسير الذي ذكره ابن كثير: هل هو صحيح؟ وما تعليقكم على هذا؟.
جـ: هذا التفسير للسفهاء في الآية الكريمة بأن المراد بهم النساء خاصة، أو النساء والصبيان، تفسير مرجوح ضعيف، وإن نقل عن حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنهما - ولو صحت نسبته إليه، وإلى غيره من مفسري السلف.
والصواب الذي عليه جماهير الأمة أن تفسير الصحابي للقرآن الكريم ليس حجة في نفسه ملزمة لغيره، وليس له حكم الحديث المرفوع، كما زعم بعض المحدثين.
وإنما هو رأي واجتهاد من صاحبه يؤجر عليه وإن أخطأ فيه.
وقد نقل عن ابن عباس نفسه، وعن بعض أصحابه: "أن كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- ".
ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس أن يعلمه الله التأويل، لا يعني منحه العصمة فيما يذهب إليه من تأويل، إنما معناه أن يوفقه إلى الصواب في جل تأويلاته لا في كلها.
ولا غرو أن كان لابن عباس آراء واجتهادات في التفسير وفي الفقه لم يوافقه عليها جمهور الصحابة، ثم جمهور الأمة من بعدهم.
وضعف التأويل الذي ذهب إليه ابن عباس ومن تبعه - أن المراد بالسفهاء النساء أو النساء والصبيان- يتضح من عدة جوانب:.
أولاً: أن " السفهاء "جمع تكسير للمذكر، مفرده سفيه، وليس مفرده سفيهة، ولو كان مفرده سفيهة لجمع على فَعِلات أو فعائل، كما هو شأن جمع الإناث، فقيل: سفيهات أو سفهاء.(2/238)
ثانيًا: أن "السفهاء" اسم ذم، لأن مضمونه خفة العقل، وسوء التصرف، ولهذا لا يذكر في القرآن إلا في معرض الذم، كما في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) (البقرة: 13)، (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها). (البقرة: 142).
وإذا كان لفظ "السفهاء" للذم، فكيف يذم الإنسان على ما لم يكتسبه؟ كيف تذم المرأة لأنها امرأة، وهي لم تخلق نفسها، بل خلقها بارئها؟ وقد قال تعالى: (بعضكم من بعض) (آل عمران: 195). وفي الحديث: "إنما النساء شقائق الرجال". (أحمد بن حنبل 6/256، والبيهقي 1/168. وجاء في كنز العمال برقم "45559").
ومثل هذا يقال في الصبيان، فالله هو الذي خلق الإنسان من ضعف، وجعل لحياته مراحل يتنقل فيها من طفولة إلى صبًا إلى شاب، إلى كهولة، فكيف يذم الصبي على صباه ولا كسب له فيه؟!.
ولو رجعنا إلى تفاسير المحْدَثين وجدناها كلها ترجح شيخ المفسرين الطبري، ففي تفسير المنار للسيد رشيد رضا:.
السفهاء هنا هم المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي، ويسيئون التصرف بإنمائها وتثميرها.
وذكر اختلاف السلف في المراد بالسفهاء هنا، ورجح ما اختاره ابن جرير: إنها عامة في كل سفيه من صغير وكبير ذكر وأنثى.
وقال الأستاذ الإمام:.
(أمرنا الله في الآيات السابقة بإيتاء اليتامى أموالهم، وبإيتاء النساء صدقاتهن، أي مهورهن، وأتى في قوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم...) بشرط للإيتاء يعم الأمرين السابقين، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ، وكل امرأة صداقها، إلا إذا كان أحدهما سفيهًا لا يحسن التصرف في ماله، فحينئذ يمتنع أن تعطوه إياه لئلا يضيعه ويجب أن تحفظوه له أو يرشد. وإنما قال: (أموالكم) ولم يقل: أموالهم مع أن الخطاب للأولياء، والمال للسفهاء الذين في ولا يتهم للتنبيه على أمور:.(2/239)
أحدها: أنه إذا ضاع هذا المال ولم يبق للسفيه من ماله ما ينفق عليه وجب على وليه أن ينفق عليه من مال نفسه، فبذلك تكون إضاعة مال السفيه مفضية إلى إضاعة شيء من مال الولي. فكأن ماله عين ماله.
ثانيهما: أن هؤلاء السفهاء إذا رشدوا وأموالهم محفوظة لهم وتصرفوا فيها تصرف الراشدين وأنفقوا منها في الوجوه الشرعية من المصالح العامة والخاصة فإنه يصيب هؤلاء الأولياء حظ منها.
ثالثها: التكافل في الأمة واعتبار مصلحة كل فرد من أفرادها عين مصلحة الآخرين، كما قلناه في آيات أخرى). (انظر تفسير المنار 4/379، 380).
نظر الرجل إلى المرأة.
ونظر المرأة إلى الرجل.
س: نريد أن نعرف ما الذي يجوز، وما الذي لا يجوز من نظر الرجل إلى المرأة ونظر المرأة إلى الرجل، وخصوصًا الشق الثاني من السؤال، وهو نظر المرأة إلى الرجل، فقد سمعنا من بعض الوعاظ أن المرأة لا يجوز أن تنظر إلى الرجل لا بشهوة ولا بغير شهوة واستدل لذلك بحديثين :.
الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل ابنته فاطمة رضي الله عنها: " أي شيء أصلح للمرأة "؟ قالت: ألا ترى رجلاً ولا يراها رجل ! فقبلها وقال: "ذرية بعضها من بعض ".
والثاني: حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- :.
" احتجبا منه " فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى ؟ لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " أفعمياوان أنتما ؟ ! ألستما تبصرانه ؟ ! ".رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح سيأتي تخريجهما.
وكيف يمكن للمرأة ألا ترى رجلاً ولا يراها رجل، وخصوصًا في عصرنا هذا ؟ وما المراد بهذه الأحاديث إن كانت صحيحة ؟.(2/240)
أرجو ألا تهمل رسالتي، وأن تلقي الضوء على الموضوع، بما يضيء الطريق للحائرين والحائرات، الذين طال جدالهم في هذه الأمور، دون طائل.
وفقكم الله.
أخت مسلمة.
جـ: خلق الله الأحياء كلها أزواجًا بل خلق الكون كله أزواجًا كما قال تعالى : (سُبحَان الذي خلَقَ الأزواج كلها مما تُنْبِت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) (يس: 36).وقال: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). (الذاريات: 49).
وعلى هذه السنة الكونية العامة كان خلق الإنسان من زوجين: ذكر وأنثى، حتى يمكن أن تستمر الحياة الإنسانية وتنمو وتكتمل،.وجعل في كل جنس منهما قابلية الانجذاب إلى الجنس الآخر، فطرة الله التي فطر الناس عليها.
ومنذ خلق الله آدم خلق له ومنه زوجًا ليسكن إليها، ويأنس بها، وتأنس به، فإنه بحكم فطرته لا يستطيع أن يسعد وحده، وإن كان في الجنة يأكل منها رغدًا حيث شاء.
وكان أول تكليف إلهي موجها إلى الاثنين معًا آدم وزوجه: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغَدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين). (البقرة: 35).
فعاشا في الجنة معًا، وأكلا من الشجرة المنهي عنها معًا، وتابا إلى الله معًا، ونزلا إلى الأرض معًا، وتوجهت إليهما التكاليف الإلهية معًا: (قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هُدًى فمن اتَّبَع هداي فلا يَضِلّ ولا يَشْقَى). (طه: 123).
واستمرت الحياة بعد ذلك لا يستغني الرجال عن النساء، ولا يستغني النساء عن الرجال (بعضكم من بعض)، فأعباء الدين والدنيا مشتركة بينهما.(2/241)
ولهذا لا يتصور أن يعيش الرجل وحده بعيدًا عن المرأة لا يراها ولا تراه، إلا إذا خرج عن سواء الفطرة، واعتزل الحياة، كما فعلت الرهبانية التي ابتدعها النصارى، وقسوا فيها على أنفسهم قسوة لا تقرها فطرة سليمة ولا شريعة قويمة، حتى إنهم كانوا يهربون من ظل المرأة، ولو كانت مَحْرَمًا، أمًّا أو أختًا . ولهذا حرموا على أنفسهم الزواج، واعتبروا الحياة المثالية للمؤمن هي التي لا يتصل فيها بامرأة، ولا تتصل به امرأة، على أي وجه من الوجوه.
ولا يتصور كذلك أن تعيش المرأة وحدها في عزلة تامة عن الرجال، فالحياة قائمة على تعاون الجنسين في أمور المعاش والمعاد: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض). (التوبة: 71).
وقد ذكرنا في موضع آخر أن القرآن جعل إمساك المرأة في البيت بحيث لا تخرج منه، عقوبة للمرأة التي ترتكب الفاحشة علانية حتى يشهد عليها أربعة من الرجال المسلمين، وذلك قبل استقرار التشريع، وإيجاب الحدود المعلومة.. قال تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً). (النساء: 15).
كما أن هنا حقيقة أخرى يجب أن تذكر إلى جوار حاجة كل من الرجل والمرأة إلى الآخر وهي أن الله سبحانه غرس في فطرة كل واحد من الجنسين قابلية الانجذاب إلى الجنس الآخر، والميل إليه ميلاً شهويًّا غريزيا، بسببه يحدث اللقاء والإنجاب وبقاء النوع، وعمران الأرض.
فلا يجوز أن ننسى هذه الحقيقة، حين نتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، ولا يقبل من بعض الناس أن يدَّعوا لأنفسهم أنهم أكبر من أن تؤثر فيهم الشهوات أو تستثار فيهم الغرائز، أو يضحك عليهم الشيطان.
وفي ضوء هذه المسلَّمات يجب أن ننظر في قضية نظر الرجل إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل.
نظر الرجل إلى المرأة:.(2/242)
أما الشق الأول فقد تحدثنا عنه في الفتوى الخاصة بوجوب النقاب أو عدمه، ورجحنا قول الجمهور الذين فسروا قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) بأن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان وأن للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها - بل وقدميها عند أبي حنيفة والمزني.
وإذا كان للمرأة أن تبدي هذا منها، فهل يجوز النظر إليه أم لا ؟.
أما النظرة الأولى فلا مفر منها بحكم الضرورة، وأما النظرة الآخرة فهي التي اختلفوا فيها.
والممنوع بلا شك هو النظر بتلذذ وشهوة، فهذا هو باب الخطر وموقد الشرر، ولهذا قيل: النظرة بريد الزنى ..ولله در شوقي حين قال :.
نظرة، فابتسامة، فسلام فكلام، فموعد، فلقاء !.
كما أن النظر إلى غير الزينة الظاهرة كالشعر والنحر والظهر والساقين والذراعين ونحوها، لا يجوز لغير محرم بالإجماع.
وهناك قاعدتان تحكمان هذا الأمر وما يتعلق به.
الأولى: أن الممنوع يباح عند الضرورة أو الحاجة، مثل الحاجة إلى التداوي والعلاج، والولادة ونحوها، والتحقيق في القضايا الجنائية، وأشباه ذلك، مما تدعو إليه الحاجة، وتحتمه الضرورة الفردية أو الاجتماعية.
والثانية: أن المباح يمنع عند خوف الفتنة، سواء كان الخوف على الرجل، أو على المرأة.. وهذا إذا قامت دلائل بينة على ذلك، لا مجرد هواجس وتخيلات عند بعض المتخوفين والمتشككين في كل أحد، وفي كل شيء.
ولهذا لوى النبي -صلى الله عليه وسلم- عنق ابن عمه الفضل بن العباس، وحول وجهه عن النظر إلى المرأة الخثعمية في الحج، حين رآه يطيل النظر إليها، وجاء في بعض الروايات أن العباس سأله: لماذا لويت عنق ابن عمك ؟ قال: " رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما ".
والمرجع في خوف الفتنة هو ضمير المسلم، وقلبه، الذي يجب أن يفتيه في هذه المسائل، وعليه أن يستمع إليه، وإن أفتاه الناس وأفتوه.(2/243)
وذلك إذا كان قلبًا سليمًا لم تلوثه الشهوات، ولم تفسده الشبهات، ولم تعشش فيه الأفكار المنحرفة.
نظرة المرأة إلى الرجل:.
وأما الشق الثاني من السؤال، وهو ما يتعلق بنظر المرأة إلى الرجل، فمن المتفق عليه: أن النظر إلى العورة حرام، بشهوة أم بغير شهوة، إلا إن وقع ذلك فجأة بغير قصد ولا تعمد، وهو ما جاء فيه الحديث الصحيح الذي رواه جرير بن عبد الله: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظر الفجأة فقال: " اصرف بصرك ".رواه مسلم.
ولكن يبقى البحث هنا عن عورة الرجل ما هي ؟.
فالسوءتان عورة مغلظة متفق على تحريم كشفها أو النظر إليها، إلا في حالة الضرورة كالعلاج ونحوه، وحتى لو كانت مغطاة بما يجسمها ويبرزها أو يشف عنها، فهو محظور شرعا.
وأكثر الفقهاء على أن الفخذين من العورة، وأن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وقد استدلوا على ذلك ببعض الأحاديث التي لم تسلم من التعليل، وبعضهم حسنها وربما صححها بمجموع طرقها، وإن كان كل واحد منها في ذاته يقصر عن الاحتجاج به على إفادة حكم شرعي.
وذهب بعض الفقهاء إلى أن الفخذ ليس بعورة، مستدلين بحديث أنس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حسر عن فخذه في بعض المواضع، ونصر هذا المذهب أبو محمد بن حزم.
ومذهب المالكية المنصوص عليه في كتبهم أن العورة المغلظة من الرجل هي السوءتان فقط أي القبل والدبر.. وهي التي تبطل الصلاة بكشفها أبدًا مع القدرة.
وحاول فقهاء الحديث الجمع بين الروايات المتعارضة إن أمكن ذلك، أو الترجيح بينها، فقال الإمام البخاري في صحيحه: (باب ما يذكر في الفخذ: وروي عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي-صلى الله عليه وسلم-: أن الفخذ عورة، وقال أنس: " حسر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن فخذه "، وحديث أنس أسند أي أقوى سندًا وحديث جرهد أحوط) (يلاحظ أن البخاري علق الحديث بصيغة التضعيف " روي " مما يدل على ضعفه عنده، كما ذكر في الترجمة).(2/244)
واتجه الشوكاني في " نيل الأوطار " إلى توجيه الأحاديث التي ذكرت أن الفخذ عورة على أنها حكاية حال لا عموم لها.
أما المحقق ابن القيم فقال في " تهذيب سنن أبي داود " :.
(وطريق الجمع بين هذه الأحاديث ما ذكره غير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم: أن العورة عورتان: مخففة ومغلظة، فالمغلظة السوءتان، والمخففة الفخذان، ولا تنافي بين الأمر بغض البصر عن الفخذين لكونهما عورة، وبين كشفهما لكونهما عورة مخففة، والله أعلم).
وفي هذا رخصة للرياضيين وغيرهم ممن تستلزم هواياتهم وممارساتهم الملابس القصيرة، مثل "الشورت " ونحوه، وكذلك من يشاهدونهم.. وكذلك الكشافة والجوالة، وإن كان يجب على المسلمين أن يفرضوا على تلك المنظمات العالمية طابعهم الخاص وما تقتضيه قيمهم الدينية ما استطاعوا.
وينبغي التنبيه هنا، أن ما كان عورة من الرجل، فالنظر إليه حرام من المرأة والرجل جميعًا وهذا أمر واضح.
وأما ما لم يكن عورة من الرجل، كالنظر إلى وجهه وشعره وذراعيه وساقيه وما إلى ذلك، فالقول الصحيح أنه جائز، ما لم يصحب ذلك شهوة، أو خوف فتنة.. وهذا هو رأي جمهور فقهاء الأمة، وهو الذي دل عليه عمل المسلمين منذ عصر النبوة، وما بعده من خير القرون، ودلت عليه أحاديث صحيحة صريحة لا تقبل طعنًا
وذهب بعض الفقهاء إلى منع المرأة من رؤية الرجال عامة، مستدلين بما ذكرته السائلة في سؤالها.
أما حديث فاطمة رضي الله عنها، فلا قيمة له من الناحية العلمية، ولم أره في كتاب من كتب أدلة الأحكام، ولا استدل به فقيه من الفقهاء، حتى المتشددون الذين منعوا المرأة من النظر إلى الرجل لم يذكروه، وإنما ذكره الإمام الغزالي في " الإحياء "، وقال الحافظ العراقي في تخريجه: رواه البزار والدارقطني في "الأفراد " من حديث على بسند ضعيف. (ذكره في كتاب النكاح، باب آداب المعاشرة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد جـ 2/202 وقال: رواه البزار وفيه من لم أعرفه).(2/245)
وأما الحديث الآخر، فنجد الرد عليه فيما ذكره ابن قدامة في تلخيص الرأي في المسألة، حيث قال في " المغني " فأوجز وأحسن:.
(فأما نظر المرأة إلى الرجل ففيه روايتان:.
إحداهما: لها النظر إلى ما ليس بعورة.
والأخرى: لا يجوز لها النظر من الرجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها اختاره أبو بكر، وهذا أحد قولي الشافعي.
لما روى الزهري عن نبهان عن أم سلمة قالت: كنت قاعدة عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستأذن ابن أم مكتوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " احتجبا منه "، فقلت: يا رسول الله، إنه ضرير لا يبصر، قال: " أفعمياوان أنتما لا تبصرانه ؟ " رواه أبو داود وغيره.
ولأن الله تعالى أمر النساء بغض أبصارهن كما أمر الرجال به.
ولأن النساء أحد نوعي الآدميين فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياسًا على الرجال.
يحققه أن المعنى المحرم للنظر خوف الفتنة، وهذا في المرأة أبلغ، فإنها أشد شهوة وأقل عقلاً، فتسارع الفتنة إليها أكثر.
ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس: " اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فلا يراك " متفق عليه. (وفي رواية لمسلم: " فإني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين " ومعنى هذا أنه أراد الرفق بها والتيسير عليها، فلا تظل طوال اليوم ملتزمة بالثياب الساترة للجسم كله إذا بقيت عند أم شريك كثيرة الضيفان.. أما ابن أ م مكتوم فإنه لا يراها، فيمكنها بعض التخفف).
وقالت عائشة: " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد " متفق عليه.
ويوم فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من خطبة العيد " مضى إلى النساء فذكرهن ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة ".(2/246)
ولأنهن لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجاب، كما وجب على النساء. (إذا كان المقصود بالحجاب: لبس النقاب وتغطية الوجه ففي هذا نظر، وسنرد عليه مفصلاً في فتوى " هل النقاب واجب " ؟).لئلا ينظرن إليهم.
فأما حديث نبهان، فقال أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين. يعني هذا الحديث، وحديث " إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه " وكأنه أشار إلى ضعف حديثه، إذ لم يرو إلا هذين الحديثين المخالفين للأصول.
وقال ابن عبد البر: نبهان مجهول، لا يعرف إلا برواية الزهري عنه هذا الحديث، وحديث فاطمة صحيح، فالحجة به لازمة.
ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، كذلك قال أحمد وأبو داود.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: كأن حديث نبهان لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، وحديث فاطمة لسائر الناس ؟ قال: نعم. (وقال أبو داود بعد رواية الحديث: وهذه لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم ؟.انظر سنن أبي داود، حديث 4112).
وإن قدر التعارض، فتقديم الأحاديث الصحيحة أولى من الأخذ بحديث مفرد في إسناده مقال). (المغني لابن قدامة 6/563،564).
بقي هنا قيد مفروغ منه، وهو ما ذكرناه في نظر الرجل إلى المرأة، وأعني به ألا يكون مصحوبًا بالتلذذ والشهوة، وإلا حرم، ولهذا أمر الله المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن، كما أمر المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم سواء.. قال تعالى: (قل للمؤمنين يَغُضُّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون.. وقل للمؤمنات يَغْضُضْنَّ من أبصارهن ويحفظن فروجهن...). (النور: 30، 31.الآية).(2/247)
صحيح أن المرأة تثير الرجل وتحرك شهوته، أكثر مما يثير الرجل المرأة، وأن المرأة أكثر جاذبية للرجل، وهي المطلوبة غالبًا والرجل هو الطالب، ولكن هذا كله لا يمنع أن من الرجال من يجذب عين المرأة وقلبها بشبابه ووسامته، أو بقوته وفحولته، أو بغير ذلك من المعاني التي ترنو إليها أعين بعض النساء، أو تهفو إليها قلوبهن.
وقد قص علينا القرآن الكريم قصة امرأة العزيز مع فتاها يوسف، الذي شغفها حبًا وكيف غدت هي الطالبة لا المطلوبة، وكيف راودته عن نفسه وقالت: (هيت لك قال معاذ الله). (يوسف :23).
كما قص علينا موقف نسوة المدينة حينما رأين يوسف لأول مرة بما آتاه الله من شباب وحسن ونضارة وقوة: (فلما رأينه أكْبَرْنَه وقَطَّعْن أيديهن وقُلْن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم.. قالت فَذَلِكُنّ الذي لُمْتُنَّني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجَنَنَّ وليكونًا من الصاغرين). (يوسف "31،32).
فإذا نظرت المرأة إلى رجل معين، فتحركت فيها عوامل الأنوثة، فعليها أن تغض بصرها، ولا تتابع النظر إليه، بعدًا عن مظنة الفتنة، ويزداد الأمر خطرًا إذا بادلها الرجل النظر بنفس الرغبة والشهوة.. فهذا هو النظر الذي سموه (بريد الزنى) والذي وُصِف بأنه (سهم مسموم من سهام إبليس) وهو الذي قال فيه الشاعر:.
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر!.
فالسلامة في البعد عن مواضع الشرر، ومواقع الخطر، ونسأل الله العافية في الدين والدنيا... آمين.
إلقاء السلام على النساء.
س: نحن طالبات ندرس في الجامعة، تعودنا أن يدخل علينا أساتذتنا، فيلقوا علينا تحية الإسلام، فنرد عليهم بأحسن منها، أو بمثلها كما أمرنا الله في كتابه: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (النساء :86) إذ كنا نعتقد أن هذه الآية الكريمة ليست للرجال وحدهم.(2/248)
ولكن واحدًا من أساتذتنا الأفاضل خالف هذه العادة، فلم يسلم علينا مرة قط.
وقد سألته إحدانا بصراحة: لماذا لا تلقي السلام علينا يا دكتور ؟ فأجابها بأن التسليم على النساء غير جائز شرعًا، وأن صوت المرأة عورة !.
هذا مع أنه بحكم تدريسه لنا، يكلمنا ونكلمه، ويسألنا ونجيبه، ونسأله ويجيبنا، ونناقشه في كثير من المسائل، دون أن يعترض على شيء من ذلك، فلماذا كان السلام وحده هو الممنوع ؟ وهل صحيح أن صوت المرأة عورة، ولو كان في رد السلام، ونحو ذلك من القول المعروف، ومع مراعاة الأدب المطلوب للمسلمة في خطابها للرجال غير المحارم ؟.
إننا نتوق إلى معرفة الحكم الشرعي هنا، سواء كان لنا أم علينا، ولكن المهم هو الدليل المقنع الذي تنشرح له الصدور، ويرتفع عنده الجدل.كما هو العهد بكم دائمًا، نفع الله بعلمكم المسلمين.
طالبات بجامعة قطر.
جـ: من نظر إلى النصوص العامة التي أمرت بإفشاء السلام، وجدها لم تفرق بين رجل وامرأة، مثل الأحاديث الكثيرة التي دعت إلى " إطعام الطعام وإفشاء السلام، وصلة الأرحام، والصلاة بالليل والناس نيام " وفي الصحيح: " والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " رواه مسلم.
ومن ذلك قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). (النساء: 86).
والأصل في خطاب الشارع أنه للرجال والنساء جميعًا، إلا ما خصه الدليل.
فلو أن رجلاً مسلمًا حيا امرأة مسلمة لكان عليها بنص القرآن أن ترد على تحيته بأحسن منها، أو على الأقل بمثلها.
ولو أن امرأة حيت رجلاً لكان عليه أن يحييها بأحسن منها، أو يردها بمثلها ما دامت هذه النصوص عامة مطلقة، ولم يرد ما يخصصها أو يقيدها.
فكيف وقد جاء ما يؤيدها، ويؤكدها من النصوص الخاصة، التي بينت شرعية تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال.(2/249)
ففي صحيح البخاري: أن أم هانيء ابنة أبي طالب ابنة عمه قالت: ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عام الفتح، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، فقال "من هذه" ؟ فقلت أنا أم هانيء بنت أبي طالب، فقال: " مرحبًا بأم هانيء " الحديث (صحيح البخاري، باب أمان النساء وجوارهن من كتاب "الجهاد" من الجامع الصحيح).وقد رواه مسلم أيضًا، فهو حديث متفق عليه.
وعقد الإمام البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: " باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال ".
قال الحافظ ابن حجر: أشار بهذه الترجمة يقصد العنوان إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء، والنساء على الرجال.
وذكر في الباب حديثين يؤخذ الجواز منهما :.
الأول: حديث سهل: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة نخل بالمدينة فتأخذ من أصول السَّلْق، فتطرحه في قِدْر، وتكركر أي تطحن حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة، انصرفنا ونسلم عليها، فتقدمه إلينا.
الثاني: حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يا عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام " (اعترض بأن الملائكة ليسوا رجالاً، وأجيب بأن جبريل كان يأتي كثيرًا في صورة رجل)، قلت: وعليه السلام ورحمة الله.
قال الحافظ: وورد فيه حديث ليس على شرطه يعني البخاري وهو حديث أسماء بنت يزيد: " مر علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نسوة فسلم علينا " (الحديث رواه أبو داود في الأدب برقم (5204) والترمذي في الاستئذان (2698) وابن ماجة في الأدب (3701) والدارمي: باب في السلام على النساء 2/ 189)، حسنه الترمذي، وليس على شرط البخاري، فاكتفى بما هو على شرطه.
وله شاهد من حديث جابر عند أحمد. (فتح الباري ج11/34، ط.السلفية).(2/250)
وعن بعض الصحابة: يسلم الرجال على النساء، ولا يسلم النساء على الرجال (رواه أبو نعيم عن عمرو بن حريث موقوفًا عليه بسند جيد كما في " الفتح "). ولكن يرده حديث أم هانيء السابق في سلامها على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ولم يكن محرمًا لها، بل كان ابن عمها، وقد أراد يومًا أن يتزوجها.
كما روى الإمام أحمد في مسنده: أن معاذًا قدم إلى اليمن، فلقيته امرأة من خولان معها بنون لها اثنا عشر ،.. وفيه :" فقامت فسلمت على معاذ " (مسند أحمد 5/239).الحديث، وفي سنده شهر بن حوشب، وفيه مقال، ولكنه يصلح للاستئناس به، وإن لم يصلح حجة وحده، وقد حسن حديثه الترمذي. (وصححه في عصرنا الشيخ شاكر رحمه الله في تخريجه للمسند).
وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى بعض النسوة، فسلم عليهن، وقال: " أنا رسول رسول الله إليكن..." الحديث.
هذا ما دل عليه هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته في شأن التسليم على النساء، أو تسليمهن على الرجال.
ولكن كثيرًا من العلماء قيدوا جواز ذلك بأمن الفتنة.
قال الحليمي: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- للعصمة مأمونًا من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة، فليسلم، وإلا فالصمت أسلم.
وقال المهلب: سلام الرجال على النساء، والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة.
وفرق المالكية بين الشابة والعجوز، سدًا للذريعة.
وبعض العلماء أضاف إلى الشباب الجمال، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها، لم يشرع السلام ابتداءً ولا وجوبًا.. ومنع منه ربيعة مطلقًا.
وقال الكوفيون أبو حنيفة وأصحابه ـ: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال، لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، إلا على المحرم، فيجوز لها السلام على محرمها. (ذكر هذه الأقوال الحافظ في الفتح 11/34).
وحجة الآخرين حديث سهل الذي ذكرناه عند البخاري، فإن الرجال من الصحابة الذين كانوا يزورونها وتطعمهم، لم يكونوا من محارمها.(2/251)
وهذه الاجتهادات كلها إنما دفع إليها زيادة التخوف والتحوط، ولم يلزم بها نص صحيح صريح.
ولم يكن جل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان، يتخوفون كل هذا التخوف، ويحتاطون كل هذا الاحتياط.
ومن نظر إلى ما نقل عنهم في المصادر التي عنيت بذلك، يجد أن جمًا غفيرًا منهم كان لا يرى بأسًا بالسلام على النساء، وخصوصًا إذا دخل الرجل عليهن زائرًا، أو معالجًا أو معلمًا أو نحو ذلك، بخلاف المرأة التي تلقى الرجل في الطريق العام، فهنا لا يحسن السلام عليها، ما لم يكن بينه وبينها صلة وثيقة من نسب أو رحم أو مصاهرة أو نحو ذلك.
وحسبي أن أسجل هنا ما رواه الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه فيما روي عن السلف من السلام على النساء.
فبعد أن ذكر حديث أسماء بنت يزيد الذي ذكرناه من قبل :" مر علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نسوة فسلم علينا ".
روى بسنده عن جرير: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على نسوة فسلم عليهن. (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/38 من رواية أحمد وأبي يعلي والطبراني).
وروي عن مجاهد: أن ابن عمر مر على امرأة فسلم عليها.
وعن مجاهد أيضًا: أن عمر مر على نسوة فسلم عليهن.
وعن ابن عيينة عن أبي ذر قال: " سألت عطاءً عن السلام على النساء فقال: إن كن شواب فلا".
وعن ابن عون قال: قلت لمحمد: أي ابن سيرين ـ: أسلم على المرأة ؟ قال لا أعلم به بأسًا.
وعن الحسن أنه كان لا يرى أن يسلم الرجل على المرأة، إلا أن يدخل عليها في بيتها، فيسلم عليها.
وعن عبيد الله قال: كان عمرو بن ميمون يسلم على النساء والصبيان.
وعن عمرو بن عثمان قال: رأيت موسى بن طلحة مر على نسوة جلوس فسلم عليهن.
وعن شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا عن السلام على النساء فكرهه على الشابة والعجوز، وقال الحكم: كان شريح يسلم على كل أحد، قلت: النساء ؟ قال: على كل أحد.(2/252)
وأقوى ما يستند إليه المانعون هنا هو " خوف الفتنة " التي ينبغي أن يتوقاها المسلم ما استطاع استبراءً لدينه وعرضه.
وهذا مرده إلى ضمير المسلم وتقديره، وعليه أن يستفتي قلبه.
وفي قضيتنا المسئول عنها هنا، نرى الأمر مغايرًا:.
فالسلام على مجموعة من الفتيات والنساء غير السلام على واحدة.
والسلام في قاعة الدرس بما لها من وقار وما يحوطها من جدية، غير السلام في الطريق ونحوه.
والسلام من أستاذ لتلميذاته كثيرًا ما يكون في سن الأب، وربما في سن الجد غير السلام من شخص عادي.
ويؤكد هذا أن الأستاذ الذي يتورع عن إلقاء السلام، لا يفتأ يسأل الطالبات ويسألنه، ويجاوبهن ويجاوبنه، فلا معنى لإجازة هذا كله، وحظر السلام وحده وذكر خوف الفتنة هنا لا معنى له، لأن السلام ليس أكثر من الكلام والحوار والنقاش خلال الدرس والمحاضرة.
وإذا كان ترك إلقاء السلام يوحشهن ويؤذيهن إيذاء أدبيًا، فالأولى أن يسلم، تطييبًا للقلوب، ومنعًا للأذى.
أما ما قيل من أن صوت المرأة عورة، فلا أجد له وجها، ولم يقل به إمام معتبر.
كيف والله تعالى يقول في شأن نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب). (الأحزاب: 53).
ومعنى هذا أنهن يجبن من سألهن من وراء الحجاب، وكذلك كانت تفعل عائشة وأمهات المؤمنين، يجبن السائلين ويروين لهم الأحاديث والسير.. مع أن عليهن من التشديد والتغليظ ما ليس على غيرهن.
وكم من نساء سألن وتحدثن في مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكم من وقائع ومواقف لا تعد في عصر النبوة والصحابة تحدث فيها النساء إلى الرجال، سؤالاً وجوابًا، وأخذًا وردًا، وسلامًا وكلامًا، ولم يقل أحد للمرأة: اصمتي فإن صوتك عورة.
اختلاط الجنسين:.
س: كثرت الأقوال والفتاوى حول موضوع" الاختلاط " ويقصد به اختلاط الجنسين، الرجال والنساء.(2/253)
وقد رأينا من علماء الدين، من يوجب على المرأة ألا تخرج من بيتها إلا إلى قبرها، حتى المساجد كرهوا خروجها إليها، وبعضهم حرمه، خوفًا من الفتنة، وفساد الزمان.
ويستندون في ذلك إلى قول لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: " لو علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء بعده لمنعهن من المساجد " !.
ولا يخفى على فضيلتكم أن المرأة في حاجة إلى أن تخرج للمجتمع لتتعلم، ولتعمل، ولتشارك في أتراح الحياة وأفراحها، وكل هذا يفرض عليها قدرًا يكبر أو يصغر من الاختلاط بالرجل، الذي قد يكون زميلاً في الدراسة، أو معلمًا في المدرسة، أو أستاذًا في الجامعة، أو جارًا في الوظيفة، أو رئيسًا في العمل، أو مرءوسًا أيضًا، أو طبيبًا في العلاج، أو.. أو.. إلخ.
فهل يعد كل اختلاط بين المرأة والرجل ممنوعًا أو حرامًا ؟ وكيف يمكن أن تعيش المرأة بغير الرجل في عصر تشابكت فيه العلاقات وتعقدت ؟ ولم يعد ممكنا أن تسجن المرأة في قفص المنزل، حتى ولو كان هذا القفص من ذهب، فلن يعدو كونه سجنا !.
ولماذا يباح للرجال ما لا يباح للنساء ؟ لماذا يستمتع الرجل بالهواء الطلق، وتحرم المرأة منه ؟ ولماذا نسيء الظن بالمرأة، وهي ليست دون الرجل دينًا وعقلاً وضميرًا ؟.. فلها كما له دين يمنعها، وعقل يردعها، وضمير يحاسبها " النفس اللوامة "، كما أن لها بغير شك غريزة قد تغريها بالهبوط فتهبط، وهي " النفس الأمارة بالسوء "، كما أن لها شيطانا قد يزين لها ويغويها، كما يزين للرجل ويغويه.
فما سر هذا التشديد على المرأة، الذي ينسب للأسف إلى الإسلام ويذكره من يذكره ممن ينتمون إلى بعض المدارس أو التيارات الدينية على أنه حكم الشرع، وموقف الدين ؟.
نرجو منكم توضيح هذا الأمر، وماذا ينبغي أن يكون موقفنا منه، وبعبارة أخرى: ما موقف الشريعة منه ؟ أعني ما جاء به محكم الكتاب وصحيح السنة النبوية، لا قول زيد أو عمرو من الناس.(2/254)
والله يوفقكم لبيان الحق بالدليل.
مسلم غيور على دينه.
جـ: مشكلتنا كما ذكرت وأذكر دائمًا أننا في أكثر القضايا الاجتماعية والفكرية، نقف بين طرفي الإفراط والتفريط، وقلما نهتدي إلى " التوسط " الذي يمثل إحدى الخصائص العامة والبارزة لمنهج الإسلام ولأمة الإسلام.
وهذا أوضح ما يكون في قضيتنا هذه وقضايا المرأة المسلمة المعاصرة بصفة عامة.
فقد ظلم المرأة صنفان من الناس متقابلان بل متناقضان :.
1-صنف المستغربين الذين يريدون أن يفرضوا عليها التقاليد الغربية، بما فيها من فساد وتحلل من القيم وأعظمها الدين ـ وانحراف عن سواء الفطرة، وبعد عن الصراط المستقيم، الذي بعث الله الرسل، وأنزل الكتب لبيانه، ودعوة الناس إليه.
وهم يريدون من المرأة المسلمة أن تتبع سنن المرأة الغربية، " شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع " كما صور الحديث النبوي: حتى لو دخلت جحر ضب لدخلته وراءها، على ما في جحر الضب من الالتواء والضيق، وسوء الرائحة، ومع هذا لو دخلته المرأة الغربية لدخلته المرأة المسلمة بعدها، أو بعبارة أخرى: لظهرت " موضة " جديدة يروج لها المروجون تسمى " موضة جحر الضب "!.
وهؤلاء يغفلون ما تشكو منه المرأة الغربية اليوم، وما جر عليها الاختلاط " المفتوح " من سوء العاقبة على المرأة وعلى الرجل، وعلى الأسرة، وعلى المجتمع كله، ويسدون آذانهم عن صيحات الاستنكار التي تجاوبت بها الآفاق في داخل العالم الغربي نفسه، وعن كتابات العلماء والأدباء، ومخاوف المفكرين والمصلحين على الحضارة كلها من جراء إلغاء القيود في الاختلاط بين الجنسين.
كما ينسى هؤلاء أن لكل أمة شخصيتها التي تكونها عقائدها وتصورها للكون والحياة والوجود ورب الوجود، وقيمها وتراثها وتقاليدها.. ولا يجوز أن يغدو مجتمع صورة مكررة من مجتمع آخر.(2/255)
2ـ والصنف الثاني هم الذين يفرضون على المرأة تقاليد أخرى، ولكنها تقاليد الشرق لا تقاليد الغرب، وإن صبغت في كثير من الأحيان بصبغة الدين، ونسبها من نسبها إلى ساحته، بناءً على فهم فهمه، أو رأي قلده، أو رجحه، لأنه يوافق رأيه في المرأة، وسوء ظنه بها، بدينها وبعقلها وسلوكها.
ولكنه على أية حال لا يخرج عن كونه رأيًا لبشر غير معصوم، متأثر بمكانه وزمانه، وشيوخه ومدرسته، تعارضه آراء أخرى، تستمد حجيتها من صريح القرآن العظيم، ومن هدي النبي الكريم، ومن مواقف الصحابة وخير القرون.
وأود أن أبادر هنا فأقول: إن كلمة " الاختلاط " في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، كلمة دخيلة على " المعجم الإسلامي " لم يعرفها تراثنا الطويل العريض طوال القرون الماضية، ولم تعرف إلا في هذا العصر، ولعلها ترجمة لكلمة " أجنبية " في هذا المعنى، ومدلولها له إيحاء غير مريح بالنظر لحس الإنسان المسلم.
وربما كان أولى منها كلمة " لقاء " أو " مقابلة " أو " مشاركة " الرجال للنساء، ونحو ذلك.
وعلى كل حال، فإن الإسلام لا يصدر حكمًا عامًا في مثل هذا الموضوع، وإنما ينظر فيه على ضوء الهدف منه، أي المصلحة التي يحققها، والضرر الذي يخشى منه، والصورة التي يتم بها، والشروط التي تراعي فيه.. إلخ.
وخير الهَدْي في ذلك هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهدي خلفائه الراشدين، وأصحابه المهديين.
والناظر في هذا الهدي يرى أن المرأة لم تكن مسجونة ولا معزولة كما حدث ذلك في عصور تخلف المسلمين.
فقد كانت المرأة تشهد الجماعة والجمعة، في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان عليه الصلاة والسلام يحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال، وكلما كان الصف أقرب إلى المؤخرة كان أفضل، خشية أن يظهر من عورات الرجال شيء، وكان أكثرهم لا يعرفون السراويل.. ولم يكن بين الرجال والنساء أي حائل من بناء أو خشب أو نسيج، أو غيره.(2/256)
وكانوا في أول الأمر يدخل الرجال والنساء من أي باب اتفق لهم، فيحدث نوع من التزاحم عند الدخول والخروج، فقال -عليه السلام- : " لو أنكم جعلتم هذا الباب للنساء ".فخصصوه بعد ذلك لهن، وصار يعرف إلى اليوم باسم "باب النساء".
وكان النساء في عصر النبوة يحضرن الجمعة، ويسمعن الخطبة، حتى إن إحداهن حفظت سورة "ق " من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة.
وكان النساء يحضرن كذلك صلاة العيدين، ويشاركن في هذا المهرجان الإسلامي الكبير، الذي يضم الكبار والصغار، والرجال والنساء، في الخلاء مهللين مكبرين.
روى مسلم: عن أم عطية قالت: " كنا نؤمر بالخروج في العيدين، والمخبأة والبكر".
وفي رواية قالت: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق (جمع عاتق، وهي الجارية البالغة، أو التي قاربت البلوغ).والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. (الخطبة والموعظة ونحوها)، قلت : يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: " لتلبسها أختها من جلبابها ". (أي تعيرها من ثيابها ما تستغني عنه، والحديث في كتاب " صلاة العيدين " في صحيح مسلم حديث رقم 823).
وهذه سنة أماتها المسلمون في جل البلدان أو في كلها، إلا ما قام به مؤخرًا شباب الصحوة الإسلامية الذين أحيوا بعض ما مات من السنن، مثل سنة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وسنة شهود النساء صلاة العيد.
وكان النساء يحضرن دروس العلم، مع الرجال عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويسألن عن أمر دينهن مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم. حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار، أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة ونحوها.(2/257)
ولم يشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال واستئثارهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فطلبن أن يجعل لهن يومًا يكون لهن خاصة، لا يغالبهن الرجال ولا يزاحمونهن وقلن في ذلك صراحة: " يا رسول الله، قد غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك " فوعدهن يومًا فلقيهن فيه ووعظهن وأمرهن. (رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه).
وتجاوز هذا النشاط النسائي إلى المشاركة في المجهود الحربي في خدمة الجيش والمجاهدين، بما يقدرن عليه ويُحسنَّ القيام به، من التمريض والإسعاف ورعاية الجرحى والمصابين، بجوار الخدمات الأخرى من الطهي والسقي وإعداد ما يحتاج إليه المجاهدون من أشياء مدنية.
عن أم عطية قالت: " غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى " رواه مسلم. (برقم 1812).
وروى مسلم عن أنس (برقم 1811).: " أن عائشة وأم سليم، كانتا في يوم أحد مشمِّرتين، تنقلان القرب على متونهما وظهورهما ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها" ووجود عائشة هنا وهي في العقد الثاني من عمرها يرد على الذين ادعوا أن الاشتراك في الغزوات والمعارك كان مقصورًا على العجائز والمتقدمات في السن، فهذا غير مسلّم.. وماذا تغني العجائز في مثل هذه المواقف التي تتطلب القدرة البدنية والنفسية معًا ؟.
وروى الإمام أحمد: أن ست نسوة من نساء المؤمنين كن مع الجيش الذي حاصر خيبر: يتناولن السهام، ويسقين السويق، ويداوين الجرحى، ويغزلن الشَّعر، ويعنّ في سبيل الله، وقد أعطاهن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصيبًا من الغنيمة.
بل صح أن نساء بعض الصحابة شاركن في بعض الغزوات والمعارك الإسلامية بحمل السلاح، عندما أتيحت لهن الفرصة.. ومعروف ما قامت به أم عمارة نسيبة بنت كعب يوم أحد، حتى قال عنها -صلى الله عليه وسلم- : " لمقامها خير من مقام فلان وفلان ".(2/258)
وكذلك اتخذت أم سليم خنجرًا يوم حنين، تبقر به بطن من يقترب منها.
روى مسلم عن أنس ابنها: أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا، فكان معها، فرآها أبو طلحة زوجها فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر ! فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " ما هذا الخنجر" ؟ قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد المشركين بقرت به بطنه ! فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك. (رواه مسلم برقم 1809).
وقد عقد البخاري بابًا في صحيحه في غزو النساء وقتالهن.
ولم يقف طموح المرأة المسلمة في عهد النبوة والصحابة للمشاركة في الغزو عند المعارك المجاورة والقريبة في الأرض العربية كخيبر وحنين.. بل طمحن إلى ركوب البحار، والإسهام في فتح الأقطار البعيدة لإبلاغها رسالة الإسلام.
ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عند أم حرام بنت ملحان خالة أنس يومًا، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال: " ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكًا على الأسرَّة، أو مثل الملوك على الأسرة "، قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها (انظر الحديث (1912) من صحيح مسلم)... فركبت أم حرام البحر في زمن عثمان، مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص، فصرعت عن دابتها هناك، فتوفيت ودفنت هناك، كما ذكر أهل السير والتاريخ.
وفي الحياة الاجتماعية شاركت المرأة داعية إلى الخير، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، كما قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..). (التوبة: 71).
ومن الوقائع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر في المسجد في قضية المهور، ورجوعه إلى رأيها علنًا، وقوله :" أصابت المرأة وأخطأ عمر ".وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة النساء، وقال: إسنادها جيد.(2/259)
وقد عين عمر في خلافته الشِّفاء بنت عبد الله العدوية محتسبة على السوق.. والمتأمل في القرآن الكريم وحديثه عن المرأة في مختلف العصور، وفي حياة الرسل والأنبياء لا يشعر بهذا الستار الحديدي الذي وضعه بعض الناس بين الرجل والمرأة.
فنجد موسى وهو في ريعان شبابه وقوته يحادث الفتاتين ابنتي الشيخ الكبير، ويسألهما وتجيبانه بلا تأثم ولا حرج، ويعاونهما في شهامة ومروءة، وتأتيه إحداهما بعد ذلك مرسلة من أبيها تدعوه أن يذهب معها إلى والدها، ثم تقترح إحداهما على أبيها بعد ذلك أن يستخدمه عنده ؛ لما لمست فيه من قوة وأمانة.
لنقرأ في ذلك ما جاء في سورة القصص : (ولما وَرَدَ ماء مَدْيَنَ وَجَدَ عليه أُمّةً من الناس يَسْقُون ووجد من دونهم امرأ تين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرِّعَاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير.. فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.. قالت إحداهما يا أبتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين). (القصص: 23 -26).
وفي قصة مريم نجد زكريا يدخل عليها المحراب، ويسألها عن الرزق الذي يجده عندها :(كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب). (آل عمران: 37).
وفي قصة ملكة سبأ نراها تجمع قومها تستشيرهم في أمر سليمان: (قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون.. قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين.. قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعِزَّةَ أهلها أذِلَّةً وكذلك يفعلون). (النمل: 32 - 34).(2/260)
وكذلك تحدثت مع سليمان -عليه السلام- وتحدث معها: (فلما جاءت قيل أهكذا عَرْشُكِ قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين.. وصَدَّهَا ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين.. قيل لها ادخلي الصَّرْحَ فلما رأته حسبته لُجَّةً وكَشَفَتْ عن ساقيها قال إنه صَرْحٌ مُمَرَّدٌ من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين). (النمل: 42 - 44).
ولا يقال: إن هذا شرع من قبلنا فلا يلزمنا ؛ فإن القرآن لم يذكره لنا إلا لأن فيه هداية وذكرى وعبرة لأولي الألباب، ولهذا كان القول الصحيح: أن شرع من قبلنا المذكور في القرآن والسنة هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه.. وقد قال تعالى لرسوله: (أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُداهم اقْتَدِه). (الأنعام :90).
إن إمساك المرأة في البيت، وإبقاءها بين جدرانه الأربعة لا تخرج منه اعتبره القرآن في مرحلة من مراحل تدرج التشريع قبل النص على حد الزنى المعروف عقوبة بالغة لمن ترتكب الفاحشة من نساء المسلمين، وفي هذا يقول تعالى في سورة النساء: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا). (النساء: 15).
وقد جعل الله لهن سبيلاً بعد ذلك حينما شرع الحد، وهو العقوبة المقدرة في الشرع حقًا لله تعالى، وهي الجلد الذي جاء به القرآن لغير المحصن، والرجم الذي جاءت به السنة للمحصن.
فكيف يستقيم في منطق القرآن والإسلام أن يجعل الحبس في البيت صفة ملازمة للمسلمة الملتزمة المحتشمة، كأننا بهذا نعاقبها عقوبة دائمة وهي لم تقترف إثمًا ؟.
والخلاصة:.(2/261)
أن اللقاء بين الرجال والنساء في ذاته إذن ليس محرمًا بل هو جائز أو مطلوب إذا كان القصد منه المشاركة في هدف نبيل، من علم نافع أو عمل صالح، أو مشروع خير، أو جهاد لازم، أو غير ذلك مما يتطلب جهودًا متضافرة من الجنسين، ويتطلب تعاونا مشتركًا بينهما في التخطيط والتوجيه والتنفيذ.
ولا يعني ذلك أن تذوب الحدود بينهما، وتنسى القيود الشرعية الضابطة لكل لقاء بين الطرفين، ويزعم قوم أنهم ملائكة مطهرون لا يخشى منهم ولا عليهم، يريدون أن ينقلوا مجتمع الغرب إلينا.. إنما الواجب في ذلك هو الاشتراك في الخير، والتعاون على البر والتقوى، في إطار الحدود التي رسمها الإسلام، ومنها:.
1ـ الالتزام بغض البصر من الفريقين، فلا ينظر إلى عورة، ولا ينظر بشهوة، ولا يطيل النظر في غير حاجة، قال تعالى: (قل للمؤمنين يَغُضُّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون.. وقل للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن ويحفظن فروجهن). (النور 30، 31).
2ـ الالتزام من جانب المرأة باللباس الشرعي المحتشم، الذي يغطي البدن ما عدا الوجه والكفين، ولا يشف ولا يصف، قال تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جيُوبهن). (النور: 31).
وقد صح عن عدد من الصحابة أن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان.
وقال تعالى في تعليل الأمر بالاحتشام:(ذلك أدنى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب: 59).أي أن هذا الزيَّ يميز المرأة الحرة العفيفة الجادة من المرأة اللعوب المستهترة، فلا يتعرض أحد للعفيفة بأذى ؛ لأن زيها وأدبها يفرض على كل من يراها احترامها.
3ـ الالتزام بأدب المسلمة في كل شيء، وخصوصًا في التعامل مع الرجال:.
أ - في الكلام، بحيث يكون بعيدًا عن الإغراء والإثارة، وقد قال تعالى: (فلا تَخْضَعْنَ بالقول فيطمع الذي في قلبه مَرَضٌ وقلن قولاً معروفًا). (الأحزاب: 32).(2/262)
ب - في المشي، كما قال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليُعْلَمَ ما يُخْفِين من زينتهن) (النور: 31)، وأن تكون كالتي وصفها الله بقوله: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء). (القصص: 25).
جـ - في الحركة، فلا تتكسر ولا تتمايل، كأولئك اللائي وصفهن الحديث الشريف بـ " المميلات المائلات " ولا يصدر عنها ما يجعلها من صنف المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى أو الأخيرة.
4ـ أن تتجنب كل ما شأنه أن يثير ويغري من الروائح العطرية، وألوان الزينة التي ينبغي أن تكون للبيت لا للطريق ولا للقاء مع الرجال.
5ـ الحذر من أن يختلي الرجل بامرأة وليس معهما محرم، فقد نهت الأحاديث الصحيحة عن ذلك، وقالت :" إن ثالثهما الشيطان " إذ لا يجوز أن يُخَلَّي بين النار والحطب.
وخصوصًا إذا كانت الخلوة مع أحد أقارب الزوج، وفيه جاء الحديث: " إياكم والدخول على النساء "، قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحَمْو ؟ ! قال: " الحمو الموت " ! أي هو سبب الهلاك، لأنه قد يجلس ويطيل الجلوس، وفي هذا خطر شديد.
6ـ أن يكون اللقاء في حدود ما تفرضه الحاجة، وما يوجبه العمل المشترك دون إسراف أو توسع يخرج المرأة عن فطرتها الأنثوية، أو يعرضها للقيل والقال، أو يعطلها عن واجبها المقدس في رعاية البيت وتربية الأجيال.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
عيادة المرأة للرجل.(2/263)
س: أنا امرأة مسلمة، أحب أن ألتزم بأمر الله تعالى في حياتي كلها، وفي علاقاتي بالناس جميعًا، وأنا أعمل ناظرة مدرسة ثانوية للبنات، ومعي مجموعة من المدرسين والمدرسات، وبيننا مجاملات في المناسبات المختلفة كالتهنئة بزفاف أو بمولود، أو بترقية ونحو ذلك .. ولكن الأمر الذي توقفنا فيه هو عيادة المرضى من زملائنا الرجال، فقد يمرض أحدهم أو يعمل عملية جراحية، ويدخل المستشفى، فهل يجوز لي ولزميلاتي المدرسات أن نذهب لعيادة زميلنا لما له من حق الزمالة، أو يعتبر هذا من حقوق الرجال بعضهم على بعض.
ومثل هذا يقال بالنسبة لعيادة الزملاء للزميلة التي تمرض أو يصيبها حادث ونحو ذلك مما يعرض للرجال وللنساء جميعا.
نرجو من فضيلتكم توضيح هذه المسألة في ضوء النصوص الثابتة التي هي المرجع المعتمد والمعصوم لدى كل مسلم ومسلمة.. وندعو لكم بدوام التوفيق في نشر الفهم الصحيح والوعي الرشيد لديننا العظيم.
ن.س.من القاهرة.
جـ: من الآداب التي جاء بها الإسلام، وحث عليها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- : عيادة المريض.. وقد اعتبرها النبي الكريم من حقوق المسلم على المسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: وما هن يا رسول اللّه ؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه". (رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة).
" فكوا العاني أي الأسير وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض ". (رواه أحمد والبخاري عن أبي موسى، كما في صحيح الجامع الصغير).
" عودوا المرضى واتبعوا الجنائز، تذكركم الآخرة ". (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد كما في صحيح الجامع الصغير).(2/264)
" من عاد مريضًا ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً " (رواه الترمذي وحسنه (2009) وابن ماجة (1442) وابن حبان في صحيحه (712) من حديث أبي هريرة).
" إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع". قيل: يا رسول اللّه، وما خرفة الجنة ؟ قال: " جناها " (رواه أحمد ومسلم واللفظ له). أي ما يخترف ويجتني من ثمرها.
" إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم مرضتُ فلم تعدني ! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ". (رواه مسلم).
ولا يجد المرء أروع ولا أبلغ من هذا التصوير لفضل عيادة المريض ومثوبته عند الله، حتى إن الله جل جلاله ليجعل عيادة المريض كأنما هي عيادة له.
وهذه الأحاديث كلها تدل على أهمية هذا الأدب الإسلامي، الذي رغبت فيه السنة النبوية القولية والعملية، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد يهوديًا مريضًا فعرض عليه الإسلام فأسلم.
ويتأكد استحباب هذا الأدب الذي عدته بعض الأحاديث حقًا للمسلم على المسلم إذا كان بين المسلم والمسلم صلة وثيقة، مثل القرابة والمصاهرة والجوار والزمالة والأستاذية، ونحو ذلك مما يجعل لبعض الناس حقًا أوكد من غيره.
والملاحظ أن هذه الأحاديث جاءت بألفاظ عامة، تشمل الرجل والمرأة على السواء.. فحديث: " عودوا المريض " أو " من عاد مريضًا.. " أو " إذا مرض فعده " ليست خاصة بالرجال، بلا جدال.. وهذه الأدلة العامة كافية في مشروعية عيادة النساء للرجال في ظل الآداب والضوابط الشرعية المقررة.
ومع هذا هناك أدلة خاصة تدل على مشروعية عيادة المرأة للرجل:.
فقد أورد الإمام البخاري في كتاب المرضى من صحيحه " باب عيادة النساء للرجال ".قال: وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد من الأنصار. (رواه في " الصحيح " معلقًا ووصله في " الأدب المفرد ").(2/265)
وروي عن عائشة أنها قالت: " لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟"الحديث. (البخاري في كتاب "المرضى". انظر فتح الباري 12/221).
ومعنى " كيف تجدك ؟ ": أي كيف تجد نفسك، كما نقول نحن: كيف صحتك ؟.
وقد دخلت أم مبشر بنت البراء بن معرور الأنصارية على كعب بن مالك الأنصاري لما حضرته الوفاة، وقالت: " يا أبا عبد الرحمن، اقرأ على ابني السلام "ـ تعني مبشرًا " الحديث. (رواه ابن ماجة عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه. الحديث رقم (1449) ورواه أحمد في المسند 3/455 عن عبد الرحمن، وذكره الألباني في الصحيحة برقم 995).
فلا مانع إذن من أن تعود المسلمة أخاها المسلم المريض، ما دامت ملتزمة بالقواعد الشرعية، والآداب المرعية، فلا خلوة ولا تبرج ولا تعطر، ولا خضوع بالقول.
والأولى أن تكون العيادة في مثل هذه الحالة المسئول عنها في صورة جماعية، بمعنى أن تتفق الناظرة ومعها بعض المدرسات، على الذهاب معًا لقضاء حق العيادة، دفعًا لأي شبهة.
ولا معنى للتوقف في عيادة زميل مريض من زميلة له أو رئيسة له، مع أنها تتعامل معه في المدرسة يوميًا، وبلا حرج، فهل يشرع التعامل مع الزملاء في حالة الصحة، ويقاطَعون في حالة المرض ؟ مع أن المريض أولى بالشفقة والرعاية.
وأما عيادة الرجل للمرأة فهي تدخل في الأدلة العامة التي ذكرناها في الحث على عيادة المرضى.
وهناك أدلة خاصة أيضًا تدل على مشروعية عيادة الرجال للنساء:.
فقد روى الشيخان عن عائشة قالت: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ضباعة بنت الزبير، فقال لها :" لعلك أردت الحج ": قالت: والله لا أجدني إلا وجعة.. فقال لها :" حجي واشترطي... " الحديث. (رواه البخاري في كتاب النكاح، ومسلم في كتاب الحج).(2/266)
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: " مالك يا أم السائب تزفزفين أي ترتعدين ؟ " قالت: الحمى لا بارك الله فيها ! فقال: " لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد " رواه مسلم في كتاب البر والصلة.
وروى أبو داود عن أم العلاء قالت: عادني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنا مريضة، فقال: " أبشري يا أم العلاء... " الحديث. (رواه أبو داود في كتاب الجنائز، باب " عيادة النساء ").
وروى النسائي عن أبي أمامة قال: مرضت امرأة من أهل العوالي أي عوالي المدينة فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن شيء عيادة للمريض، فقال: " إذا ماتت فآذنوني " رواه النسائي في كتاب الجنائز.
وروى البخاري أن ابن عباس استأذن على عائشة في مرض موتها، فأذنت له، فقال: " كيف تجدينك " ؟ قالت: " بخير إن اتقيت " ! قال: " فأنت بخير إن شاء الله تعالى، زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينكح بكرًا غيرك، ونزل عذرك من السماء ". (رواه البخاري في كتاب "التفسير". وانظر كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة للأستاذ عبد الحليم أبو شقة 2/269 271).
وبعد هذه النقول الصحيحة الثبوت، الصريحة الدلالة، لا يجوز لمسلم إلا النزول على هُدَى الله تعالى، وهَدْى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا ينبغي لنا أن نحجر ما وسع الله تعالى أو نعسِّر ما يسره عزَّ وجَلَّ.. وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع من أقوال الرجال، وتقاليد الناس.
وبالله التوفيق.
مصافحة الرجل للمرأة.(2/267)
س: مشكلة تواجهني، ولا شك أنها تواجه غيري من الناس، وهي التعرض للسلام على النساء باليد، أعني المصافحة، وخصوصًا للقريبات منهن، ممن لسن محرمات عليَّ أي مثل ابنة خالي، أو ابنة خالتي، أو ابنة عمي، أو ابنة عمتي، أو امرأة العم، أو امرأة الخال، أو أخت زوجتي، أو غيرهن ممن تصلني بهم روابط قرابة أو مصاهرة، ولا سيما في مناسبات معينة كالقدوم من سفر، أو الشفاء من مرض، أو العودة من حج أو عمرة، أو نحو ذلك من المناسبات التي اعتاد الأقارب والأصهار ومثلهم الجيران والزملاء، أن يصل بعضهم بعضًا ويهنيء بعضهم بعضًا، ويصافح بعضهم بعضًا.
والذي أسأل عنه هو: هل ثبت في الكتاب أو السنة تحريم هذه المصافحة مع توفر ما ذكرت لكم من الدواعي الاجتماعية، والروابط العائلية، ومع التأكد من توفر جو الثقة، وأمن الفتنة، والبعد عن مثيرات الشهوة، ومع ما يثيره ترك المصافحة من النظر إلينا معشر المتدينين على أننا متزمتون متشددون، نحتقر المرأة، ونسيء الظن بها.. إلخ.
إذا كان هناك دليل شرعي، فنحن نحترمه من غير شك، ولا نملك إلا السمع والطاعة، بحكم إيماننا بالله ورسوله، وإن كان الأمر مجرد اجتهاد من فقهائنا القدامى، فقد يجوز لفقهاء عصرنا أن يخالفوهم، إذا أداهم إلى ذلك اجتهاد صحيح، بناءً على ما تقتضيه أوضاعنا المتغيرة، وظروف حياتنا المتطورة.
لهذا كتبت إليكم راجيًا بحث القضية من جذورها، على ضوء القرآن الكريم، والحديث الشريف، فإن قام الدليل على المنع امتنعنا ولا ريب. وإن كان في الأمر سعة، فلا نضيق ما وسع الله علينا، ولا سيما مع شدة الحاجة وعموم البلوى.
أرجو ألا تشغلكم أعباؤكم الكثيرة عن الرد على رسالتي، فإنها كما قلت لفضيلتكم ليست مشكلتي وحدي، بل مشكلة الملايين من أمثالي.
شرح الله صدركم للإجابة، ويسر لكم الوقت لتحقيق المسألة، ونفع بكم.(2/268)
جـ: لا أكتم الأخ السائل أن قضية مصافحة الرجل للمرأة التي يسأل عنها قضية شائكة، وتحقيق الحكم فيها بعيدًا عن التزمت والترخص يحتاج إلى جهد نفسي وفكري وعلمي، حتى يتحرر المفتي من ضغط الأفكار المستوردة، والأفكار المتوارثة جميعًا إذا لم يكن يسندها كتاب ولا سنة، وحتى يستطيع مناقشة الأدلة وموازنة الحجج، بعضها ببعض، لاستخلاص الرأي الأرجح والأدنى إلي الحق في نظر الفقيه، الذي يتوخى في بحثه إرضاء الله، لا موافقة أهواء الناس.
وقبل الدخول في البحث والمناقشة أود أن أخرج صورتين من مجال النزاع أعتقد أن حكمهما لا خلاف عليه بين متقدمي الفقهاء فيما أعلم :.
الأولي: تحريم المصافحة للمرأة إذا اقترنت بها الشهوة والتلذذ الجنسي من أحد الطرفين: الرجل أو المرأة، أو خيفت فتنة من وراء ذلك في غالب الظن، وذلك أن سد الذريعة إلى الفساد واجب، ولا سيما إذا لاحت علاماته، وتهيأت أسبابه.
ومما يؤكد هذا ما ذكره العلماء أن لمس الرجل لإحدى محارمه، أو خلوته بها وهي من قسم المباح في الأصل تنتقل إلى دائرة الحرمة إذا تحركت الشهوة، أو خيفت الفتنة (انظر: الاختيار لتعليل المختار في فقه الحنفية 4/155)، وخاصة مع مثل بنت الزوجة أو الحماة أو امرأة الأب، أو أخت الرضاع، اللائي ليس لهن في النفوس ما للأم أو البنت أو الأخت أو العمة أو الخالة أو نحوها.
الثانية : الترخيص في مصافحة المرأة العجوز التي لا تشتهى، ومثلها البنت الصغيرة التي لا تشتهى ؛ للأمن من أسباب الفتنة، وكذلك إذا كان المصافح شيخًا كبيرًا لا يشتَهي.
وذلك لما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير استأجر عجوزًا تمرضه، فكانت تغمزه وتفلي رأسه. (المرجع السابق ص 156، 155).(2/269)
ويدل لهذا ما ذكره القرآن في شأن القواعد من النساء، حيث رخص لهن في التخفف من بعض أنواع الملابس ما لم يرخص لغيرهن: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم). (النور: 60).
ومثل ذلك استثناء غير أولي الإربة من الرجال، أي الذين لا أرب لهم في النساء، والأطفال الذين لم يظهر فيهم الشعور الجنسي لصغر سنهم من نهي المؤمنات عن إبداء الزينة: (أو التابعين غير أولي الإرْبَةِ من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء). (النور 31).
وما عدا هاتين الصورتين، فهو محل الكلام، وموضع البحث والحاجة إلى التمحيص والتحقيق.
فالذين يوجبون على المرأة أن تغطي جميع جسمها، حتى الوجه والكفين، ولا يجعلونهما من المستثنى المذكور في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) بل يجعلون ما ظهر منها الثياب الظاهرة، كالملاءة والعباءة ونحو ذلك، أو ما ظهر منها بحكم الضرورة، كأن ينكشف منها شيء عند هبوب ريح شديدة أو نحو ذلك.
هؤلاء، لا عجب أن تكون المصافحة عندهم حرامًا لأن الكفين إذا وجبت تغطيتهما كان النظر إليهما محرمًا، وإذا كان النظر محرمًا كان المس كذلك من باب أولى، لأن المس أغلظ من النظر، لأنه أقوى إثارة للشهوة، ولا مصافحة دون أن تمس البشرة البشرة.
ولكن من المعروف أن أصحاب هذا القول هم الأقلون، وجمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، يجعلون المستثنى في قوله تعالى: (إلا ما ظهر منها) الوجه والكفين.
فما الدليل عندهم على تحريم المصافحة إذا لم تكن لشهوة ؟.
الحقيقة أنني بحثت عن دليل مقنع منصوص عليه، فلم أعثر على ما أنشده.
وأقوى ما يستدل به هنا، هو سد الذريعة إلى الفتنة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحيان كثيرة ما وجه التحريم ؟.(2/270)
ومن العلماء من استدل بترك النبي -صلى الله عليه وسلم- مصافحة النساء عندما بايعهن يوم الفتح بيعة النساء المشهورة، على ما جاء في سورة الممتحنة.
ولكن من المقرر أن ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه.. فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه، كتركه أكل الضب مع أنه مباح.
وإذن يكون مجرد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- للمصافحة، لا يحمل دليلاً على حرمتها، ولابد من دليل آخر لمن يقول بها.
على أن ترك مصافحته، -صلى الله عليه وسلم- للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية -رضي الله عنها- ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: يقول الله تعالى: (يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يُبَايِعْنَك على أن لا يُشْرِكن بالله شيئًا ولا يَسْرِقن ولا يَزْنِينَ ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين بِبُهْتان يَفْترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يَعْصِينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) (الممتحنة :12)، قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " قد بايعتك " كلامًا ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: " قد بايعتك على ذلك " (رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ـسورة الممتحنة باب :(إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات).(2/271)
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرح قول عائشة " ولا والله " إلخ: فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية. فعند ابن حبان، والبزار، والطبري، وابن مردويه، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: " اللهم اشهد".
وكذا الحديث الذي بعده يعني بعد الحديث المذكور في البخاري حيث قالت فيه: (فقبضت امرأة يدها) (المصدر السابق، باب :(إذا جاءكم المؤمنات يبايعنك) فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن.
قال الحافظ: ويمكن الجواب عن الأول: بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة.. وعن الثاني: بأن المراد بقبض اليد: التأخر عن القبول.. أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال: (لا أصافح النساء) وفي مغازي ابن إسحاق: أنه كان -صلى الله عليه وسلم- يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه.
قال الحافظ: ويحتمل التعدد، يعني أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس يد امرأة قط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة.. ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.
ومنها: الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء، والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة.
ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث.. ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك).(2/272)
والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لها في بيعة النساء، ليس موضع اتفاق، كما قد يظن الذين لا يرجعون إلى المصادر الأصلية، بل فيه الخلاف الذي ذكرناه.
وقد استدل بعض العلماء المعاصرين على تحريم مصافحة المرأة بما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له "، قال المنذري في الترغيب: ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح.
والمخيط: آلة الخياطة كالإبرة والمسلة ونحوها.
ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي:.
1ـ أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته، واكتفى مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول: رجاله ثقات أو رجال الصحيح.. وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع، أو علة خفية، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه.
2 أن فقهاء الحنفية، وبعض فقهاء المالكية قالوا: إن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه، مثل القرآن الكريم والأحاديث المتواترة ومثلها المشهورة، فأما ما كان في ثبوته شبهة، فلا يفيد أكثر من الكراهة مثل أحاديث الآحاد الصحيحة.. فكيف بما يشك في صحته ؟!.
3ـ على فرض تسليمنا بصحة الحديث، وإمكان أخذ التحريم من مثله، أجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة ؛ فكلمة " يمس امرأة لا تحل له " لا تعني مجرد لمس البشرة للبشرة، بدون شهوة، كما يحدث في المصافحة العادية.. بل كلمة " المس " حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين:.(2/273)
1 ـ أنها كناية عن الصلة الجنسية " الجماع " كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (أو لامستم النساء) أنه قال: اللمس والملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع.. واستقراء الآيات التي جاء فيها المس يدل على ذلك بجلاء، كقوله تعالى على لسان مريم: (أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) (آل عمران: 47).(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن). (البقرة: 237).
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدنو من نسائه من غير مسيس.
2ـ أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع، وهذا ما جاء عن بعض السلف في تفسير الملامسة:.
قال الحاكم في كتاب " الطهارة " من " المستدرك على الصحيحين".
"قد اتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة في المسندين الصحيحين يستدل بها على أن اللمس ما دون الجماع.
أ - منها: حديث أبي هريرة: " فاليد زناها اللمس...".
ب - وحديث ابن عباس: " لعلك مسست ".
جـ - وحديث ابن مسعود: " وأقم الصلاة طرفي النهار... " (يشير إلى ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته: أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قبلة أو مسًا بيده، أو شيئًا. كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزل الله عز وجل.. يعني آية :(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) (هود: 114) رواه مسلم بهذا اللفظ في كتاب التوبة برقم 40).قال: وقد بقى عليهما أحاديث صحيحة في التفسير وغيره.. وذكر منها:.
د ـ عن عائشة قالت: " قَلَّ يوم، إلا وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف علينا جميعًا تعني نساءه فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها ثبت عندها".
هـ وعن عبد الله بن مسعود قال: (أو لامستم النساء) هو مادون الجماع وفيه الوضوء".
و ـ وعن عمر قال: " إن القبلة من اللمس فتوضأ منها ". (انظر المستدرك 1/135).(2/274)
ومن هنا كان مذهب مالك، وظاهر مذهب أحمد: أن لمس المرأة الذي ينقض الوضوء هو ما كان بشهوة، وبه فسروا قوله تعالى: (أو لامستم النساء) وفي القراءة الأخرى: (أو لامستم النساء.).
ولهذا ضعف شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه قول من فسروا الملامسة أو اللمس في الآية بمجرد مس البشرة البشرة ولو بلا شهوة.
ومما قاله في ذلك:.
(فأما تعليق النقض بمجرد اللمس، فهذا خلاف الأصول، وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار، وليس مع قائله نص ولا قياس.
فإن كان اللمس في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قاله ابن عمر وغيره فقد علم أنه حيث ذكر ذلك في الكتاب والسنة، فإنما يراد به ما كان لشهوة، مثل قوله في آية الاعتكاف :(ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه، بخلاف المباشرة لشهوة.
وكذلك قوله: (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وقوله: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن)، فإنه لو مسها مسيسًا خاليًا من غير شهوة لم يجب به عدة، ولا يستقر به مهر، ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء.
فمن زعم أن قوله: (أو لامستم النساء) يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن، بل وعن لغة الناس في عرفهم، فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة، كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة، علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم).ا.هـ (انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ط الرياض 21/223، 224).
وذكر ابن تيمية في موضع آخر: أن الصحابة تنازعوا في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) فكان ابن عباس وطائفة يقولون: الجماع، ويقولون: الله حيي كريم، يُكَنِّي بما شاء عما شاء.
قال: وهذا أصح القولين.(2/275)
وقد تنازع العرب والموالي في معنى اللمس: هل المراد به الجماع أو ما دونه ؟ فقالت العرب: هو الجماع، وقالت الموالي: هو ما دونه، وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب، وخطأ الموالي. (انظر المرجع السابق).
والمقصود من نقل هذا الكلام كله أن نعلم أن كلمة " المس " أو " اللمس " حين تستعمل من الرجل للمرأة، لا يراد بها مجرد وضع البشرة على البشرة، بل المراد بها إما الجماع، وإما مقدماته من التقبيل والعناق، ونحو ذلك من كل مس تصحبه الشهوة والتلذذ.
على أننا لو نظرنا في صحيح المنقول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوجدنا ما يدل على أن مجرد لمس اليد لليد بين الرجل والمرأة بلا شهوة ولا خشية فتنة، غير ممنوع في نفسه، بل قد فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- والأصل في فعله أنه للتشريع والاقتداء :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). (الأحزاب :21).
فقد روى البخاري في كتاب " الأدب " من صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتنطلق به حيث شاءت".
وفي رواية للإمام أحمد عن أنس أيضًا قال:.
"إن كانت الوليدة يعني الأمة من ولائد أهل المدينة لتجيء، فتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت". وأخرجه ابن ماجة أيضًا.
قال الحافظ في الفتح: (والمقصود من الأخذ باليد لازمه، وهو الرفق والانقياد، وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ " الإماء " أي أمة كانت، وبقوله " حيث شاءت " أي مكان من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك.
وهذا دليل على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر -صلى الله عليه وسلم-). (فتح الباري جـ 13).(2/276)
وما ذكره الحافظ -رحمه الله- مسلم في جملته، ولكن صرفه معنى الأخذ باليد عن ظاهره إلى لازمه وهو الرفق والانقياد غير مسلم ؛ لأن الظاهر واللازم مرادان معًا.. والأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره، إلا أن يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن هذا الظاهر، ولا أرى هنا ما يمنع ذلك.. بل إن رواية الإمام أحمد، وفيها: " فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت "، لتدل بوضوح على أن الظاهر هو المراد، وأن من التكلف والاعتساف الخروج عنه.
وأكثر من ذلك وأبلغ ما جاء في الصحيحين والسنن عن أنس أيضًا " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال من القيلولة عند خالته خالة أنس أم حرام بنت ملحان زوج عبادة بن الصامت، ونام عندها، واضعًا رأسه في حجرها وجعلت تفلي رأسه... "إلخ ما جاء في الحديث.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن حجر في بيان ما يؤخذ من الحديث، قال: (وفيه جواز قائلة الضيف في غير بيته بشرطه كالإذن وأمن الفتنة..، وجواز خدمة المرأة الأجنبية للضيف بإطعامه والتمهيد له ونحو ذلك.
وفيه خدمة المرأة الضيف بتفلية رأسه وقد أشكل هذا على جماعة، فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه.. ثم ساق بسنده ما يدل على أن أم حرام كانت منه ذات محرم من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار... إلخ.
وقال غيره: بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- معصومًا، يملك إربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه ؟ وهو المبرأ عن كل فعل قبيح، وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه.
ورد ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به في أفعاله، حتى يقوم على الخصوصية دليل.(2/277)
وبالغ الحافظ الدمياطي في الرد على من قال بالاحتمال الأول، وهو ادعاء المحرمية، فقال:.
ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة أو من النسب، واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار ألبتة، سوى أم عبد المطلب، وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور.. فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدهما الأعلى.. وهذه خئولة لا تثبت بها محرمية، لأنها خئولة مجازية، وهي كقوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص :(هذا خالي)، لكونه من بني زهرة، وهم أقارب أمه آمنة، وليس سعد أخًا لآمنة، لا من النسب، ولا من الرضاعة، ثم قال: وإذا تقرر هذا فقد ثبت في الصحيح: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له أي سئل في ذلك فقال: "أرحمها، قتل أخوها معي ".يعني حرام بن ملحان.. وكان قد قتل يوم بئر معونة.
وإذا كان هذا الحديث قد خص أم سليم بالاستثناء، فمثلها أم حرام المذكورة هنا.. فهما أختان وكانتا في دار واحدة، كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معًا، فالعلة مشتركة فيهما كما ذكر الحافظ ابن حجر.
وقد انضاف إلى العلة المذكورة أن أم سليم هي أم أنس خادم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه، وأهل خادمه، ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم.
ثم قال الدمياطي: على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم، أو زوج، أو تابع.
قال ابن حجر: وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر.(2/278)
قال الحافظ: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل لأن الدليل على ذلك واضح). (انظر: فتح الباري 13/230 ،231 بتصرف).
ولا أدري أين هذا الدليل، غامضًا كان أو واضحًا ؟.
والذي يطمئن إليه القلب من هذه الروايات أن مجرد الملامسة ليس حرامًا.. فإذا وجدت أسباب الخلطة كما كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأم حرام وأم سليم، وأمنت الفتنة من الجانبين، فلا بأس بالمصافحة عند الحاجة كمثل القادم من سفر، والقريب إذا زار قريبة له أو زارته، من غير محارمه، كابنة الخال، أو ابنة الخالة، أو ابنة العم، أو ابنة العمة أو امرأة العم، أو امرأة الخال أو نحو ذلك، وخصوصًا إذا كان اللقاء بعد طول غياب.
والذي أحب أن أؤكده في ختام هذا البحث أمران:.
الأول: أن المصافحة إنما تجوز عند عدم الشهوة، وأمن الفتنة، فإذا خيفت الفتنة على أحد الطرفين، أو وجدت الشهوة والتلذذ من أحدهما حرمت المصافحة بلا شك.
بل لو فقد هذان الشرطان عدم الشهوة وأمن الفتنة بين الرجل ومحارمه مثل خالته، أو عمته، أو أخته من الرضاع، أو بنت امرأته، أو زوجة أبيه، أو أم امرأته، أو غير ذلك، لكانت المصافحة حينئذ حرامًا
بل لو فقد الشرطان بين الرجل وبين صبي أمرد، حرمت مصافحته أيضًا.. وربما كان في بعض البيئات، ولدى بعض الناس، أشد خطرًا من الأنثى.
الثاني: ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة، مثل ما جاء في السؤال كالأقارب والأصهار الذين بينهم خلطة وصلة قوية، ولا يحسن التوسع في ذلك، سدًا للذريعة، وبعدًا عن الشبهة، وأخذًا بالأحوط، واقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط . وأفضل للمسلم المتدين، والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة، ولكن إذا صوفح صافح.(2/279)
وإنما قررنا الحكم ليعمل به من يحتاج إليه دون أن يشعر أنه فرط في دينه، ولا ينكر عليه من رآه يفعل ذلك ما دام أمرًا قابلاً للاجتهاد... والله أعلم.
عمل المرأة.
س: ما حكم عمل المرأة شرعًا ؟ أعني عملها خارج البيت، كما يعمل الرجل، هل يجوز لها أن تعمل وتسهم بنصيب في الإنتاج والتنمية والنشاط في المجتمع ؟ أم المفروض فيها أو المفروض عليها أن تظل حبيسة البيت لا تعمل إلا بين جدرانه الأربعة ؟ لطالما سمعنا أن ديننا الإسلامي كرم المرأة، ومنحها حقوقها الإنسانية قبل أن يعرف ذلك الغرب بجملة قرون، أفلا يعتبر العمل من حقوقها التي تصون به ماء وجهها أن يراق، وتحفظ به عرضها أن يصبح سلعة للمساومة ترخصها الحاجة، وتبتذلها الضرورة ؟.
ولماذا لا تخوض المرأة معترك الحياة كما خاضته المرأة الغربية، فتصقل شخصيتها وتكسب حقها، وتستقل بأمر نفسها، وتسهم في ترقية مجتمعها ؟.
إننا نريد أن نعرف الحدود الشرعية للعمل المباح للمرأة المسلمة، التي تعمل لدنياها دون أن تخسر دينها، بعيدًا عن تزمت المتشددين الذين لا يريدون للمرأة أن تتعلم، ولا أن تعمل، ولا أن تخرج من بيتها ولو إلى المسجد ! وبعيدًا أيضًا عن الذين يريدون للمسلمة أن تتحلل من كل قيد، وأن تعرض بضاعة رخيصة في الأسواق.
كل ما نريده هو حكم الشرع الصحيح الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
مسلمة متعلمة.
جـ: المرأة إنسان، كالرجل، هي منه وهو منها كما قال القرآن: (بعضكم من بعض) (آل عمران: 195) والإنسان كائن حي من طبيعته أن يفكر ويعمل، وإلا لم يكن إنسانًا(2/280)
والله تعالى إنما خلق الناس ليعملوا، بل ما خلقهم إلا ليبلوهم أيهم أحسن عملاً فالمرأة مكلفة كالرجل بالعمل، وبالعمل الأحسن على وجه الخصوص، وهي مثابة عليه كالرجل من الله عز وجل، كما قال تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) (آل عمران 195)، وهي مثابة على عملها الحسن في الآخرة ومكافأة عليه في الدنيا أيضا: (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طيبة). (النحل: 97).
والمرأة أيضًا كما يقال دائمًا نصف المجتمع الإنساني، ولا يتصور من الإسلام أن يعطل نصف مجتمعه، ويحكم عليه بالجمود أو الشلل، فيأخذ من الحياة ولا يعطيها، ويستهلك من طيباتها، ولا ينتج لها شيئًا.
على أن عمل المرأة الأول والأعظم الذي لا ينازعها فيه منازع، ولا ينافسها فيه منافس، هو تربية الأجيال، الذي هيأها الله له بدنيا، ونفسيا، ويجب ألا يشغلها عن هذه الرسالة الجليلة شاغل مادي أو أدبي مهما كان ؛ فإن أحدًا لا يستطيع أن يقوم مقام المرأة في هذا العمل الكبير، الذي عليه يتوقف مستقبل الأمة، وبه تتكون أعظم ثرواتها، وهي الثروة البشرية.
ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق.
ومثل ذلك عملها في رعاية بيتها ؛ وإسعاد زوجها، وتكوين أسرة سعيدة، قائمة على السكون والمودة والرحمة، وقد ورد: إن حسن تبعل المرأة لزوجها يعد جهادًا في سبيل الله.
وهذا لا يعني أن عمل المرأة خارج بيتها محرم شرعًا فليس لأحد أن يحرم بغير نص شرعي صحيح الثبوت، صريح الدلالة، والأصل في الأشياء والتصرفات العادية الإباحة كما هو معلوم.
وعلى هذا الأساس نقول: إن عمل المرأة في ذاته جائز، وقد يكون مطلوبًا طلب استحباب، أو طلب وجوب، إذا احتاجت إليه: كأن تكون أرملة أو مطلقة ولا مورد لها ولا عائل، وهي قادرة على نوع من الكسب يكفيها ذل السؤال أو المنة.(2/281)
وقد تكون الأسرة هي التي تحتاج إلى عملها كأن تعاون زوجها، أو تربي أولادها أو أخوتها الصغار، أو تساعد أباها في شيخوخته، كما في قصة ابنتي الشيخ الكبير التي ذكرها القرآن الكريم في سورة القصص وكانتا تقومان على غنم أبيهما: (قالتا لا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرِّعَاء وأبونا شيخ كبير). (القصص: 23).
وكما ورد أن أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين كانت تساعد زوجها الزبير بن العوام في سياسة فرسه، ودق النوى لناضحه، حتى إنها لتحمله على رأسها من حائط له أي بستان على مسافة من المدينة.
وقد يكون المجتمع نفسه في حاجة إلى عمل المرأة كما في تطبيب النساء وتمريضهن، وتعليم البنات، ونحو ذلك من كل ما يختص بالمرأة.. فالأولى أن تتعامل المرأة مع امرأة مثلها، لا مع رجل.
وقبول الرجل في بعض الأحوال يكون من باب الضرورة التي ينبغي أن تقدر بقدرها، ولا تصبح قاعدة ثابتة.
وإذا أجزنا عمل المرأة، فالواجب أن يكون مقيدًا بعدة شروط:.
1 أن يكون العمل في ذاته مشروعًا، بمعنى ألا يكون عملها حرامًا في نفسه أو مفضيًا إلى ارتكاب حرام، كالتي تعمل خادمة لرجل عزب، أو سكرتيرة خاصة لمدير تقتضي وظيفتها أن يخلو بها وتخلو به، أو راقصة تثير الشهوات والغرائز الدنيا، أو عاملة في " بار " تقدم الخمر التي لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساقيها وحاملها وبائعها، أو مضيفة في طائرة يوجب عليها عملها تقديم المسكرات، والسفر البعيد بغير محرم، بما يلزمه من المبيت وحدها في بلاد الغربة، أو غير ذلك من الأعمال التي حرمها الإسلام على النساء خاصة أو على الرجال والنساء جميعا.(2/282)
2ـ أن تلتزم أدب المرأة المسلمة إذا خرجت من بيتها في الزي والمشي والكلام والحركة: (وقل للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) (النور: 31).(ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (النور: 31).(فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفًا). (الأحزاب :32).
3ـ ألا يكون عملها على حساب واجبات أخرى لا يجوز لها إهمالها، كواجبها نحو زوجها وأولادها وهو واجبها الأول وعملها الأساسي.
وبالله التوفيق.
هل النقاب بدعة ؟.
س: قام جدل في بعض الصحف القاهرية حول " النقاب " الذي تلبسه بعض الفتيات المسلمات وخصوصًا الطالبات .. بمناسبة حكم المحكمة المصرية لصالح بعض الطالبات الجامعيات اللائي رفعن دعواهن إلى القضاء متظلمات من قرار بعض عمداء الكليات الذي يتضمن إجبارهن على خلع النقاب عند دخول الجامعة.
وقال هؤلاء الطالبات: إنهن مستعدات للكشف عن وجوههن عند الحاجة إذا طلب إليهن ذلك من قبل المسئولين، في الامتحان وغيره.
وكتب الصحفي المعروف الأستاذ أحمد بهاء الدين، في الأهرام، يخالف حكم المحكمة، ويذكر أن النقاب وتغطية الوجه بدعة دخيلة على الإسلام والمسلمين، وأيده في ذلك أحد المشايخ الأزهريين، قال عن نفسه: إنه كان عميدًا لكلية أصول الدين، وكثر القيل والقال في القضية.
والمطلوب: أن تنورونا برأيكم في هذا الأمر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، والتبس الحق بالباطل.
جزاكم الله خيرًا
جـ: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد:.
فالواقع أن وصف النقاب بأنه بدعة دخيلة، وأنه ليس من الدين ولا من الإسلام في شيء، وأنه إنما دخل على المسلمين في عصور الانحطاط الشديد الواقع أن هذا الوصف غير علمي، وغير موضوعي، وهو تبسيط مخل بجوهر القضية، ومضلل عن تبين الموضوع على حقيقته.(2/283)
فمما لا يماري فيه أحد يعرف مصادر العلم وأقوال العلماء ،أن القضية خلافية، أعني قضية جواز كشف الوجه أو وجوب تغطيته ومعه الكفان أيضًا.
وقد اختلف فيها العلماء من فقهاء ومفسرين ومحدثين قديمًا، ولا يزالون مختلفين إلى اليوم.
وسبب الاختلاف يرجع إلى موقفهم من النصوص الواردة في الموضوع ومدى فهمهم لها، حيث لم يرد فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، ولو وجد لحسم الأمر.
فهم مختلفون في تفسير قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها). (النور: 31).
فرووا عن ابن مسعود أنه قال: (إلا ما ظهر منها): الثياب والجلباب.. أي الثياب الخارجة التي لا يمكن إخفاؤها.
ورووا عن ابن عباس أنه فسر (ما ظهر منها) بالكحل والخاتم.
وروي مثله عن أنس بن مالك.
وقريب منه عن عائشة.
وأحيانا يضيف ابن عباس إلى الكحل والخاتم: خضاب الكف، أو المَسَكة أي السوار أو القرط والقلادة.
وقد يعبر عن الزينة بموضعها.. فيقول ابن عباس: رقعة الوجه وباطن الكف.. وجاء ذلك عن سعيد بن جبير وعطاء وغيرهما.
وبعضهم جعل بعض الذراع مما ظهر منها.
وفسر ابن عطية ما ظهر منها: أنه ما انكشف لضرورة، كأن كشفته الريح أو نحو ذلك. (انظر: تفسير الآية عند ابن جرير وابن كثير والقرطبي، والدر المنثور 5/41، 42 وغيرها).
وهم مختلفون في تفسير قوله تعالى: (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورًا رحيمًا). (الأحزاب: 59).
ما المراد بإدناء الجلابيب في الآية الكريمة ؟.
فرووا عن ابن عباس نقيض ما روي عنه في تفسير الآية الأولى!!.
ورووا عن بعض التابعين عبيدة السلماني أنه فسر الإدناء تفسيرًا عمليًا بأن غطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى !! ومثله عن محمد بن كعب القرظي.(2/284)
وخالفهما عكرمة مولى ابن عباس: فقال: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها، تدنيه عليها.. وقال سعيد بن جبير: لا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها. (انظر: الدر المنثور 5/221، 222 والمصادر السابقة في تفسير الآية).
وأنا ممن يرجحون أن الوجه والكفين ليسا بعورة، ولا يجب على المسلمة تغطيتهما، وأرى أن أدلة هذا الرأي أقوى من الرأي الآخر.
ومعي في هذا الرأي كثير من علماء هذا العصر ..مثل الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه " حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة " وجمهور علماء الأزهر في مصر، وعلماء الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، وغير قليل من علماء باكستان والهند وتركيا وغيرها.
ولكن ادعاء إجماع علماء العصر على هذا ليس صحيحًا، فمن العلماء في مصر من يعارض هذا القول.
وعلماء السعودية وعدد من بلاد الخليج يعارضون هذا الرأي، وعلى رأسهم العالم الكبير الشيخ عبد العزيز بن باز.
وكذلك كثير من علماء باكستان والهند، يخالفونه، ويرون أن على المرأة أن تغطي وجهها.
ومن أشهر الذين قالوا بذلك من كبار علماء باكستان ودعاتها: المجدد الإسلامي المعروف الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه الشهير: " الحجاب".
ومن المعاصرين الأحياء المنادين بوجوب تغطية الوجه الكاتب الإسلامي السوري المعروف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الذي أصدر في ذلك رسالة "إلي كل فتاة تؤمن بالله".
وهناك رسائل وفتاوى تظهر بين الحين والحين، تندد بكشف الوجه، وتنادي الفتيات باسم الدين والإيمان، أن يلتزمن النقاب، ولا يخضعن للعلماء " العصريين " الذين يريدون أن يطوعوا الدين للعصر، ولعلهم يجعلونني منهم!!.
فإذا وجد من بنات المسلمين من تقتنع بهذا الرأي، وترى أن كشف الوجه حرام، وأن تغطيته فريضة.. فكيف نفرض عليها الرأي الآخر، الذي تراه هي خطأ، ومخالفًا للنص ؟.(2/285)
إنما ننكر عليها حقًّا إذا رأت أن تفرض هي رأيها على الآخرين أو الأخريات، وأن تحكم بالإثم أو الفسق على من عمل بالرأي الآخر، وتعتبر هذا منكرًا يجب محاربته، مع اتفاق المحققين من العلماء على أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية الخلافية.
ولو أنكرنا عليها نحن العمل بالرأي الذي يخالف رأينا وهو رأي معتبر داخل نطاق الفقه الإسلامي الرحب لوقعنا نحن في المحظور، الذي نقاومه وندعو إلى التحرر منه، وهو إلغاء الرأي الآخر، وعدم إعطائه حق الحياة، لمجرد أنه يخالفنا، أو نخالفه.
بل لو فرض أن هذه المسلمة لا ترى وجوب التغطية للوجه، وإنما تراه أورع وأتقى خروجًا من الخلاف، وعملاً بالأحوط فقط.. فمن ذا الذي يمنعها من أن تأخذ بالأحوط لنفسها ودينها ؟ وكيف يسوغ أن تلام على ذلك ما دام هذا لا يؤذي أحدًا، ولا يضر بمصلحة عامة ولا خاصة ؟.
إني أعتب على الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين تناوله لهذا الموضوع دون الرجوع إلى المصادر الموثقة، وخصوصًا أنه يعقب على حكم قضائي صادر من محكمة مختصة محترمة، مع أنه حين يكتب في الأمور السياسية الشائكة، يكتب بتعمق واتزان، ونظرة شاملة.
ولعل اعتماده على بعض الكتابات الخفيفة المتعجلة والمتحمسة هو الذي أوقعه في هذا الخطأ الذي جعله يعتبر(النقاب) أمرًا مستنكرًا، ويقيسه على لبس (المايوه) في أن كلاً منهما لا يدخل في الحرية الشخصية!!.
فلم يقل أحد من علماء المسلمين في القديم أو الحديث بتحريم لبس النقاب على المرأة بصفة عامة، إلا ما جاء في حالة الإحرام فحسب.
إنما اختلفوا فيه بين القول بالوجوب والقول بالاستحباب، والقول بالجواز.
أما التحريم، فلا يتصور أن يقول به فقيه، بل ولا الكراهية.. وقد عجبت كل العجب مما نشره الأستاذ بهاء من كلمات لبعض الأزهريين الذين قالوا: إن القول بتغطية الوجه تحريم لما أحل الله، وهو قول من ليس له في الكتاب والسنة أو الفقه وأصوله قدم راسخة!.(2/286)
ولو كان الأمر مجرد مباح كما هو الرأي الذي أختاره ولم يكن واجبًا ولا مستحبًا لكان من حق المسلمة أن تمارسه، ولم يجز لأحد أن يمنعها منه، لأنه خالص حقها الشخصي. وليس في ممارسته إخلال بواجب، ولا إضرار بأحد، والمثل المصري يعبر عن ذلك بوضوح ساخر حين يقول :(واحد شايل ذقنه، وانت تعبان ليه ؟!).
والدساتير الوضعية نفسها تقرر هذه الحقوق الشخصية، وتحميها.
وكيف ننكر على المسلمة المتدينة أن تلبس النقاب على أن من طالبات الجامعة من تلبس الثياب القصيرة والشفافة والمجسمة للمفاتن، وتضع من (ألوان المكياج) ما تضع، ولا ينكر عليهن أحد، باعتبار أن هذا من الحرية الشخصية ! مع أن هذا اللباس الذي يشف أو يصف، أو لا يغطي ما عدا الوجه واليدين من الجسم، محرم شرعًا بإجماع المسلمين ؟ !.
ولو منع هذا مانع من المسئولين في الجامعة، لأيده الشرع والدستور الذي نص على أن دين الدولة (الإسلام)، وأن أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
ومع هذا لم يمنعه أحد.
فيا عجبا كيف تترك الحرية للكاسيات العاريات، المميلات المائلات، ولا يتعرض لهن أحد ببنت شفة، كما يقولون، ثم يصب جام السخط كله، واللوم كله، على ربات النقاب، اللائي يعتقدن أن ذلك من الدين الذي لا يجوز التفريط أو التساهل فيه ؟!!.
فلله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!.
هل النقاب واجب ؟.
س: قرأنا ما كتبته، دفاعًا عن النقاب، ردًّا على حملات الذين قالوا: إن النقاب بدعة دخيلة على المجتمع الإسلامي، وليس من الإسلام في شيء، وبينت أن القول بوجوب لبس النقاب على المرأة رأي موجود داخل الفقه الإسلامي، فأنصفت النقاب والمنقبات، برغم ما نعلم أن رأيك هو عدم وجوب النقاب.(2/287)
والآن نريد منك كما أنصفت (المنقبات) من المتبرجات والمتكشفات، ومن دعاة التبرج والتكشف أن تنصفنا نحن (المحجبات) من أخواتنا (المنقبات) وإخوانهم من دعاة (النقاب) الذين لا يفتأون يشنون علينا الغارة ما بين الحين والحين، لأننا لا نغطي الوجوه، وهي مظنة الفتنة، ومجمع الحسن، وأننا نخالف القرآن والسنة وهدي السلف بكشفنا لوجوهنا، وربما أصابك أنت شخصيًّا من هذه الغارة رذاذ، لنصرتك للحجاب لا للنقاب، وكذلك فضيلة الشيخ محمد الغزالي الذي رد عليه بعض العلماء في بعض صحف الخليج.
نرجو ألا تحيلنا إلى ما كتبته من قبل في كتابك (الحلال والحرام) وفي كتاب (فتاوى معاصرة) وإن كان فيهما الكفاية، ولكنا نطمع في مزيد من البيان، إقامة للحجة، وتوضيحًا للمحجة، وإزاحة للعذر، وقطعًا للشك باليقين، وحسمًا للجدل المستمر في هذه القضية، جعل الله الحق على لسانك وقلمك.
مجموعة من الفتيات المحجبات.
جـ: لم يدع لي بناتي وأخواتي العزيزات عذرًا في السكوت، والاكتفاء بما كتبته من قبل.
وأنا أعلم أن الجدل في هذه القضايا الخلافية لن ينتهي بمقالة تدبج، أو بحث يحرر، أو بكتاب يؤلف.
وما دامت أسباب الاختلاف قائمة، فلن يزول الاختلاف بين الناس وإن كانوا مسلمين متدينين مخلصين.
بل قد يكون التدين والإخلاص أحيانًا من أسباب حدة الخلاف ؛ حيث يتحمس كل طرف لرأيه الذي يعتقد أنه الحق، وأنه الدين الذي يحاسب عليه ثوابًا أو عقابًا.
سيظل الاختلاف قائمًا ما دامت النصوص نفسها التي تستنبط منها الأحكام قابلة للاختلاف في ثبوتها ودلالتها، وما دامت أفهام البشر متفاوتة في القدرة على الاستنباط، ومدى الأخذ بظاهر النص، أو بفحواه، بالرخصة أو بالعزيمة،. بالأحوط أم بالأيسر.
سيظل الاختلاف قائمًا ما دام في الناس من يأخذ بشدائد ابن عمر، ومن يأخذ برخص ابن عباس، وما دام فيهم من يصلي العصر في الطريق، ومن لا يصليها إلا في بني قريظة.(2/288)
ومن رحمة الله بنا أن هذا النوع من الاختلاف لا حرج فيه ولا إثم، والمخطئ فيه معذور، بل مأجور أجرًا واحدًا، بل هناك من يقول: لا مخطيء في هذه الاجتهادات الفرعية، بل كلٌّ مصيب.
وقد اختلف الصحابة ومن تبعهم بإحسان في فروع الدين، فما ضرهم ذلك، ووسع بعضهم بعضًا، وصلى بعضهم وراء بعض، دون نكير.
ومع إيماني بأن الخلاف سيظل قائمًا، لابد لي أن أستجيب إلى سؤال بناتي وأخواتي، وأعيد القول في الموضوع، زيادة في البيان، لعل الله يوفقني فيه لكلمة سواء، تقطع النزاع، أو على الأقل تخفف من حدته، وتهون من شدته فتريح ضمائر أهل الحجاب وتسهل الأمر على دعاة النقاب.
كشف الوجه والكفين مذهب جمهور الفقهاء:.
وأود أن أبادر هنا، فأؤكد حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد ؛ لأنها عند أهل العلم معروفة غير منكرة، مشهورة غير مهجورة، وهي أن القول بعدم وجوب النقاب وبجواز كشف الوجه والكفين من المرأة المسلمة أمام الرجل الأجنبي غير المحرم لها، هو قول جمهور فقهاء الأئمة، منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم.
فلا وجه إذن للضجة المفتعلة، والزوبعة المصطنعة، التي أثارها بعض المخلصين من غير أهل العلم، وبعض المتشددين من طلبة العلم، ضد ما قاله الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي، في بعض كتبه، أو بعض مقالاته، كأنما أتى ببدع من القول، أو جديد من الرأي، وما هو إلا قول الأئمة المعتبرين والفقهاء المعدودين.. كما سنبين بعد.. كما أنه القول الذي تعضده الأدلة والآثار، ويسنده النظر والاعتبار، ويؤكده الواقع في خير الأعصار.
مذهب الحنفية:.
ففي " الاختيار " من كتب الحنفية يقول:.
(ولا ينظر إلى الحرة الأجنبية، إلا إلى الوجه والكفين، إن لم يخف الشهوة.. وعن أبي حنيفة: أنه زاد القدم، لأن في ذلك ضرورة للأخذ والإعطاء، ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب، لإقامة معاشها ومعادها، لعدم من يقوم بأسباب معاشها.(2/289)
قال: والأصل فيه قوله تعالى: (ولا يُبْدِين زِيَنَتَهُنَّ إلا ما ظَهَر منها) قال عامة الصحابة: الكحل والخاتم، والمراد موضعهما، كما بينا أن النظر إلى نفس الكحل والخاتم والحلي وأنواع الزينة حلال للأقارب والأجانب، فكان المراد موضع الزينة، بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه.
قال: وأما القدم، فروي أنه ليس بعورة مطلقًا لأنها تحتاج إلى المشي فيبدو، ولأن الشهوة في الوجه واليد أكثر، فلأن يحل النظر إلى القدم كان أولى.
وفي رواية: القدم عورة في حق النظر دون الصلاة). (الاختيار لتعليل المختار، تأليف عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي الحنفي 4/156).
مذهب المالكية:.
وفي الشرح الصغير للدردير المسمى " أقرب المسالك إلى مذهب مالك ":.
(وعورة الحرة مع رجل أجنبي منها أي ليس بمحرم لها جميع البدن غير الوجه والكفين.. وأما هما فليسا بعورة).
وقال الصاوي في حاشيته معلقا: (أي فيجوز النظر لهما لا فرق بين ظاهرهما وباطنهما، بغير قصد لذة ولا وجدانها، وإلا حرم.
قال: وهل يجب عليها حينئذ ستر وجهها ويديها ؟.وهو الذي لابن مرزوق قائلا: وهو مشهور المذهب.
أو لا يجب عليها ذلك، وإنما على الرجل غض بصره ؟ وهو مقتضى نقل المواق عن عياض.
وفصل زرُّوق في شرح الوغليسية بين الجميلة، فيجب، وغيرها فيستحب). (حاشية الصاوي على الشرح الصغير بتعليق د. مصطفى كمال وصفي، ط دار المعارف بمصر، 1/289).
في مذهب الشافعية:.
وقال الشيرازي صاحب " المهذب " من الشافعية.(2/290)
(وأما الحرة فجميع بدنها عورة، إلا الوجه والكفين (قال النووي: إلى الكوعين لقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال ابن عباس: وجهها وكفيها (قال النووي " في المجموع ": هذا التفسير المذكور عن ابن عباس قد رواه البيهقي عنه وعن عائشة رضي الله عنهم)، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- " نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب " (الحديث في صحيح البخاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما : " لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين) ولو كان الوجه والكف عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء، وإلى إبراز الكف للأخذ والعطاء، فلم يجعل ذلك عورة).
وأضاف النووي في شرحه للمهذب " المجموع ": (إن من الشافعية من حكى قولاً أو وجها أن باطن قدميها ليس بعورة، وقال المزني: القدمان ليستا بعورة، والمذهب الأول). (المجموع 3/167، 168).
في مذهب الحنابلة:.
وفي مذهب الحنابلة نجد ابن قدامة في " المغنى" (المغني 1/1، 6، ط المنار).يقول (لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان:.
واختلف أهل العلم، فأجمع أكثرهم على أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه، وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة.
وقال أبو حنيفة: القدمان ليستا من العورة، لأنهما يظهران غالبًا فهما كالوجه.
وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الوجه والكفين ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء.(2/291)
وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة ؛ لأنه قد روي في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (المرأة عورة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر الحارث بن هشام، قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرها).ا هـ كلام المغني.
مذاهب أخرى:.
وذكر الإمام النووي في " المجموع " في بيان مذاهب العلماء في العورة: (أن عورة المرأة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، وبه قال مع الشافعي مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وأبو ثور وطائفة، ورواية عن أحمد.
وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: قدماها أيضًا ليسا بعورة.
وقال أحمد: جميع بدنها إلا وجهها فقط...) إلخ. (المجموع للنووي 3/169).
وهو مذهب داود أيضًا كما في " نيل الأوطار". (نيل الأوطار 2/55 ط دار الجيل بيروت).
أما ابن حزم فيستثني الوجه والكفين جميعًا كما في " المحلى".
وسنذكر بعض ما استدل به في موضعه.
وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين كما هو واضح من تفسيرهم لمعنى: (ما ظهر منها) في سورة النور.
أدلة القائلين بجواز كشف الوجه والكفين:.
نستطيع أن نذكر أهم الأدلة الشرعية التي استند إليها القائلون بعدم وجوب النقاب وجواز كشف الوجه واليدين وهم جمهور الأئمة فيما يأتي، وفيها الكفاية إن شاء الله.
1ـ تفسير الصحابة لقوله: (إلا ما ظهر منها):.
إن جمهور العلماء من الصحابة ومن تبعهم بإحسان فسروا قوله تعالى في سورة النور: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) بأنه الوجه والكفان، أو الكحل والخاتم وما في معناهما من الزينة.
وقد ذكر الحافظ السيوطي في كتابه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور " جملة وفيرة من هذه الأقوال.
فأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الكحل والخاتم.(2/292)
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الكحل والخاتم والقرط، والقلادة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: هو خضاب الكف، والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: وجهها، وكفاها، والخاتم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: رقعة الوجه، وباطن الكف.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن الزينة الظاهرة فقالت: القلب والَفَتخ، وضمت طرف كمها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الوجه وثغرة النحر.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الوجه والكف.
وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: الكفان والوجه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: المسكتان والخاتم والكحل.
قال قتادة: وبلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى ها هنا ويقبض نصف الذراع.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير، عن المسور بن مخرمة في قوله: (إلا ما ظهر منها) قال: القلبين يعني السوار، والخاتم، والكحل.(2/293)
وأخرج سعيد وابن جرير عن ابن جريج قال: قال ابن عباس في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الخاتم والمسكة، قال ابن جريج وقالت عائشة رضي الله عنها: "القلب، والفتخة".قالت عائشة: دخلت على ابنة أخي لأمي، عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأعرض.. فقالت عائشة رضي الله عنها: إنها ابنة أخي وجارية فقال : " إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا " وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ا.هـ. (انظر: الدر المنثور للسيوطي في تفسير الآية 31 من سورة النور).
وقد خالف ابن مسعود هنا ابن عباس وعائشة وأنسًا رضي الله عنهم، فقال ما ظهر منها الثياب والجلباب.
ورأيي أن تفسير ابن عباس ومن وافقه هو الراجح ؛ لأن الاستثناء في الآية :(إلا ما ظهر منها)بعد النهي عن إبداء الزينة، يدل على نوع من الرخصة والتيسير، وظهور الرداء والجلباب وما شابهه من الثياب الخارجية ليس فيه شيء من الرخصة أو اليسر ورفع الحرج، لأن ظهورهما أمر ضروري وقسري ولا حيلة فيه.
ولهذا رجحه الطبري والقرطبي والرازي والبيضاوي وغيرهم، وهو قول الجمهور.
ورجح ذلك القرطبي بأنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما.
ويستأنس لذلك بالحديث الذي رواه أبو داود أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه.(2/294)
والحديث لا تقوم به حجة وحده ؛ لما فيه من إرسال، وضعف الراوي عن عائشة كما هو معلوم، ولكن له شاهدًا من حديث أسماء بنت عميس، فيتقوى به، وبجريان عمل النساء عليه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته.. لهذا حسنه المحدِّث الألباني في كتبه :" حجاب المرأة المسلمة "، و" الإرواء " و " صحيح الجامع الصغير "، و " تخريج الحلال والحرام".
2 الأمر بضرب الخمار على الجيب لا على الوجه:.
قوله تعالى في شأن المؤمنات: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) فالخمر جمع خمار، وهو غطاء الرأس، و الجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الصدر من القميص ونحوه، فأمر النساء المؤمنات أن يسدلن ويلقين بخمرهن وأغطية رؤوسهن بحيث تغطى النحور والصدور، ولا يدعنها مكشوفة كما كان نساء الجاهلية يفعلن.
فلو كان ستر الوجه واجبًا لصرحت به الآية، فأمرت بضرب الخمر على الوجوه، كما صرحت بضربها على الجيوب، ولهذا قال ابن حزم بعد ذكر الآية الكريمة: (فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب، وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر، وفيه نص على إباحة كشف الوجه، لا يمكن غير ذلك أصلا). (المحلى 3/279).
3ـ أمر الرجال بغض الأبصار:.
أمر الرجال بغض أبصارهم في القرآن والسنة، كما قي قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون). (النور: 30).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اضمنوا لي ستًا أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأدوا إذا ائتمنتم، وغضوا أبصاركم.." الحديث. (رواه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب عن عبادة، وحسنه في صحيح الجامع الصغير 1018).
وقوله لعلي: "لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة". (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن بريدة، وحسنه في صحيح الجامع الصغير 7953).(2/295)
وقوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج..." رواه الجماعة عن ابن مسعود.
فلو كانت الوجوه كلها مستورة، وكان كل النساء منقبات، فما وجه الحث على الغض من الأبصار؟ وماذا عسى أن تراه الأبصار إذا لم تكن الوجوه سافرة يمكن أن تجذب وتفتن؟ وما معنى أن الزواج أغض للبصر إذا كان البصر لا يرى شيئًا من النساء؟.
4ـ آية: (ولو أعجبك حُسْنُهن):.
يؤكد ذلك قوله تعالى لرسوله: (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن). (الأحزاب: 52).
فمن أين يعجبه حسنهن، إذا لم يكن هناك مجال لرؤية الوجه الذي هو مجمع المحاسن للمرأة باتفاق؟.
5ـ حديث: "إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته":.
تدل النصوص والوقائع الكثيرة على أن عامة النساء في عصر النبوة لم يكن منقبات إلا ما ندر، بل كن سافرات الوجوه.
من ذلك: ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود، عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى امرأة فأعجبته، فأتى زينب - زوجه - وهي تمعس منيئة - أي تدبغ أديمًا - فقضى حاجته، وقال:.
"إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله، فإن ذاك يرد ما في نفسه". (رواه مسلم في "النكاح" برقم 1403).
ورواه الدارمي عن ابن مسعود، وجعل الزوجة "سَوْدَة" وفيه قال: "أيما رجل رأى امرأة تعجبه، فليقم إلى أهله، فإن معها مثل الذي معها".
وروى أحمد القصة من حديث أبي كبشة الأنماري، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مرت بي فلانة، فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها. فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال". (ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 235).(2/296)
فسبب الحديث يدل على أن الرسول الكريم رأى امرأة معينة، فوقع في قلبه شهوة النساء، بحكم بشريته ورجولته، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إذا رأى وجهها الذي به تعرف فلانة من غيرها، ورؤيته هي التي تحرك الشهوة البشرية، كما أن قوله: "إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته" إلخ.. يدل على أن هذا أمر ميسور ومعتاد.
6ـ حديث: "فصعد فيها النظر وصوبه":.
ومن ذلك ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصعد فيها النظر وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت أنه لم يقض فيها شيئًا جلست.
ولو لم تكن سافرة الوجه، ما استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينظر إليها، ويطيل فيها النظر تصعيدًا وتصويبًا.
ولم يرد أنها فعلت ذلك للخطبة، ثم غطت وجهها بعد ذلك، بل ورد أنها جلست كما جاءت، ورآها بعض الحضور من الصحابة، فطلب من الرسول الكريم أن يزوجها إياه.
7ـ حديث الخثعمية والفضل بن عباس:.
ما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، والفضل بن عباس رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وذكر الحديث وفيه "فأخذ الفضل يلتفت وكانت امرأة حسناء، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحول وجه الفضل من الشق الآخر". (لفظ النسائي "وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفضل فحول وجهه من الشق الآخر").
قال ابن حزم:.
فلو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها -عليه السلام- على كشفه بحضرة الناس، ولأمرها أن تسبل عليه من فوق، ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء؟ فصح كل ما قلنا يقينا! والحمد لله كثيرًا.(2/297)
وروى الترمذي هذه القصة من حديث علي رضي الله عنه، وفيه: ولوي - أي النبي -صلى الله عليه وسلم- عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما".
وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح). (الحديث في أبواب الحج، ورقمه 885).
قال العلامة لشوكاني:.
وقد استنبط منه ابن القطان جواز النظر عند أمن الفتنة، حيث لم يأمرها بتغطية وجهها، فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل، ولو لم يكن ما فهمه جائزًا ما أقره عليه -صلى الله عليه وسلم-.
قال في "نيل الأوطار":.
(وهذا الحديث يصلح للاستدلال به على اختصاص آية الحجاب السابقة يعني آية: (وإذا سألتموهن متاعًا فسئلوهن من وراء حجاب) بزوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن قصة الفضل في حجة الوداع، وآية الحجاب في نكاح زينب في السنة الخامسة من الهجرة..). (نيل الأوطار جـ 6. دار الجيل، بيروت).
8ـ أحاديث أخرى:.
ومن الأحاديث التي لها دلالتها هنا ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.. إلى أن قال: ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم"! فقامت امرأة من سطة (من سطة النساء: أي من خيارهن، والوسط: العدل والخيار). النساء سفعاء (السفعة - وزن غرفة - سواد مشرب بحمرة). الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاة - الشكوى - وتكفرن العشير - أي الزوج- ". قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن.
فمن أين لجابر - رضي الله عنه - أن يعرف أنها سفعاء الخدين إذا كان وجهها مغطى بالنقاب؟.(2/298)
وروى البخاري قصة صلاة العيد عن ابن عباس أيضًا: أنه شهد العيد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه -عليه السلام- خطب بعد أن صلى، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن، وأمرهن أن يتصدقن، قال: "فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال".
قال ابن حزم: (فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى أيديهن فصح أن اليد من المرأة، والوجه، ليسا عورة). (المحلى 3/280).
وروى الحديث مسلم وأبو داود - واللفظ له - عن جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام يوم الفطر، فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- نزل، فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه تلقي فيه النساء الصدقة، قال: تلقي المرأة فتخها، ويلقين ويلقين. (الحديث (1141) من سنن أبي داود، وأخرجه النسائي أيضًا).
قال أبو محمد بن حزم: (الفتخ خواتيم كبار كُنَّ يلبسنها في أصابعهن، فلولا ظهور أكفهن ما أمكنهن إلقاء الفتخ). (المحلى 11/221 مسألة رقم 1881).
ومنها ما جاء في الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء مؤمنات يشهدن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الفجر، متلحفات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يُعرفن من الغَلَس".
وهو يدل بمفهومه على أنه يعرفن في غير حالة الغلس، وإنما يعرفن إذا كن سافرات الوجوه.(2/299)
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه أن سُبَيْعة بنت الحارث كانت تحت سعد بن خولة وهو ممن شهد بدرًا، وقد توفي عنها في حجة الوداع، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت - خرجت من نفاسها - تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، وقال لها: "ما لي أراك متجملة؟ لعلك تريدين النكاح! إنك والله ما أنت بناكحة، حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر"، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت على ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسألته عن ذلك، فأفتاني أني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
فدل هذا الحديث على أن سبيعة ظهرت متجملة أمام أبي السنابل، وهو ليس بمحرم لها، بل هو ممن تقدم لخطبتها بعد. ولولا أنها سافرة ما عرف إن كانت متجملة أم لا.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أن رجلاً مرت به امرأة فأحدق بصره إليها. فمر بجدار، فمرس وجهه، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووجهه يسيل دمًا. فقال: يا رسول الله إني فعلت كذا وكذا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبد خيرًا عجل عقوبة ذنبه في الدنيا، وإذا أراد به غير ذلك أمهل عليه بذنوبه، حتى يوافي بها يوم القيامة، كأنه عَيْر". (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/192، وقال: رواه الطبراني وإسناده جيد. والعير: الحمار. وقد ذكر قبله عدة أحاديث بمعناه).
فدل هذا على أن النساء كن سافرات الوجوه، وكان منهن من تلفت بحسنها أنظار الرجال. إلى حد الاصطدام بالجدار، وحتى يسيل وجهه دمًا.
9ـ الصحابة يستغربون لبس النقاب:.
بل ثبت في السنة ما يدل على أن لبس المرأة للنقاب إذا وقع في بعض الأحيان، كان أمرًا غريبًا يلفت النظر، ويوجب السؤال والاستفهام.(2/300)
روى أبو داود عن قيس بن شماس، رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقال لها: أم خلاد، وهي منتقبة (في بعض النسخ "متنقبة" والمعنى: أنها تلبس النقاب تغطي به وجهها).، تسأل عن ابنها، وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟! فقالت: إن أُرْزَأَ ابني فلن أُرْزَأَ حيائي!.. الحديث. (رواه أبو داود في كتاب الجهاد من سننه برقم 2488).
ولو كان النقاب أمرًا معتادًا للنساء في ذلك الوقت ما كان هناك وجه لقول الراوي: أنها جاءت وهي منتقبة، وما كان ثمت معنى لاستغراب الصحابة وقولهم لها: "جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟".
ورد المرأة يدل على أن حياءها هو الذي دفعها إلى الانتقاب، وليس أمر الله ورسوله، ولو كان النقاب واجبًا شرعيًا، لأجابت بغير هذا الجواب، بل ما صدر السؤال أصلاً، فالمسلم لا يسأل: لماذا أقام الصلاة، أو آتي الزكاة، وفي القواعد المقررة: ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته.
10ـ ضرورة التعامل توجب معرفة الشخصية:.
إن ضرورة تعامل المرأة مع الناس في أمور معاشها يوجب أن تكون شخصيتها معروفة للمتعاملين معها، بائعة أو مشترية، أو موكلة، أو وكيلة، أو شاهدة أو مشهودًا لها أو عليها، ومن ثم نجد أن الفقهاء مُجْمِعون على أن المرأة أن تكشف عن وجهها إذا مثلت أمام القضاء، حتى يتعرف القاضي والشهود والخصوم على شخصيتها. ولا يمكن التعرف على شخصيتها والحكم بأنها فلانة بنت فلان، ما لم يكن وجهها معروفًا للناس من قبل، وإلا فإن كشف وجهها في مجلس القضاء لا يفيد شيئًا.
أدلة القائلين بوجوب النقاب:.
تلك هي أبرز أدلة الجمهور، فما أدلة من خالفهم، وهم قلة؟.
الحق أني لم أجد للقائلين بوجوب لبس النقاب، ووجوب تغطية الوجه واليدين دليلاً شرعيًا صحيح الثبوت، صريح الدلالة، سالمًا من المعارضة، بحيث ينشرح له الصدر ويطمئن به القلب.(2/301)
وكل ما معهم متشابهات من النصوص تردها المحكمات وتعارضها الأدلة الواضحات.
وأذكر هنا أقوى ما استدلوا به، وأردُّ عليه:.
أ- من ذلك: ما جاء عن بعض المفسرين في قوله تعالى في "آية الجلباب" في سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى:(يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين). (الأحزاب: 59).
فقد روي عن عدد من مفسري السلف تفسير إدناء الجلابيب عليهن، أنهن يسترن بها جميع وجوههن، بحيث لا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة يبصرن بها.
وممن روي عنه ذلك ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم، ولكن ليس هناك اتفاق على معنى" الجلباب" ولا على معنى "الإدناء" في الآية.
والعجب أن يروى هنا عن ابن عباس، ما روي عنه خلافه في تفسير آية سورة النور: (إلا ما ظهر منها)!.
وأعجب منه أن يروي بعض المفسرين هذا وذاك، ويختاروا في سورة الأحزاب ما رجحوا عكسه في سورة النور!.
وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم في حديث أم عطية في صلاة العيد: إحدانا لا يكون لها جلباب.. إلخ. قال: قال النضر بن شميل: الجلباب ثوب أقصر - وأعرض - من الخمار، وهي المقنعة تغطي به المرأة رأسها، وقيل: هو ثوب واسع دون الرداء تغطي به صدرها وظهرها، وقيل: هو كالملاءة والملحفة. وقيل: هو الإزار، وقيل: الخمار. (صحيح مسلم بشرح النووي 2/542، ط الشعب).
وعلى كل حال، فإن قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن) لا يستلزم ستر الوجه لغة ولا عرفًا، ولم يرد باستلزامه ذلك دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. كما قال صاحب "أضواء البيان" رحمه الله.
وبهذا سقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.
ب ما جاء عن ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) أن ما ظهر منها هو الرداء والثياب الظاهرة.(2/302)
وهذا التفسير يعارضه ما صح عن غيره من الصحابة: ابن عباس وابن عمر وعائشة وأنس رضي الله عنهم، وعن غيرهم من التابعين: أنه الكحل والخاتم، أو مواضعهما من الوجه والكفين، وقد ذكر ابن حزم أن ثبوت ذلك عن الصحابة في غاية الصحة.
ويؤيد هذا التفسير ما ذكره العلامة أحمد بن أحمد الشنقيطي في (مواهب الجليل من أدلة خليل) قال: (من يتشبث بتفسير ابن مسعود: (إلا ما ظهر منها) يعني الملاءة - يجاب بأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وأنه فسر زينة المرأة بالحلي، قال تعالى: (ولا يضرن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) (أي الخلخال ونحوه. وذلك في نفس الآية 31 من سورة النور). فتعين حمل زينة المرأة على حليها. (مواهب الجليل 1/148 ط إدارة إحياء التراث الإسلامي في قطر).
يؤكد ذلك ما ذكرناه من قبل: أن الاستثناء في الآية يفهم منه قصد الرخصة والتيسير، وظهور الثياب الخارجية كالعباءة والملاءة ونحوهما أمر اضطراري لا رخصة فيه ولا تيسير.
جـ ما ذكره صاحب أضواء البيان من الاستدلال بقوله تعالى في نساء النبي: (وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن). (الأحزاب: 53).
فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) قرينة واضحة على إرادة الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين أن غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن.(2/303)
ولكن المتأمل في الآية وسياقها، يجد أن "الأطهرية" المذكورة في التعليل ليست من الريبة المحتملة من هؤلاء وأولئك، فإن هذا النوع من الريبة بعيد عن هذا المقام. ولا يتصور من أمهات المؤمنين، ولا ممن يدخل عليهن من الصحابة دخول هذا اللون من الريبة على قلوبهم وقلوبهن، إنما الأطهرية هنا من مجرد التفكير في الزواج الحلال الذي قد يخطر ببال أحد الطرفين، بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما استدلال بعضهم بنفس قوله تعالى: (فاسألوهن من وراء حجاب) فلا وجه له لأنه خاص بنساء النبي كما هو واضح، وقول بعضهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - لا يرد هنا؛ إذ اللفظ في الآية ليس عامًا. وقياس بعضهم سائر النساء على نساء النبي مردود، لأنه قياس مع الفارق، فإن عليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولهذا قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء). (الأحزاب: 32).
د ما رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللواتي لم يحرمن.
ونحن لا نعارض أن يكون بعض النساء في غير حالة الإحرام، يلبسن النقاب والقفازين اختيارًا منهن، ولكن أين في هذا الدليل على أن هذا كان واجبًا؟؟ بل لو استدل بهذا على العكس لكان معقولاً، فإن محظورات الإحرام أشياء كانت في الأصل مباحة، مثل لبس المخيط والطيب والصيد ونحوها، وليس منها شيء كان واجبًا ثم صار بالإحرام محظورًا.
ولهذا استدل كثير من الفقهاء - كما ذكرنا من قبل - بهذا الحديث نفسه: أن الوجه واليدين ليسا عورة، وإلا لما أوجب كشفهما.
هـ ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه".(2/304)
والحديث لا حجة فيه لوجوه:.
1ـ أن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وفيه مقال. ولا يحتج في الأحكام بضعيف.
2ـ أن هذا الفعل من عائشة رضي الله عنها لا يدل على والوجوب، فإن فعل الرسول نفسه لا يدل على الوجوب، فكيف بفعل غيره؟.
3ـ ما عرف في الأصول: أن وقائع الأحوال، إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، فسقط بها الاستدلال.
والاحتمال يتطرق هنا بأن يكون ذلك حكمًا خاصًا بأمهات المؤمنين من جملة أحكام خاصة بهن، كحرمة نكاحهن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما إلى ذلك. (مواهب الجليل من أدلة خليل 1/185).
وـ ما رواه الترمذي مرفوعًا: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان" قال الترمذي: حسن صحيح. وأخذ منه بعض الشافعية والحنابلة: أن المرأة كلها عورة ولم يستثنوا منها وجهًا ولا كفًا ولا قدمًا.
والصحيح أن الحديث لا يفيد هذه "الكلية" التي ذكروها، بل يدل على أن الأصل في المرأة هو التصون والستر، لا التكشف والابتذال، ويكفي لإثبات هذا أن يكون معظم بدنها عورة، ولو أخذ الحديث على ظاهره ما جاز كشف شيء منها في الصلاة، ولا في الحج، وهو خلاف الثابت بيقين.
وكيف يتصور أن يكون الوجه والكفان عورة، مع الاتفاق على كشفهما في الصلاة ووجوب كشفهما في الإحرام؟ وهل يعقل أن يأتي الشرع بتجويز كشف العورة في الصلاة، ووجوب كشفها في الإحرام؟.
زـ وهناك دليل يلجأ إليه دعاة النقاب إذا لم يجدوا الأدلة المحكمة من النصوص، ذلكم هو سد الذريعة . فهذا هو السلاح الذي يشهر إذا فُلَّتْ كل الأسلحة الأخرى.
وسد الذريعة يقصد به منع شيء مباح، خشية أن يوصل إلى الحرام، وهو أمر اختلف فيه الفقهاء ما بين مانع ومجوز، وموسع ومضيق، وأقام ابن القيم في "إعلام الموقعين" تسعة وتسعين دليلاً على مشروعيته.(2/305)
ولكن من المقرر لدى المحققين من علماء الفقه والأصول: أن المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها، فكما أن المبالغة في فتح الذرائع قد تأتي بمفاسد كثيرة تضر الناس في دينهم ودنياهم، فإن المبالغة في سدها قد تضيع على الناس مصالح كثيرة أيضًا في معاشهم ومعادهم.
وإذا فتح الشارع شيئًا بنصوصه وقواعده، فلا ينبغي لنا أن نسده بآرائنا وتخوفاتنا فنحل بذلك ما حرم الله، أو نشرع ما لم يأذن به الله.
وقد تشدد المسلمون في العصور الماضية تحت عنوان "سد الذريعة إلى الفتنة" فمنعوا المرأة من الذهاب إلى المسجد، وحرموها بذلك خيرًا كثيرًا، ولم يستطع أبواها ولا زوجها أن يعوضها ما يمنحها المسجد من علم ينفعها أو عظة تردعها، وكانت النتيجة أن كان كثير من النساء المسلمات يعشن ويمتن، ولم يركعن لله ركعة واحدة!.
هذا مع أن الحديث الصحيح الصريح يقول: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"! رواه مسلم.
وفي وقت من الأوقات دارت معارك جدلية بين بعض المسلمين وبعض حول جواز تعلم المرأة، وذهابها إلى المدارس والجامعات. وكانت حجة المانعين سد الذريعة، فالمرأة المتعلمة أقدر على المغازلة والمشاغلة بالمكاتبة والمراسلة، إلخ، ثم انتهت المعركة بإقرار الجميع بأن تتعلم المرأة كل علم ينفعها، وينفع أسرتها ومجتمعاتها، من علوم الدين أو الدنيا، وأصبح هذا أمرًا سائدًا في جميع بلاد المسلمين، من غير نكير من أحد منهم، إلا ما كان من خروج على آداب الإسلام وأحكامه.
ويكفينا الأحكام والآداب التي قررها الشرع، لتسد الذرائع إلى الفساد والفتن، من فرض اللباس الشرعي، ومنع التبرج، وتحريم الخلوة، وإيجاب الجد والوقار في الكلام والمشي والحركة. مع وجوب غض البصر من المؤمنين والمؤمنات، وفي هذا ما يغنينا عن التفكير في موانع أخرى من عند أنفسنا.
ح ومما يستدل به هنا كذلك العرف العام الذي جرى عليه المسلمون عدة قرون، بستر وجوه النساء بالبراقع والنُّقُب وغيرها.(2/306)
وقد قال بعض الفقهاء:.
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار.
وقد نقل النووي وغيره عن إمام الحرمين - في استدلاله على عدم جواز نظر المرأة إلى الرجل - اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات.
ونرد على هذه الدعوى بجملة أمور:.
1ـ أن هذا العرف مخالف للعرف الذي ساد في عصر النبوة، وعصر الصحابة وخير القرون، وهم الذين يقتدي بهم فيهتدي.
2ـ أنه لم يكن عرفًا عامًا، بل كان في بعض البلاد دون بعض، وفي المدن دون القرى والريف، كما هو معلوم.
3ـ أن فعل المعصوم وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدل على الوجوب، بل على الجواز والمشروعية فقط، كما هو مقرر في الأصول، فكيف بفعل غيره؟.
ومن هنا لا يدل هذا العرف حتى لو سلمنا أنه عام على أكثر من أنهم استحسنوا ذلك، احتياطًا منهم، ولا يدل على أنهم أوجبوه دينًا.
4ـ أن هذا العرف يخالفه عرف حادث الآن، دعت إليه الحاجة، وأوجبته ظروف العصر، واقتضاه التطور في شئون الحياة ونظم المجتمع، وتغير حال المرأة من الجهل إلى العلم، ومن الهمود إلى الحركة، ومن القعود في البيت إلى العمل في ميادين شتى.
وما بني من الأحكام على العرف في مكان ما، وزمان ما يتغير بتغيره.
شبهة أخيرة:.
وأخيرًا نعرض هنا لشبهة ذكرها بعض المتدينين الذين يميلون إلى التضييق على المرأة.
وخلاصتها: أننا نسلم بالأدلة التي أوردتموها بمشروعية كشف المرأة لوجهها كما نسلم بأن المرأة في العصر الأول عصر النبوة والراشدين كانت غير منقبة إلا في أحوال قليلة.
ولكن يجب أن نعلم أن ذلك العصر كان عصرًا مثاليًا، وفيه من النقاء الخلقي، والارتقاء الروحي، ما يؤمن معه أن تسفر المرأة عن وجهها، دون أن يؤذيها أحد. بخلاف عصرنا الذي انتشر فيه الفساد، وعم الانحلال، وأصبحت الفتنة تلاحق الناس في كل مكان فليس أولى من تغطية المرأة وجهها، حتى لا تفترسها الذئاب الجائعة التي تتربص بها في كل طريق.(2/307)
وردي على هذه الشبهة بأمور:.
أولاً: أن العصر الأول وإن كان عصرًا مثاليًا حقًا، ولم تر البشرية مثله في النقاء والارتقاء، لم يكن إلا عصر بشر مهما كانوا، ففيهم ضعف البشر، وأهواء البشر، وأخطاء البشر، ولهذا كان فيهم من زنى، ومن أقيم عليه الحد، ومن ارتكب ما دون الزنى، وكان فيه الفُسَّاق والمُجَّان الذين يؤذون النساء بسلوكهم المنحرف، وقد نزلت آية سورة الأحزاب التي تأمر المؤمنات بإدناء الجلابيب عليهن، حتى يعرفن بأنهن حرائر عفيفات فلا يؤذين: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).
وقد نزلت آيات في سورة الأحزاب تهدد هؤلاء الفسقة والماجنين إذا لم يرتدعوا عن تصرفاتهم الشائنة، فقال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قيلاً. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً). (الأحزاب: 60، 61).
ثانيًا: أن أدلة الشريعة - إذا ثبت صحتها وصراحتها - لها صفة العموم والخلود، فليست هي أدلة لعصر أو عصرين، ثم يتوقف الاستدلال بها. ولو صح هذا لكانت الشريعة مؤقتة لا دائمة، وهذا ينافي أنها الشريعة الخاتمة.
ثالثا: أننا لو فتحنا هذا الباب، لنسخنا الشريعة بآرائنا، فالمشددون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ميسرة بدعوى الورع والاحتياط، والمتسيبون يريدون أن ينسخوا ما فيها من أحكام ضابطة، بدعوى مواكبة التطور، ونحوها.
والصواب أن الشريعة حاكمة لا محكومة، ومتبوعة لا تابعة، ويجب أن نخضع نحن لحكم الشريعة، لا أن تخضع الشريعة لحكمنا: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن). (المؤمنون: 71).
اعتبارات مرجحة لقول الجمهور:.
أعتقد أن الأمر قد اتضح بعد ما ذكرنا أدلة الفريقين، وتبين لنا أن رأي الجمهور أرجح دليلاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً.
ولكني أضيف هنا اعتبارات ترجيحية أخرى، تزيد رأي الجمهور قوة، وتريح ضمير كل مسلمة ملتزمة تأخذ به بلا حرج إن شاء الله.(2/308)
لا تكليف ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح:.
أولاً: إن الأصل براءة الذمم من التكاليف، ولا تكليف إلا بنص ملزم، لذا كان موضوع الإيجاب والتحريم في الدين مما يجب أن يشدد فيه، ولا يتساهل في شأنه، حتى لا نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، أو نحرم عليهم ما أحل الله لهم، أو نحل لهم ما حرم الله عليهم، أو نشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى.
ولهذا كان أئمة السلف يتورعون من إطلاق كلمة حرام إلا فيما علم تحريمه جزمًا كما نقل ذلك الإمام ابن تيمية، وذكرته في كتابي "الحلال والحرام في الإسلام".
والأصل في الأشياء والتصرفات العادية هو الإباحة، فما لم يوجد نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم، يبقى الأمر على أصل الإباحة، ولا يطالب المبيح بدليل، لأن ما جاء على الأصل لا يسأل عن علته، إنما المُطالب بالدليل هو المحرم.
وفي موضوع كشف الوجه والكفين لا أرى نصًا صحيحًا صريحًا يدل على تحريم ذلك، ولو أراد الله تعالى أن يحرمه لحرمه بنص بين يقطع كل ريب، وقد قال سبحانه: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) (الأنعام: 119)، ولم نجد هذا فيما فصله لنا جَلَّ شأنه، فليس لنا أن نشدد فيما يسر الله فيه، حتى لا يقال لنا ما قيل لقوم حرموا الحلال في المطعومات: (قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون). (يونس: 59).
تغير الفتوى بتغير الزمان:.
ثانيًا: إن المقرر الذي لا خلاف عليه كذلك: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.
وأعتقد أن زماننا هذا الذي أعطى للمرأة ما أعطى، يجعلنا نتبنى الأقوال الميسرة، التي تدعم جانب المرأة، وتقوي شخصيتها.
فقد استغل خصوم الإسلام من المنصرين والماركسيين والعلمانيين وغيرهم سوء حال المرأة في كثير من أقطار المسلمين، ونسبوا ذلك إلى الإسلام نفسه، وحالوا تشويه أحكام الشريعة وتعاليمها حول المرأة، وصوروها تصويرًا غير مطابق للحقيقة التي جاء بها الإسلام.(2/309)
ومن هنا أرى أن من مرجحات بعض الآراء على بعض في عصرنا: أن يكون الرأي في صف المرأة وإنصافها وتمكينها من مزاولة حقوقها الفطرية والشرعية، كما بينت ذلك في كتابي "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية".
عموم البلوى:.
وأفضل للمسلمة المشتغلة بالدعوة: ألا تنتقب؛ حتى لا تضع حاجزًا بينها وبين سائر المسلمات، ومصلحة الدعوة هنا أهم من الأخذ بما تراه أحوط.
ثالثًا: إن مما لا نزاع فيه: أن "عموم البلوى" من أسباب التخفيف والتيسير كما يعلم ذلك المشتغلون بالفقه وأصوله، ولهذا شواهد وأدلة كثيرة.
وقد عمت البلوى في هذا العصر، بخروج النساء إلى المدارس والجامعات وأماكن العمل، والمستشفيات والأسواق وغيرها، ولم تعد المرأة حبيسة البيت كما كانت من قبل. وهذا كله يحوجها إلى أن تكشف عن وجهها وكفيها، لضرورة الحركة والتعامل مع الحياة والأحياء، في الأخذ والعطاء والبيع والشراء، والفهم والإفهام.
وليت الأمر وقف عند المباح أو المختلف فيه من كشف الوجه والكفين، بل تجاوز ذلك إلى الحرام الصريح من كشف الذراعين والساقين، والرءوس والأعناق والنحور، وغزت نساء المسلمين تلك البدع الغربية "المودات" وغدونا نجد بين المسلمات الكاسيات العاريات، المميلات المائلات، اللائي وصفهن الحديث الصحيح أبلغ الوصف وأصدقه.
فكيف نشدد في هذا الأمر، وقد حدث هذا التسيب والتفلت أمام أعيننا؟ إن المعركة لم تعد حول "الوجه والكفين ": أيجوز كشفهما أم لا يجوز؟ بل المعركة الحقيقية مع أولئك الذين يريدون أن يجعلوا المرأة المسلمة صورة من المرأة الغربية، وأن يسلخوها من جلدها ويسلبوها هويتها الإسلامية، فتخرج كاسية عارية، مائلة مميلة.(2/310)
فلا يجوز لأخواتنا وبناتنا " المنقبات " ولا إخواننا وأبنائنا من " دعاة النقاب " أن يوجهوا رماحهم وسهامهم إلى أخواتهم " المحجبات " ولا إلى إخوانهم من " دعاة الحجاب " ممن اقتنعوا برأي جمهور الأمة. وإنما يوجهونها إلى دعاة التكشف والعري والانسلاخ من آداب الإسلام. إن المسلمة التي التزمت الحجاب الشرعي كثيرًا ما تخوض معركة في بيئتها وأهلها ومجتمعها، حتى تنفذ أمر الله بالحجاب فكيف نقول لها: إنك آثمة عاصية، لأنك لم تلبسي النقاب؟.
المشقة تجلب التيسير:.
رابعا: إن إلزام المرأة المسلمة - وخصوصًا في عصرنا - بتغطية وجهها ويديها فيه من الحرج والعسر والتشديد ما فيه، والله تعالى قد نفى عن دينه الحرج والعسر والشدة، وأقامه على السماحة واليسر والتخفيف والرحمة، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج: 78)، (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185). (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). (النساء: 28).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: " بعثت بحنيفية سمحة " (رواه الإمام أحمد في مسنده). فهي حنيفية في العقيدة، سمحة في الأحكام.
وقد قرر فقهاؤنا في قواعدهم: أن المشقة تجلب التيسير، وقد أمرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن نيسر ولا نعسر، ونبشر ولا ننفر، وقد بعثنا ميسرين ولم نبعث معسرين.
تنبيهات:.
على أن بعض التنبيهات مهمة ينبغي أن نذكرها:.
1- أن كشف الوجه لا يعني أن تملأه المرأة بالأصباغ والمساحيق، وكشف اليدين لا يعني أن تطيل أظافرها، وتصبغها بما يسمونه (المانوكير) وإنما تخرج محتشمة غير متزينة ولا متبرجة، وكل ما أبيح لها هنا هو الزينة الخفيفة، كما جاء عن ابن عباس وغيره: الكحل في عينيها، والخاتم في يديها.(2/311)
2- أن القول بعدم وجوب النقاب، لا يعني عدم جوازه، فمن أرادت أن تنتقب فلا حرج عليها، بل قد يستحب لها ذلك - في رأي بعض الناس ممن يميلون دائمًا إلى تغليب جانب الاحتياط - إذا كانت جميلة يخشى الافتتان بها، وخصوصًا إذا كان النقاب لا يعوقها ولا يجلب عليها القيل والقال. بل ذهب كثير من العلماء إلى وجوب ذلك عليها. ولكني لا أجد من الأدلة ما يوجب عليها تغطية الوجه عند خوف الفتنة؛ لأن هذا أ مر لا ينضبط، والجمال نفسه أمر ذاتي، ورب امرأة يعدها إنسان جميلة، وآخر يراها عادية، أو دون العادية.
وقد ذكر بعض المؤلفين أن على المرأة أن تستر وجهها إذا قصد الرجل اللذة بالرؤية أو وجدها!.
ومن أين للمرأة أن تعرف قصده للذة أو وجدانها؟؟.
وأولى من ستر الوجه أن تنسحب من مجال الفتنة وتبتعد عنه، إذا لاحظت ذلك.
3ـ أنه لا تلازم بين كشف الوجه وإباحة النظر إليه، فمن العلماء من جوز الكشف، ولم يجز النظر، إلا النظرة الأولى العابرة، ومنهم من أباح النظر إلى ما يباح كشفه لكن بغير شهوة فإذا وجد شهوة أو قصدها حرم النظر عليه وهو الذي أختار.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(2/312)
تزويج الأب ابنته البالغة بغير رضاها
س: هل صحيح ما قرأناه في بعض المجلات منسوبًا إلى أحد المذاهب الإسلامية المتبوعة والمشهورة وهو مذهب الإمام الشافعي أنه يجعل من حق الأب أن يزوج ابنته البالغة بغير رضاها، وإذا كان هذا صحيحًا فهل يتفق مع المنهج الإسلامي العام في اشتراط موافقة الفتاة المسبقة، وهل يشترط الولي دائمًا في عقد الزواج؟.
مسلمة غيورة.
جـ: من الواجب إزاء هذا السؤال المهم أن نقرر عدة حقائق:
أولاً: هنا قاعدة أساسية لا يختلف فيها اثنان وهي أن كل مجتهد يصيب ويخطئ، وأن كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-. والإمام الشافعي إمام عظيم من أئمة المسلمين، ولكنه بشر غير معصوم، وقد قال هو عن نفسه: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، كما روي عنه قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي.. وفي رواية: فاضربوا بقولي الحائط!.
ثانيًا: من الإنصاف للمجتهدين أن نضع آراءهم في إطارها التاريخي، فإن المجتهد ابن بيئته وزمنه، ولا يمكن إغفال العنصر الذاتي للمجتهد. وقد عاش الإمام الشافعي في عصر قلما كانت تعرف الفتاة من يتقدم لخطبتها شيئًا إلا ما يعرفه أهلها عنه، لهذا أعطى والدها خاصة حق تزويجها ولو بغير استئذانها؛ لكمال شفقته عليها، وافتراض نضجه وحسن رأيه في اختياره الكفء المناسب لها، وانتفاء التهمة في حقه بالنسبة لها.(2/313)
ومن يدري لعل الشافعي رضي الله عنه لو عاش إلى زماننا، ورأى ما وصلت إليه الفتاة من ثقافة وعلم، وأنها أصبحت قادرة على التمييز بين الرجال الذين يتقدمون إليها، وأنها إذا زوجت بغير رضاها ستستحيل حياتها الزوجية إلى جحيم عليها وعلى زوجها، لعله لو رأى ذلك لغير رأيه، كما غيره في أمور كثيرة. فمن المعلوم أنه كان له مذهبان أحدهما: قديم قبل أن يرحل إلى مصر، والثاني: جديد بعد أن انتقل إلى مصر واستقر فيها، ورأى فيها ما لم يكن قد رأى، وسمع فيها ما لم يكن يسمع، وأصبح من المعروف في كتب الشافعية: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد.
ثالثًا: أن الشافعية شرطوا لتزويج الأب ابنته البكر بغير إذنها شروطًا منها:
1- ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة، كطلاق أمها، أو نحو ذلك.
2- أن يزوجها من كفء.
3- أن يزوجها بمهر مثلها.
4- ألا يكون الزوج معسرًا بالمهر
5- ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته كأعمى وشيخ هرم.. الخ.
وفي هذه الشروط تخفيف لبعض آثار الإجبار، ولكنها لا تحل المشكلة من جذورها.
بعد هذا نقول:
قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة أحاديث توجب استئمار الفتاة أو استئذانها عند زواجها فلا تزوج بغير رضاها، ولو كان الذي يزوجها أباها. منها ما في الصحيح: "لا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: وكيف إذنها؟ . قال: "أن تسكت". "البكر تستأذن في نفسها، وإذنها صمتها". "الثيب أحق بنفسها، والبكر يستأذنها أبوها".(2/314)
وفي السنن من حديث ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي -صلى الله عليه وسلم-. وعن عائشة: "أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. وأنا كارهة، قلت: اجلسي حتى يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم الناس أن ليس للآباء من الأمر شئ".
والظاهر من حالة هذه المرأة أنها بكر، كما قال صاحب "سبل السلام" ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس. وقد زوجها أبوها كفئًا: ابن أخيه. وإن كانت ثيبًا، فقد صرحت أن ليس مرادها إلا إعلام النساء أن ليس للآباء من الأمر شئ! ولفظ "النساء" عام للبكر والثيب. وقد قالت هذا عنده -صلى الله عليه وسلم- فأقرها عليه.
وكأن هذه الفتاة الراشدة البصيرة أرادت أن توعّي بنات جنسها بما جعل لهن الشارع من الحق في أنفسهن، حتى لا يتسلط عليهن بعض الآباء، أو من دونهم من الأولياء، فيزوجوهن بغير رضاهن لمن يكرهنه ويسخطنه.
وقال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار": (ظاهر الأحاديث أن البكر البالغة إذا تزوجت بغير إذنها لم يصح العقد. وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعترة والحنفية، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم).
وقبل الشوكاني قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: (إن استئذان البكر البالغة واجب على الأب وغيره، وإنه لا يجوز إجبارها على النكاح وإن هذا هو الصواب، وهو رواية عن أحمد واختيار بعض أصحابه، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره... وقال: إن جعل البكارة موجبة للحجر مخالف لأصول الإسلام، وتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع، قال:(2/315)
والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تُستأمر" فقيل له: " إن البكر تستحي؟ فقال: "إذنها صمتها" وفي لفظ في الصحيح "البكر يستأذنها أبوها" فهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تنكح حتى تستأذن. وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة؛ وأن الأب نفسه يستأذنها.
وأيضًا فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وبضعها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها؟.
وأيضًا: فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع. وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببًا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع.
وأيضًا: فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفئًا، وعين الأب كفئًا آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد.(2/316)
فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى؛ فإنه قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، وإذنها صماتها" وفي رواية: " الثيب أحق بنفسها من وليها". فلما جعل الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست أحق بنفسها؛ بل الولي أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد. هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث، وظاهره؛ وتمسكوا بدليل خطابه؛ ولم يعلموا مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وذلك أن قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها" يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد. "والثاني" قوله: "والبكر تستأذن "وهم لا يوجبون استئذانها؛ بل قالوا: هو مستحب، حق طرد بعضهم قياسه؛ وقالوا: لما كان مستحبًا اكتفى فيه بالسكوت، وادعى أنه حيث يجب استئذان البكر فلا بد من النطق. وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد.(2/317)
وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم؛ ولنصوص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها؛ وإذنها صماتها. وأما المفهوم: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- فرق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: "لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر" فذكر في هذه لفظ "الإذن" وفي هذه لفظ "الأمر" وجعل إذن هذه الصمات؛ كما أن إذن تلك النطق. فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن "البكر" لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له؛ لا تأمره ابتداء: بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها. وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها . فهي آمرة له، وعليه أن يطيعها فيزوجها من الكفء إذا أمرته بذلك. فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر. فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح: فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده. فكيف يكرهها على مباضعة من تكره مباضعته، ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه فأي مودة ورحمة في ذلك؟) ا.هـ. (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/22- 25).(2/318)
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد" بعد ذكر ما حكم به النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوب استئذان البكر: (وموجب هذا الحكم ألا تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين لله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمره ونهيه، وقواعد شريعته ومصالح أمته..) وأفاض في بيان ذلك رضي الله عنه.
وهذا أيضًا ما أدين لله به، ولا أعتقد سواه، وإن قال من قال بخلاف ذلك.
وأما تزويج المرأة نفسها بغير إذن وليها، فهو جائز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا تزوجت كفئًا، حيث لم يصح عندهم حديث في اشتراط الولي. وهذا أيضًا عند الظاهرية في شأن الثيب، عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والثيب أحق بنفسها من وليها".
ورأي الجمهور أن الولي شرط للزواج أخذًا بحديث " لا نكاح إلا بولي " وغيره من الأحاديث، والحكمة في هذا أن يتم الزواج بتراضي الأطراف المعنية كلها، وحتى لا تكون المرأة إذا تزوجت بغير إذن أهلها تحت رحمة الزوج وتسلطه، حين لم يكن لأهلها رأي في زواجها.
وعلى كل حال إذا قضى قاض بصحة هذا الزواج فهو صحيح ولا يملك أحد نقضه كما قال ابن قدامة في "المغني".
حكم المهر وحكمته.
س: أثار بعض النسوة اللائي غزاهن الفكر الغربي ضجة مفتعلة حول قضية المهر الذي أوجبه الإسلام على الرجل عند الزواج، وجعله من حق المرأة، وقال هؤلاء فيما قلنه: إنه ثمن للمرأة يدفعه الرجل في مقابل الاستمتاع بها! فكأنه يشتريها بهذا المال الذي يبذله لها!.
وبلغ من جرأة هؤلاء المتغربات أن يطالبن بإلغاء المهر كلية، ضمن ما يطالبن بحذفه من أحكام الشريعة الثابتة!.
نرجو بيان حقيقة المهر وحكمه، وحكمة شرعيته في الإسلام ووفق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة، وجزاكم الله عن الإسلام وأمته خير الجزاء.
أخوات من الجزائر.
جـ:
جهل وادعاء:(2/319)
إن الجهل مرض خطير، وأخطر منه أن يدعي الجاهل العلم والمعرفة، وأن ينصب نفسه معلمًا للناس، وصدق بشار حين قال: قد ضل من كانت العميان تهديه!.
إن هؤلاء النسوة ومن يحركهن من الرجال من عبيد الفكر الغربي بشقيه - الرأسمالي والشيوعي - يجهلون الإسلام جهلا تامًا، وقد قيل في أمثالهم: لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
وفي ظني أنهم لا يعرفون حتى رسم القرآن، فما أحسبهم فتحوا المصحف أو قرؤوه يومًا فيعرفوا رسمه من رسم ما سواه! .
وكان عليهم - لو عقلوا وأنصفوا - أن يطلبوا علم ما يجهلون، وأن يسألوا أهل الذكر إذ كانوا لا يعلمون.
ولكن هؤلاء - نساء ورجالا - ضموا إلى رذيلة الجهل رذيلة الادعاء واتباع الهوى، وهو يعمي ويصم: (ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله). (القصص: 50).
ولو أنهم فرقوا بين أحكام الله تعالى، وتقاليد الناس التي توارثوها ولا أصل لها في دين الله، وقالوا، نقبل الأَولى، ونعارض الأحرى، لقلنا لهم: أصبتم وأحسنتم، ووقفنا في صفهم.
ولو أنهم قالوا، بينوا لنا يا علماء الإسلام الصحيح من الزائف، والأصيل من الدخيل، والإلهي من البشري، في شئون المرأة والأسرة، لقلنا: على الرحب والسعة.
ولكنهم للأسف لم يفعلوا، وهجموا هجومًا كاسحًا على كل أحكام الأسرة، حتى القطعيات منها، وهو مما لا يصدر من مسلم ولا مسلمة. ولا ينطق به من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً.
فإن قال هؤلاء: لا نرضى بحكم كتاب ولا سنة، فليعلنوها صريحة، وليقولوها جهرة: كفرنا بالله وبرسوله، وبكتابه، ولسنا من الإسلام في قليل ولا كثير، حتى تعاملهم الأمة على هذا الأساس، وتعزلهم عن جسمها العام، لا تزوجهم ولا تتزوج منهم ولا تواليهم ولاء المسلم للمسلم، بل تعتبرهم أقلية خارجة عن دين الجماعة، ولا يجوز أن يظل أمثال هؤلاء يعاملون معاملة المسلمين، وهم في ظاهرهم وباطنهم غير مسلمين.
مشروعية المهر في الإسلام وحكمته:(2/320)
ونعود إلى موضوع المهر فنقول مبدأ المهر، أو الصداق وهو ما يعطى من الرجل للمرأة عند الزواج ثابت بالكتاب والسنة وبالإجماع، استقر العمل عليه، وعرفه الخاص والعام من أبناء المسلمين فأصبح من المعلوم من الدين بالضرورة.
والحكمة من وراء شرعية هذا المهر عدة أمور:
1ـ تكريم المرأة بأن تكون هي المطلوبة لا الطالبة، والتي يسعى إليها الرجل لا التي تسعى إلى الرجل، فهو الذي يطلب ويسعى ويبذل، على عكس الأمم التي تكلف المرأة أن تبذل هي للرجل من مالها، أو مال أهلها، حتى يقبل الزواج منها.
وهذا عند الهنود وغيرهم، حتى إن المسلمين في باكستان والهند لا زال عندهم رواسب من هذه الجاهلية الهندوسية إلى اليوم، مما يكلف المرأة وأهلها شططًا، ويرهقهم عسرًا، إلى حد أن بعض الأسر تبيع ما تملك لتزوج بناتها، ويا ويل أبي البنات الفقير، وأم البنات الأرملة المسكينة.!!.
2ـ إظهار الرجل رغبته في المرأة ومودته لها، فهو يعطيها هذا المال نحلة منه، أي عطية وهدية وهبة منه، لا ثمنًا للمرأة كما يقول المتقولون.... وفي ذلك يقول القرآن بصريح العبارة: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئَا مريئَا). (النساء: 4).
3ـ الإشعار بالجدية، فالزواج ليس ملهاة يتسلى بها الرجال، فيقول الرجل للمرأة: تزوجتك ويربطها به، ثم لا يلبث أن يدعها ليجد أخرى يقول لها ما قال للأولى.. وهكذا.(2/321)
إن بذل المال دليل على أن الرجل جادُّ في طلبه للمرأة، جاد في الارتباط بها، وإذا كان الناس فيما هو دون الزواج وحياة الأسرة يدفعون رسومًا وتأمينات وعرابين، دلالة على الجدية، فلا غرو أن تكون حياة الأسرة أحق بذلك وأولى. ومن هنا يفرض الإسلام نصف المهر على من تزوج ثم طلق قبل أن يدخل بالزوجة أو يمسها، تقديرًا لهذا الميثاق الغليظ والرباط المقدس، مما يدل على أن الاستمتاع ليس هو الأساس، فهنا لم يحدث أي استمتاع، قال تعالى:(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح). (البقرة: 237).
4ـ أن الإسلام قد جعل القوامة على الأسرة بيد الرجل، لقدرته الفطرية على التحكم في انفعالاته أكثر من المرأة، ولأنه أقدر الجنسين على إدارة هذه الشركة، فمن العدل أن يغرم الرجل في مقابلة هذا الحق الذي أعطي له، حتى لا يتهاون في هدم الأسرة لأدنى سبب، لأنه الغارم في بنائها، فإذا تهدمت كان هدمها على أم رأسه.
قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم). (النساء: 34).
مؤيدات ومؤكدات:
ومما يؤيد ما قلناه ويؤكده جملة أدلة منها:
1ـ أن الشرع رغَّب في تقليل المهر، وعدم المغالاة فيه، وهذا ما وضحته السنة القولية والعملية.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أكثرهن بركة أقلهن صداقًا..
وقد تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض نسائه على دراهم قليلة.
وكذلك زوج بناته بأيسر المهور، ويكفي في ذلك مهر أحب بناته إليه، وهي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، فقد مهرها علي درعًا له! رضي الله عنهما.(2/322)
2ـ وردت السنة الصحيحة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوج بعض النساء من بعض الرجال على غير مال أصلاً، حين قال له:" التمس ولو خاتمًا من حديد"، فلم يجد شيئًا حتى هذا الخاتم. ووجد عند الرجل بعض سور من القرآن يحفظها، فقال له " زوجناكها بما معك من القرآن "!.
3ـ أن الاستمتاع قدر مشترك بين الرجل والمرأة، فكما أن الرجل يستمتع بامرأته، فالمرأة تستمتع بزوجها، وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). (البقرة: 187).
فكل منهما يؤدي للآخر ما يؤديه اللباس من الستر والوقاية والدفء والزينة، والالتصاق، وكل ما توحي به كلمة " اللباس " في هذا المقام.
فلا يصلح استمتاع الرجل بزوجته أن يكون مقابلا للمهر، مادام أمرًا مشتركًا بينهما.
4ـ أن القرآن أشار إلى دعائم الحياة الزوجية، فجعلها دعائم معنوية في الأساس لا حسية، فقال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). (الروم: 21).
فالسكون والمودة والرحمة أمور عاطفية نفسية، وإن كان قد يدخل في السكون إلى الأزواج الجانب الجنسي، الذي يجعل كلا منهما ينجذب إلى الآخر بحكم الفطرة، وبمقتضى قانون الزوجية العام في الكون كله.
على أن الإسلام لا ينظر إلى الصلة الجنسية المشروعة على أنها أمر مستقذر لا يليق بالإنسانية المؤمنة، كما هي حياة الرهبان وأمثالهم، بل قال تعالى: وهو يتحدث عن الصيام وأحكامه، والدعاء وآدابه: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).
وبهذا وضحت روعة التشريع الإسلامي في المهر. وبالله التوفيق.
الحب والزواج.(2/323)
س: قدر لي أو قدر على أن أتعلق بشاب مسلم مثقف، ذي خلق ودين وفيه في نظري كل ما تطلبه الفتاة في فارس أحلامها، وقد تعلق هو بي أيضًا، وأصبح كلانا لا يتصور أن يعيش بدون الآخر، فقد دخل قلبي ودخلت قلبه، وملك حبه على نفسي، وبنيت أملي ورجائي كله على أن يكون شريك حياتي وقسيم عمري.
ولا تظن يأفضيلة الأستاذ أن هذا كان نزوة من نزوات المراهقة، أو مغامرة من مغامرات الشباب، فما كان لنزوة أو مغامرة أن تستمر ست سنوات كاملة في طهارة واستقامة وبعد عن كل ريبة، دون أن تنطفئ شعلة الحب بيننا، أو تضعف علاقتنا، بل ما ازدادت على مر الأيام إلا قوة.
والمهم أنه بعد طول الانتظار والصبر هذه السنين حتى تخرج، واحتل مكانه في الدولة والمجتمع، وجاءت اللحظة التي ظللت انتظرها أنا وهو على أحر من الجمر، أقول: إنه بعد طول الانتظار تقدم إلى أهلي يخطبني على سنة الله ورسوله.
وهنا كانت المفاجأة، بل الصدمة العنيفة له ولي، فقد رفضه أهلي لا لسبب إلا لأن عائلته أقل مركزًا من عائلتنا، مع أن له أخًا شقيقًا خطب من عائلة أكبر من عائلتنا، ولم يجدوا في ذلك غضاضة، ولم يبدوا أي اعتراض.
وأنا لا أدري ماذا أصنع، فأنا لا أتصور الحياة بدونه، ولا أتخيل لي مستقبلا مع أحد غيره، وأنا مستعدة لأي شيء من أجله، حتى لو كانت روحي لا أبخل عليه بها، ولو أجبرت على الزواج من غيره فسيكون هذا حكمًا على بالموت، إن لم يكن ماديًا فمعنويًا.
فهل يقبل ديننا الحنيف هذا التصرف؟.
وهل هناك حل لمشكلتنا في ضوء الشرع الشريف؟.
مسلمة حائرة .
من الخليج.
جـ:
1ـ أود أن أؤكد ما ذكرته مرارًا: أني لا أحبذ ما يقوله بعض الناس في عصرنا من ضرورة " الحب قبل الزواج " لأن هذا الطريق محفوف بالخطر محاط بالشبهات.(2/324)
فكثيرًا ما يبدأ بداية غير سليمة ولا مستقيمة، كالحب الذي يأتي عن طريق المحادثات الهاتفية التليفونية العشوائية، التي يتسلى بها بعض الشباب في فترات فراغهم أو مللهم أو عبثهم، فتستجيب لهم بعض الفتيات، وهذا يحدث عادة من وراء الأهل، وبدون اختيار ولا تفكير لا من الفتى ولا من الفتاة، فهو يبدأ كما قالوا في التدخين " دلعًا" وينتهي " ولعًا"، يبدأ هزلاً وينتهي جدًّا.
وكثيرًا ما يؤدي إلى عواقب غير محمودة، لأنه يتم بعيدًا عن دائرة الضوء، مع طيش الشباب، وتحكم العواطف، وغلبة الهوى، وسيطرة الغرائز، ووسوسة الشياطين من الإنس والجن، وفي مثل هذا المناخ لا يبعد من الفتى والفتاة أن يقعا في الخطأ، وهما ليسا من الملائكة المطهرين، ولا الأنبياء المعصومين.
وفضلاً عن هذا وذاك قد يكون الحب بين طرفين غير متكافئين اجتماعيًا أو ثقافيًا، فتحول دونهما الحوائل، وتقف العقبات والعوائق دون ارتباطهما بالزواج، وفي هذا ما فيه من حرج الصدر، وشتات الأمر.
2ـ وأرى أن أفضل الطرق للزواج، هو ما تعارفت عليه مجتماعاتنا العربية والإسلامية قبل الغزوة الثقافية الغربية لأمتنا، وهو الاختيار الهادئ العاقل من كلا الطرفين لشريكة الحياة أو شريكها، بعد الدراسة المتزنة لشخصية كل من الشاب والشابة، وملاءمة كل منهما للآخر، وإمكانات النجاح لهذا الزواج من النواحي المزاجية والنفسية والعقلية والاقتصادية والاجتماعية، وعدم وجود موانع وعقبات في طريق الزواج من جهة أحد الطرفين. أو أسرته، أو أعراف المجتمع أو قوانينه المرعية... إلخ.
هنا يأتي الخاطب البيت من بابه، ويتقدم إلى أهل الفتاة، ويتاح له رؤيتها، كما تتاح لها رؤيته، وحبذا أن يتم ذلك من غير أن تعلم الفتاة بذلك، رعاية لمشاعرها، إذا رآها الخاطب فلم تعجبه ولم تدخل قلبه.(2/325)
3ـ ومع هذا كله أرى أنه إذا " دخلت الفأس في الرأس " كما يقال، أي " وقع الحب " بالفعل، وتعلق كل من الشاب والشابة أحدهما بالآخر، وكان من نوع الحب الطاهر الشريف، الذي تحدثت عنه ابنتنا السائلة، واستمر مدة طويلة دلت على أنه لم يكن نزوة طارئة، أو " لعب عيال " هنا ينبغي للأهل أن ينظروا في الأمر بعين البصيرة والحكمة، ولا يستبدوا بالرأي، ويرفضوا الخاطب بأدنى سبب، أو بلا سبب.
وينبغي الإصغاء جيدًا لما أرشد إليه الحديث النبوي الشريف الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " لم يُرَ للمتحابين مثلُ النكاح ". (الحديث رواه ابن ماجة (1847)، والحاكم 2/160 وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن 7/78 والطبراني وابن أبي شيبة وغيرهم، من أكثر من طريق. وذكره الألباني في الصحيحة برقم (624) وقد روي في سبب وروده: أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن عندنا يتيمة وقد خطبها رجل معدم، ورجل موسر، وهي تهوى المعدم، ونحن نهوى الموسر، فقال:" لم ير للمتحابين مثل النكاح " ولكن القصة في سندها راوٍ مجهول. فالمدار على المرفوع).
يعني أن النكاح أي الزواج هو أنجح الوسائل لعلاج هذا التعلق العاطفي، الذي يصل إلى درجة " الحب " أو " العشق " بين قلبي رجل وامرأة، خلافًا لما كان يفعله بعض قبائل العرب في البادية من ضرورة حرمان المحب ممن يحبها، وخصوصًا إذا عرف ذلك، أو قال فيها شعرًا، ولو كان حبه من الحب العذري الطاهر العفيف.
إن الإسلام شريعة واقعية، ولهذا رأى ضرورة تتويج الارتباط العاطفي بارتباط شرعي قانوني، تتكون على أساسه أسرة مسلمة، يغذيها الحب، كما يغذيها الدين.(2/326)
إن استبداد الأهل بالرأي، والصمم عن الاستماع لنبضات قلب الفتى والفتاة، وتغليب اعتبارات الرياء الاجتماعي، والمفاخرات الجاهلية بالأنساب والأحساب، ليس وراءه في النهاية إلا تعاسة الأبناء والبنات، أو دفعهم ودفعهن إلى التمرد على التقاليد التي تجاوز أكثرها الزمن، وغدت من مخلفات عصور الانحطاط وأصبح " نسب " عصرنا هو العلم والعمل والنجاح.
إن الذي يحرص عليه الإسلام بالنسبة للزوج أو الخاطب هو: الدين والخلق وهما أهم مقومات الشخصية المسلمة. وفي هذا يقول الرسول الكريم: " إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ". (رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة، والترمذي والبيهقي عن أبي حاتم المزني، وابن عدي عن ابن عمر، وحسنه في صحيح الجامع الصغير 270).
ماذا يحل للزوج من زوجته؟.
التستر عند الجماع.
س: نحن من العرب المسلمين، نعيش في أمريكا الشمالية منذ سنوات، وقد أكرمنا الله تعالى بالعمل في مجال النشاط الإسلامي بين المسلمين من كل الأجناس والألوان والطبقات، فمنا العرب، ومنا الهنود والباكستانيون، ومنا الماليزيون والأفارقة، ومنا الأمريكيون من بيض وسود.
وتصادفنا أسئلة كثيرة منها ما لا عهد لنا بمثله في أوطاننا العربية والإسلامية، وكثير منها يسأله إخواننا وأخواتنا من الأمريكيين المسلمين والأمريكيات المسلمات، بعضها يتعلق بالصلات الجنسية بين الرجل وزوجته، مما هو معتاد في تلك البيئة، وأصبح جزءًا من حياتهم وعاداتهم الراسخة.
من ذلك: تجرد الزوجين عند الجماع من الثياب تمامًا.
ومنها: نظر الرجل إلى فرج امرأته، والمرأة إلى فرج زوجها.(2/327)
وأشياء أخرى من هذا القبيل قد نستحي من ذكرها علانية، مما من شأنه أن يحرك شهوة كل منهما إلى الآخر، إذ يبدو أن حالة التكشف والعري والتحلل هناك أصابت القوم بنوع من البرود الجنسي، الذي يحتاج إلى محرك أو مثير لا نحتاج إليه نحن في بلاد العروبة والإسلام.
وقد كنا نجيب عن مثل هذه الأسئلة بالمنع والتحريم، لما ترسب في أذهاننا من أقوال وأحاديث سمعناها في الغالب من أهل الوعظ، لا من أهل الفقه.
ولكن بعض الأخوة ذكروا لنا أنهم سمعوا منك ما يخالف هذا، في بعض زياراتك لأمريكا وإجاباتك لبعض الأسئلة التي وجهت إليك في المؤتمرات العامة واللقاءات الخاصة.
لهذا أحببنا أن نستوثق منك بصورة مباشرة، ونعرف رأيك في هذه الأسئلة المثارة، مؤيدًا بأدلته من الكتاب والسنة. راجين ألا تهمل الرد علينا، وإن كنا نقدر كثرة أعبائك ومشاغلك، ولكن للمسلمين فيما وراء البحار حق عليك أيضًا.. وفقك الله وأعانك لخدمة الإسلام والمسلمين.
مجموعة من مسلمي الولايات المتحدة.
عنهم: م. ل. س.
جـ:
أرى من المفيد للأخ السائل أن يراجع ما كتبته في الجزء الأول من كتابي " فتاوى معاصرة" عن " العلاقة الجنسية بين الزوجين " وموقف الإسلام منها، حتى يتبين للأخ المستفتي ومن معه من الأخوة وراء البحار: أن الإسلام لم يهمل هذا الجانب من جوانب الحياة، الذي قد يحسبه بعض الناس أبعد ما يكون عن الدين واهتماماته، بل قد يتوهم بعض الناس أنه ينظر إلى " الجنس " وما يتصل به على أنه " رجس من عمل الشيطان " وأن نظرة الإسلام إلى الجنس كنظرة الرهبانية إليه.
والواقع أن الإسلام قد عني بهذا الجانب الفطري من حياة الإنسان، ووضع فيه من القواعد والأحكام والتوجيهات ما يضمن أداءه لوظيفته، في غير غلو ولا كبت ولا انحراف.(2/328)
وحسبنا ما جاء في سورة البقرة حول هذا الموضوع في قوله تعالى: (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين). (البقرة: 222، 223).
وقد حفلت كتب التفسير والحديث والفقه والآداب وغيرها بالكثير مما يتصل بهذا الجانب، ولم ير علماء المسلمين أي بأس في الحديث عن هذا الموضوع ما دام في إطار العلم والتعليم، وقد شاع بين المسلمين كافة هذا القول: لا حياء في الدين، أي في تعلمه وتعليمه، أيًا كان موضوعه.
والإسلام قد جاء لكل الأجناس، ولكل الطبقات، ولكل البيئات، ولكل الأعصار ولكل الأحوال، فلا ينبغي أن تتحكم في فقهه وفتاويه وتوجيه أحكامه أذواق أو تقاليد أقوام معينين، في بيئة معينة، كبيئة المسلمين العرب أو الشرقيين، فنحجر بذلك ما وسع الله، ونعسر ما يسر الدين، ونمنع الناس مما لم يمنعهم الشرع منه، بنصوصه الثوابت المحكمات.. ومن هنا أطالب الأخوة الغيورين الذين يسارعون إلى الإفتاء بالمنع والتحريم فيما لم يألفوه، أو تستشنعه أنفسهم بحكم نشأتهم وتربيتهم الخاصة، أن يتبينوا ويتثبتوا قبل الجزم بالحكم، وخصوصًا عند الإيجاب أو التحريم، وألا يأخذوا الأحكام من كتب الوعظ والرقائق، ولا من ألسنة أهل الوعظ والترغيب والترهيب، فكثيرًا ما ينقصها التحقيق والتدقيق، وقلما تخلوا من التهويل والمبالغات إلا من رحم ربك.
كما لا ينبغي عند اختلاف العلماء أن يلتزموا المذهب الأشد في ذلك أخذًا بالأحوط، فقد يكون الأخذ بالأيسر هو الأولى، لأنه الأقوى دليلاً، أو لأنه الأوفق بروح الشريعة، وحاجات الناس، وخصوصًا إذا كان السائلون من حديثي العهد بالإسلام، كما في موضوعنا، فالإفتاء بالأيسر لهؤلاء أولى من الإفتاء بالأحوط، ولكل مقام مقال.(2/329)
وفي الموضوع الذي سأل عنه الأخوة نجد كتب الفقه لم تهمله، بل تحدثت عنه.
ذكر في متن " تنوير الأبصار " وشرحه " الدر المختار " من كتب الحنفية جواز أن ينظر الرجل من امرأته إلى ما ظهر منها وما بطن، ولو إلى فرجها، بشهوة وبغير شهوة.
قال في " الدر ": (والأولى تركه، لأنه يورث النسيان، وأضاف آخرون أنه يضعف البصر. فعللها بتعليلات غير شرعية، إذ لم يجئ بها نص من كتاب ولا من سنة، وهي مردودة من الناحية العلمية، فليس هناك أي ارتباط منطقي ولا واقعي بين السبب والنتيجة.
واستدل في " الهداية " لأولوية الترك بحديث " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع، ولا يتجردان تجرد العيرين " أي الحمارين.
قال: وكان ابن عمر يقول:" الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل اللذة ".
قال العلامة ابن عابدين:
لكن في " شرح الهداية " للعيني: أن هذا لم يثبت عن ابن عمر بسند صحيح ولا ضعيف.
قال: وعن أبي يوسف: سألت أبا حنيفة عن الرجل يمس فرج امرأته، وهي تمس فرجه، ليتحرك عليها، هل ترى بذلك بأسًا؟ قال: لا، وأرجو أن يعظم الأجر). (حاشية رد المحتار على الدر المختار 5/234).
ولعله يشير إلى الحديث الصحيح:" وفي بضع أحدكم صدقة ". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: " نعم، أليس إذا وضعها في حرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر. أتحتسبون الشر، ولا تحتسبون الخير؟! ". رواه مسلم. فرضي الله عن أبي حنيفة ما كان أفقهه!.
أما الحديث الذي استدل به في " الهداية " فلا حجة فيه، لأنه ضعيف. (رواه ابن ماجة في النكاح (1921) وضعفه البوصيري في الزوائد، وضعفه الحافظ العراقي أيضًا لضعف أسانيده كلها، وكذلك ضعفه الألباني في " إرواء الغليل " حديث 2009).
وحتى لو قبلنا تساهل السيوطي الذي رمز للحديث السابق بالحسن في جامعه الصغير لكثرة طرقه، فإنه لا يفيد أكثر من الكراهة التنزيهية التي تزول لأدنى حاجة.(2/330)
وفي مجتمع مثل المجتمع الأمريكي وغيره من المجتمعات الغربية نجد أن لهم عادات في اللقاء الجنسي بين الزوجين، تخالف ما درجنا عليه في أوطاننا مثل التعري عند الجماع، أو نظر الرجل إلى فرج امرأته، أو لعب المرأة بذكر زوجها وتقبيله ونحو ذلك مما قد يدفعهم إليه ما أصيبوا به من برود جنسي نتيجة لانتشار الإباحية والتحلل والعري، مما يجعل الرجل وربما المرأة أيضًا في حاجة إلى مثيرات غير عادية. فهذه أشياء قد تنكرها أنفسنا، وتنفر منها قلوبنا، وتستسخفها عقولنا، ولكن هذا شيء وتحريمها باسم الدين شيء آخر.
ولا ينبغي أن يقال في شيء: حرام، إلا أن يوجد في القرآن والسنة الصحيحة، النص الصريح على حرمته، وإلا، فالأصل الإباحة.
ولا نجد هنا النص الصحيح الصريح الدال على حرمة هذا السلوك مع الأزواج، وهذا ما جعلني في زياراتي لأمريكا، في مؤتمرات اتحاد الطلبة المسلمين، وزياراتي للمراكز الإسلامية في عدد من الولايات، إذ سئلت عن هذا الأمر وهو غالبًا يأتي من المسلمات الأمريكيات أن أميل إلى التيسير لا التعسير، والتسهيل لا التشديد، والإجازة لا المنع.لحديث: " احفظ عورتك إلا عن زوجتك وما ملكت يمينك " ولقوله تعالى:(والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين). (المؤمنون: 5،6).
وهذا ما ذهب إليه، وشدد النكير على من خالفه الإمام ابن حزم، حيث لم يصح لديه نص يمنع من ذلك، ولهذا لم يجد فيه أي كراهة أصلاً. فقال في "المحلى":
(وحلال للرجل أن ينظر إلى فرج امرأته، زوجته وأمته التي يحل له وطؤها، وكذلك لهما أن ينظرا إلى فرجه، لا كراهية في ذلك أصلاً.
برهان ذلك الأخبار المشهورة من طريق عائشة، وأم سلمة، وميمونة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن يغتسلن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من الجنابة من إناء واحد. (انظر المحلى 1/267 و283 289).(2/331)
وفي خبر ميمونة بيان أنه عليه الصلاة والسلام كان بغير مئزر، لأن في خبرها أنه عليه الصلاة والسلام أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله (انظر المحلى 1/267 و 283 289)، فبطل بعد هذا أن يلتفت إلى رأي أحد.
ومن العجب أن يبيح بعض المتكلفين من أهل الجهل وطء الفرج ويمنع من النظر إليه، ويكفي في هذا قول الله عز وجل:(والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين).
فأمر عز وجل بحفظ الفرج إلا على الزوجة، وملك اليمين، فلا ملامة في ذلك، وهذا عموم في رؤيته ولمسه ومخالطته.
وما نعلم للمخالف تعلقًا إلا بأثر سخيف عن امرأة مجهولة عن أم المؤمنين:" ما رأيت فرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط ".
وآخر - في غاية السقوط - عن أبي بكر بن عياش، وزهير بن محمد، كلاهما عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، وهؤلاء: ثلاث الأثافي والديار البلاقع! أحدهم كان يكفي في سقوط الحديث). (المحلى، المسألة 1883).
والحديث الذي استدل به ابن حزم في صحيح البخاري عن ابن عباس عن ميمونة أم المؤمنين قالت: " سترت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يغتسل من الجنابة فغسل يديه، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه وما أصابه..". (الحديث رقم (281) 1/387 من البخاري مع فتح الباري ط السلفية). الحديث.
وفي الصحيح أيضًا عن عائشة قالت: " كنت أغتسل أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد من قدح يقال له: الفرق ". (انظر: الحديث رقم 250 من المصدر السابق وأطرافه في: 261، 263، 273، 299 وغيرها).
وذكر الحافظ في " الفتح " استدلال ببعض العلماء بالحديث المذكور على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وعكسه.
قال: (ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى: أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته فقال: سألت عطاء، فقال: سألت عائشة، فذكرت هذا الحديث بمعناه، وهو نص في المسألة. والله أعلم). (الفتح 1/364).(2/332)
حكم الزواج من الأم.
إذا طلق ابنتها قبل الدخول بها.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وردتنا رسالتك طلبًا للإفادة والرد على السؤالين:
س: (1) شخص ما تزوج بنتًا وطلقها بعد عدة شهور ولم يدخل عليها، فهل يجوز أن يتزوج والدتها؟.
(2) تزوج شخص وتوفيت زوجته دون أن يدخل عليها، فهل يجوز الزواج بوالدتها؟.
جـ : وإجابة على سؤاليك نقول:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا يجوز الزواج من أم الزوجة، سواء دخل بها، أم لم يدخل بها، وسواء طلقها قبل الدخول أم توفيت قبل الدخول، لإطلاق قوله تعالى في آية المحرمات من النساء (وأمهات نسائكم) فلم يفرق بين مدخول بها وغير مدخول بها، فمجرد العقد على المرأة يحرم أمها تحريمًا مؤبدًا، بخلاف ما إذا عقد على الأم ولم يدخل بها ثم طلقها أو توفيت، فيجوز أن يتزوج ابنتها. وهذا ما صرح به القرآن في آية المحرمات حيث قال:(وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم).
وهذا حكم مجمع عليه، وقد اشتهر عند الفقهاء قولهم: العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات، يحرم البنات.
هذا وبالله التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!.
الإسلام كرم المرأة.
وأنصفها.
أقسى لحظة تواجهها المرأة هي تلك اللحظة التي تشعر فيها بالإهانة والضعف تلك اللحظة التي ترتمي فيها على أي مكان تجده أمامها تصارع ألمًا جسميًا ونفسيًا.. تسيل دموعها فلا تجد منقذا أو منجدًا سوى الدعاء إلى خالقها بأن ينقذها ويحميها ويبعد عنها الإهانات والآلام. فعلاً.. هناك في مجتمعنا للأسف العديد من السيدات من يعانين أشد المعاناة من جراء إهانة أزواجهن لهن. ففي مجتمعنا كما في المجتمعات الأخرى أزواج يسيئون معاملة زوجاتهم يسبونهن ويشتمونهن.(2/333)
لقد وصلتنا عدة شكاوى من سيدات يتعرضن يوميًا لإهانات الأزواج تقول إحداهن في رسالة مطولة: إنه يسبني ويشتمني أمام أطفالي.. لأتفه الأسباب وتقول ثانية: أريد حلاً لمشكلتي إن زوجي يرجع آخر الليل فيقوم بضربي وسبي وإهانتي، وينعتني بأحقر الألفاظ.. ثالثة.. ورابعة... الكل يشتكي ويتذمر.
لذلك رأينا من الضروري طرح هذه المشكلة على المختصين وأصحاب الرأي الرادع. وخير ما بدأنا به رأي الدين الحنيف لأن الدين وسيلة من وسائل الضبط الاجتماعي، " بل هو المصدر الأول لضبط المجتمع وحفظه ".
وكان لنا هذا اللقاء مع فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر والذي سبق له أن تحدث عن موضوع سوء معاملة الزوجات في دروسه وفي العديد من خطب يوم الجمعة، فتفضل مشكورًا بالتحدث عن هذا الموضوع مبرزًا ما يلي:
جـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فلا يوجد دين كرم المرأة وأنصفها مثل الإسلام. لقد كرمها باعتبارها إنسانًا، وكرمها باعتبارها ابنة، وكرمها باعتبارها زوجة، وكرمها باعتبارها أما، وكرمها باعتبارها عضوا في المجتمع.
وأنكر على الجاهلية التي أهانتها إلى حد أن وأدتها بنتًا، وورثتها زوجة كما يورث المتاع والدواب.
بناء الحياة الزوجية على دعائم راسخة:
والمتدبر للقرآن الكريم يجد أنه أقام الحياة الزوجية على دعائم راسخة من السكون والمودة والرحمة، وهي التي دل عليها قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). (الروم: 21).
كما عبر القرآن الكريم عن نوع العلاقة بين الزوجين بقوله سبحانه:(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) (البقرة: 187).بكل ما تحمله كلمة " لباس " وتوحي به من معاني الستر والوقاية والدفء والزينة التي يوفرها كل منهما لصاحبه.
إن حاجة كل من الرجل والمرأة إلى الآخر حاجة فطرية.(2/334)
فقد خلقهما الله بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، تبعًا لسنة الله الكونية العامة القائمة على ازدواج المخلوقات كلها ابتداء من الذرة إلى المجرة: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). (الذاريات: 49).
من أجل هذا حين خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، لم يدعه وحده، بل خلق له من جنسه زوجًا تؤنس وحشته، ويستكمل بها وجوده، وتوجه إليهما الخطاب الإلهي معا: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة..). (البقرة: 35).
وفكرة الإسلام كما يوضحها القرآن أن المرأة ليست خصمًا للرجل ولا منافسًا له، وكذلك الرجل بالنسبة للمرأة، بل كل منهما مكمل للآخر لا تتم حياته إلا به.
وهذا معنى قول القرآن: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). (آل عمران: 195).
ومعنى: (بعضكم من بعض) أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة، فلا خصومة ولا تناقض بينهما، بل تكامل وتناسق وتعاون.
لا يقبل الإسلام إهانة الزوجة:
ومن هنا لا يقبل الإسلام أن تقوم الحياة الزوجية على إهانة المرأة، أو الإساءة إليها بقول أو فعل، فلا يجوز بحال أن تسب أو تشتم وخصوصًا أمام أطفالها، بل إن الإسلام يمنع سب الحيوانات والجمادات، فكيف بالإنسان؟ وكيف بالزوجة التي هي ربة بيته، وشريكة حياته، وأم أولاده، وأقرب الناس إليه؟؟.
لقد شدد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- على امرأة لعنت ناقتها فأمر أن تترك الناقة ولا يستخدمها أحد، وحرمت منها صاحبتها، ردعًا لها على سبها ولعنها للناقة، فكيف بلعن الإنسان المسلم وسبه؟!.
رخصة الضرب وحدودها:
وأشد من ذلك الضرب: فلا يجوز ضرب المرأة بحال، إلا في حالة أوجبتها الضرورة وهي " حالة النشوز " والتمرد على الرجل. وعصيان أمره فيما هو من حقوق الزوجية وإشعاره بالتعالي عليه وهي ضرورة تقدر بقدرها.(2/335)
وهو تأديب مؤقت رخص فيه القرآن بصفة استثنائية عندما تخفق الوسائل الأخرى من الوعظ والهجر في المضجع كما قال تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليًا كبيرًا). (النساء 34).
وفي آخر الآية وعيد للرجال الذين يتطاولون على نسائهم المطيعات، فالله تعالى أعلى منهم وأكبر.
ورغم هذه الرخصة للضرورة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" ولن يضرب خياركم ".
فخيار الناس لا يضربون نساءهم، بل يعاملونهن باللطف والرقة وحسن الخلق. وخير مثال لذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال:" خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ".
وقد عرف من سيرته الثابتة -صلى الله عليه وسلم-: أنه لم يضرب امرأة قط، بل لم يضرب خادمًا ولا دابة في حياته!.
وقد استشنع عليه الصلاة والسلام من الرجل أن يضرب امرأته، إذ كيف يضربها أول النهار ويضاجعها آخره؟!.
وإذا أفلت زمام الرجل مرة، فامتدت يده إلى امرأته في ساعة غضب، فالواجب أن يبادر إلى مصالحتها وإرضائها.. فهذا من مكارم الأخلاق التي يجب أن تسود الأسرة المسلمة.
أما ضرب الزوجة أو شتمها أمام أطفالها فهو أمر لا يليق بمسلم يعرف أوليات دينه، ويعلم أنه راع ومسئول عن رعيته، وهو خطأ ديني وخلقي وتربوي لا ينتج إلا الضرر على الفرد والأسرة والمجتمع.
لقد قال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-:" لن يضرب خياركم " ومفهومه أن الذين يضربون نساءهم هم الأشرار والأراذل من الناس، ومن ذا يقبل أن يكون منهم؟ نسأل الله الهداية والتوفيق.
هذا والله أعلى وأعلم.
حق الزوجة الكارهة.
السؤال هنا أثاره جماعة ممن عرفوا الكثير عن ثقافة الغرب، وسمعوا القليل المشوه عن تعاليم الإسلام، قالوا :(2/336)
س : أمن العدل أن يوضع في يد الرجل سيف الطلاق يسلطه على عنق المرأة متى شاء وكيف شاء، دون جزاء لمتحيف أو عقوبة لجائر، على حين أن المرأة لا تملك الطلاق، بل لا يجوز لها أن تطلبه، لأن طلب الطلاق عليها حرام !! فإذا كرهت الزواج وأكل قلبها البغض له، والنفور منه، فرض عليها أن تعاشره كرهًا، وتنقاد له قسرًا، فإن أبت دعت إلى "بيت الطاعة " دعا، كأنها متهم يقاد إلى قفص، أو مجرم يساق إلى سجن ! فأين العدالة في هذا التشريع ؟ وأين التوازن بين الحقوق والواجبات لكل من الجنسين ؟!.
جـ : هكذا وضع هؤلاء الإسلام في قفص الاتهام، وحكموا عليه، دون أن يسألوه رأيه، أو يحاولوا معرفة حكمه من مصادره اليقينية : القرآن والسنة الصحيحة، ودون أن يفقهوا نظرة الإسلام إلى الزواج في إنشائه واستمراره وإنهائه، إن قضت الظروف بإنهائه.
إن الزواج في شريعة الإسلام عهد متين، وميثاق غليظ ربط الله به بين رجل وامرأة، أصبح كلاهما يسمى به " زوجًا " بعد أن كان " فردًا " . هو في العدد " فرد "، وفي ميزان الحقيقة " زوج " ؛ لأنه يمثل الآخر، ويحمل في حناياه آلامه وآماله معًا.
رباط أقامه الله على ركائز من السكن والمودة والرحمة، وجعله آية من آياته في كونه كخلق الإنسان من تراب، وخلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، وقد صور القرآن مدى هذا الرباط بين الزوجين فقال : " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " وفي هذه العبارة ما فيها من الإيحاء بمعاني الستر والوقاية والزينة والدفء، يحققها كل منهما لصاحبه.
هذا الرباط الوثيق الذي نسجت خيوطه بعد بحث وتعب، وتعرف وخطبة، ومهر وزفاف وإعلان - ليس من اليسير على شريعة حكيمة أن تتهاون في نقضه وحل عقدته، وفصم عراه، لأدنى مناسبة، وأوهى سبب، يدعيه الرجل، أو تزعمه المرأة.(2/337)
نعم أباح الإسلام للرجل الطلاق علاجًا لا مفر منه، حين يضيق الخناق، وتستحكم حلقات الأزمة بين الزوجين - وآخر العلاج الكي كما قيل - غير أنه لم يبح له هذا إلا بعد أن يجرب وسائل العلاج الأخرى، من وعظ وهجر وتأديب وتحكيم، وبعد أن يستنفد طاقته النفسية في احتمال ما يكره، والصبر على ما لا يحب، ممتثلاً قول الله تعالى : " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئَا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا " (النساء : 19). وقول رسوله : " لا يفرك - أي لا يبغض - مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقًا رضي منها آخر ".
لم تجعل الشريعة الطلاق حقًا للرجل مطلقًا من كل قيد.
بل قيدته في الوقت بأن يكون في طهر لم يمسس زوجته فيه، فلا يكون الطلاق مشروعًا حسب السنة في وقت حيضة الزوجة، أو في الطهر الذي اتصل بها فيه الاتصال الخاص.
وقيدته بتوفر النية والعزم " إنما الطلاق عن وطر " " وإن عزموا الطلاق "، فلا طلاق في إغلاق - غضب شديد أو إكراه - ولا طلاق لقاصد الحلف بالطلاق ؛ لأن الحلف بغير الله مردود على صاحبه .
وقيدته بوجود الحاجة الشديدة إليه، وكان من التوجيهات النبوية : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق "، " لا تطلقوا النساء من غير ريبة ".
وجعلت الطلاق من غير ريبة ولا حاجة داعية مكروها أو محرمًا ؛ لأنه ضرر بنفسه وبزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة بينهما من غير حاجة إليه، فكان حرامًا كإتلاف المال، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لا ضرر ولا ضرار " (المغني لابن قدامة 7/97).(2/338)
ولم تترك الشريعة الرجل بعد الطلاق دون غرم يؤوده ويثقل كاهله، ويخوفه عاقبة عمله، فهناك دفع الصداق المتأخر، والنفقة الواجبة في العدة، وأجرة رضاع الأولاد، ونفقتهم حتى يكبروا، وهناك متعة الطلاق المندوبة عند الأكثرين، والواجبة عند بعض الأئمة من الصحابة والتابعين، كعلي بن أبي طالب، وإبراهيم النخعي وابن شهاب الزهري، وأبي قلابة والحسن وسعيد بن جبير (المحلى لابن حزم 10 /247). فقد قالوا جميعًا : لكل مطلقة متعة . وحجتهم عموم قوله تعالى : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين " (البقرة 241) ولم يحدد القرآن هذه المتعة، بل جعلها متاعًا " بالمعروف " والمعروف هنا ما تعرفه الفطر السليمة، ويقره العرف الناضج، ويرضاه أهل العلم والدين، وهو يختلف باختلاف الزمن والبيئة، وحال الزوج، وهكذا رأى الحسن وعطاء أن الله لم يجعل للمتعة حدًا معينًا، بل تركها لميسرة الرجل كما قال تعالى : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ".(البقرة : 236).
وإذا كانت شريعة الإسلام قد جعلت للرجل حق إنهاء الحياة الزوجية المنكودة بالطلاق - مع القيود التي ذكرناها - فهل فرضت على المرأة أن ترضى بوضعها في بيت زوجها أبد الدهر، مهما يكن قاسيًا غشومًا ظلومًا، ومهما انطوى قلبها على الكره له والضيق به والسخط عليه ؟!.(2/339)
أظن شريعة جعلت للمرأة حقًا ثابتًا في تزويج نفسها، وقال قرآنها في شأن النساء . " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " (البقرة : 234) . ولم تحل لأب أو جد - مهما حصف رأيه وحنا قلبه - أن يخط لابنته مصيرها بغير اختيارها وإبداء رأيها، حتى البكر العذراء الحيية لابد أن تستأذن، وأن تعبر عن إذنها ولو بالصمت، وروت كتب السنة أمثلة رد فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- زواج فتيات أجبرهن آباؤهن على التزوج بمن لا يرضين - أظن شريعة هذا سبيلها في بدء الحياة الزوجية كيف يتصور أن تفرض بقاء امرأة مع رجل لا تحبه، بل لا تطيقه بغضًا ؟ وقد قيل : إن من أعظم البلايا مصاحبة من لا يوافقك ولا يفارقك . وقال المتنبي :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد.
وقال :
واحتمال الأذى ورؤية جانيـ ـه غذاء تضوي به الأجسام.
كلا .. لقد جعلت الشريعة الإسلامية للزوجة الكارهة مخرجًا من الحياة مع زوج تنفر منه، وتنأى بجانبها عنه، فإذا كانت الكراهية من قبلها، وكانت هي الراغبة وحدها في الفراق، كان مخرجها ما عرف في لسان الفقهاء باسم " الخلع". .
غير أن الشريعة كما أمرت الرجل أن يصبر ويحتمل ويضغط على عاطفته، ولا يلجأ إلى أبغض الحلال إلا عند إلحاح الحاجة - حذرت المرأة هي الأخرى من التسرع بطلب الطلاق أو الخلع.
وفى الحديث : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " رواه أبو داود، " المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " رواه أحمد، والحديث يعني طالبات الخلع من غير ما بأس كما في الحديث السابق، أما الكارهات النافرات اللاتي يخفن أن تدفعهن الكراهية إلى إهمال حدود الله في الزوجية فلهن أن يشترين حريتهن برد ما بذل الرجال لهن من مهر أو هدية.(2/340)
قال ابن قدامة في " المغني " : (إن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك وخشيت ألا تؤدي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه ؛ لقول الله تعالى : " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " (البقرة : 229) وفي حديث رواه البخاري، قال : جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت يا رسول الله : ما أنقم عليه في خلق ولا دين إلا أني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أتردين عليه حديقته ؟ " فقالت : نعم، فردتها عليه، وأمره ففارقها . وفي رواية : فقال له : " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ...... ".
إذا ثبت هذا، فإن هذا يسمى خلعًا، لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها، قال الله تعالى : " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن "، ويسمى افتداء، لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله قال تعالى : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ). (المغني 7/51، 52).
ومن عجب أن الإسلام ضيق على الرجال في إيقاع الطلاق، وحدده بجملة حدود وربطه بمجموعة من القيود في وقته وكيفيته وعدده تضييقًا لدائرته، ولكنه أوسع للمرأة في الخلع فالطلاق في أثناء الحيض والطهر الذي مسها فيه بدعة أو باطل، ولكن الخلع في هذه الحالة - كما قال ابن قدامة - لا بأس به في الحيض والطهر الذي أصابها فيه ؛ لأن المنع من الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما . ولذلك لم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- المختلعة عن حالها، لأن ضرر تطويل العدة عليها، والخلع يحصل بسؤالها، فيكون ذلك رضاء به ودليلا على رجحان مصلحتها فيه. (انظر المغني 7/ 51، 52).(2/341)
وعلى هذا فإذا ساءت العشرة بين الزوجين، وكانت المرأة هي النافرة الكارهة، وأبى زوجها أن يطلقها، فلها أن تعرض عليه الخلع، وترد عليه ما أخذته منه، ولا ينبغي أن يزداد، فإن قبل فقد حلت العقدة ويغني الله كلا من سعته.
وبعض الفقهاء يشترطون رفع ذلك إلى الحاكم، وبعضهم لا يشرطون، أما إذا رفض الزوج، وأصر على مضايقتها وإكراهها على الحياة في كنفه فللقاضي المسلم أن ينظر في الأمر ويستوثق من حقيقة عاطفتها وصدق كراهيتها، ثم يجبر الزوج على قبول العوض، ويحكم بينهما (سواء اعتبر هذا التفريق فسخًا أم طلاقًا بائنًا على اختلاف المذاهب ) غير أنه لا يحل للرجل أن يضار المرأة، ويضيق عليها لتفتدي نفسها منه، مادام هو الذي يكرهها، ويريد استبدال غيرها بها قال تعالى : " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا ". (النساء : 20).
فهل تريد المرأة نصفة أكثر من هذا ؟ إن الزوج يكره، فيطلق، فيضيع عليه ما أنفق من قبل، ويلزم بالنفقة والمتعة من بعد، فهل تريد المرأة أن تكرهه فيطلقها الزوج الذي قد يكون محبًا لها، ليزداد غرمًا على غرم : غرم الفراق على كره، وغرم النفقة - فيجمع بين الحشف وسوء الكيلة، كما قال العرب، أو بين الموت وخراب الديار كما تقوله العامة.
إذا رفضت المرأة أن تفدي نفسها من الزوج الذي لا تطيقه بغضًا، وأصرت على أن يفارقها دون تضحية منها، فهل يلام الرجل إذا دعاها باسم القانون وسلطان الشرع إلى بيت الزوجية أو " بيت الطاعة " ؟.
إن كل حق يقابله واجب، وكل واجب يقابله حق، وقد أعطى الإسلام الرجل حق الطلاق بإزاء ما كلفه من واجبات المهر والنفقة قبل الطلاق، وتبعات بالنفقة والمتعة بعد الطلاق فضلا عن الأسباب الفطرية التي تجعل الرجل أبصر بالعواقب وأكثر حكمة وأناة.(2/342)
وليس من العدالة أن تعطى المرأة حق التخلي عن الزوج وهدم الحياة الزوجية والإتيان على بيتها من القواعد، دون أن تتكلف شيئَا يهون على الرجل خطبه في فراقها، ويسهل عليه مهمة البحث عن غيرها، وهي في الواقع لا تتكلف شيئَا غير ما بذله الرجل من قبل مهرًا قل أو كثر وهدايا ثمينة أو رخيصة . هذا إذا هبت ريح البغض من قبل المرأة.
أما إذا كان الشقاق من الطرفين، وكانت الكراهية متبادلة بينهما، ولم يطلق الرجل فهناك مخلص آخر للمرأة عن طريق الحكمين، أو " المجلس العائلي " الذي قال الله في شأنه : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها " (النساء 35) الآية وهذا بناء على أنهما حاكمان يملكان التفريق والتجميع، كما هو قول أهل المدينة ومالك وأحمد في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه . قال ابن القيم : (وهذا هو الصحيح، والعجب كل العجب ممن يقول : هما وكيلان لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين وجعل نصبهما إلى غير الزوجين... إلى أن قال : وبعث عثمان بن عفان ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، فقال لهما : إن رأيتما أن تفرقا فرقتما . وصح عن على بن أبي طالب مثله، قال : فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم جعلوا الحكم إلى الحكمين، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف ).(انظر : زاد المعاد 4/ 33، 34 فصل " في الشقاق يقع بين الزوجين ").
كلمة أخيرة نقولها لهؤلاء المتاجرين والمتاجرات بقضايا المرأة :
إن الشريعة لا تحابي رجلاً على امرأة ولا امرأة على رجل، إن الشريعة لم تضعها لجنة من الرجال حتى تتحيز ضد النساء، ولكن وضعها الذي : " خلق الزوجين الذكر والأنثى " (النجم : 45) . " والله يعلم المفسد من المصلح " (البقرة : 220)، " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ". (تبارك : 14).
الزيادة في الخلع على ما أعطى الزوج للمرأة.(2/343)
س : تمت خطبة ابنتي، وبناء على رغبة الخاطب عمل عقد شرعي - عرفي - حتى يتيسر له الجلوس إليها دونما حرج خلال فترة الخطبة، للتعارف وحتى يطمئن كل منهما لصاحبه . على أن يتم عمل العقد النهائي الموثق قبيل الزفاف أو مع الزفاف . ثم حدث خلاف أدى إلى نفور ابنتي، وكرهت إتمام الزواج، ورغبت مخالعة زوجها مقابل رد ما دفعه لها، ووكلتني بإنجاز الخلع . فبعثت إليه رسالة بطلب الخلع، وأرفقت بها شيكًا بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه، وهو نفس المبلغ الذي سبق أن قدمه لابنتي . لكن الزوج كتب إلى رسالة طلب فيها (مائة ألف جنيه ) كافتداء من ابنتي لنفسها ! فرجوت أحد العلماء الفضلاء بالتوسط لدى الزوج، ولكن الزوج أصر على طلب المائة ألف جنيه، رغم محاورة الوسيط له، فعرضت عليه التحكيم . وتم اجتماع الحكمين - حكم من أهله وحكم من أهلها - لكنهما لم يتفقا على رأي واحد . حيث عرض الحكم من قبل الزوجة الافتداء بما قدم ومثله معه - أي ضعف المبلغ ستة آلاف جنيه - وكان ذلك محاولة منه لحسم الخلاف، برغم اقتناعه بعدم جواز الزيادة عما قدم الزوج، كما أصر الحكم من قبل الزوج على أن يكون الافتداء بعشرين ألف جنيه . ووقف الأمر عند هذا الحد . وقد مضى الآن على طلب الزوجة للخلع حوالي ستة أشهر.
فماذا ترون حلاً لهذا الإشكال الذي يتمثل في تعنت الزوج وتعسفه في استعمال حقه في إقرار الخلع، مع العلم أن القاعدة في مثل هذه العقود العرفية ألا تسمع فيها الدعوى أمام القضاء لعدم توثيقها.
وحاليًا يتقدم عدد من الخطاب لابنتي، ولا ندري ماذا نصنع وهي الآن كالمعلقة .
جـ : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد : يريد الإسلام للحياة الزوجية أن تبقى وتدوم ما بقيت دعائمها الأساسية قائمة، وهي السكون والمودة والرحمة، فإن فقدت فلا معنى لفرض الصحبة بالإكراه.(2/344)
ولهذا أعطي للرجل حق إنهاء الحياة الزوجية بالطلاق، وأعطي في مقابله للمرأة حق إنهائها بالخلع، وذلك عند تعذر الوفاق في كلا الحالين . وفي هذا قيل : إن لم يكن وفاق ففراق . وهنا يؤكد القرآن أن يكون الفراق بالمعروف، إذا لم تمكن المعاشرة بالمعروف .ويحذر من المضارة والعضل الذي ينافي أخلاقية الإنسان المسلم، والذي قد يدفع إليه الغضب وحب الانتقام أو حب المال . يقول تعالى : " فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا " (البقرة : 231)، ويقول : " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " (الطلاق : 6) ويقول : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ". (النساء : 19).
وقد ثبتت مشروعية الخلع بالقرآن والسنة والإجماع.
فأما القرآن فقد قال تعالى في سورة البقرة : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئَا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ". (البقرة : 229).
وأما السنة فقد جاء فيها عدة أحاديث صحاح في قضية امرأة ثابت بن قيس وغيرها . فقد قالت : يا رسول الله، ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام - تقصد كفر العشير - فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أتردين عليه حديقته " ؟ - وكان قد أعطاها لها صداقًا - قالت : نعم . قال : " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ". (الحديث رواه البخاري وغيره عن ابن عباس . وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في تكييف الخلع : أهو طلاق أم فسخ ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه فسخ وهو مذهب ابن عباس، وبعض الأحاديث يدل على أنه طلاق . فليراجع في كتب الفقه المقارن).
وأما الإجماع فقد اتفقت المذاهب جميعها، والفقهاء كلهم على مشروعية الخلع.(2/345)
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية (229) من سورة البقرة : (إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئَا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ... " الآية ).
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد ذكر ابن كثير هنا الحديث الذي رواه ابن جرير والترمذي وأبو داود عن ثوبان مرفوعًا : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة ". (رواه أبو داود (2226) والترمذي (1187 ) وابن ماجة (2055) وأحمد والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2 / 200 وابن حبان كما في الموارد 1123).
قال ابن كثير : (ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف : إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية .... فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدمه ). (تفسير ابن كثير 1/ 272، 273 ط . دار إحياء التراث العربي، بيروت).
لهذا كان طلب الزوجة في القضية المعروضة مخالعتها من زوجها طلبًا لحق شرعي ثابت لها بيقين، وكانت استجابة الزوج بالموافقة على مبدأ الخلع استجابة لما يوجبه الشرع في هذه الحالة.
بقى البحث فيما طلبه الزوج من مبلغ ضخم يدفعه له ولي الزوجة يزيد عما دفعه من مهر بأكثر من ثلاثين ضعفًا، حيث دفع ثلاثة آلاف (3000) جنيه وهو يطلب مائة ألف (000 100) جنيه ومدى شرعية هذا الطلب . وقد نزل به الحكم الذي يمثله إلى عشرين ألفًا (000 20) جنيه.
والذي يتتبع النصوص الواردة في القرآن والسنة، ويتتبع أقوال الفقهاء والشراح في فهمها والاستنباط منها، يتبين له ما يلي :
1 - أن الراجح بل الصحيح الذي تدل عليه النصوص : أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .(2/346)
فالقرآن الكريم يربط الافتداء بما آتاه الزوج لا بأكثر منه حيث يقول : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئَا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " أي فيما افتدت به مما آتيتموهن.
بل نرى القرآن نهى عن " العضل " الذي عرف في الجاهلية، وهو إمساك المرأة ضرارًا لتفدي نفسها ببعض ما أخذت من زوجها، يقول تعالى : " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ". (النساء : 19).
والسنة قد ورد فيها ما رواه النسائي وابن ماجة والبيهقي، أنه -صلى الله عليه وسلم- " أمر ثابت بن قيس أن يأخذ من زوجته الكارهة حديقته - التي دفعها إليها مهرًا - ولا يزداد ".
وفي حديث رواه الدارقطني بإسناد صحيح (كذا في منتقى الأخبار وشرحه : نيل الأوطار، وقال الحافظ في الفتح : رجال إسناده ثقات) : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها : " أتردين عليه حديقته التي أعطاك " ؟ قالت : نعم وزيادة . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " أما الزيادة فلا ولكن حديقته " . قالت نعم . فأخذها له وخلى سبيلها.
وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن على أنه قال : " لا يأخذ منها فوق ما أعطاها ".
وعن طاووس وعطاء والزهري مثله . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق . .
وعن ميمون بن مهران : من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرح بإحسان.
بل قال سعيد بن المسيب : ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها، ليدع لها شيئًا.
وأجاز مالك للرجل أن يأخذ أكثر مما أعطى قال : لكنه ليس من مكارم الأخلاق . وقد نسب هذا القول إلى الجمهور، وهي نسبة تحتاج إلى تحقيق . على أن العبرة بالدليل، ولا دليل على الجواز، إلا حديث ضعيف الإسناد، وليس فيه حجة، كما قال الشوكاني.(2/347)
2- على أن الذين أجازوا الزيادة، إنما ذكروا ذلك فيما بذلته المرأة عن طيب نفس منها، لتخلص نفسها من سوء عشرة الزوج . ولهذا يدور البحث كله حول : هل يحل له أخذ الزيادة أم لا ؟ أما مطالبة المرأة بزيادة على ما أخذ، فهذا لم يذكروه قط، ولم يدر بخلد أحدهم، والأصل في أموال الناس الحرمة، ولا يحل لأحد مال أحد إلا بطيب نفس منه . فلا يكون الضغط على المرأة والضرار لها، لتفتدي نفسها بأكثر مما أخذت إلا لونًا من العضل والظلم الذي يحرمه الإسلام، وقد فاق عضل الجاهلية، لأنهم كانوا يعضلون النساء ليذهبوا ببعض ما آتوهن، وهؤلاء لم يكفهم كل ما آتوهن، فأرادوا الزيادة عليه !!.
3 - ثم إن العوض الذي يطلبه الزوج لافتداء المرأة، إنما يطلب منها هي لا من أب، ولا ولي، ولهذا قال القرآن : " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " فهي التي تفتدي نفسها من مالها الذي في يدها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال لامرأة ثابت : " أتردين عليه حديقته " ؟ فالمرأة هي صاحبة الشأن، ولا يجوز بحال أن يطلب الزوج من وليها أن يدفع لها من ماله، ويعتبر ذلك حقًا له، إلا أن يتبرع متبرع إن شاء.
4 - على أن مفهوم الزيادة - لو افترضنا مبدأ قبولها لغة وعرفًا - إنما يعني إضافة شئ إلى الأصل لا يبلغ مثله في الغالب، فالمرء قد يعطي الثمن ويزيد البائع، ويرد القرض ويزيد المقرض، ولا يفهم من ذلك إلا إعطاء شئ لا يبلغ مثل الأصل . أما إعطاء مثل الأصل أضعافًا مضاعفة، فلا يدخل فيما نرى في مدلول كلمة " الزيادة " عند أحد ممن يفهم اللغة ويتذوقها.
ومن هنا نقول : إن طلب الزوج لما طلب في هذه القضية (000 100) جنيه ونزول حكمه به إلى (000 20) جنيه كله مرفوض شرعًا، وهو لون من الضرار المحرم إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.(2/348)
والواجب شرعًا أن يجبر الزوج على قبول ما دفع، فإن تبرع الولي بزيادة كما هو مقترح الحكم الذي يمثله في قضيتنا، وهي زيادة تصل إلى ضعف ما دفع من مهر، فلا مانع من قبول ما تبرع به إن طابت به نفسه.
وإذا لم يكن هناك قاض يجبر الزوج المتعسف في استعمال حقه، في هذه القضية - نظرًا لعدم وجود عقد موثق معترف به لدى السلطات الشرعية - فالواجب أن يعقد مجلس - أو لجنة - من أهل العلم والدين الذين يوثق بفقههم ودينهم ويفصلوا في هذا الأمر، بحل عقدة الزواج، وخلع المرأة من هذا الزوج المضار، وإعطائه ما دفع زائدًا ما تبرع به الولي طيب النفس، ويكون حكمهم هذا بمثابة حكم المحكمة الرسمية، إذ لا يتصور أن تقف الشريعة سلبية عاجزة في مثل هذه القضية . وما دام الزواج عرفيًا، فليكن القضاء فيه عرفيًا مثله.
وبهذا الحكم تصبح الزوجة حرة، إذ لا عدة عليها، لأنه لم يدخل بها، ويتقدم لها من الخطاب من شاء.
والله ولي التوفيق.
ترشيح المرأة للمجالس النيابية.
بين الإجازة والمنع.
مكانة المرأة في الإسلام.
المرأة إنسان مكلف مثل الرجل، مطالبة بعبادة الله تعالى، وإقامة دينه، وأداء فرائضه، واجتناب محارمه، والوقوف عند حدوده، والدعوة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكل خطابات الشارع تشملها، إلا ما دل دليل معين على أنه خاص بالرجال، فإذا قال الله تعالى : " يا أيها الناس " أو " يا أيها الذين آمنوا " فالمرأة داخلة فيه بلا نزاع.
ولهذا لما سمعت أم سلمة رضي الله عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : " أيها الناس " وكانت مشغولة ببعض أمرها، هرعت لتلبية النداء، حتى استغرب بعضهم سرعة إجابتها، فقالت: لهم أنا من الناس.
والأصل العام أن المرأة كالرجل في التكليف إلا ما استثنى ؛ لقوله تعالى :" بعضكم من بعض " (آل عمران : 195) وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إنما النساء شقائق الرجال " . رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود والدارمي.(2/349)
والقرآن الكريم يحمل الجنسين الرجال والنساء جميعًا، مسئولية تقويم المجتمع وإصلاحه وهو ما يعبر عنه إسلاميًا بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) . يقول الله تعالى : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله " (التوبة : 71).
ذكر القرآن في هذا المقام سمات أهل الإيمان، بعد أن ذكر سمات أهل النفاق بقوله : " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ". (التوبة : 67).
فإذا كانت المنافقات يقمن بدورهن في إفساد المجتمع، بجانب الرجال المنافقين فإن على المؤمنات أن يقمن بدورهن في إصلاح المجتمع، بجانب الرجال المؤمنين.
