|
المؤلف : د. يوسف القرضاوي
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
فتاوى معاصرة.
للدكتور يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم.
مقدمة الطبعة الأولى.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري . واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي).
اللهم يا معلم آدم وإبراهيم، علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا . (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم).
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) . اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، وعمل لا يرفع . وصل اللهم وسلم على معلم الناس الخير، ورحمتك المهداة للعالمين . خاتم أنبيائك، وصفوة خلقك، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته، واهتدى بسنته إلى يوم الدين.
(وبعد) فقد كان مما كتبه الله لي أن أشتغل بإفتاء الناس منذ عهد مبكر . فقد كنت أؤم الناس وأخطبهم وأدرسهم، وأنا طالب في القسم الابتدائي (الإعدادي الآن) من الأزهر الشريف، ومن خطب الناس أو درسهم، فلا بد أن يسألوه، ولا مفر له أن يجيب . وهذا ما دعاني إلى الاهتمام بفقه الشريعة، ومشكلات الناس من أمد بعيد.
ومع أني تخرجت في كلية أصول الدين بالأزهر، التي تعني بالعقيدة والفلسفة والتفسير والحديث، لا في كلية الشريعة التي تعني بالفقه وأصوله . فإن ذلك لم يقطعني عن دوام الاطلاع على الفقه وتاريخه وأصوله وقواعده . وقد زادتني دراستي في كلية أصول الدين ولم تنقصني، وأمدتني بزاد نافع من الثقافة الفلسفية والتاريخية، بجانب الثقافة الإسلامية المتنوعة.
(1/1)
وكان من نعمة الله عليّ أن تحررت منذ وقت مبكر أيضًا من ربقة التمذهب والتقليد والتعصب لقول عالم بعينه، وإن كانت دراستي الرسمية للفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.
ويرجع الفضل في ذلك لعدة عوامل، منها: بيئة الحركة الإسلامية التي كنت أعيش في رحابها، ودعوة مؤسسها الشهيد حسن البنا - رحمه الله - في رسالته المركزة المسماة " رسالة التعاليم " إلى التحرر من العصبية، ووزن أقوال المتقدمين بميزان الكتاب والسنة، فما وافقهما من أقوال السلف قبلناه، وإلا فكتاب ربنا، وسنة نبينا، أولى بالاتباع.
وكان لكتاب أخينا الشيخ سيد سابق " فقه السنة " وكان قد صدر الجزء الأول منه في فقه الطهارة والصلاة، تأثير طيب في تفكيري، وتوجيهي إلى الأدلة من القرآن والسنة، أستقي منهما بدل الرجوع إلى كتب الفقه المذهبي وحدها.
وقد تبين لي بطول الدراسة والممارسة، أن الرجوع المباشر إلى الكتاب والسنة يقترن دائمًا بالتخفيف والتيسير، والبعد عن الحرج والتعسير . على خلاف الرجوع إلى الفقه المذهبي الذي حمل على طول العصور كثيرًا من التشددات، نتيجة الاتجاه إلى الأخذ بالأحوط غالبًا . وإذا صار الدين مجموع " أحوطيات " فقد روح اليسر، وحمل طابع الحرج والمشقة، مع أن الله تعالى نفى الحرج عنه نفيًا باتًا حين قال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
(1/2)
ومن الأحداث التي تستحق التسجيل، ما وقع لي وأنا طالب بالقسم الثانوي حين خالفت نهج علماء قريتنا (صفط تراب من قرى مركز المحلة الكبرى . محافظة الغربية - مصر . وهي قرية عريقة دفن فيها صحابي جليل هو عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وهو آخر من مات من الصحابة بمصر . كما نصَّ الحفاظ) - وهم مجموعة من الأفاضل - إلا أنهم التزموا تدريس الفقه على مذهب الشافعي رضي الله عنه، حتى الحنفية منهم التزموا ذلك ولم يحيدوا عنه بناء على أن مذهب الشافعي هو مذهب عوام البلد . هذا مع تقرير المحققين: أن العامي لا مذهب له، وأن مذهبه هو مذهب من يفتيه ويعلمه.
ومن المعلوم لدى الدارسين أن مذهب الشافعي من أشد المذاهب - أو لعله أشدها - في مسائل النجاسة والطهارة وما إليها، حتى قال الإمام الغزالي في كتاب الطهارة من " الإحياء " معلقًا على مذهب إمامه الشافعي في مسألة المياه، قال: " وكنت أود أن يكون مذهبه في المياه كمذهب مالك ".
وسرد سبعة أوجه يؤيد بها رأي مالك رضي الله عنه.
المهم أني شرعت أدرس الفقه من غير " أبي شجاع " بل على طريقة الشيخ سيد سابق في فقه السنة، مستعينًا بما تيسر لي من المراجع في ذلك الوقت، وقد أحدث ذلك في أول الأمر ضجة بين الناس: كيف يخالف هذا الشاب كبار الشيوخ ؟ وكيف يفقه الناس من غير " المتون المعتمدة ؟ " وكيف يأتي بأقوال لم نسمع بها من قبل ؟.
ولكني قابلت هذه الضجة بالثبات والتحدي، وقلت للمجادلين: بيني وبينكم القرآن والسنة، فلنحتكم إليهما . فلما حاججتهم بالآيات والأحاديث - وبضاعتهم قليلة منها - كانوا هم المحجوجين والمغلوبين.
والعجب أن العوام الذين اعتبرهم العلماء في البلدة شافعية، قد استراحوا جدًا لهذا النهج الجديد، ورحبوا به، لما فيه من تيسير عظيم عليهم، ورفع للحرج عنهم.
وما كان أعظم فرحتهم حين قلت لهم: إن كل ما يؤكل لحمه، فبوله وروثه طاهر، وأيدت ذلك بالأدلة من السنة.
(1/3)
وحين قلت: إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه، مستدلاً على ذلك بصحيح الحديث.
وحين قلت لهم: إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، مستشهدًا على ذلك بالقرآن والسنة.
ومعروف أن مذهب الشافعي يقول بأن اللمس ناقض للوضوء بشهوة أو بغير شهوة . وكان يحدث كثيرًا أن تناول المرأة زوجها شيئًا، فتلمسه أو يلمسها خطأ فينتقض وضوؤه وكان هذا في فصل الشتاء كثيرًا ما يحدث بين الزوجين، لما يترتب عليه من تجديد الوضوء في البرد الشديد.
وحدث مرة أن فعلت إحدى الزوجات - لمست زوجها خطأ - فغضب زوجها وهم بإيذائها، فقالت له: لا تغضب، صل، ووضوؤك صحيح على مذهب الشيخ يوسف !.
وهكذا جعلوني صاحب مذهب !.
والواقع أن القول بعدم النقض باللمس مطلقًا هو مذهب " أبي حنيفة " وأصحابه ومن قبله حبر الأمة " عبد الله بن عباس ".
وإذا كان اللمس بغير شهوة فلا ينقض أيضًا عند مالك وابن حنبل وأصحابهما.
وفي الخمسينات كلفت بالخطابة في جامع الزمالك بالقاهرة، فكان من خطتي عقد ندوة أسبوعية عقب صلاة الجمعة، يتقدم فيها المصلون بأسئلتهم مكتوبة، وأقوم بالرد عليها شفهيًا.
وفي هذه المرحلة بدأت أكتب بعض الفتاوي في بعض المجلات الإسلامية مثل مجلة " منبر الإسلام " التي تصدرها وزارة الأوقاف المصرية، ومجلة " نور الإسلام " التي يصدرها علماء الوعظ والإرشاد بالأزهر.
ولم أزل أسير في هذا الطريق، متوسعًا ومتعمقًا، فلما اتسعت المعرفة، ونضج الفكر، وزادت الخبرة، بالإطلاع على كتب الحديث والآثار، وكتب الفقه المقارن، كان من نتاج ذلك كتاب " الحلال والحرام في الإسلام " ثم كتاب " فقه الزكاة " من بعد.
وأرجو أن يعين الله على إخراج كتاب " تيسير الفقه " الذي كتبت منه فصولاً متفرقة، لم يلتئم شملها بعد.
(1/4)
ومنذ أنشئت إذاعة دولة قطر المسموعة، ثم المرئية " التليفزيون " كُلفت أن أتولى الرد على أسئلة المواطنين ورسائلهم التي تتعلق بالإسلام والحياة، وخُصص لذلك برنامج أسبوعي لمدة نصف ساعة في الإذاعة بعنوان " نور وهداية " ومثله في التليفزيون بعنوان " هدي الإسلام ".
وإني لأحمد الله تعالى حمدًا كثيرًا طيبًا، كما ينبغي لجلال وجهه، وسابغ نعمه: أن فتح القلوب والعقول لهذين البرنامجين، ولقيا من القبول - في قطر ومنطقة الخليج كلها، وكل مكان يصل إليه صوت الإذاعة القطرية من جزيرة العرب - ما يشرح صدور المؤمنين، ويغيظ الذين في قلوبهم مرض . هداهم الله وأصلحهم.
وكان هذا من فضل ربي ليبلوني: أأشكر أم أكفر . وأسأله أن يجعلني من الشاكرين، وأن يعينني على ذكره وشكره وحسن عبادته.
ولا غرو أن اقترح الكثيرون من المستمعين والمشاهدين للبرنامجين، أن أجمع هذه الفتاوي والردود وأنشرها، حتى اقترح بعض الإخوة في إمارة رأس الخيمة أن أجعلها حوليات، كل سنة تجمع في مجلد وتصدر تباعًا، وبخاصة أن بعض الردود والأجوبة تتناول قضايا مهمة بالشرح والتحليل، مؤيدة بالأدلة من نصوص الشرع وقواعده، وموصولة بروح الإسلام وفلسفته العامة للإنسان والكون والحياة.
ولكن كانت هناك حوائل شتى، تقف دون تحقيق هذه الرغبة والخيرة . منها مشقة نقل هذه الأجوبة من الأشرطة المسجلة إلى الورق المكتوب.
ومنها أن طبيعة اللغة المرتجلة التي ألقى بها هذه الفتاوي، غير اللغة المكتوبة، فالعبارة المرتجلة تحتاج إلى شيء من التهذيب والصياغة حتى تتهيأ للطباعة والنشر، وذلك يحتاج إلى وقت وجهد.
ومنها أن بعض الأسئلة تتكرر فتتكرر أجوبتها، ومضمونها في الغالب واحد وإن اختلف العرض، أو اختلفت الصياغة والأسلوب.
ولهذا رأيت أن الأولى هو الانتقاء من هذه الأجوبة ما هو أدق وأوفى وأبعد عن الفضول والتكرار . مع تهذيب بعض العبارات، وإضافة ما تحسن إضافته، وحذف ما ينبغي حذفه.
(1/5)
ثم أضفت إلى هذه الفتاوى المنتقاة من حلقات الإذاعة والتليفزيون ما وجدته عندي من فتاوى مكتوبة نشرت من قبل أو لم تنشر . وكان منها هذا الكتاب الذي اخترت له اسم: " هدى الإسلام " وهو اسم البرنامج التليفزيوني الذي سبق الحديث عنه، والذي حببه الله إلى قلوب الناس فضلاً منه ونعمة.
وهذا القدر يعتبر الحلقة الأولى أو الجزء الأول من هذا الكتاب، الذي أسأل الله تعالى أن ينفع به مؤلفه وناشره وقارئه، وكل من عاون فيه.
نهجى في الإفتاء:
وكان المنهج الذي اتبعته في هذه الفتاوى يقوم على عدة قواعد، أهمها :
1- لا عصبية ولا تقليد:
أولاً: التحرر من العصبية المذهبية، والتقليد الأعمى لزيد أو لعمرو من المتقدمين أو المتأخرين . فقد قيل: لا يقلد إلا عصبي أو غبي . وأنا لا أرضى لنفسي واحدًا من الوصفين.
هذا مع التوقير الكامل لأئمتنا وفقهائنا، فعدم تقليدهم ليس حطًّا من شأنهم، بل سيرًا على نهجهم، وتنفيذًا لوصاياهم بألا نقلدهم ولا نقلد غيرهم ونأخذ من حيث أخذوا.
وهذا الموقف لا يتطلب من العالم المسلم المستقل في فهمه أن يكون قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق كالأئمة الأولين، وإن كان هذا غير ممنوع شرعًا ولا قدرًا.
ولكن حسب العالم المستقل في هذا الموقف أمور:
( أ ) ألا يلتزم رأيًا في قضية بدون دليل قوي، سالم من معارض معتبر، ولا يكون كبعض الناس الذين ينصرون رأيًا معينًا لأنه قول فلان، أو مذهب فلان، دون نظر إلى دليل أو برهان، مع أن الله تعالى يقول: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ولا يسمى العلم علمًا إذا كان ناشئًا من غير دليل.
ولقد قال الإمام على - كرّم الله وجهه -: " لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله ".
(1/6)
( ب ) أن يكون قادرًا على الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتعارضة بالموازنة بين أدلتها، والنظر في مستنداتها من النقل والعقل، ليختار منها ما كان أسعد بنصوص الشرع، وأقرب إلى مقاصده، وأولى بإقامة مصالح الخلق التي نزلت لتحقيقها شريعة الخالق.
وهذا أمر ليس بالعسير على من ملك وسائله من دراسة العربية وعلومها، وفهم المقاصد الكلية للشريعة، بجانب الاطلاع على كتب التفسير والحديث والمقارنة.
(جـ) أن يكون أهلاً للاجتهاد الجزئي: أي الاجتهاد في مسألة معينة من المسائل وإن لم يكن فيها حكم للمتقدمين، بحيث يستطيع أن يعطيها حكمها بإدخالها تحت عموم نص ثابت، أو بقياسها على مسألة مشابهة منصوص على حكمها، أو بإدراجها تحت الاستحسان أو المصالح المرسلة، أو غير ذلك من الاعتبارات والمآخذ الشرعية.
والقول بتجزئة الاجتهاد هو الصحيح الذي اتفق عليه المحققون.
ومن أبين العبارات في ذلك ما قاله ابن القيم:
" الاجتهاد حالة ".
2- يسِّروا ولا تُعسِّروا :
ثانيًا: تغليب روح التيسير والتخفيف على التشديد والتعسير، وذلك لأمرين:
الأول: أن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج عن العباد، وهذا ما نطق به القرآن، وصرّحت به السنة في مناسبات عديدة.
ففي ختام آية الطهارة من سورة المائدة، وما ذكر فيها من تشريع التيمم، يقول تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).
وفي ختام آية الصيام من سورة البقرة، وما ذكر فيها من الترخيص للمريض والمسافر بالإفطار، يقول سبحانه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
(1/7)
وفي ختام آيات المحرمات في الزواج، وما رخص الله فيه من نكاح الإماء المؤمنات لمن عجز عن زواج الحرائر، يقول جل شأنه (يريد الله أن يخفف عنكم، وخُلق الإنسان ضعيفًا) وفي ختام سورة الحج، وما ذكر فيها من أحكام وأوامر، يقول عز وجل: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) . هذا إلى الآيات الأخرى التي حرّمت الغلو في الدين، وأنكرت على من حرموا الطيبات، وهي كثيرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ".
ويقول: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ".
ويقول: " إنما بعثت بحنيفية سمحة ".
وينكر على المتطرفين والمغالين في العبادة أو في تحريم الطيبات، ويعلن أن من فعل ذلك فقد رغب عن سنته " ومن رغب عن سنتي فليس مني ".
ويوجه أصحاب هذه النزعة إلى التوسط والاعتدال، حتى لا يطغى حق على حق . ولهذا قال لبعضهم: " إن لبدنك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، فأعطِ كل ذي حق حقه ".
والأمر الثاني: طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه، وكيف طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكيف كثرت فيه المغريات بالشر، والمعوقات عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال، ومن بين يديه ومن خلفه، تريد أن تقتلعه من جذوره، وتأخذه إلى حيث لا يعود.
وهي تيارات تحركها وتغذيها قوى ضخمة، تمدها بالتمويل والتخطيط والتوجيه، وتسهل لمن اتبعها طريق الشهوات، وربما طريق الوصول إلى المناصب والدرجات.
والفرد المسلم في هذه المجتمعات يعيش في محنة قاسية، بل في معركة دائمة، فقلما يجد من يعينه، وإنما يجد من يعوقه.
(1/8)
ولهذا ينبغي لأهل الفتوى أن ييسروا عليه ما استطاعوا، وأن يعرضوا عليه جانب الرخصة أكثر من جانب العزيمة . ترغيبًا في الدين، وتثبيتًا لأقدامه على طريقه القويم . وقد نقل الإمام النووي في مقدمات " المجموع " كلمة حكيمة للإمام الكبير - إمام الفقه والحديث والورع - سفيان الثوري . قال فيها: " إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد ! ".
فالعالم حقًا - في نظر الثوري رحمه الله - من يراعي الرخص والتيسير على عباد الله، شرط أن يكون ثقة في علمه ودينه . .
وكان منهج الصحابة ومن تخرج على أيديهم هو التيسير والرفق بالناس، ثم بدأ التشديد يدخل على العلماء شيئًا فشيئًا، وعصرًا بعد عصر، حتى أصبح هو طابع المتأخرين.
روى الحافظ أبو الفضل بن طاهر في كتاب " السماع " بسنده عن عمر ابن إسحاق من التابعين قال: كان من أدركت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مائتين، لم أر قومًا أهدى سيرة، ولا أقل تشديدًا منهم.
وهكذا كان علماء السلف: إذ شددوا فعلى أنفسهم، أما على الناس فييسرون ويخففون.
ولقد وصفوا الإمام المزني صاحب الشافعي في معرض الثناء عليه . بأنه " كان أشد الناس تضييقًا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس ".
وكذلك وصفوا الإمام التابعي الجليل محمد بن سيرين، قال تلميذه عون كان محمد أرجى الناس لهذه الأمة . وأشدهم أزرًا على نفسه.
هذا وزمنهم زمن الإقبال على الدين فكيف بزماننا والناس مدبرون عنه ؟.
إننا أحوج ما نكون إلى التوسعة على الناس.
وهذا ما اخترته لنفسي أن أيسر الفروع، حين أشدد في الأصول.
وليس معنى هذا أن ألوي أعناق النصوص رغمًا عنها، لأستخرج منها - كرهًا - معاني وأحكامًا تيسر على الناس.
كلا، فالتيسير الذي أعنيه، هو الذي لا يصادم نصًا ثابتًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية قاطعة، بل يسير في ضوء النصوص والقواعد والروح العامة للإسلام.
(1/9)
ولهذا لم أتساهل قط في تحريم الفوائد الربوية من البنوك وغيرها؛ لأني أجد النصوص في ذلك صريحة محكمة تتحدى أي متهاون في شأنها.
ولم أتساهل في أمر التدخين - رغم عموم البلوى به - لأني أجد قواعد الشرع تمنعه وتأباه.
وتساهلت في موضوعات أخرى لأني لم أجد من النصوص الملزمة ما يدل على التحريم.
وتبنيت رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه في أمر الطلاق، لأني وجدته يعبر عن روح الإسلام، ومقاصد الشريعة، ويتمشى مع نصوص القرآن والسنة عند التحقيق.
وعلى العموم: إذا كان هناك رأيان متكافئان: أحدهما أحوط، والثاني أيسر فإني أوثر الإفتاء بالأيسر، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
أما الأحوط فيمكن أن يأخذ به المفتي في خاصة نفسه، أو يفتي به أهل العزائم والحريصين على الاحتياط، ما لم يخش عليهم الجنوح إلى الغلو.
3- مخاطبة الناس بلغة العصر:
ثالثًا: ومن القواعد التي التزمتها، أن أخاطب الناس بلغة عصرهم التي يفهمون، متجنبًا وعورة المصطلحات الصعبة، وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخيًا السهولة والدقة.
وقد جاء عن الإمام علي: " حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون . أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟.
وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ولكل عصر لسان أو لغة تميزه وتعبر عن وجهته . فلا بد لمن يريد التحدث إلى الناس في عصرنا أن يفهم لغتهم ويحدثهم بها.
ولا أعني باللغة مجرد ألفاظ يعبر بها قوم عن أغراضهم، بل ما هو أعمق من ذلك، مما يتصل بخصائص التفكير، وطرائق الفهم والإفهام.
ولغة عصرنا تتطلب عدة أشياء، يجب على المفتي أن يراعيها :
(1/10)
( أ ) أن يعتمد على مخاطبة العقول بالمنطق، لا على إثارة العواطف بالمبالغات . فمعجزة الإسلام الكبرى معجزة عقلية هي القرآن، الذي تحدى الله به ولم يتحد بالخوارق مع وقوعها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تعرف البشرية دينًا يحترم العقل والعلم كما يحترمه الإسلام.
( ب ) أن يدع التكلف والتقعر في استخدام العبارات والأساليب، ولهذا كنت استخدم اللغة السهلة القريبة المأنوسة، وربما استخدمت بعض الألفاظ أو الأمثال العامية لتوضيح ما أريد . إيمانًا مني بأن جمهور المشاهدين والمستمعين ليسوا في مستوى واحد من الثقافة والفكر، فمنهم الأستاذ الكبير، ومنهم الطالب الصغير، ومنهم التاجر، ومنهم العامل، وكلهم يجب أن يفهم ويعي، وإفهام المستويات المتفاوتة أمر صعب، ولكني حرصت عليه قدر استطاعتي، وأنا مؤمن بالوسطية والاعتدال في كل الأمور، ولهذا كنت بينَ بينَ، لا أعلوا كل العلو إلى مستوى الخواص فأفقد العوام، ولا أنزل كل النزول إلى العوام فأفقد الخواص.
بل جعلت هدفي أن أرضي الخاصة وأفهم العامة معًا . وهذا نهجي طول حياتي، وأرجو أن أكون قد وُفقت إليه أو قاربت.
(جـ) أن يذكر الحكم مقرونًا بحكمته وعلته، مربوطًا بالفلسفة العامة للإسلام . وهذا ما التزمته في فتاواي وكتاباتي بصفة عامة، وذلك لأمرين:
الأول: أن هذه هي طريقة القرآن والسنة.
فالقرآن حين يفتي في المحيض - وقد سألوا عنه - يقول: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أن علة الحكم - وهو الأذى - مقدمة للحكم نفسه، وهو الاعتزال.
(1/11)
وفي تقسيم الفيء بّين الفئات المستحقة له، ومنهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، يذكر الله تعالى الحكمة في ذلك فيقول: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) أي حتى لا يكون المال متداولاً بين طبقة الأغنياء وحدهم، ويحرم منه سائر الطبقات . فهذا مصدر الشرور، وهو أبرز خصائص الرأسمالية الطاغية.
حتى العبادات الشعائرية يأمر بها القرآن مقرونة بعلل وأحكام تقبلها الفطر السليمة، والعقول الرشيدة.
ففي الصلاة يقول: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).
وفي الصيام يقول: (لعلكم تتقون).
وفي الزكاة: (تطهرهم وتزكيهم بها).
وفي الحج: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات).
وأما في السنة، فإن من تأمل فتاوى النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها مشتملة على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته.
من هذا قوله لعمر حين جاءه منزعجًا إذ قبل امرأته وهو صائم، فقال له: أرأيت لو تمضمضت ثم مججته، أكان يضر شيئًا ؟ قال: لا، فنبّه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون دائمًا محظورة . فإن غاية القبلة أن تكون مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه، وليست المقدمة محرمة.
ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها، ولا على ابنة أختها، فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم " فذكر لهم الحكم، ونبههم على حكمة التحريم، وهو ما يترتب عليه من قطع ما أمر الله به أن يوصل نتيجة الاحتكاك الضروري بين الضرائر.
ومثل ذلك قوله لبشير بن سعد، وقد خص بعض أولاده بعطية دون الآخرين: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال: نعم . قال: " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ". (متفق عليه).
وهذا في القرآن والسنة كثير جدًا مع أن قول الله ورسوله حجة بنفسه، وإن لم تعرف له علة معينة، وحسبنا أنه لا يأمر إلا بخير.
(1/12)
الثاني: أن الشاكين والمشككين في عصرنا كثيرون، ولم يعد أغلب الناس يقبلون الحكم دون أن يعرفوا مأخذه ومغزاه، ويعُوا حكمته وهدفه، وخاصة فيما لم يكن من التعبدات المحضة.
ولا بد أن نعرف طبيعة عصرنا، وطبيعة الناس فيه، ونزيل الحرج من صدورهم ببيان حكمة الله فيما شرع، وبذلك يتقبلون الحكم راضين منشرحين . فمن كان مرتابًا ذهب ريبه، ومن كان مؤمنًا ازداد إيمانًا.
ومع هذا لابد أن نؤكد للناس، أن من حق الله تعالى، أن يكلف عباده ما شاء، بحكم ربوبيته لهم، وعبوديتهم له، فهو وحده له الأمر، كما له الخلق . ولهذا لا بد أن يطيعوه فيما أمر، ويصدقوه فيما أخبر، وإن لم يدركوا علة أمره، أو كنه خبره، وعليهم أن يقولوا في الأول: " سمعنا وأطعنا "، وفي الثاني: (آمنا به كلٌ من عند ربنا).
إن الله لا يأمر بشيء، ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة.
هذه قضية ثابتة جازمة . ولكن لسنا دائمًا قادرين على أن نتبين حكمة الله بالتفصيل . وهذا مقتضى الابتلاء الذي قام عليه أمر التكليف، بل أمر الإنسان (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه).
رابعًا: الإعراض عما لا ينفع الناس:
ومن القواعد التي التزمتها: ألا أشغل نفسي ولا جمهوري إلا بما ينفع الناس، ويحتاجون إليه في واقع حياتهم.
أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدل، أو التعالم والتفاصح، أو امتحان المفتي وتعجيزه، أو الخوض فيما لا يحسنونه، وإثارة الأحقاد والفتن بين الناس، أو نحو ذلك، فكنت أضرب عنها صفحًا، ولا ألقي لها بالاً، لأنها تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع.
كان بعض الناس يبثون بأسئلة تتضمن ألغازًا شرعية يريدون حلها من مثل: " نوى ولا صلى، وصلى ولا نوى " و" قوم كذبوا ودخلوا الجنة، وقوم صدقوا ودخلوا النار " وأشباه ذلك، فكان ردي عليها الإلقاء في سلة المهملات لأن الاشتغال بمثل هذه المسائل من عمل الفارغين.
(1/13)
ومثل ذلك الأسئلة التي تتعلق بالأمور الغيبية، مما لم يجئ بتحديده نص معصوم . ومثل ذلك غوامض المسائل الدينية والعقائدية التي لا تحتملها الطاقة العقلية المعتادة لجمهور الناس، ويخشى من الخوض فيها - سؤالاً وجوابًا التشويش على الكثيرين.
فهذا أيضًا مما لا أعتني بالإجابة عنه إلا إزالة لشبهة، أو ردًا لفرية، أو تنبيهًا على قاعدة، أو تصحيحًا لفهم . أو نحو ذلك.
ومما قاله في ذلك الإمام شهاب الدين القرافي:
" ينبغي للمفتي إذا جاءته فتيا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فيما يتعلق بالربوبية، يسأل فيها عن أمور لا تصلح لذلك السائل لكونه من العوام الجُلف، أو يسأل عن المعضلات، ودقائق الديانات، ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء، ويعلم أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول والتصدي لما لا يصلح له، فلا يجيبه أصلاً . ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك، ولا تخض فيما عساه يهلكك، لعدم استعدادك له.
وإن كان الباعث له شبهة عرضت له: فينبغي أن يقبل عليه، ويتلطف به في إزالتها عنه بما يصل إليه عقله . فهداية الخلق فرض على من سُئل.
قال: والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة، فإن اللسان يُفهِم ما لا يُفهِم القلم، لأنه حي، والقلم موات . فإن الخلق عباد الله، وأقربهم إليه أنفعهم لعباده، ولا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد ". (الأحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام للقرافي بتحقيق عبد الفتاح أبي غدة صـ 282، 283).
وكثيرًا ما كنت أطلب من صاحب السؤال إذا أحسست جديته، وخشيت على جمهور المستمعين أو المشاهدين التشويش - أن يلقاني على انفراد، لأستطيع أن آخذ معه وأعطي، بلا حرج ولا خشية.
(1/14)
ومن الأسئلة التي لم أكن أعبأ بها: ما يتعلق بالمفاضلة بين آل البيت والصحابة رضي الله عنهم وما شجر بينهم من خلاف، ونحو ذلك - مما لا طائل تحته . وقد أفضى الجميع إلى ربهم، وقضى الله ما كان.
سئل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين، فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن يلطخ بها لساني ! (انظر الموافقات للشاطبي جـ 4: 320).
ومن الأسئلة التي يحرص بعض الناس على إثارتها، وتلقيت في شأنها أكثر من رسالة :
أيهما أفضل عند الله: أبو بكر أم علي ؟ وأيهما كان أحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.
أيهما أفضل: فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عائشة أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.
ومثل ذلك: المفاضلة بين الأنبياء، مثل إسماعيل وإسحاق، أو موسى وعيسى.
أسئلة لا يترتب على العلم بها، قوة في دين، ولا نهضة في دنيا، ومن جهل الجواب عنها فلا إثم عليه، ومن كوّن في كل منها رأيًا فهيهات أن يتنازل عنه.
ولقد قلت في بعض إجاباتي عن مثلها: إنها أشبه بموضوعات الإنشاء التي كان معلمونا - ونحن تلاميذ صغار - يكلفوننا الكتابة فيها تدريبًا للقلم، وشحذًا للملكات، مثل: المفاضلة بين الليل والنهار، وبين الصيف والشتاء، وبين الأرض والسماء، وبين القطار والسفينة، وغير ذلك مما لا معنى للمفاضلة بين بعضها وبعض عند أهل البصر والبصيرة.
إن الله تعالى ورسوله عابا على بني إسرائيل كثرة أسئلتهم، واختلافهم على أنبيائهم، وسؤالهم فيما لا ضرورة إليه، ولا فائدة منه إلا إعنات أنفسهم . وفي هذا ذكر الله تعالى لنا قصة ذبح البقرة وكثرة أسئلتهم فيها دون حاجة، ولو أخذوا أي بقرة فذبحوها لكانوا ممتثلين للأمر، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم.
وما ذكر الله لنا هذه القصة إلا لتكون لنا عظة وعبرة.
ومن الأسئلة التي أعرضت عنها: ما يتعلق بتفسير الرؤى والأحلام.
(1/15)
وقد أعلنت غير مرة: أن مهمتي بيان الأحكام، لا تفسير الأحلام . وذلك أن الأحكام لها أصول يحتكم إليها، ومصادر يرجع إليها . أما الأحلام فلا ضابط لها ولا قاعدة، ويختلف تأويلها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان.
وعلى العموم هي تخمين وظن، إلا من وهبه الله الفراسة في ذلك، وعلّمه تأويل الأحاديث (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين).
وطالما قلت للسائلين في ذلك: أنا لست يوسف الصديق . وإنما أنا يوسف القرضاوي . ويوسف الصديق خصّه الله بذلك، وعلّمه ما لم يعلمه غيره.
والحقيقة أني لا أحسن ذلك، ولست حريصًا على أن أحسنه، فإن ذلك - لو كان - جدير أن يلتهم وقتي كله، لأن أحلام الناس لا تنتهي، واهتمامهم بتفسيرها لا يتوقف . وبخاصة النساء اللاتي تشغل الأحلام والرؤى من حياتهن وتفكيرهن حيزًا غير ضئيل.
خامسًا: الاعتدال بين المتحللين والمتزمتين:
ومن خصائص المنهج الذي سرت عليه: التزام روح التوسط دائمًا، والاعتدال بين التفريط والإفراط . بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، والذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات، تقديسًا منهم لكل قديم.
عبيد التطور :
أما الأولون فهم لا يريدون أن يبقى شيء على حاله، ولا يستمر وضع كما كان وأن يغيروا كل شيء، بحجة أن العالم يتطور، والحياة تتغير، وهم الذين سخر منهم بعض الأدباء بأنهم يريدون أن يغيروا الدين واللغة والشمس والقمر !.
الربا كان حرامًا في الزمن الماضي لأن آخذ الربا - المرابي - كان هو القوى الغني، ومعطي الربا كان هو الضعيف المحتاج.
أما الآن، فآخذ الربا هو العامل أو الموظف الضعيف الذي يدخر من دخله دراهم معدودة يودعها في البنك، ليأخذ عليها فائدة محددة، والبنك الذي يعطيه الفائدة هو الغني القوي، الذي يربح من وراء إيداعه الكثير.
(1/16)
وإذن يقضي التطور بتبديل الحكم في الربا الذي اعتبره القرآن والسنة من أكبر الكبائر، وأعظم الموبقات، وآذن القرآن فاعله بحرب من الله ورسوله !!.
وهذا أمر لا يسيغه عقل، ولا يسمح به نقل: أن ينتقل فعل تكليفي ما من دائرة المحرمات المنصوصة، بل الكبائر المعلومة، إلى دائرة المباحات المشروعة.
أما المقدمات التي استند إليها هؤلاء التطوريون فغير مسلّمة، وقائمة على المغالطات فمن أين لهم أن علة تحريم الربا تنحصر فيما ذكروه وصوروه ؟.
إن تحريم الربا له أكثر من وجه، وأكثر من علة . بعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي، وبعضها سياسي، وبعضها أخلاقي، وقد شرح ذلك أهل الاختصاص في كتب ورسائل وبحوث شتى، ينبغي لكل معنيّ بالموضوع الرجوع إليها.
وتصوير آخذ الربا من البنك بأنه الضعيف المستفيد، ليس تصويرًا صحيحًا على إطلاقه.
فكم من أصحاب ملايين، يودعون في البنوك أموالهم لعدة سنين، فيأخذون فوائد أكبر، لأن المبالغ كلما كبرت، ومدة الإيداع كلما طالت، كانت الفائدة أكثر.
أما الضعيف المحتاج، فلا يودع - إن أودع - إلا مبالغ تافهة، وفائدته عليها أقل، واستفادة البنك منه أكبر . وهو لا يأخذ من البنك المستغل إلا الفتات من الربح العريض.
فتصوير هذا بأنه هو المستفيد تصوير غير عادل.
ومن العجيب أن من المشتغلين بالفتوى من يتولى تبرير الفوائد باسم الفقه، في حين يرد عليهم فتاويهم أساتذة " مدنيون " باسم علم الاقتصاد الحديث، ومنطقه ذاته. (انظر بحوث الأستاذ عيسى عبده حول الربا).
لقد ذكرت هذا المثال نموذجًا لما يفتى به المتعبدون لصنم التطور، والذين يزعمون لأنفسهم الاجتهاد ليغيروا أحكام الله القطعية.
ومن المقرر المعلوم أن القطعي لا يحل الاجتهاد فيه: وإنما الاجتهاد في الظنيات.
(1/17)
ومما يحسن تسجيله هنا في مظاهر العبودية لما يسمونه " التطور " ما ذكره رئيس عربي (الحبيب بورقيبة في خطاب ألقاه في 18/ مارس 1974 في دار الثقافة - ابن خلدون بالعاصمة في افتتاح الملتقى الدولي للثقافة الذاتية والوعي القومي . وقد نشر تحت عنوان: الإسلام دين عمل واجتهاد . وقد رددنا على هذا القول الأعوج المتهافت في كتابنا: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية طـ . دار القلم، فليرجع إليه) في خطاب عام له عن المساواة بين الرجل والمرأة قال فيه :
" أريد أن ألفت نظركم إلى نقص سأبذل كل ما في وسعي لتداركه، قبل أن تصل مهمتي إلى نهايتها . وأريد أن أشير بهذا إلى موضوع المساواة بين الرجل والمرأة، وهي مساواة متوفرة في المدرسة وفي العمل وفي النشاط الفلاحي، وحتى في الشرطة ولكنها لم تتوفر في الإرث، حيث بقي للذكر مثل حظ الأنثيين . إن هذا المبدأ يجد ما يبرره عندما يكون الرجل قوامًا على المرأة . وقد كانت المرأة بالفعل في مستوى اجتماعي لا يسمح بإقرار المساواة بينها وبين الرجل . فقد كانت البنت تُدفن حية، وتُعامل باحتقار، وها هي اليوم تقتحم ميدان العمل، وقد تضطلع بشئون أشقائها الأصغر منها سنًا . فهلا يكون من المنطق أن نتوخى طريق الاجتهاد في تحليلنا لهذه المسألة وأن ننظر في إمكان تطوير الأحكام الشرعية بحسب ما يقتضيه تطور المجتمع ؟.
وقد سبق لنا أن حجرنا تعدد الزوجات بالاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة، وباعتبار أن الإسلام يجيز للإمام تعطيل العمل المباح إذا دعت إلى ذلك مصلحة الأمة . ومن حق الحكام بوصفهم أمراء المؤمنين أن يطوروا الأحكام بحسب تطور الشعب، وتطور مفهوم العدل، ونمط الحياة " !!.
المتزمتون في الفتوى:
(1/18)
وفي مقابل هؤلاء " العصريين " أو " التقدميين " الذين يريدون أن يحللوا كل شيء بحجة " التطور " وتغير الزمان، ومرونة الشريعة الخ .. نجد آخرين يريدون أن يحرموا على الناس كل شيء . فأقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة " حرام " دون مراعاة لخطورة الكلمة، ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سندًا للتحريم.
فعمل المرأة حرام، والغناء حرام، والموسيقى حرام، والتمثيل حرام، والتليفزيون حرام، والسينما حرام، والتصوير كله حرام، والشركات المساهمة حرام، والجمعيات التعاونية حرام !.
والحياة كلها اليوم حرام في حرام.
هذا مع تحذير القرآن والسنة والسلف الصالح من إطلاق كلمة " الحرام " إلا ما عُلم تحريمه جزمًا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً، قل: آلله أذن لكم أم على الله تفترون ؟).
ويقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون).
قال الإمام ابن القيم :
" لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا مما يعلم أن الأمر فيه كذلك، مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته.
وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه، فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويقرّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.
قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله له: كذبت . لم أحل كذا، ولم أحرمه.
(1/19)
وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وإذا حاصرت حصنًا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ". (إعلام الموقعين جـ 4 ص 175).
وقال الإمام مالك:
لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم، ويعول الإسلام عليهم، أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام . ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأحب كذا . وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله أما سمعت قول الله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق ..) الآية لأن الحلال ما أحلّه الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله ". (من ترتيب المدارك :للقاضي عياض جـ 1: 145).
سادسًا: إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح:
إنني لا أرضى أبدًا طريقة بعض العلماء قديمًا وحديثًا في جواب السائلين: بأن هذا يجوز وهذا لا يجوز ... وهذا حلال وهذا حرام .. أو حق وباطل، طلبًا للاختصار، وعدولاً عن الإطالة، ليفرق بين الفتيا والتصنيف . وإلا لصار المفتي مدرسًا.
حتى ذكر ابن حمدان في كتابه " صفة الفتوى والمفتى والمستفتي " (ص 61 نشر المكتب الإسلامي . دمشق 1380 هـ) أن بعض الفقهاء قيل له: أيجوز كذا . فكتب: لا !.
وهذا إن جاز مع بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال، لا يجوز أن يكون قاعدة فيما يذاع على جمهور الناس، أو يكتب في صحيفة أو مجلة أو كتاب، يقرؤه الخاصة والعامة . والحق أني أعتبر نفسي عند إجابة السائلين مفتيًا، ومعلمًا، ومصلحًا، وطبيبًا، ومرشدًا.
وهذا يقتضي أن أبسط بعض الإجابات وأوسعها شرحًا وتحليلاً، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علمًا، والمؤمن إيمانًا.
ولا بأس أن أسجل أهم الخطوات التي كنت أتبعها في الشرح والبيان . وقد أشرت إلى بعضها فيما سبق.
(1/20)
( أ ) أن الفتوى لا معنى لها إذا لم يذكر معها دليلها، بل جمال الفتوى وروحها الدليل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية . وقد يحوج الأمر إلى مناقشة أدلة المخالفين عند اللزوم في المسائل الهامة ليسلم ذهن السائل من تشويش المعارضات.
( ب ) ثم إن ذكر الحكمة والعلة أمر لا يستغنى عنه، وخصوصًا في عصرنا، كما بيّنا ذلك من قبل . وإلقاء الفتوى ساذجة مجردة من حكمة التشريع، وسر التحليل والتحريم يجعلها جافة، غير مستساغة لدى كثير من العقول، بخلاف ما إذا عرفت سرها وعلة حكمها، وقد قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.
(جـ) ومما أجده نافعًا في أحوال كثيرة: المقارنة أوالموازنة بين موقف الإسلام في القضية المسئول عنها، وموقف غيره من الأديان أو المذاهب والفلسفات، فقديمًا قال الشاعر:
@ والضد يُظهر حسنه الضد. @
وقال آخر:
@ وبضدها تتميز الأشياء.@
والذي أؤكده وأنا منشرح الصدر، مطمئن القلب: أن الذي يدرس الإسلام دراسة عميقة، ثم يدرس غيره من الأديان السماوية المنسوخة، والفلسفات الأرضية الممسوخة، يتبين له أن الإسلام لا يمكن إلا أن يكون منهج الله الخالد، ونظامه الكامل، فلا وجه للمقارنة بينه وبين مناهج البشر وأنظمتهم، التي ينضح عليها قصورهم وأهواؤهم ونزعاتهم ونقصهم الذاتي.
وأين ما يصنع الإنسان مما يخلق الله ؟.
ألم تر أن السيف يزري بقدره إذا قيل: هذا السيف أمضى من العصا
( د ) ومن خطتي كذلك: التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولاً لدى السائلين وقد ذكر ابن القيم أن الحكم إذا كان مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه، فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنًا به، كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه. (انظر: إعلام الموقعين جـ 4 ص 163، 164).
(1/21)
وهذه هي سنة الله تعالى في كتابه العزيز . ولهذا نقرأ فيه قصة مريم في سورة آل عمران، وكيف كان رزقها يأتيها في غير وقته، وغير إبانه . حتى عجب زكريا وقال: (يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) . وكان هذا تمهيدًا لقصة زكريا وزوجه، وكيف رزقهما الله يحيى، وهو شيخ كبير وامرأته عاقر.
كان رزق مريم الذي جاء في غير إبانه محركًا لنفس زكريا، ليدعو الله بطلب الولد، وإن كان في غير إبانه.
وكانت قصة زكريا أيضًا مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير أب، فإن النفوس لما أنست بولد من شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما عادة، سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب.
هذا مع أن لله تعالى أن يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء . ولكنه تعالى رحيم ودود، يأخذ عباده بالرفق، ويهديهم للتي هي أقوم، بالتي هي أحسن.
(هـ) ومن الفتاوي ما يحرّم على المستفتى أمرًا كان يظن إباحته، أو يريدها ويتمناها لحاجة إليه، أو تعلقه به، فينبغي هنا أن يدل على البديل الحلال، مادمنا قد سددنا في وجهه طريق الحرام . وما من شيء حرمه الله إلا وفيما أحله ما يغني عنه. (انظر كتابنا: الحلال والحرام في الإسلام . الباب الأول: تحت عنوان: " في الحلال ما يغني عن الحرام ").
فمن سألنا عن إيداع المال في المصارف (البنوك) بالفوائد الربوية منعناه منها حتى لا يأذن بحرب من الله ورسوله، ودللناه على المضاربة المشروعة، وهي أن يشترك اثنان أو جماعة في تجارة أو صناعة، بعضهم بالمال، وبعضهم بالخبرة والجهد، ويتقاسمون الربح أو الخسارة على حسب ما يتفقون.
ومن سأل عن الاستخارة بفتح الكتاب، أو الخط على الرمل، أو نحو ذلك، بيّنا له حرمته، ودللناه على الاستخارة الشرعية، وهي صلاة ركعتين، يعقبها بالدعاء المأثور المعروف.
(1/22)
ومن سأل عن صيام يوم الجمعة بيّنا له كراهة إفراده، ودللناه على استحباب صوم يومي الإثنين والخميس، أو الثلاثة الأيام البيض من كل شهر.
ومن سأل عن صرف الزكاة في بناء مسجد في بلاد عامرة بالمساجد، بيّنا له الحكم ودللناه على مصارف أهم منه للأمة مثل: نشر الدعوة الإسلامية، والوعي الإسلامي ومقاومة المخططات الصليبية واليهودية والشيوعية لطرد الإسلام من الحياة . فهذا هو مصرف (في سبيل الله) في عصرنا كما بينت ذلك في كتابي " فقه الزكاة ".
وهكذا حين نحرم شيئًا أو نمنع من شيء، ندل على بديل مثله أو خير منه.
وما حرم الله شيئًا يضطر الناس إليه، أو يحتاجون إليه حاجة حقيقية، بل لو اضطروا إلى الحرام لعاد حلالاً، فإنما أحل الله الطيبات وحرم الخبائث.
ولهذا لا يوجد حرام ممنوع، إلا وله في الواقع بديل مباح بيقين.
وهذا ما ينبغي للمفتي أن يرشد إليه، ويدل عليه . فذلك من فقهه ونصحه قال العلامة ابن القيم:
" وهذا لا يأتي إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر الله، وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه . فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان ". (إعلام الموقعين جـ 4 ص 159).
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ".
وهذا شأن خلفاء الرسل وورثتهم من بعدهم . وكان شيخ الإسلام يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه . ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها.
وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشتري صاعًا من التمر الجيد، بصاعين من الرديء - سدًا للذريعة إلى الربا، في أي صورة من صوره - ثم أمره أن يبيع الرديء الذي عنده بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم الجيد الذي يريده . فمنعه من المحظور، وأرشده إلى المباح.
(1/23)
( و ) ومما يحتاج إليه المفتي كثيرًا ربط الحكم المسئول عنه بغيره من أحكام الإسلام، حتى تتضح عدالته، وتتبين روعته، فإن أخذ الحكم منفصلاً عن غيره قد لا يعطي الصورة المضيئة لعدل الإسلام، ومحاسن شرعه.
أذكر من أمثلة ذلك: إعطاء البنت نصف نصيب أخيها الذكر من ميراث أبيها . فمن أخذ هذا الحكم وحده، ربما ظن في ذلك إجحافًا بالبنت لأول وهلة . ولكن إذا نظر نظرة شاملة للأعباء العائلية، والالتزامات المالية المنوطة بكل من الابن والبنت، رأى في هذا التشريع العدل كل العدل، لأن العدل ليس هو المساواة دائمًا، بل هو التكافؤ بين الحقوق والواجبات.
إن على الابن إذا أراد أن يتزوج، أن يدفع مهرًا لمن يتزوجها، وعليه أن يقوم بنفقتها كلها، وإن كانت ذات مال وثروة . أما البنت فحين تتزوج تأخذ ولا تدفع، وتعيش في كفاية تامة من مال زوجها.
وبهذا نجد ميراث الابن يتناقص بحكم أعبائه، وميراث البنت يبقى سالمًا، إن لم يزد . بكلمة أخصر: الابن مطلوب منه أن ينفق على امرأة معه، فضلاً عن الأولاد . أما البنت فليس مطلوبًا منها أن تنفق على أحد . ولو افترضنا أن لا عائل لها، فهي تنفق على نفسها فقط.
وبهذا لا يكون صنف النساء مظلومًا، لأن النسبة التي نقصت من حظ الأنثى، أنفقت على أنثى مثلها، هي امرأة أخيها . وهذا هو عدل الله.
(1/24)
ومثل ذلك: قطع يد السارق . فربما نظر ناظر إلى هذه العقوبة مجردة، فاعتبرها جد قاسية . ولكن إذا علم أن الإسلام يضمن لأبنائه العيش الكريم، والكفاية التامة أولاً، لهذا فرض التكافل الاجتماعي من الزكاة وغيرها من موارد بيت المال .. وعلم أن العلم في الإسلام فريضة، وحسن التربية واجب، وأن السارق لا تقطع يده إلا بشروط وقيود كثيرة منها: أن تنتفي كل شبهة في ثبوت الجريمة، وإلا فإن الحدود تُدرأ بالشبهات . ومن الشبهات أن يسرق في أيام المجاعة، أو يسرق بدافع الحاجة، أو يسرق من مال له فيه شبهة ملك . أو غير ذلك مما يدرأ عنه العقوبة.
على أن الشفاعة في الحدود ممكنة ما لم تصل إلى القضاء، ودرؤها ممكن ولو بعد الوصول إلى القضاء، إذا بدت على السارق دلائل التوبة.
ومهما يكن في هذه العقوبة من شدة، فإن أشد منها ترويع السارق لأمن المجتمع كله، وقسوته على ضحاياه إلى حد قتل البرآء في عقر دارهم.
من نظر هذه النظرة الشاملة آمن بأن شرع الله هو الدواء الناجع والعقاب العادل (نكالاً من الله، والله عزيز حكيم).
( ز ) وقد يحتاج المفتي في بعض الأحيان إلى ترك الإجابة عن سؤال السائل، لعدم أهميته .. مثل سؤال بعضهم عن القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق ؟.
فهذا سؤال لا وزن له في هذا العصر، ولا حاجة إلى إثارته، وقد مضى زمن أصاب المسلمين من ورائه شر مستطير، ومحنة عظيمة وأوذي فيها علماء المسلمين وخيارهم وعلى رأسهم إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
فإحياء هذه المشكلة التاريخية لا معنى له، ولا جدوى منه، إلا إهدار الطاقات الفكرية للأمة في جدل بيزنطي كما يقولون.
فكان الأولى بالسائل عن هذا أن يسأل عن وجه إعجاز القرآن - مثلاً - ليقنع غير المسلمين بأنه من عند الله، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
أو يسأل عن بعض قصص القرآن، ليأخذ منها العظة، ويلتمس العبرة والذكرى له، ولكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
(1/25)
أو يسأل عن شيء من أحكام القرآن وتشريعه، ليرى فيه عدل الله بين عباده، ورحمته (ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون).
ومثل ذلك من يسأل عن آيات الصفات مثل (على العرش استوى) وأحاديث الصفات " ينزل ربنا كل ليلة .. " ويريد أن يسعر حربًا بين دعاة السلفية، وأتباع الأشاعرة والماتريدية.
فمع أني أؤمن بمذهب السلف، وأراه أسلم وأعلم وأحكم، لا أحب أن أفتت الجبهة الإسلامية الداخلية حول خلافات جزئية، وهي تحارب أعداء كثرًا مدججين بكل سلاح، من يهود ماكرين، وصليبيين حاقدين، وشيوعيين ملحدين، ومستعمرين طامعين، ومرتدين مارقين.
فالواجب أن نقف - نحن المسلمين كافة - صفًا واحدًا، في مواجهة هؤلاء، الذين يختلفون في أمور كثيرة، ويتفقون علينا نحن أمة الإسلام.
وليس من الدين، ولا من السياسة، ولا من العقل، أن ننقل المعركة من ميدانها الحقيقي في مواجهة هؤلاء الأقوياء الشرسين ليواجه بعضنا بعضًا.
إن كل المعارك الجانبية، والخلافات الجزئية، والصراعات الداخلية، يجب أن تنتهي اليوم إن كنا نعقل أمر ديننا، وندرك مصلحة دنيانا . وأن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.
ومهما يكن بيننا من نقاط خلاف، فعندنا أكثر منها نقاط التقاء واتفاق . ويمكننا كما قال العلامة المجدد السيد رشيد رضا في قاعدته الذهبية - أن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.
وهذا لا يمنع من البحث النزيه، والتحقيق العلمي الأصيل في مواطن الخلاف ولكن ليس مجال ذلك برامج إذاعية أو تليفزيونية الشأن فيها أن نخاطب جمهور الناس، إنما مجال ذلك الكتب المتعمقة، والمجلات المتخصصة وأمثالها، مع التزام النهج العلمي الموضوعي، ورعاية أدب الحوار، أو أدب البحث والمناظرة، كما يعبر علماؤنا القدامى.
ومما يقتضيه البيان أحيانًا: الاستطراد إلى أشياء تكمل موضوع السؤال، أو ترتبط به ارتباط تشابه أو تضاد، أو غير ذلك مما يمكن أن يحتاج إليه السائل، وإن لم يسأل عنه.
(1/26)
فقد يسأل سائل عن الصلوات المحدثة في ليلة النصف من شعبان، فيجاب عنها ثم ينتقل الحديث إلى صلاة محدثة أخرى هي " صلاة الرغائب " في أول رجب، فإن الشيء بالشيء يذكر.
وقد يسأل آخر عن سنة الصبح القبلية، فأجيبه ببيان السنن الراتبة مع الصلوات الخمس جميعًا، تتميمًا للفائدة، وقد يتطرق الأمر إلى الوتر . وهكذا.
وقد يستفتي ثالث في صلاة الركعتين قبل الجمعة وما تكييفهما ؟ فقد أبين له: أنهما ليستا سنة قبلية، وإنما هما تحية للمسجد، يصليها الداخل، ولو كان الخطيب على المنبر، كما ثبت في الصحيح في قصة سليك الغطفاني . وقد استطرد من هذا إلى سنة الجمعة البعدية وقد ثبتت بالحديث الصحيح.
وربما أدى هذا إلى نقلة أخرى هي التحذير مما يفعله بعض الناس، من التزام صلاة الظهر بعد كل جمعة، بناء على الشك في عدم صحة الجمعة.
وهذا كله يقتضيه المقام، وذكره مما يفيد، وإن عاب ذلك بعض الناس، قال ابن القيم: " من عاب ذلك فلقلة علمه، وضيق عطنه، وضعف نصحه ". (إعلام الموقعين جـ 4 ص 158، 159).
وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال لهم: " هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته ".
فأجابهم عما سألوه عنه، ببيان طهارة ماء البحر، ثم زادهم فائدة أخرى لم يسألوا عنها، وهي حلّ ميتته، نصحًا لهم، وبرًا بهم.
ملاحظات هامة:
وقد تبين لي جملة ملاحظات من خلال ممارستي للفتوى في الإذاعة والتليفزيون سنين عديدة، تلقيت فيها ألوفًا مؤلفه من الرسائل، من بلاد شتى، ومن أصناف شتى، شباب وشيوخ، ورجال ونساء، وخاصة وعامة.
1- دور الدين في الحياة :
أولى هذه الملاحظات: أن الدين في مجتمعاتنا لا يزال له دور الصدارة في التوجيه والتأثير، وأن كلمته لا تعدلها كلمة في قوتها، وأنه ليس شيئًا ثانويًا أو على هامش حياة الناس، بل هو المحور الأساسي، والمقوم الأول لحياتهم.
يدل لذلك هذا السيل المتدفق من الرسائل التي تستفسر عن أمور شتى في كل جوانب الحياة.
(1/27)
يسألون عن العقائد والغيبيات، عن العبادات والقربات، عن المعاملات والعلاقات، عن الأمور الشخصية، والشئون الأسرية، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية.
أسئلة شتى من هنا وهناك، يريد أصحابها أن يطمئنوا على سلوكهم، ويجتنبوا سخط ربهم.
ولو كان الدين دبر آذانهم، أو بعيدًا عن اهتمامهم، ما بلغت الرسائل هذا الحد من الكثرة والتنوع . فضلاً عن الاتصالات الهاتفية، والمقابلات الشخصية.
وهذا يضع أيدينا على جملة حقائق.
الأولى: أن العلمانيين الذين يريدون أن يفرغوا مجتمعاتنا من الدين، أو يحكموا الأمة بغير شريعة الله - من الحكام وأعوانهم، ورجال الأحزاب اللادينية - إنما يثنون عنان شعوبهم قسرًا، ويحكمونها كرهًا وقهرًا، ويقودونها رغم أنوفها إلى ما لا تريد ولا تحب.
وهذا ليس في صالح هذه الشعوب التي تشعر بالتناقض بين عقيدتها ونظامها، وبين ضميرها وواقعها.
الثانية: أن الدعاة إلى تطبيق الإسلام، عقيدة وشريعة، وعبادة وقيادة، وبعث أمة لتقوم بدورها التاريخي في هداية البشرية، لا ينبغي لهم أن يجزعوا من يومهم، أو ييئسوا من غدهم، ويفقدوا الأمل في شعوبهم فإن " أرضية " هذه الشعوب هي الإسلام، و" خامة " أفرادها هي الإيمان . ومهما تراكم على هذه الخامة الأصيلة من صدأ الغفلة، أو غبار التقليد، فنحن نستطيع بحكها وصقلها أن نجلوها، ونردها إلى أصالتها صافية مشرقة.
ولا شك أن ذلك يحتاج إلى جهد وجهاد.
الثالثة: إن الاتجاه المتطرف، الذي تبناه نفر من غلاة المتدينين المتحمسين - وجمهرتهم من الشباب المخلص حقًا - وأعني به الاتجاه إلى تكفير جماهير الناس، واعتبارهم مارقين من الدين، مرتدين عنه، أو لم يدخلوا فيه أصلاً - هذا الاتجاه خاطئ جزمًا ؛ لأن هذه الجماهير لا زالت مؤمنة بربها وقرآنها ورسولها، ولا زالت تسأل عن أمور دينها، محاولة أن تستغني بالحلال عن الحرام، وبالطاعة عن المعصية.
(1/28)
وما شاب عقيدتها ومفاهيمها وسلوكها من شوائب - نتيجة الجهل والتجهيل والغزو الثقافي - لا يخرجها عن الملة، ولا يبعدها عن أهل القبلة.
لا ريب أن فيها العاصي الظالم لنفسه . ولكن فيها المقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله.
2- المرأة والدين:
والملاحظة الثانية: أن المرأة - في الجملة - أكثر اهتمامًا بدينها من الرجل . ويبدو أن ما حباها الله وخصها به من مشاعر الحنان والرحمة والرقة، جعلها أقرب إلى الفطرة الدينية من الرجل.
ولا عجب أن كانت رسائل السيدات والفتيات أكثر وأغزر من رسائل الرجال والفتيان، وحرصهن على التدين أكبر، وخوفهن من سوء الحساب أقوى.
وهذا ما يجعلنا نؤمن بأن الغزو الحضاري الغربي، الفكري والاجتماعي، الذي استطاع أن يهزم المرأة المسلمة في عقر دارها، ويجعلها تتحلل من لباسها الشرعي، وتقاليدها الموروثة، لم ينتصر نصرًا نهائيًا، ولم يفقد المرأة المسلمة عاطفتها الدينية، ولا عقيدتها الإسلامية.
ولا زال في مقدرة الإسلام أن يكسب المعركة في النهاية، ببعض الجهد والتخطيط والتعاون من دعاته والغيورين عليه.
ولا زلنا نرى كثيرًا من المتبرجات يعدن باختيارهن إلى حظيرة الاحتشام والالتزام بآداب الإسلام، برغم الجهود الجبارة المبذولة من كل القوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج . حتى طالبات الجامعات - في بلاد كالقاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب - ترى منهن العشرات والمئات، قد رجعن إلى دينهن، وتمردن على الأفكار والتقاليد الدخيلة.
وأصبح لبس الخمار، والثياب السابغة، أمرًا مألوفًا مأنوسًا، في قاعات الكليات الجامعية وساحاتها، بعد أن مرت أيام كان فيها مثل هذا المنظر هو الشذوذ كل الشذوذ.
وليس هذا بغريب، فكثير من السيدات والآنسات - اللائي يلبسن الملابس الغربية العصرية بما فيها من خروج على آداب الشرع - جد حريصات على الصلاة والصيام، والحج والعمرة، والقيام بسائر أركان الإسلام.
(1/29)
ومعنى هذا أن بذور الدين في صدورهن لم تمت، وأن شيئًا من التعهد والرعاية لها خليق بأن يجعلها تنبت وتترعرع، ثم تزهر وتثمر .، وتؤتي أكلها عن قريب بإذن ربها . وتتحرر من " الفصام " المشؤوم في حياتها.
3- عالم الدين وجمهور الشعب:
والملاحظة الأخيرة: أن المفتي - أو العالم الديني - في استطاعته أن ينجح نجاحًا بالغًا، إذا أحسن فهم الإسلام، وأحسن عرضه وإفهامه للجمهور، وعامل الناس بروح الأبوة والأخوة والمحبة، لا بروح الاستعلاء والاتهام.
يجب أن يشعر الجمهور تجاه العالم أنه أب لصغيرهم، وأخ لكبيرهم، وصديق لجميعهم، وأنه ليس " شرطيًا " يريد أن يضبطهم متلبسين، ولا " ممثل اتهام " يطلب لهم أقصى العقوبة . بل هو محام يدافع عنهم، وإن كان في بعض الأحيان قاضيًا يحكم بالعدل لهم أو عليهم.
يجب أن يكون الفقيه المفتي مع سائليه كالطبيب النفسي مع مرضاه . لا بد أن يثقوا به، ويستريحوا إليه، ويفضوا إليه بذات أنفسهم، ومكنون ما في صدورهم.
وأحمد الله أن كانت هذه الروح هي جوهر الصلة بيني وبين جمهوري من المستمعين والمشاهدين.
لقد فتحت لهم قلبي وأذني، ومكتبي وبيتي . أصغى إليهم، وأستمع إلى مشكلاتهم وآهاتهم لمدد قد تطول، برغم أن واجباتي أكثر من أوقاتي.
ولكنني كنت أشعر أن بعض الناس يريد أن يتحدث وينفس عما في صدره، فيستريح من عبء ثقيل يحمله وحده . فأدع له الفرصة ليريح نفسه، وإن كان ذلك يزيد من همومي وآلامي، كلما تعرفت على آلام الناس وما أكثرها.
ولقد كاشفني الكثيرون والكثيرات في رسائلهم إلى أو في اتصالاتهم الهاتفية بي، أو في زياراتهم لي، بأخص أسرارهم الشخصية والعائلية، وائتمنوني على أغلى ما يحتفظون به لأنفسهم.
وهذه ثقة لا تقدر بثمن، ونعمة لا تقابل إلا بالشكر.
كما أن هذا أطلعني على كثير من المآسي التي لا تتحدث بها الألسن، وكثير من المفاسد التي لا تراها الأعين، وإن كانت تنخر في عظام المجتمع، وكيانه المعنوي.
(1/30)
وكانت كلمة الدين هي البلسم الشافي، أو على الأقل المرهم الملطف لجراح الكثيرين من هؤلاء.
الفقير إلى ربه.
يوسف القرضاوي.
في القرآن الكريم وتفسيره.
من وصايا القرآن.
س: أرجو تفسير الآيات الكريمة من سورة الإسراء :
(ولا تقف ما ليس لك به علم .. - إلى قوله تعالى - ولن تبلغ الجبال طولاً).
جـ: هاتان الآيتان الكريمتان ذكرهما الله تعالى في الوصايا الحكيمة التي وصّى بها عباده في سورة الإسراء:
(ولا تقف ما ليس لك به علم . إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولاً . ولا تمش في الأرض مرحًا، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً). (آية: 36، 37).
في الآية الأولى، يعمل القرآن على تربية العقلية العلمية في المسلم . فهناك نوعان من العقليات :
1- عقلية خرافية، تصدق الأوهام، وتجرى وراء الأباطيل، وتسمع كل ما يقال لها، وتتبع كل ناعق.
وهذه عقلية يرفضها الإسلام.
2- والعقلية الأخرى وهي التي يريدها الإسلام العقلية التي تتبع الدليل وتخضع للمنطق في العقليات، وتمشي وراء الملاحظة والتجربة في الماديات وتستعمل الأدوات التي وهبها الله إياها: السمع والبصر والفؤاد .. فهذه أدوات المعرفة كما قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا، وجعل لكم السمع، والأبصار، والأفئدة . لعلكم تشكرون). (النحل: 78).
فمن هنا يجب أن يستعمل الإنسان سمعه، فبه تنتقل المعلومات من الناس بعضهم إلى بعض بطريق الرواية.
والبصر، به تكون الملاحظة والتجربة، وعليهما قام صرح العلوم الكونية.
والفؤاد - أي العقل - به يستعمل الإنسان المنطق، ويستنتج النتائج من المقدمات.
وهذه الأدوات، هي النوافذ التي يطل منها الإنسان على أمور هذه الحياة، والكون، والشرع، وعلى خلق الله تعالى، وعلى نهيه وأمره.
(1/31)
فلا يجوز إذن أن يعطلها ويهملها، ويتبع الظنون والأوهام أو يتبع الإشاعات والأباطيل . ولهذا جاء في آيات كثيرة من القرآن مثل هذا التذييل والتعقيب :
(أفلا تسمعون ؟)، (أفلا تبصرون)، (أفلا تعقلون).
وفرق ما بين المؤمنين المهتدين، وبين الكافرين الضالين، إن الآخرين عطلوا أدوات المعرفة والهداية التي منحوها، فلم تعد تقوم بوظيفتها لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها . أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون).
لهذا حذرت الآية من إهمال هذه القوى، فقال تعالى مخاطبًا الإنسان: (ولا تقف ما ليس لك به علم).
أي لا تتبع ما ليس لك به علم، فتجرى وراء الظنون، أو وراء الأوهام والخرافات .. استعمل سمعك وبصرك وفؤادك.
فإن الله سائلك عن هذه الأدوات (إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولاً).
هذا معنى الآية الأولى بإجمال.
أما الآية الثانية، وهي (ولا تمش في الأرض مرحًا، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً) فمعناها:
(لا تمش في الأرض مرحًا) أي مشية الاختيال والتبختر، مشية العجب والاستكبار .. فإن هذا لا ينبغي للمؤمن وهو ليس مشي عباد الرحمن، فالله قد وصف عباد الرحمن بأنهم (يمشون على الأرض هونًا). (الفرقان: 63).
لماذا تمشي متبخترًا ؟.
هل تستطيع أن تخرق الأرض ؟.
مهما دببت برجلك فلن تستطيع ذلك ..
ومهما تطاولت وتمطيت بعنقك فلن تبلغ الجبال طولاً.
فأولى بك أن تمشي مشية التواضع والهون، والسكينة واللين.
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا فكم تحتها قوم هُمُو منك أرفع !.
وإن كنت في عز وجاه ومنعة فكم مات من قوم همو منك أمنع !.
فالمطلوب من الإنسان أن يمشي على الأرض متواضعًا، سواء كان يمشي على قدميه، أم في سيارة.
(1/32)
هناك أناس يودون أن ينهبوا الأرض نهبًا بسياراتهم مختالين، لأن أحدهم يركب سيارة ضخمة فخمة، فلا يحترم آداب المرور، ولا قواعد السير . وكأنه يريد أن يحطم ما يواجهه في الطريق . أو يطير عن الأرض بلا جناحين ..
من فعل ذلك فهو ممن يمشون في الأرض مرحًا، ولا يمشون هونًا . ومعظم الحوادث التي تحدث في الطرقات - للأسف . من أولئك . الذين يمشون في الأرض مرحًا.
فعلى المسلم الذي يتأدب بأدب القرآن أن يراعي هذا، وأن يمشي في الأرض هونًا، ولا يمشي فيها اختيالاً ولا تبخترًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان " (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر قال الهيثمي والمنذري: رجاله رجال الصحيح) . هذه الآية جاءت هنا، ووردت في وصايا لقمان لابنه في قوله (لا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحًا، إن الله لا يحب كل مختال فخور). (لقمان: 18).
جريان الشمس.
س: كثير من العلماء يقولون بأن الأرض هي التي تدور، والشمس ثابتة، والله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: (وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى) (لقمان: 29) فكيف يكون هذا ؟ وكيف نوفق بين رأي العلم وقول القرآن الكريم ؟.
(1/33)
جـ: لقد كان بعض رجال العلم الطبيعي في هذا القرن أو قبله يقولون: إن الأرض تدور والشمس ثابتة، وثبات الشمس مخالف فعلاً لظاهر القرآن الكريم، الذي يقول (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) (يونس: 38)، ويقول: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، كل في فلك يسبحون)، ويقول: (وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى) فجريان الشمس وسبحاتها وسبحات الأفلاك عمومًا هو ما يدل عليه القرآن . ولكن هذه النظرية التي كانت تدرس قديمًا في الجغرافيا الفلكية قد ثبت خطؤها علميًا، وجاءت بعدها نظريات أخرى تؤكد أن الشمس أيضًا تجري، فهم يقولون بدوران الأرض، وبجريان الشمس نفسها، فالشمس تدور في محورها، وليست بثابتة كما كان يقال قديمًا . وهنا لا نجد أبدًا أي تعارض بين القرآن الكريم وبين ما جاء به العلم في هذه الناحية . بعض الناس يظن أن القول بدوران الأرض لا يتفق مع القرآن، وأن القرآن يقول عن الجبال، إن الله أرسى هذه الأرض بالجبال لئلا تميد بنا، ويقول: إن الدوران يفيد الاضطراب، وهذا غير مسلّم، فالمَيَدان والاضطراب شيء، والدوران شيء آخر.
والله تعالى أرسى الأرض بالجبال، لئلا تضطرب، ولئلا تميد، ولئلا يختل ميزانها، وهذا كالسفينة تسير في البحر تكون خفيفة فتلعب بها الأمواج، وتضطرب يمنة ويسرة، فإذا وضعت فيها شيئًا ثقيلاً، امتنعت عن الميدان وعن الاضطراب فثبتت ورسخت مع أنها متحركة . فإذا قلت إن وضعك هذا الثقل في السفينة لئلا تضطرب، كان قولك صحيحًا مع حركة السفينة الدائبة السائرة . فالله سبحانه وتعالى وضع الجبال في الأرض أوتادًا لئلا تميد، وهذا لا ينافي أن تكون الأرض متحركة وتدور وتدور ... فالثابت فعلاً أن الكون كله يسبح، ويتحرك، هذا ما أثبته العلم وليس في القرآن ما ينافيه أبدًا.
السماء.
(1/34)
س: كذلك يقول العلماء بأن السماء هي نتيجة لعدة ألوان يتولد عنها أخيرًا اللون الأزرق، وهو ما نشاهده . والله تعالى يقول في القرآن الكريم: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت) (الغاشية: 17، 18) . ما تأويل ذلك ؟.
جـ: الواقع أن الآية التي استشهد بها الأخ ليس فيها ما يعارض أو يناقض ما قال به علماء الكون، من تعليل ألوان السماء، .. ليس في هذه الآية ولا في أي آية أخرى ما ينافي هذا .. وعلينا نحن المسلمين أن نحترم العلم الذي يقوم على الملاحظة والتجربة .. فهذا له ميدانه، والإسلام يقره بل يدعو إليه ويأمرنا أن نتفوق فيه وأن نسبق فيه، إنما - للأسف - نحن نأخذ من الأجانب الآداب قبل العلوم، مع أن العلم ليس له وطن ولا جنسية ولا دين .. العلم التجريبي يؤخذ من كل مكان، يمكن أن يقوم به المسلم ويمكن أن يقوم به الكافر، لأنه يقوم على التجربة والملاحظة .. فما أثبتته الملاحظة الصادقة، والتجربة الصحيحة يجب أن نؤمن به، فإذا كان للعلماء آراء في هذه الناحية، في تحليل الضوء، وألوان الطيف، وانكسار الأشعة، وغير ذلك من أمور قامت بها التجارب ودلّت عليها مشاهدات وملاحظات، يجب أن نحترمها، ولا نعتقد أن في ديننا ما ينافي هذا .. بالعكس، ديننا - والحمد لله - سبق العلم بمراحل في أمور كثيرة . ودل على حقائق علمية كثيرة، سبق بها ما جاء به العلم المعاصر .. وليس هذا أوان تفصيل ذلك .. إنما أطمئن كل مسلم إلى أن القرآن، وإلى أن الإسلام ليس فيه آية واحدة وليس فيه حكم واحد ينافي ما يصل إليه العلم التجريبي الصحيح.
المطر.
س: يقول العلماء بأن المطر يأتي من تبخر ماء البحر، والقرآن يقول: (وأنزلنا من السماء ماء) (الفرقان: 48) أليس هناك تناقض ؟.
(1/35)
جـ: يا أخي السائل .. ليس هناك تناقض . فالقرآن يقول: (أنزل من السماء ماء) (الرعد: 17) (وأنزلنا من السماء ماء) لأن المطر ينزل من جهة السماء، كما قال المفسرون . الأقدمون منهم والمحدثون .. يقول هؤلاء ويفسرون " السماء " بالجهة العليا .. وليست السماء هي السماوات البعيدة فقط، فكلمة السماء في اللغة العربية تعني: كل ما علاك . أي كل ما كان فوقك فهو سماء .. حتى يقال أحيانًا عن السقف: سماء . ما أظلك فهو سماء . وقد جاء في القرآن الكريم (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء - (أي بحبل إلى سقف بيته) - ثم ليقطع، فلينظر، هل يذهبن كيده ما يغيظ ؟) . إذا انتحر، سخطًا، على ما قدر الله عز وجل أو على أن الله لم ينصره، أو لم يجب دعوته، أو كذا أو كذا .. هل يذهبن كيده ما يغيظ . فالسماء في هذه الآية هي السقف . فإذا قال الله تعالى " من السماء" أي من الجهة العليا . وهذا صحيح، فإن المطر ينزل من السحاب، يسوق الله هذا السحاب، ثم ينزل هذا السحاب ماء، بعد أن يتبخر من البحار، فلعل الأخ السائل يعلم أن البحار تكون حوالي ثلاثة أرباع هذه الكرة . (71%) من مساحة هذه الأرض التي نعيش عليها مياه .. محيطات وبحار . هذه تتسلط عليها أشعة الشمس، القوية، فتبخرها .. والتبخر شيء نراه، نراه على القدر فوق النار، ونراه في البحار، ونراه في آثار الرطوبة التي نحسها .. كل هذا من أثر البخار الذي يتبخر نتيجة أشعة الشمس، فالمساحات الضخمة هذه، أين يذهب بخارها ؟ بخارها يذهب إلى فوق، حتى يلامس جوًا باردًا، أو يحتك بقمم الجبال أو نحو ذلك، مما يشرحه الشارحون ويعرفه الدارسون .. فينزل المطر فعلاً.. ويسلكه الله ينابيع في الأرض، ويجريه أنهارًا فيها، فأصل المطر في الحقيقة من الأرض، أصل الماء الذي يجري في الأرض نهرًا، أو يفيض منها عيونًا، أصله من الأرض .. الله خلق الأرض وخلق فيها كمية المياه اللازمة لها، ليخرجها
(1/36)
منها . فهذا ثابت في سورة النازعات، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها) (النازعات: 30، 31) . كيف يقول (أخرج منها ماءها) ؟ مع أن الماء - أو معظمه - نازل من فوق، وليس خارجًا من الأرض ؟ ! إنما قال ذلك، لأن أصله من الأرض ...
وهذا أدركه العرب والمسلمون من قديم حتى قال الشاعر يصف السحب :
جرين بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج.
ويقول شاعر آخر في ممدوحه:
كالبحر يمطره السحاب وماله فضل عليه، لأنه من مائه !.
فهم قد أدركوا هذا وقالوه، وأسهبوا فيه، فكيف - ونحن في عصر العلم والنور - ننكر هذا ولم ينكره أسلافنا ؟.
إن الشيء الذي يخلقه الله بتدبير علوي سماوي يصح أن نقول فيه " أنزله الله " وهكذا جاء القرآن، فقال (وأنزلنا لكم من الأنعام ثمانية أزواج) (الزمر: 6) . هل نزلت الأنعام من السماء ويقول: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس) (الحديد: 25) . فهل أنزل الله الحديد ؟ أم نستخرجه من باطن الأرض ؟؟ إن معنى الإنزال هنا أن الله خلق ذلك بتدبير علوي سماوي فوقي .. فهذا هو المقصود.
فليطمئن الأخ السائل المسلم، على أنه ليس هناك أبدًا تناقض بين العلم والدين - كما قلت -، وإن كان - للأسف - كما أخبرني بعض الزملاء من الناس ممن ينتسبون إلى علم الدين من ينكر هذا ويقول: إن الماء لا ينزل من السحاب، إنما السحاب غربال فقط، وإنما ينزل من السماء .. وهذا شيء لا يصح أن يقال، ولا يصح أن يعارض به العلم ولا أن يقال أبدًا إن القرآن يناقض هذا، فالقرآن كما قلت واضح في هذا، وحسبنا قوله (أخرج منها ماءها ومرعاها).
أين النار.
س: يقول الله سبحانه وتعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) (آل عمران: 133) فأين النار إذن ؟ طالما أن الجنة عرضها السماوات والأرض ؟
(1/37)
جـ الواقع أن هذا الكون الذي نعيش في جزء صغير منه، ليس مقصورًا على السماوات والأرض، وإن كنا حتى الآن لا نعرف السماوات ما هي، فهناك فوق السماوات من ملك الله عز وجل مالا تبلغه عقولنا ولا يصل إليه علمنا .. ولهذا يقول المسلمون كما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد القيام من الركوع " اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد " (رواه مسلم من حديث أبي سعيد وابن أبي أوفى) وهذا ما يحدثنا العلم المعاصر عن بعضه ويقيسه بملايين السنين الضوئية، بيننا وبين بعض الكواكب من المسافات الشاسعة، والأبعاد المجهولة ما يقاس بملايين وآلاف ملايين السنين الضوئية، وهذا شيء أصبح معلومًا ومقررًا الآن، فإذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض، فليس معنى ذلك أنه ليس هناك في ملك الله ما يتسع للنار ؛ بل هناك ما يتسع للنار ولغيرها من هذا الملك الواسع الرحب الفسيح .. وهذا السؤال سؤال قديم .. فقد سئل الصحابة، وسئل قبلهم النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أهل الكتاب عن معنى هذه الآية (جنة عرضها السماوات والأرض) وقالوا: فأين النار ؟ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أين الليل إذا جاء النهار ؟ وفي رواية عن أبي هريرة رواها البزار مرفوعًا أن رجلاً سأل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء ؟ فأين النهار ؟ فقال السائل: النهار حيث شاء الله عز وجل . قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل . قال ابن كثير في تفسيره معلقًا على هذا الخبر: " وهذا يحتمل معنيين: أحدهما، أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون الليل في مكان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل . وهذا أظهر.
(1/38)
والثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين، فوق السماوات، تحت العرش، وعرضها كما قال الله عز وجل كعرض السماء والأرض، والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار " والله تعالى أعلم.
وحرام على قرية ...
س: أريد تفسير الآية الشريفة: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) (الأنبياء: 95) من هم أصحاب هذه القرية ؟ ولماذا أهلكوا ؟ وأين موطنهم ؟.
جـ: إن القرية المذكورة في الآية الكريمة ليس مقصودًا بها قرية معينة معرفة، وإنما المقصود بها أي قرية، " حرام على قرية " أي قرية أهلكها الله ألا ترجع، أي أن رجوعها للحساب بعد أن ترجع إلى الآخرة، فتوفى حسابها، وتوفى جزاءها، ومعنى هذا أن عذاب الدنيا لا يغني عن عذاب الآخرة . (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابًا شديدًا، وعذبناها عذابًا نكرًا، فذاقت وبالَ أمرها وكان عاقبة أمرها خسرًا، أعدّ الله لهم عذابًا شديدًا) . (الطلاق: 8 - 10).
فهي تعذب في الدنيا وهذا لا يغنيها عن حساب الآخرة .. فهذا سر التأكيد بعد أن ذكر الله عن الأمم السابقة ما ذكر أنه لا بد من الرجوع.
فمعنى قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) أي أن رجوعها لا بد منه .. رجعوها إلى الله للحساب والجزاء ..
وليس مقصودًا بها قرية معينة كما فهم الأخ السائل.
معنى " يا أخت هارون ".
س: يقول الله سبحانه وتعالى في سورة مريم: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا) (مريم: 28) من المقصود بهارون في الآية الكريمة ؟ أهو هارون أخو موسى وكيف كانت أخته وبينهما مئات السنين ؟ أم هو هارون آخر ؟.
(1/39)
جـ: إن المقصود بهارون في الآية الكريم إما هارون أخو موسى، والأخوة المذكورة ليست أخوَّة حقيقية، لأن بين هارون ومريم مئات السنين بالفعل وإنما هي أخوَّة مجازية، فمعنى أنها أخت هارون أنها من نسله وذريته، كما يقال للتميمي يا أخا تميم ؟ وللقرشي: يا أخا قريش ! فمعنى قولهم: يا أخت هارون، أي يا من أنت من ذرية ذلك النبي الصالح، كيف فعلتِ هذه الفعلة ؟ وحتى لو لم تكن من نسله وذريته فإنها تنتسب إليه بخدمتها للهيكل وانقطاعها للعبادة فيه . فقد كانت خدمة الهيكل موقوفة على ذرية هارون . فمعنى: يا أخت هارون ! يا من تنتسبين إلى هذا النبي الصالح بالخدمة والعبادة والانقطاع للهيكل . ويجوز أن يكون المراد بهارون في الآية رجلاً صالحًا من قومها في ذلك الحين .. كانت تتأسى به مريم .. وتتشبه به في الزهد والطاعة والعبادة، فنسبت إليه، فقالوا لها: يا من تتشبهين وتقتدين بذلك الرجل الصالح، ما كان أبوك بالفاجر، ولا أمك بالبغي، فمن أين لك هذا الولد ؟ وقد روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران - وكانوا نصارى - فقالوا: أرأيت ما تقرأون: يا أخت هارون ؟ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ يعترضون على المغيرة .. قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم ؟ " وهذا التفسير النبوي يبين أن هارون المذكور في الآية ليس من اللازم أن يكون هارون المذكور هو أخا موسى كما فهم أهل نجران، وإنما هو هارون معاصر لمريم .. فقد كان قومها يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين منهم . والله تعالى أعلم.
" إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ".
(1/40)
س: أرجو أن توضحوا لنا معنى هذه الآية الكريمة: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون). (سورة النحل: 33 - 34).
جـ: بعض الناس يفهمون هذه الآية خطأ . فهم يفهمون منها أن أي ملك يدخل بلدًا حتى ولو من مملكته يفسدها، ويجعل أعزة أهلها أذلة، وهذا خطأ، وليس هو المراد.
هذه الآية جاءت في قصة بلقيس ملكة سبأ، التي ذكرها القرآن في سورة النمل، وهذا الملكة، حينما جاء الهدهد وأخبر سليمان عن أمرها (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) (سورة النحل: 33 - 34) فأرسل إليها سيدنا سليمان رسالة بدأها بقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم . ألا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين) (سورة النحل: 33 -34) وجمعت هذه الملكة قومها لتشاورهم وقالت لهم: (ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون) قالوا: (نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين، قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون). (سورة النحل: 33 - 34).
فهذه الكلمة حكاها القرآن على لسان ملكة سبأ، تحكي لقومها عن أثر دخول الملوك الأجانب الفاتحين المتغلبين في بلد ما، حيث تكون النتيجة . أنهم يفسدونها ويذلون أهلها ..
وفي الواقع، هذا تلخيص لما يفعله أي استعمار في أي بلد: إفساد البلاد، وإذلال العباد، وذلك شأنهم باستمرار (وكذلك يفعلون).
وليس معنى هذا أن أي ملك يدخل بلدًا يفسدها، فإن بلقيس نفسها ملكة، وإنما المقصود كما بينا إذا دخلوها للدنيا متغلبين مستعمرين.
والمُلك قد يكون خيرًا وقد يكون شرًا، فإذا كان بيد الأخيار والمصلحين كان أداة خير وإصلاح، وإذا كان في يد الأشرار والمفسدين كان أداة شر وإفساد، والقرآن ذكر لنا بعض الملوك الصالحين، وذكر لنا في مقابلهم المفسدين الظالمين.
(1/41)
ذكر لنا " طالوت " . (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا، قالوا أنى يكون له الملك علينا، ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال قال: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم). (البقرة: 247).
وذكر لنا ملك داوود (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء). (البقرة: 251).
وذكر لنا ملك سليمان، قال في دعائه لله: (رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي). (ص: 35).
وذكر لنا يوسف الذي قال: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث). (يوسف: 101).
وذكر لنا ذا القرنين في سورة الكهف (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببًا فأتبع سببا) (الكهف: 84) وهذا الملك الذي فتح الفتوح في المغرب والمشرق وبنى السد وقال: (ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة) (الكهف: 95) فلما أنجز بناءه قال: هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء). (الكهف: 98).
فقد يكون الملك أو رئيس الدولة صالحًا، فيكون من أفضل الناس فقد جاء في الحديث " ليوم من إمام عادل خير من عبادة ستين سنة " (رواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما) . فإنه يقضي من المصالح ويفرج من الكربات ويزيل من المظالم ما لا يفعله في عبادة ستين سنة.
يقابل هذا في القرآن ذكر ملوك ظالمين، كالنمرود (الذي حاج إبراهيم في ربه، أن أتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيى ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين). (البقرة: 258).
ومثله فرعون الذي طغى وبغى (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى) (النازعات: 24) وقال: (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) (القصص: 38) وسبب هذا الطغيان غروره بالملك قال: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون). (الزخرف: 510).
(1/42)
ومثله ذلك الملك الذي ذكره القرآن الكريم في سورة الكهف، وقد كان يغتصب أموال الناس بغير حق (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا) (الكهف: 79) فهؤلاء هم المذمومون.
أما الملك في ذاته والحكم في ذاته، فليس شرًا، إنما قد يكون صالحًا للرجل الصالح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المال: " نعم المال الصالح للمرء الصالح ". (رواه أحمد).
كذلك نعم الحكم الصالح للرجل الصالح.
وهو شر في يد الرجل الفاسد لأنه سيكون في يده أداة شر وفساد في الحياة كلها.
هذا ما تيسر بيانه في تفسير الآية الكريمة التي وردت في السؤال . والله أعلم،.
ما العين الحمئة في قصة ذي القرنين ؟.
س: يقول الله سبحان وتعالى في وصف ذي القرنين: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة، ووجد عندها قومًا، قلنا: يا ذا القرنين إما أن تعذب، وإما أن تتخذ فيهم حسنا). (الكهف: 86).
ما هي العين الحمئة التي تغرب فيها الشمس ؟ ومن هم هؤلاء القوم الذين وجدهم ذو القرنين عندها ؟.
جـ: جاءت قصة ذي القرنين في سورة الكهف من القرآن الكريم، ولم يحدثنا القرآن الكريم عن ذي القرنين من هو ؟ ولا عن تفاصيل قصته: أين ذهب بالضبط، مغربًا ومشرقًا، ومن هم الأقوام الذين ذهب إليهم ؟.
لم يحدثنا القرآن عن ذلك، كما أن أكثر ما ورد في سورة الكهف، ورد أيضًا بدون تحديد أسماء ولا تفاصيل، وذلك لحكمة يعلمها الله عز وجل.
إن القصد من القصص القرآني، سواء في سورة الكهف أم في غيرها، ليس إعطاء تاريخ وحوادث تاريخية، وإنما القصد هو العبرة، كما قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب).
(1/43)
هنا ذو القرنين، قصته فيها عبرة: ملك صالح، مكَّنه الله في الأرض، وآتاه من كل شيء سببًا، ومع هذا لم يطغه الملك . بلغ المغرب، وبلغ المشرق، فتح الفتوح، ودان له الناس، ودانت له البلاد والعباد، ومع هذا لم ينحرف عن العدل، بل ظل مقيمًا لحدود الله، كما قال لهؤلاء القوم: (أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابًا نكرًا . وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاء الحسنى). (الكهف: 87).
أما من هم هؤلاء القوم، فالقرآن لم يعرفنا عنهم شيئًا، ولو كان في معرفتهم فائدة دينية أو دنيوية، لعرفنا ولهدانا إلى ذلك.
كذلك، أين غربت الشمس ؟ لم يعرفنا القرآن، وكل ما نعلمه أن ذا القرنين اتجه إلى جهة الغرب، حتى وصل إلى أقصى مكان في الغرب، وهناك وجد الشمس في رأي العين كأنما تغرب في عين حَمِئة . والحمأ هو الطين المتغير . فكأنما وجد الشمس تسقط في تلك العين الحمئة .. ولو وقف أحدنا عند الغروب على شاطئ البحر، لوجد الشمس كأنما تسقط في البحر أو تغرب فيه، مع أن الحقيقة غير ذلك . فهي تغرب عن قوم لتشرق عند آخرين.
فالمقصود إذن في الآية (وجدها تغرب في عين حمئة) أي فيما يرى الرائي، وينظر الناظر.
ولعل ذا القرنين وصل إلى مكان يتصل فيه النهر بالبحر عند الفيضان كالنيل مثلاً حيث يكون ماؤه معكرًا يحمل الطين، فإذا غربت الشمس تبدو للناظر كأنها تغرب في عين حمئة .. أو لعلها بركة فيها طين .. لم يحددها القرآن بالضبط، وإنما المقصود أنه ذهب إلى أقصى المغرب . كما ذهب إلى أقصى المشرق . وذهب إلى قوم يأجوج ومأجوج، ومع كل هذا ظل على عدله، وعلى إيمانه بربه، واعترافه بفضل الله عليه، في كل ما يفعله، أقام السد العظيم من زبر الحديد، وغيره، ثم قال: (هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا ..). (الكهف: 98).
هذا هو المقصود، وتلك هي العبرة ... ملك صالح، مكن له في الأرض ومع هذا لم يطغ ولم يتجبر ولم ينحرف.
(1/44)
أما التفصيلات، فلم يعن القرآن بها، كما أن السنة لم تبين لنا شيئًا من تلك التفصيلات كالزمان، والمكان، والأقوام .. وليس في ذلك فائدة مطلوبة، ولو كان فيها الفائدة لذكرها القرآن الكريم.
وإنه لجدير بنا أن نقف عند الذي جاء به القرآن، والذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ترك البسملة في سورة التوبة.
س: لماذا نزلت سورة التوبة بدون بسملة ؟.
جـ: للعلماء في تعليل ذلك أقوال أرجحها عندي ما روى عن الإمام علي ابن أبى طالب رضي الله عنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وسورة براءة نزلت برفع الأمان (ذكره ابن الجوزي في زاد المسير) فهذه السورة في الواقع تعلن إعلانًا عامًا بقطع المواثيق ونبذ العهود التي بين المسلمين وبين المشركين، إلا ما كان منها إلى أمد موقوت . ولم ينقضه أصحابه، ولم يظاهروا على المسلمين أحدًا .. فطالما فعلت الوثنية الأفاعيل مع المسلمين، وطالما صبت عليهم سياط العذاب، وطالما تعاونت مع اليهودية الفاجرة، وطالما غدرت بالمسلمين، فلم يكن لها عهد ولا ذمام، ولم يكن لها قانون ولا نظام، ولم يكن لها رادع خلقي يردعها، فكان لابد أن يصفي الإسلام حسابه معها، فنزلت سورة التوبة تعلن البراءة من الله والرسول إلى هؤلاء الناس .. (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) (التوبة: 1) وكأن وجود البسملة مقرونًا بالرحمة موصوفًا بالرحمن الرحيم يوجب نوعًا من الأمان لهؤلاء الناس . والسورة ليس فيها أمان فيها: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)(التوبة:5) (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) (التوبة: 36) فلا مجال لهؤلاء إلا السيف، وإلا القتال ولا مجال لرحمة ولا أمان . والله أعلم.
القاسطون.
س: أرجو تفسير قوله تعالى: (.. وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا . وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا). (الجن: 15، 16).
(1/45)
جـ: جاءت هذه الآية في سورة الجن، حينما استمعوا إلى القرآن الكريم من النبي صلى الله عليه وسلم فعادوا إلى قومهم يقولون: (إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدًا) (الجن: 1، 2) ... وكان من قولهم (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون، فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا ..). (الجن: 14، 15).
القاسط: هو الجائر، الظالم، أي من عدل عن القسط، وانحرف عن العدل فالقاسط غير المقسط . والمقسط: هو العادل.
والله تعالى يحب المقسطين: ولكنه يبغض القاسطين.
وكلمة مقسط من فعل أقسط وكلمة قاسط من فعل قسط.
فالهمزة جعلت بين الفعلين فرقًا كبيرًا في المعنى .. فرق تضاد ؛ فأقسط معناها عدل وقسط معناها: ظلم.
والمقصود بكلمة (قاسطون) هنا إذن: الظالمون الذين ظلموا أنفسهم فلم يؤمنوا بالله ولم يُسلموا، فأولئك كانوا لجهنم حطبًا . ولو أسلموا وآمنوا واتقوا ربهم واستقاموا على منهج الله، منهج الإسلام، ليسرنا لهم أمور حياتهم ومعيشتهم، وتنزلت عليهم بركات السماء والأرض . وذلك معنى قوله تعالى: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا).
وفي نفس المعنى يقول تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). (الأعراف: 96).
فالاستقامة والتقوى سبيل الرزق والرغد وسبيل الخير كله في الدنيا وفي الآخرة (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق: 2، 3) .(ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم). (المائدة: 66).
فالاستقامة والإيمان، والوقوف عند منهج الله وحدوده سبب لكل خير في الدنيا والآخرة.
مصاحف الصحابة.
(1/46)
س: قرأت في كتاب " الصديق أبو بكر " ص 316 بشأن الآية " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " فقيل إن هذه وردت في مصحف عائشة وحفصة وأم سلمة . فما رأي فضيلتكم في هذا، علمًا بأننا نقرأ في القرآن الذي بين أيدينا والذي لا يأتيه الباطل، قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى). (البقرة: 238).
جـ: كان بعض الصحابة لهم مصاحف خاصة بهم، يجعلون في هذه المصاحف شيئًا من التفسيرات أو التعليقات أونحو ذلك من الإضافات التوضيحية التفسيرية . فالذي قرأه الأخ زيادة على ما في المصحف الذي بين أيدينا، والذي قيل أنه ورد في مصحف عائشة وحفصة وأم سلمة، هو بمثابة التفسير لا غير، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر . وهذا أصح ما ورد بصدد تلك الآية.
لقد اختلف العلماء والأئمة منذ عهد الصحابة فيما هي الصلاة الوسطى ؟ هل هي الصبح . أم هي الظهر، أم هي العصر ؟ إلى آخر ما قالوا.
والصحيح الذي وردت به الأحاديث أنها صلاة العصر.
ويبدو أن عائشة رضي الله عنها وضعت في مصحفها (وصلاة العصر) وفي تلك الأيام لم تكن هناك طريقة معروفة في الكتابة لفصل الأصل عن التفسير، فليست هناك أقواس معروفة مثلا يوضع الكلام التفسيري بينها، أو حبر مغاير في اللون يكتب به ما يضاف إلى الأصل .. وقد وردت بعض الروايات بدون (واو) " والصلاة الوسطى صلاة العصر " وبعض الروايات وردت (بالواو) " وصلاة العصر " وقالوا: هذه من عطف الأوصاف لا من عطف الموصوفات.
(1/47)
فالإضافة إذن نوع من التفسير وليست من كلام الله عز وجل، ولهذا لم يوضع في مصحف عثمان، المصحف الإمام، حيث لم يكتب فيه إلا الكلام الذي عرضه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة، وإلا ما كان متواترًا عند الصحابة . أما التفسيرات والكتابات الجانبية فقد حذفها عثمان من المصاحف تمامًا، واستقر على ذلك رأي الصحابة والتابعين ومن تبعهم من المسلمين وأجمعوا على هذا طوال العصور.
ولهذا لم يقرأ أحد من الأئمة القراء، لا من الصحابة ولا من التابعين ولا ممن بعدهم ولا من القراء السبعة، ولا من القراء العشرة، بهذا الذي جاء في مصحف عائشة وغيرها.
فالحجة عندنا هو المصحف الإمام، مصحف عثمان، الذي أجمعت عليه الأمة الإسلامية في سائر الأجيال، وتناقلته القرون، وتلقاه الخلف عن السلف، وأصبح معلومًا من الدين بالضرورة.
وأما ما زاد على ذلك فلا يعدو كونه من التفسير، كقراءة ابن مسعود في مصحفة " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وقد اعتبر العلماء كلمة " متتابعات " نوعًا من التفسير، فإن ابن مسعود أضاف تلك الكلمة بعد أن سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حكم الصوم في كفارة اليمين أن يكون ثلاثة أيام متتابعات ولو كان ابن مسعود في عصرنا هذا لكتبها بين قوسين، أو بحبر مغاير، أو كتبها على الهامش.
ولكن في ذلك العصر، لم يكن شيء من ذلك معروفًا، كما أنهم كانوا يعرفون ما هو الأصل وما هو التفسير . ولهذا لم تعتبر الأمة الإسلامية ذلك التفسير من أصل كتاب ربها، وإنما الأصل هو هذا المصحف الذي بين أيدينا والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي قد أجمعت الأمة على كل شيء فيه: على سوره وآياته وحروفه، وعلى أحكام تجويده وتلاوته.
ليس هناك كتاب في الدنيا خُدم كما خُدم القرآن الكريم، وتولى الله حفظه بنفسه إلا القرآن الكريم.
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). (الحجر: 9).
في القراءات.
(1/48)
س: دخلت أحد المساجد في انتظار الصلاة، فتناولت مصحفًا من المصاحف الموجودة بالمسجد، لأقرأ ما تيسر من القرآن، وصادفتني سورة الروم، فأخذت أقرؤها حتى وصلت إلى هذه الآية الكريمة: (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة، يخلق ما يشاء، وهو العليم القدير) . وقد هالني أني وجدت كلمة " ضعف " و" ضعفًا " في الآية مشكولة بالضم في المواضع الثلاثة من الآية، وهو خلاف ما حفظت عليه هذه الآية، وما سمعته من الحفاظ، وما قرأته في شتى المصاحف المطبوعة في مصر، والمعتمدة من الأزهر الشريف . ولهذا وقر في نفسي أن هذا غلط مطبعي، وبخاصة أن هذا المصحف مطبوع في الهند، ولم تعتمده جهة علمية دينية معروفة كالأزهر.
ولهذا لجأت إليكم لأعرف وجهة نظركم، فلعل لهذا عندكم تفسيرًا، أو لعلها قراءة غير القراءة التي نقر بها نحن في البلاد العربية . أرجو البيان والإيضاح.
أ.ر.ج - الدوحة.
جـ: أشكر الأخ - أولاً - على غيرته على كتاب الله العزيز، وحرصه على تلاوته كلما تيسر له ذلك . وأشكر له - ثانية - أنه بادر بالسؤال عندما ساوره الشك ليصل إلى اليقين، وهذا هو واجب المسلم: أن يسأل إذا لم يعلم، ولا يتسرع بالحكم . فإنما شفاء العي السؤال.
ثم أطمئنه على أن ما هاله وأزعجه ليس غلطًا مطبعيًا، ولا لغويًا، ولا دينيًا فقد صحت القراءة بالفتح والضم كليهما في " ضعف " و" ضعفًا " في الآية الكريمة . قرأ خمسة من القراء السبعة بالضم، وقرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد، وقال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم (تفسير القرطبي جـ 14 ص: 46، 47).
(1/49)
ومن المعلوم أن القراءة المشهورة عندنا في المشرق العربي هي قراءة حفص عن عاصم . وهي التي طبعت عليها المصاحف التي نقرؤها . وهذه هي القراءة المشهورة في الهند وباكستان أيضًا - على ما أعلم - فكان مقتضى ذلك أن تضبط الكلمة بفتح الضاد في المصحف الهندي، ما دامت قراءة عاصم بالفتح، والجميع هنا وفي الهند يأخذون بقراءة عاصم برواية تلميذه حفص . فكيف جاء الضم ؟ والذي يرجع لكتب القراءات . مثل كتاب " القراءات السبع " لأبي عمرو الداني . و" النشر في القراءات العشر " لابن الجزري، يعرف السر في مخالفة المصحف الهندي للمصاحف الأخرى المتداولة.
فقد روي عن حفص أنه اختار الضم في الآية خلافًا لشيخه عاصم، لحديث روي عن ابن عمر مرفوعًا في ذلك . وجاء عن حفص أنه قال: " ما خالفت عاصمًا في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف ".
قال ابن الجزري: وقد صح عنه - أي حفص - الفتح والضم جميعًا . ونقل عن الحافظ أبي عمرو الداني قوله: واختياري في رواية حفص .. الأخذ بالوجهين: بالفتح والضم، فأتابع بذلك عاصمًا على قراءته، وأوافق حفصًا على اختياره.
قال بن الجزري: قلت: وبالوجهين قرأت، وبهما آخذ. (النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، بمراجعة الشيخ علي محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية جـ 2، ص: 345، 346 مطبعة مصطفى محمد بمصر).
وبهذا نعلم أن المصحف الهندي لم يخرج عن قراءة حفص، وإن خالف بذلك عاصمًا شيخه، ولعل الذي رجح ذلك لدى إخواننا الهنود أن الضم لغة قريش، وللغة قريش فضلها، وأن حديثًا مرفوعًا جاء بهذه القراءة، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة . ثم جعل من بعد قوة ضعفًا ..) فقال: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعض ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفًا ..) " ثم قال: " قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتَ علي فأخذ عليَّ،، كما أخذتُ عليك ".
(1/50)
والحديث إسناده ضعيف، وإن حسنه الترمذي . لضعف عطية العوفي (انظر الحديث 5227 من " المسند " بتحقيق وشرح الشيخ أحمد شاكر . جـ 7 ص: 177، 178) والقراءتان ثابتتان بالتواتر المستيقن، ولا اعتراض على واحدة منهما.
والحمد لله، لم يوجد كتاب في الوجود نال من العناية والرعاية والتدقيق - حتى في ضبط حروفه وكلماته، وفي طريقة نطقها وتلاوتها، ومقدار مدها أو غنها، معشار ما ناله كتاب المسلمين: كتاب الله، القرآن المجيد: (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون).
خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) (الأعراف: 54) فما معنى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ؟.
ولقد قرأت في أحد كتب التفسير: أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام - أي في ست فترات - ونحن لا نعلم هل خلقها في ستة أيام أو في ست سنين، أرجو الإيضاح.
المستمعة.
جـ: الذي لا شك فيه أن هذه الأيام الستة ليست من أيامنا هذه التي يقدر ليل اليوم ونهاره منها بأربع وعشرين ساعة من ساعاتنا المعروفة . فإن هذه الأيام إنما وجدت بعد خلق الأرض والشمس، وحدوث الليل والنهار . فكيف يكون أصل خلق الأرض في أيام منها ؟.
(1/51)
وقد جاء في سورة فصلت بيان وتفصيل لما خلق الله في هذه الأيام الستة فقال سبحانه: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض ..) (فصلت: 9) الآيات . فلعل هذه الأيام عبارة عن ستة أزمنة، وآماد لا يعلم مداها إلا الله يتحدد كل يوم منها بما تم فيه من عمل، أوست دورات فلكية لا نعلمها، غير أيامنا المرتبطة بالدورة الشمسية، أو ستة أطوار مرت على هذه المخلوقات . كل ذلك محتمل، واللغة تساعد عليه، والدين لا يمنع منه . فاليوم في لغة العرب هو الزمن الذي يمتاز بما تحصل فيه من غيره، فأيامنا هذه تتميز بما يحددها من طلوع الشمس ومغربها، وأيام العرب بما كان يقع فيها من الحروب والقتال، وقد قال تعالى :(وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون) (الحج: 47) وقد قال تعالى في وصف يوم القيامة (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة). (المعارج: 4).
ولماذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادرًا على أن يخلقها في لحظة واحدة، فإن أمره بين الكاف والنون، كما قال تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن، فيكون). (النحل: 40).
ولعل الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يتخذ عباده من هذا الخلق درسًا في الأناة وترك العجلة وحسن التأتي للأمور، ولهذا قيل: الأناة من الرحمن، والعجلة من الشيطان . والله أعلم.
(1/52)
في الحديث النبوي.
" لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ".
س: ما مدى صحة الحديث الذي يقول: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " فإن بعض من يدعون نصرة المرأة يردون هذا الحديث قائلين: إنه يتنافى مع حديث: " خذوا نصف دينكم عن الحميراء " يعني عائشة ؟.
جـ: الجهل مصيبة كبيرة، فإذا اجتمع إليه الهوى كان الطامة الكبرى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله). (سورة القصص: 50).
لهذا لا نعجب - وقد توافر الجهل والهوى - أن يرد الحديث الصحيح، ويصحح الحديث المردود.
فالحديث الأول حديث صحيح مروي عن أبي بكر رضي الله عنه، قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسري قال: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي، وتلقاه علماء المسلمين في سائر الأعصار بالقبول، وبنوا عليه حكمهم بأن المرأة لا تلي على الرجال ولاية عامة.
بينما الحديث الآخر: " خذوا شطر دينكم عن الحميراء " قال فيه الحافظ ابن حجر: لا أعرف له إسنادًا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير، ولم يذكر من خرجه، وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير أنه سئل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه.
هذا إذا نظرنا إلى الحديث من ناحية سنده ورواته.
فإذا نظرنا إليه من ناحية متنه وموضوعه، وجدنا العقل ينكره، والواقع يرده.
( أ ) فكيف يأمرنا النبي عليه السلام أن نأخذ نصف الدين عن الحميراء - أي عائشة - وحدها ؟ وماذا نأخذ عن بقية الصحابة وهم كثير ؟ وأي نصف نأخذ ؟ وأي نصف ندع ؟.
( ب ) على أن كلمة " الحميراء " وهو تصغير تمليح لكلمة " حمراء " من كلمات التدليل والمباسطة التي يجوز أن يذكرها النبي عليه السلام في أحاديثه الخاصة لنسائه، غير أنه يبعد أن يذكرها في مقام التعليم والإرشاد العام للأمة كالمقام الذي معنا.
(1/53)
والواقع يدلنا أيضًا أن علماء الإسلام لم يأخذوا عن عائشة نصف الدين ولا ربعه ولا عشره، لا من جهة الرواية، ولا من جهة الدراية :.
فمن حيث الرواية نرى ألوفًا من الصحابة - رجالاً ونساء - أسهموا في تبليغ هدي رسولهم أقوالاً وأفعالاً وأحكامًا وتقريرات، وعائشة فرد من هذا العدد الضخم مهما تكثر فلن تبلغ ما روى أبو هريرة.
ومن جهة الدراية والفقه والفتوى لا يقبل العقل ولا الواقع التاريخي أن تنفرد عائشة بشطر الدين . فأين نصيب الصحابة الكبار من أمثال أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأصحاب هذه الطبقة، ثم من خلفهم من الصحابة أمثال العبادلة الأربعة: ابن عمر وابن عباس وابن عمرو وابن الزبير وغيرهم ؟.
إن أحاديث الفضائل يجب أن تؤخذ بحذر شديد، وقد قرر الحفاظ أن أول معنى طرقه وضاع الحديث هو فضائل الأشخاص، وبخاصة الذين كان لهم أنصار مغالون وخصوم متطرفون، وعائشة رضي الله عنها من هؤلاء.
هذا، وفي آيات الكتاب العزيز من سورة النور وفي السنن الصحيحة والحسنة في فضل عائشة ما يغنينا عن حديث يتسم بالغلو والإفراط، وينكره العقل والواقع، وقد قال ابن الجوزي في مقدمة كتابه: " الموضوعات " (ما أحسن قول القائل): كل حديث رأيته تخالفه العقول، وتناقضه الأصول، وتباينه النقول، فاعلم أنه موضوع).
عذاب الميت ببكاء أهله عليه.
س: قرأت في بعض الكتب حديثًا منسوبًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " فأنكرت ذلك ؛ لأن القاعدة التي قررها القرآن أن الإنسان لا يسأل عن ذنب غيره (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (سورة الأنعام: 164) فكيف يتفق هذا مع تعذيب الميت بذنب الحي وبكائه عليه ؟ فهل هذا الحديث صحيح أم لا ؟ وإذا كان صحيحًا فما معناه ؟ وكيف نوفق بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم ؟.
(1/54)
جـ : أما الحديث فهو صحيح متفق على صحته بلا ريب، أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر بلفظ: أن حفصة بكت على عمر (أي حين طعن) فقال: مهلاً يا ابنتي ! ألم تعلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره.
وفي رواية: لما طعن عمر أغمى عليه، فصيح عليه، فلما أفاق: قال: أما علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الميت ليعذب ببكاء الحي " ورواه الشيخان أيضًا من حديث أنس.
ولهما عن عمر: " الميت يعذب في قبره ما نيح عليه ".
ورواه الشيخان وأحمد والترمذي عن المغيرة بلفظ: " من نيح عليه يعذب بما نيح عليه ".
والمهم أن الحديث ثابت عن أكثر من صحابي بأسانيد صحيحه، ومن وجوه عديدة، حتى قال السيوطي: متواتر . فلا مجال للطعن في صحته، ولم يبق إلا البحث في معناه، والتوفيق بينه وبين الآية الكريمة . وهذا ما حاوله العلماء من قديم، وذكروا فيه عدة تأويلات، نقلها الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " وأكتفي هنا بذكر أهمها وأرجحها، غير متقيد بترتيب الحافظ.
الأول: أن المراد بالعذاب هو العذاب بمعناه اللغوي وهو: مطلق الألم، لا العذاب الأخروي، فالميت يتألم بما يرى من جزع أهله، وما يسمع من بكائهم عليه، فمن المعلوم أن الميت في قبره غير معزول عن أهله وقرابته وأحوالهم . وقد روى الطبري بإسناد صحيح عن أبي هريرة: " أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم " وهو موقوف في حكم المرفوع، إذ لا مجال للرأي فيه . وله شاهد من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا . أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم.
(1/55)
قال الحافظ: وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين (ورجحه من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر، وقال: أكاد أجزم به، ولا أرضى غيره . انظر الحديث رقم 4865 من المسند جـ 7 طـ دار المعارف بمصر)، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قَيلة بنت مخرمة: " قلت: يا رسول الله، قد ولدته فقاتل معك يوم الربذة، ثم أصابته الحمى فمات، ونزل علي البكاء !. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفًا، وإذا مات استرجع ؟! (أي قال: " إنا لله وإنا إليه راجعون ") فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر (يستعبر: يعني أن الميت يبكي لبكائه) إليه صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم ! " وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه بن أبي خيثمة، وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم، وأخرج أبو داود والترمذي طرفًا منه.
قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة، فلا يعدل عنه.
الثاني: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يعذبه أهله، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعًا: " الميت يعذب ببكاء الحي: إذا قالت النائحة: واعضداه ! واناصراه ! واكاسياه ! جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها ؟ أنت ناصرها ؟ أنت كاسيها ؟ ".
ورواه ابن ماجة بلفظ: " يتصنع به، ويقال: أنت كذلك ؟ ".
ورواه الترمذي بلفظ: " ما من ميت يموت، فتقوم نادبته فتقول، واجبلاه ! واسنداه أو شبه ذلك من القول، إلا وُكِّلَ به ملكان يلهذانه: أهكذا أنت ؟ ".
وشاهده ما روى البخاري في " المغازي " من حديث النعمان بن بشير، قال: أغمى على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي وتقول: واجبلاه ! واكذا، واكذا ! فقال حين أفاق: " ما قلت شيئًا إلا قيل لي " أنت كذلك ؟ ".
(1/56)
الثالث: ما اختاره الإمام البخاري، وجزم به: أن المراد بالبكاء في الحديث بعضه، وهو النوح، والمراد بالميت بعض الموتى أيضًا، وهو من كان النوح من سنته وطريقته، فكان أسوة سيئة لأهله، أو عرف أن لهم عادة بفعل ذلك، فأهمل نهيهم عنه.
واستدل البخاري لذلك بأدلة ذكرها في ترجمة الباب، منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) (سورة التحريم: 6) وحديث: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته " (متفق عليه من حديث ابن عمر) . وحديث: " لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، وذلك لأنه أول من سن القتل ". (رواه البخاري).
ومقتضى هذا أن الميت إنما يعذب لتقصيره في تربية أهله، وإهماله في تأديبهم وتعليمهم، وضعف رعايته لما حمله الله من مسئولية عنهم، وهو المأمور أن يقيهم النار كما يقي نفسه . فالحقيقة أنه يعاقب بتفريطه وذنبه هو لا بذنب أهله، أي أنه لم يزر وزر غيره.
ومما يؤيد هذا التأويل أن من العرب في الجاهلية من كان يوصي أهله أن يندبوه، وينوحوا عليه بعد موته، كما قال طرفة :.
إذا متُ فانعيني بما أنا أهله وشقي على الجيب يا ابنة معبد.
أما البكاء من غير نوح فلا عقاب عليه، وقد جاء عن أبي مسعود الأنصاري، وقرظة بن كعب قالا: " رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح " . أخرجه ابن شيبة، والطبراني، وصححه الحاكم.
قال الحافظ بعد نقل هذه الوجوه التي ذكرناها وغيرها :.
(1/57)
" ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلاً: من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك، عذب بصنعه . ومن كان يعرف من أهله النياحة، فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ: كيف أهمل النهي ؟ ومن سلم من ذلك كله، واحتاط، فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه، وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب ". (انظر: فتح الباري جـ 3: والله أعلم . 393 - 397 . طـ مصطفى الحلبي).
وهناك وجه ذكره العلامة المناوي في " الفيض "، وهو: أن المراد بالميت في الحديث المشرف على الموت، والتعذب: أنه إذا احتضر، والناس حوله يصرخون ويتضجرون يزيد كربه، وتشتد عليه سكرات الموت، فيصير معذبًا به.
قال العراقي: والأولى أن يقال: سماع صوت البكاء هو نفس العذاب، كما أننا نعذب ببكاء الأطفال . فالحديث على ظاهره بغير تخصيص، وصوبه الكراماني . ا هـ.
فالعذاب هنا بمعناه اللغوي كما في الوجه الأول، ولكن هنا فسر الميت بالمحتضر.
وبهذا يتضح لنا، أن الحديث لا يعارض القرآن في تقرير مبدأ المسئولية الفردية وأن لا مغمز في ثبوته وصحته، ما دام له أكثر من وجه صحيح لتأويله.
قال العلامة المناوي: قال بعض الأعاظم: وبما نقرر عرف خطأ من جمد عندما سمع (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أو غلّط رواة هذا الخبر، وما هو على نحوه من صحاح الأخبار التي رواها الأعلام عن الأعلام إلى الفاروق وابنه وغيرهما. (فيض القدير جـ 2 ص 397).
(1/58)
ومما لابد من ذكره في هذا المقام: أن السيدة عائشة رضي الله عنها ظنت ما ظنه الأخ السائل حين سمعت هذا الحديث، فأنكرت على من رواه، متوهمة أنه يعارض الآية الكريمة، واتهمت من رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما بالخطأ أو النسيان، وأنه لم يسمع الحديث على وجهه، ففي رواية عند مسلم قالت: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه ".
وفي رواية لها: " إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها " . رواه البخاري.
وفي رواية أخرى قالت: ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله ليزيد الكافر عذابًا، ببكاء أهله عليه " وقالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) . رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرت من معارضة القرآن. (الفتح جـ 3 ص 395).
على أن الرواية الأخيرة لعائشة أثبتت فيها أن الميت يزداد عذابًا ببكاء أهله، وأي فرق بين أن يزداد عذابًا بفعل غيره، وأن يعذب ابتداء به ؟ ! فلو أخذ على ظاهرة أيضًا لعارض القرآن.
ولهذا لم يرتض العلماء موقف عائشة - ولا عصمة لأحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة والنسيان، أو على أنه سمع بعضًا، ولم يسمع بعضًا - بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح. (فيض القدير جـ 2 ص 397).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعائشة أم المؤمنين لها مثل هذا نظائر، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد، واعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك . أ هـ.
" العجلة من الشيطان ".
(1/59)
س: قولان نسمعهما يترددان على الألسن في كثير من المناسبات، يناقض كلاهما الآخر . القول الأول هو: العجلة من الشيطان . والثاني هو: خير البر عاجله . فهل هما حديثان نبويان أم لا ؟ وإذا كانا حديثين، فكيف نوفق بينهما ؟ وإن لم يكونا فأيهما الصواب، وأيهما الخطأ ؟.
جـ: أما القول الأول فهو جزء من حديث بلفظ: " الأناة من الله تعالى، والعجلة من الشيطان ". (رواه الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعًا وقال: حسن غريب . ورواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن منيع والحارث بن أبي أسامة في مسانيدهم، عن أنس بلفظ: " التأني من الله ... إلخ " وأخرجه البيهقي عنه أيضًا . وقال المنذري في الترغيب: رواته رواة الصحيح . ونحوه قال الهيثمي وفي الصحيحين من حديث ابن عباس ما يشهد لهذا الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشج عبد القيس: " إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة ").
ومدح الأناة، وذم العجلة، مما استقرت عليه فطر الناس، وأجمعوا عليه قديمًا وحديثًا، حتى قيل في الأمثال السائرة: من تأنى نال ما تمنى .. في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة . وقال المرقش:.
يا صاحبي تلوما لا تعجلا إن النجاح رهين ألا تعجلا.
وقال الآخر :.
قد يدرك المتأني بعض حاجة وقد يكون من المستعجل الزلل.
وقال عمرو بن العاص: لا يزال المرء يجتني من ثمرة العجلة الندامة.
وإنما كانت العجلة من الشيطان: لأنها - كما قال ابن القيم - خفة وطيش وحدة في العبد، تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور . وهي متولدة بين خلقين مذمومين: التفريط والاستعجال قبل الوقت . ا هـ.
وفي الحديث: " يستجاب للعبد ما لم يستعجل ". (متفق عليه عن أبي هريرة).
أما القول الآخر: " خير البر عاجله " فقال " العجلوني " في " كشف الخفاء " :.
(1/60)
ليس بحديث، ولكن روى معناه عن العباس رضي الله عنه: " لا يتم المعروف إلا بتعجيله، فإنه إذا عجله هنأه " ومشاع على الألسنة واشتهر: إن الانتظار أشد من الموت !.
على أن " البر " أوسع من مجرد إسداء المعروف، فهو يشمل كل عمل صالح مما يتقرب به المرء إلى الله، أو ينفع به الناس.
والتعجيل بالخير والبر وعمل الصالحات أمر محمود، ندب إليه القرآن والسنة . ففي القرآن الكريم في معرض المدح (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) . (... ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)، (فاستبقوا الخيرات)، (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة).
فهذا القول الأخير صحيح في معناه، وليس مناقضًا لحديث " العجلة من الشيطان " لأن العقل لا يحكم بوجود التناقض بين قولين أو قضيتين إلا إذا ثبت تنافيهما من كل الوجوه، وعدم التقائهما بصورة ما . أما إذا أمكن تقييد أحدهما بوضع معين أو حالة معينة . فلا تناقض إذن.
وقد نبه المحققون على أن الأناة إنما تمدح، والعجلة إنما تذم بشروط ثلاثة :.
أولاً: ألا يكون الأمر المراد تنفيذه طاعة ظاهرة لله، فإذا كان كذلك، فمن الخير التعجيل به استباقًا للخيرات، ومسارعة فيها كما أمر الله . وقد روى سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال: " التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة ". رواه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما).
دعا أحد الصالحين غلامًا له وهو في الخلاء يقضي حاجته، وأمره أن يتصدق بصدقة على فلان من الناس . فقال له: هلا صبرت حتى تخرج من الخلاء ؟ ! فقال حضرتني هذه النية . فأحببت التعجيل بها، ولا آمن على نفسي التغير !.
وعن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :.
(1/61)
" ثلاث يا علي لا تؤخرهن: الصلاة إذا أتت . والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤًا ". (رواه الترمذي وقال: حديث غريب حسن . ورواه الإمام أحمد في مسنده . وقال الشيخ شاكر إسناده صحيح . انظر: ج 2 حديث رقم 828، وحسنه العراقي أيضًا ولكن ابن حجر جزم بضعف سنده في تخريج الهداية . انظر: الدراية جـ 2، ص63، وفيض القدير، جـ 3، ص، 310).
ولهذا الحديث قصة أخرجها ابن دريد والعسكري: أن معاوية قال يومًا وعنده الأحنف بن قيس: ما يعدل الأناة شيء . فقال الأحنف: إلا في ثلاث: تبادر بالعمل الصالح أجلك، وتعجل إخراج نعيك، وتنكح كفء أيمك . فقال رجل: إنا لا نفتقر في ذلك إلى الأحنف قال: لم ؟ قال: لأنه عندنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث. (فيض القدير المذكور).
وذكر الغزالي عن حاتم الأصم قال: العجلة من الشيطان إلا في خمسة، فإنها من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إطعام الطعام، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب ".
وقيل لأبي العيناء: لا تعجل، فالعجلة من الشيطان ! فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: (وعجلت إليك رب لترضى). (سورة طه: 84).
الثاني: أن يكون مع عدم التثبيت والتحري والتبين . أما بعد أن يتبين ويتثبت ويقدم ما يلزم تقديمه قبل العمل من الدراسة والاستخارة والاستشارة، فلا وجه للتريث والإحجام عند ذلك، فقد تنقلب فضيلة الأناة حينئذ إلى رذيلة التواني والتباطؤ . وكل شيء زاد حدة انعكس إلى ضده، ولهذا قيل: لا تعجل عجلة الأخرق، ولا تحجم إحجام الفرق ! وقال الشاعر :.
إذا كنتُ ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا.
وفي القرآن الكريم: (وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين). (آل عمران: 159).
(1/62)
الثالث: ألا يخاف الإنسان فوت مطلوبه . فإذا كان هناك أمر موقوت بزمن محدود، فلا ينبغي له أن يبالغ في التأني والتثبت، حتى يمضي الزمن المقدر، وتفوته الفرصة المواتية، ثم يعض بعد ذلك بنان الندم حيث لا ينفع الندم، وفي ذلك يقول الراجز :.
وانتهز الفرصة إن الفرصة تصير -إن لم تنتهزها- غصة.
وبالله التوفيق.
تصحيح فهم خاطئ لحديث " اللهم أعط منفقًا خلفًا ".
س: في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من يوم طلعت شمسه إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقًا خلفًا وممسكًا تلفًا ".
هذا، ولكننا نرى عكس الحديث في الحياة ! نرى أناسًا ينفقون ويتصدقون ويفعلون الخير . وهم في ضيق من العيش، ونرى غيرهم ممسكين بخلاء لا ينفقون مليمًا واحدًا لوجه الله، وحالتهم المالية في ازدياد فهل هذا الحديث صحيح أم مكذوب ؟ وإذا كان صحيحًا فأين خلف المنفقين، وتلف الممسكين ؟.
جـ: الحديث المذكور حديث صحيح، متفق عليه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا ".
وقد ورد في معنى الحديث أحاديث أخر، كلها تؤيد هذا المعنى، منها ما رواه مسلم والترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك ".
وهل هناك أصدق من كتاب الله الذي يقول في الحث على الإنفاق والانتصار على دواعي البخل: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) (البقرة: 268) . ويقول تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين). (سبأ: 39).
(1/63)
قال ابن كثير في تفسيرها: أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب . كما ثبت في الحديث، ويقول الله تعالى: " أنفق أنفق عليك ".
والذي أثار اللبس عند السائل إنما هو حصره للخلف والتلف في دائرة المال . والأمر أعمق من هذا وأوسع، فالخلف هو العوض الذي يكافئ به الله الغني الكريم عبادة المنفقين، وهو أكرم من أن يجعله مقصورًا على المال فقط، بل قد يكون صلاحًا في الأهل، أو نجابة في الأولاد، أو عافية في البدن أو بركة في القليل، وقد يكون أمرًا معنويًا خالصًا، كهداية إلى حق، وتوفيق إلى خير، وانشراح في الصدر، وسكينة في القلب، ومحبة في نفوس الخلق، وشعور بحلاوة الإيمان ورضوان الله تعالى، فضلاً عما أعده الله في الآخرة لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر . (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون). (سورة السجدة: 17).
إن مكافأة الله المنفقين في سبيله لأعظم من أن تقتصر على الحياة الدنيا (والآخرة خير وأبقى) (سورة الأعلى: 17) وأرفع من أن تقتصر على الرزق المادي وحده، والعارفون يعلمون أن الأرزاق الروحية أنفس وأخلد من كل ما ترنو إليه الأبصار من متاع الدنيا وموازين الله ورسوله في تقدير الأشياء ليست كموازين أهل الدنيا . اقرأ هذه الآيات :.
(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون) سورة يونس: 58)، (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) (سورة طه: 131)، (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملاً) (سورة الكهف: 46) . (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (سورة الشورى: 20) ... واقرأ هذه الأحاديث :.
(1/64)
" ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " (رواه مسلم عن عائشة)، " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ". (رواه البخاري ومسلم عن أنس).
وإذا اتضح لنا معنى دعاء الملك: " اللهم أعط منفقًا خلفًا " بان لنا معنى دعاء الآخر: " اللهم أعط ممسكًا تلفًا ".
فالتلف هو العقوبة التي يجازي الله بها الممسكين، وهو لا ينحصر في خسارة المال أيضًا، ولكنه قد يتناول البدن، أو الأهل أو الولد أو العلاقة بالناس ... إلخ . وقد يكون قلق النفس، وشك القلب، وضيق الصدر مما يفسد على المرء حياته، ويحرمه الاستمتاع بماله الوفير، ويحييه في عذاب مقيم . فضلاً عما ادّخر الله لمثله في الآخرة (ولعذاب الآخرة أشق، وما لهم من الله من واق) (الرعد: 34) ... وفي بعض الأحاديث ما يفيد أن دعاء الملكين مطابق لما جاء في القرآن من قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (الليل: 5 - 10) فالتيسير لليسرى هنا مقابل لقول الملك: أعط منفقًا خلفًا . والتيسير للعسرى مقابل لقول الآخر: أعط ممسكًا تلفًا . مما يدل على أن الأمر أوسع وأكبر من الخلف في المال والتلف فيه.
" قل خيرًا أو اصمت ".
س: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قل خيرًا أو اصمت " . فهل الكلام الكثير حرام على ضوء هذا الحديث ؟.
جـ: جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث عديدة تحذر من آفات اللسان: منها: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ". (متفق عليه عن أبي هريرة وأبي شريح).
(1/65)
وجاء عنه: " رحم الله امرءًا قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم " رواه ابن المبارك في الزهد مرسلاً بإسناد حسن، وروي من طرق أخرى فالكلام الكثير يؤدي إلى أن يتورط الإنسان في أخطاء كثيرة، فاللسان له آفات بلغها الإمام الغزالي عشرين آفة من الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والخوض في أعراض الناس، والكلام فيما لا يعنيه، والاستهزاء بالآخرين، والسخرية منهم، وغير ذلك كثير.
بل إن الشيخ عبد الغني النابلسي وصل آفات اللسان إلى اثنتين وسبعين آفة، وجاء بتفصيلات كثيرة على ذلك.
فإذا أكثر المرء من الكلام، فهو معرض لأن يخطئ، وأن يتناول الأعراض وأن ينهش لحوم الناس في غيبتهم، ولهذا كانت السلامة في الصمت ... وليس معنى هذا أن يطبق الإنسان شفتيه، ولا ينبس ببنت شفة ... لا ... وإنما ليحرص على أن لا يتكلم إلا بالخير، وبما يرضى الله عز وجل.
ومن هنا قال الناس من قديم: إذا كان الكلام من فضة، كان السكوت من ذهب . وقال الشاعر :.
احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك، إنه ثعبان.
كم في المقابر من قتيل لسانه. كانت تهاب لقاءه الشجعان.
حتى في الدنيا، وليس في الآخرة فقط، يجد الإنسان نتيجة أخطاء اللسان، فيؤذي ويصاب بالأضرار الجسيمة بسبب لسانه . فلتات اللسان هذه ينبغي الحذر منها . ولهذا قيل :.
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل.
فعثرته من فيه ترمي برأسه وعثرته بالرجل تشفى على مهل.
وقالوا: أنت مالك الكلمة . فإذا قلتها ملكتك.
ولهذا لا ينبغي ألا يكون الإنسان ثرثارًا ....
وأكثر الناس الذين يكثرون الكلام يخطئون، ويصبحون مضغة في الأفواه، ولهذا يجب على المؤمن الذي يراقب الله ويخشاه، أن يعلم بأن كلامه من عمله، محسوب له أو عليه ... فإن قلم التسجيل الإلهي، لا يعدو كلمة يتفوه بها الإنسان إلا ويدونها في كتاب.
(1/66)
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ؛ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). (سورة ق: 16 - 18).
فمن علم أن كلامه مثل عمله تمامًا، مكتوب ومحسوب ومحصى عليه، قل كلامه إلا فيما يعنيه، وهذه هي السلامة.
فقل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم.
" دفاع عن صحيح البخاري ".
نشرت مجلة " العربي " في عددها 87 بتاريخ 11 شوال 1385 هـ شباط 1966 م كلمة السيد عبد الوارث كبير في باب " أنت تسأل ونحن نجيب " ردًا على باحث عراقي مسلم لقب نفسه " جابر عثرات الكرام " دافع عن الصحابة وعن البخاري . وإن لم ينشر المحرر كلمته كلها . وجاء في هذا الرد قوله :.
" ... فأنا لم أتهم أبا هريرة أو البخاري أو غيرهما من الصحابة أو أصحاب " الصحاح " باختراع الأحاديث أو صنعها ... ولست أقول عن حديث ما إنه ضعيف أو مصنوع لمجرد أنه لا يتفق مع العقل والمنطق فحسب، بل لأن ذلك رأي كثير من الأئمة والفقهاء القدماء والمحدثين على السواء، أمثال الإمام ابن تيمية والقسطلاني والذهبي والبيهقي والطبراني والدارقطني والهيثمي والسيوطي والعسقلاني ... وغيرهم .. !!.
والكلام عن الأحاديث الموضوعة مما لا تتسع له صفحات هذا الباب ... لكنني مع ذلك أقبل تحديك يا جابر عثرات الكرام، وأسألك كيف يعقل أن يقول الرسول صلوات الله عليه " اختلاف أمتي رحمة " أو " اختلاف أصحابي رحمة " في بعض الروايات، بينما الله تعالى يقول في محكم كتابه (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) ويقول جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) ويقول: (وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) ؟ !.
(1/67)
وليت شعري إذا كان جزاء " من أطعم أخاه خبزًا حتى يشبعه، وسقاه ماء حتى يرويه، أبعده الله عن النار سبعة خنادق، ما بين كل خندقين منها مسيرة خمسمائة عام " فما ترى يكون جزاء من يطعم كل يوم عشرة مساكين حتى يشبعوا ويسقيهم حتى يرتووا ؟؟.
وكيف يعقل أن يقول الرسول " إن الدنيا حرام على أهل الآخرة، وإن الآخرة حرام على أهل الدنيا " والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا " ويقول جل شأنه (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) !؟.
وكيف يقول " الطاعون وخز إخوانكم الجن " وفي رواية أخرى " أعدائكم الجن " ؟ ! وكيف يقول: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " ؟.
وكيف يقول: " اتخذوا الحمام المقاصيص، فإنها تلهي الجن عن صبيانكم " ؟ !!.
وكيف يقول: " عليكم بالقرع، فإنه يزيد في الدماغ ... وعليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبيًا " ؟ !! أو يقول: " زينوا موائدكم بالبقل، فإنه مطردة للشيطان " ؟ !!.
ليس هذا فقط يا جابر عثرات الكرام ! فإن في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث ما هو أدهى من ذلك وأمرّ، في مخالفة ما أمر الله به عباده، وأنزله في محكم كتابه.
قال تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) وهذا أمر صريح في ألا يقرب الرجل زوجته وهي في الحيض ... ولكن البخاري وأصحابه - سامحهم الله وغفر لهم، ينسبون إلى السيدة عائشة في " كتاب الحيض " أنها قالت: " كان النبي يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض " !.
ونسبوا مثل ذلك إلى " ميمونة " إحدى زوجات الرسول ...
فما الذي يفهمه الناس من هذه الأحاديث إلا أن الرسول كان يباشر زوجته في فترات حيضهن، خلافًا لما أمره الله به !!.
فهل يرضيك ذلك أو يرضي أحدًا من المسلمين ؟! وهل يعقل أن يصدر هذا الفعل المنكر عن نبي، بل عن سيد الأنبياء ؟!.
(1/68)
ثم اسمع أيضًا ... يقول الله تعالى في سورتي النساء والمائدة، في حكم الطهارة من الجنابة ؛ (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا) إلى آخر الآية ... ويقول البخاري: إن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال له عمر: " لا تصل " !!.
أما ثالثة الأثافي فهي عن زيد بن أنس، بسند صحيح على شرط " الشيخين " وصححه ابن حزم في " الإحكام " وأخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " قال: أمطرت السماء بردًا في رمضان فقال أبو طلحة: " ناولني من هذا البرد " فجعل يأكل منه وهو صائم ! فقلت: " أتأكل البرد وأنت صائم " ؟ فقال: " إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا، وإنه ليس بطعام ولا شراب ... إنما هو بركة ! فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك فقال: " خذها من عمك " !!.
ولو صح هذا - يا جابر عثرات الكرام - لكان أكل البرد في رمضان لا يفطر، وهذا ما لا يقول به مسلم على الإطلاق، حتى ولو ورد ألف مرة في " البخاري " و" مسلم " وكل كتب الصحاح ... !.
من أجل ذلك وأمثاله نطالب بتنقية كتب التفسير والحديث من تلك الخزعبلات والمفتريات يا جابر عثرات الكرام ...
أفلا تزال بعد ذلك كله مصرًا على التحدي ؟! إني على أي حال مستعد لالتقاط القفاز . ا هـ.
نرجو بيان رأيكم في هذا الكلام من الناحية الشرعية والعلمية، وخصوصًا فيما يتعلق بصحيح البخاري، والتشكيك فيه، لما له من منزلة في نفس كل مسلم.
(1/69)
جـ: لقد فوجئت وفوجئ كل مسلم، بل كل منصف، بما نشرته مجلة " العربي " في عددها الأخير (شباط 66) عن الحديث النبوي في باب " أنت تسأل ونحن نجيب " الذي يشرف عليه السيد عبد الوارث كبير، ودهش القراء لهذه الحملة المنكرة بالعناوين البارزة وبالبنط العريض، على أعظم كتاب في الإسلام بعد القرآن " الجامع الصحيح للبخاري " الذي تلقته الأمة - منذ اثنى عشر قرنًا بالقبول والرضا جيلاً بعد جيل، الخاصة منها والعامة، حتى إن الناس إذا أرادوا أن يهونوا من خطأ وقع فيه إنسان قالوا: " إنه لم يخطئ في البخاري " ولكن المجلة - ويا للهول - نشرت عنوانًا ضخمًا تقول فيه ... " صحيح البخاري ليس كله صحيحًا - وليست هذه الأحاديث مفتراة بل منكرة ".
لقد وقف شعر رأسي، واقشعرّ جلدي، حين وقعت عيني على هذه العناوين المثيرة التي تحدت بها المجلة مشاعر المسلمين، وصدمت أفكارهم بما يشبه القذائف المدمرة وما لقيت أحدًا قرأ هذا الشيء أو سمع به إلا أنكره واستبشعه، وحوقل واسترجع، وعجب الناس وعجبت معهم كيف يصدر هذا المنكر من مجلة عربية في بلد عربي مسلم، تطبع بمال المسلمين، ويحررها مسلمون أيضًا، كما يفهم ذلك من أسمائهم !!.
والعجب أن كاتب ذلك العنوان المثير سلك للتدليل عليه منهجًا غير مستقيم، منهجًا لا يرضى عنه العلم،ولا يرضى عنه الخلق، ولا يرضى عنه الدين.
فقد مهد للحملة على صحيح البخاري بذكر جملة من الأحاديث الموضوعة أو التي لا أصل لها بالإجماع، مع عدم الحاجة إلى ذكر هذه الأحاديث، فقد وئدت في مهدها بفضل جهود أئمة الحديث الذين أفنوا أعمارهم في سبيل خدمة السنة النبوية، وتنقيتها من زيف المزيفين، وانتحال المبطلين، وقد قيل للإمام عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة ! فقال: " تعيش لها الجهابذة " وصدق عبد الله فقد عاشوا لها، وماتت هي ولله الحمد، وحفظ الله دينه، وصدق وعده: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ". (سورة الحجر: 9).
(1/70)
ولا ريب أن حفظ الذكر " القرآن " إنما يتم بحفظ ما يبينه ويشرحه، وهي السنة التي خاطب الله صاحبها بقوله: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم). (سورة النحل: 44).
أجل . لم يكن من الجد أن يحشر الأستاذ مجموعة من الأباطيل المكشوفة مثل ... " عليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبيًا " ونحوه، فإن أصل الموضوع الذي جرت فيه المناقشة هو تنقية كتب التفسير والحديث مما فيها من شوائب وإسرائيليات فما لهذه الكتب ومثل " اتخذوا الحمام المقاصيص ... " ... إلخ ؟؟.
إن إيراد ذلك في مثل هذا المقام يوهم القراء أن كتب الحديث روت هذه الأباطيل أو اعتمدتها، أو سكت علماء الحديث عن بيان درجتها، وهو إيهام غير صحيح قطعًا . وهو يدل على أن الغرض من وراء هذه الحملة إنما هو التشويش والتشكيك في الإسلام ومصادره وأئمته بالجد والهزل والهدم بكل معول تناله اليد.
وأغرب من ذلك أن الكاتب ذكر هذه الأحاديث الباطلة المفضوحة بلا شك، ثم قال بالحرف الواحد - ويالهول ما قال - " ليس هذا فقط، فإن في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث ما هو أدهى من ذلك وأمرّ، في مخالفة أمر ما أمر الله به عباده وأنزله في محكم كتابه ".
يالله ! أصحيح البخاري وكتب الحديث فيها أدهى وأمر من الأحاديث المكذوبة المفتراة التي ذكرها الكاتب !! أما والله لو صح ذلك لكان الأستاذ أعظم المكتشفين في العصر الحديث، فقد أزاح الستار عن حقائق غابت عن الأمة الإسلامية كلها اثنى عشر قرنًا، حتى أتى هو آخر الزمان بما لم تستطعه الأوائل !!.
ترى ما هذه الأحاديث التي رواها البخاري وهي عند الكاتب أدهى وأمر مما ذكر من الأكاذيب والأباطيل ؟.
لقد تمخض الجمل ولم يلد شيئًا، لم يلد فأرًا ولا ضفدعة . ذكر الكاتب حديثين رواهما البخاري (كما يقول) زعمهما مخالفين لكتاب الله . فلنقف قليلاً لكي نناقش الكتاب في زعمه الخطير :.
(1/71)
الحديث الأول: رواه البخاري في كتاب الحيض عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض " . وقال الكاتب: ونسبوا مثل ذلك إلى " ميمونة " إحدى زوجات الرسول.
يرى الكاتب ذلك مخالفًا للآية الكريمة (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن).
وكان على (علامة دهره وفريد عصره) أن يجلو لنا وجه المخالفة والتعارض بين الآية والحديث، وذلك لا يكون إلا ببيان المراد من الاعتزال المأمور به في الآية، والمباشرة المروية في الحديث، ليبين للقارئ أهمها متعارضان حقًا أم لا ؟.
فالذي يبدو أنه إما فسر المباشرة بأنها الجماع، فقد تطلق على ذلك كما في قوله تعالى: (فالآن باشروهن) (سورة البقرة: 187) . وإما أنه فسر اعتزال المرأة في الحيض بأنه اعتزال فراشها وتحريم جميع بدنها على الزوج !!.
وكلا التفسيرين خطأ.
أما تفسير المباشرة بالجماع، فيرده لفظ الحديث نفسه، إذ تقول عائشة " يأمرني فأتزر فيباشرني " والاتزار: شد الإزار على الوسط وأمرها بذلك يبين المراد من المباشرة.
يؤيد ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة نفسها قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضطجع معي وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب " ومثله عن ميمونة قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض ".
(1/72)
ولو تواضع الأستاذ قليلاً، ورجع إلى مصدر قريب في اللغة أو التفسير، أو غريب الحديث، أو شروحه، لاتضح له معنى المباشرة الذي أزعجه، وأقض مضجعه، قال في القاموس، باشر المرأة ... جامعها أو صارا في ثوب واحد، فباشرت بشرتُه بشرتَها " وإذا كان الكاتب لا يعرف طريقة الكشف عن الألفاظ في القاموس واللسان ونحوهما ولا يصبر عليها، فيستطيع أن يتناول أحدث معجم أخرجه المجمع اللغوي في القاهرة ليجد هذا " المعجم الوسيط " يقول: (باشر زوجه مباشرة وبشارًا، لامست بشرته بشرتها ... وغشيها).
وقد وردت المباشرة في القرآن بمعنى الجماع، وبمعنى القبلة والملامسة، وذلك في آية واحدة، والقرينة والسياق مع السنة النبوية هي التي تحدد المراد.
قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا ..) إلى أن قال: (ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد).
فالمباشرة المنهي عنها حالة الاعتكاف في المساجد هي القبلة والملامسة ونحوهما فهي التي يمكن أن تقع مع الاعتكاف في المساجد.
والمباشرة المأمور بها ليلة الصيام هي الجماع بدلالة السياق: (وابتغوا ما كتب الله لكم) قال القرطبي وغيره في قوله تعالى: (فالآن باشروهن) المباشرة كناية عن الجماع وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه.
ومن هنا نعلم أن إطلاق المباشرة على الجماع ليس إطلاقًا حقيقيًا بل مجازيًا، والمجاز لا ينفي الحقيقة ولا يعارضها، بل الحقيقة هي الأصل حتى يقوم دليل على خلافها.
وإذن يكون فهم المباشرة في حديث عائشة: بأنها " الجماع " فهمًا خاطئًا بلا جدال . وإذا لم يكن الكاتب قد فهم المباشرة هذا الفهم الخاطئ، فلابد أن يكون قد أتى من قبل فهمه للاعتزال في آية (فاعتزلوا النساء في المحيض).
وعيب هذا الكاتب أنه يتعجل لغرض في نفسه في فهم النصوص باتباع الخرص والظن ثم يبني على فهمه نتائج يريد إلزام الناس بها، وإطراح دينهم وسنة نبيهم من أجلها.
(1/73)
وكان لزامًا عليه ليعرف المراد من هذه الآية الكريمة أن يتبين ويتثبت ويرجع إلى مصادر العلم، ويسأل أهل الذكر، ولا يتسرع في القول بالرأي والهوى، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذ قلت في كتاب الله بما لا أعلم " ؟ !.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار " (رواه الترمذي والنسائي وأبو داود).
فإن من الآيات ما بينت السنة المراد منه، ومنها ما يظهر معناه بالقرائن والملابسات وأسباب النزول، وكان الصحابة أعلم الناس بذلك، وعنهم أخذ تلاميذهم من علماء التابعين، فلا جرم أن الرجوع إلى علم هؤلاء والاستفادة منه واجب حتمًا.
أما ادعاء المعرفة، وإهمال هذه الثروة، والتهجم على القرآن، والقول على الله بغير بينة، فهو خطأ في المنهج لا يقره العلم ولا الدين . وفي الحديث: " من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ ".
قال ابن كثير: لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، فلن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ (مقدمة تفسير ابن كثير).
وألزم ما يكون هذا الرجوع إلى المصادر حين يقف الإنسان موقف المستدرك على أئمة الإسلام، المخطئ لمثل البخاري في أعظم كتاب في الإسلام بعد القرآن، المتهم للأمة في سائر الأعصار بالجهل والبلادة والغفلة، بتصحيحها ما ليس بصحيح، وتقديمها ما لا يستحق التقديم.
(1/74)
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المبين للقرآن بقوله وعمله وتقريره، فإذا قال الله تعالى: (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) فقد يحتمل مورد الاعتزال في الآية عدة أفهام ... قد يفهم منه اعتزال فراش المرأة مطلقًا، وترك مساكنتها كما كان اليهود يفعلون، وقد يفهم منه اعتزال جميع بدنها فلا يباشره الرجل بشيء من بدنه بغير حائل، وإن لم يعتزل فراشها، وقد يفهم منه اعتزال الفرج الذي هو موضع " الأذى " الذي علل به الأمر بالاعتزال، وقد يفهم منه اعتزال جزء معين من البدن - ما بين السرة والركبة مثلاً - فالذي يحدد المراد من ذلك هو السنة القولية والعملية (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
ونحمد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل شيئًا ليخفيه عن الناس، بل كانت حياته الخاصة والعامة ملك الأمة جميعًا، وما فعله في ليله أو نهاره، في خلوته أو جلوته، قد نقله نساؤه - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين من بعده، لأنه تشريع لهم، ولهم فيه أسوة حسنة.
ومن ذلك علاقته بهن في فترة الحيض، فهي التي تفسر الآية كما يفسرها ما ورد عنه من أقوال في ذلك.
وجاءت أحاديث عائشة وميمونة وغيرهما من أمهات المؤمنين مبينة لما أرد الله باعتزال النساء في المحيض، فليس هو اعتزال اليهود الذي كانوا يهجرون نساءهم في الحيض ولا يساكنونهن في البيوت، وقد تأثر بهم الأنصار بحكم المجاورة سنين طوالا، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما يحل وما يحرم في هذا الأمر، فنزلت الآية وفسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله.
وكانت أمهات المؤمنين حريصات على تبليغ المسلمين هدى رسولهم في كل أحواله وعلاقاته وتصحيح كل خطأ أو غلو يخرج عن سنة الرسول ويعلمن به.
(1/75)
روى عن بدرة مولاة ابن عباس قالت: - " بعثتني ميمونة بنت الحارث، وحفصة بنت عمر - وهما من أمهات المؤمنين - إلى امرأة ابن عباس رضي الله عنهما وكانت بينهما قرابة من جهة النساء، فوجدت فراشه معتزلاً فراشها، فظننت أن ذلك عن الهجران فسألتها، فقالت: إذا طمثت " حاضت " اعتزل فراشي، فرجعت فأخبرتها بذلك فردتني إلى ابن عباس وقالت: " تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام مع المرأة من نسائه، وإنها حائض وما بينها وبينه إلا ثوب ما يجاوز الركبتين " (أحكام القرآن لابن العربي جـ 1، ص 163).
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر نساءه بالاتزار أثناء الطمث، فإنه لم يلزم أصحابه بذلك، وصح، أنه أباح الاستمتاع بالبدن كله ما عدا موضع الأذى " الفرج " فدل على أن الأمر بالاتزار للاستحباب، لأخذ الحذر والاحتياط.
ففي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن (أي يساكنوهن) في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي فأنزل الله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) إلى آخر الآية . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " . فبلغ ذلك اليهود فقالوا ... ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه . فجاء أسيد بن الحضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا ... أفلا نجامعهن ؟ (أي مخالفة لليهود) فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وقال القرطبي: قال علماؤنا: " كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعوهن في الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين " (تفسير القرطبي جـ 3، ص 81).
(1/76)
وبهذا التفسير النبوي للآية، والتطبيق العملي لها، تأكدت وسطية الإسلام واعتداله وسماحته بين المغالين والمفرطين، وبين المقصرين والمفرطين من أصحاب الملل والنحل، فهل يجوز لمسلم أو منصف بعد ذلك أن يزعم التعارض بين الآية الكريمة وبين حديث البخاري عن عائشة وميمونة رضي الله عنهما، وينسب إلى الجامع الصحيح اشتماله على أحاديث مناقضة لما أنزل الله في محكم كتابه . ويحكم على هذا الحديث المتفق على صحته بأنه منكر ومفترى.
يا عجبًا . كأن الكاتب الذي تربع على منصة الإفتاء ظلمًا وزورًا يظن أن البخاري وغيره من أئمة السنة كانوا متسولين يأخذون الحديث عن كل من هب ودب، فكل من قال لهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... قالوا له: صدقت، هات ما عندك وفرحوا به، كما يفرح الصبي بقطعة الحلوى !!.
لا يا مفتي " العربي " لقد كانوا لا يقبلون قولاً حتى يعلموا أصله ومصدره، ولهذا اشترطوا الإسناد الذي تفردت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم.
قال ابن سيرين: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم).
وقال غيره: طالب علم بلا إسناد كحاطب بليل.
ونظر الشافعي في تفسير اشتمل على قصص وعبر، فقال: يا له من علم لو كان له إسناد !!.
ولم يكونوا يقبلون أي إسناد يذكر، بل يضعون كل راو من رواة السند على مشرحة التحليل، يسألون عنه ... عن عقله ودينه ... وخلقه وسيرته، وعن شيوخه وتلامذته، فمن اشتبهوا فيه أسقطوه، وردوا حديثه، ومن قامت الدلائل على صدقه وحفظه وعدالته وضبطه رووا عنه وقبلوه، وقد كان من ثمرات هذه البحوث المتشعبة المستفضية عِلمان جليلان من علوم السنة هما .. علم رجال الحديث وعلم الجرح والتعديل.
وكانوا يجوبون الآفاق، ويذرعون الأرض، طلبًا للحديث ممن سمعه بأذنيه، قال سعيد بن المسيب: " إنا كنا نسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد ".
(1/77)
وسأل رجل الشعبي عن مسألة فأفتاه فيها ثم قال: " خذها بغير شيء وإن كنا نسير فيما دونها من الكوفة إلى المدينة ".
ولنأخذ لذلك مثلاً ... حديث عائشة الذي رده الصحفي المفتي، وزعم أنه منكر ومفترى (نعوذ بالله من ذلك) إن سند هذا الحديث - عند من له أدنى ذوق بهذا العلم - نير كضوء الشمس . فقد رواه البخاري عن شيخه قبيصة بن عقبة، قال حدثنا سفيان، عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ورجال هذا السند كلهم كوفيون، تلقى بعضهم عن بعض، خلفًا عن سلف فهم تلاميذ المدرسة الكوفية التي أسسها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وخرجت أساطين العلم، وأعلام الهدي في الحديث والفقه، وفي العلم والسلوك، أمثال الأسود وعلقمة وإبراهيم وحماد بن سليمان وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان وغيرهم من عظماء الإسلام.
ورواة هذا الحديث الشريف سفيان الثوري ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي والأسود النخعي، كل واحد منهم جبل من جبال العلم، وبحر من بحور الرواية وإمام من أئمة الدين، لا ترقى ذرة من شك إلى أمانتهم أو علمهم أو وعيهم، حتى يأتي مفتي " العربي " في آخر الزمان فيتهمهم بخيانة الأمة وتضليل أجيالها وتحريف دينها، والكذب على رسولها باختراع الأحاديث المفتراة المنكرة (سبحانك هذا بهتان عظيم).
ومع هذا لم يرو البخاري هذا الحديث بهذا السند وحده، وعن هذا الطريق فحسب - وإن فيه لغناء وكفاية - بل روى معناه عن عائشة بأكثر من طريق.
ولم يرو ذلك عن عائشة وحدها من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بل روى البخاري ذلك عن ميمونة أيضًا، وليس البخاري وحده هو الذي روى حديثي عائشة وميمونة رضي الله عنهما، بل خرجتهما جميع كتب السنة ودواوينها المتقدمة منها والمتأخرة لإجماع أهل العلم على صحتهما وتلقيهما بالقبول.
(1/78)
ولعمري لئن كان مثل حديث عائشة - بسنده الذي ذكرناه - منكرًا ومفترى كما يزعم هذا الزاعم الجريء، لكان هذا الدين باطلاً، وكانت السنة كلها وهما، وكان تاريخ هذه الأمة زورًا، وكان تراث هذه الأمة خرافة كبيرة، وكان أئمة هذا الدين وهذه الأمة أكبر دجاجلة عرفهم تاريخ الأديان والشعوب.
ولقد زعم الكاتب في مستهل كلامه أنه لا يتهم أبا هريرة ولا البخاري بصنع الأحاديث . والحق أنه لم يتهمهما وحدهما، بل اتهم معهما سائر علماء الإسلام وحملة رسالته، في القرون الأولى التي هي خير القرون، واتهم الأمة كلها بالغباوة والغفلة والجهل، حيث تقبلت هذه الأحاديث بضعة عشر قرنًا بقبول حسن . وأثنت على رواتها، وخلعت عليهم وصف الإمامة في الدين، حتى جاء الكاتب النحرير، فوصفهم بما يُستحى من ذكره.
لقد سئل القاضي أبو يوسف: أتقبل شهادة رجل يسب السلف الصالح ؟ فقال: لو عرفت رجلاً يسب جيرانه ما قبلت شهادته، فكيف بمن يسب أفاضل الأمة ؟.
أقول: فكيف بمن يسب الأمة كلها، ليأتي على دينها من القواعد، لتقر أعين المبشرين والمستشرقين والشيوعيين ؟! اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
ولندع حديث عائشة إلى الحديث الثاني الذي استند إليه الكاتب في الطعن على الإمام البخاري وجامعه الصحيح . ساقه كما يلي . قال :.
يقول الله تعالي في سورتي النساء والمائدة في حكم الطهارة من الجنابة: (... أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا) إلى آخر الآية . ويقول البخاري: إن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء . فقال له عمر: لا تصل . ولو احترم الأستاذ أمانة العلم واحترم عقول الأمة التي تنشر فيها هذه المجلة ما اجترأ على هذا الادعاء، فإن الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره لم يروه البخاري في صحيحه قط مع أن عبارته .. (ويقول البخاري ... إلخ) تشعر أنه قرأ الحديث في البخاري فأي كذب على الحقيقة، وتزوير على الناس أكثر من هذا ؟.
(1/79)
ومع هذا نرخي العنان للكاتب المتعالم، ونتطوع بالجواب عن الحديث، فقد رواه إمام آخر لا يقل عن البخاري في علمه وفضله ودينه هو مسلم في صحيحه.
والخطأ الكبير الذي سقط فيه مفتي " العربي " هنا بتعجله واقتحامه وتحيزه، زعمه أن آية (... أو لامستم النساء ...) إلخ نص في حكم الطهارة من الجنابة، فإذا أورد البخاري عن عمر ما يخالفها كان ذلك حديثًا منكرًا ومفترى.
ولو تريث الأستاذ وتبين - لو كان من هدفه التبين - لعلم أن الملامسة " كالمباشرة " ليست نصًا في الجماع، بل تدل عليه بطريق الكناية والمجاز لا الحقيقة اللغوية . وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك، فإن ابن عباس يرى أن الملامسة في الآية معناها الجماع، وقد أخذ بمذهبه أبو حنيفة وأصحابه . وعمر وابنه عبد الله وابن مسعود يفسرون الآية على ظاهرها وحقيقتها اللغوية، وقد أخذ بمذهبهم من يقول بأن لمس المرأة ينقض الوضوء . قال ابن كثير: وهو قول الشافعي وأصحابه، ومالك ؛ والمشهور عن ابن حنبل . ولكل من الفريقين أدلة ليس هذا موضع ذكرها إنما الذي يهمنا هنا أن الآية ليست نصًا في حكم الجناية كما أوهم الكاتب المتقول بما لا يعلم.
وقول عمر لمن أجنب ولم يجد الماء (لا تصلِ) اجتهاد منه، وهو مخطئ في اجتهاده، ومعذور، بل مأجور أجرًا واحدًا، وليس عمر بالمعصوم من الخطأ، وليس هو أول من أخطأ من الصحابة في اجتهاده، وليست هذه أول خطأة له، فقد عد له ابن حزم جملة أحكام أخطأ فيها أو نسى ما ورد فيها من سنة حتى يذكره غيره من الصحابة، فيتذكر أو لا يتذكر.
فهل يعيب البخاري، أو مسلمًا، أن يسجل لنا في صحيحه رأيًا لعمر - وإن ظهر خطؤه - فينقل لنا بأمانة العالم صورة صحيحة للاجتهاد الإسلامي في ذلك العصر المبكر ؟.
أما أن هذا والله لمأثرة تحمد للبخاري ومسلم، لا مأخذ يعابان به، ويذمان عليه . وما أحسن ما قال البحتري :.
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي، فقل لي كيف أعتذر ؟.
(1/80)
ولا يفوتني أن أسجل هنا على الكاتب المتهجم أمرًا معيبًا حقًا، فقد قال في فاتحة حديثه " لست أقول عن حديث ما، إنه ضعيف أو موضوع، لمجرد أنه لا يتفق مع العقل والمنطق فحسب بل لأن ذلك رأي كثير من الأئمة والفقهاء القدماء والمحدثين على السواء أمثال ابن تيمية، والقسطلاني، والذهبي، والبيهقي، والطبراني، والدارقطني، والهيثمي، والعراقي، والسيوطي، والعسقلاني، وغيرهم ".
ثم طعن في أحاديث متفق على قبولها، مجمع على صحتها، ولم يطعن في ثبوتها عالم قط من هؤلاء الذين ذكرهم، ولا غيرهم، فليت شعري لم أوهم الأستاذ بذكر أسماء هؤلاء الأعلام الذين يبدو - من ترتيبه لهم - أنه لم يعرفهم ولم يقرأ آثارهم، ولم يرجع إليها فيما انتقده على البخاري، وزعم أنه مفترى بل منكر.
(جعل الكاتب المنكر أشد من المفترى، وليس الأمر كذلك لغة ولا اصطلاحًا فليس هناك أسوأ من المفترى).
أما حديث أبي طلحة الأنصاري، وأكله البرد في الصوم فلم يروه البخاري ولا مسلم ولا أحد من الكتب الستة، ولهذا لا نطيل بالرد عليه، والجزء الموقوف فيه على أبي طلحة صحيح من حيث سنده، ولكن لا حجة فيه، لأنه اجتهاد صحابي انفرد به في فهم النص وخالفه سائر الصحابة، فلا عبرة به، ولهذا مات في مهده، ولم يقل به أحد طوال القرون الماضية . وأما الجزء المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فغير صحيح . كما قرره علماء الحديث.
ولو كان هذا الصحفي يقدر أمانة القلم الذي في يمينه، ويحترم العقول التي في رءوس الناس، ما جشم نفسه ذكر هذا الحديث، فإن ميدان المعركة بينه وبين الأخ العالم العراقي الذي اتخذ لنفسه لقب " جابر عثرات الكرام " (وكان أولى أن يسمى: كاشف سوءات اللئام) هو: صحيحا البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح، فليس لإيراد هذا الحديث معنى في هذا المقام إلا الادعاء والتطاول، والتكثر بالباطل، والتمويه الذي لا تنفق سوقه إلا عند البسطاء وضعاف العقول.
وبعد :.
(1/81)
فإن الحملة على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست اليوم، فإن وراءها جهات ومؤسسات تغذيها وتمدها، ولم يزل المبشرون والمستشرقون والشيوعيون يقودون المعركة ضدها، ويرمون لها بالوقود الدائم لتظل مستعرة الأوار، وليس من الضروري أن يظهروا بأنفسهم على المسرح، فقد يوغر ظهورهم الصدور ؛ ويثير الشكوك، ففي تلامذتهم - المخدوعين منهم والخادعين - الكفاية كل الكفاية . وما أكثر الذين تحركهم مؤسسات التبشير والاستشراق والإلحاد الأحمر، ليحطبوا في حبلهم وهم لا يشعرون، بل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وما أكثر المأجورين الذين يشترون بدينهم ثمنًا قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار.
ألا وإن هذه الحملات لا تزيدنا إلا استمساكًا بالحق، وثباتًا عليه، واعتصامًا بسنة الرسول العظيم التي بدونها لا يفهم القرآن ولا تستبين معالم الدين وحدوده وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي ".
والذي نأسف له حقًا أن تكون الحملة اليوم من منبر شبه رسمي لدولة عربية مسلمة هي الكويت، فلعل المسئولين فيها ينتبهون إلى هذا الخطر الذي يخلق البلبلة والحيرة، ويجر إلى الاضطراب والصراع، فالخراب والدمار، وبالله نستعيذ ونعتصم وهو تعالى من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
" حول حديث الذباب ".
ما قولكم في حديث الذباب - أعني الحديث الشريف النبوي الذي يقول: " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ".
(1/82)
هل هذا الحديث صحيح متفق على صحته ؟ وما حكم من أنكره أو تشكك في صحة نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل يخرجه هذا من الدين ؟ فإن بعض الأطباء في عصرنا أثاروا غبارًا حول صحة هذا الحديث إلى حد السخرية بمن صدق بمضمونه وذلك لما هو معروف في - علم الطب الوقائي والعلاجي - من أن الذباب أحد الأدوات الناشرة للأمراض، لما يحمل من الجراثيم الضارة، ولم يعرف أن أحدًا استخدمه للعلاج فكيف يقول الحديث: إن في أحد جناحيه شفاء ؟.
نرجو الإيضاح . فقد كثرت المجادلات حول هذا الحديث، حتى اتخذه بعض من لا دين لهم، تكئة للتنديد بالدين، والاستخفاف بالمتدينين.
الجواب :.
أما الجواب عن سؤال صاحب السؤال، وما تضمنه من استفسارات فألخصه في النقاط التالية :.
أولاً: إن الحديث صحيح رواه الإمام البخاري في جامعه الصحيح، ولكنه لا يعد من " المتفق عليه " في اصطلاح علماء الحديث، لأن المتفق عليه عندهم هو ما اتفق على روايته الشيخان - البخاري ومسلم - في صحيحهما . وهذا الحديث مما انفرد به البخاري، ولم يخرجه مسلم، رحمهما الله.
ومعلوم أن أحاديث صحيح البخاري متلقاة بالقبول لدى جماهير الأمة في مختلف العصور، وخصوصًا فيما سلم فيها من النقد والاعتراض من جهابذة علماء الأمة من المحدثين والفقهاء الراسخين.
ولا أعلم أحدًا من العلماء السابقين أثار إشكالاً حول هذا الحديث أو تحدث عن علة قادحة في سنده أو متنه.
ثانيًا: إن هذا الحديث لا يتعلق ببيان أصل من أصول الدين، من الإلهيات أو النبوات أوالسمعيات، ولا ببيان فريضة من فرائضه الظاهرة أو الباطنة، الشخصية أو الاجتماعية ... ولا ببيان أمر من أمور الحلال والحرام في حياة الفرد أو الجماعة، ولا ببيان تشريع من تشريعات الإسلام المنظمة لحياة الأسرة والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية، ولا ببيان خلق من أخلاق الإسلام التي بعث الرسول ليتمم مكارمها.
(1/83)
ولو أن مسلمًا عاش عمره دون أن يقرأ هذا الحديث أو يسمع به، لم يكن ذلك خدشًا في دينه، ولا أثر ذلك في عقيدته أو عبادته، أو سلوكه العام.
فلو سلمنا - جدلاً - بكل ما أثاره المتشككون حول الحديث، وحذفناه من صحيح البخاري أصلاً، ما ضر ذلك دين الله شيئًا.
فلا مجال لأولئك الذين يتخذون من الشبهات المثارة حول الحديث، سبيلاً للطعن في الدين كله، فالدين - أعني الإسلام - أرسخ قدمًا، وأثبت أصولاً، وأعمق جذورًا من أن ينال منه بسبب هذه الشبهات الواهية.
ثالثًا: إن هذا الحديث - وإن كان صحيحًا لدى علماء الأمة - هو من أحاديث الآحاد، وليس من المتواتر الذي يفيد اليقين.
وأحاديث الآحاد إذا رواها الشيخان أو أحدهما قد اختلف فيها العلماء: هل تفيد العلم أي اليقين أم تفيد مجرد الظن الراجح ؟ أم يفيد بعضها العلم بشروط خاصة ؟.
وهذا الخلاف يكفي للقول بأن من أنكر حديثًا من أحاديث الآحاد، قامت شبهة في نفسه حول ثبوته ونسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . لا يخرج بذلك من الدين لأن الذي يخرج منه إنكار ما كان منه بيقين لا ريب فيه، ولا خلاف معه، أي القطعي الذي يسميه العلماء " المعلوم من الدين بالضرورة ".
إنما يخرج من الدين حقًا من اتخذ من الغبار المثار حول هذا الحديث وسيلة للطعن في الدين والاستهزاء به، فإن هذا كفر صريح.
رابعًا: أما مضمون الحديث وعلاقته بالعلم والطب الحديث، فقد دافع عنه كثير من كبار الأطباء ورجال العلم، مستشهدين ببحوث ودراسات لعلماء غربيين مرموقين . ونشر ذلك كثير من المجلات الإسلامية في مناسبات شتى.
وحسبي هنا أن أنقل أحدث رد علمي طبي حول هذا الموضوع، نشرته مجلة " التوحيد " المصرية في عددها الخامس لسنة 1397 - 1977 وهو للأستاذ الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام والتقويم بجامعة الإسكندرية، أثر مقال نشرته بعض الصحف لطبيب آخر تشكك في الحديث المذكور.
يقول الدكتور أمين رضا :.
(1/84)
في جريدة الجمعة يوم 18/3/1977 رفض أحد الأطباء الزملاء حديث الذبابة على أساس التحليل العلمي العقلي لمتنه لا على أساس سنده . وامتدادًا للمناقشة الهادئة التي بدأتها هذه الجريدة أرى أن أعارض الزميل الفاضل بما يأتي :.
1- ليس من حقه أن يرفض هذا الحديث أو أي حديث نبوي آخر لمجرد عدم موافقته للعلم الحالي . فالعلم يتطور ويتغير . بل ويتقلب كذلك . فمن النظريات العلمية ما تصف شيئًا اليوم بأنه صحيح . ثم تصفه بعد زمن قريب أو بعيد بأنه خطأ . فإذا كان هذا هو حال العلم فكيف يمكننا أن نصف حديثًا بأنه خطأ قياسًا على نظرية علمية حالية . ثم نرجع فنصححه إذا تغيرت هذه النظرية العلمية مستقبلاً ؟.
(1/85)
2- ليس من حقه رفض هذا الحديث أو أي حديث آخر لأنه " اصطدم بعقله اصطدامًا " على حد تعبيره . فالعيب الذي سبب هذا الاصطدام ليس من الحديث بل من العقل، فكل المهتمين بالعلوم الحديثة يحترمون عقولهم احترامًا عظيمًا . ومن احترام العقل أن نقارن العلم بالجهل . العلم يتكون من أكداس المعرفة التي تراكمت لدى الإنسانية جمعاء بتضافر جهودها جيلا بعد جيل لسبر أغوار المجهول . أما الجهل فهو كل ما نجهله، أي ما لم يدخل بعد في نطاق العلم . وبالنظرة المتعقلة تجد أن العلم لم يكتمل بعد . وإلا لتوقف تقدم الإنسانية . وأن الجهل لا حدود له . والدليل على ذلك تقدم العلم وتوالي الاكتشافات يومًا بعد يوم من غير أن يظهر للجهل نهاية . إن العالم العاقل المنصف يدرك أن العلم ضخم ولكن حجم الجهل أضخم . ولذلك لا يجب (تعبير "لا يجب أن نفعل كذا وكذا": تعبير شائع بين المعاصرين، وهو خطأ ؛ لأن نفي الوجوب لا ينفي الجواز، والصواب في مثل هذا أن يقال: " لا يجوز " بدل " لا يجب " أو نقول: يجب ألا نفعل ..) أن يغرقنا العلم الذي بين أيدينا في الغرور بأنفسنا . ولا يجب أن يعمينا علمنا عن الجهل الذي نسبح فيه . فإننا إذ قلنا أن علم اليوم هو كل شيء . وإنه آخر ما يمكن الوصول إليه أدى ذلك بنا إلى الغرور بأنفسنا، وإلى التوقف عن التقدم، وإلى البلبلة في التفكير . وكل هذا يفسد حكمنا على الأشياء، ويعمينا عن الحق حتى لو كان أمام عيوننا، ويجعلنا نرى الحق خطأ، والخطأ حقًا . فتكون النتيجة أننا نقابل أمورًا تصطدم بعقولنا اصطدامًا . وما كان لها أن تصطدم لو استعملنا عقولنا استعمالاً فطريًا سليمًا يحدوه التواضع والإحساس بضخامة الجهل أكثر من التأثر ببريق العلم والزهو به.
(1/86)
3- ليس صحيحًا أنه لم يرد في الطب شيء عن علاج الأمراض بالذباب . فعندي من المراجع القديمة ما يوصف وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب . أما في العصر الحديث فجميع الجراحين الذين عاشوا في السنوات التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا - أي في السنوات العشر الثالثة من القرن الحالي - رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة بالذباب . وكان الذباب يربي لذلك خصيصًا . وكان هذا العلاج مبنيًا على اكتشاف فيروس البكتريوفاج القاتل للجراثيم . على أساس، الذباب يحمل في آن واحد الجراثيم التي تسبب المرض، وكذلك البكتريوفاج الذي يهاجم هذه الجراثيم . وكلمة بكتريوفاج هذه معناها " آكلة الجراثيم " . وجدير بالذكر أن توقف الأبحاث عن علاج القرحات بالذباب لم يكن سببه فشل هذه الطريقة العلاجية . وإنما كان ذلك بسبب اكتشاف مركبات السلفا التي جذبت أنظار العلماء جذبًا شديدًا . وكل هذا مفصل تفصيلاً دقيقًا في الجزء التاريخي من رسالة الدكتوراه التي أعدها الزميل الدكتور أبو الفتوح مصطفى عيد تحت إشرافي عن التهابات العظام والمقدمة لجامعة الإسكندرية من حوالي سبع سنوات.
4- في هذا الحديث إعلام بالغيب عن وجود سم في الذباب . وهذا شيء لم يكشفه العلم الحديث بصفة قاطعة إلا في القرنين الأخيرين . وقبل ذلك كان يمكن للعلماء أن يكذبوا الحديث النبوي لعدم ثبوت وجود شيء ضار على الذباب . ثم بعد اكتشاف الجراثيم يعودون فيصححون الحديث.
5- إن كان ما نأخذه على الذباب هو الجراثيم التي يحملها فيجب مراعاة ما نعلمه عن ذلك :.
( أ ) ليس صحيحًا أن جميع الجراثيم التي يحملها الذباب جراثيم ضارة أو تسبب أمراضًا.
( ب ) ليس صحيحًا أن عدد الجراثيم التي تحملها الذبابة والذبابتان كاف لإحداث مرض فيمن يتناول هذه الجراثيم.
(جـ) ليس صحيحًا أن عزل جسم الإنسان عزلاً تامًا عن الجراثيم الضارة ممكن.
(1/87)
وإن كان ممكنًا فهذا أكبر ضرر له . لأن جسم الإنسان إذا تناول كميات يسيرة متكررة من الجراثيم الضارة تكونت عنده مناعة ضد هذه الجراثيم تدريجيًا.
6- في هذا الحديث إعلام بالغيب عن وجود شيء على الذباب يضاد السموم التي تحملها . والعلم الحديث يعلمنا أن الأحياء الدقيقة من بكتريا وفيروسات وفطريات تشن الواحدة منها على الأخرى حربًا لا هوادة فيها . فالواحدة منها تقتل الأخرى بإفراز مواد سامة . ومن هذه المواد السامة بعض الأنواع التي يمكن استعمالها في العلاج . وهي ما نسميه " المضادات الحيوية " مثل البنسلين والكلوروميستين وغيرهما.
7- إن ما لا يعلمه وما لم يكشفه المتخصصون في علم الجراثيم حتى الآن لا يمكن التكهن به . ولكن يمكن أن يكون فيه الكثير مما يوضح الأمور توضحيًا أكمل ؛ ولذلك يجب علينا أن نتريث قليلاً قبل أن نقطع بعدم صحة هذا الحديث بغير سند من علم الحديث، ولا سند من العلم الحديث.
8- هذا الحديث النبوي لم يدعُ أحدًا إلى صيد الذباب ووضعه عنوة في الإناء، ولم يشجع على ترك الآنية مكشوفة، ولم يشجع على الإهمال في نظافة البيوت والشوارع وفي حماية المنازل من دخول الذباب إليها.
9- إن من يقع الذباب في إنائه ويشمئز من ذلك ولا يمكنه تناول ما فيه فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
10- هذا الحديث النبوي لا يمنع أحدًا من الأطباء والقائمين على صحة الشعب من التصدي للذباب في مواطنه ومحاربته وإعدامه وإبادته، ولا يمكن أن يتبادر إلى ذهن أحد علماء الدين أن هذا الحديث يدعو الناس إلى إقامة مزارع أو مفارخ للذباب . أو أنه يدعو إلى التهاون في محاربته . ومن صنع ذلك أو اعتقد فيه فقد وقع في خطأ كبير " أ هـ.
هذا ما قاله الطبيب العالم الأستاذ الدكتور أمين رضا بلسان العلم والطب المعاصر وفيه كفاية وغنية جزاه الله خيرًا.
حول بعض الأحاديث.
(1/88)
س: نرجو من فضيلتكم إفادتنا عن مدى صحة الأحاديث النبوية الآتية التي تدور على الألسنة :.
1- " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ".
2- " ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.
3- " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل ".
4- " ليس الخبر كالعيان ".
5- " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: جهاد النفس ".
6- المؤمن مرآة أخيه.
7- " لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا ".
جـ: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " حديث صحيح مرفوع متفق عليه، رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة، ورواه أحمد وابن ماجة عن ابن عمر.
" ما وسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " ذكره الغزالي في الإحياء بلفظ: قال الله: " لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع " وقال الحافظ العراقي في تخريجه: لم أر له أصلاً . ووافقه السيوطي في الدرر تبعًا للزركشي، وكذا قل ابن حجر.
وقال ابن تيمية: هو مذكور في الإسرائيليات، وليس له إسناد معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال السخاوي في " المقاصد الحسنة ": وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه أحمد في " الزهد " عن وهب بن منبه قال: " إن الله فتح السماوات لحذقيل حتى نظر إلى العرش، فقال: سبحانك، ما أعظمك يا رب ! فقال: إن السماوات والأرض ضعفن عن أن يسعنني ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين ".
وذكر الزركشي أنه من وضع الملاحدة. (انظر: كشف الخفاء والألباس للعجلوني حديث 2256 جـ 2، ص 195، 196 والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة لـ " ملا على القارئ " . حديث 423 و310 و311).
وإذا ثبت بطلان الحديث فلا معنى لتأويله، ولا حاجة إليه، لأن التأويل فرع عن الثبوت، وهو معدوم.
(1/89)
فمن قال من العلماء: إن معناه: وسع قلبه الإيمان بي ومحبتي ومعرفتي، لا مسوغ له، وبخاصة أن المنحرفين يتخذون من هذه الأحاديث الباطلة سندًا لهم في كفرياتهم التي أربت على ما يقوله النصارى.
" ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل ".
لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، أو المسانيد المشهورة، وإنما رواه ابن النجار والديلمي في الفردوس، وقال العلائي: حديث منكر، تفرد به عبد السلام ابن صالح العابد . قال النسائي: متروك . وقال ابن عدي: مجمع على ضعفه، وقد روى معناه بسند جيد عن الحسن البصري من قوله . وهو الصحيح . ا هـ (فيض القدير ج 5 ص 356).
" ليس الخبر كالعيان " . حديث صحيح مرفوع، رواه ثلاثة من الصحابة: أنس وأبو هريرة وابن عباس، بلفظ: " ليس الخبر كالمعاينة " فرواه الطبراني في الأوسط عن أنس، والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة، ورمز السيوطي لحسنه في الجامع الصغير، وقال شارحه المناوي: وهو كما قال أو أعلى . فقد قال الهيثمي: رجاله ثقات، ورواه أيضًا ابن منيع والعسكري، وعد من جوامع الكلم والحكم . قال الزركشي: ظن أكثر الشراح أنه ليس بحديث وهو حديث حسن، خرجه أحمد وابن حبان والحاكم من طرق، ورواه الطبراني ... وقال في موضع آخر: رواه الحاكم وابن حبان وإسناده صحيح.
وأما حديث ابن عباس، فرواه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح، وصححه ابن حبان، وتمام حديث ابن عباس: " إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت ". (المصدر السابق).
" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس ".
(1/90)
قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر، ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر، بلفظ: " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزاة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: قالوا: وما الجهاد الأكبر ؟ قال: هو مجاهدة العبد هواه ".
وقال الحافظ بن حجر في تسديد القوس: هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن عيلة. (انظر كشف الخفاء والألباس ص 424، 425) . أ هـ.
" المؤمن مرآة أخيه " . رواه الطبراني في الأوسط والضياء في المختار عن أنس بإسناد حسن كما قال المناوي بلفظ: " المؤمن مرآة المؤمن " ورواه أيضًا أحمد وأبو داود عن أبي هريرة، وتمامه عندهما: المؤمن أخو المؤمن، يكفي عليه ضيعته (أي يجمع عليه معيشته)، ويحوطه من ورائه (أي يحفظ ويذب عنه في غيبته) وإسناده حسن . كذا في التيسير شرح الجامع الصغير للمناوي.
ومعنى أن المؤمن مرآة المؤمن أنه ينصح له، ويريه عيب نفسه، بغير تحريف ولا تزييف، كما تريه المرآة عيب وجهه كذلك.
" لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانا ".
الحديث صحيح: رواه أحمد والترمذي والنسائي، وابن ماجة والحاكم عن عمر بن الخطاب، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح وأقره الذهبي.
وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح (الأحاديث 205، 270، 273 من المسند)، وقبل ذلك صححه المناوي في شرح الجامع الصغير.
وليس في الحديث ما يدل لأهل التبطل والتعطل، بدعوى التجرد والتوكل، كما ظن بعض المتصوفة، بل فيه ما يرد إلى أن حق التوكل، لابد فيه من التوصل بنوع من السبب، لأن الطير إنما ترزق بعد الطلب والسعي والغدو . ولهذا قال الإمام أحمد: ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق.
حديث " أبغض الحلال إلى الله الطلاق ".
(1/91)
س: يعتمد الكتاب الإسلاميون المعاصرون في حديثهم عن الطلاق، وموقف الإسلام منه، على الحديث المشهور " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " . ولكني قرأت لبعض العلماء المشتغلين بعلم الحديث، ما يفيد تضعيف الحديث المذكور.
فهل لديكم أسانيد أخرى لتنفير الإسلام من الطلاق، وخصوصًا أنكم استندتم في بعض كتبكم إلى هذا الحديث أيضًا ؟.
الجواب: عما أثاره الأخ السائل يتضمن عدة نقاط :.
1- تصحيح الحديث المذكور ثبوتًا ودلالة.
2- بيان ما يعضده من أدلة أخرى من الكتاب والسنة تنفر من الطلاق.
3- بيان ما يؤيده من قواعد الشرع.
أولاً: حديث " أبغض الحلال إلى الله الطلاق ".
رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعًا.
ورواه أبو داود والبيهقي مرسلاً - ليس فيه ابن عمر - ورجح أبو حاتم والدارقطني في العلل والبيهقي المرسل.
وأورده ابن الجوزي في " العلل المتناهية " بإسناد ابن ماجة، وضعفه بعبيد الله ابن الوليد الوصافي وهو ضعيف.
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: ولكنه لم ينفرد به، فقد تابعه معروف ابن واصل، إلا أن المنفرد عنه بوصله محمد بن خالد الوهبي . أ هـ.
أقول: ومحمد بن خالد: قال الآجري عن أبي داود لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ثقة . كذا في تهذيب التهذيب جـ 9، ص 143.
وأخرجه الحاكم من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة موصولا بلفظ: " ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق " ثم قال :.
صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وزاد بأنه على شرط مسلم (المستدرك وتلخيصه جـ 2، ص 196).
قال ابن التركماني: فهذا يقتضي ترجيح الوصل، لأنه زيادة، وقد جاء من وجوه (ولهذا رمز السيوطي في الجامع الصغير إلى الحديث بالصحة، واعترضه المناوي في " الفيض " بما ذكره ابن حجر) (الجوهر النقي مع السنن الكبرى جـ 7، ص 222، 223).
ولكن إن نزل الحديث عن درجة الصحة، فلن ينزل عن درجة الحسن.
(1/92)
ومن الناس من ضعف هذا الحديث من جهة معناه، فقد قال: كيف يكون حلالاً ومبغوضًا عند الله ؟ فهذا تناقض يدل على ضعف الحديث.
وأجاب بعضهم: بأن الحديث يدل على أن الحلال ينقسم إلى ما هو محبوب ومبغوض بحسب ما يعرض له، فليس كل حلال محبوبًا.
وقال الخطابي في معالم السنن: معنى الكراهية فيه ينصرف إلى السبب الجالب للطلاق، وهو سوء العشرة، وقلة الموافقة الداعية إلى الطلاق، لا إلى نفس الطلاق.
وقد يقال: الطلاق حلال لذاته، والأبغضية لما يترتب عليه من انجرار إلى المعصية.
ثانيًا: إن القرآن الكريم رغب في إمساك الزوجة المكروهة من زوجها، والصبر عليها، إبقاء على الأسرة، وحرصًا على استمرارها . قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن، فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا). (سورة النساء: 19).
فأما الزوجة المطيعة الموافقة، فلا وجه لإيذائها بالفرقة، وإيحاشها بالطلاق، مع عدم الحاجة إليه، إلا أن يكون ضربًا من البغي عليها، ولا سيما إذا كانت ذات أولاد منه . وقد قال تعالى في شأن الناشزات من الزوجات: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان عليًا كبيرًا). (سورة النساء: 34).
فإذا كان البغي منهيًا عنه، ولو على المرأة الناشز ما دامت قد عادت إلى حظيرة الطاعة والموافقة، فكيف بالنساء الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله ؟!.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :.
إن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة كما ثبت في الصحيح عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: أنت أنت ! ويلتزمه ! ".
وقد قال تعالى في ذم السحر: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه). (سورة البقرة: 102).
(1/93)
وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن المختلعات هن المنافقات ".
وفي السنن أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة ".
ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة، حتى تنكح زوجًا غيره.
" وإذا كان إنما أبيح للحاجة، فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر ". (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 33، ص 81).
ثالثًا: ومن ناحية الأصول والقواعد الشرعية :.
1- نجد أن الطلاق، كما قال صاحب " الهداية " من الحنفية: " قاطع للنكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية. (انظر: رد المختار ج 2، ص 572 طـ استانبول).
2- وأنه - كما نقل صاحب " المغني " من الحنابلة - ضرر بالزوج وبالزوجة، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما، من غير حاجة إليه، فكان حرامًا كإتلاف المال، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار ". (المغني لابن قدامة جـ 7 ص 77 . والحديث رواه ابن ماجة والدارقطني، وهو صحيح بمجموع طرقه).
3- إنه كما ذكر ابن عابدين من متأخري الحنفية - إذا كان بلا سبب أصلاً، لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقًا وسفاهة رأي، ومجرد كفران بالنعمة، وإخلاص الإيذاء بها (بالمرأة) وبأهلها وأولادها ... فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعًا، يبقى على أصله من الحظر . ولهذا قال تعالى: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) أي لا تطلبوا الفراق. (رد المختار السابق).
وبهذا يتضح لنا: أن الحديث صالح للاستدلال به، تعضده الأدلة من القرآن والسنة، كما تؤيده أصول الشرع وقواعده . والله أعلم.
(1/94)
ظاهرة الغلو في التكفير.
جاءتني الرسالتان التاليتان:.
الأولى تقول بعد الديباجة:.
لعلكم قرأتم وسمعتم ما نشرته بعض الصحف،وما تداولته الألسنة حول الظاهرة الدينية الجديدة التي يتبناها من
سموهم " جماعة التكفير " أو " جماعة الكهف " أو " جماعة الهجرة " أو غير ذلك من الأسماء، فضلاً عن آخرين لم يعرفوا باسم ولا لقب.
وهذه الظاهرة تمثل اتجاهًا عامًا يمكن أن يتلخص تحت عنوان " الغلو في التكفير " وإن كان أصحاب هذا الاتجاه يختلفون بعد ذلك في أسباب التكفير وموجباته عن كل فئة منهم:.
فمنهم من يكفر مرتكب الكبيرة، على نحو ما كان يذهب إليه الخوارج من قبل . ومنهم من يقول أنا لا أكفر مرتكب الكبيرة، بل المصرّ عليها فقط.
ومنهم من يقول: إن جماهير الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام ويسمون " المسلمين " اليوم، ليسوا مسلمين.
ولهم على ذلك أدلة ومجادلات لعلكم قرأتم بعضها، ورد عليها بعض العلماء في بعض الصحف.
ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن هذا الأمر ليس بالهين كما يتصوره أو يصوره بعض الناس، بل هو خطير للغاية وهو يشغل كثيرًا من الشباب في مجالسهم وحلقاتهم ومنتدياتهم، ويريدون فيه قولاً فصلاً، وحكمًا عدلاً.
ولما كان لنا ثقة بعلمك وفهمك، ودينك وإخلاصك للحق دون تحيز لفريق ضد فريق، أو تتعصب لرأي دون رأي، لمجرد التقليد أو العصبية أو إرضاء الجمهور ... نريد منك أن تبين لنا موقف الإسلام الحق من هذا الاتجاه في ضوء النصوص والأدلة الشرعية المعتبرة عند علماء الأمة . راجين أن ينال هذا الأمر منكم ما يليق به من الاهتمام والعناية، مهما يكن لديكم من المشاغل الأخرى . فهذا - في رأينا - من الأهم الذي يجب أن يقدم على المهم . ونحن في انتظار بيانكم، داعين لكم بالتوفيق.
جماعة من الشباب المسلم بالقاهرة.
والرسالة الثانية:.
من مجموعة أخرى من الشباب المسلم، ولكنها من صنعاء، من اليمن الشمالية، ونصها يقول:.
(1/95)
ما رأيكم في مسلم يعتقد أن جميع أفراد الأمة في اليمن وغيرها (والمجتمع اليمني وغيره)، كفار مرتدون، سواء من كان منهم ملتزمًا بأركان الإسلام أم لا، وسواء العالم فيهم والجاهل، الذكر والأنثى . وأن الدار دار حرب أو دار ردة، وأن الجمعة والجماعة في المساجد لا تصح لأنها صلاة وراء كفار مرتدين، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب في مجتمع مرتد، وأمة مرتدة أو كافرة بل يُدعون إلى " لا إله إلا الله محمد رسول الله " أولاً.
وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يلزم في " المجتمع المسلم " والأمة المسلمة " يعني " دار الإسلام " فقط.
فهل هذا المعتقد صحيح، وله سنده الصريح من الكتاب والسنة الصحيحة وعقيدة السلف الصالح وإجماع الأمة ... أم أنه فاسد لفقد سنده من الكتاب والسنة الصحيحة وهدى السلف الصالح وإجماع الأمة ؟.
نرجو الجواب الكافي.
جـ: أشكر لهذه المجموعة وتلك، من الشباب المسلم في القاهرة وصنعاء ثقتهم بي . وأدعو الله أن يجعلني عند حسن ظنهم، ويغفر لي ما لا يعلمون . وأبادر فأقول:.
إنني أقدر خطر الموضوع الذي يسألون عنه، والذي يشغل فكر الكثيرين من أمثالهم . وهو موضوع " الغلو في التكفير ".
وقد لمست بنفسي شيئًا من آثاره الفكرية لدى بعض الشباب المخلص النية، السليم الطوية، في أكثر من بلد عربي، وسمعت من بعضهم بعض ما يستندون إليه من أدلة أو شبهات، وقرأت بعضًا آخر . ولكني كنت أود أن أقرأ شيئًا مكتوبًا محددًا يوضح فكرة هؤلاء توضيحًا تامًا مؤيدًا بالأدلة التي تؤيد وجهة نظرهم . وبهذا يستطيع الفقيه المسلم أن يرد عليهم بما أعلنوه والتزموه كتابة لا مشافهة.
على أن هذا الذي وددته، إذ لم يتحقق، لا يمنع من مناقشة فكرة التكفير والغلو فيه في حد ذاتها، دون نظر إلى تفصيلاتها.
(1/96)
والقضية لها جذورها في تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد الخوارج، ولعلها أول قضية فكرية شغلت المسلمين، وكان لها آثارها العقلية والعملية (عسكرية وسياسية) لعدة أجيال، ثم لم يلبث الفكر الإسلامي أن فرغ منها . واستقر على ما عليه أهل السنة والجماعة.
ولا أكتم الإخوة السائلين:.
إني أعد كتابًا في " قضية التكفير " منذ سنوات، ولم أفرغ من إتمامه بعد . مع إلحاح الكثيرين من الغيورين على وجوب الإسراع بإكماله، ومع شعوري بشدة الحاجة إليه، ولكن كثرة المشاغل الآنية من ناحية، وإيماني بوجوب الأناة في تحقيق الموضوع من ناحية ثانية، وحرصي على أن أعرف وجهات من يسمونهم " جماعة التكفير " من ناحية ثالثة - كل هذا أخرّني عن إخراج الكتاب للناس حتى اليوم.
وأسأل الله تعالى أن يمدني بالتوفيق والعون لإتمامه على وجه يرضيه جل شأنه.
ولا يمنعني هذا أن أقول في الموضوع شيئًا سريعًا، قد يبل الغلة، إن لم ينقعها.
ظاهرة تحتاج إلى دراسة لأسبابها:.
وأول ما ينبغي أن أقوله هنا:.
إن هذه الظاهرة -ظاهرة الغلو في التكفير - تحتاج إلى دراسة لأسبابها وعواملها حتى نستطيع علاجها على بصيرة.
أما الذين يفكرون (من رجال السلطة) في علاجها بالقمع والاضطهاد والاعتقال، وما إلى ذلك من ألوان العنف، فهم مخطئون بلا ريب، لأمرين:.
أولهما: إن الفكرة لا تقاوم إلا بالفكرة، واستخدام العنف وحده في مقاومتها قد لا يزيدها إلا توسعًا، ولا يزيد أصحابها إلا إصرارًا عليها . إنما الواجب أن تعالج بالإقناع والبيان وإقامة الحجة، وإزاحة الشبهات.
ثانيهما: إن هؤلاء المكفرين - في مجموعهم - أناس متدينون مخلصون، صوامون قوامون، غيورون، قد هزهم ما يرونه في المجتمع من ردة فكرية، وتحلل خلقي، وفساد اجتماعي واستبداد سياسي.
فهم طلاب إصلاح، حريصون على هداية أمتهم، وإن أخطأوا الطريق وضلوا السبيل.
(1/97)
فينبغي أن نقدر دوافعهم الطيبة، ولا نصورهم في صورة سباع ذات مخالب وأنياب، تريد أن تنقض على المجتمع، فتهدمه وتجعله يبابا !.
والدارس المتتبع لأسباب هذه الظاهرة يجد أنها تتمثل في أمور :.
1- انتشار الكفر والردة الحقيقية جهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، واستطالة أصحابها وتبجحهم بباطلهم، واستخدامهم أجهزة الإعلام وغيرها لنشر كفرياتهم على جماهير المسلمين دون أن يجدوا من يزجرهم أو يردهم عن ضلالهم وغيهم.
2- تساهل بعض العلماء في شأن هؤلاء الكفرة الحقيقيين وعدهم في زمرة المسلمين، والإسلام منهم براء.
3- اضطهاد حملة الفكر الإسلامي السليم، والدعوة الإسلامية الملتزمة بالقرآن والسنة، والتضييق عليهم في أنفسهم ودعوتهم . والاضطهاد والتضييق لأصحاب الفكر الحر، لا يولد إلا اتجاهات منحرفة، تعمل تحت الأرض، في جو مغلق بعيدًا عن النور والحوار المفتوح.
4- قلة بضاعة هؤلاء الشبان الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، وعدم تعمقهم في العلوم الإسلامية واللغوية . الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهمًا سطحيًا سريعًا، إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى في هذه الأمور الخطيرة، دون أهلية كافية.
فالإخلاص وحده لا يكفي، ما لم يسنده فقه عميق لشريعة الله وأحكامه، وإلا وقع صاحبه فيما وقع فيه الخوارج من قبل، الذين صحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه، كما قال الإمام أحمد . هذا مع شدة حرصهم على العقيدة والتنسك.
ولهذا كان أئمة السلف يوصون بطلب العلم قبل التعبد والجهاد، حتى لا ينحرف عن طريق الله من حيث لا يدري.
(1/98)
وقد قال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم، ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضر بالعلم، فإن قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا.
تكفير من يستحق التكفير :.
ومن هنا ينبغي أن نكفر من يجاهرون بالكفر دون استحياء، ونكف عمن ظاهرهم الإسلام وإن كان باطنهم خرابًا من الإيمان، فإن هؤلاء يسمون في عرف الإسلام " المنافقين " الذين يقولون آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، أو لم تصدق أعمالهم أقوالهم . فلهم في الدنيا أحكام المسلمين بمقتضى ظاهرهم، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، بموجب ما يبطنونه من كفر.
فمن الكفرة الذين يجب أن يدفعوا بالكفر دون مواربة ولا استخفاء الأصناف التالية:.
1- الشيوعيون المصرّون على الشيوعية، الذين يؤمنون بها فلسفة ونظام حياة، رغم مناقضتها الصريحة لعقيدة الإسلام وشريعته وقيمه، والذين يؤمنون بأن الدين - كل الدين - أفيون الشعوب، ويعادون الأديان عامة، ويخصون الإسلام بمزيد من العداوة والنقمة، لأنه عقيدة ونظام وحضارة كاملة.
2- الحكام العلمانيون، ورجال الأحزاب العلمانية، الذين يرفضون جهرة شرع الله . وينادون بأن الدولة يجب أن تنفصل عن الدين، وإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وامتنعوا، وأكثر من ذلك أنهم يحاربون أشد الحرب من يدعون إلى تحكيم شريعة الله، والعودة إلى الإسلام.
3- أصحاب النحل التي مرقت من الإسلام مروقًا ظاهرًا، مثل الدروز والنصيرية، والإسماعيلية، وأمثالهم من الفرق الباطنية، الذين قال عنهم الإمام الغزالي وغيره: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، وقال عنهم شيخ الإسلام بن تيمية: إنهم أكفر من اليهود والنصارى، وذلك لإنكارهم قطعيات الإسلام وأساسياته، وما علم منه بالضرورة.
(1/99)
ومثلهم في عصرنا: البهائية، التي هي دين جديد قائم برأسه، ويقاربهم القاديانية التي جاءت بنبوة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي ختم الله به النبيين.
وجوب التفرقة بين النوع والشخص المعين:.
وهنا أمر يجب أن نلفت النظر إليه، وهو ما قرره المحققون من العلماء، من وجوب التفرقة بين الشخص والنوع في قضية التكفير.
ومعنى هذا: أن نقول مثلاً: الشيوعيون كفار، أو الحكام العلمانيون الرافضون لحكم الشرع كفار، أو من قال كذا أو دعا إلى كذا فهو كافر، فهذا وذلك حكم على النوع، فإذا تعلق الأمر بشخص معين، ينتسب إلى هؤلاء أو أولئك وجب التوقف للتحقق والتثبت من حقيقة موقفه، بسؤاله ومناقشته، حتى تقوم عليه الحجة، وتنتفي الشبهة، وتنقطع المعاذير.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :.
" إن القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال هذا هو كافر . لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ".
وهذا كما في نصوص الوعيد . فإن الله تعالى يقول: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا).
" فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرط، أو ثبوت مانع . فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم ... وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم ... وقد يبتلي بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع .. ".
قال: " وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها . وقد تكون عرضت له شبهات يعذره الله بها .. ".
قال: ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعين. (من الرسائل المردانية لشيخ الإسلام).
(1/100)
فإذا كان كل هذا الاحتياط واجبًا في شأن المصرحين بالكفر، فكيف يجترئ مسلم على تكفير الجماهير التي تشهد أن " لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله " وإن خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا ؟.
إن الإقرار بالشهادتين، قد عصم دماءهم وأموالهم - إلا بحقها - وحسابهم على الله تعالى . فإنما أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
وقد صح الحديث بل تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى ".
خطورة التكفير:.
والذي ينبغي أن نؤصله هنا: أن الحكم بالكفر على إنسان ما، حكم جد خطير، لما يترتب عليه من آثار هي غاية في الخطر، منها:.
1- إنه لا يحل لزوجته البقاء معه، ويجب أن يفرق بينها وبينه ؛ لأن المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقن.
2- إن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه، لأنه لا يؤتمن عليهم ويخشى أن يؤثر عليهم بكفره، وبخاصة أن عودهم طريّ . وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي كله.
3- إنه فقد حق الولاية والنصرة على المجتمع الإسلامي، بعد أن مرق منه وخرج عليه بالكفر الصريح، والردة البواح، ولهذا يجب أن يقاطع، ويفرض عليه حصار أدبي من المجتمع حتى يفيق لنفسه، ويثوب إلى رشده.
4- إنه يجب أن يحاكم أمام القضاء الإسلامي، لينفذ فيه حكم المرتد، بعد أن يستتيبه ويزيل من ذهنه الشبهات، ويقيم عليه الحجة.
5- إنه إذا مات لا تجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يغسل ولا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورث له.
6- إنه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في نار جهنم.
وهذه الأحكام الخطيرة توجب على من يتصدى للحكم بتكفير خلق الله أن يتريث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول.
وجوب الرجوع إلى القرآن والسنة:.
(1/101)
ومن هنا يجب أن نرجع إلى النصوص من القرآن والسنة، لنقرر في ضوئها القواعد أو الحقائق الشرعية التي يجب الاحتكام إليها في مثل هذا الموضوع الخطير في دين الله، وفي حياة الناس.
واعتمادنا الكلي إنما هو على النصوص الثابتة المعصومة من كتاب الله وسنة رسوله، فهي وحدها الحجة والعمدة بلا نزاع.
وإذا استشهدنا بأقوال بعض العلماء، فليس ذلك لاعتبار أقوالهم حجة بنفسها، ولكن لنستأنس بفهمهم للنصوص، حتى لا نتيه في المتشابهات، أو نضرب الآيات والأحاديث بعضها ببعض . مع تأكيد أصل مهم هنا، وهو أن سلف الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان هم أهدى هذه الأمة سبيلاً، وأصحها أفهامًا، وأقومها طريقًا، وأفقهها لروح الإسلام، وأحرصها على اتباعه . فما وجدنا لهم هديًا معروفًا لم نعدل عنه إلى ابتداعات من بعدهم، فهم بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير القرون.
بماذا يدخل الإنسان في الإسلام:.
الحقيقة أو القاعدة الأولى:.
أن الإنسان يدخل الإسلام بالشهادتين:.
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن أقر بالشهادتين بلسانه فقد دخل في الإسلام، وأجريت عليه أحكام المسلمين، وإن كان كافرًا بقلبه، لأنا أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن نكل إلى الله السرائر . والدليل على ذلك:.
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الإسلام ممن أقر بالشهادتين، ولا ينتظر حتى يأتي وقت الصلاة، أو حول الزكاة، أو شهر رمضان ... مثلاً . حتى يؤدي هذه الفرائض، ثم يحكم له بالإسلام . ويكتفي منه بالإيمان بها، وألا يظهر منه إنكارها.
(1/102)
2- حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عند البخاري وغيره: أنه قتل رجلاً شهر عليه السيف فقال: " لا إله إلا الله " فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الإنكار، وقال: أقتلته بعدما قال: " لا إله إلا الله " ؟ فقال: إنما قالها تعوذًا من السيف ؟ فقال: هلا شققت عن قلبه ؟ ! وفي بعض الروايات: كيف لك بـ " لا إله إلا الله " يوم القيامة ؟.
3- حديث أبي هريرة: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وما جئت به.
وفي البخاري عن أنس مرفوعًا: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
والمراد بـ " الناس " في الحديث مشركو العرب . كما قال العلماء، وكما فسره أنس في حديثه، لأن أهل الكتاب يقبل منهم الجزية بنص القرآن.
والشاهد هنا: إنهم إذا قالوا لا إله إلا الله، دخلوا بها في الإسلام، بدليل عصمة دمائهم وأموالهم، لأن العصمة إما بالإسلام أو بالعهد والذمة، ولا عهد ولا ذمة هنا، فلم يبق إلا الإسلام.
وقد صح هذا الحديث عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة . ولهذا قال الحافظ السيوطي في " الجامع الصغير ": هو حديث متواتر . قال شارحه المناوي: لأنه رواه خمسة عشر صحابيًا.
وقد روى عن سفيان بن عيينة - أحد أئمة الحديث في زمنه - أنه قال: كان هذا في أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة.
وعقب العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه " جامع العلوم والحكم " على هذا بقوله: وهذا ضعيف جدًا، وفي صحته عن سفيان نظر . فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وبعضهم تأخر إسلامه.
ثم قوله: عصموا مني دماءهم وأموالهم، يدل على أنه كان عند هذا القول مأمورًا بالقتال، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة.
(1/103)
قال: ومن المعلوم بالضرورة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام، الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلمًا . فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال: " لا إله إلا الله " لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام واشترطوا ألا يزكوا.
ففي مسند الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: اشترطت ثقيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سيتصدقون، ويجاهدون.
وفيه أيضًا عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه.
قال ابن رجب: وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها.
واستدلوا أيضًا بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أخر إلا قائمًا.
قال أحمد: معناه أن يسجد من غير ركوع . ا هـ . كلام ابن رجب والذي يهمنا من هذه النقول أمران:.
الأول: أن الدخول في الإسلام إنما يكون بالشهادتين، وإذا اقتصر في بعض الأحاديث على شهادة التوحيد فهو من باب الاكتفاء أو الاختصار من بعض الرواة . وإما لأن مشركي العرب المقصودين بكلمة " الناس " في الحديث، لم يكونوا ليقروا بشهادة التوحيد إلا إذا شهدوا لمن جاء بها، ودعا إليها، وهو محمد رسول الله.
ولهذا جاء عن بعض السلف: الإسلام الكلمة . يعني: كلمة الشهادة.
وأما الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام وفرائضه فإنما يطالب بها بعد أن يصبح مسلمًا إذ هي لا تصح ولا تقبل إلا من مسلم . أما الكافر فلا صلاة له ولا صيام ولا حج .. إلخ .. لفقدانه شرط القبول ... وهو الإسلام.
(1/104)
والثاني: ما دلت عليه الأحاديث الأخيرة التي ذكرها ابن رجب، والتي رواها إمام السنة أحمد بن حنبل من المرونة وسعة الأفق، التي كان يعالج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمور، ويواجه بها المواقف . وخصوصًا مع الداخلين في الإسلام.
فقد قبل من بعضهم ما رفضه من غيرهم . فقد جاء عن بشير بن الخصاصية أنه أراد أن يبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام دون أن يتصدق أو يجاهد، فكف يده عنه وقال: يا بشير، لا جهاد ولا صدقة ! فبم تدخل الجنة إذن ؟ !.
ولكنه قبل هذا من ثقيف، لعلمه بأنهم لن يجمدوا على هذا الموقف، وأنهم إذا حسن إسلامهم سيصنعون ما يصنع سائر المسلمين، ولهذا قال في ثقة عنهم: سيتصدقون ويجاهدون.
من مات على التوحيد استوجب الجنة:.
القاعدة الثانية:.
أن من مات على التوحيد (أي على: لا إله إلا الله) استحق عند الله أمرين:.
الأول: النجاة من الخلود في النار، وإن اقترف من المعاصي ما اقترف، سواء منها ما يتعلق بحقوق الله كالزنا، أو بحقوق العباد كالسرقة . وإن دخل بذنوبه النار فسيخرج منها لا محالة، ما دام في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.
الثاني: دخول الجنة لا محالة، وإن تأخر دخوله، فلم يدخلها مع السابقين: بسبب عذابه في النار لمعاص لم يتب منها، ولم تكفر عنه بسبب من الأسباب.
والدليل على ذلك أحاديث صحاح مشهورة في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة منها . عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل ".
وعن أبي ذر قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ".
(1/105)
" إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله " أي لم يقلها لمجرد أن يعصم بها دمه وماله كالمنافقين في عهد النبوة.
وعن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج من النار من قال: " لا إله إلا الله " وكان في قلبه من الخير ما يزن برة (يعني حبة قمح) ".
وهذه الأحاديث كلها متفق عليها في الصحيحين.
وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي ذر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاني جبريل فبشّرني: أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة . قلت: وإن زنى وإن سرق ؟ قال: وإن زنى وإن سرق ".
وفي صحيح مسلم من حديث الصنابحي عن عبادة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، حرم الله عليه النار ".
وغير هذه الأحاديث كثير، ودلالتها صريحة على أن كلمة الشهادة موجبة لدخول الجنة والنجاة من النار.
والمراد بدخول الجنة: دخولها ولو في النهاية، بعد استحقاق العذاب في النار زمنًا ما.
وكذلك المراد بالنجاة من النار: النجاة من الخلود فيها . وإنما قلنا هذا، جمعًا بين هذه الأحاديث وأحاديث أخرى حرمت الجنة، وأوجبت النار على من ارتكب بعض المعاصي .. فلا يجوز أن نضرب النصوص بعضها ببعض.
نواقض الإسلام:.
القاعدة الثالثة:.
أن الإنسان بعد أن يدخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين، يصبح - بمقتضى إسلامه - ملتزمًا بجميع أحكام الإسلام، والالتزام يعني الإيمان بعدالتها وقدسيتها، ووجوب الخضوع والتسليم لها، والعمل بموجبها . أعنى الأحكام النصية الصريحة الثابتة بالكتاب والسنة.
(1/106)
فليس له خيار تجاهلها بحيث يقبل ويرفض، ويأخذ أو يدع، بل لابد أن ينقاد لها مسلمًا راضيًا، محلاً حلالها، محرمًا حرامها، معتقدًا بوجوب ما أوجبت،واستحباب ما أحبت يقول تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، (إنما كان قول المؤمنين إذ دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا)، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا).
ومن المهم أن نعرف هنا، أن من أحكام الإسلام من الواجبات والمحرمات والعقوبات وغيرها من التشريعات، ما ثبت ثبوتًا قطعيًا، وأصبح من الأحكام اليقينية، التي لا يتطرق إليها ريب ولا شبهة، أنها من دين الله وشرعه، وهي التي يطلق عليها علماء الإسلام اسم " المعلوم من الدين بالضرورة ".
وعلامتها أن الخاصة والعامة يعرفونها، ولا يحتاج إثباتها إلى نظر واستدلال، وذلك مثل فرضية الصلاة والزكاة وغيرها من أركان الإسلام وحرمة القتل والزنا وأكل الربا وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، ومثل الأحكام القطعية في الزواج والطلاق والميراث والحدود والقصاص وما شابهها.
فمن أنكر شيئًا من هذه الأحكام " المعلومة من الدين بالضرورة " أو استخف بها واستهزأ فقد كفر كفرًا صريحا، وحكم عليه بالردة عن الإسلام . وذلك أن هذه الأحكام نطقت بها الآيات الصريحة، وتواترت بها الأحاديث الصحيحة، وأجمعت عليها الأمة جيلاً بعد جيل، فمن كذب بها فقد كذب نص القرآن والسنة . وهذا كفر.
ولم يستثن من ذلك إلا من كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن أمصار المسلمين ومظان العلم، فهذا يعذر إذا أنكر هذه الضروريات الدينية، حتى يعلم ويفقه في دين الله، فيجرى عليه بعد ذلك ما يجرى على سائر المسلمين.
كبائر المعاصي تنقص الإيمان ولكنها لا تهدمه :.
القاعدة الرابعة:.
(1/107)
أن المعاصي والكبائر - وإن أصر عليها صاحبها ولم يتب منها - تخدش الإيمان وتنقصه، ولكنها لا تنقضه من أساسه، ولا تنفيه بالكلية . والدليل على ذلك ما يأتي:.
1- إنها لو كانت تهدم الإيمان من أصله، وتخرج صاحبها إلى الكفر المطلق، لكانت المعصية والردة شيئًا واحدًا، وكان العاصي مرتدًا، ووجب أن يعاقب عقوبة المرتد، ولم تتنوع عقوبات الزاني والسارق وقاطع الطريق وشارب الخمر والقاتل . وهذا مرفوض بالنص والإجماع.
2- إن القرآن نص على إخوة القاتل لأولياء المقتول في آية القصاص حين قال: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان).
3- إن القرآن أثبت الإيمان للطائفتين المقتتلتين في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ... - إلى أن قال - ... إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم) فأثبت لهم الإيمان والأخوة الدينية مع وجود الاقتتال، ومع قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم وجوه بعض " وقوله: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " وبهذا الحديث الأخير استدل البخاري - فيما استدل - بأن المعاصي لا يكفر صاحبها، لأن الرسول سماهما مسلمين مع توعدهما بالنار.
والمراد: إذا كان الاقتتال بغير تأويل سائغ.
(1/108)
4- إن حاطب بن أبي بلتعة ارتكب خطيئة تشبه ما يسمى الآن " الخيانة العظمى " حيث أراد نقل أخبار الرسول وتحركات جيشه إلى قريش قبيل فتح مكة، مع حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كتمان ذلك عنهم . وقال له عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق . واعتذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أهل بدر، ولم يعتبر عمله ناقلاً له من الإيمان إلى الكفر . ونزل القرآن يؤكد ذلك حيث نزل في شأنه أول سورة الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) - إلى أن قال - (تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم).
فخاطبه الله فيمن خاطب بعنوان الإيمان، وجعل عدوه سبحانه وعدوهم واحدًا، مع قوله: (تلقون إليهم بالمودة).
5- وقريب من ذلك ما نزل في شأن الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر . وكان أبو بكر حلف ألا يصله، فأنزل الله في شأنه (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم).
وإن قيل: إن مسطحًا وأمثاله تابوا، لكن الله لم يشترط - في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم - التوبة . كما قال ابن تيمية رحمة الله.
6- ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في قصة شارب الخمر، الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بضربه فضربوه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكونوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان" وفي رواية أخرى للبخاري: " لا تكونوا عون الشطان على أخيكم " وفي سنن أبي داود في هذه القصة زيادة: " ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ".
(1/109)
فهذه هي النظرة المحمدية المتسامحة إلى شارب أم الخبائث، فهو يأمر بضربه، ولكنه لا يرضى بلعنه وطرده من رحمة الله، ولا إخراجه من نطاق المؤمنين، بل يثبت الأخوة بينه وبينهم، وينهاهم أن يفتحوا ثغرة للشيطان إلى قلبه إذا سبوه وأذلوه علانية، بل يأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة، ويشعروه بالأخوة والمحبة، والحرص على هدايته، فعسى أن يرده ذلك عن غوايته.
7- وأكثر من ذلك ما رواه البخاري أيضًا عن عمر بن الخطاب: أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله، وكان يلقب (حمارًا) وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتى به يومًا، فأمر به فجلد . فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه لا يحب الله ورسوله " وفي بعض روايات الحديث: " لقد علمت أنه يحب الله ورسوله " وفي بعضها " ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ".
فهذا مع إدمانه الشرب، وإصراره عليه، وإنكاره منه، حتى نقل ابن حجر في الفتح عن ابن عبد البر أنه ضرب خمسين مرة، ينهى النبي عن لعنه، ويقرر أنه يحب الله ورسوله.
يقول الحافظ بن حجر في بيان فوائد هذا الحديث في " الفتح ":.
( أ ) فيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له.
( ب ) وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر عنه.
(جـ) وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله.
( د ) ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان - عن شارب الخمر - (أي في حديث: لا يشرب الخمر وهو مؤمن) - لا يراد به زواله بالكلية، بل نفى كماله . ا هـ من فتح الباري.
8- الأحاديث السابقة التي أوجبت لمن قال: " لا إله إلا الله " الجنة وإن زنى وإن سرق.
(1/110)
9- ما صح واستفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيشفع لأهل الكبائر من أمته . وهذا يدل على حكمين كبيرين :.
أولهما: أنه لم يخرجهم باقتراف الكبيرة عن حظيرة أمته.
والثاني: أن الله سيرحمهم بهذه الشفاعة، إما بإعفائهم من دخول النار أصلاً، وإن استوجبوها بذنوبهم . وإما بإخراجهم منها بعد أن دخلوها وعذبوا فيها زمنًا فهم غير مخلدين في النار قطعًا.
ما عدا الشرك تحت إمكان المغفرة :.
القاعدة الخامسة:.
وهي تأكيد للقاعدة السابقة - أن الذنب الذي لا يغفر هو الشرك بالله تعالى، وما عداه من الذنوب - صغرت أو كبرت - فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه.
قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا).
والمراد بالشرك في الآية وأمثالها: الشرك الأكبر، وهو اتخاذ إله أو آلهة مع الله تعالى وهو المراد بهذا اللفظ عند الإطلاق.
ومثله الكفر الأكبر: أعني كفر الجحود والإنكار.
قال الحافظ ابن حجر: لأن من جحد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلاً، كان كافرًا ولو لم يجعل مع الله إلهًا آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف (فتح الباري ص 92) أما المعاصي الأخرى دون الكفر أو الشرك، فهي تحت سلطان المشيئة الإلهية . من شاء غفر له، ومن شاء عاقبه، كما ذكرت الآيتان السابقتان " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".
قال الإمام ابن تيمية: ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب، بأن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره كما قال سبحانه في الآية الأخرى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعًا) . فهنا عمم وأطلق، لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق. (مجموع فتاوى شيخ الإسلام جـ 7، ص 484، 485).
وقد جاء الحديث الصحيح يؤيد مضمون الآية الكريمة في أن ما عدا الشرك من المعاصي موكول إلى المشيئة الإلهية.
(1/111)
ففي حديث عبادة بن الصامت عند البخاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وحوله عصابة من أصحابه: " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه ".
والحديث واضح الدلالة على أن ارتكاب الموبقات التي اشتملت البيعة على اجتنابها لا يخرج صاحبها من الإسلام، بل من عوقب عليها كانت العقوبة طهارة وكفارة له، وإلا فهو في المشيئة.
يقول العلامة المازري: في الحديث رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه تحت المشيئة ولم يقل: لابد أن يعذبه.
وقال الطيبي: " فيه الإشارة إلى الكف على الشهادة بالنار على أحد إلا من ورد النص فيه بعينه ". (فتح الباري جـ 1، ص 75 طـ الحلبي).
انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغر :.
القاعدة السادسة:.
أن الكفر في لغة القرآن والسنة، قد يراد به الكفر الأكبر، وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، بالنسبة لأحكام الدنيا، ويوجب له الخلود في النار بالنسبة لأحكام الآخرة.
وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام . إنما يدمغه بالفسوق أو العصيان.
فالكفر بالمعنى الأول، هو الإنكار أو الجحود المتعمد لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أو بعض ما جاء به، مما علم من دينه بالضرورة.
(1/112)
والكفر بالمعنى الثاني، يشمل المعاصي التي يخالف بها أمر الله تعالى، أو يرتكب بها ما نهى عنه . وفيه جاءت أحاديث كثيرة، مثل: " من حلف بغير الله فقد كفر " أو " فقد أشرك "، " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "، " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض "، " لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم "، " من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ".
وإنما قلنا: إن الكفر الوارد في هذه النصوص وأمثالها ليس كفرًا ناقلاً عن الملة، لأدلة أخرى.
فقد تقاتل الصحابة، ولم يكفر بعضهم بعضًا بذلك.
والمنقول عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب يقينًا: إنه لم يكفر من قاتله في معركة الجمل، أو صفين، وإنما اعتبرهم بغاة . وقد صح الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية ... كما صح الحديث في الخوارج أنهم " تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق " وقد قاتلهم علي رضي الله عنه ومن معه.
كما أثبت القرآن إيمان الطائفتين المقتتلتين (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) وكما أثبت الأخوة الدينية بينهم (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم).
ومثل ذلك، حديث: " من قال لأخيه يا كافر " فقد أثبت الأخوة بينهما، وهي لا تثبت بين مسلم وكافر، فدل ذلك على أنه لم يخرج من دائرة الإسلام بقوله.
ومثل ذلك قوله: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " أو " من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقوله فقد كفر بما أنزل الله على محمد " ونحوها.
فلم يعتبره أحد من علماء المسلمين طوال القرون الماضية كفرًا مخرجًا من الملة، وردة عن الإسلام.
(1/113)
وما زال الناس في مختلف الأزمنة يحلفون بغير الله، ويصدقون العرافين والكهان، فينكر أهل العلم والدين عليهم ويضللونهم أو يفسقونهم، ولكن لم يحكموا بردتهم، ولا فرقوا بينهم وبين نسائهم، ولا أمروا بعدم الصلاة عليهم عند موتهم، أو بعدم دفنهم في مقابر المسلمين . وقد جاء الحديث المرفوع: أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.
ولهذا ذكر ابن القيم عددًا من الأحاديث التي أطلقت الكفر على بعض المعاصي ثم قال:.
" والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما شكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا ". (انظر مدارج السالكين جـ 1، ص 355، طـ السنة المحمدي).
فالكفر بالمعنى الأول - أعنى الكفر الأكبر - يقابله الإيمان . يقال: مؤمن وكافر . كما في مثل قوله تعالى: (فمنهم من آمن ومنهم من كفر) وقوله تعالى: (الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات)، (كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم).
أما الكفر بالمعنى الثاني - أعني الكفر الأصغر - فيقابله: الشكر، فالإنسان إما شاكر للنعمة، أو كافر بها، غير قائم بحقها، وإن لم يكفر بمنعها: قال تعالى في وصف الإنسان: (إنّا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا) وقال: فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم).
وجاء في صحيح البخاري حديث ذكر فيه سبب دخول النساء النار: إنهن يكفرن ! قيل: يا رسول الله: يكفرن بالله ؟ قال: " يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان ".
ولهذا لما نقل الحافظ ابن حجر عن القرطبي قوله: حيث جاء الكفر في لسان الشارع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية.
(1/114)
عقب عليه بقوله: وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه، كما تقدم تقريره في كتاب " الإيمان " في باب " كفر دون كفر " في حديث أبي سعيد " يكفرن الإحسان ... إلخ ". (انظر فتح الباري جـ 13، ص 75 طـ الحلبي).
وذلك أن الإمام البخاري رضي الله عنه وضع في كتاب الإيمان عدة أبواب للرد على الخوارج الذين يكفرون المسلمين باقتراف الكبائر . منها: باب " كفران العشير، وكفر دون كفر ".
وعبارة " كفر دون كفر " هذه وردت عن ابن عباس وبعض التابعين في تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
وهذا يدلنا على أن تقسيم الكفر إلى درجات متفاوتة بين أكبر وأصغر، تقسيم مأثور عن سلف الأمة.
وهذا التقسيم نفسه يجرى في الشرك وفي النفاق وفي الفسق وفي الظلم . فكل منها ينقسم إلى الأكبر الذي يوجب التخليد في النار، والأصغر الذي لا يوجب ذلك، ولا ينقل عن الملة.
وقد ذكر البخاري في صحيحه " باب: ظلم دون ظلم " واستدل بحديث ابن مسعود لما نزلت آية الأنعام (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) قال الصحابة: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه ؟ قال: ليس كما تقولون: لم يلبسوا أيمانهم بظلم: بشرك . أو لم تسمعوا إلى قوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم).
ووجه الدلالة من الحديث على ما أراده البخاري: أن الصحابة فهموا من قوله " بظلم " عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنما بين لهم أن المراد: أعظم أنواع الظلم وهو الشرك، فدلّ على أن الظلم مراتب متفاوتة. (فتح الباري جـ 1، ص 94، 95، طـ الحلبي).
اجتماع بعض شعب الإيمان مع شعب الكفر أو النفاق أو الجاهلية:.
القاعدة السابعة:.
أن الإيمان قد يجامع شعبة أو أكثر للكفر أو الجاهلية أو النفاق.
(1/115)
وهذه الحقيقة قد خفيت على كثيرين في القديم والحديث، فحسبوا أن المرء إما أن يكون مؤمنًا خالصًا أو كافرًا خالصًا، ولا واسطة بينهما، إما مخلصًا محضًا أو منافقًا محضًا . وقريب منه من يقول: إما مسلم محض أو جاهلي . ولا ثالث لهذين الصنفين.
وهذه طريقة كثير من الناس . حيث يركزون النظر على الأطراف المتقابلة دون الالتفات إلى الأوساط . فالشيء عندهم إما أبيض فقط أو أسود فقط، ناسين أن هناك من الألوان ما ليس بأبيض ولا أسود ولا بأسود خالص، بل بين بين.
ولا عجب أن نجد فئة من الناس، إذا وجدت فردًا أو مجتمعًا لا يتحقق فيه صفات الإيمان الكامل، بل توجد فيه بعض خصائص النفاق، أو شعب الكفر، أو أخلاق الجاهلية، سارعت إلى الحكم عليه بالكفر المطلق، أو النفاق الأكبر، أو الجاهلية المكفرة، لاعتقادهم أن الإيمان لا يجامع شيئًا من الكفر أو النفاق بحال . وأن الإسلام والجاهلية ضدان لا يجتمعان.
وهذا صحيح إذا نظرنا إلى الإيمان المطلق (أي الكامل) والكفر المطلق، وكذلك الإسلام والجاهلية والنفاق.
أما مطلق إيمان وكفر، أو مطلق إيمان ونفاق، أو مطلق إسلام وجاهلية، فقد يجتمعان كما دلت على ذلك (النصوص) وأقوال السلف رضي الله عنهم.
ففي الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر رضي الله عنه: " إنك امرؤ فيك جاهلية " ! وهذا وهو أبو ذر في سابقته وصدقه وجهاده.
وفيه: " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ".
وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: " القلوب أربعة: قلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد، فيه سراج يزهو، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب ".
وقد روي مرفوعًا، وهو في مسند أحمد مرفوعًا.
(1/116)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الذي قاله حذيفة يدل عليه قوله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب، فلما كان يوم أحد، غلب نفاقهم، فصاروا إلى الكفر أقرب.
" وروى عبد الله بن المبارك بسنده عن علي بن أبي طالب قال :.
إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانًا ازداد القلب بياضًا، حتى إذا استكمل الإيمان أبيض القلب كله.
وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقًا ازداد القلب سوادًا، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب . وأيم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود ".
وقال بن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
قال شيخ الإسلام: وهذا كثير في كلام السلف: يبينون أن القلب قد يكون فيه إيمان ونفاق.
والكتاب والسنة يدلان على ذلك . فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر شعب الإيمان وذكر شعب النفاق، وقال: " من كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها " وتلك الشعبة قد يكون معها كثير من شعب الإيمان.
ولهذا قال: " ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وأن من كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار.
وعلى هذا فقوله تعالى للأعراب: (لم تؤمنوا ولكن قولوا: أسلمنا، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم) فقد نفى حقيقة دخول الإيمان في قلوبهم، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم شعبة منه، كما نفاه عن الزاني والسارق، ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن لا يأمن جاره بوائقه، وغير ذلك .. فإن في القرآن والحديث من نفى عنه الإيمان لترك بعض الواجبات شيء كثير. (انظر: كتاب الإيمان الكبير، من مجموع فتاوى شيخ الإسلام جـ 7، ص 303 - 305).
(1/117)
وفي موضع آخر عرض ابن تيمية رحمه الله للأمر فقال: " والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرًا، تجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة . فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى (مسلمًا) إذ ليس هو دون المنافق المحض، وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان، بل اسم المنافق أحق به، فإن ما فيه بياض وسواد، وسواده أكثر من بياضه، هو باسم الأسود أحق من باسمه الأبيض . كما قال تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) . وأما إذا كان إيمانه أغلب، ومعه نفاق يستحق به الوعيد، لم يكن أيضًا من المؤمنين الموعودين بالجنة (أي مع السابقين) وإن استحقها بإيمانه بعد العذاب إن لم يشفع له أو يعف الله عنه.
قال: وطوائف أهل الأهواء - من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة - يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق . ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك . ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع مخالفة صريح المعقول.
بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب.
ولا يكون الشخص الواحد محمودًا من وجه، مذمومًا من وجه، ولا محبوبًا مدعوًا له من وجه، ومسخوطًا ملعونًا من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعًا عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار.
وحكى عن غالية المرجئة: أنهم وافقوهم على هذا الأصل، ولكن هؤلاء قالوا: " إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار " مقابلة لأولئك.
" وأما أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام ... فيقولون :.
(1/118)
إن الشخص الواحد، قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة وله معصية وطاعة باتفاق . فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه.
فقالت المرجئة: هو مؤمن كامل الإيمان.
وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان . ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين.
وهل يطلق عليه اسم " مؤمن " ؟.
هذا فيه القولان ... والصحيح التفصيل.
فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة . قيل: هو مؤمن . وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين أي في مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا).
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار، إن لم يغفر الله له ذنوبه ... لهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
والذين لا يسمونه مؤمنًا من أهل السنة والمعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله تعالى: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) وقوله: (أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا).
قال: وعلى هذا الأصل، فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر، ومع إيمان أيضًا.
وعلى هذا ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تسمية كثير من الذنوب كفرًا، مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان، فلا يخلد في النار . كقوله: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ".
(1/119)
وهذا مستفيض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من غير وجه، فإنه أمر في حجة الوداع أن ينادي به في الناس . فقد سمى من يضرب بعضهم رقاب بعض - بلا حق - كفارًا، ويسمى هذا الفعل كفرًا . ومع هذا فقد قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) إلى قوله: (إنما المؤمنون أخوة) فبين أن هؤلاء لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر، وهو هذه الخصلة، كما قال بعض الصحابة: كفر دون كفر . وكذلك قوله: " من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما " فقد سماه أخًا حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه، بل فيه كفر " ا هـ.
تفاوت مراتب الأمة في الطاعة:.
القاعدة الثامنة:.
وهي تأكيد للسابعة: أن مراتب الناس متفاوتة في امتثالهم لأمر الله تعالى، واجتنابهم لنهيه.
ولهذا تفاوتت درجات إيمانهم وقربهم من الله عز وجل، ومن هنا قرر سلف الأمة أن الإيمان يزيد وينقص، ودل على ذلك بالكتاب والسنة، فمن الخطأ الفاحش تصور الناس جميعًا ملائكة أولى أجنحة، بلا أخطاء ولا خطايا، ناسين العنصر الطيني الذي خلقوا منه، والذي يشدهم إلى الأرض لا محالة.
وهذه الحقيقة - حقيقة تفاوت الناس في الإيمان والطاعة لله - قد قررها القرآن الكريم، كما أكدتها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال تعالى في سورة فاطر: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله . ذلك هو الفضل الكبير، جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير).
فقد قسّم الله عز وجل الأمة التي أورثها الكتاب، واصطفاها من عباده ثلاثة أصناف:.
1- ظالم لنفسه، وهو كما قال ابن كثير، المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب بعض المحرمات.
2- ومقتصد، وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
(1/120)
3- وسابق للخيرات، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات. (تفسير بن كثير جـ 3، ص 454 - 555، طـ الحلبي).
فهؤلاء الثلاثة على ما في بعضهم من عوج وتقصير وظلم للنفس داخلون في الذين اصطفاهم الله من عباده.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة ينطبقون على الطبقات أو المراتب الثلاث المذكورة في حديث جبريل المشهور . وهي: " الإسلام " و" الإيمان " و" الإحسان " |.
وأخبر الله تعالى عن هؤلاء الأصناف الثلاثة - وفيهم الظالم لنفسه - بأنهم من أهل الجنة.
وصح عن ابن عباس في تفسير الآية قوله: هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. (المصدر السابق).
وليس المراد بـ " المحرمات " التي يرتكبها الظالم لنفسه " الصغائر " فقط دون " الكبائر " ولا المراد به التائب من جميع الذنوب، لأن هذا وذاك - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - يدخل في صنف المقتصد أو السابق " فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب . كل من تاب كان مقتصدًا أو سابقًا ".
كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم).
فلابد أن يكون هناك ظالم لنفسه، وموعود بالجنة . ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا. (من كتاب (الإيمان) من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ 7، ص 485، طـ الرياض).
(1/121)
على أن المسلم مهما يكن مقتصدًا أو ظالمًا لنفسه، فعليه أن يكره الكفر والفسوق والعصيان، ولا يرضى بالمنكر الذي تطفح به الحياة من حوله . فإن أدنى درجات الإيمان أن يغير المسلم المنكر بقلبه، أي يكرهه ويتألم له ويسخط عليه، وأرفع من ذلك درجة أن يغيره بلسانه إن استطاع، وأرفع من هذه أن يغيره بيده إن استطاع . وهذا ما جاء به الحديث الصحيح المشهور على الألسنة " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
فإذا كان التغيير بالقلب - بالمفهوم الذي شرحناه - أضعف الإيمان، فمعنى هذا أن من فقد هذه الدرجة - درجة أضعف الإيمان - فقد الإيمان كله، ولم يبق له منه شيء.
وهذا ما صرح به الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه يخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ".
فالحديث الشريف يصرح بأن من لم يجاهد هؤلاء الفسقة والظالمين بقلبه - أي يكره أعمالهم وظلمهم وفسقهم -ليس عنده من الإيمان حبة خردل . وبعبارة أخرى، ليس عنده أقل القليل من الإيمان.
غير أن هذا الأمر مرده إلى ضمير المسلم وقلبه، فهو الذي يستطيع أن يحكم على نفسه أهو راض عن المنكر أم هو ساخط عليه ؟ وإن كان راضيًا عن صاحب المنكر: أهو راض عنه لأجل فسقه وظلمه وانحرافه عن شرع الله أم لأجل شيء آخر، مثل مصلحة أصابها منه، أو قرابة بينه وبينه، أو غير ذلك . وإن كان الواجب على المؤمن أن يكون مناط قربه أو بعده من الناس هو مدى اتصالهم بالإسلام أو انفصالهم عنه.
خاتمة:.
(1/122)
بعد هذا البيان في ضوء ما ذكرناه من قواعد جامعة، ونصوص قاطعة، وأدلة ناصعة، يتبين لكل ذي عينين مدى الخطأ الجسيم، والخطر العظيم، الذي سقط فيه " إخواننا " الذين أسرفوا في " التكفير " حتى غدوا يكفرون الأفراد والمجتمعات بالجملة، معرضين عن كل ما يخالف وجهتهم من نصوص الشرع وأدلته، متذرعين بالتعسف في التأويل، والاستدلال بما ليس بدليل، مخطئين كل من لا يوافقهم من علماء الأمة وأئمتها في القديم والحديث، زاعمين لأنفسهم أنهم قد بلغوا درجة " الإمامة " والاجتهاد المطلق، وأن لهم أن يخالفوا الأمة كلها وما أجمعت عليه سلفًا وخلفًا . وهذا - والعياذ بالله - من العجب المهلك، والغرور الموبق، والغلو الضار، وليس لهذا مصدر إلا الجهل بالله تعالى، والجهل بالناس، والجهل بالنفس، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه، وفي الحديث الصحيح: " إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " وفي حديث آخر: " هلك المتنطعون " - قالها ثلاثًا - ومع هذا كله لا أريد أن أقع فيما وقع فيه هؤلاء الإخوة المسرفون، فأكفرهم كما كفروا الناس، وإن جاءت الأحاديث بتكفير من كفر مسلمًا، لأن هذه الأحاديث فيمن كفر مسلمًا بغير تأويل، وهؤلاء لهم تأويلهم وإن كان مرفوضًا . ولهذا اختلف السلف في تكفير الخوارج، برغم ما ورد في ذمهم من أحاديث مرفوعة صحاح، والثابت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لم يكفرهم، ولم يبدأهم بقتال، ولما قيل له: أهم كفار ؟ قال: من الكفر فروا !.
(1/123)
ولهذا أصر على القول بأنهم (إخواننا) على الرغم من غلوهم وانحرافهم عن جادة الصواب في أفكارهم . ويقيني أن الكثيرين منهم سيرجعون عن فكرتهم في التكفير إذا قرؤوا بروح الحيدة والإنصاف، والإخلاص في طلب الحق، والبراءة من العصبية، والتحرر من الخوف من ملامة زملائهم، أو تهديد رؤسائهم، الذين يعتبرونهم " مرتدين " بمجرد اختلافهم معهم، أو رجوعهم عن رأيهم، ويفتون بوجوب قتلهم، لأنهم بدلوا دينهم.
وإني لأعلم علم اليقين أن هذه الجماعات المتطرفة شبابًا مخلصين، لا يريدون إلا وجه الله، والدار الآخرة، ونصرة الإسلام، ولكنهم لم يتحصنوا، بثقافة إسلامية أصيلة، وفقه إسلامي عميق، فصادفت هذه الأفكار قلوبًا خالية، فتمكنت منها.
وأعلم أن عددًا من هؤلاء الشباب تبين له الحق فرجع إليه، غير مبال بالتهديد ولا بالوعيد، بل تعرضوا للإيذاء فصبروا وصابروا.
وأعلم أن هذه الظاهرة نتيجة لخلو الميدان من حركة إسلامية واعية ناضجة تعمل في النور جهرة، وفي وضح النهار، فلاذ هؤلاء بالسراديب والكهوف يعملون في الظلام، ويوم تشرق شمس الدعوة إلى الإسلام المتكامل، وترسل أشعتها في الآفاق، ويعلو صوتها بلا خوف ولا إرهاب لن يكون هناك مكان لأهل السراديب من الغلاة والمتطرفين، ولعلنا نعود إلى هذا الموضوع الخطير مرة أخرى إن شاء الله تعالى.
بناء ضريح ومسجد في أرض مملوكة بغير إذن أصحابها.
أما بعد، فقد ورد الخبر التالي في جريدة " الأخبار " المصرية، العدد رقم 6774 بتاريخ 13 صفر 1394 هـ الموافق 7 مارس 1974 م، الصفحة الخامسة، العامود الأول:.
نص الخبر:.
ظاهرة غريبة في جنازة شيخ بإحدى قرى دمياط.
(1/124)
ظاهرة غريبة حدثت في قرية الناصرية بدمياط أمس . رفض الأهالي تنفيذ وصية الشيخ محمد الجمل الشهير بـ "أبو فراج" بدفنه عند وفاته في مكان يبعد عن مقابر القرية بحوالي 3 كيلو مترات، ولكنهم عندما قاموا بتشييع جنازته أمس، فوجئوا بالنعش يستدير بحامليه، ويجذبهم إلى مزرعة قمح.
أخطر الأهالي رجال الشرطة، فأسرعت قوة على رأسها مأمور مركز (فارسكور) وحاولوا رفع النعش من مكانه دون جدوى.
اضطر الأهالي إلى إقامة ضريح للشيخ في نفس المكان، وتم دفن الجثمان فيه.
ومما يذكر أن هذا الشيخ يبلغ من العمر 90 سنة . وقد رحل من قريته الأصلية (طهطا) بسوهاج وأقام بقرية الناصرية منذ 30 عامًا.
انتهى الخبر المنشور.
أرجو التفضل بالإفتاء كتابة، مبينًا وجهة نظر الدين . وما هو الحكم بالنسبة للزرع الذي تلف بفعل المتسببين، ومنهم حاملو النعش . وحكم الضريح الذي أقيم على أرض لا يملكها المتوفى أو من قاموا بدفنه، وحكم المسجد الذي أقامه المتسببون على غير إذن من المالك للأرض . وهل لمالك الأرض أن يزيل الضريح الذي بني ؟.
أرجو التفضل بالإفادة كتابة حتى تطمئن قلوب مؤمنة بالله، وحتى لا تضيع حقوق على أصحابها.
وفقكم الله وسدد خطاكم.
م.م.ص
جـ: لقد كان أهالي القرية على حق حين رفضوا تنفيذ وصية الشيخ بأن يدفن في مكان ما، على بعد ثلاثة كيلو مترات من البلدة . وذلك لأن هذه الوصية باطلة لا يجوز تنفيذها . لما فيها من مخالفات عديدة للشريعة وللسنة.
أما أولاً: فلأنه أوصى بأن يدفن في أرض ليست ملكًا له، وليست مواتًا، ولا موقوفة على الدفن . بل هي مملوكة لبعض الناس، الذين يستخدمونها بالفعل في الزراعة . ولو كان هذا الشيخ على شيء من العلم، ما سمح لنفسه بهذه الوصية الجائرة، التي تتضمن العدوان على ملك الغير بغير حق.
(1/125)
وأما ثانيًا: فلما تحويه الوصية من نزعة إلى التميز عن سائر المسلمين، بحيث لم يرض الموصي لنفسه أن يدفن في مقابر الناس، وحرص على أن يدفن بعيدًا عنهم، في مقبرة مستقلة . مع أن الموت سوّى بين الجميع، فلماذا التمييز في المقابر ؟ . وهذه النزعة لم تعرف عند السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فقد كانوا يدفنون مع غيرهم من المسلمين، ولم يعرف الاتجاه إلى التمييز في المقابر إلا بعد شيوع البدع، والانحراف عن هدى السلف.
وأما ثالثًا: فلأنه كلف الناس أن يحملوه من القرية إلى هذا المكان القصي، وما كان له أن يجشمهم هذه المشقة بغير مسوغ.
أما ما ذكر من حكاية النعش واستدارته بحامليه، وجذبهم قهرًا ورغم أنوفهم إلى مزرعة قمح ... إلخ . فهذه حكايات يتناقلها العوام عادة في القرى، عندما يموت أحد " المشايخ " الذين يعتقدون بصلاحهم أو ولايتهم . ويعتبرون ذلك دليلاً على أن الميت من أولياء الله الصالحين.
ولا أدري من أين حكموا للميت بذلك . ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أو التابعين أن نعشه طار به، أو استدار بحامليه إلى حيث يريد هو (أي الميت) قسرًا عن حامليه، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن مشايخ زماننا هذا أفضل من الصحابة وتابعيهم بإحسان.
وتفسيري لهذه الظاهرة أن وراءها أحد العوامل الآتية:.
1- أن يكون هذا عن عمد وقصد من حملة النعش أو أكثرهم، ممن لهم صلة بالميت، وثقة به، ويريدون أن يثبتوا له كرامة، ويروجوا ذلك في الناس، مما قد يعود عليهم بعد ذلك بمنافع مادية أو أدبية.