وقد قامت المرأة بدورها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إن أول صوت ارتفع في تصديق النبي عليه الصلاة والسلام وتأييده، كان صوت امرأة هي خديجة رضي الله عنها، وأول شهيد في سبيل الإسلام كان امرأة، هي سمية أم عمار، رضي الله عنها.
حتى إن منهن من قاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في " أحد " و " حنين " .... وغيرهما . وحتى جاء في تراجم البخاري : " باب غزو النساء وقتالهن ".
والناظر في أدلة القرآن والسنة يجد أن الأحكام فيهما عامة للجنسين، إلا ما اقتضته الفطرة في التمييز بين الزوجين : الذكر والأنثى، وما أعد له كل منهما . فللمرأة أحكامها الخاصة بالحيض والنفاس والاستحاضة والحمل والولادة والإرضاع والحضانة ونحوها.
وللرجل درجة القوامة والمسئولية عن الأسرة، ولها عليه حق الإنفاق والرعاية.
وهناك أحكام تتعلق بالميراث، جعل فيها للذكر مثل حظ الأنثيين، والحكمة فيها واضحة، وهي مبنية على تفاوت الأعباء والتكاليف المالية بين الرجل والمرأة.(2/350)
وأحكام أخرى تتعلق بالشهادة في المعاملات المالية والمدنية، وقد جعلت شهادة المرأتين فيها كشهادة رجل . وهي أيضًا مبنية على اعتبارات واقعية وعملية روعي فيها الاستيثاق في البينات، احتياطًا لحقوق الناس وحرماتهم.
لذلك وجد من الأحكام ما تقبل فيه شهادة امرأة واحدة، كما في الولادة والرضاع.
تنبيهات مهمة :
وأود أن أنبه هنا على جملة أمور مهمة :
الأول : أننا يجب ألا نلزم أنفسنا إلا بالنصوص الثابتة الصريحة الملزمة.
أما ما لا يثبت من النصوص كالأحاديث الضعيفة، أو ما كان محتملا في فهمه لأكثر من وجه، وأكثر من تفسير - مثلما جاء في شأن نساء النبي - فليس لأحد أن يلزم الأمة بفهم دون آخر، وخصوصًا في الأمور الاجتماعية العامة التي تعم بها البلوى، وتحتاج إلى التيسير.
الثاني : أن هناك أحكامًا وفتاوى لا نستطيع أن نفصلها عن عصرها وبيئتها . ومثلها قابل للتغير بتغير موجباته ولهذا قرر المحققون أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف.
وكثير مما يتصل بالمرأة من هذا النوع، قد أصابه التشدد والتغليظ حتى حرم عليها الذهاب إلى المسجد، برغم معارضة ذلك للنصوص الصحيحة الصريحة .ولكنهم قدموا الاحتياط وسد الذريعة على النصوص، بناء على تغير الزمان !.
الثالث : أن العلمانيين اليوم يتاجرون بقضية المرأة، ويحاولون أن يلصقوا بالإسلام ما هو براء منه، وهو أنه جار على المرأة، وعطل مواهبها وقدراتها، ويحتجون لذلك بممارسات بعض العصور المتأخرة، وبأقوال بعض المتشددين من المعاصرين.
أدلة من ذهبوا إلى تحريم دخول المرأة المجالس النيابية والرد عليها:
على هذا الأساس يجب أن ننظر في موضوع دخول المرأة في " مجلس الشعب " أو الشورى، ومشروعية ترشيحها، ومشروعية انتخابها لهذه المهمة في ضوء الأدلة الشرعية.(2/351)
فمن الناس من يرى ذلك حرامًا وإثمًا مبينًا، ولكن التحريم لا يثبت إلا بدليل لا شبهة فيه . والأصل في الأشياء والتصرفات الدنيوية الإباحة، إلا ما قام الدليل على حرمته، فما الدليل على التحريم، الذي يسوقه هؤلاء؟.
آية : " وقرن في بيوتكن " :
بعضهم يستدل هنا بقوله تعالى : " وقرن في بيوتكن " فلا يجوز للمرأة أن تدع بيتها إلا لضرورة أو حاجة.
وهذا الدليل غير ناهض :
أولا : لأن الآية تخاطب نساء النبي كما هو واضح من السياق، ونساء النبي لهن من الحرمة وعليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن . ولهذا كان أجر الواحدة منهن إذا عملت صالحًا مضاعفًا، كما جعل عذابها إذا أساءت مضاعفًا أيضًا.
وثانيًا : أن أم المؤمنين عائشة، مع هذه الآية، خرجت من بيتها، وشهدت " معركة الجمل " استجابة لما تراه واجبًا دينيًا عليها، وهو القصاص من قتلة عثمان . وإن أخطأت التقدير فيما صنعت.
وثالثًا : أن المرأة قد خرجت من بيتها بالفعل، وذهبت إلى المدرسة والجامعة، وعملت في مجالات الحياة المختلفة، طبيبة ومعلمة ومشرفة وإدارية وغيرها، دون نكير من أحد يعتد به، مما يعتبره الكثيرون إجماعًا على مشروعية العمل خارج البيت للمرأة بشروطه.
ورابعًا : أن الحاجة تقتضي من " المسلمات الملتزمات " أن يدخلن معركة الانتخاب في مواجهة المتحللات والعلمانيات اللائي يزعمن قيادة العمل النسائي، والحاجة الاجتماعية والسياسية قد تكون أهم وأكبر من الحاجة الفردية التي تجيز للمرأة الخروج إلى الحياة العامة.
وخامسًا : أن حبس المرأة في البيت لم يعرف إلا أنه كان في فترة من الفترات - قبل استقرار التشريع - عقوبة لمن ارتكبت الفاحشة : " فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " (النساء : 15) فكيف يظن أن يكون هذا من الأوصاف اللازمة للمرأة المسلمة في الحالة الطبيعية ؟.
سد الذرائع :(2/352)
وهناك من ينظر إلى الأمر من زاوية أخرى، هي زاوية " سد الذرائع " . فالمرأة عندما ترشح للبرلمان، ستتعرض في أثناء الدعاية الانتخابية للاختلاط بالرجال وربما الخلوة بهم، وهذا حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.
ولا شك أن سد الذرائع مطلوب، ولكن العلماء قرروا أن المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها، وقد يترتب عليها ضياع مصالح كثيرة، أكبر بكثير من المفاسد المخوفة.
وهذا الدليل يمكن أن يستند إليه من يرى منع المرأة من الإدلاء بصوتها في الانتخاب خشية الفتنة والفساد، وبهذا تضيع على أهل الدين أصوات كثيرة، كان يمكن أن تكون في صفهم ضد اللادينيين .... ولا سيما أن أولئك يستفيدون من أصوات النساء المتحللات من الدين.
وقد وقف بعض العلماء يومًا في وجه تعليم المرأة، ودخولها المدارس والجامعات من باب سد الذرائع حتى قال بعضهم : تعلم القراءة لا الكتابة ! حتى لا تستخدم القلم في كتابة الرسائل الغرامية ونحوها ! ولكن غلب التيار الآخر ووجد أن التعلم في ذاته ليس شرًا، بل ربما قادها إلى خير كثير.
ومن هنا نقول : إن المسلمة الملتزمة - إذا كانت ناخبة أو مرشحة - يجب أن تتحفظ في ملاقاتها للرجل من كل ما يخالف أحكام الإسلام، من الخضوع بالقول، أو التبرج في الملبس، أو الخلوة بغير محرم، أو الاختلاط بغير قيود . وهو أمر مفروغ منه من قبل المسلمات الملتزمات.
المرأة والولاية على الرجل :
وهناك من يستدلون على منع المرأة من الترشيح للمجلس النيابي بأن هذا ولاية على الرجال، وهي ممنوعة منها بل الأصل الذي أثبته القرآن الكريم أن الرجال قوامون على النساء، فكيف نقلب الوضع وتصبح النساء قوامات على الرجال ؟.
وأود أن أبين هنا أمرين :(2/353)
الأول : أن عدد النساء اللائي يرشحن للمجلس النيابي محدود، وستظل الأكثرية الساحقة للرجال، وهذه الأكثرية هي التي تملك القرار، وهي التي تحل وتعقد فلا مجال للقول بأن ترشيح المرأة للمجلس سيجعل الولاية للنساء على الرجال!.
الثاني : أن الآية الكريمة التي ذكرت قوامية الرجال على النساء، إنما قررت ذلك في الحياة الزوجية، فالرجل هو رب الأسرة، وهو المسئول عنها، بدليل قوله تعالى : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم " (النساء : 34) فقوله : " بما أنفقوا من أموالهم " يدلنا على أن المراد القوامة على الأسرة، وهي الدرجة التي منحت للرجال في قوله تعالى : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة ". (البقرة : 228).
ومع قوامية الرجل على الأسرة، ينبغي أن يكون للمرأة دورها، وأن يؤخذ رأيها فيما يهم الأسرة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في مسألة فطام الرضيع : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ". (البقرة : 233).
وكما جاء في الحديث الذي رواه أحمد : " آمروا النساء في بناتهن " أي استشيروهن في أمر زواجهن .
أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال - خارج نطاق الأسرة - فلم يرد ما يمنعه، بل الممنوع هو الولاية العامة للمرأة على الرجال.(2/354)
والحديث الذي رواه البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " إنما يعني الولاية العامة على الأمة كلها أي رئاسة الدولة، كما تدل عليه كلمة (أمرهم) فإنها تعني أمر قيادتهم ورياستهم العامة . أما بعض الأمر فلا مانع أن يكون للمرأة ولاية فيه، مثل ولاية الفتوى أو الاجتهاد، أو التعليم أو الرواية والتحديث أو الإدارة ونحوها، فهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع، وقد مارسته على توالي العصور . حتى القضاء أجازه أبو حنيفة فيما تشهد فيه، أي في غير الحدود والقصاص، مع أن من فقهاء السلف من أجاز شهادتها في الحدود والقصاص كما ذكر ابن القيم في " الطرق الحكمية " . وأجازه الطبري بصفة عامة، وأجازه ابن حزم، مع ظاهريته، وهذا يدل على عدم وجود دليل شرعي صريح يمنع من توليها القضاء، وإلا لتمسك به ابن حزم، وجمد عليه، وقاتل دونه كعادته.
وسبب ورود الحديث المذكور يؤيد تخصيصه بالولاية العامة، فقد بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفرس بعد وفاة إمبراطورهم، ولوا عليهم ابنته بوران بنت كسرى، فقال : " لن يفلح قوم .... " الحديث.
شبهة وردها :
ومن الشبهات التي أثارها بعض المعارضين لترشيح المرأة في المجلس النيابي قولهم : إن عضو المجلس أعلى من الحكومة نفسها، بل من رئيس الدولة نفسه، لأنها - بحكم عضويتها في المجلس - تستطيع أن تحاسب الدولة ورئيسها . ومعنى هذا أننا منعناها من الولاية العامة، ثم مكناها منها بصورة أخرى.
وهذا يقتضي منا إلقاء الضوء بالشرح والتحليل لمفهوم العضوية في المجلس الشورى أو النيابي.
مهمة عضو المجلس النيابي :
ومن المعلوم أن مهمة المجالس النيابية في الأنظمة الديمقراطية الحديثة ذات شقين، هما : المحاسبة والتشريع .
وعند تحليل كل من هذين المفهومين يتضح لنا ما يأتي :
معنى المحاسبة :(2/355)
المحاسبة أو المراقبة في تحليلها النهائي حسب المفاهيم الشرعية، ترجع إلى ما يعرف في المصطلح الإسلامي بـ " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " وبـ"النصيحة في الدين" وهي واجبة لأئمة المسلمين وعامتهم.
والأمر والنهي والنصيحة مطلوبة من الرجال والنساء جميعًا . والقرآن الكريم يقول بصريح العبارة : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ".
والرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال - فيما رواه مسلم - " الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم " لم يجعل ذلك مقصورًا على الرجال وحدهم .
ولقد رأينا المرأة ترد على أمير المؤمنين عمر في المسجد، فيرجع عن رأيه إلى رأيها، ويقول : " أصابت المرأة وأخطأ عمر " . كما رواه ابن كثير وجود إسناده.
وقد استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أم سلمة في غزوة الحديبية فأشارت عليه بالرأي السديد، وقد بادر إلى تنفيذه، فكان من ورائه الخير.
وما دام من حق المرأة أن تنصح وتشير بما تراه صوابًا من الرأي، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتقول : هذا صواب وهذا خطأ، بصفتها الفردية فلا يوجد دليل شرعي يمنع من عضويتها في مجلس يقوم بهذه المهمة .والأصل في أمور العادات والمعاملات الإباحة إلا ما جاء في منعه نص صحيح صريح . وما يقال من أن السوابق التاريخية في العصور الإسلامية، لم تعرف دخول المرأة في مجالس الشورى، فهذا ليس بدليل شرعي على المنع، فهذا مما يدخل في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال . والشورى لم تنظم في تلك العصور تنظيمًا دقيقًا لا للرجال ولا للنساء، وهي من الأمور التي جاءت فيها النصوص مجملة مطلقة، وترك تفصيلها وتقييدها لاجتهاد المسلمين، حسب ظروفهم الزمانية والمكانية وأوضاعهم الاجتماعية.
وإذا كان فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمجرده لا يدل على أكثر من الإباحة، فكيف بفعل غيره ممن لا عصمة له؟.(2/356)
ونحن الآن نتيح للمرأة أعمالا لم تكن معروفة من قبل، وننشئ لها المدارس والكليات، تضم الملايين من الفتيات، وتخرج معلمات وطبيبات ومحاسبات وإداريات، وبعضهن مديرات لمؤسسات فيها رجال، فكم من معلم في مدرسة بنات تديرها امرأة، وكم من أستاذ في كليات بنات عميدتها امرأة، وكم من موظف في شركة أو مؤسسة تديرها امرأة، أو تملكها امرأة، وقد يكون زوج المرأة نفسه مرءوسًا لها في المدرسة أو الكلية أو المستشفى، أو المؤسسة التي تديرها، وهي مرءوسة له إذا عادت إلى البيت.
والقول بأن مجلس الشعب أو الشورى أو الأمة - حسب تسمياته المختلفة - أعلى مرتبة من الحكومة أو السلطة التنفيذية نفسها، ومنها رئيس الدولة، لأنه هو الذي يحاسبها، قول غير مسلم على إطلاقه.
فليس كل محاسب أعلى منزلة ممن يحاسبه، وإنما المهم أن يكون له حق المحاسبة وإن كان أدنى منه.
فمما لا ريب فيه أن أمير المؤمنين، أو رئيس الدولة أعلى منزلة، وأعلى سلطة في الدولة، ومع هذا نجد أن من حق أدنى فرد في رعيته أن ينصح له ويحاسبه ويأمره وينهاه، على نحو ما قاله الخليفة الأول : " إن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فقوموني ".
وما قال الخليفة الثاني : " من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني ".
ولا ينكر أحد أن من حق المرأة أن تحاسب زوجها - وهو القوام عليها - في شئون البيت والنفقة، وتقول له : لم اشتريت هذا ؟ ولم أكثرت من هذا ؟ وكيف لا ترعى ولدك ؟ ولم لا تصل رحمك ؟ إلى غير ذلك من مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
على أن المجلس إن كان أعلى من الحكومة - بوصفه الذي يشرع لها ويحاسبها - فذلك باعتبار مجموعة لا باعتبار كل فرد فيه، والأغلبية في المجموع للرجال .
جانب التشريع في المجلس :
والشق الثاني من مهمة مجلس الشعب يتعلق بالتشريع .(2/357)
وبعض المتحمسين يبالغون في تضخيم هذه المهمة، زاعمًا أنها أخطر من الولاية والإمارة، فهي التي تشرع للدولة، وتضع لها القوانين، لينتهي إلى أن هذه المهمة الخطيرة الكبيرة لا يجوز للمرأة أن تباشرها.
والأمر في الحقيقة أبسط من ذلك وأسهل . فالتشريع الأساسي إنما هو لله تعالى . وأصول التشريع الآمرة الناهية هي من عند الله سبحانه، وإنما عملنا نحن البشر هو استنباط الحكم فيما لا نص فيه . أو تفصيل ما فيه نصوص عامة . وبعبارة أخرى عملنا هو " الاجتهاد " في الاستنباط والتفصيل والتكييف.
والاجتهاد في الشريعة الإسلامية باب مفتوح للرجال والنساء جميعًا، ولم يقل أحد : إن من شروط الاجتهاد - التي فصل فيها الأصوليون - الذكورة . وأن المرأة ممنوعة من الاجتهاد.
وقد كانت أم المؤمنين عائشة من مجتهدات الصحابة ومن المفتيات بينهن، ولها مناقشات واستدراكات على علماء الصحابة، جمعت في كتب معروفة. (مثل كتاب الإمام الزركشي " الإجابة لاستدراكات عائشة على الصحابة " ولخصه السيوطي في كتابه " عين الإصابة ").
صحيح أنه لم ينتشر الاجتهاد بين النساء في تاريخنا انتشاره في الرجال، وذلك راجع إلى عدم انتشار العلم بين النساء، لظروف تلك العصور وأوضاعها، على خلاف ما عليه الحال اليوم ؛ فقد أصبح عدد المتعلمات من النساء مساويًا أو مقاربًا لعدد المتعلمين من الرجال، وفيهن من النوابغ ما قد يفوق بعض الرجال . والنبوغ ليس صفة للذكور، فرب امرأة أوتيت من المواهب ما يعز على بعض الرجال الحصول عليه.(2/358)
وقد حكى لنا القرآن قصة ملكة سبأ، وما أوتيت من سداد الرأي والحكمة، في موقفها من سليمان عليه السلام، منذ تلقت الرسالة من الهدهد، وكيف استشفت من رسالته الموجزة الجدية والالتزام، وكيف جمعت الملأ من أشراف قومها، على طريقتها في الحكم : " ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون " وكيف فوض الرجال الأشداء الأمر إليها مختارين، لتتصرف فيها بحكمتها : " قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ". (النمل : 33).
وكيف تصرفت بعد ذلك بمنتهى الذكاء والأناة، مع نبي الله سليمان . وحتى انتهى أمرها إلى أن أسلمت : " مع سليمان لله رب العالمين ".
وحكاية هذه القصة في القرآن الكريم ليس عبثًا . بل يدل على أن المرأة قد يكون لها من البصيرة وحسن الرأي والتدبير، في شئون السياسة والحكم ما يعجز عنه كثير من الرجال.
ومما لا جدال فيه أن ثمت أمورًا في التشريع تتعلق بالمرأة نفسها، وبالأسرة وعلاقاتها ينبغي أن يؤخذ رأي المرأة فيها، وألا تكون غائبة عنها، ولعلها تكون أنفذ بصرًا في بعض الأحوال من الرجال.
والمرأة التي ردت على عمر رضي الله عنه في المسجد، كان ردها متصلا بأمر تشريعي يتعلق بالأسرة، وهو تحديد المهور بحد أقصى، وكانت مناقشة المرأة سببًا في عدول عمر عن إصدار قانونه لتحديد الصداق.
وهناك قوانين أو قرارات أصدرها عمر رضي الله عنه كان للمرأة يد في إصدارها مثل قانون عدم تغييب الزوج في الجيش عن زوجته أكثر من ستة أشهر . فقد سأل ابنته حفصة : ما أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت أربعة أشهر أو ستة أشهر.
وكان قد أفزعه شعر تلك المرأة التي أرقتها الوحدة، وأقلقتها الوحشة، فأنشدت وهي نائمة على سريرها :
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا حبيب ألاعبه.
فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه!.(2/359)
وكذلك قانونه الذي فرض به عطاء لكل مولود في الإسلام، بعد أن كان لا يفرض إلا لمن فطمته أمه . كانت الأمهات يعجلن بفطام أطفالهن قبل الأوان، رغبة في العطاء، فلما سمع يومًا بكاء طفل متواصلا شديدًا، وسأل أمه عن سر هذا البكاء، فقالت له وهي لا تعرفه : إن أمير المؤمنين لا يفرض العطاء إلا للفطيم . لذا فطمته مبكرًا فهو يبكي.
فقال عمر : ويح عمر، كم قتل من أطفال المسلمين ! وأعلن بعدها تعميم العطاء لكل مولود.
على أننا حين نقول بجواز دخول المرأة مجلس الشعب لا يعني ذلك أن تختلط بالرجال الأجانب عنها، بلا حدود ولا قيود، أو يكون ذلك على حساب زوجها وبيتها وأولادها، أو يخرجها ذلك عن أدب الاحتشام في اللباس والمشي والحركة والكلام بل كل ذلك يجب أن يراعى بلا ريب ولا نزاع من أحد.
وهذا مطلوب من المرأة في مجلس الشعب، والمرأة في مجلس الجامعة، والمرأة في مجلس الكلية، والمرأة في عملها خارج البيت أيًا كان هذا العمل .
ومن المطلوب في دولة تراعي آداب الإسلام أن يكون للنساء موقعهن الخاص في المجلس : صفوف خاصة، أو ركن خاص لهن، أو نحو ذلك، مما يوفر لهن جوا من الطمأنينة والبعد عن أي فتنة يخافها المتوجسون.
مناقشة فتوى بتحريم الحقوق السياسية على المرأة.
بعد كتابة الصفحات السابقة حول ترشيح المرأة للمجالس النيابية أطلعني بعض الفضلاء على فتوى قديمة لبعض علماء الأزهر، انتهت إلى تحريم الحقوق السياسية كلها على المرأة، وأولها حق الانتخاب، والشهادة لمرشح بقول " نعم " أو " لا "، ومن باب أولى منعها عن الترشيح للمجالس النيابية، ما دامت قد منعت من مجرد التصويت.
موقف نساء النبي وتطلعهن إلى الزينة :
ومما استندت إليه فتوى هؤلاء المانعين للمرأة من مزاولة الحقوق السياسية قولهم :(2/360)
إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها، وهي مهمة الأمومة وحضانة النشء وتربيته، وهذه قد جعلتها ذات تأثر خاص بدواعي العاطفة.
ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها.
فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمى بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة .
وآيات من سورة الأحزاب : تشير إلى ما كان من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وتطلعهن إلى زينة الدنيا ومتعتها، ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما آتاه الله من الغنائم حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم.
لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العقل والحكمة في ذلك : " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلا . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا ". (الأحزاب : 29).
وآية أخرى من سورة التحريم : تتحدث عن غيرة بعض نسائه عليه الصلاة والسلام وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل، مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد ردهن القرآن إلى الجادة : " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكم وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ". (التحريم :4).
هذه هي المرأة في أسمى البيئات النسوية لم تسلم من التأثر الشديد بدواعي العاطفة، ولم تنهض قوتها المعنوية على مغالبة نوازع الغيرة مع كمال إيمانها ونشأتها في بيت النبوة والوحي، فكيف بامرأة غيرها لم تؤمن إيمانها ولم تنشأ نشأتها وليس لها ما تطمع به أن تبلغ شأنها أو تقارب منزلتها ؟ ! . ا هـ.
هذا ما ذكره من ذكره في شأن نساء النبي.(2/361)
ولكن فاته أن يذكر أنهن - حين خُيِّرن - اخترن جميعًا الله ورسوله والدار الآخرة .على أن تطلعهن إلى الزينة ومتاع الحياة كسائر النساء وبخاصة نساء العظماء، لا يدل على قصور عقولهن، ولا عدم صلاحيتهن للتفكير في الأمور العامة، بل هو تطلع بحكم الفطرة البشرية، والطبيعة النسوية، سرعان ما تقشعت سحابته عندما نزلت آية التخيير.
وهل برئ الرجال تمامًا من مثل هذه المواقف التي يركنون فيها فترة إلى الدنيا، ثم تدركهم الصحوة، حينما ينبههم الوحي إلى خطئهم أو غفلتهم ؟.
ألم يقل القرآن في شأن الصحابة مخاطبًا الرسول الكريم : " وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ". (الجمعة : 11).
ألم ينزل الله تعالى عقب غزوة أحد آيات يعاتب فيها أصحاب رسوله - أفضل أجيال البشر - على ما بدر منهم من عصيان أمره، وترك مواقعهم والنزول لجمع الغنائم .... مما كان من عواقبه ما كان ؟ يقول عز وجل : " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ". (آل عمران : 152).
قال ابن مسعود : " ما كنت أعلم أن فينا من يريد الدنيا، حتى نزلت هذه الآية " !.
هل يمكن أن يؤخذ من مثل هذه المواقف التي يضعف فيها بعض الرجال الأخيار وتغلب فيها أهواؤهم عقولهم : أن الرجال لا يصلحون للمهمات الكبار ؟ !.
وفي غزوة بدر يسجل القرآن على بعض المؤمنين مثل هذه المواقف قبل المعركة وبعدها، يقول تعالى : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم .. ". (الأنفال : 5 - 7).(2/362)
وبعد المعركة يقول في شأن موقفهم من الأسرى : " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ". (الأنفال : 67، 68).
إن الضعف البشري يعتري الرجال والنساء جميعًا، والعبرة بالعاقبة .
ولماذا لا يذكر هنا مشورة أم سلمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم الحديبية، وقد كان من ورائها الخير والمصلحة ؟.
بل لماذا لم يذكر ما ذكره القرآن عن امرأة حكمت قومها بالعقل، وساستهم بالحكمة وقادتهم في أحرج الأوقات إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة ؟ ألا وهي ملكة سبأ، التي لخصت لقومها ما يصنعه الفاتحون المستعمرون إذا دخلوا بلدًا بعبارة في غاية الوجازة والبلاغة : " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ". (النمل : 34).
العوارض الطبيعية للمرأة :
ويستند المانعون للنساء من التشريع بأن المرأة تعرض لها عوارض طبيعية من الدورة الشهرية وآلامها، والحمل وأوجاعه، والولادة وأسقامها، والإرضاع ومتاعبه، والأمومة وأعبائها .... كل هذا مما يجعلها غير قادرة بدنيًا ولا نفسيًا ولا فكريًا، على تحمل تبعة العضوية في مجلس يسن القوانين، ويراقب الحكومة.
ونقول : إن هذا صحيح، وليست كل امرأة صالحة للقيام بعبء النيابة، فالمرأة المشغولة بالأمومة ومتطلباتها لن تزج بنفسها في معترك الترشيح لهذه المهام، ولو فعلت لكان على الرجال والنساء أن يقولوا لها : لا أطفالك أولى بك.
ولكن المرأة التي لم ترزق الأطفال وعندها فضل قوة ووقت وعلم وذكاء، والمرأة التي بلغت الخمسين أو قاربت، ولم تعد تعرض لها العوارض الطبيعية المذكورة، وتزوج أبناؤها وبناتها، وبلغت من نضج السن والتجربة ما بلغت، وعندها من الفراغ ما يمكن أن تشغله في عمل عام . ما الذي يمنع من انتخاب مثلها في مجلس نيابي، إذا توافرت فيها الشروط الأخرى، التي يجب أن تتوفر في كل مرشح، رجلا كان أو امرأة ؟.(2/363)
آية : " وقرن في بيوتكن " :
وقد استدلت الفتوى على منع المرأة من الترشيح للانتخاب بقوله تعالى : (وقرن في بيوتكن ) (الأحزاب : 33) وقد ناقشنا ذلك من قبل ونزيده بيانًا، فنقول: .
من المعلوم الذي لا ينازع فيه أحد أن الآية خطاب لنساء النبي، كما يدل على ذلك السياق . ونساء النبي لهن أحكام خاصة من حيث مضاعفة العذاب لمن تأتي بفاحشة مبينة، ومضاعفة الأجر لمن تعمل صالحًا، وتحريم نكاحهن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . وقد قال القرآن في نفس السياق : " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ".
ولهذا أجاز المسلمون من غير نكير للمرأة في عصرنا أن تخرج من بيتها للتعلم في المدرسة، ثم في الجامعة، وأن تذهب إلى السوق، وأن تعمل خارج بيتها معلمة وطبيبة وممرضة، وغير ذلك من الأعمال المشروعة، في إطار الشروط والضوابط الشرعية.
على أن الآية الكريمة : " وقرن في بيوتكن " لم تمنع أم المؤمنين، أفقه نساء الأمة، عائشة رضي الله عنها، أن تخرج من بيتها، بل من المدينة المنورة، وأن تسافر إلى البصرة على رأس جيش فيه الكثير من الصحابة، وفيهم اثنان من العشرة المبشرين بالجنة، ومن الستة المرشحين للخلافة، أصحاب الشورى : طلحة والزبير، تطالب بما تعتقد أنه حق وصواب، من المبادرة بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه.
وما يقال من أنها ندمت على هذا الخروج، فهذا ليس لأن خروجها كان غير مشروع، بل لأن رأيها في السياسة كان خطأ . وهذا أمر آخر.
على أن بعضهم اتخذ من آية : " وقرن في بيوتكن " حجة عامة على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج من بيتها إلا لضرورة أو حاجة تنزل منزلة الضرورة، حتى التعليم في المدرسة والجامعة توقفوا فيه ! ولا عجب أن حرموا عليها أن تشترك في الانتخابات بالتصويت، بأن تقول " نعم " أو " لا ".(2/364)
وبهذا يعطل نصف الأمة عن الشهادة في هذا الجانب المهم .؟ وإن شئت التعبير عن الواقع، قلت : تعطل الصالحات من النساء عن أداء هذه الشهادة، على حين تذهب الأخريات لإعطاء أصواتهن للعلمانيين والمعادين لشريعة الإسلام.
وقد نسي هؤلاء أن بقية الآية الكريمة تدل بمفهومها على شرعية الخروج للمرأة من بيتها إذا التزمت الحشمة والأدب ولم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، فالنهي عن التبرج يفيد أن ذلك خارج البيت، فالمرأة في بيتها لا حرج عليها أن تتزين وتتبرج، فالتبرج المنهي عنه إذن لا يكون إلا خارج البيت.
حديث : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " :
ومما استندت إليه الفتوى المذكورة في منع المرأة أن تكون ناخبة أو عضوا في مجلس نيابي الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بلغه أن الفرس ولوا على ملكهم بنت كسرى بعد موته، قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ".
ولنا مع هذا الاستدلال وقفات :
الأولى : هل يؤخذ الحديث على عمومه أو يوقف به عند سبب وروده ؟.
على معنى أنه أراد أن يخبر عن عدم فلاح الفرس، الذين فرض عليهم نظام الحكم الوراثي أن تحكمهم بنت الإمبراطور، وإن كان في الأمة من هو أكفأ منها وأفضل ألف مرة ؟.
صحيح أن أغلب الأصوليين قالوا : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن هذا غير مجمع عليه، وقد ورد عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما ضرورة رعاية أسباب النزول، وإلا حدث التخبط في الفهم، ووقع سوء التفسير، كما تورط في ذلك الحرورية من الخوارج وأمثالهم، الذين أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين فعمموها على المؤمنين. (وللشاطبي بحث مفيد في ذلك في كلامه عن "القرآن" في "الموافقات").
فدل هذا على أن سبب نزول الآية ومن باب أولى سبب ورود الحديث، يجب أن يرجع إليه في فهم النص، ولا يؤخذ عموم اللفظ قاعدة مسلمة.(2/365)
يؤكد هذا في هذا الحديث خاصة : أنه - لو أخذ على عمومه - لعارض ظاهر القرآن، فقد قص علينا القرآن قصة امرأة قادت قومها أفضل ما تكون القيادة، وحكمتهم أعدل ما يكون الحكم، وتصرفت بحكمة ورشد أحسن ما يكون التصرف، ونجوا بحسن رأيها من التورط في معركة خاسرة، يهلك فيها الرجال، وتذهب الأموال، ولا يجنون من ورائها شيئَا.
تلك هي بلقيس التي ذكر الله قصتها في سورة النمل مع نبي الله سليمان، وانتهى بها المطاف إلى أن قالت : (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين). (النمل : 44).
كما يؤكد صرف الحديث عن العموم : الواقع الذي نشهده، وهو أن كثيرًا من النساء قد كن لأوطانهن خيرًا من كثير من الرجال.
وإن بعض هؤلاء " النساء " لهو أرجح في ميزان الكفاية والمقدرة السياسية والإدارية من كثير من حكام العرب والمسلمين " الذكور " ولا أقول " الرجال " !.
الثانية : أن علماء الأمة قد اتفقوا على منع المرأة من الولاية الكبرى أو الإمامة العظمى، وهي التي ورد في شأنها الحديث ودل عليها سبب وروده، كما دل عليها لفظه " ولوا أمرهم " وفي رواية " تملكهم امرأة " فهذا إنما ينطبق على المرأة إذا أصبحت ملكة أو رئيسة دولة ذات إرادة نافذة في قومها، لا يرد لها حكم، ولا يبرم دونها أمر، وبذلك يكونون قد ولوها أمرهم حقيقة، أي أن أمرهم العام قد أصبح بيدها وتحت تصرفها، ورهن إشارتها.
أما ما عدا الإمامة والخلافة وما في معناها من رئاسة الدولة - فهو مما اختلف فيه.
فيمكن بهذا أن تكون وزيرة، ويمكن أن تكون قاضية، ويمكن أن تكون محتسبة احتسابًا عامًّا.
وقد ولى عمر بن الخطاب الشفاء بنت عبد الله العدوية على السوق تحتسب وتراقب، وهو ضرب من الولاية العامة.
الثالثة : أن المجتمع المعاصر في ظل النظم الديمقراطية حين يولي المرأة منصبًا عامًا كالوزارة أو الإدارة أو النيابة، أو نحو ذلك، فلا يعني هذا أنه ولاها أمره بالفعل، وقلدها المسئولية عنه كاملة.(2/366)
فالواقع المشاهد أن المسئولية جماعية والولاية مشتركة، تقوم بأعبائها مجموعة من المؤسسات والأجهزة، والمرأة إنما تحمل جزءًامنها مع من يحملها.
وبهذا نعلم أن حكم " تاتشر " في بريطانيا، أو " أنديرا " في الهند، أو " جولدا مائير " في فلسطين المحتلة، ليس هو - عند التحقيق والتأمل - حكم امرأة في شعب، بل هو حكم المؤسسات والأنظمة المحكمة، وإن كان فوق القمة امرأة ! . إن الذي يحكم هو مجلس الوزراء بصفته الجماعية وليست رئيسة مجلس الوزراء.
فليست هي الحاكمة المطلقة التي لا يعصى لها أمر، ولا يرفض لها طلب، فهي إنما تترأس حزبًا يعارضه غيره، وقد تجري هي انتخابات فتسقط فيها بجدارة، كما حدث لأنديرا في الهند، وهي في حزبها لا تملك إلا صوتها، فإذا عارضتها الأغلبية غدا رأيها كرأي أي إنسان في عرض الطريق.
هل يحرم الابن العاق من الميراث ؟.
س: سيدة كان لها ابن عاق قاطع لرحمها . ويسئ معاملتها فأوصت لشقيقتيه بثلث مالها بعد الوفاة، استفسرت الشقيقتان عن حكم الشرع في ذلك، فقال أحد العلماء : إن الأم تعذب لحيفها في ابنها، فماذا نفعل حتى نرفع هذا الإثم عن الوالدة ؟.
جـ : العقوق للوالدين عامة، وللأم خاصة من أكبر الكبائر، بعد الشرك بالله تعالى، ولكنه لا يجيز للأم ولا للأب حرمان الابن العاق من حقه الشرعي في الميراث فقد تولى الله تعالى قسمة المواريث بنفسه في كتابه، وجعلها وصية وفريضة منه، كما قال تعالى في آية ميراث الأولاد : ( يوصيكم الله في أولادكم) وقال في آخرها : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا فريضة من الله إن الله كان عليمًا حكيمًا). (النساء: 11).
ولم يحرم الشرع من الميراث إلا القاتل لمورثه، فلا ميراث لقاتل . وهذه الأم أرادت أن تحرم ابنها من قدر من الميراث بما أوصت به لابنتيها وهذه الوصية ظالمة وممنوعة شرعًا.
والوصية الشرعية مقيدة بقيدين :(2/367)
1 - أن تكون في حدود الثلث " والثلث كثير " كما في الحديث الصحيح. (متفق عليه عن سعد بن أبي وقاص . انظر : اللؤلؤ والمرجان 1053) .بل قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو غض الناس إلى الربع ! ؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " الثلث والثلث كثير أو كبير ". (متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان 1054).
ومعنى " غض " أي نقص . و " لو " للتمني، أي أنه يتمنى لو أن الناس نقصوا الوصية من الثلث إلى الربع فيكون أولى لدلالة الحديث.
2- ألا تكون لوارث، لحديث " لا وصية لوارث ". (رواه الدارقطني عن جابر وهو في صحيح الجامع الصغير 7441).
والوصية هنا لابنتين وارثتين، فهي محرمة باتفاق العلماء ؛ إلا إذا أجازها بقية الورثة ؛ لأن المنع إنما هو لحقهم فإذا أجازوا الوصية فقد تنازلوا عن حقهم.
وإذا لم يجيزوها، فلا يجوز أن تنفذ ؛ لأنها عمل على غير ما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مردود على من فعله.
وإذا نفذ عن طريق الحيلة - كالبيع والشراء للورثة - أو عن طريق القوانين الوضعية فالإثم على الموصي وعلى الموصى له أيضًا ؛ لتعديهما حدود الله تعالى.
وإذا كانت الأم قد ارتكبت إثمًا بوصيتها غير الجائزة، فلا نستطيع أن نجزم بأنها تعذب بعد موتها، فقد يكون لديها من الحسنات - من صلاة أو صدقة أو حج أو عمرة أو غير ذلك - ما يمحو أثر معصيتها، قال تعالى : (إن الحسنات يذهبن السيئات) (هود : 114.)
وقد يكون نزل بها من المصائب ما يكفر الله به خطاياها، وقد يعفو الله تعالى عنها.
ولذلك قال الناظم :
ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض لربه.
فإن يثبه فبمحض الفضل وإن يعذب فبمحض العدل.
وعلى كل حال فإن الجور في الوصية معصية جديرة أن تعرض صاحبها - في حد ذاتها - لعذاب الله تعالى.(2/368)
وإذا أرادت البنتان أن تتداركا الأمر، فلتتنازلا عما أوصت به الأم ؛ لتقسم التركة كما فرض الله . ولتستغفرا الله تعالى لأمهما، أو يتنازل الابن عن حقه لشقيقتيه بطيب نفس، وليستغفر الله تعالى لوالدته . والله غفور رحيم.
مسألة في الميراث.
س : توفيت زوجة وخلفت وراءها زوجًا وابنًا وبنتًا وقبل تقسيم التركة توفيت البنت، وكانت الأم قد أوصت بثلث التركة للزوج فكيف تقسم التركة بعد ذلك ؟.
جـ : وصية المرأة لزوجها بثلث تركتها وصية لوارث، فهي ممنوعة شرعًا . ولا تنفذ إلا إذا أجازها بقية الورثة وفي الحالة المسئول عنها، تقسم التركة كلها بين الزوج والابن والبنت . فللزوج الربع بنص القرآن : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن) (النساء : 12) وللابن والبنت باقي التركة يشتركان فيه للذكر مثل حظ الأنثيين بنص القرآن أيضًا : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) (النساء : 11) وهما يستحقان نصيبهما بمجرد وفاة أمهما وإن لم تقسم التركة.
وأما بعد وفاة البنت، فإن ميراثها يكون للأب إذا كان هذا الزوج أباها . وهذا لم يوضحه السؤال . ولا شئ لأخيها، لأن قرابة الأب أقوى، فهو يحجب الأخ . وأما إن كان غريبًا، أي كان زوج أم ولم يكن أبًا، فلا شئ له من ميراث البنت، وميراثها لأخيها، لقوله تعالى : ( إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد). (النساء : 176).(2/369)
هل للأحفاد نصيب من تركة الجد؟
س: توفي والدي في حياة أبيه، وترك ابنًا وبنتًا ثم توفي الابن بعد أبيه بستة أشهر، وتوفي جدي وترك عددًا من الأعمام والعمات.
فهل لي حق الميراث معهم؟ وهل لأخي الذي توفي قبل جده شيء من الميراث؟ وهل ترث أمي شيئًا من هذه الثروة؟
مسلمة من الدوحة
جـ- ليس لأحد ممن سألت عنهم الأخت صاحبة السؤال شيء من الميراث من تركة الجد المذكور.
أما أخوها فلا شيء له، لأنه قد توفي قبل جده، فكيف يرث جده في حياته؟!
وأما أمها، فهي غريبة عن المتوفي، وليس بينها وبينه سبب من أسباب الإرث. ومجرد كونها زوجة ابنه لا يجعل لها حقًا في ميراثه.
وأما الحفيدة السائلة، فليس لها نصيب في تركة جدها من باب الميراث، لأن أعمامها وعماتها حجبوها، لأنهم أقرب منها إلي الميت. ولكن يجب عليهم أن يعطوها شيئًا عند تقسيم التركة كما قال تعالي: (وإذا حضر القسمة أولو القربي واليتامي والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفًا) (النساء: 8). وهذه قد اجتمعت فيها القرابة واليتم والمسكنة.
كما أن الجد كان ينبغي عليه أن يوصي بشيء لها. لأنها من أقرب الأقربين إليه، وهي غير وارثة، فهي تدخل في قوله تعالي: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا علي المتقين). (البقرة: 180).
وقد ألزمت بهذا النوع من الوصية قوانين الأسرة والمواريث في بعض الأقطار الإسلامية وجعلت للأحفاد نصيبًا لازمًا في تركة الجد إذا مات ابنه في حياته، وهو ما يعرف بـ "قانون الوصية الواجبة".
هذا .. والحمد لله علي كل حال.
ميراث العصبة مع البنات
س: أثار أحد الصحفيين المرموقين زوبعة من القيل والقال، حول حكم الشريعة الإسلامية الغراء في توريث العصبة وهم أقارب الأب من الإخوة وأبناء الإخوة والأعمام وأبناء الأعمام ونحوهم مع بنات الميت من صلبه.(2/370)
وتساءل الكاتب عن الحكمة والمصلحة من وراء هذا التشريع، مع أن كثيرًا من هؤلاء العصبات من إخوة وأعمام، قد يكونون أبعد ما يكون عن الميت المورث من الناحية الواقعية، فلا مودة ولا صلة ولا تزاور، حتي إذا مات الرجل، وترك ابنة أو اثنتين أو ثلاثًا، ظهر هؤلاء العصبة بعد اختفاء، وقربوا بعد ابتعاد، وطالبوا بنصيبهم في التركة، فهل هذا يتفق مع حكمة الشريعة التي أقامت أحكامها علي أساس تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد؟
لقد أثار هذا الكلام بعض البلبلة لدي بعض الناس. لهذا نرجو بيان حكمة الشريعة في هذا الأمر. ولكم الأجر من الله والشكر من الناس.
ح . ع . ع
من القاهرة
جـ: من مزايا الشريعة الإسلامية أن أحكامها متماسكة متكاملة ومتناسقة يأخذ بعضها بحجز بعض، ولا ينفصل بعضها عن بعض، فهي وحدة لا تتجزأ، ولا يجوز أخذ بعضها معزولاً عن البعض الآخر، ومن هنا قال الله تعالي لرسوله ولكل من يحكم في الأمة من بعده : (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) (المائدة: 49). وأنكر أشد الإنكار علي بني إسرائيل أخذهم ببعض الكتاب دون بعض، بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلي أشد العذاب) (البقرة: 85).
وعلي هذا الأساس كان تشريع ميراث (العصبة) في الإسلام.
وأصل هذا ثابت بالسنة الصحيحة المتفق عليها عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولي رجل ذكر".
والفرائض هي المقادير والأنصبة التي فرضها الله وقدرها في كتابه لأصحابها من الثمن، والربع، والنصف، والسدس، والثلث، والثلثين، ومن المعلوم أن هذه الفرائض قد لا تستغرق التركة في بعض الأحوال، كما إذا ترك الميت بنات لا ذكور معهن، فكيف يوزع الباقي، الذي سكت عنه القرآن؟(2/371)
هنا جاء الحديث الصحيح، وحدد طريقة التوزيع والاستحقاق، وأنه "لأولي رجل ذكر"، وأولي الرجال الذكور هؤلاء هم الذين نسميهم "العصبة" وهو الذي يأخذ ما بقي بعد أصحاب الفروض من التركة، وينفرد بها إذا لم يوجد صاحب فرض.
ففي حالة ما إذا ترك الميت ابنتين أو ثلاثًا مثلاً، وأمّا وزوجة، فإن البنات لهن الثلثان والأم لها السدس والزوجة لها الثمن وهذه فرائض منصوص عليها في القرآن.
فإذا افترضنا المقام (أربعة وعشرين)، فمجموع هذه الفرائض يساوي (23/24)، ويبقي من التركة (واحد) علي (أربعة وعشرين)، وإذا لم توجد أم للميت يصبح الباقي (خمسة) علي (أربعة وعشرين)، وإذا لم توجد أم ولا زوجة يصبح الباقي (ثمانية) علي (أربعة وعشرين)، وهذا الباقي قل أو كثر، هو من نصيب العصبة: أولي رجل ذكر، فأولي الناس بالميت هو أقربهم.
وسر توريث العصبة يرجع إلي فلسفة الإسلام في نظام الأسرة فهي ليست الأسرة الضيقة المحصورة في الزوجين وأولادهما، كما هو معروف عند الغربيين وغيرهم، بل هي الأسرة الممتدة، أو الموسعة، التي يدخل فيها الأقارب والأرحام.
ولهذا وجدنا القرآن والسنة حافلين بتأكيد حق ذوي القربي وإيجاب صلتهم، وتحريم قطيعتهم.
وحسبنا أن نقرأ مثل هذه الآيات: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربي ...). (النساء: 36).
(وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا ........) إلي أن قال: (وآت ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل). (الإسراء: 23 -26).
(يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامي والمساكين ....). (البقرة: 215).
(كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا علي المتقين). (البقرة: 180).
(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا). (النساء: 1).(2/372)
(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمي أبصارهم). (محمد: 22، 23).
ولم يدع الإسلام الأمر وصايا أخلاقية، ودعوة قائمة علي الترغيب والترهيب فحسب، بل تدخل بالتشريع لحماية الوصايا وتنفيذها: فشرع عدة أنظمة، تكفل بقاء النظام واستمراره كما يحب الله ورسوله، منها:
1 - نظام النفقات:
فمن حق القريب الفقير الذي لا كسب له ولا مورد، أن ينفق عليه قريبه الموسر، بما يحقق له كفايته.
وهذا النظام من دعائم التكافل الاجتماعي في الإسلام، علي معني أن الأسرة فيما بينها تتكافل، قبل أن يطلب من الغرباء أو المجتمع أو الدولة. (انظر: كتابنا: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، فصل نفقات الأقارب).
يقول تعالي: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلي المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلي الوارث مثل ذلك). (البقرة: 233).
ومعني: (وعلي الوارث مثل ذلك) أي علي القريب الذي يرث من المولود له وهو أب المولود إذا مات، رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي النفقة عليهن في حالة الرضاع. فكما أنه يرث فيغنم ينفق فيغرم، والغنم بالغرم.
2 - نظام الميراث:
فقد ورث الإسلام الأقارب بعضهم من بعض وفق نظام مرسوم وترتيب معلوم، يحجب الأقرب إلي الميت درجة من هو أبعد منه. يقول تعالي في سورة النساء التي بدأها بالوصية بتقوي الله والأرحام: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا). (النساء: 7).
والعدل يقتضي أن القريب الذي قد يكلف النفقة علي قريبه إذا عجز وأعسر، أن يكون له نصيب من ميراثه إذا مات ولا عاصب له، ليتقابل الغرم والغنم.(2/373)
والبنت أو البنات اللاتي مات والدهن، وليس لهن إخوة في حاجة إلي ولاية العاصب وحمايته، إن كن ذوات مال، وإلي رعايته ونفقته إن لم يكن لهن مال. فاقتضت حكمة الشريعة أن يكون الرباط موصولاً وقويًا بين البنات وعمومتهم أو بني عمومتهم، لهذا السر.
3 - نظام العاقلة:
وتأكيدًا لهذا الرباط بين أفراد الأسرة الموسعة، شرع الإسلام نظام العاقلة في الديات.
فمن قتل قتيلاً خطأ أو شبه عمد، فإن دية المقتول في مال عصبته موزعة علي ثلاث سنوات لا في مال الجاني وحده، وفي هذا عدة فوائد:
1 - ألا يضيع دم هدرًا إذا عجز مال الجاني عن دفع الدية.
2 - مواساة الجاني والتخفيف عنه في تحمل آثار جريمة لم يتعمدها.
3 - اهتمام هذه الجماعات بتربية أبنائها ومراقبة سلوكهم حتي لا يتكرر منهم ارتكاب هذه الجرائم، ويكلفوهم ما لا يطيقون.
إن الذي جعل حكم ميراث العصبة مع البنات مستغربًا لدي بعض المسلمين، هو الواقع الرديء الذي نراه في الحياة الإسلامية اليوم بين الأقارب بعضهم وبعض، حتي إن الإخوة يعيشون في بلد واحد ولا يتواصلون. وربما تمر السنوات ولا يري بعضهم بعضًا، وقد يكون أحدهم عنيًا والآخر فقيرًا أو الآخرون فقراء، فلا يفكر فيهم، ولا ينالهم شيء من خيره.
وتنتقل هذه الجفوة أو القطيعة من الآباء إلي أولادهم، فلا يكادون يعرفون شيئًا عن أعمامهم أو أولاد أعمامهم، حتي إذا مات العم أبو البنات، وكان له تركة ومال يورث يظهر فجأة العم المختفي أو أولاد العم الذين لم يرهم أحد من قبل.
إن هذا الواقع مناقض لتعاليم الإسلام، وهو الذي جعل بعض الناس يتساءل: ما الذي جعل لهذا العم أو أبنائه حقًا، ولم يكن له أو لهم أي صلة بهم من قبل؟
إن سلوكنا نحن المسلمين كثيرًا ما يظلم به الإسلام. ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها: أن الإسلام حجة علي المسلمين، وليس حجة علي الإسلام.
هدانا الله جميعًا سواء السبيل.
التسمية بالأسماء الأعجمية(2/374)
س: أنا رجل مسلم غير عربي، من أهل النهد، أعيش في الدوحة، رزقت بمولود أنعم الله به علينا بعد شوق، ثم اختلفنا في تسميته، فقد كان منا من يريد تسميته باسم من الأسماء الهندية المتوارثة في الأسرة، ومنا من منع ذلك وقال: لا يجوز تسمية المولود إلا باسم من الأسماء الإسلامية المعروفة عند المسلمين، مثل أسماء الأنبياء والصحابة ومشاهير العلماء والصالحين. أما التسمية بالأسماء الهندية الأعجمية فهي حرام. واشتد النزاع بيننا ولم نجد إلا أن نرجع إليك لتفتينا في هذا الأمر، حسب الأدلة الشرعية.
نرجو ألا تهملوا سؤالنا، وأن تجيبونا عنه مأجورين.
م . س . د
جـ: الحمد لله، والصلاة والسلام علي رسول الله، وبعد:
لم يفرض الإسلام علي الأسرة المسلمة أن تسمي أولادها ذكورًا كانوا أو إناثًا بأسماء معينة، عربية أو أعجمية، وترك ذلك لاختيار الأسرة وحسن تقديرها، في ضوء توجيهات معينة.
أما ما للإسلام من توجيهات في ذلك فيتمثل فيما يلي:
1 - أن يكون الاسم حسنًا، بحيث لا يستقبحه الناس، ولا يستنكره الطفل بعد أن يكبر ويعقل، كأن يكون اسمًا يوحي بالتطير والتشاؤم، أو يذم معناه، أو علمًا لشخص اشتهر بالسوء والفجور، ونحو ذلك، وقد كان النبي -صلي الله عليه وسلم- يغير الأسماء القبيحة إلي أسماء حسنة، فالذي كان اسمه " قليلاً " سماه " كثيرًا " والتي كان اسمها "عاصية " سماها "جميلة" وهكذا.
2 - ألا يكون معبدًا لغير الله، مثل: عبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد الحسين، ونحو ذلك، وقد نقل ابن حزم الإجماع علي تحريم التسمية بكل معبد لغير الله باستثناء "عبد المطلب"
ويقرب من ذلك ما اشتهر عند الأعاجم من مثل: غلام أحمد وغلام علي، وغلام جيلاني ... ونحوه.(2/375)
3 - ألا يوحي بالكبر والعظمة، وعلو الإنسان بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث: "أخنع اسم عند الله يوم القيامة: رجل تسمي ملك الأملاك، لا ملك إلا الله". (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة، كما في صحيح الجامع الصغير برقم 237).
ومثل ذلك التسمي بأسماء الله الحسني المختصة به سبحانه، مثل الرحمن، والمهيمن، والجبار، والمتكبر، والخالق والبارئ، ونحو ذلك.
وكذلك الأسماء غير المختصة به سبحانه، إذا كانت معرفة مثل: العزيز، الحكيم، العلي، الحليم، ونحوها.
أما الوصف بها منكرة فلا مانع، فمن أسماء الصحابة المشهورة المتواترة، علي وحكيم، ويقاس عليها مثل: عزيز وحليم، ورءوف، وكريم ورشيد، وهادي، ونافع، وما كان من هذا القبيل.
4 - يستحب التسمية بأسماء الأنبياء والصالحين والصالحات تخليدًا لذكرهم، وترغيبًا في الاقتداء بهم.
ومثل ذلك ما عبد لله تعالي، كما في الحديث: "أحب الأسماء إلي الله عبد الله وعبد الرحمن" (رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عمر، كما في صحيح الجامع الصغير برقم 161) . ويقاس عليها سائر الأسماء الحسني، مثل عبد العزيز، وعبد العليم، وعبد الخالق، وعبد الملك، وعبد الواحد، وغيرها.
5 - لم يمنع فقيه فيما أعلم التسمية بالأسماء الأعجمية ما دام معناها حسنًا في لغتها. وقد أبقي المسلمون علي كثير من الأسماء الأعجمية للرجال والنساء، بعد إسلامهم، برغم وجودهم في بيئة عربية.
وأقرب مثل لذلك: " مارية " القبطية أم إبراهيم بن النبي علية الصلاة والسلام، التي اشتهرت باسمها القبطي المصري.
والناظر في أسماء الصحابة ومن تبعهم بإحسان، يجدها إما في الأصل أسماء لنباتات مثل: طلحة، وسلمة، وحنظلة.
أو أسماء لحيوانات وطيور، مثل أسد، وفهد، وهيثم، وصقر.
أو أسماء لجمادات وأشياء طبيعية مثل: بحر، وجبل، وصخر.
أو أوصافًا مشتقة، مثل: عامر، وسالم، وعمر، وسعيد، وفاطمة، وعائشة وصفية وميمونة.(2/376)
أو أسماء لأناس سابقين ممن يقتدي بهم من الأنبياء والصالحين والصالحات، مثل إبراهيم، وإسماعيل، ويوسف، وموسي ومريم.
وفي ضوء هذه التوجيهات يجوز للمسلم أن يسمي ابنه أو ابنته، سواء كان الاسم عربيًا أم أعجميًا.
وبالله التوفيق.
عدد الرضعات المحرمة
س: سماحة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!
أقدم إلي سماحتكم تحياتي الخالصة وتوقيري وبعد:
فإني واحد من الشبان المسلمين البنغلاديشيين وقد أردت أن أنكح فتاة قريبة لي وهي بنت عمتي ماتت أمها بعد يوم ولادتها، وأخذت زوجة عمي مسئولية تربيتها ولكنها رضعت من أمي، وهي في سن 7 / 8 شهرًا مرة واحدة لمدة دقيقتين، ولم ترضع غيرها قط، فسألت العلماء في بلادي، فأفتوني بأنه لا يجوز لي النكاح معها، لأنها شربت اللبن في الدقيقتين أكثر من خمس مرات، لكنني قرأت كتابكم "الحلال والحرام" الذي ترجمه أحد علماء بنغلاديش إلي اللغة البنغالية فنظرت فإذا فيه مكتوب: "أن لا يقل عدد الرضعات عن خمس مشبعات، والرضعة المشبعة هي التي يدع الطفل فيها الثدي من تلقاء نفسه لشعوره بالشبع" فتيقنت أنها رضعة واحدة. إذن إنها لا تحرم علي كما هو مبين في كتابكم، فما الحل في هذه الحالة، والحال أن علماء بنغلاديش أفتوا بتحريم الزواج منها؟
نرجو من سماحتكم التكرم بالجواب علي الفتوي في أسرع وقت ممكن.
وجزاكم الله خيرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!
المستفتي
م . عريف الإسلام
ج: الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله، وبعد:
فإن ما أفتي به السادة العلماء في (بنجلاديش) مبني علي مذهبهم الذي التزموه، ولم يدرسوا غيره، وهو المذهب الحنفي، الذي يحرم بما قل من الرضاع وكثر، ولو برضعة واحدة، ولو بمصة واحدة، وهذا ما نصت عليه كتب السادة الحنفية، وأجمعت عليه، ومن هنا كانت الفتوي الصادرة من هؤلاء العلماء صحيحة بالنسبة للمذهب الذي يقلدونه.(2/377)
ولكن القرآن والسنة لم يوجبا علينا اتباع مذهب معين لا نحيد عنه في صغيرة ولا كبيرة، ولم يوجب ذلك أحد من الأئمة المتبوعين أنفسهم، ولم يوجبه الإمام أبو حنيفة ولا أحد من أصحابه علي أحد بعده.
لهذا لا يوجد مانع شرعي من الخروج من الضيق إلي السعة إذا كانت هذه السعة مع مذهب آخر، من المذاهب التي قبلتها الأمة، ورضيتها في مجموعها.
فكيف إذا كان الدليل مع المذهب المخالف، كما هو الحال في قضيتنا، في الرضاع وحكمه؟
فالذي أُفِتي به هنا: ما عليه مذهب الشافعية والحنابلة، وهو أن التحريم إنما يكون بخمس رضعات مشبعات معلومات، وقد أيد ذلك الحديث الصحيح.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: " لا تحرم المصة ولا المصتان".
وأخرج أيضًا من حديث أم الفضل رضي الله عنها قالت: دخل أعرابي إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- وهو في بيتي، فقال: يا نبي الله، إني كانت لي امرأة، فتزوجت عليها أخري، فزعمت امرأتي الأولي أنها أرضعت امرأتي الحدثي (الجديدة) رضعة أو رضعتين، فقال النبي -صلي الله عليه وسلم- : "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" أي الرضعة.
وفي رواية أخري للحديث: "لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان".
وأخرج مالك في الموطأ، وأحمد في المسند من حديث عائشة: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال لسهلة امرأة أبي حذيفة في قصة سالم مولاه: "أرضعيه خمس رضعات" أي لكي يحرم عليها، فهذا يدل علي أن ما دون خمس رضعات لا يحرم.
وأخرج مسلم وغيره عن عائشة أيضًا: كان فيما نزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وهي فيما يقرأ من القرآن، وقد روي بألفاظ مختلفة.(2/378)
وفي الحديث مناقشة، ولكن الذي يهمنا منه هو ثبوت حكم التحريم في الرضاع بخمس رضعات معلومات، لا فيما هو أدني من ذلك، وقد كان الحكم السابق عشر رضعات، وهذا هو الذي يتفق مع حكمة التحريم بالرضاع، وهو أنه يثبت نوعًا من الأمومة بين المرضعة والرضيع، وعليها تتفرع الأخوة أيضًا، وهذا لا يثبت برضعة أو رضعتين، فكلما زاد عدد الرضعات كان أقرب إلي تحقيق تلك الأمومة.
ثم إن الرضعات الخمس هي التي يمكن أن تفتق الأمعاء، وتنبت اللحم، وتنشر العظم كما جاء في بعض الأحاديث الأخري.
وإذا كان النص قد حدد الرضاع المحرم بخمس رضعات، فإنه لم يحدد مقدار كل رضعة، بل ترك ذلك للعرف، كما ترك أشياء كثيرة لعرف الناس كالقبض في البيع، والحرز في السرقة، وإحياء الموات وغيرها.
والعرف لا يعتبر الرضعة إلا ما أشبع، ولهذا يقول الناس: إن الطفل يحتاج كل يوم إلي أربع رضعات أو خمس، يعنون: الرضعة التي هي للطفل بمثابة الوجبة للكبير.
وعلي هذا الأساس يكون من المباح أن تتزوج بابنة عمتك المذكورة، ولا تكون هذه الرضعة التي لم تستمر أكثر من دقيقتين كما شرحت في سؤالك: مانعة من الزواج بها علي ما بينته من مذهبي الإمامين: الشافعي وأحمد بن حنبل، وقد أيدتهما الأحاديث الصحاح في ذلك.
فالحمد لله حمدًا كثيرًا، وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أين يصرف المال المكتسب من الحرام؟
"فوائد البنوك ونحوها"
س: قرأت كتابكم بعنوان (فوائد البنوك هي الربا الحرام) واقتنعت بما جاء فيه من آراء، وما قام عليه من أدلة مستمدة من كتاب الله تعالي، ومن سنة رسوله -صلي الله عليه وسلم-، ومن أقوال فقهاء الأمة العظام، ونويت والحمد لله أن أستغني بالحلال عن الحرام، وبالطيب عن الخبيث، وأن أدع ما يريبني إلي ما لا يريبني، معتقدًا أن القليل من الحلال فيه البركة، وهو خير وأنفع في الدنيا والآخرة من الحرام وإن كان كثيرًا.(2/379)
وسؤالي الآن عن الفوائد المتجمعة في بعض البنوك حاليا! ماذا أصنع فيها؟ هل أتركها للبنك يتصرف فيها كيف يشاء؟ أو آخذها لأدفعها في بعض المكوس والضرائب التي تفرضها علي الحكومة، وكثيرًا ما تكون جائرة، أو أدفعها في المحروقات مثل بنزين السيارة، وغاز المطبخ ونحوها، كما قال لي بعض الناس، أو أدفعها للفقراء وللأعمال الخيرية، مع أن الحديث الشريف يقول: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"؟
أرجو من فضيلتكم بيان ما يجوز لي من ذلك، ولا سيما أن هذه المسألة تهم كثيرين قد تتجمع لهم فوائد تحسب بالملايين في البنوك، كما تهم كل من اكتسب مالاً من حرام ويريد أن يتوب ويتطهر! ماذا يفعل في هذا المال الخبيث، حتي يلقي الله بريء الذمة مقبول التوبة.
نصر الله بكم الدين، ونفع بكم المسلمين!!
ع . ب
ج: أسأل الله للأخ السائل الكريم أن يثبت قدميه علي الحق، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأحمد الله تعالي أن الكثيرين من أبناء أمتنا لازالوا بخير، ولم ينخدعوا بالفتاوي المتسيبة التي لا خطام لها ولا زمام، والتي خرقت ما أجمعت عليه المجامع العلمية والمؤتمرات العالمية، والندوات المتخصصة، في عدد من عواصم الإسلام، والتي أجمعت كلها علي أن الفوائد هي الربا الحرام.(2/380)
أما ما سأل عنه الأخ بالنسبة للفوائد البنكية التي تجمعت له، فشأنها شأن كل مال مكتسب من حرام، لا يجوز لمن اكتسبه أن ينتفع به، لأنه إذا انتفع به فقد أكل سحتًا، ويستوي في ذلك أن ينتفع به في الطعام والشراب أو اللباس أو المسكن، أو دفع مستحقات عليه لمسلم أو غير مسلم، عادلة أو جائرة ومن ذلك دفع الضرائب وإن كانت ظالمة للحكومات المختلفة، لأنه هو المنتفع بها لا محالة، فلا يجوز استخدامها في ذلك، وكذلك دفعها في "المحروقات" بل هذا من باب أولي، وإن كنت سمعت عن بعض المشايخ في الخليج أنه أجاز استخدام الفوائد في مثل ذلك، وفي بناء مرحاض أو نحوه من الأشياء التي تفتقد الطهارة، وهي فتوي عجيبة لا تقوم علي فقه سليم، فالشخص في النهاية هو المنتفع بهذا المال الحرام في مصلحته الشخصية، فلا يجوز للشخص الاستفادة من المال الحرام لنفسه أو لأهله، إلا أن يكون فقيرًا أو غارمًا يحق له الأخذ من الزكاة.
وأما ترك هذه الفوائد للبنوك، فلا يجوز بحال من الأحوال، لأن البنك إذا أخذها لنفسه ففي ذلك تقوية للبنك الربوي، ومعاونة له علي المضي في خطته، فهذا يدخل في الإعانة علي المعصية، والإعانة علي الحرام حرام، كما بينا ذلك في الباب الأول من كتابنا "الحلال والحرام في الإسلام".
ويزداد الإثم في ذلك بالنظر للبنوك الأجنبية في أوربا وأمريكا، والتي يودع فيها كثير من أغنياء المسلمين أموالهم للأسف الشديد، فإن ترك هذه الفوائد لها فيه خطر كبير. فهذه البنوك تتبرع بهذه الأموال عادة للجمعيات الخيرية، وهي في الأعم الأغلب جمعيات كنسية تبشيرية، وكثيرًا ما تكون هذه الجمعيات ممن يعمل في بلاد المسلمين. ومعني هذا أن أموال المسلمين تؤخذ لتنصير المسلمين، وفتنتهم عن دينهم، وسلخهم عن هويتهم!
والخلاصة:
أن ترك الفوائد للبنوك وبخاصة الأجنبية حرام بيقين، وقد صدر ذلك عن أكثر من مجمع، وخصوصًا مؤتمر المصارف الإسلامية الثاني في الكويت.(2/381)
أما المر المشروع في هذا المقام، فهو دفع هذه الفوائد ومثلها كل مال من حرام في جهات الخير، كالفقراء والمساكين، واليتامي وابن السبيل، والجهاد في سبيل الله، ونشر الدعوة إلي الإسلام، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية، وإعداد الدعاة الواعين، وطبع الكتب الإسلامية، وغير ذلك من ألوان البر، وسبل الخير.
وقد نوقش هذا الموضوع في أحد المجامع الإسلامية، وكان لبعض الأخوة من العلماء تحفظ علي إعطاء هذه الفوائد للفقراء والمشروعات الخيرية، إذ كيف نطعم الفقراء الخبيث من المكاسب؟ وكيف نرضي للفقراء ونحوهم ما لا نرضاه لأنفسنا؟
والحق أن هذا المال خبيث بالنسبة لمن اكتسبه من غير حله، ولكنه طيب بالنسبة للفقراء وجهات الخير.
هو حرام عليه، حلال لتلك الجهات. فالمال لا يخبث في ذاته. إنما يخبث بالنسبة لشخص معين لسبب معين. وهذا المال الحرام لابد أن يتصرف فيه بأحد تصرفات أربعة، لا خامس لها بحسب القسمة العقلية:
الأول: أن يأخذ هذا الحرام لنفسه أو لمن يعوله، وهذا لا يجوز، كما بيناه.
الثاني: أن يتركه للبنك الربوي، وهذا لا يجوز أيضًا، كما ذكرنا.
الثالث: أن يتخلص منه بالإتلاف والإهلاك. وهذا قد روي عن بعض المتورعين من السلف، ورد عليهم الإمام الغزالي في "الإحياء" فقد نهينا عن إضاعة المال.
الرابع: أن يصرف في مصارف الخير أي للفقراء والمساكين واليتامي وابن السبيل، وللمؤسسات الخيرية الإسلامية الدعوية والاجتماعية وهذا هو الوجه المتعين.
وأود أن أبين هنا أن هذا ليس من باب الصدقة حتي يقال: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" (جزء من حديث صحيح رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة وهو من أحاديث الأربعين النووية الشهيرة). إنما هو من باب صرف المال الخبيث أو الحرام في مصرفه الوحيد. فهو هنا ليس متصدقًا، ولكنه وسيط في توصيل هذا المال لجهة الخير. ويمكن أن يقال: إنها صدقة من حائز المال الحرام عن صاحب المال ومالكه.(2/382)
وقد سمعت بعض الناس يقول: إن هذه الفوائد البنكية، إنما هي ملك للمقترضين الذين اقترضوا ما يحتاجون إليه من البنك، والأصل أن ترد هذه الأموال إلي أصحابها.
والواقع أن هؤلاء المقترضين قد انقطعت صلتهم بهذه الفوائد، وفقًا للعقد الذي بينهم وبين البنك، ولهذا أصبحت معدودة في عداد المال الذي لا يعلم له مالك معين.
وقد عرض الإمام أبو حامد الغزالي لهذا النوع من المال، وهو ما يكون لمالك غير معين، وقع اليأس من الوقوف علي عينه. قال: فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك، ويوقف حتي يتضح الأمر فيه، وربما لا يمكن الرد لكثرة الملاك، كغلول الغنيمة. فهذا ينبغي أن يتصدق به. أي نيابة عن الملاك.
قال الغزالي: فإن قيل: ما دليل جواز التصدق بما هو حرام؟ وكيف يتصدق بما لا يملك؟ وقد ذهب جماعة إلي أن ذلك غير جائز، لأنه حرام، وحكي عن الفضيل أنه وقع في يده درهمان، فلما علم أنهما من غير وجههما، رماهما بين الحجارة، وقال: لا أتصدق إلا بالطيب، ولا أرضي لغيري ما لا أرضاه لنفسي!
فنقول: نعم ذلك له وجه واحتمال. وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس.(2/383)
أما الخبر: فأمر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت إليه فكلمته بأنها حرام، إذ قال -صلي الله عليه وسلم- : "أطعموها الأساري". (قال الحافظ العراقي: حديث أمر رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت بين يديه وكلمته بأنها حرام، إذ قال: "أطعموها الأساري" رواه أحمد من حديث رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في جنازة، فلما رجعنا لقينا راعي امرأة من قريش فقال: "إن فلانة تدعوك ومن معك إلي طعام..." الحديث، وفيه: فقال أحد لحم الشاة أخذت بغير إذن أهلها" وفيه: فقال "أطعموها الأساري" إسناده جيد). ولما نزل قوله تعالي: (ألم. غلبت الروم في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) كذبه المشركون وقالوا للصحابة: ألا ترون ما يقول صاحبكم، يزعم أن الروم ستغلب، فخاطرهم أبو بكر -رضي الله عنه- بإذن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر -رضي الله عنه- بما قامرهم به قال عليه الصلاة والسلام: " هذا سحت"، فتصدق به، وفرح المؤمنون بنصر الله، وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- له في المخاطرة مع الكفار. (حديث: مخاطرة أبي بكر المشركين بإذنه -صلي الله عليه وسلم- لما نزل قوله تعالي: (ألم غلبت الروم) وفيه: فقال -صلي الله عليه وسلم- : "هذا سحت" فتصدق به، أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن عباس، وليس فيه أن ذلك كان بإذنه -صلي الله عليه وسلم-، والحديث عند الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه دون قوله أيضًا "هذا سحت" فتصدق به).
وأما الأثر: فإن ابن مسعود -رضي الله عنه- اشتري جارية، فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن فطلبه كثيرًا فلم يجده، فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عنه إن رضي، وإلا فالأجر لي.(2/384)
وسئل الحسن -رضي الله عنه- عن توبة الغال (من يأخذ من مال الغنيمة قبل أن يقسم وما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش)، فقال: يتصدق به.
وروي أن رجلاً سولت له نفسه، فغل مائة دينار من الغنيمة، ثم أتي أميره ليردها عليه فأبي أن يقبضها، وقال له: تفرق الناس، فأتي معاوية فأبي أن يقبض، فأتي بعض النساك فقال: ادفع خمسها إلي معاوية، وتصدق مما يبقي، فبلغ معاوية قوله، فتلهف إذ لم يخطر له ذلك.
وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وجماعة من الورعين إلي ذلك.
وأما القياس:
فهو أن يقال: إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلي خير، إذ قد وقع اليأس من مالكه، وبالضرورة يعلم أن صرفه إلي خير أولي من إلقائه في البحر، فإنا إن رميناه في البحر فقد فوتناه علي أنفسنا وعلي المالك، ولم تحصل منه فائدة، وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه، وحصل للفقير سد حاجته، وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر. فإن في الخبر
الصحيح: "أن للزارع والغارس أجرًا في كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه". (حديث "أجر الزارع والغارس في كل ما يصيب الناس والطيور" أخرجه البخاري من حديث أنس: "وما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له صدقة").
وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب، فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا، ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، وترددنا بين التضييع وبين التصدق، ورجحنا جانب التصدق علي جانب التضييع.
وقول القائل: لا نرضي لغيرنا ما لا نرضاه لنفسنا، فهو كذلك، ولكنه علينا حرام؛ لاستغنائنا عنه، وللفقير حلال إذ أحله دليل الشرع، وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل، وإذا حل فقد رضينا له الحلال.(2/385)
ونقول: إن له أن يتصدق علي نفسه وعياله إذا كان فقيرًا. أما عياله وأهله فلا يخفي، لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله، بل هم أولي من يتصدق عليهم.
وأما هو فله أن يأخذ منه قدر حاجته، لأنه أيضًا فقير، ولو تصدق به علي فقير لجاز، وكذا إذا كان هو الفقير (إحياء علوم الدين 29 / 119، 120 . ا.هـ).
وهنا قد يسأل سائل: وهل يثاب من أخذ الفوائد من البنك الربوي وصرفها في مصرفها الخيري؟
والجواب: أنه لا يثاب ثواب الصدقة، ولكنه يثاب من ناحيتين أخريين:
الأولي: أنه تعفف عن هذا المال الحرام ومن الانتفاع به لنفسه بأي وجه، وهذا له ثوابه عند الله تعالي.
الثانية: أنه كان وسيط خير في إيصال هذا المال إلي الفقراء والجمعيات الإسلامية التي تستفيد منه. وهو مثاب علي هذا إن شاء الله.
طلب الغنى بطريق الحرام
س: أكتب لسماحتكم حول موضوع مهم جدًا أو حيوي بالنسبة لي في هذه المرحلة من حياتي، فأنا مهندس إنشاءات أعيش في أمريكا، وحصلت مؤخرًا علي الدكتوراة في الهندسة من بريطانيا.
أتيحت لي منذ فترة قصيرة فرصة الدخول في شركة مع مهندس معماري أمريكي لتأسيس شركة هندسية في أمريكا، وقد يتطلب مني هذا الاقتراض من أحد البنوك طبعًا أنا أعرف أن هذا حرام بشكل عام، ولكن قد يكون هذا بالنسبة لي شرًا لا مفر منه وخاصة أني بذلت الكثير للحصول علي مثل هذه الفرصة، كتبت لبنك البركة الإسلامي في لندن فرد لي الجواب بعد أربعة أشهر !!!؟ وكان جوابًا غير واضح ومعضلاً فكتبت له مرة أخري فلم يرد علي مرة أخري!! لقد طرقت جميع الأبواب واستنفدت جميع الوسائل دون فائدة. أنا شاب طموح ولا أريد أن أضيع هذه الفرصة. فنيتي سليمة، وأريد أن أصبح غنيًا، لأساعد هذه الأمة المنكوبة بالمصائب، لا لكي أعيش في برج عاجي لا يأبه بالآخرين، كما يفعل الكثيرون من أغنياء هذه الأمة المغلوبة علي أمرها. إنني أنتظر جواب سماحتكم بفارغ الصبر.. جزاكم الله عنا خير الجزاء.(2/386)
والسلام عليكم ورحمة الله!!
دكتور مهندس / م . أ . س
ج: لا حرج علي المسلم أن يطلب الغني ويسعي إليه، فالغني في نظر الإسلام ليس جريمة ولا رذيلة، والمال ليس شرًا، ولم يرد في الإسلام ما ورد في المسيحية: إن الغني لا يدخل ملكوت السموات حتي يلج الجمل في سم الخياط.
بل امتن الله تعالي علي رسوله فقال: (ووجدك عائلاً فأغني). (الضحي: 8).
وكان من دعاء النبي -صلي الله عليه وسلم- : "اللهم إني أسألك الهدي والتقي والعفاف والغني". (رواه مسلم في باب الذكر 4 / 2721 كما جاء في الترمذي وابن ماجة ومسند أحمد بن حنبل).
وروي عن سعد بن أبي وقاص: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي". (رواه مسلم في باب الزهد جـ4 (92265) وابن حبان جـ1 / 168).
وقال لعمرو بن العاص: "نعم المال الصالح للمرء الصالح". (رواه أحمد بسند جيد، والحاكم وصححه).
ولكن أحب أن أضع أمام السائل جملة حقائق:
1 - أن المال -وإن لم يكن شرًا - فهو فتنة يخشي منها، وقد قال تعالي: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (التغابن: 15). وخصوصًا إذا رأي صاحب المال أنه استغني بماله عمن سواه (كلا إن الإنسان ليطغي. أن رآه استغني) (العلق: 6،7)
2- أن الغني المادي ليس هو كل شيء، فقد يملك الإنسان الملايين وهو فقير النفس. وفي الحديث الصحيح: "ليس الغني عن كثرة العرض إنما الغني غني النفس". (البخاري 8/ 118 ومسلم: الزكاة ب.4 (120) وغيرهما).
ويروي عن علي بن أبي طالب:
يعز غني النفس إن قل ماله ويغني غني المال وهو ذليل!
والحكمة تقول: قليل يكفيك خير من كثير يلهيك.(2/387)
3 - أن بعض الناس يزعم في نفسه أو يزعم للناس بل قد يعاهد الله أنه حين يحصل علي الغني سيفعل ويفعل. ولكنه عندما تتحقق أمنيته ينكث بعهده، وينكص عن وعده، وهذا شأن المنافقين الذين حدثنا الله عن نموذج منهم في سورة التوبة فقال: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون) (التوبة: 75، 76). والمسلم يحذر أن يصيبه رذاذ من النفاق ويسأل الله البراءة منه.
4 - أن خطر الحرص علي الغني قد يجعل الإنسان يستعجله قبل أوانه. وأحكام الله القدرية والشرعية: أن من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
كما أن شدة الحرص قد تجعله يفرط أو يتساهل فيما لابد منه شرعًا. والذي لابد منه أن تراعي شروط اكتساب المال، وشروط تنميته، وشروط إنفاقه. فمن الواجب المؤكد أن يكتسب من حله، وأن ينفق في حقه، وألا يبخل به عن حقه. ومراعاة هذا كله من أصعب ما يكون علي النفس.
وفي ضوء هذه الحقائق ننظر إلي سؤال الأخ الذي يريد أن يبدأ حياته الاقتصادية بالدخول في الفوائد، التي أجمعت المجامع العلمية الإسلامية علي أنها هي الربا الحرام.
ولكنه يبيح ذلك لنفسه بدعوي أنه شر لابد منه، وأنه مضطر إلي ذلك. ليصل إلي المستوي الذي رسمه لنفسه، فهو يعتبر ذلك (ضرورة) تجيز له التعامل بالربا أخذًا وعطاء فهل صحيح أن هذه حالة ضرورة؟
تنبيه لابد منه حول دعوي الضرورة:
إن هناك قاعدة لا خلاف عليها، وهي: أن للضرورات أحكامها المقررة شرعًا، وكما أباحت الضرورة للأفراد أن يأكلوا الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة، كما صرح بذلك القرآن الكريم فإنه قيدها بأن يكون غير باغ ولا عاد (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) (المائدة: 3) (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) (البقرة: 173).(2/388)
ومن هنا قرر الفقهاء قاعدة أخري مكملة، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها وإلا كان باغيًا أو عاديًا.
وبعد ذلك هناك أمور ثلاثة لابد من رعايتها:
الأول: أن تتحقق الضرورة بالفعل، ولا يكون ذلك مجرد دعوي لاستحلال الحرام الصريح، ولذلك شواهده ودلائله عند أهل العلم والبصيرة، ويسأل في ذلك عدول أهل الذكر والخبرة في شئون المال والاقتصاد، ممن لا يتبعون الهوي، ولا يبيعون الآخرة بالأولي (ولا ينبئك مثل خبير). (فاطر: 14).
الثاني: أن تغلق أمام المضطر فردًا أو حكومة أبواب الحلال كلها مع محاولة طرقها، وألا توجد بدائل شرعية تسد الحاجة، ويمكن الاستفادة منها للخروج من حد الضرورة وضغطها القاهر، فأما إذا وجدت البدائل، وفتح باب للحلال، فلا يجوز اللجوء إلي الحرام بحال.
الثالث: ألا يصبح المباح للضرورة، أصلاً وقاعدة، بل هو استثناء مؤقت، يزول بزوال الضرورة. ولهذا أضاف العلماء إلي قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" قاعدة أخري مكملة وضابطة لها، وهي التي تقول: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها". وهي مأخوذة من قوله تعالي: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) . ومن تجاوز حد الضرورة زمانًا أو مقدارًا، فقد بغي وعدًا.
إن خيرًا للأخ السائل الطموح أن يسلك سبيل التدرج، وهو سنة من سنن الله في الكون والشرع، وأن يصعد السلم من أوله درجة درجة، ولا يقفز علي الواقع، ويحاول أن يطوي المراحل كلها في خطوة واحدة، فقد لا يوصله ذلك إلا إلي خسارة الدين، وضياع الدنيا معًا.
الجوائز التي ترصدها الشركات التجارية
س: السؤال مكون من شطرين اثنين:
الشطر الأول:
1 - إحدي الشركات للملابس والأثاث مثلاً أرادت أن تعطي لعدد من الزبائن مبلغًا من المال فهل يجوز للزبائن أخذ هذه المبالغ؟؟
الشطر الثاني:
2 - عن الطريقة التي يتم بها اختيار الفائزين:(2/389)
يقوم ممثل عن الشركة بسحب عدة أرقام يرسلها لعدد من الزبائن ولنفرض 100 زبون، ثم يسحب أرقامًا أخري، فإذا كانت مشابهة للأرقام التي سحبت من قبل يكون الزبون الحائز علي الرقمين المتشابهين فائزًا.
عند ذلك تقوم الشركة بإرسال هذه الأرقام إلي الزبائن مخبرة إياهم عن الجوائز التي كسبوها، أو عن المبالغ التي ربحوها.
علمًا بأن الزبون لم يشارك في المسابقة، ولم يحضر عند سحب الأرقام، ولم يدفع أي مبلغ للاشتراك في المسابقة، سوي أنه يشتري عادة من هذه الشركة.
فهل يجوز في هذه الحالة وبهذه الطريقة أن يأخذ الزبون الجائزة أو المبلغ الذي ربحه؟؟
وهل تعتبر هذه الطريقة مثل اليانصيب المنهي عنه مع أن اليانصيب فيه ربح وخسارة ولأن للحظ دورًا في هذه المسألة، فهل يؤثر ذلك علي الحكم، من حيث إنه حلال أو حرام؟
أفيدونا أفادكم الله.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله، وبعد:
فالذي يتبين لي أن الجوائز التي توزعها الشركات والمحلات التجارية علي عملائها الذين يشترون منها سواء تمثلت في مبالغ نقدية أم في بضائع وأشياء عينية لا تدخل في دائرة الميسر المنهي عنه، وهو الذي لا يخلو من ربح أو خسارة، لأحد الطرفين، ومنه اليانصيب الذي عرفه الغرب، ونقل للأسف إلي مجتمعاتنا تقليدًا.
ذلك أن الجوائز التي تدفعها المؤسسات التجارية إنما هي من طرف واحد، ولا يتحمل الطرف الثاني، أية خسارة، أعني: العملاء أو الزبائن. وأما اختيار البعض بواسطة "القرعة" فلا حرج في ذلك شرعًا عند جمهور الفقهاء، وتدل عليه عدة أحاديث تجيز الترجيح بالقرعة.
وقد يستثني من ذلك الذي يشتري من المحل أو المؤسسة، وليس له غرض في الشراء ولا في السلعة، إلا احتمال أن يحصل علي الجائزة، فهذا يتوجه أن يكون عمله نوعًا من القمار المحظور، أو قريبًا منه.(2/390)
هذا وإن كنت لا أحب للمؤسسات الإسلامية أن تتبع هذا الأسلوب الغربي في تشجيع العملاء أو الزبائن عن طريق الجوائز، التي جن بها كثير من التجار في عصرنا، لأن هذه المبالغ التي تدفع لبعض المشترين، تحسب في النهاية من تكاليف السلعة، ويتحملها المستهلك. فكأن المشتري المحظوظ بالجائزة يأخذ قيمتها عند التحليل النهائي من عامة المستهلكين. فهذا يجعل في الأمر بعض الشبهة في نظري، وقد يبرر ذلك بعض التجار بأنه يقتطع ذلك من الربح، وهذا يحتاج إلي نقاش.
علي كل حال لا أري بأسًا من أخذ الجائزة المذكورة، ما دام القصد الأساسي هو الشراء كما هو واضح من السؤال.
والله أعلم!!
حول (فورية القبض) في بيع العملات وشرائها
س: أرجو التكرم ببيان الحكم في العملية التالية التي تقوم بها بعض البنوك الإسلامية فيما يتعلق ببيع بعض العملات الأجنبية وشرائها.
راجيًا المولي تبارك وتعالي أن يوفقكم ويسدد خطاكم لم فيه خير الإسلام والمسلمين.
وصف العملية:
1 - يحدد البنك الإسلامي العملة التي يريد شراءها عن طريق شاشات التلفاز التي تكون مرتبطة بسوق العملات في الدول المختلفة كنيويورك ولندن وطوكيو... (ولنفرض أن العملة التي حددها البنك هي الدولار) .
2 - لنفرض أن البنك الإسلامي أراد شراء الدولار الأمريكي من "بنك لويدز" في بريطانيا، وفي هذه الحالة لابد للبنك الإسلامي أن يبيع البنك البريطاني عملة أخري ولتكن المارك الألماني. ولنفرض أن الدولار الأمريكي = 3 مارك ألماني.. في هذه الحالة يقوم البنك الإسلامي بشراء مليون دولار مثلاً في مقابل بيعه 3 مليون مارك للبنك البريطاني.(2/391)
3 - بعد تحديد العملة المشتراة والعملة المبيعة من قبل البنك الإسلامي والبنك البريطاني، يقوم البنك الإسلامي بتحديد بنكه المراسل في أمريكا وليكن "بنك أوف أميركا"، وذلك ليتسني للبنك البريطاني أن يبرق لبنكه المراسل في أمريكا بدفع المبلغ المذكور، وهو مليون دولار لحساب البنك الإسلامي. ونفس العملية يقوم بها البنك البريطاني وهو تحديد بنكه المراسل في ألمانيا وليكن "فرانكفورت بنك"، حتي يتسني للبنك الإسلامي أن يبرق لبنكه المراسل في ألمانيا بدفع المبلغ المذكور وهو 3 مليون مارك لحساب البنك البريطاني.
4 - بعد تحديد العملات المشتراة والمبيعة وتحديد البنوك المراسلة، تتم عملية التسليم والتسلم للمبالغ المتفق عليها وذلك بدخولها في حساب كل من البنكين. وفي الحقيقة أن قضية التسليم والتسلم لا تتم في نفس اللحظة، بل تتم خلال 48 ساعة عمل يومي عمل وهذا هو المتعارف عليه دوليًا، ويسمي بالبيع الفوري أو الحاضر، وأحيانًا إذا صادفت العملية عطلة نهاية الأسبوع تتم قضية التسليم والتسلم خلال 96 ساعة عمل.
بمعني أنه إذا تمت الصفقة بين البنك الإسلامي والبنك البريطاني في الساعة العاشرة صباحًا من يوم الاثنين الموافق 1 /12 /1987 م فإن التسليم والتسلم يتم خلال يومين من تاريخه وفي مدة أقصاها يوم الأربعاء 3 /12 /1987 م في الساعة العاشرة صباحًا، إلا إذا صادف ذلك عطلة نهاية الأسبوع وهي عندهم يومًا السبت والأحد فإن التسليم والتسلم يتم خلال أربعة أيام عمل وهي 96 ساعة.
ومن الجدير بالذكر أن التسليم والتسلم قد يتمان في نفس اللحظة وقد يتمان بعد ساعة أو ساعتين، وقد يتم بعد 40 ساعة بحيث لا يتعدي بأي حال من الأحوال 48 ساعة، لأن بعدها يصبح البيع آجلاً وليس حاضرًا حسب الأعراف الدولية في ذلك.
أرجو بيان الحكم والله يوفقكم.
ع . ر . هـ
جـ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:(2/392)
الأخ الكريم، وبالنسبة لما سألت عنه في رسالتك حول ما يتعلق باستثمار بعض البنوك الإسلامية في بيع وشراء العملات الأجنبية، أجيبك بإيجاز، أرجو أن يكون كافيا:
الأصل الشرعي في بيع النقود وشرائها بعضها ببعض: أن تكون يدًا بيد، كما صح ذلك في الحديث، عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في بيع الأصناف الستة المعروفة بعضها ببعض.
ومن هنا لا يصح التأجيل في عقود بيع النقود، بل لابد من التقابض في المجلس، كما في حديث ابن عمر: "أن تنصرفا وليس بينكما شيء".
غير أن القبض يخضع للعرف، وقبض كل شيء بحسبه. والشرع قد ترك تحديد كثير من الأشياء لعرف الناس، كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة وغيره، ومنها القبض في البيع.
فما دام القبض الفوري عرفًا لا يتم إلا بالطريقة التي ذكرتها، ويفترق عن البيع الآجل، فإن المعني الشرعي للقبض يصبح متحققًا، وتجري عليه الأحكام المرتبة شرعًا.. ومع تحقق القبض تبعًا للضرورة العصرية، فإن الضرورة تقدر بقدرها، ولهذا لا يجوز للمصرف الإسلامي بيع ما اشتراه إلا بعد القبض الفعلي العرفي.
والله ولي التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!
هل لربح التجار حد أعلي؟
س: هل يجوز شرعًا تحديد أرباح التجار بمعني أن يكون للربح نسبة أو حد أعلي لا يباح تجاوزه؟ أم أن التاجر حر في القدر الذي يربحه قل أو كثر؟ نرجو تفصيل القول في ذلك في ضوء الأدلة الشرعية لسؤال الكثيرين وحاجتهم الماسة.
تحرير موضوع البحث:
جـ: قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر.
وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المراد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان "التسعير"
علي أن التسعير لا يقتصر علي التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع، ونحوهم...(2/393)
كما أن بعض الباحثين يشتبه عليه موضوع الربح ونسبته بموضوع "الغبن" وقد اشتهر عند بعض الفقهاء أن الغبن يتسامح فيه في حدود الثلث وما عدا ذلك يعتبر غبنًا فاحشًا، لا يجوز، أخذا بالحديث المتفق عليه في شأن الوصية "الثلث والثلث كثير".
ولكن الغبن شيء والربح شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فقد يربح التاجر 50 % أو 100 % ولا يكون غابنًا للمشتري، لأن السلعة في السوق تساوي ذلك، أو أكثر، بل قد يكون مع الربح الكبير متساهلاً مع المشتري.
وقد يبيع للمشتري بربح قليل، بل بغير ربح، بل ربما مع خسارة تقل أو تكثر، وهو مع هذا قد غبن المشتري.
وهنا يلزم معرفة المراد من التجارة والربح.
التجارة والربح:
التجارة هي: شراء السلع وبيعها بقصد الربح منها.
والتاجر هو: من يشتري السلعة لبيعها بقصد الربح.
وقد تسمي السلعة: البضاعة أو العرض، وتجمع علي عروض.
والربح هو: الفرق الزائد بين ثمن بيع السلعة وثمن شرائها مضافًا إليه المصاريف التجارية.
وفي القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). (النساء: 29).
وفي آية المداينة التي أمرت بكتابة الدين: (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها). (البقرة: 282).
كما عرض القرآن للتجارة المعنوية، كما في قوله تعالي: (يرجون تجارة لن تبور). (فاطر: 29).
وقوله: (هل أدلكم علي تجارة تنجيكم من عذاب أليم) (الصف: 10).
ووصف تعالي المنافقين بقوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين). (البقرة: 16).
فدل هذا علي أن الأصل في التجارة أن تربح، ومن لم تربح تجارته فلابد أنه لم يحسن اختيار ما يتجر فيه، أو من يتعامل معه.(2/394)
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" وقال: حسن غريب (رواه في البيوع باب النهي عن البيع في المسجد، حديث 1321) . وهذا، لأن المقصود من التجارة الربح فإذا دعا عليه المؤمنون ألا يربح الله تجارته، فقد ضاع مقصوده وذهب تعبه سدي.
وقد ذكر القرآن التجار المؤمنين بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار). (النور: 37 ).
وإذا كانت التجارة بيعًا وشراء فقد ذكر القرآن البيع في رده علي المرابين المتلاعبين (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا) البقرة: 275).
وذكر القرآن البيع في معرض الحث علي السعي إلي الجمعة: (فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع) (الجمعة: 9).
وذكر القرآن فعل "يشري" " بمعني "يبيع" وذلك في مجال المعنويات: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله). (البقرة: 207).
ومثله: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة). (النساء: 74).
كما ورد في فعل "شري" في الماديات في قصة يوسف الصديق: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين). (يؤسف: 20).
وفي جملة آيات يطلق القرآن الكريم علي التجارة وصفًا أو عنوانًا يوحي بالرضا عنها، وهو "الابتغاء من فضل الله" وذلك في مثل قوله تعالي: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله). (الجمعة: 10).
وقوله: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله). (المزمل: 20).
والقرآن لا يمنع ابتغاء هذا الفضل، ولو في موسم الحج، وقصد النسك والعبادة، فيقول سبحانه: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) البقرة: 198.(2/395)
كما نوه برحلتي قريش الشهيرتين بين اليمن والشام بقوله: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت). (قريش: 1 - 3).
ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة علي أصل المال:
وقد روي الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتي تأكله الصدقة". (رواه في أبواب الزكاة حديث 641 ط. حمص. وفي سنده مقال).
وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، فقد روي الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعا: "اتجروا في أموال اليتامي، لا تأكلها الزكاة". (قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: أخبرني سيدي وشيخي يعني الحافظ العراقي ـ: أن إسناده صحيح 3 / 67 وحسنه الحافظ ابن حجر والسيوطي كما في فيض القدير 1/ 108). وصححه العراقي.
وصح نحو هذا مرسلاً، من حديث يوسف بن ماهك مرفوعًا، كما صح هذا المعني موقوفًا علي أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- (انظر: كتابنا: فقه الزكاة 1 / 122، 123 ط. وهبة بالقاهرة، السادسة عشرة).
وكل هذه الأحاديث تشير إلي أمر هام في ميدان الاقتصاد والتجارة، وهي أن الحد الأدني الذي ينبغي أن تحققه التجارة الناجحة هو: أن يفي الربح بما يجب في المال من زكاة، إلي جوار النفقة أيضًا. أي النفقة المطلوبة لرب المال ومن يعوله.
فإن المال كما ينقص ظاهرًا بإخراج الزكاة منه، بحيث تصبح المائة (5 ,97)، فإنه لا شك ينقص بمقدار ما ينفق منه علي حاجات مالكه.
وهذا يحتم علي ذي المال القليل أن يربح أكثر، إما بإدارة المال مرات أكثر، أو بزيادة نسبة الربح، حتي يمكن لربحه أن يغطي نفقاته المتجددة، وإلا أكلت النفقة رأس ماله.
وهذا بخلاف ذي المال الكثير، فقد يكفيه القليل من الربح كل ما يحتاج إليه، وزيادة.
هل حددت النصوص نسبة للربح؟:(2/396)
ولكن إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقي رأس المال سالمًا، فهل أشارت السنة إلي تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر علي نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟
الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الراشدية، وقبل ذلك القرآن الكريم لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خمسًا أو عشرًا، مثلاً، يتقيد بها ولا يزاد عليها.
ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة دائمًا.
فهناك فرق بين المال الذي يدور بسرعة بطبيعته كالأطعمة ونحوها، بحيث يدور في السنة عدة مرات، وبين المال البطيء الدوران الذي لا يدور في السنة إلا مرة، وقد تمضي أكثر من سنة، دون أن يتحرك، فالربح في الأول ينبغي أن يكون أقل من الربح في الأخير.
وهناك فرق بين من يبيع قليلاً ومن يبيع كثيرًا، وكذلك بين رأس المال القليل التافه ورأس المال الكثير الوافر، فإن ربح القليل في المال الكثير كثير.
وثمة فرق كذلك بين من يبيع حالاً، ومن يبيع بالأجل، فالمعروف أن البيع الحال المقبوض يكون الربح فيه أقل، علي حين تكون نسبة الربح في البيع المؤجل أعلي، نظرًا لما فيه من احتمال إعسار المشتري أو مطله، أو تلف ماله بوجه من الوجوه، وبهذا يهلك مال البائع، فضلاً عن تعطيل ماله هذه المدة. وقد أجاز جمهور العلماء الزيادة في الثمن إذا زيد في الأجل، إذا عرف ذلك من أول الأمر، وتحدد بوضوح. وهو مقابل بيع "السلم" الذي تباع فيه السلعة مؤجلة بأقل من الثمن المعتاد.
وأيضًا يوجد فرق بين السلع الضرورية، أو الحاجية، التي يفتقر إليها جمهور الناس وبخاصة الضعفاء والفقراء منهم والسلع الكمالية التي لا يشتريها إلا الأثرياء.(2/397)
ففي الأولي ينبغي أن يقلل الربح رفقًا بذوي الضعف والحاجة، وفي الثانية يمكن أن يكون أكثر، إذ من الميسور الاستغناء عنها.
ولهذا شدد الشارع في احتكار الأقوات والأطعمة خاصة أكثر من غيرها، لاشتداد حاجة الناس بل ضرورتهم إليها، ولهذا أيضًا حرم احتكارها بالإجماع، وجري الربا فيها بالإجماع، ووجبت الزكاة فيها بالإجماع.
وكذلك ينبغي التفريق بين من يحصل من التجار علي السلعة بسهولة، ومن يجهد ويتعب في جلبها من مصادرها. وكذلك بين من يبيع السلعة كما هي، ومن يدخل عليها تحويلات تكاد تجعلها سلعة أخري.
كما أن ثمة فرقًا بين من اشتري برخص كأن اشتري السلعة من منتجها بلا وسائط بسعر نازل، ومن اشتراها بعد تداول عدة وسائط لها، بسعر مرتفع، فشأن الأول أن يربح أكثر من الآخر.
والمقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًا معينًا أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العدل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، آلتي تحكم تصرفات المسلم وعلاقاته كلها.
فالإسلام لا يفصل بين الاقتصاد والأخلاق، خلافًا لفلسفة النظام الرأسمالي الذي يجعل "الربح" المادي الفردي، هو الهدف الأول، والمحرك الأكبر، للنشاط الاقتصادي الذي لا يتقيد بكثير من القيود التي يقيده بها الإسلام. فلا حرج في ابتغاء الربح عن طريق الربا أو الاحتكار، أو بيع المسكرات، أو غيرها مما يضر بالجماعة، ويدر الربح علي الأفراد.
أما الإسلام فله قيود وضوابط دينية وأخلاقية وتنظيمية، يوجب علي كل تاجر رعايتها والوقوف عندها، وإلا كان ربحه حرامًا أو مشوبًا بالحرام.
هذا، ولم أجد في كلام الفقهاء في حدود ما أتيح لي الاطلاع عليه ولم أبحث كل البحث ما يدل علي تحديد نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته.(2/398)
إلا ما ذكره العلامة الزيلعي من علماء الحنفية في تعريف ما ذكره صاحب "الهداية" وغيره من شرعية التسعير إذا تعدي أصحاب الطعام تعديًا فاحشًا.
فقد عرف الزيلعي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة (الزيلعي 6/ 28 انظر: ابن عابدين 5 /256). ولكنه لم يبين المراد بالقيمة: هل هي ثمن المثل في السوق في مثل هذا الوقت؟ حينئذ لا تلازم بين القيمة والربح؟ أو القيمة ثمن الشراء الذي اشتريت به السلعة، وهنا يكون الربح محددًا بألا يزيد علي مائة في المائة؟
وقد شاع لدي كثيرين أن في علماء المالكية من يحدد نسبة الربح بالثلث ولم أعثر علي مصدر لهذه الدعوي. وأخشي أن يكون ثمت خلط بين الربح والغبن، ولا تلازم بينهما كما ذكرت في أول البحث.
ولعل الإخوة الأجلاء من علماء المذهب المالكي، وهم متوافرون والحمد لله، يفيدونني بما لديهم من علم في هذه المسألة.
لكنني بتوفيق من الله تبارك وتعالي وجدت في صحيح السنة المشرفة، وفي عمل الصحابة -رضي الله عنهم-، ما يدل علي أن الربح إذا سلم من كل أسباب الحرام وملابساته، فهو جائز ومشروع إلي حد يمكن لصاحب السلعة أن يربح فيها ضعف رأسماله مائة في المائة (100 %) بل أضعاف رأس ماله، مئات في المائة. وهاكم الدليل:
مشروعية الربح إلي مائة في المائة (100 %) :
قد صح الحديث عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بما يدل علي مشروعية الربح إلي مائة في المائة (100%) .
وهذا في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن عروة بن الجعد أو ابن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه.(2/399)
روي الإمام أحمد في مسنده عن عروة قال: عرض للنبي -صلي الله عليه وسلم- جلب، فأعطاني دينارًا، وقال: "أي عروة، ائت الجلب فاشتر لنا شاة". فأتيت الجلب، فساومت صاحبه، فاشتريت منه شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو قال: أقودهما فلقيني رجل فساومني، فبعته شاة بدينار، فجئت بالدينار وجئت بالشاة، فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم، وهذه شاتكم قال: "وصنعت كيف"؟ قال: فحدثته الحديث.. فقال: "اللهم بارك له في صفقة يمينه". فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلي أهلي. (مسند أحمد 4 / 376 ط المكتب الإسلامي. وأي في قوله -صلي الله عليه وسلم- أي عروة: حرف نداء).
ورواه الترمذي بنحوه. (رواه في البيوع حديث 1258).
وروي الإمام البخاري في "كتاب المناقب" من صحيحه عن عروة: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشتري له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشتري التراب لربح فيه. (انظر: الحديث (3642) فتح الباري 6 /632 دار الفكر بتصحيح وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. والحديث من طريق شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة. و (الحي) وإن جهل حالهم، يمتنع تواطؤهم علي الكذب، كما قال الحافظ، بالإضافة إلي ورود الحديث من الطريق الأخري التي هي الشاهد لصحته ورواها أحمد وغيره. الفتح: 6 / 635، فما قاله الإمام الخطابي في ترجيح مذهب الشافعي في عدم إجازة بيع الفضولي ورده خبر عروة (أن الحي حدثوه) وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة، معالم السنن 5 /49 لا وجه له بعد أن أخرج البخاري الحديث، فقد جاز القنطرة فضلاً عن الطريق الأخري).(2/400)
ورواه أبو داود في كتاب البيوع من سننه باب في المضارب يخالف بنحو ما رواه البخاري (انظر: الحديث (3384) ط. حمص إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس). وذكره المنذري في مختصر السنن (الحديث (3244) من مختصر السنن مع معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنن لابن القيم بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، مصر). قال: وأخرجه الترمذي وابن ماجة (أخرجه الترمذي في البيوع حديث (1258) وابن ماجة في الصدقات، حديث (2402) باب الأمين يتجر فيه فيربح).
وروي أبو داود أيضًا عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشتري له أضحية بدينار وجاء بدينار إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- فتصدق به النبي -صلي الله عليه وسلم- ودعا له أن يبارك له في تجارته. (رواه في البيوع حديث (3386) عن طريق سفيان عن أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة، وهو مجهول، فالحديث ضعيف بذلك).
ورواه الترمذي من حديث حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام. قال: وحبيب لم يسمع عندي من حكيم. (الترمذي في البيوع حديث 1257).
مشروعية الربح أكثر من ذلك:
ومن الأدلة علي مشروعية الربح بغير حد إذا لم يأت عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما ما صح أن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشوري، وحواري رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وابن عمته اشتري أرض الغابة، وهي أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة بمائة وسبعين ألفًا (170000) فباعها ابن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم- بألف ألف وستمائة ألف، أي مليون وستمائة ألف (1600000) أي أنه باعها بأكثر من تسعة أضعافها!
ويحسن بي أن أسوق الحديث من الجامع الصحيح للإمام البخاري، كما رواه بسنده عن عبد الله بن الزبير، وقد ساقه في كتاب فرض الخمس، باب بركة الغازي في ماله حيًا وميتًا "حديث 3129 ".(2/401)
قال عبد الله بن الزبير:
"لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلي جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني، أفتري يُبقي ديننا من مالنا شيئا؟ فقال: يا بني بع مالنا فاقض ديني، وأوصي بالثلث، وثلثه لبنيه، يعني عبد الله بن الزبير يقول ثلث الثلث، فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لولدك، قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازي بعض بني الزبير خبيب وعباد، وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات، قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتي قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله! قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولي الزبير اقض عنه دينه! فيقضيه، فقتل الزبير رضي الله عنه، ولم يدع دينارًا ولا درهما، إلا أرضين منها الغابة وإحدي عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر.
قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشي عليه الضيعة. وما ولي إمارة قط، ولا جباية خراج، ولا شيئًا إلا أن يكون في غزوة مع النبي -صلي الله عليه وسلم-، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-. قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن آخي كم علي آخي من الدين؟ فكتمته فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أري أموالكم تسع لهذه! فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي.(2/402)
قال: وكان الزبير اشتري الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له علي الزبير حق، فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له علي الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا. قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال عبد الله: لك من هاهنا، قال: فباع منها فقضي دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم علي معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة اسهم ونصف، قال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، قال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف...".
والحديث موقوف، ولكن عبد الله بن الزبير، وهو صحابي، باع ما باعه من الغابة لعبد الله بن جعفر، وهو صحابي، ولمعاوية، وهو صحابي، وكثير من الصحابة أحياء متوافرون، إذ تم ذلك في عهد علي رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك أحد منهم، مع اشتهار الواقعة واتصالها بحقوق كثير من الصحابة وأبنائهم، فدل ذلك علي إجماعهم علي الجواز.(2/403)
وأحب أن أنبه هنا علي أن دلالة الوقائع التي ذكرناها من العصر النبوي والعصر الراشدي علي جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلي ضعف رأس المال، أو أضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلي هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام إن صح وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها. ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع. ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس.
كما أن الواقعات المذكورة لم تقترن بأي محاولة من محاولات إغلاء السعر علي الناس أو أي لون من احتكار السلعة، أو غبن المشتري، أو استغلال غفلته أو حاجته أو التدليس عليه، أو ظلمه بأي وجه من الوجوه.
فهذا لو وقع يجعل الربح الحاصل من الصفقة حرامًا، إذ كل ربح يأتي ثمرة لتعامل يحظره الشرع، فإنه لا يطيب لكاسبه ولا يحل بحال من الأحوال. والمسلم لا يرضي أن يربح الدنيا، ويخسر الآخرة.
وهذا ما نحاول أن نبينه بإيجاز فيما يلي:
الربح المحرم:
من المعلوم أن من ربح التجارة ما هو محرم بلا نزاع.
وذلك له جملة صور وأسباب، منها:
الربح بالاتجار في المحرمات:
ما جاء عن طريق الاتجار في أعيان محرمة شرعًا مثل الاتجار في المسكرات، والمخدرات، وبيع الميتة والأصنام، ومنها: التماثيل المحرمة، وكل ما يضر بالناس مثل الأغذية الفاسدة، والأشربة الملوثة، والمواد الضارة، والأدوية المحظورة، ونحوها..
وقد جاء في عدد من الأحاديث النهي عن بيع الأعيان المحرمة، والانتفاع بثمنها.(2/404)
فعن جابر: أنه سمع النبي -صلي الله عليه وسلم- يقول: "إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام".. وفيه: "قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه أي أذابوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه" رواه الجماعة. (انظر: الحديث (277) من منتقي الأخبار لأبي البركات ابن تيمية بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية. وانظر: إرواء الغليل للألباني (1290) ط. المكتب الإسلامي بيروت).
وعن ابن عباس أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم علي قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" رواه أحمد وأبو داود. (انظر: الحديث (2778) من المنتقي السابق. وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 5107) .
قال أبو البركات ابن تيمية: وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس.
وعن ابن عباس أيضًا قال: نهي النبي -صلي الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب وقال: "إن جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا" رواه أحمد وأبو داود. (انظر: الحديث (2781) من المنتقي المذكور. وانظر الحديث (3488) من سنن أبي داود ط. حمص).
وعن عائشة أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "حرمت التجارة في الخمر" رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. (رواه البخاري في المساجد والبيوع والتفسير، ومسلم في المساقاة حديث (1580) وأبو داود في البيوع (759) . وابن ماجة في التجارات برقم 2167).
وعن ابن عمر أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه" رواه أبو داود وابن ماجة، وزاد: "وآكل ثمنها". (رواه أبو داود، في الأشربة حديث (3674) وابن ماجة في الأشربة أيضًا، حديث (3380) وأوله: "لعنت الخمر علي عشرة أوجه...").(2/405)
ذكره المجد ابن تيمية في "المنتقي" في "باب تحريم بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، وكل بيع أعان علي معصية" انظر: المنتقي 2 / 321.
ومن هذه الأحاديث يتبين أن الربح الذي يتحقق من هذا اللون من التجارة في المحرمات، ربح خبيث محرم، قلت نسبته أو كثرت.
الربح عن طريق الغش والتدليس:
ومثل ذلك الربح عن طريق الغش والتدليس التجاري، بإخفاء عيوب السلعة، أو إظهارها بصورة خادعة، تغاير حقيقتها، تلبيسًا علي المشتري. وقد يدخل في ذلك الدعاية الإعلانية المبالغ فيها، التي تضلل المشتري عن واقع السلعة.
وقد برئ النبي -صلي الله عليه وسلم- ممن غش وقال: "من غشنا فليس منا" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. (انظر: المنتقي جـ2 حديث 2937).
وعن عطية بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول: "المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بينه له" رواه أحمد وابن ماجة. (وقال الحافظ في الفتح: إسناد حسن انظر الحديث (2935) من (المنتقي) .، وتعليق المحقق عليه).
وكان الصحابة والسلف -رضي الله عنهم- يرون إظهار عيوب السلعة من النصيحة التي بها يصح دين المسلم ويستقيم. وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلي السلعة يبيعها، بصر المشتري بعيوبها، ثم خيره، وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك. فقيل له: إنك إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع فقال: " إنا بايعنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- علي النصح لكل مسلم". (ذكر ذلك الغزالي في الإحياء / 2 /76 وقوله: بايعنا رسول الله... إلخ، ثابت في الصحيحين).(2/406)
وكان واثلة بن الأسقع واقفًا، فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم فغفل واثلة، وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعي وراءه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقباً قد رأيته، وأنها لا تتابع السير، فعاد فردها، فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي! فقال: إنا بايعنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- علي النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل لأحد يبيع بيعًا إلا أن يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه". (قال الحافظ العراقي: حديث واثلة: "لا يحل لأحد يبيع بيعًا..." الحديث أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي، الإحياء 2 /86 ط. دار الكتب العلمية، بيروت).
قال الإمام الغزالي معقبًا علي هذه الواقعة:
(فقد فهموا من النصح ألا يرضي لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه، ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيادة المقامات، بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم، وهذا أمر يشق علي أكثر الخلق، فلذلك يختارون التخلي للعبادة والاعتزال عن الناس، لأن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة مجاهدة لا يقوم بها إلا الصديقون). (إحياء علوم الدين 2 /76 كتاب أدب الكسب والمعاش، ط. دار المعرفة، بيروت).
التدليس بإخفاء سعر الوقت:
ويدخل في ذلك أو يقرب منه: التدليس في سعر الوقت، فالواجب كما ذكر الغزالي أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئان فقد نهي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن تلقي الركبان. (حديث النهي عن تلقي الركبان: متفق عليه من حديث ابن عباس وأبي هريرة).
ونهي عن النجش. (حديث النهي عن النجش: متفق عليه من حديث ابن عمر وأبي هريرة).(2/407)
أما تلقي الركبان، فهو أن يستقبل الرفقة، ويتلقي المتاع، ويكذب في سعر البلد، فقد قال -صلي الله عليه وسلم- : "لا تتلقوا الركبان ومن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق" (روي معني هذا الحديث الجماعة إلا البخاري. انظر المنتقي رقم 2842) وهذا الشراء منعقد، ولكنه إن ظهر كذبه ثبت للبائع الخيار، وإن كان صادقًا ففي الخيار خلاف، لتعارض عموم الخبر مع زوال التلبيس. (أقول: واتباع الخبر أولي).
ونهي أيضًا أن يبيع حاضر لباد (رواه البخاري وغيره عن ابن عمر، ورواه الجماعة إلا الترمذي: عن ابن عباس. والشيخان عن أنس). وهو أن يقدم البدوي البلد ومعه قوت يريد أن يتسارع إلي بيعهن فيقول له الحضري: اتركه عندي حتي أغالي في ثمنهن وأنتظر ارتفاع سعره، وهذا في القوت محرم، وفي سائر السلع خلاف، والأظهر تحريمه لعموم النهي، ولأنه تأخير للتضييق علي الناس علي الجملة، من غير فائدة للفضولي المضيق.
وأما النجش فهو: أن يتقدم إلي البائع بين يدي الراغب المشتري، ويطلب السلعة بزيادة. وهو لا يريدها، وإنما يريد تحريك رغبة المشتري فيها فهذا إن لم تجر مواطأة مع البائع، فهو فعل حرام من صاحبه، والبيع منعقد وإن جري مواطأة ففي ثبوت الخيار خلاف، والأولي إثبات الخيار، لأنه تغرير بفعل يضاهي التغرير في المصراة وتلقي الركبان.
قال الإمام الغزالي: (فهذه المناهي تدل علي أنه لا يجوز أن يلبس علي البائع والمشتري في سعر الوقت ويكتم منه أمرًا لو علمه لما أقدم علي العقد، ففعل هذا من الغش الحرام، المضاد للنصح الواجب.(2/408)
فقد حكي عن رجل من التابعين أنه كان بالبصرة وله غلام بالسوس يجهز إليه السكر، فكتب إليه غلامه: إن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة، فاشتر السكر، قال: فاشتري سكرًا كثيرًا، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا فانصرف إلي منزله فتفكر ليلته وقال: ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلي بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا وقال: بارك الله لك فيها، فقال: ومن أين صارت لي؟ فقال: إني كتمتك حقيقة الحال، وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت، فقال: رحمك الله قد أعلمتني الآن وقد طيبتها لك، قال: فرجع بها إلي منزله وتفكر وبات ساهرًا وقال: ما نصحته، فلعله استحيا مني فتركها لي، فبكر إليه من الغد، وقال: عافاك الله، خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي، فأخذ منه ثلاثين ألفا!
فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل علي أنه ليس له أن يغتنم فرصة، وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين، ومهما باع مرابحة بأن يقول: بعت بما قام علي أو بما اشتريته، فعليه أن يصدق، ثم يجب عليه أن يخبر بما حدث بعد العقد من عيب أو نقصان، ولو اشتري إلي أجل وجب ذكره، ولو اشتري مسامحة من صديقه أو ولده يجب ذكره، لأن المعامل يعول علي عادته في الاستقصاء أنه لا يترك النظر لنفسه، فإذا تركه بسبب من الأسباب فيجب إخباره، إذ الاعتماد فيه علي أمانته). (إحياء علوم الدين 2 /78، 79).
الربح عن طريق الغبن الفاحش:(2/409)
وينبغي ألا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعي فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة علي الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان. ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلمًا. وقد ذهب بعض العلماء إلي أن الغبن بما يزيد علي الثلث يوجب الخيار، ولسنا نري ذلك، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن.
ويروي أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان: ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلي الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة، فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضي بها وهي علي يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتي تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلي الدكان، ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت؟ أما اتقيت الله؟ تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين؟ فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك؟! وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس، فهو من باب الظلم، وقد سبق يعني أنه محرم وفي الحديث: "غبن المسترسل حرام". (قال الحافظ العراقي: حديث "غبن المسترسل حرام" أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، والبيهقي من حديث جابر بسند جيد وقال: "ربا" بدل "حرام").
وكان الزبير بن عدي يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحمًا بدرهم. فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم، وإن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان، وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت.(2/410)
ثم ضرب الغزالي مثلاً للإحسان المحض في المعاملة، وهو أمر فوق العدل الواجب، بما روي عن محمد بن المنكدر: أنه كان له شقق بعضها بخمسة وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتي وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة فقال: يا هذا قد رضيت فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضي لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدي ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي.
قال الغزالي: فهذا إحسان في ألا يربح علي العشرة إلا نصفًا أو واحدًا علي ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة.
وكان علي -رضي الله عنه- يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار، خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره.
وقيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سبب يسارك؟ قال: ثلاث، ما رددت ربحًا قط، ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه، ولا بعت بنسيئة، ويقال: إنه باع ألف ناقة، فما ربح إلا عقلها، باع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفًا، وربح من نفقته عليها ليومه ألفًا.
الربح عن طريق الاحتكار:
ومن الربح الذي لا يحل لتاجر مسلم: ما جاء عن طريق الاحتكار الذي نهي عنه الشرع.
فقد روي الإمام مسلم في صحيحه عن النبي -صلي الله عليه وسلم- : "لا يحتكر إلا خاطئ". (رواه في كتاب المساقاة من صحيحه).
والخاطئ هو الآثم، وقد وصف الله أكثر الطغاة المستكبرين بهذا الوصف حين قال تعالي: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). (القصص: 8).(2/411)
وروي أحمد والحاكم من حديث ابن عمر عنه -صلي الله عليه وسلم- : "من احتكر الطعام أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه". (قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه أحمد والحاكم بسند جيد. وحسنه الحافظ في: الفتح وقواه في: القول المسدد في الذب عن المسند ردًا علي ابن الجوزي الذي ذكره في: الموضوعات وعضده بجملة شواهد وأيده السيوطي ونقل ذلك عنه في: اللآلئ المصنوعة 2 /147،148).
وعن علي رضي الله عنه: "من احتكر الطعام أربعين يومًا قسا قلبه".
وعنه أيضا: "أنه أحرق طعام محتكر بالنار". (نقل ذلك الغزالي في: الإحياء 2 /72، 73).
وقيل في قوله تعالي في شأن المسجد الحرام: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) (الحج: 25). إن الاحتكار من الظلم وداخل تحته في الوعيد.
والاحتكار: أن يحبس التاجر السلعة ينتظر بها غلاء الأسعار.
وهو يدل علي نزعة أنانية، لا يبالي صاحبها بما يقع من أذي وضرر علي جمهور الناس، ما دام هو يجني من وراء ذلك أرباحًا طائلة. ويتفاقم الضرر إذا كان التاجر هو البائع الوحيد للسلعة، أو تواطأ مجموعة التجار الذين يبيعون السلعة علي إخفائها وحبسها، حتي يشتد الطلب عليها، فيغلوا سعرها، ويفرضوا فيها الثمن الذي يريدون. وهذا هو شأن النظام الرأسمالي الذي يقوم علي دعامتين رئيستين هما: الربا والاحتكار.
ما الذي يحرم احتكاره من السلع؟
وللفقهاء هنا خلاف حول أمرين: الجنس الذي يحرم احتكاره من السلع ما هو؟ والوقت الذي يحرم فيه الاحتكار.(2/412)
فمن الفقهاء من قصر الاحتكار علي "الأقوات" لا يتجاوزها. قال الغزالي: (أما ما ليس بقوت ولا هو معين علي القوت، كالأدوية والعقاقير والزعفران وأمثاله، فلا يتعدي النهي إليه، وإن كان مطعومًا. وأما ما يعين علي القوت كاللحم والفواكه وما يسد مسدًا يغني عن القوت في بعض الأحوال، وإن كان لا يمكن المداومة عليه، فهذا في محل النظر، فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت، وما يجري مجراه). (الإحياء 2 /73 ط. دار المعرفة، بيروت).
ويفهم من كلام الغزالي هنا أنهم يعتبرون "القوت" محصورًا في الطعام الجاف مثل الخبز والأرز بلا سمن ودون إدام. حتي الجبن والزيت والسمسم ونحوها اعتبرت خارج دائرة القوت.
وهذا الذي ذكروه من القوت، لا يكتفي به الطب الحديث غذاءًا صحيحًا للإنسان، إذ لابد أن تتوافر في الغذاء الصحي جملة عناصر ضرورية، منها: البروتينات والدهنيات والفيتامينات، وإلا أصبح الإنسان عرضة لأمراض سوء التغذية. كما أن الأدوية في عصرنا أصبحت أمرًا ضروريًا للناس، وكذلك الملبوسات ونحوها.
وحاجات الناس تتطور بتطور أنماط حياتهم وكم من أمر تحسيني أو كمالي أصبح حاجيًا وكم من حاجي غدا ضروريًا.
والأرجح في رأيي تحريم الاحتكار لكل ما يحتاج إليه الناس، طعامًا كان أو دواء أو لباسًا، أو أدوات مدرسية أو منزلية، أو مهنية، أو غير ذلك.
والدليل علي ذلك عموم الحديث "لا يحتكر إلا خاطئ" أو "من احتكر فهو خاطئ" والنص علي منع احتكار الطعام والوعيد عليه خاصة لا ينفي ذلك العموم.
وعلة النهي أيضًا تؤكد ذلك، وهي الإضرار بعموم الناس، نتيجة حبس السلعة، وحاجة الناس ليست إلي الطعام وحده، وخصوصًا في عصرنا، فالإنسان في حاجة إلي أن يطعم ويشرب، ويلبس ويسكن، ويتعلم، ويتداوي، ويتنقل، ويتواصل مع غيره بشتي الوسائل.
ومن هنا أرجح قول الإمام أبي يوسف في "الخراج": (كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار). (الخراج لأبي يوسف).(2/413)
وكل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.
الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار:
وكذلك الخلاف في الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار، فمن العلماء من طرد النهي في جميع الأوقات، ولم يفرق بين وقت الضيق ووقت السعة، آخذا بعموم النهي وعليه عمل الورعين من السلف.
قال الغزالي: (ويحتمل أن يخصص بوقت قلة الطعام، وحاجة الناس إليه حتي يكون في تأخير بيعه ضر ما، فأما إذا اتسعت الأطعمة، وكثرت واستغني الناس عنها، ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة، فانتظر صاحب الطعام ذلك، ولم ينتظر قحطًا، فليس في هذا إضرار. إذا كان الزمان زمان قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضي بتحريم، ويعول في نفي التحريم وإثباته علي الضرار، فإنه مفهوم قطعًا من تخصيص الطعام وإذا لم يكن ضرار، فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية، فإنه ينتظر مبادئ الضرار، وهو ارتفاع الأسعار، وانتظار مبادئ الضرار محذور كانتظار عين الضرار، ولكنه دونه، وانتظار عين الضرار أيضًا هو دون الإضرار، فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم.
وعن بعض السلف: أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلي البصرة، وكتب إلي وكيله: بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة، ولا تؤخره إلي غد، فوافق سعة في السعر فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلي صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت، وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله فتصدق به علي فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافًا لا علي ولا لي). (الإحياء 2/73).
خاتمة:(2/414)
وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية - وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب - دون تلاعب أو تدليس، أو تدخل مفتعل لإغلاء الأسعار علي عموم الناس.. فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم - عندما يوجد شيء من ذلك - أن يتدخل بمقتضي عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح الإتجار، بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع. وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالي. وهذا هو موضوع "التسعير" ومتي يجوز، ومتي لا يجوز، وما شروطه، إلخ.. وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص.
الخلاصة:
والخلاصة التي نخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي:
1- إن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامي.
2- إن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديلها، بل وجد في السنة ما يدل علي جواز بلوغ الربح إلي ضعف رأس المال أو أضعافه.
3- إن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلي هدي السلف وأبعد عن الشبهات.
4- إن الربح لا يحل للتاجر المسلم إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام. فأما إذا اشتملت علي محرم كالاتجار في الأعيان المحرمة، أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوها فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا.
5- إن القول بأن للتجار أن يربحوا بالحلال ما شاءوا في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها، تحقيقًا للمصلحة لأكبر عدد من الناس، ومنعًا للضرر والضرار عن عباد الله.
والله تعالي أعلم.
الدين والضحك(2/415)
هل يجوز للمسلم أن يضحك ويمزح، ويفرح ويمرح، وتصدر عنه النكات والطرائف والملح، بالقول أو بالفعل، فيضحك الآخرين ؟
إن بعض الناس تكونت لديه فكرة: أن الدين يحرم علي الإنسان الضحك والمزاح والتنكيت والمداعبة، ويفرض عليه الجد والصرامة في كل أحواله. ويؤيدون هذا الاعتقاد بأمرين:
الأول: موقف كثير من المتدينين، أو المتحمسين للدين، حيث لا يري أحدهم إلا مقطب الجبين، عبوس الوجه، متجهمًا عند اللقاء، خشنًا في الكلام، فظًا في المعاملة مع الناس، وخصوصًا غير المتدينين.
والثاني: بعض النصوص، التي قرأوها أو سمعوها من بعض الوعاظ والخطباء ففهموا منها أن الإسلام لا يرحب بالضحك والفرح والمزاح، مثل حديث "لا تكثر من الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب".
وحديث: "ويل للذي يحدث الحديث ليضحك به القوم، فيكذب، ويل له، ويل له".! (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، كما حسنه الألباني في غاية المرام).
وحديث وصف النبي -صلي الله عليه وسلم-، بأنه: "كان متواصل الأحزان".
وقوله تعالي علي لسان قوم قارون: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين). (القصص: 76).
وحسب قراءتي ومعلوماتي عن الإسلام -وهي محدودة- أعتقد أن هذا ظلم للإسلام الذي جاء بالاعتدال في كل شيء.
فالرجاء توضيح موقف الإسلام في هذه القضية، مؤيدًا بالأدلة الشرعية. نفع الله بكم، وجزاكم خيرًا.
جـ: الضحك من خصائص الإنسان فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
ولهذا قيل: الإنسان حيوان ضاحك، ويصدق القول هنا: أنا أضحك، إذن أنا إنسان.
والإسلام -بوصفه دين الفطرة- لا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلي الضحك والانبساط بل هو علي العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلي الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.(2/416)
وأسوة المسلمين في ذلك هو: رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقد كان -برغم همومه الكثيرة والمتنوعة- يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، وقال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ؟ (رواه الطبراني بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد "9/17").
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس في. (كنز العمال برقم 18400) .
وقد رأيناه في بيته -صلي الله عليه وسلم- يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلي أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري.
وكما رأينا في تسابقه مع عائشة رضي الله عنها، حيث سبقته مرة، وبعد مدة تسابقا فسبقها، فقال لها: هذه بتلك!
وقد روي أنه وطأ ظهره لسبطيه الحسن والحسين، في طفولتهما ليركبا، ويستمتعا دون تزمت ولا تحرج، وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأي هذا المشهد فقال: نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة والسلام: "ونعم الفارسان هما"!
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز" ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام علي ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(C??C??E: 35-37) ?C??I?E ?I??? C?E???? ?? "C?O?C??"? ??EI E? ???I? ?CE? C?????? ?C?E??????U????? ????? C???EC?? ?? "UC?E C???C?")(2/417)
وجاء رجل يسأله أن يحمله علي بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام: "لا أحملك إلا علي ولد الناقة" ! فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة ؟ ! -انصرف ذهنه إلي الحوار الصغير- فقال: "وهل تلد إلا النوق" ؟ (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح وأخرجه أبو داود أيضًا).
وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: "ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض" ؟ قالت: والله ما بعينه بياض فقال: "بلي إن بعينه بياضا" فقالت: لا والله، فقال -صلي الله عليه وسلم-: "ما من أحد إلا بعينه بياض" (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبيدة بن سهم الفهري مع اختلاف، كما ذكر العراقي في تخريج الإحياء). وأراد به البياض المحيط بالحدقة.
وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير، وكان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يأتيهم ويقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير" ؟ (متفق عليه). لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عندي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة -دقيق يطبخ بلبن أو دسم- وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت، ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئًا منه فلطخت به وجهها، ورسول الله -صلي الله عليه وسلم- جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي ! وجعل رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يضحك. (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة وأبو يعلي بإسناد جيد كما في تخريج الإحياء).(2/418)
وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميمًا قبيحًا، فلما بايعه النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء -ذلك قبل أن تنزل آية الحجاب- أفلا أنزل لك عن إحداهن فتتزوجها !، وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت ؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله -صلي الله عليه وسلم- من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميمًا. (قال الحافظ العراقي: أخرجه الزبير بن بكار في الفكاهة من رواية عبد الله بن حسن مرسلاً أو معضلاً وللدارقطني نحو هذه القصة مع عيينة بن حصن الفزاري بعد نزول الحجاب من حديث أبي هريرة).
وكان -صلي الله عليه وسلم- يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.
ولما أنكر الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" ! وفي بعض الروايات: "حتي يعلم يهود أن في ديننا فسحة".
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: "دونكم يا بني أرفدة" !
وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأسًا ولا حرجًا.
واستنكر يومًا أن تزف فتاة إلي زوجها زفافًا صامتًا، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: "هلا كان معها لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو، أو الغزل". وفي بعض الروايات: "هلا بعثتم معها من تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيونا نحييكم".(2/419)
وكان أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم -صلي الله عليه وسلم- واهتداء بهديه. حتي إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب -علي ما عرف عنه من الصرامة والشدة- يروي عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟
وقد عرف بعضهم بذلك في حياته -صلي الله عليه وسلم-، وأقره عليه، واستمر علي ذلك من بعده، وقبله الصحابة، ولم يجدوا فيه ما ينكر، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم المتدينين أشد الإنكار، وعدوا فاعلها من الفاسقين أو المنحرفين !
من هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلي الضحك والمزاح النعيمان بن عمر الأنصاري، رضي الله عنه، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة.
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها.
روي عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتاب "الفكاهة والمرح" نذكر بعضًا منها:
قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلي اشتري منها، ثم جاء بها إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، قائلا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أو لم تهده لي" ؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه.(2/420)
وأخرج الزبير قصة أخري من طريق ربيعة بن عثمان قال: دخل أعرابي علي النبي -صلي الله عليه وسلم-، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلي اللحم ؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد ! فخرج النبي -صلي الله عليه وسلم- فقال: "من فعل هذا" ؟ فقالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتي وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفي تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- حيث هو فأخرجه فقال له: "ما حملك علي ما صنعت" ؟ قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.
قال الزبير أيضا: حدثني عمي عن جدي قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به، الناس، المسجد المسجد، فأخذه نعيمان بن عمرو بيده، وتنحي به، ثم أجلسه في ناحية أخري من المسجد فقال له: بل هنا قال: فصاح به الناس فقال: ويحكم، فمن أتي بي إلي هذا الموضع ؟! قالوا نعيمان، قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا، وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان قال: نعم قال: فأخذه بيده حتي أوقفه علي عثمان، وكان إذا صلي لا يلتفت فقال: دونك هذا نعيمان، فجمع يده بعصاه، فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين، فذكر بقية القصة. (ذكر هذه القصص الحافظ ابن حجر في ترجمة نعيمان من كتابه: "الإصابة" نقلاً عن كتاب الزبير بن بكار في كتابه: "الفكاهة والمرح").(2/421)
ومن الطرائف أن صحابيًا آخر من أهل الفكاهة والمزاح، استطاع أن يوقع نعيمان في بعض ما أوقع فيه غيره من "المقالب" كما في قصة سويبط بن حرملة معه، وكان ممن شهد بدرًا أيضًا، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة سويبط رضي الله عنه: وكان مزاحًا يفرط في الدعابة، وله قصة ظريفة مع نعيمان وأبي بكر الصديق -رضي الله عنهم-، نذكرها لما فيها من الظرف، وحسن الخلق.
وروي عن أم سلمة قالت: خرج أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في تجارة إلي بصري قبل موت النبي -صلي الله عليه وسلم- بعام، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا قد شهدا بدرًا، وكان نعيمان علي الزاد، فقال له سويبط، وكان رجلاً مزاحًا، أطعمني فقال: لا حتي يجيء أبو بكر رضي الله عنه، فقال: أما والله لأغيظنك، فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبدًا ؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا علي عبدي، قالوا: بل نشتريه منك، قال: فاشتروه منه بعشر قلائص، قال: فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال نعيمان: إن هذا يستهزئ بكم، وإني حر، لست بعبد، قالوا: قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره سويبط فأتبعهم، فرد عليهم القلائص، وأخذه، فلما قدموا علي النبي -صلي الله عليه وسلم- أخبروه قال: فضحك النبي -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه منها حولاً أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة. وأخرجه أبو داود الطيالسي والروياني فجعلا المازح هو النعيمان والمبتاع سويباطًا، كما في ترجمته في "الإصابة").
موقف المتشددين:
ولا ريب أن هناك من الحكماء والأدباء والشعراء من ذم المزاح، وحذر من سوء عاقبته، ونظر إلي جانب الخطر والضرر فيه، وأغفل الجوانب الأخري.(2/422)
قال بعضهم: المزاح مجلبة للبغضاء، مثلبة للبهاء، مقطعة للإخاء، وقيل: إذا كان المزاح أول الكلام كان آخره الشتم واللكام، وسئل الحجاج بن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح، وآخره ترح، وهو نقائص السفهاء مثل نقائص الشعراء، والمزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
وقال مسعر بن كدام:
أما المزاحة والمراء فدعهما خلقان لا أرضاهما لصديق
وقيل:
لا تمازح صغيرًا فيجترئ عليك، ولا كبيرًا فيحقد عليك !
ونحوه قول الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه يجرئ عليك الطفل والدنس النذلا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر، وقيل: المزاح يبدي المهانة ويذهب المهابة، والغالب فيه واتر، والمغلوب ثائر.
وقيل: احذر فلتات المزاح فسقطة الاسترسال لا تقال.
ولكن ما جاء عن الرسول -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال.
وقد قال لحنظلة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، واتهم نفسه بالنفاق: "يا حنظلة لو دمتم علي الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يًا حنظلة ساعة وساعة"، وهذه هي الفطرة، وهذا هو العدل.
روي ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- متحزقين ولا متماوتين. كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم علي شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون. (المصنف لابن أبي شيبة 8/711 بلفظ "منحرفين" بدل "متحزقين" والتصويب من غريب الحديث للخطابي 3/49).
والتحزق كما يقول الإمام الخطابي: التجمع وشدة التقبص.
وفي النهاية لابن الأثير: متحزقين: أي منقبضين ومجتمعين.
وسئل ابن سيرين عن الصحابة: هل كانوا يتمازحون ؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر. (رواه أبو نعيم في: الحلية 2/275).(2/423)
وبهذا يكون موقف أولئك النفر من المتدينين أو المتحمسين للدين، وعبوسهم وتجهمهم الذي ذكره الأخ السائل، لا يمثل حقيقة الدين في شيء، ولا يتفق مع هدي الرسول الكريم وأصحابه.
إنما يرجع إلي سوء فهمهم للإسلام، أو لطبيعتهم الشخصية، أو لظروف نشأتهم وتربيتهم.
وعلي كل حال، لا يجهل مسلم أن الإسلام لا يؤخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس، يخطئون ويصيبون. والإسلام حجة عليهم، وليسوا هم حجة علي الإسلام، إنما يؤخذ الإسلام من القرآن والسنة الثابتة.
تفسير النصوص الموهمة لخلاف ذلك:
وأما النصوص الدينية التي ذكرها السائل، والتي فهم منها من فهم أن الإسلام يدعو إلي الحزن والاكتئاب والتجهم، فأود أن ألقي بعض الضوء عليها حتي لا نسيء فهمها، ونخرجها عن الإطار الذي أريد بها.
فقوله تعالي علي لسان قوم قارون له ناصحين: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) لا يفهم منه ذم الفرح بإطلاق، بل الفرح المراد هنا -كما يدل عليه السياق- هو فرح الأشر والبطر والغرور والانتفاخ الذي ينسي صاحبه فضل الله عليه، وينسب كل فضل إلي نفسه، فهو فرح بغير الحق، كذلك الذي ذم به القرآن المشركين حين قال لهم بعد دخولهم النار: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون). (غافر: 75).
وهو أشبه بفرح الذين سألهم النبي -صلي الله عليه وسلم- من اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا من عنده فرحين بما صنعوا من الكتمان والكذب ولم يكتفوا بذلك، بل طلبوا الحمد علي أنهم سئلوا فأجابوا بالحقيقة وفيهم نزل قوله تعالي: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). (آل عمران: 188).
ومثل ذلك فرح الذين غرهم علمهم المادي، فوقفوا عنده، ورفضوا ما جاء به الوحي، وفيهم جاء قول الله تعالي: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون). (غافر: 83).(2/424)
وقوله -صلي الله عليه وسلم-: "لا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" فالحديث واضح الدلالة علي أن المنهي عنه ليس مجرد الضحك، بل كثرته، وكل شيء خرج عن حده انقلب إلي ضده.
وأما وصفه -صلي الله عليه وسلم- "بأنه متواصل الأحزان" فالحديث ضعيف، والضعيف لا تقوم به حجة.
ويعارضه الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، أنه كان -صلي الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الهم والحزن.
علي أن ذلك الحديث لو صح لأمكن تأويله أنه كان يمسي ويصبح وهو مشغول بهموم دعوته، وهموم أمته، وما أكثرها.
ولكنه مع هذا لم يضق قلبه الكبير عن المزاح والمداعبة، وإعطاء الفطرة حقها، والناس حقوقهم، وهذه هي الإنسانية الكاملة، والأسوة المثلي.
حدود المشروعية في الضحك والمزاح:
ومن هنا نقول: إن الضحك والمرح والمزاح أمر مشروع في الإسلام، كما دلت علي ذلك النصوص القولية، والمواقف العملية للرسول الكريم -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-.
وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلي شيء من الترويح يخفف عنها لأواء الحياة وقسوتها، وتشعب همومها وأعبائها.
وفي هذا قال الإمام علي رضي الله عنه: "إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة".
وقال: "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي" !
كما أن هذا الضرب من اللهو والترفيه يقوم بمهمة التنشيط للنفس، حتي تستطيع مواصلة السير والمضي في طريق العمل الطويل، كما يريح الإنسان دابته في السفر، حتي لا تنقطع به.
وفي هذا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوي لها علي الحق".
فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها في الأصل، ولكنها مقيدة بقيود وشروط لابد أن تراعي:
أولها: ألا يكون الكذب والاختلاق أداة الإضحاك للناس، كما يفعل بعض الناس في أول إبريل -نيسان- فيما يسمونه "كذبة إبريل".(2/425)
ولهذا قال -صلي الله عليه وسلم-: "ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له".
وقد كان -صلي الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقًا.
ثانيًا: ألا يشتمل علي تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي.
قال تعالي: (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان). (الحجرات: 11).
وجاء في الحديث الصحيح: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" رواه مسلم.
وذكرت عائشة أمام النبي -صلي الله عليه وسلم- إحدي ضرائرها، فوصفتها بالقصر تعيبها به، فقال: "يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" قالت: وحكيت له إنسانًا -أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك- فقال: "ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا". (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح).
ثالثا: ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم.
فقد روي أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: حدثنا أصحاب محمد -صلي الله عليه وسلم-، أنهم كانوا يسيرون مع النبي -صلي الله عليه وسلم- فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلي حبل معه فأخذه، ففزع فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا".
وعن النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في مسير، فخفق رجل علي راحلته -أي نعس- فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله: "لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا" رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات. والسياق يدل علي أن الذي فعل ذلك كان يمازحه.
وقد جاء في الحديث الآخر: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادا" رواه الترمذي وحسنه.(2/426)
رابعًا: ألا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب.
ومن ممادح الشعراء:
إذا جد عند الجد أرضاك جده وذو باطل إن شئت ألهاك باطله !
والباطل هنا يقصد به اللهو والمرح.
وقال آخر:
أهازل حيث الهزل يحسن بالفتي وإني إذا جد الرجال لذو جد !
وروي الأصمعي أنه رأي امراة بالبادية تصلي علي سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرغت، وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزين، فقال لها: أين هذه من تلك ؟
فأنشدت تقول:
ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب !
قال: فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له.
وقد قال أبو الطيب:
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندي
وفي الحديث: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق".
وقد عاب الله تعالي علي المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولي بهم أن يبكوا، فقال تعالي: (أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون). (النجم: 59-61).
وعاب علي المنافقين فرحهم وضحكهم لتخلفهم عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في غزوة تبوك وافتعالهم الأعذار الكاذبة للقعود مع الخوالف، فقال تعالي: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا جزاء بما كانوا يكسبون). (التوبة: 81، 82).
خامسًا: أن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل.
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي: "ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة.(2/427)
وقد ورد عن علي رضي عنه قوله: "أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح".
وهو قول حكيم، يدل علي عدم الاستغناء عن المزح، كما يدل علي ضرر الإفراط فيه.
والمبالغة هي التي يخشي من ورائها الإلهاء عن الأعباء، أو تجريء السفهاء، أو إغضاب الأصدقاء، ولعل هذا المراد من حديث "لا تمار أخاك ولا تمازحه" رواه الترمذي.
فالمبالغة في المزاح كالمماراة، كلتاهما تؤدي إلي إيغار الصدور.
وقال سعيد بن العاص لابنه: "اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب البهاء، ويجريء عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحش المخالطين".
وخير الأمور هو الوسط دائمًا وهو نهج الإسلام وخصيصته الكبري، ومناط فضل أمته علي غيرها. وهو الصراط المستقيم الذي ندعو الله أن يهدينا إليه، ويثبتنا عليه في الأقوال والآراء والأعمال والمواقف، اللهم آمين.
اللعب بالشطرنج
اختلفنا في حكم اللعب بالشطرنج، ورجعنا إلي كتابك "الحلال والحرام" فرأيناك ذكرت أن الفقهاء قد اختلفوا فيه بين الإباحة والكراهة والتحريم.
وقد ملت إلي رأي من أباحه، ولكن بشروط ثلاثة: ألا تؤخر بسببه صلاة عن وقتها، وألا يخالطه قمار، وأن يحفظ اللاعب لسانه حال اللعب من السب والفحش والأيمان الكاذبة ونحوها.
فإذا فرط في هذه الثلاثة أو بعضها اتجه القول إلي التحريم.
هذا ما قرأناه في كتابك، ولكن واحدًا منا، زعم أنك متساهل في الفتوي وتميل إلي التحليل أكثر من التحريم.
والذي نرجوه منك أن تبين لنا الحكم في هذه اللعبة بيانًا شافيًا، بأدلته من النصوص والقواعد الشرعية، فكثير من الناس في إجازتهم وعطلهم يتسلون بمثل هذا اللون من اللهو، بدعوي أنهم يشغلون به وقت الفراغ الطويل، ويستغنون به عن الخوض في أعراض الناس، الذي غدا فاكهة المجالس، ومحور الحديث بين الناس إذا تلاقوا.
نسأل الله أن يشرح صدرك لهذا البيان، فينتفع به الكثيرون، ولك منا الشكر، ومن الله الأجر إن شاء الله.
إخوة في الإسلام(2/428)
جـ: هذا السؤال من الأخوة في الإسلام يذكرني بلقاء فقهي وفكري مفتوح، دعت إليه "جمعية الإصلاح" في البحرين منذ عدة أشهر من سنة 1408 هـ، وقد بدأ اللقاء بورقة قدمها أحد الأخوة هي أشبه بعريضة اتهام لي، ولكن في صورة كريمة من الأدب والحب والتقدير، ولهذا لم أجد فيها أي إزعاج لي، بل رددت عليها بكل صراحة ووضوح في شريط مسجل منتشر.
وكان من أوائل الأسئلة: أني آخذ جانب التسهيل في الفتوي، وأميل إلي التحليل أكثر مما أميل إلي التحريم.
وأذكر أني قلت: أني أستطيع أن أقلب الاتهام فأقول عن الآخرين: إنهم يشددون علي الناس في فتواهم، فيعسرون بذلك ولا ييسرون، وهذا خلاف ما أوصي به النبي -صلي الله عليه وسلم-، حين قال: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" (متفق عليه من حديث أنس). وقال: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" (رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح).
وأنهم يميلون إلي التحريم في حين أن الإسلام يميل إلي التحليل، وإلي تقليل التكاليف، ولهذا قال تعالي: (يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) (المائدة: 101). وقال -صلي الله عليه وسلم-: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم لكثرة أسئلتهم واختلافهم علي أنبيائهم". (متفق عليه عن أبي هريرة).
وقال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسي شيئًا" ثم تلا: (وما كان ربك نسيًا). (مريم: 64).
وقد أنكر القرآن بشدة علي الذين يحرمون بغير إذن من الله (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آلله أذن لكم أم علي الله تفترون). (يونس: 59).
ومعتمدي في التيسير: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.(2/429)
فكيف إذا كان التيسير هو الذي تعضده الأدلة، وهو المعبر عن روح الشريعة ؟ كما أنه الملائم لحاجات الناس وروح العصر، وإعطاء صورة سمحة لغير المسلمين عن الإسلام، وهذا ما صرح به الرسول -صلي الله عليه وسلم- حين انتهر أبو بكر الجاريتين المغنيتين في بيت عائشة، فقال: "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" (رواه البخاري ومسلم والنسائي). "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، وإني بعثت بحنيفية سمحة". (رواه الإمام أحمد في: المسند).
كما يذكرني سؤال الأخوة هنا بمقال غاضب هائج مليء بالحشو والإسفاف، خلا من كل أدب للحوار، هو من أغرب وأعنف ما قرأت في نقد كتابي "الحلال والحرام" وقد ترجمه لي أحد الأخوة (هو الزميل الكريم الأستاذ الدكتور: محمد كمال جعفر، أستاذ العقيدة والفلسفة ورئيس قسم العقيدة والأديان، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، بجامعة قطر، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى في رمضان (1408 هـ) غفر الله له، وجزاه خيرًا، وتقبله في الصالحين من عباده، وقد ترجم المرحوم أكثر المقال ولم يتحمل ترجمة الباقي لخفته وسوء أدبه). من مقال في صحيفة تصدر في جنوب إفريقيا، لأحد المشايخ المسلمين هناك، وهو مقال طويل، اشتمل على خلط وخبط، وتطاول وادعاء، دون دراسة أو معرفة بكتاب الله، ولا بأحاديث رسول الله، ولا بأصول الفقه، ولا بمذاهب أئمته، وأقوال علمائه، ومعرفة ما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه، وقد قال علماؤنا بحق: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه. وقالوا: من لم يعرف اختلاف العلماء لم تشم أنفه رائحة العلم !
ولو كان كاتب المقال علي شيء من العلم لعلم أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية الخلافية؛ لأن لكل فيها رأيه ودليله، ولو كان مجتهدًا لم يجز له أن ينكر علي أئمة مجتهدين أعلام، فكيف وهو في أسفل قاع التقليد ؟!
وقد تحدث المقال عن لعب "الشطرنج" كأنه حرام بين مجمع علي حرمته بل كأنه كبيرة من الكبائر !(2/430)
وأنكر بشدة ردي للأحاديث المرفوعة التي رويت في تحريم الشطرنج، ودعا بالويل والثبور وعظائم الأمور، علي كل من ينكر حديثًا رواه الفقهاء في كتبهم ! فإن هذا اتهام للفقهاء بالتزوير، والكذب علي الرسول -صلي الله عليه وسلم-! (جهل هذا المسكين أن في كثير من الكتب الفقهية أحاديث واهية، وأخري لا أصل لها، وثالثة موضوعة مكذوبة. ومن أجل هذا عني المحدثون بتخريج الأحاديث المعلقة في كتب الفقه مثل: "التحقيق" لابن الجوزي، و "تنقيحه" لابن عبد الهادي، و "نصب الراية" للزيلعي، و "تلخيص الحبير" لابن حجر، وغيرها).
وزعم صاحب المقال أني أبيح الشطرنج بإطلاق، وهذا إما كذب واضح، وإما جهل فاضح، فإني لم أبحه إلا بشروط ذكرها العلماء المعتبرون، فنقلتها عنهم.
مذهب الحنفية:
ومعظم العلماء في جنوب إفريقيا إنما هم من مهاجري الهنود الذين ينتسبون إلي المذهب الحنفي، والمفروض في كاتب المقال "الشطرنج والإسلام" أن يكون حنفي المذهب، ولكن يبدو من إرغائه وإزباده أنه لم يقرأ كتب المذهب، بل لم يقرأ المتون المشهورة المعتمدة فيه، مثل كتاب "القدوري" و "الهداية" و "الكنز" و "المختار" و "تنوير الأبصار" وغيرها، ناهيك بشروحها !
فهذه المتون تعرضت للعب الشطرنج في كتاب "الشهادات" عند الحديث عمن لا تقبل شهادته، وأحيانًا في كتاب "الكراهية" أو "الحظر والإباحة" علي اختلاف التسميات عند الحنفية.
وقد أجمع هذه المتون علي أن الذي يقامر بالشطرنج، هو الذي تسقط عدالته، وترد شهادته؛ لأنه ارتكب حرامًا، بل كبيرة، لدخول الميسر -وهو القمار- في اللعب، والميسر قرين الخمر، في كتاب الله تعالي.(2/431)
وبعضهم أضاف إلي المقامرة أمورًا أخري كل واحد منها كاف لإسقاط عدالته، كأن تفوته بسبب الاشتغال به الصلاة، أو يكثر من الأيمان الكاذبة عليه. أو يلعب به في الطريق لمخالفته للمروءة، أو يذكر عليه فسقًا أو يدمنه ويداوم عليه. (انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 4/383 ط بيروت- مصورة عن ط بولاق).
قال في "الهداية": (فأما مجرد اللعب بالشطرنج فليس بفسق مانع من الشهادة؛ لأن للاجتهاد فيه مساغًا). (الهداية مع فتح القدير 6/38).
ولما قرن متن "الكنز" بين النرد والشطرنج في أن من يقامر بهما أو تفوته بسببهما الصلاة ترد شهادته، قال شارحه ابن نجيم في "البحر": (ظاهر تقييده بما ذكر استواء النرد والشطرنج، وليس كذلك فإن اللعب بالنرد مبطل للعدالة مطلقًا، كما في "العناية" وغيرها، للإجماع علي حرمته، بخلاف الشطرنج؛ لأن للاجتهاد فيه مساغا؛ لقول مالك والشافعي بإباحته، وهو مروي عن أبي يوسف، كما في "المجتبي" من الحظر والإباحة، واختارها ابن الشحنة إذا كان لإحضار الذهن، واختار أبو زيد الحكيم حله، ذكره شمس الأئمة السرخسي. (البحر الرائق شرح كنز الدقائق 7/91).
ولنعد إلي بحث الموضوع من أساسه.
متي ظهر الشطرنج في الحياة الإسلامية ؟ :
الشطرنج -بكسر الشين وقد تفتح- لعبة تلعب علي رقعة ذات أربعة وستين مربعًا، وتمثل دولتين متحاربتين باثنتين وثلاثين قطعة، تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفيلة والجنود ... (هندية) .
هذا ما عرفها به "المعجم الوسيط".
وقد اتفق العلماء من فقهاء ومفسرين ومحدثين وشراح علي أنها لم تعرف عند العرب في زمن النبي -صلي الله عليه وسلم-، وإنما عرفوها بعد الفتح (ذكر ذلك الحافظ الحجة ابن كثير في "إرشاده" كما في نيل الأوطار 8/259 ط دار المعرفة- بيروت)، فقد نقلوها عن الفرس الذين كانوا قد نقلوها عن الهنود.
قيمة الأحاديث الواردة فيه:(2/432)
ونظرًا؛ لأنه لم يكن في عصر النبوة لم يثبت عن النبي -صلي الله عليه وسلم- حديث في شأنه، وإن رويت فيه أحاديث من نوع "إن لله عز وجل في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه (الشاه بالفارسية هو: الملك. ومعروف في الشطرنج أن اللعبة تنتهي إذا قضي أحد الخصمين علي ملك الآخر). منها نصيب" رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وحكم الألباني بوضعه في "الإرواء" رقم "2671".
ومثله ما رواه الديلمي عن ابن عباس رفعه: "ألا إن أصحاب الشاه في النار: الذين يقولون: قتلت والله شاهك".
وعن أنس مرفوعا: "ملعون من لعب بالشطرنج".
وعن علي مرفوعا: "يأتي علي الناس زمان يلعبون بها، ولا يلعب بها، إلا كل جبار، والجبار في النار".
قال الحافظ ابن كثير: والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة. (ذكر هذه الأحاديث وتعقيب ابن كثير العلامة الشوكاني في: "نيل الأوطار" 8/259).
ومن هنا لم يستدل أحد من الأئمة الذين ذهبوا إلي تحريمه بشيء من هذه الأحاديث، ولو كان لها قيمة علمية عندهم لاستندوا إليها، إنما استدل بها بعض المتأخرين.
وقال الإمام أحمد رغم تشديده فيه: أصح ما في الشطرنج قول علي -رضي الله عنه- (المصدر السابق)، يعني أنه لم يثبت فيه شيء مرفوع إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- وسيأتي أن قول علي نفسه غير ثابت عنه.
سبب الاختلاف في حكمه:
ولعدم وجود نص شرعي في شأن لعبة الشطرنج يبين الحكم، ويحسم الأمر، اختلف الفقهاء في حكمه، ما بين مبيح له، وكاره، ومحرم، كمعظم المسائل التي لا توجد فيها نصوص بينه ملزمة، وهذا من فضل الله علي الناس، ولطفه بهم، وتيسيره عليهم، أن سكت عن أشياء، رحمة بهم غير نسيان (وما كان ربك نسيًا). (مريم: 64).(2/433)
قال العلامة ابن حجر الهيثمي في شرحه لمنهاج النووي، في شأن الأحاديث المحكية في ذم الشطرنج: (قال الحافظ: لم يثبت منها شيء من طريق صحيح ولا حسن. وقد لعبه جماعة من أكابر الصحابة، ومن لا يحصي من التابعين ومن بعدهم.
قال: وممن كان يلعبه غبا: سعيد بن جبير -رضي الله عنه- (تحفة المحتاج في شرح المنهاج، وحواشي الشرواني وابن قاسم عليها 10/217). ومعني غبًا أي قليلاً.
مذهب الشافعية في الشطرنج:
وقد عرفنا مذهب الحنفية في شأن الشطرنج، ومذهب الشافعية أكثر تيسيرًا في حكمه، كما هو مشهور عنهم.
قال الإمام النووي في "الروضة":
(اللعب بالشطرنج مكروه: وقيل: مباح لا كراهة فيه. ومال الحليمي إلي تحريمه، واختاره الروياني. والصحيح الأول) (الروضة 11/225 ط المكتب الإسلامي). يعني الكراهة، والظاهر: أنها الكراهة التنزيهية، فهذا هو المتبادر عند الشافعية.
وهذا ما نص عليه في "المنهاج" أيضًا حيث قال: (ويحرم اللعب بالنرد علي الصحيح، ويكره بشطرنج). (إنما قال: علي الصحيح لأنه في وجه آخر: أنه مكروه كما في الروضة ص 226).
قال في "التحفة": (ونازع البلقيني في كراهته بأن قول الشافعي: لا أحبه، لا يقتضيها). (التحفة مع حواشيها 10/216، 217).(2/434)
وقال النووي في الروضة بعد أن صح القول بالكراهة: (فإن اقترن به قمار أو فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدًا، ردت شهادته بذلك المقارن -أي لا باللعب نفسه- وإنما يكون قمارًا إذا شرط المال من الجانبين، فإن أخرج أحدهما ليبذله إن غلب، ويمسكه إن غلب، فليس بقمار، ولا ترد به شهادته، ولكنه عقد مسابقة علي غير آلة قتال، فلا يصح، ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدًا، ولكن شغله اللعب به حتي خرج، وهو غافل، فإن لم يتكرر ذلك منه لم ترد شهادته، وإن كثر منه فسق، وردت شهادته، بخلاف ما إذا تركها ناسيًا مرارا؛ لأنه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة. هكذا ذكروه، وفيه إشكال، لما فيه من تعصية. (أي الحكم بأنه عاص؛ لأنه حينئذ غير معذور بغفلته ونسيانه، وقد أجاب الإمام الشافعي في الأم عن هذا الاستشكال بقوله: فإن قيل: فهو لا يترك وقتها للعب إلا وهو ناس ! قيل: فلا يعود للعب الذي يورث النسيان، فإن عاد له وقد جربه أنه يورثه ذلك، فذلك استخفاف. (الأم 6/213 ط. الشعب القاهرة) . قال في التحفة: وحاصله أن الغفلة نشأت من تعاطيه للفعل الذي من شأنه أن يلهي عن ذلك، فكان كالمتعمد لتفويته. ويجري ذلك في كل لهو ولعب مكروه، ومشغل -أي شاغل- للنفس ومؤثر فيها تأثيرًا يستولي عليها، حتي تشتغل به عن مصالحها الأخروية بل يمكن أن يقال ذلك في شغل بكل مباح؛ لأنه كما يجب تعاطي مقدمات الواجب، يجب تعاطي ترك مفوتاته، والكلام فيمن جرب نفسه أن اشتغاله بذلك المباح يلهيه حتي يفوت به الوقت. أ هـ. التحفة 10/217). الغافل اللاهي، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بغيره من المباحات). (الروضة 11/226).(2/435)
والأولي أن نذكر هنا كلمة الشافعي بنصها من "الأم" قال رضي الله عنه: (يكره- من وجه الخبر- اللعب بالنرد أكثر مما يكره اللعب بشيء من الملاهي، ولا نحب اللعب بالشطرنج وهو أخف من النرد، ويكره اللعب بالحزة والقرق، وكل ما للعب الناس؛ لأن اللعب ليس من صنعة أهل الدين ولا المروءة، ومن لعب بشيء من هذا علي الاستحلال له لم ترد شهادته، والحزة تكون قطعة خشب فيها حفر بها يلعبون بها، إن غفل به عن الصلوات فأكثر حتي تفوته ثم يعود له حتي تفوته، رددنا شهادته علي الاستخفاف بمواقيت الصلاة، كما نردها لو كان جالسًا فلم يواظب علي الصلاة من غير نسيان ولا غلبة علي عقل). (الأم 6/213 ط الشعب).
مذهب مالك في اللعب بالشطرنج:
وفي مذهب مالك نجد الإمام ابن رشد "الجد" ينقل عن العتيبية" في "البيان والتحصيل": (سئل مالك عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب والسن عن الباطل، وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء: أما آن أن تنهاك لحيتك هذه ؟ قال أسلم: فمكثت زمانًا طويلاً وأنا أظن أن ستنهاني). (البيان والتحصيل 18/436).
وسئل مالك أيضًا عن الرجل يلعب مع امرأته في البيت بالأربعة عشر، قال: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (يونس: 32).(2/436)
وعلق علي ذلك ابن رشد فقال: (الأربعة عشر قطع معروفة كان يلعب بها كالنرد، وهو النردشير الذي قال فيه رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله" (سيأتي تخريجه بعد). و "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير" (سيأتي تخريجه بعد). وكذلك الشطرنج له حكمه، وقد قال فيه الليث بن سعد: إنه شر من النرد، فاللعب بشيء من ذلك كله علي سبيل القمار والخطر لا يحل ولا يجوز بإجماع من العلماء؛ لأنه من الميسر الذي قال الله فيه: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (المائدة: 93). وأما اللعب بشيء من ذلك كله علي غير وجه القمار فلا يجوز؛ لأن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: "من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله" فعم ولم يخص قمارًا من غيره. فمن أدمن اللعب بشيء من ذلك كله كان قدحًا في إمامته وشهادته، وقد كان عبد الله بن عمر إذا رأى أحدًا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها. وبلغ عائشة رضي الله عنها: أن أهل بيت في دارها كانوا سكانًا فيها عندهم النرد، فأرسلت إليهم: "لئن لم تخرجوه لأخرجنكم من داري" وأنكرت ذلك عليهم، ذكر ذلك مالك في موطئه.
قال: ولا فرق في ذلك كله بين لعب الرجل به مع أجنبي في بيته أو في غير بيته، وبين لعبه به مع أهله في بيته. إن كان علي الخطار والقمار، فذلك حرام بإجماع، وإن كان علي غير القمار فهو من المكروه الذي تسقط شهادته من أدمن اللعب به، وهو الذي قال مالك فيه في هذه الرواية: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) فهذا من الباطل، وبالله تعالي التوفيق). (البيان والتحصيل 17/577، 578).(2/437)
وكلمة "الباطل" لا تعني أنه حرام، بل تعني أنه من اللهو واللعب وليس كل لهو ولعب حرامًا، وإن قال بذلك بعض المالكية، وأخذا من كلام مالك (انظر: الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي عليه). وهو لا يفيد ذلك.
كيف وهو يقول عن الشطرنج: لا خير فيه، وليس بشيء، ولا يعجبني، وأنه لا يليق بذي اللحية والشيب والسن، وهذا كله لا يدل علي أكثر من الكراهية التنزيهية.
مذهب الحنابلة:
وأما مذهب الحنابلة، فيعبر عنه الإمام ابن قدامة في "المغني" فيقول: (كل لعب فيه قمار فهو محرم، أي لعب كان، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالي باجتنابه، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته، وما خلا من القمار- وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما- فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، فأما المحرم فاللعب بالنرد، وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: هو مكروه غير محرم.
واستدل ابن قدامة لمذهبه بالحديثين اللذين ذكرهما ابن رشد من قبل.
قال: (إذا ثبت هذا، فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته، سواء لعب به قمارًا أو غير قمار، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وظاهر مذهب الشافعي.
فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم، إلا أن النرد أكد منه في التحريم؛ لورود النص في تحريمه، لكن هذا في معناه، فيثبت فيه حكمه، قياسًا عليه.
وذكر القاضي حسين: ممن ذهب إلي تحريمه: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وسالمًا، وعروة، ومحمد بن علي بن الحسين، ومطر الوراق، ومالكًا، وقول أبي حنيفة.
وذهب الشافعي إلي إباحته، وحكي ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، واحتجوا بأن الأصل الإباحة، ولم يرد بتحريمها نص، ولا هي في معني المنصوص عليه، فيبقي علي الإباحة، ويفارق الشطرنج النرد من وجهين:
أحدهما: أن في الشطرنج تدبير الحرب، فأشبه اللعب بالحراب، والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل.(2/438)
والثاني: أن المعول في النرد علي ما يخرجه الكعبتان، فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج علي حذقه وتدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام.
ولنا قول الله تعالي: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه). (المائدة: 90).
قال علي رضي الله عنه: الشطرنج من الميسر.
ومر علي -رضي الله عنه- علي قوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) .
قال أحمد: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه.
وروي واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "إن الله عز وجل ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه فيها نصيب" رواه أبو بكر بإسناده؛ ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالي وعن الصلاة، فأشبه اللعب بالنرد.
وقولهم: لا نص فيها، قد ذكرنا فيها نصًا، وهي أيضًا في معني النرد المنصوص علي تحريمه، وقولهم: إن فيها تدبير الحرب، قلنا: لا يقصد هذا منها، وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب أو القمار، وقولهم: إن المعول فيها علي تدبيره، فهو أبلغ في اشتغاله بها وصدها عن ذكر الله والصلاة.
إذا ثبت هذا؛ فقال أحمد: النرد أشد من الشطرنج، وإنما قال ذلك لورود النص في النرد، والإجماع علي تحريمه، بخلاف الشطرنج، وإذا ثبت تحريمه فقال القاضي: هو كالنرد فرد الشهادة به، وهذا قول مالك وأبي حنيفة. (قد نقلنا أقوال المذهبين من قبل)؛ لأنه محرم مثله.
وقال أبو بكر: إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه، وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته، إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها، أو يخرجه إلي الحلف الكاذب، ونحوه من المحرمات، أو يلعب بها علي الطريق، أو يفعل في لعبه ما يستخف به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة، وهذا مذهب الشافعي، وذلك لأنه مختلف فيه، فأشبه سائر المختلف فيه). (المغني 9/172، 173 المطبعة اليوسفية).
أدلة القائلين بتحريم الشطرنج:(2/439)
تلك هي مذاهب الأئمة، وأقوال الفقهاء، في حكم الشطرنج، وهي تختلف ما بين الإباحة بشروط والكراهة، والتحريم.
وإذا نظرنا إلي ما استند إليه الذين شددوا ومالوا إلي التحريم، نجد أدلتهم تتركز فيما يلي:
قوله تعالي: (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) . وقول علي: "الشطرنج من الميسر".
ما ورد من أحاديث في ذم الشطرنج والوعيد عليه، ولعن أهله، مثل ما ذكره ابن قدامة في "المغني"، وما ذكرناه من قبل مما رواه ابن أبي الدنيا والديلمي وغيرهما.
ما ورد في النهي عن "النرد" أو "النردشير" مثل:
حديث أبي موسي: "من لعب النردشير فقد عصي الله ورسوله". (الحديث أخرجه مالك في الموطأ 2/958/6 وأحمد في المسند 4/394، 397، 400، وأبو داود (4938)، وابن ماجة (3762)، والحاكم 1/50 وصححه علي شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. كما رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد).
وكذلك حديث بريدة: "من لعب النردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه".(رواه مسلم في كتاب الشعر برقم (2260) وأبو داود (4939) وابن ماجة 3763) . والنردشير هو: النرد. فارسي معرب. وشير معناه: حلو.
وقد انعقد الإجماع علي تحريم النرد، قامر به، أو لم يقامر.
حديث: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه وملاعبته أهله، فإنهن من الحق". (رواه الترمذي (1637) عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وهو مرسل، وفيه عنعنة ابن إسحاق، لكنه روي عن عتبة بن عامر مثله، وإن لم يذكر لفظه، وقال: حسن صحيح، وهو عند أبي داود (2513) والنسائي في الجهاد، وابن ماجة (2811) ووصفه العراقي في تخريج الإحياء بأنه مضطرب).
والشطرنج خارج عن هذه الثلاثة، فهو باطل، والباطل حرام.
ما جاء عن الصحابة أنهم أنكروه، ومنه ما روي أن عليًا -رضي الله عنه- مر علي قوم يلعبون الشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) !.(2/440)
القياس علي النرد، فكلاهما لهو ولعب، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، بل ذهب بعضهم إلي أن الشطرنج شر من النرد في هذا؛ لأنه يشغل فكر صاحبه وقلبه أكثر مما يشغله النرد.
مناقشة أدلة المحرمين:
والمتأمل في هذه الأدلة التي اعتمد عليها القائلون بتحريم الشطرنج، يجد أن شيئًا منها لا يثبت للنقد، ولا يمكن أن يعتمد عليه في التحريم الذي ينبغي الاحتياط فيه، حتي لا نحرم ما أحل الله.
آية سورة المائدة:
فأما الاستدلال بأية سورة المائدة التي دلت علي تحريم الخمر والميسر، فلا نزاع في أن الميسر محرم كالخمر، وفيه إثم كبير بنص القرآن، فهو من الكبائر، وليس مجرد حرام.
ولكن أين الدليل علي أن الشطرنج من الميسر ؟
سيقولون: قول علي: إنه من الميسر، وسيأتي أن هذا القول عن علي لم يثبت.
علي أنه لو سلمنا بثبوته لحمل علي أنه من الميسر إذا لعب علي قمار، لا لمجرد اللهو والتسلية.
أحاديث ذم الشطرنج والوعيد عليه:
أما أحاديث ذم الشطرنج والوعيد الشديد عليه، ولعن فاعله .. إلخ، فقد بين الأئمة من نقاد الحديث أن شيئًا منها لم يثبت، ولم يقل إمام من أئمة الحديث بصحة حديث واحد منها، ولا بحسنه، وقد نقلنا قول الإمام أحمد، وقول ابن كثير وغيرهما.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رغم تشدده جدًا في أمر الشطرنج لم يستدل بحديث واحد منها إنما اعتمد علي أنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة.
أحاديث تحريم النرد:
فأما الأحاديث التي دلت علي تحريم النرد، فنحن نسلم بها، وإن كان الحديث الأول عن أبي موسي في سنده انقطاع، وقد روي موقوفًا من قوله كما ذكر ابن كثير في تفسير آية: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ...) وله شاهد لم يسلم من مقال، ولهذا قال الشيخ الألباني في تخريج منار السبيل: لا بأس به في الشواهد والمتابعات "حديث 2670".(2/441)
ويكفينا حديث بريدة عند مسلم: "فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه" وغمس اليد في لحم الخنزير مقدمة إلي أكله، وفيه إشارة إلي التحريم، كما قال الشوكاني؛ لأن التلوث بالنجاسات من المحرمات (نيل الأوطار 8/258 ط. دار المعرفة، بيروت)؛ ولأنه قد يؤدي إلي الميسر، وهو من الكبائر.
والمذاهب الأربعة وجمهور العلماء مجمعون علي تحريم النرد، قال الشوكاني: (وقد كرهها عامة الصحابة، وروي أنه رخص فيها ابن المسيب وابن مغفل علي غير قمار). (نفسه ص 259).
وكلام الإمام الشافعي الذي نقلناه من قبل لا يدل علي تحريمه. وقد صرح بعض الشافعية بكراهته فقط.
وعلي كل حال فتحريم النرد هو الراجح، وأنا لا أنازع فيه، ولكن الذي أنازع فيه أن يقال: الشطرنج هو النرد، أو هو منه.
فالنرد لعبة معروفة من لعب الفرس، وقد نقلت إلي العرب قبل الإسلام، وعرفوها، ولهذا جاءت فيها أحاديث وآثار صحاح وحسان.
وهو الذي يسمي (الزهر) ويطلق عليه في مصر "الطاولة" قال في المعجم الوسيط: النرد لعبة ذات صندوق وحجارة وفصين، تعتمد علي الحظ، وتنتقل فيها الحجارة علي حسب ما يأتي به الفص: الزهر. وتعرف عند العامة بـ "الطاولة".
أما الشطرنج، فهو لعبة أخري أصلها من الهند، ونقلت إلي فارس، ولم يعرفها العرب إلا بعد الفتح.
حديث: "كل ما يلهو به المسلم باطل .. ":
أما حديث: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا .." فالباطل هنا ليس معناه الحرام كما قد يتوهم، وإنما الباطل ما ليس فيه فائدة دينية في ذاته، فهو أشبه بكلمة "اللغو".
ولا ريب أن اشتغال المسلم بالحق وبالأمور النافعة أولي وأجدي، لما وصف به الله المؤمنين، بقوله: (والذين هم عن اللغو معرضون) المؤمنون: 3.
ولكن لا يعني هذا أن اللهو أو اللعب بغير الأمور الثلاثة المذكورة حرام؛ فقد لعب الحبشة ورقصوا في مسجده -صلي الله عليه وسلم- يوم العيد وهو ينظر إليهم ويشجعهم، وعائشة معه تنظر إليهم.(2/442)
وقد حث عليه الصلاة والسلام أن يكون مع العرس لهو، إشاعة للبهجة والفرح حتي لا يكون عرسًا صامتًا. وشرع المصارعة والمسابقة علي الأقدام كمسابقته لعائشة، كما سبق بين الخيل وأعطي السابق.
وكلها خارج عن الثلاثة المذكورة.
وفي هذا المعني حديث آخر رواه النسائي في "كتاب عشرة النساء" والطبراني في "الكبير" عن جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاريين مرفوعًا بلفظ "كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو ولهو، أو سهو، إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة". (وجود المنذري في: "الترغيب" إسناده بعد أن عزاه للطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال الطبراني رجال الصحيح، خلا عبد الوهاب بن بخت، وهو ثقة 6/269 وذكره الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة 315).
والنص هنا وضع كلمة "لغو ولهو" أو "سهو" موضع كلمة "باطل" في الحديث الآخر، مما يحدد المقصود بها، كما أضاف الحديث هنا إلي الثلاثة رابعًا وهو "السباحة" مما يدل علي أن الحصر في الثلاثة غير مراد.
وقد جاء عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- وهو من زهاد الصحابة ونساكهم: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل، ليكون أقوي لها علي الحق.
وواضح أن مراده بالباطل هنا هو: اللهو واللعب، فهو يستعين به علي تنشيط نفسه للحق، بعد أن تأخذ شيئًا من الاستجمام والراحة، كما قال الشاعر:
والنفس تسأم إن تطاول جدها فاكشف سآمة جدها بمزاح(2/443)
وقال الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب "السماع" من "إحيائه" في الرد علي من احتجوا بالحديث المذكور علي تحريم الغناء كله: (قوله: "باطل" لا يدل علي التحريم، بل يدل علي عدم الفائدة، وقد يسلم ذلك، علي أن التلهي بالنظر إلي الحبشة خارج عن هذه الثلاثة، وليس بحرام، بل يلحق بالمحصور غير المحصور، كقوله -صلي الله عليه وسلم-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدي ثلاث .." فإنه يلحق به رابع وخامس. فكذلك ملاعبة امرأته لا فائدة له إلا التلذذ، وفي هذا دليل علي أن التفرج في البساتين، وسماع أصوات الطيور وأنواع المداعبات، مما يلهو به الرجل لا يحرم عليه شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل). (إحياء علوم الدين 2/285 ط دار المعرفة- بيروت، وانظر ما نقلناه عنه حول ذلك في فتوي "الغناء").
وما قاله ابن حزم في الرد علي من قال: الغناء ليس من الحق فهو إذن من الباطل، من أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي يقال هنا أيضًا.
فمن نوي باللعب ترويح النفس واستجمامها، لتستطيع مواصلة السير علي طريق الحق، واحتمال أعبائه وما أثقلها ! فهو محسن مأجور كما يؤجر في كل المباحات بنيته.
ومن لم يقصد إلا الترويح والترفيه دون أن يخطر بباله الاستعانة علي الطاعة، فقد أتي أمرًا مباحًا بشروطه.
ما جاء عن الصحابة في ذمه:
وأما ما جاء عن الصحابة، فليس فيها أثر متصل صحيح.
وقد ذكر الحافظ السخاوي في كتابه: "عمدة المحتج في حكم الشطرنج" أن الإمام أحمد قال: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه.
وقول علي يحتمل قوله حين مر علي لاعبي الشطرنج: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) ؟ !
ويحتمل ما رواه عنه جعفر بن محمد عن أبيه: الشطرنج من الميسر.
والأول ليس له إسناد صحيح أو حسن متصل، كما بين ذلك العلامة الألباني في "إرواء الغليل" بأن هذا الأثر لا يثبت عن علي، وأن خير أسانيده منقطع. (إرواء الغليل 8/288، 289 حديث 2672).(2/444)
علي أن هذا الأثر لو صح لا يفيد التحريم جزمًا، إنما يفيد مجرد الإنكار علي الاشتغال بهذا اللهو، وإلا لو كان حرامًا ومنكرًا، لغيره بيده، فهو الإمام المسئول وبيده السلطة.
وأما الأثر الثاني فقد نقل الشوكاني عن ابن كثير قوله: هو منقطع جيد (نيل الأوطار 8/259). ولا حجة في منقطع لو كان مرفوعًا، فكيف وهو موقوف ؟
وقول الإمام أحمد: أصح ما في الشطرنج قول علي، لا يدل علي أنه صحيح عنده، بل يعني أنه أحسن من غيره، وإن كان ضعيفًا في نفسه، كما بين ذلك المحققون في قولهم: أصح ما في الباب كذا، أي أقل ضعفًا.
وما روي عن الصحابة في ذلك يعارض بعضه بعضًا، فقد روي عن ابن عباس وابن عمر وأبي موسي الأشعري وأبي سعيد وعائشة: أنهم كرهوه.
ورويت إباحته عن ابن عباس وأبي هريرة، وأضيف إليهم من التابعين ابن سيرين وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومن بعدهم هشام بن عروة بن الزبير. (المصدر السابق).
ولا حجة في قول أحد دون رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، ما لم يجمعوا علي أمر، فإنهم لا يجتمعون علي ضلالة.
ولم يثبت في الشطرنج بخصوصه حديث مرفوع بوجه، وقد ذكرنا من قبل قول الحافظ ابن كثير: (والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء، ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة). (المصدر السابق).
القياس علي النرد:(2/445)
وأما من احتج علي تحريمه بقياسه علي النرد باعتبار علة التحريم هي اللهو واللعب، أو باعتباره شرًا من النرد باعتبار العلة الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهو أبلغ من النرد في ذلك -فهذا غير مسلم؛ لأنه قياس مع الفارق؛ فقد فارق النرد- كما قالوا- بأن الشطرنج معتمده الحساب الدقيق، والفكر الصحيح، ففيه تشحيذ الفكر، ونوع من التدبير، ومعتمد النرد الحدر والتخمين المؤدي إلي غاية من السفاهة والحمق. وقد قاسوا عليهما كل ما في معناهما من أنواع اللهو، فكل ما معتمده الحساب والفكر لا يحرم، وكل ما معتمده التخمين يحرم (انظر: تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر وحواشي الشرواني وابن قاسم عليه 10/216). فالمعول في النرد علي ما يخرجه الفصان، فأشبه الأزلام. والمعول في الشطرنج علي حذقه وتدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام.
كما أضافوا إلي ذلك أنه يعين علي تدبير الحرب، وإدراك المعارك، فأشبه اللعب بالحراب، والرمي بالنشاب، والمسابقة بالخيل.
وهذا في الحقيقة غير مسلم؛ فليس هناك ارتباط بين إتقان لعبة الشطرنج وإتقان فن الحرب، وإدارة رحي القتال، وأمهر اللاعبين للشطرنج ربما لا يدري في فن الحرب شيئًا !
وحسبنا الفرق الأول، وهو مؤثر وكاف.
والقول بأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة غير مسلم أيضًا، ما دام من يقول بإباحته يقيدها بشرط ألا يشغله عن الصلاة، أو أي واجب آخر ديني أو دنيوي.
وكثير من المباحات إذا استرسل الإنسان فيها، وخصوصًا المحببة منها إلي النفس، تشغل وتلهي عن ذكر الله، وعن الصلاة وعن الواجبات، وإذا لم يكن المسلم نير البصيرة، قوي الإرادة، ولكن هذا لا يجعلها محظورة بإطلاق، بل تباح بقيد عدم الإسراف فيها والاشتغال بها عما أوجب الله عليه.(2/446)
فلو أن مسلمًا كان في أجازة ولديه فراغ وقت، فخصص للعب به وقتًا معينًا ليس فيه صلاة مفروضة كوقت الضحي -من التاسعة إلي الحادية عشرة مثلا- لم يكن في ذلك منع ولا تحريم، لا سيما أن بعض الناس يشتغل بها عن الغيبة والقيل والقال، مما يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب.
وكم تأتي علي الإنسان ظروف لا يجد فيها ما يشغل فراغه، إلا مثل هذا النوع من اللهو. وقد جربنا هذا في بعض الأوقات العصيبة التي مرت بنا في المعتقلات "سنة 1954-1956م"؛ فقد أخذت منا الكتب والأوراق والأقلام ثم أخذت المصاحف، ولم يبق معنا شيء نشغل وقتنا به، وهو يمضي بطيئًا ثقيلاً، فكل يوم كأنه شهر أو دهر، وبخاصة من كان له زوجة أو أولاد تركهم ولا يدري عنهم شيئًا، كما لا يدرون عنه شيئًا، فبأي شيء يشتغل هؤلاء المحبوسون المظلومون ؟
لا يمكن أن تكلف الناس أن يظلوا صباحهم ومسائهم مسبحين مهللين مكبرين؛ فالنفس البشرية لها طاقة، و (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) .
ولهذا لجأ إخواننا -داخل زنازين السجن الحربي- إلي عمل أحجار الشطرنج من قطع الصابون الرديء الذي يصرف لنا، واتخذوا منه وسيلة لتمضية الوقت عندما سمحت الأوضاع بذلك، فقد كان مثل هذا أيضًا من الممنوعات؛ لأن كل ما يريح أنفس المعتقلين أو يسليهم فالأصل فيه هو المنع والحظر، والمطلوب هو التكدير والتنغيص الدائم.
وأعتقد أن مثل هذه الظروف هي التي جعلت بعض التابعين مثل سعيد بن جبير والشعبي يلعبون بها، في فترة تواريهم عن الحجاج، بعد معركة "دير الجماجم" التي اشترك فيها الفقهاء مع القائد عبد الرحمن بن الأشعث ضد ظلم الحجاج وجبروته.
ففي هذه الفترة حيث لا يستطيع العالم الفقيه أن يتصدي للتعليم والفتيا والإرشاد لتواريه عن الأعين، وليس معه كتبه ومراجعه، لا بأس أن يلهو بمثل الشطرنج، حتي يكشف الله الغمة.
خلاصة القول: الإباحة بشروط:(2/447)
وخلاصة القول الذي انتهي إليه البحث والنظر في الأقوال والأدلة هو الترجيح أن يكون الأصل في حكم الشطرنج هو الإباحة بالقيود والشروط التي ذكرها الشافعية والحنفية في كتبهم، وهي:
ألا يلعب بقمار، وإلا كان حرامًا، بل من الكبائر باتفاق.
ألا يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، أو أي واجب ناجز من أمور الدين والدنيا.
أن يمتنع من فحش القول ورديء الكلام وكثرة الحلف الذي يحدث كثيرًا بين اللاعبين.
ألا يلعب به علي الطريق، لما فيه من الإخلال بالمروءة.
ألا يكثر منه بحيث يصل إلي درجة الإدمان، الذي يشبه -إلي حد ما- إدمان الشرب.
وبعبارة أخري موجزة: ألا يؤدي إلي ترك واجب أو يستلزم فعل محرم، أو يخرج به عن حدود الاعتدال إلي الإسراف والإدمان، فإن الله لا يحب المسرفين.
ويسرني أن أختم هنا بكلمة مشرقة للعلامة رشيد رضا قرأتها أخيرًا في تفسير المنار قال رحمه الله:(2/448)
(إن اللعب بالشطرنج إذا كان علي مال دخل في عموم الميسر، وكان محرمًا بالنص كما تقدم، وإذا لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه، قياسًا علي الخمر والميسر، إلا إذا تحقق فيه كونه رجسًا من عمل الشيطان، موقعًا في العداوة والبغضاء، صدًا عن ذكر الله وعن الصلاة، بأن كان هذا شأن من يلعب به دائمًا أو في الغالب. ولا سبيل إلي إثبات هذا، وإننا نعرف من لاعبي الشطرنج من يحافظون علي صلواتهم، وينزهون أنفسهم عن اللجاج والحلف الباطل. وأما الغفلة عن الله تعالي فليست من لوازم الشطرنج وحده، بل كل لعب وكل عمل فهو يشغل صاحبه في أثنائه عن الذكر والفكر فيما عداه إلا قليلاً، ومن ذلك ما هو مباح وما هو مستحب أو واجب. كلعب الخيل والسلاح والأعمال الصناعية التي تعد من فروض الكفايات، ومما ورد النص فيه من اللعب لعب الحبشة في مسجد النبي -صلي الله عليه وسلم- بحضرته، وإنما عيب الشطرنج أنه من أشد الألعاب إغراء بإضاعة الوقت الطويل، ولعل الشافعي كرهه لأجل هذا، ونحمد الله الذي عافانا من اللعب به وبغيره، كما نحمده حمدًا كثيرًا أن عافانا من الجرأة علي التحريم والتحليل، بغير حجة ولا دليل). (تفسير المنار 8/62، 63).
الغناء في الإسلام
ما حكم الإسلام في الغناء والموسيقي ؟
سؤال يتردد علي ألسنة كثيرين في مجالات مختلفة وأحيانًا شتي.
سؤال اختلف جمهور المسلمين اليوم في الإجابة عليه، واختلف سلوكهم تبعًا لاختلاف أجوبتهم، فمنهم من يفتح أذنيه لكل نوع من أنواع الغناء، ولكل لون من ألوان الموسيقي مدعيًا أن ذلك حلال طيب من طيبات الحياة التي أباح الله لعباده.
ومنهم من يغلق الراديو أو يغلق أذنيه عند سماع أية أغنية قائلا: إن الغناء مزمار الشيطان، ولهو الحديث ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبخاصة إذا كان المغني امرأة، فالمرأة -عندهم- صوتها عورة بغير الغناء، فكيف بالغناء؟ ويستدلون لذلك بآيات وأحاديث وأقوال.(2/449)
ومن هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقي، حتي المصاحبة لمقدمات نشرات الأخبار.
ووقف فريق ثالث مترددًا بين الفريقين؛ ينحاز إلي هؤلاء تارة، وإلي أولئك طورًا، ينتظر القول الفصل والجواب الشافي من علماء الإسلام في هذا الموضوع الخطير، الذي يتعلق بعواطف الناس وحياتهم اليومية، وخصوصًا بعد أن دخلت الإذاعة -المسموعة والمرئية- علي الناس بيوتهم، بجدها وهزلها، وجذبت إليها أسماعهم بأغانيها وموسيقاها طوعًا وكرهًا.
والغناء بآلة -أي مع الموسيقي- وبغير آلة: مسألة ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولي، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخري.
اتفقوا علي تحريم كل غناء يشتمل علي فحش أو فسق أو تحريض علي معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل علي حرام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
واتفقوا علي إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات والإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها.
وقد وردت في ذلك نصوص صريحة - سنذكرها فيما بعد.
واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينا: فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير آلة، بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًا بآلة وبغير آلة وعده حرامًا، بل ربما ارتقي به إلي درجة الكبيرة.
ولأهمية الموضوع نري لزامًا علينا أن نفصل فيه بعض التفصيل، ونلقي عليه أضواء كاشفة لجوانبه المختلفة، حتي يتبين المسلم الحلال فيه من الحرام، متبعًا للدليل الناصع، لا مقلدًا قول قائل، وبذلك يكون علي بينة من أمره، وبصيرة من دينه.
الأصل في الأشياء الإباحة:(2/450)
قرر علماء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالي: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29)، ولا تحريم إلا بنص صحيح صريح من كتاب الله تعالي، أو سنة رسوله -صلي الله عليه وسلم- أو إجماع ثابت متيقن، فإذا لم يرد نص ولا إجماع. أو ورد نص صريح غير صحيح، أو صحيح غير صريح، بتحريم شيء من الأشياء، لم يؤثر ذلك في حله، وبقي في دائرة العفو الواسعة، قال تعالي: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه). (الأنعام: 119).
وقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسي شيئا"، وتلا: (وما كان ربك نسيا) (مريم: 64). رواه الحاكم عن أبي الدرداء وصححه، وأخرجه البزار.
وقال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" أخرجه الداراقطني عن أبي ثعلبة الخشني. وحسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه، والنووي في الأربعين.
وإذا كانت هذه هي القاعدة فما هي النصوص والأدلة التي استند إليها القائلون بتحريم الغناء، وما موقف المجيزين منها ؟
أدلة المحرمين للغناء ومناقشتها:
استدل المحرمون بما روي عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعين: أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالي: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين). (لقمان: 6) وفسروا لهو الحديث بالغناء.
قال ابن حزم: ولا حجة في هذا لوجوه:
أحدها: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله -صلي الله عليه وسلم-.
والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين.(2/451)
والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها؛ لأن الآية فيها: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا) وهذه صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوًا.
ولو أن امرأ اشتري مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوا لكان كافرًا ! فهذا هو الذي ذم الله تعالي، وما ذم قط عز وجل من اشتري لهو الحديث ليتلهي به ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالي. فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرنا وكذلك من اشتغل عامدًا عن الصلاة بقراءة القرآن أو بقراءة السنن، أو بحديث يتحدث به، أو بنظر في ماله أو بغناء أو بغير ذلك، فهو فاسق عاص لله تعالي، ومن لم يضيع شيئًا من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن. (المحلي لابن حزم (9/60) ط المنيرية). أ هـ.
واستدلوا بقوله تعالي في مدح المؤمنين: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) (القصص: 55). والغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه.
ويجاب بأن الظاهر من الآية أن اللغو: سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك، وبقية الآية تنطق بذلك. قال تعالي: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) (القصص: 55)، فهي شبيهة بقوله تعالي في وصف عباد الرحمن: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا). (الفرقان: 63).
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه، وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة اللغو ككلمة الباطل تعني ما لا فائدة فيه، وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرمًا ما لم يضيع حقًا أو يشغل عن واجب.
روي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتي به يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات؛ لأنه شبيه باللغو، قال تعالي: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم). (البقرة: 225، والمائدة: 89).(2/452)
قال الإمام الغزالي: (إذا كان ذكر اسم الله تعالي علي الشيء علي طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم، والمخالفة فيه، مع أنه لا فائدة فيه، لا يؤاخذ به، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص ؟!). (إحياء علوم الدين. كتاب السماع ص 1147 ط دار الشعب بمصر).
علي أننا نقول: ليس كل غناء لغوا؛ إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه، فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة، والمزح طاعة، والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء: "إن الله لا ينظر إلي صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم". (رواه مسلم من حديث أبي هريرة، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم).
وننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في "المحلي" ردًا علي الذين يمنعون الغناء قال: (احتجوا فقالوا: من الحق الغناء أم من غير الحق ؟ ولا سبيل إلي قسم ثالث، وقد قال الله تعالي: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (يونس: 32). فجوابنا وبالله التوفيق: أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي" (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب، وهو أول حديث في صحيح البخاري). فمن نوي باستماع الغناء عونًا علي معصية الله فهو فاسق وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوي به ترويح نفسه ليقوي بذلك علي طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك علي البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلي بستانه، وقعوده علي باب داره متفرجًا، وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك ومد ساقه وقبضها، وسائر أفعاله). (المحلي. 9/60).
جـ- واستدلوا بحديث: "كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه" رواه أصحاب السنن الأربعة، وفيه اضطراب، والغناء خارج عن هذه الثلاثة.(2/453)
وأجاب المجوزون بضعف الحديث، ولو صح لما كان فيه حجة، فإن قوله: "فهو باطل" لا يدل علي التحريم بل يدل علي عدم الفائدة. فقد ورد عن أبي الدرداء قوله: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوي لها علي الحق. علي أن الحصر في الثلاثة غير مراد، فإن التلهي بالنظر إلي الحبشة وهم يرقصون في المسجد النبوي خارج عن تلك الأمور الثلاثة، وقد ثبت في الصحيح. ولا شك أن التفرج في البساتين وسماع أصوات الطيور، وأنواع المداعبات مما يلهو به الرجل، ولا يحرم عليه شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل.
واستدلوا بالحديث الذي رواه البخاري -معلقا- عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري -شك من الراوي- عن النبي -عليه السلام- قال: "ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر (الحر: أي الفرج والمعني يستحلون الزني). والحرير والخمر والمعازف". والمعازف: الملاهي، أو آلات العزف.
والحديث وإن كان في صحيح البخاري، إلا أنه من "المعلقات" لا من "المسندات المتصلة" ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده، ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده ومتنه لم يسلما من الاضطراب، فسنده يدور علي (هشام بن عمار) (انظر: الميزان وتهذيب التهذيب). وقد ضعفه الكثيرون.
ورغم ما في ثبوته من الكلام، ففي دلالته كلام آخر؛ إذ هو غير صريح في إفادة حرمة "المعازف" فكلمة "يستحلون" -كما ذكر ابن العربي- لها معنيان: أحدهما: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور، إذ لو كان المقصود بالاستحلال: المعني الحقيقي، لكان كفرًا.(2/454)
ولو سلمنا بدلالتها علي الحرمة لكان المعقول أن يستفاد منها تحريم المجموع، لا كل فرد منها، فإن الحديث في الواقع ينعي علي أخلاق طائفة من الناس انغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور. فهم بين خمر ونساء، ولهو وغناء، وخز وحرير. ولذا روي ابن ماجة هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بلفظ: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف علي رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير"، وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه.
هـ- واستدلوا بحديث: "إن الله تعالي حرم القينة (أي الجارية) وبيعها وثمنها وتعليمها".
والجواب عن ذلك:
أولا: أن الحديث ضعيف.
ثانيا: قال الغزالي: المراد بالقينة الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب، وغناء الأجنبية للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة حرام، وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محظور. فأما غناء الجارية لمالكها، فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث. بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة، بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالي عنها. (الإحياء ص 1148) وسيأتي.
ثالثا: كان هؤلاء القيان المغنيات يكون عنصرًا هامًا من نظام الرقيق، الذي جاء الإسلام بتصفيته تدريجيًا، فلم يكن يتفق وهذه الحكمة إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع الإسلامي، فإذا جاء حديث بالنعي علي امتلاك "القينة" وبيعها، والمنع منه، فذلك لهدم ركن من بناء "نظام الرق" العتيد.
واستدلوا بما روي نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع ؟ فأقول: نعم، فيمضي، حتي قلت: لا. فرفع يده وعدل راحلته إلي الطريق وقال: "رأيت رسول الله يسمع زمارة راع فصنع مثل هذا" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
والحديث قال عنه أبو داود: حديث منكر.(2/455)
ولو صح لكان حجة علي المحرمين لا لهم. فلو كان سماع المزمار حرامًا ما أباح النبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حرامًا ما أباح لنافع سماعه، ولأمر عليه السلام بمنع وتغيير هذا المنكر، فإقرار النبي -صلي الله عليه وسلم- لابن عمر دليل علي أنه حلال.
وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا كتجنبه الأكل متكئًا وأن يبيت عنده دينار أو درهم .... إلخ.
واستدلوا أيضًا لما روي: "إن الغناء ينبت النفاق في القلب" ولم يثبت هذا حديثًا عن النبي -صلي الله عليه وسلم-، وإنما ثبت قولاً لبعض الصحابة، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره، فمن الناس من قال -وبخاصة الصوفية- إن الغناء يرقق القلب، ويبعث الحزن والندم علي المعصية، ويهيج الشوق إلي الله تعالي، ولهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم، وتنشيط عزائمهم، وإثارة أشواقهم، قالوا: وهذا أمر لا يعرف إلا بالذوق والتجربة والممارسة، ومن ذاق عرف، وليس الخبر كالعيان.
علي أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغني لا للسامع، إذ كان غرض المغني أن يعرض نفسه علي غيره ويروج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلي الناس ليرغبوا في غنائه. ومع هذا قال الغزالي: وذلك لا يوجب تحريمًا، فإن لبس الثياب الجميلة، وركوب الخيل المهلجة، وسائر أنواع الزينة، والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك، ينبت النفاق في القلب، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله، فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرًا (الإحياء ص 1151) .(2/456)
واستدلوا علي تحريم غناء المرأة خاصة، بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة. وليس هناك دليل ولا شبه دليل من دين الله علي أن صوت المرأة عورة، وقد كان النساء يسألن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في ملأ من أصحابه وكان الصحابة يذهبون إلي أمهات المؤمنين ويستفتونهن ويفتينهم ويحدثنهم، ولم يقل أحد: إن هذا من عائشة أو غيرها كشف لعورة يجب أن تستر.
فإن قالوا: هذا في الحديث العادي لا في الغناء، قلنا: روي الصحيحان أن النبي سمع غناء الجاريتين ولم ينكر عليهما، وقال لأبي بكر: دعهما. وقد سمع ابن جعفر وغيره من الصحابة والتابعين الجواري يغنين.
والخلاصة:
أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلي رسول الله يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": لم يصح في التحريم شيء.
وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة.
وقال: ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد.
وقال ابن حزم: كل ما رُوي فيها باطل وموضوع.
أدلة المجيزين للغناء:
تلك هي أدلة المحرمين، وقد سقطت واحدًا بعد الآخر، ولم يقف دليل منها علي قدميه، وإذا انتفت أدلة التحريم بقي حكم الغناء علي أصل الإباحة بلا شك، ولو لم يكن معنا نص أو دليل واحد علي ذلك غير سقوط أدلة التحريم. فكيف ومعنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة، وروحه السمحة، وقواعده العامة، ومبادئه الكلية ؟
وهاك بيانها:
أولا: من حيث النصوص:
استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة، منها: حديث غناء الجاريتين في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم- عند عائشة، وانتهار أبي بكر لهما، وقوله: مزمور الشيطان في بيت النبي -صلي الله عليه وسلم-، وهذا يدل علي أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم، فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلي هذا الحد.(2/457)
والمعول عليه هنا هو رد النبي -صلي الله عليه وسلم- علي أبي بكر -رضي الله عنه- وتعليله: أنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنه بعث بحنيفية سمحة. وهو يدل علي وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدي الآخرين، وإظهار جانب اليسر والسماحة فيه.
وقد روي البخاري وأحمد عن عائشة أنها زفت امرأة إلي رجل من الأنصار فقال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "يا عائشة، ما كان معهم من لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".
وروي ابن ماجة عن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله فقال: "أهديتم الفتاة ؟" قالوا: نعم قال: "أرسلتم معها من يغني ؟" قالت: لا. فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيانا وحياكم ؟!
وروي النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال: دخلت علي قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغنين. فقلت: أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم ؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس.
وروي ابن حزم بسنده عن ابن سيرين: أن رجلاً قدم المدينة بجوار فأتي عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر يسمع، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة، ثم جاء الرجل إلي ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، غبنت بسبعمائة درهم ! فأتي ابن عمر إلي عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعي في بيع المغنية، وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد الملفقة الموضوعة.
واستدلوا بقوله تعالي: (وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائمًا قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين). (الجمعة: 11).(2/458)
فقرن اللهو بالتجارة، ولم يذمهما إلا من حيث شغل الصحابة بهما -بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوف فرحًا بها- عن خطبة النبي -صلي الله عليه وسلم-، وتركه قائمًا.
واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه. وهم القوم يقتدي بهم فيهتدي.
واستدلوا لما نقله غير واحد من الإجماع علي إباحة السماع، كما سنذكره بعد.
وثانيا: من حيث روح الإسلام وقواعده:
لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الفطر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم ... إلخ، فهل الطيبات أي المستلذات حرام في الإسلام أم حلال ؟
من المعروف أن الله تعالي كان قد حرم علي بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم علي سوء ما صنعوا، كما قال تعالي: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا. وأخذهم الربا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) (النساء: 160، 161). فلما بعث الله محمدًا -صلي الله عليه وسلم- جعل عنوان رسالته في كتب الأولين (الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). (الأعراف: 157).
فلم يبق في الإسلام شيء طيب أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة إلا أحله الله، رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال تعالي: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات). (المائدة: 4).(2/459)
ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم علي نفسه أو علي غيره شيئًا من الطيبات مما رزق الله مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل والتحريم من حق الله وحده، وليس من شأن عباده، قال تعالي: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آلله أذن لكم أم علي الله تفترون) (يونس: 59). وجعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات كإحلال ما حرم من المنكرات، كلاهما يجلب سخط الله وعذابه، ويردي صاحبه في هاوية الخسران المبين، والضلال البعيد، قال جل شأنه ينعي علي من فعل ذلك من أهل الجاهلية: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء علي الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين). (الأنعام: 140).
ولو تأملنا لوجدنا حب الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية وفطرة بشرية، حتي إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلي الإصغاء إليه ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل نقول: إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة حتي قال الغزالي في الإحياء: (من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته علي الجمال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر -لقوة نشاطه في سماعه- المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فتري الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها، حتي تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها) .(2/460)
وإذا كان حب الغناء غريزة وفطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها ؟ كلا، إنما جاء لتهذيبها والسمو بها، وتوجيهها التوجيه القويم، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها.
ومصداق ذلك أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية: فقال عليه السلام: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحي ويوم الفطر" رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وقالت عائشة: "لقد رأيت النبي يسترني بردائه، وأنا أنظر إلي الحبشة يلعبون في المسجد، حتي أكون أنا التي أسأمه -أي اللعب- فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة علي اللهو".
وإذا كان الغناء لهوا ولعبًا فليس اللهو واللعب حرامًا، فالإنسان لا صبر له علي الجد المطلق والصرامة الدائمة.
قال النبي -صلي الله عليه وسلم- لحنظلة -حين ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده وتغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "يا حنظلة، ساعة وساعة" رواه مسلم.
وقال علي بن أبي طالب: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا أكرهت عميت.
وقال كرم الله وجهه: إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وقال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوي لها علي الحق.
وقد أجاب الإمام الغزالي عمن قال: إن الغناء لهو ولعب بقوله: (هو كذلك، ولكن الدنيا كلها لهو ولعب ... وجميع المداعبة مع النساء لهو، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد، وكذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال، نقل ذلك عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وعن الصحابة.(2/461)
وأي لهو يزيد علي لهو الحبشة والزنوج في لعبهم، فقد ثبت بالنص إباحته. علي أني أقول: اللهو مروح للقلب، ومخفف عنه أعباء الفكر، والقلوب إذا أكرهت عميت، وترويحها إعانة لها علي الجد، فالمواظب علي التفكر مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة؛ لأن عطلة يوم تساعد علي النشاط في سائر الأيام، والمواظب علي نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات، ولأجله كرهت الصلاة في بعض الأوقات، فالعطلة معونة علي العمل، اللهو معين علي الجد ولا يصبر علي الجد المحض، والحق المر، إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام، فاللهو دواء القلب من داء الإعياء، فينبغي أن يكون مباحًا، ولكن لا ينبغي أن يستكثر منه، كما لا يستكثر من الدواء. فإذًا اللهو علي هذه النية يصير قربة، هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها، بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك، ليتوصل به إلي المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل علي نقصان عن ذروة الكمال، فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق، ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن أحاط بعلم علاج القلوب، ووجوه التلطف بها، وسياقتها إلي الحق، علم قطعًا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غني عنه) انتهي كلام الغزالي (الإحياء: كتاب السماع ص 1152، 1153)، وهو كلام نفيس يعبر عن روح الإسلام الحقة.
القائلون بإجازة الغناء:
تلك هي الأدلة المبيحة للغناء من نصوص الإسلام وقواعده، فيها الكفاية كل الكفاية ولو لم يقل بموجبها قائل، ولم يذهب إلي ذلك فقيه، فكيف وقد قال بموجبها الكثيرون من صحابة وتابعين وأتباع وفقهاء ؟
وحسبنا أن أهل المدينة -علي ورعهم- والظاهرية- علي حرفيتهم وتمسكهم بظواهر النصوص -والصوفية- علي تشددهم وأخذهم بالعزائم دون الرخص- روي عنهم إباحة الغناء.(2/462)
قال الإمام لشوكاني في "نيل الأوطار": (ذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر، وجماعة الصوفية، إلي الترخيص في الغناء، ولو مع العود واليراع. وحكي الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع: أن عبد الله بن جعفر كان لا يري بالغناء بأسًا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره. وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
وحكي الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي) .
وقال إمام الحرمين في النهاية، وابن أبي الدنيا: (نقل الأثبات من المؤرخين: أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات، وأن ابن عمر دخل إليه وإلي جنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله ؟! فناوله إياه، فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي ؟ قال ابن الزبير: يوزن به العقول !) .
وروي الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في السماع بسنده إلي ابن سيرين قال: (إن رجلاً قدم المدينة بجوار فنزل علي ابن عمر، وفيهن جارية تضرب. فجاء رجل فساومه، فلم يهو فيهن شيئًا. قال: انطلق إلي رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا. قال: من هو ؟ قال: عبد الله بن جعفر .. فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن، فقال لها: خذي العود، فأخذته، فغنت، فبايعه ثم جاء ابن عمر ... إلخ. القصة) .
وروي صاحب "العقد" العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي: أن عبد الله بن عمر دخل علي ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود، ثم قال لابن عمر: هل تري بذلك بأسًا ؟ قال: لا بأس بهذا، وحكي الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص: أنهما سمعًا العود عند ابن جعفر، وروي أبو الفرج الأصبهاني: أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء المزهر بشعر من شعره.
وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك. والمزهر عند أهل اللغة: العود.(2/463)
وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل الخلافة. ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس، ونقله ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين. ونقله أبو يعلي الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة.
وحكي الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وحكي الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود، وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورًا في بيت المنهال بن عمروا المحدث المشهور.
وحكي أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود.
قال ابن النحوي في العمدة: (وقال ابن طاهر: هو إجماع أهل المدينة. قال ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة. قال الأدفوي: لم يختلف النقلة في نسبة الضرب إلي إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم.
وحكي الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية، وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي، وحكاه الإسنوي في "المهمات" عن الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر، وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي.(2/464)
هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة -أي آلات الموسيقي- وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي في الإمتاع: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق علي حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضًا إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر. قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة عمر -كما رواه ابن عبد البر وغيره- وعثمان- كما نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي -وعبد الرحمن بن عوف- كما رواه ابن أبي شيبة- وأبو عبيدة بن الجراح- كما أخرجه البيهقي- وسعد بن أبي وقاص- كما أخرجه بن قتيبة- وأبو مسعود الأنصاري- كما أخرجه البيهقي- وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد- كما أخرجه البيهقي أيضا- وحمزة كما في الصحيح- وابن عمر- كما أخرجه ابن طاهر- والبراء بن مالك- كما أخرجه أبو نعيم- وعبد الله بن جعفر- كما رواه ابن عبد البر- وعبد الله بن الزبير- كما نقل أبو طالب المكي- وحسان- كما رواه أبو الفرج الأصبهاني- وعبد الله بن عمرو- كما رواه الزبير بن بكار- وقرظة بن كعب- كما رواه ابن قتيبة- وخوات بن جبير ورباح المعترف- كما أخرجه صاحب الأغاني- والمغيرة بن شعبة- كما حكاه أبو طالب المكي- وعمرو بن العاص- كما حكاه الماوردي- وعائشة والربيع- كما في صحيح البخاري وغيره.
وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وابن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري.(2/465)
وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية) . انتهي كلام ابن النحوي. هذا كله ذكره الشوكاني في نيل الأوطار (جـ 8/264-266) .
قيود وشروط لابد من مراعاتها:
ولا ننسي أن نضيف إلي هذه الفتوي قيودًا لابد من مراعاتها في سماع الغناء.
فقد أشرنا في أول البحث إلي أنه ليس كل غناء مباحًا، فلابد أن يكون موضوعه متفقًا مع أدب الإسلام وتعاليمه.
فالأغنية التي تقول: "الدنيا سيجارة وكاس" مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجسًا من عمل الشيطان ويلعن شارب "الكأس" عاصرها وبائعها وحاملها وكل من أعان فيها بعمل. والتدخين أيضًا آفة ليس وراءها إلا ضرر الجسم والنفس والمال.
والأغاني التي تمدح الظلمة والطغاة والفسقة من الحكام الذين ابتليت بهم أمتنا، مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يلعن الظالمين، وكل من يعينهم، بل من يسكت عليهم، فكيف بمن يمجدهم ؟!
والأغنية التي تمجد صاحب العيون الجريئة أو صاحب العيون جريئة أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) (النور: 30، 31). ويقول -صلي الله عليه وسلم- يا علي : "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولي وليست لك الآخرة".
ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به ولا غبار عليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول، وتعمد الإثارة، والقصد إلي إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة- ينقل الأغنية من دائرة الإباحة إلي دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما يذاع علي الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تلح علي جانب واحد، هو جانب الغريزة الجنسية وما يتصل بها من الحب والغرام، وإشعالها بكل أساليب الإثارة والتهيج، وخصوصًا لدي الشباب والشابات.(2/466)
إن القرآن يخاطب نساء النبي فيقول: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) . فكيف إذا كان مع الخضوع في القول الوزن والنغم والتطريب والتأثير ؟!
ومن ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم، كشرب الخمر أو التبرج أو الاختلاط الماجن بين الرجال والنساء، بلا قيود ولا حدود، وهذا هو المألوف في مجالس الغناء والطرب من قديم. وهي الصورة المائلة في الأذهان عند ما يذكر الغناء، وبخاصة غناء الجواري والنساء.
وهذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف علي رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".
وأود أن أنبه هنا علي قضية مهمة، وهي أن الاستماع إلي الغناء في الأزمنة الماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء، ومخالطة المغنين والمغنيات وحواشيهم، وقلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها الشرع، ويكرهها الدين.
أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلي الأغاني وهو بعيد عن أهلها ومجالسها، وهذا لا ريب عنصر مخفف في القضية، ويميل بها إلي جانب الإذن والتيسير.
هذا إلي أن الإنسان ليس عاطفة فحسب، والعاطفة ليست حبًا فقط، والحب لا يختص بالمرأة وحدها، والمرأة ليست جسدًا وشهوة لا غير، لهذا يجب أن نقلل من هذا السيل الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية وأن يكون لدينا من أغانينا وبرامجنا وحياتنا كلها توزيع عادل، وموازنة مقسطة بين الدين والدنيا وفي الدنيا بين حق الفرد وحقوق المجتمع، وفي الفرد بين عقله وعاطفته، وفي مجال العاطفة بين عواطف الإنسانية كلها من حب وكره وغيره وحماسة وأبوة وأمومة وبنوة وأخوة وصداقة ... إلخ فلكل عاطفة حقها.
أما الغلو والإسراف والمبالغة في إبراز عاطفة خاصة فذلك علي حساب العواطف الأخري، وعلي حساب عقل الفرد وروحه وإرادته، وعلي حساب المجتمع وخصائصه ومقوماته، وعلي حساب الدين ومثله وتوجيهاته.(2/467)
إن الدين حرم الغلو والإسراف في كل شيء حتي في العبادة فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحًا ؟!
إن هذا دليل علي فراغ العقل والقلب من الواجبات الكبيرة، والأهداف العظيمة، ودليل علي إهدار حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحمود وعمره القصير، وما أصدق وأعمق ما قال ابن المقفع: (ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع) وفي الحديث: "لا يكون العاقل ظاعنًا إلا لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد، أو لذة في غير محرم"، فلنقسم أوقاتنا بين هذه الثلاثة بالقسط ولنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه ؟
وبعد هذا الإيضاح تبقي هناك أشياء يكون كل مستمع فيها فقيه نفسه ومفتيها، فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويسبح به في شطحات الخيال، ويطغي فيه الجانب الحيواني علي الجانب الروحاني، فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة علي قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.