2- وقد لا يكون ذلك عن قصد منهم، وإنما فعلوا ذلك مدفوعين إلى حيث أوصى الميت بطريق " الإيحاء " الذي لا يخفى على دارس مبلغ تأثيره في النفس والسلوك، حتى إنه يحدث أحيانًا تغيرات عضوية ليس لها أدنى سبب إلا مجرد الاعتقاد والتوهم، ولا غرو إذا انتقل مثل هذا الإيحاء إلى رجال الشرطة أنفسهم، وبخاصة الجنود الذين هم جزء من العامة.
(1/126)
3- ولا يبعد أن يساعد على ذلك بعض مردة الجن والشياطين، الذين يريدون أن يضللوا السطحيين من الإنس بمثل هدا العبث، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية صورًا كثيرة من هذا الجنس.
والعجيب أن مثل هذه الحكايات والأساطير لا نسمع بها إلا في أوساط معينة، وخاصة في القرى . وإلا فلماذا لم نسمع شيئًا من ذلك في المملكة العربية السعودية أو في قطر مثلاً وقد عشت فيها بضعة عشر عامًا ؟!.
أما ما أصاب صاحب المزرعة من أضرار، نتيجة لإقامة ضريح في أرضه بغير إذنه، مما سبب إتلاف بعض الزرع القائم، وتعطيل جزء من الأرض عن الزراعة . فمن حقه أن يطالب المتسببين والسلطة معهم بتعويضه عما تلف من قمحه أولاً، وبإزالة آثار هذا الغصب والعدوان على ملكه الشرعي ثانيًا.
ذلك أن القاعدة الشرعية القطعية التي ثبتت بآيات عديدة من القرآن، وبصريح الحديث النبوي، وباستقراء أحكام الشريعة، واتفق عليها أئمة المذاهب كافة: أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
فلا يجوز لمواطن في دار الإسلام - مسلمًا كان أو ذميًا - أن يضار في نفسه أو ماله بغير حق عليه، ولا ذنب جنته يداه، وإذا حدث ذلك يجب أن يزال الضرر بقدر الإمكان، وفقًا لقاعدة " الضرر يزال ".
ولا يقال: إن إزالة الضرر عن صاحب الأرض لا تتحقق إلا بضرر آخر وهو إزالة القبر، وإيذاء الميت، وقد قرر الفقهاء أن الضرر لا يزال بالضرر لأننا نقول: إن الفقهاء قرروا أيضًا أن الضرر الأدنى يحتمل من أجل دفع أو إزالة ضرر أعلى، وكذلك الضرر الخاص يحتمل من أجل دفع الضرر العام.
وهنا الضرر الواقع على الحي أهم وأعظم من الضرر الواقع على الميت، لأن الميت لا يضره أن تنقل عظامه من مكان إلى آخر، وقد أجازوا نبش القبر لما هو دون ذلك . ولا سيما إذا كان الميت هو المتسبب في ذلك حين أوصى بما لا يحل له، واستباح ملك القبر بغير حق.
(1/127)
على أن هناك ضررًا عامًا متوقعًا من بقاء مثل هذا الضريح بهذه الصورة، وهو اعتقاد العوام قداسة صاحبه، وإشاعة الخوارق والكرامات عنه، واستغلال ذلك لجذب البسطاء والمخدوعين إلى زيارته والتمسح به وإيقاد الشموع والسرج عليه، ونذر النذور له، وذبح الذبائح على اسمه، إلى غير ذلك من المنكرات التي لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعليها، واعتبرها ضربًا من الشرك.
ولذا كانت إزالة هذا الضريح الذي أسس بنيانه من أول يوم على غير تقوى من الله ورضوان أمرًا مشروعًا، بل واجبًا لمن فقه عن الله ورسوله مرادهما.
وحسبنا في هذا قصة " مسجد الضرار " التي سجلها القرآن الكريم كما سيأتي.
أما المسجد الذي بنى على الضريح بغير إذن أصحاب الأرض، وبغير حاجة إليه لبعده عن القرية ثلاثة كيلو مترات كما جاء في السؤال، فإن الصلاة فيه حرام لوجهين:.
الأول: أن الفقهاء أجمعوا على النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة - نهي تحريم أو كراهة - زجرًا للغاصب عن غضبه، وإعلانًا للسخط عليه، بل منهم - كالحنابلة والظاهرية - من قال ببطلان الصلاة في تلك الأرض، لما تقرر عندهم من أن النهي يقتضي الفساد والبطلان . ولحديث " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (رواه مسلم) أي مردود عليه، غير مقبول منه.
الثاني: أن الأحاديث النبوية الصحيحة جاءت تنهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وتلعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وتحذر مما صنعوا.
ولهذا قرر المحققون أن الطارئ منهما على الآخر يزال، فإن كان المسجد قد بُني أولاً ثم طرأ عليه القبر أزيل القبر، وإن كان الأمر بالعكس أزيل المسجد الذي لم يبن على تقوى من الله ورضوان.
وبهذين الوجهين لم يعد لهذا المسجد حرمة، وشأنه شأن مسجد الضرار الذي قص علينا قصته في سورة " التوبة " من كتابه العزيز فقال:.
(1/128)
(والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبدًا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين . أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين).
وكان أصحاب مسجد الضرار من المنافقين قد أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه !! فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل . ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه . فلما نزل بذي أوان - موضع في الطريق إلى المدينة من تبوك - وجاءه خبر المسجد من السماء، فدعا رجلين من أصحابه، وقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه . ففعلاً وأشعلا فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه، وفيه أهله . فحرقاه وهدماه فتفرقوا عنه، فأنزل الله فيه ما أنزل من الآيات، وقد ذكر المحقق ابن القيم فيما يؤخذ من هذه القصة أمرين:.
أولهما: مشروعية تحريق أماكن المعصية التي يعصي الله ورسوله فيها وهدمها . كما حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه، ويذكر اسم الله فيه، لما كان بناؤه ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا ومأوى للمنافقين المحاربين لله ورسوله . وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله: إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له.
(1/129)
قال: وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادًا من دون الله أحق من ذلك وأوجب، وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات، وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت " رويشد " الثقفي وسماه " فويسقا " ...
الثاني: أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة . كما لا يصح وقف هذا المسجد.
قال: " وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بنى على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد . نص على ذلك الإمام أحمد وغيره . فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر . بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق . فلو وضعا معًا لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا يصح الصلاة في هذا المسجد، لنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجدًا، أو أوقد عليه سراجًا . فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى ". (زاد المعاد في هدي خير العباد جـ 3، ص 35، 36، طـ السنة المحمدية) ا هـ.
فليت شعري إذا كان هذا الحكم في مسجد بنى على قبر على سبيل الوقف أي برضا الواقفين، الذين يظنون الثواب فيما فعلوا وهم جاهلون، فماذا يكون الحكم في مسجد وقبر بنيا في أرض مملوكة للغير بغير إذنه ولا رضاه ؟.
إننا إذا وجدنا من الناس من يجادل في الصورة الأولى، فلن نجد من يجادل في الصورة الأخرى، لأنها واضحة البطلان . والحق أحق أن يتبع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . وبالله التوفيق.
المعجزات النبوية بين الغلاة والمقصرين.
س: كنا في مجلس نتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن معجزاته، بمناسبة مولده عليه الصلاة والسلام، وما حدث قبيل المولد وعنده من آيات كونية، تحكيها كتب قصة " المولد " التي تقرأ عادة في كثير من البلاد، كلما أهل شهر ربيع الأول.
(1/130)
ولكن أحد الحاضرين أنكر وقوع هذه الخوارق، وأنكر أيضًا كل ما يذكر على الألسنة، أو في بعض الكتب، من المعجزات الحسية المادية للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل: بيض الحمام على فم الغار في الهجرة، ونسج العنكبوت، ومثل تكليم الغزالة له، وحنين الجذع إليه، وغير ذلك مما اشتهر بين جماهير المسلمين ... وتناقلوه.
وكانت حجة هذا الأخ، للنبي - صلى الله عليه وسلم - معجزة واحدة تحدي بها، هي القرآن الكريم، وهي معجزة عقلية متميزة عن معجزات الرسل السابقين.
نرجو بيان رأيكم في هذا الأمر، مؤيدًا بالأدلة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حيى عن بينة.
ودمتم للإسلام والمسلمين.
جـ: هذا الكلام الذي يحكيه الأخ السائل عن أحد الحاضرين في مجلسه، بعضه حق، وبعضه باطل، فليس كل ما يشيع بين الناس من المعجزات الحسية للنبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحًا ثابتًا، وليس كلها أيضًا باطلاً . والصحة والبطلان في هذه الأمور، لا يرجع فيها إلى مجرد الرأي أو الهوى والعواطف، وإنما يرجع إلى الأسانيد.
والناس في هذه القضية - قضية المعجزات المحمدية المادية - أصناف ثلاثة:.
فالصنف الأول: يبالغ في الإثبات، وسنده في ذلك ما حوته الكتب، أيًا كانت هذه الكتب: سواء كانت للمتقدمين أو المتأخرين، وسواء كانت تعني بتمحيص الروايات أم لا تعني، وسواء وافق ذلك الأصول أم خالفها، وسواء قبله المحققون من العلماء أم رفضوه.
المهم أن يروي ذلك في كتاب وإن لم يعرف صاحبه، أو يذكر في قصيدة من قصائد المدائح النبوية، أو في قصة " مولد " التي يُتلى بعضها في شهر ربيع الأول من كل عام، أو نحو ذلك.
وهذه عقلية عامية لا تستحق أن تناقش، فالكتب فيها الغثّ والسمين، والمقبول والمردود، والصحيح والمختلق الموضوع.
وقد ابتليت ثقافتنا الدينية بهؤلاء المؤلفين الذين يتتبعون " الغرائب " ويحشون " بها بطون الكتب، وإن خالفت صحيح المنقول، وصريح المعقول.
(1/131)
وبعض المؤلفين، لا يعني بصحة ما يروي من هذه الأمور، على أساس أنها لا يترتب عليها حكم شرعي، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك . ولهذا إذا رووا في الحلال والحرام تشددوا في الأسانيد، ونقدوا الرواة، ومحصوا المرويات . فأما إذا رووا في الفضائل والترغيب والترهيب . ومثلها المعجزات ونحوها، تساهلوا وتسامحوا.
ومؤلفون آخرون، كانوا يذكرون الروايات بأسانيدها 0 فلان عن فلان عن فلان - ولكنهم لا يذكرون قيمة هذه الأسانيد: أهي صحيحة أم غير صحيحة ؟ وما قيمة رواتها: أهم ثقات مقبولون أم ضعاف مجروحون، أم كذابون مردودون ؟ معتمدين على أنهم إذا ذكروا السند فقد أبرأوا أنفسهم من التبعة، وخلوا من العهدة.
غير أن هذا كان صالحًا وكافيًا بالنسبة للعلماء في العصور الأولى، أما في العصور المتأخرة - وفي عصرنا خاصة - فلم يعد يعني ذكر السند شيئًا . وأصبح الناس يعتمدون على النقل من الكتب، دون أي نظر إلى السند.
وهذا هو موقف جمهرة الكتاب والمؤلفين في عصرنا، حين ينقلون من تاريخ الطبري، أو طبقات ابن سعد أو غيرها.
والصنف المقابل: يبالغ في النفي والإنكار للمعجزات والآيات الحسية الكونية . وعمدته في ذلك: أن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم . وهو الذي وقع به التحدي: أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله.
ولما طلب المشركون من الرسول بعض الآيات الكونية تصديقًا له، نزلت آيات القرآن تحمل الرفض القاطع لإجابة طلباتهم . كما في قوله تعالى: (وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا وتأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً ؟). (سورة الإسراء: 90 - 93).
(1/132)
وفي موضع آخر، ذكر المانع من إرسال الآيات الكونية التي يقترحونها فقال: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا). (سورة الإسراء: 59).
وفي سورة أخرى، رد على طلب الآيات بأن القرآن وحده كاف كل الكفاية ليكون آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون). (سورة العنكبوت: 51).
وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة عقلية أدبية، لا حسية مادية، وذلك لتكون أليق بالبشرية بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة . فالمعجزات الحسية تنتهي بمجرد وقوعها . أما العقلية فتبقى.
وقد أيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".
ويبدو لي أن مما دفع هذا الصنف إلى هذا الموقف أمرين:.
أولاً: افتتان الناس في عصرنا بالعلوم الكونية، القائمة على ثبات الأسباب، ولزوم تأثيرها في مسبباتها، حتى ظن بعض الناس أنه لزوم عقلي لا يتخلف في حال، فالنار لابد أن تحرق، والسكين لابد أن تقطع، والجماد لا يمكن أن ينقلب إلى حيوان، والميت لا يمكن أن يرجع إلى الحياة ... إلخ.
الثاني: غلو الصنف الأول في إثبات الخوارق، بالحق والباطل، إلى حد يكاد يلغي قانون الأسباب والسنن، التي أقام الله عليها هذا العالم . وكثيرًا ما يقاوم الغلو بغلو مثله.
وهنا يظهر الرأي الوسط بين المبالغين في الإثبات، والمغالين في الإنكار . وهو الرأي الذي أرجحه وأتبناه.
وخلاصة هذا الرأي:.
(1/133)
1- أن القرآن الكريم هو الآية الكبرى، والمعجزة الأولى، لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تحدّى به العرب خاصة، والخلق عامة . وبه تميزت نبوة محمد على غيرها من النبوات السابقة، فالدليل على صدق نبوته هو نفس موضوع رسالته . وهو كتابه المعجز بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبإتيانه بالغيب: ماضيه وحاضره ومستقبله.
2- أن الله تعالى أكرم خاتم رسله بآيات كونية جمة، وخوارق حسية عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أعني إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته . بل كانت تكريمًا من الله له . أو رحمة منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد . فلم تحدث هذه الخوارق استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين . وذلك مثل " الإسراء " الذي ثبت بصريح القرآن، والمعراج الذي أشار إليه القرآن، وجاءت به الأحاديث الصحيحة، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم، على حين لم يصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم . وحماية الله لرسوله وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما . وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.
ومثل ذلك إشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك.
3- إننا لا نثبت من هذا النوع من الخوارق إلا ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة الثابتة . وما عدا ذلك مما انتفخت به بطون الكتب، فلا نقبله، ولا نعبأ به.
فمن الصحيح الثابت:.
( أ ) ما رواه جماعة من الصحابة من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر، فلما صنع له المنبر، وقام عليه للخطبة، سمع للجذع صوت كحنين الناقة إلى ولدها . فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكت.
(1/134)
قال العلامة تاج الدين السبكي: حنين الجذع متواتر، لأنه ورد عن جماعة من الصحابة، إلى نحو العشرين، من طرق صحيحة كثيرة تفيد القطع بوقوعه . وكذلك قال القاضي عياض في الشفاء: إنه متواتر.
( ب ) ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن جماعة من الصحابة، من إفاضة الماء بغير الطرق المعتادة، وذلك في غزواته وأسفاره - صلى الله عليه وسلم - مثل غزوة الحديبية، وغزوة تبوك وغيرهما.
روى الشيخان عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، وأطراف أصابعه، فتوضأ أصحابه به جميعًا.
وروى البخاري عن البراء بن عازب أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أربع عشرة مائة (أي 1400)، وأنهم نزحوا بئر الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسالم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها . قال: فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا (سقتنا وروتنا) ماشيتنا نحن وركابنا.
والأحاديث في إجراء الماء له - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مستفيضة، ومروية بأصح الطرق.
(جـ) ما حفلت به كتب السنة من استجابة الله تعالى لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع يصعب حصرها، مثل دعائه بإنزال المطر . ودعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد، وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه .. إلخ.
( د ) ما صح من الأنباء بمغيبات وقت كما أخبر بها - صلى الله عليه وسلم -، بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، مثل فتح بلاد اليمن وبصرى وفارس، وقوله لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وقوله عن الحسن: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ... إلخ . ومثل إخباره بفتح القسطنطينية وغيرها.
(1/135)
4- أما ما لم يصح من الخوارق والآيات، فلا نثبته ولا نقيم له وزنًا، وإن شاع ذكره بين الناس.
ونكتفي هنا بما اشتهر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختفى في الغار عند الهجرة من المدينة، جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار . فهذا ما لم يجئ به حديث صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف.
أما نسج العنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء، وضعفها آخرون . وظاهر القرآن يدل على أن الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت والحمام جنود مرئية ولا شك والنصر بجنود غير مشاهدة ولا محسة أدل على القهر الإلهي والعجز البشري . وإنما اشتهرت هذه الخوارق بين جمهور المسلمين بسبب المدائح النبوية، للمتأخرين وبخاصة مثل " البردة " للبوصيري التي يقول فيها:.
ظنوا الحمام، وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم.
وقاية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم.
فهذا هو موقفنا من الخوارق والمعجزات النبوية المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق.
" حول القضاء والقدر ".
س: هل كل ما يحدث للإنسان في الدنيا مكتوب عليه من الأزل: الموت والرزق، والنجاح والفشل، والسعادة والشقاء في الدنيا، وإن كان من أهل الجنة أو أهل النار ... فما قيمة سعي الإنسان إذن ؟ وهل للأطباء أن ينقذوا إنسانًا من الموت في حادثة من الحوادث ؟ وهل للاجتهاد والعمل المتواصل، أو حسن إدارة التجارة أو الزراعة علاقة بزيادة الرزق، أم أن الرزق محدد مقدر ... عملنا أم تكاسلنا ؟.
حائر من القاهرة.
جـ: هذا السؤال سؤال قديم معروف، ويبدو أنه مهما طال الزمن سيظل يخطر على الأفئدة، ويدور على الألسنة.
ولا داعي للحيرة في شأنه، فإن الإسلام قد شفى في جوابه وكفى ..
(1/136)
(أ) أما أن كل ما في الكون مكتوب مسجل . فهذا معلوم من الدين بالضرورة ولا شك فيه، وإن كنا لا نعلم كيفية الكتابة، وماهية الكتاب، وكل الذي نعلمه أن الله تعالى قد أبدع هذا الكون بأرضه وسمائه، وجماداته وأحيائه، على وفق تقدير أزلي عنده، وأنه أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأن كل ما يحدث في هذا الكون العريض يحدث وفق علمه وإرادته (ولا يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) (سورة يونس: 61) (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (سورة الأنعام: 59)، (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير). (سورة الحديد: 22).
( ب ) هذا العلم المستوعب، والإحصاء الدقيق، والتسجيل الشامل للأشياء والأحداث قبل وقوعها لا ينافي الاجتهاد في العمل واتخاذ الأسباب.
فإن الله كما كتب المسببات كتب الأسباب، وكما قدر النتائج، قدر المقدمات فهو لا يكتب للطالب النجاح فحسب بحيث يصل إلى هذه النتيجة بأي وسيلة، ولكن يكتب له النجاح بوسائله من جد وحرص وانتباه ووعي وصبر وجلد إلى آخر هذه الأسباب . فهذا مقدر مكتوب، وهذا مقدر مكتوب.
إن الأخذ بالأسباب لا ينافي القدر بل هو من القدر أيضًا.
ولهذا حين سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الأدوية والأسباب التي يتقي بها المكروه، هل ترد من قدر الله شيئًا، كان جوابه الفاصل: " هي من قدر الله " رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه.
(1/137)
ولما انتشر الوباء في بلاد الشام قرر عمر بمشورة الصحابة العدول عن دخولها، والرجوع بمن معه من المسلمين . فقيل له: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن نزلت بقعتين من الأرض، إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، أليس إن رعيت المخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت المجدبة رعيتها بقدر الله ؟!.
(جـ) على أن القدر أمر مغيب مستور عنا . نحن لا نعرف أن الشيء مقدر إلا بعد وقوعه، أما قبل الوقوع فنحن مأمورون أن نتبع السنن الكونية، والتوجيهات الشرعية لنحرز الخير لديننا ودنيانا.
إنما الغيب كتاب صانه عن عيون الخلق رب العالمين.
ليس يبدو منه للناس سوى صفحة الحاضر حينًا بعد حين.
وسنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيمانًا بالله وقضائه وقدره، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخذ الحذر، وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون، وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو بنفسه، واتخذ أسباب الحيطة في هجرته ... أعد الرواحل التي يمتطيها، والدليل الذي يصحبه، وغير الطريق، واختبأ في الغار، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل: اعقلها وتوكل (رواه ابن حبان بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية الضمري ورواه ابن خزيمة والطبراني بإسناد جيد بلفظ "قيدها وتوكل")، وقال: " فرّ من المجذوم فرارك من الأسد " (رواه البخاري) و" لا يوردن ممرض على مصح " (رواه البخاري) أي لا يخلط صاحب الإبل المريضة إبله بالإبل السليمة، اتقاء العدوى.
(1/138)
( د ) الإيمان بالقدر إذن لا ينافي العمل والسعي والجد في جلب ما نحب، واتقاء ما نكره، وليس لمتراخ أو كسلان أن يلقى على القدر كل أوزاره وأثقاله، وأخطائه وخطاياه، فهذا دليل العجز والهرب من المسئولية، ورحم الله الدكتور محمد إقبال إذ قال: " المسلم الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، أما المسلم القوي فهو يعتقد أنه قضاء الله الذي لا يرد، وقدره الذي لا يغلب ".
وهكذا كان المسلمون الأولون يعتقدون.
في معارك الفتح الإسلامي دخل المغيرة بن شعبة على قائد من قواد الروم فقال له: من أنتم ؟ قال: نحن قدر الله، ابتلاكم الله بنا، فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم، أو لهبطتم إلينا !!.
ولا ينبغي أن يلجأ الإنسان إلى الاعتذار بالقدر إلا حينما يبذل وسعه، ويفرغ جهده وطاقته، وبعد ذلك يقول: هذا قضاء الله.
غلب رجل آخر أمام النبي عليه السلام، فقال المغلوب: حسبي الله، فغضب النبي، ورأى ظاهر هذه الكلمة إيمانًا، وباطنها عجزًا، فقال: " إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله " . رواه داوود.
(هـ) إن من ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر - حينما يبذل الإنسان كل ما تحت يده، ويرتقب ما في يد الله - أن يهبه المضاء في موقف اليأس، والعزيمة في مجال الكفاح، والشجاعة ساعة الخطر، والصبر عند الصدمة، والرضا بالكسب الحلال عند تفاوت الحظوظ الدنيوية.
إنه سيقول عند الكفاح: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
وسيقول عند المعركة: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
وسيقول عند المصيبة: قدر الله وما شاء فعل.
وسيقول للسلطان الجائر: إنك لن تقدم أجلي، ولن تحرمني رزقًا هو لي.
إن عقيدة القدر إذا فهمت على وجهها الصحيح تستطيع أن تخلق من أمتنا أمة مجاهدة صامدة، جديرة بأن تقود زمام التاريخ.
حول تحضير الأرواح.
(1/139)
س: شغل الناس في بلدنا هذا وفي أيامنا هذه بالأرواح وتحضيرها، وسؤالها عما يخبئه صدر الغد من غيوب، وما استعصى على الأطباء من علاج، وما أعضل على الناس من مشكلات . شغل الناس بهذا شغلاً جعل التلاميذ والتلميذات ينصرفون عن الكتب والدروس إلى سلال القمامة في الفصول يستحضرون الأرواح ويخاطبون المجهول.
وما روج في الناس هذه البدعة الجديدة إلا صحافتنا البارعة الماهرة التي تستطيع بقدرة قادر أو بسحر ساحر أن تجعل من الحبة قبة، ومن القط جملاً، ومن زور القول وتافه الأشياء ما يشغل الأفكار والقلوب والألسنة . والمهم أن الناس يتجهون إلى الدين وعلمائه يسألونهم الرأي والقول الفصل فيما يرونه أو يسمعونه أو يقرأونه ؟.
ما هذا الشيء الخفي الذي يحرك السلال والأقلام ويخط على الورق إجابات تصيب وتخطئ ؟ هل هي أرواح موتى أم أرواح عفاريت أم خفة يد وشغل حواة ؟ هل يمكن استحضار أرواح الموتى من عالم البرزخ ؟.
وهل يجوز سؤالها عن الغيوب ؟ وهل يصح لنا تصديق ما تخبر به من غيب ؟ وهل يمكنها معرفة الغيب ؟.
وهل لنا أن نلجأ إلى الأرواح نستوصفها علاج أمراضنا أو ما استعصى علينا منها ؟ نرجو البيان الشافي في ضوء الأدلة الشرعية.
القاهرة
جـ: لا ريب أن الناس في حيرة أمام هذه الأسئلة، وهم يسمعون من هذا ما يناقض ذاك، وهم يريدون أن يخرجوا من هذه الحيرة والبلبلة برأي ديني صحيح صريح يضع الحق في نصابه، ويرد الناس إلى الصراط المستقيم.
والذي لا نستطيع أن ننكره، أن هناك أشياء خفية تحضر في جلسات التحضير رآها الكثيرون رأي العين تحرك السلال والأقلام تكتب وتجيب، أحيانًا بالخطأ وأحيانًا بالصواب، وإنكار هذا مكابرة في نظر من شاهدوا تلك الظاهرة، وهرب من مواجهة المشكلة بما يزيد الإشكال.
(1/140)
والذي نعتقده كذلك نحن المؤمنين بالأديان أن في الكون قوى غير منظورة وعوالم كثيرة غير محسوسة، منها:.
1- أرواح الموتى: فعقيدتنا أنها باقية بعد الموت، وأنها لا تفني بفناء الجسد، وأنها تنعم أو تعذب، وأن القرآن أخبرنا عن الشهداء، إنهم: (أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله) (سورة آل عمران: 169) . وهذا طبعًا بالنسبة لأرواحهم أما أجسادهم فقد تكون عظامًا نخرة أو ترابًا مبعثرًا.
وقد أخبر النبي أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه. (رواه مسلم من حديث أنس).
وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إذا سلموا على أهل القبور، أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقولون: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون " (رواه مسلم من حديث عائشة) .. وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد: (قال ابن القيم في كتاب " الروح ": والسلف مجمعون على هذا، وقد توافرت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به).
وهذا بناء على أن الروح ذات قائمة بنفسها كما هو مقتضى أصول أهل السنة، وقد تظاهرت على ذلك أدلة القرآن والسنة والآثار والاعتبار والعقل والفطرة وأقام ابن القيم رحمه الله على ذلك أكثر من مائة دليل . وقد خاطب الله النفس بالرجوع والدخول والخروج، ودلت النصوص الصريحة على أنها تصعد وتنزل وتقبض وتمسك وترسل وتنفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم ... إلخ . ما ورد.
(1/141)
2- الملائكة، وهم خلق نوراني غير محسوس، يقومون بوظائف شتى منها حفظ الإنسان، وكتابة أعماله وتوفى روحه (إن كل نفس لما عليها حافظ) (سورة الطارق: 4) (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) (سورة الرعد: 11)، (وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين) (سورة الانفطار: 10، 11)، (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم) (سورة السجدة: 11)، (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين) (سورة النحل: 32)? (EE??? ????? C???C??E ??C EIC??C ??C E????C). (سورة فصلت: 30).
وعالم الملائكة عالم مفطور على طاعة الله، ليس له شهوة تفتنه عن ذكره (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) (سورة الأنبياء: 20)، (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). (سورة التحريم: 6).
3- الجن، وهم عالم روحي آخر، ولكنهم مكلفون كالإنسان، ولذلك يوجه القرآن الخطاب إلى الفريقين " يا معشر الجن والإنس " (سورة الرحمن: 33) وفي القرآن سورة كاملة عن الجن تحدثوا فيها عن أنفسهم وعن علاقتهم برجال من الإنس، وأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين (فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا) (سورة الجن: 14)، والكفرة من هؤلاء الجن هم الشياطين وهم ذرية إبليس وجنوده وقد قال الله عنهم: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). (سورة الأعراف: 27).
إذا عرفنا هذا فمن أي هذه العوالم الثلاثة تلك الأرواح الخفية التي تحرك السلال والأقلام ؟.
(1/142)
لا نستطيع أن نقول: إنها أرواح الموتى الذين كانوا معنا بالأمس، فإن كثيرًا من هذه الأرواح المستحضرة، تدخل فيما لا يعنيها، وتفتي بما لا تعلم وتقول ما لا تعرف وتكذب في أشياء، وتتطاول على الغيب الذي استأثر الله به، وما نظن أرواح الموتى فارغة لهذا العبث، فهي إما في نعيمها أو عذابها، في روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار . والعجيب أننا لم نسمع عن روح واحدة لكافر أو فاجر صدقت الناس ما تعانيه من عذاب الله الذي أخبر القرآن أنها تلقاه بمجرد الموت (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم: أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق) (سورة الأنعام: 93)، (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم) (سورة الأنفال: 50)، (النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (سورة غافر: 46)، (فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون . فلولا إن كنتم غير مدينين . ترجعونها إن كنتم صادقين . فأما إن كان من المقربين . فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنُزُلٌ من حميم. وتصلية جحيم، إن هذا لهو حق اليقين). (سورة الواقعة: 83 - 95).
???? ??C?? C????C? ??E C???E? ??I ???E C?A?CE E?? ???C? C????E?? C??C??? ??C ??? ?? ???? ?E???E ????.
??? ???? ?? E??? ???C? C???C? ?C????I?? C???CE ????E ?? ?? ??I E??E . E??E ??E EOC? ?E?E??E ??? ?? ???E?C ?C ???E ????C ??C ???E ? !.
(1/143)
??? C??????? ?? C??E? - ??? C??? ???? ???? - ??? E?E?? EI? ?? C??O???? ?????C ?? ???E - E?? - E? ?C? ?E? ??? ????? ??CIC?? E???C???: " ?C ??C? CE? ??C? ??C ??C? CE? ??C?? ?? ??IE? ?C ??I ?E?? ???C ? ???? ??IE ?C ??I?? ?E? ???C? ??C? ?? ???: ?C ???? C???? ?C EIC?E ?? ???C? ?I ????C ? ??C?: ?C??? E?E?? EC???? ?C ??E? E???? ??C ???? ????? ?????? ?C ??E????? ??CE?C ".
???C ?C?E ??? C????C? ?C E?E??? ??C?EE C??E? C????? ??? ???? C?EO? ?C?E ????E? ????? C??C? E??C?? C?U?E? ???? EU??? ?? E?? C????C? ?.
??I C?EI? E???? ??? ??C? C?E??C? C???E? E??C?E C???A? E???? E?C??: (??? ?? ??A??C ???E E? C??EC? ?? ???E E? C???? ?? ??? E? C???E?). (سورة الرعد: 31).
والحق أن في الآية دلالة واضحة على أن تكليم الموتى بالقرآن ممتنع فقد ورد في سبب نزولها أن مشركي مكة اقترحوا على النبي تعنتًا أن يسير بقرآنه الجبال عن مكة فتتسع لهم، ويتخذوا فيها البساتين، وأن يفجر بقرآنه الأرض عيونًا وأنهارًا، وأن يتلوه على موتاهم فيخاطبوهم ويخبروهم بصدقه، فأنزل الله هذه الآية (ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) أي لو أن قرآنًا سيرت به الجبال ... إلخ . لكان هذا القرآن . وكلنا يعلم أن (لو) تفيد امتناع جوابها لامتناع شرطها.
وإذا كانت هذه الأشياء الخفية التي تحضر أو تستحضر ليست هي أرواح الموتى فإنا نعتقد كذلك أنها ليست ملائكة، فهي كما قلنا تكذب وتتناقض وتستطيل على الغيب، وتزعم لنفسها أسماء من البشر، وما هكذا تكون الملائكة، بل هم عباد لله مكرمون (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون). (سورة الأنبياء: 27).
(1/144)
لم يبق بعد هذا إلا أن تكون هذه القوى الخفية من عامل الجن والشياطين، وفي العقيدة الإسلامية متسع لمثل هذا، فوجود الجن والشياطين حقيقة مقرة، ومع كل إنسان قرينه من الشياطين كما معه قرينه من الملائكة . وفي الحديث " ما من أحد إلا وله شيطان " (رواه مسلم) وفي القرآن: (قال قرينه: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد). (سورة ق: 27).
ومن حسن الحظ أن هذا الذي نعتقده قد قاله سكرتير جمعية الأهرام الروحية الأستاذ حسن عبد الوهاب الذي استقال منها، وأعلن توبته ووزع منشورًا يذيع فيه رأيه على الناس، وقد نشرته صحيفة الجمهورية في 23 من رمضان سنة 1379، منه هذه الفقرات: " لقد أزال الله عن قلبي في شهر رمضان غشاوة الضلال، وثبت لي أخيرًا ثبوتًا قاطعًا لا شك فيه أن الشخصيات التي تحضر وتزعم أنها أرواح من سبقونا من الأهل والأحباب، ليست إلا شياطين وقرناء من الجن يلبسون على الناس ما يلبسون، والآن وأنا أودع هذه الحقبة الشقية من عمري، أجدد إسلامي، وأستعيد إيماني، وأودع زملاء أعزاء، لا أحمل لهم في قلبي إلا كل عطف وإشفاق ورثاء، ملحًّا على الله في الدعاء أن ينير بصيرتهم، وينقذهم من أوحال هذه العقيدة الفاسدة .. ".
ثم ما الغرض الذي من أجله تستحضر الأرواح ؟ أهو سؤالها عما كان وما يكون من شئون غيبية ؟.
(1/145)
ومن قال: إن الأرواح - جنًا أو ملائكة وغيرها - تطلع على الغيب المطلق وتخبر به ؟ والله يقول في شأن الجن مع سليمان: (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) (سورة سبأ: 14) ويقول على لسانهم: (وأنا لا ندري أشرٌ أُرِيدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا) (سورة الجن: 10) ????? ?? ???? C?I?? ?????C EC???EE ??U?E ?????: (?? ?C ???? ?? ?? C????CE ?C???? C?U?E ??C C???) (سورة النمل: 75) (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) (سورة الأنعام: 59) ويقول على لسان خاتم الرسل: (ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء). (سورة الأعراف).
وهل هذا الاستنطاق بالغيوب إلا من قبيل الكهانة والتكهن الذي أعلن الإسلام الحرب عليه: " من أتى عرافًا أو كاهنا فسأله فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - (رواه أحمد والحاكم وصححه وأقروه)، " ليس منا من تكهن أو تكهن له " (رواه الطبراني والبزار عن عمران بن حصين بإسناد حسن) إنها الكهانة القديمة في زي جديد.
وما يصدق أحيانًا من بعض ما تخبر به تلك الأرواح ليس غيبًا حقيقيا، بل هو غيب نسبي مما يعرفه بعض الناس عن بعض، ويعرفه قرناء الإنسان من الجن والإنس . وما أقل ما يصدق وما أكثر الكذب والخلط في تلك التنبؤات، ولكن الناس عادة ينسون الكذب في 99 مرة ويتذكرون الصدق مرة واحدة ولعله صدفة من الصدف.
أم أن الغرض من تحضيرها هو العلاج الروحي كما يقال ؟.
(1/146)
وندع سكرتير الجمعية الروحية المستقيل يجيب عن هذا فيقول: " أما عن بدعة العلاج الروحي الذي تعلنه عنه جمعية الأهرام الروحية بين حين وآخر فهي عملية إيحاء وهمي، وأنا شخصيًا أنفقت نصف عمري في هذه العملية، وكنت مريضًا طيلة هذه المدة بأكثر من مرض لازمني إلى اليوم، وكان من الأولى - وأنا مؤسس الجمعية وصاحب أكبر مكتبة روحية، أن أعالج نفسي، أقولها بكل أسف: لم يحدث شيء من هذا .... ".
إن نبي الإسلام قد اتخذ الأسباب الظاهرة في الوقاية والعلاج، وقال - فيما رواه البخاري -: " إنما الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، أو شرطة محجم، أو كية بنار " . فحصر الشفاء فيما يعرفه الناس في زمنه وفق السنن المعتادة، وقد احتجم هو، وأمر بالحجامة لغيره وبعث بطبيب إلى بعض الصحابة، وحارب تعليق التمائم والودع وغيرها مما يزعم الناس أثره الخفي في العافية والشفاء وقال: " من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له " (رواه أحمد والحاكم والطبراني عن عقبة بن عامر ورجالهم ثقات كما في الفيض) . " من علق تميمة فقد أشرك ". (رواه أحمد والحاكم وأبو يعلى بإسناد جيد كما في الفيض).
فما الغرض إذن من وراء هذه الظاهرة وإذاعتها وشغل الناس بها في هذه الآونة اللهم إلا بلبلة الأفكار، واضطراب العقائد، وصرف الناس عن الجد باللعب واللهو، والحياة حولنا لا تلهو ولا تلعب ؟ . ولقد أثبت بعض الباحثين أن وراء ظاهرة تحضير الأرواح يد الصهيونية العالمية، التي تستغله لتحقيق أهدافها في دنيا الناس. (انظر بحث الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين " الروحية الحديثة دعوة هدامة " ففيه حقائق ومعلومات ذات خطر لابد أن تُعرف).
ربما كان للغرب عذر إذا انشغل بمثل هذه الأشياء ليرفه عن نفسه ويخفف بها غلواء ماديته، فقد أغرقته المادية إلى أذنيه، فلا عليه إذا تسلى بالأرواح وتحضيرها بعد أن حطّم الذرة وغزا الفضاء.
(1/147)
أما نحن الذين نحفر الصخر بأظافرنا لنصل ما انقطع، ونتدارك ما فات، ونلحق بالركب بل نسبقه إن أمكن، فكيف نشغل أنفسنا بمثل هذا العبث، وعندنا من روحانية ديننا، وفلسفة عقائدنا، وخصوبة إيماننا ما يغذي أشواقنا الروحية ويشبع نهمنا الوجداني والفطري، وينير بصائرنا، ويفسر لنا حقيقة الكون والحياة والإنسان !.
أما إن كان في هذا الشر من خير فهو ما تتضمنه هذه الظاهرة من شيء تغص به حلوق الماديين الملحدين الذين ينكرون كل ما لا يحس، ويجحدون ما وراء المادة ولا يذعنون إلا لما يدخل المعمل، وما يخضع للمجهر، والمخبار، فلا روح ولا جن ولا ملائكة فهل يستطيعون بمقاييسهم المادية أن يفسروا لنا هذه القوى الخفية المجهولة ؟! كلا، إنهم يفرون من ذلك بالسكوت أو المكابرة والإنكار.
أما المؤمنون فهم لا يغمضون أعين قلوبهم عما في الكون من قوى وعوالم منظورة حدثهم عنها قرآنهم العزيز وصدق الله (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم). (سورة الحاقة: 38 - 40).
هل النبي - صلى الله عليه وسلم - أول خلق الله ؟.
?: ?? ???? ?? C??E? ???? C???C? ??? I?? C??? ? ???? I?? ?? ??? ? ???? ????? ???I?C EC??I?E ?? C??ECE ?C???E.
?U: C?????? ?? C???CI?E C?E? ?C?E E??? ?? ??? ?C I?? ??C ?? ??C .. ??I ?? ??? ???C ?I?E ?C?I ??C ??? ???C? C???E ... ????? ??I E???C ??C?? E???C? ??I?E ????: ?? ??? ?C I?? C??? C???? ... ??I?E EC?: ??? ?C I?? C??? C???? .. ?OC? E?? C??C?E ??C ?E?? ????? ?? ??? C???C?I C??????E ?? C??? ?E? ?E?E ?? ????? ??C? ??C: ???? ???I?C? ??C?E ??? ?C I?? C???? ????C I?? C????CE ?C???? ... ??I . ??? ??C OC? ?????: " C???CE ?C???C? ???? ?C ??? I?? C??? " ?E? ?????C E???? EC???C? C?O??? ????C ??? ???.
???C ??C? ?? ??? E? ???? ??C ???? ???? ??C ??E?? E? I??? ??C E??? E? I??C ..
(1/148)
?????E? ???? C???C? ?I?? C??? ?? EEEE? ??? EEEE ?C ?C? ??C ?E? ?? ?????E? ???? C???CE ?C???C? ???C?? ??I C???? ?????C ?I?? C??? E?C?? ?? ?ECE? ?I?? E??C? C???? C?????? ??C?: (???? ???? I?? ?U??). (سورة القلم: 4).
والثابت بالتواتر أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي المولود من أبويه عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب بمكة في عام الفيل، ولد كما يولد البشر، ونشأ كما ينشأ البشر، وبعث كما يبعث من قبله أنبياء ومرسلون، فلم يكن بدعًا من الرسل، وعاش ما عاش ثم اختاره الله إليه (إنك ميت وإنهم ميتون) (سورة الزمر: 30)، وسيُسأل يوم القيامة كما يُسأل المرسلون: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب). (سورة المائدة: 109).
ولقد أكد القرآن بشرية محمد عليه السلام في غير موضع، وأمره الله أن يبلغ ذلك للناس في أكثر من سورة: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) (سورة الكهف: 110)، (قل سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً) (سورة الإسراء: 93)، فهو بشر مثل سائر الناس لا يمتاز إلا بالوحي والرسالة.
وأكد النبي عليه الصلاة والسلام معنى بشريته وعبوديته لله، وحذر من اتباع سنن من قبلنا من أهل الأديان في التقديس والإطراء: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله ". (رواه البخاري).
وإذا كان النبي العظيم بشرًا كالبشر، فليس مخلوقًا من نور، ولا من ذهب، وإنما خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب.
هذا من حيث المادة التي خلق منها محمد عليه الصلاة والسلام.
(1/149)
أما من حيث رسالته وهدايته فهو نور من الله، وسراج وهاج . أعلن ذلك القرآن فقال يخاطبه: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا) (سورة الأحزاب: 46)، وقال يخاطب أهل الكتاب: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (سورة المائدة: 15) فالنور في الآية هو رسول الله، كما أن القرآن الذي أنزل عليه نور . قال تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) (التغابن: : 8)، (وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا) (النساء: 174)، وقد حدد الله وظيفته بقوله: (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور). (إبراهيم: 1).
وقد كان دعاؤه عليه السلام: " اللهم اجعل لي في قلبي نورًا وفي سمعي نورًا وفي بصري نورًا وفي لحمي نورًا وفي عظمي نورًا وفي شعري نورًا وعن يميني نورًا وعن شمالي نورًا .... ومن بين يدي ومن خلفي .. " . الحديث (متفق عليه من حديث ابن عباس) فهو نبي النور ورسول الهداية . جعلنا من المهتدين بنوره المتبعين لسنته، آمين.
الإسلام قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
س: هل كان هناك إسلام قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟.
وما معنى الآية الكريمة: (ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين). (آل عمران: 67).
وهل ذلك الإسلام هو مثل إسلامنا الحالي، أم يختلف عنه ؟.
جـ: الإسلام هو أن تسلم وجهك وقلبك لله عز وجل . أي أن تعبد الله وحده مخلصًا له الدين.
وهذا المعنى . قد بعث الله به الأنبياء جميعًا، وأنزل به الكتب كافة، الإسلام بهذا المعنى توحيد الله سبحانه، وإفراده جل شأنه بالعبادة، فهو دين الأنبياء جميعًا، لا دين غيره، وكل ما عداه من أديان، فهو ليس من السماء، ولم ينزل الله به كتابًا ولا بعث به نبيًا أو أرسل رسولاً.
(1/150)
دين الأنبياء هو الإسلام بهذا المعنى ولهذا يقول الله تعالى مخاطبًا رسوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). (الأنبياء: 25).
فكل الأنبياء جاءوا بأصل هذه الدعوة: عبادة الله، واجتناب الطاغوت.
ومن هنا يقول الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام). (آل عمران: 19).
فلا دين عند الله غيره.
ويقول: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85) ومن هنا نجد نوحًا عليه السلام شيخ المرسلين يقول لقومه: (فإن توليتم فما سألتكم من أجر، إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين). (يونس: 72).
وإبراهيم (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون). (البقرة: 131، 132).
وموسى يقوله لقومه: (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين). (يونس: 84).
والحواريون أصحاب عيسى يقولون: (آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون). (آل عمران: 52).
وسحرة فرعون حين آمنوا قالوا: (ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين). (الأعراف: 126).
وسليمان حيث بعث لبلقيس قال لها بعد البسملة: (ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين). (النمل: 31).
فالإسلام دين الأنبياء جميعًا فكلهم دعوا إلى الإسلام، واعترفوا بالإسلام . والإسلام الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتمة هذه الأديان . جاء ليكملها ويتممها، ويصحح ما حدث فيها من انحراف أو زيادات أو شوائب . يخلصها ويكملها كما قال عليه الصلاة والسلام " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم والبيهقي في الشعب). فهو بعث متممًا ومصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها جميعًا ومصححًا لها.
(1/151)
فهذا هو دين الأنبياء جميعًا . ومن العجب أن يقال عن إبراهيم عليه السلام إنه يهودي أو نصراني (ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين) (آل عمران: 67) . إنه صاحب الملة الحنيفية السمحة . وإبراهيم عليه السلام هو الذي سمَّانا مسلمين . فلهذا لا ينسب لأية ديانة ذات عنوان خاص ؛ ذلك لأن الله عز وجل ما شاء أن يطلق على هذا الدين إلا الإسلام، هذا الاسم للدين السماوي الأصلي، الذي أنزله الله لهداية عباده . وأرسل به رسله ... ولم يسمه الله ولا المسلمون باسم " المحمدية " مثلاً كما هو شأن " المسيحية " المنسوبة إلى المسيح عليه السلام ... فهو الدين الإسلامي العام الذي اشترك فيه الأنبياء جميعًا (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). (الشورى: 13).
فالإسلام إذن هو مجموع العقائد وأمهات الأخلاق والفضائل التي جاء بها الأنبياء جميعًا، وأصول المحرمات التي نهى عنها الأنبياء جميعًا.
ثم هناك أشياء اختلفت فيها الديانات وهي التشريعات الفرعية التفصيلية التي تعالج حياة الناس . فهذه اختلفت باختلاف الأعصار والأزمان والبيئات والأجيال، كما قال الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا) (المائدة: 48) ولهذا كان في بعض الشرائع أشياء محرمة تحلها شرائع أخرى، كما جاء مثل ذلك عن المسيح عليه السلام . حيث يقول القرآن عن المسيح: (ولأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم) (آل عمران: 50) وجاءت شريعة الإسلام هي الناسخة للشرائع جميعًا، وأبقت منها ما يصلح، وأزالت ما حرف وأتمت ما نقص، وشرعت الشريعة العامة الخالدة الصالحة المصلحة لك زمان ومكان.
سر الموت.
(1/152)
س: أرجو أن تبينوا الحكمة في " الموت " . لماذا يموت الناس ؟ فقد قرأت في صحيفة عربية - لكاتب ماتت جدته، ومات صديق له - مقالة يستنكر فيها على القدر إماتة الناس بعد أن استمتعوا بالحياة، ولا يقر بحكمة وراء هذا الأمر، ويحمل على الذين يرضون بالموت إذا وقع، ويعترفون بأنه سنة الله في الحياة، قائلاً: إن هذه فلسفة الأغبياء ...
أ.م.م.البحرين.
جـ: الغبي في هذه القضية هو هذا الكاتب الأحمق المغرور، الذي إن دل كلامه هذا على شيء، فإنما يدل على أنه رخو العود أمام صغريات الحوادث فكيف بكبارها ؟ وأنه سطحي التفكير، ينظر إلى القشر، ولا ينظر إلى اللباب، ويهتم بما يطفوا على السطح لا بما يرسب في القاع، وأنه جاهل بالحياة وبالدين وبالفلسفة جميعًا:.
( أ ) لو عرف منطق الحياة لآمن بما آمن به العوام الذين عرفوا بحكم الفطرة، ومنطق التجربة أن الموت هو سنة الحياة . ولرأى ما يقوم به رعاة الحدائق والبساتين من تشذيب الشجر، وقطع بعض فروعه وأغصانه، ليحيا سائر الشجرة وينمو ويثمر، إنه تضحية بالبعض من أجل الكل . وهذا هو قانون الحياة، ولولا هذا القانون ما قدمت أمة فلذات أكبادها، وأعز أبنائها شهداء في سبيل عقيدتها وشرفها فهم يموتون لتحيا الأمة، أي يقطع الفرع ليبقى الأصل حيًا.
( ب ) ولو عرف منطق الدين، لعرف أن وراء أمر الموت والحياة سر التكليف والابتلاء، وصهر الإنسان في هذه الدار الفانية ليعد للخلود في الدار الباقية (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).
لو آمن بمنطق الدين لعلم أن الموت ليس فناء محضًا، ولا عدمًا صرفًا، كما يتصور الجهلة والضالون . إنما الموت هو انتقال من حال إلى حال . ومن طور إلى طور، ومن دار إلى دار، كما قال عمر بن عبد العزيز:.
" إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار ".
وقال الشاعر:.
وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي.
(1/153)
فالميت في قبره يحيا حياة برزخية، يتلذذ فيها أو يتألم، تمهيدًا لحياة الخلود في الآخرة بما فيها من حسن الثواب أو سوء العذاب.
(جـ) ولو عرف منطق الفلسفة لوقف متأملاً يسائل نفسه مرة ومرة عن حكمة هذا الأمر الخطير، الذي لم يدع كائنًا بشريًا إلا فجعه في حبيب لديه . أو عزيز عليه . ولو فعل لوجد الحكمة أبين من فلق الصبح.
ترى ماذا كان يحدث لو لم يكن الموت مكتوبًا على بني الإنسان ؟، لو ظل الناس يتناسلون ويتكاثرون، ولا يموت منهم أحد ؟ وتمضي ألوف السنين وملايينها وهم يزيدون ولا ينقصون ؟.
إن الذي نتصوره أن يجتمع العقلاء من الناس في كل بلد أو ناحية، ويفكروا في إعدام عدد منهم في كل عام مثلاً، حتى تخف الزحمة، وتتيسر المعيشة للباقين . ولكن كيف الاختيار والتعيين: أيكون على كل أسرة أن تقدم من أفرادها عددًا ؟ أم الغرباء هم الذين يختارون العدد المطلوب ؟ أم يكون الاختيار بالقرعة ؟ وكيف يمكن التنفيذ إذا لم يكن الإنسان - بحكم خلقته - قابلاً للموت ؟.
إن الموت الطبيعي أراح الناس من هذا كله، وكان في ذلك الخير، كل الخير، لأن الموت في الحقيقة ضرورة للحياة.
يقول الفيلسوف الإسلامي الأخلاقي أحمد بن محمد مسكويه في كتابه: " تهذيب الأخلاق " مبينًا بعض حكمة الموت:.
(1/154)
" إنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقي من تقدم منا، ولو بقي الناس على ما هم عليه من التناسل، ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض . وأنت تتبين ذلك مما أقول: قدر أن رجلاً واحدًا ممن كان منذ أربعمائة سنة هو موجود الآن، وليكن من مشاهير الناس حتى يمكن أن يحصل أولاده موجودين معروفين كعلي بن أبي طالب عليه السلام مثلاً، ثم ولد له أولاد، ولأولاده، وبقوا كذلك يتناسلون، ولا يموت منهم أحد، كم كان مقدار من يجتمع منهم في وقتنا هذا ؟ فإنك ستجدهم أكثر من عشرة آلاف ألف رجل، وذلك أن بقيتهم الآن مع ما قدر فيهم من الموت والقتل الذريع أكثر من مائتي ألف إنسان، واحسب لكل من كان في ذلك العصر من الناس في بسيط الأرض، شرقها وغربها، مثل هذا الحساب، فإنهم إذا تضاعفوا هذا التضاعف لم تضبطهم كثرة، ولم تحصهم عددًا، ثم امسح بسيط الأرض فإنه محدود معروف المساحة، لتعلم أن الأرض حينئذ لا تسعهم قيامًا ومتراصين، فكيف قعودًا ومتصرفين، ولا يبقى موضع لعمارة يفضل عنهم، ولا مكان لزراعة، ولا مسير لأحد ولا حركة، فضلاً عن غيرها، وهذا في مدة يسيرة من الزمان، فكيف إذا امتد الزمان، وتضاعف الناس على هذه النسبة ؟ فهذه حال من يتمنى الحياة الأبدية، ويكره الموت، ويظن أن ذلك ممكن أو مطموع فيه، من الجهل والغباوة . فإذن الحكمة البالغة، والعدل المبسوط بالتدبير الإلهي هو الصواب الذي لا معدل عنه، ولا محيص منه، وهو غاية الجود الذي ليس وراءه غاية أخرى لطالب مستزيد، أو راغب مستفيد، والخائف منه هو الخائف من عدل الباري وحكمته، بل هو الخائف من جوده وعطائه.
(1/155)
فقد ظهر ظهورًا حسنًا أن الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس، وإنما الرديء هو الخوف منه، وأن الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته . وقد كان ظهر أيضًا فيما تقدم من قولنا أن حقيقة الموت هي مفارقة النفس البدن، وهذه المفارقة ليست فسادًا للنفس، وإنما هي فساد المتركب . فأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق بحاله " (" تهذيب الأخلاق " لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه . تحقيق قسطنطين زريق، ص 215، 216).
هذا بعض ما قاله فيلسوف مثل مسكويه عن سر الموت، وقد أفاض وأطنب في ذلك في كتابه، فليرجع إليه ص: 209 - 217.
إن من نكد الدنيا أن كثيرًا ممن يحررون الصحف، ويوجهون الرأي العام، لا يقرأون ولا يتعلمون، وقد ضل من كانت العميان تهديه !.
إن هذا الصنف الذي ولول، وشق الجيوب من أجل موت جدته، كيف ينتظر منه أن يقدم نفسه وولده لمعركة في سبيل الله أو في سبيل الشرف . ما دام تقديم الضحايا للموت إنما هو فلسفة الأغبياء ؟ !!.
الذبح عند سكني بيت جديد.
س: يزعم بعض الناس أنه من سكن بيتًا جديدًا فعليه أن يذبح شاة أو أي ذبيحة أخرى، فإذا لم يفعل سكن الجن منزله، وآذوه.
فهل هذا صحيح ؟.
جـ: الواقع أن تصورات كثير من الناس عن هذا العالم غير المنظور الذي هو الجن تختلف ... فهناك من يغالون في الإثبات، ومن يغالون في النفي.
فقوم ينكرون الجن وينفون وجود هذا العالم، لأنهم لا يؤمنون إلا بالمحسوس . وهذا غلو.
وفي مقابلهم قوم يثبتون الجن ويدخلونهم في كل صغيرة وكبيرة، فالجن على رءوسهم وعلى عتبات بيوتهم ،و الجن في الليل، والجن في النهار، والجن في كل مكان . حتى يتصور كأن الجن هم الذين يحكمون العالم.
وهذا أيضًا غلو ... يتنافى مع الإسلام ...
(1/156)
الإسلام دين وسط، جاء وأقر هذه الحقيقة وهي وجود الجن، وإثبات عالمهم، والأخبار المتواترة عن حضور الجن واستحضاره، تنقلها الأجيال بعضها عن بعض ولا زال إلى الآن . ومعظم القائلين بتحضير الأرواح، تبين أنهم يستحضرون الجن لا الأرواح، كما ذكر الدارسون لهذه الظاهرة.
فالجن موجودون ... لا شك في ذلك.
أما أن يعتقد الناس أنهم يملكون هذه السلطة وذلك التأثير في العالم، حتى في سكنى المنزل الجديد، فمن لم يذبح شاة، احتلوا بيته ونغصوا عليه حياته ... هذه العقيدة ما نزل بها وحي، ولا نطق بها دين، وذلك من أمور الغيب لا يصح إصدار حكم فيه ومعرفة عنه، إلا عن طريق المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فما لم يرد عنه، ولا أصل له، فلا ينبغي الاعتقاد به ولا أن يقام له اعتبار في الدين.
وعلى هذا فالقول بوجوب الذبح عند سكني بيت جديد لا أساس له ... الذبائح معروفة في الإسلام ولها ارتباط بمناسبات معينة، في الهدى، في الأضحية، في العقيقة عند ولادة مولود.
العلاج بالتمائم والرقي.
س: أنا شاب أبلغ من العمر نحو 27 سنة، وقد تزوجت فتاة، ومر على زواجنا عام، ونحن على أسعد حال، وفجأة عرضت لزوجتي أعراض غريبة فبعد ذلك الهدوء والسكينة التي كانت من أوصاف بيتنا، انقلب الحال إلى عواصف وزوابع، فامتلأت سماء المنزل بالصراخ والكلام الذي لا فائدة منه، حتى ولو لأمر تافه، وبدأت أفكر وأفكر، ولكن بدون جدوى ... وبعد عناء طويل نصحني أهلي وأقاربي ... وألحوا في ذلك بأن أعرضها على " المطوع " ومن كثرة هذا الإلحاح، لبيت طلب الأهل وعرضتها عليه، وأجابني بقوله: إن في رأسها جنيًا ... وتحتاج إلى قراءة ومحو لمدة خمسة عشر يومًا ... وبعد هذه المدة أعمل لها " جامعة " وتعلق في رقبتها ... وبدأ عمله على الفور ... ومضت المدة المقررة ولم يفلح ... بل بقيت كما هي ... فما رأيكم في هذه الأشياء، هل لها أصل في الدين أم أنها من أبواب الحيل والتدجيل وعيش المحتالين ؟.
(1/157)
جـ: لقد جاءت الأحاديث تحذر المسلمين من مثل هذه الأمور وتنهى أن يعتمدوا في علاجهم وتداويهم على مثل هذه التمائم ؛ قد سماها الإسلام تمائم، وهي أشياء كانوا يعلقونها على الأولاد ونحو ذلك لتدفع الجن أو تدفع العين أو ما أشبه ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرقي والتمائم والتولة شرك" (التولة: بوزن عنبة لون من السحر تلجأ إليه المرأة تتحبب به إلى زوجها فيما تزعم .. رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه وأقره الذهبي) والرقي جمع رقية وهي أن يرقي الشخص ويعزم عليه بكلام لا يفهم ... فهذه الرقي ممنوعة ... إلا ما كان منها مأثورًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل: " اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا ". (رواه أحمد والبخاري عن أنس).
وقد قال العلماء: إن الرقي جائزة بثلاثة شروط:.
أولاً: أن تكون بذكر الله تعالى وبأسمائه.
وثانيًا: أن تكون باللسان العربي وما يفهم معناه.
وثالثًا: أن يعتقد أنها لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى.
(1/158)
والتمائم التي كانوا يعلقونها ولا زال كثير من الناس يعلقونها وقد سماها السائل " الجامعة " ويسميها البعض الآخر الحرز أو الحجاب أو ما شابه ذلك ... كل هذه نهى عنها الإسلام، وقد جاء رهط من عشرة أشخاص يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايع تسعة منهم وأمسك عن واحد، فلما سئل في ذلك قال: إن في عضده تميمة . فأدخل الرجل يده فقطعها فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " من علق تميمة فقد أشرك " (رواه أحمد والحاكم وأبو يعلى بإسناد جيد) . أي علقها وتعلق بها قلبه ... وروى الإمام أحمد عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر في عضد رجل حلقة من صفر . فقال: ما هذه ؟ - منكرًا عليه - قال: ألبسها من الواهنة ... (من مرض أصابه في منكبه) فقال: " أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا، انبذها عنك ؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا ".
ومن هنا كان الصحابة والتابعون ينكرون هذه التمائم أشد الإنكار حتى إن حذيفة رأى رجلاً معلقًا خيطًا من هذا النوع عليه، فقرأ قول الله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (سورة يوسف: 106) وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من عنق إنسان كان كعدل رقبة " أي كأنه أعتق رقبة . وعن إبراهيم النخعي - من كبار التابعين - قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن ومن غير القرآن " حتى التمائم من القرآن ... أي إذا علّق آية من القرآن ونحو ذلك ... بعض الناس رخص فيها وآخرون منعوها، وهو الراجح: أن التمائم كلها لا تجوز ؛ لأدلة معتبرة :.
أولاً: لأن الأحاديث التي جاءت بالنهي جاءت عامة ... لم تفرق بين نوع من التمائم وآخر . وحينما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرجل التميمة التي يلبسها لم يقل له: هل فيها قرآن أولا ؟ وإنما أنكر التميمة من حيث هي.
وثانيًا: سدًا للذريعة: فإن من يعلّق القرآن يعلّق غيره، والذي يراه لا يعرف إن كان هذا قرآنًا أو غير قرآن.
(1/159)
وثالثًا: إن هذا يعرض القرآن للامتهان والابتذال ... فهو سيدخل بها الأماكن النجسة ويقضي حاجته ويستنجي وقد تصيب الإنسان جنابة، أو المرأة الحيض، وهو لابس هذا الشيء الذي فيه آيات القرآن.
لهذا كان الصحيح أن التمائم كلها ممنوعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - داعيًا على أصحاب هذه التمائم: " من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له " أي لا ترك الله له، ولا تركه يعيش في دعة.
فهذه هي تعاليم الإسلام . وكان الواجب على هذا الأخ السائل أن يعرض زوجته حين وجد هذا المرض على طبيب، فإما أن يعالجها وإما أن يحيلها على طبيب أخص منه بعلاج هذا النوع من الأمراض . فالذي يبدو من هذه الأعراض أنها مصابة بمرض عصبي ... بالصرع أو نحو ذلك، فلابد أن تعرض على الطبيب الذي يعالجها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء.." (رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم وقال الترمذي: حسن صحيح) . وجاء في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام: " إنما الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، أو شرطة محجم، أو كي بنار " فلم يجعل الشفاء في التمائم ولا في القراءة ولا في نحو ذلك، وإنما جعلها في الأمور الطبيعية وهي جوامع الطب، ما يتناول عن طريق الفم، ومثله الآن الإبر ونحوها، وشرطة المحجم: العمليات الجراحية، والكي، ومثله الآن الجلسات الكهربائية، فكل هذا من الطب الذي جاء به الإسلام، والذي شرعه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد تداوى عليه الصلاة والسلام واحتجم وجيء له بالطبيب، وأمر أصحابه وأمته بالتداوي، فالأولى بنا أن نتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن نعرض عن مثل هذه الأساليب، فإنها كما قال الأخ " عيش المحتالين ".
ونسأل الله أن يوفقنا لما فيه رضاه . وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يفقّهنا في ديننا حتى نتعلم الطريق القويم، والصراط المستقيم . إنه سميع قريب.
(1/160)
أوهام الناس حول الخضر عليه السلام.
س: من هو الخضر ؟ وهل هو نبي أو ولي ؟ وهل هو حي إلى اليوم - كما يقول كثير من الناس وإن بعض الصالحين قد رآه أو اجتمع به . وإذا كان حيًا فأين يقيم، ولماذا لا يظهر ويفيد الناس بعلمه وخاصة في هذا الزمان ؟ أرجو البيان الشافي.
جـ: الخضر، هو العبد الصالح الذي ذكره الله تعالى في سورة الكهف حيث رافقه سيدنا موسى عليه السلام وتعلم منه.
اشترط عليه أن يصبر، فأجابه إلى ذلك، فقال له: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا، وظل معه، وهو عبد آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا، ومشى معه في الطريق ورآه قد خرق السفينة فقال: أخرقتها لتغرق أهلها ؟ ... إلى آخر ما ذكره الله عنه في سورة الكهف.
وكان موسى يتعجب من فعله، حتى فسّر له أسباب هذه الأمور وقال له في آخر الكلام: (وما فعلته عن أمري، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا) (الكهف: 82) يعني ما فعلت ذلك عن أمري، وإنما عن أمر الله تعالى.
بعض الناس يقولون عن الخضر: إنه عاش بعد موسى إلى زمن عيسى ثم زمن محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين وأنه عائش الآن وسيعيش إلى يوم القيامة . وتنسج حوله القصص والروايات والأساطير بأنه قابل فلانًا، وألبس فلانًا خرقة، وأعطى فلانًا عهدًا ... إلى آخر ما يقصون وينسجون من أقاويل ما أنزل الله بها من سلطان.
ليس هناك دليل قط على أن الخضر حي أو موجود - كما يزعم الزاعمون - بل على العكس، هناك أدلة من القرآن والسنة والمعقول وإجماع المحققين من الأمة على أن الخضر ليس حيًا.
وأكتفي بأن أنقل فقرات من كتاب " المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف " للمحقق ابن القيم.
(1/161)
يذكر في هذا الكتاب رحمه الله ضوابط للحديث الموضوع الذي لا يقبل في الدين، ومن هذه الضوابط " الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته، وكلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد . فحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في المسجد، فسمع كلامًا من ورائه، فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر. وحديث: يلتقي الخضر والياس كل عام وحديث: يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر.
وسئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وأنه باق، فقل: ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان . وسئل الإمام البخاري عن الخضر والياس هل هما أحياء ؟ فقال: كيف يكون هذا ؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " (رواه الشيخان) . وسئل عن ذلك كثير غيرهما من الأئمة فقالوا - مستدلين بالقرآن -: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، أفإن مت فهم الخالدون) ؟ (الأنبياء: 34).
وسئل عنه شيخ السلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ، فقال:"لو كان الخضر حيًا لوجب عليه أن يأتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم،فأين كان الخضر حينئذ؟
فالقرآن ،والسنة،وكلام المحققين من علماء الأمة ينفي حياة الخضر كما يقولون.
القرآن يقول: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت أفهم الخالدون)
فالخضر إن كان بشرًا فلن يكون خالدًا، حيث ينفي ذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة؛فإنه لو كان موجودًا لجاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد قال عليه الصلاة والسلام:"والله لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني"
(رواه أحمد عن جابر بن عبد الله) فإن كان الخضر نبيًا، فليس هو بأفضل من موسى، وإن كان وليًا فليس أفضل من أبي بكر.
(1/162)
وما الحكمة في أن يبقى طيلة هذه المدة - كما يزعم الزاعمون - في الفلوات والقفار والجبال ؟ ما الفائدة من هذا ؟ ليس هناك فائدة شرعية ولا عقلية من وراء هذا . إنما يميل الناس دائمًا إلى الغرائب والعجائب والقصص والأساطير، ويصورونها تصويرًا من عند أنفسهم ومن صنع خيالهم، ثم يضفون عليها ثوبًا دينيًا، ويروج هذا بين بعض السذج، ويزعمون هذا من دينهم، ولكن ليس هذا من الدين في شيء ... والحكايات التي تحكي عن الخضر إنما هي مخترعات ما أنزل الله بها من سلطان.
أما السؤال حول: هل هو نبي أو ولي ؟ فالعلماء قد اختلفوا في ذلك، ولعل الأظهر أنه نبي - كما يبدو من الآية الكريمة التي تلوناها من سورة الكهف ... (وما فعلته عن أمري) فهي دليل على أنه فعل ذلك عن أمر الله، ومن وحيه لا من عند نفسه . فالأرجح أنه نبي وليس مجرد ولي.
العدالة الإلهية والتفاضل في الأرزاق.
س: أعرض عليكم مشكلة حدثت لي منذ أيام . فقد وسوس الشيطان في نفسي وصار يعرض في أفكاري صورًا شتى تدور حول الشك في العدالة الإلهية، وتساءلت: لماذا يغني الله بعض الناس ويفقر بعضهم الآخر ؟ مما جعلني أتردد في ضلال وحيرة ... وتركت الصلاة ... وأخيرًا أفقت إلى نفسي ... وعذبني ضميري ... ولا زلت في ألم نفسي وريب خلفته تلك الوساوس والأفكار ..
فما حيلتي لاسترداد الثقة واليقين، وطرد همزات الشيطان اللعين ؟؟.
جـ: المؤمن، قد تعرض له وساوس، وقد تهجس في نفسه هواجس، ولكنه إذا كان صاحب إيمان ويقين وكان موفقًا من الله عز وجل، سرعان ما تزول تلك الوساوس وتختفي الهواجس، ويعود إليه منطق الإيمان ونور العقيدة القويمة ... والاطمئنان.
هذا الشاب، حين عرضت له تلك الوساوس، بناها على خطأين كبيرين :.
الأول: هو اعتقاده أن الغنى المادي هو كل شيء أوأعظم شيء في هذه الحياة وأن العدل يقتضي أن يسوي الله بين الناس، في الفقر والغنى، وفي المال والثروة وهذا هو الخطأ الأول.
(1/163)
وليعلم ذلك الأخ أن المال ليس هو كل شيء في هذه الحياة، كلا ... فكم من الأغنياء يعوزهم الذكاء، أو تعوزهم الحكمة، أو تعوزهم الصحة، والعافية، أو تعوزهم الأسرة الهنيئة، أو يعوزهم الولد، وإذا كان عندهم الولد يعوزهم الولد البار، والزوجة الصالحة ... يعوزهم أشياء كثيرة.
كثير من الأغنياء أصحاب الملايين، يشتهون أن يأكلوا كما يأكل فقير لا يملك إلا دريهمات معدودة، قد حرم عليهم الأطباء أن يأكلوا الدهنيات أو السكريات، أو غير ذلك، وعنده الخزائن تموج بالذهب والفضة . ماذا يصنع بهذه الخزائن ؟ وهب أنه كان صحيحًا، هل يملك أن يأكل أكثر من ملئ بطنه ؟ وما البطن، وما المعدة ؟ شبر في شبر ... أو أقل ... هب أن الإنسان عنده كنز من النضار فهل يأكل الإنسان النضار ؟ وهل يأخذه معه إلى القبر ؟ كلا ... إن المال وسيلة للإنسان.
الذي يملك منه الكثير، يزيد على غيره أنه حمل مسئولية أكبر، وسيكون حسابه يوم القيامة أعظم (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) (الشعراء: 88، 89) " يوم لا تزول قدماه . حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه ؟ وعن علمه ماذا عمل به ؟ ". (رواه الطبراني بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل).
ليس مِلك المال إذن هو كل شيء..
قد يملك الإنسان أشياء أخرى كثيرة غير المال ... وهي أغلى منه وأثمن والإنسان المتعجل، المتسرع، السطحي ينسى النعم التي أنعم الله بها عليه، لو عد الإنسان ما يملك لأعياه ذلك وما استطاع أن يحصيه: نعمة البصر ... كم تقدرها ؟ لو قيل لك: خذ كذا ألفًا أو مليونًا وتفقد بصرك ... هل ترضى ؟!.
والسمع، والشم، والذوق، الأنامل، الأسنان، الأجهزة التي في داخل جسمك فضلاً عن الذكاء والنطق، والقدرة على التعبير والعمل والتصرف ... وغير ذلك ..
(1/164)
لو حسب الإنسان هذه الأشياء والنعم التي يملكها في جسمه وحده وأمكنه تقديرها وإحصاؤها لبلغت مئات الملايين ...
والحقيقة أن تلك النعم لا تُقدر ولا تُحصى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). (إبراهيم: 34).
ولكن النظر في المادة وحدها هو الذي يجعل الإنسان يخطئ الخطأ الكبير، فتنتابه الوساوس والهواجس المؤلمة.
ثم هل يعتقد هذا الأخ السائل، أن الحكمة في التسوية بين الناس ؟ هل الحكمة أن يكون الناس سواء ؟.
لا والله ... ليست هذه هي الحكمة.
ليس من الحكمة في شيء أن يستوي الناس كلهم.
إنما الحكمة في هذا التباين، ليظهر الابتلاء، ويتحقق الامتحان . ليتميز من يشكر ممن يكفر، ومن يجزع ممن يصبر، ومن يعمل صالحًا ممن يعمل غير ذلك ...
هذه هي البوتقة التي تصهر فيها نفس الإنسان . هذه هي الحياة ... ميدان للجهاد وللكفاح.
لو شاء الله لخلق الناس أجسادًا بلا طعام ... لا تحتاج إلى أكل ولا شرب ولا تحتاج إلى المال، ولكن الله ركب في الإنسان الغرائز والدوافع، فجعله يحتاج إلى الطعام والشراب، والتناسل ،و الاجتماع ... وغير ذلك، فسبحان الله الذي خلق الإنسان على هذه الكيفية، ولو كان الناس كلهم سواسية، لما كان للحياة طعم، ولا كانت لها حكمة . من أجل أن يعرف الصبر لابد أن يكون هناك ما يصبر عليه،ولكي يعرف الإيثار والإحسان لابد أنيكون هناك من يحسن إليه.
فهذه الفضائل الإنسانية لا يمكن أن تظهر إلا إذا كان هناك تفاوت وتفاضل في الحياة.
لو كانت الحياة كلها ضياء ونهارًا، لما كان هذا الليل الذي يسكن الناس فيه، وقد جعله الله لباسًا.
لابد من النور والظلمة، لابد من الليل والنهار .. لابد من ذلك كله.
فالخطأ الثاني الذي أخطأه الأخ، هو تصوره حكمة الله خطأ . وتصوره عدل الله خطأ.
تصور العدل والحكمة على حسب عقله القاصر.
(1/165)
هل نستطيع نحن البشر أن نحدد لله مفهوم الحكمة ؟ وأن تكون حكمته تعالى على أهوائنا (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض). (المؤمنون: 71).
?? ?C?I? ?U? ?? C????E ??EU? ?? E?C?? ??C? ...
??? ?IE ??? EC????? ??C E??E??? ????CE ?? E?E???.
?C?OCE? C??? ?II? ??? ????? ?? ???E? C????? ????:.
?C ?E ! ... ??? ??C C???? !!.
E???C C????? ??EU?E ??I?? ?C??C?: ?C ?E ! .... ?E? ???? C??EC? ?!.
???? ??E??E C??? ????C ?.
?? C??? ?? ??? ??? ??? ??? ??C ??C ??? ??? ?C? !!.
???C ?? ???E? ?I ?????C ??C ?????C.
??? ??? ?? ?? I?? ?I? I?C? ?? ??? C???? !.
أضرب مثلاً لهذا الشاب:.
حكوا أن رجلاً وابنه كانا تحت نخلة في بستان، فأراد الولد أن يجادل أباه، فقال له: يا أبت، انظر هذا التفاوت الذي نراه، أين الحكمة التي تقول لي عنها ؟ وإن الله حكيم عليم ؟؟ انظر إلى هذه النبتة الصغيرة، نبتة البطيخ، تثمر ثمرة كبيرة جدًا، بينما هذه النخلة على طولها وعظمها، فإن ثمرتها صغيرة ... ولا نسبة بينها وبين البطيخة ... وكان المفروض أو المعقول أن تكون ثمرة النخلة في عظم البطيخة، لتتناسب مع حجم الشجرة، بينما تكون ثمرة نبات البطيخ في حجم التمرة ... فقال له: يا بني . لعل لله حكمة لا نعرفها.
ثم استلقى الفتى على ظهره ليستريح، واستلقى أبوه إلى جواره ... وما إن أغفت عين الفتى قليلاً، حتى سقطت من أعلى النخلة تمرة، فأصابت وجهه وآلمته، وصاح من أثر ذلك ... فقال له أبوه: ماذا بك ؟ قال: تمرة من فوق النخلة أصابتني قال: يا بني، احمد الله أنها لم تكن بطيخة !!.
(1/166)
هذا مثل لبيان حكمة الله عز وجل، وإن الإنسان قاصر وعاجز دون إدراك هذه الحكمة والإحاطة بها كلها ... وما عليه إلا أن يقول كما قالت الملائكة: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (البقرة: 32) أو يقول ما قال أولو الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا، وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض (ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك ! فقنا عذاب النار). (آل عمران: 191).
على هذا الشاب الذي راوده الشك، وفعل ما فعل يومًا ما، أن يستغفر الله، ويتوب إليه، ويجدد إيمانه وثقته بالله، ويعود إلى الصلاة، ويتصل بأهل العلم والدين لعل الله يتقبله، ويجعله من الشباب الصالحين ... والله ولي التوفيق.
الوصية المكذوبة.
س: لقد عثرت على هذه الورقة وذهلت لما وجدت فيها، فأرجو من سيادتكم إفادتي عما تحتوي هذه الورقة، وهل هي صحيحة أم غير صحيحة ؟ الورقة بتوقيع فاعل خير، وهي عبارة عن وصية قال إنها من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفيها عظات كثيرة للمسلمين، وفي نهايتها يقول: إن هنا لك شخصًا في (بمبي) قد وزع ثلاثين ورقة من هذه الوصية ورزقه الله بـ 25 ألف روبية، كما قام شخص آخر بنشرها ورزقه الله ستة آلاف روبية وكما أن شخصًا كذب هذه الوصية ففقد ابنه في نفس اليوم، يقول إنه إذا اطلع شخص على هذه الوصية ولم ينشرها فإنه سيصاب بمصيبة كبيرة . فما رأيكم بهذه الوصية ؟.
وهل هي صحيحة أم غير صحيحة ؟.
(1/167)
جـ: لقد سأل الكثيرون عن هذه الوصية وهي وصية ليست وليدة اليوم ولا بنت الأمس، فقد رأيتها منذ عشرات السنين: وهي تنسب إلى هذا الرجل المزعوم المسمى الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحرم النبوي . وطالما سألنا الناس في المدينة وفي الحجاز عن هذا المدعو الشيخ أحمد وعن وظيفته، فلم نعثر له على أثر ولم نسمع عنه خبرًا، ولم يعرف في وقت من الأوقات هذا الشيخ أحمد ولا رآه الناس في المدينة في يوم من الأيام ولم يسمعوا هناك هذا الخبر، ولكن جاء من يشيع في بلاد المسلمين مثل هذه الوصايا المحزنة . هذه الوصية بما فيها ليس لها قيمة ولا اعتبار في نظر الدين . فبعض هذه الوصية مما لا يحتاج إلى رؤيا يراها الشيخ أحمد ويرى فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام ـ فيما زعم ـ مثل أن الساعة قريبة، وأن القيامة ستقوم، وأنها قاب قوسين أو أدنى فهذا مما لا يحتاج فيه إلى وصية للشيخ أحمد ولا للشيخ عمر، وأن القرآن قد صرح بذلك وقال: (لعل الساعة تكون قريبًا) (الأحزاب: 63) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بعثت أنا والساعة كهاتين " (متفق عليه من حديث أنس وسهل بن سعد) . وأشار بسبابته وبإصبعه الوسطى . فلسنا بحاجة إلى من يذكرنا بذلك وبعض هذه الوصية كخروج النساء سافرات وانحراف الناس عن الدين لسنا في حاجة إلى من يذكرنا به أيضًا فعندنا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهما كافيان شافيان مغنيان . وقد قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا). (المائدة: 3).
(1/168)
إن من يظن أن دين الإسلام بعد أن أتمه الله وأكمله في حاجة إلى وصية يوصي بها إنسان مجهول، يكون قد شك في هذا الدين وفي كماله وفي تمامه، ديننا قد تم وقد اكتمل، وليس في حاجة إلى وصية من الوصايا . إن هذه الوصية تحمل في طياتها دليل كذبها ودليل تزويرها، فصاحبها يهدد الناس ويخوفهم إذا لم ينشروها أن تصيبهم المصائب وتحل بهم الكوارث وأن يموت أبناؤهم وأن تفقد أموالهم، وهذا ما لم يقل به إنسان حتى في كتاب الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . لم يؤمر الناس أن كل من قرأ القرآن كتبه ونشره، وأن من قرأ صحيح البخاري كتبه ونشره، وإلا حلت به المصائب، فكيف مثل هذه الوصايا التخريفية ؟ هذا شيء لا يمكن أن يصدقه عقل مسلم يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا . وتقول الوصية الزائفة: إن فلانًا في البلد الفلاني نشر هذه الوصية فرزق بعشرات الآلاف من الروبيات، هذا كله تخريف وتضليل للمسلمين عن الطريق الصحيح وعن اتباع السنن والأسباب التي وضع الله عليها نظام هذا الكون، فالرزق له أسبابه، وله طرائقه وله سننه، أما أن يعتمد الناس على مثل هذه الأوهام وعلى مثل هذه الخرافات، فهذا تضليل وانحراف بعقلية المسلمين . إننا نربأ بالمسلمين أن يصدقوا مثل هذه الخرافة وأن يظنوا أن من نشر مثل هذه الوصية المكذوبة يختص بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال كاتب هذا الكلام الباطل، فإن شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر من أمته، كما جاء في الأحاديث الثابتة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه ". (رواه البخاري).
نسأل الله عز وجل أن يفقّه المسلمين في أمر دينهم وأن يلهمهم الرشد . وأن يعصمهم من تصديق الخرافات والأوهام والأباطيل.
(1/169)
في الطهارة والصلاة.
ما حكم تارك الصلاة ؟.
من القاهرة جاء هذا السؤال :
شخص عربي يدعي أنه مسلم ولكن لا يصلي ولا يصوم طول حياته.
هل يجب إلقاء السلام عليه ؟ وهل يجب الصلاة عليه إذا مات ؟.
وفي هذا المعنى جاءنا هذا السؤال من الدوحة يقول :
ما حكم تارك الصلاة ؟؟.
ج :ما الرأي في إنسان عينته هيئة أو مؤسسة لأداء وظيفة محددة، يتقاضى منها راتبه، ويكون مسئولاً عنها، ولكنه لم يؤد حق الوظيفة عليه، فتخلف عن العمل أيامًا كاملة أو ساعات من أيام، وهو قادر مختار ليس بمريض ولا مقهور ؟.
قد يختلف أعضاء لجنة الرأي في مثل هذا الموظف: فيرى بعضهم أنه أخلّ بالتزاماته الجوهرية نحو عمله، فلا عقوبة له إلا فصله وحرمانه من الوظيفة، ويرى آخرون أن يُجازي بعقوبة أخرى غير الفصل ما دام غير مستخف بالعمل ولا مستهزئ به.
وهذا المثل يوضح لنا موقف أئمة الإسلام في المسلم الذي ترك العبادات عمدًا وبخاصة الصلوات المفروضة اليومية.
فيرى بعضهم أن الوظيفة الأولى للمسلم، بل للإنسان في الحياة، هي عبادة الله وحده، وتركها يعد إخلالاً بعمل المسلم الجوهري، فلهذا لا يستحق هذا اسم الإسلام، ولا الانضواء تحت لوائه . ويؤيد هذا الرأي ما جاء في الحديث الصحيح " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ". (رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد).
العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ". (رواه أحمد وأصحاب السنن).
ويرى آخرون أنه إذا لم يكن منكرًا ولا مستخفًا بفرائض الإسلام، وكان مقرًا بتقصيره، نادمًا عليه، توّاقًا إلى التوبة، فهذا يظل في زمرة المسلمين محكومًا له بالإسلام.
ذلك أن تارك الصلاة أحد رجلين :
إما أن يتركها إنكارًا لوجوبها، أو استخفافًا بها، واستهزاء بحرمتها فهذا كافر مرتد بإجماع المسلمين.
(1/170)
لأن وجوب الصلاة ومنزلتها في الإسلام معلوم من هذا الدين بالضرورة، فكل منكر لها، أو مستخف بها يكون مكذبًا لله ولرسوله، وليس في قلبه من الإيمان حبة خردل . وهو مثل الكفار الذين وصفهم الله بقوله :
(وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هُزُوًا ولعبًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). (المائدة: 58).
ومن هنا نعرف منزلة الذين يعتبرون الصلاة والعبادة من مظاهر التأخر والرجعية، ويسخرون من الذين يقيمون الصلاة.
وإما أن يتركها كسلاً، وانشغالاً بالدنيا، واتباعًا للهوى، ووسوسة الشيطان فهذا قد اختلف فيه العلماء: هل هو كافر أم فاسق ؟ وإذا كان فاسقًا فهل يستحق القتل أم يكفي التعزيز بالضرب والحبس ؟.
فالإمام أبو حنيفة يقول: هذا فاسق بترك الصلاة، ويجب أن يؤدب ويعزر بأن يضرب ضربًا شديدًا حتى يسيل منه الدم، ويحبس حتى يصلي . ومثله تارك صوم رمضان.
وقال الإمامان مالك والشافعي: هو فاسق وليس بكافر، ولكن لا يكفي جلده وحبسه وإنما عقوبته قتله إذا أصر على ترك الصلاة.
وقال الإمام أحمد - في أشهر الروايات عنه -: هذا التارك للصلاة كافر مارق من الدين . وليس له عقوبة إلا القتل فيجب أن يطلب منه التوبة إلى الله والرجوع إلى الإسلام بأداء الصلاة فإن أجاب فيها وإلا ضربت عنقه.
والواقع أن ظواهر النصوص من الكتاب والسنة تؤيد هذا المذهب الذي قال به إمام السنة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهما.
فالقرآن يجعل ترك الصلاة من خصائص الكفار (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) (المرسلات: 48) وقال في وصفهم يوم القيامة :
(يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون). (القلم: 43).
ولا يستحق عصمة الدم وأخوة المسلمين في نظر القرآن إلا من تاب من الشرك وأقام الصلاة، وآتي الزكاة، قال تعالى في شأن المشركين المقاتلين:
(1/171)
(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم) (التوبة: 5) وقال بعد ذلك: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين). (التوبة: 11).
ويحدثنا القرآن عن صورة من صور الآخرة . حيث الكفرة المجرمون في نار سقر، والمؤمنون من أصحاب اليمين يسألونهم: (ما سلككم في سقر؟) أي ما الذي أدخلكم هذه النار ؟.
(قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين). (المدثر: 42).
فكان أول مظهر من مظاهر كفرهم وإجرامهم أنهم لم يكونوا من المصلين.
وإذا رجعنا إلى السنة وجدنا الأحاديث النبوية تؤكد كفر تارك الصلاة.
فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " رواه مسلم وعن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " رواه الخمسة وصححه النسائي والحافظ العراقي.
وجاء عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " لا تترك الصلاة متعمدًا فإن من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله " رواه الطبراني في الأوسط بإسناد، قال المنذري: لا بأس بع في المتابعات.
وعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لا يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبَيِّ بن خلف " رواه أحمد قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
يقول ابن القيم رحمة الله: " من شغله عن الصلاة ملكه حشر مع فرعون، ومن شغله عنها ماله حشر مع قارون، ومن شغله عن الصلاة جاهه حشر مع هامان، ومن شغله عنها تجارته حشر مع أبي بن خلف ".
فإذا كان من لم يحافظ على الصلاة يحشر مع هؤلاء الكفرة العتاة - وهم أشد أهل النار عذابًا فما بالكم بمن تركها كليًا وعاش عمره لم يركع لله ركعة ولا سجد له سجدة ؟.
(1/172)
وقال صلى الله عليه وسلم: " من ترك صلاة العصر حبط عمله ". (رواه أحمد والبخاري والنسائي عن بريدة).
فإذا كان ترك صلاة واحدة يحبط العمل فيكف بمن ترك الصلوات كلها ؟.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على قوم بيوتهم لأنهم يتخلفون عن الجماعات (الحديث في الصحيحين) فكيف بمن لا يصلي أصلاً؟.
وأخبر القرآن عن المنافقين انهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، فكيف بمن لا ينهض إلى الصلاة أبدًا، لا نشيطًا ولا كسلان ؟.
هذه هي نصوص القرآن والسنة في شأن تارك الصلاة.
ولهذا لم يخالف أحد من الصحابة في تكفير من تركها متعمدًا واعتباره خارجًا من دين الإسلام.
روى الترمذي - وصححه - عن عبد الله بن شقيق العقيلي رضي الله عنه قال :
" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " وعبارة الراوي تشعر أن الصحابة رضي الله عنه كانوا متفقين على هذا الرأي . ولهذا لم ينسبه إلى واحد معين منهم.
وهذا ما رواه أهل العلم وأصحاب الأثر عن الصحابة والتابعين وفقهاء الحديث.
فعن عليّ كرّم الله وجهه قال: من لم يصل فهو كافر.
وعن ابن عباس: من ترك الصلاة فقد كفر.
وعن ابن مسعود: من ترك الصلاة فلا دين له.
وعن جابر بن عبد الله: من لم يصل فهو كافر.
وعن أبي الدرداء: لا إيمان لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له.
وقال محمد بن نصر المروزي في كتابه عن " الصلاة ": سمعت إسحق - يعني ابن راهويه يقول: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها - كافر.
وعن أيوب السختياني قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.
(1/173)
قال الحافظ المنذري بعد أن أورد هذه الآثار والأحوال: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا لتركها حتى يخرج جميع وقتها منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس . ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء: رضي الله عنه ومن غير الصحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم . رحمهم الله تعالى ". (الترغيب والترهيب ج 1 كتاب الصلاة فصل الترهيب من ترك الصلاة تعمدًا).
هذا ما نقله الأئمة الحفاظ عن الصحابة ومن بعدهم في تكفير من ترك صلاة واحدة متعمدًا حتى يخرج جميع وقتها، فكيف يكون رأيهم فيمن سلخ من عمره سنين تطول أو تقصر ولم يحن جبهته لله ساجدًا في يوم من الأيام ؟.
هذا هو تارك الصلاة.
فإما أنه كافر إذا تركها منكرًا لها أو مستخفًا بوجوبها.
وإذا لم يكن منكرًا ولا مستخفًا فهو بين أن يكون كافرًا مرتدًا كما هو ظاهر الأحاديث، وظاهر ما أفتى به الصحابة ومن بعدهم، وأن يكون فاسقًا بعيدًا عن الله.
فأخف الآراء فيه أنه فاسق يخشى عليه الكفر . فمما لا ريب فيه أن الذنوب يجر بعضهما إلى بعض، فالصغائر تجرّ إلى الكبائر، والكبائر تجرّ إلى الكفر.
ولهذا يجب على كل من ينتسب إلى الإسلام أن يراجع نفسه، ويتوب إلى ربه، ويصحح.
دينه، ويصمم على إقامة الصلاة.
كما يجب على المتدينين أن يقاطعوا كل تارك للصلاة، مصرّ على تركها، بعد أن يسدوا إليه النصيحة، ويأمروه بالمعروف، وينهوه عن المنكر.
قال الإمام ابن تيمية في تارك الصلاة: لا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته.
وكذلك لا يجوز للأب أن يزوج ابنته من تارك للصلاة لأنه في الحقيقة ليس بمسلم وليس أهلاً لها . ولا أمينًا عليها، ولا على أولادها.
(1/174)
ولا يجوز لصاحب المؤسسة أن يوظف تارك الصلاة لأنه يعينه برزق الله على معصية الله، ومن ضيع حق الله الذي خلقه وسواه فهو لحقوق عباده أكثر تضييعًا وإهمالاً.
ومن هنا تتضح مسئولية المجتمع عن هذه الفريضة التي هي عماد الدين، والتي لم يجعل الله لأحد عذرًا في تركها، إلا أن يكون مريضًا مرضًا أفقده وعيه بحيث لا يفهم الخطاب وما دون ذلك من الأمراض لا تسقط به الصلاة ولو كان قعيدًا، أو مشلولاً، أو مثخنًا بالجراح.
فالشرع يقول للمريض: تطهر كيف استطعت، وصل كيف استطعت ولا تترك الصلاة، تطهر بالماء فإن لم تجد فتيمم صعيدًا طيبًا . صل قائمًا فإن لم تستطع فصل قاعدًا فإن لم تستطع فصل مضطجعًا على جنبك، أو مستلقيًا على ظهرك، مشيرًا برأسك، أو مومئًا بحاجبيك كما قال تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم). (التغابن: 16).
المجتمع مسئول إذا عن إقامة هذه الفريضة، وبخاصة كل ذي سلطان في سلطانه: كالأب مع أولاده الصغار، والزوج مع زوجته قال تعالى :
(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى) (طه: 132) وقال عليه الصلاة والسلام: " مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر " (رواه أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد حسن) . وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة). (التحريم: 6).
فإذا كان الزوج حريصًا على زوجته، محبًا لها، وإذا كان الأب حريصًا على أولاده، محبًا لهم، فليحمهم من النار، وليأمرهم بطاعة الله تعالى، وأولها الصلاة.
بقي من سؤال الأخ الكويتي جزء عن تارك الصلاة.
هل يصلي عليه إذا مات أم لا ؟.
فالجواب أن هذا مبني علي القول بكفره أو فسقه.
فمن اكتفى بالقول بأنه فاسق قال: يصلي عليه ويدفن مع المسلمين وأمره مفوَّض إلى الله إذا مات على الإسلام.
ومن قال بكفره مثل الإمام أحمد وغيره قال: لا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
(1/175)
وهنا فائدة ننبه عليها وهي الصحيح في مذهب أحمد: أنه لا يحكم بكفر تارك الصلاة إلا إذا دعاه الإمام - أو نائبه كالقاضي مثلاً . إلى أداء الصلاة فامتنع، أما قبل ذلك فلا نحكم عليه بالكفر، ويترك أمره إلى الله.
هذا كله في تارك الصلاة وحدها، فإذا أضاف إلى ترك الصلاة ترك الصيام والفرائض الأخرى، فقد تأكد فسقه عند القائلين بالفسق، وكفره عند القائلين بالكفر.
روى أبو يعلي بإسناد حسن عن ابن عباس - قال حماد بن زيد ولا أعلمه إلا قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: " عرا الإسلام، وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم : شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان ".
وكفى بهذا الحديث وأمثاله زاجرًا ورادعًا لمن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
المأثور وغير المأثور في أدعية الوضوء.
س: نسمع بعض الناس يرددون أدعية معينة أثناء الوضوء، فما حكم هذه الأدعية، وما حكم الوضوء بدونها ؟.
ج: كثير من المسلمين يعتقدون أن مثل هذه الأدعية مفروضة، وأن الوضوء لا يصلح إلا بها، حتى إني سألت بعض الناس يومًا: لماذا لا تصلي ؟.
فقال: لأني لا أعرف أن أتوضأ ؟ فعجبت منه وقلت: هل هناك أحد لا يعرف أن يغسل وجهه ويديه، ويمسح على رأسه، ويغسل رجليه ؟ فأجاب: إني لا أحفظ ما يقوله الناس من الأدعية..ظنًا منه أن تلك الأدعية من لوازم الوضوء.
والحق: أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء إلا قوله: اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي.
وهناك من يذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام، كان يقول ذلك أثناء الوضوء، ومنهم من يذهب إلى أنه عقب الوضوء. (رواه النسائي وابن السني بإسناد صحيح لكن النسائي أدخله في باب ما يقول بعد الفراغ من الوضوء).
(1/176)
وكان إذا فرغ من الوضوء يقول: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ومثل ذلك سنة، وليس هناك دعاء واجب في الوضوء بصفة عامة . والأدعية التي يقولها الناس ليست بواجبة ولا سنة، لأنها لم ترد عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن أحد من أصحابه.
كأن يقول عند بداية الوضوء: الحمد لله الذي جعل الماء طهورًا، والإسلام نورًا . وعند الاستنشاق: اللهم أرحني برائحة الجنة.
وعند غسل الوجه: اللهم بيض لي وجهي يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه.
وعند غسل يده اليمني: اللهم أعطني كتابي بيميني.
وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشرتي على النار.
وهذه الأدعية وأمثالها محدثة بعد القرون الأولى، ولم يرد منها شيء مأثور وقد جاء في الحديث: " إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) والخير كل الخير أن نقف في أمور العبادات عند حدود ما جاء به الشرع، ولا نتجاوز السنن إلى المبتدعات فإن أصل الدين أمران :
الأول: ألا يعبد إلا الله . وهذا هو التوحيد.
الثاني: ألا يعبد إلا بما شرع، ولا يعبد بالأهواء والبدع.
وبالله التوفيق.
جواز المسح على الجوربين.
س :هل يجوز المسح على الجوربين في الصلاة ؟.
ج: يجوز المسح على الجوربين إذا لبسهما على طهارة، فإذا انتقض وضوؤه وهو لابس الجوربين، وأراد أن يتوضأ، عندئذ يصح له أن يمسح عليهما، ويكفيه هذا لمدة أربع وعشرين ساعة إذا كان مقيمًا، وإذا كان مسافرًا فلمدة ثلاثة أيام.
وهذا أمر يسهل على الناس الوضوء خاصة في أيام الشتاء الباردة، حيث يشتد البرد ويخشى المرء أن يخلع جوربيه ويغسل رجليه بالماء البارد .. والإسلام كما هو معلوم دين يسر لا عسر ..
(1/177)
وقد جاء هذا عن أكثر من عشرة من الصحابة، أفتوا جميعهم بجواز المسح على الجوربين . وبعض الفقهاء اشترطوا لذلك شروطًا مشددة، مثل: أن يستطيع المشي بهما، وألا يكون بهما خرق بمقدار ثلاثة أصابع، وغير ذلك، وهذه الشروط - في الحقيقة - لم ترد في السنة المطهرة، والأمر كله مبني على التيسير.. فإذا كان الصحابة قد أفتوا بهذا، فيجوز للمسلم أن يتبع هذه الرخصة .. وكثير من الناس اليوم يتركون الصلاة استثقالاً لها، ويعود هذا الاستثقال في كثير من الأحيان إلى تلك الملابس المعقدة التي يرتدونها، فيثقل على من ليس له إرادة قوية وإيمان قوي، أن يخلع حذاءه وجوربه ويتوضأ ..
فإذا قلنا له: إنك تستطيع أن تمسح على الجورب ما دمت قد لبسته على طهارة من قبل، فهذا ييسر عليهم كثيرًا، وقد جربت هذا وشاهدته ولمست أثره في كثير من المعاصرين.
ومن واجب العالم المسلم أن ييسر على الناس ما استطاع، وأن يراعى عصره، وهذا هو منهجي في الحقيقة ... التيسير لا التشديد في الأمور التي فيها سعة في الدين، وهذا المنهج إنما رجحته لسببين :
الأول: أن التيسير هو روح هذا الشرع .... وروح هذا الدين . وقد ختم الله آية الطهارة بقوله (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون). (المائدة: 6).
وختم آية الصيام بقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). (البقرة: 185).
الثاني: أن الناس في عصر كثرت فيه الفتن، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، ومن واجبنا أن نعين الناس على أن يتدينوا لا أن ننفرهم من الدين . والتشديد ينفر، بينما التيسير ييسر ويقرب من الدين .. ومن نفر من الدين فهو يتحمل مسئولية كبيرة أمام الله عز وجل.
فلهذا نقول لكل مسلم: إن الإسلام دين يسر ولا عسر فيه .. وإن الله قد رفع الحرج عن هذه الأمة . وليس هناك حرج قط في أي تكليف من التكاليف.
والخلاصة التي أقولها للسائل الكريم :
(1/178)
إنه إذا توضأ ولبس جوربه على طهارة، ثم انتقض وضوؤه وأراد أن يتوضأ من جديد، فيستطيع أن يمسح على الجورب لمدة أربع وعشرين ساعة، إن كان مقيمًا، ولمدة ثلاثة أيام بلياليها إن كان مسافرًا .. وذلك رخصة من الله يسر بها على عباده، ولا حرج عليه في هذا إن شاء الله تعالى.
المسجد الذي أسس على التقوى.
قال الله تعالى في محكم كتابه (لا تقم فيه أبدًا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه). (التوبة: 108).
ما المراد بهذا المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ؟.
ج: المراد بهذا المسجد، إما مسجد قباء الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة، فقد نزل هناك وأسس هذا المسجد وكان هذا أول مسجد أسس في الإسلام، وإما هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فهو أيضًا أسس على التقوى من أول يوم، وقد ورد بهذين الأمرين أحاديث صحيحة، أن المسجد المقصود بالآية هو مسجد قباء، وأنه هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تنافي بين القولين ولا بين الروايتين، فكلا المسجدين أسس على التقوى من أول يوم، وكلاهما من المساجد العظيمة المباركة في الإسلام :
أما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثاني الحرمين للمسلمين.
وأما مسجد قباء فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وقد جاءت هذه الآية تنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم في المسجد الذي بني ضرارًا، مضارة ومناوأة لمسجد قباء . بناه جماعة من المنافقين يتخذونه وكرًا للفتن والفساد .. وتفريق كلمة المؤمنين، ولهذا نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوم فيه، أو أن يصلي فيه وقال: (لا تقم فيه أبدا) وذلك ليفسد على المنافقين أمرهم، ويحبط مكرهم، وإنما أمره بالقيام والصلاة في مسجده، وفي مسجد قباء، الذي أسس على التقوى من أول يوم فهو أحق أن يقوم فيه.
ترك الصلاة مع المسلمين بزعم أدائها في الكعبة.
(1/179)
رأيت بعض المتمشيخين المدعين الولاية لا يقيم للصلاة المفروضة وزنًا، وسألته: لم لا تصلي ؟ فأجاب: إنني غير موفق لهذه الفريضة ... ولكني سمعت صديقًا لي يحدث بأن قريبًا له كان في الحرم المكي يصلي، فلما سلم وجد هذا الشيخ بجانبه . فقال له: من أتى بك ههنا يا شيخ فلان ؟ فأجابه: أسألك بالله أن تكتم هذا السر .. أرجو أن تبينوا رأي الشرع في ذلك، وهل يمكن من يستخدم الجن أن يحمله خادمه إلى مكة مثلاً إذا طلب منه مخدومه ذلك ؟.
ج :ما كنا بحاجة إلى أن نجيب ببطلان دجل الدجالين، فالله سبحانه حين آذننا بانتهاء الوحي قال: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) (المائدة: 3) وكمال الدين هو كمال شرائعه وتمام النعمة إنما يكون بسعادة من قسمت له وهذا الرجل الشقي الذي يذكر عن نفسه أنه غير موفق لأداء الصلاة، لا يمكن أن يكون في عداد أولياء الله، إذ ما كان لولي أن يبطل شرائع ربه، وشرط الولاية أن يكون الولي على كمال طاعة مولاه، فكيف يكون تارك الصلاة داخلاً في زمرة الأولياء ؟ وليس لأحد أن يحكم بمصير مثل هذا الدجال بعد أن حكم القرآن الكريم في محاورة تجري بين أهل الجنة وبين المجرمين إذ نسمع أهل الجنة:( يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر ؟ قالوا: لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين). (المدثر: 42 - 44).
إن الإيمان في القلب ولكن الإسلام علانية فالمسلم هو الذي يظهر إسلامه للناس: فيشهدون له بموجبه، من أداء الفرائض واجتناب المحارم فهو لهذا يشهد الجماعات، ويحضر المساجد مع المصلين، ليدفع عن نفسه التهمة . ولهذا أوجب الإمام أحمد صلاة الجماعة على كل رجل صحيح مقيم لا عذر له . وسائر الأئمة جعلوها فرض كفاية أو سنة مؤكدة.
(1/180)
وعلى فرض تسليم صحة حادث رؤيته في مكة فإن الإسلام يفرض علينا أن نبني حكمنا على الناس بقياس حالهم على أحكام الإسلام ومدى تحققهم بالطاعة الواجبة لله ورسوله، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي على الماء، فلا تعجلوا بالحكم بصلاحه، قبل أن تقيسوا أمره بكتاب الله عز وجل :
وقد تمت نعمة الله سبحانه على المسلمين الأول لما تحققوا بكمال الانقياد لأحكام دينهم، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة، ويسوسون الناس ويقودون الدنيا ... ومثل هذا الدجال بإبطال الصلاة ومخالفة القرآن إنما يشيع في أمته مخالفة ناموس السيادة الذي كنا به يومًا من الأيام خير أمة أخرجت للناس، وبمثله تنحط الأمم، وتسقط الفرائض والواجبات، ولن تقدس أمة يسقط فيها الواجب.
وقد كان ابن صياد من هؤلاء الدجالين، وهو دجال كان يعيش في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده عليه السلام، وكان يعترض طريق الرسول، وينفخ بدنه فإذا بدنه يتمدد حتى يسد الطريق ... ولكن ما إن يقترب منه الرسول حتى يتلاشي كل شيء، فما رأي دجالكم المتمشيخ في هذا الذي كذب الرسول وعارضه ؟ أيعتبر تمدد جسمه ولاية معارضة للنبوة ؟.
(1/181)
إن مرجع مثل هذه الحالات الشاذة في الأجسام إلى علم الله سبحانه، ولا دلالة فيها إطلاقًا على رضوان الله تعالى، لأنها قد تطرأ على أعداء الله كما هو معروف من حال ابن صياد، وقد أكرم الله أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وغيرهم من أجلاء الصحابة وكرام أولياء هذه الأمة أن تقوم ولايتهم على الدجل الجثماني، فإذا كان لأحدهم حال من تلك الأحوال فهي حال منفصلة كل الانفصال عن السر القائم بين العبد وربه .. وهناك حالات كثيرة من حالات امتداد الأجسام أو انتقالها المسافات الطويلة، وبعض الناس ينكرها وبعضهم يتوقف في الحكم عليها أي في تعليل سرها، إلا أن أحدًا من علماء المسلمين أو غيرهم لم يذهب يومًا إلى اعتبارها عنوان ولاية الله عز وجل.
أما استخدام الجان في حمل مخدوميهم إلى الأقطار النائية، فذلك أمر اختص به سليمان عليه السلام . إذ دعا ربه: (رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي) (ص: 35) وقد أجابه الله سبحانه، ولا ينبغي لأحد بعد سليمان أن يكون له مثل ذلك، وعباد البقر في الهند يمارسون الصيام والامتناع عن الشهوات، ويقبلون على تعذيب البدن وإضعاف قواه بأساليب موروثة من أعماق القدم، فيصل بعضهم في النهاية إلى أمور بدنية خارقة للعادة، فهل نسمي عبّاد البقر أولياء ؟..
وإننا نحذر الناس من الاغترار بحال هذا الرجل وأمثاله فإنما هم فتنة للناس يستدرجونهم إلى مخالفة الله، ويهونون عليهم ترك أوامره، وهو من أعظم البلاء في الإسلام، وكفى بسيدنا رسول الله وصحابته أولياء أولئك هدى الله فبهداهم اقتده ... والحمد لله رب العالمين.
الحكمة في الاغتسال من الجنابة.
س: تناقشت مع أحد الأصدقاء في وجوب الغسل بعد الجماع، فكانت دهشتي أن يقول لي: إنه لا يفهم حكمة لغسل الجسم كله بعد الاتصال بالزوجة، ولذلك يكتفي هو بغسل الأعضاء التناسلية فقط في مثل هذه الحالة وحاولت أن أقنعه فلم يقتنع.
أرجو توضيح ذلك وشكرًا.
(1/182)
ج: الغسل بعد الجنابة فريضة إسلامية ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى: (وإن كنتم جنبًا فاطهروا) (المائدة: 6)، وقوله (يا يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبًا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا). (النساء: 43).
ومن السنة أحاديث كثيرة غزيرة متفق عليها.
وقد أجمع المسلمون من كل المذاهب وفي كل القرون على أن الغسل فرض بعد الجماع والإنزال، وأصبح هذا الحكم من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة، بحيث يخرج من أنكره عن زمرة المسلمين، ولا يستحق اسم الإسلام، إلا أن يكون حديث عهد بدخول الإسلام، أو ناشئًا ببادية بعيدة عن مصادر المعرفة في أمصار المسلمين.
أما السؤال عن الحكمة من تعميم الجسد كله بالماء في حين أن الذي أصابه القذر جزء صغير منه، فنحن نقدم للجواب بهذا المثال :
إذا وصف الطبيب للمريض دواء يأخذ منه ملعقة قبل كل وجبة، ودواء آخر يأخذ منه ملعقتين بعد الأكل، ودواء ثالثًا يشتمل على حبوب وأقراص يتناول منه عددًا معينًا في مواقيت محددة . فهل من شأن المريض أن يقول للطبيب: لماذا كان هذا قبل الأكل وذاك بعده ؟ ولما أتناول من الحبوب الكبيرة ثلاثًا ومن الصغيرة واحدة ؟.
وهل تتسع مداركه ومعارفه ليشرح له الطبيب الحكمة في ذلك مفصلة ويقفه على أسرار تركيب الدواء وملاءمته لإزالة الداء ؟؟.
هذا بالضبط هو ما نقوله لمن يريد أن يعرف أسرار تفاصيل العبادات - ومنها الطهارة والغسل، فالعبادات - كما قال الإمام الغزالي - أدوية للقلب الإنساني، تشفيه من مرض الغفلة والغرور والنسيان لحق الله تبارك وتعالى . ومن حق الله سبحانه أن يستأثر بسر تركيب هذه الأدوية الروحية، وقد يتفضل فيطلعنا على شيء منها . وحسب المؤمن أن يعلم أنه تعالى لا يصف لنا إلا ما فيه خيرنا وصلاحنا (والله يعلم المفسد من المصلح). (البقرة: 220).
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟). (الملك: 14).
(1/183)
وكم من أمور تَعَبَّدَنا الله بها لم نكن نعرف سرها، ثم تقدمت عجلة الزمن وكشف العلم عما في أمر الله ونهيه من حكم ومنافع.
إن الأصل في العبادات أن تؤدي امتثالاً لأمر الله وشكرًا لنعمته، سواء عرف الإنسان كل الحكمة منها أم لم يعرف فالعبد عبد، والرب رب، للرب أن يأمر وينهى وعلى العبد أن يسمع ويطيع . ولو كان الإنسان لا يطيع الله إلا فيما اقتنع به عقله المحدود لكان في هذه الحالة مطيعًا لعقله لا مطيعًا لربه . وليختر المؤمن لنفسه.
ومع كل ما ذكرنا فإن الاغتسال بعد الجماع لا يخلو من حكمة لمن أنصف وتأمل ونظر نظرة أعمق.
ويعجبني هنا ما قاله الإمام ابن القيم ردًا على من عجب من تفرقة الشارع بين المني والبول فأوجب الغسل من المني دون البول قال :
" هذا من أعظم محاسن الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة، فإن المني يخرج من جميع البدن . ولهذا أسماه الله " سلالة " لأنه يسل من جميع البدن فتأثر البدن بخروجه أعظم من تأثره بخروج البول.
وأيضًا فإن الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبدن والقلب والروح.
فإنها تقوى بالاغتسال، والغسل يخلف على البدن ما تحلل منه بخروج المني وهذا أمر يعرف بالحس.
وأيضًا فإن الجنابة توجب ثقلاً وكسلاً، والغسل يحدث له نشاطًا وخفة ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة: كأنما ألقيت عني حملاً.
وبالجملة فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم، ونظرة صحيحة، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب .. وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، ويخلف عليه ما تحلل منه، وأنه من أنفع شيء للبدن والروح وتركه مضر . ويكفي شهادة الفطرة والعقل بحسنه .. على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة تمنعه حكمة الله ورحمته وإحسانه إلى خلقه " ا . هـ.
(1/184)
أما مشقة الغسل بعد الجماع فهي محتملة، لعدم تكرر الجماع تكرر البول، وكأن هذه المشقة الجزئية جعلت حاجزًا أو لجامًا يحول بين الإنسان وبين الاندفاع وراء الغريزة، والإسراف في الاتصال الجنسي . وضرر ذلك لا شك فيه.
ويلوح لي سر آخر: إن المؤمن لا يعيش لغريزته وشهواته فحسب، ولكنه يعيش لرسالة الله قبل أي شيء آخر، ولله تعالى عليه حق في كل عمل . وفي الجماع قد أدى حق نفسه وحق زوجه بقضاء الشهوة بقي حق الله تعالى وهو ما يؤديه بالاغتسال . على أن من حكمة الله تعالى أنه ربط نظافة الإنسان بأسباب طبيعية لا يمكنه الفرار منها - كخروج شيء من السبيلين في الوضوء، وكالجماع في الغسل - لتكون هذه الأسباب المتكررة سياطًا تسوق الإنسان وإن تراخي وتكاسل - إلى نظافة أطرافه أو نظافة جسده كله.
ونختم هذه الكلمة بما ختم الله به آية الطهارة من سورة المائدة: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون). (المائدة: 6).
الصلاة في الكنيسة.
س: هل تجوز صلاة مسلم في كنيسة، إذا لم يجد مكانًا يصلي فيه غيرها، كما لو كان في بلد أوروبي مثلاً .. أفيدونا ؟.
ج: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، - وذكر في هذه الخمس - فقال: وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل " (في الصحيحين من حديث جابر) ولهذا تعتبر جميع الأرض مسجدًا للمسلم، وموضعًا لسجوده وصلاته، يجوز أن يصلي فيه، وإن كان الأولى أن تبعد عن مثل هذه الأماكن خشية الشبهة . ولكن حيث لم يجد مكانًا إلا هذا المكان وصلى فيه فكل الأرض لله، وكل الأرض مسجد للمسلمين . وقد كاد عمر رضي الله عنه أن يصلي في كنيسة القيامة حينما قيل له: صل . فقال: لا . لا أصلي هنا حتى لا يأتي المسلمون من بعدي ويقولون: هنا صلى عمر ويتخذون منها مسجدًا للمسلمين . فجعل المانع له هو خشية هذا الأمر فقط لا مجرد الكنيسة.
(1/185)
والله أعلم.
القنوت في صلاة الصبح.
س: ما الحكم فيما لو نسي المصلي دعاء القنوت في صلاة الصبح ؟ وماذا عليه ؟.
ج: دعاء القنوت في صلاة الصبح مما اختلف فيه الفقهاء: فمنهم من اعتبره سنة، ومنهم من لم يعتبره كذلك، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الصبح، ولكن بينت الأحاديث أنه حينما قنت كان يدعو على قوم من المشركين لما آذوا المسلمين، وكان يدعو لقوم من المستضعفين من المؤمنين، فهو قنوت موقوت بأسبابه ويسميه الفقهاء " قنوت النوازل " أي حينما تنزل بالمسلمين نازلة وحينما تقع بهم كارثة فمن المسنون والمشروع أن يدعوا في صلواتهم الجهرية، ويتضرعوا إلى الله عز وجل أن يكشف السوء وأن يفرج الكرب وأن يزيح الغمة عنهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العلماء والأئمة كالشافعية يرون سنية القنوت في الصبح على صورة دائمة، وعلى كل حال، فمثل هذه الأمور، من الأمور التي يجوز فيها هذا وهذا، وإذا تركها المسلم فلا شيء عليه.
وقد ورد أن الشافعي حينما ذهب إلى بغداد لم يقنت في الصبح إكرامًا ورعاية لخواطر أصحاب الإمام أبي حنيفة، مما يدل على أن في هذا الأمر من السعة ومن البحبحة، ومن الرخصة ما لا ينبغي التشدد في مثله.
الخلاف في الجهر بالبسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة.
س: أنا إمام مسجد، شافعي المذهب، وهذا يجعلني أجهر بالبسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية . كما أني أدعو بدعاء القنوت بعد القيام من الركعة الثانية في صلاة الصبح، كما هو مذهب الشافعي . ولما كان أكثر الذين يصلون خلفي حنابلة، فإنهم يعترضون على صلاتي بهذه الصورة.
فهل يجوز لي أن أتنازل عن مذهبي من أجل الأكثرية التي تصلي بالمسجد ؟.
أم يجب على المصلين أن يتبعوا مذهبي لأني إمامهم ؟.
إمام مسجد - الدوحة.
(1/186)
ج: رغم أني أرجح مذهب الحنابلة في المسألتين المذكورتين في السؤال، لأدلة لا مجال لذكرها هنا . أرى أن حدة الاختلاف على مثل هذه الأمور الاجتهادية لا تجوز . لأن الخلاف في مثل هذه القضايا يدور بين الجائز والأفضل، لا بين الجائر والممنوع، ولكل رأي فيها دليل ووجهة.
ولقد رووا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الصبح بغير قنوت عندما زار بغداد، بلد الإمام أبي حنيفة وأصحابه، مراعاة لهم . وهو لون من أدب الأكابر حتى مع الموتى، ونظرتهم الواسعة السمحة إلى آراء المخالفين.
أما تعصب كل ذي مذهب لمذهبه، وإنكاره على مخالفيه في مثل هذه المسائل الاجتهادية، فليس هذا من شأن أهل العلم والتحقيق، ولا من أخلاق سلف هذه الأمة . وإنما هو من شأن أهل الجهل والعصبية . ولا غرو إذا أنكره أكابر العلماء وأدانوه وخاصة من الحنابلة.
قال العلامة ابن الجوزي - وهو حنبلي - في كتاب " السر المصون ": " رأيت جماعة من المنتسبين إلى العلم يعملون عمل العوام . فإذا صلى الحنبلي في مسجد شافعي تعصب الشافعية، وإذا صلى الشافعي في مسجد حنبلي وجهر بالبسملة تعصب الحنابلة . وهذه مسألة اجتهادية " والعصبية فيها مجرد أهواء يمنع عنها العلم ".
وقال في شرح غاية المنتهى :
" من أنكر شيئًا من مسائل الاجتهاد، فلجهله بمقام المجتهدين وعدم علمه بأنهم أسهروا أجفانهم، وبذلوا جهدهم ونفائس أوقاتهم في طلب الحق، وهم مأجورون لا محالة أخطأوا أو أصابوا، ومتبعهم ناج، لأن الله شرع لكل منهم ما أداه إليه اجتهاده، وجعله شرعًا مقررًا في نفس الأمر . كما جعل الحل في الميتة للمضطر، وتحريمها على المختار، حكمين ثابتين في نفس الأمر للفريقين بالإجماع، فأي شيء غلب على ظن المجتهد، فهو حكم الله في حقه وحق من قلده ".
ونقل عن ابن تيمية في الفتاوى المصرية قوله :
(1/187)
مراعاة الائتلاف هي الحق، فيجهر بالبسملة أحيانًا لمصلحة راجحة، ويسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت من خشية تنفيرهم.
نص الأئمة كأحمد على ذلك في البسملة ووصل الوتر وغيره مما فيه العدول من الأفضل إلى الجائز، مراعاة للائتلاف أو لتعريف السنة، أو أمثال ذلك، والله أعلم.
ويشير بترك بناء البيت إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه لعائشة " لولا قومك حديثو عهد بجاهلية، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم ". (رواه البخاري).
وهذا العلامة ابن القيم يتحدث في " زاد المعاد " عن القنوت في صلاة الصبح، بين من أنكره مطلقًا - في النوازل وغيرها - واعتبره بدعة، وبين من استحبه مطلقًا في النوازل وغيرها، ويرجح أن هديه صلى الله عليه وسلم هو القنوت عند النوازل، كما دلت عليه الأحاديث، وأن هذا ما أخذ به فقهاء الحديث، فهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه سنة . مع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفًا للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ...إلخ، بل من قنت فقد أحسن ومن تركه فقد أحسن.
قال: وركن الاعتدال (أي من الركوع) محل للدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه . ودعاء القنوت ثناء ودعاء فهو أولي بهذا المحل . وإذا جهر به الإمام أحيانًا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك.
فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة . ومن هذا أيضًا جهر الإمام بالتأمين.
" وهذا من الاختلاف المباح، الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه . وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الآذان والإقامة، وأنواع النسك (يعني الحج) من الإفراد والقران والتمتع.
(1/188)
" وليس مقصدنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم فإنه قبلة القصد، وإليه التوجه في هذا الكتاب، وعليه مقدار التفتيش والطلب . وهذا شيء والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء . فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكمل الهدي وأفضله . فإذا قلنا: لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ولا الجهر بالبسملة، لم يدل ذلك على كراهية غيره، ولا أنه بدعة ولكن هديه أكمل الهدي وأفضله ". (زاد المعاد ج 1ص 144) ا. هـ.
وأكثر من ذلك أن للمأموم أن يصلي وراء إمامه، وإن رآه يفعل ما ينقض الوضوء، أو يبطل الصلاة في نظره هو - أي المأموم - مادام هذا سائغًا في مذهب الإمام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين ".
" وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا، كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثلما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرًا ولا جهرًا ".
" وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك :لا يتوضأ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يُعد ".
" وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف. فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، أصلي خلفه ؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك ؟ قال: " وفي هذه المسألة صورتان ":
إحداهما: ألا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل صلاته، فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف والأئمة الأربعة وغيرهم، وليس في هذا خلاف متقدم.
(1/189)
الثانية: تيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده، مثل أن يمس ذكره، أو النساء لشهوة، أو يحتجم أو يفصد، أو يتقيأ، ثم يصلي بلا وضوء - فهذه فيها نزاع مشهور . وصحة صلاة المأموم هو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك، وهو قول آخر في مذهب الشافعي وأبي حنيفة . وأكثر نصوص أحمد على هذا.
وهذا هو الصواب. (" الفواكه العديدة في المسائل المفيدة " في الفقه الحنبلي ج 2 ص 181) ا .هـ.
بعد هذا البيان نستطيع أن نقول للإمام صاحب السؤال: إنك لو تنازلت عن مذهبك في الجهر بالبسملة وقنوت الفجر من أجل الأكثرية التي تصلي خلفك من الحنابلة فلا جناح عليك.
وكذلك نقول لجماعة المأمومين خلفه من الحنابلة: إنكم إذا صليتم خلف إمام يخالفكم في هاتين المسألتين أو غيرهما، فلا حرج عليكم وقد نقلت عن أئمة الحنابلة خاصة ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم، ما يريح الضمائر ويطمئن الخواطر . والحمد لله رب العالمين.
صلاة الخوف.
س: أرجو التكرم بإرسال ضوء على صلاة الخوف وكيفيتها.
ج: صلاة الخوف، ذكرت في القرآن الكريم في موضعين، حيث قال الله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون). (البقرة: 238، 239).
(1/190)
المحافظة على الصلوات بأركانها، وركوعها، وسجودها، وقبلتها، وشروطها كلها، هذا أمر واجب، إلا في حالة الخوف . وفي حالة الخوف إذا اشتد، فإذا جاء الخوف كحالة الحرب، حيث يواجه المسلمون العدو، وهم في الصفوف، والحرب مستعرة الأوار، والسيوف تنطق حيث الألسنة تصمت، في هذه الحال، هل تسقط الصلاة عن المسلم المقاتل ؟ لا .. لا تسقط الصلاة وإنما يصلي حيث استطاع، راجلاً أو راكبًا، ماشيًا على رجليه، أو راكبًا فرسه، أو دبابته، أو مصفحته، (فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا) أي صلوا كيف استطعتم، لو كنتم تقاتلون بالسيوف، صلوا بالإيماء، إشارة بالرأس، أو بالحواجب وأدوا أعمال الصلاة وأقوالها باللسان إن استطعتم، أو استحضروها في قلوبكم ولا تتركوا الصلاة ...
ممكن أن تجمع بعض الصلوات، كالظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، تقديمًا أو تأخيرًا ولكن .. لا يؤجل أكثر من صلاتين، ولا يجمع بين وقتين غير الظهر والعصر، والمغرب والعشاء فهذه صلاة الخوف في حال شدة الخوف.
(1/191)
وهناك صلاة أخرى إذا كان الخوف أقل من ذلك، يصلون جماعة خلف إمام واحد حرصًا على صلاة الجماعة ووحدتها وأهميتها، وهذا ما جاء في سورة النساء حيث قال الله تعالى مخاطبًا رسوله (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا، فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا) (النساء: 102) جاء القرآن الكريم بهذه الصورة من صور صلاة الخوف: أن يكون جماعة مع الإمام يصلون معه الجماعة، حرصًا على الجماعة، وأهميتها، وجماعة يواجهون العدو، فإذا صلى الإمام نصف الصلاة انقلب أولئك فذهب مكان هؤلاء، وجاء الآخرون ليصلوا مع الإمام ركعة، ويكملوا بعد ذلك، ويكمل الآخرون في موضعهم إلى صور كثيرة وردت في صلاة الخوف . المهم أن صلاة الخوف في هذه الصورة هي أن يبقى المصلون حريصين على صلاة الجماعة مع الإمام، ولا يتركوها، حتى مع حالة الحرب، وحالة الخوف، فالصلاة ليست شيئًا معوقًا ولا معطلاً، وإنما هي شحنة روحية للمحارب تمده بروح القوة، وبقوة الروح، ومدد لعزيمته، يستطيع بها أن يجابه الأعداء، وأن يقف فيثبت كالليث، ويرسخ كالجبل الأشم، فلا يتزعزع، ولا يتزلزل.
هذه هي صلاة الخوف، ومنها نأخذ درسين أو عبرتين بالغتين :
العبرة الأولى: هي الحرص على الصلاة في أي موضع وعلى أي حال.
(1/192)
والعبرة الثانية: هي الحرص على صلاة الجماعة ووحدتها .. فإن الإسلام .. وإن القرآن قد أباح التنقل وقسمة الصلاة بين طائفتين، وذهاب هؤلاء ومجيء أولئك، وأخذ الأسلحة ووضع الأسلحة، إلى غير ذلك من التفصيلات، كل هذا لتبقى صلاة الجماعة وراء إمام واحد، ويبقى هذا الشعار الإسلامي " الجماعة " (واركعوا مع الراكعين).
هاتان هما العبرتان اللتان نستفيدهما من صلاة الخوف، كما شرعها الإسلام.
الأذان قبل وقت الفجر.
س: هل يجوز الأذان قبل دخول الفجر الصادق بساعة أو بنصف الساعة، وقول المؤذن " الصلاة خير من النوم " ؟ وهل تجزئ سنة الفجر في ذلك الوقت وتجزئ صلاة الفجر المفروضة أيضًا ؟.
ج: الأصل في الأذان أنه جعل للإعلام بدخول الوقت، فلابد أن يدخل الوقت ثم يؤذن المؤذن، فلا يجزيء الأذان قبل الوقت، لأنه يخل بالمقصود منه، والإعلام بدخوله، إلا في صلاة الفجر خاصة، فإنه يجزيء الأذان لها قبل دخول وقتها كما كان يفعل بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " أباح لهم بعد أذان بلال أن يأكلوا ويشربوا ويتسحروا للصيام حتى يؤذن ابن أم مكتوم وكان هو يؤذن عند دخول الوقت، وهذا حديث متفق عليه . ولأن وقت الفجر بالذات وقت النوم، والناس رقود، يحتاجون إلى التأذين قبل الوقت، ليتسحر الصائم ويتنبه النائم، ويتأهب للصلاة، بخلاف سائر الصلوات، فالناس أيقاظ متنبهون . ولا يؤذن قبل الوقت إلا مؤذن يتخذ ذلك عادة، ويعرف أهل الحي أو أهل القرية صوته، فلا يغر الناس، ولا يضللهم، ويكون معه مؤذن آخر، يؤذن في الوقت، كما كان يفعل بلال وابن أم مكتوم، فالناس إذا سمعوا بلالاً عرفوا أنه يؤذن قبل الوقت، ليتنبه النائم، ويتسحر الصائم، وإذا سمعوا ابن أم مكتوم عرفوا أنه قد دخل وقت الفجر فحلّ عند ذلك صلاة السنة ثم صلاة الفريضة، وهكذا ...
(1/193)
كما أن السنة في الأذان الأول أن يخلو من فقرة (الصلاة خير من النوم) وهذا تمييز مهم للأذان الأول عن الثاني، فالأذان بهذه الصيغة مشروع في الفجر، إذا كان هناك من يعرف الناس صوته، وكان هناك مؤذن آخر يؤذن لصلاة الفجر.
بهذه القيود أجاز العلماء _لأذان الأول قبل دخول وقت الفجر.
والله أعلم.
الوضوء وعلى الأصبع مطاط.
س: هل يجوز وضوء من يضع على أصبعه المصابة لفافة من المطاط .. وليس ينزعها عند الوضوء خشية أن يزيد المرض ؟.
ج: هذا المطاط، إذا كان قد وضع لغرض طبي، فهو ما يعرف في الشرع باسم " الجبيرة " وهي اللفافة التي توضع على الجرح أو على الكسر، فيجوز في هذه الحالة لواضعها أن يتوضأ ويمسح على الجبيرة . ويكيفه هذا المسح وهناك اختلاف بين الأئمة، بعضهم يشترط أن يكون وضع الجبيرة على طهارة وبعضهم لا يشترط ذلك، وبعضهم يوجب عليه أن يتيمم وبعضهم لا يوجب ذلك، ورأى أن التيسير يقتضي ألا نشترط أن يكون العضو على طهاره_' حينما وضعت عليه الجبيرة، ويكفي أن تمسح عليه، والله بالعباد رءوف رحيم.
الحكمة في صلاة الكسوف والخسوف.
كان الاعتقاد - قديمًا - أن كسوف الشمس وخسوف القمر إنما يحدثان من غضب الله على الناس، بشؤم كفرهم ومعاصيهم، وقد ثبت اليوم بسبب تقدم العلوم الكونية أن الكسوف والخسوف أمر عادي يحدث لأسباب طبيعية معروفة يدرسها التلاميذ في مدارسهم . فهو ظاهرة طبيعية كالمد والجزر وما شابه ذلك.
ولهذا نسأل عن الحكمة في الصلاة التي شرعها الإسلام عند الكسوف والخسوف، فإن الملاحدة أعداء الدين يستغلون ذلك للطعن في الإسلام، وأنه بني هذه الصلاة على الخرافات القديمة التي كانت شائعة بين الناس بدعوى أن الصلاة لرفع غضب السماء عن أهل الأرض.
هذا مع أن الكسوف معروف عند علماء الفلك قبل أن يحدث، متى يحدث ؟ وأين يحدث ؟ وكم يمكث ؟ ...الخ، فلا يتصور حينئذ أن ترفعه صلاة أو دعاء.
(1/194)
أرجو بيان ذلك مكتوبًا لنشره وإذاعته، إقناعًا للمتشككين . وإفحامًا للمشككين.
ع.س. المجمّعة - السعودية.
ج: لم يجيء في القرآن الكريم ذكر لصلاة الكسوف والخسوف . وإنما وردت بها السنة المطهرة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله . وذلك في السنة العاشرة للهجرة حين كسفت الشمس فصلى بأصحابه وأطال الصلاة حتى انجلت الشمس.
ولم يرد فيما اتفقت عليه الروايات الصحيحة أن هذا الكسوف كان نتيجة لغضب من الله على الناس . كيف وقد حدث ذلك بعد أن جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وانتشر نور الإسلام في كل ناحية من جزيرة العرب، فلو كان الكسوف يحدث من غضب الله لحدث ذلك في العهد المكي، حين كان الرسول وأصحابه يقاسون أشد ألوان العنت والاضطهاد والإيذاء، وحين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
ولقد كان الناس في عصر النبوة يعتقدون أن كسوف الشمس والقمر إنما هو مشاركة من الطبيعة لموت عظيم من عظماء أهل الأرض . وكان من غرائب المصادفات أن كسوف الشمس الذي حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم وفاة إبراهيم ابنه من مارية القبطية، وقال الناس يؤمئذ :
إن الشمس قد انكسفت لموته أي حزنًا عليه، وإكرامًا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسكت على هذا القول الزائف والاعتقاد الباطل، وإن كان فيه إضافة آية أو معجزة جديدة إلى آياته ومعجزاته الكثيرة، لأن الله أغناه بالحق عن الانتصار بالباطل.
روى الإمام أحمد والطبراني من حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فيهم يوم الكسوف فقال :
(1/195)
" أما بعد: فإن رجالاً يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم من مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، إنهم قد كذبوا . ولكنها آيات من آيات الله عز وجل يعتبر بها عبادة..". (مجمع الزوائد ج 2 ص 210 رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي كما في المستدرك وتلخيصه ج 1 ص 329، 231).
وروى البخاري عن المغيرة بن شعبة قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي ".
وفي بعض الروايات عند البخاري عن أبي بكرة مرفوعًا بعد قوله: لا ينكسفان لموت أحد قال: ولكن الله يخوف بهما عباده "، وفي ثبوت هذه الزيادة كلام أشار إليه الإمام البخاري نفسه. (الزيادة المذكورة من رواية حماد بن زيد عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة، ولكن عددًا من الرواة الثقات رووا الحديث عن يونس، فلم يذكروها، منهم عبد الوارث وشعبة، وخالد بن عبد الله، وحماد بن سلمة، كما ذكر ذلك البخاري . وكثير من أئمة الحديث يرفض مثل هذه الرواية التي يخالف فيها الراوي من هم أوثق منه أو أكثر عددًا، وتوصف هذه الزيادة حينئذ بالشذوذ، فتخرج عن حد الحديث الصحيح).
وهنا يلتقط المشككون هذه الكلمة وأمثالها " يخوف الله بهما عباده " أو " ادعوا الله وصلوا حتى ينجلي " ليقولوا: مم التخويف ؟ ولماذا الدعاء ؟ لماذا الصلاة ؟ والكسوف أمر طبيعي ؟.
(1/196)
نعم هو أمر طبيعي لا يتقدم ولا يتأخر عن موعده ومكانه وزمانه، وفقًا لسنة الله تعالى ولكن الأمور الطبيعية ليست خارجة عن دائرة الإرادة الإلهية . والقدرة الإلهية، فكل ما في الكون يحدث، بمشيئته تعالى وقدرته، ومثل هذا الذي يحدث لهذه الأجرام العظيمة جدير أن ينبه القلوب على عظمة سلطان الله تعالى وشمول إرادته ونفوذ قدرته، وبالغ حكمته، وجميل تدبيره، فتتجه إليه القلوب بالتعظيم، والألسنة بالدعاء، والأكف بالضراعة، والجباه بالسجود.
ولقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية شتى ينبغي للمسلم أن يتلوها بلسانه، ويستحضرها بقلبه، عند رؤية ظواهر طبيعية مختلفة، منها :
( أ ) عندما يصبح الصباح أو يمسي المساء :
أخرج الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه يقول: " إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا .. الحديث " وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى مسلم عن ابن مسعود قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: " أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر ".
وإذا أصبح قال ذلك أيضًا: " أصبحنا وأصبح الملك لله " الحديث.
( ب ) عند هبوب الريح وظهور السحاب :
روى مسلم عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ".
وعنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئًا (أي سحابة) في أفق السماء ترك العمل، وإن كان في صلاة، ثم يقول :
(1/197)
" اللهم إني أعوذ بك من شرها " . فإن مطر قال: " اللهم صيبًا هنيئًا " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأبو عوانة في صحيحه بإسناد صحيح على شرط مسلم، كما في تخريج الكلم الطيب للألباني.
( ج ) عند رؤية الهلال :
عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال :
" الله أكبر، اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله " أخرجه الدارمي وأخرجه الترمذي أخصر منه من حديث طلحة، وحسنه وصححه ابن حبان، وهو صحيح بشواهده، كما قال الألباني.
وهناك أدعية وأذكار أخرى كثيرة تقال في مناسبات شتى: عند النوم، وعند اليقظة، وعند الأكل والشرب، وعند الشبع والري، وعند لبس الثوب، وركوب الدابة، وعند السفر والعودة منه، وغير ذلك مما ألفت فيه كتب كاملة. (مثل " عمل اليوم والليلة " للنسائي، وابن السني، و" الأذكار "، " للنووي " و" الكلم الطيب " لابن تيمية، و" الوابل الصيب " لابن القيم، و" تحفة الذاكرين " للشوكاني وغيرها).
والمقصود بهذه الأذكار والأدعية أن يكون الإنسان موصول القلب بالله دائمًا وأن يقابل كل حدث جديد، بقلب متفتح، وإحساس مرهف، وشعور حي يقظ، حتى الأحداث التي تتكرر كل يوم كالإصباح والإمساء، بل تتجدد في اليوم أكثر من مرة كالأكل والشرب.
فالمؤمن يرى الأشياء والحوادث بعين غير أعين الناس.
إن الناس يرونها بأعين رءوسهم فحسب، فإذا تكررت أمامهم مرات ومرات ألفوها، أما المؤمن فيراها بعين قلبه وبصيرته، فيرى وراءها يد الله التي تبدع وتتقن، وعين الله التي ترعى وتحفظ، فيسبح ويحمد، ويهلل ويكبر، ويدعو ويتضرع، كما روى البخاري في " الأدب المفرد ".
عن عبد الله بن الزبير: أنه كان إذا سمع الرعد، ترك الحديث، وقال: " سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ".
(1/198)
وإذا كان هذا شأن المؤمنين في الأمور اليومية العادية المألوفة، فما بالك بحدث كبير لا يتكرر إلا كل عدد من السنين، مثل كسوف الشمس أو خسوف القمر ؟.
إن المؤمن لا يمر عليه مثل هذا الأمر، بل هذه الآية من آيات الله وهو لاهٍ غافل، كسائر اللاهين الغافلين من البشر . وإذا كان الدعاء والذكر يكفي فيما يتكرر من الأحداث الطبيعية كل يوم أو كل شهر، فهذا في حاجة إلى شيء أكثر من الدعاء والذكر وهو الصلاة، ثم إن أصحاب القلوب الحية تغلب عليهم الخشية من الله، كلما رأوا مظاهر قدرته في خلقه فهم لا يأمنون أن يكون وراء هذا الحادث العادي شيء آخر يعلمه الله ويجهلونه ولا حجر على إرادته وقدرته . فهو سبحانه إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون.
يقول الإمام ابن دقيق العيد: " ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: (يخوف الله بهما عباده) وليس بشيء (يعني هذا الاعتقاد) لأن لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد . وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجرى عليها العادة إلا أن يشاء الله خرقها " . ذكره الحافظ في الفتح.
على أن في ظاهر الكسوف أمرًا يتنبه له المؤمن ويلتفت إليه، إذا كان غيره لا يلتفت إليه، وهو التذكير بقيام الساعة، وانتهاء هذا العالم، فإن مما ثبت بطريق الوحي اليقيني: أن هذا الكون سيأتي عليه يوم ينفرط فيه عقده، وينتثر نظامه، فإذا سماؤه قد انفطرت، وكواكبه قد انتثرت، وشمسه قد كورت، وجباله قد سيرت، وأرضه قد زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها، وآذن ذلك كله بتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبروز الخلق لله الواحد القهار.
(1/199)
إن الشمس والقمر ليسا أبدين ككل شيء في هذا العالم، إنهما يجريان كما قال الله خالقهما، إلى أجل مسمى، نعم مسمى معلوم عند الله، خفي مجهول عند الناس، ولكن المؤمن يوقن به ولا يغفل عنه، فإذا شاهد ظاهرة كالكسوف والخسوف، انتقل قلبه من اليوم إلى الغد، ومن الحاضر إلى المستقبل، وخصوصًا إذا تذكر قول الله تعالى: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) (النحل: 77) ولعل هذا سر ما جاء في رواية بعض الصحابة في حديث الكسوف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فزعًا يخشى أن تكون الساعة - مع أن للساعة مقدمات وعلامات وأشراطًا كثيرة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ولم تقع بعد، ولهذا استشكل بعض العلماء هذه الرواية، ولكن يمكن حملها على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تعليمًا لأمته وإرشادًا لها، لتكون على ذكر من أمر الساعة على كل حال، ولا سيما إذا تأخر الزمان، وظهرت معظم الأشراط والأمارات.
وقد حدث الكسوف في عهد عثمان، فصلى بالناس ثم انصرف فدخل داره . وجلس عبد الله بن مسعود إلى حجرة عائشة، وجلس إليه بعض الصحابة فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر . فإذا رأيتموه قد أصابهما، فافزعوا إلى الصلاة فإنها إن كانت التي تحذرون (يعني الساعة) كانت وأنتم على غير غفلة، وإن لم تكن، كنتم قد أصبتم خيرًا واكتسبتموه. (رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني ورجاله موثوقون كما في مجمع الزوائد (ج 2: 206 - 207) وقال الشيخ أحمد شاكر في تخريج المسند ج 6 رقم 4387: إسناده صحيح).
(1/200)
وبهذا يتضح لنا أن ما شرعه الإسلام من صلاة ودعاء وذكر لله عند انكساف الشمس والقمر لا يعني بالضرورة أن الكسوف نتيجة لغضب من الله تعالى، وأن الصلاة لرفع هذا الغضب وإن فهم ذلك من كلام بعض العلماء ممن فسر هذه الظاهرة الكونية، حسبما انتهى إليها علمه في زمنه، ولكن أفهام العلماء - وخصوصًا في مثل هذه الأمور - ليست حجة على الدين، فالدين إنما يؤخذ من كتاب الله، وما بينه من سنة نبيه، وما عدا ذلك فكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك.
وفي مقابل هؤلاء الذين قصر باعهم عن الإلمام بالعلوم الكونية والرياضية نجد إمامًا مثل حجة الإسلام الغزالي يخطيء هؤلاء القاصرين ويتكلم كلامًا في غاية الجودة والتحقيق، وذلك في كتابه " المنقذ من الضلال " حين عرض للفلاسفة وأنواع علومهم، ومنه العلوم الرياضية. (كانت العلوم الرياضية قديمًا شعبة من الفلسفة، وجزءًا لا يتجزأ من الدراسة الفلسفية، وكذلك الطبيعيات وغيرها ولم تستقل هذه العلوم وتأخذ طريقها المستقل إلا في العصور الحديثة وما يتولد عنها من آثار في الأنفس والأفكار).
ومما قاله :
" الآفة الثانية نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم (يعني الفلاسفة) . فأنكر جميع علومهم، وادعي جهلهم فيها . حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه، لكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حبًا، وللإسلام بغضًا !.
" ولقد عظمت جناية من ظن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية.
(1/201)
وقوله عليه السلام: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة " . ليس في هذا إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما، أو مقابلتهما على وجه مخصوص.
أما قوله عليه السلام: " لكن الله إذا تجلى لشيء خضع له " فلا توجد هذه الزيادة في الصحاح أصلاً. (المنقذ من الضلال للغزالي - مع أبحاث في التصوف لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود ص 140، 141 " ط سابعة).
ولو جاز لنا الاستدلال بما فيه ضعف من الأحاديث، لذكرنا هنا الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير عن سمرة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد، ولا لشيء تحدثونه، ولكن ذلكم من آيات الله ... " والحديث فيه راوٍ ضعيف كما قال البيهقي ولهذا لم يعتمد عليه.
على أن مثل هذا الحديث وإن كان ضعيفًا، يمثل التفكير السائد لدى المسلمين في العصور الأولى، ولهذا رووه وخرّجوه وسجلوه في روايتهم.
والمهم أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يدل على أن الكسوف يحدث لغير السبب الطبيعي الذي أجرى الله سننه بوقوعه عنده.
وبالله التوفيق.
الجمع بين الصلاتين.
س: هل يجوز لي الجمع بين صلاتي الظهر والعصر من أجل حضور احتفال في مناسبة من المناسبات التي تمتد من الظهر إلى المغرب ؟.
ج: أجاز فقهاء الحنابلة للمسلم وللمسلمة الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء في بعض الأحيان لعذر من الأعذار . وهذا تيسير كبير، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غير سفر ولا مطر، فسئل في ذلك ابن عباس فقيل له: ما أراد بذلك؟ فقال: أراد ألا يحرج أمته .. والحديث في صحيح مسلم.
(1/202)
فإذا كان هناك حرج في بعض الأحيان من صلاة كل فرض في وقته، فيمكن الجمع، على ألا يتخذ الإنسان ذلك ديدنًا وعادة، كل يومين أو ثلاثة .. وكلما أراد الخروج إلى مناسبة من المناسبات الكثيرة المتقاربة في الزمن.
إنما جواز ذلك في حالات الندرة، وعلى قلة، لرفع الحرج والمشقة التي يواجهها الإنسان.
فمثلا، شرطي المرور إذا كانت نوبته قبل المغرب إلى ما بعد العشاء، فله أن يجمع المغرب مع العشاء جمع تقديم أو تأخير، على حسب استطاعته.
أو طبيب يجري عملية لمريض، ولا يستطيع تركها، يمكنه في هذه الحالة أن يجمع جمع تقديم أو تأخير .. وذلك مما شرع تيسيرًا من الإسلام لأهله، ورفعًا للحرج عنهم.
أما الذهاب إلى الاحتفال بمناسبة من المناسبات، فلا أرى ضرورة أو عذرًا للجمع، ما دام الإنسان يجد فرصة هناك للصلاة، وينبغي ألا يستحي بإقامته للصلاة سواء كان رجلاً أو امرأة، لأن هذا الحياء غير جائز فيما يتعلق بالصلاة وأدائها في أي مكان، بل الواجب فيمن يقيم الصلاة أن يجعل من نفسه قدوة صالحة للآخرين حتى يتعالم الناس بالصلاة، لأنها من شعائر الله التي يجب أن تظهر، وأن يجاهر المسلمون بها ويعظموها (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). (الحج: 32).
وإن مما يعاب على كثير من الأحفال الرسمية التي تقام في كثير من البلاد الإسلامية أنها تبتلع أوقات الصلاة - وبخاصة المغرب - دون أن تبالي بحق الله تعالى، وبضمائر المؤمنين الحريصين على أداء الصلوات في مواقيتها.
ولو أن المحافظين على الصلاة الذين يحضرون مثل هذه الأحفال، قاموا إلى الصلاة عند حضور وقتها قومة رجل واحد لحسب المسئولون عن تلك الأحفال لوقت الصلاة ألف حساب وحساب.
وعلى كل حال، من وجد حرجًا أو مشقة في صلاة كل صلاة في وقتها فله أن يجمع كما ذكرنا . والله الموفق للسداد.
صلاة ركعتين قبل صلاة المغرب.
(1/203)
س: أرى بعض الناس يصلون ركعتين بعد أذان المغرب وقبل إقامة الصلاة، فما حكم هاتين الركعتين، هل هما تحية للمسجد، أم سنة للمغرب ؟.
ج: ليس للمغرب سنة قبلية راتبة أي مؤكدة.
فإن السنن المؤكدة - كما روى ابن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. (متفق عليه).
فهذه هي الركعات العشر الراتبة، التي كان يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهي السنن المؤكدة، ومعها أيضًا الوتر . وفي بعض الأحاديث جعلت الركعتان قبل الظهر أربعًا.
هذه السنن ينبغي أن يحافظ عليها المسلم، وألا يهملها ؛ لأنها تعتبر تكملة للفرض، وتعويضًا عما قد يحدث فيه من خلل وتقصير، وجبرًا له يوم الحساب والجزاء عند الله تعالى.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله " بين كل أذانين صلاة ". (رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن عبد الله بن مغفل) يقصد بالأذانين: الأذان والإقامة.
فصلاة ركعتين إذن بعد الأذان وقبل الإقامة مشروعة ومستحبة فإذا صلاها بعض الناس في وقت المغرب فلا بأس بذلك . كما أن من دخل المسجد له أن يحييه بركعتين.
ولكن إذا كان من عادة الإمام أن يصلي بعد الأذان مباشرة، ولا يترك فسحة لصلاة ركعتين، فتكون صلاة الفرض- بهذه الحالة - كافية عن تحية المسجد.
إن تحية المسجد ليست مطلوبة من المسلم إلا إذا دخل المسجد ووجد فسحة من الوقت قبل الإقامة، فبدل أن يجلس يصلي تحية المسجد . أما إذا دخل ووجد الإمام يصلي، فليدخل معه في الصلاة، والفرض ينوب مناب تحية المسجد في هذه الحالة.
هاتان الركعتان تعتبران بالنسبة لمن يدخل المسجد تحية للمسجد أما بالنسبة للجالس فيه، ثم يقوم ليصليهما، فتعتبران نافلة له مستحبة.
(1/204)
والإمام، ينبغي ألا يلزم نفسه بصلاة هاتين الركعتين دائمًا، بل عليه أن يصليهما في بعض الأيام ويدعهما في البعض الآخر، لأنه ليس مشروعًا أن يواظب المرء على المستحبات حتى لا يظنها الناس مؤكدات، خاصة إذا كان إمامًا من أهل العلم الذين يقتدي بهم الناس.
وقد أيد المحققون من العلماء أن يترك الإمام هذه المستحبات أحيانًا خشية أن يعتقد الناس وجوبها.
بل قالوا بجواز ترك السنن المؤكدة أحيانًا لنفس الغرض، كما استحب الإمام مالك بالنسبة لصلاة الصبح من يوم الجمعة، أن يترك الإمام قراءة سورة (السجدة) - وهي من السنن الواردة - بعض الجمع حتى لا يعتقد الناس وجوب قراءتها في مثل هذا الوقت من كل جمعة.
وقد لاحظت بنفسي في بعض البلدان أن الناس يظنون السجدة في صباح الجمعة واجبة، ويقولون: إن صبح يوم الجمعة فيه ركعة بثلاث سجدات، واعتبروا أنه لابد من أداء هذه السجدة في صلاة الصبح من يوم الجمعة، وقد أنكروا على إمام اعتقد خلاف ذلك واعتبروا أن الصلاة غير صحيحة بدون تلك السجدة.
ولهذا استحب الإمام مالك وغيره أن يترك الإمام المقتدي به بعض المستحبات في بعض الأحيان حتى يعلم الناس الحكم الصحيح وكذلك بعض الرواتب حتى يعلم الناس أنها غير واجبة.
وإذا كان جمهور المصلين لا يريد أن يصلي هذه الصلوات، كالركعتين بعد أذان المغرب وقبل الإقامة مثلاً، لأنهم عاجلون مشغولون، فعلى الإمام ألا يخالفهم، وإذا أرادوا أن يصلوهما فليوافقهم، لأن المفروض أن الأقل يتبع الأكثر . ولا ينبغي أن يجعل هذا الأمر مدعاة للخلاف في المسجد ما بين مؤيد ومعارض، فليست المساجد لمثل هذه الخلافات، وإنما جعلت الجماعة لتتآلف القلوب، وتتعارف الوجوه، وتتصافح الأيدي، ويتحاب الناس، ويتعاونوا على البر والتقوى، فهذا من الأهداف الكبرى التي شرعت لها صلاة الجماعة في الإسلام.
الاقتصار على صلاة الفرائض.
(1/205)
س: هل يجوز لي أن أقتصر على الصلوات المفروضة فقط دون أن أصلي معها السنن ؟.
ج: الصلوات الخمس مفروضة ومكتوبة على كل مسلم ومسلمة.
ولكن هناك سنن راتبة أي مؤكدة كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليها، وشرع للمسلمين أيضًا أن يواظبوا عليها.
والمسلم ينبغي أن يحرص على هذه السنن لعدة أسباب :
( أ ) منها: أنها تقربه إلى الله عز وجل، وتزيد رصيده عند الله تعالى . وإذا كان كل إنسان يحاول أن يزيد رصيده في " البنك " من المال والنقود، فلماذا لا يحرص كل إنسان أيضًا على أن يزيد رصيده من الحسنات عند الله تعالى .. وهو الباقي الخالد الذي ينفعه (يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم). (الشعراء: 88، 89).
وقد جاء في الحديث القدسي " ما تقرب عبدي إليّ بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ... الحديث " رواه البخاري.
( ب ) ومن ناحية أخرى فإن الإعراض عن هذه السنن فيه شبه إعراض عن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب: 21) ومن أحب رسول الله اتبع سنته وأحياها . وما دام النبي عليه الصلاة والسلام قد واظب على هذه السنن، فمن حقه أن نحييها وأن نتبعها وألا نميت هذه السنن.
( ج ) وهناك أمر آخر، وهو أن هذه السنن هي تعويض لما عساه أن يحدث في أداء الفرائض من نقص ومن قصور.
من ذا يزعم لنفسه أنه يصلي الفرض صلاة تامة كاملة بخشوعها وبآدابها كلها ؟ لعل ذهنه يسرح، ولعل قلبه ينشغل عن الخشوع، ولعل بدنه لا يسكن في صلاته، .. ولعله لا يؤدي للأركان حقها من الطمأنينة ..
فإذا حوسب الإنسان يوم القيامة - وأول ما يحاسب عليه الصلاة - نظر في صلاته فإذا كان قد أدى الفرض أداء تامًا فبها، وإلا بحث عن السنن والنوافل ..
(1/206)
فهناك يستكمل هذا النقص من النوافل ... فهي إذن عملية جبر وتعويض، لما يحدث في الفرائض من نقص أو خلل، أو تقصير.
على أن المسلم الذي يقتصر على أداء الفرائض، لا إثم عليه ولا عقاب، إذا وفَّاها حقها، ولم ينقص من أركانها وواجباتها شيئًا.
وقد ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حلف من الأعراب أنه لا يزيد عن الفرائض شيئًا ولا ينقص: " أفلح إن صدق "، أو: " دخل الجنة إن صدق " وفي موضع آخر قال: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ".
وبالله التوفيق.
ترك الخشوع في الصلاة.
س: ما حكم الخشوع في الصلاة ؟ وهل يبطل الصلاة عدم الخشوع فيها ؟.
ج: عدم الخشوع في الصلاة يحتمل عدة معان :
إذا كان عدم الخشوع بمعنى أن يأتي المصلي أثناء صلاته بحركات كثيرة كأنه ليس في الصلاة، فيحك بدنه، وينظر في ساعته، ويعبئها، ويلتفت، ويعدل من عمامته أو عقاله .. وما إلى ذلك، كالذي نراه عند بعض الناس، هذا النوع الكثير من الحركات يبطل الصلاة ... لأنه عبث، لا يتصور من مسلم مقبل على ربه بقلبه وفكره، ويحترم الصلاة ويشعر ويعي بقيمتها.
أما إذا كان عدم الخشوع بمعنى أنه يتحرك أحيانًا حركات قليلة، أو يسرح فكره أو لا يستحضر قلبه في الصلاة، فهذا وإن لم يبطل الصلاة ولكنه يذهب روح الصلاة، فروح الصلاة في الحقيقة هو الخشوع . وقد قال الله تعالى: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون). (المؤمنون: 1، 2).
والخشوع خشوعان :
خشوع قلب، وخشوع جوارح.
(1/207)
فخشوع القلب أن يستحضر رقابة الله عز وجل ويستحضر عظمته، ويتدبر معاني القرآن، ويتدبر ما يتلوه من آيات أو ما يسمعه، وما يذكره من أذكار: معنى التكبير، معنى التسبيح، معنى سمع الله لمن حمده .. وهكذا .. يستحضر معاني هذه الأذكار ويتدبر ما يتلو أو يسمع من آيات، عندئذ يشعر فعلاً أنه يقف بين يدي الله عز وجل، وأن الصلاة يجب أن تنزه عن اللعب والعبث . وقد سئل أحد السلف - وهو حاتم الأصم - كيف يؤدي صلاته فقال :
" أكبر تكبيرًا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعًا بتخشع، وأسجد سجودًا بتذلل، وأعتبر الجنة عن يميني، والنار عن شمالي، والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت على رأسي، وذنوبي محيطة بي، وعين الله ناظرة إليّ، وأعتدها آخر صلاة في عمري، وأتبعها الإخلاص ما استطعت، ثم أسلم، ولا أدري أيقبلها الله منّي أم يقول: اضربوا بها وجه من صلاها ".
أما أن يقف وتجتمع كل هموم الدنيا عليه، حينما يصلي، ويشغل نفسه بكل شيء إلا بالصلاة، فهذا لا ينبغي للمسلم.
على كل حال، فهناك أمور عارضة تجبر الإنسان وتقهره، وهو مطالب أن يبعد هذه الأمور عن رأسه وعن فكره، وأن يقف في المكان الذي يهييء له الخشوع، وأن يتدبر المعاني، وأن يركز فكره ما أمكن، ويغفر الله ما سوى ذلك إن شاء.
هذا هو خشوع القلب.
وهناك خشوع الجوارح، وهو مكمل لخشوع القلب، ومظهر له . كما جاء في الأثر " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ". (رواه الحكيم الترمذي في النوادر بسنده عن أ بي هريرة مرفوعًا وفيه راو مجمع على ضعفه والمعروف أنه من قول سعيد بن المسيب).
فمعناها أن لا يتلفت في الصلاة التفات الثعلب، ولا يعبث عبث الأطفال، ولا يتحرك حركات كثيرة تخل بالخشوع، وتذهب بروح الصلاة، وإنما ينبغي أن يقف وقورًا بين يدي الله عز وجل، فهذا أيضًا مطلوب في الصلاة.
صلاة من يشرب الخمر.
س: ما قولكم في إنسان يشرب الخمر ويصلي ؟.
ج: هذا أمر مؤسف حقًا.
(1/208)
فالصلاة الحقيقية كما شرعها الله عز وجل، تنهي عن الفحشاء والمنكر، كما قال الله لرسوله: (وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر). (العنكبوت :45).
والخمر لاشك من أكبر المنكرات، لما فيها من إضرار بالعقل والصحة والمال والشخصية، فضلا عن أثرها على الأسرة والمجتمع.
فإذا كان الإنسان ضعيف الإيمان، ضعيف اليقين، رقيق الدين، وحدث أن سوَّل له شيطانه شرب الخمر، فالخمر - على كل حال - عند جمهور الفقهاء نجسة، والسكر منها يحول دون إقامة الصلاة كما قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون). (النساء: 43).
فإذا أفاق وغسل أثر الخمر، وتوضأ وصلى، فالمرجو إن شاء الله أن تكون صلاته في ذاتها مقبولة، وأن صلاته ستنهاه يومًا عن مثل هذا المنكر، وسيرتدع عن مثل هذا الأمر.
هذه فريضة يؤديها وهي الصلاة، وتلك جريمة يرتكبها وهي شرب الخمر، هذا عمل صالح، وذلك عمل سيء.
والله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان بالحسنات والسيئات ... كل بمقدار لا يختل ولا ينقص مثقال ذرة ...
حسناته مرصودة له، وسيئاته مكتوبة عليه.
(فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره). (الزلزلة: 7، 8).
الصلوات مكتوبة له، وشرب الخمر - أم الخبائث - مكتوب عليه.
لا نقول له: ما دمت تشرب الخمر فاترك الصلاة .. ذلك لأن الذي يصلي مأمول فيه إن شاء الله أن يرتدع ويمتنع عن أم الخبائث.
(1/209)
ولو سألتني: أيهما أولى، رجل يشرب الخمر ولا يصلي، ورجل يشرب الخمر ويصلي ؟ لقلت: الذي يشرب ويصلي أفضل على كل حال وأقل سوءًا من الآخر ... لأنه مرجوّ له الخير، وإن كان بعيدًا عن إقامة الصلاة إقامة حقيقية مع تناوله للخمر، وبعيدًا عن المحافظة عليها محافظة المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله (...و الذين هم على صلواتهم يحافظون) (المؤمنون: 9) وفرق بين من يبيت ولسانه رطب بذكر الله تعالى، وبين من ينام وفمه رطب بأم الخبائث ممتلئ برائحتها .. وهو غائب الوعي .. مخبول العقل ..
شتان بين هذا وذاك.
الماء الذي تلمسه الحائض.
س: هل يجوز الوضوء للصلاة من ماء لمسته الحائض ؟.
ج: ينبغي أن يعلم أن جسم المرأة الحائض غير نجس نجاسة حسية بحيث يلوث كل ما يصيبه، كلا ... إنما النجاسة هنا حكمية ... حكم الشرع بوجود النجاسة التي تزيلها الطهارة الكبرى وهي الغسل ... أما بدن الحائض .. يداها وفمها، وريقها ... فليس نجسًا ولا ملوثًا . وقد ظن بعض النساء من قديم هذا الظن، حتى أن السيدة عائشة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ناوليني هذه الخمرة .. فقالت له: إني حائض يا رسول الله: فقال لها: " إن حيضتك ليست في يدك " (رواه البخاري) فمعنى هذا أن اليد ليست نجسة .. فإذا أصابت ماء فلم تنجسه ... فالماء الذي لمسته الحائض طاهر ولا شيء فيه ...
وكذلك الجنابة أيضًا .. فليس معنى الجنابة أن الجسم نجس، وقد ظن أبو هريرة رضي الله عنه أن الجنابة تنجس، فإنه لقي الرسول صلى الله عليه وسلم يومًا في الطريق فخنس منه ... وابتعد عنه، فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال له: كنت جنبًا.
فقال له النبي صلوات الله عليه " سبحان الله . وإن المؤمن لا ينجس ". (رواه الشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن حذيفة) فالنجاسة التي عنده إنما هي حكمية ... أما الجسم فليس بنجس.
صلاة المأموم منفردًا خلف الصف.
(1/210)
س: جرى بيننا نقاش حول السؤال التالي :
هل تصح صلاة المأموم ركعة أو ركعات، خلف الصف منفردًا ؟.
أرجو الجواب عن ذلك مع ذكر الأدلة.
ج: روى أحمد وابن ماجة عن علي بن شبيان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل (يعني أتم صلاته) فقال له: " استقبل صلاتك، فلا صلاة لمنفرد خلف الصف " . ومعنى استقبل صلاتك: أعدها.
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن وابصة بن معبد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد صلاته.
وفي رواية لأحمد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل صلى خلف الصفوف وحده فقال: " يعيد الصلاة ".
والحديثان المذكوران، قد صححهما جماعة من الأئمة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، واستدل بهما طائفة من أئمة السلف على أن صلاة المأموم خلف الصف وحده لا تجوز ولا تصح . وبه قال النخعي والحسن بن صالح وإسحاق وحماد وابن أبي ليلى ووكيع، وهو مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل . أما الأئمة الثلاثة فقالوا: بصحة صلاة المنفرد خلف الصفوف مع الكراهة.
وظاهر الأحاديث يشهد لمذهب أحمد ويؤيده، كما أن حكمة الإسلام في تشريعه وتوجيهه تقويه وتعضده.
فالإسلام يحب الجماعة، ويكره الشذوذ، يحب الاتحاد ويكره الانفراد، يحب النظام ويكره الفوضى . وصلاة الجماعة وسيلة من وسائل الإسلام في تربية أبنائه على هذه المعاني الحية.
(1/211)
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقبل على المأمومين بوجهه قبل أن يكبر، ويقول: " تراصوا واعتدلوا " (متفق عليه) . " سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة " (متفق عليه)، " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " (رواه أحمد وأبو داود والنسائي) " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم " (رواه الجماعة) فظهر بهذه الأحاديث الصحيحة أن الجماعة في الصلاة، مظهر قوي للتطبيق العملي لمبادئ الإسلام الاجتماعية في النظام والتراص والاعتدال واستواء الصفوف، ووحدة الاتجاه، وهي مرآة تعكس المعاني والأفكار التي يتبناها المجتمع المسلم.
ولا عجب بعد هذا إذا أبطل الإسلام صلاة المنفرد خلف الصف، وأمره أن يعيد صلاته، فإنه مظهر من مظاهر الشذوذ عن الجماعة، لأن الدين الذي يقول: " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية " (رواه أحمد عن معاذ) ويقول " يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار ". (رواه الترمذي وقال: غريب، والطبراني ورجاله - كما قال الهيثمي - ثقات، وقال ابن حجر . له شواهد كثيرة منها موقوف صحيح).
وهذا كله فيمن صلى خلف الصف وحده بلا عذر . أما إذا كان له عذر بأن جاء والصفوف مكتملة، ولم يجد له فرجة ولا سعة في الصف، فالأظهر أن صلاته حينئذ صحيحة . واستحب بعض العلماء أن يجتذب إليه رجلاً من الصف يقف بجانبه، ويستحب لمن جذبه أن يساعده على ذلك.
وكره ذلك آخرون، حتى قال بعضهم: إن جذب الرجل من الصف ظلم.
والله أعلم.
الصلاة في مساجد المسلمين.
س: سبق أن بعثت إلى فضيلتكم برسالة باسمي واسم مجموعة من الشباب المسلم الغيور على دينه، والذي ربطت بينهم العقيدة الإسلامية، ورغم اختلاف أوطانهم ما بين المحيط والمحيط.
وقد طلبنا من فضيلتكم الرد العاجل والجواب الشافي عن السؤال الذي بلبل فكر فئة منا، وكاد يمزق وحدتنا، نظرًا لتعصب كل فريق منا لرأيه.
(1/212)
والسؤال - كما أشرت لفضيلتكم في الرسالة السابقة - يتعلق بأمر في غاية من الخطورة وهو الصلاة في مساجد المسلمين، فقد وجد من المتطرفين الذين يرفضون الصلاة في هذه المساجد، مصرّين على اعتزالها، والاكتفاء بالصلاة في البيوت، واعتبار ذلك جزءًا من مقاطعة المجتمع الجاهلي بكل مؤسساته، وإن اتخذت صبغة دينية.
ويستند هؤلاء الإخوة في ذلك إلى ما قرأوه في " الظلال " عند تفسير الآية 86 في سورة يونس، وفيها يقول الله تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه . أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين).
فقد جاء في تفسيرها ما نصه: " هذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة، وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت وفسد الناس، وأنتنت البيئة " وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة، وهنا يرشدهم الله إلى أمور:
1- اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
2- اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد، تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعًا من التنظيم في جو العبادة الطهور ". (" الظلال " ج 11 ص 181 " ط. ثانية) ا . هـ.
ومن إيحاء هذه العبارات اتخذ هؤلاء الإخوة قرارهم، وجعلوا بيوتهم قبلة لهم . مقاطعين المساجد والجوامع التي يؤمها سائر المسلمين.
(1/213)
والآن قد رضي الجميع بالاحتكام إليك في هذه القضية، حيث رفضوا رأي أي عالم هنا، وأعلنوا أن ما تفتي به سيقبلونه، فأصبح لزامًا عليك شرعًا ألا تدعنا في حيرة من أمرنا، وتنازع فيما بيننا، وأن ترد علينا بما ينير طريقنا، قبل أن يتزايد الخطر، ويتطاير الشرر، وقد رضي حكمك المعتدلون والمغالون لثقتهم بعلمك ودينك، وحسن فهمك للإسلام وللحياة معًا، وتحرّيك الحق فيما تكتب ... نحسبك كذلك، والله حسيبك، ولا نزكي على الله أحدًا ..
وإنا لفي انتظار هذا الجواب على أحرّ من الجمر، وفقكم الله ونفع بكم.
م . أ . ش.
القاهرة - كلية الشريعة - جامعة الأزهر.
.
ج: أخي الكريم :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنت مترددًا في الكتابة إليك تاركًا الأمر لسلامة فطرتكم، وسابق دراستكم للإسلام، وسؤالكم لمن عندكم من أهل العلم، ولكن لما تكرر سؤالك خشيت على نفسي لجام النار الذي توعد به النبي صلى الله عليه وسلم من يكتم علمًا سئل عنه " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم.
كما خشيت على الحركة الإسلامية التي أفنيت فيها شبابي ووهبت لها عمري - أن تهب عليها أعاصير الفتن الداخلية، فتلوي زمامها عن " البينات " والواضحات إلى " متشابه " من القول والآراء، لا تشفي غليلاً ولا تهدي سبيلاً، ولهذا توكلت على الله وبدأت أسطر إليك وإلى من معك هذه الكلمات التي: أرجو بها وجه الله، وبيان الحق، وهو أحق أن يتبع.
.
حقائق بين يدي الموضوع :
قبل أن أجيبك عن الموضوع بتفصيل، أحب أن أضع بين يديك هذه الحقائق لتكون على بينة من الأمر:
الأولى: أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهو وحده المسدد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقره الله على خطأ . وكل أحد سواه يؤخذ من كلامه ويترك . وهذه حقيقة لا خلاف عليها.
(1/214)
الثانية: أن كل مؤمن اجتهد في طلب الحق واستفرغ وسعه في معرفته فهو مأجور على اجتهاده ونيته . وإن أخطأ في النتيجة . وخطؤه مغفور له كائنًا ما كان.
قال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم). (سورة الأحزاب: 5).
الثالثة: أن الخطر ليس على العالم المجتهد إذا أخطأ وزل، ولكن على من اتبعه في خطئه وزلته بعد تبينها . ولهذا أمرنا أن نتقي زلة العالم.
وقال عمر: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة (أي حكام) مضلون، وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم ؟ . فأما زلة العالم، فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، تقولون: نصنع مثلما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان: وإن أخطأ فلا تقطعوا أياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان ... الحديث.
وقال معاذ لأصحابه يومًا في وصية له: إياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق: فقال بعض أصحابه: وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ .قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، التي يقال له: ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورًا . رواه أبو داود.
وفي رواية أن الزهري قال: المشبهات مكان المشتهرات . وفسرها في رواية قال: بلى، مما تشابه عليك من قول الحكيم، حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة ؟ وفي بعض الروايات في تفسير " زيغة الحكيم ": هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه ؟!.
(1/215)
وهذا توجيه رائع من معاذ رضي الله عنه وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام كما جاء في الحديث (الذي رواه الترمذي) . لقد بيّن أن الحكيم قد يزيغ ويخطئ، فيجب علينا أن نجتنب زيغته وزلته، ولا يثنينا ذلك عن الاستفادة منه بعد ذلك . وعن ابن عباس قال: ويلٌ للأتباع من عثرات العالم . قيل: كيف ذلك ؟: يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيترك قوله، ثم يمضي الأتباع.
الرابعة: أننا مأمورون عند التنازع أن نرد ما اختلفنا فيه إلى الله ورسوله . كما قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) (النساء: 59) . ومعنى ذلك هو الرجوع إلى الكتاب والسنة . فماذا يقول هذان المصدران المعصومان في قضيتنا ؟ لنتأمل ما يلي :
أولا: ماذا في القرآن ؟ :
( أ ) في سورة النور مدح الله تعالى المساجد وروادها بقوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار) وليس بعد هذا الثناء على أهل المساجد قول لقائل.
( ب ) وفي سورة التوبة يقول تعالى أيضًا: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتي الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) . وعمارة المساجد هنا ليس معناها البناء والتشييد كما يتوهم، بل عمارتها بالصلاة والدعاء وذكر الله وإقامة شعائره . فشهد الله لعمار المساجد بالإيمان كما قال ابن كثير في تفسيره . واستشهد لذلك بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن) ... الآية.
ورواه أيضًا الترمذي وابن مردويه والحاكم في مستدركه.
(1/216)
( ج ) في سورة البقرة يقول سبحانه (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) وهو وعيد شديد لمن يسعى في خراب المساجد من المصلين الذاكرين لله.
( د ) وأكثر من ذلك أن القرآن الكريم قرر حرمة المعابد الدينية لأهل الأديان السماوية جميعًا كما قال تعالى في أول آيات نزلت في شأن الجهاد (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا) وقد قال بعض المفسرين: إن جملة (يذكر فيها اسم الله كثيرًا) تعود على كل ما ذكر من الصوامع وما بعدها.
فإذا كان الإسلام يشرع القتال للدفاع عن حرية العبادة، وعدم الاعتداء على أماكنها وإن تكن لغير المسلمين، فكيف بمساجد المسلمين التي تقام فيها الصلوات ويرفع من منائرها الآذان، ويجهر فيها بالشهادتين والتكبير ؟
ثانيا: ماذا تقول السنة ؟.
هذا أهم ما جاء في كتاب الله العزيز عن المساجد وهو كاف شاف.
وبقي أن نرجع إلى السنة وهي البيان القولي والعملي للقرآن.
1- قد ذكرنا حديث " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ..
2- يؤيد هذا ما رواه البزار وعبد بن حميد بسندهما عن أنس مرفوعًا: " إنما عمار المساجد هم أهل الله ".
3- روى الإمام أحمد بسنده عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد ".
4- وروى عبد الرازق بسنده عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها.
5- وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم " بشر المشائين في الظُلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ".
(1/217)
6- وروى الشيخان وأحمد عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " من غدا إلى المسجد وراح، أعد الله له نزلاً من الجنة كلما غدا وراح ".
7- قال ابن عباس رضي الله عنه: " من سمع النداء بالصلاة فلم يجب، ولم يأت المسجد ويصلي فيه فلا صلاة له، وقد عصى الله ورسوله . قال تعالى: (إنما يعمر مساجد الله ..) إلخ " ذكره ابن كثير عن ابن مردويه، قال: وقد روى مرفوعًا من وجه آخر، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها.
8- روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن (يعني في المساجد) فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى.
ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها (أي الجماعة) إلا منافق معلوم النفاق . ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين (لمرضه أو ضعفه) حتى يقام في الصف.
ثالثا: شبهة معتزلي المساجد وإبطالها :
هذا بعض ما جاء في القرآن والسنة عن مكانة المساجد، وأهمية صلاة الجماعة فيها وهي أدلة عامة ناصعة، ونصوص محكمة ساطعة، لا تدع تأويلاً لمتأول في هجر المساجد، واعتزال جماعة المسلمين، فكيف ندع هذه المحكمات ونتبع المتشابهات التي لا تعطي مفهومًا محددًا، ولا يرتفع بها خلاف ؟ وترك الواضحات إلى المتشابهات هو أحد أسباب الانحراف كما بيّن ذلك الإمام الشاطبي في كتابيه الجليلين: الموافقات والاعتصام.
(1/218)
ومن هذه المتشابهات الاعتماد على آية سورة يونس في قصة موسى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا، واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة) وتفسيرها بما يفيد مضمونه: أن تعتزل العصبة المسلمة مساجد المسلمين، وتتخذ بيوتها مساجد تنطوي فيها على نفسها وتحس فيها بالانعزال عن الجاهلية اقتداء بما فعله موسى وهارون وقومهما من اعتزالهم معابد الجاهلية واتخاذ البيوت مصلى وقبلة.
وهذا التفسير أو الاستنتاج لمثل هذا الحكم الخطير من الآية الكريمة خطأ ظاهر، ولا يثبت أمام التمحيص والنقد العلمي الهادئ السليم.
ونحن نبيّن خطأه من وجوه :
1- إن هذا التفسير غير مسلم لمن قال به، وهو مجرد رأي، لا أقل ولا أكثر، وليس مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابي أو تابعي.
والمروي عن سادات التابعين في ذلك ما ذكره ابن كثير عن إبراهيم في (واجعلوا بيوتكم قبلة) قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم . وكذلك قال مجاهد وأبو مالك والربيع بن أنس والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبوه أسلم . وذكر ابن كثير عن ابن عباس ما يؤيد هذا.
وقال الفخر الرازي: ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهًا ثلاثة :
الأول: أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة . لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم . كما كان المسلمون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة.
الثاني: قيل إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون (وهذا لا يخرج عن الوجه الأول).
(1/219)
الثالث: أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلكم العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء، وتكفل تعالى أن يصونهم عن شر الأعداء وهذا يعني أن المراد بالبيوت في قوله (تبوءًا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة) هي المساجد كقوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع).
وعلى هذه الوجوه كلها ليس في الآية أدنى حجة على اعتزال المساجد في حالة الاختيار والسعة قط.
2- على أن بعض المفسرين كالإمام سعيد بن جبير فسر البيوت بالمساكن المعتادة وفسر (اجعلوها قبلة) أي متقابلة، يقابل بعضها بعضًا، قال الرازي: والمقصود منه حصول الجمعية، واعتضاد البعض بالبعض . وقال صاحب " المنار ": وحكمة هذا أن يكونوا مستعدين لتبليغهما إياهم ما يهمهم ويعينهم مما بعثا لأجله، وهو إنجاؤهم من عذاب فرعون بإخراجهم من بلاده.
(وبهذا تخرج الآية عن موضوع الاستدلال نهائيًا).
3- ومع هذه الاحتمالات التي تسقط الاستدلال بالآية على ما قاله المغالون، يبقى هنا أمر آخر يجب التنبيه عليه، وهو الاستدلال بأمر كان في شريعة من قبلنا، إن افترضنا صحة التفسير والاستنتاج الذي استند إليه المجادلون: هل يصح أم لا ؟.
لقد اختلف الأصوليون في اعتبار شرع من قبلنا مصدرًا أو دليلاً شرعيًا لنا نحن المسلمين . فمنهم من رده مطلقًا، ومنهم من قبله بشرط ألا يرد في شرعنا ما ينسخه.
قال تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا) (سورة المائدة: 48) وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حيًا ما حلّ له إلا أن يتبعني ".
وهنا نجد أن شرعنا قد دعا إلى الصلاة جماعة في المساجد، وجعلها أفضل من الصلاة في البيوت بخمس أو سبع وعشرين درجة . بل إن بعض الأئمة كأحمد بن حنبل اعتبر صلاة الجماعة فرض عين على كل رجل إلا من عذر، وله على ذلك أدلة كثيرة.
(1/220)
1- مما استدل به: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على قوم بيوتهم لتخلفهم عن الجماعات.
2- استأذنه ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى ليصلي في بيته فقال: هل تسمع النداء ؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة . رواه مسلم.
3- ما ذكرناه قبل عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لو لم يمكنه الذهاب إلى المسجد إلا بمشيه في ملك غيره فعل، وإن كان بطريقه منكر، لم يدع المسجد، وينكره.
ومن لم يعتبر صلاة الجماعة من الأئمة - فرض عين فهو يعتبرها فرض كفاية أو سنة مؤكدة على الأقل.
فهل يسوغ لنا أن ندع هذه الأحاديث والآثار الصحاح المبينة لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم جريًا وراء تأويل محتمل لعمل في شريعة موسى عليه السلام ؟.
رابعا: وأكثر من ذلك يا أخي أن رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة وحولها الأصنام من كل جانب حتى قدرت بثلاثمائة وستين، وقد نهاه أبو جهل عن الصلاة هناك فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم وهدده . فقال له: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا ؟ فنزل في ذلك قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى). (العلق: 9، 10).
الآيات.
فهل رأيت أبلغ من هذا وأوضح في الدلالة ؟ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيت الله والأصنام من حوله لأنه لم يشأ أن يحرم من الصلاة في مسجد الله الحرام . فكيف نعتزل نحن الصلاة في مساجد الإسلام ؟.
خامسا: وشيء آخر أذكره هنا، وهو ما ذكره الإمام البخاري في كتاب الصلاة من صحيحه حيث عقد فيه " باب الصلاة في البيعة " وهي كنيسة النصارى أو صومعة الراهب . وفي هذا الباب أورد عن عمر رضي الله عنه قوله: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها " الصور " قال: وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل .ا .هـ.
(1/221)
وعندما فتح عمر بيت المقدس لم يرض أن يصلي في كنيسة القيامة خشية أن يقول المسلمون من بعده: هنا صلّى عمر، ويظنون أن لهم بذلك حقًا في الكنيسة.
ومعنى هذا أنه يجوز الصلاة في الكنيسة . فكيف يرتاب مسلم بعد ذلك في مشروعية الصلاة في المسجد ؟.
خاتمة :
أخي: أظن المقام قد اتضح بما فيه الكفاية، ولو لم توجد هذه النصوص والأدلة المتظاهرة المتضافرة لكانت الفطرة وحدها كافية في رد هذا الغلو الذي يتبناه بعض إخوانك هداهم الله وغفر لنا ولهم.
فإن رواد المساجد - في مجموعهم - هم بقية أهل الخير، وهم الرصيد لأصحاب الدعوات، وهم أقرب إلى الاستجابة من غيرهم. والصلاة هي آخر العرا الباقية لهذا الدين كما جاء في الحديث: " لتنقض عرا الإسلام عروة عروة، فأولها نقضًا: الحكم وآخرها الصلاة ".
وأخيرًا أحسبك لا تجهل أن هذا الموضوع فرع صغير من أصل كبير، هو النظرة إلى جمهور المسلمين في بلاد الإسلام وحكمنا عليهم: هل هم كفار جاهليون أم مسلمون متفاوتون، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله؟ فمن كفَّر المسلمين لم ير جواز الصلاة في مساجدهم، ومن أبقاهم على أصل الإسلام وإن عصوا وانحرفوا - كما هو مذهب أهل السنة والجماعة (انظر فتوانا في " ظاهرة الغلو في التكفير " فيما سبق) - لم ير أفضل من الصلاة في المساجد، خلف كل بر وفاجر . والله أعلم.
(1/222)
في الزكاة والصدقات.
أي أموال التجار فيها الزكاة ؟.
س: أصبحت الأموال (رأس المال) في عروض التجارة وخلافها تتخذ صورًا شتى: بعضها منقول: كالسيارات والجرارات والآلات على اختلاف أنواعها، والبضائع التجارية من مطعومات وملبوسات وأشباهها.
وثوابت: كالمكاتب والسيارات المستعملة في تسيير دفة العمل، وأدوات الكتابة والحساب، وأجهزة البيع المختلفة، والأثاث المستعمل الذي يبلغ في مجموع قيمته أموالاً طائلة.
وعقارات: كالعمارات التجارية والمحلات والأراضي البيضاء.
وديون: ليست كلها على درجة واحدة، فبعضها يحصل على سنين، وبعضها معروف لأجل، والبعض الآخر يصطلح عليه بين رجال الحسابات (بالدين الميت) . ثم هناك المال: المتمثل في بضائع الوكالات التجارية.
فيكيف يزكي كل ذلك، فإن بعض ما ذكر معروف أداء زكاته بالشروط المعروفة في كتب الفقه، أما البعض الآخر - وبخاصة الديون المجمدة - فتحتاج إلى مزيد فقه وزيادة بيان.
ولما أن كانت الشركات وبعض أصحاب رءوس الأموال، يريدون مخلصين تأدية زكاة أموالهم على وجه يكفل لهم أداء هذا الركن الإسلامي العظيم بطريقة شرعية صحيحة فقد وجدت لنفسي مخرجًا للسلامة باللجوء إلى صاحب كتاب (فقه الزكاة).
وعلَّني أحظى بجواب منكم ينفعني وينفع المسلمين.
س.ع.هـ.
أبو ظبي.
الجواب.
1- أما القسم الأول، وهو ما كان منقولاً من الأموال كالسيارات والجرارات والآلات على اختلاف أنواعها، والبضائع التجارية، فكله داخل فيما يسميه الفقهاء " عروض التجارة " ويعنون به كل ما يعد للبيع بقصد الربح من ورائه، فما دامت هذه الأشياء معدة للبيع، فهي عرض تجاري تجب فيه الزكاة.
(1/223)
2- وهذا بخلاف الأشياء الثابتة مما ذكر السائل في القسم الثاني كالمكاتب والسيارات المستعملة في تسيير دفة العمل، وآلآت الكتابة والحساب، والأثاث ونحوها . فهذه لا تدخل في عروض التجارة، لأنها ليست مما يعد للبيع، بل هي معدّة للاستعمال، وقد نص الفقهاء على مثل ذلك فقالوا: " لا تقوم الأواني التي توضع فيها سلع التجارة والأقفاص والموازين والآلات ... ولا دولاب العمل اللازم للتجارة، لبقاء عينها، فأشبهت العروض المقتناة " (انظر: كتابنا فقه الزكاة ج 1 ص 335، 366) أي الممتلكات الشخصية التي لا تعد للنماء . وفصل بعضهم فقالوا: في الأواني التي توضع فيها عروض التجارة كقوارير العطارين والغرائر والأكياس التي يستعملها تاجر الحبوب، والسرج واللجم التي يستعملها تاجر الخيل ونحوها: إن أريد بيعها مع هذه الأشياء فهي مال تجارة تقوم معها .. وإن لم يرد بيعها - بل تباع العروض وتبقى هي للاستعمال - فلا تقوم، شأنها شأن العروض المقتناة " . وهذا ما يطلق عليه في العرف الضريبي والتجاري اسم (الأصول الثابتة).
3- وأما العقارات، التي مثل لها السائل بالعمارات التجارية والمحلات والأراضي البيضاء . فإن السؤال لم يوضح حقيقتها والغرض منها تمامًا: هل هو يتاجر في هذه الأشياء ؟ على معنى أنه يشتريها أو يبنيها على حسابه، ليقوم بعد ذلك ببيعها، ويكسب من ورائها . فإن كان هذا ما يفعله وما يقصد إليه، فهي أيضًا عروض تجارة، فيجب أن تقوم وتزكي زكاة عروض التجارة بإخراج 2.5% من قيمتها.
وإن كان يشتري أو يبني العمارة أو المحل ليستغله بالإيجار، فليس هذا بعرض تجاري تجب الزكاة في قيمته، وإنما تجب الزكاة فيما يغله من إيراد، قياسًا على الزكاة، فيما تغله الأرض الزراعية.
أما كم يجب في غلته ؟ أهو ربع العشر كما هي زكاة النقود، أم نصف العشر قياسًا على زرع الأرض المسقية بآلة ؟ أم العشر من صافي الغلة بعد طرح النفقات ومقابل الاستهلاك وما إلى ذلك.
(1/224)
احتمالات، لعل أوسطها هو أقربها، وإن كان الأول أيسر وأقرب إلى نفوس الناس وإلى المتعارف لديهم، وله وجه.
وعلى كل حال ينبغي للفرد المسلم أن يخرج زكاة ما تجمع في يده من غلة هذه الدور أو العمارات عقب قبضها أول كل شهر، ولا ينتظر بها حولان الحول، أخذًا بعموم النصوص وإطلاقها، وقياسًا على الزرع الذي جاء فيه . (وآتوا حقه يوم حصاده ). (سورة الأنعام: 141).
4- وأما الديون: فما كان مرجوا غير ميئوس منه، فهو بمنزلة ما بيده، ويجب على الدائن تزكيته؛ لأن الزكاة فرع الملك التام، وهذا لم يزل ملكه تاما عليه؛ فلهذا تجب عليه فيه الزكاة كل حول، وما كان من الديون ميئوسًا منه بأن كان على مفلس، أو على جاحد، وليس مع الدائن بينة، أو نحو ذلك، مما يجعله " دينًا ميتًا " كما يقول السؤال، فهذا لا زكاة فيه، لأنه مال " ضمار " كما يقول الفقهاء . وملكه عليه ليس تامًا . وليس مالاً ناميًا بالفعل . ولا بالقوة، فإذا فرض أنه قبضه بعد ذلك، فأرجح الأقوال أن يزكيه عند قبضه لسنة واحدة ..
5- وأما أموال الوكالات التجارية، فهي إما بمثابة أمانة ووديعة عند الوكيل، إن كانت يده عليها يد الأمين الذي لا يضمن هذه، وهذه لا زكاة فيها بيقين، وإما أن يكون له حق التصرف فيها كما يشاء، فهو ضامن لها . وإذن يكون مدينًا بثمنها . والراجح أن لا زكاة على المدين بقدر دينه، لأن هذا القدر غير مملوك له على الحقيقة . ولا زكاة إلا فيما كان مملوكًا ملكًا تامًا . والله أعلم.
هل في المخازن والمعارض زكاة ؟.
س: تاجر يعمل باستيراد البضائع وقد بنى لبضائعه مخزن ومعارض لتخزين البضاعة ولعرضها، فهل هذه المخازن والمعارض التي تستغل لتنمية العمل التجاري كعرض البضاعة وتخزينها، هل عليه زكاة ؟ وإذا كانت عليها زكاة، فما نسبتها وما مقدارها ؟.
أ . ل . الدوحة.
(1/225)
ج: الزكاة، فيما يسميه الفقهاء عروض التجارة، كما هي في الأشياء السائلة، أي المعدة للبيع . والتي تنتقل عينها من يد إلى يد.
أما الأشياء التي تبقى، ولا يراد بها أن تباع هي أصلاً، فهذه لا زكاة فيها.
وقد نص على هذا جميع الفقهاء.
فمثلاً، لو كانت هناك أوعية توضع فيها للسلع المعدة للبيع، فإن تلك الأوعية لا تحسب فيها الزكاة، لأنها ليست معروضة للبيع . ولو كان هناك مبنى، فيه مكاتب وموازين، ورفوف وغير ذلك . هذه جميعها لا تحسب عندما نريد أن نحصر رأس المال التجاري الذي نخرج عنه الزكاة.
إن الزكاة في التجارة نخرجها عن عدة أشياء :
عن المال السائل الموجود في التجارة، وعن السلع التجارية المعدة للبيع . وعن الديون المرجوة عند عملاء التاجر.
أما الأشياء الثابتة، والتي ليست معروضة للبيع، فهذه لا تحسب.
فالعبرة إذن فيما إذا كان الشيء معدًا للبيع أم لا . فالأواني التي توضع فيها البضاعة، إذا كانت لا تباع، فلا زكاة فيها، وإذا كانت تباع مع ما فيها من بضاعة، ففيها الزكاة.
فالمخازن والمعارض - كما بينا لا تحتسب فيها الزكاة.
حكم تغيير النية بعد بناء عقارات للتجارة وجعلها للاستثمار.
س: إذا بني التجار عقارات للتجارة، أي لبيعها بعد أن تكمل، ولكن بعد مضي عدة سنوات لم تبع، فهل يجوز لهم تغيير نيتهم وجعلها عقارات للاستثمار وليس للبيع.
فما حكم الزكاة بالنسبة للفترة الأولى، والثانية ؟.
ج: أما الفترة الأولى - حينما كانت المباني بنية البيع - فحكمها أنها أموال تجارية، تقوم ثم يخرج عن قيمتها ربع العشر.
أما إذا غير نيته وجعلها للإيجار، ففي هذه الحالة تنتقل إلى حكم آخر، حيث يخرج الزكاة على الوارد لا على القيمة بنسبة نصف العشر على ما نرجح، أو ربع العشر على الرأي التقليدي وهو الأيسر والأخف.
وبالنسبة لتغيير النية فليس ذلك ممنوعًا، بل من حق المرء أن يفسخ نيته ويغير اتجاهه عند الاقتضاء.
حكم زكاة الأراضي المستأجرة.
(1/226)
س: بعض التجار يستأجرون من الدولة أراضي لمدة خمسين سنة أو أكثر، بأجر اسمي، ويقوم بتشييد مخازن أو معارض، تستغل لتخزين بضائعه أو لعرضها أو لغرض صناعي علمًا أنه بعد مضي المدة، قد تسترجع الدولة الأراضي والمنشآت التي عليها بدون مقابل، أو تجدد الإيجار لمدة أخرى، فما هو حكم الزكاة على ذلك ؟.
ج: هذه الأراضي لا زكاة فيها، لأنها ليست مملوكة للتجار، وإنما ينتفعون بها بالأجرة، وإن كانت قليلة والزكاة فرع الملك كما هو معلوم . أما ما على الأرض من منشآت تجارية كالمخازن والمعارض فلا زكاة فيه بذاته، وإنما الزكاة فيما يخزنه أو يعرض فيها من السلع التجارية بشروطها الشرعية.
بماذا يقدر نصاب النقود في الزكاة ؟.
س: هل يقدر نصاب العملة الورقية بالذهب أم بالفضة ؟.
ج: الأولى في تقدير نصاب زكاة في عصرنا أن يكون بالذهب، لا بالفضة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدر نصاب الزكاة بالفضة وبالذهب، لم يقصد أن يجعل هناك نصابين . وإنما هو نصاب واحد، قدر بعملتين، لأن النصاب معناه في الشرع: الحد الأدنى للغنى.
الزكاة في الإسلام فرضت على الأغنياء لترد على الفقراء، فمن هو الغني ؟.
أو بكلمة أخرى: متى نعتبر الشخص غنيًا ؟ لقد جعل الشرع علامة للغني، وهي ملك النصاب.
وقد اختلف تقدير النصاب باختلاف الأموال، ففي النقود قدر بأمرين :
بالذهب ونصابه عشرون مثقالاً.
وبالفضة ونصابها مائتا درهم.
ولكن لماذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم النصاب بهذين التقديرين ؟ ذلك لأن العرب في عهد البعثة كانت لهم عملتان: عملة تأتي من فارس، وهي الدراهم الفضية، وعملة تأتي من الروم وهي الدنانير الذهبية، وما كان للعرب عملة خاصة يضربونها.
ولهذا، قدر النبي صلى الله عليه وسلم نصاب الغني في هذا الوقت فجعله عشرين دينارًا من الذهب، أو مائتي درهم من الفضة، حيث كان الدينار يساوي عشرة دراهم في السوق يومئذ.
(1/227)
ثم بعد ذلك هبط سعر الفضة، فصار في عصر الراشدين الدينار يصرف باثني عشر درهمًا، ثم بخمسة عشر، ثم بعشرين، ثم بثلاثين .. حتى جاءت العصور الحديثة فرخصت الفضة بالنسبة للذهب رخصًا كبيرًا، وأصبح هناك تفاوت بين نصاب الذهب ونصاب الفضة، ولهذا لم يعد من المقبول جعل حد الغني خمسين من الريالات السعودية أو القطرية مثلاً، في حين من الذهب يجعل حد الغني ما يساوي ألفًا وخمسمائة ريال أو أكثر.
إذا قدرنا العملة الورقية بالفضة فإنها لن يزيد نصابها عن خمسين ريالاً .. وإذا قدرناها بالذهب فسوف يكون الفرق بين النصابين كبيرًا علمًا بأن العشرين مثقالاً تساوي 85 غرامًا، وقد وجد في أكثر من متحف بعض دنانير من عهد عبد الملك بن مروان وهي أول دنانير إسلامية ضربت وانتشرت، وقد تبين أن وزن الدينار بالمتوسط يساوي 4.25 غرامًا .. فعشرون دينارًا تساوي 85 غرامًا، ولذا إذا أردنا أن نعرف قيمة النصاب بالعملة الورقية، علينا أن نسأل الصاغة، ونعرف منهم كم هي قيمة 85 غرامًا من الذهب بالعملة الورقية، ويكون ذلك المبلغ هو النصاب الشرعي، أو الحد الأدنى للغني، الذي يجب فيه الزكاة.
أما النصاب الفضة فهو قليل جدًا، ولا ينبغي اعتباره، لأن من يحوز خمسين ريالاً لا يعتبر غنيًا.
الواقع، أن الذي تطمئن إليه النفس هو النصاب الذهبي.. وهو مقارب نوعًا ما للأنصبة الشرعية الأخرى، وهي خمسة من الإبل، أو أربعين من الغنم، أو ثلاثين من البقر .. وغير ذلك من الأنصبة.
الخلاصة، أننا إذا أردنا أن نعرف، هل يجب الزكاة على شخص ما أم لا تجب ؟ ننظر، فإن كان لديه من النقود ما تساوي قيمته قيمة 85 غرامًا من الذهب وجب عليه أن يدفع الزكاة بنسبة 2.5% أو ربع العشر كما هو معروف في الشرع الحنيف . ويكفي أن يكون الذهب غالبًا، أي عيار 18 مثلاً . والله أعلم.
زكاة الأرض المشتراة للتجارة.
(1/228)
س: لدي أكثر من قطعة أرض اشتريتها منذ زمن، وأريد معرفة حكم الزكاة فيها، وإذا كان فيها زكاة، فهل يزكي الثمن الذي اشتريتها به، أم تقوم في كل عام . علمًا بأن في التقويم كل عام بعض الصعوبة.
ج: الأرض التي تُشتري نوعان :
أرض يشتريها الإنسان لبيعها، بعد حين، بقصد الربح، فهذا نوع من التجارة والأرض في هذه الحالة بمثابة السلعة التجارية، وهذه تقوم كل سنة لمعرفة المبلغ الذي تساويه، ثم يخرج الزكاة بنسبة 2.5% من ذلك المبلغ، أي ربع العشر، عن كل ألف: خمسة وعشرون، فهذه هي الأرض التي تشترى لتباع، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ولم يخالف إلا المالكية حيث قالوا: لا تزكي إلا عندما يبيعها بالفعل، فيخرج من الثمن الذي يقبضه ربع العشر، ولكن مذهب الجمهور أن تلك الأرض مال، وفيه الزكاة، وهذا هو الأولى.
ويمكن الأخذ بمذهب الإمام مالك في بعض الأحوال، مثل حالة الكساد، وذلك حين يشتري قطعة من الأرض، بثمن معين، ثم ترخص الأرض، ولو أراد أن يبيعها لا يجد لها مشتريًا إلا برخص التراب، في مثل هذه الحالة، يمكن الإفتاء بمذهب مالك .. أما الأرض التي تشتريها مثلاً بعشرة آلاف، وبعد سنة يبيعها بخمسين ألف .. أو أكثر كما هو الحاصل الآن فمعنى هذا أنها تجارة رابحة كغيرها من التجارات وأعظم . فعلى صاحبها أن يقوّمها سنويًا، بواسطة الخبراء، أو بالتقريب ويخرج زكاتها.
أما إذا كان يشتري هذه الأرض ليبني عليها لا ليبيعها، ففي هذه الحالة ليس عليه شيء، إلا إذا بنى بالفعل، وأصبح لديه عقارات سكنية يؤجرها، فعليه أن يخرج الزكاة من إيراد تلك العقارات.
حكم زكاة الدين.
س: لي دين على شخص يقدر بمبلغ ثلاثمائة دينار، وكان طالبًا وقد تخرج، وهو الآن عاطل عن العمل، وقد دفعت إليه الزكاة الواجبة في ذلك المبلغ، فهل يجوز ذلك، وهل أنا مطالب فعلاً بإخراج الزكاة عن المبلغ المذكور وهو لا يزال دينًا عليه ؟.
(1/229)
ج: إذا كان الدين حيًا - أي أن المدين معترف به غير جاحد له، وهناك أمل بسداده يجب أن تخرج عنه الزكاة، لأنه مملوك لصاحبه، لم يمت، والزكاة تجب عن كل مال مملوك.
وزكاة مثل هذا الدين المرجوّ، واجبة كل عام.
وبعض الأئمة يرى تأجيل دفع زكاته إلى حين قبضه، والبعض الآخر يقول بتزكيته في الحال.
والجمهور على وجوب تزكيته كلما حال عليه الحول.
وإذا كان ميتًا، ميؤوسًا منه، لا يرجى من المدين قضاؤه كأن يجحده مثلاً ولا بينة عليه، فمثل هذا الدين لا زكاة فيه، إلا حين القبض، وعندئذ يزكيه لسنة واحدة . وبعضهم يرى ألا زكاة فيه إلا بعد مرور عام على قبضه.
والسائل يرجو الوفاء بدينه عندما يحصل المدين على عمل يمكنه من قضاء دينه، فيعتبر دينه حيًا مرجوًا، تجب فيه الزكاة.
وإذا دفع الأخ السائل زكاته لمثل ذلك الطالب الذي انقطع عن أهله وعن موارد رزقه فزكاته صحيحة، لأن الطالب في هذه الحالة إما فقير أو مسكين وإما ابن سبيل انقطع عن ماله، وإما من الغارمين، أي المدينين.
وبعد تخرجه أيضًا يجوز دفع الزكاة إليه إذا كان عاطلاً عن العمل . لأن الشهادة التي حصل عليها لا تجعله غنيًا بذاتها، ولا تطعمه من جوع، أو تكسوه من عري، والزكاة إنما تحرم على الغني بماله أو بكسبه، وهو محروم من هذا وذاك، فهو من أهل الاستحقاق للزكاة حتى يجد عملاً لائقًا بمثله يكتسب منه تمام كفايته، فالزكاة عليه جائزة من أكثر من وجه.
بل يجوز إسقاط الدين عنه واحتسابه من الزكاة، كما هو رأي بعض الفقهاء.
والله أعلم.
نقل الزكاة.
س: هل يجوز إخراج الزكاة في بلد آخر غير البلد الذي أقيم فيه ؟.
(1/230)
ج: إن الأصل في الزكاة، إذا كانت زكاة الفطر أن يخرجها الشخص حيث يقيم، وزكاة المال الأصل أن يخرجها المسلم حيث يكون ماله، ولكن يجوز أن يخرج المسلم عن هذا الأصل لأسباب ومبررات، كما إذا كان مثلاً أحد إخواننا الفلسطينيين يعمل في إحدى إمارات الخليج وله أقارب في المخيمات محتاجون ويستحقون الزكاة، فالأولى به في هذه الحالة أن يبعث لهم زكاة ماله.
فنقل الزكاة إلى بلد غير الذي يقيم فيه، أو إلى بلد غير البلد الذي ماله فيه، جائز مع تلك المبررات .. ولو وكل عنه أحدًا في دفع زكاته إلى مستحقيها جاز، ولا مانع من دفعها إلى من شاء من مستحقيها في نفس البلد، وهو الأصل.
حكم تقسيط الزكاة.
س: هل يجوز للمزكي أن يقسط الزكاة كأن يرسل قسطًا للجامعة عن أحد الناس الفقراء ؟.
ج: المفروض أن الزكاة إذا وجبت فلا يجوز أن يؤخرها عن أوانها، فإن الإسلام يأمر بالمسارعة إلى الخيرات كما قال الله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) (البقرة: 148) وقال: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (آل عمران: 133) ولا يضمن أحد عمره ولا يعرف إنسان ماذا يكسب غدًا وما يحل به بعد غد، فالتسويف حرام في الفرائض بصفة عامة، والفقير المحتاج لا ينتظر الإنسان أن يتأخر عليه . ومن هنا يجب على المسلم إذا وجبت عليه الزكاة أن يخرجها ولا يؤخرها . فأما إذا دفع قبل أن تحل الزكاة معجلاً وذلك إذا كان هناك اعتبار شرعي صحيح كحاجة محتاج فيمكن في هذه الحالة أن نقسط قبل الوجوب لا بعد الوجوب.
حكم دفع الزكاة للزوجة وإخوانه الأغنياء.
س: هل يجوز دفع الزكاة للزوجة ومن تلزمه نفقته وإخوانه الأغنياء ؟.
(1/231)
ج: أما الزوجة فلا يجوز أن تدفع لها الزكاة بالإجماع، لأن زوجة الإنسان جزء منه كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا) (الروم: 21) فزوجة الإنسان جزء منه وبيت الزوجية بيت لها ولهذا قال الله تعالى :(إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن) (الطلاق: 1) فبيوتهن هي بيت الزوجية .. بيت المرأة، ومال الرجل هو مال المرأة، فإذا أعطاها فكأنما يعطي في الحقيقة نفسه، وهل يجوز للإنسان أن يعطي نفسه ؟ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للزوج أن يعطي زوجته من مال زكاته أبدًا . وكذلك لا يجوز له أن يعطي أولاده فإنهم جزء منه أيضًا، كما جاء في الحديث " أولادكم من كسبكم " وكذلك أبواه فهو جزء منهما، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . أجاز للولد إذا كان أبواه فقيرين وكان لا يستطيع أن يقوم بنفقتهما أجاز للولد أن يعطي زكاته لأبويه في تلك الحال . وهذا لا بأس به أيضًا . أما الإخوة، فإذا كانوا فقراء فقد اختلف العلماء في ذلك . إذا كانوا فقراء وكانت نفقتهم تلزمه، هل يعطيهم أم لا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك، والصحيح الذي أرجحه أنه يجوز للأخ أن يعطي إخوته الفقراء من زكاة ماله لعموم النصوص وإذا أخرجنا من هذا العموم الزوجة والأولاد والوالدين فالإخوة باقون على العموم، يجوز للأخ أن يعطي لإخوته من زكاته، وإن كانت تلزمه نفقتهم . أما الأقارب الآخرون، مثل الخالة والعمة وبنت الخال وبنت الخالة وبنت العمة وغير ذلك، فهم يعطون من الزكاة ولا حرج بالإجماع.
(1/232)
أما الإخوة الأغنياء - كما يقول السائل - فهؤلاء لا يجوز أبدًا أن يعطوا من الزكاة، لا يجوز أن يعطي من الزكاة غني، سواء كان أخًا أو غير أخ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سويّ " أي لذي قوة سليم الأعضاء مستوي الجسم . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الزكاة أنها تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم . فإعطاء الغني منها يخل بحكمة الشارع وقصده من شرعيتها.
معنى " في سبيل الله " في آية الزكاة.
وهل يدخل فيه الصرف على المساجد وتكفين الموتى ونحوها ؟.
س: ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى جواز الصرف من الزكاة على الأعمال الخيرية التي يقوم بها بعض الأفراد أو الجمعيات . مثل بناء المساجد أو المستشفيات أو المدارس أو غير ذلك من أعمال البر مثل تكفين الموتى أو تعليم الأيتام وتدريبهم على مهنة ونحو ذلك.
وحجة هؤلاء العلماء أن هذا كله داخل في عموم معنى " سبيل الله " في الآية الكريمة التي حددت مصارف الزكاة، وهي آية (إنما الصدقات...)، ونقلوا ذلك عن بعض العلماء المتقدمين . ومع أن الرأي المشهور الذي نعرفه من الفقه أن " سبيل الله " معناه الجهاد وغزو الكفار.
فهل ترى فضيلتكم التوسع في مدلول " سبيل الله " بحيث يشمل كل عمل خيري أم تقصرونه على الجهاد والغزو كما هو رأي المذاهب المتبوعة ؟.
وما الذي رجحتموه في كتابكم " فقه الزكاة " حول هذه المسألة باعتباره موسوعة في أحكام الزكاة وأسرارها ؟ وما الذي يدخل من أعمال الخير في سبيل الله وما لا يدخل فيه ؟.
ج: لقد فصلت الحديث في كتابي عن مصرف " في سبيل الله " وآراء المذاهب والعلماء في تفسيره وتحديد مدلوله، من المتقدمين والمتأخرين.
ولا ريب أن منهم من حمل " سبيل الله " على معناه اللغوي العام، الذي يشمل كل طريق موصل إلى مرضاة الله . وعلى هذا يدخل في مضمونه كل عمل من أعمال القرب أو الخيرات.
(1/233)
ولا غنى لمن أراد التوسع والتفصيل عن الرجوع إلى الكتاب " فقه الزكاة " ليقرأ فيه الأقوال وأدلتها معها . ولا بأس أن أذكر هنا ما يكفي إن شاء الله تعالى.
وأبادر فأقول: إن الجمعيات الخيرية التي تعمل لمساعدة الفقراء، مثل إطعامهم أو إيوائهم أو تعليمهم أو تدريبهم، أو علاجهم يجوز إعطاؤها من الزكاة المفروضة لا باعتبار ذلك في " سبيل الله " بل باعتبارها ممثلة للفقراء أو نائبة عنهم، فإعطاؤها بمثابة الإعطاء للفقراء أنفسهم، كالذي يعطي ولي اليتيم الفقير فهو أعطى اليتيم نفسه.
وأما فيما عدا ذلك، فلا أؤيد المتوسعين في تفسير مدلول " سبيل الله " في آية " إنما الصدقات " المتعلقة بمصارف الزكاة.
بل الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا، لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة، لا تحصر أصنافها فضلاً عن أشخاصها . وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية، كما هو ظاهر الآية . كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى، لأنها جميعًا من البر وطاعة الله، فما الفرق إذن بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه ؟.
إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة، فلابد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف . وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور، فصرفوا معنى (سبيل الله) .. إلى الجهاد . وقالوا: إنه المراد به عند إطلاق اللفظ . ولهذا قال ابن الأثير: إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه.
ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير، ما رواه الطبراني: أن الصحابة كانوا يومًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا شابًا جلدًا، فقالوا: لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ؟ (قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، ج 3 ص 4 " . المنيرية) يريدون في الجهاد ونصرة الإسلام.
(1/234)
وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول و أصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة " سبيل الله " هو الجهاد . كقول عمر في الحديث الصحيح: " حملت على فرس في سبيل الله " يعني في الجهاد . وحديث الشيخين: " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ".
فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من " سبيل الله " في آية المصارف، هو الجهاد، كما قال الجمهور، وليس المعنى اللغوي الأصلي، وقد أيّد ذلك حديث لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ... وذكر منهم الغازي في " سبيل الله " . وهذا ما اختاره الشيخ أبو زهرة في بحثه في " الزكاة " الذي قدمه لمؤتمر البحوث الإسلامية الثاني.
ولهذا أوثر عدم التوسع في مدلول " سبيل الله " بحيث يشمل كل المصالح والقربات . ولكني أرجح عدم التضييق فيه، بحيث لا يقصر على الجهاد بمعناه العسكري المحض.
إن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان، كما يكون بالسيف والسنان . وقد يكون الجهاد فكريًا، أو تربويًا، أو اجتماعًا، واقتصاديًا، أو سياسيًا، كما يكون عسكريًا.
وكل هذه الأنواع من الجهاد تحتاج إلى الإمداد والتمويل.
المهم أن يتحقق الشرط الأساسي لذلك كله، وهو أن يكون " في سبيل الله " أي في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته في الأرض، فكل جهاد أريد به أن تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . أيًّا كان نوع هذا الجهاد وسلاحه.
فالنصرة لدين الله وطريقته وشريعته تتحقق بالغزو والقتال في بعض الأحوال، بل قد يتعين هذا الطريق في بعض الأزمنة والأمكنة لنصرة دين الله . و لكن قد يأتي عصر - كعصرنا - يكون فيه الغزو الفكري والنفسي أهم وأبعد خطرًا وأعمق أثرًا، من الغزو المادي العسكري.
(1/235)
فإذا كان جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة قديمًا، قد حصروا هذا السهم في تجهيز الغزاة والمرابطين على الثغور، وإمدادهم بما يحتاجون إليه من خيل وكراع وسلاح . فنحن نضيف إليهم في عصرنا غزاة ومرابطين من نوع آخر . أولئك الذين يعملون على غزو العقول والقلوب بتعاليم الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، أولئك هم المرابطون بجهودهم وألسنتهم وأقلامهم للدفاع عن عقائد الإسلام وشرائع الإسلام.
ودليلنا على هذا التوسع في معنى الجهاد :
أولاً: أن الجهاد في الإسلام لا ينحصر في الغزو الحربي والقتال بالسيف فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سئل: أي الجهاد أفضل ؟ فقال: " كلمة حق عند سلطان جائر ". (رواه أحمد والنسائي والبيهقي في الشعب والضياء المقدسي عن طارق بن شهاب وقال المنذري بعد عزوه للنسائي إسناده صحيح . التيسير للمناوي ج 1 ص 182).
كما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ".
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ". (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس وقال صحيح وأقروه كما في التيسير شرح الجامع الصغير للمناوي ج 1ص 485).
ثانيًا: إن ما ذكرناه من ألوان الجهاد والنشاط الإسلامي لو لم يكن داخلاً في معنى الجهاد بالنص، لوجب إلحاقه به بالقياس، فكلاهما عمل يقصد به نصرة الإسلام والدفاع عنه، ومقاومة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض.
وقد رأينا للقياس مدخلاً في كثير من أبواب الزكاة . ولم نجد مذهبًا إلا قال به في صورة من الصور.
(1/236)
وبذلك يكون ما اخترناه هنا في معنى سبيل الله هو رأي الجمهور مع بعض التوسعة في مدلوله.
وأود أن أنبه هنا على أن بعض الأعمال والمشروعات قد تكون في بلد ما وزمن ما وحالة ما جهادًا في سبيل الله، ولا تكون كذلك في بلد آخر أو وقت آخر أو حال أخرى.
فإنشاء مدرسة في الظروف العادية عمل صالح وجهد مشكور يحبذه الإسلام ولكنه لا يعد جهادًا . فإذا كان بلد قد أصبح فيه التعليم وأصبحت المؤسسات التعليمية في يد المبشرين أو الشيوعيين أو اللادينيين العلمانيين فإن من أعظم الجهاد إنشاء مدرسة إسلامية خالصة، تعلم أبناء المسلمين ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، ويحصنهم من معاول التخريب الفكري والخلقي، وتحميهم من السموم المنفوثة في المناهج والكتب، وفي عقول المعلمين، وفي الروح العامة التي توجه المدارس والتعليم كله.
ومثل ذلك يقال في إنشاء مكتبة إسلامية للمطالعة في مواجهة المكتبات الهدامة . وكذلك إنشاء مستشفى إسلامي لعلاج المسلمين، وإنقاذهم من استغلال الإرساليات التبشيرية الجشعة المضللة، وإن كانت المؤسسات الفكرية والثقافية تظل أشد خطرًا، وأبعد أثرًا.
من سبيل الله تحرير أرض الإسلام من حكم الكفار :
ولا شك أن من أهم ما ينطبق عليه معنى الجهاد في عصرنا هو: العمل لتحرير الأرض الإسلامية من حكم الكفار الذين استولوا عليها، وأقاموا فيها حكمهم بدل حكم الله . سواء أكان هؤلاء الكفار يهودًا أم نصارى أم وثنيين، أم ملحدين لا يدينون بدين . فالكفر كله ملة واحدة.
فالرأسمالي والشيوعي، والغربي والشرقي، والكتابي واللاديني، كلهم سواء في وجوب محاربتهم إذا احتلوا جزءًا من ديار الإسلام، يقوم بذلك أدنى البلاد إلى هذا الجزء يعاونهم الأقرب فالأقرب، حسب الحاجة، إلى أن يشمل الوجوب المسلمين جميعًا، إن لم تقم الكفاية إلا بالجميع.
(1/237)
ولم يبتل المسلمون في عصر، كما ابتلوا اليوم، بوقوع كثير من ديارهم في قبضة الكفرة المستعمرين . وفي مقدمة هذه الديار: فلسطين التي سلط عليها شذاذ الآفاق من اليهود . ومثل ذلك " كشمير " التي تسلط عليها الهندوس المشركون ... " وإريتريا " التي سلطت عليها الصليبية الحاقدة الماكرة، ومثل ذلك البلاد الإسلامية العريقة مثل بخاري وسمرقند وطشقند .. التي تسلطت عليه الشيوعية الملحدة الطاغية.
واسترداد هذه البلاد كلها، وتخليصها من براثن الكفر، وأحكام الكفار واجب على كافة المسلمين بالتضامن، وإعلان الحرب المقدسة لإنقاذها فريضة إسلامية.
فإذا قامت حرب في أي جزء من هذه الأجزاء بهذا القصد، ولهذه الغاية: تخليص البلد من أحكام الكفر وطغيان الكفرة، فهي - بلا نزاع - جهاد في سبيل الله، يجب أن يموّل ويعان، وأن يدفع له قسط من مال الزكاة، يقل ويكثر حسب حصيلة الزكاة من جهة، وحسب حاجة الجهاد من جهة ثانية، وحسب حاجة سائر المصارف الأخرى شدة وضعفًا من جهة ثالثة، وكل هذا موكول لأهل الحلّ والعقد، وذوي الرأي والشورى من المسلمين، إن وجدوا.
السعي لإعادة حكم الإسلام جهاد في سبيل الله :
وأحق ما ينبغي أن يصرف إليه سهم (في سبيل الله) في عصرنا ما ذكره العلامة السيد رشيد رضا رحمه الله، حيث اقترح تأليف جمعية ممن بقى من أهل الدين والشرف من المسلمين، تنظم جمع الزكاة منهم، وتصرفها - قبل كل شيء في مصالح المرتبطين بهذه الجمعية قال: ويجب أن يراعى في تنظيم هذه الجمعية: أن لسهم " سبيل الله " مصرفًا في السعي لإعادة حكم الإسلام، وهو أهم من الجهاد لحفظه - في حال وجوده - من عدوان الكفار، ومصرفًا آخر في الدعوة إليه والدفاع عنه بالألسنة والأقلام إذا تعذر الدفاع عنه بالسيوف والأسنة وألسنة النيران. (تفسير المنار ج 10 ص 598 ط. ثانية).
صور متنوعة للجهاد الإسلامي في عصرنا :
(1/238)
ويحسن بي أن أذكر هنا بعض الصور والأمثلة للجهاد الإسلامي في عصرنا الذي يعد " في سبيل الله ".
وقبل عرض هذه الصور والأمثلة أحب أن أوضح حقيقة لها أهميتها هنا.
هذه الحقيقة هي: أن عبء تجهيز الجيوش النظامية وتسليحها والإنفاق عليها، قد كان - منذ فجر الإسلام - محمولاً على الخزانة العامة للدولة الإسلامية، لا على أموال الزكاة، فكان ينفق على الجيوش والسلاح والمقاتلة من أموال الفيء والخراج ونحوها . وإنما يصرف من الزكاة على بعض الأمور التكميلية، كالنفقة على المجاهدين المتطوعين ونحو ذلك.
وكذلك نرى ميزانية الجيوش والدفاع في عصرنا، فعبؤها يقع على كاهل الميزانية العامة، لأنها تتطلب نفقات هائلة تنوء بها حصيلة الزكاة . ولو أن الزكاة حملت مثل هذه النفقات لكانت جديرة أن تبتلع حصيلتها ولا تكفي.
لهذا نرى أن توجيه هذا المصرف إلى الجهاد الثقافي والتربوي والإعلامي أولى في عصرنا، بشرط أن يكون جهادًا إسلاميًا صحيحًا.
و نستطيع أن نضرب أمثلة شتى لكثير من الأعمال التي تحتاج إليها رسالة الإسلام في هذا العصر، وهي جديرة أن تعد بحق جهادًا في سبيل الله.
إن إنشاء مراكز للدعوة إلى الإسلام الصحيح، وتبليغ رسالته إلى غير المسلمين في كافة القارات، في هذا العالم الذي تتصارع فيه الأديان والمذاهب، جهاد في سبيل الله.
وإن إنشاء مراكز إسلامية واعية في داخل بلاد الإسلام نفسها، تحتضن الشباب المسلم وتقوم على توجيهه الوجهة الإسلامية السليمة، وحمايته من الإلحاد في العقيدة، والانحراف في الفكر، والانحلال في السلوك، وتعده لنصرة الإسلام، وتحكيم شرعه، ومقاومة أعدائه، جهاد في سبيل الله.
وإن إنشاء صحيفة إسلامية خالصة، تقف في وجه الصحف الهدامة والمضللة، لتعلي كلمة الله، وتصدع بقولة الحق، وترد عن الإسلام أكاذيب المفترين، وشبهات المضللين، وتعلم هذا الدين لأهله خاليًا من الزوائد، والشوائب، جهاد في سبيل الله.
(1/239)
وإن نشر كتاب إسلامي أصيل، يحسن عرض الإسلام، أو جانب منه، ويكشف عن مكنون جواهره، ويبرز جمال تعاليمه، ونصاعة حقائقه، كما يفضح أباطيل خصومه، وتعميم مثل هذا الكتاب على نطاق واسع، جهاد في سبيل الله.
وإن تفريغ رجال أقوياء أمناء مخلصين، للعمل في المجالات السابقة بهمة وغيرة وتخطيط لخدمة هذا الدين، ومد نوره في الآفاق، ورد كيد أعدائه المتربصين به، وإيقاظ أبنائه النائمين عنه، و مقاومة موجات التبشير والإلحاد و الإباحية والعلمانية، جهاد في سبيل الله.
وإن معاونة الدعاة إلى الإسلام الحق، الذين تتآمر عليهم القوى المعادية للإسلام في الخارج، مستعينة بالطغاة والمرتدين من الداخل، جهاد في سبيل الله.
وإن الصرف على هذه المجالات المتعددة لهو أولى ما ينبغي أن يدفع فيه المسلم زكاته وفوق زكاته، فليس للإسلام - بعد الله - إلا أبناء الإسلام، وخاصة في عصر غربة الإسلام.
حكم إعطاء الشيوعيين والفساق من الزكاة.
س :هل يجوز إعطاء الملاحدة الجاحدين بالله ورسالاته كالشيوعيين نصيبًا من الزكاة إذا كانوا فقراء، باعتبار ذلك نوعًا من البر بالإنسان بوصفه إنسانًا، بغض النظر عن موقفه من الدين، أم أن إعطاءه فيه تشجيع له على انحرافه وكفره ؟.
وإذا لم يجز إعطاء الشيوعي أو الملحد الكافر، فهل يجوز أن يصرف من الزكاة على الفساق الذين يضيعون الصلوات، و يتبعون الشهوات، ويقترفون بعض المحرمات، مثل الزنى أو شرب المسكرات ونحوها، وإن كانوا في ظاهرهم مسلمين ؟ أم أن إعطاءهم من زكاة المسلمين يعد إعانة على معصية الله تعالى ؟.
أفتونا مأجورين.
(1/240)
ج: أما الكافر الملحد، الجاحد بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر مثل الشيوعي المصرّ على شيوعيته، المعتنق لمبادئ الماركسية المادية، التي تنكر كل ما وراء المادة، ولا تؤمن بشيء من الغيبيات، مثل الألوهية والوحي والرسالات، فهي تنفيها جميعًا . بل تزعم أن الدين أفيون الشعوب، وتفسر ظهور النبوات - ومنها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم - تفسيرًا ماديًا صرفًا، مثل هذا لا يجوز إعطاؤه من الزكاة بحال ؛ لأنه في نظر الشريعة الإسلامية مرتد لا يجوز موالاته أو نصرته أو مساعدته بمال، وهو بحكم موقفه العقائدي عدو لفكرة الإسلام ولكل داع إليه، ولكل حاكم به . فلا يتصور أن يعطي من مال المسلمين، ليتحول في يديه خنجرًا لطعن المسلمين. (إذا كان لهذا الشيوعي أولاد صغار، أو زوجة لا توافقه على عقيدته فإنهم يعطون من الزكاة ولا حرج).
ومثل هذا كل كافر محارب للإسلام، معاد لأمة الإسلام، فلا يجوز أن يعطي شيئًا من الزكاة ولا من غيرها، حتى لا يتقوى بذلك على أهل الإسلام . وهذا مقرر بالإجماع، كما نقله صاحب " البحر الزخار " . وسند هذا الإجماع قوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). (الممتحنة: 9).
وهذا بخلاف أهل الذمة من غير المسلمين الذين يعيشون في كنف المسلمين، فقد أجاز بعض الفقهاء إعطاء فقرائهم من الزكاة، وأجاز آخرون إعطاءهم على سبيل التأليف لقلوبهم، ومنع ذلك الجمهور، لأنها لا تؤخذ منهم فلا ترد عليهم، وقالوا: يعطون من موارد الدولة الأخرى غير الزكاة، ومن الصدقات التطوعية لدى الأفراد بناء على أننا لم نُنْهَ عن برّهم والإحسان إليهم واستنادًا إلى قوله تعالى: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم).
(1/241)
أما الفاسق فأجازوا إعطاءه من الزكاة ما دام باقيًا على أصل الإسلام، استصلاحًا لحاله، واحترامًا لآدميته، ولأنها تؤخذ منه فيجوز أن ترد عليه، فيدخل في عموم الحديث " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " (انظر البحر الزخار ج 2ص 186) وهذا ما لم يأخذ هذه الزكاة للاستعانة بها على فسقه ومعصيته . كأن يشتري بها خمرًا، أو يقضي بها وطرًا محرمًا، لأنه لا يعان بمال الله على معصية الله . ويكفي في ذلك غلبة الظن . ولهذا قال بعض المالكية: لا يجزئ دفع الزكاة لأهل المعاصي إن ظن أنهم يصرفونها فيها، وإلا جاز الإعطاء لهم. (انظر: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي - ص 492، وهو موافق لمذهب الجعفرية كما في فقه الإمام ج 4ص 93 . والأباضية كما في النيل وشرحه ج 2ص 131 - 132).
وعند الزيدية: الفاسق - كالغني - لا تحل له الزكاة ولا يجزئ صرفها إليه، إلا إذا كان من العاملين عليها أو المؤلفة قلوبهم. (شرح الأزهار ج 1 ص 520 - 521).
وسُئل الإمام ابن تيمية عن إعطاء الزكاة لأهل البدع أو لمن لا يصلي، فقال: " ينبغي للإنسان أن يتحرى بها المستحقين من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم، من أهل الدين، المتبعين للشريعة، فمن أظهر بدعة أو فجورًا، فإنه يستحق العقوبة بالهجر وغيره والاستتابة، فكيف يعان على ذلك ؟ ". (مجموع فتاوى ابن تيمية ج 25 ص 87).
وفي تاركي الصلاة قال :
" ومن لم يكن مصليًا أمر بالصلاة فإن قال: أنا أصلي، أعطي . وإلا لم يعط " (مجموع فتاوى ابن تيمية ج 25ص 87) يعني انه إذا أظهر توبة ووعد بأن يصلي، صدق في ذلك وأعطى.
(1/242)
وفي " الاختيارات " قال شيخ الإسلام : " لا ينبغي أن تعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله. فإن الله تعالى فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والغارمين أو لمن يعاون المؤمنين " (كالعاملين عليها والمجاهدين في سبيل الله) فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطي شيئًا حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة. (الاختيارات ص 61).
وخالف الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة شيخ الإسلام ابن تيمية في منع إعطاء الفسقة حتى يتوبوا . مستدلاً بأدلة ثلاثة :
1- عموم النص القرآني الذي جعل الصدقات للفقراء والمساكين من غير تفرقة بين المطيعين والعصاة ولم يوجد مخصص لهذا العموم . وإذا جاز لنا إعطاء غير المسلمين من الزكاة لتألفهم على الإسلام، جاز لنا أن نعطي العصاة نتألفهم على الطاعات.
2- إن عدم إعطائنا العاصي المحتاج من الزكاة كأنما نسلبه حق الحياة، ونحكم عليه بالموت جوعًا بسبب معصيته . ومعنى هذا أننا نبيح قتله، إذ لا فرق بين القتل بالسيف والقتل بالجوع، بل الثاني أشد.
وهذا لا يقول به أحد إلا الخوارج، وابن تيمية ليس منهم بحمد الله.
ويؤكد الشيخ هنا أن منع العصاة من الزكاة لا يدفعهم إلى الطاعات . بل قد يدفعهم إلى الإمعان في المعاصي والمنكرات . فقد أثبت علم النفس الجنائي أن الجرائم تنبعث في نفوس الذين ينبذهم المجتمع أو تتولد فيهم روح النفرة من الجماعة.
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعين المشركين في أزماتهم . فعندما نزلت جائحة بقريش بعد صلح الحديبية أرسل إلى أبي سفيان بن حرب خمسمائة دينار، يشتري بها برّا ليسد حاجة الفقراء من قريش. فإذا كان البرّ بالمشرك المحتاج سائغًا، أفيسوغ في منطق الإسلام أن يترك العاصي جائعًا حتى يتوب ؟.
وبعد هذه الأدلة قال الشيخ أبو زهرة :
(1/243)
من أجل هذا نخالف الإمام تقي الدين أبا العباس في هذا، وإن كان فرط تقواه هو الذي دفعه إلى هذا الاختيار أو هذا القول. (ملخص من البحث الذي قدمه الشيخ أبو زهرة إلى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية ص 75 -76).
على أنه أدلة شيخنا أبي زهرة هنا تحتمل المناقشة على وجاهتها.
( أ ) فقد يناقش الدليل الأول بوجود المخصص هنا، وهو القواعد العامة التي توجب هجر العاصي وزجره وتمنع من الإعانة على المعصية . وهي التي جعلت عامة الفقهاء يقولون: لا يعطي من غرم في سفه أو معصية، مع عموم لفظ " الغارمين " في آية الصدقات كعموم لفظ الفقراء والمساكين . وقد اختار الشيخ أبو زهرة في بحثه ألا تصرف الزكاة إلى هذا النوع من الغارمين . هذا إلى ما جاء في الحديث " لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي ". (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد وأسانيده صحيحة كما في الجامع الصغير وشرحه " التيسير، للمناوي ").
( ب ) وقد يناقش الدليل الثاني بأن منع الزكاة عن العاصي المحتاج ليس معناه تركه إذا بلغ حالة الضرورة التي يتعرض فيها للهلاك، فإنقاذه هنا من الزكاة وغيرها أمر جائز بل واجب.
على أن الذي يؤثر أن يموت جوعًا على أن يتوب أو يعد بالتوبة ليس مجرد عاص . بل هو فاجر محاد لله ورسوله.
( ج ) وقد يناقش الدليل الثالث بأن صلة الكافر - ومثله الفاسق - من غير مال الزكاة لا مانع منه، وخاصة إذا كان ذا قربى أو جوار.
والذي أراه أن هنا أمورًا ينبغي أن تكون موضع اتفاق.
1- فإعطاء العاصي من غير الزكاة فيه رخصة.
2-و عطاؤه على سبيل التأليف لقلبه، ينبغي ألا يمنع.
3- وإعطاء المضطر من الزكاة أو غير هاما تزول به ضرورته حتى لا يهلك جوعًا كذلك.
4- وإعطاؤه إذا كان له أسرة هو عائلها . لا مانع منه، لأنه: لا تزر وازرة وزر أخرى.
(1/244)
5- وإعطاء العاصي من الزكاة ما يظن أنه يستعين به على معصيته كأن يشتري بها خمرًا أو يلعب بها الميسر، لا يجوزه أحد، ولا الشيخ أبو زهرة.
ويبقى الخلاف في إعطاء الزكاة للعاصي غير المضطر الذي لا أسرة له . إذا لم يعط على سبيل التأليف . ورأيي أن نفرق بين من يعصي الله وهو مستمسك بأصل الإسلام فهذا لا مانع من إعطائه من الزكاة- وبين العاصي المتحلل المستخف بالدين و حرماته، المستحل لترك فرائضه فهذا ليس له من الإسلام إلا اسمه . ولا أحسب الشيخ أبا زهرة يدخل هذا في مجرد العصاة . والله أعلم.
(1/245)
في الصيام وزكاة الفطر
السحور للصائم
س: أفيدونا عن السحور .. هل هو شرط في صحة الصوم، أم أنه ليس كذلك ؟؟
ج: السحور ليس شرطًا في الصيام، وإنما هو سنة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر بها، وقال: " تسحروا، فإن في السحور بركة " (متفق عليه من حديث أنس) فيُسن السحور ويسن تأخيره، لأنه مما يقوي المسلم الصيام، ويخفف عنه مشقة الصوم ؛ لأنه يقلل مدة الجوع والعطش، وقد جاء هذا الدين بالميسرات، التي تيسر على الناس عباداتهم، وترغبهم فيها، ومن ذلك تعجيل الفطور وتأخير السحور، فيسن للمسلم الصائم أن يقوم إلى السحور ويتسحر ولو بالقليل ولو بتمرة أو شربة ماء، عملاً بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي السحور فائدة أخرى روحية، وهي التنبه والاستيقاظ قبل الفجر، ساعة السحور التي يتجلى الله فيها لعباده، فيجيب من دعا، ويغفر لمن استغفر، ويتقبل ممن عمل صالحًا . وما أعظم الفرق بين من يقضي هذا الوقت ذاكرًا تاليًا، ومن يمر عليه راقدًا نائمًا.
الاحتلام والغسل للصائم
س: إذا احتلمت وأنا نائم في نهار رمضان، ثم اغتسلت لأتطهر من الجنابة، فهل هذا الغسل يُفطر أم لا ؟
ج: كنت أظن السائل يسأل عن الاحتلام: هل يفطر أم لا ؟ فقد يشتبه ذلك على بعض الناس . وأبادر فأقول :
(1/246)
إن الاحتلام لا يفطر .. لأنه شيء لا دخل للإنسان فيه، ولم يقصد إليه، فهو لا يفطر .. نزول المني في الاحتلام لا يفطر .. وكذلك بالطبع الاستحمام لا يفطر، فإنه طهارة أمر بها الشارع الحكيم وفرضها على المسلم، وحتى لو دخل الماء من أذنيه فهو لا يفطر، ولو كان يتمضمض ودخل الماء رغمًا عنه وهو يتمضمض للوضوء أو للغسل، فهو أيضًا غير مفطر لأنه من الخطأ المعفو عنه، والله تعالى يقول: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم) (الأحزاب: 5) والرسول يقول: " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ". (رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر بإسناد صحيح كما قال السيوطي في الأشباه، ورواه في الكبير عن ابن عباس ورواه الحاكم أيضًا عنه، وقال: صحيح . كما رواه الطبراني عن ثوبان وأيضًا رواه ابن ماجة عن ابن عباس وأبي ذر وهو من أحاديث الأربعين النووية).
إفطار الكبير والحامل والمرضع
س: هل يجوز للشيخ كبير السن أن يفطر في رمضان وماذا يجب عليه عند ذلك ؟ وهل يصح للمرأة الحامل أن تفطر في رمضان خوفًا على الجنين أن يموت ؟ وماذا يجب عليها ؟ وهل يجوز استعمال الطيب في شهر رمضان ؟
ج: أما السؤال الأول فأجيب عنه بأنه يجوز لمثل هذا الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ويشق عليه مشقة شديدة، ومثله المرأة العجوز طبعًا، يجوز لهما أن يفطرا في رمضان، ومثلهما كل مريض لا يرجى شفاؤه من مرضه.
(1/247)
المريض مرضًا مزمنًا، قرر الأطباء أنه مستعص على العلاج، أو أنه مزمن معه، يجوز له أن يفطر، وهؤلاء إذا أفطروا عليهم فدية طعام مسكين عن كل يوم، رخصة من الله وتيسيرًا . وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185)، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (سورة الحج: 78) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " رخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه " (رواه الدارقطني والحاكم وصححاه)، وروى البخاري عنه قريبًا من هذا: أن في الشيخ الكبير ونحوه نزل قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خير له) (البقرة: 184) أي من زاد عن طعام المسكين فهو أفضل وأبقى له عند الله . فالشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى برؤه من مرضه، كل هؤلاء لهم أن يفطروا ويتصدقوا عن كل يوم طعام مسكين.
وأما السؤال الثاني: هل يصح للمرأة الحامل أن تفطر في رمضان إذا خافت على جنينها أن يموت ؟ فنعم .. لها أن تفطر .. بل إذا تأكد هذا الخوف أو قرره لها طبيب مسلم ثقة في طبه ودينه، يجب عليها أن تفطر حتى لا يموت الطفل، وقد قال تعالى :(لا تقتلوا أولادكم) (الأنعام: 151، والإسراء: 31) وهذه نفس محترمة، لا يجوز لرجل ولا لامرأة أن يفرط فيها ويؤدي بها إلى الموت . والله تعالى لم يعنت عباده أبدًا، وقد جاء عن ابن عباس أيضًا أن الحامل والمرضع ممن جاء فيهم (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين).
وإذا كانت الحامل والمرضع تخافان على أنفسهما فأكثر العلماء على أن لهما الفطر وعليهما القضاء فحسب .. وهما في هذه الحالة بمنزلة المريض.
(1/248)
أما إذا خافت الحامل أو خافت المرضع على الجنين أو على الولد، نفس هذه الحالة اختلف العلماء بعد أن أجازوا لها الفطر بالإجماع هل عليها القضاء أم عليها الإطعام تطعم عن كل يوم مسكينًا، أم عليها القضاء والإطعام معًا، اختلفوا في ذلك، فابن عمر وابن عباس يجيزان لها الإطعام وأكثر العلماء على أن عليها القضاء، والبعض جعل عليها القضاء والإطعام، وقد يبدو لي أن الإطعام وحده جائز دون القضاء، بالنسبة لامرأة يتوالى عليها الحمل والإرضاع، بحيث لا تجد فرصة للقضاء، فهي في سنة حامل، وفي سنة مرضع، وفي السنة التي بعدها حامل .. وهكذا .. يتوالى عليها الحمل والإرضاع، بحيث لا تجد فرصة للقضاء، فإذا كلفناها قضاء كل الأيام التي أفطرتها للحمل أو للإرضاع معناها أنه يجب عليها أن تصوم عدة سنوات متصلة بعد ذلك، وفي هذا عسر، والله لا يريد بعباده العسر.
هذا بالنسبة للسؤال الثاني.
وأما السؤال الثالث عن استعمال الطيب في شهر رمضان فهو جائز ولم يقل أحد بحرمة استعمال الطيب في رمضان ولا بأنه مفسد للصوم، والله أعلم.
حكم إفطار المريض وما الواجب عليه
س: لقد أجريت لي عدة عمليات، ومنعني الطبيب من الصيام، وصمت بعد العمليات بسنتين وتعبت من ذلك الصيام، وأنا رجل عاقل، فهل يصح لي أن أتصدق بدل الصيام ؟ وهل يصح لي أن أعطى نقودًا لبعض الضعفاء والمحتاجين نظير إفطاري في نهار رمضان ؟
(1/249)
ج: أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض، لقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185) فبالنص والإجماع يجوز الفطر للمريض، ولكن ما المرض المبيح للفطر، إنه المرض الذي يزيده الصوم، أو يؤخر الشفاء على صاحبه، أو يجعله يتجشم مشقة شديدة، بحيث لا يستطيع أن يقوم بعمله الذي يتعيش منه ويرتزق منه، فمثل هذا المرض هو الذي يبيح الفطر، قيل للإمام أحمد: متى يفطر المريض ؟ قال: إذا لم يستطع . قيل له: مثل الحمى ؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى ؟ وذلك، أن الأمراض تختلف، فمنها مالا أثر للصوم فيه، كوجع الضرس وجرح الأصبع والدمل الصغير وما شابههما، ومنها ما يكون الصوم علاجًا له، كمعظم أمراض البطن، من التخمة، والإسهال، وغيرها فلا يجوز الفطر لهذه الأمراض، لأن الصوم لا يضر صاحبها بل ينفعه، ولكن المبيح للفطر ما يخاف منه الضرر . والسليم الذي يخشى المرض بالصيام، يباح له الفطر أيضًا كالمريض الذي يخاف زيادة المرض بالصيام . وذلك كله يعرف بأحد أمرين :
إما بالتجربة الشخصية: وإما بإخبار طبيب مسلم موثوق به، في فنه وطبه، وموثوق به في دينه وأمانته، فإذا أخبره طبيب مسلم بأن الصوم يضره، فله أن يفطر، وإذا أبيح الفطر للمريض، ولكنه تحمل وصام مع هذا فقد فعل مكروهًا في الدين لما فيه من الإضرار بنفسه، وتركه تخفيف ربه وقبول رخصته، وإن كان الصوم صحيحًا في نفسه، فإن تحقق ضرره بالصيام وأصر عليه فقد ارتكب محرمًا، فإن الله غني عن تعذيبه نفسه . قال تعالى :(ولا تقتلوا أنفسكم . إن الله كان بكم رحيما). (النساء: 29).
(1/250)
بقى شيء من سؤال السائل وهو: هل يجوز له أن يتصدق بدل الأيام التي أفطرها وهو مريض ؟ فنقول له: المرض نوعان: مرض مؤقت يرجى الشفاء منه وهذا لا يجوز فيه فدية ولا صدقة، بل لابد من قضائه كما قال تعالى: (فعدة من أيام أخر) فإذا أفطر شهرًا فعليه شهر وإذا أفطر يومًا فعليه يوم، فإذا أفطر أيامًا فعليه أن يقضي مثلها حين يأتيه الله بالصحة وتتاح له فرصة القضاء .. هذا هو المرض المؤقت.
أما المرض المزمن فحكم صاحبه كحكم الشيخ الكبير والمرأة العجوز إذا كان المرض لا يرجى أن يزول عنه . ويعرف ذلك بالتجربة أو بإخبار الأطباء فعليه الفدية :إطعام مسكين . وعند بعض الأئمة - كأبي حنيفة - يجوز له أن يدفع القيمة نقودًا إلى من يرى من الضعفاء والفقراء والمحتاجين.