تحذير من التساهل في إطلاق التحريم:
ونختم بحثنا هذا بكلمة أخيرة نوجهها إلي السادة العلماء الذين يستخفون بكلمة "حرام" ويطلقون لها العنان في فتواهم إذا أفتوا، وفي بحوثهم إذا كتبوا، عليهم أن يراقبوا الله في قولهم ويعلموا أن هذه الكلمة "حرام" كلمة خطيرة: إنها تعني عقوبة الله علي الفعل وهذا أمر لا يعرف بالتخمين ولا بموافقة المزاج، ولا بالأحاديث الضعيفة، ولا بمجرد النص عليه في كتاب قديم، إنما يعرف من نص ثابت صريح، أو إجماع معتبر صحيح، وإلا فدائرة العفو والإباحة واسعة، ولهم في السلف الصالح أسوة حسنة.(2/468)
قال الإمام مالك رضي الله عنه: ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا، وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا علي ما يصيرون إليه غدًا لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعليًا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل -وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي -صلي الله عليه وسلم- فكانوا يجمعون أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- ويسألون، ثم حينئذ يفتون فيها، وأهل زماننا قد هذا صار فخرهم، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم قال: ولم يكن من أمر الناس ولا من مضي من سلفنا الذين يقتدي بهم، ومعول الإسلام عليهم، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا وأري كذا، وأما "حلال" و "حرام" فهذا الافتراء علي الله. أما سمعت قول الله تعالي: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آلله أذن لكم أم علي الله تفترون) يونس: 59؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرماه.
ونقل الإمام الشافعي في "الأم" عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال:
(أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير.
وحدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم -وكان أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه، ويقول: إن الله حرم هذا فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه ! وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه، قالوا: هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا) .(2/469)
هذا ما ذكره القاضي أبو يوسف، ونقله الشافعي، ولم ينكر عليه هذا النقل ولا مضمونه بل أقره، وما كان ليقر مثله إلا إذا اعتقد صحته.
وقال الله تعالي: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الله الكذب إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون). (النحل: 116).(2/470)
خطف الطائرات
س: لا شك أنكم عايشتم مثلنا محنة الطائرة الكويتية المخطوفة، وما عاناه ركابها الأبرياء من النساء والشيوخ والشباب، طوال ستة عشر يومًا عاشوها مروعين مفزوعين، مقرونين بمقاعدهم، لا يستطيعون حراكًا ولا يعرفون لهم مصيرًا، بل يتوقعون في أي لحظة أن يفقد هؤلاء القراصنة الخاطفون عقولهم أو أعصابهم، فيفجروا الطائرة بمن فيها، أو يطلقوا الرصاص على من شاءوا من ركابها، وقد قتلوا بالفعل راكبين شر قتلة وألقوا بجثتيهما من أعلى الطائرة، دون رعاية لحرمة الميت، وكرامة الإنسان، وحق المسلم.
والمصيبة أن الذين فعلوا ذلك يتمسحون باسم الإسلام، ويدعون أنهم بهذا يخدمونه، ويعملون من أجله، وكانوا يسألون عن مواقيت الصلاة والصيام، ويسمون طائرتهم: "طائرة الشهادة"، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم مجاهدون وشهداء.
وسؤالنا: ما موقف الإسلام من هذه القرصنة الجوية، التي يعاقب فيها الأبرياء بذنوب ارتكبها غيرهم، لو افترضنا فعلاً أن هناك ذنوبًا، وأن أغراضهم شريفة وبواعثهم دينية أو وطنية؟
إننا نعلم أنكم عقبتم على هذا العمل بالإنكار الشديد أكثر من مرة، ولكنا نريد توضيح حكم الشرع بأدلته من كتاب الله العزيز وسنة نبيه المشرفة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
وفقكم الله وأنار بكم الطريق.
جـ: لا شك أنى عايشت محنة الطائرة المخطوفة بقلبي وأعصابي، وكذلك الملايين غيري من بنى البشر، ممن لم تقس قلوبهم، فتغدو (كالحجارة أو أشد قسوة) كما وصف الله قلوب بنى إسرائيل قديمًا.
وقد أنكرت هذا العمل في حينه في خطبة مذاعة بالتليفزيون من الدوحة، كما أنكرت أعمالاً مماثلة من عدة سنوات من خلال برنامج "هدى الإسلام" الذي يبث من تليفزيون قطر، وكان المخطوفون حينذاك من غير العرب، وغير المسلمين، ولكن العدوان على الإنسان البريء إثم وجرم، أيًا كان دين المعتدى عليه، ووطنه وقومه، وأيًا كان المعتدى، فإن الله لا يحب المعتدين.(2/471)
والإسلام لا يكيل بكيلين كما فعلت اليهودية المحرفة التي تحرم في معاملة اليهودي ما تحله في معاملة الآخرين.
مبادئ أساسية إسلامية:
وأحب أن أوضح أمام السائل هنا جملة مبادئ مستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
المبدأ الأول: تحريم الاعتداء على البرآء:
إن الإسلام لا يبيح الاعتداء على إنسان بريء، بحال من الأحوال، ومن أي شخص كان، سواء كان الاعتداء على النفس أو العرض أو المال، ولو كان المعتدى هو الأمير أو الخليفة المبايع. فإمارته لا تحل له دماء الناس ولا أموالهم ولا أبشارهم ولا حرماتهم. وقد أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع على رءوس الأشهاد أن دماء الناس وأموالهم وأعراضهم حرام عليهم بعضهم على بعض، دائمة الحرمة إلى يوم القيامة.
وليس هذا التحريم مقصورًا على المسلمين، بل يشملهم ويشمل غيرهم ممن ليسوا من أهل الحرب لهم.
حتى في حال الحرب والقتال، لم يجز الإسلام قتل من لا يقاتل، من النساء والصبيان والشيوخ، حتى الرهبان المتفرغون للعبادة في صوامعهم لا يقتلون، بل يتركون وما فرغوا أنفسهم له.
وهذا ما جعل المؤرخين المنصفين من الغربيين يقولون: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب، يعنى المسلمين.
وأكثر من ذلك أن الإسلام يحرم الاعتداء على الحيوان الأعجم، فما بالك بالإنسان المكرم؟
وفى الصحيح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
فكيف بمن حبس البشر وروعهم، وجعلهم يصبحون ويمسون في قلق مفزع وفى فزع مقلق؟(2/472)
وفى الحديث الذي رواه النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في مسير أي سفر فخفق رجل على راحلته أي أصابته سنة من النوم فأخذ رجل سهمًا من كنانته، فانتبه الرجل، ففزع يعنى أنه أحس بمن يأخذ السهم من كنانته فانتبه فزعًا مرتاعًا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يحل لرجل أن يروع مسلما" (رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات، ورواه البزار من حديث ابن عمر مختصرا: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما".) وروى نحوه ابن أبى ليلى عن عدد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- (رواه أبو داود). أي أن هذا الترويع حرام، ولو في هذه الصورة البسيطة القريبة، ولو كان دافعه المزاح والمداعبة، ما دام عاقبته الترويع والتفزيع.
فكيف بمن عاشوا أيامًا طالت أكثر من أسبوعين، كل ساعة فيها طولها شهر، وكل ليلة طولها دهر، يتوقعون في كل لحظة أن ينفذ الخاطفون وعيدهم بقتل واحد أو أكثر، ليتخذوا من قتله أو قتلهم وسيلة للضغط على من يملكون القرار بعيدًا بعيدًا. وقد يجن جنونهم وهو ليس بمستبعد ـ\ فيفجرون الطائرة بمن فيها؟
كيف بمن عاشوا هذه المدة، وهم لا يستريحون في نومهم إذا ناموا، ولا في جلوسهم إذا جلسوا، وليس لهم حرية الحركة التي للمسجون داخل السجن؟
المبدأ الثاني: ألا تزر وازرة وزر أخرى:
إن كل إنسان مسئول عن عمله هو، وليس عن عمل غيره، ولا يحمل أحد وزر أحد ولو كان ألصق الناس به وأقربهم إليه، فالابن لا يعاقب على جرم أبيه، والأب لا يعاقب على جرم بنيه، وهذا هو الحق والعدل، الذي قرره القرآن في آيات كثيرة، وحكاه عن الكتب السماوية قبله (أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم الذي وفَّى. ألا تزر وازرة وزر أخرى). (النجم: 36 - 38).
لهذا يعجب المرء كل العجب من نفر يدعون الإسلام، ويحملون شارته، ويتحدثون باسمه، ويزعمون أنهم طلاب شهادة، ثم ينتقمون من أناس عاديين، لا ناقة لهم فيما يطلبونه ولا جمل.(2/473)
وكيف يتصور أن يجوز لشخص أو بضعة أشخاص، أن يسلطوا على شعب بلد ما للانتقام من أفراده، من أجل خلافهم مع حاكم هذا البلد؟
لنفترض أن الحاكم مخطئ أو مجرم، فما ذنبي أنا المواطن العادي لتعاقبني بخطئه أو جرمه؟
ومن الذي جعل منك أيها الخاطف خصمًا وحكما؟ ومن أعطاك سلطات الاتهام والقضاء والتنفيذ جميعا؟
وقد يكون حكمك على بالموت، بالإعدام! وهذا ما فعله الخاطفون مع بعض الركاب حيث باشروا بالفعل، وقتلوا اثنين منهم وألقوا بجثة كل منهما من أعلى الطائرة فتسقط مهشمة، دون اعتبار لأي حرمة إنسانية، ومن المعروف أن الإسلام يرعى حرمة الإنسان بعد وفاته، كما رعى كرامته في حال الحياة. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي". (رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان عن عائشة).
إن القتل جريمة بشعة، ولهذا شدد الإسلام فيها أعظم التشديد وجاء فيها من الوعيد ما لا يخفى، وذهب من ذهب من العلماء إلى أن القاتل لا تقبل له توبة!
وقرر القرآن: (أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا).
وفى الحديث: " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" (رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمر، وروى ابن ماجة نحوه عن البراء).
وفى الحديث الآخر "لو أن أهل سماواته وأهل أرضه، اشتركوا في قتل رجل مؤمن لأكبهم الله في النار" (رواه الترمذي عن أبي سعيد وأبى هريرة معًا. وهذه الأحاديث الثلاثة مذكورة في صحيح الجامع الصغير).
بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مجرد الإشارة إلى مسلم بالسلاح جريمة من الكبائر الموجبة للعنة. يقول: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي" رواه مسلم.
ويقول: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار" رواه البخاري، ومسلم. ومعنى "ينزع": أي يرمي ويفسد.(2/474)
فإذا كان الإسلام يحذر من مجرد الإشارة بالسلاح، فكيف إذا استُعمل بالفعل، وقتل به إنسان لا حول له ولا طول، ولم يرتكب ما يبيح دمه؟
المبدأ الثالث: الغاية لا تبرر الوسيلة:
إن الإسلام لا يقبل الوصول إلى الغايات الطيبة بالوسائل الخبيثة. إنه يرفض الفلسفة "الميكافيلية" التي ترى أن الغاية تبرر الوسيلة. بل يؤكد كل التأكيد أنه لا بد من اجتماع الأمرين: الغاية الشريفة والوسيلة النظيفة، ولهذا رفض جمع المال من طرق الحرام لينفق في الخيرات وأوجه الصدقات، وقال الرسول الكريم في ذلك: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول". رواه مسلم.
والغلول ما يؤخذ من مال الغنيمة خفية وخيانة، دون سائر المستحقين، فإذا أخذه ليتصدق به فإن الله يرده عليه ولا يقبل منه.
ولهذا فسر السلف العمل الصالح المقبول بأنه ما اجتمع فيه أمران: الخلوص والصواب، فلا يقبل العمل عند الله إلا إذا كان خالصًا صوابًا. وخلوصه أن يكون لله تعالى، وصوابه أن يكون على السنة، أي على ما شرعه المنهج النبوي الذي يمثل الصراط المستقيم.
فلو افترضنا أن هؤلاء يحملون دوافع خيرة، وبواعث نبيلة، كما دافع عنهم من دافع بأنهم يهدفون إلى إنقاذ إخوان لهم يعتقدون براءتهم، أقول: لو افترضنا صحة هذه الدعوى - على ما فيها من شطط وتجاوز - ما جاز لهم بحال أن يصلوا إلى غاياتهم التي يزعمون شرفها ونبلها ورفعتها بهذه الوسائل القذرة التي تقوم على الاستهانة بالبشر، وتعذيبهم وإرهابهم وترويعهم إلى حد سفك الدم بغير حق.
ويزيد من ضخامة الجرم لدى هؤلاء أنهم يتمسحون بالإسلام ويدعون الانتساب إليه، والغيرة عليه، فكل ما تقترفه أيديهم من جرائم يلصق بالإسلام المظلوم، ويشوه بها وجهه بالباطل.(2/475)
والإسلام بكتابه وسنة نبيه، وهدي أصحابه، وفقه أئمته، وروح حضارته، والاتجاه العام لأمته، ينكر كل الإنكار هذا العمل الذي يتسم بالقساوة والوحشية، ويفتقد الإنسانية والأخلاقية.
إن هذا الشباب قد يكون مخلصًا، ولكنه ضل الطريق الصحيح. فاستحل قتل البرآء، وترويع الآمنين، وهو يرى أنه يخدم الإسلام، ويتقرب إلى الله.
وهذا يضاعف المسئولية على أهل العلم والبصيرة أن يبذلوا المزيد من الجهد، حتى ينيروا الطريق للحائرين.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
رابعة العدوية
س: سمعت أحد الخطباء المعروفين يحمل على السيدة رابعة العدوية، الزاهدة الصالحة المشهورة، ويقول: إنها أسطورة اخترعها الصوفية، لينسبوا إليها ما لا يقبل ولا يعقل من الأقوال والأشعار، مثل قولها في مناجاة الله تعالى:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب!
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب!
وقولها:
كلهم يعبدوك من خوف نار
ويرون النجاة حظًا جزيلا
أو لأن يدخلوا الجنان فيحظوا ...
بنعيم ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ
أنا لا أبتغي بحبي بديلا
وقولها:
أحبك حبين حب الهوى
وحبًا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عما سواك
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراك
وما الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاك
وأطال الخطيب في إنكار هذه الأشعار وما تضمنته من كفر وضلال، حسب قوله، فهل ما ذكر هذا الخطيب صحيح ومسلم، ولا وجود لهذه المرأة الصالحة؟ وهل هذه الأشعار تتضمن ضلالاً وكفرًا حقا؟!
نرجو بيان رأيكم الذي عرفنا فيه الاعتدال، مبينا بالأدلة من القرآن والسنة.
جـ- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.. وبعد:(2/476)
فإنني آسف أشد الأسف لهذا الاتجاه لدى بعض المسلمين، الذين يتلذذون بهدم كل القمم، وتشويه كل البطولات الفكرية والسلوكية في تاريخنا القريب والبعيد، بدل إبراز محاسنها وتجسيم فضائلها، مع الاحتراز من عيوبها، إن كانت لها عيوب، يمكن أن تغمر وتنسى في جنب محاسنها.
خطآن كبيران:
ورأيي أن الخطيب المذكور - إن صح ما ذكره السائل عنه - أخطأ خطأين كبيرين:
مجرد الإنكار لا يقبل:
الأول: أنه اتخذ مجرد الجحود والإنكار سلاحًا في نفي الوقائع التاريخية. وهذا أمر مرفوض في منطق العلم، وإلا لقال من شاء ما شاء.
ولكن الذي يقبل منه ومن مثله في هذا المقام أن يقول: إنه رجع إلى كتب التاريخ وكتب التراجم والطبقات التي عنيت بالأعلام عامة وبالزهاد والعباد خاصة، فلم يجد ذكرًا لهذه العابدة الصالحة التي اخترعوها وسموها (رابعة العدوية)، بل وجد من ثقات المؤرخين من أنكر وجودها، وعاب على الصوفية ذكر أخبارها في كتبهم.
مثل هذا لو قاله الخطيب لكان مقبولاً، وكان كلامًا علميًا صحيحًا. ولكن الخطيب لم يقل هذا، ولا يستطيع أن يقوله؛ لأن الحقائق العلمية تكذبه، والوقائع التاريخية تصدمه.
فكتب التاريخ والتراجم تثبت وجود رابعة العدوية، وتترجم لها وتذكر بعض أقوالها وأعمالها وأشعارها، فضلاً عن كتب الصوفية أنفسهم.
ترجم لها أبو نعيم في: حلية الأولياء.
وابن الجوزي في: صفة الصفوة (4/17).
وابن خلكان في: وفيات الأعيان (1/182).
والذهبي في سير أعلام النبلاء (8/215).
وابن كثير في: البداية والنهاية (10/186).
وابن العماد في: شذرات الذهب (1/193).
وصاحبة (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) (202).
والزركلي في: الأعلام (3/31).
= وقد ذكرها القشيري في: الرسالة.
= وأبو طالب المكي في: قوت القلوب.
= والغزالي في: الإحياء.
= والسهروردي في: عوارف المعارف.
= والشعراني في: طبقاته... وغيرهم.(2/477)
وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/19) أنه أفرد لها كتابًا جمع فيه كلامهما وأخبارها.
أسلوب الإثارة والتهييج:
الخطأ الثاني: أن الخطيب عالج الموضوع الذي يريده معالجة تعتمد على الإثارة والتهييج لا على التنوير والتحقيق، والإثارة قد تعجب بعض سامعيه المعجبين به، والذين تستهويهم الجرأة في النقد أو النقض والهجوم، والخروج على المسلّمات عند الناس، لكنها لا تعجب خاصة المثقفين والمستنيرين، ممن يزنون الأمور بعقولهم، ولا يأخذون كل ما يقال قضية مسلمة.
وقد كان حسب الخطيب هنا طريقين لا يملك ذو علم أو فكر أن ينكرهما، أو أحدهما عليه:
الطريق الأول:
التحقيق فيما ينسب إلى رابعة العدوية أو غيرها من أقوال ومواقف، فليس كل ما نسب إليها صحيحًا موثقًا، بل قد يكون مشكوكًا في نسبته إليها، أو مقطوعًا بنفيه عنها.
من ذلك: أنهم نسبوا إليها هذه الأبيات المشهورة تناجي بها ربها سبحانه:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب!
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب!
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب!
والأبيات ليست لرابعة، بل البيتان: الأول والثاني من شعر أبي فراس الحمداني في خطاب ابن عمه الأمير المشهور سيف الدولة، وهما مذكوران في ديوانه من قصيدة مطلعها:
أما لجميل عندكن ثواب
ولا لمسيء عندكن متابُ؟
لقد ضل من تحوي هواهُ خريدة
وقد ذل من تقضي عليه كعابُ
ومن أبياتها الشهيرة:
بمن يثقُ الإنسان فيما ينوبهُ
ومن أين للحر الكريم صحابه؟
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم
ذئابًا على أجسادهن ثياب!
وأبو فراس، كان في القرن الرابع الهجري، ورابعة في القرن الثاني فقد اختلفوا في سنة وفاتها، فمنهم من قال: سنة 135هـ، ومن قال سنة 185هـ، والراجح عندي هو الثاني.. أما البيت الأخير فهو من قصيدة للمتنبي في مدح كافور (وفيه المال مكان الكل).(2/478)
وكل ما في الأمر أن الصالحين وجدوا أن هذا الشعر لا يجوز أن يخاطب به إلا الله جل جلاله، فنسبوا الخطاب فيه إلى من هو أهله، ولا أدري من نسب هذا الشعر إلى "رابعة" خاصة، ولم أقرأ ذلك في كتاب معتبر، وإن كان مشهورًا على الألسنة، وليس كل مشهور على الألسنة حجة.
وكذلك ما ينسب إليها من الشعر الذي تقول في آخره:
ليس لي في الجنان والنار حظ
أنا لا أبتغي بحبي بديلا
لا أدري مدى صحة نسبته إليها، وقد روى عنها أقوال تدل على أنها تخاف النار، وتخاف القيامة والموت وما بعده، فقد ذكروا أنها كانت تقول في مناجاتها:
إلهي، تحرق بالنار قلبًا يحبك!
وذكر ابن الجوزي في ترجمتها (45/17) عن عبد الله بن عيسى قال: دخلت على رابعة العدوية بيتها، فرأيت على وجهها النور، وكانت كثيرة البكاء، فقرأ عندها رجل آية من القرآن فيها ذكر النار فصاحت ثم سقطت!
قال: وكانت إذا ذكرت الموت انتفضت وأصابتها رعدة.
ونقل عن عبدة بنت أبي شوال - وكانت من خيار إماء الله وكانت تخدم رابعة - أنها قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة، حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرفة يوم النشور!
قالت: فكان هذا دأبها حتى ماتت.
ومما نقلوا عنها قولها: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي: أستغفر الله!
وهذا كله يدل على أنها من أهل الخشية والمحبة معًا، فهي تخاف الله وتحبه، ولا تنافي بينهما على التحقيق.
وما نسب إليها من أنها قالت مرة: إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، بل حبًا لك، وقصد لقاء وجهك، فلعلها قصدت أن الله عز وجل أهل لأن يعبد ويتقى، قيامًا بحقه وشكرًا لنعمته، كما قال الإمام ابن القيم:
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق ثناء العباد على المنعم؟(2/479)
أو لعلها قالت ذلك في حال من أحوال غلبة الحب على الخوف والرجاء، والاستغراق في الأنس بالله تعالى، إلى حد الذهول عن النعيم والعذاب، ولكن مثل هذا لا يدوم، كما تدل عليه مواقفها وأقوالها.
فإن لم يكن هذا موقفها، فكل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وقد رددنا على المتصوفة الذين ينكرون العبادة طلبًا للثواب وخوفًا من العقاب في كتابنا "العبادة في الإسلام"، ونقلنا عن العلامة ابن القيم من كتابه "مدارج السالكين" ما يشفي الغليل، وينير السبيل
وأما الشعر الذي ينسب إليها في حب الله تعالى من مثل قولها:
أحبك حبين حب الهوى
وحبًا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عما سواك
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراك
وما الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاك
فقد قال الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" تعقيبًا على هذه الأبيات: (لعلها أرادت بحب الهوى: حب الله، لإحسانه إليها، وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة.. وبحبه لما هو أهل له: الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبين وأقواهما. ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال حاكيًا عن ربه تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (رواه البخاري). قال: وقد تعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية) (الإحياء 4/311 طـ.. دار المعرفة، بيروت). اهـ.
ولكن ينبغي أن يعلم أن هذه المطالعة لجمال الربوبية إنما هي بعين القلب، لا بعين الرأس.
يقول المحقق ابن القيم في "مدارج السالكين" في بيان حقيقة نور الكشف الذي يتحدث عنه الصوفية:
(ونور الكشف عندهم هو مبدأ الشهود، وهو نور تجلى معاني الأسماء الحسنى على القلب، فتضيء به ظلمة القلب، ويرتفع به حجاب الكشف.(2/480)
ولا تلتفت إلى غير هذا، فتزل قدم بعد ثبوتها، فإنك تجد في كلام بعضهم: تجلي الذات يقتضي كذا وكذا، وتجلي الصفات يقتضي كذا وكذا، وتجلي الأفعال يقتضي كذا وكذا. والقوم عنايتهم بالألفاظ فيتوهم المتوهم: أنهم يريدون تجلي حقيقة الذات والصفات والأفعال للعيان، فيقع من يقع منهم في الشطحات والطامات، والصادقون العارفون براء من ذلك.
وإنما يشيرون إلى كمال المعرفة، وارتفاع حجب الغفلة والشك والإعراض، واستيلاء سلطان المعرفة على القلب بمحو شهود السوى بالكلية، فلا يشهد القلب سوى معروفه.
وينظرون هذا بطلوع الشمس، فإنها إذا طلعت انطمس نور الكواكب . ولم تعدم الكواكب، وإنما غطى عليها نور الشمس فلم يظهر لها وجود، وهي في الواقع موجودة في أماكنها، وهكذا نور المعرفة إذا استولى على القلب، قوى سلطانها وزالت الموانع والحجب عن القلب.
ولا ينكر هذا إلا من ليس من أهله.
ولا يعتقد أن الذات المقدسة والأوصاف: برزت وتجلت للعبد - كما تجلى سبحانه للطور، وكما يتجلى يوم القيامة للناس - إلا غالط فاقد للعلم، وكثير ما يقع الغلط من التجاوز من نور العبادات والرياضة والذكر إلى نور الذات والصفات.
فإن العبادة الصحيحة، والرياضة الشرعية، والذكر المتواطئ عليه القلب واللسان: يوجب نورًا على قدر قوته وضعفه، وربما قوي ذلك النور حتى يشاهد بالعيان فيغلط فيه ضعيف العلم والتمييز بين خصائص الربوبية ومقتضيات العبودية فيظنه نور الذات، وهيهات ! نور الذات لا يقوم له شيء، ولو كشف سبحانه وتعالى الحجاب عنه لتدكدك العالم كله، كما تدكدك الجبل وساخ لما ظهر له القدر اليسير من التجلي.
وفي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله سبحانه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".(2/481)
فالإسلام له نور، والإيمان له نور أقوى منه. والإحسان له نور أقوى منهما. فإذا اجتمع الإسلام والإيمان والإحسان، وزالت الحجب الشاغلة عن الله تعالى امتلأ القلب والجوارح بذلك النور، لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى. فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته، كما أن مخلوقاته لا تحل فيه، فالخالق سبحانه بائن عن المخلوق بذاته وصفاته، فلا اتحاد، ولا حلول ولا ممازجة، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرًا). (مدارج السالكين 3 / 110 - 112 تحقيق محمد حامد الفقي).اهـ.
ومن شعرها في الحب الإلهي ما أورده الشيخ شهاب الدين السهرودي في "العوارف" تناجى به المولى سبحانه وتعالى:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم منى للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد جليسي
تريد أنها تلقى الناس بوجهها وجسمها، أما قلبها فهو مع الله تعالى في كل حال.
ومناقبها رحمها الله ورضي عنها كثيرة، وفضائلها جمة، وأكثر العلماء الكبار من المحدثين والفقهاء والزهاد والعباد، يثنون عليها، ويرفعونها مكانًا عليًا.
وذكر ابن كثير في "البداية" أن أبا داود السجستاني تكلم فيها، واتهمها بالزندقة!
قال: فلعله بلغه عنها أمر!
وذكر الذهبي في "سير الأعلام" عن أبى سعيد الأعرابي قال: أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما، مما يدل على بطلان ما قيل عنها. وقد تمثلته بهذا:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه!
قلت والقائل هو الحافظ الذهبي: فهذا غلو وجهل ولعل من نسبها إلى ذلك مباحي حلولي، ليحتج بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: "كنت سمعه الذي يسمع به". (الحديث رواه البخاري عن أبى هريرة وهو حديث قدسي).اهـ.
وقد أنصف الإمام الذهبي رحمه الله.
فلعل هذا أو مثله هو ما بلغ أبا داود، فاتهمها بما اتهمها دون أن يتبين حقيقتها.(2/482)
هذا وقد كتب كثير من المعاصرين كتبًا ومقالات مختلفة عن رابعة، وأطلق عليها بعضهم " شهيدة العشق الإلهي" وهو تعبير ينفر منه الحس الإسلامي، فالعلاقة بين الله وعباده يعبر عنها في لغة القرآن والسنة بـ "الحب" لا بـ "العشق" وفى القرآن الكريم: (يحبهم ويحبونه) (المائدة: 54). (والذين آمنوا أشد حبًا لله). (البقرة: 165).
وفى الحديث المتفق عليه: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما... الحديث"
وغيره من الأحاديث كثير، وهو يدل على أن "حب الله " تعالى جزء أصيل في الإسلام، وليس دخيلا عليه، كما زعم زاعمون.
وأشعار "رابعة" كلها تتحدث عن "حب الله" فلا ينبغي أن نتجاوز ذلك، رعاية للأدب مع الله جل جلاله.
وبالله التوفيق.
أعمال القلوب وأعمال الجوارح
س: قرأت في كتب التصوف والسلوك: أن أعمال القلوب أهم من أعمال الجوارح، وأن مدار القبول أو عدمه عند الله سبحانه وتعالى هو ما يتعلق بالقلوب، وأن أفضل الطاعات المقربة إلى الله تعالى هي طاعات القلوب، وأن أخطر المعاصي المبعدة عن الله عز وجل هي معاصي القلوب.
هذا مع أننا نعلم من الدين بالضرورة أن الصلاة التي هي عماد الدين والزكاة التي هي أخت الصلاة، وغيرها، إنما هي من الأعمال الظاهرة، أعنى من أعمال الجوارح، وكذلك نجد الكبائر الموجبة لسخط الله تعالي وعذابه من المعاصي الظاهرة، مثل القتل والزنى، وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، وغيرها.
فهل هذا الذي قاله الصوفية صحيح، أو هو مما دخل على التصوف من مؤثرات خارجية مثل بعض المبالغات في الزهد ونحوه؟ وإذا كان ما قرروه صحيحًا، فما الدليل عليه من الكتاب والسنة؟
أسأل الله أن يبارك في جهودكم في خدمة ديننا الحنيف، وبيان حقائقه للناس وأثابكم الله عنا بفضله وكرمه فهو أكرم الأكرمين.
ق . ص
الإسكندرية(2/483)
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد:
أذكر للأخ السائل أن ما قاله أهل التصوف والسلوك من التنبيه على أهمية أعمال القلوب قبل أعمال الجوارح، والتركيز على الباطن قبل الظاهر، والسر قبل العلانية، والجوهر قبل الشكل هو قول صحيح، وهو من صميم الإسلام ولبه، وليس مستوردًا من أي مصدر خارجي، بل مستمده الأساسي من القرآن العزيز والسنة المطهرة. وأحب أن أبين هنا أن الصوفية الأصلاء لا يسقطون أعمال الجوارح، ولا يخرجونها من دائرة الاهتمام، فإن هذا مخالف كل المخالفة للدين أصولاً وفروعًا. فإن الأركان الخمسة التي بنى عليها الإسلام كما جاء في حديث ابن عمر وغيره، وأصبحت فعلاً من المعلوم من الدين بالضرورة، كلها من الأعمال الظاهرة: ابتداء من كلمة الشهادة التي هي مفتاح باب الإسلام، والصلاة التي هي عمود الدين، والزكاة التي هي قنطرة الإسلام، وصيام رمضان، وانتهاء بحج البيت الحرام.
ومهما بلغ المسلم ما بلغ من السمو الروحي، وارتقى في درجات القرب من الله تعالى، فإنه مطالب بهذه الأعمال، ولا تسقط عنه بحال. وقد قال الله تعالى لرسوله: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). (الحجر: 99).
والمراد باليقين هنا: الموت الذي هو آت لا محالة، كما في قوله تعالى في وصف حال أهل النار يوم القيامة:
(وكنا نكذب بيوم الدين. حتى أتانا اليقين). (المدثر: 46، 47).(2/484)
ولا يتصور من الصوفي الملتزم أن يهمل أمر الفرائض الدينية الظاهرة من الصلاة والزكاة والصيام بل هو لا يكتفي بها حتى يضيف إليها النوافل التي ترفع منزلته عند الله عز وجل. فالفرائض تبلغه منزلة القرب من الله، والنوافل تبلغه مقام الحب من الله. كما يدل على ذلك الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه: "ما تقرب إلى عبدي بأفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يسعى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه".
وأكثر من ذلك أن من يسلك الطريق إلى الله جل جلاله، لابد له أن يحرص على العبادات المكملة الأخرى الظاهرة أيضًا، من الذكر والتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا. وسبحوه بكرة وأصيلاً). (الأحزاب: 41، 42).
كما أن الصوفية الأصلاء لا يهملون أمر المعاصي الظاهرة، بل يحذرون منها أشد التحذير. بل لا يكتفون بالتحذير من الكبائر، إنما يحذرون من الصغائر، ولا يكتفون بالصغائر، حتى يحذروا من الشبهات ولا يكتفون بالتحذير من الشبهات، حتى يحذروا من بعض الحلال، كما روى في الحديث الذي رواه الترمذي: "لا يبلغ عبد درجة المتقين، حتى يذر ما لا بأس به حذرًا مما به بأس".
ولكنهم بجوار ذلك كله يهتمون أكبر الاهتمام بطاعات القلوب أكثر من طاعات الأجسام والجوارح، ويخافون ويخوفون من معاصي القلوب أكثر من معاصي الجوارح. وهم في هذا يصدرون عن الإسلام الخالص المصفى، وهم لم ينفردوا بذلك، بل شاركهم كل علماء الإسلام في كل اختصاص، من أثريين وفقهاء ومتكلمين، وإن كان للصوفية القدح المعلى في ذلك.
وسر اهتمامهم بما ذكرنا من أعمال القلوب يرجع إلى أمرين:(2/485)
الأول: أن هذا هو ما جاء به الدين، ودعا إليه وحث عليه. بل هذا هو لب الدين وروحه. كما سنبين بعد.
والثاني: أن عوام الناس من المتدينين ومنهم بعض المنتسبين للعلم أو للسنة التفتوا إلى الظواهر أكثر من البواطن، وشغلوا كثيرًا بما يطفو على السطح، ولم يعنوا بما يرسب في الأعماق، فظاهرهم عامر وباطنهم خراب، حفظوا المظهر، وأضاعوا الجوهر، وهذا هو الغرور القاتل.
وقد بينت الأحاديث الصحاح: أن الرجل قد يرتكب المعصية الظاهرة، بل يقترف بعض الكبائر، وربما يكررها مرات، ومع هذا تكون جذور الإيمان في قلبه أقوى من رياح المعصية، فلا تستطيع أن تقتلعها، ويظل في أعماقه حب الله ورسوله، برغم ما لوث ظاهره من الآثام.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أن رجلاً من الصحابة كان يسمى حمارًا، وكان يضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- . وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتى به مرة، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله". (الحديث عند البخاري وغيره).
لقد نظر المسلم الذي سارع بلعنته إلى ظاهره الملوث بالمعصية والشرب، ولم يلتفت إلى ما وراء هذا الظاهر من قلب عامر يحب الله ورسوله. وهو ما نبه عليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
يقول ابن تيمية بعد ذكره هذا الحديث: (فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا لله ورسوله، وحب الله ورسوله أوثق عرى الإيمان). (التحفة العراقية من مجموع فتاوى شيخ الإسلام 10 / 8).
وفى مقابل هذه الصورة صورة أخرى مناقضة لها: صورة العابد المتبتل، المكثر للصلاة والصيام ونوافل العبادات، ومع هذا تجد باطنه خرابًا من الإيمان الصادق، واليقين الدافق، والحب الواثق، لله ولرسوله.(2/486)
وهذا ما صحت به الأحاديث واستفاضت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محذرة من أولئك الغلاة المتنطعين الذين ازدانت ظواهرهم، وخبثت بواطنهم، وقست قلوبهم من الخوارج المارقين.
وهو ما جاء في حديث علي وأبي سعيد الخدري وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر الخوارج فقال: : يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". الحديث متفق عليه عن أبى سعيد الخدري).
ولا غرو أن قال الإمام ابن تيمية بعد كلام عن الإيمان والإسلام والصدق والإخلاص: (وهذا الذي ذكرناه مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها). (مجموع الفتاوى السابق ص 15).
وإنما حرصت هنا على نقل كلام ابن تيمية، لظن بعض الناس أنه لا يهتم إلا بالاتباع في المراسم والأعمال الظاهرة، وهذا غير صحيح، ومخالف لسيرة الرجل، فقد كان ربانيًا مؤمن العقل والقلب، مشرق الروح، عظيم الحب والخشية لله تعالى، إنما ظلمه بعض الذين يتمسحون به ويدعون انتماءهم إلى مدرسته من الجفاة الغلاظ، الذين لا يعرفون الدين إلا رسومًا وشكليات، يمسون ويصبحون وهم يتحدثون عنها ويتحمسون لها، ويكادون يقاتلون من أجلها. وإذا دعوتهم إلى توجيه العناية إلى أصول الدين، وحقائقه الكبرى، وهموم أمته، وأعباء صحوته، ومؤامرات خصومه اتهموك بأنك ضد السنة المشرقة، وعدو السلف الصالح! غفر الله لنا ولهم، وهدانا وإياهم صراطه المستقيم.
دلائل القرآن والسنة على العناية بأعمال القلوب:
ولا يخفى على مسلم له علم ولو أنه قليل بالقرآن والسنة أن أعمال القلوب لها الترجيح والتقديم على أعمال الجوارح ومن دلائل ذلك:(2/487)
أولا: أن أصل الدين هو “الإيمان” بالله تعالى وبرسوله وبلقائه في الآخرة. وهذا الإيمان في أساسه عمل قلبي كما قال تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) (المجادلة: 22). وقال سبحانه: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الحجرات: 14). ومن هنا أهدر القرآن اعتبار إيمان المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. وقد حفل القرآن بالكثير من الآيات والسور التي تذمهم وتتوعدهم بأشد العذاب، وحسبنا آيات سورة البقرة: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) (البقرة: 8 - 10). وقد جاء في الحديث: "الإسلام علانية والإيمان في القلب". (أورده الهيثمي في المجمع(1 /52) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجاله رجال الصحيح، ما خلا على بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين، وضعفه آخرون).
ثانيا: أن "الإسلام" وإن كان يقوم على الأعمال والعبادات الظاهرة، كما جاء تفسيره في حديث جبريل المشهور ـ وهى تتمثل في الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج ـ فهو لا يقبل هذه الأعمال ولا يعتد بها ما لم تصحبها النية والإخلاص لله تعالى. كما قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) (البينة: 5). وكما جاء في الحديث الصحيح المشهور: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". فلا قبول لعمل إلا بنية، ولا معنى للنية بغير إخلاص، وكلاهما من أعمال القلوب.
يقول ابن عطاء الله في حكمه: الأعمال صور قائمة، وروحها وجود سر الإخلاص فيها. يعني: أن الأعمال بغير الإخلاص كالصور والتماثيل التي لا روح فيها ولا حياة.(2/488)
ومن هنا كان الترهيب الشديد من "الرياء" الذي يحبط العبادات، ويذهب بأجر الطاعات. وهو ما وصف الله به المنافقين المخادعين: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسَالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً). (النساء: 142).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة: أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة راءَوْا بأعمالهم الناس، ولم يبتغوا بها وجه الله: أحدهم قرأ القرآن وعلم الناس ليقولوا عنه: عالم. والثاني: تصدق وأنفق ماله ليقولوا عنه: سخي، والثالث: قاتل وجاهد حتى قتل، ليقولوا عنه: شجاع!.
ليس المهم إذن صورة العمل، إنما المهم روحه.. فقد يؤدي العمل شكلاً، ولا يقبل عند الله مضمونا؛ لأنه حسن الظاهر، زائف الباطن، كالعملة المزيفة، قد تروج عند العامة، ولا تروج عند الصيرفي النقاد.
ولهذا جاء في الحديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر".
والقرآن لم يمدح مجرد المصلين، بل: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) و(الذين هم على صلواتهم يحافظون). (المؤمنون: 2،9).
وعلل الأمر بإقامة الصلاة فقال: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). (العنكبوت: 45).
كما علل إيتاء الزكاة بقوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103).
وعلل الصوم بقوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). (البقرة: 183).
ثالثا: أن أعلى مقامات الدين هو "الإحسان" وقد سأل جبريل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(2/489)
وواضح من التفسير النبوي للإحسان أنه عمل قلبي خالص، يرقي بالمؤمن إلى مرتبة "الشهود" القلبي لله جل شأنه، شهودًا روحيًا يجعله كأنما يراه بعينه، فإن قصر عن هذه المرتبة فليكن في منزلة "المراقبة" بحيث يستشعر دائمًا أن الله تعالى مطلع عليه، وناظر إليه: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير). (الحديد: 4).
مجال الإحسان هو المجال الأول لأهل السلوك والربانية، وفيه يعملون على تربية الشخصية الإيمانية الصادقة، التي تتجلى فيها صفات "المؤمنين المتقين". والمؤمنون المتقون هم أولياء الله حقا: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون). (يونس: 62،63).
ومن قرأ القرآن وتدبره وجد أنه ربط خيري الدنيا والآخرة بالإيمان والتقوى.
ففي خير الدنيا نقرأ قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (الأعراف: 96). (وأنجينا الذين آمنوا وكان يتقون) (النمل: 53). (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا) (الأنفال: 29) (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. ويرزقه من حيث لا يحتسب). (الطلاق: 2،3)
وفي خير الآخرة نقرأ: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم) (المائدة : 65) (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيًا) (مريم: 63). (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا). (الطلاق: 5).
والإيمان - كما ذكرنا - عمل قلبي في جوهره، وإن كان له آثار ظاهرة.
والتقوى كذلك عمل قلبي في الأساس وإن كان له ثمار ظاهرة.
ولهذا يضيف القرآن التقوى إلى القلوب: (ذلك ومن يُعَظِّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). (الحج: 32).
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يشير إلى صدره ويقول: "التقوى ههنا" ويكررها ثلاثًا، لتأكيدها، رواه مسلم.(2/490)
والقرآن يصف المتقين في مطلع سورة البقرة فيقول: (هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة: 2-4). فجعل من أوصافهم الأساسية: الإيمان بالغيب، والإيمان بما أنزل الله على رسوله، وما أنزل على الرسل من قبله، واليقين بالآخرة، وكلها أعمال قلبية، إلى جانب إقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله وهي من الأعمال الظاهرة.
وبالإيمان والتقوى تزكو النفس وتتطهر وتستحق الفلاح كما قال تعالى: (قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها) (الشمس: 9،10). (قد أفلح من تَزَكَّى). (الأعلى: 14).
رابعا: أن القرآن يجعل "القلب" السليم والمنيب هو أساس النجاة والفلاح في الآخرة.
انظر ما قصه علينا من دعاء إبراهيم خليل الرحمن: (ولا تُخْزِني يوم يُبْعَثُونَ. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم). (الشعراء: 87-89).
واقرأ قوله عز وجل: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب). (ق: 31-33).
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يجعل محور صلاح الإنسان وفساده هو "القلب" كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ويروي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".
ونصوص القرآن والسنة مستفيضة متكاثرة في مدح القلوب الحية النابضة بالخشوع واللين والخشية لله والوجل عند ذكر وعيده، والاطمئنان عند ذكر وعده، والمحبة له، والتوكل عليه...إلخ.(2/491)
اقرأ مثلاً قوله سبحانه: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) (الحديد: 16). (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) (الأنفال: 2). (الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (الزمر: 23). (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). (الرعد: 28).
وفي مقابل ذلك استفاضت النصوص في ذم القلوب الميتة والمريضة والقاسية والمظلمة والسوداء.
واقرأ قوله تعالى في ذم بني إسرائيل: (ثم قَسَتْ قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قَسْوةً وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) (البقرة: 74). وقوله في نشأتهم: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) (المائدة: 13). وقال تعالى: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) (الزمر: 22). وقال تعالى في ذم المنافقين: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا) (البقرة: 10). والمرض هنا مرض الشك، وقال سبحانه: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) (الأحزاب: 32). والمرض هنا: مرض الشهوة، وقال: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). (المطففين: 14).
الغاية من الخلق:
خامسا: أن الله خلق الناس - بل خلق العالم كله - ليعرفوه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما دل على ذلك قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا). (الطلاق: 12).
ومعرفة الله تعالى ليست من أعمال الجوارح، بل من أعمال القلب.
وهناك - إلى جوار الغاية المعرفية - غاية عملية دل عليها قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). (الذاريات: 56).(2/492)
والعبادة نوعان: ظاهرة وباطنة. والظاهرة، وإن كانت تؤدي بالجوارح، لا تقبل إلا بعمل القلب وهو الإخلاص كما ذكرنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه، وهو الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه، قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين. ألا لله الدين الخالص) (الزمر: 2،3). والسورة كلها عامتها في هذا المعنى). (من رسالة "التحفة العراقية في الأعمال القلبية” من مجموع الفتاوى 10/49).
والباطنة هي لباب الدين: من محبة الله تعالى، والتوكل عليه، والرجاء في رحمته، والخوف من عذابه، والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه، والرضا بقضائه، والحب لأوليائه، والبغض لأعدائه، واليقين بلقائه.. إلى غير ذلك مما يسمى عند الصوفية: "المقامات والأحوال" وكلها من أعمال القلوب. ويلحق بها الزهد في الدنيا وإيثار الآخرة، والرحمة بخلق الله والشفقة عليهم، وسلامة الصدر من الحسد لهم والحقد عليهم.(2/493)
وفي مقابل ذلك نجد أشد المعاصي خطرًا هي معاصي القلوب، مثل: الكبر. والقرآن مليء بذمه والوعيد عليه، وفي الحديث الصحيح: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" (رواه مسلم من حديث ابن مسعود). والحسد، وهو "يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" (رواه أبو داود في الأدب (4903) وفيه راو لم يسم). والبغضاء، وهي كما في الحديث: "الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" (رواه الترمذي في صفة القيامة (2512) وذكر الاختلاف في راويه: أهو الزبير أم مولاه. ويشهد له حديث أبي الدرداء قبله (2511) ومنه "إن فساد ذات البين هي الحالقة" قال الترمذي: حديث صحيح). واليأس من روح الله. وقد قال تعالى: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (يوسف: 87). والأمن من مكر الله، وقد قال تعالى: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (الأعراف: 99). ومثل الشح الذي حذر منه القرآن والسنة: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 9، والتغابن: 16). وفي الحديث: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم عن جابر كما في صحيح الجامع الصغير 2102). "وإياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا". (رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر كما في المصدر المذكور 2678).
ومثل ذلك: اتباع الهوى، وإعجاب المرء بنفسه، وحب الدنيا، وحب المال والجاه، والرياء والغرور وغير ذلك مما ضمنه الإمام أبو حامد الغزالي ربع "المهلكات "من الإحياء".(2/494)
وقد قص علينا القرآن قصة آدم وإبليس، وأن كلا منهما عصى ربه، ولكن معصية آدم كانت معصية جارحة، ومعصية إبليس معصية قلب. معصية آدم سببها الضعف والنسيان: (فنسي ولم نجد له عزمًا) (طه: 115). ومعصية إبليس سببها الكبر والكفران: (أبى واستكبر وكان من الكافرين). (البقرة: 34).
ومن هنا كان الخير كل الخير في طاعات القلوب، والخطر كل الخطر في معاصي القلوب. أعاذنا الله تعالى منها، ورزقنا القلب المنيب، القلب السليم، آمين.
قتل الرحمة أو تيسير الموت للمريض
هذا سؤال من جملة أسئلة عن الطب الإسلامي وأحكامه وآدابه وصلتني في رسالة من قبل منظمة الطب الإسلامي لجنوب إفريقيا، ويتمثل السؤال الأول فيما يلي:
قتل الرحمة (تيسير الموت):
التعريف: تسهيل موت الشخص بدون ألم بسبب الرحمة لتخفيف معاناة المريض سواء بطرق فعالة أو منفعلة.
تيسير الموت الفعال: يتخذ الطبيب إجراءات فعالة لإنهاء حياة المريض.
أمثلة:
1- مريض مصاب بالسرطان يعاني من الألم والإغماء ويعتقد الطبيب بأنه سيموت بأي حال من الأحوال ويعطيه جرعة عالية من علاج قاتل للألم الذي يوقف تنفسه.
2- مريض في حالة إغماء لفترة طويلة مثلاً بعد إصابته بالتهاب السحايا أو بإصابة شديدة في رأسه، ومن الممكن أن يبقى حيًا باستعمال منفِّسة (جهاز إنعاش) ويعتقد الطبيب بعدم وجود أي أمل بشفائه، والمنفِّسة تضخّ الهواء للرئتين، وتديم تنفسه "أوتوماتيكيا". فإذا ما أوقف المنفسة لن يتمكن المريض من إدامة تنفسه، فمن الممكن إبقاء هذا المريض حيًا بواسطة هذه المنفسة الصناعية التي تديم فعالياته الحيوية، ولكن لكل الاعتبارات الأخرى يعتبر مثل هذا المريض "ميتًا" وغير قادر على السيطرة على وظائفه وإيقاف هذه المنفسة يعتبر تيسيرًا فعالاً للموت.
تيسير الموت المنفعل:
هنا لا تتخذ خطوات فعالة لإنهاء حياة المريض بل يترك للمرض أن يأخذ أدواره بدون إعطاء المريض أي علاج لإطالة حياته.
أمثلة:(2/495)
1- مريض نهائي بالسرطان أو الإغماء من إصابة بالرأس أو التهاب سحائي ولا يرجى شفاؤه منه، ومصاب بالتهاب الرئة التي إن لم تعالج - وهي ممكنة العلاج - يمكن أن تقتل المريض وإيقاف العلاج من الممكن أن يعجل بموت المريض.
2- طفل مشوه تشويها شديدًا بتصلب أشرم - شوكة مشقوقة - أو بشلل مخي يمكن أن يترك من دون علاج إذا أصيب بالتهاب الرئتين أو بالتهاب السحايا، ويمكن أن يموت الطفل من هذه الالتهابات.
والتصلب الأشرم - الشوكة المشقوقة - هي حالة غير طبيعية للعمود الفقري تؤدي إلى شلل الساقين وفقدان السيطرة على المثانة والأمعاء الغليظة والطفل المريض بهذا الداء يكون مشلولا يحتاج إلى عناية خاصة طيلة حياته.
أما الشلل المخي فهي حالة تلف في المخ خلال الولادة تسبب تخلفًا عقليًا وشللا في الأطراف بدرجات متفاوتة، ومثل هذا الطفل يكون مشلولا جسميًا وعقليًا ويحتاج لعناية خاصة طيلة حياته.
في الأمثلة السابقة "إيقاف العلاج" هو نوع من أنواع تيسير الموت المنفعل وبصورة عامة لا يعيش هؤلاء الأطفال عمرًا طويلاً، وإيقاف العلاج وتيسير الموت المنفعل يمنع إطالة معاناة الطفل المريض أو والديه.
الأسئلة:
1- هل تيسير الموت الفعال مسموح به في الإسلام؟
2- هل تيسير الموت المنفعل مسموح به في الإسلام؟
جـ:
تيسير الموت الفعال:(2/496)
1- تيسير الموت الفعال في المثال رقم (1) لا يجوز شرعا؛ لأن فيه عملا إيجابيًا من الطبيب بقصد قتل المريض، والتعجيل بموته، بإعطائه تلك الجرعة العالية من الدواء المتسبب في الموت، فهو قتل على أي حال. سواء كان بهذه الوسيلة أم بإعطاء مادة سمية سريعة التأثير، أم بصعقة كهربائية أم بآلة حادة، كله قتل، وهو محرم، بل هو من الكبائر الموبقة. ولا يزيل عنه صفة القتل أن دافعه هو الرحمة بالمريض، وتخفيف المعاناة عنه. فليس الطبيب أرحم به ممن خلقه. وليترك أمره إلى الله تعالى، فهو الذي وهب الحياة للإنسان وهو الذي يسلبها في أجلها المسمى عنده.
أما المثال رقم (2) من أمثلة تيسير الموت الفعال، فنؤخر الحديث عنه بعد الحديث عن تيسير الموت المنفعل.
تيسير الموت المنفعل (بإيقاف العلاج):
وأما تيسير الموت "بالطرق المنفعلة" كما في السؤال. فإنها تدور كلها سواء في المثال (1) أم (2) على "إيقاف العلاج" عن المريض، والامتناع عن إعطائه الدواء، الذي يوقن الطبيب أنه لا جدوى منه، ولا رجاء فيه للمريض، وفق سنن الله تعالى، وقانون الأسباب والمسببات.
ومن المعروف لدى علماء الشرع: أن العلاج أو التداوي من الأمراض ليس بواجب عند جماهير الفقهاء، وأئمة المذاهب. بل هو في دائرة المباح عندهم. وإنما أوجبه طائفة قليلة، كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260طـ. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة) وبعضهم استحبه.(2/497)
بل قد تنازع العلماء: أيهما أفضل: التداوي أم الصبر؟ فمنهم من قال الصبر أفضل، لحديث ابن عباس في الصحيح عن الجارية التي كانت تصرع - يصيبها الصرع - وسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لها، فقال: "إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوت الله أن يشفيك" فقالت: بل اصبر، ولكنى أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها ألا تتكشف. (متفق عليه. رواه البخاري في كتاب المرضى ومسلم في البر والصلة 2265).
ولأن خلقًا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض، كأبي ابن كعب، وأبي ذر - رضي الله عنهما - ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260ط. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة).
وقد عقد الإمام أبو حامد الغزالي في "كتاب التوكل" من "الإحياء" بابًا في الرد على من قال ترك التداوي أفضل بكل حال. (انظر: إحياء علوم الدين 4/290 وما بعدها).
هذا هو رأي فقهاء الأمة في العلاج أو التداوي للمريض. فأكثرهم يجعلونه من قسم المباح، وأقلهم يجعلونه من المستحب، والأقل منهم يجعلونه واجبًا.
وأنا مع الذين يوجبونه في حالة ما إذا كان الألم شديدًا، والدواء ناجحًا، والشفاء مرجوًا منه وفق سنة الله تعالى.
وهو الموافق لهَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تداوي وأمر أصحابه بالتداوي، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم في هديه -صلى الله عليه وسلم- في "زاد المعاد" (انظر: الجزء الثالث من (زاد المعاد) طـ. الرسالة ببيروت). وأدنى ما يدل عليه ذلك هو السنية والاستحباب.
ومن هنا يكون العلاج أو التداوي حيث يرجى للمريض الشفاء مستحبًا أو واجبًا، أما إذا لم يكن يرجى له الشفاء، وفق سنن الله في الأسباب والمسببات التي يعرفها أهلها وخبراؤها من أرباب الطب والاختصاص، فلا يقول أحد باستحباب ذلك فضلاً عن وجوبه.(2/498)
وإذا كان تعريض المريض للعلاج بأي صورة كانت - شربًا أو حقنًا أو تغذية بالجلوكوز ونحوه، أو توصيلاً بأجهزة التنفس والإنعاش الصناعي، أو غير ذلك مما وصل إليه الطب الحديث، ومما قد يصل إليه بعد - يطيل عليه مدة المرض، ويبقى عليه الآلام زمنا أطول، فمن باب أولى ألا يكون ذلك واجبًا ولا مستحبًا، بل لعل عكسه هو الواجب أو المستحب.
فهذا النوع من تيسير الموت - إن صحت التسمية - لا ينبغي أن يدخل في مسمى "قتل الرحمة"، لعدم وجود فعل إيجابي من قبل الطبيب، إنما هو ترك لأمر ليس بواجب ولا مندوب، حتى يكون مؤاخذًا على تركه.
وهو إذن أمر جائز ومشروع، إن لم يكن مطلوبًا، وللطبيب أن يمارسه، طلبًا لراحة المريض وراحة أهله. ولا حرج عليه إن شاء الله.
تيسير الموت بإيقاف أجهزة الإنعاش:
بقي الجواب عن المثال الثاني في النوع الأول، الذي اعتبره السؤال من تيسير الموت بالطرق الفعالة لا المنفعلة. وهو يقوم على إيقاف المنفسة الصناعية أو ما يسمونه "أجهزة الإنعاش الصناعي" عن المريض، الذي يعتبر في نظر الطب "ميتًا" أو "في حكم الميت" وذلك لتلف جذع الدماغ، أو المخ، الذي به يحيًا الإنسان ويحس ويشعر.
وإذا كان عمل الطبيب مجرد إيقاف أجهزة العلاج، فلا يخرج عن كونه تركًا للتداوي شأنه شأن الحالات الأخرى، الذي سماها "الطرق المنفعلة".
ومن أجل ذلك أرى إخراج هذه الحالة وأمثالها عن دائرة النوع الأول "تيسير الموت بالطرق الفعالة" وإدخالها في النوع الآخر.
وبناء على ذلك يكون هذا أمرًا مشروعًا ولا حرج فيه أيضًا، وبخاصة أن هذه الأجهزة تبقى عليه هذه الحياة الظاهرية - المتمثلة في التنفس والدورة الدموية - وإن كان المريض ميتًا بالفعل، فهو لا يعي ولا يحس ولا يشعر. نظرًا لتلف مصدر ذلك كله وهو المخ.(2/499)
وبقاء المريض على هذه الحالة يتكلف نفقات كثيرة دون طائل، ويحجز أجهزة يحتاج إليها غيره، ممن يجدي معه العلاج، وهو - وإن كان لا يحس - فإن أهله وذويه يظلون في قلق وألم ما دام على هذه الحالة، التي قد تطول إلى عشر سنوات أو أكثر!.
وقد ذكرت هذا الرأي منذ سنوات أمام جمع من الفقهاء والأطباء في أحد اجتماعات الندوة التي تقيمها بين الحين والحين "المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية" بالكويت، فلقي قبول الحاضرين من أهل الفقه وأهل الطب.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
حول زرع الأعضاء
تقديم:
هذه الفتوى كنت كتبتها منذ زمن بعيد ردًا على بعض الأسئلة حول موضوع زرع الأعضاء.
وهي وجهة نظر اجتهادية، قابلة للمناقشة، مثل كل اجتهادات البشر، وخصوصًا في المسائل الجديدة، التي لم يدون فيها رأي علماء الأمة السابقين.
ولا يملك أي فقيه أن يدعي لرأيه الصواب المطلق فيما يذهب إليه، بل أقصى ما يقوله عن نفسه ما قاله الإمام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
لهذا أستغرب تلك الحملة المشبوهة التي تنشر هذه الأيام ضد الداعية الجليل الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي أفتى بعدم جواز زرع الأعضاء بناء على اعتبار رآه.
على أن الشيخ - حفظه الله - لم يكتب في ذلك شيئًا محررًا مدققًا، بل قال ذلك في مقابلة تليفزيونية، جوابًا عن سؤال عارض.
ومثل تلك المقابلات وما فيها من أسئلة مفاجئة، وأجوبة سريعة، لا يعتمد عليها اعتمادًا كليًا في تحديد آراء العلماء، ووجهات نظرهم في القضايا الكبيرة، والمسائل العويصة.
إنما الاعتماد في ذلك على المحرر المكتوب، فهو الذي يعبر بحق عن فكر صاحبه تعبيرًا منضبطًا لا لبس فيه.
على أن كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والمجتهد إذا أصاب فهو مأجور أجرين، وإذا أخطأ فهو مغفور له، بل مأجور أجرًا واحدًا.
وبالله التوفيق، وعليه قصد السبيل.(2/500)
س: هل يجوز للمسلم أن يتبرع بعضو أو جزء من بدنه لغيره في حياته لزرعه في بدن شخص آخر؟
وإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل هو جواز مطلق أو هو مقيد بشروط؟ وما هي تلك الشروط؟
وإذا جاز التبرع فلمن يتبرع؟ ألقريب فقط؟ أم للمسلم فحسب؟ أم لأي إنسان؟
وإذا جاز التبرع فهل يجوز البيع؟
وهل يجوز التبرع بعضو بعد الموت؟ أو يتنافى ذلك مع حرمة الميت؟
وهل ذلك من حق الإنسان وحده؟ أو يحق لأهله التبرع بعضو من بدنه؟
وهل يجوز للدولة أن تأخذ بعض الأعضاء من المصابين في الحوادث مثلا لإنقاذ غيرهم؟
وهل يجوز زرع جزء من غير مسلم في جسد إنسان مسلم؟
وهل يجوز زرع عضو أو جزء من حيوان ولو كان محكومًا بنجاسته كالخنزير مثلا في جسم شخص مسلم؟
تساؤلات جمة أصبحت تفرض نفسها على الفقه الإسلامي ورجاله ومجامعه في الوقت الحاضر.
ولابد من الإجابة بالإجازة بإطلاق أو المنع بإطلاق، أو التفصيل.
فلنحاول الإجابة وبالله التوفيق.
هل يجوز للمسلم أن يتبرع بعضو من جسمه وهو حي؟:
قد يقال: إن تبرع الإنسان إنما يجوز فيما يملكه، وهل يملك الإنسان جسمه بحيث يتصرف فيه بالتبرع أو غيره؟ أو هو وديعة عنده من الله تعالى، فلا يجوز له التصرف فيه إلا بإذنه؟ وكما لا يجوز له أن يتصرف في نفسه حياته بالإزهاق والقتل، فكذلك لا يجوز له أن يتصرف في جزء من بدنه بما يعود عليه بالضرر.
ويمكن النظر هنا بأن الجسم وإن كان وديعة من الله تعالى، فقد مكن الإنسان من الانتفاع به والتصرف فيه، كالمال، فهو مال الله تعالى حقيقة، كما أشار إلى ذلك القرآن بمثل قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)، ولكنه ملك الإنسان هذا المال بتمكينه من الاختصاص به والتصرف فيه.
فكما يجوز للإنسان التبرع بجزء من ماله لمصلحة غيره ممن يحتاج إليه، فكذلك يجوز له التبرع بجزء من بدنه لمن يحتاج إليه.(2/501)
والفرق بينهما أن الإنسان قد يجوز له التبرع أو التصدق بماله كله، ولكن في البدن لا يجوز التبرع ببدنه كله، بل لا يجوز أن يجود المسلم بنفسه لإنقاذ مريض من تهلكة أو ألم مبرح، أو حياة قاسية؟
وإذا كان يشرع للمسلم أن يلقى بنفسه في اليم لإنقاذ غريق، أو يدخل بين ألسنة النار، لإطفاء حريق، أو إنقاذ مشرف على الغرق، أو الحرق، فلماذا لا يجوز أن يخاطر المسلم بجزء من كيانه المادي لمصلحة الآخرين ممن يحتاجون إليه؟
وفى عصرنا رأينا التبرع بالدم، وهو جزء من جسم الإنسان، يتم في بلاد المسلمين، دون نكير من أحد من العلماء، بل هم يقرون الحث عليه أو يشاركون فيه، فدل هذا الإجماع السكوتي إلى جوار بعض الفتاوى الصادرة في ذلك على أنه مقبول شرعًا.
وفى القواعد الشرعية المقررة: أن الضرر يزال بقدر الإمكان، ومن أجل هذا شرع إغاثة المضطر، وإسعاف الجريح، وإطعام الجائع، وفك الأسير، ومداواة المريض، وإنقاذ كل مشرف على هلاك في النفس أو ما دونها.
ولا يجوز لمسلم أن يرى ضررًا ينزل بفرد أو جماعة، يقدر على إزالته ولا يزيله، أو يسعى في إزالته بحسب وسعه.
ومن هنا نقول: إن السعي في إزالة ضرر يعانيه مسلم من فشل الكلية مثلاً، بأن يتبرع له متبرع بإحدى كليتيه السليمتين، فهذا مشروع، بل محمود ويؤجر عليه من فعله، لأنه رحم من في الأرض، فاستحق رحمة من في السماء.
والإسلام لم يقصر الصدقة على المال، بل جعل كل معروف صدقة. فيدخل فيه التبرع ببعض البدن لنفع الغير، بل هو لا ريب من أعلى أنواع الصدقة وأفضلها، لأن البدن أفضل من المال، والمرء يجود بماله كله لإنقاذ جزء من بدنه، فبذله لله تعالى من أفضل القربات، وأعظم الصدقات.
وإذ قلنا بجواز التبرع من الحي، بعضو من بدنه، فهل هو جواز مطلق أو مقيد؟
والجواب: أنه جواز مقيد، فلا يجوز له أن يتبرع بما يعود عليه بالضرر أو على أحد له حق عليه لازم.(2/502)
ومن هنا لا يجوز أن يتبرع بعضو وحيد في الجسم كالقلب أو الكبد مثلاً، لأنه لا يعيش بدونه، ولا يجوز له أن يزيل ضرر غيره بضرر نفسه، فالقاعدة الشرعية التي تقول: الضرر يزال، تقيدها قاعدة أخرى تقول: الضرر لا يزال بالضرر، وفسروها بأنه لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه.
ولهذا لا يجوز التبرع بالأعضاء الظاهرة في الجسم مثل العين واليد والرجل، لأنه هنا يزيل ضرر غيره بإضرار مؤكد لنفسه، لما وراء ذلك من تعطيل للمنفعة وتشويه للصورة.
ومثل ذلك إذا كان العضو من الأعضاء الباطنة المزدوجة، ولكن العضو الآخر عاطل أو مريض، يصبح كعضو وحيد.
ومثل ذلك: أن يعود الضرر على أحد له حق لازم عليه، كحق الزوجة أو الأولاد، أو الزوج، أو الغرماء.
وقد سألتني إحدى الزوجات يوما: أنها أرادت أن تتبرع بإحدى كليتيها لأختها، ولكن زوجها أبى، فهل من حقه ذلك؟
وكان جوابي: أن للزوج حقًا في زوجته، وهى إذا تبرعت بإحدى كليتيها فستجرى لها عملية جراحية، وتدخل المستشفى، وتحتاج إلى رعاية خاصة، وكل ذلك يحرم الزوج من بعض الحقوق، ويضيف عليه بعض الأعباء، فينبغي أن يتم ذلك برضاه وإذنه.
والتبرع إنما يجوز من المكلف البالغ العاقل، فلا يجوز للصغير أن يتبرع بمثل ذلك، لأنه لا يعرف تمامًا مصلحة نفسه، وكذلك المجنون.
ولا يجوز أن يتبرع الولي عنهما، بأن يدفعهما للتبرع، وهما غير مدركين، لأنه لا يجوز له التبرع بمالهما، فمن باب أولى لا يجوز التبرع بما هو أعلى وأشرف من المال وهو البدن.
التبرع لغير المسلم:
والتبرع بالبدن كالتصدق بالمال، يجوز للمسلم وغير المسلم، ولكنه لا يجوز للحربي الذي يقاتل المسلمين بالسلاح، ومثله عندي: الذي يقاتلهم في ميدان الفكر والتشويش على الإسلام.
وكذلك لا يجوز التبرع لمرتد مارق من الإسلام مجاهر بردته، لأنه في نظر الإسلام خائن لدينه وأمته يستحق القتل، فكيف نساعده على الحياة؟(2/503)
ولكن إذا وجد مسلم محتاج للتبرع، ووجد غير مسلم، فالمسلم أولى، قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة: 71 .، بل المسلم الصالح المتمسك بدينه أولى بالتبرع له من الفاسق المفرط في جنب الله، لأن في حياته وصحته عونا له على طاعة الله تعالى، ونفع خلقه، بخلاف العاصي الذي يستخدم نعم الله في معاصي الله وإضرار الناس.
وإذا كان المسلم قريبًا أو جارًا، فهو أولى من غيره، لأن للجوار حقًا أكيدًا، وللقرابة حقًا أوكد، كما قال تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). (الأنفال: 75).
ويجوز أن يتبرع المسلم لشخص معين، كما يجوز له أن يتبرع لمؤسسة مثل بنك خاص بذلك، يحفظ الأعضاء بوسائله الخاصة، لاستخدامها عند الحاجة.
بيع الأعضاء لا يجوز:
ونحب أن ننبه هنا على أن القول بجواز التبرع بالأعضاء لا يقتضي القول بجواز بيعها، لأن البيع كما عرفه الفقهاء مبادلة مال بمال بالتراضي، وبدن الإنسان ليس بمال، حتى يدخل دائرة المعاوضة والمساومة، وتصبح أعضاء الجسد الإنساني محلاً للتجارة والبيع والشراء، وهو ما حدث للأسف في بعض الأقطار الفقيرة، حيث قامت سوق أشبه بسوق النخاسين، لشراء أعضاء الفقراء والمستضعفين من الناس، لحساب الأغنياء، ونفقت هذه التجارة الخسيسة التي دخلتها "مافيا" جديدة تنافس "مافيا" المخدرات.
ولكن لو بذل المنتفع بالتبرع للشخص المتبرع مبلغًا من المال غير مشروط ولا مسمى من قبل، على سبيل الهبة والهدية والمساعدة، فهو جائز، بل هو محمود ومن مكارم الأخلاق.
وهذا نظير إعطاء المقرض عند رد القرض أزيد من قرضه دون اشتراط سابق، فهو مشروع ومحمود، وقد فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث رد أفضل مما أخذ، وقال:
"إن خياركم أحسنكم قضاء". (عزاه في الجامع الصغير إلى أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة عن أبى هريرة).
هل تجوز الوصية بجزء من البدن بعد الموت؟:(2/504)
وإذا جاز للمسلم التبرع بجزء من بدنه مما ينفع غيره ولا يضره، فهل يجوز له أن يوصى بالتبرع بمثل ذلك بعد موته؟
والذي يتضح لي أنه إذا جاز له التبرع بذلك في حياته، مع احتمال أن يتضرر بذلك وإن كان احتمالا مرجوحًا فلا مانع أن يوصى بذلك بعد موته، لأن في ذلك منفعة خالصة للغير، دون احتمال أي ضرر عليه، فإن هذه الأعضاء تتحلل بعد أيام ويأكلها التراب، فإذا أوصى ببذلها للغير قربة إلى الله تعالى، فهو مثاب ومأجور على نيته وعمله، ولا دليل من الشرع على تحريم ذلك، والأصل الإباحة، إلا ما منع منه دليل صحيح صريح، ولم يوجد.
وقد قال عمر رضى الله عنه في بعض القضايا لبعض الصحابة: "شيء ينفع أخاك ولا يضرك، فلماذا تمنعه"؟ وهذا ما يمكن أن يقال مثله هنا لمن منع ذلك.
وقد يقال: إن هذا يتنافى مع حرمة الميت التي يرعاها الشرع الإسلامي، وقد جاء في الحديث: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي". (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة عن عائشة كما في الجامع الصغير، ورواه ابن ماجة عن أم سلمة بلفظ: "ككسر عظم الحي في الإثم").
ونقول: إن أخذ عضو من جسم الميت لا يتنافى مع ما هو مقرر لحرمته شرعًا، فإن حرمة الجسم مصونة غير منتهكة، والعملية تجرى له كما تجرى للحى بكل عناية واحترام دون مساس بحرمة جسده.
على أن الحديث إنما جاء في كسر العظم، وهنا لا مساس بالعظم، والمقصود منه هو النهى عن التمثيل بالجثة، والتشويه لها، والعبث بها، كما كان يفعل أهل الجاهلية في الحروب، ولا زال بعضهم يفعلها إلى اليوم، وهو ما ينكره الإسلام ولا يرضاه.(2/505)
ولا يعترض معترض بأن السلف لم يؤثر عنهم فعل شيء من ذلك، وكل خير في اتباعهم.. فهذا صحيح لو ظهرت لهم حاجة إلى هذا الأمر، وقدرة عليه، ولم يفعلوه. وكثير من الأعمال التي نمارسها اليوم لم يفعلها السلف، لأنها لم تكن في زمنهم. والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، كما قرر ذلك المحققون، وكل ما يمكن وضعه هنا من قيد هو ألا يكون التبرع بالجسم كله، أو بأكثر أو بما دون ذلك، مما يتنافى مع ما هو مقرر للميت من أحكام، من وجوب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه،، ودفنه في مقابر المسلمين.. .. إلخ، والتبرع ببعض الأعضاء لا يتنافى مع شيء من ذلك بيقين.
هل يجوز للأولياء والورثة التبرع بجزء من ميتهم؟:
وإذا جاز تبرع الميت ببعض أعضائه عن طريق الوصية، فهل يجوز لورثته وأوليائه أن يتبرعوا عنه بمثل ذلك؟
قد يقال: إن الجسم الميت ملك صاحبه، وليس ملك أوليائه وورثته، حتى يكون لهم حق التصرف فيه أو التبرع ببعضه.
ولكن الميت بعد موته لم يعد أهلا للملك، فكما أن ماله انتقل ملكه إلى ورثته كذلك يمكن القول بأن جسم الميت قد أصبح من حق الأولياء أو الورثة، ولعل منع الشرع من كسر عظم الميت أو انتهاك حرمة جثته، إنما هو رعاية لحق الحي أكثر مما هو رعاية لحق الميت.
وقد جعل الشارع للأولياء الحق في القصاص أو العفو في حالة القتل العمد، كما قال تعالى: (ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورًا). (الإسراء: 33).(2/506)
وكما أن لهم حق القصاص عنه إن شاءوا، أو المصالحة على الدية أو ما هو أقل أو أكثر منها، أو العفو المطلق لوجه الله تعالى، عفوا كليًا أو جزئيًا، كما قال تعالى: (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) (البقرة: 178). لا يبعد أن يكون لهم حق التصرف في شيء من بدنه، بما ينفع الغير ولا يضر الميت، بل قد يستفيد منه ثوابًا، بقدر ما أفاد الآخرين من المرضى والمتضررين وإن لم يكن له فيه نية، كما يثاب في حياته على ما أكل من زرعه من إنسان أو طير أو بهيمة، وما أصابه من نصب أو وصب أو حزن أو أذى حتى الشوكة يشاكها... وكما ينتفع بعد موته بدعاء ولده خاصة ودعاء المسلمين عامة وبصدقتهم عنه .. وقد ذكرنا أن الصدقة ببعض البدن أعظم أجرًا من الصدقة بالمال.
ومن هنا أرى أنه لا مانع من تبرع الورثة ببعض أعضاء الميت، مما يحتاج إليه بعض المرضى لعلاجهم كالكلية والقلب ونحوهما، بنية الصدقة بذلك عن الميت، وهى صدقة يستمر ثوابها ما دام المريض المتبرع له منتفعًا بها.
وقد سألني بعض الأخوة في قطر عن التبرع ببعض أعضاء أطفالهم الذين يولدون ببعض العاهات التي لا يعيشون بها، وإنما هي أيام يقضونها في المستشفى، ثم يودعون الحياة، وقد يحتاج أطفال آخرون إلى بعض الأعضاء السليمة لديهم كالكلية ليعيشوا.
وقد أجبتهم بجواز ذلك، بل باستحبابه، وأنهم مأجورون عليه إن شاء الله.
وكان ذلك سببًا في إنقاذ حياة عدة أطفال في عدة أيام، بسبب رغبة الآباء في فعل الخير والمثوبة من الله، عسى أن يعوضهم عما أصابهم في أطفالهم.
وإنما يمنع الورثة من التبرع إذا أوصى الميت في حياته بمنع ذلك، فهذا من حقه، ويجب إنفاذ وصيته فيما لا معصية فيه.
إعطاء الحق للدولة، مدى جوازه:(2/507)
وإذا أجزنا للورثة والأولياء أن يتبرعوا ببعض الميت لنفع الحي وعلاجه، فهل نجيز للدولة أن تصدر قانونا يرخص في أخذ بعض أعضاء الموتى في الحوادث الذين لا تعرف هويتهم، أو لا يعرف لهم ورثة وأولياء، لتستخدمها في إنقاذ غيرهم من المرضى والمصابين؟
لا يبعد أن يجوز ذلك في حدود الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة.
على أن يستوثق من عدم وجود أولياء للميت، فإذا كان له أولياء وجب استئذانهم، وألا يوجد ما يدل على أن الميت قد أوصى بمنع ذلك ورفضه.
زرع عضو من كافر لمسلم:
أما زرع عضو من غير مسلم في جسم إنسان مسلم فلا مانع منه، وأعضاء الإنسان لا توصف بإسلام ولا كفر، وإنما هي آلات للإنسان، يستخدمها وفقًا لعقيدته ومنهاجه في الحياة، فإذا انتقل العضو من كافر إلى مسلم، فقد أصبح جزءًا من كيانه، وأداة له في القيام برسالته، كما أمر الله تعالى، فهذا كما لو أخذ المسلم سلاح الكافر وقاتل به في سبيل الله.
بل قد نقول: إن الأعضاء في بدن الكافر مسلمة مسبحة ساجدة لله تعالى، وفق المفهوم القرآني، أن كل ما في السموات والأرض ساجد مسبح لله تعالى، ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
فالصواب إذن أن كفر الشخص أو إسلامه لا يؤثر في أعضاء بدنه، حتى القلب نفسه، الذي ورد وصفه في القرآن بالسلامة والمرض، والإيمان والريب، والموت والحياة، فالمقصود بهذا ليس هو العضو المحس الذي يدخل في اختصاص الأطباء والمحللين، فإن هذا لا يختلف باختلاف الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، إنما المقصود به (المعنى) الروحي، الذي به يشعر الإنسان ويعقل ويفقه، كما قال تعالى: (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (الحج: 46).
(لهم قلوب لا يفقهون بها). (الأعراف: 179).
وقوله تعالى: (إنما المشركون نجس) (التوبة: 28). لا يراد به النجاسة الحسية التي تتصل بالأبدان، بل النجاسة المعنوية التي تتصل بالقلوب والعقول.
ولهذا لا يوجد حرج شرعي من انتفاع المسلم بعضو من جسد غير المسلم.(2/508)
زرع عضو من حيوان نجس في جسم المسلم:
وأما زرع عضو من حيوان محكوم بنجاسته كالخنزير مثلاً، في جسم إنسان مسلم، فالأصل ألا يلجأ إلى ذلك إلا عند الضرورة، وللضرورات أحكامها، على أن يراعى بأن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، وأن يقرر نفع ذلك الثقات من أطباء المسلمين.
ويمكن أن يقال هنا: إن الذي حرم من الخنزير إنما هو أكل لحمه، كما ذكر القرآن الكريم في أربع آيات، وزرع جزء منه في الجسم ليس أكلا له، إنما هو انتفاع به، وقد أجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- الانتفاع ببعض الميتة وهو جلدها والميتة مقرونة في التحريم بلحم الخنزير في القرآن، فإذا شرع الانتفاع بها في غير الأكل، اتجه القول إلى شرعية الانتفاع بالخنزير في غير الأكل أيضًا.
فقد ورد في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مر على شاة ميتة فسأل عنها فقالوا: إنها شاة لمولاة لميمونة، فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" ؟ قالوا: إنها ميتة!
قال: "إنما حرم أكلها". (متفق عليه، كما في اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان رقم 205).
بقى أن يقال: إن الخنزير نجس، فكيف يجوز إدخال جزء نجس في جسد مسلم؟
ونقول: إن الممنوع شرعًا هو حمل النجاسة في الظاهر، أي خارج البدن، أما في داخله، فلا دليل على منعه، إذ الداخل محل النجاسات من الدم والبول والغائط، وسائر الإفرازات، والإنسان يصلى، ويقرأ القرآن، ويطوف بالبيت الحرام، وهى في جوفه، ولا تضره شيئًا، إذ لا تعلق لأحكام النجاسة بما في داخل الجسم.
زرع الخصية لا يجوز:
بقى ما أثير أخيرًا حول موضوع زرع خصية شخص لشخص آخر. هل يجوز ذلك قياسًا على بقية الأعضاء أو لهذا العضو خصوصية تمنع جواز نقله من إنسان إلى آخر...؟(2/509)
والذي أراه أن نقل الخصية لا يجوز، فالعلماء المختصون يقررون أن الخصية هي المخزن الذي ينقل الخصائص الوراثية للرجل ولأسرته وفصيلته إلى ذريته، وزرع الخصية في جسم إنسان ما، يعنى أن ذريته حين ينجب تحمل صفات الإنسان الذي أخذت منه الخصية، من البياض أو السواد، والطول أو القصر، والذكاء أو الغباء، وغير ذلك من الأوصاف الجسمية والعقلية والنفسية.
وهذا يعتبر لونًا من اختلاط الأنساب الذي منعته الشريعة بكل الوسائل، فحرمت الزنى والتبني، وادعاء الإنسان إلى غير أبيه، ونحو ذلك، مما يؤدى إلى أن يدخل في الأسرة أو القوم ما ليس منهم، فليس مسلمًا إذن ما يقال إن الخصية إذا نقلت إلى شخص أصبحت جزءًا من بدنه، وتأخذ حكمه في كل شيء.
ومثل هذا يقال: لو صح نقل مخ إنسان إلى آخر، فمثل هذا لا يجوز لو أمكن، لما يترتب عليه من خلط وفساد كبير. وبالله التوفيق.
الإجهاض بناء على تشخيص مرض الجنين
(كانت هذه الفتوى جوابًا عن سؤال تقدمت به المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت، في إحدى ندواتها التي تجمع بين الفقهاء والأطباء لدراسة بعض القضايا بغية الوصول إلى الرأي الشرعي الأمثل في شأنها).
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
من واجب الفقيه المسلم أن يقف أمام هذه القضايا المعروضة، ليقرر عدة حقائق أهمها:
أن حياة الجنين في نظر الشريعة الإسلامية حياة محترمة، باعتباره كائنا حيًا يجب المحافظة عليه، حتى إن الشريعة تجيز للحامل أن تفطر في رمضان، وقد توجب ذلك عليها، إذا خافت على حملها من الصيام.. ومن هنا حرمت الشريعة الاعتداء عليه، ولو كان الاعتداء من أبويه، بل ولو جاء ذلك من أمه التي حملته وهنا على وهن.
حتى في حالة الحمل الحرام ما جاء عن طريق الزنى لا يجوز لها أن تسقطه، لأنه كائن إنساني حي لا ذنب له،(ولا تزر وازرة وزر أخرى). (الإسراء: 15).(2/510)
وقد رأينا الشرع يوجب تأخير القصاص من المرأة الحامل المحكوم عليها بالقصاص، ومثلها المحكوم عليها بالرجم حفاظًا على جنينها، كما في قصة الغامدية المروية في الصحيح، لأن الشرع جعل لولى الأمر سبيلا عليها ولم يجعل له سبيلا على ما في بطنها.
كما رأينا الشريعة توجب دية كاملة على من ضرب بطن امرأة حامل، فألقت جنينا حيًا، ثم مات من الضربة، نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك. (انظر: المغنى مع الشرح الكبير 9 / 550).
وإن نزل ميتًا ففيه غرة، وتقدر بنصف عشر الدية.
كما رأيناها تفرض على الضارب مع الدية أو الغرة كفارة، وهى: تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، بل تفرضها هنا سواء كان الجنين حيًا أو ميتًا.
قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم، ويروى ذلك عن عمر رضى الله عنه.
واستدلوا بقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليمًا حكيمًا). (النساء: 92).
قالوا: وإذا شربت الحامل دواء، فألقت به جنينًا، فعليها غرة، لا ترث منها شيئًا، وعليها عتق رقبة. وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها، فلزمها ضمانه بالغرة، ولا ترث منها شيئًا، لأن القاتل لا يرث المقتول، وتكون الغرة لسائر ورثته. وأما عتق الرقبة فهو كفارة لجنايتها.
وكذلك لو كان المسقط للجنين أباه، فعليه غرة لا يرث منها شيئًا، ويعتق رقبة (المغنى مع الشرح الكبير 6 / 556، 557)، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين توبة من الله.
وأكثر من ذلك ما قاله ابن حزم في "المحلى" في قتل الجنين بعد نفخ الروح فيه أي بعد مائة وعشرين ليلة، كما صح بذلك الحديث، فهو يعتبره جناية قتل عمد كاملة موجبة لكل آثارها من القصاص وغيره قال:(2/511)
(فإن قال قائل: فما تقولون فيمن تعمدت قتل جنينها وقد تجاوزت مائة ليلة وعشرين ليلة بيقين فقتلته، أو تعمد أجنبي قتله في بطنها فقتله، فمن قولنا: أن القود يعنى القصاص واجب في ذلك ولابد، ولا غرة في ذلك حينئذ، إلا أن يعفى عنه، فتجب الغرة فقط، لأنها دية، ولا كفارة في ذلك، لأنه عمد، وإنما وجب القود، لأنه قاتل نفس مؤمنة عمدًا، فهو نفس بنفس، وأهله بين خيرتين: إما القود، وإما الدية، أو المفاداة، كما حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن قتل مؤمنا وبالله تعالى التوفيق).
وقال ابن حزم فيمن شربت دواء فأسقطت حملها:
(إن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها، وإن كان قد نفخ فيه الروح فإن كانت لم تعمد قتله فالغرة أيضًا على عاقلتها، والكفارة عليها، وإن كانت عمدت قتله فالقود عليها أو المفاداة في مالها). (المحلى جـ 11).
وابن حزم يعتبر الجنين إذا نفخت فيه الروح شخصًا من الناس، حتى إنه يوجب إخراج زكاة الفطر عنه، أما الحنابلة فيرون ذلك مستحبًا لا واجبًا.
وهذا كله يرينا إلى أي حد تهتم الشريعة بالجنين، وتأكيد حرمته، وخصوصًا بعد المرحلة التي جاء الحديث بتسميتها مرحلة "النفخ في الروح"، وهذا من أمور الغيب، التي نسلم بها إذ صح بها النص، ولا نطيل البحث في كنهها(وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). (الإسراء: 85).
وأحسب أن ذلك شيء غير مجرد الحياة الحيوانية المعهودة، وإن فهم ذلك الشراح والفقهاء، فالحقيقة التي أثبتها العلم الآن بيقين: أن الحياة أسبق من ذلك. ولكن لعلها دون الحياة الإنسانية التي عبر عنها الحديث بـ "النفخ في الروح" وإليها الإشارة بقوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه). (السجدة: 59).
على أن من الأحاديث الصحاح ما خالف حديث ابن مسعود الذي ذكر فيه إرسال الملك لنفخ الروح بعد ثلاث أربعينات.(2/512)
فقد روى مسلم في صحيحه حديث حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكًا، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص". (رواه مسلم في: كتاب القدر من صحيحه "باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه"، حديث 2645).
فهذا الحديث جعل بعث الملك وتصويره للنطفة بعد ستة أسابيع اثنتين وأربعين ليلة (العجيب أن علم الأجنة والتشريح بعد تقدمهما اليوم يثبتان أن الجنين بعد هذه المدة (42 ليلة) يدخل مرحلة جديدة ونشأة أخرى).ـ لا بعد مائة وعشرين ليلة، كما في حديث ابن مسعود المعروف، وجمع بعض العلماء بين الحديثين باحتمال تعدد إرسال الملك، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح. (فتح الباري 14 /284،ط.الحلبي).
ومن هنا أجمع فقهاء المسلمين على حرمة إجهاض الجنين بعد نفخ الروح فيه، لم يخالف في ذلك أحد من السلف أو الخلف. (فهم بعض الشافعية كما في حاشية الشرواني على بن قاسم 9 / 41 أن أبا حنيفة يجيز الإجهاض بعد نفخ الروح، وهو غلط عليه وعلى مذهبه بيقين. وكتب المذهب الحنفي حافلة بما يخالف ذلك).
أما مرحلة ما قبل نفخ الروح، فمن الفقهاء من أجاز الإجهاض حينئذ إذا دعت إليه حاجة، على اعتبار أن الحياة لم تدب فيه بعد، فهو في نظرهم مجرد سائل، أو علقة من دم، أو مضغة من لحم!
ويقول بعض إخواننا من علماء الطب والتشريح تعليقًا على أقوال من أجازوا من الفقهاء إسقاط الجنين قبل نفخ الروح: إن هذا الحكم من هؤلاء العلماء الأجلاء مبنى على معارف زمنهم.(2/513)
ولو عرف هؤلاء ما عرفنا من حقائق علم الأجنة اليوم عن هذا الكائن الحي المتميز، الذي يحمل خصائص أبويه وأسرته وفصيلته ونوعه، لغيروا حكمهم وفتواهم، تبعًا لتغير العلة، فإن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
ومن لطف الله بعباده أن علماء الأجنة والتشريح أنفسهم اختلفوا كما اختلف الفقهاء في تقييم حياة الجنين في مراحله الأولى: قبل الـ 42 يومًا وقبل الـ 120 يومًا.
وكان اختلافهم هذا مؤيدًا قويًا لاختلاف الفقهاء في جنين ما قبل الأربعين وما قبل الأربعينات الثلاثة.
ولعل هذا من رحمة الله بالناس ليظل للأعذار والضرورات الحقيقية موضعها.
ولا بأس أن نذكر هنا بعض ما قاله الفقهاء في هذا المجال:
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعد كلام طويل عن "العزل" واختلاف العلماء في جوازه ومنعه، ومال في نهايته إلى ترجيح الجواز، وعدم نهوض أدلة المانعين: قال:
(وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع هنا، ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا. ويمكن أن يفرق بأنه أشد، لأن العزل لم يقع فيه تعاطى السبب، ومعالجة السقط تقع بعد تعاطى السبب). (فتح الباري 11 / 222 ط. الحلبي).
ومن الفقهاء من فرق بين الحمل قبل الأربعين والحمل بعد الأربعين. فأجاز الإسقاط قبل الأربعين لا بعدها. ولعل محور هذه التفرقة هو حديث مسلم الذي ذكرناه. ففي "نهاية المحتاج" من كتب الشافعية، ذكر اختلاف أهل العلم في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين:
(قيل: لا يثبت لها حكم السقط والوأد.
وقيل: لها حرمة، ولا يباح إفسادها، ولا التسبب في إخراجها بعد استقرارها في الرحم). (نهاية المحتاج للرملي 8 / 416 ط. الحلبي).
ومنهم من فرق بين مرحلة تخلق الجنين ومرحلة ما قبل تخلقه، فرخص في الإجهاض قبل التخلق دون ما بعده.(2/514)
وفى "النوادر" من كتب الحنفية: (امرأة عالجت في إسقاط ولدها، لا تأثم ما لم يستبن شيء من خلقه). (انظر: البحر الرائق لابن نجيم 8 / 233 ط. دار المعرفة، بيروت).
وفى كتبهم سألوا: هل يباح الإسقاط بعد الحبل؟ وأجابوا: يباح ما لم يتخلق شيء منه.
ثم في غير موضع قالوا: ولا يتخلق إلا بعد مائة وعشرين يومًا.
قال محقق الحنفية الكمال بن الهمام: (وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح، وإلا فهو غلط، لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة). (فتح القدير 2 / 495 ط. بولاق).
وكلام هذا العلامة صحيح، يقره العلم في عصرنا.
وإطلاقهم يفيد عدم توقف جواز الإسقاط على إذن الزوج، وهو ما صرح به في "الدر المختار" بقوله: وقالوا: يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج.
ومن الحنفية من رفض الإباحة المطلقة وقال: لا أقول بالحل، إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه، لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤاخذ بالجزاء، فلا أقل من أن يلحقها إثم هنا إذا أسقطت بغير عذر.
ومنهم من قال: يكره، فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة، فيكون له حكم الحياة، كبيضة صيد الحرم.
ولذا قال أهل التحقيق منهم: (فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل). (الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 380 ط. بولاق).
على أن الكثيرين من العلماء خالفوا هؤلاء، ولم يجيزوا الإجهاض ولو قبل نفخ الروح.
ذلك أن هناك طائفة من العلماء تمنع العزل وهو قذف السائل المنوي خارج فرج المرأة وتعتبره لونا من "الوأد الخفي" كما جاء ذلك في بعض الأحاديث، وذلك لما فيه من منع لأسباب الحياة أن تأخذ سبيلها إلى الوجود والظهور... فهؤلاء يمنعون الإجهاض ويحرمونه بطريق الأولى. فإن أسباب الحياة هنا قد انعقدت بالفعل حين التقى الحيوان المنوي الذكرى بالبييضة الأنثوية، في تزاوج وتلاقح جعل منهما كائنا جديدًا يحمل من الخصائص الوراثية ما لا يعلمه إلا الله تعالى.(2/515)
على أن هناك من العلماء من أجاز العزل لمسوغات وأسباب تتعلق بالأم أو بالوليد السابق، أو بقدرة الأسرة على حسن التربية، أو غير ذلك .. ولكنهم مع هذا لم يجيزوا الإجهاض ونظموه مع الوأد في سلك واحد، وإن اختلفت مرتبتا الجناية.
ومن هؤلاء الإمام الغزالي، فقد رأيناه رغم إجازته للعزل لمسوغات معتبرة عنده يفرق بوضوح بين منع الحمل بالعزل وبين إسقاطه بعد وجوده فيقول:
(وليس هذا أي المنع بالعزل كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على وجود حاصل، والوجود له مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة، كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حيًا). (إحياء علوم الدين، ربع العادات، كتاب النكاح ص 737 طـ الشعب). اهـ.
ونلاحظ أن الغزالي رحمه الله يعتبر الإجهاض جناية على وجود بشرى حاصل، مع أنه يعبر عن التقاء نطفة الرجل بماء المرأة بأنه "استعداد لقبول الحياة".
فكيف لو عرف ما عرفناه اليوم بأن الحياة قد وجدت بالفعل منذ تم هذا اللقاء؟.
ولهذا نقول: إن الأصل في الإجهاض هو الحرمة. وإن كانت الحرمة تكبر وتعظم كلما استقرت حياة الجنين.
فهو في الأربعين الأولى أخف حرمة، فقد يجوز لبعض الأعذار المعتبرة، وبعد الأربعين تكون الحرمة أقوى، فلا يجوز إلا لأعذار أقوى يقدرها أهل الفقه، وتتأكد الحرمة وتتضاعف بعد مائة وعشرين يومًا، حيث يدخل في المرحلة التي سماها الحديث "النفخ في الروح".
وفى هذه الحالة لا يجوز الإجهاض إلا في حالة الضرورة القصوى، بشرط أن تثبت الضرورة لا أن تتوهم، وإذا ثبتت فما أبيح للضرورة يقدرها بقدرها.(2/516)
ورأيي أن الضرورة هنا تتجلى في صورة واحدة، وهى: ما إذا كان في بقاء الجنين خطر على حياة الأم، لأن الأم هي الأصل في حياة الجنين، والجنين فرع، فلا يضحى بالأصل من أجل الفرع، وهذا منطق يوافق عليه مع الشرع الخلق والطب والقانون. على أن من الفقهاء من رفض ذلك، ولم يقبل الجناية على الحي بحال. ففي كتب الحنفية:
(امرأة حامل اعترض الولد في بطنها ولا يمكن "إخراجه" إلا بقطعه أرباعًا. ولو لم يفعل ذلك يخاف على أمه من الموت.. قالوا: إن كان الولد ميتًا فلا بأس به، وإن كان حيًا لا يجوز، لأن إحياء نفس بقتل نفس أخرى لم يرد في الشرع). (البحر الرائق لابن نجيم 8 / 233).
ولكن الشرع ورد بارتكاب أخف الضررين، وأهون المفسدتين..
وأضاف بعض المعاصرين إلى الصورة المذكورة، صورة أخرى، وهى:
أن يثبت بطريقة علمية مؤكدة أن الجنين وفقًا لسنن الله تعالى سيتعرض لتشوهات خطيرة تجعل حياته عذابًا عليه وعلى أهله، وفقًا لقاعدة: "الضرر يدفع بقدر الإمكان" وينبغي أن يقرر ذلك فريق طبي لا طبيب واحد.
والراجح أن الجنين بعد استكمال أربعة أشهر إنسان حي كامل. فالجناية عليه كالجناية على طفل مولود.
ومن لطف الله أن الجنين المصاب بتشوهات خطيرة لا يعيش بعد الولادة، في العادة، كما هو مشاهد، وكما قرر أهل الاختصاص أنفسهم.
على أن الأطباء كثيرًا ما يخطئون التشخيص.
وأذكر هنا واقعة كنت أحد أطرافها، وقعت منذ بضع سنوات، فقد استفتاني صديق يقيم في ديار الغرب: أن الأطباء، قرروا أن الجنين في بطن امرأته الحامل لخمسة أشهر سينزل مشوها وقال: إنهم يرجحون ذلك ولا يوقنون. وكانت فتواي له أن يتوكل على الله، ويدع زمام الأمر إليه سبحانه، فلعل ظنهم يخيب، ولم أشعر بعد أشهر إلا وبطاقة تصل إلى من أوربا تحمل صورة مولود جميل، كتب أبوه على لسانه هذه العبارات المؤثرة:(2/517)
عمى العزيز: أشكرك بعد الله تعالى على أن أنقذتني من مشارط الجراحين، فقد كانت فتواك سبب حياتي، فلن أنسى لك هذا الجميل ما حييت.
بيد أن تشوهات الجنين ينبغي أن تعتبر إذا ثبتت بالفعل قبل الأشهر الأربعة، ومرحلة نفخ الروح.
على أنه ليس من التشويه المعتبر أن يصاب الجنين بعد ولادته بمثل العمى أو الصمم أو البكم، فهذه عاهات عرفها الناس طوال حياة البشرية وعاشوا بها، ولم تمنعهم من المشاركة في تحمل أعبائها، وعرف الناس عباقرة من ذوى العاهات لازالت أسماؤهم حاضرة في ذاكرة التاريخ.
ولا يجوز لنا أن نعتقد أن العلم سيغير بإمكاناته ووسائله من طبيعة الحياة البشرية التي أقامها الله على الابتلاء (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) (الإنسان: 2) . (لقد خلقنا الإنسان في كبد). (البلد: 4).
ولقد ساهم العلم وساهمت التكنولوجيا في عصرنا بتعليم المعوقين تعليمًا بلغ حدًا كبيرًا من النجاح، كما ساهما في تيسير الحياة لهم، واستطاع كثير منهم أن يشاركوا في أعباء الحياة كغيرهم من الأسوياء، وخاصة أن الله تعالى قد اقتضت سنته أن يعوضهم بمواهب وقدرات أخرى غير عادية.
والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.
بنوك اللبن (الحليب)
س: الطفل الوليد الخديج الذي ولد قبل أوانه .. قد يدعو الأمر لعزله تمامًا في حاضنة صناعية لفترة قد تطول حتى يفيض حليب أمه من ثديها.
ثم يتقدم رويدًا لدرجة لم تزل حرجة ولكن تسمح له بتلقي الحليب، ومعروف أن أنسب الحليب وأرفقه به هو الحليب البشرى ..
وقد درجت بعض المؤسسات على أن تستوعب الوالدات المرضعات بعضًا من حليبهن .. "تسخو كل بما تشاء ويجمع ذلك ويعقم ثم يكون في خدمة هؤلاء المواليد المبتسرين في هذا الدور الحرج الذي قد تضرهم فيه أنواع الحليب الأخرى".(2/518)
فالذي يحدث أنه يستعمل خليط من حليب عشرات الأمهات بل مئاتهن .. وعليه يتغذى غير مواليدهن عشرات بل مئات من المواليد الخدج ذكرانًا وإناثًا .. على غير معرفة في الحال والاستقبال.
ولكن يتم ذلك دون لقاء مباشر أي دون مص الثدي.
فهل هذه أخوة شرعية من الرضاع؟ وهل يحرم حليب البنوك رغم مساهمته في إحياء النفوس؟
فإن كان مباحًا حلالاً فما مسوغات الإباحة؟ ترى هل هي عدم مص الثدي؟ أم عدم إمكان التعرف على أخوات الرضاع وهن في مجتمع بذاته يمثلن القلة بين الكثرة؟
القلة التي تذوب ولا يمكن تتبعها أو الاستدلال عليها؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلا ريب أن الهدف الذي من أجله أنشئت "بنوك الحليب" كما عرضها السؤال هدف خير نبيل يؤيده الإسلام. الذي يدعو إلى العناية بكل ضعيف أيًا كان سبب ضعفه وخصوصًا إذا كان طفلاً خديجًا لا حول له ولا قوة.
ولا ريب أن أية امرأة مرضع تسهم بالتبرع ببعض لبنها لتغذية هذا الصنف من الأطفال، مأجورة عند الله، ومحمودة عند الناس، بل يجوز أن يشترى ذلك منها إذا لم تطب نفسها بالتبرع، كما جاز استئجارها للرضاع كما نص عليه القرآن، وعمل به المسلمون.
ولا ريب كذلك أن المؤسسة التي تقوم بتجميع هذه "الألبان" وتعقيمها وحفظها لاستخدامها في تغذية هؤلاء الأطفال في صورة ما سمى "بنك الحليب" مشكورة مأجورة أيضًا.
إذن ما المحذور الذي يخاف من وراء هذا العمل؟(2/519)
المحذور يتمثل في أن هذا الرضيع سيكبر بإذن الله، ويصبح شابًا في هذا المجتمع، ويريد أن يتزوج إحدى بناته، وهنا يخشى أن تكون هذه الفتاة أخته من الرضاع وهو لا يدرى، لأنه لا يعلم من رضع معه من هذا اللبن المجموع، وأكثر من ذلك أنه لا يعلم مَن مِنْ النساء شاركت بلبنها في ذلك، مما يترتب عليه أن تكون أمه من الرضاع، وتحرم هي عليه ويحرم عليه بناتها من النسب ومن الرضاع، كما يحرم عليه أخواتها لأنهن خالاته، ويحرم عليه بنات زوجها من غيرها على رأى جمهور الفقهاء لأنهن أخواته من جهة الأب إلى غير ذلك من فروع وأحكام الرضاع.
ولابد لنا هنا من وقفات، حتى يتبين الحكم جليًا.
1 - وقفة لبيان معنى "الرضاع" الذي رتب عليه الشرع التحريم.
2 - وقفة لبيان مقدار الرضاع المحرم.
3 - وقفة لبيان حكم الشك في الرضاع.
معنى الرضاع:
أما معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم. فهو عند جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي كل ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقه أو غيره، بالامتصاص أو غيره. مثل الوجور، وهو أن يصب اللبن في حلقه، بل ألحقوا به السعوط وهو أن يصب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط.
وخالف في ذلك كله الإمام الليث بن سعد، معاصر الإمام مالك ونظيره. ومثله الظاهرية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
فقد ذكر العلامة ابن قدامة عنه روايتين في الوجور والسعوط:
الأولى: وهى أشهر الروايتين عنه والموافقة للجمهور ـ: أن التحريم يثبت بهما. أما الوجور فلأنه ينبت اللحم وينشز العظم، فأشبه الارتضاع، وأما السعوط، فلأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلاً للتحريم بالرضاع كالفم.
الرواية الأخرى: أنه لا يثبت التحريم، لأنهما ليسا برضاع.(2/520)
قال في المغنى: وهو اختيار أبى بكر ومذهب داود وقول عطاء الخرساني في السعوط، لأن هذا ليس برضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله الرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع، فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه.
ورجح صاحب المغنى الرواية الأولى بحديث ابن مسعود عند أبى داود: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم".
والحديث الذي احتج به صاحب المغنى لا حجة فيه، بل هو عند التأمل حجة عليهم، لأنه يتحدث عن الرضاع المحرم، وهو ما كان له تأثير في تكوين الطفل بإنشاز عظمه وإنبات لحمه، فهو ينفى الرضاع القليل، غير المؤثر في التكوين، مثل الإملاجة والإملاجتين، فمثل هذا لا ينشز عظمًا ولا ينبت لحمًا. فالحديث إنما يثبت التحريم لرضاع ينشز وينبت، فلابد من وجود الرضاع أولا وقبل كل شيء.
ثم قال صاحب المغنى: ولأن هذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم، ولأنه سبيل الفطر للصائم، فكان سبيلاً للتحريم كالرضاع بالفم.
ونقول لصاحب المغنى رحمه الله: لو كانت العلة هي إنشاز العظم وإنبات اللحم بأي شيء كان، لوجب أن نقول اليوم بأن نقل دم امرأة إلى طفل يحرمها عليه، بل التغذية بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيرًا من اللبن. ولكن أحكام الدين لا تفرض بالظنون، فإن الظن أكذب الحديث، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئًا.
والذي أراه أن الشارع جعل أساس التحريم هو "الأمومة المرضعة" كما في قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) (1، 2 النساء: 23) . وهذه الأمومة التي صرح بها القرآن لا تتكون من مجرد أخذ اللبن. بل من الامتصاص والالتصاق الذي يتجلى فيه حنان الأمومة، وتعلق البنوة، وعن هذه الأمومة تتفرع الأخوة من الرضاع، فهي الأصل، والباقي تبع لها.(2/521)
فالواجب الوقوف عند ألفاظ الشارع هنا، وألفاظه كلها تتحدث عن الإرضاع والرضاعة، ومعنى هذه الألفاظ في اللغة التي نزل بها القرآن وجاءت بهما السنة واضح صريح، لأنها تعنى إلقام الثدي والتقامه، وامتصاصه، لا مجرد الاغتذاء باللبن بأي وسيلة.
ويعجبني موقف الإمام ابن حزم هنا، فقد وقف عند مدلول النصوص، ولم يتعد حدودها، فأصاب المحز، ووفق فيما أرى للصواب.
ويحسن بي أن أنقل هنا فقرات من كلامه لما فيها من قوة الإقناع ووضوح الدليل.
قال:
(وأما صفة الرضاع المحرم، فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط، فأما من سقى لبن امرأة فشربه من إناء أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام أو صب في فمه أو في أنفه أو في أذنه، أو حقن به، فكل ذلك لا يحرم شيئًا ولو كان ذلك غذاءه دهره كله.
برهان ذلك قول الله عز وجل: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) (النساء: 23) . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى نكاحًا إلا بالإرضاع، والرضاعة والرضاع فقط، ولا يسمى إرضاعًا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال: أرضعته ترضعه إرضاعًا. ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعًا إلا أخذ المرضع أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه. تقول: رضع يرضع رضاعًا ورضاعة، وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيء منه إرضاعًا ولا رضاعة ولا رضاعًا، إنما هو حلب وطعام وسقاء وشرب وأكل وبلع وحقن وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئًا.
قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في هذا فقال الليث بن سعد: لا يحرم السعوط بلبن المرأة، ولا يحرم أن يسقى الصبي لبن المرأة في الدواء، لأنه ليس برضاع، إنما الرضاع ما مص من الثدي، هذا نص قول الليث وهذا قولنا وهو قول أبى سليمان يعنى داود إمام أهل الظاهر وأصحابنا، يعنى الظاهرية.(2/522)
ورد على الذين احتجوا بحديث: "إنما الرضاعة من المجاعة" فكان مما قاله:
أن هذا الخبر حجة لنا، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة، ولم يحرم بغيرها شيئًا، فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل، أو شرب، أو وجور، أو غير ذلك، إلا أن يكون رضاعة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). (المحلى لابن حزم 10 / 9 - 11). اهـ.
وبهذا نرى أن القول الذي يطمئن إليه القلب، هو الذي يتمشى مع ظواهر النصوص التي ناطت كل الأحكام بالإرضاع والرضاع. كما يتمشى مع الحكمة في التحريم بالرضاع، وهو وجود أمومة تشابه أمومة النسب، وعنها تتفرع البنوة والأخوة وسائر القرابات الأخرى. ومعلوم أن الرضاع في حالة "بنوك الحليب" غير موجود، إنما هو الوجور الذي ذكره الفقهاء.
على أننا لو سلمنا برأي الجمهور في عدم اشتراط الرضاع والامتصاص لكان هنا مانع آخر من التحريم.
وهو أننا لا نعرف من التي رضع منها الطفل؟ وما مقدار ما رضع من لبنها؟ هل أخذ من لبنها ما يساوى خمس رضعات مشبعات؟ على ما هو القول المختار الذي دل عليه الأثر، ورجحه النظر، وبه ينبت اللحم، وينشز العظم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وهل للبن المشوب المختلط حكم اللبن المحض الخالص؟ ففي مذهب الحنفية من قول أبى يوسف أن لبن المرأة إذا اختلط بلبن أخرى، فالحكم للغالب منهما، لأن منفعة المغلوب لا تظهر في مقابلة الغالب.
والمعروف أن الشك في الرضاع لا يترتب عليه التحريم.
قال العلامة ابن قدامة في "المغنى":
(وإذا أوقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرم، هل كملا أو لا؟
لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدده) (المغنى مع الشرح الكبير 9 / 194) وفى "الاختيار" من كتب الحنفية:
(امرأة أدخلت حلمة ثديها في فم رضيع، ولا يدرى: أدخل اللبن في حلقه أم لا؟(2/523)
لا يحرم النكاح.
وكذا صبية أرضعها بعض أهالي القرية، ولا يدرى من هو، فتزوجها رجل من أهل تلك القرية، يجوز، لأن إباحة النكاح أصل، فلا يزول بالشك.
قال: ويجب على النساء ألا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، فإن فعلن فليحفظنه، أو يكتبنه احتياطًا) (الاختيار لابن مودود الحنفي 3 / 120، وانظر كذلك: شرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية 3 / 2، 3) .اهـ.
ولا يخفى أن ما حدث في قضيتنا ليس إرضاعًا في الحقيقة، ولو سلمنا بأنه إرضاع فهو لضرورة قائمة.
وحفظه وكتابته غير ممكن، لأنه لغير معين، وهو مختلط بغيره.
والاتجاه المرجح عندي في أمور الرضاع هو التضييق في التحريم كالتضييق في إيقاع الطلاق، وللتوسيع في كليهما أنصار.
الخلاصة:
أننا لا نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع من "بنوك الحليب"، مادام يحقق مصلحة شرعية معتبرة، ويدفع حاجة يجب دفعها. آخذين بقول من ذكرنا من الفقهاء، مؤيدًا بما ذكرنا من أدلة وترجيحات.
وقد يقول بعض الناس: ولماذا لا نأخذ بالأحوط، ونخرج عن الخلاف، والآخذ بالأحوط هو الأورع والأبعد عن الشبهات.
وأقول:
عندما يعمل المرء في خاصة نفسه، فلا بأس أن يأخذ بالأحوط والأورع، بل قد يرتقى فيدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالعموم، وبمصلحة اجتماعية معتبرة، فالأولى بأهل الفتوى أن ييسروا ولا يعسروا، دون تجاوز للنصوص المحكمة، أو القواعد الثابتة.
ولهذا جعل الفقهاء من موجبات التخفيف: عموم البلوى بالشيء مراعاة لحال الناس ورفقًا بهم، هذا بالإضافة إلى أن عصرنا الحاضر خاصة أحوج ما يكون إلى التيسير والرفق بأهله.(2/524)
على أن مما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الاتجاه في كل أمر إلى الأخذ بالأحوط دون الأيسر أو الأرفق أو الأعدل، قد ينتهي بنا إلى جعل أحكام الدين مجموعة "أحوطيات" تجافي روح اليسر والسماحة التي قام عليها هذا الدين. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بحنيفية سمحة"، "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
والمنهج الذي نختاره في هذه الأمور هو التوسط والاعتدال بين المتزمتين والمتهاونين (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا). (البقرة: 143).
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
تحريم المخدرات
س: ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف تحريم الخمر، ولكنه لم يرد فيهما تحريم أنواع مختلفة من المسكرات الجامدة (كالحشيش، والهيروين ) . فما حكم الشرع في تعاطى هذه الأشياء، علمًا بأن بعض المسلمين يتناولها بحجة أن الدين لم يحرمها ... ؟
جـ : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
الحشيش والهيروين وغيرهما من الجامدات والمائعات التي تعرف باسم "المخدرات" هي من الأشياء التي حرمها الشرع بلا خلاف بين علماء المسلمين.
والدليل على حرمتها ما يأتي :
أ - أنها داخلة في مسمَّى "الخمر " بناء على ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " الخمر ما خامر العقل " (متفق عليه موقوفًا على عمر كما في اللؤلؤ والمرجان (1905) ورواه أيضًا أبو داود (3669) والنسائي في الأشربة) . أي ما لابسه وغطاه وأخرجه عن طبيعته المميزة الحاكمة . وهذه الأشياء تؤثر في حكم العقل على الأشياء، فيخلط ويخبط ويتصور البعيد قريبًا، والقريب بعيدًا، ومن ثم يقع كثير من حوادث السير نتيجة هذا التأثير.
ب - أنها إن لم تدخل في مسمى " الخمر " أو " السكر " فهي محرمة من جهة أنها " مفتر " فقد روى أبو داود عن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- " نهى عن كل مسكر ومفتر ". (أبو داود في كتاب الأشربة 3686 ).(2/525)
والمفتر : هو ما يحدث في الجسم الفتور والخَدَر . والنهى هنا للتحريم لأنه هو الأصل في النهى، ولأنه قرن بين المسكر - المحرَّم بالإجماع - والمفتر.
جـ - أنها لو لم تدخل في المسكر والمفتر لدخلت في جنس (الخبائث) والمضار ومن المقرر شرعًا : أن التحريم في الإسلام يتبع الخبث والضرر، كما قال تعالى في وصفه لرسوله عليه الصلاة والسلام في كتب أهل الكتاب " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (الأعراف : 157). وقال -صلى الله عليه وسلم- : " لا ضرر ولا ضرار " (رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس، وابن ماجة عن عبادة . وصححوه بمجموع طرقه).
وكل ما أضر بالإنسان تناوله فهو حرام . لقوله تعالى : " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا " (النساء : 29). " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ". (البقرة : 195).
والدليل على ذلك أن الحكومات جميعًا تحارب هذه المخدرات، وتعاقب بأشد العقوبات متناوليها أو مروجيها، حتى الحكومات التي تبيح الخمر والمسكرات، بل إن بعض الدول تعاقب المُتَّجرِين فيها بالإعدام . وهو الحق ؛ لأنهم يقتلون الشعوب ليكسبوا الثروة، فهم أحق بالقصاص ممن يقتل فردًا أو فردين !
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عما يجب على آكل الحشيشة ؟ ومن ادعى أن أكلها جائز حلال مباح ؟
فأجاب : (أكل هذه الحشيش الصلبة حرام، وهى من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها قليلاً أو كثيرًا ؛ لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرًا مرتدًا ؛ لا يغسل، ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين . وحكم المرتد شر من اليهودي والنصراني، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر، وأنها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وأنهم لذلك يستعملونها.(2/526)
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة، متأولاً قوله تعالى : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا " (المائدة : 93) . فلما رُفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم، اتفق عمر وعلى وغيرهما من علماء الصحابة رضى الله عنهم على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا . وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فإنه يجلد الحد ثمانين سوطًا، أو أربعين . هذا هو الصواب . وفد توقف بعض الفقهاء في الجلد ؛ لأنه ظن أنها مزيلة للعقل، غير مسكرة، كالبنج ونحوه مما يغطى العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين: إن كان مسكرًا ففيه جلد الخمر، وإن لم يكن مسكرًا ففيه التعزير بما دون ذلك . ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل.
. والصحيح أن الحشيشة مسكرة كالشراب ؛ فإن آكليها ينتشون بها، ويكثرون تناولها، بخلاف البنج وغيره، فإنه لا ينتشى، ولا يشتهى . وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، وما لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير . " والحشيشة " مما يشتهيها آكلوها ويمتنعون عن تركها ؛ ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على ما يتناولها كما يتناول غير ذلك، وإنما ظهر في الناس أكلها قريبًا من نحو ظهور التتار ؛ فإنها خرجت، وخرج معها سيف التتار ) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 34/213، 214). يعنى أن خروج التتار كان عقوبة من الله على ظهور المنكرات في الأمة ومنها هذه الحشيشة الملعونة.
وفى مقام آخر قال :(2/527)
( ومن الناس من يقول : إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج ؛ وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطربًا كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر ؛ فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر ؛ ولهذا قال الفقهاء : إنه يجب فيها الحد، كما يجب في الخمر.
وأما قول القائل : إن هذه ما فيها آية ولا حديث : فهذا من جهله ؛ فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة، وقضايا كلية، تتناول كل ما دخل فيها، فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام . وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص ). (المصدر السابق ص 206، 207).
وبهذا نتبين أن الحشيش والأفيون والهيروين وغيرها من المخدرات - وخصوصًا الأنواع الخطرة والتي يسمونها اليوم السموم البيضاء - محرمة أشد التحريم بإجماع المسلمين، وهى من الكبائر الموبقات، ومتناولها يستحق العقوبة، أما مروجها أو المتجر بها، فينبغي أن تكون عقوبته الموت ؛ لأنه يتاجر بأرواح الأمة من أجل أن يثرى، فهو أولى من ينفذ فيه قوله تعالى : " ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون " (البقرة : 179).
وعقوبة التعزير عند المحققين من الفقهاء يمكن أن تصل إلى القتل حسب المفسدة التي يعاقب عليها المجرم.
على أن هؤلاء يكونون عصابات قادرة بمالها ونفوذها على مقاومة كل من يقف في سبيلهم، فهم داخلون في صنف " الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا " (المائدة: 33).
بل هم في واقع الأمر أشد إجرامًا وإفسادًا من قطاع الطريق، فلا غرو أن يعاقبوا بعقوبتهم " ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ". (المائدة : 33).
حكم تناول القات
س: عرفنا رأيكم في حكم التدخين، وميلكم إلى تحريمه، نظرًا لما يجلبه من الضرر على مدمنه في البدن والنفس والمال، وأنه نوع من قتل النفس أو الانتحار البطيء.(2/528)
ونريد أن نعرف رأيكم في آفة أخرى منتشرة عندنا في اليمن من زمن بعيد، وقد تعارف الناس عليها، وشب عليها الصغير، وشاخ عليها الكبير حتى إن العلماء والقضاة يتناولونها دون نكير . وقد قرأنا وسمعنا أن بعض العلماء في بلاد أخرى حرموا تناول هذا القات وأنكروا على من اعتاده وأدمنه، لما وراءه من ضرر وإسراف، والله لا يحب المسرفين.
نرجو البيان المقنع في هذه القضية الحساسة عند اليمنيين . وجزاكم الله خيرًا.
بعض اليمنيين بالدوحة
جـ : أما حكم التدخين، فلا ريب أن مقررات العلم والطب المعاصرين، وما كشفته من آثار التدخين على أصحابه - قد أكدت ما كررناه في فتاوينا، وما فصلناه، في الجزء الأول من كتابنا : " فتاوى معاصرة " من حرمة الإصرار على هذه الآفة المدمرة للجسم وللمال، والمستبعدة لإرادة الإنسان . وزاد العلم شيئًا جديدًا، وهو ما يعرف الآن باسم (التدخين القسري) ويراد به تأثير التدخين على غير المدخنين ممن يكونون قرب المدخن . وهو تأثير خطير قد يفوق لدى بعض الناس التأثير على المدخن نفسه.
إن الإسلام يقول : " لا ضرر ولا ضرار " أي لا تضر نفسك ولا تضر غيرك . والمدخن يضر نفسه، ويضر غيره.
والشريعة جاءت للمحافظة على المصالح الضرورية للخلق، وقد حصرها الشرعيون في خمس : الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
والتدخين يضر بهذه المصالح.
أما القات فقد أدخله (المؤتمر العالمي لمحاربة المسكرات والمخدرات والتدخين ) - الذي عقد بالمدينة المنورة وتحت رعاية الجامعة الإسلامية بها، منذ سنوات - ضمن المواد المشمولة بالمنع، وألحقها بالمخدرات والتدخين.(2/529)
ولكن كثيرًا من إخواننا من مشايخ اليمن وقضاته، اعترضوا على قرار المؤتمر الذي صدر بالإجماع، واعتبروا أن المؤتمرين لم يعرفوا حقيقة القات، وأنهم غلوا في حكمهم، وشددوا في أمر لم يرد بالمنع منه كتاب ولا سنة، وقد ظل أهل اليمن يستعملونه من قرون، وفيهم العلماء والفقهاء والصالحون ولا زالوا يستعملونه إلى اليوم.
وممن تصدى لذلك صديقنا العالم الغيور القاضي يحيي بن لطف الفسيل، الذي أصدر في ذلك رسالة سماها : " دحض الشبهات حول القات " ضمنها المعاني التي أشرنا إليها، وأنكر فيها أن يكون في القات أي شبه بالمخدرات، كما نفى أن يكون فيه أي ضرر مما يذكره المشددون فيه، إلا أن يكون ذلك شيئًا خاصًا ببعض الناس فيقصر المنع عليهم، كما لو كان هناك شخص يضره تناول العسل، وكذلك الإسراف يختص ببعض الناس دون بعض.
والذي لمسته عند زيارتي لليمن في أواخر السبعينيات، من خلال المشاهدة والسماع أن للقات الآثار التالية :
1-أنه غالى الثمن جدًا، وهذه كانت مفاجأة لي، فقد كنت أحسبه مثل السجاير، فإذا هو يكلف أضعافها، وأضعاف أضعافها.
كنت أتغدى عند أحد الفضلاء مع بعض الأخوة، فإذا أحد الضيوف يأتي ومعه أغصان خضراء يحتضنها . ولاحظ الحضور أنى أنظر إليها مستغربًا فسألوني : أتعرف هذا النبات الأخضر ؟ قلت : لا . فقالوا : هذا هو القات . فسألتهم وكم يكون ثمن هذه الحزمة التي يحملها صاحبنا ؟ فقال أخونا : 150 ريالاً، فقلت : وكم يومًا تكفى صاحبنا ؟ قالوا : إنه سيتسلى بها بعد الغداء فلا يأتي المغرب إلا وقد انتهى منها !
قلت : وهل يكلف القات أهله مثل هذه المبالغ ؟ قالوا : وأكثر منها . فهناك من يأكل بثلاثمائة وبأربعمائة وأكثر من ذلك.
وأعتقد أن هذا داخل في الإسراف بيقين، إن لم يكن داخلا في التبذير وإضاعة المال فيما لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة.(2/530)
و إذا كان الأكثرون اعتبروا تدخين السجائر أو " التنباك " كما يسميه بعضهم، أو " التتن " كما يسميه الآخرون من باب الإسراف المحظور، فإن أكل القات يدخل فيه من باب أولى.
2-أنه مضيع لأوقات آكليه، أو ماضغيه، فهم يقضون في ذلك كل يوم مدة تمتد من بعد الظهر إلى المغرب، وهى فترة (التخزين) كما يسمونها هناك . فماضغ القات (يخزنه ) في فمه، ويتلذذ به . ويهمل كل شيء في هذا الموقف، وهو ليس بالقليل، والوقت رأس مال الإنسان، فإذا ضيعه بهذه الصورة، فقد غبن نفسه، ولم يستثمر حياته كما ينبغي للمسلم.
وإذا نُظِر إليه على مستوى الشعب فهو خسارة عامة فادحة، وضرر مؤكد على الإنتاج والتنمية، وتعطيل لطاقات المجتمع بغير موجب.
وهذا الضرر ملموس ومشهود، ولا ينازع فيه أحد، وقد انتشر بين الإخوة في اليمن هذه الحكمة : أول آفات القات تضييع الأوقات !
3-عرفت من الأخوة المهتمين بالأمر في اليمن أن نحو 30% ثلاثين في المائة من أرض اليمن مزروعة بالقات، وهى من أخصب الأراضي وأنفعها، في حين أن اليمن تستورد القمح وغيره من الأقوات والخضروات.
ولا ريب أن هذه خسارة اقتصادية جسيمة على الشعب اليمنى . لا أظن أحدًا ممن يحرصون على خير هذا البلد ومستقبله يكابر فيها.
4-أهل اليمن مختلفون فيما بينهم في شأن تأثير القات وأضراره الجسيمة والنفسية، فكثير منهم ينفي أن له ضررًا، وبعضهم يزعم أن ضرره خفيف بالنسبة لمنافعه، ومن المؤكد أن المبتلى به يصعب أن يقول غير ذلك . فهو غير محايد في حكمه وشهادته.
ولكن هناك كثيرًا من المنصفين أكدوا ما يصحبه من أضرار متنوعة، وما يدعى من وجود نفع فيه، فلا أثر له، فإن إثمه أكبر من نفعه، وقد ذكر بعض الأطباء أنه وسيلة من وسائل نقل الأمراض . وأن له آثارًا صحية سيئة.(2/531)
ومن العلماء اليمنيين الذين صدعوا بالحق في هذه القضية، ونبهوا على أضرار القات وآفاته : العلامة المصلح الشيخ محمد سالم البيحاني، فقد ذكر في كتابه (إصلاح المجتمع) في شرح حديث نبوي عن الخمر والمسكرات قوله :
(وهنا أجد مناسبة وفرصة سانحة للحديث عن القات والتنباك، والابتلاء بهما عندنا كثير، وهما من المصائب والأمراض الاجتماعية الفتاكة، وإن لم يكونا من المسكر، فضررهما قريب من ضرر الخمر والميسر، لما فيهما من ضياع المال، وذهاب الأوقات، والجناية على الصحة، وبهما يقع التشاغل عن الصلاة، وكثير من الواجبات المهمة ؛ ولقائل أن يقول : هذا شيء سكت الله عنه، ولم يثبت على تحريمه والامتناع منه أي دليل، وإنما الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وقد قال جل ذكره : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا " (البقرة : 29) . وقال تعالى : " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير " (الأنعام : 145).الآية.
وصواب ما يقول هذا المدافع عن القات والتنباك، ولكنه مغالط في الأدلة، ومتغافل عن العمومات الدالة على وجوب الاحتفاظ بالمصالح، وحرمة الخبائث، والوقوع في شيء من المفاسد، ومعلوم من أمر القات أنه يؤثر على الصحة البدنية ؛ فيحطم الأضراس، ويهيج الباسور، ويفسد المعدة، ويضعف شهية الأكل، ويدر السلاس - وهو الودي - وربما أهلك الصلب، وأضعف المنى، وأظهر الهزال، وسبب القبض المزمن، ومرض الكلى، وأولاد صاحب القات غالبًا يخرجون ضعاف البنية، صغار الأجسام، قصار القامة، قليلا دمهم، مصابين بعدة أمراض خبيثة.
إن رمت تعرف آفة الآفات
فانظر إلى إدمان مضغ القات
القات قتل للمواهب والقوى
ومولد للهم والحسرات
ما القات إلا فكرة مسمومة
ترمى النفوس بأبشع النكبات
ينساب في الأحشاء داء فاتكًا
ويعرض الأعصاب للصدمات
يذر العقول تتيه في أوهامها
ويذيقها كأس الشقاء العاتي(2/532)
ويميت في روح الشباب طموحه
ويذيب كل عزيمة وثبات
يغتال عمر المرء مع أمواله
ويريه ألوانا من النقمات
هو للإرادة والفتوة قاتل
هو ماحق للأوجه النضرات
فإذا نظرت إلى وجوه هواته
أبصرت فيها صفرة الأموات
وهذا مع ما يبذل أهله فيه من الأثمان المحتاج إليها، ولو أنهم صرفوها في الأغذية الطيبة وتربية أولادهم، أو تصدقوا بها في سبيل الله لكان خيرًا لهم، وصدق شاعرنا القائل :
عزمت على ترك التناول للقات
صيانة عرضي أن يضيع وأوقاتي
وقد كنت عن هذا المضر مدافعًا
زمانًا طويلاً رافعًا فيه أصواتي
فلما تبينت المضرة وانجلت
حقيقته بادرته بالمناواة
طبيعته اليبس الملم ببردة
أخا الموت كم أفنيت منا الكرامات
وقيمة شاري القات في أهل سوقه
كقيمة ما يعطيه من ثمن القات
وإنهم ليجتمعون على أكله من منتصف النهار إلى غروب الشمس، وربما استمر الاجتماع إلى منتصف الليل يأكلون الشجر، ويفرون أعراض الغائبين، ويخوضون في كل باطل، ويتكلمون فيما لا يعنيهم، ويزعم بعضهم أنه يستعين به على قيام الليل، وأنه قوت الصالحين، ويقولون : جاء به الخضر من جبل قاف للملك ذي القرنين، ويروون فيه من الحكايات والأقاصيص شيئًا كثيرًا، وربما رفع بعضهم عقيرته بقوله :
صفت وطابت بأكل القات أوقاتي
كله لما شئت من دنيا وآخرة
ودفع ضر وجلب للمسرات
ومن الشيوخ الذين قضى القات على أضراسهم من يدقه، ويطرب لسماع صوت المدق، ثم يلوكه ويمص ماءه، وقد يجففونه ثم يحملونه معهم في أسفارهم، وإذا رآهم من لا يعرف القات سخر بهم، وضحك منهم ؛ وإن أحد المصريين ليقول في قصيدة يهجو بها اليمنيين :
أسارى القات لا تبغوا على من
يرى في القات طبًا غير شاف(2/533)
أما التنباك وهو التبغ فضره أكبر، والمصيبة به أعظم، ولا يبعد أن يكون من الخبائث التي نهى الله عنها، ولو لم يكن فيه من الشر إلا ما تشهد به الأطباء لكان كافيًا في تجنبه، والابتعاد عنه، وقد أفرط جماعات من المسلمين في حكمه حتى جعلوه مثل الخمر، وحاربوه بكل وسيلة، وقالوا بفسق متعاطيه، كما أن آخرين قد بالغوا في استعماله إلى حد بعيد، وهو شجرة خبيثة دخلت بلاد المسلمين في حوالي سنة 1012 هـ، وانتشر في سائر البلاد واستعمله الخاصة والعامة ؛ فمن الناس من يأخذه في لفائف السيجارة، ومنهم من يشعله في المشرعة، ومنهم من يشربه بالنار جيلة، وهى المدامة التي عم استعمالها سائر البلاد اليمنية، حتى أصبحت زينة المجالس وعروس البيوت، واستصحبها المدخنون في حضرهم وسفرهم، وأنشدوا لها، وفيها القصائد والمقطوعات الشعرية :
مدامتي نديمتي أنيستي في وحدتي
تقول في قرقارها يا صاح خذني بالتي
وأخبث من ذا وذاك من يمضغ التنباك، ويجمعه مطحونًا مع مواد أخرى، ثم يضعه بين شفتيه وأسنانه، ويسمى ذلك بالشمة، فيبصق متعاطيها حيث كان، بصاقًا تعافه النفوس ويتقذر به المكان، وربما لفظها من فيه كسلحة الديك في أنظف مكان، وللناس فيما يعشقون مذاهب ! وبعضهم يستنشق التنباك بعد طحنه وهو (البردقان )، يصبه في أنفه صبًا يفسد به دماغه، ويجنى به على سمعه وبصره، ثم لا ينفك عاطسًا، ويتمخط بيده وفى منديله أو على الأرض وأمام الجالسين.(2/534)
وأخبرني أحد أصدقائي أن قريبه الذي كان يستعمل البردقان لما مات مكث ثلاث ساعات، وأنفه يتصبب خبثًا ! ولو اقتصر الناس على ما لابد منه للحياة لاستراحوا من التكاليف والنفقات الشاقة، ولما عرضوا أنفسهم لشيء من هذه الشرور، وأنا لا أقيس القات والتنباك بالخمر في التحريم، وما يترتب عليه من عقاب الآخرة، ولكن أقول هذا قريب من هذا، وكل مضر بصحة الإنسان في بدنه أو عقله أو ماله فهو حرام، والبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك المفتون) (من كتاب (إصلاح المجتمع ) للبيحانى ص 406 - 408) . اهـ.
رحم الله الشيخ البيحانى فقد أجاد وأفاد.
حقوق وواجبات
كل من أهل المريض وأصحابه
تقوم كلية الطب في جامعة الملك فيصل بالدمام، بعمل علمي خيري جليل، وهو تأليف كتاب جامع عن (الخلق الطبي في الإسلام ).
وقد خططت له فأحسنت، ووزعت موضوعاته على عدد من المهتمين بالجوانب الطبية والشرعية من أهل الفقه وأهل الطب، وأكدت الكلية أن المشروع إنما هو عمل خيري محض، يقصد به وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، ولا يهدف إلى أي مردود مادي، والذين يساهمون بالكتابة فيه لا يتقاضون أي أجر أو مكافأة مادية، إنما أجرهم على الله تعالى.
وقد شرفتني لجنة التحرير بطلب الكتابة حول أحد موضوعات الكتاب، وهو ما يتعلق بـ (حقوق وواجبات كل من أهل المريض وأصحابه) . ويشمل عدة عناصر أساسية ينبغي تجليتها في ضوء الأدلة والأصول الشرعية، أبرزها :
أ - عيادة المريض.
ب - آداب زيارة المريض.
جـ - تحمل نفقات العلاج، كلها أو بعضها.
د - التبرع بالدم للمريض.
هـ - التبرع بالأعضاء.
و - حقوق المريض غير المدرك (سواء أكان قاصرًا، أم بسبب التخدير، أم بسبب الغيبوبة وفقدان الوعى ).
ز- حقوق المريض المحتضر، وآداب التعامل معه.
ح - حقوق المريض الميت دماغيًا، وحكم موت الدماغ.(2/535)
وقد استعنت بالله تعالى، وكتبت ما طلب منى، برغم مشاغلي الكثيرة، وأرسلته إلى الأخ . أ . د . زغلول النجار لتوصيله إلى الجهة المختصة.
ونظرًا لأن الكتاب قد تطول مدة إعداده، رأيت نشر هذا البحث في هذا الكتاب، تعميمًا للنفع به، وتعجيلا للفائدة.
والحمد لله تعالى على توفيقه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن اتبع هداه
أما بعد :
فإن التغير إحدى الظواهر العامة في المخلوقات المشهودة في عالمنا، وخصوصًا في الكائنات الحية، ولهذا تتعرض هذه الكائنات للصحة والمرض، الذي قد ينتهي بها إلى الموت.
والإنسان أرقى هذه الكائنات الحية، فلا غرو أن يصيبه ما يصيبها، بل ربما كان أكثر عرضة للإصابة بها من غيره، نتيجة لتدخل العوامل الإرادية مع العوامل الطبيعية في التأثير على حياته.
ومن ثم اعتبرت الشريعة الإسلامية المرض ظاهرة عادية في حياة الإنسان، يبتلى به كما يبتلى بغيره من الآلام، وفقًا للسنن والنواميس التي تحكم نظام الكون والحياة والإنسان.
وتبعًا لذلك، جاءت أحكام متعددة في أبواب شتى من فقه الشريعة، تتعلق بالمرض، ينبغي للمسلم أن يعرفها، أو يعرف الأهم منها، حتى يكيف حياته في مرضه - كما يكيفها في صحته - وفقًا لما يحبه الله تعالى ويرضاه، بعيدًا عما يكرهه ويسخطه.
ومن هذه الأحكام ما يتعلق بمداواة المرضى، وحكم هذا التداوي، ومن يقوم به، وما يتصل بذلك من أمور الطب والعلاج والدواء، وما للمرض من رخص وتخفيفات بالنسبة للفرائض والعبادات، أو بالنسبة للمحرمات والمنهيات.
ومثل ذلك ما يتصل بحقوق المريض وواجباته، وحقوق وواجبات من حوله من أهل وأقارب وأصدقاء.
ومن نظر في القرآن الكريم وجد كلمة (المرض) وما يشتق منها قد ذكرت نحو خمس وعشرين مرة . بعضها يتعلق بمرض القلوب، وأكثرها يتعلق بمرض الأبدان.
كما ذكر القرآن كلمة (الشفاء) وما اشتق منها ست مرات، جلها في الشفاء المعنوي.(2/536)
وقد عنى بذلك المحدثون أيضًا، كما عنى الفقهاء ؛ ولهذا نجد في كتب الحديث التي ألفت على الأبواب والموضوعات كتاب (الطب) (كما في الصحيحين وسنن أبى داود والترمذي وابن ماجة) . وفى بعضها - مثل صحيح البخاري - كتاب ( المرضى ).
هذا بالإضافة إلى أبواب في الرُّقَى والتمائم والعين والسحر ونحوها.
كما أن بعض ما يتعلق بالمرض مذكور في كتاب (الجنائز).
وفى حياتنا الحديثة والمعاصرة حدثت أشياء كثيرة وخطيرة في عالم المرض والطب لم يعرفها فقهاؤنا السابقون، بل لم تخطر لهم ببال، فكان على الفقه المعاصر أن يتناولها ويبين الحكم الشرعي فيها، وفق الأدلة والأصول الشرعية.
ومن المقرر المتفق عليه : أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، كبيرها وصغيرها، لا يخرج فعل واحد عن اختصاصها فكل فعل اختياري لمكلف لابد أن تعطيه حكمًا من أحكامها الخمسة : الوجوب أو الاستحباب أو الحرمة أو الكراهة أو الإباحة.
وسنعرض في الصحائف التالية لأهم الأحكام الشرعية، والتوجيهات الإسلامية المتعلقة بالطب والصحة والمرض، معتمدين على نصوص الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة مستفيدين من أقوال الراسخين من علماء الأمة، مع ربطها بالواقع المعاصر، نسأل الله أن ينفع بها ... آمين.
عيادة المريض وحكمها :
المريض إنسان ضعيف، يحتاج إلى الرعاية والمساندة، والرعاية أو المساندة ليست مادية فحسب، كما يحسب الكثيرون، بل هي مادية ومعنوية معًا.
من أجل ذلك كانت (عيادة المريض) من هذا الباب، فهي تشعره بأهميته لدى من حوله، وحبهم له، وحرصهم عليه، وتمنيهم لشفائه، وهذه المعاني تمنحه قوة نفسية يقاوم بها هجمة المرض المادية.
وبذلك تكون عيادة المريض والسؤال عنه والدعاء له، جزءًا من العلاج، عند العارفين من أهل الذكر، فليس العلاج كله ماديًا.(2/537)
ولهذا حثت الأحاديث النبوية على (عيادة المريض) بأساليب شتى وألوان من الترغيب والترهيب، حتى جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحقوق الأساسية للمسلم على المسلم.
ففي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبى هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :
" حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس ". (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان برقم 1397).
وروى البخاري عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني " (صحيح البخاري : كتاب المرضى، باب وجوب عيادة المريض . حديث رقم (5649) البخاري مع الفتح ط: دار الفكر، المصورة عن السلفية بالقاهرة 10/112) .والعاني : الأسير.
وروى أيضًا عن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع .. وذكر منها :
" عيادة المريض ". (المرجع السابق حديث 5650).
وهل الأمر في هذا الحديث والذي قبله للوجوب أو للاستحباب ؟
اختلف العلماء في ذلك.
فذهب الإمام البخاري إلى أن الأمر هنا للوجوب، وترجم في صحيحه لذلك بقوله : (باب وجوب عيادة المريض ).
وقال ابن بطال : يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب ؛ للحث على التواصل والألفة.
وجزم الدودي بالأول، فقال : هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض.
وقال الجمهور : هي في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض.
وعن الطبري : تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك.
ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب، يعنى : على الأعيان (فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/112، 113).(2/538)
والذي يترجح لي من ظاهر الأحاديث : أنها فرض من فروض الكفاية، على معنى أنه لا يجوز أن يهمل المريض دون أن يعوده أحد، فيجب على المجتمع المسلم بالتضامن أن يكون منهم من يسأل عن المرضى ويعودهم، ويدعو لهم بالشفاء والعافية، وقد كان بعض أهل الخير من المسلمين في الزمن الماضي يخصصون بعض الوقف الخيري لمثل ذلك، مراعاة منهم لهذا الجانب الإنساني.
وأما عموم الناس فهي مستحبة استحبابًا مؤكدًا، قد يرتقى إلى الوجوب في حق بعض الناس الذين لهم بالمريض صلة خاصة وثيقة، كالقرابة والمصاهرة، والجوار اللصيق، والزمالة الطويلة، وحقوق الأستاذية أو الصداقة الحميمة، أو نحو ذلك، بحيث يتأثر المريض كثيرًا بعدم عيادته من فلان هذا، ويفتقده.
ولعل هذا النوع من الناس هو المقصود بكلمة " حق " في قوله : " حق المسلم على المسلم خمس " إذ لا يتصور أن يطلب من جميع المسلمين أن يعودوا كل مريض، بل يطلب ممن له به صلة خاصة تقتضي منه مثل هذا الحق.
قال في (نيل الأوطار ) : (والمراد بقوله " حق المسلم " : أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجبًا، أو مندوبًا ندبًا مؤكدًا شبيها بالواجب، ويكون استعماله - أي الحق - في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه، فإن (الحق) يستعمل في معنى (الواجب) . وكذا يستعمل في معنى (الثابت) ومعنى (اللازم) ومعنى (الصدق) وغير ذلك ). (نيل الأوطار للشوكاني 4/43، 44).
فضل عيادة المريض وثوابها :
ومما يؤكد استحباب عيادة المريض ما جاء في فضلها ومثوبة من قام بها من أحاديث مثل:
1-حديث ثوبان مرفوعًا : " إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة " (رواه مسلم في كتاب البر برقم (2568) تحقيق فؤاد عبد الباقي، والترمذي في الجنائز برقم (967)، وقال : حسن صحيح، ط . حمص بتعليق عزت الدعاس) . وفى رواية قيل : يا رسول الله، وما خرفة الجنة ؟ قال : " جناها".(2/539)
2 -وحديث جابر مرفوعًا : " من عاد مريضًا غاص في الرحمة، حتى إذا قعد استقر فيها " (البخاري في الأدب المفرد برقم (522)، وأخرجه أحمد والبزار، وصححه ابن حبان والحاكم من هذا الوجه، وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن، الفتح 10 /113).
3 -وروى ابن ماجة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " من عاد مريضًا نادى مناد من السماء : طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا " (ابن ماجة في الجنائز برقم (1443)، والترمذي في البر (1006) بلفظ " من عاد مريضًا أوزار أخًا له في الله ... "، وقال حسن غريب).
4 -وروى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا بن آدم مرضت فلم تعدني قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟! أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟! يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني ؟ قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ". (مسلم برقم 2569).
5-وعن على رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف (الخريف : الثمر المخروف أي المجتنى) . في الجنة " رواه الترمذي وقال: حديث حسن. (الترمذي برقم (969) وقال: حسن غريب).
مشروعية العيادة لكل المرضى:
وفى الأحاديث الآمرة والمرغبة في عيادة المريض : دلالة على مشروعية العيادة لكل مريض، سواء كان مرضه شديدًا أم خفيفًا.(2/540)
وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعًا : " ثلاثة ليس لهم عيادة : العين والدمل والضرس " فصحح البيهقي أنه موقوف على يحي بن أبى كثير.
ومعنى هذا أنه لم يصح مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا حجة إلا في كلامه.
قال الحافظ ابن حجر : (وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وجع كان بعيني . أخرجه أبو داود وصححه الحاكم، وهو عند البخاري في الأدب المفرد، وسياقه أتم). (الفتح 10/113، وانظر : الأدب المفرد للبخاري : باب العيادة من الرمد، حديث 532).
كما تشرع عيادة المريض سواء كان متعلمًا أم جاهلاً، حضريًا أم بدويًا، يقدر معنى العيادة أم لا يقدرها.
وقد ذكر الإمام البخاري في ( كتاب المرضى) من صحيحه (باب عيادة الأعراب) ذكر فيه حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على أعرابي يعوده، قال له : " لا بأس، طهور إن شاء الله " . قال - أي الأعرابي -: قلت : طهور ؟ كلا، بل هي حمى تفور - أو تثور - على شيخ كبير، تزيره القبور . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " فنعم إذن ". (البخاري مع الفتح حديث 5656).
ومعنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لا بأس، طهور إن شاء الله " أنه يرجو للأعرابي زوال البأس والشدة عنه، كما يرجو أن يكون المرض مطهرًا له من ذنوبه ومكفرًا لخطاياه، فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان، وإلا حصل ربح التكفير.
ومن جفاء هذا الأعرابي أنه أنكر رجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاءه، فولاه النبي الكريم ما تولى، وقال له : " فنعم إذن "، أي إذا أبيت فنعم، أي كان كما ظننت.
وقد ذكر في الفتح أن الدولابي في (الكنى) وابن السكن في ( الصحابة ) أخرجا قصة الأعرابي وفيها : فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " ما قضى الله فهو كائن " فأصبح الأعرابي ميتًا !(2/541)
ونقل عن المهلب قوله : فائدة هذا الحديث أنه لا نقص على الإمام في عيادة مريض من رعيته، ولو كان أعرابيًا جافيًا، ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلمه ويذكره بما ينفعه، ويأمره بالصبر لئلا يتسخط على قدر الله، فيسخط عليه، ويسليه عن ألمه، بل يغبطه بسقمه، إلى غير ذلك من جبر خاطره، وخاطر أهله وفيه : أنه ينبغي للمريض أن يتلقى الموعظة بالقبول، ويحسن جواب من يذكره بذلك. (الفتح 10 / 119).
عيادة الصبي والمغمى عليه :
على أن عيادة المريض ليست له فقط، إنما هي مجاملة لأهله أيضًا . ولذلك لا بأس أن يعاد الطفل المريض الذي لا يميز، فإن ذلك يسر أهله، ويجبر خاطرهم.
ومثل ذلك المريض في حالة الغيبوبة، فإن زيارته إنما هي مواساة لأهله وذويه، وتخفيف عنهم.
وقد يفيق المريض، ويمن الله عليه بالعافية، فيذكر له من زاره أثناء غياب وعيه، فيجد في ذلك راحة وسرورًا.
وفى صحيح البخاري (باب عيادة الصبيان) : ذكر فيه حديث أسامة بن زيد رضى الله عنهما : أن ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أرسلت إليه - وهو مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وسعد وأبى -: نحسب أن ابنتي قد حضرت، فاشهدنا - وفى رواية : فاشهدها - فأرسل إليها السلام، ويقول : " إن لله ما أخذ، وما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتحتسب ولتصبر، فأرسلت إليه تقسم عليه ... فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقمنا .. فرفع الصبي في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفسه تقعقع " (تقعقع: تتحرك وتضطرب)، ففاضت عينا النبي -صلى الله عليه وسلم- أي بالدمع - فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : " هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء " (البخاري مع الفتح 10 /118 الحديث (5655) وقد رواه في الجنائز أيضًا . ومعنى " حضرت " : أي حضرها الموت، فهي في اللحظات الأخيرة . ومعنى (فاشهدنا) : أي احضرنا).(2/542)
وفى البخاري أيضًا (باب عيادة المغمى عليه) : ذكر فيه حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما يقول : مرضت مرضًا، فأتاني النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أغمى على، فتوضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم صب وضوءه على، فأفقت، فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت : يا رسول الله، كيف أصنع في مالي ؟ كيف أقضي في مالي ؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث (البخاري مع الفتح 10 /114 حديث 5651).
قال ابن المنير: (فائدة الترجمة - أي عنوان الباب - ألا يعتقد أن عيادة المغمي عليه ساقطة لكونه لا يعلم بعائده.. قال الحافظ: ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه ؛ لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يُرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ، إلى غير ذلك). (الفتح 10/114).
عيادة النساء للرجال:
والعيادة المشروعة للمريض تشمل - فيما تشمل - عيادة النساء للرجال، ولو كانوا أجانب عنهن، كما تشمل عيادة الرجال للنساء:
ومن أبواب البخاري في (كتاب المرضى ) من صحيحه : باب عيادة النساء الرجال . وذكر في هذا حديثًا معلقًا : أن أم الدرداء عادت رجلا من أهل المسجد من الأنصار، وقد وصله البخاري في (الأدب المفرد) من طريق الحارث بن عبيد، قال :
رأيت أم الدرداء على رحالها أعواد ليس عليها غشاء، عائدة لرجل من الأنصار في المسجد (الأدب المفرد للبخاري، باب عيادة النساء الرجل المريض، حديث 530) . كما ذكر حديث عائشة رضى الله عنها قالت : لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وعك أبو بكر، ووعك بلال رضى الله عنهما، قالت : فدخلت عليهما، فقلت : يا أبت كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله !
وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة(2/543)
بواد وحولي أذخر وجليل ؟ !
وهل أردن يومًا مياه مجنة
وهل تبدون لي شامة وطفيل ! !
قالت عائشة : فجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد " (البخاري مع الفتح، الحديث 5654) . الحديث.
والشاهد في الحديث دخول عائشة على أبيها وعلى بلال، وقولها لكل منهما : كيف تجدك ؟ أي كيف تجد نفسك ؟ كما نقول نحن اليوم: كيف صحتك ؟ أو كيف حالك ؟ وبلال لم يكن محرمًا لأم المؤمنين.
ومما لا ريب فيه أن هذه العيادة مقيدة بشروطها الشرعية المعتبرة : من الاحتشام والالتزام باللباس الشرعي، وأدب المسلمة في المشي والحركة والنظر والقول وعدم الخلوة، وأمن الفتنة، بالإضافة إلى إذن الزوج للمتزوجة، أو الولي لغير المتزوجة.
ولا ينبغي للزوج أو الولي أن يمنعها من عيادة من له حق عليها من قريب غير محرم، أو صهر أو أستاذ، أو زوج قريبة أو والدها، أو نحو ذلك بالشروط المعتبرة المذكورة.
عيادة الرجال النساء :
وكما أجازت عيادة النساء للرجال الأحاديث عنهن بشروطها، إذا كان لهن بهم صلة، ولهم عليهن حق، فإن عيادة الرجال للنساء مشروعة كذلك بالشروط نفسها، إذا كان لهم بهن صلة وثيقة، من قرابة أو مصاهرة، أو جوار، أو غير ذلك من الأواصر التي تجعل لأهلها حقوقًا اجتماعية أكثر من غيرهم.
ومن الأدلة على ذلك : عموم الأحاديث التي حثت على عيادة المرضى، ولم تفرق بين رجل وامرأة.
ومن الأدلة الخاصة لذلك : ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل على أم السائب - أو أم المسيب - فقال: " ما لك يا أم السائب - أو يا أم المسيب - تزفزفين ؟ " - أي ترتعدين - قالت : الحمى لا بارك الله فيها ! فقال : " لا تسبى الحمى، فإنها تذهب خطايا بنى آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد " (مسلم في البر برقم 4575).(2/544)
ولم تكن أم السائب هذه من محارمه -صلى الله عليه وسلم-.
ولا بد من رعاية الشروط الشرعية، ومنها أمن الفتنة، ومراعاة العرف كذلك، فالعرف في الشرع له اعتبار.
عيادة غير المسلم :
وجعل عيادة المريض من حق المسلم على أخيه المسلم فيما ذكر من الأحاديث، لا يعنى أن المريض غير المسلم لا يعاد إذا مرض.
فإن عيادة المريض أيًا كان جنسه أو لونه أو دينه أو وطنه - عمل إنساني، يعتبره الإسلام عبادة وقربة.
ولا غرو أن عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- غلامًا يهوديًا كان يخدمه، فمرض، فذهب يعوده وعرض عليه الإسلام، فنظر إلى أبيه، فأشار إليه أبوه أن أطع أبا القاسم فأسلم قبل أن يموت، فقال -صلى الله عليه وسلم- " الحمد لله الذي أنقذه بي من النار " رواه البخاري.
ويتأكد ذلك إذا كان لغير المسلم حق على المسلم من جوار أو زمالة، أو قرابة أو مصاهرة، أو نحو ذلك.
إنما أفادت الأحاديث السابقة تأكيد حق المسلم، لما توجبه الرابطة الدينية من حقوق، فإذا كان جارًا أصبح له حقان : حق الإسلام وحق الجوار، فإذا كان قريبًا، غدا له ثلاثة حقوق : حق الإسلام، وحق الجوار، وحق القرابة، وهكذا .....
وقد عقد الإمام البخاري بابًا في (عيادة المشرك ) ذكر فيه حديث أنس بشأن الغلام اليهودى الذي عاده ودعاه إلى الإسلام فأسلم، كما ذكرنا.
وحديث سعيد بن المسيب عن أبيه : لما حضر أبو طالب - يعنى حضره الموت - جاءه النبي -صلى الله عليه وسلم- ... الحديث البخاري مع الفتح، حديث 5657).
ونقل في الفتح عن ابن بطال : أن عيادة غير المسلم إنما تشرع إذا رجى أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا . اهـ.
قال الحافظ : والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى.
قال الماوردي : عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. (الفتح 10 / 119).
عيادة العصاة :(2/545)
وإذا كانت عيادة المريض الكافر مشروعة، وربما كانت قربة وعبادة، فمن باب أولى أن تكون مشروعة في حق المسلم العاصي.
وذلك أن الأحاديث التي أمرت بعيادة المريض وجعلتها من حق المسلم على المسلم، لم تخص بها أهل الطاعة والصلاح من غيرهم، وإن كان حقهم أوكد.
قال الإمام البغوي في (شرح السنة ) بعد ذكر حديث أبى هريرة في (الحقوق الستة) للمسلم على المسلم، وحديث البراء بن عازب في (السبع ) المأمور بها : (هذه المأمورات كلها من حق الإسلام، يستوي فيها جميع المسلمين برهم وفاجرهم، غير أنه يخص البر بالبشاشة والمساءلة والمصافحة، ولا يفعلها في حق الفاجر المظهر للفجور ). (شرح السنة ط المكتب الإسلامي بتحقيق شعيب الأرناؤوط 5 / 211، 212).
واستثنى بعض العلماء المبتدعين، فلا يعادون (المبدع في شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي 2/ 215)، إظهار للبغض في الله.
والذي أرجحه أن بدعة هؤلاء أو معصية أولئك لا تخرجهم من دائرة الإسلام، ولا تحرمهم من حق المسلم على المسلم، وقد تكون عيادتهم دون ترقب منهم ولا توقع وخصوصًا من مسلم صالح أو عالم أو داعية - سفير خير، ورسول صدق، إلى قلوبهم،، فتنشرح صدورهم بعد ذلك لتلقى الحق، واستماع الكلمة الطيبة، والإنسان أسير الإحسان، وكما شرع الإسلام تألف قلوب بعض الناس بالمال، فلا غرو أن يشرع تألف آخرين بالبر واللطف وحسن المعاشرة، وهذا أمر جربه الدعاة الصادقون، ففتح الله لهم به كثيرًا من القلوب المغلقة.
قال العلماء : (ويستحب أن يعم بعيادته الصديق والعدو، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، لعموم الأحاديث ) (المجمع للنووي 5 / 111، 112).
كم يعاد المريض ؟ :
وإذا كانت عيادة المريض واجبًا أو سنة على ذويه وجيرانه وأصحابه، فكم مرة تكون ؟ وما مدة العيادة ؟
أعتقد أن هذا أمر متروك للعرف ولظروف الناس وظروف المريض نفسه ولمدى قوة الصلة بالمريض.
والمريض الذي يطول مرضه يزار بين كل فترة وأخرى، وليس في ذلك زمن محدد.(2/546)
قال بعض العلماء : ينبغي أن تكون العيادة للمريض غبًا، لا يواصلها كل يوم إلا أن يكون مغلوبًا، وقال بعضهم : كل أسبوع مرة.
وتعقب ذلك النووي قائلا : (هذا لآحاد الناس، أما أقارب المريض وأصدقاؤه ونحوهم، ممن يأتنس بهم، أو يتبرك بهم، أو يشق عليهم إذا لم يروه كل يوم، فليواصلوها ما لم ينه، أو يعلم كراهية المريض لذلك.
وإذا عاد المريض كره إطالة القعود عنده، لما فيه من إضجاره، والتضييق عليه ومنعه من بعض تصرفاته ). (المجموع للنووي 5 / 112).
وهذا أيضًا لا ينطبق على كل عائد، فقد يحب المريض من بعض عواده أن يطيلوا المكث عنده، وخصوصًا من طال مرضه، واعتبر العيادة إيناسًا له وتهوينا عليه، ولا سيما إن طلب ذلك بنفسه.
قال الحافظ : (وجملة آداب العيادة عشرة أشياء، ومنها ما لا يختص بالعيادة :
1-ألا يقابل الباب عند الاستئذان.
2 - وأن يدق الباب برفق.
3-وألا يبهم نفسه، كأن يقول : أنا.
4 -وألا يحضر في وقت يكون غير لائق بالعيادة كوقت شرب المريض الدواء . (أو وقت التغيير على جرحه، أو وقت نومه وراحته).
5 -وأن يخفف الجلوس (إلا لمن له به علاقة خاصة كما ذكرنا).
6 -وأن يغض البصر (أي إذا كان في المكان نساء غير محارم له).
7 -وأن يقلل السؤال، ويظهر الرقة.
8 -وأن يخلص الدعاء.
9 -وأن يوسع للمريض في الأمل.
10 -وأن يشير عليه بالصبر، لما فيه من جزيل الأجر، ويحذره من الجزع لما فيه من الوزر) (فتح الباري 10 / 126 باب قول المريض : قوموا عنى).
وسيأتي تفصيل بعض هذه الآداب.
والمريض الغائب أو البعيد - ممن له الحق - تكون عيادته بالسؤال عنه بالهاتف، لمن قدر عليه، أو بالبرق، وخصوصًا بعد نجاح العمليات الجراحية الخطيرة ونحوها، أو بالبريد.(2/547)
و لا زلت أذكر يوم قدر لي أن أجري عملية الانزلاق الغضروفي التي عملتها في (بون) بألمانيا، صيف سنة 1985م، وأمضيت فترة بعدها تحت العلاج الطبيعي، كيف توافدت علي الهواتف (التليفونات) الأخوية من الدوحة والقاهرة وغيرهما من أوربا وأمريكا، مستفسرة وداعية . وكم كان لها في نفسي من أثر طيب، خفف عني الألم، وقربني من الشفاء.
الدعاء للمريض:
وتتميز عيادة المسلم لأخيه المريض - من عيادة غيره - بما يصحبها من رقية ودعاء.
فمن السنة أن يدعو عائد المريض له ويرقيه بما أثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.
قال الإمام البخاري: (باب دعاء العائد للمريض) وذكر حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم، كان إذا أتي مريضًا أو أتي به إليه، قال عليه الصلاة والسلام:
(أذهب البأس، رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا). (البخاري مع الفتح : حديث 5675).
وقد عاد النبي صلي الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، ودعا له فقال: " اللهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته ". (المصدر السابق 5659).
ومن الغريب ما ذكره في الفتح من استشكال بعضهم الدعاء للمريض بالشفاء، مع ما في المرض من كفارة الذنوب، والثواب كما تضافرت الأحاديث بذلك.
وأجاب الحافظ : (أن الدعاء عبادة، ولا ينافى الثواب والكفارة، لأنهما يحصلان بأول مرض، وبالصبر عليه، والداعي بين حسنتين : إما أن يحصل له مقصوده، أو يعوض عنه بجلب نفع، أو دفع ضرر، وكل من فضل الله تعالى). (الفتح 10 /132).
ثم إن المسلم يصبر على المرض إذا أصابه، وعلى البلاء إذا أحل به، ولكنه يسأل الله تعالى العافية، كما في الحديث الصحيح : " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " (متفق عليه من حديث عبد الله بن أبى أوفى).(2/548)
وفى الحديث : " سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية ". (رواه أحمد والترمذي عن أبى بكر، كما في صحيح الجامع الصغير، حديث 3632).
وفى حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثر من الدعاء بالعافية ". (الطبراني والضياء وحسنه في صحيح الجامع الصغير 1198).
ومن أدعيته -صلى الله عليه وسلم- : " اللهم إنى أسألك العفو والعافية في دنياي وديني، وأهلي ومالي ". (البزار عن ابن عباس، كما في صحيح الجامع الصغير 1274).
ومن الأدعية المأثورة: ما رواه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا جاء الرجل يعود مريضًا، فليقل: اللهم اشف عبدك، ينكأ لك عدوًا، أو يمشى لك إلى صلاة " (رواه أبو داود في الجنائز (3107)، وابن حبان، والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي 1/344) . يعني إن في شفاء المؤمن خيرًا لنفسه بالصلاة أو لأمته بالجهاد.
والمراد بالعدو : إما الكفار المحاربون، أو إبليس وجنوده، أي يكثر فيهم النكاية بالإيلام، وإقامة الحجة والإلزام (شرح المشكاة 2/ 307). والأول هو الظاهر المتبادر.
ومنها : ما رواه ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " من عاد مريضًا، لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض " (رواه أبو داود في الجنائز( 6 310) والترمذي في الطب (2083) وقال : حسن غريب . وحسنه الحافظ كما في شرح الأذكار لابن علان 4/ 61، 62، والحاكم وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي 1/ 342)
تقوية الرجاء في العافية عند المريض:(2/549)
وإذا عاد المسلم أخاه المريض، فيحسن به أن يغذى فيه روح التفاؤل والرجاء، ويحمل إليه البشرى والأمل في الشفاء، وأن المؤمن لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة ربه، وإن الذي كشف الضر عن أيوب، ورد البصر إلى يعقوب، قادر أن يكشف عنه ضره، ويرد عليه عافيته، ويبدله من السقم صحة، ومن الضعف قوة.
ولا يحسن به أن يذكر للمريض الذين ماتوا، بل يذكر الذين استردوا عافيتهم بعد المرض الطويل، وبعد جراحات خطيرة، وذلك لتقوية روحه المعنوية، وهذا جزء من العلاج عند حذاق الأطباء قديمًا وحديثًا، إذ لا انفصال بين النفس والجسم، إلا في البحث النظري أو التجريد الفلسفي.
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول للمريض إذا عاده : " لا بأس، طهور إن شاء الله " كما في الصحيح.
ومعنى (لا بأس) أي لا شدة ولا حرج، فهو تفاؤل ودعاء بأن يزول عنه البأس والضر، وترجع إليه الصحة والعافية، فضلا عما وراءها من التطهير والتكفير.
وقد روى الترمذي وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري مرفوعًا : " إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد " من القدر " شيئًا، وهو يطيب نفسه " (ابن ماجة في الجنائز برقم (1438) والترمذي في الطب واستغربه (2087) قال الحافظ: في سنده لين . الفتح 10 /121).
ومعنى (نفسوا له) : أي أطمعوه في الحياة وطول الأجل كأن يقول له : إن شاء الله تسترجع عافيتك، وتقوم بالسلامة، ويرزقك الله طول العمر، وحسن العمل، ونحو هذه العبارات . ففي ذلك تنفيس لما هو فيه من الكرب وطمأنينة لقلبه، قال النووي: وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي : " لا بأس " (انظر: الفتح 10 / 121، 122).(2/550)
ومما يرفع من معنوية المريض ويطيب نفسه: وضع اليد عليه أو على موضع الوجع منه، مع الدعاء له، وخصوصًا لمن يظن بهم الخير والصلاح، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع سعد بن أبى وقاص، فقد مسح على وجهه وبطنه ودعا له بالشفاء . قال سعد : فما زلت أجد برده على كبدي - فيما يخال إلى - حتى الساعة رواه البخاري.
ومن وصل به المرض إلى حالة لم يعد يرجى شفاؤه منها - وفق سنن الله - سأل الله له أن يلطف به، ويخفف عنه ويختار له الخير، يقول ذلك في نفسه، ولا يسمعه إياه، حتى لا يؤثر ذلك على نفسيته.
الرقية للمريض وشروطها :
ومما يقترب من هذا الباب : الرقية الشرعية البريئة من الشرك، ولا سيما بالمأثور من رقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخصوصًا إذا كانت من مسلم صالح.
روى مسلم عن عوف بن مالك قال : كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال : " اعرضوا على رقاكم، لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك ". (مسلم، كتاب السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، حديث 2200).
وروى عن جابر : نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا : يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب ! قال : فعرضوا عليه، فقال: " ما أرى بأسًا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه " (مسلم، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، حديث 2199).
قال الحافظ : 0 وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف : أنه مهما كان من الرقى يؤدى إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدى إلى الشرك، فيمنع احتياطًا والشرط الآخر لا بد منه). (فتح الباري 10 /195، 196).
وقد ثبتت شرعية الرقية بالسنة القولية والفعلية والتقريرية.
فقد رقى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه بنفسه، ورقاه جبريل عليهما السلام.(2/551)
وأمر بعض أصحابه بالرقية، وكذلك نصح بعض أهله وذويه.
وأقر من رقى من الصحابة على فعله.
فعن عائشة : أن رسول الله صلى اله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بإصبعه هكذا ووضع سفيان - راوي الحديث - سبابته بالأرض، ثم رفعها : " بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا " (متفق عليه، كما في اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، حديث 1417).
ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع العليل أو الجريح، ويقول هذا الكلام في حال المسح.
وعنها قالت : كان إذا اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقاه جبريل. (مسلم، باب الطب والمرض والرقى، حديث 2185).
وعن أبى سعيد : أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال : يا محمد، اشتكيت ؟ فقال : " نعم "، قال : " بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك " (مسلم، حديث 2186). وعن عائشة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها (متفق عليه، حديث 1415) . والنفث : نفخ لطيف بلا ريق.
وعنها : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرها أن تسترقي من العين. (متفق عليه، حديث 1418).
وعن جابر : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأسماء بنت عميس : " ما لي أرى أجسام بنى أخي ضارعة - أي نحيفة - تصيبهم الحاجة ؟ " قالت : لا، ولكن العين تسرع إليهم قال : " ارقيهم " قالت : فعرضت عليه، فقال "ارقيهم " (مسلم، حديث 2198) .يعنى أولاد ابن عمه جعفر.(2/552)
وقال للصحابة الذين رقى واحد منهم سيد الحي - في سفر لهم - بفاتحة الكتاب، فأعطاه قطيعًا من الغنم، فأبى أن يقبلها، حتى يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتى النبي فذكر ذلك له . وقال : والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب، فقال -صلى الله عليه وسلم- : " خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم ". (متفق عليه، حديث 1420).
أمر المريض بالمعروف ونهيه عن المنكر:
وينبغي لعائد المريض المسلم أن ينصح له بصدق، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، فإن الدين النصيحة والأمر والنهى فريضة، ومرض المسلم لا يعفيه من تقبل الكلمة الطيبة، والنصيحة المخلصة، وكل ما هو مطلوب أن يراعى الناصح حاله، فيرفق به، ولا يثقل عليه، والله تعالى يحب الرفق في الأمر كله ومع الناس جميعًا وهو مع المريض أولى وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ويتأكد طلب الرفق إذا كان المريض يجهل ما ضيع من معروف، أو ما وقع فيه من منكر، مثل كثير من أبناء المسلمين الذين يجهلون أوليات الإسلام.
فمن عاد مريضًا ووجده لا يصلى، كسلاً أو جهلاً، لظنه أنه لا يستطيع الصلاة، لعدم قدرته على الوضوء، أو عجزه عن القيام أو الركوع أو السجود، أو عدم تمكنه من التوجه إلى القبلة .. أو غير ذلك ... فالواجب أن ينبهه على أن الصلاة تجب على المريض وجوبها على الصحيح، وأنها لا تسقط إلا بفقد الوعي، وأن المريض الذي يعجز عن الوضوء يمكنه أن يتيمم بأي شيء من جنس الأرض، ويمكن مساعدته بإحضار بعض الرمل النظيف في علبة أو كيس أو نحو ذلك . أو حجر أو بلاطة ... على مذهب من يرى ذلك صعيدًا طيبًا.(2/553)
وكذلك يستطيع المريض أن يصلى كيف استطاع: قاعدًا إن لم يستطع القيام أو مضطجعًا على جنب، أو مستلقيًا على ظهره، إن لم يستطع القعود، ويكفيه الإيماء والإشارة . وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمران بن حصين : " صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب ". (رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن كما في صحيح الجامع الصغير 3778 ).
والله تعالى يقول : " فاتقوا الله ما استطعتم ". (التغابن 16).
وكذلك إذا لم يتمكن من استقبال القبلة فإنها تسقط عنه، ويصلى إلى أي جهة، فكل شروط الصلاة تسقط بالعجز، وقد قال تعالى : " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ". (البقرة : 115).
فإذا وجد المريض متضجرًا من المرض، ضائق الصدر به، فينبغي أن يذكره بما للمريض عند الله من عظيم المثوبة، وأن الله يطهره بالمرض من خطاياه، وأن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وما يزال البلاء ينزل بالعبد، حتى يمشى على الأرض وما عليه خطيئة، كما صحت بذلك الأحاديث.
وإذا وجد عند المريض ما لا يجوز شرعًا، نهاه عنه بلطف وحكمة وذكر له من أدلة الشرع ما يزيح عنه الجهل والغفلة دون تعنيف له، ولا استعلاء عليه، وخصوصًا ما عمت به البلوى في كثير من المجتمعات مثل تعليق التمائم ونحوها.
فهنا يعلمه من كتاب الله ومن سنته رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما يرشده إلى الحق، ويهديه إلى الصواب، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- : " من علق تميمة فقد أشرك " (رواه أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر، كما في صحيح الجامع الصغير 6394).
ولا ينبغي أن ينكر على المريض إلا ما أجمع العلماء على أنه منكر، أما ما اختلف فيه ثقات أهل العلم بين مجيز ومانع، ففيه فسحة لمن أخذ بأحد الرأيين، مجتهدًا أو مقلدًا، ولا داعي للدخول في جدل حول أي الرأيين أصح وأرجح، فظروف المرض لا تسمح بذلك، إلا إذا سأل هو أو رغب في ذلك.(2/554)
مثال ذلك : تعليق التمائم إذا كانت من آيات القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو مشتملة على ذكر الله تعالى، والثناء عليه، والدعاء له.
فهذا ما اختلف فيه، بين من أجازه ومن كرهه.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا كلمات نقولهن عند الفزع من النوم : " بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون "، قال: فكان عبد الله يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرًا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له فعلقها في عنقه (رواه أحمد (6696) وصحح الشيخ شاكر إسناده مع ما فيه من عنعنة ابن إسحاق، ورواه أبو داود في الطب (3843)، والترمذي في الدعوات، وقال : حسن غريب (3519)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) برقم (765) إلى قوله : " وأن يحضرون ").
وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغيره.
وقوله (كانوا): يشير إلى أصحاب ابن مسعود مثل الأسود وعلقمة ومسروق، وغيرهم . والكراهية دون الحرمة.
ولا بأس أن يذكر للمريض برفق أن الأولى والأحوط ترك التمائم كلها، لعموم النهى، وسدًا للذريعة، وخشية أن يدخل بها المرحاض ونحوه، على ألا يشتد عليه في ذلك، لوجود الاختلاف فيه.
التبرع بالدم للمريض :
ومن أفضل ما يقدمه أهل المريض وأصحابه له : التبرع بالدم له إذا احتاج إليه عند إجراء جراحة أو لإسعافه وتعويضه عما نزف منه، فهذا من أعظم القربات وأفضل الصدقات ؛ لأن إعطاء الدم في هذه الأحوال بمثابة إنقاذ الحياة، وقد قرر القرآن الكريم في معرض بيان قيمة النفس الإنسانية : " أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا ". (المائدة : 32).(2/555)
وإذا كان للصدقة بالمال منزلتها في الدين، وثوابها عند الله، حتى إن الله تعالى يتقبلها بيمينه، ويضاعفها أضعافًا كثيرة إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، فإن الصدقة بالدم أعلى منزلة وأعظم أجرًا ؛ لأنه سبب الحياة، وهو جزء من الإنسان، والإنسان أغلى من المال، وكأن المتبرع بالدم يجود بجزء من كيانه المادي لأخيه حبًا وإيثارًا.
ويزيد من قيمة هذا العمل الصالح: أن يغيث به ملهوفًا، ويفرج به كربة مكروب، وهذه مزية أخرى تجعل له مزيدًا من الأجر عند الله تعالى، ففي الحديث : " إن الله يحب إغاثة اللهفان " (رواه أبو يعلى والديلمي وابن عساكر عن أنس كما في فيض القدير 2/ 287).
وفى الصحيح : " من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " (رواه الشيخان من حديث ابن عمر، كما في اللؤلؤ والمرجان، برقم 1667).
بل صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن إغاثة الحيوان المحتاج إلى الطعام أو الشراب له عظيم الأجر عند الله، كما في حديث الرجل الذي سقى كلبًا عطشان، وجده يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فملأ خفه ماء من البئر، وأمسكه بفيه، وسقاه حتى ارتوى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " فشكر الله له، فغفر له" . قال الصحابة دهشين: أئن لنا في البهائم لأجرًا يا رسول الله؟! قال : " نعم، في كل كبد رطبة أجر ". (متفق عليه عن أبى هريرة كما في اللؤلؤ والمرجان، الحديث 1447).
ويبدو أن الصحابة كانوا يظنون أن الإحسان إلى هذه المخلوقات لا يقابله أجر عند الله، وأن الدين لا يهتم به، فبين لهم الرسول الكريم أن الإحسان إلى أي كائن حي فيه أجر، ولو كان حيوانا أو كلبًا، فما بالك بالإنسان ؟ وما بالك بالإنسان المؤمن ؟
والصدقة بالدم لها ثوابها الجزيل بصفة عامة، ولكن صدقة القريب على قريبه مضاعفة بصفة خاصة ؛ لما فيها من توثيق روابط القربى، وتأكيد الصلة بين الأرحام.(2/556)
وفى هذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- " " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة " (عزاه في الجامع الصغير إلى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم عن سلمان بن عامر، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، كما في فيض القدير للمناوي 4 /237).
ويتضاعف ذلك الأجر إذا لم تكن العلاقة على ما يرام بين الأقارب بعضهم وبعض، بأن نزغ الشيطان بينهم، وأوقد بينهم نار الخصومة والقطيعة، فإذا انتصر أحدهم على نفسه وشيطانه، وتخطي هذه الجفوة المذمومة عند الله وعند الناس، وبذل لقريبه المحتاج من ماله أو تبرع له من دمه، فإن هذا يعده الرسول -صلى الله عليه وسلم- أفضل الصدقات بالنسبة للمتصدق عليه . وفى هذا يقول : " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " (عزاه في الجامع الصغير إلى أحمد والطبراني عن أبى أيوب وحكيم بن حزام، وإلى أبى داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد عن أبى سعيد، وإلى الطبراني والحاكم عن أم كلثوم بنت عقبة، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي كما في الفيض 2/ 38) . يعنى بذي الرحم الكاشح الذي يضمر العداوة في كشحه، وليس صافيًا ولا وادًّا لقريبه.
فضل صبر أهل المريض عليه:
ويجب على أهل المريض أن يصبروا عليه، ولا يضيقوا به، أو يملوا منه، وخصوصًا إذا طال مرضه.
فإن الأشد من المرض إيجاعًا وإيلامًا، أن يشعر المريض أنه أصبح عبئًا على أهله، وأنهم يتمنون أن يريحهم الله منه، يرى ذلك على صفحات وجوههم، وفى نظرات أعينهم، وفلتات ألسنتهم.
وإذا كان صبر المريض على ما ابتلى به من المرض، من أعظم ما يثيب الله تعالى عليه، كما صحت بذلك الأحاديث، فإن صبر آله وذويه على تمريضه ومعاونته على الشفاء لا يقل مثوبة عنه، بل قد يزيد عليه ؛ لأن صبر المريض أشبه بصبر الاضطرار، وصبر أهله صبر اختيار، ذلك صبر على البلاء، وهذا صبر على فعل الخير.(2/557)
ومن أوجب من يجب الصبر على صاحبه إذا حل به المرض: الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها.
فالحياة أزهار وأشواك، ونفحات ولفحات، ولذات وآلام، وصحة وسقام، ودوام الحال من المحال.
ولا يجوز لرجل ذي دين وخلق أن ينعم بزوجته حال الصحة، ويتبرم بها عند المرض، فيأكلها لحمًا، ويلقيها عظمًا، ويمص عصارتها شابة، ثم يرمى بها قشرة حالة الضعف والعجز، فليس هذا من الوفاء، ولا من حسن العشرة، ولا من أخلاق الرجال، ولا خصال المؤمنين.
كما لا يجوز لامرأة سعدت بالحياة مع زوجها شابًا صحيح البدن، قوى البنية أن تضيق ذرعًا به إذا داهمه المرض، فاعتل بعد صحة، وضعف بعد قوة، وتنسى أن الحياة الزوجية الفاضلة هي التي تقوم على التعاون الدائم على الحلوة والمرة والعافية والبلاء.
وقد شكا الشاعر العربي قديمًا من امرأته (سليمى) حين ضجرت منه لمرضه، فلما سئلت عنه قالت : لا حي فيرجى، ولا ميت فينسى ! على حين كانت أمه حانية عليه، ملهوفة على شفائه، حريصة على بقائه، فقال في ذلك:
أرى أم عمرو لم تمل ولم تضق
وملت سليمى مضجعي ومكاني !
فأي امرئ ساوى بأم حليلة
فلا عاش إلا في أسى وهوان !
لعمري لقد نبهت من كان نائمًا
وأسمعت من كانت له أذنان !
وأوجب من صبر كل من الزوجين على مرض صاحبه وشريك حياته : صبر الابن على مرض الوالدين . فإن حقهما بعد حق الله تعالى، وبرهما من أصول الفضائل التي جاءت بها الرسالات الإلهية، ولهذا وصف الله تعالى يحي عليه السلام بقوله : " وبر بوالديه ولم يكن جبارًا عصيًا " (مريم : 14) . وأنطق المسيح عيسى ابن مريم في المهد صبيًا، فكان مما وصف به نفسه : " وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا " (مريم : 32).
ومثل الابن : البنت، بل هي أحق برعاية أبويها وتمريضهما، وأقدر عليه من الابن لما حباها الله به من حنان دافق، وعاطفة فياضة، لا تتوافر دائمًا عند الأبناء الذكور.(2/558)
وقد جعل القرآن الإحسان بالوالدين بعد توحيد الله تعالى، كما في قوله عز وجل : " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانا " (النساء : 36)، " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ". (الإسراء : 23).
وقد نبه القرآن في هذه الآية الكريمة على حالة خاصة، أو مرحلة معينة من العمر، يتأكد فيها البر والإحسان، وهى حالة الكبر والشيخوخة التي يكون فيها الأبوان في غاية من الحساسية النفسية لأي كلمة تصدر من أولادهما، تشعرهما بالتأفف أو الضجر من وجودهما، وهو ما صرح القرآن بالنهى عنه تعيينا وتحديدًا في قوله سبحانه: " إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريمًا . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا " (الإسراء : 23، 24).
جاء عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قوله : لو علم الله في العقوق شيئًا أدنى من (أف) لحرمه.
وتعبير القرآن بقوله : " يبلغن عندك " يدل على أنه أصبح مسئولا عنهما، وأنهما أصبحا في عداد عياله.
والصبر على الأبوين في حالة الضعف والكبر من أوسع الأبواب المؤدية إلى الجنة والمغفرة، ومن ضيع هذه الفرصة فقد ضيع على نفسه مغنمًا كبيرًا، وخسر خسرانا مبينًا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما رواه عنه أبو هريرة: " رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه ! من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة ". (رواه أحمد ومسلم كما في صحيح الجامع الصغير، رقم 3511).
وفى الحديث الآخر الذي رواه كعب بن عجرة وغيره :
أن جبريل أمين الوحي دعا على من أضاع هذه الفرصة على نفسه، وأمن على ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- (ونص دعوة جبريل : " بعد من أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخل الجنة " رواه الطبراني ورجاله ثقات، كما في مجمع الزوائد للهيثمي 10/166 وله جملة شواهد).(2/559)
ومثل حالة الشيخوخة : حالات المرض كلها، التي تجعل الإنسان في صورة من الضعف والحاجة إلى رعاية الغير، وعدم القدرة على الاستقلال بشئون النفس.
وإذا كان هذا في شأن الأبوين عامة، فإن الأم خاصة أحق بالرعاية لتأكيد القرآن والسنة الوصية بها.
قال تعالى: " ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا " (الأحقاف : 15).
" ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير " (لقمان: 14).
وروى الطبراني في الصغير عن بريدة: أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال : يا رسول الله، إنى حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة، لو ألقيت فيها بضعة لحم لنضجت، فهل أديت شكرها ؟ قال : " لعله أن يكون لطلقة واحدة " (رواه الطبراني في الصغير، وفيه : الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيف من غير كذب، وليث بن أبى سليم مدلس . كما في مجمع الزوائد للهيثمي 8/ 137).
وحكوا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : إن أمي قد بلغت من الضعف والهرم بحيث لا تقضى حاجتها إلا وظهري لها مطية - يعنى أنه صنع لها ما كانت تصنع هي له - فهل وفيت ديني لها ؟ قال : إنك تصنع لها ذلك، وترتقب موتها غدًا أو بعد غد، أما هي فكانت تصنع ذلك لك، وهى ترجو لك عمرًا طويلاً !
وتزداد مسئولية الأهل عن المريض إذا كان فاقد الأهلية، مثل الطفل، ولا سيما غير المميز والمجنون، لما يحتاج إليه كل منهما من رعاية مكثفة، وعناية بالغة.(2/560)
فالإنسان المميز والعاقل يستطيع أن يطلب ما يريده، ويشرح ما هو في حاجة إليه، ويستعجل طلبه إذا تأخر عنه، ويُقنِع من يقوم على علاجه أو تمريضه بضرورته، أما الطفل أو المجنون أو من في حكمهما، فلا يمكنه شيء من ذلك، ومن ثم يتضاعف العبء على أهله، فعليهم أن يكونوا في غاية اليقظة لحالته الصحية، وما يعطى له من أدوية موصوفة في مواعيدها المنتظمة، وما قد يطرأ عليه من تطورات تحتاج إلى عرضه على الطبيب المعالج، أو إدخاله مستشفى متخصصًا أو غير ذلك مما لا يمكن حصره وضبطه من الأحوال.
المريض مرضًا نفسيًا:
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا : المريض مرضًا نفسيًا، فإن كثيرًا من الماس حتى أهل المريض نفسه، وأقرب الناس إليه يغفلون عنه، ولا يهتمون بحقوقه عليهم ؛ لأنهم لا يرون عليه أي أثر لمرض عضوي، فيضعونه في زمرة الأصحاء، وهو غير صحيح.
ونظرًا لأن مرضه غير مشاهد ولا ملموس، وإنما يتعلق بوجدانه ومشاعره وأحاسيسه، أو بأفكاره ونظرته إلى الناس والحياة، فينبغي مراعاة ذلك في التعامل معه، والتدقيق في الكلمة والنظرة معه، والاستئناس في ذلك برأي الطبيب المختص.
النفقة على علاج المريض :
ومن أهم الحقوق للمريض على أهله وذويه : أن يتكفلوا بنفقة علاجه إذا لم يكن لديه من سعة المال ما يمكنه من ذلك، وكان لديهم من السعة واليسار ما يقدرون به على ذلك : من العرض على الطبيب المختص، وأجرة الدواء، وما يلزم من دخول المستشفى، وإجراء الفحوص الضرورية، أو العملية الجراحية، وذلك في حدود مقدرتهم وحاجته، دون إسراف ولا تقتير " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " (البقرة : 236).
" لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها ". (الطلاق : 7).
وليس هذا لازمًا لكل مرض، بل المرض الذي يؤلم صاحبه أو يخشى ازدياده أو يعطله عن واجب، وله علاج مجرب وناجح، وفق ما جرت به سنن الله في الناس.(2/561)
وكلما كان المرض أشد، والدواء أنجع، والمريض أحوج إلى العون، كانت النفقة على علاجه من أعظم القربات، فإن من نفس عن مسلم كربة من كربات الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا ". (المائدة : 32).
وليس من اللازم أن يتحمل القريب أو الصديق - أيضًا - كل نفقات العلاج، فقد يساهم في جزء منه مع غيره " فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره " (الزلزلة : 7) ويمكن أن يكون ذلك قبل العلاج، ويمكن أن يكون ذلك بعد العلاج، حين يطلب من المريض عند خروجه من المستشفى مبلغ كبير لا يقدر على دفعه، فمن أغاث لهفته في تلك الساعة الحرجة كان من الله بمكان.
وأهل المريض - بالنسبة للإنفاق على علاجه - ينقسمون إلى قسمين:
1 - قسم من الناس يبخل على المريض بما يحتاج إليه من نفقات العلاج، والغذاء وكل ما يعينه على استرداد عافيته، ولو كان هذا المريض أمه التي ولدته، أو أباه الذي رباه، أو ابنه وفلذة كبده، أو زوجته وأم أولاده، وهؤلاء يكون المال أعز عليهم من أهليهم وأقرب الناس إليهم.
فقد تكون راحة المريض وشفاؤه في دواء ناجح مجرب، وصفه له طبيب مختص، أو في إجراء عملية جراحية معتادة يجريها له نطاسي ماهر، أو في دخول مستشفى أو مصحة فترة من الزمن يكون فيها تحت الرعاية الشاملة، ويحتاج كل ذلك إلى قدر من المال يبذل لإنفاذ المريض، فلا تجود أنفس أهله به، ولا تنبسط أيديهم ببذله، نتيجة لغلبة الشح، والشح أحد المهلكات وفى الحديث الصحيح : " اتقوا الشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " (رواه مسلم في كتاب البر والصلة من صحيحه من حديث جابر برقم 25 78).
2 - وقسم أخر من أهالي المرضى، يتباهون بالإنفاق عليهم، فيما ينبغي وما لا ينبغي، وفيما يحتاج إليه، وما لا يحتاج إليه، تظاهر بالغنى، ومكاثرة بالمال، ومراءاة للناس.(2/562)
فتراهم ينتقلون بمريضهم من طبيب إلى طبيب ومن مستشفى إلى غيره، ومن بلد إلى آخر، مع أن المرض قد عرف، والتشخيص قد اتضح، والأطباء قد وقفوا فيه عند حد انتهت إليه قدرتهم، وعجز عما بعده علمهم ولم يبق إلا ما هو أكبر منهم : أمر الله الذي لا مرد له، بالعافية أو بالموت، وكثيرًا ما يكون في هذا التنقل زيادة متاعب على المريض لا ضرورة إليها، فضلاً عن متاعبهم هم من وراء ذلك.
وكثيرًا ما يكون المريض أقرب إلى الموت، وأولى به أن يموت في بلده وبين أهله وأرحامه وخلانه، ولكن المبالغة في إظهار العناية به، وعدم البخل عليه، وإبراز القدرة على الإنفاق، وإن بلغ ما بلغ، قد يؤدى إلى هذه المبالغة.
وأولى بهم أن ينفقوا هذا المال - باسمه - صدقة في وجوه الخير، وخصوصًا على المستشفيات الخيرية، وعلاج الفقراء وذوى الدخل المحدود من الناس . فهذا قد يدفع بعض المنتفعين به إلى الدعاء له بالشفاء بظهر الغيب، فيستجيب الله له . ولهذا ورد في الحديث : " داووا مرضاكم بالصدقة " (رواه أبو الشيخ في الثواب عن أبى أمامة، وحسنه في صحيح الجامع الصغير).
ولو وضع هذا المال في صورة صدقة جارية، فإن له أجره ما دام ينتفع به منتفع إلى يوم القيامة.
المريض الذي مات دماغه يعتبر ميتًا شرعًا :
وهنا ينتهي بنا البحث إلى حالات معينة لبعض المرضى، لا يكون المريض فيها أقرب إلى الموت، بل يكون قد مات دماغه بالفعل، وتعطلت كل أجهزته الدماغية تعطلاً نهائيًا لا رجعة فيه، في نظر الأطباء والثقات المتخصصين، ومع هذا يصر أهله وذووه على أن يظل تحت أجهزة الإنعاش، التي توفر له الغذاء والتنفس واستمرار عمل الدورة الدموية، وقد يدوم على هذا الحال شهورًا أو سنين، وهم ينفقون عليه بسخاء، ويتجشمون البقاء من حوله، ولو بالتناوب، ويظنون بذلك أنهم يراعون مريضهم ولا يهملونه.(2/563)
والحق الصراح في ذلك أن ذلك الراقد على سريره لم يعد في عالم المرضى، بل هو في الواقع في عالم الأموات، منذ تحقق موت دماغه بالكلية.
وبهذا يكون الاستمرار في علاجه بطريق أجهزة الإنعاش ضربًا من العبث، وإضاعة الجهد والمال والوقت في غير طائل، وهو ينافى ما جاء به الإسلام.
ولو فقه أهل المريض دينهم حقًا، ووعوا حقيقة الأمر وعيًا جيدًا، لأيقنوا أن الأولى بهم والأكرم لميتهم - الذي يعدونه مريضًا - أن توقف عنه الأجهزة الصناعية، وعندئذ ستتوقف تلك المضخة التي تمد عروقه بالدم، ويرى الجميع أنه ميت حقًا.
وحينئذ يوفر أهل المريض جهدهم ومالهم ويوفرون سريرًا لمريض آخر، محتاج إليه، وأجهزة الإنعاش هي في العادة محدودة قليلة العدد، ليستفيد منها مريض حي بالفعل.
إن هذا الذي أقوله لم يعد رأيًا خاصًا لي، بل هو قرار اتخذه المجمع الفقهي الإسلامي العالمي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والذي درس هذا الموضوع دراسة مستفيضة في دورتين من دوراته، وقدم فيه عدد من البحوث من الفقهاء والأطباء المعنيين، وبعد البحث والمناقشة أصدر المجمع قراره التاريخي في دورته التي عقدت في مدينة عمان بالأردن من 8 - 13 صفر 1407 هـ / 11- 16 أكتوبر 1986 م، بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع " أجهزة الإنعاش " واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين.
قرر ما يلي :
يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات وتترتب عليه جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1 - إذا توقف قلبه وتنفسه توقفًا تامًا، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2 - إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيًا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل وفى هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة
والله أعلم !!(2/564)
وترتب على هذا القرار جملة أحكام شرعية، منها :
أولا : جواز رفع أجهزة الإنعاش والتنفس عن هذا الشخص ؛ لعدم جدوى بقائها.
بل أقول : يجب رفع هذه الأجهزة أو إيقافها ؛ لأن إبقاءها يخالف الشريعة في أمور عدة، منها :
تأخير تجهيز الميت ودفنه بلا ضرورة، وتقسيم تركته، ودخول زوجته في العدة، إلى غير ذلك مما يترتب على الحكم بالوفاة.
ومنها : إضاعة المال وإنفاقه في غير جدوى، وهى منهي عنها.
ومنها : الإضرار بالآخرين بحرمانهم من الانتفاع بالأجهزة التي تستخدم لإنعاشه بغير حق، ومن القواعد القطعية التي نطق بها الحديث النبوي: " لا ضرر ولا ضرار " (رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس، وابن ماجة عن عبادة، وهو صحيح بمجموع طرقه، انظر: سلسلة (الصحيحة) للألباني رقم (250)، وانظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم (القاعدة الخامسة : الضرر يزال ) وفروعها ص 85 - 92 ط . الحلبي).
وثانيًا : يجوز التبرع ببعض أعضائه في هذه الحالة، وتكون صدقة له يثاب عليها وإن لم يوص بها . وقد صح في الحديث : " أن الإنسان يثاب على ما يؤكل من ثمر زرعه وغرسه، سواء أكله إنسان أو طير أو بهيمة، ويكون له به صدقة (نص الحديث : " ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة " متفق عليه من حديث أنس، كما في اللؤلؤ والمرجان 1001 ) . وإن لم يقصد ذلك.
بل قد ثبت أن المؤمن يثاب على ما يصيبه من نصب أو وصب أو غم أو حزن أو أذى أو بلاء، حتى الشوكة يشاكها، يكفر الله بها من خطاياه.
فلا غرو أن يؤجر الإنسان المسلم إذا تبرع أهله عنه ببعض أعضائه عند ثبوت موت دماغه، لمريض آخر يحتاج إلى هذا العضو لإنقاذ حياته أو استرجاع بصره أو صحته . ولا يرتاب مسلم في فضل هذا العمل وعظيم قيمته ومثوبته عند الله تعالى.(2/565)
وإذا تم هذا التبرع جاز أخذ هذه الأعضاء قبل نزع أجهزة الإنعاش ؛ لأنها أُخذت من ميت بالفعل حسب القرار المذكور ؛ ولأن أخذها بعد نزع الأجهزة يحول دون الاستفادة منها، في عملية الزرع لإنسان آخر ؛ لأنها تكون قد فقدت حرارة الحياة، وأصبحت أعضاء ميتة
رفع أجهزة الإنعاش عن المريض الميئوس منه :
وأكثر من ذلك : أن المريض الذي طال مرضه، وظل تحت أجهزة الإنعاش، ما شاء الله له، ولم يتقدم إلى الأمام خطوة، وقرر أطباؤه المعالجون والمختصون : أن شفاءه - وفق سنن الله تعالى - لا أمل فيه، وأن إبقاءه تحت الأجهزة لا نفع فيه ولا طائل تحته، وأنا لذي يبقيه على قيد الحياة ربطه بهذه الأجهزة، فلو رفعت عنه لفارق الحياة بعد قليل - أقول : هذا المريض لا حرج شرعًا في رفع الأجهزة عنه، وتركه لقدره المقدور، دون تدخل منا.
وهذا لا يدخل فيما يسمونه (قتل الرحمة) ؛ لأننا لم نقتله، كل ما فعلناه أننا أوقفنا مداواته أو معالجته عن طريق الأجهزة الصناعية.
ولا يستطيع فقيه واحد أن يقول : إن المعالجة عن طريق تلك الأجهزة واجب شرعًا لا يجوز الإخلال به، وحتى إذا أوقفت نكون قد خالفنا حكم الشرع.
بل من المقرر المعلوم لدى علماء الشريعة : أن التداوي كله لدى المذاهب الأربعة، وجمهور الفقهاء : حكمه الإباحة وليس الوجوب اللازم.
وقليل جدًا من الفقهاء من قال باستحبابه، وأقل منه من قال بوجوبه (انظر : الهداية مع تكملة فتح القدير 8 /164، والمجموع 5 / 106، والمبدع 2 /213، 214، والإنصاف 2/ 463) وقد عقد الإمام الغزالي في (الإحياء) بابًا في الرد على من قال : ترك التداوي أفضل بكل حال !.
والذي أرجحه هو القول بالوجوب إذا كان المرض شديدًا، والدواء مجربًا ناجحًا، حسب الغالب المعتاد.
أما عندما يكون الأمل ضعيفًا - بل معدومًا أحيانًا وفق تقرير المختصين - فلا مجال للقول بالوجوب ولا الاستحباب بالنسبة للعلاج والتداوي.(2/566)
وبهذا يكون إيقاف أجهزة الإنعاش بالنظر لمثل هذا المريض، ليس أكثر من ترك أمر مباح، إن لم يكن هو الأفضل كما يرى الإمام أحمد وغيره، بل الذي أراه أرجح هو الوجوب.
التذكير بالتوبة والوصية:
ويستحب لأهل المريض وأصدقائه ومن يعوده من أهل الخير والصلاح، أن يذكروه بالمبادرة بالتوبة إلى الله تعالى، والندم على ما فرط في جنب الله، والعزم على طاعة الله تعالى، والخروج من مظالم العباد، ورد حقوقهم إليهم مهما صغرت، فإن حقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة . فإن التوبة مطلوبة من جميع المؤمنين كما قال تعالى : " وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ".(النور : 31).
وهى على المريض أوجب، وهو إليها أحوج، والربح بها عظيم، والخسارة بضياعها هائلة، والسعيد من بادر قبل فوات الأوان " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن ". (النساء: 18).
وكذلك ينبغي تذكير المريض بالوصية إن لم يكن وصى من قبل، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ". (متفق عليه من حديث ابن عمر، انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 1052).
وإذا قدر للمريض أن يكتب الله له الشفاء من مرضه، استحب وعظه وتذكيره الوفاء بما عاهد الله عليه - وقت المرض - من التوبة وعمل الصالحات، وفعل الخيرات، شكرًا لله تعالى، ووفاء بعهده . وينبغي للمريض المحافظة على ذلك فقد قال تعالى : " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا " (الإسراء: 34). وقد مدح الله أهل البر والتقوى بقوله : " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ". (البقرة: 177).(2/567)
?C? C????C?: ???EU? ?????? ?? ???? ??? E???? I???? ??? ??E?E C??IC??E ?C???C??E ?? ???? C?I??C? ??? ??E??? ?? ????: ?? ??C AI? ???CE? ?? IC? C????C? ??IE??C EI??? ??? ???E C???C? ?C???? ?? ???E? ????CI? ??C?? ???? ?II?? ????C?? ???I?C??? ??? ?? ?C?E E??? ?E??? ??C??E ?? ??C?EE ?? E???? ??????? ?C C?E?C? . ??? ?E?C?I ???? E??C?E C???A?? ?C????? ???C?CE C??C????? ????C??? ??I C???E? ??? ??C?U ??? C????CE? ?C?E?CE C???C?E ?U???C ?? ?UC?? C?I??? ??C ??E? ??? ?? ?I??? ?? ???? ??? ??C ??C ?EE?? E?? ???C C??I?? ?? C??I?? C??C?? C??I? C?I??? ??? ???? ???? EC??E? ????? ?EE?? C???? ???? ? ???? ?? ??? C??C???E? ???C ??EC? C?E?C?? ??????? EE?? ?C ??E C??CIE E? ?? C?EI? ?? C???C??? ??? ?E?C?I?? EC?I?C? ??? ??? I?C? C????C? ???? C????CE. (انظر المجموع للنووي 5/118، 119).
ومن دلائل الخير : أن يوفق المرء قبل موته لعمل صالح يختم له به، فإنما الأعمال بالخواتيم . ومن المأثور: " اللهم اجعل خير عمري آخره " (عزاه الهيثمي في المجمع إلى الطبراني في الأوسط وفيه أبو مالك النخعي وهو ضعيف 10 /113)، وقد روى أكثر من حديث في ذلك منها حديث أنس : " إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله "، قيل : كيف يستعمله ؟ قال : " يوفقه لعمل صالح قبل الموت فيقبضه عليه " (عزاه في صحيح الجامع الصغير إلى أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم، الحديث 305) . وفى بعض طرقه : " عسله " بدل " استعمله " أي طيب ثناءه بين الناس.
ومنها حديث أبى أمامة : " إذا أراد الله بعبد خيرًا طهره قبل موته " قالوا : وما طهور العبد ؟ قال :
" عمل صالح يلهمه إياه، حيث يقبضه عليه " (عزاه إلى الطبراني، المرجع السابق 306).
الرخصة للمريض بالشكوى من الألم :(2/568)
ولا بأس للمريض أن يشكو إلى طبيبه أو ممرضه أو قريبه أو صديقه ما يجده من وجع وما يحسه من ألم، ما لم يكن ذلك على سبيل التسخط للقدر، وإظهار الجزع والضجر.
وذلك أن المشكو إليه وخصوصًا الطبيب والممرض، قد يكون عنده من الدواء ما يزيل ألمه أو يخففه على الأقل.
على أن في الشكوى لمن يثق الإنسان به نوعًا من التخفيف عن النفس، وخصوصًا إذا تجاوب معه المشكو إليه وواساه، وشاركه مشاركة وجدانية.
وقديمًا قال الشاعر :
شكوت وما الشكوى لمثلى عادة
ولكن تفيض الكأس عند امتلائها !
وقال آخر :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع !
وقد روى البخاري عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " إنى لأوعك كما يوعك رجلان منكم ".
وروى عن القاسم بن محمد أن عائشة رضى الله عنها قالت : وارأساه، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " بل أنا وارأساه ! ".
وروى عن سعد قال : جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعودني من وجع اشتد بي زمن حجة الوداع فقلت : بلغ مني الوجع ما ترى ... الحديث .(انظر هذا الحديث والحديثين قبله في البخاري مع الفتح : كتاب المرضى باب ما رخص للمريض أن يقول : إنى وجع أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع . الأحاديث (5666، 5667، 5668).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن عروة بن الزبير قال : دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء - يعنى بنت أبى بكر وهى أمهما - فقال لها عبد الله: كيف تجدينك ! قالت : وجعة (الأدب المفرد للبخاري حديث 509).
وهذا يرد على من قال من العلماء: إن أنين المريض وتأوهه مكروه . وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مقصود . وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة في الباب . ثم قال : فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى (الفتح 10/ 124) . ا هـ.(2/569)
قال القرطبي : والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك، فلا يستطاع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد ألا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه، كالمبالغة في التأوه والجزع الزائد ؛ لأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذمومًا، حتى يحصل التسخط للمقدور. (الفتح 10 /124).
بل روى مسلم عن عثمان بن أبى العاص : أنه شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعًا يجده في جسده، فقال له : " ضع يدك على الذي يألم من جسدك، وقل : بسم الله ثلاثًا، وقل - سبع مرات -: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " (مسلم في السلام (2202)، وأبو داود (3891)، والترمذي (2081).
قال العلماء : يؤخذ منه ندب شكاية ما بالإنسان لمن يتبرك به، رجاء لبركة دعائه (ذكره العلامة القاري في مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح 2/ 298).
وكان الإمام أحمد يحمد الله أولاً، ثم يخبر عما يجده، لخبر ابن مسعود : إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك. (المبدع في شرح المقنع 2/ 215).
قال الحافظ ابن حجر تعقيبًا على قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة : " بل أنا وارأساه ": (فيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من ساكت وهو ساخط، وكم شاك وهو راض . فالمعول في ذلك على عمل القلب، لا على نطق اللسان). (الفتح 10 /125، 126) . والله أعلم.
وينبغي لمن شكى إليه أن يخفف عن المريض باللمسة الحانية، والكلمة الهادية، والدعوة الصالحة، كما فعل الرسول الكريم مع سعد، فقد روت عائشة بنت سعد أن أباها قال: تشكيت بمكة شكوى شديدة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودني .... الحديث، وفيه: ثم وضع يده، ثم مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال : " اللهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته " قال فما زلت أجد برده على كبدي - فيما يخال إلى - حتى الساعة (الأدب المفرد للبخاري حديث 509).(2/570)
وقال ابن مسعود : دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي، وقلت : يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أجل، كما يوعك رجلان منكم " . فقلت: ذلك إن لك أجرين، قال : " أجل " ثم قال : " ما من مسلم يصيبه أذى، مرض فما سواه، إلا حط الله سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها " (البخاري : حديث 5660).
وهنا ينبغي لمن شكا إليه المريض أن يخفف عنه بذكر فضل الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، وثواب من ابتلى فصبر واحتسب، وأن ما يصيبه من ألم هو طهارة له وكفارة لسيئاته، أو زيادة في حسناته، أو رفع لدرجاته، وأن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ويذكر له من الآيات والأحاديث، وسير الصالحين ما يثبت قلبه دون أن يمله ويثقل عليه، كما يحسن أن يعلمه ما يرقى به نفسه، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عثمان بن أبى العاص.
وهذا في الشكوى إلى الخلق.
أما الشكوى إلى الخالق جل شأنه، فقد حكاه القرآن الكريم عن أنبياء الله تعالى ورسله الكرام:
فعن يعقوب عليه السلام : قال : " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله " (يوسف : 86).
وعن أيوب عليه السلام : " وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " (الأنبياء : 83).
وفى هذا رد على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم (انظر الفتح 10 /124)، وفى هذا يقول بعضهم : علمه بحالي يغنى عن سؤالي !
ولكن المؤكد أن الدعاء والابتهال إلى الله عبادة، بل " هو العبادة " كما صح في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إنما المكروه حقًا هو شكوى العبد ربه ! وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر (المصدر السابق)، وهذا متفق عليه، وهو ما يقع فيه بعض من يغفل عن النعم . ولا يذكر إلا البلاء.
تمنى المريض الموت :(2/571)
وإذا جاز للمريض أن يشكو مما يجده من ألم كما ذكرنا، فليس يحسن به أن يتمنى الموت أو يدعو به للضر الذي به، لما روى الشيخان عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
" لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلاً، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي " (البخاري مع الفتح (5671) باب تمنى المريض الموت، ومسلم في الذكر والدعاء 2680).
وقد بين حديث أبى هريرة عند البخاري وغيره الحكمة في هذا النهى، فقال: " ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله يستعتب ". (البخاري مع الفتح 5673).
ومعنى يستعتب : أي يرجع عما أوجب العتب عليه، وذلك بالتوبة النصوح.
وفى صحيح مسلم عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه : إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا ". (مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، حديث 2662).
قال العلماء : إنما يكره تمنى الموت إذا كان لضر في بدنه أو ضيق في دنياه، ولا يكره إذا كان لخوف فتنة في دينه لفساد الزمان، وهو مفهوم من حديث أنس المذكور . وقد جاء عن كثير من السلف تمنى الموت حين خافوا على دينهم. (انظر : شرح السنة للبغوي 5 /259، والمجموع للنووى 5 /106، 107).
ويؤيد ذلك حديث معاذ بن جبل من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- : " اللهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنى إليك غير مفتون ". (رواه الترمذي وقال : حسن صحيح (3235) وهو في المسند أيضًا، وصححه الحاكم، كما رواه الترمذي من حديث ابن عباس (3233) وأحمد وصححه شاكر 3484).
وقد جاء في أحاديث أشراط الساعة أن الرجل يمر بقبر أخيه، فيقول : يا ليتنى كنت مكانه.(2/572)
كما أن كراهية تمنى الموت مقيدة بما إذا فعل ذلك قبل أن تحل به مقدماته، أما عند مجيئها فلا مانع من تمنيه، رضا بلقاء الله تعالى، ولا من طلبه من الله تعالى حبًا للقائه عز وجل.
ولهذا ذكر البخاري في هذا الباب حديث عائشة قالت : سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مستند إليَّ يقول : " اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقنى بالرفيق الأعلى " (البخاري، حديث 5674) . إشارة إلى أن النهى مختص بالحالة التي قبل نزول الموت. (انظر الفتح 10 /130).
إحسان الظن بالله تعالى :
ويستحب للمريض - وبخاصة من حضرته أسباب الموت ومعاناته - أن يكون حسن الظن بالله تعالى، على معنى أن يُغَلِّب جانب الرجاء في رحمة الله على جانب الخوف من عذابه، وأن يتذكر عظيم كرمه، وجميل عفوه، وواسع رحمته، وسابغ فضله، وقديم إحسانه وبره، ويستحضر ما وعد به أهل التوحيد، وما يدخره لهم من الرحمة يوم القيامة، وقد روى جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ". (مسلم في الجنة وصفة نعيمها 2877).
ويؤيد ذلك الحديث القدسي المتفق على صحته، حيث يقول تعالى : " أنا عند ظن عبدي بي ". (البخاري في التوحيد ومسلم في الذكر 2675).
وقال ابن عباس : إذا رأيتم الرجل بالموت - يعنى حضور مقدماته - فبشروه ليلقى ربه وهو حسن الظن به، وإذا كان حيًا - يعنى صحيحًا - فخوفوه بربه عز وجل.
وقال معتمر بن سليمان: قال أبى عند موته : يا معتمر، حدثني بالرخص، لعلى ألقى الله وأنا حسن الظن به. (شرح السنة للبغوى 5/275).(2/573)
قال الإمام النووي : (ويستحب للحاضر عند المحتضر أن يُطمِّعه في رحمة الله تعالى ويحثه على تحسين ظنه بربه سبحانه وتعالى، وأن يذكر له الآيات والأحاديث في الرجاء، وينشطه لذلك . ودلائل ما ذكرته كثيرة في الأحاديث الصحيحة، وقد ذكرت منها جملة في كتاب الجنائز من كتاب (الأذكار) . وفعله ابن عباس لعمر بن الخطاب رضى الله عنهم عند احتضاره، ولعائشة أيضًا، وفعله ابن عمرو بن العاص بأبيه . وكله في الصحيح). (المجموع للنووي 5/108، 109).
في حالة الاحتضار والاقتراب من الموت :
وإذا تأخرت حالة المريض، وغدا على أبواب الموت، وهى اللحظات التي يودع فيها الدنيا، ويستقبل الآخرة، ويعبر عنها بحالة (الاحتضار) فينبغي لأحب أهله إليه أن يلقنوه " لا إله إلا الله " كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، وهى أفضل ما قاله محمد -صلى الله عليه وسلم- والنبيون من قبله.
وهى الكلمة التي استقبل بها الحياة يوم ولد، وأذن بها في أذنه، وهى نفسها التي يودع بها الحياة، فهو يستقبلها بالتوحيد، ويودعها بالتوحيد.
قال علماؤنا : يستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه تعالى، ليذكره بالله تعالى، والتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم والوصية، وإذا رآه منزولاً به تعهد بلَّ حلقه بتقطير ماء أو شراب فيه، ويندى شفتيه بقطنة ؛ لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة، ويسهل عليه النطق بالشهادة. (انظر : المغنى مع الشرح الكبير 2/ 304، والمبدع لابن مفلح 2/ 216).
ويلقنه " لا إله إلا الله " لما روى مسلم عن أبى سعيد مرفوعًا : " لقنوا موتاكم : لا إله إلا الله " (مسلم في الجنائز (916)، وأبو داود (3117)، والنسائي، 4/5 وابن ماجة 1445) سمى المحتضر ميتًا، باعتبار ما يئول إليه لا محالة.(2/574)
والجمهور على أن هذا التلقين مندوب، وهناك من قال بوجوبه، استدلالا بظاهر الأمر، بل نقل بعض المالكية الاتفاق عليه. (ذكره القاري في شرح المشكاة 2/329 ونقل الشوكاني كلام النووي في ندب التلقين ثم قال : ينبغي أن ينظر ما القرينة الصارفة للأمر عن الوجوب، نيل الأوطار 4/50).
وحكمة تلقين الشهادة : أن تكون هي آخر ما يموت عليه، لما رواه أحمد والحاكم وصححه عن معاذ مرفوعًا : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ". (أبو داود (3116)، والحاكم 1/ 351 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي).
وإنما اقتصر عليها ؛ لأن إقراره بها إقرار بالأخرى ؛ لأنه يموت على التوحيد الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولتقليل الكلام عليه.
وذهب بعض العلماء إلى تلقينه الشهادتين لأن الثانية تبع للأولى.
والأولى الاقتصار على شهادة التوحيد، عملا بظاهر الأحاديث.
وينبغي ألا يلح عليه في ذلك بالإكثار والتكرار، وألا يقول له : قل: لا إله إلا الله، خشية أن يضجر، فيقول : لا أقول، أو يتكلم بغير هذا من الكلام الذي لا يليق . ولكن يقولها بحيث يسمعه معرضًا له، ليفطن فيقولها.
أو يقول ما قاله بعض العلماء: ذكر الله تعالى مبارك، فنذكر الله تعالى جميعًا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله.
وإذا أتى بالشهادة مرة كفته، ولا يعاود، ما لم يتكلم بعدها بكلام آخر، فيعيد تلقينه بلطف ومداراة ؛ لأن اللطف مطلوب في كل موضع فهنا أولى، وإنما يعيده ليكون آخر كلامه : لا إله إلا الله.
وعن عبد الله بن المبارك : أنه لما حضرته الوفاة، فجعل رجل يلقنه ويكثر عليه، فقال إذا قلت مرة، فأنا على ذلك ما لم أتكلم.
وينبغي ألا يلقنه إلا من يثق به، لا من يتهمه من عدو أو حاسد، أو وارث متربص ينتظر موته. (انظر : المغنى والمبدع السابقين، والمجموع 5/114، 115).(2/575)
?C?E?E E?? C????C? ??C?E ???E (??) ??I C???E??? ??I?E " C????C ?? ??? ??EC?? ". (رواه أحمد 5/26، وأبو داود (312 )، وابن ماجة (1448)، وابن حبان (720)، والحاكم 1/565 عن معقل ابن يسار . وأعله ابن القطان، وضعفه الدارقطنى، كما في التلخيص للحافظ 2/104) ولكن الحديث لم يبلغ درجة الصحة ولا الحسن، فلا تقوم به حجة.