استعمال الحقنة الشرجية واللبوس ونحوها للصائم
س: هل تفطر الحقن التي تؤخذ في الوريد أو العضل، وكذلك الحقن الشرجية واستعمال المرهم أو اللبوس في فتحة الشرج لأجل البواسير أو غيرها ؟
ج :لا يجهل أحد معنى الصوم البسيط، وهو الامتناع عن الأكل والشرب ومباشرة النساء، وهي أمور نص عليها القرآن . ولا يجهل أحد كذلك معنى هذه الأمور الممنوعة، فقد كان يفهمها بداة الأعراب في عهد النبوة، ولم يحتاجوا في فهم معنى الأكل أو الشرب إلى حدود وتعريفات منطقية . ولا يجهل أحد كذلك الحكمة الأولى للصيام، وهي إظهار العبودية لله تعالى بترك شهوات الجسد طلبًا لمرضاته سبحانه كما قال في الحديث القدسي: " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ". (رواه البخاري).
(1/251)
وإذ تبين ذلك رأينا أن تعاطي الحقن بأنواعها، واستعمال المراهم ونحوها مما ذكره السائل ليس أكلاً ولا شربًا في لغة ولا عرف، ولا تنافي قصد الشارع من الصيام فهي لذلك لا تفطر . ولا موضع للتشديد في أمر لم يجعل الله فيه من حرج، قال تعالى في آية الصيام: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185) قال ابن حزم: لا ينقض الصوم حقنة (يعنون بها الحقنة الشرجية إذ الحقن العرقية والجلدية لم تكن عرفت في عهدهم) ولا سعوط (نشوق) ولا تقطير في أذن أو في إحليل أو في أنف ولا استنشاق وإن بلغ الحلق، ولا مضمضة دخلت الحلق من غير تعمد، ولا كحل وإن بلغ إلى الحلق نهارًا أو ليلاً، بعقاقير أو غيرها، ولا غبار طحن، أو غربلة دقيق أو حناء أو عطر، أو حنظل، أو أي شيء كان ولا ذباب دخل الحلق بغلبة ... إلخ.
واستدل ابن حزم لما ذهب إليه فقال: " إنما نهانا الله في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي . وما علمنا أكلاً ولا شربًا يكون من دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس . وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف - بغير الأكل والشرب - ما لم يحرم علينا إيصاله ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكحل والحقنة والتقطير في الإحليل ووصول الدواء إلى الجوف عن طريق جراحة .. إلخ: " الأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه.
فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك والله أعلم.
هل يقبل صيام تارك الصلاة ؟
(1/252)
س (2): هل يقبل الصيام من تارك الصلاة ؟ أم أن العبادات كلها مقرونة بعضها ببعض بحيث لا يقبل شيء منها إذا ترك الآخر ؟
ج (2): المسلم مطالب أن يؤدي العبادات كلها: يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت متى استطاع إليه سبيلاً . فمن ترك واحدة من هذه الفرائض بغير عذر يعتد الله به، فلعلماء الإسلام فيه آراء شتى، فمنهم من يذهب إلى كفره بترك أي واحدة منها . ومنهم من يكفر تارك الصلاة ومانع الزكاة.
ومنهم من يكفر تارك الصلاة فحسب، لمنزلتها في دين الله ولما ورد أن " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " (رواه مسلم).
ومن ذهب إلى تكفير تارك الصلاة عمدًا فلا يظن أن يقبل صومه، إذ الكافر لا تقبل له عبادة أصلاً.
ومنهم من يبقى عليه إيمانه وإسلامه ما دام مصدقًا بالله ورسوله وما جاء به غير جاحد ولا مرتاب . ويكتفي هذا الفريق من العلماء بوصفه بالفسوق عن أمر الله.
ولعل هذا الرأي - والله أعلم - هو أعدل الأقوال وأقربها . وعلى هذا فإذا قصر لكسل أو هوى في بعض الفرائض - غير منكر ولا مستهزئ - وأدى البعض الآخر كان ناقص الإسلام، ضعيف الإيمان، ويخشى على إيمانه إذا استمر على الترك . ولكن الله تعالى لا يضيّع أجر عمل أحسنه . بل له عند الله بقدر عمله: له مثوبة ما أدى . وعليه وزر ما فرط (وكل صغير وكبير مستطر) (القمر: 53) (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره). (الزلزلة: 7، 8).
إفطار بعض الأيام عمدًا في رمضان
س (3): ما حكم من صام أيامًا من رمضان وأفطر أيامًا أخر متعمدًا ؟ أتحتسب له الأيام التي صامها أم لا تحتسب ؟
(1/253)
ج (3): هذا السؤال من جنس السؤال السابق، وجوابنا عليه أن كل شيء بحسابه . والمسألة ليست في الأيام التي صامها هل تحسب أم لا ؟ بل في الأيام التي أفطرها هل تعوض أم لا ؟ ولا يمكن أن يعوض يوم رمضان إلا بيوم مثله من رمضان آخر، وكل رمضان يأتي مشغول بواجب الصوم فيه لا محالة. ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: " من أفطر يومًا من أيام رمضان لم يعوضه يوم من أيام الدنيا " رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي عن أبي هريرة وفي أحد رجاله مقال، ويروى عنه أن رجلاً أفطر في رمضان فقال أبو هريرة: لا يقبل منه صوم سنة . وعن ابن مسعود: من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر وإن صامه . ويروى عن أبي بكر وعليّ نحو ذلك .. فليتق الله امرؤ مسلم في دينه، وليحرص على صيام رمضان، ولينتصر على شهواته، فمن انهزم أمام بطنه لم ينتصر في ميدان من الميادين.
تأثير المعاصي على الصيام
س (4): ما حكم صائم رمضان إذا اغتاب أو كذب أو نظر إلى أجنبية بشهوة . أيصح صيامه أم يبطل ؟
(1/254)
ج (4): الصوم النافع المقبول هو الذي يهذب النفس، ويقوى إرادة الخير، ويثمر التقوى المذكورة في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة: 183) . والواجب على الصائم أن يكف عن كل قول أو فعل يتنافى وصومه حتى لا يكون حظه من صيامه الجوع والعطش والحرمان . وفي الحديث: " الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإذا سابه أو قاتله أحد فليقل: إني صائم " (رواه الشيخان) . وقال عليه السلام: " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر " . (رواه النسائي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري) . وقال صلوات الله عليه: " من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه: . رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن.
قال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث ألا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه.
ورأى ابن حزم: أن هذه الأشياء تبطل الصوم كما يبطله الطعام والشراب، وروى عن بعض الصحابة والتابعين ما يفهم منه هذا.
(1/255)
ونحن- وإن لم نقل برأي ابن حزم- نرى أن هذه المعاصي تضيع ثمرة الصيام وتفسد المقصود من شرعيته، ومن أجل ذلك كان سلف الأمة الصالحون يهتمون بالصوم عن اللغو والحرام كما يهتمون بالصوم عن الشراب والطعام ..قال عمر رضي الله عنه: " ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو " . وروى عن علىٍّ مثله .. وعن جابر قال: " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء " . وقال أبو ذر لطليق بن قيس: " إذا صمت فتحفظ ما استطعت "، فكان طليق إذا كان يوم صيامه دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة . وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا .. وعن ميمون بن مهران: " أهون الصيام الصيام عن الطعام والشراب " ..
(1/256)
وأيًا ما كان الأمر فللصوم أثره وثوابه، وللغيبة والكذب ونحوه عقابها وجزاؤها عند الله(كل شيء عنده بمقدار) (الرعد: 8) . وكل عمل بحساب وميزان (لا يضلّ ربي ولا ينسى) (طه: 52) . وتأمل هذا الحديث النبوي عن دقة الحساب الإلهي في الآخرة تجد فيه الجواب الكافي عن هذا السؤال والسؤالين قبله: روى الإمام أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم ؟ (يعني يوم القيامة) فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك " فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويهتف . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ماله لا يقرأ كتاب الله ؟ (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الأنبياء: 47) . فقال الرجل: يا رسول الله: ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم.
المضمضة والاستنشاق للصائم
س: هناك من يقول بأن المضمضة أو الاستنشاق في الوضوء تؤثر على صحة صيام الصائم، فما مدى صدق هذا القول ؟
ج :المضمضة والاستنشاق في الوضوء، إما سنتان من سننه كما هو مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي، وإما فرضان من فروضه كما هو مذهب الإمام أحمد الذي اعتبرهما جزءًا من غسل الوجه المأمور به . وسواء كانتا من السنن أم الفرائض، فلا ينبغي تركهما في الوضوء في صيام أو فطر.
(1/257)
كل ما على المسلم في حالة الصيام ألا يبالغ فيهما . كما يبالغ في حالة الإفطار فقد جاء في الحديث: " إذا استنشقت فأبلغ إلا أن تكون صائمًا " (أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة والبيهقي) . فإذا تمضمض الصائم أو استنشق وهو يتوضأ، فسبق الماء إلى حلقه من غير تعمد ولا إسراف، فصيامه صحيح، كما لو دخل غبار الطريق، أو غربلة دقيق، أو طارت ذبابة إلى حلقه، لأن كل هذا من الخطأ المرفوع عن هذه الأمة . وإن خالف في ذلك بعض الأئمة.
على أن المضمضة لغير الوضوء أيضًا لا يؤثر على صحة الصيام . ما لم يصل الماء إلى الجوف . والله أعلم.
السحور عند أذان الفجر
س :إذا تأخر الإنسان في السحور مجبرًا، كأن يغلبه النوم، وسمع أذان الفجر وكان ما يزال يأكل طعام سحوره، فهل يترك الطعام فور سماعه الأذان ؟ أم من الجائز الاستمرار في الأكل حتى انتهاء الأذان.
ج :إذا تأكد أن أذان الفجر في موعده المضبوط، حسب التقويم المحلي للبلد الذي يصوم فيه، وجب عليه أن يترك الأكل والشرب فور سماعه الأذان، بل لو كان في فمه طعام وجب عليه أن يلفظه حتى يصح صومه . أما إذا كان يعرف أن الأذان قبل موعده بدقائق، أو على الأقل يشك في ذلك فمن حقه أن يأكل أو يشرب حتى يستيقن من طلوع الفجر.
وهذا ميسور الآن بواسطة التقويم (الإمساكيات) والساعات الدقيقة التي لا يخلو منها بيت.
قال رجل لابن عباس رضي الله عنه: إني أتسحر، فإذا شككت أمسكت.
قال ابن عباس: كل، ما شككت، حتى لا تشك.
وقال الإمام أحمد: إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه.
وقال النووي: وقد اتفق أصحاب الشافعي على جواز الأكل للشاك في طلوع الفجر: والدليل على ذلك أن الله تعالى أباح الأكل والشرب في ليلة الصيام إلى غاية هي تبين الفجر، والشاك لم يتبين له الفجر، قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر). (البقرة: 187).
(1/258)
ومن هنا نتبين أن الإمساك مدة من الزمن قبل الفجر بصفة دائمة لم يرد به كتاب ولا سنة وهو لون من الغلو في الدين، وينافي ما جاء في السنة من استحباب تأخير السحور . والله أعلم.
أكل الصائم أو شربه ناسيًا
س: كثيرًا ما ينسى الناس في بداية شهر رمضان . فيأخذ أحدهم كوب ماء أو سيجارة أو أي شيء آخر ويضعه في فمه . ثم يتذكر أنه صائم . ويكون قد أكل فعلاً أو شرب . فهل يجوز له استكمال صيام يومه ؟
ج :جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " .. من نسى وهو صائم فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه " .. وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح: " فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه .. " وفي لفظ آخر للدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم .. " من أفطر من رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة " . وإسناده صحيح أيضًا قاله الحافظ ابن حجر.
وهذه الأحاديث صريحة في عدم تأثير الأكل والشرب ناسيًا على صحة الصوم . وهو الموافق لقوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذانا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة: 286) وقد ثبت في الصحيح أن الله أجاب هذا الدعاء.
كما ثبت في حديث آخر: " إن الله وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
فعلى الصائم الذي أكل وشرب ناسيًا أن يستكمل صيام يومه، ولا يجوز له الفطر.
وبالله التوفيق.
زكاة الفطر لمن صام في بلد وعَيَّد في آخر
س: بالنسبة لزكاة الفطر، إذا صام صائم ثلثي الشهر في بلد ما، وكان ينوي صيام بقية الشهر في بلد آخر ويشهد العيد هناك . ففي أي البلدين يجب أن يخرج الزكاة ؟
(1/259)
ج :يخرج المسلم زكاة فطره في البلد الذي يدركه فيه أول ليلة من شوال (ليلة العيد) ؛ لأن هذه الزكاة ليس سببها الصيام وإنما سببها الفطر ولهذا أضيفت إليه وسميت زكاة الفطر ولهذا لو مات إنسان قبل مغرب اليوم الأخير من رمضان لم تكن زكاة الفطر واجبة عليه، وإن صام سائر أيام رمضان . ولو ولد مولود بعد مغرب آخر يوم من رمضان أي في الليلة الأولى لدخول شهر شوال كان من الواجب إخراج زكاة الفطر عنه بالإجماع فهي زكاة مرتبطة بالعيد وبتعميم الفرحة به بحيث تشمل الفقراء والمساكين، ولهذا جاء في الحديث: " اغنوهم في هذا اليوم ".
خروج المرأة لصلاة التراويح
س: بعض المسلمات يواظبن على صلاة التراويح في المسجد، تخرج إحداهن إلى الصلاة بدون إذن زوجها، كما أن بعضهن تسمع أصواتهن متحدثات في المسجد، فما حكم صلاتهن ؟ وهل هي واجبة عليهن ؟
ج: صلاة التراويح ليست واجبة على النساء ولا على الرجال، وإنما هي سنة لها منزلتها وثوابها العظيم عند الله . روى الشيخان عن أبي هريرة قال: يأمرهم بعزيمة ثم يقول: " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله ما تقدم من ذنبه ".
من صلى التراويح بخشوع واطمئنان مؤمنًا محتسبًا، وصلى الصبح في وقتها، فقد قام رمضان واستحق مثوبة القائمين.
(1/260)
وهذا يشمل الرجال والنساء جميعًا . إلا أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها بالمسجد، ما لم يكن وراء ذهابها إلى المسجد فائدة أخرى غير مجرد الصلاة، مثل سماع موعظة دينية، أو درس من دروس العلم، أو سماع القرآن من قارئ خاشع مجيد . فيكون الذهاب إلى المسجد لهذه الغاية أفضل وأولى . وبخاصة أن معظم الرجال في عصرنا لا يفقهون نساءهم في الدين، ولعلهم لو أرادوا لم يجدوا عندهم القدرة على الموعظة والتثقيف، فلم يبق إلا المسجد مصدرًا لذلك فينبغي أن تتاح لها هذه الفرصة، ولا يحال بينها وبين بيوت الله . ولا سيما أن كثيرًا من المسلمات إذا بقين في بيوتهن لا يجدن الرغبة أو العزيمة التي تعينهن على أداء صلاة التراويح منفردات بخلاف ذلك في المسجد والجماعة.
على أن خروج المرأة من بيتها - ولو إلى المسجد - يجب أن يكون بإذن الزوج، فهو راعي البيت، والمسئول عن الأسرة، وطاعته واجبة ما لم يأمر بترك فريضة، أو اقتراف معصية فلا سمع له إذن ولا طاعة.
وليس من حق الرجل أن يمنع زوجته من الذهاب إلى المسجد إذا رغبت في ذلك إلا لمانع معتبر . فقد روى مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " .
والمانع المعتبر شرعًا: أن يكون الزوج مريضًا مثلاً، وفي حاجة إلى بقائها بجواره تخدمه وتقوم بحاجته . أو يكون لها أطفال صغار يتضررون من تركهم وحدهم في البيت مدة الصلاة وليس معهم من يرعاهم، ونحو ذلك من الموانع والأعذار المعقولة.
وإذا كان الأولاد يحدثون ضجيجًا في المسجد، ويشوشون على المصلين بكثرة بكائهم وصراخهم، فلا ينبغي أن تصطحبهم معها فترة الصلاة . فإن ذلك وإن جاز في صلوات الفرائض اليومية لقصر مدتها ينبغي أن يمنع في صلاة التراويح لطول مدتها، وعدم صبر الأطفال عن أمهاتهم هذه المدة التي قد تزيد على الساعة.
(1/261)
وأما حديث النساء في المساجد، فشأنه شان حديث الرجال، ولا يجوز أن يرتفع الصوت به لغير حاجة . وبخاصة الأحاديث في أمور الدنيا، فلم تجعل المساجد لهذا، إنما جعلت للعبادة أو العلم.
فعلى المسلمة الحريصة على دينها أن تلتزم الصمت في بيت الله، حتى لا تشوش على المصلين أو على درس العلم، فإذا احتاجت إلى الكلام، فليكن ذلك بصوت خافت وبقدر الحاجة، ولا تخرج عن الوقار والاحتشام في كلامها ولبسها ومشيتها.
وأحب أن أقول هنا كلمة منصفة: إن بعض الرجال يسرفون إسرافًا شديدًا في الغيرة على جنس النساء، والتضييق عليهن، فلا يؤيدون فكرة ذهاب المرأة إلى المسجد بحال، برغم الحواجز الخشبية العالية التي تفصل بين الرجال والنساء، والتي لم يكن لها وجود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، والتي تمنع النساء من معرفة تحركات الإمام إلا بالصوت والسماع، ولا غرو أن ترى بعض هؤلاء الرجال يسمحون لأنفسهم في المسجد بالكلام والأحاديث، ولا يسمح أحدهم لامرأة أن تهمس في أذن جارتها بكلمة ولو في شأن ديني، وهذا مبعثه التزمت وعدم الإنصاف، والغيرة المذمومة التي جاء بها الحديث: " إن من الغيرة ما يبغضه الله ورسوله "، وهي: الغيرة في غير ريبة.
لقد فتحت الحياة الحديثة الأبواب للمرأة . فخرجت من بيتها إلى المدرسة والجامعة والسوق وغيرها، وبقيت محرومة من خير البقاع وأفضل الأماكن وهو المسجد . وإني أنادي بلا تحرج: أن أفسحوا للنساء في بيوت الله، ليشهدن الخير، ويسمعن الموعظة ويتفقهن في الدين، ولا بأس أن يكون من وراء ذلك ترويح عنهن في غير معصية ولا ريبة، ما دمن يخرجن محتشمات متوقرات بعيدات عن مظاهر التبرج الممقوت.
والحمد لله رب العالمين.
التليفزيون والصيام
س: ما رأي الشرع الحنيف في مشاهدة التليفزيون للصائم في رمضان ؟
(1/262)
ج: التليفزيون وسيلة من الوسائل، فيه خير وفيه شر، والوسائل لها حكم المقاصد دائمًا، فالتليفزيون كالإذاعة ... وكالصحافة .. فيها ما هو طيب وما هو خبيث . وعلى المسلم أن ينتفع بالطيب، وأن يتجنب الخبيث، سواء كان صائمًا أم غير صائم ... ولكن في الصيام، على المسلم أن يحتاط أكثر، حتى لا يفسد صومه، وحتى لا يذهب أجره ويحرم من مثوبة الله عز وجل.
فمشاهدة التليفزيون، لا أقول فيها حلال مطلق ولا حرام مطلق . وإنما يتبع ذلك الشيء الذي يشاهد في هذا الجهاز: فإن كان خيرًا جازت رؤيته، وسماعه، كبعض الأحاديث الدينية، ونشرات الأخبار، والبرامج الموجهة إلى الخير .. وإن كان شرًا كبعض المشاهد الراقصة الخليعة ونحو ذلك، فهذا يحرم رؤيته في كل وقت، ويتأكد ذلك في شهر رمضان.
وبعض المشاهدة تكره رؤيتها وإن لم تصل إلى درجة الحرمة.
وكل وسيلة من الوسائل تصد عن ذكر الله فهي حرام ...
فإذا كانت مشاهدة التليفزيون، أو سماع الراديو وغير ذلك، يلهي عن واجب أوجبه الله على عباده كالصلاة .. ففي هذه الحالة يحرم .. يحرم الاشتغال عن الصلاة بأي شيء ... فالله سبحانه وتعالى حينما علل تحريم الخمر والميسر، جعل من هذه العلة (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟). (المائدة: 91).
وعلى المسئولين عن برامج التليفزيون، أن يتقوا الله فيما ينبغي أن يقدم للجمهور دائمًا، وفي رمضان خاصة، رعاية لحرمة الشهر المبارك، وإعانة للناس على طاعة الله، والاستزادة من الخيرات، حتى لا يحملوا إثم أنفسهم، وإثم المشاهدين معهم، كالذين قال الله فيهم: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم، ألا ساء ما يزرون). (النحل: 25).
الإسراع في صلاة التراويح
س: ما حكم الإسراع في صلاة التراويح ؟
(1/263)
ج: ثبت في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " . فالله سبحانه وتعالى شرع في رمضان في نهاره الصيام، وشرع على لسان رسوله في ليلة القيام، وجعل هذا القيام سببًا للتطهر من الذنوب والخطايا .. ولكن القيام الذي تغفر به الذنوب، وتغسل فيه الأدناس، هو الذي يؤديه المسلم كاملاً بشروطه وأركانه وآدابه وحدوده . وقد علمنا أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة كقراءة الفاتحة، وكالركوع وكالسجود .. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أساء بعض الناس الصلاة أمامه ولم يؤد لها حقها من الاطمئنان، قال له: " ارجع فصل، فإنك لم تصل " .. ثم علمه كيف تكون الصلاة المقبولة فقال له: " اركع حتى تطمئن راكعًا، واعتدل حتى تطمئن قائمًا، واسجد حتى تطمئن ساجدًا، واجلس بين السجدتين حتى تطمئن جالسًا وهكذا " (رواه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة) .. فالطمأنينة في جميع هذه الأركان شرط لابد منه، وحدّ الطمأنينة المشروطة قد اختلف فيه العلماء . فمنهم من جعل أدناه أن يكون مقدار تسبيحة كأن يقول: سبحان ربي الأعلى مثلاً . وبعضهم - كالإمام شيخ الإسلام ابن تيمية اشترط أن يكون مقدار الطمأنينة في الركوع والسجود نحو ثلاث تسبيحات، فقد جاء في السنة أن التسبيح ثلاث، وذلك أدناه فلابد أن تطمئن بمقدار ثلاث تسبيحات ... ويقول الله عز وجل: (قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون). (المؤمنون: 1، 2).
والخشوع نوعان :
خشوع بدن، وخشوع قلب.
فخشوع البدن: أن يطمئن البدن ولا يعبث ولا يلتفت المرء تلفت الثعلب .. ولا ينقر الركعات والسجدات نقر الديكة، وإنما يؤديها بأركانها وحدودها كما شرعها الله عز وجل ..
لابد إذن من خشوع البدن .. ولابد من خشوع القلب ..
(1/264)
وخشوع القلب معناه استحضار عظمة الله عز وجل، وذلك بالتأمل في معاني الآيات التي تُتلى، وبتذكر الآخرة، وبتذكر أن المصلي بين يدي الله عز وجل .. وأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) . قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) . قال الله عز وجل: أثنى علىَّ عبدي . وإذا قال: (مالك يوم الدين) . قال الله تعالى: مجّدني عبدي . وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين)، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم) . قال الله تعالى: هذا لعبدي . ولعبدي ما سأل ". (رواه مسلم).
فالله سبحانه وتعالى ليس بمعزل عن المصلي، ولكنه يجيبه، فلابد أن يتجاوب المسلم المصلي مع الله عز وجل، وأن يستحضر قلبه في كل حركة من حركات الصلاة، وفي كل وقت من أوقاتها، وفي كل ركن من أركانها، فالذين يصلون وكل همهم أن يفرغوا من الصلاة، وأن يتخلصوا منها، وأن يلقوها كأنها عبء فوق ظهورهم، فإنها ليست هذه هي الصلاة المطلوبة . وكثير من الناس يصلون في رمضان العشرين والثلاث والعشرين ركعة في دقائق معدودات، كل همه أن يخطف الصلاة خطفًا، وأن ينتهي منها في أسرع وقت ممكن ... لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها .. فهذه كما ورد في الحديث: " تعرج إلى السماء وهي سوداء مظلمة تقول لصاحبها: ضيَّعك الله كما ضيَّعتني " .
والصلاة الخاشعة المطمئنة تعرج إلى السماء بيضاء ناصعة تقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني.
ونصيحتي لكثير من الأئمة والمصلين الذين يصلون هذا العدد بغير إتقان ولا خشوع ولا حضور قلب ولا سكون بدن، أن يصلوا ثماني ركعات مطمئنة خاشعة متقنة خير من هذه العشرين، فليست العبرة بالكم والكثرة، ولكنّ العبرة بالكيف والنوع ... العبرة في الصلاة نفسها .. هل هي صلاة الخاشعين ؟ أم هي صلاة الخطافين ؟
(1/265)
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المؤمنين الخاشعين.
حبوب تأخير الحيض في رمضان
س: نحن نعلم أن صيام رمضان خير وبركة في جميع أيامه، ولا نحب أن نحرم من بعض هذه الأيام صومًا ولا صلاة، فهل يجوز لنا استعمال حبوب منع الحيض مع العلم بأن البعض قد جربه ولم يضر ؟ نسوة مسلمات.
ج: أجمع المسلمون على أن المسلمة التي تأتيها العادة الشهرية في رمضان المبارك لا صيام عليها، أي لا صيام عليها في الشهر وإنما يجب عليها القضاء، وذلك تخفيف من الله ورحمة بالمرأة الحائض حيث يكون جسمها متعبًا وأعصابها متوترة، فأوجب عليها الإفطار إيجابًا وليس إباحة .. فإذا صامت لا يقبل منها الصيام ولا يجزئها، لابد أن تقضي أيامًا بدل هذه الأيام، وهكذا كان يفعل النساء المسلمات منذ عهد أمهات المؤمنين والصحابيات رضي الله عنهن ومن تبعهن بإحسان - ولا حرج إذن على المرأة المسلمة إذا وافتها هذه العادة الشهرية أن تفطر في رمضان، وأن تقضي بعد ذلك كما جاء عن عائشة: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. (رواه البخاري).
وأنا أفضل شخصيًا أن تسير الأمور على الطبيعة وعلى الفطرة . فما دام هذا الحيض أمرًا طبيعيًا فطريًا فليبق كما هو على الطبيعة التي جعلها الله عز وجل، ولكن إذا كان هناك نوع من الحبوب والأدوية تتعاطاها بعض النساء، لتأجيل الحيض كما هو معروف من حبوب منع الحمل، وأرادت بعض النساء أن يتناولن هذه الحبوب لتأخير العادة عن موعدها حتى لا تفطر بعض أيام رمضان، فهذا لا بأس به بشرط أن تتأكد من عدم إضراره بها . وذلك باستشارة أهل الذكر، أهل الخبرة . باستشارة طبيب حتى لا تتضرر من تناول هذه الحبوب . فإذا تأكد لها ذلك وتناولت هذه الحبوب وتأخرت العادة صامت، فإن صيامها مقبول إن شاء الله.
قضاء الصيام في شهر شعبان
(1/266)
س: لقد اضطررت للإفطار ستة أيام في السنة الماضية في شهر رمضان المبارك بسبب العادة الشهرية، وعندما أردت قضاء هذه الأيام بدأت بصومها في العشرين من شعبان وبعدما صمت يومين أتاني كثير من الناس وقالوا لي: إنه لا يجوز قضاء الصوم في شهر شعبان فما رأيكم في هذا ؟
ج: لا حرج ولا بأس بقضاء ما فات المسلمة أو المسلم من رمضان في أي شهر من الشهور حتى في شعبان نفسه، بل قد ورد أن عائشة كانت أحيانًا تتأخر بقضاء بعض الأيام إلى شعبان فتصومها قبل أن يأتي رمضان . فلتطمئن المسلمة على الأيام التي صامتها، وهي مقبولة ومجزئة عنها والله تعالى يتقبل من المتقين.
كيفية معرفة دم الحيض من غيره
س: أنا بنت عمري 18 سنة وأول ما جاءني الحيض خرج مني شيء أبيض مثل الترشيح لا أعرفه، هل يصح لي الصلاة والصيام ؟
ج: هذه الأشياء تعتبر إفرازات طبيعية بالنسبة للفتاة وبالنسبة للمرأة، والذي يوجب الفطر ويحرم الصلاة وغيرها إنما هو الدم . دم الحيض المعروف بالحمرة القانية، فإذا لم يكن هناك دم وإنما كان هناك بعض الإفرازات بالصفة التي تصفها السائلة فلا تخف الأخت السائلة منها ولها - بل عليها - أن تصوم وأن تصلي وأن تؤدي عباداتها والله تعالى يتقبل منها.
حكم أخذ الإبر أو الحقن في الصيام، ووضع الدواء في الأذن والاكتحال
س: هل يصح للمريض أن يأخذ حقنًا في شهر رمضان أو حقنًا شرجية، وهل يصح للمريض وهو صائم وآذانه تؤلمه أن يضع فيها الدواء، وهل يصح للمرأة أن تكحل عينيها في شهر رمضان صباحًا ؟
ج: نقول لكل من يستفسر عن أخذ الحقن أو الإبر في شهر رمضان بأن الإبر أنواع فمنها ما يؤخذ كدواء وعلاج، سواء كان في الوريد أو في العضل أو تحت الجلد، فهذه لا مجال للخلاف فيها، فهي لا تصل إلى المعدة، ولا تغذي، فهي لذلك لا تفطر الصائم ولا مجال للكلام هنا.
(1/267)
إنما هناك نوع من الإبر يصل بالغذاء مصفى إلى الجسم، كإبر الجلوكوز فهي تصل بالغذاء إلى الدم مباشرة، فهذه قد اختلف فيها علماء العصر، حيث أن السلف لم يعرفوا هذه الأنواع من العلاجات والأدوية، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن العصور الأولى شيء في هذا الأمر، فهذا أمر مستحدث ؛ ولهذا اختلف فيه علماء العصر، فمنهم من يرى هذا النوع مفطرًا لأنه يصل بالغذاء إلى أقصى درجاته حيث يصل إلى الدم مباشرة، وبعضهم يقول: إنها لا تفطر أيضًا، وإن كانت تصل إلى الدم لأن الذي يفطر هو الذي يصل إلى المعدة، والذي يشعر الإنسان بعده بالشبع، أو بالري فالمفروض في الصيام هو حرمان شهوة البطن وشهوة الفرج، أي أن يشعر الإنسان بالجوع وبالعطش، ومن هنا يرى هؤلاء العلماء أن هذه الإبر المغذية أيضًا لا تفطر.
ومع أني أميل إلى هذا الرأي الأخير أرى أن الأحوط على كل حال أن يمتنع المسلم عن هذه الإبر في نهار رمضان، فعنده متسع لأخذها بعد الغروب . وإن كان مريضًا فقد أباح الله له الفطر، فإن هذه الإبر وإن لم تكن تغذي بالفعل، تغذية الطعام والشراب وإن لم يشعر الإنسان بعدها بزوال الجوع والعطش كالأكل والشرب المباشرين، فهو على الأقل يشعر بنوع من الانتعاش، بزوال التعب الذي يزاوله ويعاينه الصائم عادة، وقد أراد الله من الصيام أن يشعر الإنسان بالجوع والعطش، ليعرف مقدار نعمة الله عليه، وليحس بآلام المتألمين وبجوع الجائعين وبؤس البائسين .. فنخشى إذا فتحنا الباب لهذه الإبر أن يذهب بعض القادرين الأثرياء فيتناول هذه الإبر بالنهار لتعطيهم نوعًا من القوة وقدرًا من الانتعاش لكي لا يحسوا كثيرًا بألم الجوع وبألم الصيام في نهار رمضان، فالأولى أن يؤجلها الصائم إلى ما بعد الإفطار.
هذا جواب السؤال الأول.
(1/268)
أما السؤال الثاني والثالث أيضًا .. وهو ما يتصل بوضع الدواء في الأذن وكذلك تكحيل العينين في نهار رمضان، ومثل ذلك الحقنة الشرجية هذه كلها أشياء ربما يصل بعضها إلى الجوف ولكنها لا تصل إلى الجوف من منفذ طبيعي وليس من شأنها أن تغذي ولا أن يشعر الإنسان بعدها بانتعاش أو نحو ذلك، وقد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في شأنها ما بين متشدد وما بين مترخص . فمن العلماء من حكم بأن هذه الأشياء مفطرة . ومن العلماء من قال بأن هذه الأشياء ليست منفذًا طبيعيًا إلى الجوف فهي لذلك لا تفطر، والحقيقة أني أختار بأن هذه الأشياء - أعني استعمال الكحل ومثله القطرة في العين ومثل ذلك التقطير في الأذن وكذلك وضع المراهم ونحوها في الدبر لمن عنده مرض البواسير وما شابه ذلك ... والحقنة الشرجية أيضًا .. وهي التي يستعملها من يشكو الإمساك - كل هذه الأمور أرى أنها لا تفطر، وهذا الذي أفتى به هو ما اختاره ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه فقد ذكر تنازع العلماء في هذه الأشياء ثم قال: والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمه الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك، قال: والحديث الذي يروى في الكحل ضعيف، وقال يحيى بن معين: هذا حديث منكر.
هذه هي فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية وهي مبنية على أصلين :
(1/269)
الأول: أن الأحكام التي تعم بها البلوى ويحتاج إلى معرفتها جمهور الناس يجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانها للأمة، فإنه المبين للناس ما نزل إليهم، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم) (النحل: 44) كما يجب على الأمة أن تفعل هذا البيان من بعده.
هذا أصل.
والأصل الثاني: أن الاكتحال والتقطير في الأذن ونحوها مما لم يزل الناس يستعملونه منذ أقدم العصور فهو مما تعم به البلوى، شأنه شأن الاغتسال والأدهان والبخور والطيب ونحوها، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما بين الإفطار بغيره فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن .. أي زيت الشعر ونحوها .. قال ابن تيمية: والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل إلى الدماغ، وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى داخله ويتقوى به، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك، دل على جواز تطيبه وتبخره ودهنه وكذلك اكتحاله . ومن جملة ما قال ابن تيمية في هذه الفتوى: أن الكحل لا يغذي ألبتة، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه، لا من أنفه ولا من فمه، وكذلك الحقنة (يعني الشرجية) لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات، أو فزع فزعًا أوجب استطلاق بطنه، وهي لا تصل إلى المعدة .. وهذا كلام جيد وفهم عميق لفقه الإسلام، وهو الذي نختاره ونفتي به.
وبالله التوفيق.
استعمال السواك ومعجون الأسنان للصائم
س: ما حكم استعمال السواك للصائم، وخاصة الاستياك بمعجون الأسنان ؟
(1/270)
ج: السواك قبل الزوال مستحب كما هو دائمًا، وبعد الزوال اختلف الفقهاء فقال بعضهم: يكره الاستياك للصائم بعد الزوال . وحجته في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " (رواه البخاري من حديث أبي هريرة) فهو يرى أن ريح المسك هذا لا يحسن أن يزيله المسلم، أو يكره له أن يزيله، ما دامت هذه الرائحة مقبولة عند الله ومحبوبة عند الله، فليبقها الصائم ولا يزيلها، وهذا مثل الدماء ... دماء الجراح .. التي يصاب بها الشهيد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشهداء: " زمّلوهم بدمائهم وثيابهم، فإنما يبعثون بها عند الله يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك " ولذلك يبقى الشهيد بدمه وثيابه لا يغسل ولا يزال أثر الدم . قاسوا هذا على ذلك . والصحيح أنه لا يقاس هذا على ذلك، فذلك له مقام خاص، وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتسوك ما لا يحصى وهو صائم " فالسواك في الصيام مستحب في كل الأوقات في أول النهار وفي آخره، كما هو مستحب قبل الصيام وبعد الصيام .. فهو سنة أوصى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " (رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما . ورواه البخاري معلقًا مجزومًا) . ولم يفرق بين الصوم وغيره.
أما معجون الأسنان، فينبغي التحوط في استعماله بألا يدخل شيء منه إلى الجوف وهذا الذي يدخل إلى الجوف مفطر عند أكثر العلماء ؛ ولذا فالأولى أن يجتنب المسلم ذلك ويؤخره إلى ما بعد الإفطار، ولكن إذا استعمله واحتاط لنفسه وكان حذرًا في ذلك ودخل شيء إلى جوفه فهو معفو عنه والله سبحانه وتعالى يقول :(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم) (الأحزاب: 5) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " والله تعالى أعلم.
(1/271)
المسافة التي يجوز للمسافر فيها الإفطار
س: ما هي المسافة التي يجوز للمسافر إذا قطعها أن يفطر هل هي حقًا 81 كيلو مترًا ؟ وهل يجوز له ألا يفطر إذا لم يواجه مشقة في سفره ؟
ج: أما المسافر فله أن يفطر بنص القرآن الكريم: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) والمسافة قد اختلف فيها الفقهاء ولكن هذه المسافة التي يسأل عنها السائل وهي أكثر من 80 كيلو مترًا اعتقد أن الجميع يوافقون عليها وقد قدرت المسافة لقصر الصلاة ولإباحة الفطر عند أكثر المذاهب بنحو 84 كيلو مترًا وهذه التقديرات تقريبية .. ولم يجيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه تقدير بالمتر ولا بالكيلو متر، فهذه المسافة كافية، وإن كان بعض العلماء لا يشترط مسافة أصلاً، فإن كل سفر يسمى سفرًا لغة وعرفًا يجيز فيه قصر الصلاة، كما يجيز فيه للمسافر أن يفطر .. هذا ما قرره القرآن الكريم وما قررته السنة، وهو مخير في ذلك، فقد كان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسافرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب المفطر على الصائم، ولم يعب الصائم على المفطر. ولكن المسافر الذي يشق عليه الصوم مشقة شديدة يكره له أن يصوم، بل ربما حرم عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل قد ظلل عليه من شدة مشقة الصوم عليه، فسأل عنه فقالوا: صائم . فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس من البر الصيام في السفر " (رواه البخاري) وذلك فيمن اشتدت المشقة عليه، ومن لم يشق عليه فهو بالخيار كما قلنا، يصوم أو يفطر، ولكن ما أفضلهما ؟
(1/272)
اختلف العلماء، بعضهم فضل الصيام، وبعضهم فضل الفطر، وقال عمر بن عبد العزيز: أيسرهما أفضلهما . فبعض الناس يكون أيسر عليه أن يصوم مع الصائمين، لئلا يقضي بعد ذلك أيامًا والناس مفطرون، فهذا نقول له: صم . وبعض الناس يرى أن الفطر عليه أيسر في رمضان، ليقضي أمورًا، ويقضي حاجات ويتحرك بسهولة، في قضاء ما شرع الله له وما أباح له، فهذا نقول له: افطر واقض عدة من أيام أخر . فأيسرهما على صاحبه فهو أفضل .و روى أبو داود عن حمزة ابن عامر الأسلمي قال: قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر (أي صاحب ركوبة) أعالجه وأسافر عليه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر وأنا أجد القوة، وأنا شاب، وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون علىَّ من أن أؤخر فيكون دينًا على، أفأصوم يا رسول الله ؟ أعظم لأجري ؟ أم أفطر ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أي ذلك شئت يا حمزة " . أي اختر ما يتيسر لك.
وفي رواية عن النسائي عنه: أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجد قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح ؟ قال: " هي رخصة الله لك، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " . هذا هو شرع الله في المسافر . وليس من الضرورة ولا من الشرط في هذه الرخصة أن تكون المشقة شديدة أو أن تتحقق المشقة، بل السفر نفسه مبيح للفطر، لم يعلق الله الرخصة على المشقة، وإنما علقها على السفر . فإن المشقة لو علق بها الحكم لاختلف الناس فيها اختلافًا شديدًا، فالمتزمت يعاني أصعب المشقات، ومع هذا يقول: ليست هذه مشقة فيكلف نفسه ما يرهقها، وما يعنتها، والله لا يريد إعنات عباده . والمترخص يعتبر أدنى جهد مشقة عليه.
(1/273)
لهذا علق الله حكم الإفطار في السفر، على السفر نفسه، فلو سافر الإنسان في طائرة أو في قطار أو في سيارة، فله أن يفطر، فإن المسألة أن عليه الدين، عليه أن يقضي عدة من أيام أخر، لا يسقط عنه الصوم سقوطًا أبديًا، إنما هو سقوط مؤجل، سقوط إلى بدل آخر، إلى القضاء، فهو مخير في هذه الحالة ولو لم يجلب السفر له المشقة . والذي جرب الأسفار يعلم أن السفر في نفسه قطعة من العذاب، سواء أسافر الإنسان على الدابة أم مسافر على الطائرة، فمجرد ابتعاد الإنسان عن محل استقراره، ومجرد بعده عن أهله، يشعر شعورًا نفسيًا بأنه غير طبيعي، وغير مطمئن في حياته وغير مستقر . لهذه المعاني النفسية - فوق المعاني البدنية - شرع الله الفطر، ولغيرها من الحكم مما نعلم ومما لا نعلم، وحسبنا أن نقف عند النص ولا نتفلسف ولا نضيع أو نهدر أو نبطل رخصة رخصها الله لعباده (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)....... والله أعلم.
صيام الصغار ومتى يكون ؟
س: بالنسبة للولد: متى يصوم ؟ وكذلك البنت ؟ وهل هناك سن محددة شرعًا لذلك ؟
(1/274)
ج: جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق " (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عائشة بإسناد صحيح، ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر بألفاظ متقاربة ومن طرق عديدة يقوي بعضها بعضًا) ومعنى رفع القلم: امتناع التكليف - أي ليسوا مكلفين - غير أن الإسلام وهو دين يراعى طبيعة البشر أراد أن يأخذ الأولاد من الصغر بهذه العبادات والطاعات، ليمارسوها ويتدربوا عليها . فجاء في الحديث عن الصلاة: " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " (رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص) والصيام أيضًا عبادة وفريضة كالصلاة . فالواجب أن يدرب عليها الأولاد، ولكن من أي سن ؟ ليس من الضروري لسبع، لأن الصيام أشق من الصلاة، إنما يرجع الأمر إلى طاقة الصبي . فكلما رأى الوالد أو رأي ولي أمر الطفل أنه يطيق الصيام، ولو أيامًا معينة في كل شهر، فليدربه على ذلك، يدربه على الصيام سنة بعد سنة، سنة يصوم ثلاثة أيام، وأخرى يصوم أسبوعًا والتي بعدها يصوم أسبوعين، والتي بعدها يصوم الشهر كله، فإذا جاء وقت البلوغ، وهو وقت التكليف كان قد زاول ومارس عملية الصيام فلا تشق عليه، فهذه هي التربية الإسلامية أن يؤخذ الصبي من صغره، ومنذ نعومة أظفاره بآداب الإسلام وفرائضه حتى يتعود عليها وقد قال الشاعر :
وينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفع عند الشيبة الأدب
إن الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت ولن تلين إذا قومتها الخشب
فعلى الآباء وعلى أولياء أمور الصبيان والبنات أن يعودوهم ويعودوهن الصيام والصلاة، الصلاة منذ سن السابعة والضرب عليها عند العاشرة والصيام منذ أطاق الصبي ولو بعد السابعة بسنة أو بأكثر عندما يطيق، يأمره الأب بالصيام.
هل تختلف زكاة الفطر من عام إلى آخر
(1/275)
س: هل زكاة الفطر تختلف من عام إلى عام ؟
ج: زكاة الفطر لا تختلف لأنها محدودة بمقدار شرعي، وهذا المقدار هو الصاع والصاع حدده النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحكمة فيما أرى من ذلك ترجع إلى أمرين :
الأمر الأول: أن النقود كانت عزيزة عند العرب، خاصة أهل البوادي منهم فلو قلت لأحدهم: ادفع كذا درهمًا أو دينارًا، فلن تجد لديه من ذلك شيئًا ... ليس لديه إلا الأطعمة الشائعة كالتمر والزبيب والشعير وغيره مما كان يقتات به العرب يومئذ.
وهذا مما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدد زكاة الفطر بالصاع.
الأمر الثاني: أن النقود تتغير قدرتها الشرائية من وقت لآخر، فأحيانًا نجد الريال منخفض القيمة، وقوته الشرائية متدنية جدًا، وفي أحيان أخرى ترتفع قيمته الشرائية في الأسواق، مما يجعل تحديد الزكاة بالنقود مضطربًا بين الصعود والهبوط، ولا يستقر على حال . ولهذا حددها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقدار لا يختلف ولا يضطرب وهو الصاع . والصاع هذا يشبع عائلة ليوم طعامًا في الغالب.
وقد حدد النبي عليه الصلاة والسلام الأقوات التي كانت شائعة في عصره، وهي ليست على سبيل الحصر، ولهذا قال العلماء بأن الإخراج من غالب قوت البلد جائز، سواء أكان برًا أم أرزًا أم ذرة أم غير ذلك.
والصاع يساوي ربعة وزيادة بمقدار قليل، أي نحو كيلوين من الطعام (2 كلغم) أو خمسة أرطال تقريبًا.
ويمكن دفع القيمة، على مذهب أبي حنيفة.
وإن كان موسرًا فالأفضل أن يدفع زيادة على قيمة الصاع، لأن الطعام لم يعد مقصورًا هذه الأيام على الأرز مثلاً، بل لابد أن يكون معه اللحم والمرق والخضر والفاكهة وغير ذلك .. والله أعلم.
المرأة وصلاة التراويح
س: هل الأفضل للمرأة في شهر رمضان المبارك أن تصلي التراويح في البيت أم في المسجد ؟
(1/276)
ج: صلاة التراويح بالنسبة للمرأة وللرجل جميعًا، يجوز أن تؤدي في البيت ويجوز أن تؤدي في المسجد إلا أن صلاة المرأة في بيتها - بصفة عامة - أفضل.
ولكن إذا كانت المرأة تستفيد في المسجد درسًا علميًا أو تسمع موعظة تنتفع بها في دينها، تكون صلاتها في المسجد أفضل لها . فإن طلب العلم والتفقه في الدين فرض عليها.
والحقيقة أني أرى النساء في هذه الأيام محرومات من التوجيهات الدينية النافعة، والدروس العلمية التي تفقهها في دينها، وتعرفها حق ربها وواجب طاعته وعبادته والاستقامة على نهجه، كما تعرفها حق زوجها، وحق أولادها، فلا الزوج يعلمها ذلك، ولا هي تسعى إلى دروس العلم.
فإذا كان رمضان، وأمكن أن تستفيد مما يلقى فيه من دروس ومواعظ، فالأفضل لها أن تذهب إلى المسجد، وإلا فلها أن تصلي في البيت، وإذا رغبت - على أي حال - أن تصلي في المسجد، فليس لزوجها أن يمنعها، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " (رواه مسلم) بشرط أن تلتزم المرأة الأدب الإسلامي في ملابسها وفي مشيتها، ولا تتبرج بزينة، ولا تذهب متبخترة كأنها تعرض نفسها .. لا ينبغي هذا، وإنما ليكن ذهابها خالصًا لله، لا للفرجة ولا للمباهاة، وهذا ما ينبغي أن تحرص عليه المرأة المسلمة.
قضاء رمضان بعد مرور رمضان آخر
س: إذا أفطرت لعذر بضعة أيام من رمضان، وجاء رمضان آخر ولم أقض ما علىَّ، فما الحكم في ذلك، هل أقضي وأفدي ؟
وإذا حدث لدي شك في عدد الأيام التي أفطرتها، فما أفعل حتى أزيل هذا الشك وأرضي الله تعالى ؟
ج: بعض الأئمة يقولون، بأنه إذا مرّ رمضان وجاء آخر ولم يقض ما عليه من أيام أفطرها في رمضان السابق، فعليه القضاء والفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم مدًا من غالب قوت البلد، والمدّ يساوي تقريبًا نصف كيلو غرام، يزيد قليلاً.
هذا في مذهب الشافعية، والحنابلة، عملاً بما جاء عن عدد من الصحابة، والأئمة الآخرون لم يوجبوا هذا.
(1/277)
على كل حال، فإن حدث معه مثل هذا فعليه القضاء جزمًا، أما الإطعام أو الفدية فإن فعلها فحسن، وإن تركها فلا حرج عليه إن شاء الله، حيث لم يصح شيء في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما عند الشك في عدد الأيام، فيعمل الإنسان بغالب الظن، أو باليقين .. فلكي يطمئن الإنسان على سلامة دينه وبراءة ذمته، فليصم الأكثر، وله على ذلك مزيد الأجر والثواب.
قضاء ما فات من رمضان في شعبان
س: هل يجوز قضاء ما يفطر المسلم من رمضان في شهر شعبان ؟
ج: ما فات من رمضان من أيام على المسلم أو على المسلمة فعليه أن يقضيه عند الاستطاعة حينما تتاح له الفرصة، طيلة أشهر العام، قبل رمضان التالي، ومعنى هذا أن أمام المسلم أحد عشر شهرًا يستطيع أن يقضي فيها ما فاته من رمضان، سواء كان أفطر لعذر مرض أو سفر أو لعذر حيض أو لغير ذلك من أعذار.
هناك نوع من السعة في الشرع، لقضاء ما فات من رمضان.
يستطيع أن يقضي في شوال - أي بعد رمضان مباشرة . وما بعد شوال.
ولا شك أن المبادرة أفضل، مسارعة في الخيرات، كما قال تعالى: (فاستبقوا الخيرات) ولأن إنسانًا لا يضمن أجله، ولهذا يكون الأحوط لنفسه والأضمن لآخرته أن يعجل بإبراء ذمته بقضاء ما فاته.
فإذا أجله لعذر ما، كشدة الحر، أو لضعف وعجز في صحته، أو طرأت عليه مشاغل لم يتمكن معها من الصوم قضاء ما فاته، يستطيع أن يقضي إلى رمضان الآتي.
فإذا جاء شعبان ولم يقض ما فاته، فإن عليه أن يقضي في شعبان، لأنه الفرصة الأخيرة وقد كانت تفعل ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه، فقد كانت كثيرًا ما يفوتها بعض أيام من رمضان، فتقضيها في شعبان .. وذلك لا حرج فيه، وإن كان هناك اشتباه لدى بعض الناس في هذا الأمر، فهذا لا أساس له من الشرع .. إذ كل الشهور يمكن أن تكون محلاً لقضاء ما فات من رمضان.
(1/278)
ولكن هب أن إنسانًا كان مريضًا في شهر رمضان الماضي، وحتى الآن، وقد وافاه رمضان التالي وهو على حاله من المرض، لا يستطيع قضاء ما فاته إلا بمشقة شديدة وحرج وإعنات . ومثل هذا يبقى ما فاته من صيام رمضان دينًا مؤجلاً عليه إلى ما بعد رمضان، حين يستعيد صحته ومقدرته على الصيام، ولا حرج عليه في ذلك، فالله تعالى ختم آية الصوم بقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). (البقرة: 185).
استحباب الصوم في شعبان
س :هل هناك أيام معينة في شهر شعبان يستحب فيها الصيام ؟
ج: شهر شعبان كان من الشهور التي يحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يصوم فيها أكثر من غيره من الشهور. روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستكمل صيام شهر قط غير رمضان، على خلاف ما يفعل بعض الناس في بعض البلاد العربية، حيث يصومون ثلاثة أشهر: رجب، شعبان، ورمضان . والأيام الستة من شوال، التي يسمونها " البيض "، يبدأ الصيام عندهم من أول رجب إلى السابع من شوال، ما عدا يوم العيد، الأول من شوال . وهذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر، وتقول عائشة: كان يصوم حتى نقول: لا يفطر . ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وأحيانًا يصوم الإثنين والخميس، وأحيانًا ثلاثة أيام من كل شهر، وخاصة الأيام البيض القمرية . وأحيانًا يصوم يومًا ويفطر يومًا، كما كان يفعل داود عليه السلام " أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ".
وكان عليه الصلاة والسلام أكثر ما يصوم في شهر شعبان، وكأن ذلك نوع من التهيؤ والاستعداد لاستقبال رمضان.
أما أن يصوم أيامًا محددة، فلم يرد قط.
وفي الشرع لا يجوز تخصيص يوم معين بالصيام، أو ليلة معينة بالقيام دون سند شرعي .. إن هذا الأمر ليس من حق أحد أيًا كان وإنما هو من حق الشارع فحسب.
(1/279)
تخصيص الأوقات، أو تخصيص الأماكن بالعبادات، وتحديد الصور والكيفيات، هذا من شأن الشارع ومن حقه، وليس من شأن البشر.
والله تعالى أعلم.
(1/280)
حج التطوع أم الصدقة ؟
س: يحرص بعض المسلمين على أن يحجوا كل عام، ربما حرصوا - مع ذلك - أن يعتمروا أيضًا في كل رمضان، مع ما في الحج في هذه السنين من زحام شديد، يسقط معه بعض الناس صرعى، من كثافة التزاحم - وخاصة عند الطواف والسعي ورمي الجمار.
أليس أولى بهؤلاء أن يبذلوا ما ينفقونه في حج النافلة، وعمرة التطوع، في مساعدة الفقراء والمساكين، أو في إعانة المشروعات الخيرية، والمؤسسات الإسلامية، التي كثيرًا ما يتوقف نشاطها، لعجز مواردها، وضيق ذات يدها ؟
أم تعتبر النفقة في تكرار الحج والعمرة أفضل من الصدقة والإنفاق في سبيل الله ونصرة الإسلام ؟
أرجو توضيح ذلك في ضوء الأدلة الشرعية .. وشكرًا.
ج: ينبغي أن يعلم أن أداء الفرائض الدينية أول ما يطالب به المكلف، وبخاصة ما كان من أركان الدين، كما أن التطوع بالنوافل مما يحبه الله تعالى، ويقرب إلى رضوانه.
وفي الحديث القدسي الذي رواه البخاري: " ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.. " الحديث.
ولكن ينبغي أن نضع أمام أعيننا القواعد الشرعية التالية ..
أولأً: أن الله تعالى لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة . وبناء عليه، نرى أن كل من يتطوع بالحج أو العمرة وهو - مع هذا - يبخل بإخراج الزكاة المفروضة عليه كلها أو بعضها، فحجه وعمرته مردودان عليه.
وأولى من إنفاق المال في الحج والعمرة أن يطهره أولاً بالزكاة.
ومثل ذلك من كان مشغول الذمة بديون العباد من التجار وغيرهم، ممن باع له سلعة بثمن مؤجل فلم يدفعه في أوانه، أو أقرضه قرضًا حسنًا، فلم يوفه دينه.
فهذا لا يجوز له التنقل بالحج أو العمرة قبل قضاء ديونه.
ثانيًا: أن الله لا يقبل النافلة إذا كانت تؤدي إلى فعل محرم، لأن السلامة من إثم الحرام مقدمة على اكتساب مثوبة النافلة.
(1/281)
فإذا كان يترتب على كثرة الحجاج المتطوعين إيذاء لكثير من المسلمين، من شدة الزحام مما يسبب غلبة المشقة، وانتشار الأمراض، وسقوط بعض الناس هلكى، حتى تدوسهم أقدام الحجيج وهم لا يشعرون، أو يشعرون ولا يستطيعون أن يقدموا أو يؤخروا - كان الواجب هو تقليل الزحام ما وجد إلى ذلك سبيل.
وأولى الخطوات في ذلك أن يمتنع الذين حجوا عدة مرات عن الحج ليفسحوا المجال لغيرهم، ممن لم يحج حجة الفريضة.
وقد ذكر الإمام الغزالي من الآداب التي يجب أن يراعيها الحاج: ألا يعاون أعداء الله سبحانه بتسليم المكس (وهو ضريبة تؤخذ ظلمًا) وهم الصادون عن المسجد الحرام من أمراء مكة، والأعراب المترصدين في الطريق . فإن تسليم المال إليهم، إعانة على الظلم وتيسير لأسبابه عليهم، فهو كالإعانة بالنفس، فليتلطف في حيلة للخلاص . فإن لم يقدر فقد قال بعض العلماء - ولا بأس بما قاله - إن ترك التنفل بالحج والرجوع عن الطريق أفضل من إعانة الظلمة.
ولا معنى لقول القائل: إن ذلك يؤخذ مني وأنا مضطر . فإنه لو قعد في البيت، أو رجع من الطريق لم يؤخذ منه شيء، فهو الذي ساق نفسه إلى حالة الاضطرار. (انظر: الإحياء ج 1 ص 236ط . الحلبي . وانظر أيضًا كتابنا: " العبادة في الإسلام " ص 324 وما بعدها، ط ثانية أو ثالثة).
وشاهدنا من هذا النفل: أن التنفل بالحج إذا كان من ورائه ارتكاب محرم، أو مجرد معاونة عليه، ولو غير مباشرة، غير محمود ولا مشروع، وتركه أولى بالمسلم الذي يسعى لإرضاء ربه . وهذا هو الفقه النير.
ثالثًا: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وخصوصًا إذا كانت المفاسد عامة، والمصالح خاصة.
(1/282)
فإذا كانت مصلحة بعض الأفراد أن يتنفل بالحج مرات ومرات . وكان من وراء ذلك مفسدة عامة للألوف ومئات الألوف من الحجيج مما يلحقهم من الأذى والضرر في أنفسهم وأبدانهم حتى هؤلاء المتنفلون أيضًا يتأذون من ذلك - كان الواجب منع هذه المفسدة بمنع ما يؤدي إليها وهو كثرة الزحام.
رابعًا: إن أبواب التطوع بالخيرات واسعة وكثيرة، ولم يضيق الله على عباده فيها، والمؤمن البصير هو الذي يتخير منها ما يراه أليق بحاله، وأوفق بزمانه وبيئته.
فإذا كان في التطوع بالحج أذى أو ضرر يلحق بعض المسلمين - فقد فسح الله للمسلم مجالات أخر، يتقرب بها إلى ربه دون أن تؤذي أحدًا.
فهناك الصدقة على ذوي الحاجة والمسكنة، ولا سيما على الأقارب وذوي الأرحام فقد جاء في الحديث: " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة " (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم عن سلمان بن عامر الصيفي بإسناد صحيح) وقد تكون نفقتهم عليه واجبة، إذا كان من أهل اليسار وهم من أهل الإعسار.
وكذلك على الفقراء من الجيران، لما لهم من حق الجوار بعد حق الإسلام، وقد ترتفع المساعدة المطلوبة لهم إلى درجة الوجوب، الذي يأثم من يفرط فيه.
ولهذا جاء في الحديث: " ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع ". (رواه الطبراني وأبو يعلي عن ابن عباس ورواه الحاكم عن عائشة والطبراني والبزار عن أنس مع اختلاف في اللفظ).
(1/283)
وهناك الإنفاق على الجمعيات الدينية، والمراكز الإسلامية، والمدارس القرآنية، والمؤسسات الاجتماعية والثقافية التي تقوم على أساس الإسلام، ولكنها تتعثر وتتخبط، لعدم وجود من يمولها ويعينها . على حين تجد المؤسسات التبشيرية مئات الملايين من الدولارات أو الجنيهات أو غيرها من العملات، ترصد لها، ولإنجاحها في سبيل التشويش على الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، ومحاولة إخراج المسلم عن إسلامه، إن لم يكن إدخاله في النصرانية . المهم زعزعة إسلامه وإن بقي بغير دين.
وإخفاق كثير من المشروعات الإسلامية ليس لقلة مال المسلمين، فمن الأقطار الإسلامية اليوم ما يعد أغنى بلاد العالم، ولا لقلة أهل الخير والبذل فيهم، فلا زال في المسلمين الخيرون الطيبون، ولكن كثيرًا من البذل والإنفاق يوضع في غير موضعه.
ولو أن مئات الألوف الذين يتطوعون سنويا بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم لإقامة مشروعات إسلامية، أو لإعانة الموجود منها، ونظم ذلك تنظيمًا حسنًا، لعاد ذلك على المسلمين عامة بالخير وصلاح الحال والمآل، وأمكن للعاملين المخلصين للدعوة إلى الإسلام أن يجدوا بعض العون للصمود في وجه التيارات التبشيرية والشيوعية والعلمانية وغيرها من التيارات العميلة للغرب أو الشرق، التي تختلف فيما بينها، وتتفق على مقاومة الاتجاه الإسلامي الصحيح، وعرقلة تقدمه، وتمزيق الأمة الإسلامية بكل سبيل.
هذا ما أنصح به الإخوة المتدينين المخلصين الحريصين على تكرار شعيرتي الحج والعمرة أن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك، وإن كان ولابد من التكرار، فليكن كل خمس سنوات، وبذلك يستفيدون فائدتين كبيرتين لهم أجرهما :
الأولى: توجيه الأموال الموفرة من ذلك لأعمال الخير والدعوة إلى الإسلام، ومعاونة المسلمين في كل مكان من عالمنا الإسلامي، أو خارجه حيث الأقليات المسحوقة.
(1/284)
الثانية: توسيع مكان لغيرهم من المسلمين الوافدين من أقطار الأرض، ممن لم يحج حجة الإسلام المفروضة عليه . فهذا أولى بالتوسعة والتيسير منهم بلا ريب . وترك التطوع بالحج بنية التوسعة لهؤلاء، وتخفيف الزحام عن الحجاج بصفة عامة، لا يشك عالم بالدين أنه قربة إلى الله تعالى، لها مثوبتها وأجرها " وإنما لكل امرئ ما نوى ".
ومما يذكر هنا: أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج، وهذا ثابت بنص القرآن، يقول تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله ؟ لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون) (سورة التوبة: 19، 20).
حج المرأة بلا محرم
س: امرأة وجب عليها الحج، وهي صحيحة الجسم، لديها المال الكافي لنفقات حجها ولكن لم يتيسر لها زوج أو محرم تحج معه . فهل يجوز لها أن تحج في رفقة بعض المسلمين أو المسلمات، مع ملاحظة أن الطرق الآن أصبحت آمنة، ولم يعد في السفر مخاطرة كما كان من قبل ؟ أم يجب عليها تأخير الحج إلى أن يتهيأ لها المحرم ؟
ج: الأصل المقرر في شريعة الإسلام ألا تسافر المرأة وحدها، بل يجب أن تكون في صحبة زوجها، أوذي محرم لها.
ومستند هذا الحكم ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم ".
وعن أبي هريرة مرفوعًا: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم " (رواه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة).
وعن أبي سعيد عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذي محرم ". (رواه الشيخان في رواية لهما عن أبي سعيد).
(1/285)
وعن ابن عمر: " لا تسافر ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم ". (متفق عليه من حديث ابن عمر).
والظاهر أن اختلاف الروايات لاختلاف السائلين وسؤالهم، فخرجت جوابًا لهم، غير أن أبا حنيفة رجح حديث ابن عمر الأخير، ورأى أن لا يعتبر المحرم إلا في مسافة القصر . وهو رواية عن أحمد.
وهذه الأحاديث تشمل كل سفر، سواء كان واجبًا كالسفر لزيارة أو تجارة أو طلب علم أو نحو ذلك.
وليس أساس هذا الحكم سوء الظن بالمرأة وأخلاقها، كما يتوهم بعض الناس، ولكنه احتياط لسمعتها وكرامتها، وحماية لها من طمع الذين في قلوبهم مرض، ومن عدوان المعتدين من ذئاب الأعراض، وقطاع الطرقات، وخاصة في بيئة لا يخلو المسافر فيها من اجتياز صحار مهلكة، وفي زمن لم يسد فيه الأمان، ولم ينتشر العمران.
ولكن ما الحكم إذا لم تجد المرأة محرمًا يصحبها في سفر مشروع: واجب أو مستحب أو مباح ؟ وكان معها بعض الرجال المأمونين، أو النساء الثقات، أو كان الطريق آمنًا.
لقد بحث الفقهاء هذا الموضوع عند تعرضهم لوجوب الحج على النساء . مع نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر المرأة بغير محرم.
( أ ) فمنهم من تمسك بظاهر الأحاديث المذكورة، فمنع سفرها بغير المحرم، ولو كان لفريضة الحج، ولم يستثن من هذا الحكم صورة من الصور.
( ب ) ومنهم من استثنى المرأة العجوز التي لا تشتهي، كما نقل عن القاضي أبي الوليد الياجي، من المالكية، وهو تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، كما قال ابن دقيق العيد، يعني مع مراعاة الأمر الأغلب فتح الباري ج 4 ص 447.
( ج ) ومنهم من استثنى من ذلك ما إذا كانت المرأة مع نسوة ثقات . بل اكتفى بعضهم بحرة مسلمة ثقة.
(1/286)
( د ) ومنهم من اكتفى بأمن الطريق . وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية . ذكر ابن مفلح في (الفروع) عنه قال: تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إن هذا متوجه في كل سفر طاعة .. ونقله الكرابيسي عن الشافعي في حجة التطوع . وقال بعض أصحابه فيه وفي كل سفر غير واجب كزيارة وتجارة. (انظر: الفروع ج 3، ص 236، 237، ط.ثانية).
ونقل الأثرم عن الإمام أحمد: لا يشترط المحرم في الحج الواجب . وعلل ذلك بقوله: لأنها تخرج مع النساء، ومع كل من أمنته.
بل قال ابن سيرين: مع مسلم لا بأس به.
*و قال الأوزاعي: مع قوم عدول.
*و قال مالك: مع جماعة من النساء.
*و قال الشافعي: مع حرة مسلمة ثقة . وقال بعض أصحابه: وحدها مع الأمن. (الفروع ج 3، ص 235 - 236).
قال الحافظ ابن حجر: والمشهور عند الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات . وفي قول: تكفي امرأة واحدة ثقة . وفي قول نقله الكرابيسي وصححه في المهذب تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا.
وإذا كان هذا قد قيل في السفر للحج والعمرة، فينبغي أن يطرد الحكم في الأسفار كلها، كما صرح بذلك بعض العلماء (فتح الباري ج 4 ص 447، ط. مصطفى الحلبي) . لأن المقصود هو صيانة المرأة وحفظها وذلك متحقق بأمن الطريق، ووجود الثقات من النساء أو الرجال.
والدليل على جواز سفر المرأة من غير محرم عند الأمن ووجود الثقات :
أولأً: ما رواه البخاري في صحيحه أن عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن، فقد اتفق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم ينكر غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك . وهذا يعتبر إجماعًا. (المصدر السابق).
(1/287)
ثانيًا: ما رواه الشيخان من حديث عدي بن حاتم، فقد حدثه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مستقبل الإسلام وانتشاره، وارتفاع مناره في الأرض. فكان مما قال: " يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة (بالعراق) تؤم البيت لا زوج معها، لا تخاف إلا الله ... إلخ " وهذا الخبر لا يدل على وقوع ذلك فقط، بل يدل على جوازه أيضًا، لأنه سبق في معرض المدح بامتداد ظل الإسلام وأمنه.
هذا ونود أن نضيف هنا قاعدتين جليلتين :
أولأً: أن الأصل في أحكام العادات والمعاملات هو الالتفات إلى المعاني والمقاصد بخلاف أحكام العبادات، فإن الأصل فيها هو التعبد والامتثال، دون الالتفات إلى المعاني والمقاصد . كما قرر ذلك الإمام الشاطبي ووضحه واستدل له.
الثانية: إن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، أما ما حرم لسد الذريعة فيباح للحاجة . ولا ريب أن سفر المرأة بغير محرم مما حرم سدًا للذريعة.
كما يجب أن نضيف أن السفر في عصرنا، لم يعد كالسفر في الأزمنة الماضية، محفوفًا بالمخاطر لما فيه من اجتياز الفلوات، والتعرض للصوص وقطاع الطرق وغيرهم.
بل أصبح السفر بواسطة أدوات نقل تجمع العدد الكثير من الناس في العادة، كالبواخر والطائرات، والسيارات الكبيرة، أو الصغيرة التي تخرج في قوافل . وهذا يجعل الثقة موفورة، ويطرد من الأنفس الخوف على المرأة، لأنها لن تكون وحدها في موطن من المواطن.
ولهذا لا حرج أن تحج مع توافر هذا الجو الذي يوحي بكل اطمئنان وأمان.
وبالله التوفيق .
السفر بالطائرة أفضل أم المشي على الأقدام ؟
س: هل السفر في الحج بالطائرة أو السيارة أفضل أم مشيًا على الأقدام ؟ هناك بعض الناس أتوا من باكستان مشيًا على أقدامهم لأداء فريضة الحج، ويقولون :أن لهم أجرًا أعظم . فهل هذا صحيح ؟
(1/288)
ج: كثرة الثواب في العبادات ليست مبنية على مجرد المشقة فقط، بل مبنية على اعتبارات كثيرة، وشرائط شتى، أهمها الإخلاص لله عز وجل، وإتقان العبادة بأركانها وآدابها، على وجه حسن، فكلما كان هناك الإخلاص، وكان هناك الموافقة للسنة وآدابها كانت العبادة أعظم أجرًا، ثم هناك المشقة أيضًا تأتي بعد ذلك، والإنسان الذي يبذل في عبادته جهدًا أكبر، فجهده لن يضيع عند الله عز وجل بشرط ألا يتكلف ذلك.
هب أن الإنسان كان مسجده قريبًا من بيته، فهل له أن يذهب ويلف ويدور ليبعد المسافة ويكثر الخطا إلى المسجد، لينال أجرًا أعظم ؟ هذا ليس مشروعًا .
ولكن لو كان في طبيعة الحال، البيت بعيدًا عن المسجد، فإن له بكل خطوة حسنة، وهكذا أراد بنو سلمة أن يأتوا قريبًا من مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعوا بيوتهم في أطراف المدينة، فلم يسمح النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك، وأقرهم في بيوتهم، وبشرهم بأن لهم في كل خطوة يأتونها إلى الصلاة حسنة، فهذه حسنات مسجلة لهم في رصيدهم عند الله، ولكن ليس معنى هذا أن الإنسان يطيل الخطا أو يبعد الطريق حتى يكسب الحسنات.
لو أن إنسانًا ليس لديه أجر الطيارة، التي تحمله، وجاء راكبًا دابة أو ماشيًا أو في باخرة رخيصة الأجر، فلا شك أن له أجرًا عظيمًا أكثر ممن يأتي في ساعتين أو أقل أو أكثر ولا يحس بتعب ولا نصب .. إنما المهم ألا يتكلف ذلك .. فيأتي مشيًا، بينما يسر الله له المطية، أو يقدم ممتطيًا دابة، وهو يستطيع أن يستقل سيارة، فالمشقة التي يتجشمها الإنسان بسبب أنه لا يملك غير ذلك، هو مأجور عليها بشرط عدم التكلف.
الحج في الصغر
س: هل يصح الحج في سن الرابعة عشر ؟ وإذا حج في هذه السن، ثم فعل منكرًا بعد ذلك فهل تبطل حجته ؟ ويطالب بحجة أخرى ؟
(1/289)
ج: الحج في سن الرابعة عشرة - إذا لم يكن الشخص قد بلغ بالاحتلام - فهذه الحجة لا تغني عن حجة الإسلام المفروضة، فإن الحجة التي هي الفرض، لابد أن تتحقق بعد البلوغ، والبلوغ إما بالسن، وهو يكون في الخامسة عشرة .. وإما بالاحتلام فإذا لم يكن كذلك، فلابد من أن يحج مرة أخرى.
فإذا فعل منكرًا بعد أداء فريضة الحج، فإن ذلك المنكر لا يبطل الحجة لأن فعل الحسنات لا يبطله ارتكاب السيئات، وإن كانت تنقص من ثمرتها وتقلل من ثوابها، ذلك ؛ لأن الله عز وجل يحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، من طاعة أو معصية، والميزان يوم القيامة هو الحكم، حيث توضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ويتبين أيهما أثقل، فيكون إما محسنًا أو مسيئًا، وعلى ذلك يترتب الثواب والعقاب (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره) (الزلزلة: 7، 8) (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). (الأنبياء: 47).
والمطلوب من المسلم أن تكون حجته صادقة مبرورة، وأن يظهر أثرها في نفسه وسلوكه بعد الحج.، فيتوب، وينيب إلى الله، ويعمل الصالحات ولا يعود إلى سيرته الأولى إن كان ممن ظلموا أنفسهم، وارتكبوا شيئًا من الموبقات، بل يجعل صفحته بيضاء، وصلته بالله وثيقة، وتلك هي ثمرة الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة.
فإذا كان صاحب السؤال قد حج قبل البلوغ والاحتلام، فعليه أن يحج مرة أخرى لأداء الفريضة، والله يتقبل منه إن شاء الله، وأدعو له بالتوفيق.
ماء زمزم بين العلم والدين
(1/290)
أصدرت مجلة (الدكتور) القاهرية ملحقًا لعدد أبريل سنة 1960 بقلم الدكتور أحمد محمد كمال، يتضمن إرشادات صحية وطبية لحجاج بيت الله الحرام، وقد جاء فيما يختص بمياه الشرب حديث عن ماء زمزم قال فيه: " كثيرون - إن لم يكن كل الحجاج - عندهم عقيدة: أن شرب قليل من هذه المياه إما جزء من مراسم الحج، أو يشربونها للتبرك . وقسمًا برب الكعبة لو أعطيت مال قارون لشرب ملعقة صغيرة منها لرفضت رفضًا باتًا، وفعلاً رفضت عندما كرمني المولى عز وجل بزيارة بيته المحرم في أوائل هذا العام، وليعلم كل حاج أن التحاليل التي عملت على هذه المياه أثبتت أنها ملوثة تلوثًا شديدًا كيمائيًا وبكتريولوجيًا مما يجعلها غير مأمونة صحيًا، وأغلب الظن عندي أن مياه مجاري منازل مكة تتسرب عبر مسام طبقات الأرض إلى البئر، في رأيي أن انخفاض موقع البئر، ووجود المنازل على هضبة مرتفعة، مما يساعد على سهولة هذا التسرب . ويصح أيضًا أن بقاء البئر مفتوحة ترفع مياهها بدلو من عهد إنشائها إلى عهد قريب جدًا قد عرضها للتلوث .. إلى أن قال: والرأي عندي أن خير حل لمنع خطر مياه زمزم هو العمل على تطهيرها بالكلورين أوبأي طريقة يجد الأخصائيون أنها كافية ".
هذا أهم ما جاء في مقال الدكتور . وقد أحدث ضجة كبيرة في المجلات والصحف السعودية فحملت على المقال وكاتبه حملة شعواء، واتهمته في دينه وعقيدته، واستشهدت بأحاديث وآثار في ماء زمزم، وما فيه من بركة . ولا شك أن للموضوع خطورته، فهو يتصل بالمشاعر الدينية للمسلمين . لما لزمزم في أذهانهم ووجدانهم من ارتباط بالبلد الحرام والبيت الحرام، والحج إليه، حتى صار من المتعارف أن من يدعو لأخيه بالشرب أو الوضوء " من ماء زمزم " فإنما يدعو له بالحج.
ماء زمزم من الوجهة الدينية :
(1/291)
والمسألة من الوجهة الطبية تحتاج إلى جهات رسمية مأمونة تقوم بتحليل الماء ثم تقرر رأيها فيه . أما من الوجهة الدينية فلابد من الإجابة على هذه الأسئلة ليتضح الأمر ويزول الإشكال.
هل لماء زمزم قدسية خاصة في الدين ؟ وهل الشرب منه واجب أو مستحب للحجاج ؟ وهل يشرع الشرب منه وإن ثبت تلوثه كما يقول الدكتور ؟ وهل يستحيل دينيًا أن يصيب ماء زمزم تلوث بسبب من الأسباب ؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة نضع هنا الأحاديث الواردة في ماء زمزم، ونبين قيمتها العلمية من حيث ثبوتها ودلالتها، عند خبراء الحديث، العارفين بالأسانيد والمتون:
1- عقد البخاري في كتاب الحج من صحيحه بابًا فيما جاء في ماء زمزم، فلم يورد في فضلها أو بركتها إلا حديث شق صدره عليه السلام وغسله من ماء زمزم، وحديث آخر فيه أنه شرب منه، وليس في الحديثين ما يدل دلالة صريحة على فضل أو بركة. وهذا ما نص عليه الحافظ ابن حجر في (الفتح) حين شرحه للحديث، قال: " كأنه لم يثبت عنده في فضلها حديث على شرطه صريحًا " . وفي باب سقاية الحاج رُوي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سقاية فاستسقى، فقال العباس: " يا فضل اذهب إلى أمك، فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها . فقال - صلى الله عليه وسلم -: اسقني . قال: يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه . قال :اسقني . فشرب منه . ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح . ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعني عاتقه، وأشار إلى عاتقه ".
(1/292)
وفي هذا الحديث نجد العباس - وقد كان يشرف على السقاية - أراد أن يسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماء آخر يجيء به ابنه الفضل من البيت، وحجته في ذلك أنهم يجعلون أيديهم فيه، ولكن الرسول الكريم أبى إلا أن يكون أسوة للمؤمنين فلا يتميز عليهم، بل يشرب مما يشربون، ولم يكن النبي يرى في الماء ضررًا أو يتوقعه، وإلا كان له موقف آخر، إنما هو لون من التقزز أظهره العباس، وكان عليه الصلاة والسلام أقوى على نفسه، وأشد في عزمه من أحاسيس المقززين، كما كان تواضعه يأبى عليه أن ينفرد بشيء عن سائر المسلمين . وفي رواية للطبراني في هذا الحديث أن العباس قال له: إن هذا قد مرث (أي أصابته الأيدي) أفلا أسقيك من بيوتنا ؟قال: " لا، ولكن، اسقني مما يشرب منه الناس ".
هل في هذا الحديث شيء عن قدسية زمزم ؟ لا . كل ما فيه ما قاله ابن حجر فيه الترغيب في سقي الماء، خصوصًا ماء زمزم، وفيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكراهة التقذذ والتكره للمأكولات والمشروبات، وأن الأصل في الأشياء الطهارة، لتناوله - صلى الله عليه وسلم - من الشراب الذي غمست فيه الأيدي.
2 - أما صحيح مسلم فأبرز ما ورد فيه عن زمزم حديث أبي ذر: " أنها طعام طعم " ومعنى " طعام طعم " أي يشبع من تناوله.
3- وروى أحمد وابن ماجة عن جابر حديث: " ماء زمزم لما شُرب له " . قال صيارفة الحديث: وفي إسناده عبد الله بن المؤمل، وقد تفرد به، وهو ضعيف وأعله ابن القطان به . وقد رواه البيهقي من طريق أخر عن جابر . وفيها سويد بن سعيد، وهو ضعيف جدًا، قال فيه يحيى بن معين: " لو كان لي فرس ورمح لغزوت سويدًا " وذلك لما يرى من خطره على الحديث . وروايته للمناكير.
(1/293)
4 - روى الدارقطني عن ابن عباس حديث: " ماء زمزم لما شُرب له، إن شربته تستشفى شفاك الله، وإن شربته لشبع أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمأ قطعه الله ... الحديث " والصحيح أن هذا الحديث من قول ابن عباس نفسه، وليس مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد خطَّأ الحافظ في (التلخيص) الراوي الذي رفع الحديث إلى الرسول، وحكم على روايته بالشذوذ، ومخالفة الحفاظ الثقات . وإذا كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، فهو مجرد رأي شخصي رآه، لا يلزمنا اتباعه ولا الإيمان به معه، ولا حجة في أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
5- روى البزار عن أبي ذر حديث: " ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم " وصحح المنذري إسناده ورواه كذلك الطيالسي في مسنده.
ولعل هذا هو الحديث الفذ الذي يمكن أن يستند إليه في شأن زمزم ومائها وأنه طعام وشفاء، ولكن هل يعني هذا الحديث حمايتها من الخضوع للقوانين العامة في الكون، وهل ينفي أن يعرض لها التلوث بسبب ما، وفق سنن الله المطردة ؟.
وإذا أثبت التحليل العلمي الصحيح أن ماءها قد اعتراه تلوث يخشى ضرره على الشاربين، فهل نُكذب نتيجة العلم اعتقادًا منا أنه ينافي هذا الحديث ؟ والحديث ليس قطعي الدلالة ولا الثبوت، وبخاصة أن كلمة " شفاء سقم " لم ترد في أحد الصحيحين ولا في كتاب من كتب السنة المعتمدة.
وقد قال الله عن العسل: (فيه شفاء للناس) ولا يمنع ذلك أن يصيبه التلوث.
الشرب من زمزم ليس واجبًا ولا سنة من سنن الحج:
وهناك أمران لابد أن نقررهما في هذا المقام:
أولهما: أن الشرب من ماء زمزم ليس من مناسك الحج أو سننه في أي مذهب من المذاهب المعروفة لدى المسلمين، بل قد نقل أن عبد الله بن عمر لم يكن يشرب من ماء السقاية في الحج - مع شدة تمسكه بالسنن واتباعه للآثار - وقد علل هذا منه بأنه خشي أن يظن الناس أن ذلك من تمام الحج.
(1/294)
وقد استدل بعضهم على استحباب الشرب من ماء زمزم بأحاديث شربه عليه السلام منها . ودفع هذه آخرون بأن الشرب أمر جبلِّي، فلا يدل على الاستحباب إذ لا تأسي في الأمور الجبلِّية.
والأمر الثاني: أن هذا الذي قررنا إنما هو لذات العلم، أما زمزم فيكفي ارتباطها في أنفسنا بذكريات عزيزة تمتد إلى أبوينا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ولم يثبت عندي بطريق موثوق به أن ماءها قد تلوث فعلاً، وعلى السلطات الصحية في (السعودية) والبلاد الإسلامية أن تتضافر على حماية هذه البئر من كل ما يشوبها، وقاية للصحة، وتجنبًا للشكوك والشبهات حول شيء تهفو إليه قلوب المسلمين.
وأحب أن يطمئن الغيورون على دينهم، فإن الإسلام أرسخ قدمًا، وأثبت أصولاً من أن تنال منه مقالة تنشر، أو كتاب يؤلف، أو حملات توجه . إنه الحقيقة التي تزول الدنيا وهي باقية (ويأبى الله إلا أن يتم نوره).
شبهات حول الحجر الأسود
س: وقع في يدي كتيب أثار فيه مؤلفه شبهات حول الحجر الأسود، ورد الأحاديث التي وردت في استلامه وتقبيله زاعمًا أنها تنافي دعوة الإسلام للتوحيد، ونبذ الأوثان.
فما رأيكم في هذا الموضوع ؟
ج: الدراسة السطحية آفة من آفات المتعلمين عندنا، والتعجل في إصدار الحكم قبل الرسوخ في العلم، ودون الرجوع إلى أهل الذكر، ثمرة سيئة لهذه السطحية . وما أصدق ما قيل: إن الذين يتشككون في الدين إما جهلاء، أو متعلمون تضخمت في أذهانهم بعض المعلومات، ذلك أن إثارة الشبهات حول موضوع كاستلام الحجر الأسود، وردّ الأحاديث الواردة فيه ببساطة ضلال مبين، وغفلة عن طبيعة العلم، وطبيعة الدين :
(1/295)
طبيعة العلم: أن ترد جزئياته إلى قواعده، وعلم الحديث له قواعده وأصوله التي وضعها علماؤه لمعرفة المقبول من المردود في الأحاديث، وطبقوها بكل أمانة ودقة ما استطاعوا، وبذلوا جهود الأبطال في سبيل تنقية السنن النبوية، وتبليغها إلينا . أما قيمة الأحاديث التي رووها في شأن الحجر الأسود ؟ فنورد عليك بعضها ؟:
روى البخاري عن ابن عمر - وسئل عن استلام الحجر الأسود - فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله.
وعن نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال " ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله " متفق عليه.
وعن عمر: أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك " رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة.
قال الطبراني: إنما قال عمر ذلك، لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت تفعل العرب في الجاهلية، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله، لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته، كما كانت الجاهلية تعبد الأُوثان . والأحاديث المذكورة أحاديث قولية صحيحة ثابتة، لم يطعن فيها عالم من علماء السلف أو الخلف، على أن الأمر أكثر من ذلك، فإن هذه سنة عملية تناقلتها الأجيال منذ عهد النبوة إلى الآن بلا نكير من أحد، فأصبحت من مسائل الإجماع، ولا تجتمع الأمة على ضلالة، وهذا وحده أقوى من كل حديث يروى، ومن كل قول يقال.
هذا من ناحية العلم .
وأما من ناحية الدين :
فالمؤمنون يعرفون تمام المعرفة أنه يقوم أول ما يقوم على الإيمان بالغيب (في جانب الاعتقاد)، وعلى الخضوع والانقياد لأمر الله (في جانب العمل) وهذا هو معنى لفظ الدين، ولفظ العبادة.
(1/296)
والإسلام - باعتباره دينًا - لا يخلو من جانب تعبدي محض، وإن كان أقل الأديان في ذلك . وفي الحج - خاصة - كثير من الأعمال التعبدية، ومنها تقبيل الحجر الأسود، والأمور التعبدية هي التي تعقل حكمتها الكلية وإن لم يفهم معناها الجزئي، والحكمة العامة فيها هي حكمة التكليف نفسه، وهي ابتلاء الله لعباده ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
الأمور التعبدية هي التي تكشف عن العبودية الصادقة لله من العبودية الزائفة . العبد الصادق يقول عند أمر الله مقالة الرسول والمؤمنين: (سمعنا وأطعنا)، والعبد المتمرد على ربه يقول ما قاله اليهود من قبل: " سمعنا وعصينا " . ولو كان كل ما يكلف به العبد مفهوم الحكمة للعقل جملة وتفصيلا، لكان الإنسان حينما يمتثل إنما يطيع عقله قبل أن يكون مطيعًا لربه.
وحسب المسلم أنه - حين يطوف بالبيت، أو يستلم الحجر - يعتقد أن هذا البيت وما فيه أثر من آثار إبراهيم عليه السلام، ومن إبراهيم ؟ إنه محطم الأصنام، ورسول التوحيد وأب الملة الحنيفية السمحة (إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين). (النحل: 120).
التبرك بالأحجار شرك
س: في مقام السيد أحمد البدوي بطنطا في مصر، وفي ركن من أركانه، يوجد حجر معلق مثبت بالجدار، به أثر قدم غائر، يتمسح الناس به ويتبركون، ويطلبون عنده البركات وقضاء الحاجات، حيث يقال: إن هذا الأثر أثر قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فهل هذا الحجر ثابت حقيقة ؟ وهل هذا التبرك جائز شرعًا ؟
ج: ما أضاع المسلمين إلا الإفراط والتفريط.
فبعضهم يسرف في الاعتقاد حتى يؤمن بالخرافة، ويتبرك بالأحجار والآثار التي لم يشرعها دين، ولم يأذن بها الله وآخر يُقتِّر في الاعتقاد حتى يثير الشبهات حول الحجر الأسود نفسه، غير أن الحق بين الاثنين . فالإسلام قد أبطل التبرك بالأحجار كلها، لم يستثن من ذلك إلا الحجر الأسود للحكمة التي ذكرناها.
(1/297)
والحجر الموجود في طنطا كسائر الأحجار، ليس هناك تاريخ يثبت أن هذا الحجر من عهد رسول الله، ولا أن أثر القدم هو أثر قدمه عليه السلام، وليس عند أحد، سند بهذا أبدًا.
هذه واحدة .. والثانية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته بالتمسح والتبرك بمواضع أقدامه، وتعظيمها إلى درجة التقديس، وإنما كان يحذر من كل ما يشم منه رائحة الغلو في التعظيم، ويوصد كل باب يخشى منه دخول الفتنة، لهذا قال عليه السلام: " لا تتخذوا قبري عيدًا "، " لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد " . " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وكان أصحابه على هديه كذلك .. أسرع عمر بقطع شجرة الرضوان التي بايع المؤمنون رسول الله تحتها في الحديبية، وجاء ذكرها في القرآن، قطعها رضي الله عنه حين رأى بعض الناس يذهبون إليها متبركين.
إن تقبيل الحجر الأسود أمر " تعبدي " والأمور التعبدية امتثال محض لله يوقف عندها ولا يقاس عليها غيرها . وما أحسن قول عمر: " لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ".
وأما استناد بعضهم إلى حديث: " لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه " فإنه استناد إلى باطل صراح، والحديث قال فيه ابن حجر: لا أصل له، وقال ابن تيمية: موضوع.
حكم المبيت في المزدلفة
س: أنا أحج كل عام . ولكن لا أبيت في المزدلفة وإنما أقضي فيها حوالي ثلاث ساعات فهل عليّ فدية أم لا ؟ ولديَّ طفلة أصحبها معي إلى الحج كل عام، يتراوح عمرها بين 10 - 12 سنة وتحرم بالحج والعمرة . فهل عليها فدية هي أيضًا ؟
(1/298)
ج: أما المبيت بالمزدلفة، فقد اختلف فيه الفقهاء، هل يجب أن يبيت الحاج فيها كما بات النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسفار من الصبح، أم أنها مجرد منزل يصلي فيها المغرب والعشاء جمعًا كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام ويبقى مدة قدرها بعضهم إلى نصف الليل كما هو مذهب الحنابلة . وبعضهم كالمالكية، قالوا إنها مجرد منزل، ليس عليه أن يبقى فيها إلا بمقدار ما يصلي العشاء مع المغرب جمعًا، وبمقدار ما يأكل بعض الطعام، ثم لا بأس أن يتابع سيره.
وأعتقد أن مذهب المالكية في هذا مذهب ميسر، وأنا أميل إلى التيسير في أمور الحج في هذه السنين، نظرًا لكثرة الحجاج والأعداد الهائلة الكبيرة التي تفد سنوياُ لأداء هذه الفريضة . وإذا لم نأخذ بهذه الأقوال الميسرة شققنا على الناس مشقة شديدة، فمثلا لا يمكن أن نقول لجميع الناس: ابقوا في مزدلفة إلى الصباح، وهم مليون ونصف أو أكثر. وقد يتضاعف العدد في السنوات القادمة . فإذا لم يرتحل الناس أفواجًا يتلو بعضها بعضًا منذ أول الليل إلى آخره، يكون في الأمر حرج شديد، نتيجة لهذا الإزدحام ولو أن الأئمة الأولين شاهدوا ما نشاهد من الازدحام الشديد هذه الأيام، لقالوا مثلما نقول، فإن دين الله يسر لا عسر فيه . والنبي عليه الصلاة والسلام ما سئل عن أمر من أمور الحج قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج . تيسيرًا على الناس، مع أن العدد الذي كان معه لم يكن كما في يومنا هذا من الكثرة والازدحام.
ولهذا أرى رأي المالكية في أن الحاج ليس عليه أن يبقى في المزدلفة إلا بمقدار ما يصلي المغرب والعشاء جمعًا، ويتناول طعامه . وخصوصًا إذا كان معه نساء أو أولاد صغار . وإذن لا يكون على الأخ السائل فدية.
(1/299)
أما السؤال الآخر، فالجواب عليه أنه ما دام يحرم للبنت التي يصحبها معه في الحج وعمرها ما بين 10 - 12 سنة، يحرم لها بالحج والعمرة، ويحدث التمتع، فعليها الفدية كما على الكبير لكي يكون لها الثواب أيضًا، ويفعل عنها ما يفعل لنفسه في سائر المناسك.
وإذا كانت في هذه السن لم تبلغ، لا يسقط عنها الفرض، وإنما يكون لها ولأبيها ولمن حج لها أجر، أما حجة الإسلام فلا تسقط إلا بعد البلوغ بالسن أو بالحيض بالنسبة للفتاة وبالاحتلام بالنسبة للفتى . وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت له امرأة وعلى يدها طفل: يا رسول الله، ألهذا حج ؟ قال: " نعم ولك أجر ".
مقام إبراهيم ... هل يجوز نقله من مكانه..؟
دار حوار طويل في المجلات الإسلامية، حول جواز نقل مقام إبراهيم من مكانه الحالي إلى مكان آخر داخل المسجد الحرام نفسه .. لأن المطاف الحالي حول الكعبة يزدحم بالطائفين ازدحامًا شديدًا أيام الحج، ويراد توسعة المطاف .. وإذا اتسع المطاف شملت دائرته مقام إبراهيم .. ويراد نقل المقام إلى مكان آخر ليخلص المطاف الجديد من كل عائق ... فهل في هذا مانع شرعي ؟ .. نرجو البيان. (كان هذا منذ حوالي عشرين سنة قبل أن يصبح المقام في وضعه الحالي).
ما هو مقام إبراهيم؟
وقبل أن نبدي الرأي في هذا الموضوع، نذكر كلمة تبين المراد بمقام إبراهيم :
أولاً: روي أن إبراهيم عليه السلام قدم مكة فاستقبلته زوجة ابنه إسماعيل، وأرادت أن تصب له الماء ليغسل رأسه، فقدمت له حجرًا وضع عليه رجله اليمنى ومال إليها بشق رأسه فغسلته له .. ثم حولت الحجر إلى الناحية الأخرى فوضع عليه رجله، ومال إليها بشق رأسه الآخر فغسلته له . هذا الحجر هو الذي سمي فيما بعد: " مقام إبراهيم ".
(1/300)
ثانيًا: وروى آخرون أن إبراهيم عليه السلام كان يبني الكعبة، وإسماعيل يناوله الحجارة فلما ارتفع البناء عجز إبراهيم عن رفعها، فاتخذ حجرًا قام عليه ليتسنى له ذلك، واستمر في البناء ... وقالوا بعد تقرير هذه الرواية: إن هذا الحجر هو " مقام إبراهيم " وهو الذي اختاره أكثر العلماء ...
ثالثًا: قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الحج كله مقام إبراهيم ... فالوقوف بعرفة مقام إبراهيم، ورمي الجمار مقام إبراهيم، والطواف والسعي وغير ذلك من المناسك كلها مقامات إبراهيم .. وهو كلام طيب صادر عن ذهن مشرق، وفقه أصيل.
ومقامات إبراهيم عليه السلام هي مواقفه التي أدى بها لله في وادي مكه حقه كاملا، إذ هاجر إليها بابنه، وإذ بني البيت لله بأمره، وإذ قدم ولده للذبح . إلى آخر ما هو معروف من سيرته عليه السلام .. وهذا الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام وهو يبني الكعبة أحد هذه المواقف، ويطلق عليه لذلك اسم " مقام إبراهيم " .و روى مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى البيت استلم الركن، فرمل (رمل: هرول) ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فصلى ركعتين (هما ركعتا الطواف) . قرأ فيهما: (قل هو الله أحد) و(قل يا يأيها الكافرون).
وكان الحجر أول أمره ملتصقًا بجدار الكعبة بحكم قيام إبراهيم عليه لبنائها، وظل كذلك أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأيام أبي بكر رضي الله عنه، وطائفة من أيام عمر، فرأى عمر رضي الله عنه أن الحجر يعوق الطواف بعض الشيء، وأنه لا يمكن الناس من جدار البيت، وأن الطائفين مع ذلك يشوشون أثناء طوافهم على الذين يصلون عنده ركعتي الطواف، فأمر عمر رضي الله عنه بنقله من مكانه إلى جهة الشرق حيث هو الآن. (راجع الجزء الأول من تفسير ابن كثير) . (أي قبل نقله منذ سنوات).
(1/301)
واليوم قد اتسع المطاف حول الكعبة، ودخل الحجر المذكور أو " مقام إبراهيم " في المطاف مرة أخرى، وسيشوش الطائفون - بطبيعة الحال - أثناء طوافهم على من يصلون عنده ركعتي الطواف، وكذلك سيعوق المقام طواف الطائفين بعض الشيء، وحينئذ نجد أنفسنا مضطرين إلى التفكير فيما فكر فيه عمر رضي الله عنه: هل ننقل المقام للضرورة كما نقله رضي الله عنه للضرورة ؟
وهنا يذهب الورع بفريق منا فيقول: أين نحن من عمر ؟ إن عمر فعل ما فعل، وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله يرون فعله، ويقرونه عليه، ولم يحفظ أن أحدًا منهم عارضه، فكان ذلك إجماعًا تلقته منهم الأمة بالرعاية جيلا بعد جيل إلى اليوم فلا يجوز لنا أن نغير وضعًا رضيه الصحابة لمقام إبراهيم وظل عليه - على رغم ما تعرض له البيت من أحداث جسام - فلم يمسسه أحد بتغيير إلى الآن..
وهو قول جميل وغيرة محمودة، ولكنا نحب أن نقول: إن عمر رضي الله عنه، نقل المقام لعلة ظاهرة، وضرورة واضحة، ووافقه الصحابة على ما رأى.
والعلة اليوم هي العلة بالأمس، فهل إذا كان عمر اليوم حيًا وعرضت له علة اليوم أكان يتحرج أن ينقل المقام مرة أخرى كما نقله بالأمس ؟
أليس من حقنا بداهة أن نأتسي بالصحابة، فنفعل فيما يعرض لنا من ضرورات مثل فعلهم عندما عرضت لهم نفس هذه الضرورات ؟
إن المطاف ضيق بلا شك، وكل من سعد بالحج يذكر ما عاني من الزحام والضيق، ويذكر حرج النساء في ضغطة الزحام، وما يتعرضن له من الدفع والرد ... ويذكر أن الهرولة في الطواف، وهي سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكاد تكون معطلة من شدة الزحام .. ولاشك أن ديننا السمح يرحب بتوسيع المطاف تيسيرًا للطائفين، ولرفع الحرج عن المحرجين، وتحقيقًا لما ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه من الهرولة ...
(1/302)
ولكن هذا الفعل الجميل، سيعترضه المقام إذا بقى مكانه، وإذا بقى المقام مكانه ألقينا أنفسنا بإزاء مفسدة متوقعة لا محالة، فإن سبحانه يقول: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) والطواف في المطاف الجديد سيعطل أمر الله بالصلاة، أو سيجعل صلاة المصلين - على الأقل - خالية من روح الخشوع والطمأنينة، وكلا الأمرين مفسدة لا يقرها الشرع إلا دفعًا لمفسدة أشد وأكبر . ولا يستطيع أحد أن يدلنا على وجه الفساد الذي يلحق المناسك بنقل المقام إلى موضع آخر ..
ويجب أن نذكر أمرين لهما شأنهما :
الأول: أن عمر رضي الله عنه نقل الحجر وهو ملتصق بجدار الكعبة، وهو وضع له هيبته، فأبعده عنها، وليس في فعلنا اليوم شيء من ذلك.
والأمر الثاني: أن عمر إذ أقدم على نقله، إنما نقله من المكان الذي وضعه فيه إبراهيم بيده، وقام عليه فيه بالبناء، فغير وضعًا تحفّه ذكريات مقدسة، ووضع مقام إبراهيم في غير مقام إبراهيم .. وليس في فعلنا اليوم شيء من ذلك.
ذلك كله إلى أن الموضع القديم للحجر كان معروفًا للناس بأنه " مقام إبراهيم " من قبل أن ينزل قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فلما نزل هذا القول الكريم لم يكن له من مفهوم في أذهان الناس إلا مكانه الملتصق بالكعبة.
روى جابر وغيره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما طاف ومر بالحجر، قال له عمر رضي الله عنه: هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال: نعم، قال عمر: أفلا نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إلا قليلاً حتى نزل قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).
(1/303)
ومن هذا يعلم أن الآية الكريمة حين سمت هذا المكان " مقام إبراهيم " لم تسمه إلا وهو معهود في أذهان الناس بإشارات وحدود معينة .. وحين أمرت بالصلاة، أمرت بها في المكان المعهود لهم، وصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، وصلّى الصحابة والناس من بعدهم بصلاته عليه السلام فيه ... ومعنى هذا كله أن عمر إذ نقل الحجر، إنما نقله من المكان الذي صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت الآية الكريمة به .. ولا شك أننا إذ ننقله اليوم، لا نغير مدلولا لابسه الوحي حين نزوله، ولا نصرف الناس عن مكان صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف لا يباح لنا ما أبيح لعمر ؟..
وهناك أمر أخير يجب أن نذكره في هذا المقام، ذلك أن العرب في الجاهلية حين أعادوا بناء الكعبة، قصرت بهم النفقة، فلم يبنوها على مساحتها وأسسها الأولى، ثم رفعوا بابها بعد أن كان ملتصقًا بالأرض إلى العلو الذي هو عليه اليوم، وظل الجزء الذي تركوه من مساحتها منكشفًا، وهو الذي يسمى اليوم: " الحِجر " بكسر الحاء ..
روى مسلم عن عائشة قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجدر (الجدر بفتح الجيم وسكون الدال: هو المكان الذي يسمى اليوم " الحجر " بكسر الحاء) أمن البيت هو ؟ قال: " نعم ".
قلت: فلِمَ لم يدخلوه في البيت ؟
قال: " إن قومك قصرت بهم النفقة ".
قلت: فما شأن بابه مرتفعًا ؟
قال: " فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ".
(1/304)
وكان عليه السلام يريد أن يهدم الكعبة، ويدخل فيها الجدر أو الحجر، ويعيد بنائها على أسسها الأولى، أسس إبراهيم عليه السلام، التي أخبر بها القرآن الكريم، لولا أنه خشي أن تتغير قلوب بعض الناس، لقرب عهدهم بالجاهلية، فينكروا ما صنع، وذلك قوله عليه السلام لعائشة: " يا عائشة، لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم " وفي رواية أخرى: " ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض ".
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى الجاهلية قد غيرت، وبدلت في صميم أوضاع الكعبة - وهي ما هي في القداسة والحرمة - فلا يرى في هذا التغيير إلا أنه تغيير لأوضاع حسية، لا يمس عقيدة من العقائد، ولا يغض من قداسة المعنى الرمزي الذي يتحقق به للكعبة أنها " بيت الله " ... " فهي بيت الله " سواء كان بابها ملتصقًا بالأرض أو مرتفعًا عنها .. " وهي بيت الله " سواء شملت أركانها المساحة الأولى أو ضمت بعضها فقط ... وسماها رسول الله " بيت الله " على رغم ما بها من تغير .. ونزل الوحي يقرر أنها " بيت الله " على الرغم ذلك أيضًا، فإن ما بقى من أوضاعها كاف لأن يتمثل به المعنى الرمزي الدال على نسبتها إلى الله سبحانه.
وإذًا، فقيمة الكعبة إنما هي في معناها الرمزي، وقدسية صلتها بالله ... وما فيها من بركة لا يرجع إلى طبيعة حجارتها، ولا معدن بنائها، بل يرجع إلى ما يفاض عليه من جلال المعنى الروحي الذي يصله بالله سبحانه.
لهذا لم ير الرسول عليه السلام أن يبطل حتما ما غيرته الجاهلية بالكعبة من حيث أن المساس ببعض الأوضاع لا يتعلق بعقيدة من العقائد، ولا يسلخ عنها الأسرار التي صارت بها " بيت الله " فأبقى فعل الجاهلية على ما كان عليه إبقاء على استقرار قلوب حديثة عهد بالجاهلية.
(1/305)
ونريد أن نقرر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما بعث ليغير ما ألفته قلوب الناس من الوثنية الجاهلية، وعبادتها، ومعتقداتها، وعاداتها في الأنصاب والأزلام ونحوها وكم أبطل عليه السلام من ذلك، دون أن يبالي ما تنكر القلوب من فعله، ولو أنه خشي إنكار القلوب لما تقدم شيئًا في رسالته .. فلو أن لأوضاع الأركان والمباني قدسية ذاتية، أو حرمة متصلة بعقيدة ما لمضى رسول الله إلى ما يريد من إعادة الكعبة على أسس إبراهيم غير عابئ بما تنكر القلوب، ولكنه عليه السلام لم يفعل، وآثر الرفق بالناس في أمر غير ذي خطر.
ولا شك أن الحجر الذي هو مقام إبراهيم لا يبلغ في حرمته أن يكون مثل الكعبة قداسة ورعاية، فهي " بيت الله " وهي " أول بيت وضع للناس " وهي " الكعبة البيت الحرام " وليس حجر المقام في شيء من ذلك، فإذا لم نجد للرسول عليه السلام عزيمة في الاستمساك بالأوضاع الأولى لبيت الله، فأولى أن يكون هذا شأننا فيما هو أقل من البيت جلالة وقدسية ..
(1/306)
ومما يرفع احتمال العزيمة لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في إعادة البيت على أسسه الأولى، قوله لعائشة في رواية مسلم: " إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك، أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي، أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا .. فأراها قريبًا من ستة أذرع " . فقوله عليه السلام: " فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه " ينفى احتمال العزيمة، ويرد الأمر إلى مجرد الاختيار، أو يجعله على أحسن الوجوه من قبيل فعل الأفضل .. إن رسول الله ينظر إلى هذه الأمور على أنها ذات حقائق روحية، لاتتأثر بما يمس الشكل من تغيير لبعض هيئاته ... وبهذا النظر الكريم نظر عمر رضي الله عنه إلى حجر إبراهيم حين نقله من مكانه الأول إلى مكانه الحالي، دون أن يرى في ذلك ما يمس نسبته إلى إبراهيم عليه السلام، فهو مقام إبراهيم إذا كان ملتصقًا بالكعبة، وهو مقام إبراهيم إذا اقتضت الضرورة إبعاده عنها بعض الشيء .. وهو مقام إبراهيم، إذا نحن نظرنا إلى القيمة الروحية بمثل ما نظر إليها عمر، فنقلناه بحكم الضرورة كما نقله رضي الله عنه بحكم مثل هذه الضرورة، توسعة على الطائفين، وتوفيرًا لدواعي الخشوع والسكينة لمن يصلّون عنده ... والله سبحانه وتعالى أعلم، وله الحمد والمنة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...
النيابة في الحج
س: والدي ووالدتي قد فارقا الحياة، ولم يؤديا فريضة الحج، فهل يجوز أن أنيب عنهما أحدًا في تأدية هذه الفريضة، أم لا يجوز؟
(1/307)
ج: الأصل في العبادات وبخاصة العبادات البدنية أن يؤديها الإنسان بنفسه إن أمكن، وإلا يؤديها أولاده من بعده، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن أولادكم من كسبكم " ولد الإنسان جزء منه، وهو جزء من عمله، يعتبر امتدادًا له بعد وفاته، كما جاء في الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". (رواه مسلم، والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة).
فالولد الصالح هو امتداد لحياة أبيه وامتداد لوجوده .ومن هنا يجوز للأولاد أن يؤدوا الحج عن آبائهم . فإذا لم يؤدوا أمكنهم أن يوكلوا من يؤدي عنهم، وقد سألت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أباها أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستقل على الراحلة، ومات، أفتحج عنه ؟ قال: " نعم . حجي عنه " . وامرأة أخرى - كما ورد في حديث ابن عباس - سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحج عن أمها وقد نذرت أن تحج لله وماتت ؟ فقال: " حجي عنها، أرأيت لو كان عليها دين، أكنت قاضيته ؟ " قالت: نعم . قال: " فاقضوا . فالله أحق بالوفاء ".
وفي رواية: " فدين الله أحق أن يقضى ".
فكما أن للولد أن يقضي دين أبيه في الشئون المالية، كذلك في هذه الشئون الروحية، وشئون العبادة، فتستطيع البنت، ويستطيع الولد أن يحج عن أبيه، أو على الأقل يوكل من يحج عنه، على أن يحج عنه من بلده، من البلد الذي كان عليه أن يحج منه، إذا كان من قطر مثلا، فإذا وكل أحدًا، فليحج من قطر لا من سواها، وإذا كان من الشام يحج من الشام، وهكذا ... إلا إذا عجزت مالية المتوفى - إذا كان سيحج من ماله- فمن حيث أمكن تحقيق هذا ...
فإذا كان الولد هو الذي سيوكل من يحج من ماله الخاص، فعلى حسب ما يمكن من ماله.
ومن حج عن الغير، فيشترط أن يكون قد حج عن نفسه أولاً . والله أعلم.
(1/308)
دعاء نصف شعبان
س: ما حكم دعاء نصف شعبان ؟ وهل ورد في ليلة النصف من شعبان أحاديث صحيحة ؟ إلى آخر ما يقال عن هذه الليلة.
ج: ليلة النصف من شعبان، لم يأت فيها حديث وصل إلى درجة الصحة، هناك أحاديث حسنها بعض العلماء، وبعضهم ردها وقالوا بأنه لم يصح في ليلة النصف من شعبان أي حديث ... فإن قلنا بالحسن، فكل ما ورد أنه يدعو في هذه الليلة، ويستغفر الله عز وجل، أما صيغة دعاء معين فهذا لم يرد، والدعاء الذي يقرأه بعض الناس في بعض البلاد، ويوزعونه مطبوعًا، دعاء لا أصل له، وهو خطأ، ولا يوافق المنقول ولا المعقول.
في هذا الدعاء نجد هذا القول: " اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًا أو محرومًا أو مطرودًا أو مقترًا علي في الرزق، فامح اللهم بفضلك شقاوتي، وحرماني وطردي، وإقتار رزقي وأثبتني عندك في أم الكتاب سعيدًا مرزوقًا موفقًا للخيرات كلها فإنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل وعلى لسان نبيك المرسل: (يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب).
ففي هذا الكلام نرى تناقضًا واضحًا :
ففي أوله يقول: إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًا أو محرومًا .. فامح هذا وأثبتني عندك في أم الكتاب سعيدًا مرزوقًا موفقًا للخيرات ... لأنك قلت (يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب).
فمعنى الآية أن أم الكتاب لا محو فيها ولا إثبات، فكيف يطالب بالمحو والإثبات في أم الكتاب.
ثم هذا الكلام ينافي ما جاء في أدب الدعاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " إذا سألتم الله فأجزموا في المسألة " لا يقل أحدكم: يا رب اغفر لي إن شئت، أو ارحمني إن شئت، أو ارزقني إن شئت، فإن الله لا مكره له، بل ينبغي أن يقول: اغفر لي، ارحمني، ارزقني ... بالجزم واليقين .. لأن هذا هو المطلوب ممن يدعو ربه عز وجل.
(1/309)
أما تعليق الدعاء على المشيئة والشرطية بقول الداعي " إن شئت " كما سلف، فليس هذا أسلوب الدعاء، ولا أدبه، ولا أسلوب المفتقر الذليل إلى ربه، بل هو أسلوب أشبه بأسلوب التأليف الركيك الذي لا يقبل في مثل هذا المقام من عباد الله المؤمنين.
وهذا يدلنا على أن الأدعية التي يضعها البشر ويخترعونها كثيرًا ما تكون قاصرة عن أداء المعنى، بل قد تكون محرفة ومغلوطة ومتناقضة، إنه ليس أفضل من الأدعية المأثورة، ففيها الروعة والبلاغة وحسن الأداء، والمعاني الجامعة في ألفاظ قليلة، فليس هناك أفضل مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية مأثورة، لأنه يترتب عليها أجران: أجر الاتباع، وأجر الذكر.
فعلينا دائمًا أن نحفظ هذه الأدعية النبوية، وأن ندعو بها.
أما ليلة النصف من شعبان، فمعظم ما يفعل فيها من أشياء ليس واردًا، ولا صحيحًا ولا من السنة في شيء .
أذكر أني كنت أقوم في صغري مع الناس تقليدًا لهم، فنصلي ركعتين بنية طول العمر، وركعتين بنية الغني عن الناس، وقراءة يس ثم صلاة ركعتين .. وغير ذلك.
وكل هذه تعبدات ما أمر الشرع بها . والأصل في العبادات، الحظر .. ليس للإنسان أن يخترع في عباداته ما يشاء، لأن الذي من حقه أن يعبد الناس وأن يرسم لهم العبادة هو الله عز وجل .(أم شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (الشورى: 11) فعلينا أن نقف عند ما ورد، ولا نفعل أكثر من الدعاء المأثور، إن كان ذلك حسنًا ... والله أعلم.
التجمع والدعاء المشهور في ليلة نصف شعبان
س: نحن الآن في شهر شعبان .. وبعض المسلمين يختصون ليلة النصف من شعبان بصلوات وأدعية يتلونها .. فهل عملهم هذا مشروع، وهل ورد شيء في فضل هذه الليلة ؟
(1/310)
ج: ورد في فضل ليلة النصف من شعبان بعض الأحاديث: إن الله تعالى يتجلى فيها على عباده، ويستجيب دعاءهم، إلا بعض العصاة، وهذا الحديث قد حسنه بعض العلماء وضعفه بعضهم، حتى قال الفقيه القاضي أبو بكر بن العربي: لا يثبت حديث واحد في فضل ليلة النصف من شعبان . ولو قبلنا الأحاديث الواردة في فضل هذه الليلة وإحيائها بالطاعة فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن أهل القرون الأولى وهم خير القرون .. لم يرد عنهم أنهم كانوا يتجمعون في المساجد لإحياء هذه الليلة، ويتلون دعاء خاصًا ويقيمون صلوات خاصة كالتي نعرفها في بعض بلاد المسلمين .. فبعض البلاد يتجمع الناس فيها بعد المغرب في الجوامع، ويقرأون سورة " يس " ثم يصلون ركعتين بنية طول العمر !! وركعتين أُخريَين بنية الغني عن الناس ثم يتلون دعاء لم يؤثر عن أحد من السلف، وهو دعاء طويل، وهو مخالف للنصوص ومتناقض، ومتعارض في معناه أيضًا، ففي هذا الدعاء يقول الداعي: اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًا أو محرومًا أو مطرودًا أو مقترًا عليّ في الرزق، فامح اللهم بفضلك شقاوتي، وحرماني، وطردي، وإقتار رزقي، واثبتني عندك في أم الكتاب سعيدًا مرزوقًا موفقًا للخيرات كلها، فإنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على لسان نبيك المرسل (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) هذا نص الدعاء، وهو متناقض كما ترون فهو يقول: إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب كذا فامح هذا الذي كتبته، وأثبتني عندك في أم الكتاب على خلاف هذا لأنك قلت: (يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب ) . ومعنى الآية أن أم الكتاب لا محو فيها ولا إثبات .. وإنما المحو والإثبات فيما عدا ذلك من صحف الملائكة وغيرها، فإن كان هذا هو معنى الآية، فكيف يطلب العبد من ربه أن " يمحو ويثبت في أم الكتاب "، وهي لا محو فيها ولا إثبات ؟!
(1/311)
ثم أي دعاء هذا الذي يقول فيه القائل هذا الترديد: إن كنت فعلت كذا فامح كذا، أو فعل كذا .. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا دعونا أن نجزم المسألة، نجزم ولا نردد الدعاء ولا نشكك .. ولا نتشكك .. فهذا يدل على أن ذلك الدعاء مغلوط ولا أساس له .. وفي هذا الدعاء أيضًا يقول القائل: إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شهر شعبان المكرم، التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم، أن ترفع عنا من البلاء ما نعلم وما لا نعلم... وهذا خطأ أيضًا ؛ فالليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم إنما هي الليلة التي نزل فيها القرآن .. وهي ليلة القدر ليلة التجلي الأعظم .. وهي في رمضان بنص القرآن .. قال تعالى في سورة الدخان: (حم والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة، إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم) (الدخان: 1 - 4) وقال في سورة القدر: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وقال في سورة البقرة (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) (البقرة: 185) فالليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي في رمضان بيقين .. وهي ليلة القدر بالإجماع، وما روي عن قتادة أن ليلة النصف هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم فهو ضعيف ومضطرب وجاء عن قتادة نفسه أنها ليلة القدر . وما جاء في حديث أن ليلة النصف من شعبان تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان فهذا أيضًا حديث ضعيف كما قال ابن كثير وهو مخالف للنصوص، ومن هنا نرى أن هذا الدعاء، مليء بالأغلاط وهو دعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خير القرون ولا عن السلف، وهذا التجمع بالصورة التي نراها ونسمع عنها في بعض بلاد الإسلام مبتدع ومحدث، والأولى أن نقف في العبادات عندما ورد، فكل خير في اتباع من سلف.. وكل شر في ابتداع من خلف. وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
وفقنا الله إلى اتباع ما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه.
شهر رجب
(1/312)
س: كثيرًا ما نسمع من خطباء الجمعة - وخاصة في أول شهر رجب -أحاديث يروونها في فضل هذا الشهر، وفي الثواب العظيم الذي يعده الله لمن يصوم ولو يومًا واحدًا من هذا الشهر .. ومن هذه الأحاديث " رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي ".
فما رأيكم في هذه الأحاديث ؟ وهل صح فيها شيء يعتد به ؟
وما حكم من يروي للناس أحاديث مكذوبة ينسبها للنبي صلى الله عليه وسلم ؟
ج: لم يصح في شهر رجب شيء، إلا أنه من الأشهر الحرم، التي ذكرها الله في كتابه (منها أربعة حرم ) (التوبة: 36) وهي :رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.. وهي أشهر مفضلة.
ولم يرد حديث صحيح يخص رجب بالفضل، إلا حديث حسن: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر ما يصوم في شعبان، فلما سئل عن ذلك قال: إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان . فهذا الحديث يفهم منه أن رجب له فضل أما حديث " رجب شهر الله، وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي " فهو حديث منكر وضعيف جدًا بل قال كثير من العلماء إنه موضوع ... يعني أنه مكذوب، فليس له قيمة من الناحية العلمية ولا من الناحية الدينية.
وكذلك الأحاديث الأخرى التي رويت في فضيلة شهر رجب بأن من صلى كذا فله كذا ومن استغفر مرة فله من الأجر كذا .. هذه كلها مبالغات، وكلها مكذوبة.
ومن علامات كذب هذه الأحاديث ما تشتمل عليه من المبالغات والتهويلات .. وقد قال العلماء: إن الوعد بالثواب العظيم على أمر تافه، أو الوعيد بالعذاب الشديد على ذنب صغير، يدل على أن الحديث مكذوب.
كما يقولون مثلا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم " لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع " هذا حديث يحمل كذبه في نفسه .. لأنه من غير المعقول أن اللقمة في بطن الجائع ثوابها أعظم من الثواب المترتب على بناء ألف جامع.
(1/313)
والأحاديث التي وردت في فضل رجب من هذا النوع .. وعلى العلماء أن ينبهوا على مثل هذه الأحاديث الموضوعة والمكذوبة ويحذروا الناس منها .. فقد جاء انه " من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين .. " (رواه مسلم في مقدمة الصحيح) ولكن قد لا يعلم أن ما يرويه من الأحاديث الموضوعة، فهذا يجب أن يعلم، ويعرف الأحاديث من مصادرها .. فهناك كتب الحديث المعتمدة، وهناك كتب خاصة في الإعلام بالأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل " المقاصد الحسنة " للسخاوي، " تمييز الطيب من الخبيث لما يدور على ألسنة الناس من الحديث " لابن الديبع " كشف الخفا والإلباس فيما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس " للعجلوني .. وهناك كتب كثيرة وينبغي أن يعرفها الخطباء ويكونوا على إلمام بها، حتى لا يرووا حديثًا إلا إذا كان موثوقًا به، فإنه من الآفات التي دخلت ثقافتنا الإسلامية هذه الأحاديث الموضوعة والمدسوسة التي روجت في الخطب وفي الكتب وعلى ألسنة الناس، وهي في الحقيقة مكذوبة ودخيلة في الدين.
ولذا ينبغي أن ننقي ونصفي ثقافتنا الإسلامية من هذا النوع من الأحاديث.
وقد وفق الله من العلماء من عرف الناس الأصيل من الدخيل والمردود من المقبول وعلينا أن نستفيد من ذلك ونتبعهم فيما يبينون لنا من علم .. والله ولي التوفيق.
صيام رجب
س :سمعتكم تتحدثون يومًا عن شهر رجب، وقلتم بأنه لم يرد فيه حديث يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما حكم صيام رجب، وهل هو من السنة أم هو بدعة ؟
ج: لم نتعرض لصيام رجب في الحديث الذي سمعه الأخ منا، وإنما قلت فيه بأنه من الأشهر الحرم، والصيام في الأشهر الحرم مقبول ومستحب، على كل حال.
(1/314)
ولكن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهرًا كله، سوى رمضان . وكان أكثر ما يصوم في شهر شعبان، ولكن لم يكن يصومه كله، وهذه هي السنة النبوية في ذلك ... فإنه كان يصوم ويفطر في سائر الشهور، وكما ورد " كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم " (رواه البخاري ومسلم وأبو داوود) فما يفعله بعض الناس من صيام رجب كله، كما كنا نرى ذلك في الأرياف من قبل، فقد رأيت بعض الناس يصوم رجب وشعبان ورمضان والأيام الستة من شوال، ويسمونها " الأيام البيض " وبعد ذلك يفطر، ويكون عيده في اليوم الثامن من شوال.. وتكون حصيلة صيامه هذه الشهور الثلاثة والأيام الستة متواصلة، لا يفطر إلا يوم العيد . وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن السلف الصالح . فالأولى صيام أيام وإفطار أيام، لا التتابع في الصيام.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.
فمن أراد الاتباع، وأراد الثواب الكامل، فليتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصم رجب كله ولا شعبان كله . فهذا هو الأولى . وبالله التوفيق.
صيام يوم عرفة
س: ما حكم صيام يوم عرفة ؟ وما فضل هذا الصوم ؟
ج :يوم عرفة أفضل أيام العام، وهو من الأيام العشرة من ذي الحجة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " صيام يوم عرفة، أحتسب على الله تعالى أن يكفر ذنوب سنتين ".
فهذا يوم فضله عظيم، وفضل الصيام فيه عظيم أيضًا.
ومعلوم أن يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة.
فعلى المسلم أن ينوي صيام هذا اليوم على الأقل، إذا لم يستطع صيام الثمانية الأيام قبله، فلكل منا ذنوبه، ولكل منا سيئاته وغفلاته وهفواته، وهذه فرص متاحة للتطهر، ليبيض الإنسان صفحته أمام الله عز وجل.
فليسارع المسلم إلى صيام يوم عرفة.
وهذا لغير الحاج .. فالحاج لا يسن له صيام يوم عرفة ليكون قويًا على الدعاء والذكر والتضرع.
الضحية
س: متى تشرع الضحية ؟
(1/315)
وهل يجوز للمسلم، إذا كان من أهل الغني واليسار، ألا يضحي ؟ وكيف يكون توزيع الضحية ؟
ج: الضحية سنة مؤكدة في معظم المذاهب، وواجب في مذهب الإمام أبي حنيفة.
والواجب عنده شيء أقل من الفرض، وفوق السنة.
وهذا الواجب من تركه يكون آثمًا، إذا كان من أهل اليسار والغني.
وقد جاء عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا " من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا " (رواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا وصححه وموقوفًا ولعله أشبه، كما في الترغيب للمنذري) . وجاء في حديث آخر أنه سئل عن الأضحية . فقال: " سنة أبيكم إبراهيم ". (رواه الترمذي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، قال المنذري: بل واهية).
ولهذا، فالضحية إما سنة مؤكدة، وإما واجب، والمذاهب الأخرى غير الأحناف تكره لمن كان من أهل اليسار ألا يضحي، فيوسع على نفسه وعلى أهله، وعلى من حوله من الفقراء والجيران.
ولهذا كانت السنة في توزيع الأضحية أن يقسمها أثلاثًا، ثلث لنفسه وأهله، وثلث لمن حوله من جيرانه، وثلث للفقراء والمساكين .. ولو تصدق بها كلها لكان أكمل وأفضل، إلا بعض الشيء يتبرك به ويأكل منه.
لقد شرع الله الأضحية لتكون يوم العيد وما بعد العيد وما بعد العيد توسعة على الناس.
وتشرع ابتداء من صباح يوم الأضحى، بعد صلاة العيد، وقد سمعت أن هناك من يخطئ فيذبح الأضحية ليلة العيد، نظرًا لزحمة القصابين والجزارين، وهذه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " شاته شاة لحم " يعني ليس لها ثواب الضحية . إنما يكون ثواب الأضحية إذا ذبحت بعد أسبق صلاة عيد.
(1/316)
إن الأضحية عبادة وقربة إلى الله، والقربات والعبادات منها ما هو محدد بأوقات معينة، والأضحية من هذا النوع، فوقتها محدد بكونه بعد صلاة عيد الأضحى . فإذا كان هناك أكثر من مكان في البلدة لصلاة العيد، فبعد أسبق صلاة تكون الأضحية . ويجوز تأخير الذبح إلى اليوم الثاني وكذلك اليوم الثالث وهي المسماة أيام التشريق .. وقال البعض بجواز الذبح في هذه الأيام ليلا أو نهارًا.
تكبير العيد
س: متى يبدأ التكبير في العيد، وما هي الصيغة المأثورة في ذلك ؟
ج: التكبير في عيد الأضحى نوعان:
هناك تكبير مطلق، وتكبير مقيد.
التكبير المطلق يجوز من أول ذي الحجة إلى أيام العيد .. له أن يكبر في الطرقات وفي الأسواق، وفي منى، ويلقي بعضهم بعضًا فيكبر الله.
وأما التكبير المقيد فهو ما كان عقب الصلوات الفرائض، وخاصة إذا أديت في جماعة، كما يشترط أكثر الفقهاء.
وكذلك في مصلى العيد .. في الطريق إليه، وفي الجلوس فيه، على الإنسان أن يكبر، ولا يجلس صامتًا .. سواء في عيد الفطر، أو عيد الأضحى . لأن هذا اليوم ينبغي أن يظهر فيه شعائر الإسلام.
ومن أبرز هذه الشعائر التكبير .. وقد قيل " زيّنوا أعيادكم بالتكبير ". (رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه نكارة).
ولهذا ينبغي على المسلمين أن يظهروا هذه الشعيرة يوم العيد، فإذا توجهوا إلى المصلى، أو جلسوا فيه ينتظرون الصلاة، فعليهم أن يرفعوا أصواتهم مكبرين بقولهم " الله أكبر . الله أكبر . لا إله إلا الله. .. والله أكبر . ولله الحمد " وهذه الصيغة واردة عن ابن مسعود وأخذ بها الإمام أحمد . وهناك صيغة وردت عن سلمان " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا ".
أما الصلوات وما يتبعها من أذكار فلم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم كقولهم: " اللهم صلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد .. الخ ".
(1/317)
والصلاة على النبي مشروعة في كل وقت، ولكن تقييدها بهذه الصيغة وفي هذا الوقت بالذات لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته الأبرار.
وكذلك ما يقولونه بهذه المناسبة " لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ... " لم يرد أيضًا مقيدًا بيوم العيد. وإنما التكبير المأثور الوارد هو ما كان بالصيغة السابقة الذكر " الله أكبر . الله أكبر، لا إله إلا الله . والله أكبر . الله أكبر . ولله الحمد ".
فعلى المسلم أن يحرص على هذا التكبير، وأن يملأ به جنبات المصلي، وأن يكبر الله في أيام عشر ذي الحجة كلها.
وأما التكبير المقيد بأعقاب الصلوات فيبدأ عقب الصلاة فجر يوم عرفة، ويستمر إلى ثلاث وعشرين صلاة، يعني إلى رابع أيام العيد، حيث ينتهي التكبير عقب صلاة العصر من ذلك اليوم.
س :متى يبدأ التكبير في عيد الأضحى ؟ ومتى ينتهي ؟ وما صيغته المأثورة ؟
ج :تكبير العيد - عيد الأضحى بالذات - يبدأ منذ فجر عرفة، ويوم عرفة - كما نعلم - هو يوم التاسع من ذي الحجة، والتكبير نوعان:
تكبير مطلق، وتكبير مقيد.
والتكبير المقيد هو الذي يكون عقب الصلوات، وخاصة صلوات الجماعة، والتكبير المطلق يكون في المجامع والأسواق والشوارع . هذا التكبير من شعائر أيام العيد - عيد الأضحى وقد كان الصحابة وهم في منى يكبرون، إذا خرجوا إلى السوق أو لاقوا الناس، كبر ابن عمر وكبر الناس حوله، حتى يرتج المكان بالتكبير.
(1/318)
وكذلك التكبير في مصلي العيد، إذا خرج الناس إلى صلاة العيد في المصلي، وهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت أنه صلى العيد في ا لمسجد، وأن مسجده من أفضل المساجد التي تشد إليها الرحال، ومع هذا كان يخرج ليصلي في الصعيد في العراء، في مصلي معين، ويخرج الناس وراءه، حيث يصلي الناس كلهم، إظهارًا للشعيرة ولقوة الإسلام والمسلمين، لم يثبت أن النبي صلى العيد في المسجد إلا ما رُوي أنه صلى في المسجد في يوم ماطر .. من أجل المطر، وهذا عذر .. فالمسلم، وهو ذاهب إلى المصلى، أو هو جالس ينتظر فيه، يكبر، وهذا ما ينبغي أن يفعله الناس اليوم، بخلاف ما نراه منهم، حيث يجلسون ساكنين ساكتين، ويذهبون إلى المصلى، صامتين، فأين إظهار شعائر الإسلام ؟!
والتكبير يبدأ من أول فجر يوم عرفة - كما ذكرت - وينتهي في عصر آخر أيام التشريق، أي يوم الثالث عشر، فيكبر المرء يوم عرفة، وأول أيام العيد وثانيها، وثالثها، ورابعها .. إلى انتهاء صلاة العصر .. فيكبر عقب ثلاث وعشرين صلاة مفروضة.
وصيغة التكبير، لم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء معلوم، وإنما ورد عن الصحابة، فقد صح عن سلمان الفارسي، أنه قال: كبروا الله، قولوا: الله أكبر الله أكبر كبيرًا . وورد عن عمرو بن مسعود رضي الله عنهم جميعًا قال مثل هذه الصيغة: الله أكبر . الله أكبر لا إله إلا الله. والله أكبر . الله أكبر ولله الحمد . فبأي هذه الصيغ كبر المسلم، فقد أدى السنة وأقام الشعيرة.
أحكام الأضحية
س: بالنسبة للأضحية . ما وقتها ؟ وما الذي يجزيء منها ؟ وهل تكفي الأسرة شاة واحدة ؟ أم لابد لكل شخص من ذبيحة ؟ وأيهما أفضل، الذبح أم الصدقة بثمن الضحية ؟
(1/319)
ج :الأضحية سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضحى عليه الصلاة والسلام عن نفسه بكبشين أملحين أقرنين، عنه وعن آل بيته، قال: اللهم هذا عن محمد وآله وضحى عمن لم يضح من أمته صلى الله عليه وسلم . ويقول الإمام أبو حنيفة: إن الأضحية واجب، والواجب عنده فوق السنة ودون الفرض، فيرى أنها واجب على ذوي اليسار، والسعة، الحديث " من كان عنده سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا " فأخذ من هذا أنها واجبة . فإن لم يثبت وجوبها فهي سنة مؤكدة وفيها فضل عظيم.
(1/320)
ووقتها يبدأ من بعد صلاة العيد، أسبق صلاة عيد في البلد، بعدها تشرع الأضحية، وقبل ذلك لا تكون أضحية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل صلاة العيد أن يعتبر شاته شاة لحم، ليست شاة نسك، وليست شاة عبادة قربة .. حتى لو تصدق بها كلها، فإنه يكتب له ثواب الصدقة ولا يكتب له ثواب الضحية، لأن التضحية عبادة، والعبادات إذا حد الشارع لها حدًا، ووقت لها ميقاتًا، لا ينبغي أن نتجاوزه أو نتقدم عليه، كالصلاة، هل يجوز أن تصلي الظهر قبل وقتها ؟ لا يجوز .. كذلك الأضحية لها وقت معين . هناك بعض الناس في بعض البلاد يذبحون في ليلة العيد، وهذا خطأ . وتضييع للسنة وتضييع لثواب الأضحية . وإذا عرف عليه أن يعيد الأضحية، خاصة إذا كان عليه نذر فيجب عليه وجوبًا أن يعيد ..فيبدأ من بعد صلاة العيد . ويجوز أن يذبح في يوم العيد نفسه، وفي ثاني يوم وفي ثالث يوم العيد .. بل هناك قول بالجواز في رابع أيام العيد .. أخر أيام التشريق . والأولى أن يذبح إلى الزوال، فإذا جاء وقت الظهر ولم يذبح، يؤخر لليوم الثاني، وبعض الأئمة يقولون: حتى بعد ذلك يصح الذبح ليلا ونهارًا ولهذا أرى أنه ليس من الضروري أن يذبح الناس كلهم في أول يوم العيد، حيث يكون هناك زحمة على الذبح، فيمكن أن يؤخر بعض الناس الذبح إلى اليوم الثاني أو الثالث، فيكون بعض الناس بحاجة إلى اللحم، فيستطيع أن يوزع في اليوم الثاني أو الثالث على أناس لعلهم يكونون أحوج إلى اللحم من أول أيام العيد.
هذا هو وقت الأضحية.
وما يجزئ في الأضحية هو: الإبل والبقر والغنم.. لأنها هي الأنعام .. فيصح أن يذبح أيًا من هذه الأصناف. والشاة عن الواحد .. والمقصود بالواحد: الرجل وأهل بيته . كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا عن محمد وآله.
وقال أبو أيوب: كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الرجل عن نفسه وأهله شاة واحدة، حتى تباهي القوم فصاروا إلى ما ترى.
فهذه هي السنة.
(1/321)
وبالنسبة للبقر والإبل، فيكفي سبع البقرة أو سبع الناقة عن الواحد، فيستطيع أن يشترك سبعة أشخاص في البقرة، أو في الناقة، بشرط ألا تقل البقرة عن سنتين والناقة عن خمس سنوات، والماعز عن سنة، والضأن عن ستة أشهر . الضأن الجذع أباح النبي عليه الصلاة والسلام ذبحه ولو كان عمره ستة أشهر . واشترط أبو حنيفة أن يكون سمينًا، وإلا أتم السنة.
هذا ما يجزئ في الأضحية.
وكلما كانت أسمن وأحسن كان ذلك أفضل، لأنها هدية إلى الله عز وجل .. فينبغي على المسلم أن يقدم إلى الله أفضل شيء، أما أن يجعل لله ما يكره.. فلا، ولهذا لا يجوز أن يضحي بشاة عجفاء هزيلة شديدة الهزال، أو عوراء بين عورها، أو عرجاء بين عرجها، أو ذهب أكثر قرنها، أو كانت أذنها مشوهة، أو ذات عاهة أيًا كانت هذه العاهة .. لا ! إنما ينبغي على المسلم أن يقدم الشيء النظيف لأنه - كما قلت - هدية إلى الله سبحانه وتعالى .. فليتخير العبد ما يهديه إلى ربه ..و ذلك من الذوق السليم والله سبحانه لن يناله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم.
هل يتصدق بثمن الضحية ؟.
أما سؤال السائل: أيهما أولى: الصدقة بثمن الضحية أم الذبح؟
(1/322)
أما بالنسبة للحي، فإن الذبح أولى، لأن الذبح شعيرة وقربة إلى الله عز وجل (فصل لربك وانحر) فنحن ننحر اقتداء بسنة أبينا إبراهيم، وتذكيرًا بذلك الحدث الجليل، حدث التضحية . إبراهيم حين جاءه الوحي في الرؤيا، بأن يذبح ولده إسماعيل واستجاب لهذا الوحي، وذهب إلى ابنه وفلذة كبده، إسماعيل بكره الوحيد الذي جاءه على الكبر، وعلى شوق وفي غربة، فبعد هذا كله، وبعد أن رزقه الله، وبشره بغلام حليم، وبلغ معه السعي، وأصبح يرجى منه، جاءه الوحي عن طريق الرؤيا الصادقة ليذبحه إنه امتحان .. وامتحان عسير .. على أب في مثل هذه السن، وفي مثل هذه الحال، وفي ولد ذكر نجيب حليم، وبعد أن بلغ معه السعي، في سن أصبح يرجى منه، كل هذا ويأتيه الأمر الإلهي: اذبحه ! يريد الله أن يختبر .. قلب خليله إبراهيم ؟؟ أما زال خالصًا لله عز وجل ؟ أم أ صبح متعلقًا مشغولاً بهذا الولد؟ هذا هو البلاء المبين .. والامتحان الدقيق العسير، ولكن إبراهيم نجح في الامتحان، ذهب إلى ابنه، ولم يرد أن يأخذه على غرة، ولا على غفلة، ولكن بصره بالأمر وقال له: يابني إني أرى في المنام إني أذبحك، فانظر ماذا ترى) (الصافات: 102) ولم يكن في روعة موقف الوالد إلا موقف الولد فإنه لم يتمرد، ولم يتردد، بل قال في ثقة المؤمن وإيمان الواثق (يا أبت افعل ما تؤمر ) نفذ ما لديك من أوامر (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) (الصافات: 103) كلام يشيع منه الإيمان والقوة والتواضع والتوكل على الله . لم يجعلها بطولة أو ادعاء للشجاعة، بل علق ذلك على المشيئة (ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) رد الأمر إلى الله، ووكله إليه سبحانه وتعالى، فهو الذي يهب الإنسان اليقين، يمنحه الصبر، ويهبه قوة الأعصاب، (فلما أسلما) (الصافات: 103) أسلم الوالد ولده، وأسلم الولد عنقه، (وتله للجبين) صرعه إلى جبينه، وأراد أن ينفذ ما أمر به، جاءته البشرى، (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي
(1/323)
المحسنين إن هذا هو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم) (الصافات: 104 -107) جاءه جبريل بالكبش وقال له: اذبح هذا بدلاً عن ابنك . فأصبحت سنة في هذا اليوم. نضحي تذكيرًا بهذا الحدث.
الأمم دائمًا تحاول أن تخلد أحداثها، وتجسد ذكرياتها العظيمة وتحتفل بأيام مجدها .. يوم الاستقلال يوم الجلاء .. يوم النصر. -الخ فكذلك هذا اليوم من أيام الله، من أيام الإنسانية، من أيام الإيمان هذا يوم بطولة خالدة، خلده الله بشعيرة الأضحية .. فالمسلم يضحي بهذا اليوم، وذلك سنة وهو أفضل من التصدق بثمنها، لأنه لو تصدق كل الناس بثمن أضاحيهم، فمعنى ذلك أن هذه الشعيرة تموت، والإسلام يريد أن يحيها، فلاشك أن الذبح أفضل . ولكن هذا في حق الحي .. وهو من يضحي عن نفسه وعن أولاده.
ولكن إذا كان للإنسان ميت، ويريد أن يهدي إليه في قبره ثوابًا، فماذا يصنع ؟ هل يذبح ؟ أم يتصدق بالثمن؟
القول الذي أرجحه وأرتاح إليه، أنه في البلد الذي تكثر فيه الذبائح ويكون الناس في غني عن اللحم، يكون في هذه الحالة التصدق بثمن الأضحية عن الميت أفضل .. لأن الناس كلهم عندهم لحوم، وكلهم مستغنون يوم العيد وفي اليومين التاليين له، ولكن لعل أكثرهم بحاجة إلى دراهم يشتري بها ثوبًا لابنته، أو لعبة لابنه، أو حلوى لأطفاله أو غير ذلك، فهم في حاجة إلى من يوسع عليهم في هذه الأيام المباركة أيام العيد وأيام التشريق، فلهذا تكون الصدقة عن الميت أفضل من الضحية في مثل هذه البلاد.
أما في البلاد التي يقل فيها اللحم، ويكون الناس في حاجة إلى اللحوم، ففي هذه الحالة، إذا ضحى الإنسان عن الميت ووزع لحم الأضحية عن ميته يكون أفضل.
هذا هو الذي أختاره في هذه الناحية.
(1/324)
ثم هناك أمر آخر، وهو أن الميت تشرع الصدقة عنه بإجماع المسلمين، لم يخالف فيها أحد . فهنا أمران لم يخالف فيهما مذهب: الصدقة عن الميت، والدعاء والاستغفار له . أما ما بعد ذلك مثل: أن تقرأ عنه القرآن، أو تذبح عنه، أو غير ذلك، وكل هذه الأمور فيها خلاف.
ولذا فالمتفق عليه خير من المختلف فيه.
ولهذا أقول للأخ السائل :
بالنسبة للحي، الأفضل أن يذبح عن نفسه وأهله.
وبالنسبة للميت، إذا كان البلد في حاجة إلى اللحم يذبح عن الميت ويضحي عنه . وإذا كان البلد في غير حاجة إلى اللحم، فالأولى أن يتصدق بالثمن.
وطبعًا، من حيث توزيع الأضحية، معلوم أن الأولى توزيعها أثلاثًا، ثلث يأكله الإنسان، هو وأهل بيته (فكلوا منها ) وثلث لجيرانه من حوله، وخاصة إذا كانوا من أهل الإعسار أو ليسوا من أهل السعة، وثلث للفقراء .. ولو فرض أنه تصدق بها كلها، لكان أفضل وأولى، على شرط أن يأخذ منها قليلاً للسنة والتبرك، كأن يأكل من الكبد أو من سواها، ليصدق عليه أنه أكل منها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكما كان يفعل أصحابه.
حكم حلق الشعر وتقليم الأظافر للمضحي
س: إذا حلت الأيام العشر من ذي الحجة وأراد الإنسان أن يضحي، فهل يجوز له أن يقص شعره ويقلم أظفاره أم لا ؟
(1/325)
ج: في مذهب الحنابلة أنه لا يجوز أن يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا، فمن أراد أن يضحي في شهر ذي الحجة، فبمجرد أن يرى هلال هذا الشهر فعليه أن يمتنع عن قص شعره أو حلقه وعن تقليم أظافره، فإن هذا نوع من التشبه بالمحرمين في مناسك الحج .. فالإنسان الذي لم يتح له أن يذهب إلى الأرض المقدسة ليحرم ويحج ويعتمر، يتشبه بالحجاج والمعتمرين وهو في أرضه وفي بيته وفي بلده .. يتشبه بالامتناع عن قص شعر الرأس واللحية والأظافر فقط، وليس هناك شيء محرم أكثر من هذا.. فلا يظن البعض أنه يمتنع عن زوجته وعن الطيب .. لا .. لم يرد هذا .. الامتناع فقط عن قص الشعر والأظافر .. وليس مطلوبًا من المسلم غير الحاج الإحرام .. وهذا مكروه فقط .. وهو الأرجح . فمن فعل ذلك فليس عليه فدية وليس عليه شيء، فلو خالف أحد، وقص شعره أو أظفاره، فليس عليه فدية وإنما عليه أن يستغفر الله، وليس أكثر من ذلك.. ومادام الأمر مكروهًا فالكراهة - كما قال العلماء -تزول بأدنى حاجة .. فمثلا إذا كان البعض يضايقه كثيرًا ترك الشعر أو الأظافر فقص شعره أو قلم أظافره، فلا شيء عليه . هذا فيما يتعلق بترك الشعر والأظافر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي.
صيام عاشوراء هل يكفر الكبائر ؟
س: هل صحيح أن صوم عاشوراء يكفر سنة ؟ وهل تدخل الكبائر في ذلك ؟
ج :ورد في صيام عاشوراء أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم وغيره عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوم يوم عرفة يكفر سنتين: ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية ".
وقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن يكون بنو آدم خطائين، واقتضت رحمته أن يتيح لهم مكفرات شتى تغطي الخطيئة وتمحو أثرها، من صلوات وصدقات، وحج وعمرة وغيرها من الحسنات: (إن الحسنات يذهبن السيئات) وقال رسوله الكريم: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها ".
(1/326)
والصيام من أعظم المكفرات للذنوب لما فيه من ترك الشهوات، ومجاهدة النفس وتضييق مجاري الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم.
وليس من حق العبد أن يستكثر على ربه تكفير ذنوب سنة أو سنتين بصوم يوم واحد، فإنه تعالى واسع الفضل والجود، واسع المغفرة والرحمة، " قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ".
والحديث الذي معنا أطلق التكفير، ولم يقيده بالصغائر، ولكن جماعة من العلماء قيدوه بها، وقد يؤيدهم في ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " .
فإذا كانت هذه الحسنات العظيمة يشترط للتكفير بها اجتناب الكبائر، فأولى أن يكون هذا الشرط ملحوظًا في صيام عاشوراء.
قال النووي: (فإن لم تكن صغائر كفر الكبائر، فإن لم تكن كبائر كان زيادة في رفع الدرجات).
موافقة اليهود في صيام عاشوراء
س: جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فصام وأمر بصيامه، فكيف يتفق هذا مع أمره بمخالفة أهل الكتاب في أمور كثيرة ؟
ج: الحديث الذي يشير إليه السائل حديث متفق عليه عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء . فقال: ما هذا ؟ قالوا: يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال: " أنا أحق بموسى منكم " فصامه وأمر بصيامه.
ولا عجب أن يسأل المسلم: كيف وافق النبي اليهود في صيام عاشوراء مع حرصه على مخالفة الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وأمره بذلك في أحاديث شتى " خالفوا اليهود والنصارى .. خالفوا المشركين ..الخ ".
(1/327)
ولكن المتتبع للأحاديث المروية في صيام عاشوراء، يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم هذا اليوم قبل الهجرة، بل كانت العرب في الجاهلية تصومه وتعظمه، وتكسو فيه الكعبة، وقيل: إنهم تلقوا ذلك من الشرع السالف، وروي عن عكرمة أن قريشًا أذنبت ذنبًا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك عنكم ".
وإذًا، فالنبي عليه السلام لم يبتدئ صومه في المدينة، ولم يصمه اقتداء باليهود، وإنما قال ما قال: " نحن أحق بموسى منكم " وأمر بما أمر، تقريرًا لتعظيمه وتأكيدًا وتعليمًا لليهود أن دين الله واحد في جميع الأزمان، وأن الأنبياء إخوة وضع كل منهم لبنة في بناء الحق، وأن المسلمين أولى بكل نبي ممن يدعون اتباعه . وقد حرفوا كتابه، وبدلوا دينه فإذا كان يوم عاشوراء يوم هلاك لفرعون وانتصار لموسى فهو كذلك انتصار للحق الذي بعث الله به محمدًا، وإذا صامه موسى شكرًا لله فالمسلمون أحق أن يقتدوا به من اليهود.
هذا إلى أن عاشوراء يوم ميمون تحقق فيه أكثر من انتصار للحق على الباطل، وللإيمان على الكفر، فقد أخرج أحمد عن ابن عباس أن السفينة استوت على الجودي فيه، فصامه نوح شكرًا لله تعالى.
على أن موافقة النبي لليهود في أصل الصيام كانت في أوائل العهد المدني إذ كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه استمالة لهم، وتألفًا لقلوبهم، فلما استقرت الجماعة الإسلامية، وتبينت عداوة أهل الكتاب للإسلام ونبيه وأهله أمر بمخالفتهم في تفاصيل الصوم مع الإبقاء على أصله احتفالاً بالمعنى العظيم الذي ذكرناه، فقال عليه السلام " صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يومًا وبعده يومًا " رواه أحمد.
(1/328)
وقد داخل الصحابة أنفسهم - في أواخر العهد المدني - ما داخل السائل من موافقة أهل الكتاب مع حرصه عليه الصلاة والسلام على تميز أمته عن مخالفيهم في العقيدة ويتجلى هذا فيما رواه مسلم عن ابن عباس قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ! فقال: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع . قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والراجح، الذي يفهم من هذا الجواب ومن الآثار الأخرى أنه عليه السلام لن يقتصر على اليوم العاشر بل يضيف إليه التاسع مخالفة لليهود والنصارى.
قال ابن القيم: فمراتب صومه ثلاث: أكملها أن يصام قبله يوم، وبعده يوم ويلي ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم.
الاكتحال والتوسعة على العيال في عاشوراء
س :هل ورد في يوم عاشوراء شيء يستحب عمله غير الصيام من تزين واكتحال، وتوسعة على العيال ؟
ج: لم يصح عن رسول الله في يوم عاشوراء شيء غير الصوم، أما التوسعة على العيال، ففيها حديث تكلموا فيه كثيرًا " من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها " رواه الطبراني والبيهقي، وقال: أسانيده كلها ضعيفة، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وحسنه العراقي، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بعلامة الصحيح، والسيوطي قد يتساهل في مثل هذه الأحاديث.
وأما الاكتحال فقد روى الحاكم فيه حديثًا مرفوعًا عن ابن عباس " من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ترمد عينه أبدًا " وقال الحاكم: إنه منكر، وقال السخاوي: بل هو موضوع وأورده ابن الجوزي في الموضوعات.
قال الحاكم: والاكتحال يوم عاشوراء لم ير د عن النبي فيه أثر، وهو بدعة ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه.
(1/329)
ولابد من معرفة الظروف التاريخية التي ولدت فيها هذه المرويات، فهي تلقي ضوءًا كاشفًا على هذه الأقاويل وقيمتها، فقد شاء القدر أن يقتل الحسين رضي الله عنه في اليوم العاشر من المحرم، فجعل منه كثير من شيعته يوم حزن مستمر، بل جعلوا الشهر كله مأتمًا وحدادًا، وحرموا على أنفسهم كل مظاهر الفرح والزينة والاستمتاع بالحياة وكان رد الفعل عند المتطرفين من خصوم الشيعة على هذا الغلو أن جعلوا الفرح والتزين في هذا اليوم عبادة وقربة إلى الله، وعززوا ذلك بآثار وأحاديث وضعوها، وكان أجدر بالفريقين أن يقفوا عند حدود الله، ويتخلصوا من التعصب المُصم المُعمي، الذي فرقهم شيعًا وأحزابًا، وأن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
الزواج في شهر المحرم
س: يعتقد بعض الناس أن الزواج في شهر المحرم شؤم أو حرام فهل لهذا الاعتقاد أساس من الدين؟
ج :هذا الاعتقاد لا أساس له من الدين، والذي في دين الإسلام أن شهر المحرم من الأشهر الأربعة الحرم التي عظمها الله، وحرم فيها القتال، وجعل الإثم والعدوان فيها أشد نكرًا منها في غيرها، وسماه النبي شهر الله تشريفًا له، وقال للرجل الذي سأله عن صيام التطوع " إن كنت صائمًا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله، فيه يوم تاب الله على قوم، ويتوب فيه على قوم آخرين " وشهر هذا شأنه ينبغي أن يستبشر الناس به، ولا يحجموا عن الزواج فيه وأن يتخلصوا من هذه الأوهام التي خلفها في مصر الغلو الفاطمي الذي جعل من المحرم شهر حزن ونواح، وتجنبوا فيه كل دواعي الفرح والسرور، ومنها الزواج.
إن الشهور والأيام كلها - في نظر الإسلام - ترحب بالزواج لأنه شعيرة من شعائر الدين وسنة من سنن رسوله الكريم ومن تزوج فقد أحرز شطر دينه وطوبى لمن أحرز شطر الدين.
(1/330)
في الأيمان والنذور
الوفاء بالنذر
السؤال الأول في هذه الحلقة من السيد جمال . م . س. - الدوحة - يقول فيه: أنا شاب تزوجت منذ 8 سنوات ولم يرزقنا الله أطفالاً، ولم يكن هناك أي عائق بالنسبة لي وزوجتي وتعبت من ذهابنا إلى الأطباء والمستشفيات بسبب التأخير، وفي يوم من الأيام قمت صباحًا على صوت الأذان ووقفت خارج البيت ورفعت يدي إلى الله مستغيثًا وقلت نذر علي إذا حملت زوجتي أن أعمل حفلة لأصدقائي واستجاب الله إلى طلبي وحملت زوجتي . وقد قررت إقامة الحفلة . ولكن هناك بعض الأصدقاء أشاروا على ألا أقيمها إلا بعد الولادة ومنهم من أشار بإعطاء تكاليفها إلى الفقراء، ولكني لم أعمل الحفلة أو أوزع ثمنها إلى الفقراء، وقد وضعت زوجتي طفلة وكانت في غاية من الصحة، إلا أنه لم يمض على ولادتها أكثر من خمسة عشر يومًا حتى أخذت الطفلة تفقد من صحتها وتشعر بألم شديد وقد ذهبت بها إلى المستشفى حيث أدخلت ولكن مشيئة الله هي أقوى من كل علاج وأخيرًا اختارها الله إلى جواره.
أودّ الاستفسار هل الطفلة توفيت بسبب عدم تنفيذ النذر قبل ولادتها أم لا ؟ وأنا لا أزال عازمًا على تنفيذ هذا النذر من كل قلبي . وهل النذر لا يزال ساري المفعول بعد موتها ؟
أرشدني حتى أسير على إرشاداتك ولكم جزيل الشكر.
الإجابة
ونقول للسائل الكريم:
عوضك الله خيرًا من ابنتك، وجعلها في ميزانك يوم القيامة.
وأما موت البنت فهو قضاء الله الذي لا راد له، ولا معقب لحكمه، ولكل حي أجل، فإذا انقضى فلا مجال لإمهال أو تأخير، كما قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
وليس هناك علاقة سببية بين الموت وبين عدم الوفاء بالنذر، فالموت ظاهرة طبيعية، مبنيّة على سنن وأسباب، منها ما نعلمه، ومنها ما لا يعلمه إلا الله (وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمره إلا في الكتاب). (فاطر: 11).
(1/331)
وأما النذر الذي جعلته لله على نفسك فقد لزمك الوفاء به، فإن الله تعالى قد أمر بالوفاء بالنذور، فقال تعالى: (وليوفوا نذورهم) (الحج: 29) وأثنى على عباده الأبرار فقال سبحانه: (يوفون بالنذر، ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا) (الإنسان: 7) وذمَّ الذين ينذرون و لا يوفون، فقال جل شأنه: (ومنهم من عاهد الله: لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (التوبة: 75، 76). والخطاب عن المنافقين.
وروى أبو داود أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف - تغني إظهارًا للفرحة والبهجة - فقال لها: "أوفي بنذرك " . وموت البنت بعد ذلك لا يسقط وجوب الوفاء بالنذر؛ لأن النذر لم يكن معلقًا على حياتها، بل على حمل الزوجة بها،وقد حملت، وتم الحمل حتى وضعت، وعاشت بعد الوضع أيامًا.
وكان الأولى بالأخ السائل أن يبادر بالوفاء بمجرد علمه بالحمل، فإن خير البر عاجله.
بقيت هنا فائدتان في موضوع النذر أود أن أنبه عليهما:
الأولى: أن إنشاء النذر والالتزام به مكروه عند كثير من العلماء، ولو كان المنذور عبادة كالصلاة والصيام والصدقة.
والدليل على ذلك ما رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن النذر، وقال: " إنه لا يرد شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل ".
وفي رواية: " النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ".
والحكمة في الكراهية: خشية أن يعتقد بعض الناس أنه يرد القدر، أو يظن أن النذر يوجب حصول غرضه الخاص . أو يحسب أن الله يحقق له غرضه من أجل ذلك النذر، ولهذا قال في الحديث: " إن النذر لا يرد شيئًا، أو لا يأتي بخير ".
(1/332)
وهناك خطر آخر يتمثل في نذر المجازاة: كقوله: إن رزقني الله ذكرًا، أو إن شفى الله ولدي، أو إن ربحت تجارتي لأتصدقن على الفقراء، أو لأنشئن مسجدًا أو نحو ذلك . ومعنى ذلك: أنه رتب فعل القربة المذكورة من الصدقة أو بناء المسجد على حصول غرضه الشخصي، فإذا لم يحصل غرضه لم يتصدق، ولم يبن المسجد.
وهذا يدل على أن نيته في التقرب إلى الله لم تكن خالصة ولا متمحضة، فحالته في الحقيقة هي حالة البخيل الذي لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض يزيد على ما غرمه . ولهذا قال في الحديث: " إنما يستخرج به من البخيل " . وسر ثالث في كراهة الالتزام بالنذر، وهو ما فيه من تضييق على النفس، وإلزامها بما كان لها عنه مندوحة، وقد يغلبه الكسل أو الشح أو الهوى فلا يفي به، وقد يؤديه كارهًا مستثقلاً له بعد أن لم يعد له خيار في شأنه.
ومهما يكن من تعليل القول بكراهة النذر فإن الإجماع قائم على أن الوفاء به واجب وقد جاء الكتاب والسنة بذم الذين ينذرون ولا يوفون.
الفائدة الثانية: أن الوضع الصحيح للنذر أن يكون بما فيه قربة إلى الله كالصدقة والصلاة والصيام وعمل الخيرات ونحو ذلك.
ولهذا جاء في الحديث: " لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله تعالى " رواه أحمد وأبو داود.
ولهذا يرى بعض الأئمة: أن النذر إذا لم يكن بقربة لا يعد نذرًا، كما إذا نذر أن يفعل شيئًا مباحًا.
ومن هنا كان الأولى بصاحب السؤال أن ينذر الصدقة على الفقراء ونحو ذلك بدلاً من إقامة حفلة للأصدقاء على أن حفلة الأصدقاء يمكن أن تكون قربة إذا كانت صداقتهم لله، وحبهم في الله، وقصد بهذه الحفلة تقوية الرابطة الدينية، وتوثيق عرا المحبة في ذات الله تعالى . والله أعلم. ع.ع.أ ـ أم صلال علي
كفارة اليمين
(1/333)
س: أنا عليّ كفارة يمين: وهي إطعام عشرة مساكين، فهل أطعم المسكين يومًا كاملاً أو وجبة واحدة فقط ؟ وهل يجوز أن تعطى الكفارة لأكثر من عشرة مساكين أو أقل ؟
جـ: المطلوب في الكفارة - وفقًا للآية الكريمة - إطعام عشرة مساكين . وهذا الإطعام يأتي بواحد من أمور ثلاثة.
إما أن يطعمهم بالفعل بأن يغذيهم ويعشيهم وجبتين كاملتين إلى درجة الشبع من أوسط ما يطعم أهله . كأن يطعمهم مرة أرزًا ولحمًا، ومرة أرزًا فقط.
وقال بعض العلماء: يكفي وجبة واحدة، والأول أولى.
والأمر الثاني: أن يملك كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما . وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين ذكرهم ابن كثير في تفسيره . وقال أبو حنيفة: نصف صاع من بر وصاع كامل من غيره، مثل صدقة الفطر.
وعن ابن عباس: مد من بر - يعني: لكل مسكين - ومعه إدامه، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين.
ومذهب الشافعي في كفارة اليمين مد، ولم يعرض لإدام.
ومذهب أحمد: أن الواجب مد من بر أو مدان من غيره.
والثالث: أن يدفع قيمة الطعام إلى المساكين نقدًا . وهذا جائز عند أبي حنيفة وأصحابه.
فأي هذه الطرق يتيسر له عمل به.
وإذا كان لا بد من ترجيح بين هذه الطرق الثلاث، فأنا أرجح الطريقة الأولى: طريقة الإطعام المباشر، لأنها أقرب إلى لفظ القرآن الكريم: (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) (المائدة: 89) ولا بد من التقيد بالعدد الذي ذكره القرآن وهو العشرة، فلا يحسن إعطاء طعام العشرة أو قيمته لمسكين واحد، لأن ذلك مناف لظاهر النص القرآني وإن أجاز ذلك الحنفية . ويلوح لي - والله أعلم - أن للشارع حكمة في كثرة عدد المساكين في الكفارات، حتى بلغ في بعضها ستين مسكينًا، وإعطاء الطعام المفروض لواحد من العشرة أو الستين مخل بهذه الحكمة، فإن لم يكن في البلد إلا أقل من عشرة فحينئذ يجوز إعطاؤهم، رعاية للضرورة، ورفعًا للحرج.
اليمين المنعقدة
(1/334)
س: أنا رجل وقع شجار بيني وبين امرأة من جيراني، وأقسمت على المرأة بالله عز وجل ألا تدخل بيتي - وقلت لأهلي: لا تكلموها . وفي يوم من الأيام دخلت المرأة بيتي وانكبت على رأسي وسلمت علي فما الحكم في القسم الذي أقسمته عليها ؟
جـ: هذه اليمين تسمى اليمين المنعقدة . فالأيمان في الشريعة أنواع: يمين هي اليمين الغموس: وتلك هي التي يحلف المرء بها كاذبًا عارفًا كذب نفسه، فسميت اليمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم في الدنيا، وفي النار في الآخرة.
كما تسمى اليمين الفاجرة وهي التي تذر الديار بلاقع، وهي التي جاء فيها الوعيد: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم). (آل عمران: 77).
ويمين ثانية تسمى اليمين اللغو: وهي التي جاء بها القرآن: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة: 225) كأن يقول الإنسان لصاحبه: تفضل فيقول: " لا والله " فيقول: " لازم تتفضل " ويدخل بعد أن قال: " لا والله " فهذه تسمى " اليمين اللغو " لأنه لا يقصد فيها الحلف تمامًا، وكذلك إذا حلف على شيء يظنه كذلك فبان بخلاف قوله، " والله العظيم إن هذا الشيء الذي أراه من بعيد هو كذا، فيتبين أنه بخلافه .. ويتبين خطؤه، هذه أيضًا لغو لا يؤاخذ الله عليها.
(1/335)
واليمين الثالثة كالحالة التي معنا: هي اليمين المنعقدة: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) (المائدة: 89) وهي الحلف على شيء في المستقبل، ألا يفعل كذا، أو أن يفعل كذا، حلف ألا يدخن مثلاً، أو ألا يدخل دار فلان أو لا يفعل الشيء الفلاني، أو أن يترك الشيء الفلاني، فهذه يمين منعقدة، ويجب أن يحافظ على يمينه فيها، وخاصة إذا كانت أمرًا خيرًا، حلف ألا يدخن، فيجب أن يستقيم على هذا الحلف ويجب ألا يدخن . أما إذا حلف على ما فيه شر كأن حلف ألا يصل رحمه . أو حلف ألا يتصدق على مسكين، أو حلف ألا يصلي جماعة، فيجب أن يحنث في يمينه، وأن يكفر عن هذه اليمين . الرجل الذي حلف ألا يكلم هذه المرأة، ثم دخلت المرأة وصالحته وقبلت رأسه وكلمها فعلاً، هذه اليمين في هذه الحالة يكون قد حنث بها، وعند الحنث تلزمه الكفارة، لا شيء يلزمه غير الكفارة . . . فقد قال تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين، من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون).
فعلى الأخ السائل أن يطعم عشرة مساكين، يطعمهم وجبتين مشبعتين أو ما قيمته ذلك، والله تعالى يتقبل منه إن شاء الله.
هل الحلف بالكعبة من لغو اليمين ؟
س: يقول سبحانه وتعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) (المائدة: 89) فهل الحلف بالكعبة والشرف والأب، من اللغو ؟ أم أن اللغو هو الحلف بالله لغير حاجة ؟
جـ: الحلف بغير الله حرام، منهي عنه شرعًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلم أن يحلف بأبيه وقال: " لا تحلفوا بآبائكم . من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليَذَرْ " . وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك ".
لأن الحلف نوع من التعظيم للمحلوف به، ولا يجوز أن يعظم المؤمن غير الله عز وجل.
(1/336)
فلهذا لا يجوز أن يحلف بالكعبة بل يحلف برب الكعبة، ولا يجوز أن يحلف بالنبي أو الولي أو بقبر أبيه أو بشرفه أو بحياة ولده أو بتراب وطنه، أو بشيء من ذلك . . . كل هذا لا يجوز، وإنما الحلف بالله فقط.
هذا هو الذي جاء به الإسلام . وهو نوع من تحرير العقيدة وتحرير التوحيد.
وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا . لأنه يرى أن سيئة الشرك مع الصدق أشد من سيئة الكذب مع التوحيد، فإنه إذا حلف بالله فقد عظمه ووحّده . ويبقى عليه إثم الكذب - إذا حلف كاذبًا - ولكن إذا حلف بغير الله فقد أشرك، فيكون عليه إثم الشرك، وهو عظيم، وله ثواب الصدق وهو ضئيل بالنسبة إلى إثم الشرك الذي ارتكبه.
فالتوحيد أهم من الصدق في ذلك، ولهذا لا يجوز للمسلم أن يحلف إلا بالله عز وجل . وليس هذا هو معنى اللغو،
ولكن اللغو له معنيان:
الأول: أن يجري اسم الله على لسانه دون أن يقصد الحلف حقيقة.
كأن يقول مثلاً: بالله تفضل عندنا، والله لتأكلن هذه . . . وما إلى ذلك . . . فهو بهذا لا يعقد في نفسه يمينًا ولا قسمًا، وإنما يجري على لسانه بالعادة وكثرة الاستعمال.
والمعنى الآخر للغو هو: أن يحلف الإنسان على شيء، يظنه حقًا فيظهر أنه على غير ما يظن . كأن يرى إنسانًا عن بعد فيقول: والله هذا فلان قادم . ثم يتبين أنه غير الذي ظنه أو يحلف أن الشيء الفلاني هو كذا على حسب ظنه، ثم يتبين خلاف ظنه . إنه رجح واجتهد وحلف على ما يظن أنه الحق، ثم ظهر الأمر على خلاف ما ظن . فهذا ضرب من اللغو وليس فيه إثم . إنما الإثم في اليمين الغموس أو اليمين المنعقدة إذا حنث فيها.
فالأيمان ثلاثة:
يمين اللغو، وهي التي تحدثنا عنها.
(1/337)
واليمين الغموس، وسميت كذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم في الدنيا، وفي النار في الآخرة . وذلك أن يحلف متعمدًا الكذب، كأن يقول: والله ما أخذت منك شيئًا، وهو قد أخذ أو استدان، ويذكر ذلك جيدًا ولا ينساه . أو يحلف أنه لم يعمل الشيء الفلاني وهو قد عمله . هذه هي اليمين الغموس، أو اليمين الفاجرة التي تذر الديار بلاقع.
واليمين الثالثة:
هي اليمين المنعقدة: وهي أن يحلف الإنسان على أمر مستقبل، في أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا . يحلف أن لا يذهب إلى المكان الفلاني، ثم إذا ذهب بعد ذلك إلى نفس المكان يكون قد حنث . . . (ولكن يؤاخذكم بما عقدّتم الأيمان).
كثير من الأيمان التي يقع فيها الناس هي من هذا النوع الأخير كأن يحلف عازمًا على أمر في المستقبل، أن يفعل أو لا يفعل . فهذه هي اليمين المنعقدة، التي تترتب الكفارة على الحنث فيها.
وهذا إذا كان الحلف بالله تعالى . أما الحلف بغيره فهو حرام بل كبيرة كما بيّنا، وليس له كفارة إلا التوبة النصوح والعمل الصالح.
والله أعلم.
النذر بالأمور المباحة
س: أنا سيدة . نذرت لابني عندما أطهره أن أعمل له فرحًا، وكان عمره حينئذ سبع سنوات والله قدر أن يسجن خالي في هذه السنة ولم أؤد النذر الذي علي لأن خالي محكوم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، وكبر ابني وصار عمره 17 سنة، والنذر باق علي، ولا أريد أن أقيم الفرح، فماذا أفعل، هل أؤدي النذر، أم أصوم، أم أتصدق ؟ ..
(1/338)
جـ: إن النذر إذا كان بأمر مباح مثل فرح أو نحو ذلك فقد أختلف فيه العلماء، هل يكون مثل هذا نذرًا أو لا ينعقد ؟ والراجح الذي نختاره، أن النذر الذي ينعقد هو النذر بقربة إلى الله تعالى، كأن تنذر صدقة على الفقراء، أو صيامًا، أو حجًا أو صلاة، أو غير ذلك من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه . فقد روى أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله عز وجل " وذلك إنما يكون في القربات والعبادات، وقد قال الحنابلة في مثل هذا النذر، أي النذر بمباح: إن الناذر عليه أحد أمرين: إما أن يؤدي الشيء الذي نذره نفسه، فإذا نذر عمل فرح يعمل فرحًا، وإما أن يؤدي كفارة يمين . وكفارة اليمين كما نعلم هي: (إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) فإذا كانت ظروف السائلة لم تمكنها من عمل ما التزمت به، فتسطيع الآن أن تكفر كفارة يمين، أي تستطيع أن تطعم عشرة مساكين، وجبتين كاملتين . أو تعطي كل مسكين مدًا من الطعام ومعه شيء من الإدام . هذا ما تستطيع أن تقوم به وهي مطمئنة لدينها إن شاء الله.
س: لقد أحببت شابًا منذ سنين، ومرة قلت له وأنا أحدثه: إذا أحياني الله ووفقني - وإذا أراد الله - سأعمل لك " فانيلا " أنسجها بيدي، ولكن بعد سنة تزوجت من رجل آخر، وأنا الآن لا أستطيع أن أصنع شيئًا وأهديه لغير هذا الرجل الذي تزوجته . أريد أن أعرف، هل هذا الوعد الذي قطعته على نفسي يعتبر نوعًا من النذر، كما قال تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا). (الإنسان: 7).
(1/339)
جـ: نقول للأخت السائلة أيضًا: إن هذا الشيء الذي وعدت به هو من الأمور المباحة وليس من القربات: صناعة قميص أو " فانيلا " من الصوف ونسجها بيديها، ليس هذا عبادة ولا قربى، فهي - إذا اعتبرنا هذا نذرًا - تستطيع أن تكفر كفارة يمين وتخلو من العهدة، وعندي تفسير آخر لهذا الأمر، إنه ليس نذرًا وإنما هو وعد، وعدت به هذا الشاب، وكان في نيتها أن تفعل ذلك إذا تزوجته، وهو وعد مشروط، ومقيد، فقد قالت له: إذا أحياني الله ووفقني، وإذا أراد الله صنعت لك كذا وكذا، ولم يحصل هذا الشرط . . لم يشأ الله أن تتزوجه فهو وعد معلق على شرط لم يتحقق شرطه، وعلى هذا فليس عليها شيء أبدًا، فقد عجزت عن الوفاء بوعدها ولا إثم عليها إذا لم توف بذلك، والله أعلم.
(1/340)
هل المرأة شر كلها ؟
س: جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله: " المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها " فما تفسيركم لهذا القول ؟ وهل هذا يمثل موقف الإسلام من المرأة . أرجو الإيضاح والبيان وشكرًا.
جـ: هناك حقيقتان يجب أن نقررهما بوضوح وجلاء.
الأولى: أن الذي يمثل رأي الإسلام في قضية ما، إنما هو قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكل أحد بعد ذلك يؤخذ كلامه ويترك، فالقرآن الكريم وصحيح السنة النبوية هما وحدهما المصدران المعصومان، إنما يأتي الخلل من سوء الفهم لهما أو لأحدهما.
الثانية: أن من المعروف لدى النقاد والمحققين أن نسبة بعض ما في " نهج البلاغة " إلى علي رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، غير صحيحة، ولهم على ذلك دلائل وبراهين . ولا شك أن في " النهج " خطبًا وأقوالاً يلمس الناقد بل القارئ الواعي، أنها لا تمثل عصر الإمام في أفكارها، ولا في أسلوبها.
ومن هنا لا يجوز الاحتجاج بكل ما في " النهج " على اعتبار أنه من أقواله رضي الله عنه.
على أن المقرر في العلوم الإسلامية أن نسبة الأقوال إلى قائليها، لا تتحقق إلا بالإسناد الصحيح المتصل، الخالي من الشذوذ والعلة، فليت شعري، أين السند المتصل إلى الإمام علي، حتى نحكم على أساسه أنه قال هذا القول ؟.
بل لو نقل هذا القول عن علي بسند صحيح متصل، من رواة عدول ضابطين لوجب أن يرد، لما فيه من مخالفة للأصول والنصوص الإسلامية، وهذه علة قادحة توجب رد أي قول، ولو كان إسناده كالشمس.
(1/341)
وكيف يقول علي بن أبي طالب هذا القول، وهو يقرأ كتاب الله الذي يقرر مساواة المرأة للرجل في أصل الخلق، وفي التكاليف، وفي الجزاء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء) (سورة النساء: 1)، (إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا) (سورة: الأحزاب: 35) . . (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (سورة آل عمران: 195) . ويقول في شأن الزوجات: (هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن) (سورة البقرة: 187) . ويقول: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (سورة الروم: 21)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما النساء شقائق للرجال " . ويقول: " الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة " (رواه مسلم والنسائي وابن ماجة) . ويقول: " من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح ". (رواه أحمد بإسناد صحيح).
ويقول: " من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي ". (رواه الطبراني والحاكم، وقال: صحيح الإسناد).
ويقول: " أربع من أوتيهن فقد أوتي خير الدنيا والآخرة " ويذكر منها " زوجة صالحة لا تبغيه حوبًا في نفسها وماله ". (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناد أحدهما جيد، كما في " الترغيب " للمنذري).
ويقول عن نفسه: " حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ".
فكيف يخالف علي رضي الله عنه هذا كله وغيره، ويطلق القول: إن المرأة شر كلها ؟ !
(1/342)
ونستطيع - لو صح هذا القول عن علي - أن نسأله: ما قولك في زوجك، وأم ولديك السبطين الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة، أعني فاطمة سيدة النساء رضي الله عنها ؟ هل يقبل الإمام علي أو يقبل المسلمون منه أن يقول عنها: أنها شر كلها ؟ !.
إن فطرة المرأة ليست مخالفة لفطرة الرجل، فكلتاهما تقبل الخير والشر، والهدى والضلال، كما قال تعالى:
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها). (سورة الشمس: 7 - 10).
وكيف يتصور أن تكون المرأة شرًا كلها، ومع هذا لا يكون منها بد ؟ كيف يخلق الله شرًا مطلقًا، ثم يسوق الناس إليه سوقًا بسوط الحاجة والضرورة ؟
بل المتأمل في الكون كله يجد أن الخير فيه هو الأصل والقاعدة، وما يتراءى لنا من شر فهو جزئي ونسبي، ومغمور في الخير الكلي العام المطلق، وهو في الواقع لازم من لوازم الخير، ولهذا كان من مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لربه: " والشر ليس إليك " وفي القرآن الكريم (بيدك الخير إنك على كل شيء قدير). (سورة آل عمران: 26).
بقي هنا سؤال عن نقطة ورد بها الحديث، وهي التحذير من فتنة النساء مثل قوله صلى الله عليه وسلم " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ". (رواه البخاري).
وأقول: إن التحذير من الافتتان بشيء، لا يعني أنه شر كله، وإنما يعني أن لهذا الشيء تأثيرًا قويًا على الإنسان يخشى أن يشغله عن الله والآخرة.
ومن هنا حذر الله من الفتنة بالأموال والأولاد في أكبر آية في كتاب الله، ومن ذلك قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة، والله عنده أجر عظيم) (سورة التغابن: 15) .، (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله . ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). (سورة المنافقون: 9).
(1/343)
هذا مع تسميته سبحانه المال " خيرًا " في عدة آيات من القرآن، ومع اعتباره الأولاد نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده: (يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور) (سورة الشورى: 49) . . وامتنانه على عباده بأن منحهم الأولاد والأحفاد، كما رزقهم من الطيبات: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، ورزقكم من الطيبات). (سورة النحل: 72).
فالتحذير من فتنة النساء كالتحذير من فتنة الأموال والأولاد، ولا يعني أن هذه النعم شر، وشر كلها ! بل يحذر من شدة التعلق بها إلى حد الافتتان، والانشغال عن ذكر الله.
ولا ينكر أحد أن أكثر الرجال يضعفون أمام سحر المرأة وجاذبيتها وفتنتها، وخصوصًا إذا قصدت إلى الإثارة والإغراء، فإن كيدها أعظم من كيد الرجال.
ومن ثم لزم تنبيه الرجال إلى هذا الخطر، حتى لا يندفعوا وراء غرائزهم، ودوافعهم الجنسية العاتية.
وفي عصرنا نجد أن فتنة المرأة بلغت حدًا فاق كل العصور السابقة، وخيالات أهلها، وأصبح الهدامون يتخذون منها معولاً لهدم الفضائل والقيم المتوارثة، باسم التطور والتقدم.
والواجب على المرأة المسلمة أن تتنبه لهذه المؤامرات، وأن تربأ بنفسها أن تتخذ أداة هدم في أيدي القوى المعادية للإسلام، وأن تعود إلى ما كانت عليه نساء الأمة في خير قرونها: البنت المهذبة، والزوجة الصالحة، والأم الفاضلة، والإنسانة الخيرة العاملة لخير دينها وأمتها، وبذلك تفوز بالحسنيين، وتسعد في الدارين.
1 - لبس " الباروكة "
2 - ذهاب المرأة إلى الكوافير
س: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تذهب إلى الكوافير " للتزين والتجمل "، فإن تطور الحياة الاجتماعية في هذا العصر غير شكل الزينة وأساليبها، ولم تعد المرأة تستطيع أن تقوم بزينتها في بيتها ؟.
(1/344)
وشيء آخر في الموضوع نفسه، وهو لبس " الشعر الصناعي " الذي تلبسه الكثيرات الآن ويُسمى " باروكة " . هل يجوز هذا شرعًا ؟ فمن الناس من يزعم أنه ليس إلا غطاء للشعر الأصلي وإذا كان شعر المرأة عورة فهذا قد سترها.
ع . ف . د . من الدوحة
جـ: ونجيب عن هذا السؤال بشقيه فنقول:
1 - جاء الإسلام يحارب نزعة التقشف المتزمتة التي عرفت بها بعض الأديان والنحل، ودعا إلى التزين والتجمل في توازن واعتدال، منكرًا على الذين يحرمون زينة الله التي أخرج لعباده . لهذا جعل أخذ الزينة من مقدمات الصلاة:
(خذوا زينتكم عند كل مسجد). (الأعراف: 31).
وإذا كان الإسلام شرع التجمل للرجال والنساء جميعًا فإنه قد راعى فطرة المرأة وأنوثتها فأباح لها من الزينة ما حرم على الرجل من لبس الحرير والتحلي بالذهب.
ولكن الإسلام حرم بعض أشكال الزينة التي فيها خروج على الفطرة، وتغيير لخلق الله الذي هو من وسائل الشيطان في إغوائه للناس (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله).
وفي هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة، والنامصة والمتنمصة، والواصلة والمستوصلة، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة لا مطعن فيها.
والوشم معروف من قديم، وهو النقش - عن طريق الوخز - باللون الأزرق.
والوشر هو تحديد الأسنان، وتقصيرها بالمبرد.
والنمص هو إزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما أو نحو ذلك.
والوصل . المراد به: وصل الشعر بشعر آخر طبيعي أو صناعي كالباروكة التي يسأل عنها السائل.
وكل هذه الأمور محرمة ملعون من فعلها أو طلبها على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/345)
وبهذا نعلم حكم ما يسمى " الباروكة " وما شابهها، وادعاء أنها مجرد غطاء للرأس كذب وتضليل يخالف الواقع، فأغطية الرأس معلومة بالعقل والعرف، وإنما هذه زينة وحلية أكثر من الشعر الطبيعي نفسه، مع ما فيها من الغش والتزوير من ناحية، والإسراف والتبذير من ناحية ثانية، والتبرج والإغراء من ناحية ثالثة . وكل هذه مؤكدات للتحريم.
روى سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها، فخطبنا فأخرج كبة من شعر (أي قصة - كما في رواية أخرى) قال: ما كنت أرى أحدًا يفعل هذا غير اليهود . . . إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه " الزور " يعني الواصلة في الشعر.
وفي رواية أنه قال لأهل المدينة: " أين علماؤكم ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن مثل هذه " ويقول:
" إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم " . رواه البخاري.
وهذا الحديث نبهنا على أمرين:
الأول: أن اليهود هم مصدر هذه الرذيلة وأساسها من قبل، كما كانوا مروجيها من بعد . فتش عن اليهود وراء كل فساد.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا العمل " زورًا " ليشير إلى حكمة تحريمه فهو ضرب من الغش والتزييف والتمويه، والإسلام يكره الغش، ويبرأ من الغاش في كل معاملة مادية أو معنوية . " من غش فليس منا " مع ما ذكرنا من الحكم الأخرى.
إن لبس هذه الباروكة حرام، ولو كان في البيت، لأن الواصلة ملعونة أبدًا، فإذا كان في الخارج وليس على رأسها غطاء فهو أشد حرمة لما فيه من المخالفة الصريحة لقوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ولا يزعم أحد أن " الباروكة " خمار . وإذا كان هذا حرامًا على المرأة فهو على الرجل أشد حرمة من باب أولى.
2 - أما ذهاب المرأة إلى رجل أجنبي ليزينها، فهو حرام قطعًا، لأن غير الزوج والمحرم لا يجوز له أن يمس امرأة مسلمة ولا جسدها، ولا يجوز لها أن تمكنه من ذلك.
(1/346)
وفي الحديث: " لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " والمخيط: آلة الخياطة كالإبرة والمسلة ونحوهما . رواه الطبراني، ورجاله ثقات، رجال الصحيح - كما قال المنذري - ورواه البيهقي أيضًا.
وكثيرًا ما يحدث أن تبقى المرأة وحدها في محل " الكوافير " فترتكب حرامًا آخر، وهو الخلوة بأجنبي.
وما أدى إلى هذا كله إلا الشرود عن نهج الفطرة والاستقامة والاعتدال الذي هو منهج الإسلام، وحسب المسلمة الحريصة على دينها وإرضاء ربها أن تتجمل في بيتها بما أبيح لها، وأن يكون همها التزين لزوجها لا للشارع، كما هو بدع المدنية الوافدة التي تحركها اليهودية العالمية.
فإن كان ولابد من (الكوافير) فليكن امرأة . وبالله التوفيق.
حول السفور والحجاب
س: ثار عندنا جدال طويل حول موضوع السفور والحجاب . وبالذات حول وجه المرأة:
أهو عورة، فيجب تغطيته أم لا ؟ ولم يستطع أحد الفريقين أن يقنع الآخر أو يلزمه فلجأنا إليكم لنجد عندكم الجواب الحاسم مستمدًا من نصوص الشرع وأدلته ؟.
شاب مسلم.
عدن - اليمن
جـ: المجتمع الإسلامي مجتمع يقوم - بعد الإيمان بالله واليوم الآخر - على رعاية الفضيلة والعفاف والتصون في العلاقة بين الرجل والمرأة، ومقاومة الإباحية والتحلل والانطلاق وراء الشهوات.
(1/347)
وقد قام التشريع الإسلامي في هذا الجانب على سد الذرائع إلى الفساد، وإغلاق الأبواب التي تهب منها رياح الفتنة كالخلوة والتبرج، كما قام على اليسر ودفع الحرج والعنت بإباحة ما لابد من إباحته استجابة لضرورات الحياة، وحاجات التعامل بين الناس كإبداء الزينة الظاهرة للمرأة . مع أمر الرجال والنساء جميعًا بالغض من الإبصار، وحفظ الفروج: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم) (النور: 30 - 31)، (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن). (النور: 30 - 31).
وقد روى المفسرون عن ابن عباس في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) (النور: 31)، قال: الكف والخاتم والوجه، وعن ابن عمر: الوجه والكفان، وعن أنس: الكف والخاتم، قال ابن حزم: وكل هذا عنهم في غاية الصحة، وكذلك عن عائشة وغيرها من التابعين.
وتبعًا للاختلاف في تفسير (ما ظهر منها) اختلف الأئمة في تحديد عورة المرأة اختلافًا حكاه الشوكاني في " نيل الأوطار ". (نيل الأوطار، جـ 2، ص 68).
فمنهم من قال: جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد أقواله، وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، ومالك . ومنهم من قال: ما عدا الوجه والكفين والقدمين والخلخال . وإلى ذلك ذهب القاسم في قول، وأبو حنيفة في رواية عنه، والثوري، وأبو عباس.
وقيل: بل جميعها إلا الوجه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وداود.
الوجه ليس بعورة:
ولم يقل أحد بأن الوجه عورة إلا في رواية عن أحمد - وهو غير المعروف عنه - وإلا ما ذهب إليه بعض الشافعية.
(1/348)
والذي تدل عليه النصوص والآثار، أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو ما روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة والتابعين والأئمة، واستدل ابن حزم - وهو ظاهري يتمسك بحرفية النصوص - بقوله تعالى: (وليضربن بخمرهن) (الخمر: جمع خمار، وهو غطاء الرأس، والجيوب: جمع جيب، وهي فتحة الصدر في الثوب) على إباحة كشف الوجه، حيث أمر بضرب الخمر على الجيوب لا على الوجوه، كما استدل بحديث البخاري عن ابن عباس أنه شهد العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه السلام خطب بعد أن صلى، ثم أتى النساء، ومعه بلال، فوعظهن وذكَّرهن وأمرهن أن يتصدقن . قال: فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه - أي المال - في ثوب بلال . قال: فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أيديهن، فصح أن اليد من المرأة ليست بعورة.
وروى الشيخان وأصحاب السنن عن ابن عباس، أن امرأة من خثعم، استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والفضل ابن العباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: أن الفضل جعل يلتفت إليها - وكانت امرأة حسناء - وأخذ النبي يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، وفي بعض ألفاظ الحديث " فلوّى صلى الله عليه وسلم عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما " وفي رواية: فلم آمن عليهما الفتنة ".
وقد استنبط بعض المحدثين والفقهاء من هذا الحديث: جواز النظر عند أمن الفتنة حيث لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بتغطية وجهها، ولو كان وجهها مغطى، ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء، وقالوا: لو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن فهمه صحيحًا ما أقره النبي عليه.
وهذا بعد نزول آية الحجاب قطعًا، لأنه في حجة الوداع سنة عشر، والآية نزلت سنة خمس.
معنى الغض من البصر:
(1/349)
والغض من البصر الذي أمر الله به ليس إغماض العين، أو إطراق الرأس، حتى لا يرى الإنسان أحدًا، فهذا ليس بمستطاع، وإنما معناه خفضه وعدم إرساله بحيث لا يغلغل النظر وراء المفاتن المثيرة، وهذا سر التعبير بالغض من الأبصار لا بغض الأبصار . فيجوز للرجل أن ينظر إلى ما ليس بعورة من المرأة ما لم يكن بشهوة . فإن كان بشهوة وخاف على نفسه الفتنة صح القول بالتحريم سدًا للذريعة.
والمرأة، في هذا كالرجل، فيجوز لها أن تنظر - مع الأدب والغض - ما ليس بعورة من الرجل . وقد روى أحمد وغيره عن عائشة أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله في يوم عيد . قالت: فاطلعت من فوق عاتقه، فطأطأ لي منكبيه، فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت، ثم انصرفت.
وذهب بعض الشافعية إلى أنه لا يجوز للرجل أن يرى امرأة، ولا للمرأة أن ترى رجلاً، واستند إلى ما رواه الترمذي عن أم سلمة وميمونة - زوجي النبي - أن رسول الله أمرهما بالاحتجاب من عبد الله بن أم مكتوم . . فقالتا له: أليس أعمى لا يبصرنا ؟ قال: " أفعمياوان أنتما . . . ألستما تبصرانه ؟ ! ".
وليس لصاحب هذا الرأي حجة بهذا الحديث، فالحديث لم يسلم من الطعن: طعن في سنده وطعن في دلالته ومهما تسوهل فيه فليس في درجة الأحاديث التي رويت في الصحيحين، وهي تفيد جواز الرؤية، ومنها أحاديث فاطمة بنت قيس التي أمرها الرسول أن تقضي عدتها في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده.
وقال الحافظ ابن حجر: إن الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم لعله لكون الأعمى مظنة أن يتكشف منه شيء وهو لا يشعر به . وقد كان كثير من العرب لا يلبسون السراويل.
(1/350)
وجعل أبو داود حديث أم سلمة وميمونة، مختصًا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم . وحديث فاطمة بنت قيس وما في معناه لعامة النساء، واستحسنه ابن حجر وغيره، وهو الذي نميل إليه . فإن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وضعًا خاصًا بحيث ضاعف الله العذاب مرتين لمن يأتي منهن بفاحشة، كما ضاعف الأجر مرتين لمن تعمل منهن صالحًا . وقال القرآن: (يا نساء النبي، لستن كأحد من النساء . . . .)، وجعل لهن أحكامًا خاصة لمنزلتهن وأمومتهن الروحية للمؤمنين، وقد تكفلت ببيانها سورة الأحزاب.
عادة الحجاب:
أما الغلو في حجب النساء عامة الذي عرف في بعض البيئات والعصور الإسلامية، فهو من التقاليد التي استحدثها الناس احتياطًا منهم، وسدًا للذريعة في رأيهم، وليس مما أمر به الإسلام.
فقد أجمع المسلمون على شرعية صلاة النساء في المساجد مكشوفات الوجوه والكفين - على أن تكون صفوفهن خلف الرجال، وعلى جواز حضورهن مجالس العلم.
كما عرف من تاريخ الغزوات والسير أن النساء كن يسافرن مع الرجال إلى ساحات الجهاد والمعارك، يخدمن الجرحى، ويسقينهم الماء، وقد رووا أن نساء الصحابة كن يساعدن الرجال في معركة " اليرموك ".
كما أجمعوا على أن للنساء المحرمات في الحج والعمرة كشف وجوههن في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمار وغيرها، بل ذهب الجمهور إلى تحريم تغطية الوجه - ببرقع ونحوه - على المحرمة لحديث البخاري وغيره: " لا تنتقب (لا تلبس النقاب) المرأة المُحْرِمة، ولا تلبس القفازين ".
ومن الفتاوى السديدة ما أفتى به ابن عقيل الفقيه الحنبلي ردًا على سؤال وُجِّه إليه عن كشف المرأة وجهها في الإحرام - مع كثرة الفساد اليوم -: أهو أولى أم التغطية.
(1/351)
فأجاب: بأن الكشف شعار إحرامها، ورفع حكم ثبت شرعًا بحوادث البدع لا يجوز، لأنه يكون نسخًا بالحوادث، ويفضي إلى رفع الشرع رأسًا . وليس ببدع أن يأمرها الشرع بالكشف، ويأمر الرجل بالغض، ليكون أعظم للابتلاء، كما قرب الصيد إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه . ا هـ . نقله ابن القيم في بدائع الفوائد.
هذا موجز رأي الشريعة في مسألة الحجاب والسفور، كما بينته مصادرها الصحيحة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
خلوة المرأة مع ابن زوجها
س: هل يجوز للمرأة أن تختلي بابن زوجها وخاصة إذا كان الزوج كبيرًا وابنه شابًا ؟ نرجو بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة، التي تسبب عنها الكثير من المشاكل لعدم معرفة الجائز منها والممنوع.
جـ: إن الشرع الشريف حينما أباح للمرأة أن تبدي بعض الزينة لبعض الفئات من الناس، ومنهم أبناء بعولتهن، أراد الشارع بذلك أن يرفع الحرج وأن يدفع العنت والمشقة عن الناس، فلو كلفنا المرأة وهي تسكن في بيت واحد مع أبناء زوجها أن تغطي جسمها كله من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، كلما دخل عليها أحد أبناء زوجها، أو كلما دخلت هي عليه، لكان في ذلك حرج كثير . لهذا قال: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن . . . الآية). (النور: 31).
فابن البعل اعتبر بهذا من الناس المخالطين والمعاشرين دائمًا، فلم يطلب من المرأة أن تتحفظ منه كما تتحفظ من الأجنبي تمامًا، كأن نطلب منها أن تغطي شعرها وألا تكشف شيئًا من ذراعها، أو رقبتها أو غير ذلك . . . لأن في ذلك حرجًا شديدًا، وما جعل الله في هذا الدين من حرج.
(1/352)
ولكن ليس معنى هذا أن يصبح ابن البعل كالابن تمامًا، أو كالأخ، له مثل هذه المحرمية، لا .. لابد أن يراعى الفرق، كما نبَّه على ذلك الإمام القرطبي وغيره، من الأئمة المحققين، وخاصة إذا تزوج رجل كبير السن فتاة لا يزيد عمرها عن عشرين سنة مثلا، وله ابن في مثل سنها، وفي مثل هذه الحالة نجد فرقًا شاسعًا بين المرأة وزوجها، بينما نجد تقاربًا وتماثلاً في السن بينها وبين ابنه، وهنا تخشى الفتنة، وعلى هذا نص الفقهاء، وقالوا: إن كل ما أبيح في مثل هذا الموضوع يحرم عند خوف الفتنة سدًّا للذريعة، كما أن كل ما حرم هنا يباح عند الضرورة أو الحاجة وذلك مثل علاج المرأة على يد طبيب لا يوجد سواه من الطبيبات،وفي مقابل ذلك يمنع ما أبيح عند خوف الفتنة، كالمسألة التي نحن بصددها.
فلو فرضنا أن هذا الزوج سافر، نقول بجواز أن يختلي ابنه الشاب بزوجة أبيه الشابة مع خشية الفتنة ؟ طبعًا لا .. وإنما خفف الشارع على المرأة في موضوع التستر، وأما الخلوة التي قد تبعث على الريب، وتسبب الفتنة فلا . . . كما لا يجوز للرجل أن يعرض زوجته للفتنة.
ومثل هذا أيضًا الحماة - وهي بطبيعة الحال بمنزلة الأم - ولكن إذا خشيت الفتنة ينبغي على المرء أن يتجنب دواعيها . قد لا يكون هناك تفكير في الشر ولكن حينما يفتح الباب قد يؤدي إلى الشر - والشيطان " شاطر " كما يقولون - ينتهز الفرصة، ليوقع الفتنة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ".
ولهذا ينبغي الحذر والاحتياط في مثل هذه الحالات، وسد أبواب الفساد، حتى نتجنبه ولا نقع فيه والله أعلم.
اللباس الشرعي للمرأة المسلمة
س: ما حكم لبس الثوب القصير بالنسبة للمرأة، هل هو حلال أم حرام ؟ وإني أرى كثيرًا من المدرسات يلبسن هذا النوع من الثياب . . . فأرجو البيان، مع توضيح حقيقة الزي الشرعي للمرأة.
فتاة مسلمة
(1/353)
جـ: من المؤسف حقًا أن يسأل مثل هذا السؤال، في المجتمع الإسلامي، لأن الحكم فيه بين واضح، والمفروض أن تكون الأسئلة في الأمور المشتبهات وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس ". (متفق عليه).
وبعض العلماء يضربون مثلاً طريفًا فيقولون: إن القطة تعرف الحلال من الحرام، فإنك إذا أعطيتها قطعة لحم، أكلتها وهي مطمئنة، بينما إذا خطفتها فإنها تجري وتعدو، لأنها تعرف بأنها أخذتها بغير حق . تعرف ذلك بالفطرة.
فإذا كان هذا شأن الحيوان، فما بالك بالإنسان ؟
هناك أمور الحلال فيها بين والحرام بين، وهناك أمور مشتبهة.
فالأمور المشتبهة هي التي يُسأل فيها، ولكن في عصرنا، للأسف - أصبحت الأمور البينة مشتبهات . فأصبح كثير من الناس يسألون عن أمور هي من الحرام البين ولا ينبغي أن يسأل عنها، ومن ذلك الثياب القصيرة التي تسأل عنها السائلة الكريمة . . . هل هي حلال أم حرام ؟.
(1/354)
ولا ينبغي أن يشك في حرمة لبس هذه الثياب أبدًا . . . أو يتردد فيها إذا ظهرت بها المرأة أمام أجنبي عنها . وإذا كانت بعض النساء يفعلن هذا، ففعلهن ليس حجة وليس تشريعًا، وإن كن مدرسات كما تقول السائلة . على أن للمدرسات في داخل المدرسة إذا كان من فيها بنات ونساء، وليس فيها رجال قط - ما ليس لغيرهن في الشارع مثلاً، فإن للمرأة أن تبدي بعض زينتها لمرأة مثلها ولا يجوز هذا في الشارع الذي يراها فيه الرجال والنساء على السواء . ولكن ما يجوز لها أن تبديه لامرأة مثلها أيضًا محدد ومعقول، ليس كما نرى الآن، وكما نشاهد . . . إلى حد " الميني جيب " أو " الميكروجيب " وغير ذلك من مبتدعات هذا العصر الخارجة عن الدين، وعن الإسلام، وعن العقل، وعن الأخلاق، وعن التقاليد، هذا صنع اليهود .. هم الذين يخططون لمثل هذه الأمور، يريدون أن يدمروا العالم ويدمروا ما فيه من قيم ومن مثل عليا حتى يسيطروا على الناس بأزمة الشهوات، إنهم عن طريق إثارتهم الشهوات يحاولون أن يتحكموا في رقاب الناس، هذه الفكرة فكرة صهيونية، ألا وهي التلاعب بعقول النساء وأفكارهن، حيث يبتدعون لهن في كل سنة بل في كل فصل من السنة " موضة " جديدة، كم يقصر الثوب فوق الركبة، وكم يطول تحت الركبة، وكم ينحسر عن الذراع، وعن الصدر، هذا كله عبث، ولا ينبغي للمرأة المسلمة المتدينة أن تلقي إلى هذا بالاً، وخاصة إذا خرجت إلى الشارع ويراها الناس.
والواجب على المرأة أن تحتشم وأن تلتزم ما أمر الله تعالى به، فهذا أمر نزل في القرآن الكريم: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن). (النور: 31).
(1/355)
فليس يحل للمرأة أن تبرز زينتها للأجانب إلا ما ظهر منها، وما ظهر منها - كما فسره ابن عباس وغيره - الوجه والكفان . هذا هو أرجح الأقوال وأيسرها وأليقها، بطبيعة عصرنا.
أما أن تخرج المرأة على الحالة التي نراها في بعض العواصم وبعض البلاد فهذا شيء لا يمكن أن يقره دين ولا يقره خلق ولا يمكن أن يقره منطق.
إن الله تعالى حدد للمرأة زيًا وحددت السنة لها ذلك أيضًا، وقد كتبت حول هذا الموضوع في كتابي " الحلال والحرام في الإسلام " وأنقل لكم هنا ما كتبته في ذلك
" مما يخرج المرأة عن حد التبرج أن تكون ملابسها موافقة لأدب الشرع الإسلامي، واللباس الشرعي هو الذي يجمع الأوصاف التالية:
أولا: أن يغطي جميع الجسم عدا ما استثناه القرآن الكريم في قوله: (إلا ما ظهر منها) وأرجح الأقوال في تفسير ذلك أنه الوجه والكفان - كما سبق ذكره
ثانيا: ألا يشف الثوب ويصف ما تحته . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أهل النار نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها (رواه مسلم من حديث أبي هريرة) ومعنى " كاسيات عاريات " أن ثيابهن لا تؤدي وظيفة الستر، فتصف ما تحتها لرقتها وشفافيتها . دخلت نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها وعليهن ثياب رقاق فقالت عائشة: " إن كنتن مؤمنات، فليس هذا بثياب المؤمنات " وأدخلت عليها عروس عليها خمار رقيق، شفاف فقالت: " لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا " (تفسير القرطبي) فكيف لو رأت عائشة ثياب هذا العصر التي كأنها مصنوعة من زجاج ؟
(1/356)
ثالثًا: ألا يحدد أجزاء الجسم ويبرز مفاتنه، وإن لم يكن رقيقًا شفافًا . فإن الثياب التي ترمينا بها حضارة الغرب، قد تكون غير شفافة، ولكنها تحدد أجزاء الجسم، ومفاتنه، فيصبح كل جزء من أجزاء الجسم محددًا بطريقة مثيرة للغرائز الدنيا، وهذا أيضًا شيء محظور وممنوع، وهو - كما قلت - صنع مصممي الأزياء اليهود العالميين الذي يحركون الناس كالدمى من وراء هذه الأمور كلها.
فلابسات هذا النوع من الثياب " كاسيات عاريات " يدخلن في الوعيد الذي جاء في هذا الحديث، وهذه الثياب أشد إغراء وفتنة من الثياب الرقيقة الشفافة.
رابعًا: ألا يكون لباسًا يختص به الرجال: فالمعروف أن للرجال ملابس خاصة وللنساء ملابس خاصة أيضًا، فإذا كان الرجل معتادًا أن يلبس لباسًا معينًا، بحيث يعرف أن هذا اللباس هو لباس رجل فليس للمرأة أن ترتدي مثل هذا اللباس، لأنه يحرم عليها ؛ حيث لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال . فلا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجل ولا للرجل أن يتشبه بالمرأة، لأن هذا عدوان على الفطرة . فالله عز وجل خلق الذكر والأنثى، والرجل والمرأة، وميَّز كلاً منهما بتركيب عضوي غير تركيب الآخر، وجعل لكل منهما وظيفة في الحياة، وليس هذا التمييز عبثًا، ولكن لحكمة، فلا يجوز أن نخالف هذه الحكمة ونعدو على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ونحاول أن نجعل من أحد الصنفين ما لم يخلق له وما لم يعد له بطبيعته وفطرته . فالرجل حين يتشبه بالمرأة لن يكون امرأة، ولكنه لن يصبح رجلاً ؛ لذلك فهو يفقد الرجولة، ولن يصل إلى الأنوثة، والمرأة التي تتشبه بالرجل، لن تكون رجلاً ولن تصبح امرأة كما ينبغي أن تكون النساء.
فالأولى أن يقف كل من الجنسين عند حده، وعند وظيفته التي فطره الله عليها.
(1/357)
هذا هو الواجب، ما عدا هذه الأمور، يكون هذا الزي زيًا غير شرعي وغير معترف به، ولو أن الناس عقلوا وأنصفوا والتزموا الحدود الشرعية لأراحوا واستراحوا ولكن النساء - مع الأسف - فُتِنَّ بهذا البدع الذي يُسمى " الموضة " وفُتِنَ الرجال أو ضعفوا أو أصبحوا لا رأي لهم، وبعد أن كان الرجال قوامين على النساء أصبح الحال وكأن النساء هن القوامات على الرجال . وذلك شر وفتنة من فتن العصر أن لا يستطيع الرجل أن يقول لزوجته: قفي عند حدك، بل لا يستطيع أن يقول ذلك لابنته . لا يستطيع أن يلزم ابنته الأدب والحشمة، ول أن يقول لها شيئًا من ذلك . ضعف الرجال لضعف الدين وضعف اليقين وضعف الإيمان.
والواجب أن يسترجل الرجل، أن يعود إلى رجولته، فإن لم يكن إيمان، فرجولة يا قوم .. لا بد من هذا، ولا بد أن نقاوم هذا الزحف، وهذا التيار.
ومن فضل الله أن هناك مسلمين ومسلمات، يقفون صامدين أمام هذا الغزو الزاحف، يلتزمون آداب الإسلام في اللباس والحشمة ويستمسكون بدينهم . . . وبتعاليمه القويمة . . . سائلين الله عز وجل أن يكثر هؤلاء ويزدادوا، ليكونوا قدوات صالحة في مجتمعاتهم، ورمزًا حيًا لآداب الإسلام وأخلاقه ومعاملاته . . . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
سرعة التأثر بالمناظر المثيرة
س: أنا طالب بالمرحلة الثانوية، أحب الدين، وأقبل على العبادة، ولكن تقف أمامي عقبة: هي سرعة انفعالي برؤية أي مناظر تؤثر في الشهوة الجنسية، ولا أكاد أملك نفسي من ذلك، وهذا يجعلني دائمًا في تعب ومشقة بسبب كثرة الاغتسال، وتطهير الثياب الداخلية، فهل عند سيادتكم حل سريع لهذه المشكلة حتى أظل محتفظًا بديني، محافظا على عبادتي ؟
(1/358)
جـ: أولا: نبارك في الشاب السائل هذا الاتجاه الديني الرشيد، ونطلب إليه الاستمساك به والحرص عليه، والبعد عن قرناء السوء، والحفاظ على دينه من موجات المادية والانحلال، التي أفسدت كثيرًا من شبابنا، ونبشره باندراجه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ما دام قد نشأ في طاعة الله تعالى.
ثانيًا: ننصح السائل أن يعرض نفسه على طبيب مختص، فربما كانت مشكلته مشكلة عضوية بحتة، وعند الأطباء العارفين أدوية لمثل هذه الأدواء، وقد قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقال رسوله عليه السلام: " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ".
ثالثًا: ننصح له كذلك أن يتجنب - بقدر استطاعته - المواطن التي من شأنها أن تثير شهوته، وتجلب عليه المتاعب، وواجب المؤمن ألا يضع نفسه مواضع الحرج، وأن يسد كل باب تهب منه رياح الفتنة على نفسه ودينه، ومن الحكم المأثورة: " ليس العاقل الذي يحتال للشر بعد أن وقع فيه، ولكن العاقل الذي يحتال للشر ألا يقع فيه ".
ومن شيمة الصالحين أن يتجنبوا الشبهات حتى لا يقعوا في الحرام، بل يجتنبوا بعض الحلال حتى لا يقعوا في الشبهات، وفي الحديث: " لا يبلغ عبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس "
رابعًا: ليس كل ما يخرج من الإنسان - بعد رؤية المناظر الجنسية المثيرة - " منيًا " يوجب الاغتسال، فقد يلتبس هذا بالمذي وهو سائل أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة أو الرؤية أو التخيل الجنسي، بلا شهوة ولا تدفق، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه، وهذا المذي حكمه حكم البول ينقض الوضوء، ولا يوجب الغسل، بل ورد عن الرسول عليه السلام الترخيص في رش ما يصيب الثوب بدلاً من غسله.
(1/359)
عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقي من المذي شدة وعناء، وكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما يجزيك من ذلك الوضوء " فقلت يا رسول الله، كيف بما يصيب ثوبي منه ؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفًا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه ".
رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حسن صحيح . ونضح الثوب بالماء رشه به، والرش لا شك أيسر من الغسل، وهو تخفيف وتيسير من الله لعباده في مثل هذه الحالة التي يشق فيها الغسل المتكرر، وصدق الله العظيم: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) . . والله أعلم.
ختان البنات
س: ما حكم الإسلام في ختان البنات ؟.
جـ: هذا الموضوع اختلف فيه العلماء والأطباء أنفسهم، وقامت معركة جدلية حوله في مصر منذ سنوات، من الأطباء من يؤيد، ومنهم من يعارض، ومن العلماء من يؤيد ومنهم من يعارض، ولعل أوسط الأقوال وأعدلها وأرجحها، وأقربها إلى الواقع، وإلى العدل في هذه الناحية، هو الختان الخفيف، كما جاء في بعض الأحاديث - وإن لم تبلغ درجة الصحة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة كانت تقوم بهذه المهمة، قال لها: " أشمي ولا تنهكي . فإنه أنضر للوجه، وأحظى عند الزوج " " والإشمام " هو التقليل، ولا تنهكي أي لا تستأصلي، فهذا يجعل المرأة أحظى عند زوجها، وأنضر لوجهها فلعل هذا يكون أوفق . والبلاد الإسلامية تختلف بعضها عن بعض في هذا الأمر، فمنها من يختن ومنها من لا يختن . وعلى كل حال، من رأى أن ذلك أحفظ لبناته فليفعل، وأنا أؤيد هذا، وخاصة في عصرنا الحاضر، ومن تركه فلا جناح عليه، لأنه ليس أكثر من مكرمة للنساء، كما قال العلماء، وكما جاء في بعض الآثار.
(1/360)
أما الختان للذكور فهو من شعائر الإسلام، حتى قرر العلماء أن الإمام لو رأى أهل بلد تركوه لوجب عليه أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى هذه السنة المميزة لأمة الإسلام . والحمد لله رب العالمين.
هل يجوز للخاطب الخلوة بمخطوبته ؟
س: تقدمت لخطبة فتاة من أهلها فقبلوا ووافقوا، وأقمنا لذلك حفلاً دعونا فيه الأقارب والأحباء، وأعلنا الخطبة، وقرأنا الفاتحة، وضربنا بالدفوف .. ألا يعتبر هذا الاتفاق، وذلك الإعلان زواجًا من الناحية الشرعية يبيح لي الخلوة بخطيبتي لا سيما أن ظروفي لا تسمح بعقد رسمي يوثقه المأذون ويسجل في دفاتر الحكومة ؟.
جـ: الخطبة لغة وعرفًا وشرعًا شيء غير الزواج، فهي مقدمة له، وتمهيد لحصوله
فكتب اللغة جميعًا تفرق بين كلمتي الخطبة والزواج.
والعرف يُميِّز جيدًا بين رجل خاطب، ورجل متزوج.
والشريعة فرَّقت بين الأمرين تفريقًا واضحًا، فالخطبة ليست أكثر من إعلان الرغبة في الزواج من امرأة معينة، أما الزواج فعقد وثيق، وميثاق غليظ، له حدوده وشروطه وحقوقه وآثاره.
وقد عبر القرآن عن الأمرين فقال في شأن النساء المتوفى عنهن أزواجهن: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرًا إلا أن تقولوا قولاً معروفًا، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله)
والخطبة مهما يقام حولها من مظاهر الإعلان فلا تزيد عن كونها تأكيدًا وتثبيتًا لشأنه . والخطبة على أية حال لا يترتب عليها أي حق للخاطب، إلا حجز المخطوبة بحيث يحظر على غير الخاطب أن يتقدم لخطبتها، وفي الحديث: " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ". (متفق عليه).
والمهم في هذا المقام أن المخطوبة أجنبية عن الخاطب حتى يتم زواجه بها، ولا تنتقل المرأة إلى دائرة الزوجية إلا بعقد شرعي صحيح، والركن الأساسي في العقد هو الإيجاب والقبول . وللإيجاب والقبول ألفاظ معهودة معلومة في العرف والشرع.
(1/361)
وما دام هذا العقد - بإيجابه وقبوله - لم يتحقق فالزواج لم يحدث أيضًا لا عرفًا ولا شرعًا ولا قانونًا، وتظل المخطوبة أجنبية عن خاطبها لا يحل له الخلوة بها، ولا السفر معها دون وجود أحد محارمها كأبيها أو أخيها
ومن المقرر المعروف شرعًا أن العاقد إذا ترك المعقود عليها دون أن يدخل بها يجب عليه نصف مهرها، قال تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح). (البقرة: 237).
أما الخاطب إذا ترك المخطوبة بعد فترة طالت أو قصرت فلا يجب عليه شيء إلا ما توجبه الأخلاق والتقاليد من لوم وتأنيب، فكيف يمكن - والحالة هذه - أن يباح للخاطب ما يباح للعاقد سواء بسواء ؟
إن نصيحتنا للسائل أن يعجل بالعقد على خطيبته، فبه وحده يباح له ما يسأل عنه وإذا لم تسمح ظروفه بذلك، فالأجدر بدينه ورجولته أن يضبط عواطفه، ويكبح جماح نفسه، ويلجمها بلجام التقوى، ولا خير في أمر يبدأ بتجاوز الحلال إلى الحرام.
كما ننصح الآباء والأولياء أن يكونوا على بصيرة من أمر بناتهم، فلا يفرطوا فيهن بسهولة باسم الخطبة، والدهر قلب، والقلوب تتغير، والتفريط في بادئ الأمر قد يكون وخيم العاقبة، والوقوف عند حدود الله أحق وأولى: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) (البقرة: 229) . (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون). (النور: 52).
غلاء المهر
س: أكتب إليكم مشكلتي ومشكلة كل شاب قطري، وهي أنني ذهبت لأخطب إحدى الفتيات فواجهت مشكلة غلاء المهر، حيث طلب والدها مبلغ عشرين ألف ريال مهرًا لابنته، سوى أثاث البيت، والآن، أنا أفكر في الزواج من خارج البلاد، فهل يبيح لي الشرع ذلك أم لا بد من دفع مبلغ المهر المذكور ؟ ؟ وإذا كنت لا أملك ذلك المبلغ فماذا أفعل ؟
أرجو الإجابة ؟
(1/362)
جـ: الواقع أن هذه مشكلة، وعقدة، عقدها الناس على أنفسهم، وشددوا فيما يسره الله تعالى عليهم، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الزوجات " أيسرهن مهرًا أكثرهن بركة " والنبي صلى الله عليه وسلم حينما زوج بناته زوجهن بأيسر المهور، لم يشترط لهن المئات ولا الآلاف، وإنما أخذ أيسر المهور، وكذلك السلف الصالحون، لم يكونوا يبحثون عن مال الرجل، وماذا يدفع، لأن البنت ليست سلعة تباع، إنما هي إنسان، فليبحث لها الأب أو الولي عن إنسان مثله، إنسان كريم، كريم الدين، كريم الخلق، كريم الطباع، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ". (رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم وحسنه الترمذي).
(1/363)
فالمهم .. والذي يجب أن يطلبه الأب هو الدين والخلق، قبل كل شيء فماذا يغني الفتاة أن تتزوج، ويدفع لها مهر كبير، إذا تزوجت من لا خلق له، ولا دين له ؟ من هؤلاء الذين تأتي الأسئلة الكثيرة عنهم، تسأل الزوجات: ما حكم زوج يتعاطى الخمر في نهار رمضان، ما حكم زوج سمت امرأته ابنها " يوسف " فأبى إلا أن يسميه " فرعون " ما حكم كذا ما حكم كذا . . . ؟ هذه جاءت من أن الأب، كل همه أن يقبض عدة آلاف، عشرة آلاف، عشرون ألفا، ثلاثين ألفا، كما يقول السائل، ولا يهمه الدين، والخلق، ولو فكرنا كما أراد لنا الدين، وكما شرع لنا الإسلام، لكان الدين والخلق هو أهم ما نبحث عنه، وأهم ما نسعى إليه، وأهم ما نحرص عليه، وما يجب أن يحرص عليه الآباء، ويحرص عليه أولياء البنات، ليس المهم كثرة الأموال التي يقبضها الآباء صداقًا ومهرًا عن بناتهم، إنما المهم الزوج، الذي يسعد البنت، الذي يتقي الله فيها . ولهذا قال السلف: " إذا زوجت ابنتك فزوجها ذا دين، إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها ؛ لأن دينه يمنعه، وخلقه يردعه، حتى في حالة الكراهية، (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن، فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا).
(1/364)
لقد أمر الإسلام بالمسارعة بتزويج البنات، وجاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا حضرت، والدين إذ حل، والأيم إذا حضر كفؤها " .. إذا حضر الكفء فلا ينبغي للأب أن يعوق من أجل أنه يريد أن يقبض شيئًا أكثر، كأنها سلعة يساوم عليها، هذا هو المفروض من الآباء المسلمين، ألا يعوقوا الزواج بهذه المهور، وبهذه المغالاة فيها، فإن هذا هو أكبر عقبة في سبيل الزواج، وكلما عقدنا في سبيل الزواج، وكلما أكثرنا من المعوقات والعقبات، كلما يسرنا بذلك سبل الحرام، كلما سهلنا انتشار الفساد، كلما أغوينا الشباب بأن يسيروا مع الشيطان، وأن يتركوا طريق العفة وطريق الإحصان، وطريق الحلال . ما حيلة الشاب الذي يذهب ليتزوج فيجد هذه الطلبات المعوقة أمامه ؟ ماذا يصنع ؟ إنه سيُعرض عن الزواج ويبحث عن بيئة أخرى، ويترتب على ذلك كساد البنات، وفساد الرجال، هذه هي النتيجة الحتمية للمغالاة في المهور، وكم جاءت من رسائل وكم سألني من سائلين، وكم شكا شباب لي ولغيري من هذا المعوق الذي وضعه الناس بأيديهم، وحفروه أمام بناتهم وأمام أنفسهم، لييسروا طريق الحرام ويعوقوا طريق الحلال.
يا جماعة المسلمين حرام علينا والله أن نعوق الزواج بهذه الصورة، وواجب علينا أن نيسر طريق الحلال، نيسر لشبابنا ولفتياتنا أن يقترنوا في الحلال، فهذا ما شرعه الإسلام، وهذا ما رضيه لأبنائه، أسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يبعدنا عن هذه العادات الجاهلية، التي لا تأتي بخير، ولا تقر بها إلا عين الشيطان.
الزواج من أخت الأخ لأخ
س: لي أخت من أمي، وأخ من أبي . فهل يجوز لأخي هذا أن يتزوج من أختي تلك ؟
جـ: نعم يجوز له أن يتزوجها . وقد رأينا هذا كثيرًا ما يحدث، لأنه إنما يتزوج أخت أخيه لا أخته هو . فأخت الأخ من النسب وأخت الأخ من الرضاع، تتساويان في الحكم بهذا الصدد.
وإذا أنجبت هذه الزوجة ولدًا قيل عنه: عمه خاله.
(1/365)
أي يصبح عمه هو خاله . عمه من جهة الأم وخاله من جهة الأب أو بالعكس.
فهذا الزواج مشروع وصحيح ولا حرج فيه، إذ ليس فيه أي سبب من أسباب التحريم شرعًا، لا من جهة النسب، ولا من جهة المصاهرة، ولا من جهة الرضاع . قال تعالى بعد أن ذكر المحرمات من النساء، (وأحل لكم ما وراء ذلك) . وبالله التوفيق.
بطلان زواج المسلمة من شيوعي
س: تقدم إلى خطبة ابنتي شاب عرفت من تاريخه أنه شيوعي، ولا زال مصرًا على شيوعيته، فهل يجوز لي شرعًا أن أزوجه ابنتي، نظرًا لأنه - من الناحية الرسمية - يدين بالإسلام وأسرته مسلمة، ويحمل اسمًا إسلاميًا، أم يجب علي أن أرفضه، لفساد عقيدته ؟ في هذا، ولكم الشكر. ع.ل
جـ: من الواجب علينا - قبل إجابتنا على هذا السؤال - أن نقدم نبذة موجزة عن موقف الشيوعية من الدين، لكي يكون المستفتي على بصيرة من الأمر.
الشيوعية مذهب مادي، لا يعترف إلا بكل ما هو مادي محس، ويجحد كل ما وراء المادة، فلا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالروح، ولا يؤمن بالوحي، ولا يؤمن بالآخرة، ولا يؤمن بأي نوع من أنواع الغيب، وبهذا ينكر الأديان جملة وتفصيلاً، ويعتبرها خرافة من بقايا الجهل والانحطاط والاستغلال، وفي هذا قال مؤسس الشيوعية كارل ماركس كلمته المعروفة: الدين أفيون الشعوب، وأنكر على الذين قالوا: إن الله خلق الكون والإنسان فقال متهكمًا: إن الله لم يخلق الإنسان، بل العكس هو الصواب، فإن الإنسان هو الذي خلق الله . أي اخترعه بوهمه وخياله.
وقال لينين: إن حزبنا الثوري لا يمكن أن يقف موقفًا سلبيًا من الدين، فالدين خرافة وجهل.
وقال ستالين: نحن ملحدون، ونحن نؤمن أن فكرة " الله " خرافة، ونحن نؤمن بأن الإيمان بالدين يعرقل تقدمنا، ونحن لا نريد أن نجعل الدين مسيطرًا علينا لأننا لا نريد أن نكون سكارى.
(1/366)
هذا هو رأي الشيوعية وزعمائها في الدين، ولهذا لم يكن غريبًا أن نرى دستور الحزب الشيوعي ودستور الشيوعية الدولية يفرضان على كل عضو في الحركة الشيوعية أن يكون ملحدًا، وأن يقوم بدعاية ضد الدين . ويطرد الحزب من عضويته كل فرد يمارس شعائر الدين، وكذلك تنهي الدولة الشيوعية خدمات كل موظف يتجه هذا الاتجاه.
ولو صح جدلاً أن شيوعيًا أخذ من الشيوعية جانبها الاجتماعي والاقتصادي فقط، دون أساسها الفكري العقائدي - كما خيل للبعض وهو غير واقع ولا معقول - لكان هذا كافيًا في المروق من الإسلام والارتداد عنه، لأن للإسلام تعاليم محكمة واضحة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية ينكرها النظام الشيوعي إنكارًا، كالملكية الفردية والميراث والزكاة، وعلاقة الرجل بالمرأة . . . إلخ . . وهذه الأحكام مما علم بالضرورة أنه من دين الإسلام، وإنكاره كفر بإجماع المسلمين.
هذا إلى أن الشيوعية مذهب مترابط، لا يمكن الفصل بين نظامه العملي وأساسه العقائدي والفلسفي بحال.
وإذا كان الإسلام لم يجز للمسلمة أن تتزوج بأحد من أهل الكتاب - نصراني أو يهودي - مع أن الكتابي مؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر في الجملة، فكيف يجيز أن تتزوج رجلاً لا يدين بألوهية ولا نبوة ولا قيامة ولا حساب ؟.
إن الشيوعي الذي عرفت شيوعيته يعتبر في حكم الإسلام مارقًا مرتدًا زنديقًا، فلا يجوز بحال أن يقبل أب مسلم زواجه من ابنته، ولا أن تقبل فتاة مسلمة زواجها منه وهي ترضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن إمامًا.
وإذا كان متزوجًا من مسلمة وجب أن يفرق بينه وبينها، وأن يحال بينه وبين أولاده، حتى لا يضلهم، ويفسد عليهم دينهم.
وإذا مات هذا مصرًا على مذهبه فليس بجائز أن يغسل، أو يصلى عليه، أو يدفن في مقابر المسلمين.
(1/367)
وبالجملة يجب أن تطبق عليه في الدنيا أحكام المرتدين والزنادقة في شريعة الإسلام، وما ينتظره من عقاب الله في الآخرة أشد وأخزى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
صبغ الأظافر بـ " المانوكير "
س: ما رأيكم فيما جرت به عادة بعض السيدات من صبغ أظافرهن بالمادة الملونة التي تسمى " المانوكير " أحلال ذلك أم حرام ؟.
جـ: لعل مما يختصر المسافة بيننا وبين السائل أو السائلة، ويضع أيدينا على المشكلة بلا لف ولا دوران أن نقول: إن هذا الذي يسمى " المانوكير " حائل دون وصول ماء الوضوء إلى البشرة، ولهذا لا يصح معه وضوء، وبالتالي لا تقام مع استمراره صلاة، والمرأة المسلمة التي تهرع إلى صلاتها كل يوم خمس مرات متطهرة متوضئة، لا يمكن أن تجد متسعًا لهذا اللون من الزينة، لأنه بطبيعته يتنافى مع إقامة هذه الفريضة اليومية المقدسة . فمن كانت لا تبالي بالصلاة وهي عماد الدين، وفصل ما بين المسلم والكافر، فلا عليها إذا تبرجت أو تزينت بما لا يحل من الأصباغ، فليس بعد الكفر ذنب كما قيل.
تغطية شعر المرأة
س: جرت مناقشة بيني وبين بعض الزملاء حول زي المرأة وزينتها فكان مما قالوه: إن شعر المرأة ليس بعورة . وكشفه ليس بحرام زاعمين أنه ليس هناك دليل على وجوب تغطية الشعر.
ولهذا أرجو بيان النصوص الدينية التي تحدد ذلك وتحسم النزاع وشكرًا . ف . ع.
جـ: إن من أعظم الفتن والمؤامرات الفكرية التي أدخلت على دنيا المسلمين تحويل المسائل اليقينية في الإسلام إلى مسائل جدلية، وجعل مواضع الإجماع القطعي موضع خلاف نظري وبذلك تنقلب المحكمات إلى متشابهات، ويسأل عنها السائلون ويختلف فيها المختلفون ويشكك فيها المشككون . ومن أمثلة ذلك هذا الحكم الذي يسأل عنه الأخ المستفتي.
(1/368)
فقد أجمع المسلمون في كل أعصارهم وأمصارهم فقهاء ومحدثين ومتصوفين، ظاهرية وأهل رأي وأهل أثر، بأن شعر المرأة من الزينة التي يجب سترها، ولا يجوز كشفها للأجانب من الرجال . وسند هذا الإجماع نص صريح محكم من كتاب الله تعالى . ففي سورة النور يقول الله عز وجل: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن) والاستدلال بالآية من وجهين:
الوجه الأول: أن الله نهى في الآية عن إبداء المرأة المؤمنة لزينتها إلا ما ظهر منها ولم يقل أحد من علماء السلف أو الخلف أن الشعر داخل في (ما ظهر منها) حتى الذين توسعوا في الاستثناء أكثر من غيرهم.
قال القرطبي في تفسير الآية:
أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذارًا من الافتتان، ثم استثنى ما يظهر من الزينة واختلف الناس في قدر ذلك . فقال ابن مسعود ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد ابن جبير الوجه، وقال سعيد بن جبير أيضًا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرط والفتخ، " الفتخ بفتحتين جمع الفتخة خواتيم كبار تلبس في الأيدي "، ونحو ذلك . فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس.
قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك . " فما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.
قال القرطبي:
(1/369)
قلت هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما . يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا.." وأشار إلى وجهه، وكفه، فهذا أقوى في جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها والله الموفق.
وبهذا يظهر أن " ما ظهر منها " لا يدخل فيه الشعر بحال من الأحوال، بل من العلماء من أخرج الوجه نفسه مما ظهر منها.
الوجه الثاني: إن الله أمر المؤمنات في الآية بضرب خمرهن على جيوبهن والجيوب مواضع فتحات الثياب وهي الصدور . والخمر - كما قال المفسرون - جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها - ومنه اختمرت المرأة، وتخمرت، هي حسنة الخمرة (انظر مثلا القرطبي جـ 12، ص230) وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: الخمار للمرأة كالعمامة للرجل . وهذا ما تنص عليه كتب اللغة أيضًا.
قال في القاموس، الخمار: النصيف . وفي مادة نصف . قال: النصيف، الخمار والعمامة وكل ما غطى الرأس . وقال في المصباح: الخمار ثوب تغطي به المرأة رأسها.
هذا وقد تطلق لفظة " الخمار " على كل غطاء كما في الحديث " خمروا الآنية " أي غطوها، ويبدو أن هذا المعنى هو الذي ضلل الذين جادلوا في شأن الشعر . مع أن هذا المعنى العام غير المعنى الخاص الذي جاءت به الآية . وإذا كان اللفظ يراد به أكثر من معنى، فإن القرائن وسياق الكلام هو الذي يحدد المعنى المراد منه.
وتفسير الخمار في الآية بغطاء الرأس لا جدال فيه، ومما يؤيد ذلك نزول الآية، وتعبد نساء المؤمنين بها مهاجرين وأنصارًا كما وردت بذلك أصح الروايات.
قال القرطبي:
(1/370)
وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رءوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر . فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله بلي الخمار على الجيوب . وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها . وروى البخاري عن عائشة أنها قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن أزرهن فاختمرن بها.
ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هناك، فشقته عليها وقالت: إنما يضرب بالكتيف الذي يستر . والله أعلم.
الزواج والحب
س: أنا فتاة في الخامسة عشرة من عمري، يريد أهلي تزويجي من ابن عمي، وأنا لا أحبه، ولكني أحب شابًا غيره، فماذا أفعل ؟ أرشدوني.
جـ: مسألة الحب والعواطف . يبدو أنها كثرت في هذه الأيام، نتيجة للتمثيليات والروايات والقصص والأفلام وغيرها .. فأصبح البنات متعلقات بمثل هذه الأمور، وأنا أخشى أن كثيرًا منهن يُخدع بهذه العواطف، ويُضحك عليها، وخاصة إذا كانت بمثل هذه السن، سن المراهقة والبلوغ، والقلب خال، والكلام المعسول إذا صادف قلبًا خاليًا تمكن فيه.
وهناك بعض الشبان يفعلون هذا مخادعين - مع الأسف - أو يتلذذون بهذا الأمر . ويتباهون في مجالسهم، بأن أحدهم استطاع أن يكلم اليوم الفتاة الفلانية، وغدًا يكلم أخرى وبعد غد سيكلم ثالثة . . . وهكذا.
فنصيحتي إلى الفتيات المسلمات ألا ينخدعن بهذا الكلام، وأن يستمعن إلى نصائح الآباء وأولياء الأمور والأمهات، وألا يدخلن على حياة زوجية بمجرد العاطفة، ولكن لا بد من وزن الأمور كلها بميزان العقل أولا، هذا من ناحية.
(1/371)
وأيضًا أقول لأولياء الأمور إن عليهم أن ينظروا في رغبات بناتهم، فلا ينبغي للأب أن يضرب برغبة ابنته عرض الحائط، ويجعلها كمًا مهملاً، ثم يزوجها بمن يريد هو لا بمن تريد هي فتدخل حياة زوجية وهي كارهة لها، مُرغمة عليها ؛ ذلك لأن الأب ليس هو الذي سيعاشر الزوج، وإنما هي التي ستعاشره، فلا بد أن تكون راضية . وهذا لا يقتضي ضرورة العلاقة العاطفية بين الشاب والفتاة قبل الزواج، إنما على الأقل، أن تكون مستريحة إليه راضية به.
ومن هنا، يأمر الإسلام بأن ينظر الخاطب إلى مخطوبته، ويراها وتراه، " فإن ذلك أحرى أن يؤدم بينكما " كما جاء في الحديث.
الشرع الإسلامي يريد أن تقوم الحياة الزوجية على التراضي من الأطراف المعنية في الموضوع كله . الفتاة تكون راضية، وعلى الأقل تكون لها الحرية في إبداء رغبتها ورأيها بصراحة، أو إذا استحيت تبديه بما يدل على رضاها، بأن تصمت مثلاً " البكر تستأذن وإذنها صماتها، والأيم أحق بنفسها " . أي التي تزوجت مرة قبل ذلك، لا بد أن تقول بصراحة: أنا راضية وموافقة . أما البكر فإذا استؤذنت، فقد تستحي، فتصمت، أو تبتسم، وهذا يكفي . ولكن إذا قالت: لا . أو بكت، فلا ينبغي أن تُكره . والنبي صلى الله عليه وسلم رد زواج امرأة زُوِّجت بغير رضاها . وجاء في بعض الأحاديث أن فتاة أراد أبوها أن يزوجها وهي كارهة . فاشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرادها أن تُرضي أباها مرة ومرتين وثلاثًا، فلما رأى إصرارها قال: افعلي ما شئت فقالت: أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم الآباء أنه ليس لهم من الأمر شيء.
فالذي أُنبِّه إليه في هذا الصدد بأنه لا بد للفتاة أن ترضى، ولولي أمرها أن يرضى، وهذا ما اشترطه كثير من الفقهاء، فقالوا بوجوب موافقة ولي الأمر حتى يتم النكاح . وجاء في الحديث " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " و" وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، باطل، باطل ".
(1/372)
وكذلك ينبغي رضا الأم . كما في الحديث " ’آمروا النساء في بناتهن " لأن الأم تعرف رغبة بنتها، وبهذا تدخل الفتاة حياتها الزوجية وهي راضية، وأبوها راض، وأمها راضية، وأهل زوجها راضون . فلا تكون بعد ذلك حياة منغصة ومكدرة.
فالأولى أن يتم الأمر على هذه الصورة، التي يريدها الشرع الإسلامي الشريف . والله الموفق.
تعاهد الفتاة ومن تحبه على الزواج
س: شخص أحبه، وتعاهدنا على الزواج أنا وهو بعهد الله، وبعد ذلك تقدم الشخص يطلب يدي من أهلي، ولكنهم لم يوافقوا لأنهم يريدون تزويجي من شخص آخر غير الذي تعاهدت معه، فهل يصح أن أتزوج أحدًا غيره بعد ذلك العهد ؟
إنني خائفة من مخالفة ذلك العهد، الذي قطعته على نفسي، أرجوكم إفادتي بالجواب.
جـ: إن الزواج كما شرعه الإسلام عقد يجب أن يتم بتراضي الأطراف المعنية كلها لابد أن ترضى الفتاة، ولا بد أن يرضى وليها، وينبغي أن تستشار أمها، كما وجه إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( أ ) أمر الإسلام أن يؤخذ رأي الفتاة وألا تجبر على الزواج بمن تكره ولو كانت بكرًا، فالبكر تستأذن وإذنها صمتها وسكوتها، ما دام ذلك دلالة على رضاها، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة أجبرت على التزوج بمن لا تحب، " وجاءت فتاة في ذلك فقالت يا رسول الله: إن أبي يريد أن يزوجني وأنا كارهة من فلان، فقال لها: أجيزي ما صنع أبوك . فقالت: إني كارهة . فقال: أجيزي ما صنع أبوك . وكرر عليها مرة ومرة . فلما صممت على الإباء قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك أن ترفضي . وأمر الأب أن يتركها وما تشاء حين ذاك قالت الفتاة: يا رسول الله، أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم الآباء أن ليس لهم من أمر بناتهم شيء ".
فلا بد أن تستشار الفتاة وأن ترضى وأن يعرف رأيها صراحة أو دلالة.
(1/373)
( ب ) ولا بد أن يرضى الولي وأن يأذن في الزواج، وقد روى في الحديث: " أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، باطل، باطل " وليست المرأة المسلمة الشريفة هي التي تزوج نفسها بدون إذن أهلها . فإن كثيرًا من الشبان، يختطفون الفتيات ويضحكون على عقولهن، فلو تركت الفتاة الغرة لنفسها ولطيبة قلبها ولعقلها الصغير لأمكن أن تقع في شراك هؤلاء وأن يخدعها الخادعون من ذئاب الأعراض ولصوص الفتيات، لهذا حماها الشرع وجعل لأبيها أو لوليها أيًا كان حقًا في تزويجها ورأيًا في ذلك واعتبر إذنه واعتبر رضاه كما هو مذهب جمهور الأئمة.
(جـ) ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم زاد على ذلك فخاطب الآباء والأولياء فقال: " آمروا النساء في بناتهن " كما رواه الإمام أحمد ومعنى " آمروا النساء في بناتهن " أي خذوا رأي الأمهات، لأن المرأة كأنثى تعرف من شئون النساء وتهتم منها بما لا يهتم الرجال عادة . ثم إنها كأم تعرف من أمور ابنتها ومن خصالها ومن رغباتها ما لا يعرفه الأب، فلا بد أن يعرف رأي الأم أيضًا.
فإذا اتفقت هذه الأطراف كلها من الأب ومن الأم ومن الفتاة ومن الزوج بالطبع، فلابد أن يكون الزواج موفقًا سعيدًا، محققًا لأركان الزوجية التي أرادها القرآن من السكن ومن المودة ومن الرحمة وهي آية من آيات الله (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
(1/374)
وهنا نقول للسائلة: ما دامت قد تصرفت بنفسها من وراء أهلها ومن وراء أوليائها، فإن تصرفها باطل، ولا تخاف مما عقدته من عهد مع هذا الفتى من وراء الأهل ومن وراء الأولياء، فعهدها هذا لا قيمة له إذا لم يقره أولياؤها ولم يقره أهلها، فلا تخشى الفتاة من هذا العهد . ووصيتنا للأولياء أن يراعوا بصفة عامة رغبات الفتيات، ما دامت معقولة، فهذا هو الطريق السليم وهو الطريق الذي جاء به الشرع، وما جاء الشرع إلا لمصلحة العباد في المعاش والمعاد، والله أعلم.
رؤية الخاطب للمخطوبة
س: هل يجوز للفتى أن يرى الفتاة قبل الخطبة ؟.
جـ: هذا سؤال مهم أيضًا . والناس في ذلك جد متناقضين . ففريق من الناس لا يبيح للفتى مجرد رؤية الفتاة المخطوبة فحسب، بل يبيح له أن يتأبط ذراعها، وأن يذهب بها إلى هنا أو هناك، وأن يدخل بها الأحفال والسينيمات، ليعرفها ويختبر أخلاقها ... إلى آخر ما يقال في هذا المجال: وبعد ذلك تكون مآس وتكون فضائح فقد يترك الفتى الفتاة بعد أن دخل عليها وخرج بها أمام الناس . دخل بيتها وخرج معها وسافر معها وتنزه معها، هنالك يصبح عرض الفتاة مضغة للأفواه . هذا صنف من الناس، من عبيد الحضارة الغربية.
وفي مقابل هؤلاء صنف آخر: أولئك الذين يحرمون الخاطب أن يرى الفتاة مجرد رؤية عابرة، يمنعون الفتاة من خاطبها حتى يدخل وحتى يبني بها ويتزوج . وهؤلاء هم عبيد تقاليد عتيقة أيضًا، كما أن أولئك عبيد تقاليد محدثة مبتدعة وكلا الطرفين مذموم.
والأفضل من ذلك بل الطريق الصحيح بين هؤلاء وهؤلاء، هو ما جاء به الشرع وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى الخاطب مخطوبته، فقد جاءه أحد المسلمين يقول: إني خطبت امرأة من الأنصار فقال: أنظرت إليها ؟ قال: لا . قال: فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا.
(1/375)
وجاء المغيرة بن شعبة يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أو يخبره بأنه خطب امرأة فقال: أنظرت إليها ؟ قال: لا . قال انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما . أي يحصل بينكما الإدام والائتلاف والوفاق . فالعين بريد القلب ورسول العاطفة . لابد أن تحدث رؤية قبل الزواج، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر في أصله وفي ظاهره للوجوب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: إذا خطب أحدكم المرأة وأراد أن يتزوجها فلينظر بعض ما يدعوه إلى زواجها، فمن هنا كان للخاطب بل ينبغي له أن يرى مخطوبته وينبغي لأهل الفتاة أن ييسروا له ذلك، حتى يراها وحتى تراه هي أيضًا، فمن حقها أن ترفض ومن حقها أن تأبى . لابد أن يرى أحدهما الآخر قبل الزواج، حتى تبنى الحياة الزوجية على أسس وطيدة وعلى أركان سليمة متينة، لابد من هذا وذاك، ليس علم الفتاة ولا علم أهلها شرطًا في ذلك، إذا كان الخاطب يريد مخطوبته، فيستطيع أن يراها دون أن يعلمها حتى لا يجرح شعورها وحتى لا يؤذي إحساسها، فبعض الناس يستهترون بذلك حتى سمعت من بعضهم أنه رأى أكثر من عشرين فتاة ولم تعجبه واحدة منهن حتى تزوج، معنى ذلك أنه جرح إحساس أكثر من عشرين فتاة من فتيات المسلمين، فالأولى أن يراها وهي خارجة أو في بيت قريب لها دون أن تعلم من هذا ولا ما هذا . ولقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال في امرأته بعد أن تزوجها: " لقد كنت أتخبأ لها تحت شجرة حتى رأيت منها ما دعاني إلى زواجها " كان يتخبأ لها تحت شجرة دون أن تعلم ودون أن ترى.