ويستحب توجيه المحتضر إلى القبلة، إن أمكن ذلك، فقد يكون في مستشفى ويحكمه موقع السرير الذي يرقد عليه.
ودليل ذلك حديث أبى قتادة عند الحاكم : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة، سأل عن البراء بن معرور، فقالوا : توفى .. وأوصى أن يوجه إلى القبلة لما احتضر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " أصاب الفطرة ". (أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/353، 354 وسكت عنه الحافظ في التلخيص).
قال الحاكم : هذا حديث صحيح، ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غير هذا الحديث. (استدل بعضهم بحديث عبيد بن عمير عن أبيه عن أبى داود والنسائي عن البيت الحرام : " قبلتكم أحياء وأمواتًا "، وتعقبه الشوكاني بأن المراد بقوله " أحياء " عند الصلاة، و" أمواتًا " في اللحد، والمحتضر هنا غير مصل فلا يتناوله الحديث ... والأولى الاستدلال بحديث أبى قتادة المذكور . نيل الأوطار 4/ 50).
واختُلف في كيفية التوجيه إلى القبلة على قولين:
الأول: أن يوضع مستلقيًا على ظهره، وأخمصاه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلا ليصير وجهه إلى القبلة، كالموضوع على المغتسل . واختاره عدد من أئمة الشافعية، وهو قول في مذهب أحمد.
والثاني: أن يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، كالموضوع في اللحد، وهو مذهب أبى حنيفة ومالك والمنصوص للشافعي في البويطي، والمعتمد في مذهب أحمد.
وأجاز بعضهم الوجهين، أيهما يتيسر.(2/576)
وصحح النووي الثاني، إلا إذا لم يمكن ذلك لضيق المكان أو غيره، فحينئذ يوضع على جنبه الأيسر إلى القبلة، فإن لم يمكن، فعلى قفاه المجموع (5/116، 117).
وقال الشوكاني : الأولى أن يوجه على جنبه الأيمن، مستدلا بحديث البراء بن عازب في الصحيحين : " إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن .... "، وفى أخرى : " فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة " (متفق عليه في اللؤلؤ والمرجان، حديث 1734) . فإنه يظهر منه أنه ينبغي أن يكون المحتضر على تلك الهيئة.
وفى المسند عن سلمى أم ولد أبى رافع : أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضى عنها عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها. (انظر: نيل الأوطار (4 /50، 51) ط ز دار الجيل، بيروت).
ماذا يفعل بعد الموت :
هناك جملة من الآداب المشروعة بعد الموت مباشرة، وقبل الغسل، نذكرها هنا ؛ لأنها ملحقة بحالة الاحتضار، وكثيرًا ما يحتاج إليها الطبيب الذي يعالج المريض، فقد يموت بين يديه، فماذا يصنع عندئذ ؟
أولها : أن يغمض عينيه، لما روى مسلم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل على أبى سلمة بعد وفاته، وقد شق بصره، فأغمضه، وقال : " إن الروح إذا قبض تبعه البصر ". (مسلم في الجنائز 920).
ولأنه لو لم يغمضه لبقيت عيناه مفتوحتين، وقبح منظره، وقد يساء به الظن.
وثانيها: أن تشد لحياه بعصابة عريضة، تأخذ جميع لحييه، ويربطها فوق رأسه، لئلا يبقى فمه منفتحًا.
وثالثها : أن تلين مفاصله، بأن يرد المتعهد له ساعده إلى عضده ثم يمدها، ويرد ساقيه إلى فخديه، وفخديه إلى بطنه، ثم يردها، ويلين أصابعه أيضًا، ليكون الغسل أسهل فإن في البدن عقب الموت بقية حرارة، إن ألينت المفاصل في تلك الحالة لانت، وإلا لم يمكن تليينها بعد ذلك.
ورابعها : أن يخلع ثيابه، لئلا يحمى جسده، فيسرع إليه الفساد ويتغير، وربما خرجت منه نجاسة فلوثتها.(2/577)
وخامسها : أن يسجى بثوب يستره، لما روت عائشة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين توفى، سجى ببرد حبرة. (مسلم في الجنائز 942).
وسادسها : أن يوضع على بطنه ثقل مناسب، لئلا ينتفخ.
قال العلماء : ويتولى هذه الأمور أرفق أهله ومحارمه به بأسهل ما يقدر عليه. (فتح العزيز في شرح الوجيز للرافعي، المطبوع مع المجموع للنووي 5 / 112 -114).
أما ما بعد ذلك مما يتعلق بتجهيز الميت وغسله وتكفينه والصلاة عليه ... إلخ، فلا يدخل في إطار أحكام المرضى، بل يدخل ضمن أحكام الموتى، أو أحكام الجنائز، فتبحث هناك.
وبالله التوفيق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(2/578)
إجهاض الحمل الناشئ عن اغتصاب
وجه إليَّ هذا السؤال الخطير والكتاب ماثل للطبع، والذي وجهه هو الأخ الدكتور مصطفى سيرتش رئيس المؤتمر العالمي لرعاية حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك، الذي انعقد في مدينة زغرب عاصمة كرواتيا، في 18 و 19 من سبتمبر سنة 1992 م، وشاركت في أعماله مع فضيلة الشيخ محمد الغزالي وعدد من علماء المسلمين ودعاتهم من أنحاء العالم الإسلامي.
س : قال الدكتور مصطفى : إن عددًا من الإخوة المسلمين داخل جمهورية البوسنة والهرسك، حينما علموا بقدوم الشيخين الغزالي والقرضاوي حمَّلوني واجب التوجه إليهما بهذا السؤال الأليم المحير الذي تنطق به على استحياء ــ ألسنة فتياتنا اللاتي اغتصبهن الجنود الصربيون المجرمون المتوحشون، الذين لم يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة، ولم يرعوا لإنسان كرامة ولا حرمة وقد حمل بعضهن نتيجة لهذا الاعتداء الآثم وشعرن بجنين يحملنه في أحشائهن، ويحملن معه الهموم والمخاوف والأحزان، والشعور بالفضيحة والذل والهوان، وهن لهذا يسألن الشيخين وأهل العلم جميعًا : ماذا يصنعن تجاه هذه الجريمة وآثارها ؟ هل يجيز لهن الشرع إجهاض هذا الحمل الذي أتى برغمهن ؟ وإذا بقي هذا الحمل حتى وضع حيًا فما حكمه ؟ وما مدى مسئولية الفتاة المغتصبة ؟
جـ ـ وقد وكل إلى فضيلة الشيخ الغزالي الإجابة عن هذا السؤال في المؤتمر، فأجبت عنه إجابة شفهية سجلت لتنقل إلى الأخوة والأخوات في الداخل، ليسمعنها ويتصرفن على ضوئها.
وقد رأيت من المفيد أن أكتب الإجابة هنا لتقرأ وتنقل، ويعمل بها في الأحوال المماثلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقد أصبحنا نحن المسلمين نهبًا لكل طامع، وهدفًا لكل نابل، وغدت أعراض نسائنا وبناتنا لحمًا مباحًا تنهشه الذئاب الجائعة، والسباع المفترسة، دون أن تخشى عقابًا، أو تخاف قصاصًا.(2/579)
ولقد سئلت مثل هذا السؤال من قبل من إخوة في أريتريا فعل ببناتهن وأخواتهم الجنود النصارى في جيش ما يسمى الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا، ما يفعل جنود الصرب اليوم ببنات البوسنة الحرائر.
وقبل ذلك بسنوات أرسلت جماعة من النساء المؤمنات المعتقلات ظلمًا، من داخل سجون الظلمة الطغاة في بعض البلاد العربية الآسيوية بنفس السؤال إلى عدد من العلماء في البلاد العربية : ماذا يصنعن فيما تحمله أرحامهن من حمل حرام لا ذنب لهن فيه، ولا اختيار لهن فيه ؟
وأحب أن أؤكد أولاً : أن هؤلاء النسوة من أخواتنا وبناتنا، ليس عليهن أي ذنب فيما حدث لهن، ما دمن قد رفضن وقاومن في أول الأمر، ثم أكرهن عليه تحت أسنة الرماح، وضغط القوة الباطشة، وماذا تصنع أسيرة أو سجينة مهيضة الجناح، أمام آسر أو سجان مدجج بالسلاح ؟ لا يخشى خالقًا، ولا يرحم مخلوقًا ؟!
والله تعالى قد رفع الإثم عن المكره فيما هو أشد من الزنى، وهو الكفر، والنطق به، قال تعالى : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). (النحل : 106).
بل رفع القرآن الإثم عن الإنسان في حالة الضرورة القاهرة، وإن بقى له شيء من الاختيار الظاهري، وما ذاك إلا لأن ضغط الضرورة أقوى منه، قال تعالى بعد أن ذكر الأطعمة المحرمة : (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم). (البقرة : 173).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". (ابن ماجة : في الطلاق 1/ 659، (2045) وصححه الحاكم 2/ 198، ووافقه الذهبي والبيهقي في سننه 7/356).(2/580)
بل إن هؤلاء البنات والأخوات يؤجرن على ما أصابهن من البلاء، إذا تمسكن بإسلامهن الذي ابتلين وامتحن من أجله، واحتسبن ما نالهن من الأذى عند الله عز وجل، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولاهم ولا حزن، ولا أذى ولا غم ـ حتى الشوكة يشاكها ـ إلا كفر الله بها من خطاياه". (رواه البخاري في المرضي 10/103، 5641، 5642).
فإذا كان المسلم يثاب في الشوكة يشاكها، فكيف إذا انتهك عرضه أو لوث شرفه ؟!
ومن أجل هذا أنصح للشباب المسلم أن يتقرب إلى الله تعالى بالزواج من إحدى هؤلاء الفتيات، رفقًا بحالهن، ومداواة لجرحهن، وهو جرح نفسي قبل كل شيء، ناشئ عن إحساسهن بأنهن فقدن أعز ما تملكه فتاة شريفة طاهرة، وهو عذريتها.
أما إجهاض الحمل، فقد بينا في فتوى سابقة أن الأصل في الإجهاض هو المنع، منذ يتم العلوق، أي منذ يلتقي الحيوان المنوي الذكر بالبييضة الأنثوية، وينشأ منهما ذلك الكائن الجديد، ويستقر في قراره المكين في الرحم.
فهذا الكائن له احترامه وإن جاء نتيجة اتصال محرم كالزنى، وقد أمر الرسول المرأة الغامدية التي أقرت بالزنى واستوجبت الرجم، أن تذهب بجنينها حتى تلد، ثم بعد الولادة أن تذهب به حتى يفطم.
وهذا ما أختاره للفتوى في الحالات العادية، وإن كان هناك من الفقهاء من يجيز الإجهاض إذا كان قبل مضي أربعين يومًا على الحمل، عملاً ببعض الروايات التي صحت بأن نفخ الروح في الجنين يتم بعد أربعين أو اثنين وأربعين يومًا.
بل من الفقهاء من يرى الجواز إذا كان قبل مضي ثلاث أربعينات أي قبل مائة وعشرين يومًا، عملاً بالرواية الأشهر بأن نفخ الروح يتم عند ذلك.
والذي نرجحه هو ما ذكرناه أولاً، ولكن في حالات الأعذار لا بأس بالأخذ بأحد القولين الآخرين، وكلما كان العذر أقوى كانت الرخصة أظهر، وكلما كان ذلك قبل الأربعين الأولى كان أقرب إلى الرخصة.(2/581)
ولا ريب أن الاغتصاب من عدو كافر فاجر، معتد أثيم، لمسلمة عذراء طاهرة، عذر قوي، لدى المسلمة ولدى أهلها، وهي تكره هذا الجنين ـ ثمرة الاعتداء الغشوم ـوتريد التخلص منه.. فهذه رخصة يفتى بها للضرورة، التي تقدر بقدرها.
ونحن نعلم أن هناك من الفقهاء من شددوا في الأمر، ومنعوا الإسقاط ولو بعد يوم واحد من الحمل، بل هناك من حرموا مجرد الامتناع الاختياري عن الإنجاب، بمنع الحمل من قبل الرجل أو المرأة أو كليهما، مستدلين بما جاء في بعض الأحاديث من تسمية (العزل) بـ (الوأد الخفي).فلا غرو أن يحرم الإجهاض بعد الحمل.
والأرجح هو التوسط بين المتوسعين في الإجازة، والمتشددين في المنع.
والقول بأن (البييضة) منذ يلقحها المنوي أصبحت (إنسانًا) إنما هو لون من (المجاز) في التعبير، فالواقع أنها (مشروع إنسان).
صحيح أن هذا الكائن يحمل الحياة، ولكن الحياة درجات ومراتب، والحيوان المنوي نفسه يحمل الحياة، والبييضة قبل تلقيحها أيضًا تحمل الحياة، ولكن هذه وتلك ليست هي الحياة الإنسانية التي تترتب عليها الأحكام.
ومن ثم تكون الرخصة مقيدة بحالة العذر المعتبر، الذي يقدره أهل الرأي من الشرعيين والأطباء والعقلاء من الناس، وما عدا ذلك يبقى على أصل المنع.
على أن من حق المسلمة التي ابتليت بهذه المصيبة في نفسها، أن تحتفظ بهذا الجنين، ولا حرج عليها شرعًا، كما ذكرت، ولا تجبر على إسقاطه، وإذا قدر له أن يبقى في بطنها المدة المعتادة لحمل ووضعته، فهو طفل مسلم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " كل مولود يولد على الفطرة " (رواه البخاري في الجنائز 3/245، 1385).والفطرة هي التوحيد وهي الإسلام.
ومن المقرر فقها : أن الولد إذا اختلف دين أبويه، يتبع خير الأبوين دينا، وهذا فيمن له أب يعرف، فكيف بمن لا أب له ؟ إنه طفل مسلم بلا ريب.(2/582)
وعلى المجتمع المسلم أن يتولى رعايته والإنفاق عليه، وحسن تربيته، ولا يدع العبء على الأم المسكينة المبتلاة، والدولة في الإسلام مسئولة عن هذا الرعاية بواسطة الوزارة أو المؤسسة المختصة، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه : " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ". (رواه البخاري في العتق 5/181، (2558)، وفي النكاح 9/299، 5200).
أجوبة سريعة
لأسئلة عاجلة في مسائل طبية
هذه الأسئلة تراود أذهان الأطباء المسلمين، وخاصة المشتغلين ببلاد غير إسلامية
ونرجو الإجابة عليها باختصار، حتى يتيسر التفصيل
دكتور : ح.ن
أ ـ قسم النساء والولادة :
س1 : ما يجب أن يقال عند ولادة المولود ؟
جـ : يؤذن في أذنه اليمنى أذان الصلاة، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ولد الحسن ابن ابنته، ليكون أول ما يطرق سمعه كلمة التكبير والتوحيد.
س2: هل يصلي على السقط ؟
جـ : لا يصلي على السقط إلا إذا نزل حيًا، ولو لم تستمر حياته إلا لحظات، ثم مات.
حكم الإجهاض
س3: يدعي البعض أن الإجهاض جائز قبل (3) أشهر، هل هذا صحيح وماذا يفعل من ساعد في إجهاض قبل (3) أشهر، إذا كان لا يعلم حكم الدين حينها، هل عليه كفارة عن قتل نفس في هذه الحالة ؟
جـ : الأصل ــ فيما أرجحه ـ أن الإجهاض لا يجوز إلا لعذر، وإذا كان قبل الأربعين الأولى فهو أخف، وخصوصًا إذا قوي العذر، أما بعد الأربعين الثالثة فلا يجوز بحال.
حكم عمليات ربط الأنابيب
س4: ما حكم عمليات ربط الأنابيب للنساء والرجال (لمنع الإنجاب)، سواء للمسلمين أو غير المسلمين ؟
جـ : لا يجوز ذلك، لما فيه من تغيير خلق الله، وهو من عمل الشيطان وتزيينه، ويستثنى من ذلك حالة الضرورة القصوى، مثل أن يكون الإنجاب خطرًا على الأم، ولا توجد وسيلة أخرى، وهي ضرورة فردية نادرة، تقدر بقدرها، ولا يجوز اتخاذ ذلك قاعدة عامة.
ب ـ في العمليات :
س1: هل تجوز الصلاة مع وجود دم على الملابس ؟(2/583)
جـ : يجوز إذا كان قليلاً، أو شق عليه غسله، إذ القاعدة : أن كل ما يشق الاحتراز عنه يعفى عنه.
س2: هل تجوز الصلاة إذا تعذر معرفة القبلة ؟
جـ: إذا تحرى ولم يستطع معرفة القبلة ولو بالتقريب، صلى إلى أي جهة، وفي ذلك يقول تعالى : (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله). (البقرة : 115)
س3: ما حكم جمع الصلوات إذا توقع الطبيب طول فترة العملية، أو خلال (النوبتجيات) ؟
جـ: يمكنه أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، جمع تقديم أو تأخير، تبعًا للأيسر عليه، وهو جمع بلا قصر، وهو مذهب أحمد، الذي يجيز الجمع لعذر، لحديث ابن عباس في الصحيح.
س4: ما هي أحكام المسح على الجوارب ؟
جـ: أفتي بجواز ذلك ستة عشر صحابيًّا، بشرط أن يلبسه على طهارة، ويمسح المقيم عليه يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام بلياليها.
س5: ما هي كيفية التطهر من الجنابة إذا وجد الماء ولم يوجد مكان للغسل (دش) ـ بعد نوبتجية مثلاً ؟
جـ: يعتبر الماء في هذه الحالة معدومًا حكمًا، وإن كان موجودًا حقيقة، إذ العبرة بالقدرة على استعماله، وهي مفقودة هنا، فيجوز التيمم.
س6: هل تجوز الصلاة في مكان (الدش)إذا كان هو المكان الوحيد الملائم ـ خاصة في بلاد الغرب ؟
جـ : للضرورات حكمها، وفي الحديث : " وجعلت لي الأرض مسجدًا ". (البخاري في الصلاة 1/533، (438)، ومسلم في المساجد 1/370، 521، 522).
س7: ملامسة الممرضات أثناء العمل نظرًا لطبيعة العمل ـ هل تبطل الوضوء، وبخاصة المشركات منهن ؟
جـ : الرأي الراجح أن اللمس بدون شهوة لا ينقض الوضوء.
س8: ما دور الطبيب المسلم إذا ما اكتشف أن زميلاً أو رئيسًا يتعاطى المخدرات؟
جـ :يتخذ أحكم الأساليب وأرفقها في إزالة هذا المنكر، بقدر ما يستطيع، ويعتبر نفسه أمام مريض من نوع خاص، ويستعين بكل ذي رأي لعلاج المشكلة بالحكمة(2/584)
س9: ماذا يجب علينا تجاه ستر عورات المرضى وأعضاء أجسامهم المكشوفة بدون ضرورة، والحث عليها ؟
جـ : هذا أمر يجب إشاعته والعمل بموجبه، إلا ما اقتضته الضرورة، فتقدر بقدرها.
س10 : ما حكم استعمال الكحول المطهر للجلد ؟
جـ : لا بأس بذلك، فليس هو الخمر المحرمة، إذ الخمر ما أعد للشرب، على أن هناك من الفقهاء من اعتبر نجاسة الخمر نجاسة معنوية لا حسية، وهو رأي ربيعة ـ شيخ مالك ـ وغيره.
وقد أباحت لجنة الفتوى بالأزهر من قديم استعماله (الكحول)، وللسيد رشيد رضا فتوى مفصلة مدللة في إباحته، تراجع في فتاواه.
جـ ـ في حالات الوفاة :
س1: ما يجب أن يقال للمريض المحتضر ؟
س2 : ما يجب أن يقال لأهله لتصبيرهم ؟
س3 : ماذا يفعل الطبيب بعد وفاة المريض مباشرة ؟
س4: ما حكم زراعة الأعضاء من الأحياء ومن الأموات ؟
س5 : تعريف الموت ـ في حالات المرضى الذين يتنفسون صناعيًا وقلوبهم تعمل بواسطة أدوية منشطة فقط ـ هل هو موت (المخ الأصلي) Brainstem كما قرر أطباء الغرب ؟
جـ : فصلنا الإجابة عن هذه الأسئلة في الفتاوى السابقة فلتراجع (انظر : فتوى " قتل الرحمة أو تيسير الموت للمريض "، وفتوى " حول زرع الأعضاء " وفتوى "حقوق وواجبات كل من أهل المريض وأصحابه" ).
د ـ أسئلة عامة :
س1 : الخلوة مع مريضة بناء على طلبها كيف الخروج من هذا المأزق ؟
جـ : يجلس معها والباب مفتوح، مع غض البصر.
س2 : في بعض المؤتمرات الطبية يقوم في بعض الأحيان من يقول : الطبيعة أو Mother Nature خلقت كذا وكذا ـ هل يجب الرد على هذا أم يجوز السكوت عليه؟
جـ : ذلك متروك لتقدير المسلم وحكمته، فقد ينفع التصحيح والتعقيب في بعض الأحيان، وقد لا ينفع، وقد يتاح، وقد لا يتاح، وهذه آفة معروفة من آفات العرض المادي لمقررات العلوم الكونية، بعيدًا عن لمسات الإيمان.(2/585)
س3: ما حكم معاملة أهل الديانات الأخرى مثل بدء السلام وغيره، سواء في الشرق أو في الغرب، مع أن منهم رؤساء لنا ؟
جـ يقول الله تعالى ـ فيما أخذ على بني إسرائيل ـ : (وقولوا للناس حسنًا) (البقرة 83)، وقال فيما شرع للمسلمين : (وقل لعبادي يقول التي هي أحسن) (الإسراء : 53) ومن القول الحسن والأحسن بدؤهم بالتحية المناسبة، ومجاملتهم وحسن معاملتهم، واعتبار ذلك من وسائل الدعوة لهم.
س4: ما الذي يجب على الطبيب عمله في حالات الاغتصاب إذا عرف الفاعل ؟ وهل يجب أن يخبر أهل الفتاة بالقصة كلها أو يستر عليها ؟
جـ يختلف ذلك باختلاف البيئات، واختلاف الحالات، والمؤمن كيس فطن.
س5 : ما حكم الجلوس على موائد يدار عليها الخمر في المؤتمرات هنا ـ وقد تكون هي المكان الوحيد المتوافر فيه الطعام طوال يوم كامل من المحاضرات والتركيز ؟
جـ يجتهد المسلم أن يهرب منها ما أمكن ذلك، لتحذير الحديث الشريف منه : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " (رواه الترمذي في الأدب 5/104، 2801، وقال : حسن غريب) .إلا ما فرضته الضرورة، قال تعالى : (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه). (الأنعام : 119).
س6 :حالة خاصة : قسم تخدير لا يجتمع أفراده اجتماعهم الأسبوعي إلا في (بار) لتدارس الحالات بحجة أنه جو بعيد عن المستشفى، وكلهم رؤساء للمسلم، وهو يحتاج مساعدتهم للحصول على وظائف في المستقبل ـ هل يقاطعهم أم يذهب معهم مضطرًا ؟
جـ : المسلم مفتي نفسه في هذه الأمور، وهو يعرف ما يعتبر ضرورة وما ليس بضرورة، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
س7: المشاركة في حفلات الأقسام المختلفة في المستشفى بأعياد الميلاد ورأس السنة ـ ما حكم حضور هذه الحفلات، أو إرسال بطاقات معايدة للرؤساء والزملاء، أو حتى رد التحية على (سنة سعيدة أو عيد ميلاد جديد.. .) ؟(2/586)
جـ : يكفي المجاملة بالبطاقة ونحو ذلك، ولا داعي للحضور، إلا إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين.
س8 : الصوم قبل الامتحانات أو فيها قد يكون لمدة 18 أو 20 ساعة ـ هل يجوز الفطر ؟
جـ : ينبغي للمسلم أن يتسحر وينوي الصيام ويجرب، فإن قدر عليه فليحمد الله، وإن شق عليه مشقة شديدة فليفطر وليقض بعد ذلك، وقد ختم الله آية فرض الصيام بقوله : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). (البقرة : 185).
س9 : ذكر الزملاء بما يكرهون يتكرر كثيرًا في المستشفيات، مثلاً : إنه طبيب بطيء أو جاهل، قد يكون من باب مصلحة العمل، فهل يجوز، وما دور الطبيب الشاب إذا كان المغتابون من الرؤساء، هل ينصحهم أو يسكت ؟
جـ فرق بين الغيبة والنقد، فما كان من باب الغيبة فهو محرم، وما كان من باب النقد وجب النصح فيه برفق، وبقدر ما يستطيع.
س10 : وهل هناك فرق في الحكم بين ذكر عيوب المسلمين وغير المسلمين أو نصح المسلمين وغير المسلمين ؟
جـ الإسلام يصون حرمة الإنسان من حيث هو إنسان، مسلمًا أو غير مسلم، وإن كانت حرمة المسلم أعظم، وحرمة من له حق أعظم وأعظم مثل الأبوين والأرحام والجيران والأساتذة.
س11 : ما حكم تأجيل الخلفة حتى الانتهاء من المذاكرة والامتحانات ؟
جـ : لا مانع من ذلك إذا اتفق عليه الزوجان، ولم يضر الزوجة، وقد كان الصحابة يعزلون لأعذار وأسباب، ولم ينههم الرسول صلى الله ليه وسلم، كما جاء في الصحيح.
س12 : ما حكم النوم عن الصلاة المكتوبة بعد سهر متواصل في العمل، وهل على الزوجة إيقاظ زوجها في هذه الحالة أو تركه ؟(2/587)
جـ قلم التكليف والمؤاخذة مرفوع عن النائم حتى يستيقظ، وخصوصًا إذا كان سهره ـ قبل النوم ـ في عمل مشروع، وعليه أن يصلي بمجرد استيقاظه .ومقتضى التيسير الذي بنيت عليه أحكام الشريعة أنه لا يجب على الزوجة إيقاظه إذا وجدته مجهدًا مكدودًا، رفقًا بحاله، حتى يستطيع مواصلة عمله : (وما جعل عليكم في الدين من حرج). (الحج : 78).
س13 : ما حكم ترك صلاة الجمعة مرة أو أكثر نظرًا لظروف العمل (مثلاً : تدهور حالة مريض، أو عملية طارئة في نفس موعد الصلاة) ؟
جـ : المحظور المتوعد عليه هو ترك ثلاث جمع بلا عذر، والعذر هنا واضح، وينبغي على المسلم الاجتهاد في التغلب على الأعذار ما استطاع، وإنما لكل امرئ ما نوى.
في مجال السياسة والحكم
الإسلام السياسي (مقدمة)
س: كثرت في السنوات الأخيرة بعض العبارات التي شاعت على ألسنة وأقلام بعض العلمانيين والمتغربين من اليساريين واليمينيين، أعني من الذين يتبعون الفكر الماركسي الشرقي أو الفكر الليبرالي الغربي.
ومن هذه التعبيرات : تعبير " الإسلام السياسي " ويعنون به الإسلام الذي يعنى بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكم في رقابها، ويوجه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله تعالى في مختلف جوانب حياتها ...
وهم يطلقون هذه الكلمة " الإسلام السياسي " للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة، ودينًا ودولة.
فهل هذه التسمية المحدثة " الإسلام السياسي " مقبولة من الناحية الشرعية ؟ وهل إدخال السياسة في الإسلام أمر مبتدع من لدن الدعاة المحدثين والمعاصرين ؟ أو يعتبر هذا من الدين الثابت بالقرآن والسنة ؟(2/588)
نرجو أن توضحوا لنا هذا الأمر في ضوء الأدلة الشرعية المحكمة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وفقكم الله ونفع بكم ..
مسلم غيور
أولاً : هذه التسمية مرفوضة :
وذلك لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلامًا واحدًا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين.
بل هو " إسلامات " متعددة مختلفة كما يحب هؤلاء.
فهو ينقسم أحيانًا بحسب الأقاليم : فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي.
وأحيانًا بحسب العصور : فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث.
وأحيانًا بحسب الأجناس : فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي ...إلخ.
وأحيانًا بحسب المذهب : هناك الإسلام السني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السني إلى أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضًا.
وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة : فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي، أو الراديكالي، والكلاسيكي، والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المتزمت، والإسلام المنفتح.
وأخيرًا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي !
ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يخبئها ضمير الغد ؟!
والحق أن هذه التقسيمات كلها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو " الإسلام الأول " إسلام القرآن والسنة.
الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممن أثنى الله عليهم ورسوله.
فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشوبه الشوائب، وتلوث صفاءه ترهات الملل وتطرفات النحل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفرق، وأهواء المجادلين، وانتحالات المبطلين، وتعقيدات المتنطعين، وتعسفات المتأولين الجاهلين.(2/589)
ثانيًا : الإسلام لا يكون إلا سياسيًا :
الإسلام يوجه الحياة كلها
يجب أن أعلنها صريحة مدوية : إن الإسلام الحق ـ كما شرعه الله ـ لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا، وإذا جردت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينًا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا.
وذلك لسببين رئيسين :
الأول : إن للإسلام موقفًا واضحًا، وحكمًا صريحًا في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة.
فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة.
كلا ... إنه عقيدة وعبادة، وخلق وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى : هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصل من قواعد، وما سن من تشريعات وما بين من توجيهات، تتصل بحياة الفرد، وشئون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأسس الدولة وعلاقات العالم.
ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، وجد هذا واضحًا كل الوضوح.
حتى قسم العبادات من الفقه ليس بعيدًا عن السياسة، فالمسلمون مجموعون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة، والتعذير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.
بل قالوا : لو ترك أهل بلدة ما بعض السنن التي هي من شعائر الإسلام مثل الآذان أو ختان الذكور، أو صلاة العيدين، وجب أن يدعوا إلى ذلك وتقام عليهم الحجة، فإن أصروا وأبوا وجب أن يقاتلوا، حتى يعودوا إلى الجماعة التي شذوا عنها.(2/590)
إن الإسلام له قواعده وأحكامه وتوجيهاته : في سياسة التعليم، وسياسة الإعلام وسياسة التشريع، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وسياسة السلم، وسياسة الحرب، وكل ما يؤثر في الحياة، ولا يقبل أن يكون صفرًا على الشمال، أو يكون خادمًا لفلسفات أو أيديولوجيات أخرى، بل يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم.
بل هو لا يقبل أن تقسم الحياة بينه وبين سيد آخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع ولا يرضى المقولة التي تنسب إلى المسيح عليه السلام : " اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ".
فإن فلسفته تقوم على أن قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد، الذي له من في السماوات ومن في الأرض، وما في السماوات وما في الأرض ملكًا وملكًا.
وفكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربا، ولا يتخذ غير الله وليًا، ولا يبتغي غير الله حكمًا، كما بينت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعرفة باسم " سورة الأنعام ".
وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوة للبشر، حتى لا يتخذ بعض الناس بعضًا أربابًا من دون الله، وتبطل عبودية الإنسان للإنسان، ولذا كان الرسول الكريم صلوات الله عليه يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران : (يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). (آل عمران : 64).
وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية " لا إله إلا الله " فقد كانوا يدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.
شخصية المسلم شخصية سياسية(2/591)
السبب الثاني : إن شخصية المسلم ـ كما كونها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته ـ لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.
فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يعبر عنها بعنوان : النصيحة لأئمة المسلمين، وعامتهم، وهي التي صح في الحديث اعتبارها الدين كله، وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خسر الدنيا والآخرة، كما وضحت ذلك " سورة العصر".
مقاومة الفساد والظلم أفضل الجهاد
ويحرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلم على مقاومة الفساد في الداخل ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهد السبيل لعدوان الخارج.
ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله : " سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ".
ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود، وهو المعمول به في المذهب الحنفي وغيره :" نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك ".
ويرغب في القتال لإنقاذ المضطهدين، والمستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحث والتحريض، فيقول : (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا). (النساء 75).(2/592)
ويصب جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا.. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.. فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفوًا غفورًا). (النساء 97 ـ 99).
حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم ( عسى الله أن يعفوا عنهم) فجعل ذلك في مظنة الرجاء من الله تعالى، زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلاً.
وحديث القرآن المتكرر عن المتجبرين في الأرض من أمثال فرعون، وهامان، وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار ـ فكريًا وشعوريًا ـ لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.
تغير المنكر
وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه ـ حكامًا أو محكومين ـ حديث يزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
يقول القرآن : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة : 78، 79).
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". (رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري).
ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى، وشرب الخمر، وما في معناهما.(2/593)
إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر، لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر.
وهكذا نجد دائرة المنكرات تتسع وتتسع لتشمل كثيرًا مما يعده الناس في صلب السياسة.
فهل يسع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتًا ؟ أو ينسحب من الميدان هاربًا، أمام هذه المنكرات وغيرها ... خوفًا أو طمعًا، أو إيثارًا للسلامة ؟
إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحكم عليها بالفناء، لأنها غدت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (آل عمران 110).
ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف إذ يقول : " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تودع منهم ". (رواه أحمد ابن حنبل في مسنده عن عبد الله بن عمرو).أي فقدوا أهلية الحياة، وفي بعض الروايات : " وبطن الأرض خير لهم من ظهرها ".(2/594)
إن المسلم مطالب ـ بمقتضى إيمانه ـ ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيًا كان نوعه : سياسيًا كان أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد، إن استطاع وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث :" أضعف الإيمان ".
وإنما سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- تغييرًا بالقلب، لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًا محضًا، كما يتوهم، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث " تغييرًا ".
وهذا التعبئة المستمرة للأنفس، والمشاعر، والضمائر لابد لها أن تتنفس يومًا ما، في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عارمة أو انفجارًا لا يبقى ولا يذر، فإن توالى الضغط لابد أن يولد الانفجار، سنة الله في خلقه.
وإذا كان هذا الحديث سمي هذا الموقف " تغييرًا بالقلب " فإن حديثًا نبويًا آخر سماه " جهاد القلب " وهي آخر درجات الجهاد، كما أنها آخر درجات الإيمان وأضعفها، فقد روى مسلم عن ابن مسعود ـ مرفوعًا ـ : " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس ذلك من الإيمان حبة خردل ".
وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر وخصوصًا إذا انتشر شراره واشتد أواره، وقوي فاعلوه، أو كان المنكر من قبل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحراسه، وهنا يكون الأمر كما قال المثل : حاميها حراميها، أو كما قال الشاعر :
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب ؟!(2/595)
وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجبًا لا ريب فيه، لأنه تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي عن طريق الجمعيات أو الأحزاب، وغيرها من القنوات المتاحة، فريضة أوجبها الدين، كما أنه ضرورة يحتمها الواقع.
بين الحق والواجب
إن ما يعتبر في الفلسفات والأنظمة المعاصرة " حقًا " للإنسان في التعبير والنقد والمعارضة، يرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم، ويستحق عقاب الله إذا فرط فيها.
وفرق كبير بين "الحق "الذي يدخل في دائرة " الإباحة "، أو " التخيير " الذي يكون الإنسان في حل من تركه إن شاء، وبين "الواجب "أو " الفرض " الذي لا خيار للمكلف في تركه أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع
ومما يجعل المسلم سياسيًا دائمًا : أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصًا المؤمنين منهم، بحكم أخوة الإيمان : (إنما المؤمنون أخوة). (الحجرات : 10)
وفي الحديث : " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم، وأيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله "
والقرآن كما يفرض على المسلم أن يطعم المسكين، يفرض على أن يحض الآخرين على إطعامه.. ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمهم القرآن بقوله : (_ كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين) (الفجر 17، 18) ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدين : (أرأيت الذي يكذب بالدين.فذلك الذي يدع اليتيم.ولايحض على طعام المسكين). (الماعون : 1ـ 3).
ويقرنه القرآن الكريم مع الكفر بالله تعالى في استحقاق العذاب الأليم في الآخرة : (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم.ولا يحض على طعام المسكين). (الحاقة : 33، 34).(2/596)
وهذا في المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية والمضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة، وحض على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء.
وكما أن المسلم مطالب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالب أيضًا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيًا كان اسمه ونوعه.. والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجب العذاب على الأمة كلها : الظالم والساكت عنه كما قال تعالى : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). (الأنفال : 25).
وقد ذم القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح : ( واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا). (نوح : 21).
وعن قوم هود : ( واتبعوا أمر كل جبار عنيد). (هود : 59).
وعن قوم فرعون : (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين. (الزخرف : 54)
بل جعل القرآن مجرد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون). (هود : 113).
ويحمل الإسلام كل مسلم مسئولية سياسية : أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح : " من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية ". (رواه مسلم في صحيحه).
الصلاة والسياسة
المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلوا من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صلب ما يسميه الناس " سياسة "(2/597)
فمن يقرأ في سورة المائدة : الآيات التي تأمر بالحكم بما أنزل الله،.وتدمغ من لم يحكم بما أنزل الله سبحانه بالكفر والظلم والفسوق : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)المائدة : 44، 45، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (المائدة 44، 45)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (المائدة 47) يكون قد دخل في السياسة، وربما اعتبر من المعارضة المتطرفة، لأنه بتلاوة هذه الآيات يوجه الاتهام إلى النظام الحاكم، ويحرض عليه، لأنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها.
ومثل ذلك من يقرأ الآيات التي تحذر من موالاة غير المؤمنين : (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا). (النساء : 144).
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير). (آل عمران : 28).
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة). (الممتحنة : 1).
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر). (آل عمران : 118).
ومن قنت " قنوت النوازل " المقرر في الفقه، وهو الدعاء الذي يدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصًا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة، كغزو عدو، أو وقوع زلزال، أو فيضان أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك ...(2/598)
ولازلت أذكر كيف وظف الإمام الشهيد حسن البنا هذا الحكم الشرعي في تعبئة الشعب المصري ضد الإنجليز، حين كتب في صحيفة " الإخوان المسلمون " اليومية يطالب المسلمين أن يقنتوا في صلواتهم ضد الإنجليز المحتلين، واقترح لذلك صيغة يدعى بمثلها، ولم يلزم أحدًا بها، ولكنا حفظناها، وكنا نقنت بها في صلاتنا.. ومن هذا القنوت : " اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين.. اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الغاصبين من الإنجليز قد احتلوا أرضنا وغصبوا حقنًا، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، اللهم رد عنا كيدهم، وفل حدهم، وأدل دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم ولا تدع لهم سبيلا على أحد من عبادك المؤمنين.. اللهم خذهم ومن ناصرهم أو عاونهم أو وادهم، أخذ عزيز مقتدر .....".
وهكذا كنا ندخل في معترك السياسة، ونخوض غماره، ونحن في محراب الصلاة متبتلون خاشعون.. فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا تنفصل فيه دنيا عن دين، ولا يعرف قرآنه ولا سنته ولا تاريخه دينًا بلا دولة، ولا دولة بلا دين ..
دعوى أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين
الذين زعموا أن الدين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة " لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين " من بعد، أول من كذبوها بأقوالهم وأفعالهم.
فطالما لجأ هؤلاء إلى الدين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدين، ليستصدروا منهم فتاوى ضد من يعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا.
لازلت أذكر كيف صدرت الفتاوى ونحن في معتقل الطور سنة 1948 م، 1949 م بأننا ـ نحن الدعاة إلى تحكيم القرآن وتطبيق الإسلام ـ نحارب الله ورسوله ونسعى في الأرض فسادًا فحقنا أن نقتل أو نصلب، أو تقطع أيدينا وأرجلنا من خلاف، أو ننفى من الأرض !(2/599)
وتكرر هذا في أكثر من عهد، تتكرر المسرحية وإن تغيرت الوجوه !
ولازلت أذكر ـ ويذكر الناس ـ كيف طلب من أهل الفتوى أن يصدروا فتواهم بمشروعية الصلح مع إسرائيل، تأييدًا لسياستهم الانهزامية، بعد أن أصدرت الفتوى من قبل بتحريم الصلح معها، واعتبار ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين !
ولا زال الحكام يلجأون إلى علماء الدين، ليفرضوا عليهم فتاوى تخدم أغراضهم السياسية، وآخرها محاولات تحليل فوائد البنوك وشهادات الاستثمار، فيستجيب لهم كل رخو العود ـ ممن قل فقههم أو قل دينهم ـ ويأبى عليهم العلماء الراسخون :
(الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله) (الأحزاب : 39).
هل السياسة أمر منكر ؟:
السياسة ـ من الناحية النظرية ـ علم له أهميته ومنزلته، وهي من الناحية العملية ـ مهنة لها شرفها ونفعها، لأنها تتعلق بتدبير أمر الخلق على أحسن وجه ممكن.
نقل الإمام ابن القيم عن الإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي : أن السياسة هي الفعل الذي يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مادامت لا تخالف الشرع.
وذكر ابن القيم : أن السياسة العادلة لا تكون مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله. (انظر : الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية لابن القيم ص 13 ـ 15 ط.السنة المحمدية).
وقد نوه علماؤنا السابقون بقيمة السياسة وفضلها حتى قال الإمام الغزالي : (إن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع). (إحياء علوم الدين 1/17 ـ باب العلم الذي هو فرض كفاية، ط دار المعرفة.بيروت)(2/600)
وقد عرفوا الإمامة أو الخلافة بأنها : نيابة عامة عن صاحب الشرع ـ وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ في " حراسة " الدين، و" سياسة " الدنيا به. (انظر : النظريات السياسية الإسلامية للدكتور / ضياء الدين الريس ص 125 ط. السادسة)
فالخلافة حراسة وسياسة.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- سياسيًا، بجوار كونه مبلغًا ومعلمًا وقاضيًا، وكان خلفاؤه الراشدون المهديون من بعده سياسيين على نهجه وطريقته، حيث ساسوا الأمة بالعدل والإحسان، وقادوها بالعلم والإيمان.
ولكن الناس في عصرنا وفي أقطارنا خاصة من كثرة ما عانوا من السياسة وأهلها، سواء كانت سياسة الاستعمار أم سياسة الحكام الخونة، أو الحكام الظلمة، كرهوا السياسة، وكل ما يتعلق بها، وخصوصًا بعدما أصبحت فلسفة ميكافيلي هي المسيطرة على السياسة والمواجهة لها، حتى حكوا عن الشيخ محمد عبده أنه قال ـ بعد ما ذاق من مكر السياسة وألاعيبها ما ذاق ـ قال كلمته الشهيرة : " أعوذ بالله من السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس "!
ومن ثم استغل خصوم الفكر الإسلامي، والحركة الإسلامية بغض الناس للسياسة، وضيقهم بها، ونفورهم منها، ليصفوا الإسلام الشامل المتكامل الذي يدعوا إليه الإسلاميون اليوم بأنه " الإسلام السياسي ".
ولقد أصبح من المألوف الآن وصف كل ما يتميز به المسلم الملتزم المتسيب بأنه " سياسي " ! ويكفي هذا ذمًا له وتنفيرًا منه.
ذهب بعض الفتيات المسلمات المحجبات في بلد من بلاد الغرب العربي إلى شخصية لها منصب ديني وسياسي، يشكون إليه أن بعض الكليات تشترط عليهن ـ لكي يقبلن فيها ـ أن يخلعن الحجاب.وهن يستشفعن به في إعفائهن من هذا الشرط الذي يفرض عليهن كشف الرأس ولبس القصير، وهو ما حرم الله ورسوله، وما كان أشد دهشة هؤلاء الطالبات الملتزمات حين قال لهن هذا الرجل المشفع : إن هذا الذي ترتدينه ليس مجرد حجاب، إنه زي سياسي ! !(2/601)
وقبله قال العلماني الأكبر في تونس : إنه زي طائفي !!
وقال آخر عن صلاة العيد في الخلاء : إنها ليست سنة، إنما هي صلاة سياسية !
والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان اعتكاف سياسي !
ولا تستبعد أن يأتي وقت تكون فيه صلاة الجماعة في المسجد صلاة سياسية !
وقراءة الغزوات في كتاب مثل سيرة ابن هشام أو " إمتاع الأسماع " أو المغازي من صحيح البخاري قراءة سياسية.
وقد تصبح قراءة القرآن الكريم نفسه ـ وخصوصًا سورًا معينة منه ـ تلاوة سياسية.
ولم ننس عهدًا كان من الأدلة التي تقدم ضد المتهمين فيه حفظ سورة الأنفال، لأنها سورة جهاد !!
الإسلام والديمقراطية
سؤال عن موقف الإسلام من الديمقراطية
س : لا أخفي على فضيلتكم ما أصابني من الدهشة والعجب حين سمعت من بعض المتحمسين من المتدينين، ومنهم من ينتمي لبعض الجماعات الإسلامية : أن الديمقراطية تنافي الإسلام، بل نقل أحدهم عن بعض العلماء، أن الديمقراطية كفر !!وحجته في ذلك أن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، والشعب في الإسلام ليس هو الحاكم، بل الحاكم هو الله تعالى (إن الحكم إلا لله) (الأنعام : 57) وهذا يشبه ما قاله الخوارج قديمًا ورد عليه سيدنا علي كرم الله وجهه بقوله : " كلمة حق يراد بها باطل ".
وقد أصبح شائعًا في أوساط الليبراليين ودعاة الحرية أن الإسلاميين أعداء الديمقراطية، وأنصار الديكتاتورية والاستبداد.
فهل صحيح أن الإسلام عدو الديمقراطية، وأن الديمقراطية ضرب من الكفر أو المنكر، كما زعم من زعم ؟ .. .. أم أن هذا تقول على الإسلام، وهو منه بريء ؟
إن الأمر في حاجة إلى بيان حاسم من " فقهاء الوسطية " الذين لا يجنحون إلى الغلو ولا إلى التفريط، حتى توضع الأمور في نصابها، ولا يحمل الإسلام أوزار تفسيرات غير صحيحة، وإن صدرت عن بعض العلماء، الذين هم على كل حال بشر يخطئون ويصيبون(2/602)
ندعو الله أن يعينكم على تجلية الحق، وبيان الصواب، ورد الشبهة وإقامة الحجة، ودمتم مشكورين مأجورين
م .ص
مسلم محب لكم من الجزائر
مقدمة الإجابة عن السؤال
يؤسفني كل الأسف أن تختلط الأمور، ويلتبس الحق بالباطل لدى بعض المتدينين عامة، ولدى بعض المتكلمين باسم الدين خاصة، إلى الحد الذي يكشف عنه سؤال الأخ السائل، شكر الله له ..حتى أصبح اتهام الناس بالكفر أو الفسق ـ على الأقل ـ أمرًا سهلاً على صاحبه، كأنما لا يعتبر في نظر الشرع جريمة كبيرة موبقة،، يخشى أن ترتد على من ألصقها بغيره، كما جاء في الحديث الصحيح.
وهذا السؤال الذي طرحه الأخ السائل الكريم، ليس غريبًا على، فطالما سُئلته من أخوة له في الجزائر مرات متعددة، وبهذه الصيغة الصارخة : هل الديمقراطية كفر ؟ ؟
الحكم على الشيء فرع عن تصوره
الغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح، أو كفر بواح، وهو لم يعرفها معرفة جيدة، تنفذ إلى جوهرها، وتخلص إلى لبابها، بغض النظر عن الصورة والعنوان.
ومن القاعد المقررة لدى علمائنا السابقين : أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن حكم على شيء يجهله فحكمه خاطئ، وإن صادف الصواب اعتباطًا، لأنها رمية من غير رام، لهذا ثبت في الحديث أن القاضي الذي يقضي على جهل في النار، كالذي عرف الحق وقضى بغيره.
فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم، والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب، والتي وصلت إليها بعض الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، أريقت فيه دماء وسقط فيه ضحايا بالألوف، بل بالملايين، كما في أوروبا الشرقية وغيرها، والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظفار التسلط السياسي، الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة، هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين ؟؟
جوهر الديمقراطية ما هو؟(2/603)
إن جوهر الديمقراطية ـ بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية ـ أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها.. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل.
هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدت البشرية لها صيغًا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة، واستقلال القضاء .. إلخ.
فهل الديمقراطية ـ في جوهرها الذي ذكرناه ـ تنافي الإسلام ؟ ومن أين تأتي هذه المنافاة ؟ وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذا الدعوى ؟
جوهر الديمقراطية يتفق مع الإسلام
الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يرضون عنه، وفي الحديث : " ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرًا .." وذكر أولهم : " رجل أم قومًا وهم له كارهون .." (رواه ابن ماجة (971) وقال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح، رجاله ثقات، وابن حبان في صحيحه ـ الموارد ـ (377) كلاهما عن ابن عباس) .كان هذا في الصلاة فكيف في أمور الحياة والسياسة ؟ وفي الحديث الصحيح : خير أئمتكم ـ أي حكامكم ـ الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ـ أي تدعون لهم ـ ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ". (رواه مسلم عن عوف بن مالك).
حملة القرآن على الحكام المتألهين في الأرض
لقد شن القرآن حملة في غاية القسوة على الحكام المتألهين في الأرض، الذين يتخذون عباد الله عبادًا لهم مثل(2/604)
" نمرود " الذي ذكر القرآن موقفه من إبراهيم وموقف إبراهيم منه : (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين). (البقرة : 258)
فهذا الطاغية يزعم أنه يحيي ويميت، كما أن رب إبراهيم ـ وهو رب العالمين ـ يحيي ويميت.فيجب أن يدين الناس له، كما يدينون لرب إبراهيم !
وبلغ من جرأته في دعوى الإحياء والإماتة، أن جاء برجلين من عرض الطريق، وحكم عليهما بالإعدام بلا جريرة، ونفذ في أحدهما ذلك فورًا، وقال : ها قد أمته، وعفا عن الآخر، وقال ها قد أحييته ! ألست بهذا أحيي وأميت ؟!
ومثله فرعون الذي نادى في قومه (أنا ربكم الأعلى) (النازعات : 24)، وقال في تبجح : (يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري). (القصص : 38).
وقد كشف القرآن عن تحالف دنس بين أطراف ثلاثة خبيثة :
الأول : الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله، المتسلط على عباد الله، ويمثله فرعون.
والثاني : السياسي الوصولي، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية، وتثبيت حكمه، وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان.
والثالث :الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية، فهو يؤيده ببذل بعض ماله، ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه، ويمثله قارون.
ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان، ووقوفه في وجه رسالة موسى، حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر : (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) (غافر :23، 24) .(وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين). (العنكبوت : 39)(2/605)
والعجيب أن قارون كان من قوم موسى، ولم يكن من قوم فرعون، ولكنه بغى على قومه، وانضم إلى عدوهم فرعون، وقبله فرعون معه، دلالة على أن المصالح المادية هي التي جمعت بينهما، برغم اختلاف عروقهما وأنسابهما.
ربط القرآن بين الطغيان والفساد.
من روائع القرآن : أنه ربط بين الطغيان وانتشار الفساد، الذي هو سبب هلاك الأمم ودمارها، كما قال تعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد.إرم ذات العماد.التي لم يخلق مثلها في البلاد.وثمود الذين جابوا الصخر بالواد.وفرعون ذي الأوتاد.الذين طغوا في البلاد.فأكثروا فيها الفساد.فصب عليهم ربك سوط عذاب.إن ربك لبالمرصاد). (الفجر : 6-12).
وقد يعبر القرآن عن " الطغيان " بلفظ " العلو " ويعني به الاستكبار والتسلط على خلق الله بالإذلال والجبروت.كما قال تعالى عن فرعون : (إنه كان عاليًا من المسرفين). (الدخان : 31).
(إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين). (القصص : 4).
وهكذا نرى " العلو " و" الإفساد " متلازمين.
ذم القرآن للشعوب المطيعة للجبابرة
لم يقصر القرآن حملته على الطغاة المتأهلين وحدهم، بل أشرك معهم أقوامهم وشعوبهم الذين اتبعوا أمرهم وساروا في ركابهم، وأسلموا لهم أذمتهم، وحملهم المسئولية معهم.
يقول تعالى عن قوم نوح :(قال نوح ربي إنهم عصوني واتبعوا ما لم يزده ماله وولده إلا خسارًا). (نوح : 21).
ويقول سبحانه عن عاد قوم هود : (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد). (هود : 59).(2/606)
ويقول جل شأنه عن قوم فرعون (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين) (الزخرف : 54) .(فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد.. يقدم قومهم يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد الورود) .(هو: 97، 98) .وإنما حمل الشعوب المسئولية أو جزءًا منها، لأنها هي التي تصنع الفراعنة والطغاة، وهو ما عبر عنه عامة الناس في أمثالهم حين قالوا قبل لفرعون : ما فرعنك ؟ قال : لم أجد أحدًا يردني !
جنود الطاغية وأدواته يتحملون الوزر معه
أكثر من يتحمل المسئولية مع الطغاة هم " أدوات السلطة " الذين يسميهم القرآن " الجنود " ويقصد بهم " القوة العسكرية " التي هي أنياب القوة السياسية وأظفارها، وهي السياط التي ترهب بها الجماهير إن هي تمردت أو فكرت في أن تتمرد، يقول القرآن : (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) (القصص : 8)، (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). (القصص : 40).
حملة السنة على الأمراء الظلمة
السنة النبوية حملت كذلك على الأمراء الظلمة والجبابرة، الذين يسوقون الشعوب بالعصي الغليظة، وإذا تكلموا لا يرد أحد عليهم قولاً فهم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش.
كما حملت على الذين يمشون في ركابهم، ويحرقون البخور بين أيديهم، من أعوان الظلمة.
ونددت السنة بالأمة التي ينتشر فيها الخوف، حتى لا تقدر أن تقول للظالم : يا ظالم.
فعن أبي موسى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " إن في جهنم واديًا وفي الوادي بئر يقال له هبهب، حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد ". (رواه الطبراني بإسناد حسن كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في : المجمع 5 /197 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4 /332).(2/607)
وعن معاوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال " ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم، يفاحمون في النار كما تفاحم القردة ". (رواه أبو يعلي والطبراني، وذكره في : صحيح الجامع الصغير، برقم 3615).
وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب ابن عجرة : " أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب ".قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : " أمراء يكونون بعدي، لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني، وأنا منهم، وسيردون على حوضي ". (رواه أحمد والبزار، ورجالهما رجال الصحيح، كما في : الترغيب للمنذري، والزوائد للهيثمي 5/247).
وعن معاوية مرفوعًا : " لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف منها حقه من القوي غير متعتع ". (رواه الطبراني ورواته ثقات، كما قال المنذري والهيثمي، كما رواه من حديث ابن مسعود بإسناد جيد 5/209 ورواه ابن ماجة مطولا من حديث أبي سعيد).
وعن عبد الله ابن عمرو مرفوعًا : " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تودع منهم ". (رواه أحمد في : المسند، وصحح شاكر إسناده (6521) ونسبه الهيثمي للبزار أيضًا بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح 7/262، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4/96).
الشورى والنصيحة والأمر والنهي
لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله.. ومنها : النصيحة لأئمة المسلمين، أي أمرائهم وحكامهم.
كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة، بل جعل أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، ومعنى هذا أنه جعل مقاومة الطغيان والفساد الداخلي أرجح عند الله من مقاومة الغزو الخارجي، لأن الأول كثيرًا ما يكون سببًا للثاني.(2/608)
الحاكم في نظر الإسلام
إن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها، ومن حق الأصيل أن يحاسب الوكيل أو يسحب منه الوكالة إن شاء، وخصوصًا إذا أخل بموجباتها.
فليس الحاكم في الإسلام سلطة معصومة بل هو بشر يصيب ويخطئ، ويعدل ويجور، ومن حق عامة المسلمين أن يسددوه إذا أخطأ ويقوموه إذا اعوج.
وهذا ما أعلنه أعظم حكام المسلمين بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا أن نتبع سنتهم، ونعض عليها بالنواجذ باعتبارها امتدادًا لسنة المعلم الأول محمد -صلى الله عليه وسلم-.
يقول الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة له: " أيها الناس، إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني .. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم ".
ويقول الخليفة الثاني عمر الفاروق : " رحم الله امرأ أهدى إلي عيوب نفسي "، ويقول : " أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني .. "، ويرد عليه واحد من الجمهور فيقول : والله يا بن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا " !
وترد عليه امرأة رأيه وهو فوق المنبر، فلا يجد غضاضة في ذلك، بل يقول : " أصابت المرأة وأخطأ عمر " !
ويقول على ابن أبي طالب كرم الله وجهه لرجل عارضه في أمر : أصبت وأخطأت ( وفوق كل ذي علم عليم). (يوسف : 76).
سبق الإسلام تقرير القواعد
إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال الإنسان.
مزية الديمقراطية
وميزة الديمقراطية أنها اهتدت ـ خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من الأباطرة والملوك والأمراء ـ إلى صيغ ووسائل، تعتبر ـ إلى اليوم ـ أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين.(2/609)
ولا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس نرى لزامًا علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض.
ومن القواعد الشرعية المقررة : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد.
ولا يوجد شرعًا ما يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي، من غير المسلمين، فقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب بفكرة " حفر الخندق " وهو من أساليب الفرس.
واستفاد من أسرى المشركين في بدر " ممن يعرفون القراءة والكتابة " في تعليم أولاد المسلمين الكتابة، برغم شركهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
وقد أشرت في بعض كتبي إلى أن من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب ما يفيدنا .. ما دام لا يعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية ثابتة.
وعلينا أن نحور فيما نقتبسه، ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا : ما يجعله جزءًا منا، ويفقده جنسيته الأولى. (انظر : كتابي : الحل الإسلامي فريضة وضرورة، فصل :" شروط الحل الإسلامي " تحت عنوان :" مشروعية الاقتباس وحدوده).
الانتخاب من الشهادة
إذا نظرنا إلى نظام كنظام الانتخاب أو التصويت، فهو في نظر الإسلام " شهادة " للمرشح بالصلاحية.. فيجب أن يتوافر في " صاحب الصوت " ما يتوافر في الشاهد من الشروط بأن يكون عدلاً مرضي السيرة، كما قال تعالى : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (الطلاق :2)، (ممن ترضون من الشهداء). (البقرة : 282).
ومن شهد لغير صالح بأنه صالح، فقد ارتكب كبيرة شهادة الزور وقد قرنها القرآن بالشرك بالله، إذ قال : (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور). (الحج : 30).(2/610)
ومن شهد لمرشح بالصلاحية لمجرد أنه قريبه أو ابن بلده، أو لمنفعة شخصية يرتجيها منه، فقد خالف أمر الله تعالى : (وأقيموا الشهادة لله). (الطلاق : 2).
ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي، حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لم يتوافر فيه وصف " القوي الأمين " فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها.. وقد قال تعالى : (ولايأب الشهداء إذا ما دعوا) (البقرة : 282) .(ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه). (البقرة : 283).
ومثل ذلك يقال في صفات المرشح وشروطه من باب أولى.
إننا بإضافة هذه الضوابط والتوجيهات لنظام الانتخاب، نجعله في النهاية نظامًا إسلاميًا، وإن كان في الأصل مقتبسًا من عند غيرنا.
حكم الشعب وحكم الله
الذي نريد التركيز عليه هنا هو ما نوهنا به في أول الأمر، وهو : جوهر الديمقراطية، فهو بالقطع متفق مع جوهر الإسلام، إذا رجعنا إليه في مصادره الأصلية، واستمددناه من ينابيعه الصافية، من القرآن والسنة، وعمل الراشدين من خلفائه، لا من تاريخ أمراء الجور، وملوك السوء، ولا من فتاوى الهالكين المحترقين من علماء السلاطين، ولا من المخلصين المتعجلين من غير الراسخين.
وقول القائل : إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل : إن الحاكمية لله ـ قول غير مسلم.
فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الديكتاتورية المتسلطة، رفض حكم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.
أجل كل من يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأن يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة، .وبعبارة إسلامية : إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له
الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير.(2/611)
المراد بمبدأ (الحاكمية لله)
وأحب أن أنبه هنا على أن مبدأ " الحاكمية لله" مبدأ إسلامي أصيل، قرره جميع الأصوليين في مباحثهم عن " الحكم الشرعي"، وعن "الحاكم " فقد اتفقوا على أن " الحاكم" هو الله تعالى، والنبي مبلغ عنه، فالله تعالى هو الذي يأمر وينهى، ويحلل ويحرم، ويحكم ويشرع.
وقول الخوارج :" لا حكم إلا لله " قول صادق في نفسه، حق في ذاته، ولكن الذي أنكر عليهم هو وضعهم الكلمة، في غير موضعها، واستدلالهم بها على رفض تحكيم البشر في النزاع، وهو مخالف لنص القرآن الذي قرر التحكيم في أكثر من موضع، ومن أشهرها التحكيم بين الزوجين إن وقع الشقاق بينهما.
ولهذا رد أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- على الخوارج بقوله : " كلمة حق أريد بها باطل " فقد وصف قولهم بأنه " كلمة حق "، ولكن عابهم بأنهم أرادوا بها باطلاً.
وكيف لا تكون كلمة حق وهي مأخوذة من صريح القرآن :(إن الحكم إلا لله) ؟ (يوسف : 40).
فحاكمية الله تعالى للخلق ثابتة بيقين، وهي نوعان :
1 ـ حاكمية كونية قدرية، بمعنى أن الله هو المتصرف في الكون، المدبر لأمره الذي يجري فيه أقداره، ويحكمه بسننه التي لا تتبدل، ما عرف منها وما لم يعرف، وفي مثل هذا جاء قوله تعالى : (أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) (الرعد : 41)، فالمتبادر هنا أن حكم الله يراد به الحكم الكوني القدري لا التشريعي الأمري.
2ـ حاكمية تشريعية أمرية، وهي حاكمية التكليف والأمر والنهي، والإلزام والتخيير، وهي التي تجلت فيما بعث الله به الرسل، وأنزل الكتب، وبها شرع الشرائع وفرض الفرائض، وأحل الحلال، وحرم الحرام ..
وهذه لا يرفضها مسلم رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً.(2/612)
والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصًا إذا وصلت إلى " كفر بواح" فيه من الله برهان.
ومما يؤكد ذلك : أن الدستور ينص ـ مع التمسك بالديمقراطية ـ على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، وهذا تأكيد لحاكمية الله، أي حاكمية شريعته، وأن لها الكلمة العليا.
ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة واضحة، إن كل قانون أو نظام يخالف قطعيات الشرع.فهو باطل، وهي في الواقع تأكيد لا تأسيس.
لا يلزم ـ إذن ـ من الدعوة إلى الديمقراطية اعتبار حكم الشعب بديلا عن حكم الله، إذ لا تناقض بينهما.
ولو كان ذلك لازمًا من لوازم الديمقراطية، فالقول الصحيح لدى المحققين من علماء الإسلام : أن لازم المذاهب ليس بمذهب، وأنه لا يجوز أن يكفر الناس أو يفسقوا أخذًا لهم بلوازم مذاهبهم، فقد لا يلتزمون بهذه اللوازم، بل قد لا يفكرون فيها بالمرة.
تحكيم الأكثرية هل ينافي الإسلام
من الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين، على أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام : أنها تقوم على تحكيم الأكثرية، واعتبارها صاحب الحق في تنصيب الحكام، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع، فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة، أو المقيدة في بعض الأحيان، فهو الرأي النافذ، وربما كان خطأ أو باطلاً.
هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره، لموافقة الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته : أهو صواب أم خطأ؟ فإن كان صوابًا نفذ، وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن كان معه (99) من الـ(100) !(2/613)
بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائمًا في صف الباطل، وفي جانب الطاغوت.كما في مثل قوله تعالى : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام : 116)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف : 103)، وتكر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية : (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الأعراف : 187)، (بل أكثرهم لا يعقلون) (العنكبوت : 63)، (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (هود : 17)، (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (البقرة 243).
كما دلت على أن أهل الخير والصلاح هم الأقلون عددًا، كما في قوله تعالى : (وقليل من عبادي الشاكرون) (سبأ :13)، (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم). (ص : 24).
وهذا الكلام مردود على قائله وهو قائم على الغلط أو المغالطة.
فالمفروض أننا نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون .ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله.
ثم إن هناك أمورًا لا تدخل مجال التصويت، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلمًا.
فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين وما علم منه بالضرورة وإنما يكون التصويت في الأمور " الاجتهادية" التي تحتمل أكثر من رأي، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، مثل اختيار أحد المرشحين لمنصب ما، ولو كان هو منصب رئيس الدولة، ومثل إصدار قوانين لضبط حركة السير والمرور، أو لتنظيم بناء المحلات التجارية أو الصناعية أو المستشفيات، أو غير ذلك مما يدخل فيما يسميه الفقهاء " المصالح المرسلة " ومثل اتخاذ قرار بإعلان الحرب أو عدمها، وبفرض ضرائب معينة أو عدمها، وبإعلان حالة الطوارئ أو لا، وتحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تجديد انتخابه أو لا، وإلى أي حد ... إلخ(2/614)
فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، فهل تترك معلقة أو تحسم، هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أو لا بد من مرجح؟
إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح. والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد، وفي الحديث: " إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ". (رواه الترمذي في "الفتن"، عن عمر 2166، وقال: حديث حسن صحيح غريب. قال: وقد رُوي هذا من غير وجه عن عمر. رواه الحاكم (1/114) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي).
وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما". (رواه أحمد عن عبد الله بن غنم الأشعري (4/227) وفي سنده شهر بن وشب، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الإرسال والأوهام. إذ معنى ذلك أن صوتين يرجحان صوتًا واحدًا، وإن كان هو صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما دام ذلك بعيدًا عن مجال التشريع والتبليغ عن الله تعالى).
كما رأينا -صلى الله عليه وسلم- ينزل على رأي الكثرة في غزوة أحد، ويخرج للقاء المشركين خارج المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة البقاء فيها، والقتال من داخلها في الطرقات.
وأوضح من ذلك موقف عمر في قضية الستة أصحاب الشورى، الذين رشحهم للخلافة وأن يختاروا بالأغلبية واحدًا منهم، وعلى الباقي أن يسمعوا ويطيعوا، فإن كانوا ثلاثة في مواجهة ثلاثة، اختاروا مرجحًا من خارجهم وهو عبد الله بن عمر، فإن لم يقبلوه، فالثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.(2/615)
وقد ثبت في الحديث التنويه " بالسواد الأعظم" والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعني جمهور الناس وعامتهم والعدد الأكبر منهم، حديث رُوِي من طرق، بعضها قوي. (الحديث رواه الطبراني مرفوعًا عن أبي أمامة، وفيه: "إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة - أو قال: اثنتين وسبعين فرقة - وإن هذه الأمة ستزيد على هم فرقة، كلها في النار، إلا السواد الأعظم" المعجم الكبير جـ8 (8035) وذكره الهيثمي في: مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات 6/233، 234، وفي موضع آخر قال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير (7/258) ورواه الطبراني وأحمد في المسند موقوفًا على ابن أبي أوفى، قال: "يا بن جهمان عليك بالسواد الأعظم"، قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات 65/232، كما رواه ابن أبي عاصم في السنة عن ابن عمر رقم 80 بلفظ: "ما كان الله ليجمع هذه الأمة على الضلالة أبدًا، ويد الله على الجماعة، فعليكم بالسواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار" وقال الألباني: إسناده ضعيف. ورواه الحاكم بنحوه من طرق عن المعتمر بن سليمان 1/115، 116 وقال: إن المعتمر أحد أركان الحديث وأئمته فلابد أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد. ويؤيده اعتداد العلماء برأي الجمهور في الأمور الخلافية، واعتبار ذلك من أسباب ترجيحه، إذا لم يوجد مرجح يعارضه).
وقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي في بعض مؤلفاته إلى الترجيح بالكثرة عندما تتساوى وجهتا النظر. (انظر: الشورى وأثرها في الديمقراطية للدكتور عبد الحميد الأنصاري).(2/616)
وقول من قال : إن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد، وأما الخطأ فيرفض ولو كان معه (99 من المائة)، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها الشرع نصًا ثابتًا صريحًا يقطع النزاع، ولا يحتمل الخلاف، أو يقبل المعارضة وهذا قليل جدًا .. وهو الذي قيل فيه : الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
أما القضايا الاجتهادية، مما لا نص فيه، أو ما فيه نص يحتمل أكثر من تفسير، أو يوجد له معارض مثله أو أقوى منه، فلا مناص من اللجوء إلى مرجح يحسم به الخلاف والتصويت وسيلة لذلك عرفها البشر، وارتضاها العقلاء، ومنهم المسلمون، ولم يوجد في الشرع ما يمنع منها، بل وجد في النصوص والسوابق ما يؤيدها
. الاستبداد السياسي المسبب الأول لما أصاب الأمة قديمًا وحديثا
إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول "الخلافة الراشدة "إلى مُلك عضوض" سماه بعض الصحابة "كسروية" أو "قيصرية" أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها، وكان عليهم أن يتخذوا منهم عبرة، وأن يجتنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سببًا في زوال دولتهم.
وما أصاب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جراء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عطلت الشريعة، ولا فرضت العلمانية، وألزم الناس بالتغريب إلا بالقهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ولم تضرب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم ينكل بدعاتها وأبنائها، ويشرد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حينا، والمقنع أحيانًا بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي تأمره القوى المعادية للإسلام جهرًا، أو توجهه من وراء ستار
الحرية السياسية أول ما نحتاج إليه(2/617)
لم ينتعش الإسلام، ولم تنتشر دعوته، ولم تبرز صحوته، وتعل صيحته، إلا من خلال ما يتاح له من حرية محدودة، يجد فيها الفرصة ليتجاوب مع فطر الناس التي تترقبه، وليُسمِعَ الآذان التي طال شوقها إليه، وليقنعَ العقول التي تهفو إليه.
إن المعركة الأولى للدعوة الإسلامية والصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية في عصرنا هي معركة الحرية، فيجب على كل الغيورين على الإسلام أن يقفوا صفًا واحدًا للدعوة إليها، والدفاع عنها، فلا غنى عنها ولا بديل لها.
ويهمني أن أؤكد أنني لست من المولعين باستخدام الكلمات الأجنبية الأصل "كالديمقراطية ونحوها" للتعبير عن معان إسلامية.
ولكن إذا شاع المصطلح واستخدمه الناس، فلن نُصِمَّ سمعنا عنه، بل علينا أن نعرف المراد منه إذا أطلق، حتى لا نفهمه على غير حقيقته، أو نحمله ما لا يحتمله، أو ما لا يريده الناطقون به، والمتحدثون عنه، وهنا يكون حكمنا عليه حكمًا سليمًا متزنًا، ولا يضيرنا أن اللفظ جاء من عند غيرنا، فإن مدار الحكم ليس على الأسماء والعناوين، بل على المسميات والمضامين.
على أن كثيرًا من الدعاة والكتاب استخدموا كلمة "الديمقراطية" ولم يجدوا بأسًا في استعمالها، وكتب الأستاذ عباس العقاد ـ رحمه الله ـ كتابًا سماه "الديمقراطية الإسلامية" وبالغ الأستاذ خالد محمد خالد حين اعتبر الديمقراطية هي الإسلام ذاته.
وقد عقبنا على ذلك في كتابنا : "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي" فليرجع إليه.
وكثير من الإسلاميين يطالبون بالديمقراطية شكلاً للحكم، وضمانًا للحريات، وصمامًا للأمان من طغيان الحاكم، على أن تكون ديمقراطية حقيقية تمثل إرادة الأمة، لا إرادة الحاكم الفرد وجماعته المنتفعين به.فليس يكفي رفع شعار الديمقراطية في حين تزهق روحها، بالسجون تفتح، وبالسياط تُلهب، وبأحكام الطوارئ تلاحق كل ذي رأي حر، وكل من يقول للحاكم : لم ؟ بله أن يقول : لا.(2/618)
وأنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة، والمنضبطة، لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعو إلى الله وإلى الإسلام، كما نؤمن به، دون أن يزج بنا في ظلمات المعتقلات، أو تنصب لنا أعواد المشانق.
الشورى ملزمة وليست مجرد معلمة
بقى أن أذكر أن بعض العلماء، لا زالوا يقولون إلى اليوم : إن الشورى معلمة لا ملزمة، وأن على الحاكم أن يستشير، وليس عليه أن يلتزم برأي أهل الشورى ـ أهل الحل والعقد.
وقد رددت على هذا في مقام آخر، مبينًا أن الشورى لا معنى لها، إذا كان الحاكم يستشير ثم يفعل ما يحلو له، وما تزينّه له بطانته، ضاربًا برأي أهل الشورى عرض الحائط، وكيف يسمَّى هؤلاء "أهل الحل والعقد" كما عرفوا في تراثنا، وهم في الواقع لا يحلون ولا يعقدون ؟ !
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن العزم في قوله تعالى : (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) (آل عمران: 159) فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم.
وإذا كان في المسألة رأيان، فإن ما أصاب أمتنا ـ ولا يزال يصيبها إلى اليوم ـ من وراء الاستبداد، يؤيد الرأي القائل بإلزامية الشورى.
ومهما يكن من خلاف، فإذا رأت الأمة أو جماعة منها أن تأخذ برأي الإلزام في الشورى، فإن الخلاف يرتفع، ويصبح الالتزام بما اتفق عليه واجبًا شرعًا، فإن المسلمين عند شروطهم، فإذا اختير رئيس أو أمير على هذا الأساس وهذا الشرط، فلا يجوز له أن ينقض هذا العقد، ويأخذ بالرأي الآخر، فإن المسلمين على شروطهم، والوفاء بالعهد فريضة.
وحين عرض على سيدنا على ـ رضي الله عنه ـ أن يبايعوه على الكتاب والسنة وعمل الشيخين ـ أبي بكر وعمر ـ قبله، رفض هذا ـ أعني الالتزام بعمل الشيخين ـ لأنه إذا قبله يجب أن يلتزم به.(2/619)
وبهذا تقترب الشورى الإسلامية من روح الديمقراطية، وإن شئت قلت: يقترب جوهر الديمقراطية من روح الشورى الإسلامية.
والحمد لله رب العالمين.
تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية
سؤال عن مدى مشروعية تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية
س : تدور أحاديث ومناقشات كثيرة في جلسات خاصة، وندوات عامة، بين الإسلاميين بعضهم وبعض، وبينهم وبين غيرهم من الفئات الأخرى.
فقد اشتهر بين بعض الفصائل الإسلامية أن الإسلام يوجب الوحدة، ويمنع التفرق والاختلاف، وتعدد الأحزاب لا يأتي من ورائه إلا اختلاف الكلمة، وتفرق الأمة.
وقد ذكر الإمام الشهيد حسن البنا: أن لا حزبية في الإسلام، وبهذا تمسك الكثيرون في رفضهم لفكر التعدد. ولهم في ذلك شبهات يذكرونها، وأدلة يسوقونها.
فما هو رأي فضيلتكم في هذا الموضوع الذي يثار اليوم في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وخصوصًا في الأقطار التي تتيح الفرصة للتعددية السياسية وفتاوى بالديمقراطية، فهم يقولون: القوى الإسلامية تنادي بالحرية والتعدد حتى إذا قبضت على زمام الحكم. انفردت هي بالديمقراطية، وألغت كل ما سواها، واعتبرت نفسها هي الحق الذي لا يحتمل الباطل وغيرها هو الباطل الذي لا يحتمل الحق.
فبينوا لنا الموقف الشرعي في ذلك مؤيدًا بالأدلة، جزاكم الله خيرًا وأيدكم بروح من عنده.
جواز تعدد الأحزاب داخل الدولة الإسلامية
جـ : رأيي الذي أعلنته من سنين في محاضرات عامة، ولقاءات خاصة: أنه لا يوجد مانع شرعي من وجود أكثر من حزب سياسي داخل الدولة الإسلامية، إذ المنع الشرعي يحتاج إلى نص ولا نص.
بل إن هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر؛ لأنه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم، وتسلطها على سائر الناس، وتحكمها في رقاب الآخرين، وفقدان أي قوة تستطيع أن تقول لها: لا، أو: لم ؟ كما دل على ذلك قراءة التاريخ، واستقراء الواقع.
كل ما يشترط لتكتسب هذه الأحزاب شرعية وجودها أمران أساسيان:(2/620)
1ـ أن تعترف بالإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ ولا تعاديه أو تتنكر له، وإن كان لها اجتهاد خاص في فهمه، في ضوء الأصول العلمية المقررة.
2ـ ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولأمته، أيًا كان اسمها وموقعها.
فلا يجوز أن ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينية، أو يطعن في الأديان السماوية عامة، أو في الإسلام خاصة، أو يستخف بمقدسات الإسلام: عقيدته أو شريعته أو قرآنه، أو نبيه عليه الصلاة والسلام.
واجب النصح والتقويم للحاكم
ذلك أن من حق الناس في الإسلام ـ بل من واجبهم ـ أن ينصحوا للحاكم، ويقوموه إذا اعوج، ويأمروه بالمعروف، وينهوه عن المنكر، فهو واحد من المسلمين، ليس أكبر من أن يُنصح ويؤمر، وليسوا هم أصغر من أن يَنصحوا أو يأمروا.
وإذا ضيعت الأمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقدت سر تميزها، وسبب خيريتها، وأصابتها اللعنة كما أصابت من قبلها من الأمم، ممن (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة: 79).
وفي الحديث : "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم" (رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن عمرو وصححه الشيخ شاكر، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 4/96).
وفي الحديث الآخر: "إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" (رواه أبو داود في سننه من حديث أبي بكر كما رواه أحمد وأصحاب السنن وقال الترمذي: حسن صحيح).
وعندما ولي أبو بكر الخلافة قال في أول خطبة له: "أيها الناس إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني .. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
وقال عمر: "أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومني"، فقال له رجل: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا ! فقال عمر: :"الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه !".(2/621)
ولكن علمنا التاريخ، وتجارب الأمم، وواقع المسلمين: أن تقويم اعوجاج الحاكم ليس بالأمر السهل، ولا بالخطب اليسير، ولم يعد لدى الناس سيوف يقومون بها العوج، بل السيوف كلها يملكها الحاكم
تنظيم النصح والتقويم في صورة قوى سياسية
الواجب هو تنظيم هذا الأمر لتقويم عوج الحكام بطريقة غير سل السيوف، وشهر السلاح.
وقد استطاعت البشرية في عصرنا ــ بعد صراع مرير، وكفاح طويل ــ أن تصل إلى صيغة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقويم عوج السلطان، دون إراقة للدماء وتلك هي وجود "قوى سياسية" لا تقدر السلطة الحاكمة على القضاء عليها بسهولة، وهي ما يطلق عليها "الأحزاب ".
إن السلطة قد تتغلب بالقهر أو بالحيلة على فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد، ولكنها يصعب عليها أن تقهر جماعات كبيرة منظمة، لها امتدادها في الحياة وتغلغلها في الشعب، ولها منابرها وصحفها وأدواتها في التعبير والتأثير.
فإذا أردنا أن يكون لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها وقوتها وأثرها في عصرنا، فلا يكفي أن تظل فريضة فردية محدودة الأثر، محدودة القدرة، ولا بد من تطوير صورتها، بحيث تقوم بها قوة تقدر على أن تأمر وتنهى، وتنذر وتحذر، وأن تقول عندما تؤمر بمعصية: لا سمع ولا طاعة. وأن تؤلب القوى السياسية على السلطة إذا طغت، فتسقطها بغير العنف والدم.
إن تكوين هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية أصبحت وسيلة لازمة لمقاومة طغيان السلطات الحاكمة ومحاسبتها، وردها إلى سواء الصراط، أو إسقاطها ليحل غيرها محلها، وهي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة، والقيام بواجب النصيحة والأمر بالمعروف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
تصور غير صحيح للدولة الإسلامية
ربما يتصور بعض المخلصين أن الدولة التي تحكم بشرع الله، وترجع في كل أمورها إلى حكمة، لا تحتاج إلى كل هذا، فهي دولة ملتزمة وقافة عند حدود الله تعالى.(2/622)
فعلى العاملين أن يجاهدوا حتى تقوم هذه الدولة المنشودة: فإذا قامت كانت كما وصفها الله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر). (الحج : 41).
وحينئذ عليهم أن يسلموا لها الزمام، وأن يمنحوها كامل الولاء والطاعة والتأييد.
وأحب أن أقول لهؤلاء: إن "الدولة الإسلامية" ليست هي "الدولة الدينية" التي عرفت في مجتمعات أخرى، أعني: إنها دولة مدنية تحتكم إلى الشريعة، رئيسها ليس "إمامًا معصوما"، وأعضاؤها ليسوا "كهنة مقدسين" بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ويحسنون ويسيئون، ويطيعون ويعصون، وعلى الناس أن يعينوهم إذا أحسنوا، ويقوموهم إذا أساؤا، ويرفضوا أمرهم إذا أمروا بمعصية، كما قال أبو بكر رضي الله عنه في خطابه الأول، بل كما قال النبي ص: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع والطاعة". (متفق عليه عن ابن عمر).
وإذا انتفت العصمة والقداسة فكل الناس بشر، لا يؤمن أن تغرهم الحياة الدنيا ويغرهم بالله الغرور، فيستبدوا ويظلموا، وأشد أنواع الاستبداد خطرًا ما كان باسم الدين، فإذا لم توضع الضوابط، وتهيأ السبل لمنعه من الوقوع، وإزالته إذا وقع، حاق الضرر بالأمة، وأصاب شرره الدين أيضًا.
ولهذا كان إيجاد قوى منظمة تعمل في وضح النهار، وتقدر على أن تعين المحسن وتقوم المسيء، أمرًا يرحب به الشرع ويؤيده، لما وراءه من جلب المصالح ودرء المفاسد.
وأكبر الخطأ أن تظن الدولة، أو يظن بعض الموالين لها: أن الحق معها وحدها، والصواب دائمًا في جانبها، وأن من خالفها فهو على خطأ، بل على باطل.(2/623)
ولقد رأينا المعتزلة حين استقلوا بالحكم، وانفردوا بالسلطان في عهد الخليفة المأمون ابن الرشيد، وفي عهدي الواثق والمعتصم من بعده، أرادوا أن يفرضوا رأيهم على الكافة، وأن يمحوا الرأي الآخر، من خريطة الفكر، وقاوموا بالسوط والسيف رأي الفئات الأخرى، التي لا ترى رأيهم في القضية الكبرى التي أثاروها والمعروفة في تاريخ العقيدة والفكر باسم قضية "خلق القرآن".
وكانت محنة عنيفة شديدة العنف، أوذي فيها رجال كبار، وأئمة عظام، على رأسهم الإمام التقي الورع أحمد بن حنبل.
وسجل التاريخ على القوم الذين زعموا أنهم أهل العقل وأحرار الفكر، هذه الجريمة المخزية التي يندى لها الجبين، وهي: جريمة اضطهاد المعارضين في الرأي، إلى حد السجن والضرب والتعذيب، ولو كانوا من كبار العلماء.
تعدد الأحزاب كتعدد المذاهب في الفقه:
وعندما نجيز مبدأ التعدد الحزبي داخل الدولة الإسلامية، فليس معناه أن تتعدد الأحزاب، والتجمعات بتعدد أشخاص معينين، يختلفون على أغراض ذاتية، أو مصالح شخصية، فهذا حزب فلان، وذاك حزب علان، وآخر حزب هيان بن بيان. جمعوا الناس على ذواتهم، وأداروهم في أفلاكهم.
ومثل ذلك التعدد المبني على أساس عنصري، أو إقليمي، أو طبقي، أو غير ذلك من إفرازات العصبية، التي يبرأ منها الإسلام.
إنما التعدد المشروع هو تعدد الأفكار والمناهج والسياسات يطرحها كل فريق مؤيدة بالحجج والأسانيد، فيناصرها من يؤمن بها، ولا يرى الإصلاح إلا من خلالها.
وتعدد الأحزاب في مجال السياسة أشبه شيء بتعدد المذاهب في مجال الفقه.(2/624)
إن المذهب الفقهي هو مدرسة فكرية لها أصولها الخاصة في فهم الشريعة، والاستنباط من أدلتها التفصيلية في ضوئها، وأتباع المذهب هم في الأصل تلاميذ في هذه المدرسة يؤمنون بأنها أدنى إلى الصواب من غيرها، وأهدى سبيلاً، فهم أشبه بحزب فكري التقى أصحابه على هذه الأصول، ونصروها بحكم اعتقادهم أنها أرجح وأولى، وإن كان ذلك لا يعني بطلان ما عداها.
ومثل ذلك الحزب: أنه مذهب في السياسة، له فلسفته وأصوله ومناهجه المستمدة أساسًا من الإسلام الرحب. وأعضاء الحزب أشبه باتباع المذهب الفقهي، كل يؤيد ما يراه أولى بالصواب، وأحق بالترجيح.
قد تلتقي مجموعة من الناس على أن الشورى ملزمة، وأن الخليفة أو رئيس الدولة ينتخب انتخابًا عامًا، وأن مدة رئاسته محددة ثم يعاد انتخابه مرة أخرى، وأن أهل الشورى هم الذين يرضاهم الناس عن طريق الانتخاب، وأن للمرأة حق الانتخاب وحق الترشيح للمجلس، وأن للدولة حق التدخل لتسعير السلع، وإيجار الأرض والعقار وأجور العاملين، وأرباح التجار، وأن الأرض تستغل بطريق المزارعة لا بطريق المؤاجرة، وأن في المال حقوقًا سوى الزكاة، وأن الأصل في العلاقات الخارجية السلم، وأن أهل الذمة يعفون من الجزية إذا أدّوا الخدمة العسكرية وهي ما يقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلم .. إلخ.
وقد تلتقي مجموعة أخرى من "المحافظين" يعارضون أولئك "المجددين" أو أدعياء التجديد في نظرهم، فيرون الشورى معلمة لا ملزمة، وأن رئيس الدولة يختاره أهل الحل والعقد، ويختار مدى الحياة، وأن الانتخاب ليس وسيلة شرعية، والمرأة ليس لها حق الترشيح ولا حق التصويت، وأن الاقتصاد حر، والملكية مطلقة، وأن الأصل في العلاقات الخارجية هو الحرب، وأن الخليفة أو الرئيس هو صاحب الحق في إعلان الحرب أو قبول السلم، وغير ذلك من الأفكار والمفاهيم التي تشمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها.(2/625)
وقد توجد مجموعة أخرى لا هي مع هؤلاء ولا مع أولئك، بل توافق هؤلاء في أشياء وأولئك في أشياء.
فإذا انتصرت فئة من هذه الفئات، وأصبحت مقاليد السلطة بيدها، فهل تلغى الفئات الأخرى من الوجود، وتهيل على أفكارها التراب، لمجرد أنها صاحبة السلطان ؟
هل الاستيلاء على السلطة هو الذي يعطي الأفكار حق البقاء ؟ والحرمان من السلطة يقضى عليها بالفناء ؟
إن النظر الصحيح يقول : لا، فمن حق كل فكرة أن تعبر عن نفسها ما دام معها اعتبار وجيه يسندها، ولها أنصار يؤيدونها.
أما ما ننكره في ميدان السياسة فهو ما ننكره في ميدان الفقه: التقليد الغبي والعصبية العمياء، وإضفاء القداسة على بعض الزعامات كأنهم أنبياء، وهذا هو منبع الوبال والخبال
.
التعدد والاختلاف:
ومن الشبهات التي أثيرت هنا : أن مبدأ "التعدد" أو "التعددية" ــ كما هو المصطلح السائد ــ يتنافى مع الوحدة التي يفرضها الإسلام، ويعتبرها صنو الإيمان كما يعتبر الاختلاف أو التفرق أخا للكفر والجاهلية.
وقد قال تعالى: (واعتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جميعًا ولا تفرقوا) (آل عمران: 103). وقال: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم). (آل عمران: 105).
وفي الحديث : "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا". (متفق عليه).
وأود أن أنبه هنا على حقيقة مهمة، وهي أن التعدد لا يعني بالضرورة التفرق، كما أن بعض الاختلاف ليس ممقوتًا، مثل الاختلاف في الرأي نتيجة الاختلاف في الاجتهاد ؛ ولهذا اختلف الصحابة في مسائل فرعية كثيرة، ولم يضرهم ذلك شيئًا.. بل اختلفوا في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض القضايا مثل اختلافهم في صلاة العصر في طريقهم إلى بني قريظة.. وهي قضية مشهورة، ولم يوجه الرسول الكريم لومًا إلى أي من الفريقين المختلفين.(2/626)
وقد اعتبر بعضهم هذا النوع من الاختلاف من باب الرحمة التي وسع بها على الأمة وفيها ورد الأثر "اختلاف أمتي رحمة" وفيه ألف كتاب "رحمة الأمة باختلاف الأئمة".
ونقلوا عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه لم يكن يود أن الصحابة لم يختلفوا؛ لأن اختلافهم فتح باب السعة والمرونة واليسر للأئمة، بتعدد المشارب وتنوع المنازع.
وبعضهم جعل اختلاف الرحمة يتمثل في اختلاف الناس في علومهم وصناعاتهم، وبذلك تسد الثغرات وتلبي الحاجات المتعددة والمتنوعة للجماعات.
والقرآن يعتبر اختلاف الألسنة والألوان آية من آيات الله تعالى في خلقه، يعقلها العالمون منهم: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين). (الروم: 22).
فليس كل الاختلاف شرًا، بل الاختلاف قسمان : اختلاف تنوع، واختلاف تضاد، والأول محمود، والآخر مذموم. (انظر في ذلك: كتابي "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم"، ط. دار الوفاء).
تعدد الجماعات العاملة للإسلام
لطالما ذكرت في كتبي ومحاضراتي أنه لا مانع أن تتعدد الجماعات العاملة للإسلام ما دامت الوحدة متعذرة عليهم بحكم اختلاف أهدافهم واختلاف مناهجهم، واختلاف مفاهيمهم، واختلاف ثقتهم بعضهم ببعض.
على أن يكون هذا التعدد تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تعارض وتناقض، يقف الجميع صفًا واحدًا في كل القضايا المصيرية التي تتعلق بالوجود الإسلامي وبالعقيدة الإسلامية وبالشريعة الإسلامية، وبالأمة الإسلامية.
وعلى أية حال يكون حسن الظن والتماس العذر فضيلة يتصف بها جميع الأطراف فلا تأثيم ولا تضليل ولا تكفير.. بل تواصي بالحق، وتواصي بالصبر، وتناصح في الدين، مع التزام الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.(2/627)
ومثل هذا التعدد أو الاختلاف ـ اختلاف التنوع ـ لا يؤدي إلى تفرق ولا عداوة، ولا يلبس الأمة شيعًا، ويذيق بعضها بأس بعض، بل هو تعدد واختلاف في ظل الأمة الواحدة، ذات العقيدة الواشجة. فلا خوف منه، ولا خطر فيه، بل هو ظاهرة صحية.
نقول هذا قبل قيام الدولة الإسلامية، ونقوله بعد قيام الدولة الإسلامية، فهي دولة لا تضيق بالخلاف ذرعًا، ولا تحكم بالإعدام على كل الأفكار التي تبنتها قبلها جماعات قبلها ؛ لأن الأفكار لا تموت ولا تقبل حكم الإعدام، ما لم تمت هي من نفسها بظهور أفكار أقوى منها.
التعدد مبدأ مستورد! :
من الشبهات التي تثار هنا أيضًا : ما يقال : إن التعدد الحزبي مبدأ مستورد من الديمقراطية الغربية، وليس مبدأ إسلاميًا أصيلا نابعًا منا، وصادرًا عنا، وقد نهينا أن نتشبه بغيرنا، ونفقد ذاتيتنا "ومن تشبه بقوم فهو منهم".
والواجب أن يكون لنا استقلالنا الفكري والسياسي، فلا نتبع سنن غيرنا شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع.
ونحن نقول : إن الذي نهينا عنه، وحذرنا منه، هو : التقليد الأعمى لغيرنا بحيث نغدو مجرد ذيول تَتبع ولا تُتبع، وتمضي خلف غيرها في كل شيء "حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه".
والتشبه الممنوع هو ما كان تشبها فيما هو من علامات تميزهم الديني كلبس الصليب للنصارى، والزنار للمجوس، ونحو ذلك، مما يدخل صاحبه في زمرة المتشبه بهم، ويحيله كأنه واحد منهم.
أما الاقتباس منهم فيما عدا ذلك مما هو من شؤون الحياة المتطورة فلا حرج فيه، ولا جناح على من فعله، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.
وقد حفر الرسول -صلى الله عليه وسلم- خندقًا حول المدينة، ولم تكن مكيدة تعرفها العرب، إنما هي من أساليب الفرس، أشار بها سلمان رضي الله عنه.
واتخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا يختم به كتبه، حين قيل له : إن الملوك لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختومًا.
واقتبس عمر نظام الخراج، ونظام الديوان.(2/628)
واقتبس معاوية نظام البريد.
واقتبس من بعده أنظمة مختلفة.
وعلى هذا لا غضاضة ولا حرج من اقتباس مبدأ التعدد الحزبي من الديمقراطية الغربية بشرطين.
أولهما : أن نجد في ذلك مصلحة حقيقية لنا، ولا يضرنا أن نخشى من بعض المفاسد من جرائه، المهم أن يكون نفعه أكبر من ضرره، فإن مبنى الشريعة على اعتبار المصالح الخالصة أو الغالبة، وعلى إلغاء المفاسد الخالصة أو الراجحة.. وقوله تعالى في الخمر والميسر : (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) (البقرة: 291) أصل في هذا الباب.
وثانيهما : أن نعدل ونطور فيما نقتبسه، حتى يتفق مع قيمنا الدينية ومثلنا الأخلاقية، وأحكامنا الشرعية، وتقاليدنا المرعية.
ولا يجبرنا أحد أن نأخذ النظام بحذافيره وتفاصيله، ومنها : التعصب للحزب بالحق وبالباطل، ونصرته ظالمًا ومظلومًا، على ظاهر ما كان يقوله العرب في الجاهلية : "انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما" قبل أن يعدل الرسول عليه الصلاة والسلام مفهومها لهم، ويفسرها تفسيرًا يجعل لها معنى آخر، فنصره ظالمًا بأن تأخذ فوق يديه، وتمنعه من الظلم، فبذلك تنصره على هوى نفسه، ووسوسة شيطانه
.
لمن الولاء:
من الشبهات التي أثيرت كذلك : ما قيل من أن وجود أحزاب داخل الدولة الإسلامية يقسم ولاء الفرد بين حزبه الذي ينتمي إليه، ودولته التي بايعها على السمع والطاعة والنصرة والمعونة.
هذا صحيح إذا كان الفرد سيتخذ موقف المعارضة للدولة في كل شيء والتأييد لحزبه في كل شيء.. وهذا ما لا نقول به.
إن ولاء المسلم إنما هو لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين، كما قال تعالى : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون). (المائدة: 55،56).(2/629)
وانتماء الفرد المسلم إلى قبيلة أو إقليم، أو جمعية، أو نقابة، أو اتحاد أو حزب ـ لا ينافي انتماءه للدولة وولاءه لها.
فإن هذه الولاءات والانتماءات كلها مشدودة إلى أصل واحد هو الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والمحظور كل المحظور هو اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين : (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا) (النساء: 139)، (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء). (الممتحنة: 1).
وإذا كان النمط الحزبي المعهود هو تأييد الفرد لحزبه في مواقفه، وإن اعتقد أنه مبطل بيقين، ومعارضة الدولة وإن اعتقد أنها على حق، فهذا ما لا نقره ولا ندعو إليه، وما ينبغي تعديله إلى صيغة تتفق وقيم الإسلام وأحكامه وآدابه
الإمام على يقر وجود حزب الخوارج:
إذا رجعنا إلى تراثنا الخصب، وإلى سنته الراشدين خاصة ـ وهم الذين أمرنا أن نتبع سنتهم ونعض عليها بالنواجذ ـ نجد أن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه سمح بوجود حزب مخالف له في سياسته ومنهجه إلى حد انتهى به إلى اتهامه بالكفر والمروق، وهو ابن الإسلام البكر، ولم يكتفوا بهذا الموقف النظري الفكري، فسلوا عليه السيوف، وأعلنوا عليه الحرب، واستحلوا دمه ودم من ناصره، بدعوى أنه حكم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله بنص القرآن الكريم : (إن الحكم إلا لله). (يوسف: 40).
وحين سمع الإمام على رضي الله عنه هذه الكلمة، رد عليهم بجملته التي أصبحت مثلاً يرويه التاريخ، وذلك قوله : كلمة حق يراد بها باطل!.
ومع هذا لم يلغ وجودهم، ولم يأمر بمطاردتهم وملاحقتهم، حتى لا يبقى لهم أثر، بل قال لهم في صراحة وجلاء: لكم علينا ثلاث : ألا نمنعكم مساجد الله، ولا نحرمكم من الفيء ما دامت أيديكم في أيدينا، ولا نبدأكم بقتال.
هذا وهم الخوارج، الذين يمثلون المعارضة المسلحة، والقوة التي بلغت بها الشجاعة حد التهور.
حسن البنا والأحزاب(2/630)
أنا أعلم أن الإمام الشهيد حسن البنا، أنكر قيام الحزبية وتعدد الأحزاب في الإسلام.
وهو اجتهاد منه رضي اللّه عنه، لما رآه في زمنه من حزبية فرقت الأمة في مواجهة عدوها، وهي أحزاب اجتمعت على أشخاص لا على أهداف واضحة، ومناهج محددة، وقد قال عن رجال الأحزاب، وزعمائها في بعض رسائله: إن المستعمر يفرقهم بعضهم عن بعض، ويجمعهم عليه، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره!.
ولا بأس أن يخالف اجتهاد إمامنا رحمه اللّه، فهو لم يحجز على من بعده أن يجتهدوا كما اجتهد، وخصوصًا إذا تغيرت الظروف وتطورت الأوضاع والأفكار. ولعله لو عاش إلى اليوم لرأى ما رأينا، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال. ولا سيما في أمور السياسة الكثيرة التغيير.
والعارفون بحسن البنا يعلمون أنه لم يكن جامدًا ولا متحجرًا، بل كان يتطور، ويطور أفكاره وسياسته، وفقًا لما يتبين له من الأدلة والاعتبارات.
والعلمانيون يصورون الدولة الإسلامية المبتغاة بأنها الدولة التي لا تسمح بصوت يرتفع، أو برأي يعارض، أو بجماعة تقول: لم؟ بلهَ: لا!
والواقع ينطق بأن في الساحة قوى مختلفة، وجماعات متعددة، تنطلق من الإقرار بالإسلام، والانقياد له، ولكنها مختلفة الرؤى والمفاهيم والبرامج والخطط، فإذا قدر لبعضها أن يمتلك زمام السلطة بوسيلة أو بأخرى، فهل يأذن لسائر الجماعات والقوى بالبقاء والاستمرار أم يقضى عليها بأن تختفي من المسرح، وتتوارى إلى الأبد؟
إن الأرشد والأوفق أن تظل هذه القوى في الساحة داعية موجهة، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، ناصحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
تعدد الأحزاب قبل قيام الدولة(2/631)
إن كان تعدد الأحزاب والقوى السياسية مشروعًا في ظل الدولة الإسلامية، الملتزمة بأحكام الإسلام، فمن باب أولى أن يكون تعدد الجماعات والأحزاب مشروعًا قبل قيام دولة الإسلام، فلا مانع أن يوجد في ساحة العمل الإسلامي أكثر من جماعة تسعى لإقامة المجتمع المسلم، والدولة المسلمة، وتجاهد في سبيل الله بكل وسيلة مشروعة.
فتوى جريئة في تحريم تكوين الجماعات لنصرة الإسلام
مما يجب التنبيه عليه، ولا يحسن السكوت عنه هنا: ما يشيعه بعض الأفراد وبعض الفئات التي تحمل النسب الإسلامي، من أفكار تتعلق بهذا الجانب.
ومن ذلك ما صدر لبعضهم من حكم أو فتوى تجعل أي تكوين لجماعة، أو انتساب إليها عملا محرمًا، وابتداعًا في الدين لم يأذن به الله، سواء سميت هذه المؤسسة جماعة أو جمعية أو حزبًا، أو ما شئت من الأسماء والعناوين.
وهذه جرأة غريبة على دين الله، وتهجم على الشرع بغير بينة، وتحريم لما أحل الله بغير سلطان. فالأصل في الأشياء والتصرفات المتعلقة بعادات الناس ومعاملاتهم الإباحة. وتكوين الجماعات العاملة للإسلام منها.
بل الصواب أن تكوين هذه الجماعات مما توجبه نصوص الشرع العامة، وقواعده الكلية.فالله تعالى يقول : (وتعاونوا على البر والتقوى) (المائدة: 2)، ويقول : (واعتصموا بحبل اللّه جميعًا ولا تفرقوا). (آل عمران: 103).
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" (متفق عليه عن أبي موسى. ورواه أيضًا الترمذي والنسائي كما في صحيح الجامع الصغير 6654)، "يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار". (رواه الترمذي في سننه من حديث ابن عمر).(2/632)
والقاعدة الفقهية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ومن المؤكد أن خدمة الإسلام في هذا العصر، والمحافظة على كيان أمته، والعمل لإقامة دولته، لا يمكن أن يتم بجهود فردية متناثرة هنا وهناك، بل لا بد من عمل جماعي يضم القوى المتشتتة، والجهود المبعثرة والطاقات المعطلة، ويجند الجميع في صف منتظم، يعرف هدفه، ويحدد طريقه.
يؤكد هذا أن القوى المعادية للإسلام، والتي تعمل لأهداف أخرى، لا تعمل متفرقة، بل في صورة كتل قوية ومؤسسات جماعية كبرى، تملك أضخم القوى المادية والبشرية.
فكيف نواجهها فرادى متفرقين، والمعركة تقتضي رص الجميع في صف واحد، كما قال الله تعالى:(إن اللّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صَفّا كأنهم بُنْيان مرصوص). (الصف: 4).
إن العمل الجماعي لنصرة الإسلام، وتحرير أرضه، وتوحيد أمته، وإعلاء كلمته فريضة وضرورة. فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، والعمل الجماعي يعني تكوين جماعات أو أحزاب تقوم بهذا الواجب.
جماعات من المسلمين لا جماعة المسلمين
هناك على النقيض من هذه الفكرة فكرة أخرى: ترى العمل الجماعي فريضة، وتحصر هذه الفريضة في جماعة معينة ترى أنها وحدها تمثل الحق الخالص، وما سواها هو الباطل: (فماذا بعد الحق إلا الضلال). (يونس: 32).
وبعبارة أخرى تصف هذه الفئة نفسها بأنها "جماعة المسلمين"، وليست مجرد "جماعة من المسلمين" وما دامت هي جماعة المسلمين فكل من فارقها فقد فارق الجماعة، وكل من لم يدخل فيها، فليس في جماعة المسلمين!
وكل ما جاء من أحاديث عن (الجماعة) ولزوم "الجماعة"، ومفارقة "الجماعة" تنزل على جماعتها.
وهذا النوع من الاستدلال، وتنزيل النصوص على غير ما جاءت له، باب شر على الأمة؛ لأنه يضع الأدلة في غير مواضعها.
ومن هؤلاء من يجعل الحق مع جماعته أو حزبه دون غيره، لمبررات موضوعية يسبغها على حزبه أو جماعته وحدها، وينفيها عمن سواها.(2/633)
وكثيرًا ما يضع بعضهم أوصافًا فكرية وعملية، عقدية وخلقية، يحدد بها "جماعة الحق" أو "حزب الحق" لتنطبق على جماعته دون غيرها، وهذا نوع من التكلف والتعسف لا يقبله منطق العلم.
وثمت آخرون يجعلون التقدم الزمني هو المعيار الأوحد، فمن سبق غيره فهو الجدير بأن يكون هو صاحب الحق، أو محتكر الحق والحقيقة.
حتى زعم بعض الأحزاب في بعض البلاد الإسلامية أنه وحده يمثل الحق؛ لأنه الحزب الأول الذي أخذ زمام المبادرة، وكل حزب يشكل بعد ذلك يجب أن يلغي نفسه، ولا حق له في البقاء؛ لأن قبول الجماهير له بمثابة المبايعة له، وفي الحديث: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما". (رواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد كما في صحيح الجامع الصغير 421).
إن هذه الفتاوى الجاهلة الجريئة من أناس لم ترسخ أقدامهم في علوم الشريعة. هي التي تورد الأمة شر الموارد، وتوقعها في شر المهالك. ولقد قال بعض الفقهاء في العصور الماضية حين رأى فتاوى بعض من ينتسبون إلى العلم: لبعض من يفتي الناس اليوم أحق بالسجن من السرّاق! وذلك لأن السراق يفسدون دنيا الناس، وهؤلاء يفسدون عليهم دينهم.
فكيف لو رأى أولئك الفقهاء ما تقرؤه أو نسمع من فتاوى زماننا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سماحة الإسلام وعدله
مع غير المسلمين
س : من المعروف لدى المتدينين عامة، بأي دين كان، أن كل دين يطلب من أتباعه الاعتزاز به، والولاء له، والمودة لكل من آمن به، والكفر بكل ما سواه، واعتقاد أنه وحده على الحق، وكل ما سواه هو الباطل، والإسلام أحد هذه الأديان ولا شك.