(1/376)
ويستطيع الأب أن يساعد في ذلك حفاظًا على شعور ابنته . هذا هو الطريق السليم بين المفرطين والمفرطين وشرع الإسلام دائمًا هو الوسط، وأمة الإسلام أمة وسط، (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس) وأمر الأسرة المسلمة بصفة عامة، أمر المرأة المسلمة ضائع بين المفرطين والمفرطين، بين المتشددين المتزمتين الذين يحرصون على تقاليد عتيقة يظنونها من الإسلام وليست من الإسلام، وبين العصريين المتحررين المتجددين الذي تعبدوا للغرب ولحضارة الغرب وظنوا أنفسهم تقدميين وما هم بالتقدميين وإنما هم عبيد وأسارى لغيرهم . أما الطريق الوسط والطريق السديد فهو طريق الإسلام، وطريق الشريعة الإسلامية وهي بين هؤلاء وهؤلاء.
نسأل الله أن يوفق المسلمين لاختيار الطريق القويم.
زواج المسلم بغير المسلمة
س: هذا موضوع أرجو أن يتسع وقتكم لتحريره وتحقيقه، وهو موضوع الزواج من غير المسلمات . وأعني بالذات " الكتابيات " مسيحيات أو يهوديات - ممن نعتبرهم نحن المسلمين " أهل كتاب " ولهم حكم خاص يميزهم عن غيرهم من الوثنيين وأمثالهم.
وقد رأيت ورأى الكثيرون غيري مفاسد جمة من وراء هذا النوع من الزواج، وخصوصًا على الأولاد من هذه الزوجة، التي كثيرًا ما تصبغ البيت كله بصبغتها، وتربي الأبناء والبنات على طريقتها، والزوج لا يقدم ولا يؤخر، فهو في الأسرة مثل " شرابة الخرج " كما يقول العامة.
وقد سألت بعض العلماء في ذلك فقال: إن القرآن أباح الزواج من نساء أهل الكتاب وليس لنا أن نحرم ما أحل الله تعالى.
ولما كان اعتقادي أن الإسلام لا يبيح ما فيه ضرر أو مفسدة كتبت إليكم مستوضحًا رأيكم في هذه القضية ؛ لما علمته من نظرتكم الشاملة إلى مثل هذه القضايا، ومعالجتها في ضوء النصوص الأصلية للشريعة، وفي ضوء مقاصدها ومبادئها العامة وأصولها الكلية.
(1/377)
أرجو ألا تهملوا الرد على هذه الرسالة بالرغم مما أعلم من مشاغلكم والله معكم ويسددكم. م.ش.
جـ: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد.
فقد قدر لي أن أزور عددًا من أقطار أوروبا وأمريكا الشمالية، وأن ألتقي بعدد من أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يُعلمون هناك، ويقيمون بتلك الديار إقامة مؤقتة أو مستقرة.
وكان مما سأل عنه الكثيرون: حكم الشرع في زواج الرجل المسلم من غير المسلمة وبخاصة المسيحية أو اليهودية، التي يعترف الإسلام بأصل دينها، ويسمي المؤمنين به " أهل الكتاب " ويجعل لهم من الحقوق والحرمات ما ليس لغيرهم.
ولبيان الحكم الشرعي في هذه القضية، يلزمنا أن نبين أصناف غير المسلمات وموقف الشريعة من كل منها . فهناك المشركة، وهناك الملحدة، وهناك المرتدة، وهناك الكتابية.
تحريم الزواج من المشركة:
فأما المشركة - والمراد بها: الوثنية - فالزواج منها حرام بنص القرآن الكريم . قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) وقال تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) وسياق الآية والسورة كلها - سورة الممتحنة - وسبب نزولها يدل على أن المراد بالكوافر: المشركات: أعني الوثنيات.
والحكمة في هذا التحريم ظاهرة، وهي عدم إمكان التلاقي بين الإسلام والوثنية، فعقيدة التوحيد الخالص، تناقض عقيدة الشرك المحض، ثم إن الوثنية ليس لها كتاب سماوي معتبر، ولا نبي معترف به، فهي والإسلام على طرفي نقيض . ولهذا علل القرآن النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين بقوله: (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) ولا تلاقي بين من يدعو إلى النار ومن يدعو إلى الجنة.
أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله كيف يلتقيان ؟ !
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان
(1/378)
وهذا الحكم - منع الزواج من المشركات الوثنيات - ثابت بالنص، وبالإجماع أيضًا، فقد اتفق علماء الأمة على هذا التحريم، كما ذكر ابن رشد في بداية المجتهد وغيره.
بطلان الزواج من الملحدة:
وأعني بالملحدة: التي لا تؤمن بدين، ولا تقر بألوهية ولا نبوة ولا كتاب ولا آخرة، فهي أولى من المشركة بالتحريم، لأن المشركة تؤمن بوجود الله، وإن أشركت معه أندادًا أو آلهة أخرى أتخذتهم شفعاء يقربونها إلى الله زلفى فيما زعموا.
وقد حكى القرآن عن المشركين هذا في آيات كثيرة مثل: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن: الله)، (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
فإذا كانت هذه الوثنية المعترفة بالله في الجملة قد حرم نكاحها تحريما باتًا، فكيف بإنسانة مادية جاحدة، تنكر كل ما وراء المادة المتحيزة، وما بعد الطبيعة المحسوسة، ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا الكتاب ولا النبيين ؟.
إن الزواج من هذه حرام بل باطل يقينًا.
وأبرز مثل لها: الشيوعية التي تؤمن بالفلسفة المادية، وتزعم أن الدين أفيون الشعوب، وتفسر ظهور الأديان تفسيرًا ماديًا، على أنها إفراز المجتمع، ومن آثار ما يسوده من أحوال الاقتصاد وعلاقات الإنتاج.
وإنما قلت: الشيوعية المصرة على شيوعيتها، لأن بعض المسلمين والمسلمات قد يعتنق هذا المذهب المادي، دون أن يسبر غوره، ويعرفه على حقيقته، وقد يخدع به حين يعرضه بعض دعاته على أنه إصلاح اقتصادي لا علاقة له بالعقائد والأديان . . . إلخ . فمثل هؤلاء يجب أن يزال عنهم اللبس، وتزاح الشبه، وتقام الحجج، ويوضح الطريق حتى يتبين الفرق بين الإيمان والكفر، والظلمات والنور، فمن أصر بعد ذلك على شيوعيته فهذا كافر مارق ولا كرامة، ويجب أن تجري عليه أحكام الكفار في الحياة وبعد الممات.
المرتدة:
(1/379)
ومثل الملحدة: المرتدة عن الإسلام والعياذ بالله ونعني بالمرتدة والمرتد كل من كفر بعد إيمانه كفرًا مُخرجًا من الملة، سواء دخل في دين آخر أم لم يدخل في دين قط.
وسواء كان الدين الذي انتقل إليه كتابيًا أم غير كتابي . فيدخل في معنى المرتدين ترك الإسلام إلى الشيوعية، أو الوجودية، أو المسيحية، أو اليهودية، أو البوذية، أو البهائية، أو غيرها من الأديان والفلسفات، أو خرج من الإسلام ولم يدخل في شيء، بل ظل سائبًا بلا دين ولا مذهب.
والإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه، حتى إنه لا يعتبر إيمان المُكْرَه ولا يقبله، ولكن من دخل فيه بإرادته الحرة لم يجز له الخروج عنه.
وللردة أحكام بعضها يتعلق بالآخرة وبعضها بالدنيا.
فمما يتعلق بالآخرة: أن من مات على الردة فقد حبط كل ما قدمه من عمل صالح واستحق الخلود في النار، قال تعالى: (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
ومن أحكام الدنيا: أن المرتد لا يستحق معونة المجتمع الإسلامي ونصرته بوجه من الوجوه، ولا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم ومرتدة، أو بين مرتد ومسلمة، لا ابتداء ولا بقاء، فمن تزوج مرتدة فنكاحه باطل، وإذا ارتدت بعد الزواج فرق بينهما حتما، وهذا حكم متفق عليه بين الفقهاء، سواء من قال منهم بقتل المرتد رجلاً كان أو امرأة وهم الجمهور، أم من جعل عقوبة المرأة المرتدة الحبس لا القتل، وهم الحنفية.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الحكم بالردة والكفر على مسلم هو غاية العقوبة . لهذا وجب التحري والاحتياط فيه، ما وجد إليه سبيل، حملاً لحال المسلم على الصلاح . وتحسينًا للظن به، والأصل هو الإسلام، فلا يخرج منه إلا بأمر قطعي، واليقين لا يزال بالشك.
بطلان الزواج من البهائية:
(1/380)
والزواج من امرأة بهائية باطل، وذلك لأن البهائية إما مسلمة في الأصل، تركت دين الله الحنيف إلى هذا الدين المصطنع، فهي في هذه الحال مرتدة بيقين، وقد عرفنا حكم الزواج من المرتدة.
وسواء ارتدت بنفسها أم ارتدت تبعًا لأسرتها، أو ورثت هذه الردة عن أبيها أو جدها، فإن حكم الردة لا تفارقها.
وإما أن تكون غير مسلمة الأصل، بأن كانت مسيحية أو يهودية أو وثنية أو غيرها، فحكمها حكم المشركة، إذ لا يعترف الإسلام بأصل دينها، وسماوية كتابها، إذ من المعلوم بالضرورة أن كل نبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم مرفوضة، وكل كتاب بعد القرآن باطل، وكل من زعم أنه صاحب دين جديد بعد الإسلام فهو دجال مفتر على الله تعالى . فقد ختم الله النبوة، وأكمل الدين، وأتم النعمة: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين).
وإذا كان زواج المسلم من بهائية باطلاً بلا شك، فإن زواج المسلمة من رجل بهائي باطل من باب أولى، إذ لم تجز الشريعة للمسلمة أن تتزوج الكتابي، فكيف بمن لا كتاب له ؟.
ولهذا لا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم وبهائية أو بين مسلمة وبهائي، لا ابتداء ولا بقاء . وهو زواج باطل، ويجب التفريق بينهما حتمًا.
وهذا ما جرت عليه المحاكم الشرعية في مصر في أكثر من واقعة.
وللأستاذ المستشار علي علي منصور حكم في قضية من هذا النوع قضى فيه بالتفريق، بناء على حيثيات شرعية فقهية موثقة، وقد نشر في رسالة مستقلة، فجزاه الله خيرًا.
رأي جمهور المسلمين إباحة الزواج من الكتابية:
الأصل في الزواج من نساء أهل الكتاب عند جمهور المسلمين هو الإباحة.
(1/381)
فقد أحل الله لأهل الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم في آية واحدة من سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم . قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان).
رأى ابن عمر وبعض المجتهدين:
وخالف في ذلك من الصحابة عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما-، فلم ير الزواج من الكتابية مباحًا، فقد روى عنه البخاري: أنه كان إذا سُئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين، (يعني قوله تعالى: :. لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن") ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول: " ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله ! ".
ومن العلماء من يحمل قول ابن عمر على كراهية الزواج من الكتابية لا التحريم ولكن العبارات المروية عنه تدل على ما هو أكثر من الكراهية.
وقد أخذ جماعة من الشيعة الإمامية بما ذهب إليه ابن عمر استدلالاً بعموم قوله تعالى في سورة البقرة: (ولا تنكحوا المشركات) وبقوله في سورة الممتحنة: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر).
ترجيح رأي الجمهور:
والحق أن رأي الجمهور هو الصحيح، لوضوح آية المائدة في الدلالة على الزواج من الكتابيات . وهي من آخر ما نزل كما جاء في الحديث.
وأما قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات) وقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فإما أن يقال: هذا عام خصصته سورة المائدة، أو يقال: إن كلمة " المشركات " لا تتناول أهل الكتاب أصلاً في لغة القرآن، ولهذا يعطف أحدهما على الآخر كما في سورة البقرة: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين . .)، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . . . .).
(1/382)
وفي سورة الحج يقول تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة...) فجعل الذين أشركوا صنفًا متميزًا عن باقي الأصناف، ويعني بهم الوثنيين . والمراد بـ " الكوافر " في آية الممتحنة: المشركات، كما يدل على ذلك سياق السورة.
قيود يجب مراعاتها عند الزواج من الكتابية:
وإذن يكون الراجح ما بيناه من أن الأصل هو إباحة زواج المسلم من الكتابية، ترغيبًا لها في الإسلام، وتقريبًا بين المسلمين وأهل الكتاب، وتوسيعًا لدائرة التسامح والألفة وحسن العشرة بين الفريقين.
ولكن هذا الأصل معتبر بعدة قيود، يجب ألا نغفلها:
القيد الأول:
الاستيثاق من كونها " كتابية " بمعنى أنها تؤمن بدين سماوي الأصل كاليهودية والنصرانية، فهي مؤمنة - في الجملة - بالله ورسالاته والدار الآخرة . وليست ملحدة أو مرتدة عن دينها، ولا مؤمنة بدين ليس له نسب معروف إلى السماء.
ومن المعلوم في الغرب الآن أنه ليست كل فتاة تولد من أبوين مسيحيين مثلاً مسيحية . ولا كل من نشأت في بيئة مسيحية تكون مسيحية بالضرورة . فقد تكون شيوعية مادية، وقد تكون على نحلة مرفوضة أساسًا في نظر الإسلام كالبهائية ونحوها.
القيد الثاني:
أن تكون عفيفة محصنة فإن الله لم يبح كل كتابية، بل قيد في آياته الإباحة نفسها بالإحصان، حيث قال: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) قال ابن كثير: والظاهر أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنى، كما في الآية الأخرى: (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) . وهذا ما أختاره . فلا يجوز للمسلم بحال أن يتزوج من فتاة تسلم زمامها لأي رجل، بل يجب أن تكون مستقيمة نظيفة بعيدة عن الشبهات.
(1/383)
وهذا ما اختاره ابن كثير، وذكر أنه رأى الجمهور، وقال " وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: حشفًا وسوء كيله ! ". (تفسير ابن كثير، جـ 2، والله أعلم . 20 ط. الحلبي).
وقد جاء عن الإمام الحسن البصري أن رجلاً سأله: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب ؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب ؛ وقد أكثر الله المسلمات ؟ ! فإن كان ولابد فاعلاً . فليعمد إليها حصانًا (أي محصنة) غير مسافحة . قال الرجل: وما المسافحة ! ؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.
ولا ريب أن هذا الصنف من النساء في المجتمعات الغربية في عصرنا يعتبر شيئًا نادرًا بل شاذًا، كما تدل عليه كتابات الغربيين وتقاريرهم وإحصاءاتهم أنفسهم، وما نسميه نحن البكارة والعفة والإحصان والشرف ونحو ذلك، ليس له أية قيمة اجتماعية عندهم، والفتاة التي لا صديق لها تُعيَّر من أترابها، بل من أهلها وأقرب الناس إليها.
القيد الثالث:
ألا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم . ولهذا فرق جماعة من الفقهاء بين الذمية والحربية . فأباحوا الزواج من الأولى، ومنعوا الثانية . وقد جاء هذا عن ابن عباس فقال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا . ثم قرأ: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية . . . .) فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
وقد ذكر هذا القول لإبراهيم النخعي - أحد فقهاء الكوفة وأئمتها - فأعجبه (تفسير الطبري، جـ9، ص. 788 بتحقيق شاكر). وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال: لا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد . وعن علي رضي الله عنه بنحوه.
وعن ابن جريج قال: بلغني ألا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد.
(1/384)
وفي مجموع الإمام زيد عن علي: أنه كره نكاح أهل الحرب . قال الشارح في " الروض النضير ": والمراد بالكراهة: التحريم ؛ لأنهم ليسوا من أهل ذمة المسلمين . قال: وقال قوم بكراهته ولم يحرموه، لعموم قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) فغلبوا الكتاب على الدار (الروض النضير، جـ 4، ص. 270 - 274). يعني: دار الإسلام . والذي من أهل دار الإسلام بخلاف غيره من أهل الكتاب.
ولا ريب أن لرأي ابن عباس وجاهته ورجحانه لمن يتأمل، فقد جعل الله المصاهرة من أقوى الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم، ولهذا قال سبحانه: (وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا) (سورة الفرقان). فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قوم يحادونهم ويحاربونهم وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم ؟ فضلاً عن أن تكون زوجه وربة داره وأم أولاد منهم ؟ وكيف يؤمن أن تطلع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها ؟.
ولا غرو أن رأينا العلامة أبا بكر الرازي الحنفي يميل إلى تأييد رأي ابن عباس، محتجًا له بقوله تعالى: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) والزواج يوجب المودة، يقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة) (سورة الروم).
قال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورًا ؛ لأن قوله تعالى: (يوادون من حاد الله ورسوله) إنما يقع على أهل الحرب، لأنهم في حد غير حدنا. (أحكام القرآن، جـ 2، ص. 397، 398).
يؤيد ذلك قوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). (سورة الممتحنة: 9).
وهل هناك تول لهؤلاء أكثر من أن يزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءا من أسرته بل العمود الفقري في الأسرة ؟
(1/385)
وبناء على هذا لا يجوز لمسلم في عصرنا أن يتزوج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني، لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود . . . وكل امرأة يهودية إنما هي جندية - بروحها - في جيش إسرائيل.
القيد الرابع:
ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر محقق أو مرجح، فإن استعمال المباحات كلها مقيد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضررًا عامًا، منعت منعًا عامًا، أو ضررًا خاصًا منعت منعًا خاصًا، وكلما عظم الضرر تأكد المنع والتحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار ".
وهذا الحديث يمثل قاعدة شرعية قطعية من قواعد الشرع، لأنه - وإن كان بلفظه حديث آحاد - مأخوذ من حيث المعنى من نصوص وأحكام جزئية جمة من القرآن والسنة، تفيد اليقين والقطع.
ومن هنا كانت سلطة ولي الأمر الشرعي في تقييد بعض المباحات إذا خشي من إطلاق استخدامها أو تناولها ضررًا معينًا.
والضرر المخوف بزواج غير المسلمة يتحقق في صور كثيرة منها:
1 - أن ينتشر الزواج من غير المسلمات، بحيث يؤثر على الفتيات المسلمات الصالحات للزواج، وذلك أن عدد النساء غالبًا ما يكون مثل عدد الرجال أو أكثر، وعدد الصالحات للزواج منهن أكبر قطعًا من عدد القادرين على أعباء الزواج من الرجال.
فإذا أصبح التزوج بغير المسلمات ظاهرة اجتماعية مألوفة، فإن مثل عددهن من بنات المسلمين سيحرمن من الزواج، ولا سيما أن تعدد الزوجات في عصرنا أصبح أمرًا نادرًا، بل شاذًا، ومن المقرر المعلوم بالضرورة أن المسلمة لا يحل لها أن تتزوج إلا مسلمًا، فلا حل لهذه المعادلة إلا سد باب الزواج من غير المسلمات إذا خيف على المسلمات.
(1/386)
وإذا كان المسلمون في بلد ما، يمثلون أقلية محدودة، مثل بعض الجاليات في أوروبا وأمريكا، وبعض الأقليات في آسيا وأفريقية، فمنطق الشريعة وروحها يقتضي تحريم زواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، وإلا كانت النتيجة ألا يجد بنات المسلمين - أو عدد كبير منهن - رجلاً مسلما يتقدم للزواج منهن، وحينئذ تتعرض المرأة المسلمة لأحد أمور ثلاث:
( أ ) إما الزواج من غير مسلم، وهذا باطل في الإسلام.
( ب ) وإما الانحراف، والسير في طريق الرذيلة . وهذا من كبائر الإثم.
(جـ) وإما عيشة الحرمان الدائم من حياة الزوجية والأمومة.
وكل هذا مما لا يرضاه الإسلام . وهو نتيجة حتمية لزواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، مع منع المسلمة من التزوج بغير المسلم.
هذا الضرر الذي نبهنا عليه هو الذي خافه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - فيما رواه الإمام محمد بن الحسن - في كتابه " الآثار، حين بلغه أن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان تزوج - وهو بالمدائن - امرأة يهودية، فكتب إليه عمر مرة أخرى: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين ". (انظر كتابنا: شريعة الإسلام: خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، ص39، ط. أولى).
(1/387)
2 - وقد ذكر الإمام سعيد بن منصور في سننه قصة زواج حذيفة هذه، ولكنه ذكر تعليلاً آخر لمنع عمر لحذيفة . فبعد أن نفى حرمة هذا الزواج قال: " ولكني خشيت أن تعاطوا المومسات منهن ". (المصدر السابق ص40، وكذلك ذكره الطبري، جـ 4، ص366، 367، ط. المعارف: وتكلم عنه ابن كثير، جـ 1، ص257 وصحح إسناده . وهناك علة ثالثة ذكرها عبد الرزاق في " المصنف " عن سعيد بن المسيب عن عمر: أنه عزم عليه أن يفارقها، خشية أن يقيس الناس المجوسية على الكتابية ويتزوجوا المجوس اقتداء بحذيفة، جاهلين الرخصة التي كانت من الله في الكتابيات خاصة . وانظر المصنف، جـ 7، ص178).
ولا مانع أن يكون كل من العلتين مقصودًا لعمر رضي الله عنه.
فهو يخشى - من ناحية - كساد سوق الفتيات المسلمات، أو كثير منهن . وفي ذلك فتنة أي فتنة.
ومن ناحية أخرى يخشى أن يتساهل بعض الناس في شرط الإحصان - العفاف - الذي قيد به القرآن حل الزواج منهن، حتى يتعاطوا زواج الفاجرات والمومسات، وكلتاهما مفسدة ينبغي أن تمنع قبل وقوعها، عملاً بسد الذرائع . ولعل هذا نفسه ما جعل عمر يعزم على طلحة بن عبيد الله إلا طلق امرأة كتابية تزوجها، وكانت بنت عظيم يهود، كما في مصنف عبد الرزاق. (المصنف، جـ 7 ص177 - 178).
(1/388)
3 - إن الزواج من غير المسلمة إذا كانت أجنبية غريبة عن الوطن واللغة والثقافة والتقاليد - مثل زواج العربي والشرقي من الأوروبيات والأمريكيات النصرانيات - يمثل خطرًا آخر يحس به كل من يدرس هذه الظاهرة بعمق وإنصاف، بل يراه مجسدًا ماثلاً للعيان . فكثيرًا ما يذهب بعض أبناء العرب المسلمين إلى أوروبا وأمريكا للدراسة في جامعاتها، أو للتدريب في مصانعها، أو للعمل في مؤسساتها، وقد يمتد به الزمن هناك إلى سنوات ثم يعود أحدهم يصحب زوجة أجنبية، دينها غير دينه، ولغتها غير لغته، وجنسها غير جنسه، وتقاليدها غير تقاليده، ومفاهيمها غير مفاهيمه، أو على الأقل غير تقاليد قومه ومفاهيمهم، فإذا رضيت أن تعيش في وطنه - وكثيرًا ما لا ترضى - وقدر لأحد من أبويه أو إخوانه أو أقاربه، أن يزوره في بيته، وجد نفسه غريبًا . فالبيت بمادياته ومعنوياته أمريكي الطابع أو أوربيه في كل شيء، وهو بيت " المدام " وليس بيت صاحبنا العربي المسلم، هي القوامة عليه، وليس هو القوام عليها . ويعود أهل الرجل إلى قريتهم أو مدينتهم بالأسى والمرارة، وقد أحسوا بأنهم فقدوا ابنهم وهو على قيد الحياة !!
وتشتد المصيبة حين يولد لهما أطفال، فهم يشبون - غالبًا - على ما تريد الأم، لا على ما يريد الأب إن كانت له إرادة، فهم أدنى إليها، ألصق بها، وأعمق تأثرًا بها، وخصوصًا إذا ولدوا في أرضها وبين قومها هي، وهنا ينشأ هؤلاء الأولاد على دين الأم وعلى احترام قيمها ومفاهيمها وتقاليدها . وحتى لو بقوا على دين الأب، فإنما يبقون عليه اسمًا وصورة، لا حقيقة وفعلاً . ومعنى هذا أننا نخسر هؤلاء الناشئة دينيًا وقوميًا إن لم نخسر آباءهم أيضًا.
(1/389)
وهذا الصنف أهون شرًا من صنف آخر يتزوج الأجنبية، ثم يستقر ويبقى معها في وطنها وبين قومها، بحيث يندمج فيهم شيئًا، ولا يكاد يذكر دينه وأهله ووطنه وأمته . أما أولاده فهم ينشأون أوروبيين أو أمريكيين، إن لم يكن في الوجوه والأسماء، ففي الفكر والخلق والسلوك، وربما في الاعتقاد أيضًا، وربما فقدوا الوجه والاسم كذلك، فلم يبق لهم شيء يذكرهم بأنهم انحدروا من أصول عربية أو إسلامية.
ومن أجل هذه المفسدة، نرى كثيرًا من الدول تحرم على سفرائها، وكذلك ضباط جيشها، أن يتزوجوا أجنبيات، بناء على مصالح واعتبارات وطنية وقومية.
تنبيه مهم:
وفي ختام هذا البحث، أرى لزامًا علي - في ضوء الظروف والملابسات التي تتغير الفتوى بتغيرها - أن أنبه على أمر لا يغيب عن ذوي البصائر، وهو في نظري على غاية من الأهمية، وهو:
إن الإسلام حين رخص في الزواج من الكتابيات راعى أمرين:
1 - أن الكتابية ذات دين سماوي في الأصل، فهي تشترك مع المسلم في الإيمان وبرسالاته، وبالدار الآخرة وبالقيم الأخلاقية، والمثل الروحية التي توارثتها الإنسانية عن النبوات، وذلك في الجملة لا في التفصيل طبعًا . وهذا يجعل المسافة بينها وبين الإسلام قريبة، لأنه يعترف بأصل دينه، ويقر بأصوله في الجملة، ويزيد عليها ويتممها بكل نافع وجديد.
2 - إن المرأة الكتابية - وهذا شأنها - إذا عاشت في ظل زوج مسلم ملتزم بالإسلام، وتحت سلطان مجتمع مسلم مستمسك بشرائع الإسلام - تصبح في دور المتأثر لا المؤثر والقابل لا الفاعل - فالمتوقع منها والمرجو لها أن تدخل في الإسلام اعتقادًا وعملاً . فإذا لم تدخل في عقيدة الإسلام - وهذا حقها إذ لا إكراه في الدين - اعتقادًا وعملاً . فإنها تدخل في الإسلام من حيث هو تقاليد وآداب اجتماعية . ومعنى هذا أنها تذوب داخل المجتمع الإسلامي سلوكيًا، إن لم تذب فيه عقائديًا.
(1/390)
وبهذا لا يخشى منها أن تؤثر على الزوج أو على الأولاد، لأن سلطان المجتمع الإسلامي من حولها أقوى وأعظم من أي محاولة منها لو حدثت.
كما أن قوة الزوج عادة في تلك الأعصار، وغيرته على دينه، واعتزازه به اعتزازًا لا حد له، وحرصه على حسن تنشئة أولاده، وسلامة عقيدتهم، يفقد الزوجة القدرة على أن تؤثر في الأولاد تأثيرًا يتنافى مع خط الإسلام.
أما في عصرنا، فيجب أن نعترف بشجاعة وصراحة: إن سلطان الرجل على المرأة المثقفة قد ضعف، وإن شخصية المرأة قد قويت، وبخاصة المرأة الغربية، وهذا ما وضحناه فيما سبق.
أما سلطان المجتمع المسلم فأين هو ؟ إن المجتمع الإسلامي الحقيقي الذي يتبنى الإسلام عقيدة وشريعة ومفاهيم وتقاليد وأخلاقًا وحضارة شاملة، غير موجود اليوم.
وإذا كان المجتمع المسلم غير موجود بالصورة المنشودة، فيجب أن تبقى الأسرة المسلمة موجودة، عسى أن تعوض بعض النقص الناتج عن غياب المجتمع الإسلامي الكامل.
فإذا فرطنا في الأسرة هي الأخرى، فأصبحت تتكون من أم غير مسلمة، وأب لا يبالي ما يصنع أبناؤه وبناته، ولا ما تصنع زوجته، فقل على الإسلام وأهله السلام !
ومن هنا نعلم أن الزواج من غير المسلمات في عصرنا ينبغي أن يمنع سدًا للذريعة إلى ألوان شتى من الضرر والفساد . ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة . ولا يسوغ القول بجوازه إلا لضرورة قاهرة أو حاجة ملحة، وهو يقدر بقدرها.
ولا ننسى هنا أن نذكر أنه مهما ترخص المترخصون في الزواج من غير المسلمة، فإن مما لا خلاف عليه، أن الزواج من المسلمة أولى وأفضل من جهات عديدة، فلا شك أن توافق الزوجين من الناحية الدينية أعون على الحياة السعيدة . بل كلما توافقا فكريًا ومذهبيًا كان أفضل.
(1/391)
وأكثر من ذلك أن الإسلام لا يكتفي بمجرد الزواج من أية مسلمة، بل يرغب كل الترغيب في الزواج من المسلمة المتدينة، فهي أحرص على مرضاة الله، وأرعى لحق الزوج، وأقدر على حفظ نفسها وماله وولده . ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
خدمة المرأة لزوجها
س: سمعت أحد العلماء يقول في المسجد: إن المرأة ليس عليها أن تخدم الرجل، فهل هذا صحيح دينًا ؟ وهل معنى هذا أن الرجل عليه أن يقوم بأمور المنزل وخدمة الأولاد ؟ إن هذا - إن صح - يجرئ النساء على الرجال، ويقلب الأوضاع في البيوت والمجتمعات.
جـ: هذا الذي قاله العالم رأي لبعض الفقهاء، وليس كل ما قاله الفقهاء صحيحًا مائة في المائة، بل هم مجتهدون يخطئون ويصيبون، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وقد قال الإمام مالك: " كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ".
ولهذا نرى الحق مع الرأي الآخر الذي يكل إلى المرأة خدمة زوجها في مصالح البيت، وأدلتنا على ذلك ما يلي:
أولا: يقول الله تعالى في شأن الزوجات: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وخدمة المرأة لزوجها هو المعروف عند من خاطبهم الله تعالى بكلامه، أما ترفيه المرأة وقيام الرجل بالخدمة - الكنس والطحن والعجن والخبز والغسل . . . . إلخ - فهذا ليس من المعروف . وبخاصة أن الرجل يعمل ويكدح خارج البيت . فمن العدل أن تعمل المرأة داخله.
ثانيًا: إن كل حق يقابله واجب، فقد أوجب الله تعالى للزوجة على الزوج حق النفقة والكسوة والسكنى - فضلاً عن المهر - ومن البديهي أن يلقى عليها لقاء ذلك من الأعمال ما يكافئ هذه الحقوق، أما قول الأخرين: إن المهر والنفقة وجبا في مقابل استمتاع الرجل، فيرده أن الاستمتاع أمر مشترك بينهما.
(1/392)
ثالثًا: يقول ابن القيم في الهدى: إن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف، والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة، ويقول أيضًا: قال الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) وإذا لم تخدمه المرأة - بل كان هو الخادم لها - فهي القوَّامة عليه.
رابعًا: المروي عن نساء الصحابة أنهن كن يقمن بخدمة أزواجهن ومصالح بيوتهن، صح عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: كنت أخدم الزبير (زوجها) خدمة البيت كله، وكان له فرس فكنت أسوسه وأحش له وأقوم عليه، وصح عنها أنها كانت تعلف فرسه وتسقي الماء وتخرز الدلو وتعجن وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ.
وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، كانت تخدم عليًا وتقوم بشئون بيته من طحن وعجن وخبز، وتدير الرحى، حتى أثرت في يديها، وقد ذهبت إلى النبي هي وزوجها يشكوان إليه الخدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة: خدمة البيت، وحكم على علي بالخدمة الظاهرة، قال ابن حبيب: الخدمة الباطنة: الطحن والطبخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء وعمل البيت كله.
وأصحاب الرأي الثاني: يقولون هذه الأحاديث تدل على التطوع ومكارم الأخلاق لا على الوجوب . وإن خدمة فاطمة وأسماء رضي الله عنهما كانت تبرعًا وإحسانًا، ونسوا أن فاطمة شكت إلى الرسول ما تلقى من الخدمة، وأن النبي لم يقبل شكواها، ولم يقل لعلي لا خدمة عليها، وإنما الخدمة عليك، وهو عليه الصلاة والسلام لا يحابي في الحكم أحدًا، فقوله وعمله وتقريره شرع لنا، وقد رأى أسماء والعلف على رأسها والزبير معه فلم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم، بل أقره على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام زوجاتهم، مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية، وهذا مما لا ريب فيه.
بهذا يتضح الحق، ويتبين الصواب في هذه المسألة، والمنصف من عرف الرجال بالحق ولم يعرف الحق بالرجال.
(1/393)
ولا يفوتني أن أقول: إن هذه القضية محلولة بنفسها، فالمرأة المسلمة حقًا تقوم بخدمة زوجها وبيتها بحكم الفطرة، وبمقتضى التقاليد التي توارثها المجتمع الإسلامي جيلاً بعد جيل والمرأة المتمردة أو الشرسة لا تنظر رأي الدين، ولا يهمها قول أحد من الفقهاء لها أو عليها.
من حق المرأة على الرجل
س: تزوجت رجلاً يكبرني بأكثر من عشرين عامًا، ولم أكن أعتبر فارق السن بيني وبينه حاجزًا يبعدني عنه، أو ينفرني منه، لو أنه أعطاني من وجهه ولسانه وقلبه ما ينسيني هذا الفارق، ولكنه - للأسف - حرمني من هذا كله: من الوجه البشوش، والكلام الحلو، والعاطفة الحية، التي تشعر المرأة بكيانها وأنوثتها، ومكانتها في قلب زوجها.
إنه لا يبخل علي بالنفقة ولا بالكسوة، كما أنه لا يؤذيني . ولكن ليس هذا كل ما تريده المرأة من رجلها . إني لا أرى نفسي بالنسبة إليه إلا مجرد طاهية طعام، أو معمل تفريخ للعيال، أو آلة للاستمتاع عندما يريد الاستمتاع . وهذا ما جعلني أمل وأسأم وأحس بالفراغ، وأضيق بنفسي وبحياتي . وخصوصًا عندما أنظر إلى نظيراتي وزميلاتي ممن يعشن مع أزواج يملئون عليهن الحياة بالحب والأنس والسعادة.
ولقد شكوت إليه مرة من هذه المعاملة، فقال: هل قصرت في حقك في شيء ؟ هل بخلت عليك بنفقة أو كساء ؟.
وهذا ما أريد أن أسأل عنه ليعرفه الأزواج والزوجات: هل المطالب المادية من الأكل والشرب واللبس والسكن هو كل ما على الزوج للزوجة شرعًا ؟ وهل الناحية النفسية لا قيمة لها في نظر الشريعة الإسلامية الغراء ؟.
إنني بفطرتي وفي حدود ثقافتي المتواضعة لا أعتقد ذلك . لهذا أرجو أن توضحوا هذه الناحية في الحياة الزوجية، لما لها من أثر بالغ في سعادة الأسرة المسلمة واستقرارها.
والله يحفظكم.
زوجة مسلمة . دولة الإمارات
جـ: ما أدركته الأخت صاحبة السؤال بفطرتها السليمة، وثقافتها المتواضعة هو الصواب الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء.
(1/394)
فالشريعة أوجبت على الزوج أن يوفر لامرأته المطالب المادية من النفقة والكسوة والمسكن والعلاج ونحوها، بحسب حاله وحالها، أو كما قال القرآن " بالمعروف ".
ولكنها لم تغفل أبدًا الحاجات النفسية التي لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بها . كما قال الشاعر قديمًا:
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
بل إن القرآن الكريم يذكر الزواج باعتباره آية من آيات الله في الكون ونعمة من نعمه تعالى على عباده . فيقول: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) . فتجد الآية الكريمة تجعل أهداف الحياة الزوجية أو مقوماتها هي السكون النفسي والمودة والرحمة بين الزوجين، فهي كلها مقومات نفسية، لا مادية ولا معنى للحياة الزوجية إذا تجردت من هذه المعاني وأصبحت مجرد أجسام متقاربة، وأرواح متباعدة.
ومن هنا يخطئ كثير من الأزواج - الطيبين في أنفسهم - حين يظنون أن كل ما عليهم لأزواجهم نفقة وكسوة ومبيت، ولا شيء وراء ذلك . ناسين أن المرأة كما تحتاج إلى الطعام والشراب واللباس وغيرها من مطالب الحياة المادية، تحتاج مثلها - بل أكثر منها - إلى الكلمة الطيبة، والبسمة المشرقة، واللمسة الحانية، والقبلة المؤنسة، والمعاملة الودودة، والمداعبة اللطيفة، التي تطيب بها النفس، ويذهب بها الهم، وتسعد بها الحياة.
وقد ذكر الإمام الغزالي في حقوق الزوجية وآداب المعاشرة جملة منها لا تستقيم حياة الأسرة بدونها . ومن هذه الآداب التي جاء بها القرآن والسنة:
حسن الخلق مع الزوجة، واحتمال الأذى منها . قال الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) وقال في تعظيم حقهن: (وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا) وقال: (والصاحب بالجنب) قيل: هي المرأة.
(1/395)
قال الغزالي: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها . اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أزواجه يراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يومًا إلى الليل.
وكان يقول لعائشة: " إني لأعرف غضبك من رضاك ! قالت: وكيف تعرفه ؟ قال: إذا رضيت قلت: لا، وإله محمد، وإذا غضبت قلت: لا وإله إبراهيم.
قالت: صدقت، إنما أهجر اسمك ! ".
ومن هذه الآداب التي ذكرها الغزالي: أن يزيد على احتمال الأذى منها، بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن، وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخلاق . حتى روى أنه كان يسابق عائشة في العدو.
وكان عمر رضي الله عنه - مع خشونته يقول: ينبغي أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجدوا رجلاً.
وفي تفسير الحديث المروي " إن الله يبغض الجعظري الجواظ " قيل: هو الشديد على أهله، المتكبر في نفسه . وهو أحد ما قيل في معنى قوله تعالى: (عتل) قيل: هو الفظ اللسان، الغليظ القلب على أهله.
والمثل الأعلى في ذلك كله هو النبي صلى الله عليه وسلم فرغم همومه الكبيرة، ومشاغله الجمة، في نشر الدعوة، وإقامة الدين، وتربية الجماعة، وتوطيد دعائم الدولة في الداخل، وحمايتها من الأعداء المتربصين في الخارج . فضلاً عن تعلقه بربه، وحرصه على دوام عبادته بالصيام والقيام والتلاوة والذكر، حتى أنه كان يصلي بالليل حتى تتورم قدماه من طول القيام، ويبكي حتى تبلل دموعه لحيته.
أقول: برغم هذا كله، لم يغفل حق زوجاته عليه، ولم ينسه الجانب الرباني فيه، الجانب الإنساني فيهن، من تغذية العواطف والمشاعر التي لا يغني عنها تغذية البطون، وكسوة الأبدان.
يقول الإمام ابن القيم في بيان هديه صلى الله عليه وسلم مع أزواجه:
(1/396)
" وكانت سيرته مع أزواجه: حسن المعاشرة، وحسن الخلق، وكان يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها . وكانت إذا هويت شيئًا لا محذور فيه تابعها عليه . وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه موضع فمها وشرب وكان إذا تعرقت عرقًا - وهو العظم الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها.
" وكان يتكئ في حجرها، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها . وربما كانت حائضًا . وكان يأمرها وهي حائض فتتزر (تلبس الإزار، لتكون المباشرة من فوق الثياب) . ثم يباشرها . وكان يقبلها وهو صائم.
" وكان من لطفه وحسن خلقه أنه يمكنها من اللعب ويريها الحبشة، وهم يلعبون في مسجده، وهي متكئة على منكبيه تنظر وسابقها في السير على الأقدام مرتين، وتدافعًا في خروجهما من المنزل مرة ".
" وكان يقول: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ".
" وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن . فإذا جاء الليل انقلب إلى صاحبة النوبة خصها بالليل . وقالت عائشة: كان لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندهن في القسم، وقل يوم إلا كان يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو في نوبتها، فيبيت عندها ". (زاد المعاد، جـ1، ص78، 79، ط. السنة المحمدية).
(1/397)
وإذا تأملنا ما نقلناه هنا من هديه صلى الله عليه وسلم في معاملة نسائه، نجد أنه كان يهتم بهن جميعًا، ويسأل عنهن جميعًا، ويدنو منهن جميعًا . ولكنه كان يخص عائشة بشيء زائد من الاهتمام، ولم يكن ذلك عبثًا ولا محاباة، بل رعاية لبكارتها، وحداثة سنها، فقد تزوجها بكرًا صغيرة لم تعرف رجلاً غيره عليه السلام . وحاجة مثل هذه الفتاة ومطالبها من الرجل أكبر حتما من حاجة المرأة الثيب الكبيرة المجربة منه . ولا أعني بالحاجة هنا مجرد النفقة أو الكسوة أو حتى الصلة الجنسية . بل حاجة النفس والمشاعر أهم وأعمق من ذلك كله . ولا غرو أن رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ينتبه إلى ذلك الجانب ويعطيه حقه، ولا يغفل عنه، في زحمة أعبائه الضخمة، نحو سياسة الدعوة، وتكوين الأمة، وإقامة الدولة . (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . صدق الله العظيم.
العلاقة الجنسية بين الزوجين
(مقدمة)
س: لقد تعلمنا مما سمعناه منكم غير مرة: أن لا حياء في الدين وأن على المسلم أن يسأل ويستفسر عما يهمه في أمر دينه، وإن كان من شئونه الخاصة.
وعلى هذا أستأذنكم في هذا السؤال، وهو يتصل بالناحية الجنسية بين الرجل وامرأته . فهذه مثار نزاع بيننا باستمرار، فكثيرًا ما تشتد عندي الرغبة فأطلبها فتنفر هي مني وترفض، ربما لتعبها أو لعدم رغبتها . أو غير ذلك من الأسباب التي تعتبرها هي مانعًا، ولا أعتبرها أنا كذلك.
فهل وضع الشرع لذلك حدودًا يقف عندها الزوجان في هذه الناحية الحساسة، بحيث يعرف كل واحد منهما ما له وما عليه ؟ أم ترك ذلك لما يتفق عليه الطرفان ؟ ولكن ما الحكم إذا اختلفا في ذلك . ولم يتفقا فيه، وهو من الأمور الداخلية التي لا تعرض على الناس عند النزاع ليحكموا فيها، لما لها من طبيعة الخصوصية والسرية ؟.
(1/398)
ولهذا اتفقت أنا وزوجتي، أن نستفتيك في هذه القضية، لنسمع منك التوجيهات الشرعية فيها، ونحن في انتظار جوابك وبيانك الذي لمسنا دائما أنه يكفي ويشفي . ..
جـ: أما أنه لا حياء في الدين، فهذا لا ريب فيه، وقد أثنت أم المؤمنين عائشة على نساء الأنصار فقالت: لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين . وقد كانت إحداهن تسأل عن أمور الحيض والنفاس وما شابهها . كما تسأل عن أشياء تتعلق بالجنابة والإنزال والغسل ونحوها . وكانت هذه الأسئلة مشافهة، وهذه أصعب - بلا شك - من السؤال عن طريق رسالة مكتوبة، أو عن طريق الهاتف ونحو ذلك.
وفي المساجد دروس يحضرها الكبار والصغار، والأيامى والمتزوجون، وقد يحضرها النساء عجائز وشواب . وفي هذه الدروس تعلم أحكام الطهارة والوضوء والغسل والحيض والنفاس وما شابهها، وفيها - في نواقض الوضوء مثلاً - ما خرج من السبيلين (القبل والدبر) ومس الذكر، ولمس النساء بشهوة أو بغير شهوة . وفي موجبات الغسل يذكر الجماع والاحتلام مع الإنزال والاستمناء وغير ذلك من الأحكام التي تتصل بالنواحي الجنسية.
ومثل ذلك يحدث في دروس التفسير والحديث إذا جاءت آية، أو حديث يتعلق بتلك النواحي، فلا يجد المفسر أو المحدث حرجًا في الحديث عن ذلك، وبيان حكم الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما كان لتناول هذا الجانب بهذه الصورة أي أثر سلبي يخشى منه، لأنه كان يتناول في جو من الجدية والبساطة والحرص على المعرفة، مع ما يحيط به من جلال الدين، وهيبة المسجد، ووقار العالم.
وهذا ما ينصح به المهتمون بالتربية الجنسية في عصرنا: أن يزال الغموض والحجب الكثيفة عن موضوع الجنس، وأن ينال المتعلم قدرًا من المعرفة به دون تزمت أو مغالاة.
وأما موضوع الاستفتاء - الذي يتطلب الأخ فيه الحكم والبيان الذي يعتقد أنه يكفي ويشفي، فأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه، وأقول:
(1/399)
إن العلاقة الجنسية بين الزوجين أمر له خطره وأثره في الحياة الزوجية . وقد يؤدي عدم الاهتمام بها، أو وضعها في غير موضعها إلى تكدير هذه الحياة، وإصابتها بالاضطراب والتعاسة . وقد يفضي تراكم الأخطاء فيها إلى تدمير الحياة الزوجية والإتيان عليها من القواعد.
وربما ظن بعض الناس أن الدين أهمل هذه الناحية برغم أهميتها . وربما توهم آخرون أن الدين أسمى وأظهر من أن يتدخل في هذه الناحية بالتربية والتوجيه، أو بالتشريع والتنظيم، بناء على نظرة بعض الأديان إلى الجنس " على أنه قذارة وهبوط حيواني ".
والواقع أن الإسلام لم يغفل هذا الجانب الحساس من حياة الإنسان، وحياة الأسرة، وكان له في ذلك أوامره ونواهيه، سواء منها ما كان له طبيعة الوصايا الأخلاقية، أم كان له طبيعة القوانين الإلزامية.
1 - وأول ما قرره الإسلام في هذا الجانب هو الاعتراف بفطرية الدافع الجنسي وأصالته، وإدانة الاتجاهات المتطرفة التي تميل إلى مصادرته، أو اعتباره قذرًا وتلوثًا . ولهذا منع الذين أرادوا قطع الشهوة الجنسية نهائيًا بالاختصاء من أصحابه، وقال لآخرين أرادوا اعتزال النساء وترك الزواج: " أنا أعلَمُكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
2 - كما قرر بعد الزواج حق كل من الزوجين في الاستجابة لهذا الدافع، ورغب في العمل الجنسي إلى حد اعتباره عبادة وقربة إلى الله تعالى، حيث جاء في الحديث الصحيح: " وفي بضع أحدكم (أي فرجه) صدقة . قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: نعم . أليس إذا وضعها في حرام كان عليه وزر . كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر، أتحتسبون الشر ولا تحتسبون الخير ؟ " . رواه مسلم.
(1/400)
ولكن الإسلام راعى أن الزوج بمقتضى الفطرة والعادة هو الطالب لهذه الناحية والمرأة هي المطلوبة . وأنه أشد شوقًا إليها، وأقل صبرًا عنها، على خلاف ما يشيع بعض الناس أن شهوة المرأة أقوى من الرجل، فقد أثبت الواقع خلاف ذلك .. وهو عين ما أثبته الشرع.
( أ ) ولهذا أوجب على الزوجة أن تستجيب للزوج إذا دعاها إلى فراشه، ولا تتخلف عنه كما في الحديث: " إذا دعا الرجل زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور ". (رواه الترمذي وحسنه).
( ب ) وحذرها أن ترفض طلبه بغير عذر، فيبيت وهو ساخط عليها، وقد يكون مفرطًا في شهوته وشبقه، فتدفعه دفعًا إلى سلوك منحرف أو التفكير فيه، أو القلق والتوتر على الأقل، " إذا دعا الرجل امرأته، فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ". (متفق عليه).
وهذا كله ما لم يكن لديها عذر معتبر من مرض أو إرهاق، أو مانع شرعي، أو غير ذلك.
وعلى الزوج أن يراعي ذلك، فإن الله سبحانه - وهو خالق العباد ورازقهم وهاديهم - أسقط حقوقه عليهم إلى بدل أو إلى غير بدل، عند العذر، فعلى عباده أن يقتدوا به في ذلك.
(جـ) وتتمة لذلك نهاها أن تتطوع بالصيام وهو حاضر إلا بإذنه، لأن حقه أولى بالرعاية من ثواب صيام النافلة، وفي الحديث المتفق عليه: " لا تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه " والمراد صوم التطوع بالاتفاق كما جاء في ذلك حديث آخر.
(1/401)
3- والإسلام حين راعى قوة الشهوة عند الرجل، لم ينس جانب المرأة، وحقها الفطري في الإشباع بوصفها أنثى . ولهذا قال لمن كان يصوم النهار ويقوم الليل من أصحابه مثل عبد الله بن عمرو: إن لبدنك عليك حقًا، وإن لأهلك (أي امرأتك) عليك حقًا . قال الإمام الغزالي: " ينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة، فهو أعدل، إذ عدد النساء أربع (أي الحد الأقصى الجائز) فجاز التأخير إلى هذا الحد . نعم ينبغي أن يزيد أو ينقص بحسب حاجتها في التحصين . فإن تحصينها واجب عليه ". (إحياء علوم الدين، جـ 2، ص 50 دار المعرفة - بيروت).
4 - ومما لفت الإسلام إليه النظر ألا يكون كل هم الرجل قضاء وطره هو دون أي اهتمام بأحاسيس امرأته ورغبتها.
ولهذا روى في الحديث الترغيب في التمهيد للاتصال الجنسي بما يشوق إليه من المداعبة والقبلات ونحوها، حتى لا يكون مجرد لقاء حيواني محض.
ولم يجد أئمة الإسلام وفقهاؤه العظام بأسًا أو تأثيمًا في التنبيه على هذه الناحية التي قد يغفل عنها بعض الأزواج.
فهذا حجة الإسلام، إمام الفقه والتصوف، أبو حامد الغزالي يذكر ذلك في إحيائه - الذي كتبه ليرسم فيه الطريق لأهل الورع والتقوى، والسالكين طريق الجنة - بعض آداب الجماع فيقول.
(يُستحب أن يبدأ باسم الله تعالى . قال عليه الصلاة والسلام: " لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا . فإن كان بينهما ولد، لم يضره الشيطان ". (متفق عليه).
(1/402)
(وليغط نفسه وأهله بثوب، وليقدم التطلف بالكلام والتقبيل . قال صلى الله عليه وسلم " لا يقعن أحدكم على امرأته، كما تقع البهيمة، وليكن بينهما رسول قيل وما الرسول يا رسول الله ؟ قال: القبلة والكلام " (رواه أبو منصور والديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس) . وقال: " ثلاث من العجز في الرجل . . . وذكر منها أن يقارب الرجل زوجته فيصيبها (أي يجامعها) قبل أن يحدثها ويؤانسها ويضاجعها فيقضي حاجته منها، قبل أن تقضي حاجتها منه ". (هو جزء من الحديث الذي قبله عند الديلمي أيضًا، والحديث ضعيف ولكن الأدب الذي اشتمل عليه مما تدعو إليه الفطرة السليمة).
قال الغزالي: (ثم إذا قضى وطره فليتمهل على أهله حتى تقضي هي أيضًا نهمتها، فإن إنزالها ربما يتأخر، فيهيج شهوتها، ثم القعود عنها إيذاءً لها . والاختلاف في طبع الإنزال يوجب التنافر مهما كان الزوج سابقًا إلى الإنزال، والتوافق في وقت الإنزال ألذ عندها ولا يشتغل الرجل بنفسه فإنها ربما تستحي).
وبعد الغزالي، نجد الإمام السلفي الورع التقي أبا عبد الله بن القيم يذكر في كتابه " زاد المعاد في هدى خير العباد " هديه صلى الله عليه وسلم في الجماع . ولا يجد في ذكر ذلك حرجًا دينيًا، ولا عيبًا أخلاقيًا، ولا نقصًا اجتماعيًا، كما قد يفهم بعض الناس في عصرنا . ومن عباراته:
" أما الجماع والباءة فكان هديه فيه أكمل هدى، يحفظ به الصحة، ويتم به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها . فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور، هي مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
والثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة . وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة.
(1/403)
قال: ومن منافعه: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه، في دنياه وأخراه، وينفع المرأة . ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعاهده ويحبه، ويقول: "..حبب إلي من دنياكم النساء والطيب...".
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد في هذا الحديث زيادة لطيفة وهي: " أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن ".
وحث أمته على التزويج فقال: " تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم . . . . " وقال: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج . . . "، ولما تزوج جابر ثيبًا قال له: " هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك ".
ثم قال الإمام ابن القيم:
" ومما ينبغي تقديمه على الجماع ملاعبة المرأة وتقبيلها ومص لسانها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب أهله، ويقبلها . وروى أبو داود: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها " ويذكر عن جابر بن عبد الله قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المواقعة قبل المداعبة ". (راد المعاد، جـ 3، ص 309، ط. السنة المحمدية).
وهذا كله يدلنا على أن فقهاء الإسلام لم يكونوا " رجعيين " ولا " متزمتين " في معالجة هذه القضايا، بل كانوا بتعبير عصرنا " تقدميين " واقعيين.
وخلاصة القول: إن الإسلام عنى بتنظيم الناحية الجنسية بين الزوجين، ولم يهملها حتى إن القرآن الكريم ذكرها في موضعين من سورة البقرة التي عنيت بشئون الأسرة:
أحدها: في أثناء آيات الصيام وما يتعلق به حيث يقول تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن، علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم، فتاب عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، تلك حدود الله فلا تقربوها).
(1/404)
وليس هناك أجمل ولا أبلغ ولا أصدق من التعبير عن الصلة بين الزوجين من قوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) بكل ما توجبه عبارة " اللباس " من معاني الستر والوقاية والدفء والملاصقة والزينة والجمال.
الثاني: قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم، واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين).
وقد جاءت الأحاديث النبوية تفسر الاعتزال في الآية الأولى بأنه اجتناب الجماع فقط دون ما عداه من القبلة والمعانقة والمباشرة ونحوها من ألوان الاستمتاع، كما تفسر معنى (أنى شئتم) بأن المراد: على أي وضع أو أي كيفية اخترتموها ما دام في موضع الحرث، وهو القبل كما أشارت الآية الكريمة.
وليس هناك عناية بهذا الأمر أكثر من أن يذكر قصدًا في دستور الإسلام وهو القرآن الكريم.
.....والله الموفق.
الكذب المباح في العلاقة الزوجية
س: تزوجت رجلاً فيه طيبة ولكنه كثير الشك . فهو كثيرًا ما يسألني: هل أحب أحدًا غيره، فأذكر له أني مخلصة له، ولا أتطلع إلى رجل سواه، فيطلب مني أن أحلف على ذلك، فأحلف بالفعل وأنا مطمئنة.
ولكنه لم يكتف بهذا، فعاد يسألني: هل أحببت أحدًا غيري قبل زواجي منه ؟ فنفيت له ذلك، فطلب مني أن أقسم على ذلك، وأحلف له أن قلبي لم يتعلق قبل ذلك بأحد سواه، قلت له: لا داعي لمثل هذا الكلام، وقد أكدت لك حبي لك، وإخلاصي لك، وحرصي على سعادتنا الزوجية، ولكنه يأبى إلا أن أقسم له اليمين . ولا أكتمك أن قلبي كان قد تعلق في فترة ما بشاب ذي قرابة بعيدة من أسرتي، ولكن لم تساعده الأقدار على التقدم لزواجي . وكان هذا من سنين، ولم يكن بيني وبينه غير عاطفة انطفأت جمرتها بعد زواجي تمامًا، وأصبحت مجرد ذكرى.
وأنا في الواقع حائرة من أمري:
(1/405)
هل أحلف اليمين التي يطلبها زوجي، فأريح نفسه من هذا الشك الذي يقلقه ؟ وفي هذه الحالة أخاف على نفسي الإثم، وغضب الله علي، أني حلفت باسمه كذبًا . . . أم أمتنع من ذلك وفي هذه الحالة سيزداد شكه وقلقه، وهذا ما يكدر حياتنا، وينغص علينا معيشتنا.
ولهذا لجأت إلى فضيلتكم، لتنقذني من حيرتي، وتدلني على وجه الصواب، والله يحفظكم.
الحائرة - ف . س . - من الدوحة
جـ: الأصل في الكذب هو الحرمة، لما وراءه من مضار على الفرد، وعلى الأسرة وعلى المجتمع كله، ولكن الإسلام أباح الخروج عن هذا الأصل - كما بينا في فتوى سابقة - لأسباب خاصة وفي حدود معينة ذكرها الحديث النبوي الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت: " ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول، يريد به الإصلاح (أي بين الناس)، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها ".
وهذا من واقعية هذه الشريعة، وبالغ حكمتها.
فليس من المقبول أن ينقل من يريد الإصلاح ما يسمعه من كلا الخصمين في حق صاحبه، فيزيد النار اشتعالا، بل يحاول تلطيف الجو، ولو بشيء من تزويق الكلام، أو الزيادة فيه، وإنكار ما قاله أحدهما في الآخر من سب أو إهانة.
وليس من المعقول أن يعطي العدو ما يريد من معلومات، تكشف عن أسرار الجيش . أو تدل على عورات البلد، أو تنبيء عن مواطن الضعف في الجهة الداخلية، أو غير ذلك، تحت عنوان " الصدق " بل الواجب إخفاء ذلك عنه، فإن الحرب خدعة.
وليس من الحكمة كذلك أن تصارح المرأة زوجها بما كان لها من ماض عاطفي عفى عليه الزمن، ونسخته الأيام فتدمر حياتها الزوجية باسم " الصدق " الواجب . ولهذا كان الحديث النبوي في غاية الحكمة والصواب، حين استثنى ما يحدث بين الزوجين من كلام في هذه النواحي من الكذب المحرم، ورعاية للرباط الزوجي المقدس.
(1/406)
ولا شك أن الزوج مخطئ في طلبه من زوجته أن تحلف له على ما ذكرت، وخطؤه من وجهين:
الأول: أنه ينبش ماضيًا لا علاقة له به، وقد لا يكون من صالحه نبشه، واستثارة دفائنه، فكثيرًا ما تمر بالفتاة - ومثلها الفتى - أيام يهفو قلبها لفتى " قريب، أو جار أو غير ذلك، تعتبره فارس أحلامها، ثم لا يلبث أن ينشغل عنها أو تنشغل عنه، وخاصة بالزواج، فليس من الخير إحياء هذه العواطف التي ماتت مع الزمن، وحسبه أن الزوجة تخلص له، وتؤدي حقه وترعى بيته، ولا تقصر في شأن من شئونه.
الثاني: أن الحلف لا يقدم ولا يؤخر في العلاقة بينهما، لأنها إن لم تكن ذات دين، تخشى الله، وتخاف حسابه، فلا يهمها أن تحلف بأغلظ الأيمان وهي كاذبة وإن كانت ذات دين، ممن يرجو الله ويخاف سوء الحساب، فيكفيه دينها وتقواها، ليطمئن إليها، ويثق بأمانتها وإخلاصها.
ويخشى أن يجرها إلحاحه عليها إلى أن تحلف كاذبة، ويكون الإثم عليه هو لا عليها، والذي أؤكده هنا بالفعل، أنه لا حرج على الزوجة إذا ضغط عليها الزوج بمثل هذه الصورة المذكورة في السؤال أن تحلف وهي كاذبة، لأن صدقها يعرض حياتها الزوجية للانهيار وهو ما يكرهه الله تعالى، ويقاومه الإسلام، فالحلف هنا من باب الضرورة.
ومثل هذا أيضًا إذا سألها: هل تحبه أم لا ؟ وطلب منها اليمين على ذلك . فمثل هذا النوع من الرجال لا يرضيه إلا الحلف، وإن كان كاذبًا . فلتحلف إن لم تجد بدًا من الحلف، ولتستغفر الله تعالى، وهو الغفور الرحيم.
ومما يذكر هنا ما حدث في عهد عمر - رضي الله عنه - من ابن أبي عذرة الدؤلي، وكان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن، فطارت له في الناس من ذلك أحدوثة يكرهها فلما علم بذلك، أخذ بيد عبد الله بن الأرقم، حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضينني ؟ قالت: لا تنشدني . قال: فإني أنشدك بالله. قالت: نعم . فقال لابن الأرقم: أتسمع ؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه.
(1/407)
فقال: إنكم لتحدثون أني أظلم النساء وأخلعهن، فاسأل ابن الأرقم ! فسأله عمر فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة، فجاءت هي وعمتها، فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه ؟ فقالت: إني أول من ثاب وراجع أمر الله تعالى . إنه ناشدني الله، فتحرجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين ؟ قال: نعم، فاكذبي ! فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يُبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب !
وهذه والله إحدى الروائع العمرية . فلم يكن عمر مجرد رئيس دولة، بل كان إلى جوار ذلك عالمًا مربيًا، وفقيهًا ومفتيًا.
إنه يطبق هنا الحديث النبوي في حديث المرأة مع زوجها، والرجل مع زوجته . فلا يرى مانعًا أن تخبره بالكذب إبقاء على الزوجية، ثم ألقي حكمته الخالدة: إن أقل البيوت ما بني على الحب، وإنما يتعاشر الناس بالإسلام والأحساب.
فليس من اللازم أن يكون كل رجل وامرأته " قيسًا وليلى " حبًا وغرامًا، وعواطف مشبوبة ولعلهما لو كانا كذلك لانتهى مصيرهما بغير الزواج، كما انتهى مصير قيس وليلاه، وحسب الزوجين أن يتعاشرا بالمعروف في ظل الدين والأخلاق، أو الإسلام والأحساب كما قال الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.
حب المرأة لغير زوجها
س: هل يجوز للمرأة المتزوجة أن تحب غير زوجها وإذا لم يكن لها ذلك . فما ذنبها وقلب الإنسان ليس ملك يديه ؟ حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين زوجاته ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " . يعنى أمر القلب.
جـ: يحسن بي أن أذكر هنا ما قاله أحد علماء العصر ودعاته يومًا . وقد سئل: هل الحب حلال أم حرام ؟ فكان جوابه اللبق: الحب الحلال حلال . . . والحب الحرام حرام.
(1/408)
وهذا الجواب ليس نكته ولا لغزًا . ولكنه بيان للواقع المعروف . فالحلال بين والحرام بين . وإن كان بينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن الحلال البين أن يحب الرجل زوجته، وتحب المرأة زوجها، أو يحب الخاطب مخطوبته، وتحب المخطوبة خاطبها.
ومن الحرام البين أن يحب الرجل امرأة متزوجة برجل آخر . فيشغل قلبها وفكرها . ويفسد عليها حياتها مع زوجها، وقد ينتهي بها الأمر إلى الخيانة الزوجية فإن لم ينته إلى ذلك، انتهى إلى اضطراب الحياة، وانشغال الفكر، وبلبلة الخاطر، وهرب السكينة من الحياة الزوجية . وهذا الإفساد من الجرائم التي بريء النبي صلى الله عليه وسلم من فاعلها فقال: " ليس منا من خبب (أي أفسد) امرأة على زوجها ".
ومثل ذلك، أن تحب المرأة رجلاً غير زوجها، تفكر فيه، وتنشغل به، وتعرض عن زوجها وشريك حياتها . وقد يدفعها ذلك إلى ما لا يحل شرعًا من النظر والخلوة، واللمس، وقد يؤدي ذلك كله إلى ما هو أكبر وأخطر، وهو الفاحشة، أو نيتها، فإن لم يؤد إلى شيء من ذلك أدى إلى تشويش الخاطر، وقلق النفس، وتوتر الأعصاب، وتكدير الحياة الزوجية، بلا ضرورة ولا حاجة، إلا الميل مع الهوى، والهوى شر إله عبد في الأرض.
ولقد قص علينا القرآن الكريم قصة امرأة متزوجة أحبت فتى غير زوجها، فدفعها هذا الحب إلى أمور كثيرة لا يرضى عنها خلق ولا دين . وأعني بها امرأة العزيز، وفتاها يوسف الصديق.
حاولت أن تغري الشاب بكل الوسائل، وراودته عن نفسه صراحة، ولم تتورع عن خيانة زوجها لو استطاعت، ولما لم يستجب الشاب النقي لرغبتها العاتية، عملت على سجنه وإذلاله ليكون من الصاغرين، كما صرحت بذلك لأترابها من نساء المدينة المترفات: (قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين).
(1/409)
هذا مع أن هذه المرأة كانت معذورة بعض العذر، فهي لم تسع إلى هذا الشاب، بل زوجها الذي اشتراه وجاء به إلى بيتها، فبات يصابحها ويماسيها، وتراه أمامها في كل حين إذ هو - بحكم العرف والقانون هناك - عبدها وخادمها وقد آتاه الله من الحسن والجمال ما آتاه، مما أصبح مضرب الأمثال.
ومع هذا فالزنى من كبائر الإثم وفواحش الذنوب، وخاصة بالنسبة للمتزوج والمتزوجة، ولهذا كانت عقوبتهما في الشرع أشد من عقوبة العزب.
بقى ما جاء في السؤال فأقول: إن الحب له مبادئ ومقدمات، وله نتائج ونهايات، فالمبادئ والمقدمات يملكها المكلف ويقدر على التحكم فيها . فالنظر والمحادثة والسلام والتزاور والتراسل واللقاء، كلها أمور في مكنة الإنسان أن يفعلها وأن يدعها .. وهذه بدايات عاطفة الحب ومقدماتها.
فإذا استرسل في هذا الجانب ولم يفطم نفسه عن هواها، ولم يلجمها بلجام التقوى . ازدادت توغلاً في غيها، واستغراقًا في أمرها، وقديمًا قال البوصيري في بردته:
والنفس كالطفل، إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
وحينما تصل النفس إلى هذه المرحلة من التعلق بصورة حسية ونحوها يصعب فطامها، فقدت حريتها، وأصبحت أسيرة ما هي فيه.
ولكنها هي المسئولة عن الوصول إلى هذه النتيجة.
فإذا كان المحب أو العاشق قد انتهى إلى نتجية لا يملك نفسه إزاءها، فإنه هو الذي ورط نفسه هذه الورطة، وأدخلها هذا المضيق باختياره . والذي يرمي بنفسه في النار لا يملك أن يمنع النار من إحراقه، ولا أن يقول لها: كوني بردًا وسلامًا على كما كنت على إبراهيم . فإذا أحرقته النار وهو يصرخ ويطلب الإنقاذ دون جدوى، كان هو الذي أحرق نفسه، لأنه الذي عرضها للنار بإرادته.
(1/410)
وهذا هو شأن عاشق الصور الحسية، بل شأن كل عاص استغرق في الشهوات وأدمنها، حتى أصبح عاجزًا عن الإفلات منها، وهو ما يعبر عنه القرآن بالختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار، ومرة يقول في قوم: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) وهذا تصوير للنهاية التي وصلوا إليها، بمقدمات وتصرفات كانوا مختارين فيها كل الاختيار.
وفي مثل هذا يقول بعض الشعراء:
تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق
وقال الآخر:
يا عاذلي والأمر في يده هلا عذلت وفي يدي الأمر ؟
والخلاصة أن المرأة المتزوجة يجب أن تكتفي بزوجها، وترضى به، وتحرص على ذلك كل الحرص . فلا تمتد عينها إلى رجل غيره، وعليها أن تسد على نفسها كل باب يمكن أن تهب منه رياح الفتنة، وخصوصًا إذا لمعت بوادر شيء من ذلك، فعليها أن تبادر بإطفاء الشرارة قبل أن تستحيل إلى حريق مدمر.
أعني أنها إذا أحست دبيب عاطفة نحو إنسان آخر . فعليها أن تقاومها، بأن تمتنع عن رؤيته، وعن مكالمته، وعن كل ما يؤجج مشاعرها نحوه.
ولقد قيل: إن البعيد عن العين بعيد عن القلب.
وينبغي لها أن تشغل نفسها ببعض الهوايات، أو الأعمال التي لا تدع لها فراغًا، فإن الفراغ أحد الأسباب المهمة في إشعال العواطف، كما رأينا في قصة امرأة العزيز . وعليها بعد ذلك كله أن تلجأ إلى الله أن يفرغ قلبها لزوجها، وأن يجنبها عواصف العواطف، وإذا صدقت نيتها في الإخلاص لزوجها، فإن الله تعالى - بحسب سنته - لا يتخلى عنها.
وإذا عجزت عن مقاومة العاطفة، فلتكتمها في نفسها، ولتصبر على ما ابتليت به، ولن تحرم . إن شاء الله - من أجر الصابرين على البلاء.
(1/411)
ومثلها في ذلك الرجل يحب المرأة لا يمكنه الزواج منها، كأن تكون متزوجة، أو مَحرمًا له بنسب أو مصاهرة أو رضاع، فعليه أن يجاهد هواه في ذات الله تعالى، وفي الحديث " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد هواه ".
طاعة الزوج وطاعة الأم
س: لي ابنة تزوجت قبل عامين، وقد كانت طيلة هذه المدة تسكن هي وزوجها معي في بيت واحد وأراد بعد ذلك زوجها أن يخرج بها وحلفت أنا إن خرجت معه فإنني لن أزورها ولن أدخل بيتها.
والآن خرجت، وهي حامل، وعندها ولد، وهي وزوجها يزورانني دائمًا، فما حل هذه المشكلة ؟ هل يصح لي أن أدخل بيتها ؟
(1/412)
الأخت السائلة قد ارتكبت عدة أخطاء في هذه القضية، منها " ظنها أن من واجب ابنتها وزوجها أن يبقيا معها إلى الأبد . ومنها: تحريضها ابنتها على عدم اللحاق بزوجها . ظنًا منها أن طاعتها مقدمة على طاعة زوجها، ومنها: حلفها ألا تزورها إن خرجت معه . فمشكلتها التي تسأل عنها هي التي صنعتها بيدها لنفسها . فمن حق الزوج أن يخرج بزوجته ويستقل في بيت ولا حرج في ذلك إذا كان قادرًا، ولعل هذا أبعد عن المشكلات التي تحدث دائمًا من الاحتكاك بين الرجل وحماته، مما يعكر صفو العلاقة بين الأصهار . وعلى كل حال، إذا كانت هذه الأخت السائلة نادمة على ما حدث، وتريد أن تزور ابنتها وبخاصة أنها في حاجة إليها، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد حل هذه المشكلة من قديم بحديثه الصريح الذي يقول: " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها . فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " فلو حلف أحد الناس لا يزور أقاربه . . . لا يصل أرحامه . . . هل معنى هذا أنه يقاطع أرحامه ويرتكب هذه الكبيرة الموبقة بسبب أنه حلف اليمين . . . ويصبح اليمين مانعًا من فعل الخير . . لا . . القرآن الكريم يقول: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، والله سميع عليم) أي لا تجعلوه عرضة ومانعًا من البر والإصلاح بين الناس . . . اليمين لم يشرع لهذا . . . فإذا حلف الإنسان مثل هذا اليمين، فهناك مخرج جعله الشارع لهذا الأمر وهو الكفارة . . . " فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير " حلفت الأخت أنها لا تزور ابنتها، فالواجب عليها في هذه الحالة أن تزور البنت وتكفر عن اليمين . تستطيع التكفير قبل الزيارة، وتستطيع التكفير بعد الزيارة على أي حال، فهذا جائز . تزورها وتكفر عن يمينها . . . أي تطعم عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلها ونفسها . . . فهذا هو المخرج، ولا تقطع رحمها، وتقطع ابنتها، وخاصة أنها في أشد الحاجة إليها كما تقول.
(1/413)
ما يجب على المرأة المعتدة في حالة الحداد
س: تشيع بين الناس في منطقة الخليج اعتقادات غريبة عن المرأة المتوفى عنها زوجها، وما يجب أو يحرم عليها في أشهر عدتها وحدادها :
من هذه الاعتقادات أنها يحرم عليها أن تكلم رجلاً، أو يكلمها، أو يدخل عليها، حتى بعض محارمها مثل أبناء زوجها، أو أبناء أخيها أو أختها . فضلاً عن غيرهم من أقاربها . وجيرانها.
وأكثر من ذلك أنها لا تنظر إلى الرجل مجرد نظر . فإذا نظرت إليه، وجب عليها أن تغتسل ولو كان نظرًا عفويًا.
وأعجب من ذلك أنها لا يجوز لها أن تنظر إلى القمر في السماء أو لا تلمس بيدها الملح أو البهارات، ولا تلمس رجلها التراب.
وعندما تنقضي عدتها، يجب أن تؤخذ وهي مغماة العينين إلى البحر . الخ . فهل لهذه العادات أصل من الشرع ؟
جـ: اختلفت الأمم من قديم في معاملة المرأة المتوفى عنها زوجها . حتى إن بعضهم رأى أن من وفاء المرأة لرجلها بعد موته، ألا تبقى بعده على قيد الحياة، فعمدوا إلى إحراق جثتها معه.
وبعضهم لم يصل إلى هذا الحد . ولكن حرم عليها أن تفكر في رجل آخر بعد زوجها الأول، ومنعوها أن تنعم بحياة زوجية مرة أخرى، وإن كانت في عمر الزهر، وريعان الشباب ولو لم تعش مع زوجها إلا يومًا واحدًا.
وكان للعرب في الجاهلية ضرب من التقاليد والأنظمة والشعائر الغريبة المتوارثة بينهم، في معاملة هذه المرأة المسكينة، تتمثل فيما يلي:
أولا: روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال:
" كانوا إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها ".
وأخرج أُبي ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان أهل يثرب، إذا مات الرجل منهم في الجاهلية، ورث امرأته من يرث ماله، فكان يعضلها، حتى يتزوجها، أو يزوجها من أراد . ..
(1/414)
وفي هذه الحالات وأمثالها نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن . . . . . الآية).
ثانيًا: لم يكن لها نصيب في تركة زوجها، مهما خلف وراءه من ثروة وأموال، ومهما تكن حاجتها إلى النفقة والكفاية، " ولا عجب في ذلك ما دامت هي شيئًا يورث كالدابة والمتاع الذي يورث لا يرث . وكانت نظرية العرب أن المرأة لا حق لها في الميراث، إذ لا يرث عندهم إلا من حمل السلاح، وذاد عن الحمى، وهم الرجال فقط، لا النساء ولا الصبيان.
ومما ذكره المفسرون هنا: قصة كبيشة بنت معن بن عاصم، توفى عنها أبو قيس بن الأسلت فجنح عليها ابنه، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأتزوج ! فأنزل الله الآية السابقة.
قال ابن كثير: فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية، وكل ما كان فيه نوع من ذلك.
وقد ورَّث الإسلام الزوجة في جميع الأحوال، ما بين ربع التركة وثمنها (الربع إن لم يكن للزوج ذرية، والثمن إن كان له).
ثالثا: كانت المرأة العربية في الجاهلية، إذا مات عنها زوجها، تؤمر بأن تدخل مكانًا رديئًا، وتلبس شر ثيابها، ولا تمس طيبًا، ولا تتزين بزينة مدة سنة كاملة . فإذا تمت السنة، أوجبت عليها التقاليد الجاهلية أن تقوم بعدة أعمال أو شعائر لا معنى لها، وإنما هي من ضلال الجاهلية وسخفها: من أخذ بعرة ورميها، إذا مر بها كلب، ومن ركوب دابة مثل حمار أو شاة !
إحداد المعتدة المتوفى عنها زوجها في الإسلام:
فلما جاء الإسلام رفع عنها ما كانت تلقاه من ظلم وعنت، سواء من الأهل أم من قرابة الزوج، أم من المجتمع كله.
ولم يوجب عليها بعد الوفاة إلا ثلاثة أمور: الاعتداد، والإحداد ولزوم البيت.
1 - والمراد بالاعتداد:
أن تتربص بنفسها ولا تتزوج مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، إذا لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً فعدتها وضع الحمل.
(1/415)
ويلاحظ أن مدة العدة هنا - في غير حالة الحمل - أطول قليلاً من عدة المطلقة (وهي ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر) . وذلك لأن الزوج يترك وراءه من مشاعر الأسى والحزن في نفس الزوجة، وفي أنفس أهله وأقربائه ما لا يتركه الطلاق.
فلزم أن تطول المدة قليلاً، حتى تخف حدة الحزن، وتبرد عواطف الأسى، ومظاهر الكآبة من قبل الزوجة، ومن قبل أهل المتوفي.
2 - أما الحداد:
فالمراد به أن تجتنب المعتدة مظاهر الزينة والإغراء مثل الاكتحال واستعمال الأصباغ والمساحيق، التي تتجمل بها المرأة عادة لزوجها ومثل أنواع الطيب والعطور والحلي والثياب الزاهية والمغرية.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمَي المؤمنين رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث (أي ثلاث ليال) إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا ".
وفي الصحيحين عن أم سلمة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفى عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكتحل ؟ فقال: لا . . . كل ذلك يقول: لا، مرتين أو ثلاثًا . ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشرًا . وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة ".
وفيهما عن أم عطية: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحد امرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا، إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط أو ظفار ".
والمراد بثوب العصب ما صبغ بالعصب، وهو نبت ينبت باليمن.
وروى أبو داود والنسائي عن أم سلمة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل . ".
(1/416)
وفي حديث آخر رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: " لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب . قالت: قلت بأي شيء أمتشط ؟ قال: بالشذر تغلفين به رأسك ".
3 - والأمر الثالث الذي يلزم المتوفي عنها زوجها: أن تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي فيه، لا تغادره طوال أشهر العدة . كما روت فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد (عبيد) له، فقتلوه بطرف القدوم . فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه ولا نفقة فقال: " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا " (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح). ولأن بقاءها في بيتها أليق بحالة الحداد الواجبة عليها، وأسكن لأنفس أهل الزوج المتوفي، وأبعد عن الشبهات.
لكن يجوز لها أن تغادره لحاجة، مثل العلاج، أو شراء الأشياء اللازمة إذا لم يكن لها من يشتريها، أو الذهاب إلى عملها الملتزمة به، كالمدرسة والطبيبة والممرضة وغيرهن من النساء العاملات.
وإذا خرجت لحاجتها نهارًا . فليس لها الخروج من منزلها ليلاً . وقد جاء عن مجاهد قال: " استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله، إنا نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا، حتى إذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال: تحدثن عند إحداكن ما بدًا لكن، فإذا أردتن النوم، فلتؤب كل امرأة إلى بيتها ".
ولأن الخروج ليلاً مظنة للريبة والتهمة فلم يجز إلا لضرورة . وليس لها الخروج للصلاة في المسجد، أو السفر لحج أو عمرة أو غير ذلك، لأن الحج لا يفوت والعدة تفوت لأنها موقوتة بزمن.
(1/417)
هذه هي الأمور الثلاثة المطلوبة من المعتدة الحادة . أما ما يطلب من الناس إزاءها، فهو أنها يحرم خطبتها مدة العدة تصريحًا، ويجوز تعريضًا وتلميحًا . كما بين ذلك القرآن الكريم حين قال: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء، أو أكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سرًا إلا أن تقولوا قولاً معروفًا، ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور رحيم).
وهذه الآية في النساء المتوفي عنهن أزواجهن، وقد رفعت الآية الجناح والحرج عند التعريض بخطبتهن، أي التلميح بذلك، مثل أن يقول: إنني في حاجة إلى الزواج، وأرغب في امرأة صالحة، ونحو ذلك، مما يفهمها أنه يريدها . كما رفعت الآية الجناح عن إكنان ذلك في النفس، لأن الإنسان لا يملك قلبه، وخواطر نفسه.
كل ما يمنع هو التصريح بالخطبة للمرأة، أو مواعدتها سرًا، فذلك مما يثير الريبة، وينشر حولها الشائعات، أما أن يقول لها قولاً معروفًا فلا بأس.
وعندما يبلغ الكتاب أجله، وهذا كناية عن انقضاء العدة، أصبحت المرأة حرة في أن تتزوج من تشاء، وأن تخرج من البيت كما تشاء، وأن تلبس وتتزين بما تشاء، وأصبح لمن يريدها أن يخطبها صراحة لا كناية، وأن يعزم عقدة النكاح إن شاء . قال تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا . فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، والله بما تعملون خبير).
ولا يطلب من المرأة بعد انقضاء العدة أي شيء تعمله مما كانت تفعله في الجاهلية قديمًا . أويعتقده بعض الناس حديثًا.
(1/418)
وبهذا كله نعلم أن ما هو شائع عند جمهرة الناس في الخليج من معتقدات حول المعتدة مما أشار الأخ السائل إلى نماذج منه . لا أصل له في الشرع . فلها أن تكلم الناس ويكلموها بالمعروف، وأن يدخل عليها محارمها وغيرهم من الرجال الثقات، ما دامت محتشمة وفي غير خلوة.
أما ما قيل من أنها لا تنظر في المرآة أو القمر، أو لا تلمس الملح بيدها ولا التراب برجلها، وأنها تخرج عند انتهاء العدة لتذهب إلى البحر.
فكل ذلك مما لا أصل له في دين الله، ولم يقل به إمام، ولا مذهب ولم يفعله أحد من السلف الصالح.
ولهذا نجد أكثر بلدان المسلمين لا يعرفون هذه العادات، بل لم يسمعوا بها . . . . وفي الحديث: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد " أي باطل مردود على من عمله . وبالله التوفيق.
أولاد الابن المتوفي في حياة أبيه
س: نعرض عليك مشكلة نرجوا أن نجد عندك حلها.
نحن إخوة ثلاثة أكبرنا في الرابعة عشرة من عمره . مات أبونا في حياة والده، أي في حياة جدنا ثم مات الجد، فاقتسم أعمامنا تركة الجد كلها، ولم يعطونا منها شيئًا، لا قليلاً ولا كثيرًا قائلين: إن الابن إذا مات في حياة أبيه لا يستحق أولاده نصيبه من تركة الجد بعد وفاته وأن هذا هو حكم الشرع . وعلى هذا صرنا - نحن - من تركة جدنا محرومين من كل شيء، وخرج أعمامنا بنصيب الأسد، مع أنهم أغنياء، ونحن يتامى وفقراء، وأصبح على أمنا المسكينة أن تكد وتسعى لتنفق علينا حتى نكبر ونتعلم، وأعمامنا لا ينفقون علينا، ولا يساعدوننا . فهل ما يقوله هؤلاء الأعمام صحيح، وأن الشرع لا يحكم لنا بشيء من تركة جدنا، مع أننا أبناء ابنه، وأن عبء نفقتنا يقع على أمنا وحدها نرجوا الجواب الشافي وبيان علاج هذه المشكلة من الناحية الشرعية.
(المحرومون الصغار)
(1/419)
جـ: هذه مشكلة الابن حينما يتوفى في حياة أبيه وله أولاد وذرية من بعده . فحينما يتوفى الجد بعد ذلك، هنالك يرث الأعمام والعمات تركة الأب، وأبناء الابن لا شيء لهم.
هذا في الواقع من ناحية الميراث صحيح، وهو أن أولاد الابن لا يرثون جدهم مادام الأبناء أنفسهم موجودين، ذلك لأن الميراث قائم على قواعد معينة وهي أن الأقرب درجة يحجب الأبعد درجة، فهنا مات الأب وله أبناء وله أبناء أبناء، ففي هذه الحالة، يرث الأبناء، أما أبناء الأبناء فلا يرثون، لأن الأبناء درجتهم أقرب، فهي بدرجة واحدة وأما أبناء الأبناء فقرابتهم بدرجتين، أو بواسطة، فعندئذ لا يرث أبناء الابن.
كما لو مات الإنسان وله إخوة أشقاء وإخوة غير أشقاء، فالأشقاء يرثون وغير الأشقاء لا يرثون . . لماذا ؟ لأن الأشقاء أقرب، فهم يتصلون بالميت بواسطة الأب والأم، وأما غير الأشقاء فبواسطة الأب فقط . فالأقرب درجة، والأوثق صلة هو الذي يستحق الميراث ويحجب من دونه.
وهنا لا يرث الأحفاد من جدهم مادام أعمامهم يحجبونهم.
ولكن هل معنى هذا أن أولاد الابن المتوفي يخرجون من التركة ولا شيء لهم ؟ ! هنا يعالج الشرع هذه المسألة بعدة أمور.
(1/420)
الأمر الأول: كان على الجد أن يوصي لهؤلاء الأحفاد بشيء، وهذه الوصية واجبة ومفروضة ولازمة عند بعض فقهاء السلف . فهم يرون أن فرضًا على الإنسان الوصية لبعض الأقارب ولبعض جهات الخير وخصوصًا إذا كان هؤلاء الأقارب قريبين وليس لهم ميراث، فالشرط أن يكون الموصي له غير وارث . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " ولما أنزل الله آية المواريث (البقرة: 180)، لم يعد من حق الوارث أن يوصي له، إنما يمكن الوصية لغير الوارث، مثل ابن الابن مع وجود الابن، هنا تكون الوصية واجبة، كما جاء في القرآن الكريم بظاهر قوله تعالى: (كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقًا على المتقين) وكلمة " كُتب " تفيد الفرضية بل تأكيد الفرضية، كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) (البقرة: 316). وفي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى) وفي قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم). (البقرة: 183).
فهنا، كتب الله الوصية على من ترك خيرًا أي مالاً يعتد به، لمن لا يرثون منه بالمعروف حقًا على المتقين.
فمن هنا ذهب بعض السلف إلى فرضية هذه الوصية.
وبعضهم قال بأنها سنة ومستحبة وليست لازمة.
ونحن نختار المذهب الذي يأخذ بظاهر الآية بدلاً من القول بنسخ الآية، لأنه يمكن فهم الآية على هذا النحو.
(1/421)
وعليه كان واجبًا على الجد أن يوصي لهؤلاء الأولاد، لأنهم أبناء ابنه، قرابة قريبة ولأنهم كما قالوا فقراء، ولأنهم يتامى " فقد اجتمع عليهم اليتم والفقر والحرمان، وقد كان على الجد أن يتدارك هذا أن يوصي لهم بشيء، في حدود الثلث . لأن الوصية في الشرع الإسلامي لا تزيد عن الثلث . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين سأله عما يوصي به من ماله فأجاب " الثلث - والثلث كثير ". (متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص).
هذا ما كان ينبغي أن يفعله الجد.
وبعض البلاد العربية اتخذت من هذه الآية، ومن هذا المذهب الذي يقول بها مبدأ لقانون في الأحوال الشخصية سموه " قانون الوصية الواجبة ".
مفاده بأن على الجد أن يوصي لأحفاده الذين لا يرثون بنصيب أبيهم بشرط ألا يزيد عن الثلث . . . أي أن لهم الحد الأدنى من الثلث أو نصيب الأب.
وألزم القانون الجد بهذا إلزامًا بحيث يصبح معمولاً به لأن كثيرًا من الأجداد لم يكونوا يراعون هذا، ولم يوصوا لأحفادهم، فاجتهد هؤلاء الفقهاء، اجتهادًا جيدًا، وقالوا بالوصية الواجبة التي بينتها.
هناك أمر آخر يتدارك الشرع به مثل هذا الموقف، وهو أنه كان على الأعمام حين اقتسموا تركة أبيهم أن يعطوا شيئًا من هذه التركة لأولاد أخيهم وهذا ما نص عليه القرآن، حيث قال في سورة النساء التي ذكرت فيها المواريث (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفًا)
إذ كيف يحضر هؤلاء القسمة، والأموال توزع، وهم ينظرون، ولا يعطون شيئًا ؟ وقد قدم أولي القربى لأنهم أحق، فما بالك بأبناء الأخ اليتامى الذي كان أبوهم واحدًا منهم، فكان على الأعمام أن يعطوا هؤلاء شيئًا يتفق عليه الأعمام بحيث يكون كافيًا يكفل حاجتهم، وخاصة إذا كانت التركة كبيرة.
وإذا كان الجد مقصرًا، فقد كان على الأعمام أن يتداركوا هذا التقصير ويعطوا هؤلاء لأنهم من أقرب أولي القربى.
(1/422)
ثم هناك أمر ثالث يتدارك به الشرع هذا الموقف وهو: قانون النفقات في الإسلام.
إن الإسلام تميز عن سائر الشرائع بفرض النفقة على الموسر من أجل قريبه المعسر، وخاصة إذا كان من حق أحدهما أن يرث الآخر، كما هو المذهب الحنبلي، وكذلك إذا كان ذا رحم محرم كما هو المذهب الحنفي . وذلك مثل ابن الأخ.
ففي هذه الحالة تكون النفقة واجبة، وتحكم بها المحكمة، إذا رفعت إليها قضية من هذا القبيل.
إنه لا ينبغي للعم أن يكون ذا بسطة وثروة، وعنده بنات أخيه أو أبناء أخيه وليس لديهم شيء ومع هذا يدعهم، ويدع أمهم المسكينة تكدح عليهم وهو من أهل اليسار والغنى . . . هذا لا يجوز في شرع الإسلام.
بهذا انفرد شرع الإسلام وتميز.
وقد قص علينا المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى قصة لطيفة حينما كان يدرس في فرنسا . قال:
كنا في بيت وكانت تخدمنا فيه فتاة يظهر على وجهها مخايل شرف الأصل، فهي متماسكة وعاقلة، ولا تتبذل، فسألوا عنها: فقالوا: إن عمها المليونير فلان الفلاني، فقال: لماذا لا ينفق عليها ألا تستطيع أن ترفع أمرها للمحكمة ؟ فقيل له:
بأنه ليس لديهم قانون ملزم بمثل هذا . ثم سئل هل لديكم أيها المسلمون قانون ينص على ذلك ؟ فقال: نعم، إن مثل هذا يجب أن ينفق على بنت أخيه، ولو رفعت دعوى إلى المحكمة لقضت لها أن تأخذ حقها منه، وألزمته بذلك إلزامًا، فقالت المرأة الفرنسية: لو كان لدينا قانون كهذا لما وجدت امرأة تخرج لتجهد في العمل، لأنها لو لم تفعل هذا لماتت جوعًا.
ولذا فإن قانون النفقة الواجبة انفرد به الإسلام دون سائر الشرائع والقوانين.
ويمكن لهؤلاء الصغار المحرومين أن يرفعوا قضيتهم للمحكمة إذا لم يعطهم الأعمام هذا الحق إلا بهذا السبيل.
والله أعلم.
هل يرث الشيوعي من أبيه
(1/423)
س: تعلمون فضيلتكم أن من الأولاد من يكون نعمة على أبيه، ومنهم من يكون نقمة عليه، يجلب له العار في حياته، واللعنة بعد وفاته . وقد قدر الله علي أن أبتلى في أحد أبنائي من صلبي، فقد علمته وربيته حتى حصل على شهادة عليا من إحدى الجامعات العربية، ولكن للأسف حصل على الشهادة، وفقد العقيدة، فقد اعتنق المبادئ الهدامة التي يسمونها " الشيوعية "، وأصبحت هي عقيدته التي لا يؤمن بشيء سواها . وأصبحت أنا وإخوته معه في جدل دائم، حيث لا يؤمن بصلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا عمرة، ولا يعترف بحلال ولا حرام . أعني أننا - الأسرة كلها - أصبحنا في واد، وهو - وحده - في واد آخر . . . بل صرنا نتحاشى الكلام معه، حتى لا نسمع منه تهكما بعقائدنا، أو سخرية بشريعتنا، وربما تطاول أكثر من ذلك.
هذا مع أننا أسرة محافظة على الدين والأخلاق أبا عن جد.
والذي أسأل عنه بالذات أمران:
الأول: هل يجوز أن يرثني هذا الابن المارق، ويكون له حظ من تركتي مثل حظ إخوانه، مع أني أؤمن في قرارة نفسي، وأوقن أنه لم يعد مني ولا أنا منه، بل غدوت أبرأ إلى الله سبحانه من جراءته عليه وسوء أدبه معه ؟
الثاني: ما مدى مسئولية الأب عن ضلال ابنه وانحرافه ؟ فإني أخشى أن يعاقبني الله تعالى على كفر هذا الكافر، الذي خان دينه وقومه، وضل ضلالاً بعيدًا، وصار حربًا على الله ورسوله وعلى أسرته وأمته.
أرجو أن توضح الجواب عن هاتين النقطتين توضيحًا، مؤيدًا بالأدلة من الكتاب والسنة كعهدنا بكم.
جـ: يذكرني هذا السؤال بسؤال مشابه، كان قد وجه إلي منذ أكثر من عشر سنوات، وأجبت عنه أيضًا في مجلة " الحق "، وقد نقلت الفتوى ونشرتها ببعض التصرف - مجلة " نور الإسلام " التي يصدرها " علماء الوعظ والإرشاد في القاهرة "، وإن لم ينسبها إلى المصدر الذي أخذتها عنه . كان السؤال عن زواج المسلمة من رجل شيوعي: هل يجوز في نظر الشريعة الإسلامية أم لا ؟.
(1/424)
وكان بالقطع هو بطلان زواج المسلمة من الشيوعي إذا أصر على شيوعيته، ولم يتب منها.
وقد بنينا هذه الفتوى على بيان حقيقة الشيوعية، ومناقضتها الجذرية للعقيدة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والقيم الإسلامية، وأنها مذهب مادي لا يؤمن بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، ويفسر الحياة والتاريخ تفسيرًا ماديًا صرفًا، ولا مكان فيه لله ولا للروح، وهذا أمر ثابت مقرر في فلسفة الشيوعية، ومصادرها الأصلية، ولا ينكره الشيوعيون أنفسهم، إلا إذا أرادوا الضحك على عقول السذج والبسطاء من الناس.
وهذه الأسباب نفسها هي التي تجعلنا نحكم يقينًا بأن الشيوعي المصر على شيوعيته، لا حق له في أن يرث شيئًا من تركة أبيه أو أمه أو زوجته أو غيرهم من أقاربه المسلمين، لأن شرط التوارث اتحاد الدين، كما بينت ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ". (رواه الجماعة من حديث أسامة بن زيد).
بل إن هذا ما أشار إليه القرآن نفسه حين قص علينا قصة نوح وابنه الكافر وقال نوح: (رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين . قال: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم) (هود: 46). فقطع الصلة ما بين الولد وأبيه، ولم يعتبره من أهله، فقد فرق بينهما الإيمان والكفر.
وهذا المعنى عبر عنه الأب بوضوح وقوة حين قال: " إني أومن في قرارة نفسي، وأوقن أنه لم يعد مني ولا أنا منه ".
وقد خالف بعض الفقهاء في ميراث المسلم من الكافر، فجعل للمسلم أن يرث قريبه الكافر، دون العكس، لأن " الإسلام يعلو ولا يعلى "، كما جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (رواه أبو داود والحاكم وصححه) واستدلوا أيضًا بأن الإمام عليًا رضي الله عنه، وكرم الله وجهه لما قتل المسور العجلي حين ارتد، جعل ميراثه لورثته المسلمين.
(1/425)
وقصر ذلك بعض الفقهاء على المرتد، فإن ورثته المسلمين يرثونه، كما هو مذهب أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة، ومذهب الإمام الهادي من الزيدية، أما أبو حنيفة، فمذهبه أن ما كسبه قبل الردة فلورثته المسلمين، وما كسبه بعد الردة، فلبيت المال.
أما أن يرث المرتد من أقاربه المسلمين، فلم يقل بذلك أحد من العلماء، لأنه في نظر الإسلام في حكم الميت، ودمه مهدر، فكيف يرث غيره من المسلمين ؟ وكيف يمكن من أخذ مال أهل الإسلام ليطعن به الإسلام ؟.
وبهذا يتبين أن الشيوعي المصر، لا يرث من أبيه ولا أمه ولا جده ولا أي قريب له مسلم بالإجماع، لأنه مرتد عن الإسلام بلا نزاع، وردته إلى الشيوعية تعد شر أنواع الكفر، لأنه لم يعد يؤمن بألوهية ولا رسالة ولا كتاب ولا آخرة (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيدًا). (النساء: 136).
وكل هذا في الشيوعي المصر على شيوعيته، كما ذكرت غيرة مرة، وإنما قيدت " الشيوعي " بهذا القيد، لأن من أبنائنا من ينخدع بهذه الفلسفات الدخيلة دون أن يسبر غورها، ويدرك حقيقتها، وقد يصورها له دعاتها الماكرون بأنها مجرد دعوة لإنصاف الطبقات الكادحة، أو التقريب بين الفقراء والأغنياء، ولا علاقة لها بالأديان والعقائد.
فهذه سياستها الداخلية، أما سياستها الخارجية فتقوم على محاربة الاستعمار والامبريالية، ومساعدة الشعوب على التحرر منهما . . . . إلخ.
ولهذا يجب أن يبين لكل شيوعي مدى مناقضة الشيوعية لعقائد الإسلام وشرائعه وقرآنه وسنة نبيه، ويعطى فرصة للتوبة والرجوع إلى الرشد، فإن أصر بعد هذا البيان والتوضيح على موقفه - وأبى إلا التمسك بمبدئه - فلا يسعنا إلا الحكم عليه بالردة، بل هو الذي حكم على نفسه بذلك في الواقع.
أما مدى مسئولية الأب عن ضلال ابنه فكريًا، أو انحرافه سلوكيًا، فتحديد ذلك يختلف من أب إلى آخر.
(1/426)
فإذا كان الأب قصر في تربية ابنه في الصغر، ولم يعطه حقه من الرعاية واليقظة، وحسن الإشراف، ودوام المراقبة، والنصح بالحكمة والموعظة الحسنة، والتأديب بالرفق في موضع الرفق، وبالشدة عند موجب الشدة، وتهيئة البيئة المعينة له على الخير، وإبعاده عن الجو المساعد على الشر . . إذا قصر الأب في هذه الجوانب وأمثالها وظن أن كل ما عليه ابنه إنما هو النفقة والكسوة، ورعاية الناحية المادية في حياته فقط، دون أن يهتم بما يدور في رأسه من أفكار وفي قلبه من هواجس . فلا بد أن يتحمل قدرًا من المسئولية عن تفريطه في الصغر، وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته . . . والرجل في أهل بيته راع، وهو مسئول عن رعيته ". (متفق عليه من حديث ابن عمر).
وعلى قدر إهماله وتقصيره تكون مسئوليته، إلا إذا تدارك ذلك بتوبة نصوح . وإذا كان الأب قائمًا بكل ما ذكرنا نحو أولاده من الرعاية المادية والعقلية والنفسية - على قدر طاقته، وفي حدود وسعه - وكان حريصًا على تربية أولاده تربية سليمة يرضى عنها الله ورسوله، ولكن الابن خرج من يده، وتمرد عليه واتبع الهوى، وركبه الغرور، وغره بالله الغرور، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهذا بذل ما في وسعه، ولا يعاقب الإنسان إلا على ما فرط فيه، فهذا عدل الله ولا يظلم ربك أحدًا.
وقد قص علينا قصة الأب المؤمن والابن الكافر كما في قصة نوح وابنه، كما حكى لنا قصة الابن المؤمن والأب الكافر كما في قصة إبراهيم وأبيه آزر، وقص علينا قصة الزوج المؤمن والزوجة الكافرة كما في امرأة نوح وامرأة لوط، وبالعكس كما في امرأة فرعون.
والمهتدي من هؤلاء ليس معاقبًا قطعًا على ضلال من ضل من ابن أو أب أو زوجة أو زوج . وقد قال الله لرسوله: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). (القصص: 56).
(1/427)
حكم الطلاق البدعي المحرم
س: أنا رجل متزوج ولي ولد وبنت، وقد وقع خلاف بيني وبين زوجتي أدى إلى الطلاق، وبعد أسبوع من الطلاق تبين أن الزوجة حامل لها ثلاثة أشهر . هل يصح الطلاق أم لا ؟.
جـ: الطلاق في نظر الشريعة الإسلامية عملية جراحية مؤلمة، ولا يلجأ إليها إلا لضرورة توجبها، تفاديًا لأذى أشد من أذى العملية نفسها، ومن هنا جاء في الحديث: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " رواه أبو داود.
ولهذا وضعت الشريعة قيودًا عدة على الطلاق، حرصًا على رابطة الزوجية المقدسة أن تتهدم لأدنى سبب، وبلا مسوغ قوي . ومن هذه القيود قيد الوقت فلابد لمن أراد أن يطلق زوجته أن يختار الوقت الملائم الذي يطلقها فيه.
والسنة في ذلك أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، لقوله تعالى: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) (الطلاق: 1) . قال ابن مسعود وابن عباس في تفسير الآية: أي طهر من غير جماع.
والحكمة في ذلك: أن حالة الحيض تجعل المرأة غير طبيعية، فلا يجوز للزوج أن يفارقها حتى تطهر، وتعود إلى وضعها الطبيعي.
وكذلك إذا كانت في طهر جامعها فيه، فلعلها حملت منه وهو لا يدري، وربما لو علم بالحمل لغير رأيه . كما في الحالة التي يسأل عنها الأخ السائل.
فالمشروع إذن أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه، أو تكون حاملاً قد استبان حملها فهذا يدل على أنه أقدم على الطلاق بعد اقتناع وبصيرة.
قال الإمام أحمد: طلاق الحامل طلاق سنة، لحديث ابن عمر: " فليطلقها طاهرًا أو حاملاً ".
فإن طلقها في حالة الحيض، أو في طهر مسها فيه، فليس هذا من السنة، وإنما هو طلاق بدعي حرام . كما في الحالة التي يسأل عنها الأخ، فقد طلق امرأته في طهر مسها فيه . ولكن هل يقع الطلاق في هذه الحالة ؟
(1/428)
جمهور العلماء يقولون بوقوعه، وإن كان حرامًا، ويستحبون للزوج أن يراجع زوجته بعد ذلك، وبعضهم يوجب عليه أن يراجعها كما هو مذهب مالك ورواية عن أحمد، لحديث ابن عمر في الصحيحين: أنه طلق امرأته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها.
وظاهر الأمر الوجوب.
وقال طائفة من العلماء: لا يقع لأنه طلاق لم يشرعه الله تعالى ولا أذن فيه فليس من شرعه فكيف يقال بنفوذه وصحته وقد جاء في الحديث الصحيح: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
والموضوع يحتاج إلى تفصيل لا تحتمله هذه الفتوى، فلعلنا نشبعه بحثًا في مناسبة أخرى، وبالله التوفيق.
طلاق السكران
س: كان من نصيبي أن أتزوج برجل يشرب الخمر، وافق أبي على الزواج منه ووافقت أنا الأخرى، دون أن يهمنا السؤال عن دينه وأخلاقه وسلوكه، فقد غرنا منه أنه ذو ثروة ونفوذ، مع أني متعلمة إلى درجة لا باس بها.
والمهم أنني الآن ذات أولاد منه، وهو رغم مضي السنين لا يزال على حاله . وكلما نصحته سبني أو سخر مني، وربما تلفظ بالطلاق غير مبال بما يقول لأن الخمر تكون تلعب برأسه.
وكنت أظن أن ما يصدر عنه من طلاق لا قيمة له، لأنه غائب الوعي بمنزلة المجنون، ولكن بعض الناس قالوا لي أخيرًا: إنك غلطانة وأن طلاقه واقع وإن كان سكران، لأنه ضيع عقله باختياره وإرادته، فعوقب على ذلك بوقوع طلاقه، وبما أن الطلاق تكرر مرات عديدة منه فقد انفصل ما بيني وبينه نهائيًا.
وهذا معناه خراب بيتي وتشتيت شمل أسرتي، والتفريق بيني وبين أولادي، وتركهم مع أب لا يحسن رعايتهم. في هذه القضية ؟ وهل هذا الذي قالوه هو حكم الشرع القاطع في ذلك أم ماذا ترون ؟.
جـ: هناك اتجاهان في الفقه الإسلامي من قديم:
(1/429)
الأول: يميل إلى التوسع في إيقاع الطلاق، حتى وجد من يقول بإيقاع طلاق المعتوه، ومن يوقع طلاق المكره، والمخطيء والناسي والهازل، والغضبان أيا كان غضبه، وحتى قال بعضهم من طلق امرأته في نفسه طلقت عليه وإن لم يتلفظ بكلمة الطلاق، فلا عجب أن يوجد من يقول بوقوع طلاق السكران، مادام سكره باختياره.
الثاني: يميل إلى التضييق في إيقاع الطلاق . فلا يقع الطلاق إلا مع تمام الوعي به والقصد إليه مع شروط أخرى.
ومن أصحاب هذا الاتجاه من المتقدمين الإمام البخاري صاحب الصحيح فقد عقد بابًا في جامعه، ترجمه بقوله: باب الطلاق في الإغلاق (الظاهر من صنيع البخاري أنه يريد بالإغلاق الغضب، ولهذا عطف المكره عليه، فهو غير الإكراه) والمكره (الإكراه) والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره . . (علق الحافظ في الفتح على هذه الترجمة بقوله: اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر) ومراده: أن الطلاق لا يقع في هذه المواطن كلها . لأن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر . وذكر لذلك أدلة منها:
1 - حديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى " وغير العاقل المختار - كالمجنون والسكران وأشباههما - لانية له فيما يقول أو يفعل . وكذلك الغالط والناسي، والذي يكره على الشيء . (كما قال الحافظ).
(1/430)
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة على فعله وقوله - حينما سكر - فعقر بعيري ابن أخيه علي . فلما لامه النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ وهي كلمة لو قالها صاحيًا لأفضت به إلى الكفر . ولكن عرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، فلم يصنع به شيئًا . فدل هذا على أن السكران لا يؤاخذ بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره. (اعترض بعضهم على هذا الاستدلال، بأن الخمر كانت حينئذ مباحة، قال: فبذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحالة.
قال الحافظ بن حجر: وفيما قال نظر، فإن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحًا أولاً . ا هـ).
3 - ما جاء عن عثمان أنه قال: " ليس لمجنون ولا لسكران طلاق " . رواه البخاري معلقًا . وهو تأييد لما جاء في قصة حمزة.
ووصله ابن أبي شيبة عن الزهري قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران . فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا: أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته . حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: ليس على المجنون ولا على السكران طلاق . فقال عمر: تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان ؟ فجلده ورد إليه امرأته.
4 - ما رواه البخاري معلقًا عن ابن عباس: " أن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز " أي بواقع إذ لا عقل للسكران ولا اختيار للمستكره، قال ابن حجر ووصله عنه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بلفظ: " ليس لسكران ولا مضطهد طلاق " والمضطهد: المغلوب المقهور.
5 - ما جاء عن ابن عباس أيضًا أنه قال: " الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله . والوطر الحاجة . أي عن غرض من المطلق في وقوعه . السكران لا وطر له، لأنه يهذي بما لا يعرف.
(1/431)
6 - ما جاء عن علي: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه " والمعتوه: الناقص العقل، فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران، قال الحافظ: والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه.
هذا ما استدل به الإمام البخاري لعدم وقوع طلاق السكران، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة السلف . منهم أبو الشعثاء وعطاء وطاووس، وعكرمة، والقاسم، وعمر بن عبد العزيز ذكره عنهم ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني واختاره الطحاوي، واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع . قال: والسكران معتوه بسكره . (نقل ذلك الحافظ في الفتح جـ11، ص 308 ط. الحلبي).
وهذا القول هو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرًا فقد روى عنه عبد الملك الميموني قوله: قد كنت أقول: إن طلاق السكران يجوز (أي يقع) حتى تبينته، فغلب على أن لا يجوز طلاقه، لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه . قال وألزمه الجناية، وما كان غير ذلك فلا يلزمه. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان - لابن القيم، ص 17).
قال ابن القيم: هو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي (من الحنفية) وإمام الحرمين (من الشافعية) وشيخ الإسلام ابن تيمية (من الحنابلة) وأحد قولي الشافعي. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان - لابن القيم، ص 17).
وقال بوقوع طلاق السكران طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وعن الشافعي قولان، المصحح منهما وقوعه . وقال ابن الرابط: إذا تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه، وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة ألا يعلم ما يقول. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209).
قال ابن حجر: وهذا التفضيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209). . ا هـ وفيه نظر سنذكره.
واستدل من قال بوقوع طلاق السكران وصحة تصرفاته عمومًا بجملة أمور أهمها مأخذان:
(1/432)
الأول: إن هذا عقوبة له على ما جناه باختياره وإرادته.
وضعف ابن تيمية هذا المأخذ.
( أ ) بأن الشريعة لم تعاقب أحدًا بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه.
( ب ) ولأن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها - كالأولاد إن كان له منها أولاد - ما لا يجوز أن يعاقب الشخص بذنب غيره.
(جـ) ولأن السكران عقوبته ما جاءت به الشريعة من الجلد وغيره، فعقوبته بغير ذلك تغيير لحدود الشريعة. (فتاوى ابن تيمية، جـ 2 ص 124، ط. مطبعة كردستان . القاهرة).
الثاني: أن حكم التكليف جار عليه، وليس كالمجنون أو النائم الذي رفع عنهما القلم، وعبر عن ذلك بعضهم بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك ولا الإثم، لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه.
وأجاب عن ذلك الطحاوي من أئمة الحنفية بأن أحكام فاقد العقل لا يختلف بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره . إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه . كمن كسر رجل نفسه، فإنه يسقط عنه فرض القيام. (فتح الباري، جـ 11، ص 209).
يعني أنه يكون آثمًا بإضراره نفسه، ولكن هذا لا ينفي الأحكام المترتبة على عجزه الواقع بالفعل، ومثل ذلك لو شرب شيئًا أدى إلى جنونه، فإنه يكون آثما بشربه في ساعة وعيه، ولكن لا يمنع من ترتب أحكام الجنون عليه.
وكذلك قال الإمام ابن قدامة الحنبلي: لو ضربت امرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة، ولو ضرب رأسه فجن سقط التكليف. (انظر المغني، جـ 7، ص 113، مطبعة الإمام).
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم صحة تصرفات السكران - ومنها وقوع طلاقه - بوجوه:
أحدها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باستنكاه ماعز بن مالك، حين أقر عنده بالزنى، ومعنى استنكاهه: شم رائحة فمه، ليعلم هل به سكر أم لا . ومقتضى هذا أنه لو كان به سكر، لم يعتبر إقراره.
(1/433)
الثاني: أن عبادته كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع فقد قال تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) وكل من بطلت عبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده وتصرفاته أولى وأحرى . إذ قد تصح عبادة من لا يصح تصرفه لنقص عقله كالصبي والمحجور عليه لسفه. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 - 126).
الثالث: أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل، ليس لكلامه في الشرع اعتبار أصلاً.
وهذا معلوم بالعقل مع تقرير الشارع له.
الرابع: أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصد، كما في الحديث: " إنما الأعمال بالنيات . . . . " فكل لفظ صدر بغير قصد من المتكلم، لسهو وسبق لسان أو عدم عقل، فإنه لا يترتب عليه حكم. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 - 126).
وإذا أضيفت هذه الأدلة إلى ما نقلناه من قبل عن الإمام البخاري تبين لنا بوضوح أن المذهب الصحيح الذي يشهد له القرآن والسنة وقول اثنين من الصحابة لا يعرف لهما مخالف من وجه صحيح - عثمان وابن عباس - وتؤيده أصول الشرع وقواعده الكلية: أن طلاق السكران لا يقع، لأن العلم والتمييز والقصد معدوم فيه.
بقى هنا شيء أختم به هذه الفتوى، وهو حقيقة السكر ما هي، فقد أفهم ما حكاه الحافظ عن ابن المرابط: أن السكران من زال عقله، وعدم تمييزه بالكلية، وليس ذلك بلازم عند الأكثرين كما قال ابن القيم . بل قد قال الإمام أحمد وغيره: إنه هو الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره، وفعله من فعل غيره.
قال ابن القيم: والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستنكه من أقر بالزنى، مع أنه حاضر العقل والذهن، يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم، صحيح الحركة . ومع هذا فجوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه. (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم، ص 31).
(1/434)
بعد هذا كله نطمئن الأخت المسلمة السائلة إلى أن ما صدر عن زوجها من طلاق في حال سكره ونشوته غير معتبر في نظر الشرع، سائلين الله أن يتوب على الزوج العاصي، وأن يعين الزوجة المؤمنة في محنتها . وأن يوفق أولي الأمر في بلاد الإسلام لمنع أم الخبائث ومعاقبة من شربها أو أعان عليها بوجه من الوجوه ومنه العون وبه التوفيق.
الطلاق في حالة الغضب
س: أنا رجل عصبي حاد المزاج، سريع الغضب، ولا حيلة لي في ذلك، فهذا أمر وراثي كما تعلم . وحدتي هذه تسبب لي مشكلات كثيرة، وخاصة في حياتي العائلية . فقد تغضبني زوجتي بكلمة أو تصرف، يؤدي إلى شجار، تكون نتيجته الطلاق . في حين أني لا أريد الطلاق ولا أفكر فيه، إن لم يكن ذلك من أجل زوجتي فمن أجل أولادي منها . ولكن في ساعة الغضب أذهل عن كل شيء، وأقول ما لم يكن في نيتي، وأتصرف تصرفات، قد يصفها بعض الناس بأنها جنونية . وقاتل الله سورة الغضب، فإنها هي السبب.
وقد حدث مني الطلاق مرتين على هذه الصورة، فأفتاني بعض أهل العلم بوقوع الطلاق في المرتين، ومراجعة الزوجة، وقد كان.
ومنذ أيام قامت مشادة بيننا مرة أخرى، انتهت بالطلاق أيضًا، وقيل لي في هذه المرة: أنها لا تحل لي إلا بمحلل، فهي الطلقة الثالثة . . . مع أنني حين تلفظت بالطلاق كنت أشبه بالمحموم من شدة الغضب، وكنت مستعدًا لأي شيء في تلك اللحظات، ولكن لما برد الغضب ندمت أشد الندم، فهل عندكم حل لمشكلتي هذه غير " المحلل " الذي ذكر لي ؟ وهل يسمح الشرع أن تُهد الحياة الزوجية وتتمزق أسرة كاملة، بكلمة عابرة تصدر من إنسان في حالة غير متزنة وبدون نية ولا ترتيب سابق ؟.
وأضيف إلى ما سبق أن قومًا من مخالطينا لهم أغراض سوء، أبلغوني عن امرأتي ما أثارني وأوغر صدري عليها، وأشعل هذه المشادة الأخيرة، ثم تبين لي سوء نيتهم، وبراءة امرأتي مما قالوه . ولو عرفت ذلك أولاً لما حدث ما حدث . . . ولكن هذا قدر الله.
(1/435)
أرجو أن أجد عندكم مخرجًا من هذه الورطة . والله يحفظكم.
جـ: 1 - أما زواج " المحلل " الذي ذكره من ذكره للأخ السائل فهو حرام، ولا يجوز فعله، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله المحلل والمحلل له " (قال الترمذي: حديث صحيح) وفي حديث آخر أنه سماه " التيس المستعار ".
وقد اتفق على تحريمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعوهم بإحسان . صح ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم، حتى قال عمر: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما !.
وقال عثمان، لا نكاح إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة.
وقال ابن عباس: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله من قبله أنه يريد أن يحلها له.
وقال بعضهم: كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحًا . ومن هنا لا يجوز لمسلم أن يلجأ إلى هذا الاحتيال الباطل على شرع الله . ليحل ما حرم الله.
2 - وأما الطلاق في حالة الغضب، فقد اختلف الفقهاء في حكمه، وفقًا لاتجاهاتهم في التوسيع أو التضييق في إيقاع الطلاق.
وإذا كان الأمر خلافيًا وجب علينا أن ننظر في أدلة الفريقين، لنختار أرجحها وأقربها إلى تحقيق مقاصد الشريعة.
3 - وقبل أن نبين الرأي المختار في طلاق الغضبان، يلزمنا أن نبين الغضب المختلف فيه بين المضيقين والموسعين، يقول العلامة ابن القيم:
الغضب ثلاثة أقسام:
أحدهما:
أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله، بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول ويقصده . فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره.
القسم الثاني:
(1/436)
أن يبلغ الغضب نهايته، بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة فلا يعلم ما يقول، ولا يريده . فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه، كما تقدم . والغضب غول العقل، فإذا اغتال الغضب عقله، حتى لم يعلم ما يقول، فلا ريب أنه لا ينفذ شيئًا من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال المكلف إنما تنفذ مع علم القائل بصدورها منه، ومعناها، وإرادته للتكلم بها.
فالأول: يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران، وهذا الغضبان.
والثاني: يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه البتة، فإنه لا يلزم مقتضاه.
والثالث: يخرج من تكلم به مكرهًا، وإن كان عالمًا بمعناه.
القسم الثالث:
من توسط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون - فهذا موضع الخلاف ومحل النظر . والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده، التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من " الإغلاق " كما فسره به الأئمة. (إغاثة اللهفان ص 14).
1 - فالمضيقون في إيقاع الطلاق - ومنه طلاق الغضبان - يستندون إلى عدة أدلة.
( أ ) ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ". (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه على شرط مسلم.
وقد أخرجه الحاكم من طريقين عن عائشة وقال: صحيح على شرط مسلم . ورده الذهبي بأن فيه من إحدى طريقيه: محمد بن عبيد بن أبي صالح لم يحتج به مسلم، وضعفه أبو حاتم: ومن الأخرى نعيم بن حماد، صاحب مناكير . ا هـ.
أقول: أما محمد بن عبيد فقد ذكره ابن حبان في الثقات كما في التهذيب - فليس مجمعًا على تضعيفه، وبخاصة أن أبا حاتم لم يبين سبب ضعفه.
(1/437)
وأما نعيم بن حماد الخزاعي فقد أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وهو من الرجال الذين انتقدوا على البخاري، وقال الحافظ في مقدمة الفتح عنه: " مشهور من الحفاظ الكبار، لقيه البخاري، ولكنه لم يخرج عنه في الصحيح سوى موضع أو موضعين، وعلق له أشياء أخر . وروى له مسلم في المقدمة موضعًا واحدًا، وأصحاب السنن إلا النسائي . وكان أحمد يوثقه، وقال ابن معين: كان من أهل الصدق إلا أنه يتوهم الشيء فيخطيء فيه . وقال العجلي: ثقة وقال أبو حاتم: صدوق . وقال النسائي: ضعيف ونسبه أبو بشر الدولابي إلى الوضع . وتعقب ذلك ابن عدي بأن الدولابي كان متعصبًا عليه، لأنه كان شديدًا على أهل الرأي، وهذا هو الصواب، والله أعلم " ا هـ من هدى الساري جـ 2، ص 217 . وأخرجه البيهقي في السنن (جـ 7: 357) من طريق ثالثة عن عائشة، على خلاف ما ذكر ابن حجر في التلخيص.