وربما زاد هذا الأمر حدة عند بعض المتدينين، فانتهت به غيرته على دينه إلى معاداة كل المخالفين له، وإضمار الكراهية لهم، والحقد عليهم، بل قد يتفاقم ذلك إلى حد الاعتقاد باستباحة أموالهم ودمائهم، ولا يرى في ذلك إثمًا ولا حرجًا، بل قد يظن أنه يتقرب بذلك إلى الله تعالى!!.(2/634)
وهذا ـ ولا ريب ـ أمر في غاية الخطورة عندما يكون المخالفون أخوة في الوطن وجزءًا من شعب واحد يضم المسلمين وغير المسلمين، فهنا يتمزق الصف، وتتفرق الكلمة، ويتعامل الجميع من خلال سوء الظن والخوف، ويزداد الأمر سوءًا وشرًا إذا تنبهت لذلك القوى الأجنبية الماكرة، فزادت من أسباب الفرقة ونفخت في الجمرة حتى توقد وتحرق الجميع وهي تتفرج.
لهذا نرجو من فضيلتكم إلقاء الضوء على هذه القضية، وبيان موقف الإسلام من غير المسلمين وخصوصًا إذا كانوا أقلية في وسط أكثرية مسلمة، وذلك حتى لا يساء فهم الإسلام، أو يظلم بتصرفات بعض أبنائه، الذين لم يحسنوا فقهه ولا العمل به.
نفع الله بكم، وزادكم توفيقًا.
ى.ع.ل
جـ : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد.
فهذه القضية ــ موقف الإسلام من غير المسلمين ــ من أهم القضايا التي يجب أن توضح فيها الحقائق، وتزال الشبهات، وتصحح الأفهام، من أهل العلم الراسخ، حتى لا ينسب إلى الإسلام ما هو براء منه، وحتى لا يقع بعض أبنائه في أخطاء أو انحرافات يرفضها الإسلام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وقد كتبت في ذلك كتابًا نشر في عدة أقطار، وطبع عدة مرات، وترجم إلى عدة لغات، وهو: "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ".
حقائق يجب التنبيه عليها:
وخلاصة ما يحسن قوله هنا ـ قبل بيان موقف الإسلام ـ نركزه في الحقائق التالية:
أولا : لا يجوز أن تحمل تصرفات بعض المسلمين ـ ممن ضاق أفقهم أو ساءت تربيتهم ـ على الإسلام.. فمن المقطوع به: أن الإسلام حجة على المسلمين. وليس المسلمون حجة على الإسلام.. وكم ابتلي الإسلام بأناس ينسبون إليه، ويحسبون عليه، ولكنهم يؤذونه بسلوكهم أكثر مما يؤذيه أعداؤه الذين يكيدون له خفية، أو يقاتلونه جهرة. وقديمًا قالوا: عدو عاقل خير من صديق أحمق. وقال الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها(2/635)
ثانيًا : إن هؤلاء الجهال والحمقى ممن يتعصبون ضد مخالفيهم في الدين، ويسيئون التعامل معهم بلا مبرر، وينتهي ببعضهم الغلو إلى استباحة أموالهم أو دمائهم، هؤلاء لم يسلم من أذاهم أيضًا إخوانهم في الدين من المسلمين، بل هم يبدأون بالتطاول عليهم، والاتهام لهم في إيمانهم وتدينهم، إلى حد قد ينتهي بتكفيرهم وإخراجهم من الملة والتقرب إلى الله باستباحة حرماتهم، وهذا ما يفعله الغلو والتنطع بأهله. وهذا ما رأيناه في الخوارج قديمًا، ولمسناه في خلفائهم حديثًا، ومبعث ذلك هو الغرور الخفي، والعجب القاتل، الذي يجعل صاحبه ينظر إلى نفسه أنه مَلَك، وأن الآخرين كلهم شياطين. والإعجاب بالنفس أحد المهلكات.
ثالثا: إن هذا التعصب الذي نراه ونلمسه عند بعض المتدينين، كثيرًا ما تكون أسبابه غير دينية، وإن لبس لبوس الدين، بل قد تكون أسبابه ـ عند الدراسة والتعمق ـ أسبابًا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، ولهذا تراه يظهر في بعض المناطق دون بعض؛ لأن الظروف الاجتماعية بملابساتها وتعقيداتها الموروثة، هي التي بذرت هذه البذرة وساعدت على نموها، فمن الظلم للحقيقة أن يتهم الدين بأنه وراء هذه السلوكيات المتطرفة.
رابعا: إن بعض ما نراه من التعصب لدى بعض المسلمين، قد يكون رد فعل لتعصب آخر من إخوانهم ومواطنيهم من غير المسلمين، وليس من الإنصاف أن نتهم الأكثرية دائمًا بالتعصب ضد الأقلية، فكثيرًا ما تندفع الأقلية أو أفراد منها تحت تأثير مشاعر الخوف ـ وإن لم يكن له أصل ـ والشائعات والمبالغات إلى تصرفات تتسم ـ أو تفسرـ بالكيد للأغلبية، وفي هذا الجو الذي تتزلزل فيه الثقة بين عناصر الوطن الواحد، تروج الشائعات، وتصبح الحبة قبة، ولا يجرؤ أحد على مواجهة الأمر بصراحة، وعلاجه من جذوره.
موقف الإسلام من غير المسلمين :(2/636)
في ضوء هذه الحقائق التي لا ينبغي أن تغفل أود أن أبين بإيجاز موقف الإسلام من المخالفين ـ أو من غير المسلمين من أصحاب الأديان الأخرى:
من المعروف: أن أصحاب الأديان المخالفة للإسلام صنفان:
1ـ صنف هم أصحاب الديانات الوثنية أو الوضعية. مثل: المشركين عباد الأوثان، والمجوس عباد النار، والصابئين عباد الكواكب.
2ـ وصنف هم أصحاب الديانات السماوية أو الكتابية، وهم الذين لهم دين سماوي في الأصل، ولهم كتاب منزل من عند الله كاليهود والنصارى، وهم الذين يسميهم القرآن "أهل الكتاب" تلطفًا بهم، وإيناسًا لهم:
وهؤلاء الكتابيون لهم معاملة متميزة في الإسلام. فقد أباح مؤاكلتهم واعتبر طعامهم حلالاً طيبًا، كما أباح مصاهرتهم والتزوج منهم، كما قال تعالى في سورة المائدة : (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ...). (المائدة: 5).
والمصاهرة أحد الرابطين الأساسيين اللذين يربطان البشر بعضهم ببعض. كما قال تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا). (الفرقان: 54).
كما أن الزواج في نظر الإسلام يقوم على السكون والمودة والرحمة، وهي دعائم الحياة الزوجية في القرآن: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). (الروم: 21).
ومعنى زواج المسلم من كتابية أن يكون أصهاره وأجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم من أهل الكتاب، وهؤلاء لهم حقوق صلة الرحم وذوي القربى التي يفرضها الإسلام.
ولا نجد في السماحة مع المخالف في الدين أرحب ولا أعلى من هذا الأفق الذي وجدناه في شريعة الإسلام.
وثمت تقسيم آخر للمخالفين في الدين، من حيث موقفهم من دولة الإسلام وأمة الإسلام.. فهم إما محاربون، وإما مسالمون معاهدون.(2/637)
فالمحاربون هم الذين يعادون المسلمين ويقاتلونهم، وهؤلاء لهم أحكامهم التي تنظم العلاقة بهم، وتفرض أخلاقًا وآدابًا معينة في معاملتهم حتى في حالة الحرب، فلا عدوان، ولا غدر، ولا تمثيل بجثة، ولا قطع لشجر، ولا هدم لبناء، ولا قتل لصبي ولا امرأة ولا شيخ، وإنما يقتل من يقاتل.... إلخ ما هو مقرر ومتصل في كتب "السير" أو "الجهاد" في الفقه الإسلامي.
والمسالمون أو المعاهدون، يوفى لهم بعهدهم، ويعطون حقهم من البر والقسط والصلة.
ومن الخطل والخطر هنا: الخلط بين الصنفين على اعتبار أنهم جميعًا كفار، لا يؤمنون برسالة محمد خاتم رسل الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصدقون بالقرآن آخر كتب الله.
وقد فرق القرآن بين الصنفين تفريقًا واضحًا، في آيتين كريمتين تعتبران دستورًا محكمًا في تحديد العلاقة بغير المسلمين. يقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة: 8،9). والبر هو: الخير، والقسط: هو العدل، وقد نزلت هاتان الآيتان في شأن المشركين، كما دلت على ذلك أسباب نزول السورة. فأهل الكتاب أولى بالبر والقسط.
ثم إن المعاهدين صنفان :
أ ـ من لهم عهد مؤقت، وهؤلاء يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم.
ب ـ والثاني من لهم عهد دائم ومؤبد وهم الذين يسميهم المسلمون "أهل الذمة" بمعنى أن لهم ذمة الله تعالى، وذمة رسوله ص، وذمة جماعة المسلمين. وهم الذين قال فيهم الفقه الإسلامي: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، أي في الجملة إلا ما اقتضته طبيعة الاختلاف الديني.
وأهل الذمة يحملون "جنسية دار الإسلام" وبتعبير آخر : هم مواطنون في الدولة الإسلامية.(2/638)
فليست عبارة "أهل الذمة" عبارة ذم أو تنقيص، بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء، تدينًا وامتثالا لشرع الله.
وإذا كان الإخوة المسيحيون يتأذون من هذا المصطلح، فليغير أو يحذف، فإن الله لم يتعبدنا به، وقد حذف سيدنا عمر رضي الله عنه ما هو أهم منه، وهو لفظ "الجزية"، رغم أنه مذكور في القرآن، وذلك استجابة لعرب بني تغلب من النصارى، الذين أنفوا من هذا الاسم، وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة، وإن كان مضاعفًا.. فوافقهم عمر، ولم ير في ذلك بأسًا، وقال: هؤلاء القوم حمقى، رضوا بالمعنى، وأبوا الاسم. (انظر: كتابنا "فقه الزكاة" 2/708).
وهذا تنبيه من الفاروق على أصل مهم، وهو النظر إلى المقاصد والمعاني، لا إلى الألفاظ والمباني، والاعتبار بالمسميات لا الأسماء ومن هنا نقول : إنه لا ضرورة للتمسك بلفظ "الجزية" الذي يأنف منه إخواننا النصارى في مصر وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية، والذين امتزجوا بالمسلمين، فأصبحوا يكونون نسيجًا قوميًا واحدًا.. فيكفي أن يدفعوا "ضريبة" أو يشتركوا بأنفسهم في الدفاع عن الأمة والوطن فتسقط عنهم.
وقد بينت في كتابي الآنف الذكر حقوق المواطنين من أهل الذمة من وجوب المحافظة على دمائهم وأعراضهم وأموالهم ومعابدهم، وجميع حرماتهم، واحترام عقائدهم وشعائرهم، والدفاع عنهم تجاه كل عدوان من الخارج وتجنب كل ما يوغر صدورهم، أو يؤذيهم في أنفسهم أو أهليهم وذراريهم.
حتى إن القرآن ليرتفع بأدب الحوار مع أهل الكتاب إلى أفق رفيع، حين يقول : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). (العنكبوت: 46).
فإذا كان هناك طريقتان للحوار أو للجدال إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها، فالمطلوب هو الحوار بالتي هي أحسن.(2/639)
ويركز القرآن هنا على ذكر مواضع الاتفاق بين المسلمين وأهل الكتاب لا على نقاط التمايز والاختلاف: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد).
وأهل الذمة من أهل الكتاب لهم وضع خاص، والعرب منهم لهم وضع أخص، لاستعرابهم وذوبانهم في أمة العرب، وتكلمهم بلغة القرآن، وتشربهم للثقافة الإسلامية، واشتراكهم في المواريث الثقافية والحضارية للمسلمين بصورة أكبر من غيرهم، فهم مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة والطقوس، وهذا ما قلته منذ سنوات للدكتور لويس عوض حين زار قطر واشترك في ندوة في "نادي الجسرة" الثقافي، وطلب مني التعقيب عليها.
والحقوق التي قررها الإسلام ليست مجرد حبر على ورق، بل هي حقوق مقدسة قررتها شريعة الله، فلا يملك أحد من الناس أن يبطلها، وهي حقوق تحوطها وتحرسها ضمانات متعددة: ضمانة العقيدة في ضمير كل فرد مسلم، يتعبد بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وضمان الضمير الإسلامي العام، الذي يتمثل في المجتمع كله، وخصوصًا الفقهاء والأصلاء من حراس الشريعة، والقضاة العدول الأقوياء، الذي رأينا منهم من حكم على الأمراء والخلفاء لحساب من ظلم من أهل الذمة.
وقد رأينا الإمام الأوزاعي يقف مع جماعة من أهل الذمة في لبنان ضد الأمير العباسي قريب الخليفة.
وقد رأينا الإمام ابن تيمية يخاطب تيمور لنك في فكاك الأسرى عنده، فيفرض عليه أن يفك أسرى المسلمين وحدهم، فيأبى إلا أن يفرج عن أهل الذمة معهم.
أعلى درجات التسامح عند المسلمين وحدهم.
ثم إن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب:(2/640)
فالدرجة الدنيا من التسامح : أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك، بحيث إذا أبى حكمت عليه بالموت أو العذاب أو المصادرة أو النفي، أو غير ذلك من ألون العقوبات والاضطهادات. فتدع له حرية الاعتقاد، ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضها عليه عقيدته، والامتناع مما يعتقد تحريمه عليه.
والدرجة الوسطى من التسامح: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته. فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت، فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم؛ لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه. (في غاية المنتهى وشرحه من كتب الحنابلة: "ويحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعًا من عمل في إجارة، لحديث النسائي والترمذي وصححه: "وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت" 2/604).
وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، فلا يجوز أن يمنع ذلك في هذا اليوم
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح : ألا تضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك.
وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة. إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح.
فقد التزموا احترام كل ما يعتقد غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك، مراعاة لشريعة الدولة ودينها، ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل؛ ذلك لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضًا على أتباعه أن يفعلوه.(2/641)
فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج من أمه أو أخته فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج، وإذا كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له.
ومثل ذلك الخمر، فإذا كان بعض الكتب المسيحية قد جاء بإباحتها، أو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر.
فلو أن الإسلام قال للذميين : دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكل الخنازير، مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني؛ لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا، ولا أخلوا بواجب مقدس، ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون.
روح التسامح عند المسلمين:
على أن هناك شيئًا آخر لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات.
ذلك هو "روح السماحة" التي تبدو في حسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء.. وهذه روح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي.
تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: (وصاحبهما في الدنيا معروفًا) (لقمان: 15).
وفي ترغيب القرآن في البر والإقساط إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين كما في آية الممتحنة (الممتحنة: 8).
وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: (ويُطْعِمُون الطعام على حبِّهِ مسكينًا ويتيمًا وأسِيرًا) (الإنسان: 8) ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين.(2/642)
وفي قول القرآن يجيب عن شبهة بعض المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من المشركين المصرّين : (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تُنْفِقُوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) (البقرة: 272).
وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدون مذهبه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى أهل مكة مالاً لما قحطوا ليوزع على فقرائهم (شرح السير الكبير: 1/144)، هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه.
وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا، (تعني فترة في صلح الحديبية) فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول اله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها ؟! قال : "نعم، صلي أمك" (تفسير ابن كثير 4/249).
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكتاب يهودًا كانوا أو نصارى، فقد كان يزورهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم.
وذكر ابن إسحاق في السيرة: أن وفد نجران ـ وهم من النصارى ــ لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوهم" فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وعقب المجتهد ابن القيم على هذه القصة في "الهدي النبوي" فذكر مما فيها من الفقه: (جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين .. وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم
بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك). (زاد المعاد جـ3، ط مطبعة السنة المحمدية).
وروى أبو عبيد في "الأموال" عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم (الأموال ص 613).(2/643)
وروى البخاري عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد يهوديًا، وعرض عليه الإسلام، فخرج وهو يقول: "الحمد للّه الذي أنقذه بي من النار".
وروى البخاري أيضا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله، وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه، وما كانوا ليضنوا عليه بشيء، ولكنه أراد أن يعلم أمته.
وقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- الهدايا من غير المسلمين، واستعان في سلمه وحربه بغير المسلمين، حيث ضمن ولاءهم له، ولم يخش منهم شرًا ولا كيدًا.
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين.
فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين ثم يقول: قال اللّه تعالى : (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) (التوبة: 60).وهذا من مساكين أهل الكتاب (الخراج لأبي يوسف/26. انظر كتابنا: فقه الزكاة 2/705، 706).
ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجزومين من النصارى فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين.
وأصيب عمرْو بضربة رجل من أهل الذمة ــ أبي لؤلؤة المجوسي ــ فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده وهو على فراش الموت فيقول: "أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم" (أخرجه البخاري في الصحيح، ويحيى بن آدم في الخراج ص 74، والبيهقي في السنن 9/206 باب الوصاة بأهل الكتاب).
وعبد الله ابن عَمْرو يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية، ويكرر الوصية مرة بعد مرة، حتى دهش الغلام وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي؟ قال ابن عَمْرو: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". (رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي المرفوع عنه).(2/644)
وماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية، فشيعها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ذكر ذلك ابن حزم في المحلى 5/117).وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبًا من صدقة الفطر لرهبان النصارى ولا يرون في ذلك حرجًا، بل ذهب بعضهم ـ كعكرمة وابن سيرين والزهري ـ إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد: (أنه سئل عن الصدفة فيمن توضع؟ فقال: في أهل ملتكم من المسلمين، وأهل ذمتهم ...). (انظر: فقه الزكاة الأسبق).
وذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك(قال: حديث الدارقطني أن القاضي إسماعيل بن إسحاق (من أعلام المالكية، وقاضي قضاة بغداد توفي سنة 282هـ. انظر: ترجمة في "ترتيب المدارك 3/166 - 181، ط. دار الحياة، بيروت تحقيق الدكتور أحمد بكير محمود) دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي، فقام له القاضي ورحب به. فرأى إنكار الشهود لذلك، فلما خرج الوزير قال القاضي إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال اللّه تعالى:(لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبَرُّوهُم وتُقْسِطُوا إليهم) (الممتحنة: 8) وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين وهو سفير بيننا وبين المعتضد ... وهذا من البر) (المرجع السابق ص 174).
وتتجلى هذه السماحة بعد ذلك في مواقف كثير من الأئمة والفقهاء، في الدفاع عن أهل الذمة، واعتبار أعراضهم وحرماتهم كحرمات المسلمين، وقد ذكرنا مثلاً لذلك موقف الإمام الأوزاعي، والإمام ابن تيمية.(2/645)
ونكتفي هنا بكلمات نيرة للفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي شارحًا بها معنى البر الذي أمر اللّه به المسلمين في شأنهم. فذكر من ذلك: (الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم ـ على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة ـ واحتمال أذايتهم في الجوار ـ مع القدرة على إزالته ـ لطفًا منا بهم، لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم، إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم ... إلخ (الفروق: 3/15).
الأساس الفكري لتسامح المسلمين:
أساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين يرجع إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم، وأهمها:
1ـ اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان، أيًا كان دينه أو جنسه أو لونه. قال تعالى: (ولقد كَرَّمْنا بني آدم) (الإسراء: 70) وهذه الكرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية.
ومن الأمثلة العملية ما ذكرناه من قبل، وهو ما رواه البخاري عن جابر بن عبد اللّه: أن جنازة مرت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام لها واقفًا، فقيل له: يا رسول اللّه إنها جنازة يهودي ! فقال: "أليست نفسا؟!".بلى ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكان، فما أروع الموقف، وما أروع التفسير والتعليل !
2ـ اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة اللّه تعالى، الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية والاختيار فيما يفعل ويدع : (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (الكهف: 29). ـ (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين). (هود: 118).(2/646)
والمسلم يوقن أن مشيئة اللّه لا راد لها ولا معقب، كما أنه لا يشاء ما فيه الخير والحكمة، علم الناس ذلك أو جهلوه، ولهذا لا يفكر المسلم يومًا أن يجبر الناس ليصيروا كلهم مسلمين، كيف وقد قال اللّه تعالى لرسوله الكريم.
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). (يونس: 99).
3ـ إن المسلم ليس مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى اللّه في يوم الحساب، وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين، قال تعالى : (وإن جادلوك فقل اللّه أعلم بما تعملون.. اللّه يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) (الحج: 68،69) وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل اللّه من كتاب وأمرت لأعدل بينكم اللّه ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم اللّه يجمع بيننا وإليه المصير). (الشورى: 15).
وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر، وبين مطالبته ببره والإقساط إليه، وإقراره على ما يراه من دين واعتقاد.
4 ـ إيمان المسلم بأن اللّه يأمر بالعدل، ويحب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين، ولو كان الظلم من مسلم لكافر. قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). (المائدة: 8).
وقال -صلى الله عليه وسلم- : "دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرًا ـ ليس دونها حجاب" (رواه أحمد في مسنده).
إن سماحة الإسلام مع غير المسلمين سماحة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، وخصوصًا إذا كانوا أهل كتاب، وبالأخص إذا كانوا مواطنين في دار الإسلام، ولا سيما إذا استعربوا وتكلموا بلغة القرآن.
وصايا نبوية بأقباط مصر خاصة:(2/647)
أما أقباط مصر فلهم شأن خاص ومنزلة متميزة، فقد أوصى بهم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وصية خاصة، يعيها عقل كل مسلم، ويضعها في السويداء من قلبه.
فقد روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل اللّه" (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/62 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).
وفي حديث آخر عن أبي عبد الرحمن الحبلي ـ عبد الله بن يزيد ـ وعمرو بن حريث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... فاستوصوا لهم خيرًا، فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" يعني قبط مصر.(رواه ابن حبان في صحيحه كما في المورد (2315) وقال الهيثمي 10/64: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح).
وقد صدق الواقع التاريخي ما نبأ به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد رحب الأقباط بالمسلمين الفاتحين، وفتحوا لهم صدورهم، رغم أن الروم الذين كانوا يحكمونهم كانوا نصارى مثلهم، ودخل الأقباط في دين اللّه أفواجًا، حتى إن بعض ولاة بني أمية فرض الجزية على من أسلم منهم، لكثرة من اعتنق الإسلام. وغدت مصر بوابة الإسلام إلى إفريقيا كلها، وغدا أهلها عدة وأعوانًا في سبيل الله.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط، (القيراط: جزء من أجزاء الدرهم والدينار وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، بل هم لا يزالون كذلك بالنسبة للمساحة وللصاغة وغيرهما، وكل شيء قابل لأن يقسم إلى 24 قيراطًا)، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا"(2/648)
وفي رواية: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما" أو قال : "ذمة وصهرا". (الحديث بروايته في صحيح مسلم رقم (2543) باب وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بأهل مصر، وفي مسند أحمد 5/174).
قال العلماء: الرحم التي لهم: كون هاجر أم إسماعيل عليه السلام منهم، والصهر: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم (ذكر ذلك النووي في رياض الصالحين، حديث (334) ط. المكتب الإسلامي).
ولا غرو أن ذكر الإمام النووي هذا الحديث في كتابه: "رياض الصالحين" في باب "بر الوالدين وصلة الأرحام" إشارة إلى هذه الرحم التي أمر الله ورسوله بها أن توصل بين المسلمين وبين أهل مصر، حتى قبل أن يسلموا.
وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم دمًا ورحما"، وفي رواية: "إن لهم ذمة ورحما" يعني أن أم إسماعيل منهم (أورده الهيثمي 10/62 وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، كما رواه الحاكم بالرواية الثانية وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2/753 وعند الزهري: الرحم بأن أم إسماعيل منهم).
والرسول يجعل للقبط هنا من الحقوق أكثر مما لغيرهم، فلهم الذمة أي عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين، وهو عهد جدير أن يرعى ويصان. ولهم رحم ودم وقرابة ليست لغيرهم، فقد كانت هاجر أم إسماعيل أبي العرب المستعربة منهم، بالإضافة إلى مارية القبطية التي أنجب منها عليه الصلاة والسلام ابنه إبراهيم.
مراتب تغيير المنكر
ومتى يجوز التغيير بالقوة ؟
سؤال عن قضية تغيير المنكر بالقوة
س : اشتد الجدل في هذه الأيام حول قضية من أهم القضايا وأشدها خطرًا، وهي قضية تغيير المنكر بالقوة، ومن له الحق في التغيير، ومتى يجوز ذلك؟(2/649)
فمن الناس من يقول: إن هذا الحق لولي الأمر فقط، أي هو من وظائف الدولة لا من وظائف الأفراد، وإلا كان الأمر فوضى، وحدث من الفتن ما لا يعلم نتائجه إلا اللّه تعالى. وآخرون يجعلون ذلك من حق كل مسلم بل من واجبه، استنادًا إلى الحديث النبوي الصحيح الذي يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". (رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري).
فالحديث يجعل التغيير واجبًا على كل من رأى المنكر باليد أولا فإن عجز فباللسان، وإلا فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان، فمن قدر على أقوى الإيمان، فلماذا يرضى بأضعفه؟
وهذا ما حفز بعض الشباب المتحمس لتغيير ما يرونه منكرًا بأيديهم بدون مبالاة بالعواقب، على أن ولي الأمر أو الدولة نفسها قد تكون هي فاعلة المنكر، أو حاميته، قد تحل الحرام، أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض، أو تعطل الحدود، أو تعادي الحق، أو تروج للباطل، فهنا يكون على الأفراد تقويم عوجها بما استطاعوا من قوة، فإن أوذوا ففي ذات اللّه، وإن قتلوا ففي سبيل اللّه، وهم شهداء بجوار حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، كما جاء في الحديث.
وقد اختلط الأمر على كثير من الناس، وبخاصة الشباب المتدين الغيور.
ولا سيما أن الذي يتبنى القول الأول ويدافع عنه هم بعض العلماء الذين أصبح يطلق عليهم لقب "علماء السلطة وعملاء الشرطة" فلم يعد كلامهم يحظى بالقبول.
وأصحاب القول الآخر، كلهم من الشباب الذين قد يتهمون بالتهور أو التطرف واتباع العواطف، والأخذ بظواهر النصوص دون ربط بعضها ببعض.
وأملنا أن تعطوا بعض الوقت لهذه القضية، حتى يتبين لنا أي الرأيين أصوب، أو لعل الصواب بينهما أو في غيرهما.
سدد اللّه قلمكم لبيان الحق من الباطل، آمين.
فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2/650)
جـ: من الفرائض الأساسية في الإسلام، فريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهي الفريضة التي جعلها اللّه تعالى أحد عنصرين رئيسيين في تفضيل هذه الأمة وخيريتها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه). (آل عمران: 110).
ومن الصفات الأساسية للمؤمنين في نظر القرآن : (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود اللّه). (التوبة: 112).
وكما مدح القرآن الآمرين الناهين، ذم الذين لا يأمرون بالمعروف، ولا يتناهون عن المنكر كما قال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون). (المائدة: 78، 79).
والمسلم بهذا ليس مجرد إنسان صالح في نفسه، يفعل الخير ويدع الشر ويعيش في دائرته الخاصة، لا يبالي بالخير، وهو يراه ينزوي ويتحطم أمامه، ولا بالشر وهو يراه يُعشِّش ويفرخ من حوله.
بل المسلم ـ كل مسلم ـ إنسان صالح في نفسه، حريص على أن يصلح غيره، وهو الذي صورته تلك السورة الموجزة من القرآن، سورة العصر: (والعصر إن الإنسان لفي خسر.إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). (سورة العصر).
فلا نجاة للمسلم من خسر الدنيا والآخرة، إلا بهذا التواصي بالحق والصبر، الذي قد يعبر عنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو حارس من حراس الحق والخير في الأمة.
فكل منكر يقع في المجتمع المسلم، لا يقع إلا في غفلة من المجتمع المسلم، أو ضعف وتفكك منه، ولهذا لا يستقر ولا يستمر، ولا يشعر بالأمان، ولا يتمتع بالشرعية بحال.
المنكر ـ أي منكر ـ يعيش "مطاردا" في البيئة المسلمة، كالمجرم المحكوم عليه بالإعدام أو السجن المؤبد، إنه قد يعيش ويتنقل، ولكن من وراء ظهر العدالة، وبالرغم من المجتمع.(2/651)
والمسلم إذن مطالب بمقاومة المنكر ومطاردته، حتى لا يكتب له البقاء بغير حق في أرض ليست أرضه، ودار ليست داره، وقوم ليسوا أهله.
الحديث الصحيح في تغيير المنكر ومراتبه
من هنا جاء الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". (رواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن أبي سعيد الخدري).
والحديث واضح الدلالة في أن تغيير المنكر من حق كل من رآه من المسلمين، بل من واجبه.
ودليل ذلك أن "من" في الحديث "من رأى" من ألفاظ العموم، كما يقول الأصوليون، فهي عامة تشمل كل من رأى المنكر، حاكمًا كان أو محكومًا، وقد خاطب الرسول الكريم بها المسلمين كافة (من رأى منكم) لم يستثن منهم أحدًا، ابتداء من الصحابة فمن بعدهم من أجيال الأمة إلى يوم القيامة.
وقد كان هو الإمام والرئيس والحاكم للأمة، ومع هذا أمر من رأى منهم ــ وهم المحكومون ـ منكرًا أن يغيروه بأيديهم، متى استطاعوا، حين قال: "من رأى منكم منكرًا".
شروط تغيير المنكر:
كل ما هو مطلوب من الفرد المسلم ـ أو الفئة المسلمة ـ عند التغيير: أن يراعي الشروط التي لابد منها، والتي تدل عليها ألفاظ الحديث.
الشرط الأول: أن يكون محرمًا مجمعًا عليه:
أي أن يكون "منكرا" حقًا، ونعني هنا : المنكر الذي يطلب تغييره باليد أولاً، ثم باللسان، ثم بالقلب عند العجز. ولا يطلق "المنكر" إلا على "الحرام" الذي طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا، بحيث يستحق عقاب اللّه من ارتكبه.. وسواء أكان هذا الحرام فعل محظور، أم ترك مأمور.(2/652)
وسواء أكان الحرام من الصغائر أم من الكبائر، وإن كانت الصغائر قد يتساهل فيها ما لا يتساهل في الكبائر، ولاسيما إذا لم يواظب عليها، وقد قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريمًا). (النساء: 31).
وقال -صلى الله عليه وسلم- : "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر". (رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة).
فلا يدخل في المنكر إذن المكروهات، أو ترك السنن والمستحبات، وقد صح في أكثر من حديث أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عما فرض اللّه عليه في الإسلام فذكر له الفرائض من الصلاة والزكاة، والصيام وهو يسأل بعد كل منها: هل على غيرها؟ فيجيبه الرسول الكريم: "إلا أن تطوع" حتى إذا فرغ منها قال الرجل: واللّه يا رسول اللّه، لا أزيد على هذا ولا أنقص، منه فقال عليه الصلاة والسلام: "أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق". (متفق عليه عن طلحة بن عبيد الله).
وفي حديث آخر: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا". (متفق عليه عن أبي هريرة).
لابد إذن أن يكون المنكر في درجة "الحرام"، وأن يكون منكرًا شرعيًا حقيقيًا، أي ثبت إنكاره بنصوص الشرع المحكمة، أو قواعده القاطعة، التي دل عليها استقراء جزئيات الشريعة.
وليس إنكاره بمجرد رأى أو اجتهاد، قد يصيب ويخطئ، وقد يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.
وكذلك يجب أن يكون مجمعًا على أنه منكر، فأما ما اختلف فيه العلماء المجتهدون قديمًا أو حديثًا، بين مجيز ومانع، فلا يدخل دائرة "المنكر" الذي يجب تغييره باليد، وخصوصًا للأفراد.(2/653)
فإذا اختلف الفقهاء في حكم التصوير، أو الغناء بآلة، وبغير آلة، أو في كشف وجه المرأة وكفيها، أو في تولي المرأة القضاء ونحوه، أو في إثبات الصيام والفطر برؤية الهلال في قطر آخر، بالعين المجردة، أو بالمرصد أو بالحساب أو غير ذلك من القضايا التي طال فيها الخلاف قديمًا وحديثًا.. لم يجز لإنسان مسلم، أو لطائفة مسلمة أن تتبنى رأيًا من الرأيين، أو الآراء المختلف فيها، وتحمل الآخرين عليه بالعنف.
حتى رأي الجمهور والأكثرية، لا يسقط رأي الأقل، ولا يلغي اعتباره، حتى لو كان المخالف واحدًا، مادام من أهل الاجتهاد، وكم من رأي مهجور في عصر ما، أصبح مشهورًا في عصر آخر.
وكم ضُعِّف رأي لفقيه، ثم جاء من صححه ونصره وقواه، فأصبح هو المعتمد والمفتى به.
وهذه آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، في الطلاق وأحوال الأسرة، قد لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت تقاوم قرونًا عدة بعد وفاته، ثم هيأ اللّه لها من نشرها وأيدها، حتى غدت عمدة الإفتاء والقضاء والتقنين في كثير من الأقطار الإسلامية.
إن المنكر الذي يجب تغييره بالقوة لابد أن يكون منكرًا بيِّنًا ثابتًا، اتفق أئمة المسلمين على أنه منكر، وبدون ذلك يفتح باب شر لا آخر له، فكل من يرى رأيًا يريد أن يحمل الناس عليه بالقوة!
في بعض الأقطار الإسلامية قام مجموعة من الفتيان المتحمسين لتحطيم المحلات التي تبيع الدمى (العرائس واللعب) للأطفال؛ لأنها أصنام، وصور مجسمة تعتبر من أكبر الكبائر!
ولما قيل لهم: إن العلماء من قديم أجازوا لعب الأطفال، لما فيها من امتهان الصورة، وانتفاء تعظيمها..إلخ، قالوا: كان هذا في صور غير هذه الصور المتقنة التي تفتح عينيها وتغلقها.
قيل لهم: ولكن الطفل يرمي بها يمينًا وشمالاً، ويخلع ذراعها ورجلها، ولا يمنحها أي قدر من التعظيم أو التقديس . لم يجدوا جوابا!(2/654)
وفي بلاد إسلامية أخرى قام بعض الشباب يحاول أن يغلق المطاعم ومحلات العصير والقهوة ونحوها بالقوة، حين أعلنت بعض الأقطار الإسلامية بدء الصيام، ورؤية الهلال، فرأى هؤلاء المتحمسون أن رمضان قد ثبت، فلا يجوز المجاهرة بالإفطار.
ومثل ذلك ما قام به بعض الشباب المسلم الغيور في مصر في أحد أعياد الفطر حيث ترجح لدى الجهات الشرعية في مصر عدم ثبوت شوال لاعتبارات شتى، منها قطع الفلك أن من المستحيل رؤية الهلال تلك الليلة. ولم ير الهلال في مصر، ولكن بعض الأقطار أعلنت رؤية الهلال، فأصر هؤلاء على أن يفطروا ويقيموا شعائر العيد وحدهم، ضد الدولة، وأغلبية الأمة، وحدث من جراء ذلك صدام مع أجهزة الأمن لا مبرر له.
ورأيي أن هؤلاء وأولئك أخطأوا من جملة أوجه:
الأول: أن الفقهاء مختلفون في طريق إثبات الهلال، فمنهم من اكتفى بشاهد واحد، ومنهم من طلب شاهدين، ومنهم من اشترط في حالة الصحو شهادة الجمع الغفير، ولكل أدلته ووجهته.
فلا يجوز إجبار الناس على مذهب واحد، من غير ذي سلطة.
الثاني: أنهم اختلفوا كذلك في مسألة اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتبارها، وفي عدد من المذاهب أن لكل بلد رؤيته، ولا يلزم بلد برؤية بلد آخر، وهو مذهب ابن عباس ومن وافقه، كما هو معروف من حديث كريب في صحيح مسلم.
الثالث: أن حكم الإمام أو القاضي في الأمور الخلافية يرفع الخلاف، ويلزم الأمة اتباعه.
ولهذا إذا أخذت السلطات الشرعية بقول إمام أو اجتهاد مذهب في هذه القضايا فالواجب اتباعها، وعدم تفريق الصف.
وقد قلت في بعض ما أفتيت به: إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين جميعًا في الصيام والفطر، فعلى الأقل يجب أن يتحد أهل البلد الواحد في شعائرهم، فلا يقبل بحال أن ينقسم أهل البلد الواحد إلى فريقين: فريق صائم وفريق مفطر.
ولكن هذا الخطأ في الاجتهاد من شباب مخلصين لا يقاوم بالرصاص، بل بالإقناع
الشرط الثاني: ظهور المنكر:(2/655)
أي أن يكون المنكر ظاهرًا مرئيًا، فأما ما استخفى به صاحبه عن أعين الناس وأغلق عليه بابه، فلا يجوز لأحد التجسس عليه، بوضع أجهزة التصنت عليه، أو كاميرات التصوير الخفية، أو اقتحام داره عليه لضبطه متلبسًا بالمنكر.
وهذا ما يدل عليه لفظ الحديث: "من "رأى" منكم منكرًا فليغيره..." فقد ناط التغيير برؤية المنكر ومشاهدته، ولم ينطه بالسماع عن المنكر من غيره.
وهذا لأن الإسلام يدع عقوبة من استتر بفعل المنكر ولم يتبجح به، إلى اللّه تعالى يحاسبه في الآخرة، ولم يجعل لأحد عليه سبيلا في الدنيا، حتى يبدي صفحته ويكشف ستره.
حتى إن العقاب الإلهي ليخفف كثيرًا على من استتر بستر اللّه، ولم يظهر المعصية كما في الحديث الصحيح: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).
لهذا لم يكن لأحد سلطان على المنكرات الخفية، وفي مقدمتها معاصي القلوب من الرياء والنفاق والكبر والحسد والشح والغرور ونحوها..وإن اعتبرها الدين من أكبر الكبائر، ما لم تتجسد في عمل ظاهر، وذلك لأننا أمرنا أن نحكم بالظواهر، ونكل إلى اللّه تعالى السرائر.
ومن الوقائع الطريفة التي لها دلالتها في هذا المقام ما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وهو ما حكاه الغزالي في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من "الإحياء": أن عمر تسلق دار رجل، فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أنا قد عصيت اللّه من وجه واحد، فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه، فقال: وما هي؟ قال: قد قال اللّه تعالى: (ولا تجسسوا) (الحجرات: 12)، وقد تجسست، وقال تعالى : (وأتوا البيوت من أبوابها) (البقرة: 189)، وقد تسورت من السطح، وقال تعالى : (لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) (النور: 27) وما سلمت،.فتركه عمر، وشرط عليه التوبة. (الإحياء 7 / 1218 ط.الشعب، القاهرة).
والشرط الثالث لتغيير المنكر بالقوة: القدرة الفعلية على التغيير:(2/656)
أي أن يكون مريد التغيير قادرًا بالفعل ـ بنفسه أو بمن معه من أعوان ـ على التغيير بالقوة. بمعنى أن يكون لديه قوة مادية أو معنوية تمكنه من إزالة المنكر بسهولة.
وهذا الشرط مأخوذ من حديث أبي سعيد أيضا؛ لأنه قال: "فمن لم يستطع فبلسانه" أي: فمن لم يستطع التغيير باليد، فليدع ذلك لأهل القدرة، وليكتف هو بالتغيير باللسان والبيان، إن كان في استطاعته.
وهذا في الغالب إنما يكون لكل ذي سلطان في دائرة سلطانه، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه وبناته، الذين يعولهم ويلي عليهم، وصاحب المؤسسة في داخل مؤسسته، والأمير المطاع في حدود إمارته أو سلطته، وحدود استطاعته. (أعني أن من الأمراء من يعجز عن بعض الأشياء في إمارته نفسها، وقد رأينا عمر بن عبد العزيز يعجز عن رد الأمر شورى بين المسلمين، بعيدًا عن نظام الوراثة) .. وهكذا.
وإنما قلنا: القوة المادية أو المعنوية؛ لأن سلطة الزوج على زوجته أو الأب على أولاده، ليست بما يملك من قوة مادية، بل بما له من احترام وهيبة تجعل كلمته نافذة، وأمره مطاعًا.
إذا كان المنكر من جانب الحكومة:
هنا تظهر مشكلة ما إذا كان المنكر من جانب الحكومة أو الدولة، التي تملك مقاليد القوة المادية والعسكرية، ماذا للأفراد والفئات أو عليهم أن يعملوا لتغيير المنكر الذي ترتكبه السلطة أو تحميه؟؟
والجواب: أن عليهم أن يملكوا القوة التي تستطيع التغيير، وهي في عصرنا إحدى ثلاث:
الأولى : القوات المسلحة التي يستند إليها كثير من الدول في عصرنا ـ ولا سيما في العالم الثالث ـ في إقامة حكمها، وتنفيذ سياستها، وإسكات خصومها بالحديد والنار، فالعمدة لدى هذه الحكومات ليس قوة المنطق، بل منطق القوة، فمن كان معه هذه القوات استطاع أن يضرب بها كل تحرك شعبي يريد التغيير، كما رأينا ذلك في بلاد شتى آخرها في الصين، وإخماد ثورة الطلبة المطالبين بالحرية.(2/657)
الثانية : المجلس النيابي الذي يملك السلطة التشريعية، وإصدار القوانين وتغييرها، وفقًا لقرار الأغلبية، المعمول به في النظام الديمقراطي، فمن ملك هذه الأغلبية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي غير مزيف، أمكنه تغيير كل ما يرى من منكرات بوساطة التشريع الملزم، الذي لا يستطيع وزير، ولا رئيس حكومة، ولا رئيس دولة أن يقول أمامه : لا.
الثالثة : قوة الجماهير الشعبية العارمة التي تشبه الإجماع، والتي إذا تحركت لا يستطيع أحد أن يواجهها، أو يصد مسيرتها؛ لأنها كموج البحر الهادر أو السيل العرم، لا يقف أمامه شيء، حتى القوات المسلحة نفسها؛ لأنها في النهاية جزء منها، وهذه الجماهير ليسوا إلا أهليهم وآباءهم وأبناءهم وإخوانهم.
فمن لم يملك إحدى هذه القوى الثلاث، فما عليه إلا أن يصبر، ويصابر ويرابط، حتى يملكها، وعليه أن يغير باللسان، والقلم، والدعوة والتوعية والتوجيه، حتى يوجد رأيًا عامًا قويًا يطالب بتغيير المنكر، وأن يعمل على تربية جيل طليعي مؤمن يتحمل تبعة التغيير. وهذا ما يشير إليه حديث أبي ثعلبة الخشني حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (المائدة: 105)، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحًّا مطاعًا، وهَوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح، وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك. ورواه ابن ماجة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي حكيم).وفي بعض الروايات :(ورأيت أمرًا لا يدان ـ أي لا طاقة ـ لك به).
الشرط الرابع :عدم خشية منكر أكبر:(2/658)
أي ألا يخشى من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر منه، كأن يكون سببًا لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات، وتنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكنا، ويزداد المتجبرون تجبرًا وفسادًا في الأرض.
ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم، ارتكابًا لأخف الضررين، واحتمالا لأهون الشرين.
وفي هذا جاء الحديث الصحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم".
وفي القرآن الكريم ما يؤيد ذلك، في قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، حين ذهب إلى موعده مع ربه، الذي بلغ أربعين ليلة، وفي هذه الغيبة فتنهم السامري بعجله الذهبي، حتى عبده القوم، ونصحهم أخوه هارون، فلم ينتصحوا وقالوا :(لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). (طه : 91).
وبعد رجوع موسى ورؤيته لهذا المنكر البشع ـ عبادة العجل ـ اشتد على أخيه في الإنكار، وأخذ بلحيته يجره إليه من شدة الغضب، (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضَلُّوا. ألا تَتَّبِعَن أفَعَصيْتَ أمري. قال يا بن أم لا تأخذ بِلِحْيَتي ولا بِرَأْسِي إني خَشِيتُ أن تقول فَرَّقْتَ بين بني إسرائيل ولم تَرْقُبْ قولي). (طه : 92 - 94).
ومعنى هذا: أن هارون قدم الحفاظ على وحدة الجماعة في غيبة أخيه الأكبر، حتى يحضر، ويتفاهما معًا كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة.
هذه هي الشروط الأربعة التي يجب أن تتوافر لمن يريد تغيير المنكر بيده، وبتعبير آخر: بالقوة المادية المرغمة.
تغيير المنكرات الجزئية ليس علاجًا:(2/659)
أود أن أنبه هنا على قضية في غاية الأهمية لمن يشتغلون بإصلاح حال المسلمين، وهي أن التخريب الذي أصاب مجتمعاتنا، وخلال عصور التخلف، وخلال عهود الاستعمار الغربي، وخلال عهود الطغيان والحكم العلماني، تخريب عميق ممتد، لا يكفي لإزالته تغيير منكرات جزئية، كحفلة غناء، أو تبرج امرأة في الطريق، أو بيع أشرطة "كاسيت" أو "فيديو" تتضمن ما لا يليق أو ما لا يجوز.
إن الأمر أكبر من ذلك وأعظم، لابد من تغيير أشمل وأوسع وأعمق.
تغيير يشمل الأفكار والمفاهيم، ويشمل القيم والموازين، ويشمل الأخلاق والأعمال، ويشمل الآداب والتقاليد، ويشمل الأنظمة والتشريعات.
وقبل ذلك لابد أن يتغير الناس من داخلهم بالتوجيه الدائم، والتربية المستمرة، والأسوة الحسنة، فإذا غير الناس ما بأنفسهم كانوا أهلا لأن يغير اللّه ما بهم وفق السنة الثابتة : (إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (الرعد : 11).
ضرورة الرفق في تغيير المنكر:
وقضية أخرى لا ينبغي أن ننساها هنا، وهي ضرورة الرفق في معالجة المنكر، ودعوة أهله إلى المعروف، فقد أوصانا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفق، وبين لنا أن اللّه يحبه في الأمر كله، وأنه ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ومن القصص التي تروى هنا ما ذكره الغزالي في "الإحياء" أن رجلا دخل على المأمون ليأمره وينهاه، فأغلظ عليه القول، وقال له: يا ظالم، يا فاجر..إلخ. وكان المأمون على فقه وحلم، فلم يعالجه بالعقاب، كما يفعل كثيرون من الأمراء بل قال له: يا هذا، ارفق، فإن اللّه بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني..وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون، وهما خير منك، إلى فرعون وهو شر مني، فقال لهما:
(اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولا لَيِّنًا لعله يَتَذَكَّر أو يَخْشَى). (طه : 43، 44).(2/660)
وهذا التعليل بحرف الترجي (لعله يتذكر أو يخشى) برغم ما ذكره اللّه تعالى من طغيان فرعون (إنه طغى) دليل على أن الداعية لا ينبغي أن يفقد الأمل فيمن يدعوه مهما يكن كفره وظلمه، ما دام مستخدمًا طريق اللين والرفق، لا طريق الخرق والعنف.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من هم دعاة الفتنة ؟
س: سمعت أحد المشايخ المشهورين يتحدث في مجمع من المجامع الحافلة، في إحدى الذكريات الإسلامية، فكان مما ذكره: أن يلقى المسلم اللّه مقصرًا في نصيحة أو رازحًا تحت ذنب، أهون من أن يلقى اللّه داعيًا إلى فتنة، فإن الفتنة هي مجلبة الخراب، والفرقة على المسلمين.
وكان الشيخ يعرض في حديثه هذا ببعض الفئات الإسلامية، التي تدعو لإقامة دين اللّه في الأرض، والعودة به إلى قيادة الحياة والمجتمع، وقد انقسم الناس في شأن هذه الفئة، وقاومها بعض الحكام.
فهل أطمع أن تحدثني عن الفتنة ما هي، حتى لا أهوي في حضيضها من حيث لا أدري (والفتنة أكبر من القتل) (البقرة : 217) .فقد فهمت من هذا الكلام أن كل دعوة تسبب اختلاف الناس عليها، وخصومة بعضهم لها، ولا تجتمع عليها الكلمة، وتتحد الصفوف، إنما هي فتنة يستعاذ باللّه من شرها؟(2/661)
جـ : لو كانت الفتنة كما فهمت وكما خطر في بالك لكان رسل اللّه -عليهم الصلاة والسلام-، هم أول دعاة الفتنة، ومؤججي نيرانها. فقد كانوا يواجهون مجتمعات راكدة، متحدة على الباطل، مؤتلفة على الضلال، متعاونة على الإثم، تعبد آلهة اصطلحت عليها ورضيت بها، شب على تقديسها الصغير، وهرم عليها الكبير، وورثها الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء، حتى يبعث فيهم رسول من عند اللّه، فإذا هو يسفه أحلامهم، ويعيب آلهتهم، ويستحمق آباءهم وأجدادهم، ويرميهم بالضلال والفسوق والصمم والعمى. وإذا في القوم من يؤمن بالدعوة الجديدة ويفديها بروحه ومهجته، ويحميها بنفسه وما ملكت يداه، وإذا آخرون يصرون على عقائدهم الموروثة وآلهتهم المزعومة، لا يبغون عنها حولاً، ولا يرضون بها بدلاً. وإذا الفريقان يختصمون، بل يتقاتلون.
هكذا حدثنا اللّه تعالى عن صالح فقال: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا أن اعبدوا اللّه فإذا هم فريقان يختصمون) (النمل : 45) .فهل كان نبي اللّه صالح عليه السلام داعيًا إلى فتنة حين جعل قومه فريقين يختصمون بعد أن كانوا فريقًا واحدًا على الباطل؟!
ولقد قال المسيح -عليه السلام- فيما رواه الإنجيل: "ما جئت لألقي على الأرض سلامًا بل سيفًا، جئت لأفرق الابن ضد أبيه، والمرأة ضد زوجها، والكنة ضد حماتها ... " إلخ ما جاء في إنجيل متى.
فهل المسيح عيسى ابن مريم روح اللّه وكلمته داعية إلى فتنة، حين فرقت دعوته بين أبناء الأسرة الواحدة؟
وقال اللّه تعالى في كتابه الخالد المنزل على خاتم رسله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) (التوبة : 23) .ويقول: (لا تجد قومًا يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم). (المجادلة : 22).(2/662)
ولقد قال مشركو قريش عن محمد إنه ساحر، أما رأيته يفرق بين المرء وزوجه والمرء وأبيه، والمرء وأخيه، والمرء وولده؟
فهل كان محمد -صلى الله عليه وسلم- داعية إلى الفتنة يوم هز المجتمع المتحد على الوثنية، فجعل منهم مسلمين ومنهم كافرين؟ خصمان اختصما في ربهم، عادى بعضهم بعضًا، وقاتل بعضهم بعضًا، حتى كان الأخ يقاتل أخاه، بل الولد أباه.
الجواب: لا، ثم لا.
فما الفتنة إذن ؟
الفتنة ـ كما ذكرت في كتاب اللّه ـ هي الاختبار والابتلاء، وأصلها من "فتن الذهب" إذا وضعه على النار، ليعرف زيفه من صحيحه، ثم استعملت في الابتلاء والاضطهاد والتعذيب بصفة عامة، كما قال تعالى في أصحاب الأخدود: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) (البروج : 10).وقد جعل القرآن فتنة المرء عن دينه أشد وأكبر من قتله، لهذا رد على الذين استنكروا وقوع القتال في الشهر الحرام بأنهم اقترفوا ما هو أشنع منه وأعظم: (يسألونك عن الشهر الحرام قِتال فيه قل قتال فيه كبير وصَدٌّ عن سبيل اللّه وكُفْرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل) (البقرة : 217) .فجعل الاعتداء على عقيدة الإنسان أكبر من الاعتداء على نفسه.
كما جعل القرآن فتنة المؤمن في دينه، وابتلاءه من أجل عقيدته سنة مطردة لا تتخلف (سنة اللّه في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة اللّه تبديلاً) (الأحزاب : 62) .وفي ذلك يقول اللّه تعالى معزيًا للمؤمنين عما نزل بهم من البلاء وما أصابهم من البأساء والضراء: (ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). (العنكبوت : 1 - 3).(2/663)
وأنكر على الذين تزلزلهم الفتن، فتخور قواهم، وتنهار عزائمهم، فقال تعالى : (ومن الناس من يقول آمنا باللّه فإذا أوذي في اللّه جعل فتنة الناس كعذاب اللّه ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس اللّه بأعلم بما في صدور العالمين). (العنكبوت : 10).
أصحاب الفتنة إذن هم الذين يعذبون المؤمنين والمؤمنات، ويضطهدون الدعاة إلى اللّه، لا إلى الطاغوت، وإلى الإسلام لا إلى الجاهلية، وإلى النجاة لا إلى النار.
أصحاب الفتنة هم موردو العقائد الدخيلة، والمبادئ الهدامة، لديار الإسلام، وهم صانعو الفتن الظالمة المظلمة التي تنبأ بها وحذر منها رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا".
أليس أولى ما تنطبق عليه الفتنة المذكورة في هذا الحديث هي "الماركسية" المضللة الكافرة التي تزعم أن الدين أفيون الشعوب، وأن المادة هي كل شيء في الوجود؟ ودعاة "العلمانية" التي توجب عزل الدين عن الحياة والمجتمع، أليس دعاة هذه الماركسية والعلمانية هم دعاة الفتنة الواقفين على أبواب جهنم يجرون الناس إليها جرًّا، كما ورد ذلك في حديث حذيفة رضي اللّه عنه.(2/664)
كان حذيفة بن اليمان من بين الصحابة متخصصًا في معرفة المنافقين، وتتبع أخبار الفتن التي ستصيب المسلمين.. وقد روى الشيخان بسنديهما إليه هذا الحديث العجيب: قال حذيفة رضي اللّه عنه: كان الناس يسألون رسول اللّه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنا، قال: قلت يا رسول اللّه : إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا اللّه بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : "نعم وفيه دَخَن "، قلت : وما دخنه؟ قال : " قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : " دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها "، قلت : يا رسول اللّه، صفهم لنا. قال: " هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا".
وفي حديث له عند أبي داود قال: قلت: بعد هذا الخير شر؟ قال: "فتنة عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار، فإن مت يا حذيفة وأنت عاض على جذل ـ جذع شجرة ـ خير لك من أن تتبع أحدًا منهم".
وأخيرًا أقول: دعاة الفتنة كذلك هم علماء السوء، علماء الدنيا الذين رضوا بأن يمشوا في ركاب الظلمة، ويحرقوا البخور بين أيدي الطغاة، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويطوعوا القرآن لأهواء الحكام، ونسوا قول اللّه العظيم: (ولا تَرْكَنُوا إلى الذين ظلموا فَتَمَسَّكم النار وما لكم من دون اللّه من أولياء ثم لا تنصرون). (هود: 113).
ورحم اللّه الحسن البصري الذي قال: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصى اللّه في أرضه! وكل من لم يحكم بما أنزل الله فهو ظالم.
وقد جاء الحديث في وصف هؤلاء العلماء ـ علماء السلطان ـ بأنهم "يختلون الدنيا بالدين، ويلبسون جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب".
فإن قلت: وما علاج هذه الفتن، ما ظهر منها وما بطن؟(2/665)
قلت: سأل هذا السؤال قديمًا سيدنا على بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فقد روى الترمذي عنه أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون بعدي فتن كقطع الليل المظلم". قال علي: قلت: وما المخرج منها يا رسول اللّه؟ قال: "كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه هو حبل اللّه المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا، من علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
الحكم بما أنزل اللّه
شبهات مردودة
يدور لغط في هذه الأيام في بعض الصحف من بعض الأقلام المريبة، حول وجوب الحكم بما أنزل اللّه على المسلمين، وسمعنا أقاويل غريبة من هؤلاء الذين ليسوا من أهل العلم بالإسلام، والفقه في شريعته.
فمنهم من قال : إن الآيات التي أنكرت على من لم يحكم بما أنزل اللّه، ودمغتهم بالكفر والظلم والفسوق، لا يقصد بها المسلمون، وإنما نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كما تدل على ذلك أسباب نزول الآيات، ويدل سياقها نفسه.
وكذلك قوله تعالى لرسوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك) (المائدة : 49) .قالوا: هذا في الحكم بين أهل الكتاب من غير المسلمين، لا في الحكم بين المسلمين!!(2/666)
ومنهم من قال: إن الحكم في الآيات المذكورة ـ إذا سلمنا أن المسلمين داخلون فيه ـ إنما يراد به الفصل في الخصومات ومواضع النزاع، وهو عمل القضاة، وليس المراد به الحكم بمعنى التصرف السياسي، أو التشريعي، الذي تقوم به السلطات السياسية التنفيذية مثل الملوك ورؤساء الجمهوريات والوزراء ونحوهم، أو السلطات التشريعية مثل المجالس النيابية التي لها صلاحية وضع القوانين أو تعديلها، أو إلغائها.
ومنهم من قال: إن كلمة "شريعة" لم ترد في القرآن بالمعنى الذي يدعو إليه الداعون إلى تطبيق الشريعة، وإنما وردت في القرآن المكي مرادًا بها المنهج الإلهي المتمثل في العقائد والأخلاق وأمهات الفضائل، وذلك في قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون). (الجاثية : 18).
وقد طلب إليّ بعض الأخوة أن أدلي بدلوي في هذه القضية الحيوية التي فجرتها كتب مشبوهة ظهرت هذه الأيام.
الرد على الشبهات السابقة
أود أن أذكر هنا جملة ملاحظات أساسية:
أولاً: المعلوم من الدين بالضرورة
هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم " المعلوم من الدين بالضرورة "، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي.
وهذه الأشياء تمثل الركائز أو "الثوابت" التي تجسد إجماع الأمة، ووحدتها الفكرية والشعورية والعملية.
ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساسًا بين المسلمين، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته.
وأعتقد أن من هذه الأمور: أن اللّه تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه، وعلى لسان رسوله، للتبرك بها، أو لقراءتها على الموتى، أو لتعليقها لافتات تزين بها الجدران، وإنما أنزلها لتتبع وتنفذ، وتحكم علاقات الناس، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر اللّه ونهيه، وحكمه وشرعه.(2/667)
وكان يكفي هذا القدر عند كل من رضي باللّه ربًا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولاً، وبالقرآن منهاجا؛ لأن
يقول أمام حكم اللّه ورسوله: سمعنا وأطعنا، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة.
ثانيا: كثرة الأدلة على فرضية الحكم بما أنزل الله
مع تنازلنا عن هذا الموقف، والتبرع بإقامة الأدلة على فريضة الحكم بما أنزل اللّه، ووجوب اتباعه من المسلمين. نقول بكل تأكيد:
إن هناك أدلة لا تحصر من القرآن والسنة ــ غير آيات سورة المائدة التي وصفت من لم يحكم بما أنزل اللّه بالكفر والظلم والفسق ــ تدل بقوة ووضوح على ضرورة الاحتكام إلى ما أنزل اللّه، والنزول على حكم اللّه، وافق أهواءنا أم خالفها.
ولنقرأ هذه الآيات من سورة النساء:
(ألم تر إلى الذين يَزْعُمُون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون باللّه إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا. أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه توابًا رحيمًا. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حَرَجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا). (النساء 60 - 65).
ولنقرأ كذلك هذه الآيات من سورة النور :(2/668)
(ويقولون آمنا باللّه وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعْرِضُون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مُذْعِنين. أفي قلوبهم مَرَضٌ أم ارتابوا أم يخافون أن يَحِيف اللّه عليهم ورسوله بل أولئك هم الظَالمون. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون). (النور : 47 - 51).
وأيضًا في سورة الأحزاب :
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخِيَرةُ من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالا مبينًا). (الأحزاب : 36).
وهذه الآيات المحكمات من كتاب اللّه تعالى غنية عن أي تعليق، فهي واضحة الدلالة على أن الإذعان لحكم اللّه ورسوله جزء لا يتجزأ من الإيمان، وأنه لا خيرة لمؤمن ولا مؤمنة أمام ما قضى اللّه ورسوله، وأن لا يتصور من مؤمن يدعى إلى حكم اللّه ورسوله إلا أن
يقول: سمعنا وأطعنا. وقد أقسم اللّه على نفي الإيمان عن كل من لم يحكم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-، مع الرضا والقبول والتسليم كل التسليم.
ثالثا: آيات محكمة صريحة
أن آيات سورة المائدة ـ التي دمغت من لم يحكم بما أنزل اللّه بالكفر والظلم والفسوق ـ آيات محكمة صريحة الدلالة على موضوعها.
ولا بأس بأن نسوق هذه الفقرة التي اشتملت على تلك الآيات من كتاب اللّه ــ كاملة، ليتأملها كل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.(2/669)
يقول تعالى : (إنا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب اللّه وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون.. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقًا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين.. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون). (المائدة : 44 - 47).
أقوال المفسرين في هذه الآيات:
وللمفسرين من السلف في هذه الآيات أقوال:
فمنهم من قال: هي كلها في أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
ومنهم من قال: الآية الأولى ـ يقصد: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون) ـ في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى.
ومنهم من قال: نزلت في أهل الكتاب، وهي مراد بها جميع الناس مسلموهم وكفارهم:
روى الطبري عن إبراهيم النخعي قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي لهذه الأمة بها.
وعن الحسن: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبة.
وسئل ابن مسعود عن الرشوة في الحكم فقال: ذاك الكفر، ثم تلا: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون) ..
وعن السدي أيضًا ما يدل على العموم.
وعن ابن عباس أيضًا ما يفيد العموم، وذلك حين سئل عن كفر من لم يحكم بما أنزل اللّه، فقال: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر باللّه واليوم الآخر، وبكذا، وكذا.
ومثله قول طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة.(2/670)
وقول عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهو أيضًا مروي عن ابن عباس نفسه، رواه عنه سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه البيهقي في سننه.
ومثله عن: على بن الحسين، زين العابدين.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس فرق بين نوعين من الحكام، فقال: من جحد ما أنزل اللّه فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق.
وقفات مع المفسرين :في آيات سورة المائدة
أولا الآيات التي جاءت بصيغة عامة
أحب أن أقف هنا عدة وقفات لتوضيح موقف المفسرين:
الأولى: أن الذي لاشك فيه أن الآيات نزلت في أهل التوراة والإنجيل كما تدل على ذلك أسباب النزول، والسياق نفسه.
ولكن خواتيم الآيات (ومن لم يحكم.. .) جاءت بصيغة عامة كما يظهر ذلك بأدنى تأمل، فما الذي جعل بعض المفسرين يقصر أحكامها ومضمونها على غير المسلمين من أهل الكتاب وأهل الشرك؟
إن السبب يكمن في خوفهم من مسارعة بعض الناس إلى اتهام الأمراء والحكام بالكفر الأكبر بكل جور يحدث، ولو كان سببه الهوى أو المحاباة، ونحو ذلك، مما لا يكاد يسلم منه أمير أو حاكم، إلا من عصم ربك، وقليل ما هم.
وهذا ما جعل ابن عباس وأصحابه: عطاء وطاووسًا وابن جبير وغيرهم، يؤكدون أنه ليس بكفر ينقل عن الملة، كمن كفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويقولون: بل كفر دون كفر..إلخ، وما جعل ابن عباس يفرق بين الجاحد والمقر.
ومن قرأ المحاورة بين أبي مجلز التابعي ومن سأله من بني سدوس من الأباضية عن أمراء زمنهم، وكيف كانوا يريدونه أن يفتي بكفرهم بناء على الآية، يتبين له صدق ما أقول.(2/671)
فقد روى الطبري عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول اللّه : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، أحق هو؟ قال : نعم ! قالوا : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)، أحق هو ؟ قال : نعم ! قالوا : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، أحق هو؟ قال: نعم! قال فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل اللّه؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا! فقالوا: لا واللّه ولكنك تَفْرَق (أي تخاف) ! قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك، أو نحوا من هذا.
وفي رواية أخرى، قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعملون ـ يعني الأمراء ــ ويعلمون أنه ذنب! قال: وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود والنصارى.
الثانية: ضرورة التفريق بين نوعين من الحكام :
أن من الواجب الحتم أن نفرق ـ كما فرق الحبر ابن عباس ـ بين نوعين من الحكام: الحاكم الذي يلتزم بالإسلام منهاجًا ودستورًا ونظامًا للحياة، يحكم به ويرجع إليه، ثم ينحرف أو يجور في بعض الأمور الجزئية، بحكم الضعف أو اتباع الهوى، والحاكم الذي يرفض تحكيم ما أنزل اللّه، يقدم عليه أحكام البشر وقوانينهم. فهذا كأنما يتهم اللّه تعالى بأنه يجهل مصالح عباده، أو يعلمها ويشرع لهم ما يضادها مع أنه تعالى يقول : (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). (الملك :14).(2/672)
وهذا ما جعل العلامة محمود محمد شاكر يعقب في تحقيقه لتفسير الطبري على الأثر أو الأثرين المرويين عن أبي مجلز بقوله: من البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الأباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم اللّه عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول رقم: (12025): فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا. وقال لهم في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب.
وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم اللّه في كتابه وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فهذا الفعل إعراض عن حكم اللّه، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم اللّه سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام اللّه عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وتعطيل لكل ما في شريعة اللّه، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام اللّه المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها، فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!(2/673)
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكمًا وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم اللّه فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها وهو معصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكمًا خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-.
وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل اللّه وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام اللّه: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم اللّه، ورضي بتبديل الأحكام ـ فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. (من تعليق الأستاذ محمود شاكر على تفسير الطبري) .ا.هـ.
ثالثًا :العبرة بعموم اللفظ :
أن علماء الأصول بحثوا في قضية الأسباب الخاصة لنزول القرآن، أو ورود الحديث، والألفاظ العامة التي وردت بناء عليها، وحققوا : أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. ولولا ذلك لعطلت أحكام كثيرة نزلت بسبب حوادث خاصة في عهد النبوة "وهذا إذا صحت أسباب النزول، وكثير منها غير صحيح".(2/674)
وفي قضيتنا هذه خاصة "من لم يحكم بما أنزل اللّه" لا يمكن القول بأنها تخص اليهود والنصارى في كتبهم التي نسخت وانتهى أمدها، ولا تشملنا نحن المسلمين في كتابنا الخالد الباقي إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وكيف يطلب اللّه من أهل التوراة أن يحكموا بما أنزل اللّه فيها، ويأمر أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه، ولا يأمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه؟!
وقد كنت عقبت على هذا القول في بحث لي عن "الفتوى " (نُشر أخيرًا عن " دار الصحوة " بالقاهرة تحت عنوان : " الفتوى بين الانضباط والتسيب ").ومزالق المتصدين للفتوى في عصرنا، قلت فيه:
ومن أمثلة سوء التأويل ما قاله بعضهم حول الآيات التي وردت في سورة المائدة، في شأن من لم يحكم بما أنزل اللّه، وهو قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون)، (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون)، (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون).
قال هذا القائل: إن هذه الآيات لم تنزل فينا ـ معشر المسلمين ـ وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة.
ومقتضى هذا ـ في زعمه ـ أن من لم يحكم بما أنزل اللّه من اليهود والنصارى فهو كافر أو ظالم أو فاسق، وأما من لم يحكم بما أنزل اللّه من المسلمين فليس كافرًا ولا ظالمًا ولا فاسقًا.
وهذا واللّه مما لا ينقضي منه العجب.
صحيح أن سياق الآيات في أهل الكتاب؛ لأنها جاءت بعد الحديث عن التوراة والإنجيل ولكن يلاحظ أنها جاءت بألفاظ عامة، تشمل كل من اتصف بها من كتابيٍّ أو مسلم.
ولهذا حقق الأصوليون من علماء المسلمين: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ونظير ذلك أن تقول: فلان مرض؛ لأنه أساء التغذية والتهوية، ومن أساء التغذية والتهوية أصابته الأمراض.
فالقضية الأولى خاصة بفلان هذا، ولكن التعقيب الأخير جاء بلفظ عام يشمل كل من أساء في تغذية بدنه، أو تهوية مسكنه، وحكم عليه بأن تصيبه الأمراض.(2/675)
أو تقول: المدرسة الفلانية ساءت نتيجتها آخر العام لسوء إدارتها، ومن ساءت إدارته ساءت نتيجته.
فالكلام الأول خاص بمدرسة معينة، والكلام الأخير عام بألفاظه لكل من أساء الإدارة. بحيث يشمل هذه المدرسة وكل المدارس، وغير المدارس أيضًا على ما يقتضيه عموم اللفظ.
ومن ثم نقول: إن نزول الآيات في شأن أهل الكتاب لا يجعلها مقصورة عليهم؛ لأنها جاءت بألفاظ عامة تشملهم وتشمل كل من شاركهم في الوصف المذكور.
ولا يقبل عقل عاقل أن تكون التعقيبات المذكورة خاصة باليهود أو بالنصارى وحدهم، بمعنى أن الحكم بغير ما أنزل اللّه من اليهودي والنصراني كفر وظلم وفسوق ومن المسلم لا يعد كذلك.
هذا الكلام مرفوض لعدة أوجه :
1ـ هذا مناف للعدل الإلهي؛ لأن معناه أن اللّه يكيل بكيلين، كيل لأهل الكتاب، وكيل للمسلمين، مع أن اللّه لا يعامل عباده بالعناوين والأسماء، بل بالإيمان والأعمال. ولهذا قال في سورة النساء: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجز به). (النساء : 123).
وقد روى الطبري في تفسيره (12030) بسنده عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون)، (فأولئك هم الظالمون)، (فأولئك هم الفاسقون)، قال : فقيل : ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نِعْمَ الإخْوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرة، ولكم كل حلوة! كلا واللّه لتسلكن طريقهم قِدَى الشراك. (وقوله : (قدى) بكسر القاف وفتح الدال، يقال : "هو مني قيد رمح " بكسر القاف و " قاد رمح " و" قدى رمح " بمعنى واحد : أي : قدر رمح قال هدبة بن الخشرم :
وإني إذا ما الموت لم يك دونه قدى الشبر، أحمى الأنف أن أتأخرا
و" الشراك " : سير النعل، ويضرب به المثل في الصغر والقصر، يريده تشبهونهم : لا يكاد أمركم يختلف إلا قدر كذا وكذا).(2/676)
وخبر حذيفة، رواه الحاكم في المستدرك(2: 312ـ313) من طريق جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: كنا عند حذيفة، فذكروا : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقال رجل من القوم: إن هذه في بني إسرائيل! فقال حذيفة: نعم الإخوة بنو إسرائيل إن كان لكم الحلو، ولهم المر! كلا والذي نفسي بيده، حتى تَحْذُوا السُّنَّة بالسنة والقَذَّة بالقذة وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، "السنة" :الطريقة المتبعة، و"القذة ": ريش السهم، يقدر الريش بعضه على بعض ليخرج متساويًا.
2 ـ أن هذا القول يعطي أن ما أنزل اللّه على المسلمين دون ما أنزل على أهل الكتاب؛ لأن ترك الحكم بما أنزل على أهل الكتاب اعتبره كفرًا وظلمًا وفسوقًا، أما ترك الحكم بما أنزل اللّه على المسلمين فليس كذلك.
هذا مع أن الذي لا ريب فيه أن اللّه أنزل على المسلمين خير كتبه، فهو المصدق لها، المهيمن عليها، وهو من بينها الكتاب المعجز المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول اللّه تعالى لرسوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مُصَدّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). (المائدة : 48).
3ـ أن العبرة من ذكر قصص أهل الكتاب في القرآن، وبيان أحوالهم والحكم لهم أو عليهم، أن يتعظ بها المسلمون، فيتأسوا بما عندهم من خير، ويحذروا مما قارفوه من شر... وإلا كان ذكر هذه الأمور عبثًا.
والواقع أن علماء المسلمين كافة يستشهدون بالآيات الخاصة التي جاءت في أهل الكتاب، إيمانًا منهم بأنها سيقت للاعتبار والذكرى.(2/677)
ولهذا لم يتوقف أحد عن خطاب علماء المسلمين بما خوطب به بنو إسرائيل في القرآن في قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتَنْسَوْن أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (البقرة : 44) .ولا عن خطاب المسلمين عامة بما خوطب به بنو إسرائيل: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض).
وإذا كان هذا في الخطاب الخاص، فكيف باللفظ العام، كما في الآيات التي معنا؟ وهي آيات ثلاث تتحدى كل متأول، وتدمغ كل حاكم منحرف عن حكم اللّه بأوصاف ثلاثة: بالكفر والظلم والفسوق.
ولو كان رمحًا واحدًا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث!
الإجماع على وجوب الحكم بما أنزل الله:
رابعًا: أن الذين قالوا: إن الآيات نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم أهل التوراة، وأهل الإنجيل، لا يعنون أن الحكم بما أنزل اللّه في القرآن ليس بواجب على المسلمين. فهذا غير متصور أن يصدر من مسلم عادي، ناهيك بفقيه أو مفسر لكتاب اللّه، فلماذا أنزل اللّه كتابه إذن، إن لم يكن الحكم بما تضمنه من شرائع وأحكام واجبًا ملزما؟ كل ما في الأمر أن بعضهم أراد أن يفر من قضية التكفير، فقال ما قال. ولكن لم يخطر ببال أحد منهم أن الحكم بما أنزل اللّه غير لازم.
ومن هنا قال من قال منهم: نزلت في أهل الكتاب، وهي علينا واجبة.
ومن الأدلة على ذلك أن الإمام أبا جعفر الطبري، اختار القول بأنها نزلت في أهل الكتاب، ولكنه أوجب الحكم بما أنزل اللّه في النهاية.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب؛ لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات في سياق الخبر عنهم، فكونها خبرًا عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن اللّه -تعالى ذكره- قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل اللّه، فكيف جعلته خاصا؟(2/678)
قيل: إن اللّه تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم اللّه الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم، على سبيل ما تركوه كافرون. وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به، هو باللّه كافر، كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم اللّه بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي.ا هـ.
وبهذا القول انتهى إلى ما انتهى إليه غيره من القائلين بالعموم، المفرقين بين أنواع الحاكمين ومواقفهم. وهذا ما نقول به وما يقوله كل عالم محقق، فلا يطلقون الحكم بالتكفير على كل جائر، بل يفصلون.
رأي السيد رشيد رضا:
يقول العلامة رشيد رضا في تفسيره تعقيبًا على الآيات في سورة المائدة:
الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة وترد بمعاني مختلفة كما بيناه في تفسير: (والكافرون هم الظالمون)من سورة البقرة. وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة، وما ينافي دين اللّه الحق، دون لفظي الظلم والفسق. ولا يسع أحدًا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرًا في عرفهم، ولكنهم يقولون: "كفر دون كفر" ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرًا عندهم، بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلمًا أو فسقًا: لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل اللّه محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن.(2/679)
وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي اللّه عنه أقوالا منها قوله: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. ومنها: أن الآيات الثلاث في اليهود خاصة ليس في أهل الإسلام منها شيء. وروي عن الشعبي أن الأولى والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى (المنقول عن الشعبي كما عند الطبري : أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، وهو ما أختاره ابن العربي كما " في أحكام القرآن " له، ونقله القرطبي).وهذا هو الظاهر، ولكنه لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله. واستدل بما ذكرناه من قبل عن حذيفة وابن عباس.
والأوليان منها في سياق الكلام على اليهود، والثالثة في سياق الكلام على النصارى لا يجوز فيها غير ذلك. وعبارتها عامة لا دليل فيها على الخصوصية، ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى ــ وكذا الأخريان ــ إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل اللّه ناشئًا عن استقباحه وعدم الإذعان له وتفضيل غيره عليه، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعرفة سبب النزول كما رأيت في تصويرنا للمعنى.(2/680)
وإذا تأملت الآيات أدنى تأمل تظهر لك نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى، وبوصف الظلم في الثانية، وبوصف الفسوق في الثالثة، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثرًا لغيره عليه، فهو الكافر به. وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى اللّه، وهذا هو العاصي بترك الحكم الذي يتحاشى أهل السنة القول بتكفيره، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل.
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة: فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر، وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة.(2/681)
وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم، وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل اللّه عليهم، فالذين يتركون ما أنزل اللّه في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله اللّه تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له، لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعًا. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق، ولا عكس.وحكم اللّه العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل، فحيثما وجد العدل فهناك حكم اللّه ــ كما قال أحد الأعلام.
ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره، إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه، كنص رفع الحرج في باب الضرورات.ا هـ.
فهذا هو موقف الشيخ رشيد رحمه اللّه من عدم الحكم بما أنزل اللّه، واضحًا بينًا مفصلاً، لمن أراد أن يعرفه، ولا يجوز أخذ بعض كلامه مفصولا عن بعض، واتهامه بالتساهل والمغالطة والانهزام، فهذا ظلم لهذا المصلح العظيم.
مناقشة حول رأي ابن عباس:
وقد زعم بعضهم أن مذهب ابن عباس رضي اللّه عنهما، هو قصر الآيات على سبب
نزولها وجادلوا في ذلك الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ فهمي تهويدي، ولا أدري من أين نسبوا هذا إلى ابن عباس؟ وأقوال ابن عباس في تفسير القرآن المروية عنه تنطق بأنه لا يرى هذا الرأي إلا في آيات محدودة يدل سياقها على التخصيص لا على التعميم.
أما فيما عدا ذلك فهو يأخذ بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.(2/682)
وأظهر دليل على ذلك هو رأيه في هذه الآيات نفسها، من سورة المائدة، فقد روى الطبري وغيره ـ كما ذكرنا من قبل ـ أنه قال في آية : (هم الكافرون)هو به كفر وليس كمن كفر باللّه، وملائكته وكتبه ورسله.
كما روي عنه أنه فرق بين الجاحد والمقر، فالأول كافر، والثاني ظالم فاسق.
وروى عنه ابن المنذر: أنه قال ردًا على من جعل الآيات خاصة بأهل الكتاب: "نعم القوم أنتم، إن كان ما كان من حلو فهو لكم، وما كان من مر فهو لأهل الكتاب" كأنه يرى أن ذلك في المسلمين. (نقله السيوطي في : " الدر المنثور ").
دعوى أن الحكم مقصور على الفصل بين المتنازعين :
أما من قال: إن لفظ الحكم جاء في القرآن بمعنى القضاء والفصل بين الناس فيما يتنازعون فيه من قضايا ولا علاقة له بالجانب السياسي أو الإداري أو التشريعي، بدليل قوله: (وأن احكم بينهم) ولم يقل: " وأن احكمهم" فهذا الادعاء غير مسلم على إطلاقه.
ومن قرأ آيات المائدة كلها وجد فيها ما يشمل القضاء والتشريع والإدارة والسياسة ونحوها.
ففي مقام الحديث عن التوراة يقول:
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب اللّه وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون). (المائدة : 44).
فالحكم هنا أعم من الفصل بين المتخاصمين.
وفي مقام الحديث عن الإنجيل يقول: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون). (المائدة : 47).
ومن المعروف أن الإنجيل ليس كتاب أحكام يرجع إليه القضاة في مسائل النزاع، بل هو كتاب وصايا ومواعظ وآداب وسلوك، فالحكم بما أنزل اللّه فيه لا يقف عند حدود ما ذكره صاحب الادعاء.(2/683)
وهب أن هذا الزعم كان صحيحًا، وكان الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات، فهل يعفي هذا الأمراء ورؤساء الدول والسلطات التشريعية والتنفيذية من مسئولية الحكم بما أنزل اللّه؟ كلا، فالمسئولية مشتركة، كما قرر ذلك المحققون من علماء العصر.
يقول العلامة رشيد رضا: يستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين، فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها.
ومثل ذلك قاله الشيخ شلتوت في "فتاويه".
كلمة (شريعة) في القرآن ودلالتها :
من غرائب ما قاله بعض الناس في عصرنا ـ وكتبوه في كتب، ونشروه في صحف!! قولهم: إن كلمة " شريعة " لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة في سورة الجاثية: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها). (الجاثية : 18).
واستدل بهذا على أن القرآن لم يعر قضية الشريعة أهمية واعتبارًا، ولو صح هذا الاتجاه في الاستدلال لقلنا: إن الإسلام لا يهتم بقضية الأخلاق ؛ لأنه لم يذكر الأخلاق إلا في الثناء على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله:(وإنك لعلى خلق عظيم). (القلم : 4).
ولقلنا: إنه لم يهتم بالفضائل؛ لأن كلمة فضيلة لم تذكر فيه.
بل لو صح هذا لكان لنا أن نقول: إن القرآن لا يهتم بالعقيدة؛ لأن كلمة "عقيدة " لم ترد فيه مُعَرّفة ولا مُنَكّرة. وكذلك لم ترد في السنة المشرفة.
ولو تعاملنا مع المفاهيم والقيم والتعاليم بهذا الفهم القاصر، والمنهج اللفظي الأعرج؛ لاختلطت علينا الأمور، والتبس الحق بالباطل، وتنكبنا سواء السبيل.
إنما الواجب أن نبحث عن مضمون الموضوع في القرآن والسنة، بغض النظر عن الألفاظ والمصطلحات التي استحدثها الناس بعد عصر نزول القرآن.
مشروعية الوصف بما وصف القرآن(2/684)
أعتقد أنه لا يمنع عالم من العلماء من وصف من لم يحكم بما أنزل اللّه بالكفر؛ لأنه وصفه بما وصفه اللّه تعالى به في كتابه المبين، كما وصفه بالظلم والفسق. فمن وقف عند نص القرآن ولفظه لا يتّهم بالخطأ أو الزيغ، كل ما عليه أن يفسر الكفر بما فسر به ابن عباس وغيره. بأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وأنه كفر دون كفر، وأن يفرق بين الجاحد والمقر، كما فرق ترجمان القرآن ومحققو علماء الأمة.
أمران مهمان :
على أن هنا أمرين مهمين يجب أن ننبه عليهما الحاكمين والمحكومين معًا، وهما:
1ـ أن اتصاف الإنسان بالظلم والفسوق ليس شيئًا هينا، بحيث يستخف به ويستهان بأمره، فليس الكفر المخرج من الملة هو المخوف وحده، بل الظلم والفسق من أشد ما يحذره المسلم الحريص على دينه، الخائف على نفسه، الراجي لقاء ربه، قال تعالى: (ألا لعنة اللّه على الظالمين) (هود : 18)، (واللّه لا يحب الظالمين) (آل عمران : 57)، (إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين) (المائدة : 51)، (ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا) (الفرقان : 19)، (إنه لا يفلح الظالمون) (يوسف : 23)، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) (الشعراء : 227)، (إن اللّه لا يهدي القوم الفاسقين) (المنافقون : 6).(بئس الاسم الفُسُوق بعد الإيمان) (الحجرات : 11).(وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون). (الأعراف : 165).(2/685)
2ـ أن الحكم بغير ما أنزل اللّه ـ وإن لم يكن كفرًا مخرجًا من الملة، لعدم جحود الحاكمين وإنكارهم لشرع اللّه ـ هو بالقطع حكم مخالف للإسلام، وحسب صاحبه أنه رضي لنفسه أن يكون ظالمًا وفاسقًا. وهو ليس ظلم ساعة، ولا فسق يوم، بل هو ظلم مستمر، وفسق دائم بدوام الحكم بغير ما أنزل اللّه. ولهذا كان بقاء هذا الحكم منكرًا بيقين وبالإجماع، وكان السكوت عليه منكرًا بيقين وبالإجماع، وكانت معارضته ومجاهدته واجبة بيقين، وبالإجماع، فيتعين على أهل الحل والعقد "مثل المجالس النيابية" تغييره بالوسائل الدستورية، وإلا فبالقوة العسكرية، أو الشعبية، ولكن بشرط الاستطاعة وألا يؤدي إلى فتنة أكبر، ومنكر أعظم، فحينئذ يرتكب أخف الضررين، ويرضى بأهون المفسدتين، وينتقل الجهاد الواجب من اليد إلى اللسان، ثم من اللسان إلى القلب، وذلك أضعف الإيمان.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن مسعود، رضي اللّه عنه أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من نبي بعثه اللّه في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يأمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز
هل كان جاهلاً بالسياسة ؟
س : لقد قرأنا في كتب التاريخ، وفي كتب التربية الإسلامية وغيرها: أن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي من أعظم حكام المسلمين عدلاً وفضلاً وفقهًا وحسن سياسة، حتى وصف بأنه "الخليفة الراشد"، واعتبره الكثيرون من المؤرخين والعلماء "خامس الراشدين".
ولكننا فوجئنا بكاتب علماني منتفش مغرور يكتب في بعض المجلات التي تبنَّت كل ما يعادي الإسلام ودعوته، يهاجم عمر بن عبد العزيز بما لم يهاجمه به أحد قط فيما نعلم.(2/686)
ولابد أنكم اطلعتم على ذلك فيما كتبه حسين أحمد أمين، الذي لا ندري لحساب من يسوِّد هذه الصحائف، ومن المستفيد من وراء تشويه كل شيء في تراثنا وتاريخنا!
يقول هذا المتطاول الجريء:
(لم ير الأتقياء في حكم أحد من الخلفاء الأمويين ما يوافق مثلهم العليا، إلا عمر بن عبد العزيز، الذي أسهم جهله بالشئون السياسية في تدهور أحوال الدولة ثم سقوطها، وانتقال السلطة من أيدي العرب إلى الفرس!!) " مجلة المصور" القاهرة في 9/12/1983م.
وفي عدد آخر من "المصور" 17/4/1404هـ ـ 19/1/1984م يحمل على الفقهاء، ثم على المؤرخين ويتهمهم بالتواطؤ على تزوير التاريخ، حتى تكونت عند الناس النظرة "الرومانسية" ـ كما سماها ـ وبات المسلمون ينظرون إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز على أنه من أعظم الخلفاء، على حين يصفه الكاتب بأنه: لم تجلب سياسته المالية والإدارية إلا خراب الدولة! ثم يقول:
(وإن المسلمين لا يزالون يمصمصون شفاههم إعجابًا بموقفه من واليه على حمص الذي كتب إليه : إن مدينة حمص قد تهدم حصنها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إصلاحه، فرد عليه عمر بقوله : "أما بعد، فحصنها بالعدل ").
ويعقب الكاتب المتحامل على هذا قائلاً: (وهذا رد رغم ما فيه من بلاغة تستهوي العرب، فإنه يستوجب المؤاخذة البرلمانية، في أي نظام حكم ديمقراطي!).
ورجاؤنا أن تبينوا حقيقة موقف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهل لهذه الدعوى التي يدعيها الكاتب أصل أو دليل يعتمد عليه ؟
وفقكم الله لرد هذا التطاول على أحد رموز الأمة، وجزاكم الله خيرًا.
ع.ص
القاهرة
جـ : لقد قرأت ما كتبه الكاتب المذكور عن: عمر بن عبد العزيز، وعن السلف الصالح، وعن الشريعة الإسلامية، ولا أدري كيف يُسمح لمثله أن يصول ويجول ويقول ما يشاء، ويحطم ما يريد، ولا يُسمح لأحد أن يرد عليه.
دعوى لا أساس لها :(2/687)
ولا أدري على أي أساس علمي بنى هذا المتطاول الجريء دعواه العريضة، عن عمر بن عبد العزيز ؟ ! فإن المنطق يرده، والإجماع يرفضه، وتاريخ عمر نفسه يكذبه، وآثار حكمه تنقضه.
أما المنطق، فليس من المعقول أن يكون عمر بن عبد العزيز جاهلاً بالسياسة والإدارة وهو ابن الأسرة الأموية القح، أبوه عبد العزيز بن مروان، وعمه عبد الملك بن مروان، المؤسس الثاني لدولة بني أمية.
وأبناء عمومته الخلفاء: الوليد وهشام وسليمان، وهم أصهاره كذلك، فإن فاطمة زوجته بنت عبد الملك، وهي التي قال فيها الشاعر:
بنت الخليفة، والخليفة زوجها أخت الخليفة، والخليفة جدها!
وقد كان أبوه أميرًا على مصر، وتولى هو إمارة المدينة ومصر.
فليس يُعقل ممن نشأ هذه النشأة، وتقلب في المناصب، حتى رشح لأعلى منصب في الدولة ـ الخلافة ـ أن يكون جاهلاً بالسياسة والإدارة! إلا أن يكون مجرد التدين والالتزام بالعدل والتقوى سببًا لحرمانه من الكفاية السياسية التي تمتع بها أهله وذووه جميعا!
وأما الإجماع، فقد اتفقت الأمة كلها على أنه لم يأت بعد الخلفاء الراشدين خير من عمر بن عبد العزيز، ولهذا سموه : خامس الراشدين.
حتى العباسيون وأشياعهم حين اندفعوا أول استيلائهم على الحكم فنبشوا قبور بني أمية، لم يفكر أحد منهم في نبش قبر ابن عبد العزيز.
وأما تاريخ عمر، فهو ينطق بأنه كان سياسيًا وإداريًا من الطراز الأول.
وأنا أذكر هنا بعض الوقائع التي تدل على حنكته وحكمته السياسية، وقدرته الإدارية.
وحسن فهمه للحياة وللدين معا.
رووا عن عمر بن عبد العزيز: (أن ابنه عبد الملك قال له يوما: مالك لا تنفذ الأمور ؟ ! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق).(2/688)
يريد الشاب التقي المتحمس من أبيه ـ وقد ولاه الله إمارة المؤمنين ـ أن يقضي على المظالم وآثار الفساد دفعة واحدة ـ دون تريث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون ! فماذا كان جواب الأب الصالح، والخليفة الراشد، والفقيه المجتهد ؟
(قال عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة). (انظر : الموافقات للشاطبي 2/ 94).
يريد الخليفة الراشد أن يعالج الأمور بحكمة وتدرج، مهتديًا بمنهج الله تعالى الذي حرم الخمر على عباده بالتدريج. وانظر إلى تعليله المصلحي الرصين، الذي يدل على مدى عمقه في فقه السياسة الشرعية: إني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة ! ويكون من ذا فتنة!
وروى عنه ميمون بن مهران قوله: (إني لأريد الأمر من أمر العامة ـ يقصد ما يتعلق بالجماهير ـ فأخاف ألا تحمله قلوبهم، فأخرج معه طمعًا من طمع الدنيا .. فإن أنكرت قلوبهم هذا سكنت إلى هذا). (انظر : سير أعلام النبلاء للذهبي 5/129، 130، البداية والنهاية 9/200).
يريد أن لا يصدر قرارًا من القرارات التي تمس الجمهور مما يرى أنه الحق من الأعباء والتكاليف، إلا ومعها قرارًا آخر يتضمن مصلحة دنيوية لهم، فإن أنكروا ذاك آنسوا لهذا، وهذا ما يفعله المحنكون في السياسة إلى اليوم.
ومرة أخرى، يدخل عليه ابنه المؤمن المتوقد حماسة وغيرة، ويقول عاتبًا أو غاضبا:(2/689)
(يا أمير المؤمنين، ما أنت قائل لربك غدا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تحيها ؟ ! فقال أبوه : رحمك الله وجزاك من ولد خيرًا ! يا بني، إن قومك قد شدّوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا على فتقًا يكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون على من أن يراق في سببي محجمة من دم ! أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا، إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنة ؟). (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 223، 224).
بهذه النظرة الواقعية العميقة كان يسوس عمر الأمور، وبهذا الأسلوب المتدرج العاقل كان يعالج الأمور الصعبة المعقدة، وبهذا المنطق القوي الرصين، أقنع الأب الراشد ابنه المتوثب المتحمس، فهل يوصف مثل هذا السياسي الحكيم بأنه جاهل بالشئون السياسية ؟!!
إن هذا لا يقوله إنسان يفهم السياسة، أو يفهم الحياة، إنما يقوله من لا يملك إلا الجرأة على الدعاوى العريضة الهائلة، دون أن يقيم عليها دليلاً.
وأما ما ذكره عمر بن عبد العزيز عن سور المدينة، وقوله لواليه: حصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم، والذي زعم الكاتب العبقري ! أنه لو كان في بلد ديمقراطي لكان موضع مؤاخذة برلمانية ! فالحق أن الكاتب في قوله هذا : إما غبي لم يفهم ما هو في الوضوح كالشمس، وإما فاهم يحرف الكلم عن مواضعه لهوى في نفسه.(2/690)
فعمر بكلمته البليغة والحكيمة يشير إلى حقيقة اجتماعية من أعظم الحقائق، وهي أن المدن لا تحميها الأسوار المادية، وإن علت وعظمت، إنما يحميها أهلها وسكانها، ولن يفعلوا ذلك إلا إذا شعروا بأن خير هذه المدينة لهم ولذريتهم، وأنهم فيها آمنون مطمئنون، أما إذا شعروا بأن فئة محدودة هي التي تُطعَم التمر، وتتبرع لهم بالنوى، وتأكل اللحم، وتدع لهم العظم، أو أنهم فيها خائفون مهددون في أرزاقهم، أو أعراضهم، أو حرماتهم، فليس بعيدًا أن يتقاعسوا عن الدفاع عنها، ولا يبعد أن يستغل العدو هذا الموقف، فيغير عليها، وهو آمن من غضبة الجبهة الداخلية.
لهذا كانت وصية عمر للوالي أن يهتم بما يغفل عنه الولاة، وهو إقامة العدل ومحاربة الظلم، التي تحبب إلى الناس أوطانهم ومدنهم وحياتهم، وتجعلهم يتشبثون بها ويدافعون عنها بالأنفس والنفائس، فأعظم سور يحمي المدن حقًا: ما كان من البشر لا من الحجر!
ويؤكد هذا أن الوالي كان يريد من عمر أن يقطع له مالاً لمرمة سور المدينة كما روى ذلك الحافظ السيوطي في: " تاريخ الخلفاء " (المصدر السابق ص 216).وعمر من أحرص الناس في إنفاق الأموال، فبدل أن تتجه الأموال إلى الجوانب العسكرية التي كثيرًا ما تبتلع الميزانيات، وخصوصًا عند الحكام الطامحين وأعوانهم من القادة العسكريين، يجب أن توجه إلى النواحي الاجتماعية لسد الخلل، وتحقيق الكفاية لكل محتاج.
لقد كان ابن عبد العزيز مؤمنًا كل الإيمان بأن العدل هو أساس الدولة، وسناد الحكم، وحارس الملك، وليس هو الجبروت، والقوة المادية التي عامل بها بعض ولاة بني أمية الناس، دهرًا قبل عمر، واعتبروها وحدها التي تحفظ لهم الملك، ناسين أن الظلم لن تدوم دولته، وأن المظلومين لابد أن ينتفضوا يومًا ما.
ومن هنا كان رد عمر على ولاته ـ الذين اقترحوا عليه أن يسيروا في ولاياتهم على سنة من كان قبله من العسف والإرهاب ـ هو الرفض والإنكار والتنديد.(2/691)
ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء ما أخرجه ابن عساكر عن السائب: (كتب الجراح ابن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام). (نفس المصدر السابق ص 225).
وقد دلت الوقائع أن فلسفة عمر في الحكم، أصوب من فلسفة من سبقه من المتجبرين، وأن سياسته آتت أكلها دون حاجة إلى الخروج عن أحكام الشريعة وحدودها.
قال يحيى الغساني من ولاة عمر: (لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقبًا. فكتبت إليه أعلمه حال البلد وأسأله: آخذ الناس بالظنة، وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة ؟ فكتب إلى: أن آخذ الناس بالبينة، وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق، فلا أصلحهم الله ! قال يحيى: ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد، وأقلها سرقة ونقبًا). (المصدر السابق ص 221).
وكان من حسن سياسته أنه يوسع على عماله " ولاته " في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار، وكانت حجته أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين.
وقد قيل له يوما: لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك ؟ فقال: لا أمنعهم حقًا لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم. (البداية والنهاية لابن كثير 9/203).(2/692)
ومن سياساته الاقتصادية الرشيدة ما رواه أبو عبيد في " الأموال ": أنه كتب إلى واليه عبد الحميد عبد الرحمن ـ وهو بالعراق ـ (أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقى في بيت المال مال ! فكتب إليه: أن انظر كل من ادّان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه، فكتب إليه واليه: إني قد قضيت عنهم، وبقى في بيت مال المسلمين مال ! فكتب إليه: أن انظر كل بكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه وأصدق عنه ـ ادفع له الصداق ــ فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقى في بيت المال مال ! فكتب إليه عمر: أن انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا عامين). (الأموال لأبي عبيد بتحقيق هراس ص 357، 358).
وهنا نجد سياسته الاقتصادية لا تقوم على عدالة التوزيع فقط، بل تضم إلى ذلك تنمية الإنتاج، ومن هنا وجه واليه إلى التسليف الزراعي لأصحاب الأرض، حتى يقووا على الاستمرار في زراعة الأرض التي هي المورد الأول لقوت الناس.
ومن حسن سياسته أنه أبطل سب آل البيت، وشغل الناس عن الخوض في الفتن بالجد في العمل، ولما سئل عما وقع بين الصحابة من حروب، قال كلمته الشهيرة: تلك دماء طهر الله منها أيدينا، فلنطهر منها ألسنتنا!
هذا هو عمر بن عبد العزيز في سياسته وإدارته، حكيم ثاقب النظرة، واسع الأفق، يراعي الواقع، ويقدر العواقب، ويؤمن بالتدرج، ويلبس لكل حالة لبوسها.
ولقد آتت هذه السياسة الحكيمة، والإدارة العاقلة، أكلها في رخاء الدولة وأمنها واستقرارها، وشعور الناس بسيادة العدل والطمأنينة في كل أقطارها، وليس أدل على سلامة البذرة، من طيب الثمرة.
فإذا كان بعض الناس يتصور حسن الإدارة ـ أو يصورها ـ في سوق الناس بالعصا الغليظة، وفرض هيبة الدولة بسيف الإرهاب، وأخذ البريء بالمسيء، حتى يقول الرجل لصاحبه: انج سعد فقد هلك سُعَيد ! فلهم ما يشاءون.(2/693)
ولكنا نقول لهم ما قاله التاريخ: إن درة عمر بن الخطاب كانت أهيب لدى الناس من سيف الحجاج!
وأما آثار خلافة عمر بن عبد العزيز في السياسة والاقتصاد والإدارة والأمن في الداخل والسمعة في الخارج، وانتشار الإسلام، فهي أشهر من أن تذكر.
وحسبي هنا أن أشير إلى بعض المظاهر التي لها دلالتها والثابتة في أوثق المصادر.
روى البيهقي في الدلائل عن عمر بن أسيد ـ ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ـ قال: (إنما ولي عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرًا، لا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذه حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم، فلا يجده، فيرجع بماله.. قد أغنى عمر الناس).
قال البيهقي بعد رواية هذا الخبر: (فيه تصديق ما روينا في حديث عدي بن حاتم
رضي الله عنه). (انظر : فتح الباري 6/ 613، وإرشاد الساري للقسطلاني 6/51، وعمدة القاري للعيني 16 / 135).
وقال يحيى بن سعيد: (بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد فقيرًا، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس). (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص 59).
ولا غرو أن أجمع علماء الأمة من فقهاء ومتكلمين، ومحدثين وصوفية، ومؤرخين، على فضل عمر بن عبد العزيز، وإعطائه مكانًا بارزًا في التاريخ الإسلامي وسير رجاله المصلحين.
وحينما شرحوا الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو داود وغيره: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، وأرادوا أن يطبقوه على الواقع التاريخي، أجمعوا على أن عمر هو مجدد المائة الأولى، كما ذكر ذلك الحافظ السيوطي في منظومته عن المجددين. قال:
فكان عند المائة الأولى عمر خليفة العدل بإجماع وقر
(انظر : فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 1/11).(2/694)
وأما الواقعة التي اعتمد عليها الكاتب في اتهامه لعمر بسوء الإدارة، والتي اعتبرها كافية في تقديم الخليفة الراشد للمحاكمة بتهمة تخريب الدولة ! فإنه ـ للأسف ـ لم يفقه معناها، ولم يدرك حقيقة مغزاها.
إن عمر حين قال لواليه في شأن سور المدينة: "حصنها بالعدل"، أراد أن يوجهه ويوجه أمثاله من الولاة إلى أمر عظيم لا يدرك سره الخطافون المتعجلون المتغطرسون. هذا الأمر العظيم: أن البلاد لا يحصنها من الغزوات الخارجية، ولا يحميها من الفتن الداخلية، مجرد إقامة الأسوار والتحصينات المادية، إنما يحميها ويحصنها قبل كل شيء إقامة العدل في ربوعها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومحاربة المظالم، وردها إلى أهلها، فهذا هو الذي يجعل من أبنائها سورًا حقيقيًا لحراستها ويجعل من كل منهم درعًا لحمايتها.
أما إذا فقد العدل فمجرد الأسوار لا تحميها، وأهلها لا يبالون بسقوطها كما حكى تاريخ الجاهلية عن عنترة العبسي الذي وقف يتفرج على قبيلته، وهي تهزم أمام عينيه، وهو لا يحرك ساكنًا، لأنهم ظلموه، واعتبروه عبدًا يرعى الجمال ! وقال في ذلك لأبيه حين طلب إليه أن يكر مع قومه: العبد لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلاب والصر!
ولا يعني رد عمر ـ لمن يتذوق معاني الكلام ويفقه مراميه ـ أن تهمل أسوار المدن وتحصينات البلاد، ولكنه أراد أن ينبههم إلى ما غفلوا عنه، ولكل مقام مقال.
ومن العجب العاجب أن الكاتب الذي صوب سهام النقد والإنكار إلى عمر بن عبد العزيز يكيل المديح والإطراء إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، طاغية بني أمية!
يقول: قد تكونت صورة شوهاء من الصعب تغييرها عن الحجاج بن يوسف .... لمجرد قسوته في استئصال شأفة المارقين الخارجين على الدولة، وهو الذي شهد له المؤرخون الأوربيون بأنه أحد أعظم الإداريين في تاريخ العالم.(2/695)
هنا يكشف لنا الكاتب عن المؤثرات الموجهة لتفكيره وتكوين رأيه: ما يقوله الأوربيون والمستشرقون ! فإذا شهد هؤلاء للحجاج، فلنضرب عرض الحائط بشهادة المؤرخين والفقهاء وجمهور العلماء!
والغريب أن يقول هذا من يريد أن يسوق عمر بن عبد العزيز إلى قفص الاتهام باسم الديمقراطية، فأين الديمقراطية من سلوك الحجاج، الذي كان يحبس بالظنة، ويقتل بالشبهة، ولا يبالي بسفك الدماء، وظلْم الأبرياء، في سبيل توطيد الملك لبني أمية حتى قالوا: إنه قهر العرب وأذلهم، فمهد الطريق لظهور الفرس، وغيرهم من العناصر الأعجمية.
والحجة التي ساقها الكاتب (الديمقراطي) لتبرير طغيان الحجاج وقسوته هي نفس الحجة التي يسوقها الطغاة والجبابرة المستبدون في كل زمان، فكم رأينا في عصرنا من برآء سجنوا، وكم من شهداء سقطوا، وكم من دماء سفكت، وحرمات انتهكت، وأموال صودرت، وأسر شردت، وجلود شويت بالسياط، وأجساد شوهت بالتعذيب، ومدن دمرت على أهلها، وأطفال زغب الحواصل فقدوا الآباء والأمهات معًا، وعذارى اعتدي عليهن في سجون الطغاة .. كل ذلك تم تحت مظلة الحفاظ على "أمن الدولة "، "واستئصال شأفة المارقين الخارجين عليها".
وانظر إلى الكاتب الذي نصب نفسه محاميًا عن قسوة الطغاة، كيف نضحت ألفاظه بما في نفسه. إنه يسمي مثل عبد الله بن الزبير الصحابي (هو الوحيد الذي قيل فيه : هو صحابي وأبوه صحابي، وأمه صحابية، وجده لأمه صحابي، وأبو جده صحابي، فأبوه حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحد العشرة المبشرين : الزبير بن العوام، وأمه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، وجده أبو بكر، وأبو جده أبو قحافة، رضي الله عنهم جميعًا). العالم الفارس المجاهد، أحد العبادلة الأربعة، والذي بويع بالخلافة، ونودي بأمير المؤمنين، تسع سنوات، وكاد الأمر يستتب له لولا ما قدر الله، يسميه "مارقًا ! "، ويسمي من كان معه من الصحابة والتابعين "مارقين".(2/696)
ويسمي سعيد بن جبير وغيره من الفقهاء الذين ثاروا مع ابن الأشعث على بطش الحجاج وأمثاله "مارقين" !
إن الكاتب ـ وهو خريج حقوق ـ نصب نفسه ممثل الاتهام لخصوم الحجاج ومعارضيه، وهو يذكرنا بممثلي الاتهام اليوم الذين شاهدنا الكثير منهم ينادون بقطع الرقاب، وتوقيع أقصى العقوبة لكل حركة أو جماعة تقول للحاكم: " لم ؟ " أو " لا ".(2/697)