وبهذا يظهر أن الحديث بطرقه لا ينزل عن درجة الصحة التي ادعاها الحاكم، وأقره عليها ابن القيم وغيره، فإن نزل عنها فليس إلى أقل من درجة الحسن المحتج به، وقد سكت عليه أبو داود، واحتج به البيهقي لمذهب الشافعي: أن طلاق المكره لا يقع على أساس تفسير الإغلاق بالإكراه وهو لا ينافي تفسيره بالغضب) . رواية أبي داود " في غلاق "، قال: أظنه الغضب.
وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: هو الغضب وقال بعض أهل اللغة: الإغلاق وجهان، أحدهما، الإكراه، والآخر: ما دخل عليه مما ينغلق به رأيه عليه.
وهذا مقتضى تبويب البخاري فإنه قال في صحيحه: باب الطلاق في الإغلاق (الغضب) والكره (أي الإكراه)، والسكران والمجنون، ففرق بين الطلاق في الإغلاق وبين هذه الوجوه، مما يشير إلى أن الإغلاق عنده يعني الغضب.
قال الإمام ابن القيم: وهو قول غير واحد من أئمة اللغة.
( ب ) قال الله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم). (البقرة: 225).
(1/438)
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال عن أجل أصحاب ابن عباس وهو طاووس قوله: " كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه " . واستدل بالآية.
قال ابن القيم:
وهذا أحد الأقوال في مذهب مالك: أن لغو اليمين في الغضب، وهذا اختيار أجل المالكية وأفضلهم على الإطلاق، وهو القاضي إسماعيل بن إسحاق . فإنه ذهب إلى أن الغضبان لا تنعقد يمينه . ا هـ.
(جـ) ما حكاه القرآن من قصة موسى، لما رجع إلى قومه عضبان أسفًا، (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه، يجره إليه . . .) (سورة الأعراف: 150) . الآية.
ووجه الاستدلال بالآية: أن موسى لم يكن ليلقى إلى الأرض ألواحًا كتبها الله كما أنه قسا على أخيه وهو نبي رسول مثله وإنما حمله على ذلك الغضب، فعذره الله تعالى به، ولم يعتب عليه بما فعل، إذ كان مصدره الغضب الخارج عن سلطان قدرته واختياره.
( د ) يوضح ذلك الآية الكريمة الأخرى في نفس السورة (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح) (الأعراف: 154) . فعبر بـ " سكت " تنزيلاً للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي، الذي يقول لصاحبه: افعل أو لا تفعل، فهو مستجيب لداعي الغضب المسلط عليه، فهو أولى بأن يعذر من المكره.
(هـ) قال تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم) (يونس: 11) . جاء عن مجاهد في تفسير الآية: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: " اللهم لا تبارك فيه والعنه " فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم . قال ابن القيم: فانتهض الغضب مانعًا من انعقاد سبب الدعاء، الذي تأثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها، لأن الغضبان لم يقصده بقلبه.
(1/439)
( و ) إن الغضب يحول بين الإنسان وبين سلامة التفكير، وصحة الإدراك ويشوش عليه معرفة الأمور، وحكمه على الأشياء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح " لا يقضي القاضي وهو غضبان " . والطلاق حكم من الرجل يصدره على المرأة فلا يجوز أن يصدر منه وهو غضبان وإذا صدر ينبغي أن يلغي اعتباره حماية للمرأة وللأسرة.
( ز ) إن معظم الأدلة التي اعتمدنا عليها في عدم إيقاع طلاق السكران، تنطبق على حالة الغضبان، بل قد يكون الأخير أسوأ حالاً من الأول، لأن السكران لا يقتل نفسه، ولا يلقي ولده من علو، والغضبان قد يفعل ذلك.
إن قاعدة الشريعة: أن العوارض النفسية لها تأثير في القول إهدارًا واعتبارًا وإعمالاً وإلغاء . وهذا كعارض النسيان والخطأ والإكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول . ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره، ويعذر بما لا يعذر به غيره، لعدم تجرد القصد والإرادة، ووجود الحامل على القول.
ولهذا كان الصحابة يسأل أحدهم الناذر: أفي رضا قلت أم غضب ؟ فإن كان في غضب، أمره بكفارة يمين، لأنهم استدلوا بالغضب على أن مقصوده الحض والمنع كالحلف، لا التقرب .. وجعل الله سبحانه الغضب مانعًا من إصابة الداعي على نفسه وأهله .. وجعل سبحانه الإكراه مانعًا من كفر المتكلم بكلمة الكفر .. وجعل الخطأ والنسيان مانعًا من المؤاخذة بالقول والفعل.
وعارض الغضب قد يكون أقوى من هذه العوارض، فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد، فالغضبان الذي لم يقصد ذلك إن لم يكن أولى بالعذر منهم، لم يكن دونهم.
وإذا كنا قد رجحنا عدم وقوع الطلاق في حالة الغضب، لما ذكرنا من الشواهد والأدلة، فمن الواجب أن نعرف المقياس الذي نحدد به حالة الغضب التي لا يقع فيها الطلاق، من الحالات الأخرى . لأن ترك مثل هذا الأمر بلا ضوابط يؤدي إلى البلبلة والاضطراب.
(1/440)
وقد رأينا الإمام ابن القيم - ومن قبله شيخ الإسلام ابن تيمية - يميلان إلى جعل المقياس هو انعدام القصد والعلم . فمن فقد قصده إلى الطلاق وعلمه بما يقول فهو في حالة الإغلاق الذي لا يقع به الطلاق.
ولكن علامة الحنفية الشيخ ابن عابدين في حاشيته المشهورة على " الدر المختار " بعد أن نقل كلام ابن القيم في تقسيم أحوال الغضب إلى ثلاثة، كما ذكره في رسالته في حكم طلاق الغضبان، ملخصًا من شرح الغاية في الفقه الحنبلي، " استظهر أنه لا يلزم في عدم وقوع طلاق الغضبان - وكذا المدهوش ونحوهما - أن يكون بحيث لا يعلم ما يقوله، بل يكتفي بغلبة الهذيان، وغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، واختلاط جده بهزله، فهذا هو مناط الحكم، الذي ينبغي التعويل عليه . فمادام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال، لا تعتبر أقواله، وإن كان يعلمها ويريدها، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح . كما لا يعتبر من الصبي العاقل ". (حاشية ابن عابدين، جـ 2، ص 587، ص. استانبول) . ا هـ.
وعندي أن ما ذكره ابن عابدين مقياس دقيق وضابط سليم . فالغضب المعتبر هو الذي يفقد الإنسان اتزانه في الكلام والتصرف، بحيث يقول ويفعل ما ليس من شأنه ولا من عادته في حال الهدوء والرضا.
ولنا أن نضيف علامة أخرى . نميز بها الغضب المستحكم من غيره، وقد نبه عليها ابن القيم في " الزاد " وهي أن يندم على ما فرط منه إذا زال الغضب، فندمه بمجرد زوال الغضب يدل على أنه لم يكن يقصد إلى الطلاق.
والله أعلم.
زواج المحلل
(1/441)
س: سيدة متزوجة وعندها أربعة أولاد: تحب زوجها، ولكنه - لأمر ما - اختلف معها، فوقع الطلاق الثالث والأخير . . . وأراد الزوجان المطلقان أن يعودا إلى الحياة الزوجية معًا، فذهبت السيدة (ف) إلى الأستاذ (س) ليعقد عليها زواج المحلل لمدة أسبوع، ليتسنى لها أن تعود إلى زوجها وأولادها بزواج جديد . . . ويتساءل سيادته ما قيمة هذا الزواج وهل هو مقبول شرعا ؟.
س - القاهرة
جـ: إن الإسلام الحنيف ربط عقدة الزواج على أوثق الأواصر، وأقام الحياة الزوجية على أثبت دعائم الاستقرار وأوفر أسباب الكرامة، وجعل للدخول فيه مقدمات وأركانًا وشروطًا توحي بما له عند الله تعالى من أصالة وشأن خطير، وجعل للخروج منه كذلك مقدمات ومراحل وشروطًا أحاطها بما يجنب حياة الزوجين عوارض الحمق والغضب ونزوات من لا يقدرون مسئوليات الحياة، ولذا قال عليه السلام: " أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق " . ويقول عليه السلام " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة " والريبة هنا معناها سوء الخلق الذي بلغ من الشذوذ حدًا لا علاج له ولا طاقة بالصبر عليه.
ولا نطيل بما ورد من التنفير من الطلاق، والترغيب في أن يمسك الزوج زوجته، ولو على كره (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا) . ونمضي لنذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخذ منه المحققون أن طلاق الغضبان لا يقع وهو قوله عليه السلام: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق "، والإغلاق كل حالة تستغلق فيها على المرء مقاصده فيأتي من الأعمال ما لا يقصده وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن قال: " إنما الطلاق عن وطر " والوطر كل مأرب تتعلق به همة المرء، فيسعى إليه ويحتال لتحقيقه بكل ما وسعته الحيلة.
(1/442)
وفي ضوء هذه المعاني النبوية الجليلة تتبين أنه لا قيمة لأي طلاق يوقعه صاحبه عند بادرة غضب أو عبارة خلاف، مادامت همته لم تتعلق به من قبل، ولم تكن له فيه نية مبيتة ووطر يرتب له الأمور في أناة، وتوضع المقدمات لإدراكه.
ونقول للسيد (س) في هذا المقام: إنه إذا كان ما وقع بين الزوجين هو غضب أدى إلى الطلاق، فالطلاق لم يقع، والزوجة حل لزوجها، ولا معنى للتفكير في الوسائل المحرمة احتيالاً لاستئناف الحياة الزوجية، لأن الحياة الزوجية لم تنقطع ولم تتوقف حتى تحتاج إلى استئناف . . . وكذلك كل طلاق وقع بين الزوجين من قبل من هذا القبيل.
فإذا كانت المرتان السابقتان على هذه المرة من هذا القبيل، فلا اعتداد بهما، ولا طلاق بين الزوجين.
أما إذا كان ما وقع بين الزوجين هو من قبيل: إن كلمت فلانًا، أو إن دخلت بيت فلانة، أو إن خرجت من المنزل، أو إن فعلت كذا فأنت طالق ثم كلمته، أو دخلت بيتها، أو خرجت من المنزل أو فعلت ما نهاها عنه، فإن الطلاق لا يقع . . . وإذا حلف بالطلاق فيمينه غير منعقدة، لا يقع بها طلاق ما.
ومن المؤسف أن أكثر ما يقع بين الزوجين من الطلاق هو من هذا القبيل الذي لا يؤثر في عقد الزواج بأي فساد، ومع أننا لا نعرف الظروف التي وقع فيها الطلاق المزعوم نميل إلى أنه طلاق من هذا الذي نرى شرعًا أنه لا يقع.
ومع ذلك نسأل الزوج أو الزوجين: هل وقع الطلاق وهي حائض ؟ أو هل وقع في طهر جامعها فيه . فإذا كان الزوج أوقع طلاقه وهي حائض فهو طلاق بدعة، وإذا كان وقع في طهر جامعها فيه، فهو كذلك طلاق بدعة، وطلاق البدعة لم يشرعه الإسلام وكثير من الأئمة لا يوقعونه ولا يعتدون به.
(1/443)
ونوصي الزوجين أن ينظرا في طلاقهما المزعوم هذه المرة والمرتين السابقتين، هل وقع عن وطر في كل مرة ؟ أي من رغبة ودراسة، ومحاولات للإصلاح انتهت بالفشل ووجوب الفراق . . . وهل وقع الطلاق بعد تقريره ودراسته - طلاق بدعة أو طلاق سنة ؟ . . . لننظر إلى طلاقها على ضوء ذلك كله، فإن كان الطلاق سنة وعن وطر وفي كل مرة فالزوجة بائنة بينونة كبرى لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجًا غيره، أما المحلل المنشود فهو حرام، وهو زنا، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، والرجل الذي يقبل أن يمثل دور الزوج الوهمي في مهزلة المحلل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم التيس المستعار . . . فلا يحل للسيد (س) ولا لغيره أن يقدم على ذلك الإثم الحقير.
أما إذا كانا ما يزعمانه من طلاق قد وقع بعضه بدعيًا وبعضه سنيًا، فإن السني وحده هو الذي وقع، ولا اعتبار لسواه.
ومع ذلك كله فإن في السؤال غموضًا كثيفًا يجعلنا في حيرة من الفتوى إلا ما هو مختص منها بحرمة المحلل، فإن الله تعالى يقول: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) ولم يقل حتى تنكح رجلاً غيره، فسماه زوجًا تسمية صريحة، والرجل لا يكون زوجًا إلا إذا كان له نية الزواج الشرعي المنعقدة على الاستمرار، وتحقيق ما امتن به سبحانه . بقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها) (الروم: 21) ومن ذلك تفكيره في المهر واجتهاده في إعداد بيت الزوجية إلى آخر ما هو معلوم عن كل زواج حقيقي تعلق به القصد والهمة . . . ومما لا شك فيه أن السيد (س) لا يفكر لعملية المحلل المطلوبة في أي شيء مما ذكر، لأنه لا يفكر إلا أن ذلك وسيلة لتحليل المرأة لزوجها الأول، وقد تبين ما فيه من مجافاة لأحكام الحلال في دين الله.
التسمية بـ " عبد المسيح "
(1/444)
س: نعرض عليك هذه المسألة راجين الجواب عنها عندنا امرأة مسلمة، وزوجها مسلم، تحمل وتضع طفلها بسلام، ولكن بعد الولادة بقليل يموت الطفل . فقال لها بعض الناس: سميه " عبد المسيح " ليعيش فهل يجوز التسمية بهذا الاسم الذي ليس من أسماء المسلمين ؟.
وهل توجد علاقة بين اسم المولود وبين حياته أو موته ؟.
أفيدونا مشكورين.
جـ: هذه التسمية حرام، حرام، حرام . أعني أن حرمتها مضاعفة، حيث أن تحريمها لا يأتي من جهة واحدة، بل من جهات ثلاث:
الأولى: أن كل اسم معبد لغير الله تحرم التسمية به بإجماع المسلمين . سواء كان هذا المضاف إليه نبيًا أم صحابيًا أو وليًا من الصالحين أم غير ذلك . فلا يجوز أن يسمي المسلم: عبد النبي أو عبد الرسول أو عبد الحسين أو عبد الكعبة أو غيرها . قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى، وعبد هبل، وعبد عمر، وعبد الكعبة، حاشا عبد المطلب.
الثانية: أن هذا الاسم خاصة من الأسماء التي يتميز بها غير المسلمين، والتي ينبيء مجرد ذكرها عن الهوية الدينية لصاحبها . فهو اسم نصراني صرف، والتسمي به من خصائص النصارى وسماتهم الدينية المميزة . ولهذا كان التشبه بهم في ذلك داخلاً في دائرة الحديث القائل: " من تشبه بقوم فهو منهم " والمراد: التشبه بهم فيما هو من سماتهم الدينية خاصة.
الثالثة: أن التسمية بهذا الاسم للسبب المذكور في السؤال، وبهذا الدافع بالذات، ضرب من الشرك الذي يحاربه الإسلام . وذلك لما فيه من اعتماد على غير الله تعالى، وعلى غير الأسباب والسنن الكونية التي وضعها وأقام عليها نظام هذا الوجود، فشأن هذه التسمية شأن تعليق الودع، ونحو ذلك مما عده النبي صلى الله عليه وسلم شركًا، وحذر منه أشد التحذير.
(1/445)
ولا يوجد - في نظر الدين ولا العقل ولا العلم - علاقة بين اسم المولود وبين حياته أو موته . وواجب على هذه المرأة وزوجها وكل من يلي أمرها أن يحترموا القوانين الكونية . ويأخذوا بالأسباب المشروعة، ويعرضوها على المختصين من الأطباء، ويتوكلوا بعد ذلك على الله سبحانه ضارعين أن يعافيها الله ويحفظ ولدها.
أما اللجوء إلى التسمية بأسماء غير المسلمين، أو الذهاب إلى الكنيسة أو معبد لغير المسلمين أو " تعميد " الطفل بعد ولادته، كما قد يغرر ببعض العوام في القرى، فكل هذا من الشرك الذي يجر من فعله إلى الخروج من الإسلام، إذا هو أصر عليه، بعد التنبيه والتذكير.
وواجب العلماء أن ينبهوا العامة ويعلموهم ما جهلوا حتى لا يقعوا في شرك المضللين والدجالين.
حق الزوجة في النفقة الملائمة لحالها وحال زوجها
س: أنا زوجة لرجل موسر، له عقارات ورصيد في البنوك، ولكنه مريض بالبخل، لا تخرج النقود من يده إلا بعد معاناة وجهد . وقد انعكس هذا على حياتي، فلا يعطيني لنفقة البيت إلا النزر اليسير، الذي لا يلائم حال رجل في مثل مركزه . ولهذا أرى بيوت كثير من الناس المحدودي الدخل خيرًا من بيتي، وأرى نساءهم أحسن مظهرًا مني: في الملابس والحلي وسائر ما تحتاج إليه المرأة في عصرنا . وأرى أولادهم أيضًا خيرًا من أولادي.
فهل يجيز الشرع لهذا الزوج أن يضيق علينا وقد وسع الله عليه، وآتاه من فضله الشيء الكثير؟
وماذا تصنع الزوجة إذا قتر عليها زوجها في النفقة، أترفع أمرها إلى المحكمة، وفي ذلك ما فيه من فضيحة اجتماعية، قد تهدم الحياة الزوجية من الأساس ؟ أم تأخذ من مال الزوج - إن استطاعت - بدون إذنه ولا علمه ؟ وهل تعد آثمة في هذه الحال لأنها أخذت مالاً بغير إذن مالكه ؟ وما الحل إذن ؟ . أفتونا مأجورين
زوجة مسلمة
(1/446)
جـ: مما يؤسف له أن نجد كثيرًا من الأزواج في هذه القضية على طرفي نقيض . فينما نجد فريقًا يرخي العنان للزوجة، تبذر وتبعثر، وتنفق على نفسها كيف تشاء فيما ينفع وما لا ينفع، وما لا يحتاج إليه . المهم أن تشبع غرورها وترضي طموحها، في السباق المجنون على أحدث الأزياء، وأطرف ما ابتدعته أوروبا وأمريكا دون نظر إلى مصلحة عائلية أو وطنية أو قومية . ولا اعتبار لما يخبئه الغد من مفاجآت . . تجد مقابل هذا الفريق فريقًا آخر يقتر على الزوجة، ويضيق عليها الخناق، فلا يعطيها ما يكفيها، ويشبع حاجتها المعقولة بالمعروف.
مع أن الله تعالى أوجب في كتابه التوسط بين الإسراف والتقتير في الإنفاق، فقال سبحانه: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملومًا محسورًا) ووصف عباد الرحمن بقوله: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا).
ولم يحدد الشرع في النفقة على المرأة مقدارًا معينًا من الدراهم أو غيرها . بل الواجب هو تلبية حاجتها بالمعروف . والحاجة تختلف من عصر لآخر، ومن بيئة لأخرى، ومن وسط لآخر، ومن رجل لآخر . فالمدنية غير الريفية، والحضرية غير البدوية، والمثقفة غير الأمية، والناشئة في بحبوحة النعيم غير الناشئة في خشونة الشظف، وزوجة الثري غير زوجة المتوسط غير زوجة الفقير . وقد أشار القرآن إلى شيء من ذلك . فقال: (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها). (الطلاق: 7).
وفي متعة المطلقة نبه على هذا المعنى فقال: ( متعوهن على الموسر قدره وعلى المقتر قدره، متاعًا بالمعروف، حقًا على المحسنين). (البقرة: 236).
(1/447)
وما أجمل ما ذكر الإمام الغزالي في " الإحياء " من آداب النكاح عن الاعتدال في النفقة حيث قال: فلا ينبغي أن يقتر عليهن في الإنفاق، ولا ينبغي أن يسرف، بل يقتصد قال تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) (الأعراف: 31) .. وقال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) (الإسراء: 29) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيركم خيركم لأهله " (أخرجه الترمذي من حديث عائشة وصححه) وقال صلى الله عليه وسلم: " دينار أنفقته في سبيل الله (أي في الجهاد) ودينار أنفقته في رقبة (أي في العتق) ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك " (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة) وقيل: كان لعلي أربع نسوة، فكان يشتري لكل واحدة في كل أربعة أيام لحمًا بدرهم.
وقال ابن سيرين: يستحب للرجل أن يعمل لأهله في كل جمعة فالوذجة (نوعا من الحلوى) قال الغزالي: وكأن الحلاوة وإن لم تكن من المهمات ولكن تركها بالكلية تقتير في العادة.
ولا ينبغي أن يستأثر عن أهله بمأكول طيب، فلا يطعمهم منه، فإن ذلك مما يوغر الصدور، ويبعد عن المعاشرة بالمعروف، فإن كان مزمعًا على ذلك، فليأكل بخفية، بحيث لا يعرف أهله ولا ينبغي أن يصف عندهم طعامًا ليس يريد إطعامهم إياه . وإذا أكل فيقعد العيال كلهم على مائدته . . (إحياء علوم الدين، جـ 2، ص 47، ط. دار المعرفة - بيروت). . إلخ ".
ولكن ما الذي يفرضه الشرع للزوجة من النفقة ومطالب المعيشة ؟.
لنسمع ما يقوله في ذلك الفقه المستند إلى الكتاب والسنة . ..
قال شيخ الإسلام ابن قدامة الحنبلي في كتابه " الكافي ":
(1/448)
(يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " (متفق عليه) ولأن الله قال: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (البقرة: 233) والمعروف: قدر الكفاية، لأنها واجبة لدفع الحاجة . فتقدرت بالكفاية كنفقة المملوك فإذا ثبت أنها غير مقدرة، فإنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم (أي القاضي) فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز والأدم.
ويجب لها في القوت الخبز، لأنه المقتات في العادة.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون به أهليكم) (المائدة: 89) الخبز والزيت . وعن ابن عمر: الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر . ومن أفضل ما تطعمهم: الخبز واللحم.
ويجب لها من الأدم بقدر ما تحتاج إليه من أدم البلد: من الزيت والسيرج والسمن واللبن واللحم، وسائر ما يؤتدم به، لأن ذلك من النفقة بالمعروف، وقد أمر الله تعالى ورسوله به.
ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره، لقوله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (الطلاق: 7) وتعتبر حال المرأة أيضًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فيجب للموسرة تحت الموسر من أرفع خبز البلد وأدمه بما جرت به عادة مثلها ومثله، وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدمه على قدر عادتهما، وللمتوسطة تحت المتوسط.
وإذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا ما بينهما كل على حسب عادته، لأن إيجاب نفقة الموسرين على المعسر، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه.
(1/449)
وتجب الكسوة للآية والخبر، ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فلزمته كالنفقة ويجب للموسرة تحت الموسر من رفيع ما يلبس في البلد من الإبريسم والخز والقطن والكتان وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن والكتان، وللمتوسطة تحت المتوسط، أو إذا كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، ما بينهما على حسب عوائدهم في الملبوس، كما قلنا في النفقة.
ويجب لها مسكن، لأنها لا تستغني عنه للإيواء، والاستتار عن العيون، للتصرف والاستمتاع ويكون ذلك على قدرهن، كما ذكرنا في النفقة.
وإن كانت ممن لا يخدم نفسها، لكونها من ذوات الأقدار، أو مريضة، وجب لها خادم، لقوله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) وإخدامها من العشرة بالمعروف، ولا يجب لها أكثر من خادم، لأن المستحق خدمتها في نفسها، وذلك يحصل بخادم واحد، ولا يجوز أن يخدمها إلا امرأة، أو ذو رحم محرم، أو صغير). (الكافي لابن قدامة، جـ 2، ص 985 وما بعدها) ا هـ.
وقال صاحب " الروضة الندية " في بيان ما يجب للزوجة على الزوج من النفقة:
(هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص، فنفقة زمن الخصب، المعروف فيها غير المعروف في زمن الجدب.
ونفقة أهل البوادي، المعروف فيها ما هو الغالب عندهم، وهو غير المعروف من نفقة أهل المدن.
وكذلك المعروف من نفقة الأغنياء، على اختلاف طبقاتهم، غير المعروف من نفقة الفقراء، والمعروف من نفقة أهل الرياسات والشرف، غير المعروف من نفقة أهل الوضاعات.
فليس المعروف المشار إليه في الحديث، هو شيء متحد، بل مختلف باختلاف الاعتبار) ا هـ.
(1/450)
وذكر الإمام الشوكاني في كتابه " الفتح الرباني " اختلاف المذاهب في تقدير النفقة بمقدار معين، وعدم التقدير . فذهب جماعة من أهل العلم . وهم الجمهور - إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية . وقد اختلفت الرواية عن الفقهاء القائلين بالتقدير فقال الشافعي: على المسكين المتكسب مد، وعلى الموسر مدان وعلى المتوسط مد ونصف . وقال أبو حنيفة: على الموسر سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر، وعلى المعسر أربعة دراهم إلى خمسة . قال بعض أصحابه: هذا التقدير في وقت رخص الطعام.
وأما في غيره فيعتبر بالكفاية . ا هـ.
قال الشوكاني: (والحق ما ذهب إليه القائلون بعدم التقدير، لاختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، فإنه لا ريب أن بعض الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من بعض، وكذلك الأمكنة، فإن بعضها قد يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم مرتين، وفي بعضها ثلاثًا، وفي بعضها أربعًا . وكذلك الأحوال، فإن حالة الجدب تكون مستدعية لمقدار من الطعام أكثر من المقدار الذي تستدعيه حالة الخصب . وكذلك الأشخاص، فإن بعضهم قد يأكل الصاع فما فوقه، وبعضهم قد يأكل نصف صاع، وبعضهم دون ذلك.
وهذا الاختلاف معلوم بالاستقراء التام، ومع العلم بالاختلاف يكون التقدير على طريقة واحدة ظلمًا وحيفًا.
ثم إنه لم يثبت في هذه الشريعة المطهرة التقدير بمقدار معين قط، بل كان صلى الله عليه وسلم يحيل على الكفاية مقيدًا لذلك بالمعروف، كما في حديث عائشة عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وأحمد بن حنبل وغيرهم: " أن هندًا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم . فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
(1/451)
فهذا الحديث الصحيح، فيه الإحالة على الكفاية، مع التقييد بالمعروف، والمراد به الشيء الذي يعرف وهو خلاف الشيء الذي ينكر، وليس هذا المعروف الذي أرشد إليه الحديث شيئًا معينًا ولا المتعارف بين أهل جهة معينة، بل هو في كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها، المتعارف بينهم.
ويعتبر في كل محل بعرف أهله، ولا يحل العدول عنه إلا مع التراضي وكذلك الحاكم، يجب عليه مراعاة المعروف بحسب الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص، مع ملاحظة حال الزوج في اليسار والإعسار، لأن الله تعالى يقول: (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) (البقرة: 236). وإذا تقرر لك أن الحق عدم وجود تقدير الطعام بمقدار معين، فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار معين، بل المعتبر الكفاية بالمعروف.
وقد حكى صاحب البحر، أنه قدر في اليوم أوقيتان دهنًا من الموسر، ومن المعسر أوقية، ومن المتوسط أوقية ونصف). (لروضة الندية شرح الدرر البهية، جـ 2، ص 77).
" وفي شرح الإرشاد أنه يعتبر الإدام تقدير القاضي باجتهاده عند التنازع، فيقدر في المد من الإدام ما يكفيه، ويقدر على الموسر ضعف ذلك، وعلى المتوسط بينهما، ويعتبر في اللحم عادة البلد للموسرين والمتوسطين كغيرهم ".
قال الرافعي: " وقد تغلب الفاكهة في أوقاتها فتجب . . . " (المصدر نفسه).
قال الشوكاني: " المرجع ما هو معروف عند أهل البلد في الإدام جنسًا ونوعًا وقدرًا، وكذلك في الفاكهة لا يحل الإخلال بشيء مما يتعارفون به إن قدر من تجب عليه النفقة من ذلك، وكذلك ما يعتاد من التوسعة في الأعياد ونحوها، ويدخل في ذلك مثل القهوة والسليط . وبالجملة فقد أرشد الشارع إلى ما هو معروف من الكفاية، وليس يعد هذا الكلام الجامع المفيد شيء من البيان ". (المصدر نفسه).
(1/452)
ثم الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " أن ذلك غير مختص بمجرد الطعام والشراب، بل يعم جميع ما يحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات (الكماليات) التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة، بحيث يحصل التعذر بمفارقتها أو التضجر أو التكدر . ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال، ويدخل فيه الأدوية ونحوها، وإليه يشير قوله تعالى: (وعلى المولد له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (البقرة: 233) فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقات إن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه، والرزق يشمل ما ذكرناه.
قال في الانتصار: ومذهب الشافعي، لا تجب أجرة الحمام وثمن الأدوية وأجرة الطبيب، لأن ذلك يراد لحفظ البدن، كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار.
وقال في الغيث: الحجة أن الدواء لحفظ الروح فأشبه النفقة انتهى.
قلت: هو الحق لدخلوه تحت عموم قوله: " ما يكفيك " وتحت قوله: " رزقهن " فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ (ما)، والثانية عامة، لأنها مصدر مضاف، وهي من صيغ العموم واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق انتهى كلام الإمام الشوكاني وقد نقله السيد صديق حسن خان في " الروضة الندية ". (المصدر السابق، جـ 2، ص 78).
وبهذا البيان يتضح للأخت السائلة الجواب عن سؤالها بشقيه، وفي جوابه صلى الله عليه وسلم لهند في موقفها من زوجها أبي سفيان وشحه: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وفيما نقلناه من كلام العلماء حول المراد بـ (الكفاية) و(المعروف) ما ينير الطريق أمام صاحبة الاستفتاء هنا، كيف تتصرف مع زوجها البخيل عليها.
أجل فيما قدمنا من البيان ما يكفي ويشفي . ولله الحمد أولاً وآخرًا.
تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
(1/453)
س: لماذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تسع زوجات في حين حرم على المسلمين الزواج بأكثر من أربع ؟ أرجو إيضاح الحكمة في هذه القضية، فقد علمتم ما يروجه المبشرون والمستشرقون حولها من شبهات وأكاذيب.
جـ: جاء الإسلام والزواج بأكثر من واحدة ليس له ضابط ولا قيد ولا شرط، فللرجل أن يتزوج من النساء ما شاء، وكان ذلك في الأمم قديمًا . حتى يروى في أسفار العهد القديم: أن داود كان له مائة امرأة، وسليمان كان عنده سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية.
فلما جاء الإسلام أبطل الزواج بأكثر من أربعة، وكان الرجل إذا أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " اختر منهن أربعًا وطلق سائرهن " فلا يبقى في ذمته أكثر من أربع نسوة لا يزيد.
والشرط الذي لابد من توفره في التعدد هو العدل بين نسائه، وإلا اقتصر على الواحدة كما قال تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). (النساء: 3).
هذا ما جاء به الإسلام.
ولكن الله عز وجل خص النبي صلى الله عليه وسلم بشيء دون المؤمنين وهو أن أباح له ما عنده من الزوجات اللاتي تزوجهن، ولم يوجب عليه أن يطلقهن ولا أن يستبدل بهن من أزواج يبقين في ذمته، ولا يزيد عليهن، ولا يبدل واحدة بأخرى:
(لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن، إلا ما ملكت يمينك). (الأحزاب: 52).
والسر في ذلك أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لهن مكانة خاصة، وحرمة متميزة فقد اعتبرهن القرآن " أمهات " للمؤمنين جميعًا . وقال تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم).
(1/454)
ومن فروع هذه الأمومة الروحية للمؤمنين أن الله حرم عليهن الزواج بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) ومعنى هذا أن التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم ستظل محرومة طول حياتها من الزواج بغيره، مع حرمانها من الانتساب إلى بيت النبوة . وهذا يعتبر عقوبة لها على ذنب لم تجنه يداها.
ثم لو تصورنا أنه أمر باختيار أربع من نسائه التسع، وتطليق الباقي، لكان اختيار الأربع منهن لأمومة المؤمنين، وحرمت الخمس الأخريات من هذا الشرف، أمرًا في غاية الصعوبة والحرج . فمن من هؤلاء الفضليات يحكم عليها بالإبعاد من الأسرة النبوية، ويسحب منها هذا الشرف الذي اكتسبته ؟
لهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقين جميعًا زوجات له، خصوصية للرسول الكريم . واستثناء من القاعدة (إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
أما الزواج من هؤلاء التسع من الأصل، لماذا كان ؟ فسر ذلك معلوم.
وحكمته لم تعد خافية . فإن هذه الزيجات التي أتمها النبي صلى الله عليه وسلم كلها ليست لأي غرض مما يتقول المتقولون ويروج المستشرقون والمبشرون من إفك وكذب على هذا النبي العظيم . لم تكن الشهوة ولا الناحية الجنسية هي التي دفعت النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج واحدة من هؤلاء . ولو كان عند هذا النبي العظيم ما يقال، وما يفتري الأفاكون الدجالون عليه، لما رأيناه وهو في شرخ شبابه وفي عنفوان حياته ومقتبل عمره يتزوج امرأة تكبره بخمسة عشر عامًا . فقد كان في الخامسة والعشرين وتزوج خديجة في سن الأربعين . وقد تزوجت من قبله مرتين . ولها أولاد من غيره وعاش مع هذه المرأة الكبيرة شبابه كله أسعد ما يكون الأزواج، حتى سمى العام الذي ماتت فيه " عام الحزن "، وظل يثني عليها حتى بعد موتها، ويذكرها بكل حب وتقدير، حتى غارت منها - وهي في قبرها - عائشة رضي الله عنها.
(1/455)
وبعد الثالثة والخمسين من عمره عليه الصلاة والسلام أي بعد أن توفيت خديجة وبعد الهجرة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج نساءه الأخريات، فتزوج سودة بنت زمعة وهي امرأة كبيرة، لتكون ربة بيته.
ثم أراد أن يوثق الصلة بينه وبين صديقه ورفيقه أبي بكر (ثاني اثنين إذ هما في الغار) فتزوج عائشة، وكانت صغيرة لا تُشتهَى ولكن تطييبًا لنفس أبي بكر.
ثم رأى أن أبا بكر وعمر وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يكون لديه بمنزلة واحدة في ذلك، فتزوج حفصة بنت عمر، كما كان من قبل قد زوج علي بن أبي طالب ابنته فاطمة، وعثمان بن عفان ابنته رقية ثم أم كلثوم.
وحفصة ابنة عمر كانت ثيبًا، ولم تكن على نصيب من الجمال أو الحسن . وكذلك أم سلمة، تزوجها ثيبًا، حيث مات زوجها أبوسلمة وكانت تظن زوجته أنه ليس هناك من هو أفضل من أبي سلمة . . إذ هاجرت معه، وأوذي كلاهما من أجل الإسلام، وأصابها ما أصابها . وكان زوجها قد علما مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول حين تصيبها مصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم آجرني في مصيبتي وأخلفني خيرًا منها.
وحين قالت ذلك بعد وفاة زوجها، تساءلت في نفسها: من يكون من الناس خيرًا من أبي سلمة ؟ ! ولكن الله عز وجل عوضها خيرًا منه، وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . خطبها ليجبر مصيبتها ويجبر كسرها، ويعوضها عن زوجها بعد أن هاجرت وتركت أهلها وعادتهم من أجل الإسلام.
وكذلك تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث ليسلم قومها . ويرغبهم في دين الله . وذلك أن الصحابة بعد أن أخذوا السبايا في غزوة بني المصطلق وجويرية منهم، علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج منها، فأعتقوا من عندهم من إماء ومن سبايا لأنهم أصبحوا أصهار النبي عليه الصلاة والسلام ومثلهم لا يسترقون . فكل واحدة من تلك الزوجات لها حكمة.
(1/456)
وهذه المرأة وهي ابنة أبي سفيان، الذي كان يناويء المسلمين على رأس المشركين تركت أباها وآثرت الهجرة مع زوجها فرارًا بدينها، ثم يكون من أمر زوجها ما يكون، وتجد نفسها وحيدة في الغربة . . . فماذا يفعل النبي عليه الصلاة والسلام هل يتركها دون رعاية وعناية ؟ لا . . بل قام بنفسه ليجبر خاطرها ويهدئ من روعها . . فأرسل إلى النجاشي يوكله عن نفسه في زواجها ويصدقها عنه، وتزوجها وبينه وبينها بحار وقفار . . جبرًا لحالتها في مثل تلك الغربة . . وحكمة أخرى نذكرها، وهي: أن زواج الني صلى الله عليه وسلم من ابنة أبي سفيان يرجى أن يكون له أثر طيب في نفس أبي سفيان، قد يكفكف من عدائه، ويخفف من غلوائه في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ربطت بينهما هذه المصاهرة الجديدة.
كل نسائه، لو بحثنا وراء زواجه منهن، لوجدنا أن هناك حكمة هدف إليها النبي صلى الله عليه وسلم من زواجه بكل واحدة منهن جميعًا . فلم يتزوج لشهوة، ولا للذة، ولا لرغبة دنيوية، ولكن لحكم ولمصالح، وليربط الناس بهذا الدين . وبخاصة أن للمصاهرة وللعصبية قيمة كبيرة في بلاد العرب، ولها تأثير وأهمية . ولذا أراد عليه الصلاة والسلام أن يجمع هؤلاء ويرغبهم في الإسلام، ويربطهم بهذا الدين، ويحل مشكلات اجتماعية وإنسانية كثيرة بهذا الزواج.
ثم لتكون نساؤه عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين، ومعلمات الأمة في الأمور الأسرية والنسائية من بعده . . يروين عنه حياته البيتية للناس، حتى أخص الخصائص، إذ أنه ليس في حياته أسرار تخفى عن الناس.
ليس في التاريخ واحد إلا له أسرار يخفيها، ولكن النبي عليه صلاة الله وسلامه يقول: " حدثوا عني . . " تعليما للأمة وإرشادًا لها.
(1/457)
وهناك حكم لا يتسع المقام لشرحها وتفصيلها، من أبرزها وأهمها: أنه عليه الصلاة والسلام قدوة حسنة للمسلمين في كل ما يتصل بهذه الحياة، سواء كان من أمور الدين أو الدنيا . . ومن جملة ذلك معاملة الرجل لزوجه وأهل بيته.
فالمسلم يرى قدوته الصالحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان زوجًا لامرأة ثيب، أو بكر، أو تكبره في السن أو تصغره، أو كانت جميلة أو غير جميلة، أو كانت عربية أو غير عربية، أو بنت صديقه أو بنت عدوه.
كل هذه الصور من العلائق الزوجية يجدها الإنسان في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وأفضل وأجمل صورة.
فهو قدوة لكل زوج، في حسن العشرة، والتعامل بالمعروف، مع زوجته الواحدة، أو مع أكثر من واحدة . . ومهما كانت تلك الزوجة، فلن يعدم زوجها الإرشاد القويم إلى حسن معاشرتها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم الزوجية.
ولعل هذه الحكمة من أجل الحكم التي تتجلى في تعدد زوجات نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
إعطاء المرأة ابنتها المتزوجة بدون إذن أبيها
س: رجل حصل بينه وبين إحدى بناته المتزوجات سوء تفاهم، مما جعلها تقاطع أباها . ولا تكلمه . ولكن أمها تعطي ابنتها التي تسكن مع زوجها بعض الحاجات خفية حتى لا يراها زوجها - والد البنت - الذي يقول: من لا يتكلم معي ولا يواصلني لا يأكل من خيراتي.
جـ: كلام الأب كلام صحيح . فلا يجوز للبنت أن تقاطع أباها وتجافيه، ثم تأتي الأم من وراء ظهر الأب وتعطي لابنتها من خيراته ومن ماله وكسبه بدون إذنه . . هذا لا يجوز . . لأمرين:
الأول: ليس للمرأة الحق في التصرف بمال زوجها إلا بإذنه، حتى الصدقة . . لا يجوز له أن تتصدق إلا بإذنه . فإذا أذن لها إما بالكلام أو بدلالة الحال فيها، وإلا فليس لها أن تفعل خاصة إذا علمت أنه يغضب لهذا، أو أنه نهاها أن تفعل . . فعندئذ لا يجوز لها أن تخالف وتفعل بماله ما لم يأذن به.
(1/458)
الأمر الثاني: أن المرأة بما تفعل من إعطاء ابنته خفية عن زوجها تبدو كأنها تشجع البنت على مقاطعة الأب . . والمفروض من الأم أن تقف من البنت موقفًا آخر، تبين لها فيه أنها بحاجة إلى أبيها، وينبغي أن تبره ولا تقطعه، وتواصله وتسترضيه، فإن أباها له عليها حق كبير ينبغي أن يعرف وأن يوفى . ..
فلو كان هناك أغراب متقاطعون، وجب عليهم أن يتواصلوا حتى يقبلهم الله في عباده الصالحين ويغفر لهم، فكيف بالأقرباء، وكيف بالأب مع بنته، والبنت مع أبيها ؟ !! ففي الحديث: " تعرض الأعمال على الله سبحانه وتعالى كل يوم اثنين ويوم خميس، فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله تعالى: أخروا هذين حتى يصطلحا، أخروا هذين حتى يصطلحا، أخروا هذين حتى يصطلحا " فالله يؤخر المغفرة عنهما حتى يتصافيا، ويتصالحا . لإعادة الصلة، وإعادة المياه إلى مجاريها.
حسن تسمية الأولاد
س: أنا سيدة أبلغ من العمر عشرين سنة، ولي زوج مسافر إلى لندن، وقد وضعت طفلاً في غيابه، وأسميته " يوسف " لأنني منذ كنت تلميذة في المدرسة قرأت سورة يوسف وتألمت لحال يعقوب وحزنه على ابنه يوسف، وصممت منذ ذلك الحين - إن من الله علي وتزوجت وأنجبت طفلاً - لا أسميه إلا يوسف، وهذا الواجب الذي صممت عليه أديته، لكن مع الأسف عندما عاد زوجي من سفره، أقسم ألا أسميه إلا فرعون، فبكيت حزينة جدًا، ما أعمل معه ؟ إنه لا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه حتى بلسانه، كيف العمل معه، وهو من مدة ثلاث سنوات ما رضى أن أزور أهلي ولا أن أراسلهم، وأبكي مقهورة جدًا، حرمني من رؤية أبوي وهما لا يدريان ما حل بي من العذاب والمرار مع هذا الشاب، والله مع الصابرين.
فأرجو حلاً لهذه المشكلة . وأمري لله.
(1/459)
جـ: من العجب أن تكون هذه المرأة أتقى وأفضل وأكرم من زوجها فقد أحسنت اسم ولدها، ومن حق الولد على والده أن يحسن اسمه - كما جاء في الحديث الشريف - ويحسن أدبه . ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتسمى بأسماء الأنبياء، وخير الأسماء وأحبها إلى الله عبد الله وعبد الرحمن . وأصدق الأسماء حارث وهمام، كما جاء في الأحاديث.
إحسان اسم الولد من أول حقوقه عند أبويه، وقد استجابت هذه المرأة المسلمة فسمت ابنها باسم أحد الأنبياء الكرام في القرآن " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم " كما جاء في الحديث.
ولكن للأسف وجدنا الرجل الذي يفترض فيه الرشد والنضج والعقل والذي جاب الآفاق، كان المفروض في مثل هذا أن يكون على دراية ومعرفة، فإذ به يغير هذا الاسم الكريم إلى اسم قبيح عند الله وعند الناس هو اسم فرعون، وهذا يذكرني برجل سمى ابنه " لهبًا " حتى يكنى بأبي لهب وليقول له الناس: يا أبا لهب ؟ و(تبت يدا أبي لهب وتب).
فتصوروا امرأة تسمي ابنها يوسف، وهو يسميه فرعون ماذا تملك هذه المسكينة ؟ الخطأ ليس خطؤها، إنه خطأ وليها الذي زوجها من إنسان لا يرجو لله وقارًا، ولا يحسب للآخرة حسابًا، هذا الذي لا يذكر الله - كما تقول هذه المسلمة - ولا يصلي ولا يصوم، كيف يجوز لأب أن يزوج ابنته من مثل هذا الإنسان ؟ وهي أمانة في عنقه يجب أن يضعها عند من يحفظ الأمانة، وعند من يرعاها، وعند (الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن هذه المرأة ليس لها إلا الصبر، نقول: ليس لها إلا الصبر، تصبر، عسى الله عز وجل أن يهدي هذا الزوج، ويوقظ قلبه، بنفحة منه، فيعود إلى الله، أو يفرق الله بينه وبينها، فتستريح منه . ليس هناك من حل، إلا هذا، وعليها أن تدعو الله، لعل الله يستجيب لها، في هذه الأيام المباركات.
الحلف بالطلاق: هل يقع ؟
(1/460)
س: في لحظة " زعل " حلفت بالطلاق على زوجتي، على أن تبقى في البيت، كذا يوم، وألا تخرج وقد قلت حرفيًا " عليَّ الطلاق ما أنت خارجة لغاية يوم العيد " وكنت أقصد أن أؤدبها بهذا العمل، فما هو حكم الإسلام في ذلك، وهناك أمور هامة أريدها أن تخرج لها، فلو خرجت، هل يقع علي الطلاق في هذه الحالة ؟ وما رأي فضيلتكم في هذا الموضوع ؟
(أبو أيمن)
جـ: لقد أخطأت يا أبا أيمن في هذا الحلف، فالحلف في الإسلام ليس بالطلاق، لم يجعل الطلاق ليكون يمينًا، إنما الحلف واليمين بالله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث: " من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليذر " فأما أن يجعل الطلاق يمينًا يحلف به فهذا شيء لم يرده الإسلام فإنما جعل الطلاق علاجًا للأسرة حين تتفكك الروابط بين الزوجين، ولا يجدي وعظ ولا هجر ولا تأديب ولا تدخل الحكمين في إصلاح ما بين رجل الأسرة وامرأته، حين ذلك، يلجأ إلى الطلاق باعتباره الوسيلة الأخيرة - أو آخر العلاج، فإن لم يكن وفاق ففراق، (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) (النساء: 130) . أما جعل الطلاق يمينًا فهذا هو المحظور، وهو طرق، وإذا كان حرامًا، فهل يقع أو لا يقع ؟ اختلف الفقهاء من السلف في ذلك، وأكثر الفقهاء وخاصة الأئمة الأربعة يرون وقوع الطلاق بمثل هذا، ويرون وقوع الطلاق بالحلف، وبمثل هذه الألفاظ، هذا هو المشهور في المذاهب، وخاصة عند المتأخرين، وجاء بعض الأئمة فقالوا: إن الطلاق بمثل هذا لا يقع، لأن الله لم يشرع الطلاق بمثل هذه الألفاظ ولم يشرع الطلاق بمثل هذه الأيمان فإذا كان الطلاق يُراد منه الحمل على شيء أو المنع من شيء فقد خرج عن قصد الطلاق وعن طبيعة الطلاق وأصبح يمينًا، فاليمين بالطلاق يرى بعض الأئمة أنه لا يقع أبدًا ولا شيء فيه، وبعضهم كالإمام ابن تيمية يرى أن فيه كفارة يمين إذا وقع، أي أنه بمثل هذه الحالة ناب الطلاق عن القسم بالله عز وجل، فإذا وقع ما حلف عليه كأن خرجت المرأة في مثل سؤال
(1/461)
السائل، فإن عليه كفارة يمين، أي يطعم عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وهذا ما أرجحه، وما أفتى به، أي إذا كان لابد من خروج المرأة كما يقول الأخ السائل، تخرج، ويحنث، وعليه كفارة يمين على الأقل، لأنه خرج عن منهج الإسلام الصحيح، بهذا الحلف وبهذا اليمين، فعليه أن يستغفر الله، وأن يكفر، وأن يتوب إليه . فإنه أشبه بناذر المعصية فإنه لا ينعقد نذره وعليه كفارة يمين كما جاء في الحديث.
مقابلة المرأة لمطلقها
س: هل يجوز للمرأة المطلقة أن تتقابل مع من طلقها بعد الطلاق لأغراض شريفة ؟
جـ: حين تطلق المرأة من زوجها وتنتهي عدتها منه يصبح زوجها بعد ذك أجنبيًا عنها، كأي رجل أجنبي تمامًا، فشأنه شأن الاجانب، يجوز أن تلقاه، ولكن في غير خلوة، إن الخلوة محرمة في الإسلام، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، فإذا امتنعت الخلوة، قابلته كما تقابل أي رجل من الرجال بالحدود المشروعة وبالآداب الدينية والملابس الشرعية، وأمام الناس، دون خلوة، ودون تبرج، ودون شيء محرم.
(1/462)
هذا إذا كان بعد انقضاء العدة، أما في حالة العدة وكانت مطلقة رجعية، الطلقة الأولى، أو الطلقة الثانية، فإن لها أن تقابله، بل إن عليها وعليه أن تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج منه كما يفعل الكثيرات الآن حين يطلقها زوجها، وتغضب منه، تذهب إلى بيت أبيها، لا، القرآن يقول: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) (الطلاق: 1) إذا بقيت المرأة في بيتها بنص القرآن، أي بيت الزوجية، فلعل قلب الرجل يصفو ويميل ويحن إليها من جديد، وتعود العلاقة على خير مما كانت . . فلا يجوز في حالة الطلاق الرجعي أن تخرج المرأة ولا يخرجها زوجها من بيتها الذي هو بيت الزوجية.
المطلقة قبل الدخول
س: رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها، وبعد أسبوع طلقها، فهل لها عدة وتستحق مهرًا ؟
جـ: المرأة المطلقة قبل الدخول، لا عدة عليها، بنص القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحًا جميلاً) (الأحزاب: 49). ذلك لأن العدة لحكمة، هذه الحكمة تتمثل في معنيين: الأول: هو استبراء الرحم . . أن يكون قد علقت من هذا الرجل وهي لا تدري . . فلا بد من استبراء الرحم حتى تعرف أنه ليس بها شيء من هذا الرجل.
الأمر الثاني: أن العدة جعلت سياجًا للحياة الزوجية السابقة، فليس من اللائق أن تكون امرأة معاشرة لرجل مدة تطول أو تقصر، ثم تتركه، وفي اليوم الثاني تذهب إلى رجل آخر، هذا لا يليق، وفي حالة عدم الدخول لم تحدث زوجية حقيقية ولم يحدث اتصال بين الرجل والمرأة حتى يستبرأ الرحم، وحتى يحتاج إلى مدة تعتبر سياجًا للزوجية السابقة.
حق الأم وإن قست على ولدها
(1/463)
س: أنا فتاة، كانت لي أم، تركتني لأبي، وكان عمري خمسة أشهر فقط، وربتني عمتي أخت أبي، وعمري الآن أربعة عشر عامًا، وسمعت عن حقوق الوالدين، وأن الجنة تحت أقدام الأمهات . فهل يغضب الله على ما دامت هي - أي أمي - لا تريدني ؟ ؟
جـ: للأم فضل عظيم، وللوالدين بصفة عامة، وقد أكد الله لك الوصية بهما في كتابه، وجعل ذلك من أصول البر، التي اتفقت عليها الأديان جميعًا، فوصف الله يحيى بقوله: (وبرًا بوالديه، ولم يكن جبارًا شقيًا) (مريم: 14) وكذلك وصف عيسى على لسانه في المهد: (وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا) وكذلك جاء القرآن فجعل الأمر ببر الوالدين بعد عبادة الله وحده، بعد التوحيد . . (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا) (النساء: 36) (أن اشكر لي ولوالديك) (لقمان: 14) (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا) (الإسراء: 23) وبخاصة الأم، فهي التي حملت الإنسان كرها ووضعته كرهًا، وتعبت في حمله وتعبت في وضعه، وتعبت في إرضاعه، ولذلك وصى النبي بها ثلاث مرات، وبالأب مرة واحدة . فحتى هذه الأم التي لم ترحم طفلتها، والتي تركتها منذ صغرها، حتى هذه لها حق . . حق الأمومة، فالأم هي الأم، ولن يصير الدم ماء - كما يقول الناس.
(1/464)
والقرآن جعل للوالدين المشركين حقًا، قالت أسماء بنت أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي زارتني وهي مشركة، أفأصلها ؟ فنزل قول الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8) وقال تعالى في سورة لقمان في الوالدين اللذين يجاهدان ويحاولان كل المحاولة لتكفير ولدهما وجعله مشركا بدل كونه مؤمنًا . . يقول الله عز وجل: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا) (لقمان: 15) حتى مع محاولة التكفير والصد عن طريق الله، وعن الإيمان، مع هذا يقول " لا تطعهما " ولكن " صاحبهما في الدنيا معروفًا ".
فهذا ما جاء به الإسلام، أن يكون الإنسان بارًا بأبويه، وإن جارا عليه، وإن ظلماه . . وإن جفواه . . وهذا هو شأن مكارم الأخلاق: أن تصل من قطعك، وتبذل لمن منعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك . هذا في الناس عامة، فكيف في ذوي الأرحام ؟ فكيف بالوالدين ؟ فكيف بالأم التي جعل الله الجنة تحت أقدامها ؟
إننا نوصي الأخت السائلة، نوصيها أن تبر أمها، وأن تكون ذات فضل وإحسان، ولا تتبع الوساوس، فلعل الله يصل ما انقطع من حبال المودة، والأم هي الأم على كل حال.
ولعل هذه الأم كانت لها ظروف خاصة لا تدركها الآن، وربما تدركها في المستقبل . وعاطفة الأمومة لا تحتاج إلى تقرير ولا إلى وصية . . والإسلام حين وصى . . إنما وصى الأولاد بوالديهم، ولم يوص الآباء ولا الأمهات . . لأنهم ليسوا في حاجة إلى وصية، وخاصة الأم فإن قلبها مطبوع بالحنان، فإذا خرجت أم ما عن هذا الأمر، فلا بد أن يكون هناك فعلاً من البواعث والدواعي العنيفة ما جعلتها تسلك هذا السلوك الشاذ . . ولعل الفتاة حين تشب عن الطوق، تدرك الظروف التي جعلت أمها تسلك هذا السلوك الغريب.
من المسئول
(1/465)
إجبار الزوج لزوجته على المعصية
س: أنا سيدة متزوجة وأم لطفلين وزوجي دائمًا يصحبني معه إلى الحفلات العامة، بحيث أدمنت - من كثرة ترددي على هذه الحفلات الخمر والسيجارة، وأصبحت لا أستطيع تركها أبدًا، فأحببت أن أسألك: هل يقع الإثم علي شخصيًا أم على زوجي، لأنه هو الذي يصحبني إلى الحرام، وإذا لم أطعه يضربني ؟ أرجو إرشادي.
جـ: مأساة أي مأساة أن يصبح المجتمع المسلم، في هذا المستوى، ويخور رجاله ونساؤه إلى هذا الدرك، والإثم في هذه القضية على كل حال واقع على الطرفين، على الرجل والمرأة، الزوج والزوجة.
يقع على الزوج أولاً، لأنه مكلف أن يحمي أهله من النار كما قال تعالى مخاطبًا جماعة المؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة) (التحريم: 6) أي أن يقيهم النار لأنه مسئول أن يجنب نفسه وأهله النار، فكما يوفر لهم القوت ليأكلوا، والكسوة ليلبسوا، والتعليم ليتثقفوا، والدواء ليعالجوا، هذه الأمور الدنيوية مطلوبة منه، هو كذلك مسئول أن يقربهم من الجنة ويباعد بينهم وبين النار، وإلا فما قيمة أن تلبس زوجتك أحسن الثياب، وتطعمهما من أفضل الطعام والشراب، وتوفر لها من المتع الشيء الكثير، ثم تجرها جرًا إلى جهنم - والعياذ بالله - ؟ وما قيمة أن يأخذ أولادك أرقى الشهادات، أو يتسنموا أرفع المناصب ثم يكون مصيرهم جهنم ؟ ما قيمة هذا كله ؟
(1/466)
فالإنسان مطلوب منه أن يحمي نفسه من النار: (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) . " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهل بيته راع وهو مسئول عن رعيته " فهذا الزوج وأمثاله، كان عليه أن يقي زوجته من هذه الخبائث: من الخمر ومن الحفلات، وخاصة حفلات الاختلاط، التي يختلط فيها الرجال بالنساء، بلا حدود ولا قيود، كما هو شأن المدنية الغربية، التي قذفتنا بهذه الألوان من السلوك في حياتنا، هذه الألوان الغربية، الدخيلة على المجتمع المسلم، فهذا الزوج مسئول، لأنه بدل أن يحمي زوجته من النار، جرها إلى النار جرًا . . ثم الزوجة أيضًا مسئولة، لأنها مكلفة، لم تفقد الأهلية، هي ليست آلة طيعة، تدار فتدور، وتحرك فتتحرك، أو بهيمة تقاد فتنقاد، لا . . إنها إنسان . . لها عقل، ولها إرادة، تستطيع أن تقول: لا، وخاصة في المعاصي . وفي هذه الحالة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . هذه هي المسألة التي تذوب فيها كل السلطات، ليس لرئيس أن يجبر مرؤسه على المعصية، وليس لوالد أن يحمل ولده على المعصية، وليس لزوج أن يرغم زوجته على المعصية، وليس لسيد أن يجبر خادمه على المعصية، وليس لقائد أن يدفع جنوده إلى المعصية، كلا ففي الحديث: " السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة " متفق عليه.
فإذا كان يأمرها بالمعصية، أو يدفعها إلى المعصية، فمن حقها - بل من واجبها أيضًا - أن تقول: لا، بملء فيها . لأنه هنا تعارض حق الزوج وحق الله فإذا كان حق الزوج أن يطاع فحق الله في هذه الحالة أن ترفض المعصية، وحق الله مقدم . على أن الزوج هنا ليس له حق أصلا، لأن هذا خارج عن حقوقه . . فإذا أراد أن يصحبها إلى الحفلات المنكرة أو إلى شرب الخمر فيجب أن ترفض هذا ولو أدى ذلك إلى الطلاق، فهذه الأخت مسئولة، وإن كان الزوج أيضًا مسئولاً.
(1/467)
وتستطيع على كل حال أن تراجع نفسها وأن تتوب، وأين هذا من كثير من الرسائل، التي تأتي من بعض السيدات، يشكون من فساد أزواجهن ؟ الزوج الذي يسهر سهرًا طويلا، ويأتي آخر الليل وهو لا يعرف يمينه من شماله، وهي تأمره بالصلاة وهو لا يصلي، وتنهاه عن المنكر، وهو لا ينتهي، ولا يزدجر . . هذه هي الزوجة التي تعين زوجها على الطاعة وعلى الخير، فهذه الأخت مسئولة، وزوجها مسئول، ونرجو من الاثنين . . . الزوج والزوجة، أن يراجعا حسابهما مع الله، وأن يرتدعا عن مثل هذا الطريق، الذي لا يؤدي إلا إلى الخسار في الدنيا والبوار في الآخرة - والعياذ بالله.
قضايا عملية تنتظر أحكامها الشرعية
ما رأي الفقه في عمليات شتل الجنين، واختيار جنس المولود والنتائج التي يمكن أن تسفر عنها تجارب ضبط المزاج ؟
نشرت مجلة " العربي " مقالاً للدكتور حسان حتحوت تحت العنوان المذكور يقول فيه:
" كان الواحد من العلماء في مطالع الحضارة الإسلامية آخذًا في شتى فروع المعرفة بنصيب وافر، فكان منهم الفرد ينبغ في الطب والكيمياء والطبيعة والموسيقى نبوغه في الفقه وعلوم القرآن واللغة، استجابة لنداء هذا الدين الذي ينتظم شئون الحياة الروحية والمادية جميعًا، ويحض على النظر في النفس والكون لاستجلاء سنن الله في كونه، تلك التي تعرف حديثًا بالنواميس أو القوانين العلمية.
والآن وقد تقدم العلم وتشعبت فروعه إلى أقسام وتخصصات هي من الاتساع والتباعد بحيث يستحيل أن يلم بها عقل واحد، وأصبح لا مناص لنا إن أردنا أن نتبين أحكام ديننا فيما يستحدث من أمور دنيانا، من أن تتضافر جهود علمائنا المتخصصين في العلوم الكونية والشرعية للوصول معًا بالاجتهاد المخلص والمبصر إلى رأي الشرع في مسائل لم تكن من قبل ولم تكن لها سوابق ولا نظائر.
(1/468)
وإذا كان الشافعي صاحب المذهب قد قال: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور)، فمن الحق أن نقول كذلك: (تحدث للناس أقضية بقدر ما بلغ العلم من آفاق وما حقق من إمكانات).
وأود أن أعرض على سبيل المثال لا الحصر نماذج من الإنجازات التي أصبح العلم على مشارفها وبلغ القدر الذي يسمح أن نقول: أن دخولها إلى حيز الواقع معقول وفي زمن غير بعيد . ولا أتصدى للرأي الشرعي فهذا اختصاص آخر، وإنما أسوقها لأضع تحت بصر القارئ الفقيه لمحة مما يحدث على الجبهات المتقدمة للعلم.
شتل الجنين
واخترت هذا الاسم لأفرق بينه وبين ما تناقلته الصحف من سنوات عن جنين أنبوب الاختبار وما صحب ذلك من تهاويل فهذا موضوع آخر . ولتبيان موضوعنا أذكر القاريء بأن أول تكوين الجنين هو التحام خلية من الرجل هي الحيوان المنوي بخلية من الأنثى هي البويضة التي تخرج من أحد المبيضين فيتلقفها أنبوب (أيمن أو أيسر) واصل إلى الرحم، ويتم هذا الالتحام في هذا الأنبوب منتجًا البويضة الملقحة أو البيضة . . وهي التي ترحل إلى الرحم وتنغرس في بطانته وتشرع في الانقسام بغير توقف إلى ملايين الخلايا التي تعطي الجنين الكامل الذي يولد طفلاً . فالجنين إذن التحام نصفين نصف آت من الخصية ونصف آت من المبيض . أما الرحم فمستودع ومستزرع وحاضن يفي بالغذاء والنماء.
نذكر بعد ذلك نموذجًا لمرض خلقي . . تكون فيه المرأة ذات مبيض ولكنها غير ذات رحم . . وتفرز كل شهر بويضة ولكنها تهدر لأن غياب الرحم معناه الحيلولة بين المني وبين البويضة وكذلك غياب الحاضن الطبيعي للجنين منذ تكونه من التحام خليتين حتى استوائه في أواخر الحمل.
(1/469)
والبحث الجاري الآن ينصب على شفط البويضة من مبيضها خلال منظار يخترق جدار البطن (وقد تمت هذه الخطوة)، ثم تلقيح هذه البويضة بمنوي من الزوج يلتحم بها ليكونا بيضة تشرع في الانقسام إلى عديد من الخلايا (وقد تمت هذه الخطوة أيضا) ثم إيداع هذه الكتلة من الخلايا أي الجنين الباكر رحم امرأة أخرى بعد إعداده هرمونيًا لاستقبال جنين . . فيكمل الجنين نماءه في رحم هذه السيدة المضيفة حتى تلده وتسلمه لوالديه اللذين منهما تكون.
هذه الخطوة لم تتم بعد ولكنها بلغت درجة الممكن . وقد تمت بنجاح في الحيوانات بل وعلى درجتين، إذ تم استخراج أجنة نعاج في بريطانيا وإيداعها رحم أرنبة حملت بالطائرة لجنوب أفريقيا حيث استخرجت مرة أخرى وأودعت أرحام نعاج من فصيلة أخرى حضنتها حتى ولدتها على هيئة سلالتها الأصلية.
قد عرفنا الأم في الرضاع وأحكام الأخوة في الرضاع . والآن أدركنا أن للمرء بأمه صلتين صلة تكوين ووراثة أصلها المبيض وصلة حمل وحضانة أصلها الرحم . وحتى الآن كانت صلة الرحم تطلق مجازًا على الجميع . ولكن ماذا إذا انشعبت النسبتان فكان التكوين من امرأة والحضانة من أخرى .وأين تقف صلة الرحم من بنوة المبيض . . وما حقوق هذه الحاضن وماذا يترتب على ذلك من أحكام ؟
اختيار جنس الجنين
هناك نوعان من كروموزومات الجنس . أما الذي في بويضة المرأة فهو دائمًا من النوع المسمى ( X ) . وأما منويات الرجل فبعضها يحمل ( X )والآخر يحمل ( Y )وكلاهما موجود بأعداد وفيرة مختلطين في القذيفة المنوية الواحدة . فإن قدر أن يلقح البويضة منوي يحمل ( X ) كان كروموزوما الجنس في الجنين الناتج ( XX ) وهذا الجنين أنثى . وإلا فهما ( X Y ) وهذا الجنين ذكر.
(1/470)
دار البحث ولا يزال عما تختلف فيه المنويات حاملة ( X ) عن تلك حاملة ( Y ) من خصال . وثبت أنهما يختلفان في الكتلة وفي سرعة الحركة وفي الأثر الكهربي وفي القدرة على اقتحام وسط لزج واجتيازه وفي درجة نشاطها باختلاف التفاعل الكيميائي للبيئة المحيطة . واستخدمت هذه الفروق في إتاحة الفرصة لأحدهما دون الآخر في أن يكون السابق إلى تلقيح البويضة ومن ثم اختيار جنس الجنين الناتج.
وقد تم تطبيق ذلك فعلاً في صناعة تربية الحيوان . حيث تتم تهيئة الظروف المرغوبة وإجراء التلقيح الصناعي للإناث والحصول على مواليد من الجنس المنشود إن لم يكن دائما فبنسبة عالية.
ولم يتم ذلك في الإنسان حتى الآن . . لأسباب أهمها أن من الصعب إخضاع الطبيعة الإنسانية لظروف التجربة الحيوانية من منع عن الجنس لفترات طويلة تكتنفها تلقيحة صناعية واحدة . . ولكن أصبح في حيز الاحتمال أن يصل العلم إلى المزيد في هذا الشأن . . بل إن بعض السيدات تتحايل على ذلك بمعرفة نوع الجنين الذي في أرحامهن بشفط جزء من السائل الرحمي الذي حول الجنين وفحص ما فيه من خلاياي الجنين المنفوضة، فإن لم يكن الجنين من الجنس المراد طلبن من الطبيب إجهاضه وذلك في البلاد التي تبيح الإجهاض . . على أن رأينا نحن واضح في أن الإجهاض حرام.
ولكن ماذا لو تم التغلب على الصعوبات الباقية بغير إجهاض وهذا أمر محتمل ؟
وفي مهنتي أرى أم البنات تريد أن تحدد عدد أطفالها ولكنها تزيد وتزيد في انتظار الذكر المنشود . فهل إن استطاعت من البدء إنجاب الذكر أفضى ذلك إلى تقليل التناسل ؟
وهل يجنح الأغنياء إلى إنجاب الذكور حرصًا على الثروة أن تخرج من الأسرة إن ورثت البنت وانضمت بما تملك إلى زوج غريب يحمل أولاده منها اسمه واسم أسرته ثم تؤول إليهم أملاك أمهم بالوراثة ؟
(1/471)
أو أن الإنسان إن حاول أن يأخذ على عاتقه مهمة الطبيعة الحكيمة بعيدة النظر في توزيع الجنس آل به الأمر إلى أن يفسد حيث ظن أنه يصلح كما فعل من قبل وهو يعبث بالتوازن الحيوي على هذه الأرض.
ضوابط المزاج
من قديم حاول الناس الحصول على ما يغير من حالاتهم الفكرية والمزاجية، وفي هذا السبيل اهتدوا إلى الخمر والحشيش والأفيون والمنزول والقات وغيرها مما نعرف وما لا نعرف . . ودخل في حوزة البحث العلمي فتوالت عقاقير تعالج به التشنجات أو القلق أو الاكتئاب .، ومن سنوات ظهرت نظرية ترد مرض الفصام (ازدواج الشخصية) إلى مسببات كيميائية وتعالجه على هذا الأساس.
ولقد اهتدى العلم إلى أن أحوال الناس من رضى أو غضب وثورة أو خنوع وحماس أو خمول إنما يرجع إلى تغيير كيمياء الدورة الدموية لنشاط بعض الغدد في صب إفرازاتها إليها.
وتلت ذلك سلسلة من التعرف على هذه الإفرازات واستنباط العقاقير الكيميائية التي تدخل في الجسم فتحدث أثرها المطلوب.
وإذا كان لهذا التقدم أثره الحميد في السيطرة على طائفة من الأمراض العصبية، فإن للمسألة وجهًا آخر أصبح محل الاهتمام بصورة متزايدة وكان مبعث هذا الاهتمام احتمالات استعمال هذه العقاقير على السليم لا المريض.
إن مناط مسئولية الإنسان هو قدرته على التمييز والاختيار الحر . . ولقد تعتمل في نفسه عوامل وتضطرم مشاعر وتثور غرائز فإذا هو مطالب بأن يملك زمام نفسه فيفعل الخير ويمتنع عن الشر.
فماذا لو اختلت هذه القاعدة وأصبحت المواد الكيميائية هي التي تصنع للإنسان مزاجه أو شعوره أو إرادته.
ماذا لو كانت العفة دائمًا عفة العاجز، والصبر دائمًا صبر الضعيف.
وماذا لو كانت الشراسة أو النزق آثارًا فارماكولوجية وليست سمات أخلاقية.
(1/472)
يتحدثون بأن المستقبل غير البعيد سيشهد تفريق المظاهرات أو منعها باستعمال قنابل الغاز الملين للعريكة لا المسيل للدموع . . وبإمكان خلط الخبز أو الماء بمواد تبعث على الدعة والسكينة وتمنع الغضب ولو للحق.
وهل يستطيع حاكم أو نظام يضمن شراسة جنده ووداعة شعبه بهذه الوسيلة ؟
هذا عدا ما هو الآن مدرج في قائمة أسلحة الحرب البيولوجية من غازات أو إشعاعات تؤدي إلى سلب الإرادة وشلل الفكر ..
ويتقدم العلم ويتقدم . . ومهما تقدم يظل قول الله قائمًا: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من ذكاها وقد خاب من دساها).
حسان حتحوت
وقد بعث إلينا سكرتير تحرير مجلة " العربي " الأستاذ فهمي هويدي يسألنا الإجابة في ضوء الأدلة الشرعية عما أثاره الدكتور حتحوت . فأجبناه بما يلي:
لا ريب أن القضايا التي أثارها الصديق الطبيب العالم الأديب الدكتور حسان حتحوت وطلب فيها رأي الفقه - قضايا خطيرة تستحق الاهتمام من المشتغلين بفقه الشريعة وبيان أحكامها، وخصوصًا إذا كانت في حيز الإمكان القريب، كما يؤكد د. حتحوت . وإن كان من فقهاء السلف رضي الله عنهم من جعل نهجه رفض الإجابة عما لم يقع بالفعل من الحوادث المسئول عنها، حتى لا يجري الناس وراء الافتراضات المتخيلة، مما لا يقع مثله إلا شاذًا، بدل أن يعيشوا في الواقع، ويبحثوا عن علاج لأدوائه.
فعن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن: فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن.
وكان بعضهم يقول للسائل عن أمر: أوقد وقع ؟ فإن وقع أجابه . وإلا قال له: إذا وقع فاسأل.
وكانوا يسمون من سأل عما لم يقع: " أرأيتيًّا " نسبة إلى قوله: " أرأيت لو كان كذا وحدث كذا " الخ . . ..
قال الشعبي إمام الكوفة في عصر التابعين: والله لقد بغّض هؤلاء القوم إليّ المسجد . قلت: من هم يا أبا عمر ؟ قال: الأرأيتيون.
وقال: ما كلمة أبغض إليّ من " أرأيت " ؟ !
(1/473)
ويمكننا أن نقتدي بهؤلاء الأئمة، ونقول للدكتور حسان حتحوت: دع الأمر حتى يقع بالفعل، فإذا حدث أجبنا عنه، ولا نتعجل البلاء قبل وقوعه.
وما يدرينا ؟ لعل عقبات لم يحسب العلماء حسابها، أو قدروا في أنفسهم التغلب عليها . تقف في طريقهم، فلا يستطيعون تنفيذ ما جربوه في بعض الحيوان على نوع الإنسان.
ولكنا - مع هذا - نحاول الجواب لأمرين:
الأول: إن موجه السؤال يعتقد أن الأمر وشيك الوقوع، وليس من قبيل الفروض المتخيلة التي كان يسأل عن مثلها " الأرأيتيون " فلابد أن نتهيأ لبيان حكم الشرع فيما يترتب عليها من آثار لم يسبق لها نظير في الحياة الإسلامية، بل الإنسانية.
الثاني: إن السؤال فيما أرى أيضًا فيما يتضمن بحث مشروعية هذه الأعمال المطروحة للاستفتاء: أتدخل في باب الجائز أم المحظور ؛ وهذا غير السؤال الأول.
شتل الجنين:
أما ما سماه الدكتور حتحوت: شتل الجنين " فهو قضية في غاية الغرابة والإثارة . وهي تختلف عما كان يسأل عنه من قبل من " التلقيح الصناعي " الذي تلقح فيه بويضة امرأة بحيوان منوي من رجل غير زوجها، وهذا حرام بيقين لأنه يلتقي مع الزنى في اتجاه واحد، حيث يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وإقحام عنصر دخيل على الأسرة أجنبي عنها، مع اعتباره منها نسبًا ومعاملة وميراثًا، وإذا كان الإسلام قد حرم التبني ولعن من انتسب إلى غير أبيه فأحرى به أن يحرم التلقيح المذكور، لأنه أشد شبها بالزنى.
أما قضية " الشتل " المسئول عنها هنا فليس فيها خلط أنساب، لأن البويضة ملقحة بماء الزوج نفسه، ولكنها تترتب عليها أمور أخرى هي غاية في الخطورة من الناحية الإنسانية والأخلاقية.
وإذا كنا نبحث أولاً عن مشروعية هذا الأمر من الوجهة الدينية، قبل أن نبحث عن أحكامه إذا حدث بالفعل، فالذي أراه - بعد طول تأمل ونظر - أن الفقه الإسلامي لا يرحب بهذا الأمر المبتدع . ولا يطمئن إليه، ولا يرضى عن نتائجه وآثاره، بل يعمل على منعه.
(1/474)
إفساد لمعنى الأمومة:
وأول هذه النتائج وأبرزها: أنه يفسد معنى الأمومة كما فطرها الله، وكما عرفها الناس . هذا المعنى الذي ليس في الحياة أجمل ولا أنبل منه.
فالأم الحقيقية في التصور المعروض للسؤال، هي صاحبة البويضة الملقحة، التي منها يتكون الجنين، هي التي ينسب إليها الطفل، وهي الأحق بحضانته، وهي التي تناط بها جميع أحكام الأمومة وحقوقها من الحرمة والبر والنفقة والميراث وغيرها.
وكل دور هذه الأم في صلتها بالطفل أنها أنتجت يومًا ما بويضة أفرزتها بغير اختيارها، وبغير مكابدة ولا مشقة عانتها في إفرازها.
أما المرأة التي حملت الجنين في أحشائها وغذته من دم قلبها أشهرًا طوالا، حتى غدا بضعة منها، وجزءًا من كيانها، واحتملت في ذلك مشقات الحمل، وأوجاع الوحم، وآلام الوضع، ومتاعب النفاس، فهذه مجرد " مضيفة " أو " حاضنة " تحمل وتتألم وتلد، فتأتي صاحبة البويضة، فتنتزع مولودها من بين يديها، دون مراعاة لما عانته من آلام، وما تكون لديها من مشاعر، كأنها مجرد " أنبوب " من الأنابيب، التي تحدثوا عنها برهة من الزمان، لا إنسان ذو عواطف وأحاسيس.
حقيقية الأمومة:
وإن من حقنا - ومن حق كل باحث عن الحقيقة - أن يسأل معنا هنا عن ماهية الأمومة التي عظمتها كتب السماء، ونوّه بها الحكماء والعلماء، وتغنى بها الأدباء والشعراء، وناطت بها الشرائع أحكامًا وحقوقًا عديدة . الأمومة التي هي أرقى عواطف البشر وأخلدها وأبقاها.
وهل تتكون هذه الأمومة الشريفة من مجرد بويضة أفرزها مبيض أنثى ولقحها حيوان منوي من رجل.
(1/475)
إن الذي يثبته الدين والعلم والواقع، أن هذه الأمومة إنما تتكون مقوماتها، وتستكمل خصائصها، من شيء آخر بعد إنتاج البويضة حاملة عوامل الورثة، إنه المعاناة والمعايشة للحمل أو الجنين، تسعة أشهر كاملة يتغير فيها كيان المرأة البدني كله تغيرًا يقلب نظام حياتها رأسًا على عقب، ويحرمها لذة الطعام والشراب والراحة والهدوء . إنه الوحم والغثيان والوهن طوال مدة الحمل . وهو التوتر والقلق والوجع والتأوه والطلق عند الولادة . وهو الضعف والتعب والهبوط بعد الولادة . إن هذه الصحبة الطويلة - المؤلمة المحببة - للجنين بالجسم والنفس والأعصاب والمشاعر هي التي تولد الأمومة وتفجر نبعها السخي الفياض بالحنو والعطف والحب.
هذا هو جوهر الأمومة . بذل وعطاء، وصبر واحتمال، ومكابدة ومعاناة ولولا هذه المكابدة والمعاناة، ما كان للأمومة فضلها وامتيازها، وما كان ثمة معنى لاعتبار حق الأم أو كد من حق الأب.
إن أعباء الحمل، ومتاعب الوضع، هي التي جعلت للأمومة فضلاً أي فضل، وحقًا أي حق، وهي التي نوه بها القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعته كرها، وحسبنا أن نقرأ في كتاب الله (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا، حملته أمه كرها ووضعته كرهًا، وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا)، (ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين).
ومعنى " وهنا على وهن ": أي جهدًا على جهد، ومشقة على مشقة، مما يؤدي بها من ضعف إلى ضعف.
وهذه المعاناة التي تتحمل الأم آلامها وأوصابها راضية قريرة العين، هي السر وراء تأكيد القرآن على حق الأم ومكانتها وأوردها فيما ذكرنا من آيات، وهي السر كذلك وراء تكرار الرسول صلى الله عليه وسلم الوصية بها، وتأكيد الأمر ببرها، وتحريم عقوقها، وجعل الجنة تحت أقدامها، من مثل: " إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب ".
(1/476)
وفي الحديث المشهور في إجابة من سأل: من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: " أمك . . ثم أمك . . . ثم أمك . . ثم أبوك ".
وفي مسند البزار: إن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها ؟ فقال: " ولا بزفرة واحدة - أي من زفرات الطلق والولادة " . فإذا كانت الأم لم تتحمل أي شيء من هذه المخاطر والأوجاع والزفرات فما فضل أمومتها ؟ ومن أين تستحق كل ما جاءت به الوصايا النبوية من زيادة برها ؟
الأم هي الوالدة:
ولا شك أن خير وصف يعبر عن الأم وعن حقيقة صلتها بطفلها في لغة العرب هو " الوالدة " وسمى الأب " الوالد " مشاكلة للأم، وسميا معًا " الوالدين " على سبيل التغليب للأم الوالدة الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقية لم يلد، إنما ولدت امرأته . وعلى هذا الأساس سمى ابن المرأة " ولدًا " لها، لأنها ولدته، وولدًا لأبيه كذلك لأنها ولدته له.
فالولادة إذن أمر مهم، شعر بأهميته واضعو اللغة، وجعلوه محور التعبير عن الأمومة والأبوة والبنوة.
ومالنا نذهب بعيدًا . وهذا القرآن الكريم يحصر حقيقة الأمومة في الولادة بنص حاسم، فيقول في تخطئة المظاهرين (المظاهر من امرأته: من يحرمها على نفسه بأن يقول لها: أنت علي مثل أمي . أو كظهر أمي ويسمى هذا شرعًا " الظهار ") من نسائهم: (ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلااللائي ولدنهم) بهذا الأسلوب الجازم الحاصر حدد القرآن معنى الأمومة (إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم)، فلا أم في حكم القرآن إلا التي ولدت.
والخلاصة أن الأم التي لا تحمل ولا تلد كيف تسمى " أما " أو " والدة " ؟ وكيف تتمتع بمزايا الأمومة دون أن تحمل أعباء الأمومة ؟
وأستطيع أن أضرب هنا مثلاً بارزًا للعيان يوضح موقف الشرع من الأم الحقيقية.
لماذا كانت الأم أحق بالحضانة:
(1/477)
روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني ! فقال صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكحي " (أي تتزوجي).
وهكذا أعطى الشرع حق الحضانة للأم وقدمها على الأب . وجعلها أحق بطفلها منه، لما ذكرته هذه المرأة الشاكية من أسباب وحيثيات تجعلها أحنى على الطفل وأرفق به وأصبر على حضانته من أبيه، فقد صبرت على ما هو أشد وأقسى من الحضانة، حين حملته كرهًا ووضعته كرهًا.
فما تقول هذه الأم المستحدثة إذا اختلف مع زوجها في أمر حضانة الولد ؛ وبأي منطق تستحقه وتقدم على أبيه، ولم يكن بطنها له وعاء، ولا ثديها له سقاء ؟
إن قالت: إنها صاحبة البويضة التي منها خلق، فالأب صاحب الحيوان المنوي الذي لولاه ما صلحت البويضة لشيء، بل لعله هو العنصر الإيجابي النشيط المتحرك في هذه العملية، حتى إن القرآن نسب تكوين الإنسان إليه في قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق . يخرج من بين الصلب والترائب) فالماء الدافق هنا هو ماء الرجل.
تساؤلات:
ولنا أن نسأل هنا: لماذا يفكر رجال العلم في نقل بويضة امرأة إلى رحم امرأة أخرى ؟
سيجيبون: لنوفر للمرأة المحرومة من الولد، لفقدها الرحم الصالح للحمل، ما تشتاق إليه من الأطفال عن طريق أخرى صالحة للحمل.
ونود أن نقول هنا: إن الشريعة تقرر قاعدتين مهمتين تكمل إحداهما الأخرى:
الأولى: إن الضرر يزال بقدر الإمكان.
والثانية: إن الضرر لا يزال بالضرر.
ونحن إذا طبقنا هاتين القاعدتين على الواقعة التي معنا، نجد أننا نزيل ضرر امرأة - هي المحرومة من الحمل - بضرر امرأة أخرى، هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها . فنحن نحل مشكلة بخلق أخرى.
(1/478)
إن على العلم أن يتواضع ولا يحسب أن بإمكانه أن يحل كل مشكلات البشر، فإنها لا تنتهي ولن تنتهي . ولو فرض أنه حل مشكلة المرأة التي ليس لها رحم صالح، فكيف يحل مشكلة التي ليس لها مبيض صالح ؟
وسؤال آخر: هل هذه هي الطريقة الوحيدة - في نظر العلم - لإزالة ضرر المرأة المحرومة من الإنجاب لعدم الرحم ؟
والجواب: إن العلم الحديث نفسه بإمكانه وتطلعاته - فيما حدثني بعض الأخوة الثقات المشتغلين بالعلوم، والمطلعين على أحدث تطوراتها، وتوقعاتها، يفتح أمامنا باب الأمل لوسيلة أخرى أسلم وأفضل من الطريقة المطروحة.
وهذه الوسيلة هي زرع الرحم نفسه في المرأة التي عدمته، تتمة لما بدأ به العلم ونجح فيه من زرع الكلية والقرنية وغيرهما، بل زرع القلب ذاته في تجارب معروفة ومنشورة.
احتمالات:
ولقد حصر الدكتور حتحوت الصورة المسئول عنها في امرأة ذات مبيض سليم، ولكن لا رحم لها . وهي مشوقة إلى الأولاد، وراغبة في الإنجاب، كأنه بهذا يثير الشفقة عليها، ويستدر العطف من أجلها.
ولكن هذا الباب إذا فتح، ما الذي يمنع أن تدخله كل ذات مال من ربات الجمال والدلال، ممن تريد أن تحافظ على رشاقتها، وأن يظل قوامها كغصن البان، لا يغير خصرها وصدرها الحمل والوضع والإرضاع . فما أيسر عليها أن تستأجر " مضيفة " تحمل لها، وتلد عنها، وترضع بدلها، وتسلم لها بعد ذلك " ولدًا جاهزًا " تأخذه بيضة مقشورة، ولقمة سائغة، لم يعرق لها فيه جبين، ولا تعبت لها يمين، ولا انتفض لها عرق . وصدق المثل: رب ساع لقاعد، ورب زارع لحاصد !!
وإذا كان مبيض الأنثى يفرز في كل شهر قمري بويضة صالحة - بعد التلقيح - ليكون منها طفل، فليت شعري ما يمنع المرأة الثرية أو زوجة الثري أن تنجب في كل شهر طفلاً ما دام الإنجاب لا يكلفها حملاً ولا يجشمها ولادة !!
(1/479)
ومعنى هذا أن المرأة الغنية تستطيع أن تكون أما لاثنى عشر ولدًا في كل سنة، ما دامت الأمومة هينة لينة لا تكلف أكثر من إنتاج البويضة، والبركة في " الحاضنات " أو " المضيفات " الفقيرات اللائي يقمن بدور الأمومة ومتاعبها لقاء دريهمات معدودة.
ويستطيع الرجل الثري أيضًا أن يكون له جيش من الأولاد بعد أن يتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع، يمكن لكل واحدة أن تنجب حوالي 500 خمسمائة من البنين والبنات بعدد ما تنتج من البويضات، طوال مدة تبلغ أو تتجاوز الأربعين عامًا من سن البلوغ إلى سن اليأس.
والنتيجة من وراء هذا البحث أن الشريعة لا ترتاح إلى ما سمى " شتل الجنين " لما ذكرنا من آثار ضارة تترتب عليه، فهو أمر مرفوض شرعًا، ممنوع فقهًا.
ضوابط وأحكام:
بقى أن نبين الحكم فيما إذا سار العلم إلى نهاية الشوط ووقع هذا الأمر بالفعل، ولم يبال رجال العلم بمخالفة ذلك للشرائع والأخلاق
وهنا نستطيع أن نضع بعض الضوابط والأحكام (فهم بعض من قرءوا كلامي هنا - ومنهم فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد رئيس المحاكم الشرعية في قطر - أني أوافق على أصل الموضوع، ونسوا كل ما ذكرته في صلب البحث في منع هذا الأمر، وإنما ذكرت هذه الضوابط على افتراض أن يحدث ذلك دون إذن من الشرع . وما قلته من قبل هو أساس الفتوى) للتقليل من ضرره والتخفيف من شره.
1 - يجب أن تكون " الحاضنة " امرأة ذات زوج، إذ لا يجوز أن تعرض الأبكار والأيامى للحمل بغير زواج، لما في ذلك من شبهة الفساد.
2 - يجب أن يتم بإذن الزوج، لأن ذلك سيفوت عليه حقوقًا ومصالح كثيرة، نتيجة الحمل والوضع (ومن ذلك أنه ينبغي أن يمتنع عن مجامعتها خشية أن تجهض أو تفسد البويضة وهي لا تشعر فتحمل من الزوج دون أن يعلم، وحتى لا يسقي بمائه زرع غيره). وإذا كان الحديث ينهي المرأة أن تصوم تطوعًا إلا بإذن زوجها، فكيف بحمل يشغل المرأة تسعة أشهر ونفاس قد يستغرق أربعين يومًا ؟
(1/480)
3 - يجب أن تستوفي المرأة الحاضنة العدة من زوجها ؛ خشية أن يكون برحمها بويضة ملقحة، فلا بد أن تضمن براءة رحمها منعًا لاختلاط الأنساب.
4- نفقة المرأة الحاضنة وعلاجها ورعايتها، طوال مدة الحمل والنفاس، على أب الطفل ملقح البويضة - أو وليه من بعده، لأنها تغذية من دمها، فلابد أن تعوض عما تفقد، وقد قال تعالى في شأن المطلقات: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) وقال في شأن المرضعات: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) - يعني الأب -، ثم قال: (وعلى الوارث مثل ذلك).
5 - جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت هنا من باب قياس الأولى، لأن هذا إرضاع وزيادة، إلا فيما يتعلق بزوج المرأة الحاضة، فهناك في الرضاع يعتبر أبًا لمن أرضعته أمه إذا كان اللبن من قبله، لأن التغيرات التي تحدث بجسم المرأة أثناء الحمل، وبعد الوضع من إدرار اللبن ونحوه بسبب الولد أو الجنين الذي كان لماء الرجل دخل أساسي في تكوينه.
أما زوج المرأة الحاضنة أو المضيفة فليس له أي علاقة بالجنين أو الوليد.
6- إن من حق هذه الأم الحاضنة أن ترضع وليدها إن تمسكت بذلك، فإن ترك اللبن في ثديها دون امتصاص قد يضرها جسميًا، كما يضرها نفسيًا، وليس من مصلحة الطفل أن يجري الله له الحليب في صدر أمه، ثم يترك عمدًا ليغذي بالحليب الصناعي . . وقد جعل الله الرضاع مرتبطًا بالولادة فقال: (والوالدات يرضعن أولادهن).
7 - في رأيي أن هذه الأمومة - إن حدثت - يجب أن تكون لها مزايا فوق أمومة الرضاع . ومن ذلك إيجاب نفقة هذه الأم على وليدها إذا كان قادرًا واحتاجت هي إلى النفقة.
قضية اختيار الجنس:
أما قضية اختيار جنس الجنين، من ذكورة وأنوثة، فهي تصدم الحس الديني لأول وهلة وذلك لأمرين:
(1/481)
الأول: أن علم ما في الأرحام للخالق سبحانه، لا للخلق . قال تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد) وهو من الخمسة التي هي مفاتيح الغيب المذكورة في آخر سورة لقمان (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام).
فكيف يدعي بشر أنه يعلم جنس الجنين ويتحكم فيه ؟
الثاني: أن ادعاء التحكم في جنس الجنين تطاول على مشيئة الله تعالى، التي وزعت الجنسين بحكمة ومقدار، وحفظت التوازن بينهما على تطاول الدهور، واعتبر ذلك دليلاً من أدلة وجود الله تعالى وعنايته بخلقه وحسن تدبيره لملكه.
يقول تعالى: (لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيما، إنه عليم قدير).
ولكن لماذا لا يفسر علم ما في الأرحام بالعلم التفصيلي لكل ما يتعلق بها ؟ فالله يعلم عن الجنين: أيعيش أم يموت ؟ وإذا نزل حيا: أيكون ذكيًا أم غبيًا ضعيفًا أم قويًا، سعيدًا أم شقيًا ؟ أما البشر فأقصى ما يعلمون: أنه ذكر أو أنثى.
وكذلك يفسر عمل الإنسان في اختيار الجنس: أنه لا يخرج عن المشيئة الإلهية، بل هو تنفيذ لها . فلإنسان يفعل بقدرة الله، ويشاء بمشيئة الله (وما تشاءون إلا أن يشاء الله).
وفي ضوء هذا التفسير، قد يرخص الدين في عملية اختيار الجنس، ولكنها يجب أن تكون رخصة للضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، وإن كان الأسلم والأولى تركها لمشيئة الله وحكمته (وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة).
تغيير المزاج:
بقي ما يقال من محاولة تغيير المزاج، والتحكم في انفعالات الإنسان ونزوعه عن طريق العقاقير والأغذية ونحوها.
والحس الديني السليم يرفض هذا الوضع أيضًا، لأنه يخرج بالإنسان عن طبيعته المميزة الحاكمة المختارة . ولهذا حرم الدين المسكرات والمخدرات، كما أن في ذلك تغييرًا لخلق الله لم تدفع إليه ضرورة ولا حاجة.
(1/482)
وكل تغيير لخلق الله حرام بنص القرآن والسنة . قال تعالى في بيان وظيفة الشيطان مع الإنسان: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، ومن يتخذ الشيطان وليًا من دون الله فقد خسر خسرانًا مبينًا).
وإذا كان الحديث النبوي قد حرم التغيير الحسي الضئيل لخلق الله تعالى، في مثل وشم الجلد، أو نمص الحواجب، أو وصل الشعر، أو فلج الأسنان، فلعن الواشمة والمستوشمة . والنامصة والمتنمصة، والواصلة والمستوصلة، والمتفلجات للحسن، والمغيرات خلق الله، فكيف بتغيير أعمق وأخطر، وهو تغيير المزاج النفسي للإنسان ؟ !
إن استعمال مثل هذا التغيير لعلاج المريض لا بأس به، من باب الضرورة وهي تقدر بقدرها، أما استخدامه في التأثير على السليم، فهو جناية على فطرة الله بصنع الإنسان . وقد قال تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله).
وقد يطرح هنا سؤال، وهو: ما إذا استطاع العلم، بواسطة عقاقير ومواد معينة أن يغير من مزاج الإنسان: هل يبقى الإنسان مسئولاً عن أعماله، بحيث يُمدح بحسنها ويُثاب عليه، ويُذم بقبيحها ويُعاقب عليه ؟ أم انتفت مسئوليته بهذه المؤثرات، فلا فضل له إذا تعفف عن شهوة أو حلم عند غضب، ولا عقاب عليه إذا غضب وهاج فضرب أو قتل ؟ !
والحق: أن المسئولية لا تنتفي عن الإنسان ما دام واعيًا مريدًا لما يفعله فإذا انتفى الوعي والإدراك، أو القصد والإرادة أو كلاهما، فقد انتفت عنه المسئولية، وإذا انتفى قدر منهما وبقي قدر فهو مسئول بقدر ما بقي عنده من الوعي والإرادة . ولهذا جاء في الحديث: " لا طلاق في إغلاق " فسر بعضهم الإغلاق بالغضب، وبعضهم بالإكراه، وهما من باب واحد، وهو: أن ينغلق على الإنسان تصوره وقصده.
وإذا انتفى عن الإنسان وعيه وإرادته بسبب منه وباختياره، فشأنه شأن السكران، والكلام فيه وفي مسئوليته عن أقواله وأعماله طويل الذيول.
(1/483)
والذي أراه أن هذه المؤثرات الصناعية مهما بلغت لن يكون أثرها أقوى من تأثير الوراثة والبيئة في سلوك الإنسان . ومع هذا لم يعف من المسئولية . فقد يرث الإنسان من أبويه أو أسرته حدة المزاج، بحيث يغضب لأتفه الأسباب، ويثور كالجمل الهائج لأدنى شيء أو لغير شيء، على حين يرث إنسان آخر طبيعة هادئة، فتنهد الدنيا من حوله وهو لا يحرك ساكنا كأن أعصابه في ثلاجة كما يقولون.
ومع هذا يذم الأول على شدة غضبه، ويحاسب على نتائجه، ولا تعفيه الوراثة من المسئولية.
كما أن الثاني يمدح بهدوئه وحلمه، وقد يذم أحيانا إذا اعتدى على حريمه أو انتهكت حرمات الله وهو ساكن . وقد قيل: من استغضب ولم يغضب فهو حمار !
ومثل ذلك تأثير البيئة الأسرية والاجتماعية في اتجاه الإنسان وسلوكه . حتى جاء في الحديث الصحيح: " كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ومع هذا لا يعفى اليهودي أو النصراني أو المجوسي من مسئوليته عن اختيار الدين الحق، إذ ما زال له قدر من الوعي والإرادة كاف للاختيار والترجيح.
ومن ثم قال المحققون من علماء المسلمين:
إن إيمان المسلم المقلد لا يقبل، إذ لا إيمان بغير برهان.
كلمة أخيرة أوجهها لرجال العلم، هي أن يجعلوا أكبر همهم الاشتغال بما يحل مشكلات الإنسانية الكثيرة، ويخفف عن الناس متاعب الفقر والجوع الذي هلك به ألوف من الناس في عالمنا، ويعالج الكثير من الأمراض التي لا زال البشر يشكون منها ولا يجدون لها دواء . وبالله التوفيق..
(1/484)
تدخل الدولة لتحديد أجور العمال
س: هل يجوز للدولة في الإسلام أن تتدخل بين العمال وأرباب العمل، فتتولى هي تحديد أجور العمال، وما يتعلق بذلك من استحقاقهم للأجازات، أو للمكافآت أو المعاش عند انتهاء الخدمة، أو تحديد ساعات العمل وغير ذلك مما تعارف عليه عصرنا، وأصبح معدودًا من حقوق العمال في العالم كله ؟
جـ: أود أن أنبه هنا على حقيقة شرعية مهمة، قد يغفل عنها كثير من الناس، أو يجهلونها من شريعة الإسلام، وهي: أن وظيفة الدولة في الإسلام ليست مقصورة على حماية الأمن الداخلي، والدفاع أمام الغزو الخارجي، وليست مهمتها - كما عرف في بعض المذاهب الاقتصادية - حماية الذين يملكون من الذين لا يملكون ؛ إنما هي مهمة إيجابية شاملة ومرنة في الوقت ذاته، بحيث تتسع دائرتها لكل التصرفات والإجراءات التي من شأنها أن ترفع الظلم، وتقيم العدل بين الناس وتزيل عنهم الضرر والضرار، وأسباب النزاع والصراع، ليحل محله التعاون والإخاء . ودليلنا على ذلك:
1- أن مسئولية الدولة - التي يمثلها الإمام في الإسلام - مسئولية مطلقة غير مقيدة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته . . ." الحديث.
وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يقول: " لو هلك جدي بشط الفرات، لرأيتني مسئولاً عنه أمام الله يوم القيامة " . فهذا شعور بالمسئولية عن الحيوان فكيف بالإنسان ؟
- أن إقامة العدل في حياة الناس هدف من أهداف الإسلام الكبرى، به قامت السماوات والأرض، وبه بعث الله الرسل، وأنزل الكتب: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). (سورة الحديد: 25).
(1/485)
والقسط هو العدل الذي به يتحقق التعادل أو التوازن بين الأشياء دون ميل أو جور، أو طغيان من جانب على جانب، ولعل في ذلك الميزان هنا وفي آيات أخرى ما يشير إلى ضرورة التوازن في الحياة الإنسانية، ولهذا عظم الله الميزان فقرنه بالكتاب في آيتين، وقرنه برفع السماء في سورة الرحمن حين قال: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان . وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان). (سورة الرحمن: 7-9).
ولا غرو أن يبارك الإسلام إقامة توازن عادل بين أرباب العمل والعاملين، وبين الملاك والمستأجرين، وبين المنتجين والمستهلكين، وبين البائعين والمشترين، وذلك بمنع طغيان بعضهم على بعض، وإزالته إن وقع.
وقد أمر الله تعالى أولى الأمر بواجبين أساسيين: أداء الأمانات والحكم بالعدل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). (سورة النساء: 58).
فكل ما يقتضيه إقامة العدل ورفع الظلم من تشريعات وإجراءات، فالشريعة ترحب به.
3- أن الشريعة الإسلامية تحرص على منع الضرر والضرار قبل وقوعهما، وإزالتهما بعد الوقوع . وقد جاء في الحديث الشريف: " لا ضرر ولا ضرار " وأصبح هذا من القواعد الكلية المقطوع بها في الفقه الإسلامي، وفي القرآن الكريم آيات شتى تؤكد هذا المعنى.
وقد رتب الفقهاء على هذه القاعدة فروعًا شتى منها: أن الضرر يزال، وأن الضرر لا يزال بالضرر، وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، والأدنى يتحمل لدفع الأعلى . . . إلخ.
فكل قانون أو تصرف يمنع إضرار الناس بعضهم لبعض، فإن الشريعة تتسع له، وتعتبره مبنيًا على أصولها وقواعدها، ولهذا لم يعترض أحد من علماء الشرع على قانون كقانون المرور الذي ينظم السير، ويضع بعض القيود على أصحاب السيارات وأمثالهم، لمصلحتهم ومصلحة المجموع، وإيقاع الجزاء على من يخالف ذلك.
(1/486)
وإذا كنا حريصين على منع تصادم السيارات حرصًا على سلامة الأفراد، فأولى أن نحرص على منع تصادم فئات المجتمع بعضها ببعض، حرصًا على سلامة الجماعة كلها.
4-أن السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي - باب واسع أمام الدولة المسلمة، تستطيع أن تلج منه لتحقيق ما تراه من إصلاحات مناسبة، أو سن ما تراه من قوانين صالحة، أو اتخاذ ما تراه من إجراءات وقائية أو علاجية لظاهرة معينة، مادامت لا تعارض نصًا محكمًا، ولا قاعدة ثابتة، فكل ما يرى ولي الأمر فعله أقرب إلى الصلاح للرعية، وأبعد عن الفساد، فله أن يفعله، بل قد يجب عليه، وإن لم يجئ بذلك نص خاص، ولهذا قام الصحابة والخلفاء الراشدين بأعمال عديدة رأوا فيها خيرًا ومصلحة، ولم يفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبلهم، ولا أذن لهم بفعلها بنص جزئي.
وهنا يحسن نقل الحوار الذي سجله المحقق ابن القيم، وقد جرى بين العلامة ابن عقيل الحنبلي وبعض الشافعية، ليتبين سعة آفاق السياسة الشرعية التي أشرنا إليها. (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، ص 13، 14).
وقال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم . ولا يخلو من القول به إمام . فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك "إلا ما وافق الشرع" أي: لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح . وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة . فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن . ولو لم يكن إلا تحريق عثمان رضي الله عنه المصاحف، فإنه كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق على رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد، فقال :
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا.
(1/487)
ونفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنصر بن حجاج . ا هـ.
قال ابن القيم: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب . فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد . وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها . وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا: إنها حق مطابق للواقع، ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع . ولعمر الله، إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم . والذي أوجب لهم دلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر . فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًّا طويلاً وفسادًا عريضًا . فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك.
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله.
وكلا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به ورسوله، وأنزل به كتابه . فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات . فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه.
" فلا يقال: إن السياسة العاطلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه . ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات ".
(1/488)
ومن هنا نقول: إن الشريعة التي سبقت مذاهب العالم وأنظمته بوجوب إنصاف العامل وإيفائه حقه بمثل قوله - - صلى الله عليه وسلم - -: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " (رواه ابن ماجة عن ابن عمر وعبد الرازق عن أبي هريرة والطبراني عن جابر والحكيم الترمذي عن أنس وطرقه ضعيفة ولكن يقوي بعضها بعضًا ولذا ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير) . . وقوله في الثلاثة الذين يخاصمهم الله يوم القيامة: " ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه، ولم يعطه أجره ". (رواه البخاري عن أبي هريرة).
هذه الشريعة لا يضيق صدرها بسن تشريعات تضمن للعمال أجورًا عادلة، وتقيم التعامل بينهم وبين أصحاب العمل على أساس مكين، حتى لا يبغي قوي على ضعيف، ولا تستغل فئة لصالح فئة أخرى، ولا تبقي هناك ثغرة مفتوحة يتسلل منها أصحاب المذاهب الهدامة للتأثير على العمال، ومحاولة كسبهم إلى صفهم، وإيهامهم أنهم وحدهم المدافعون عن حقوقهم، الحريصون على مصالحهم.
وهذا الذي نقوله اليوم قد قرره المحققون من فقهائنا منذ قرون، فأجازوا لولي الأمر عند الحاجة أن يتدخل بين العمال ومن يستخدمهم في عدة صور، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن " الحسبة " وبين الهدف من هذا التدخل، وهو منع الظلم من فرد لآخر، أو من فريق لغيره، وإلزام الجميع بالعدل الذي أمر الله به . من ذلك: أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة . كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك، فلولي الأمر أن يلزمهم ذلك بأجره مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.
ويعود لذلك شيخ الإسلام - رحمه الله - بعد قليل فيقول: " والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد، صارت فرض عين عليه . فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، ويجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم، بأن يعطوهم دون حقهم.
(1/489)
ويعقب على ذلك ابن تيمية فيقول: " وهذا من التسعير الواجب فهذا تسعير في الأعمال ".
وأجره المثل، أو عوض المثل، الذي ذكره فقهاؤنا يقصد به الأجر العادل الذي يستحقه مثله في مقابل عمله، مع مراعاة كل الظروف والعوامل التي لها علاقة بتحديد قيمة العمل، وتعيين مقدار الأجر المناسب، دون ظلم للعامل، ولا لمن يستعمله.
بل نقول أكثر من هذا: إن فقهاء الإسلام منذ عهد التابعين أجازوا تدخل أولي الأمر لتسعير السلع والأشياء عند الحاجة، مع ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من امتناعه عن التسعير في زمنه، وعدم استجابته عندما طلبوا منه ذلك عند غلاء الأسعار.
فقد روى أنس: أن السعر غلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: " إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقي الله، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ". (رواه أبو داود والترمذي وصححه).
والحديث يدل على أن الأصل هو حرية السوق، وتركها للقوانين الطبيعية دون تدخل مفتعل، ولكن إذا تدخلت في السوق عوامل غير طبيعية، من جهة المتلاعبين أو المستغلين لحاجات الناس، وكانت مصلحة جمهور الناس تقتضي التدخل من السلطة الشرعية بالتسعير أو التحديد أو الإلزام، فإن التدخل حينئذ يكون من شرع الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما التسعير، فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم - بغير حق - على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام . وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب.
فأما القسم الأول، فمثل ما روى أنس . . وذكر الحديث السابق.
(1/490)
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق (إشارة إلى قانون العرض والطلب) فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير إكراه بغير حق.
وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها - مع ضرورة الناس إليها - إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامه بقيمة المثل . والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به.
ثم يعود الشيخ ابن تيمية للموضوع بعد أن ذكر ما مر عن التسعير في الأعمال فيقول:
" وأما التسعير في الأموال . فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد والآلات، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن . . . ".
قال: " وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينًا وخبزًا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين . ولهذا جاء في الحديث: " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " . وكذلك لم يكن في المدينة حائك (أي نساج) بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها ويلبسونها.
ويقول شيخ الإسلام:
ومن احتج على منع التسعير مطلقًا، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله هو المسعر . . . إلخ الحديث " . قيل له: هذه قضية معينة، وليست لفظًا عامًا، وليس فيها أن أحدًا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه . ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبة - كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه - فهذا لا يسعر عليهم.
وفي ختام الحديث عن التسعير وما يتعلق به يقول:
(1/491)
" وجماع الأمر: أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير، سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل ".
فالمحور الذي تدور حوله الأحكام المتعلقة بالتسعير أو عدمه، هو تحقيق المصلحة للناس، ودفع المفاسد عنهم.
وإذا كان هذا هو الرأي المعتبر في مشروعية تسعير السلع، مع ما ورد فيها من امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير، وإشارته إلى أن ذلك مظلمة يحب أن يلقى الله بريئًا من تبعتها، فكيف لا يجوز (تحديد الأجور) أو (تسعير الأعمال) على حد تعبير ابن تيمية، مع الحاجة إليه، وتعلق المصلحة به، ومع عدم ورود نص يمنع ذلك ؟ والأصل في الأشياء الإباحة، كما أن الأصل في كل ما جاءت به الشريعة هو إقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد.
والخلاصة:
أن الشريعة ترحب بتدخل الدولة المسلمة لتحديد أجور العمال، إذا اقتضت ذلك الحاجة والمصلحة، وإقامة العدل ورفع الظلم، ومنع أسباب النزاع والصراع، والضرر والضرار، بشرط أن تعتمد في ذلك على أهل الخبرة والديانة الذين يستطيعون تقدير الأجور تقديرًا عادلاً، دون حيف على العمال أو أصحاب الأعمال، أو محاباة لأحد الفريقين، كما يدخل في ذلك جواز تدخل الدولة لتحديد ساعات العمل والأجازات الأسبوعية والسنوية والمرضية ونحوها.
ومثل ذلك ما يتعلق بالمكافآت والمعاشات، مما تقتضيه أوضاع العصر، وتعقد الحياة فيه، وحاجة الناس فيه إلى قواعد مضبوطة للتعامل، حيث لم تعد ضمائر الناس - كما كانت من قبل - من الحيوية والنقاء، بحيث تكفي لأداء الأمانات، ورعاية الحقوق، دون تدخل السلطة، وهذا ما جعل فقهاءنا يقرون أن الفتوى تتغير بتغير الأزمان والأمكنة، والأحوال والعوائد، فهذا كله وأمثاله داخل في السياسة الشرعية الرحبة المجال، الواسعة الأبواب كما ذكرنا من قبل، وبالله التوفيق.
حق الحكومة المسلمة في تحديد إيجارات المسكن إذا اقتضته المصلحة
(1/492)
س: أصدرت الحكومة في الآونة الأخيرة قانونًا بشأن إيجار المساكن، حددت فيه العلاقة بين المؤجر والمستأجر، ولم تجز الزيادة في الأجرة إلا بنسبة معينة في مدة معينة، كما لم تجز للمالك إخراج المستأجر إلا في حدود وبشروط خاصة.
فهل تجيز الشريعة الغراء للحكومة المسلمة أن تصدر مثل هذا القانون ؟ وهل يجب على الشعب التقيد به شرعًا ؟ أم يجوز لبعض الناس الخروج على هذا القانون، وعدم التقيد به بدعوى أنهم أحرار التصرف في أملاكهم ؟ مع أن هؤلاء الناس في ظاهرهم متدينون، ويصلون ويصومون، ويحجون ويعتمرون.
نرجوا التكرم ببيان رأي الشرع في مثل الموقف، حتى نعرف ويعرفوا الحلال من الحرام . . وشكرًا.
السائل: م . ع.
جـ: هذا السؤال من جنس السؤال السابق عن حق الدولة في التدخل لتحديد أجور العمال، وتنظيم العلاقة بينهم وبين أرباب العمل، إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة . وقد ذكرنا فيه من الأدلة الشرعية، والاعتبارات المرعية ومن نقول المحققين من العلماء ما ينبغي عن إعادته هنا . فليرجع إليه . فالقضية واحدة، وهي: تدخل الدول المسلمة للحد من بعض الحريات الفردية، تحقيقًا للمصالح، ودرءًا للمفاسد، وإقامة للعدل، ومنعًا للظلم، وتفاديًا للضرر والضرار.
ولا ينبغي أن يظن بالشريعة الإسلامية أنها تقف مكتوفة اليدين أمام الأوضاع التي تتغير في حياة الناس بسرعة البرق، وتدع القوي يتحكم في الضعيف، ويفرض عليه ما يريد، مستغلاً ضعفه وحاجته، دون أن يكون لها موقف إيجابي.
إن من خصائص الشريعة الغراء أن في أصولها وقواعدها من المرونة والسعة ومراعاة الواقع، ما يجعلها كفيلة بمواجهة كل جديد من أطوار الحياة ومشكلاتها، بالعلاج الناجح، والحل الحاسم العادل.
(1/493)
وقد أدرك فقهاؤنا - رحمهم الله - حتى في العصور المتأخرة هذه المزية الظاهرة للشريعة، وهي (المرونة) و(الواقعية) فلم يجمدوا كالصخر أمام تطورات الحياة، وتغير أخلاق الناس، الذي يعبرون عنه بفساد الزمان، ولهذا وسعوا علي القضاة والحكام في أمور السياسة الشرعية وتدبير أمر الرعية، بما يحقق العدل، ويرفع الظلم، ويقطع دابر الفساد.
يقول العلامة الحنفي علاء الدين الطرابلسي في كتابه (معين الحكام):
" قال القرافي: واعلم أن التوسعة على الحكام، في الأحكام السياسة، ليس مخالفًا للشرع، بل تشهد له الأدلة المتقدمة، وتشهد له أيضًا القواعد الشرعية من وجوه:
أحدهما: أن الفساد قد كثر وانتشر، بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام، بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار " وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر، ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج.
وثانيها: أن المصلحة المرسلة قال بها جمع من العلماء، وهي المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها ولا بإلغائها . ويؤكد العمل بالمصالح المرسلة، أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، عملوا أمورًا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو: كتابة المصحف، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، ولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير . . وكذلك ترك الخلافة شورى بين ستة . . وتدوين الدواوين وعمل السكة (النقود) للمسلمين . . واتخاذ السجن، وغير ذلك، مما فعله عمر رضي الله عنه، وهدم الأوقاف التي بإزاء المسجد - يعني مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، وحرق المصاحف، وجمعهم على مصحف واحد، وتجديد أذان في الجمعة بالسوق، مما فعله عثمان رضي الله عنه، وغير ذلك كثير جدًا، فعل لمطلق المصلحة.
(1/494)
وثالثها: أن الشرع شدد في الشهادة أكثر من الرواية، لتوهم العداوة، فاشترط العدد والحرية، ووسع في كثير من العقود للضرورة، كالعرايا والمساقاة، والقراض، وغيرها من العقود المستثناة، وضيق في الشهادة في الزنى، فلم يقبل فيه إلا أربعة يشهدون بالزنى كالمرود في المكحلة، وقبل في القتل اثنين، والدماء أعظم، لكن المقصود الستر، ولم يحوج الزوج الملاعن إلى بينة غير أيمانه، ولم يوجه عليه حد القذف، بخلاف سائر القذفة، لشدة الحاجة في الذب عن الأنساب وصون العيال والفرار عن أسباب الارتياب، وهذه المباينات والاختلافات كثيرة في الشرع، لاختلاف الأحوال في الأزمان، فتكون المناسبة الواقعة في هذه (القوانين السياسية) مما شهدت لها القواعد بالاعتبار، فلا تكون من المصالح المرسلة، بل أعلى رتبة، فتلحق بالقواعد الأصلية.
ورابعها: أن كل حكم في هذه القوانين، ورد دليل يخصه، أو أصل يقاس عليه، كما تقدم في أدلة الباب . وقد تقدم ذكرنا لكلام بعض العلماء - وهو المذهب - على أنه قال: إن لم نجد في جهة إلا غير العدول . أقمنا أصلحهم، وأقلهم فجورًا للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم، لئلا تضيع المصالح، وتتعطل الحقوق والأحكام، وما أظن أنه يخالفه أحد في هذا، فإن التكليف مشروط بالإمكان، وإذا جاز نصب الشهود فسقة، لأجل عموم الفساد، جاز التوسع في الأحكام السياسية، لأجل كثرة فساد الزمان وأهله، وقد قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس أقضية، بقدر ما أحدثوا من الفجور . قال القرافي: ولا نشك أن قضاة زماننا وشهودهم وولاتهم وأمناءهم لو كانوا في العصر الأول، ما ولوا ولا حرج عليهم، وولاية هؤلاء في مثل ذلك العصر فسوق، فإن خيار زماننا هم أراذل ذلك الزمان، وولاية الأراذل فسوق فقد حسن ما كان قبيحًا، واتسع ما كان ضيقًا، واختلف الأحكام باختلاف الأزمان.
(1/495)
وخامسها: أنه يعضد ذلك من القواعد الشرعية، أن الشرع وسع للمرضع في النجاسة اللاحقة لها من الصغير مما لم تشاهده، كثوب الإرضاع، ووسع في زمان المطر، في طين المطر، كما ذكره محمد في طين بخاري، على ما فيه من القذر والنجاسة، ووسع لأصحاب - القروح في كثير من نجاستها، ووسع لصاحب البواسير في بللها، وجوز الشارع ترك أركان الصلاة وشروطها إذا ضاق الحال، كصلاة الخوف ونحوها، وذلك كثير في الشرع، ولذلك قال الشافعي: " ما ضاق شيء إلا اتسع "، يشير إلى هذا الموطن، فكذلك إذا ضاق علينا الحال، في درء المفاسد، اتسع كما اتسع في تلك المواطن.
ومن هنا نقول: إن من واجبات الحكومة المسلمة أن تنظم علاقات الناس على أسس سليمة، فتضع من الأنظمة والقوانين ما يحقق العدل ويرفع الظلم، ويشيع الطمأنينة والاستقرار بين الناس، ويزيل أسباب النزاع والخصام من بينهم، وفقًا لما أوجبه الشرع من إقامة المصالح، ودرء المفاسد عن الخلق . ولا يجوز أن تنحاز الحكومة لفئة من المجتمع ضد أخرى، بل يكون عدلها للجميع.
هذه وظيفة أولي الأمر . . وهذا هو واجبهم الذي تحتمه السياسة الشرعية، بمفهومها الواسع الذي تحدثنا عنه في فتوانا عن جواز " تحديد أجور العمال " إذا اقتضته المصلحة، وإقامة العدل بين الناس من أعظم الغايات التي أرسل الله الرسل لتحقيقها، وأنزل الله بها الكتب، يقول تعالى في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط). (الحديد آية: 25).
لقد أمر الله عز وجل بالعدل، ومن أسمائه الحسنى " الحكم العدل " فكل ما يحقق العدل بين الناس، وكل ما يزرع المحبة والطمأنينة والثقة بينهم، أمر يحبه الله ويأمر به دينه وشريعته (قل أمر ربي بالقسط) (الأعراف: 29)، ومن واجب الدولة المسلمة أن تحرص عليه وتتحرى إقامته في البلاد.
(1/496)
ومن واجب الرعية أن يطيعوا هذا الأمر، ويسمعوا له، فالدين يأمرهم بهذا، فقد خاطب الله تعالى المؤمنين بقوله: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). (النساء: 59).
وطاعة أولي الأمر إنما تكون في المعروف، وفيما ليس معصية، ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والقانون الصادر من أجل مصلحة المجتمع، ومن أجل إقامة الحق والعدل فيه فهذا يجب طاعته دينًا، ومن خالفه، شأنه شأن من خالف أي أمر من أوامر الدين.
ومن هنا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
فانظر هنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فيما أحب وكره ".
فإن بعض الناس يسمع ويطيع إذا كان الأمر في مصلحته . أما إذا تعارض مع مصلحته وأهوائه الشخصية، فإنه يعصي أو يتحايل على القانون ليفلت من قيوده المنصوص عليها . . وكأنه يريد من القوانين أن توافق هواه دائمًا وألا تتعارض مع مصلحته الخاصة في بند من بنودها.
إن مصالح الناس ورغباتهم كثيرًا ما تتعارض وتتضارب، ومهمة ولي الأمر هي المحاولة للتوفيق بين المصالح، والموازنة بين المنافع والمضار، فالقانون الذي يحقق منفعة لأكبر عدد من الناس هو الذي يتفق مع العدل، ولذلك كان سيدنا عمر وغيره من الصحابة يفعلون هذا بحكم السياسة الشرعية، ويبتغون دائمًا تحقيق المصلحة لأكبر عدد من الناس . فمثلاً رأي عمر أن الذبائح أقل من حاجة المستهلكين، فحرم على الجزارين أن يذبحوا في يومين متتاليين، لتتوافر الذبائح في بقية الأيام . . فولي الأمر من حقه أن يقيد بعض المباحات إذا كان في ذلك مصلحة راجحة . . ومن هنا كان عمر يذهب بنفسه إلى مجزرة الزبير بن العوام ويراقب ليتأكد أن أحدًا لم يذبح في اليوم الذي يحظر فيه الذبح . . ذلك من أجل أن تتوافر اللحوم في الأيام الأخرى.
(1/497)
وهكذا نجد أن القوانين التي تُسن لتحقيق مصالح الناس، ولتحفظ بينهم الأمن والاستقرار يجب طاعتها والعمل بمقتضاها . أما أن يأتي بعض الناس ويقول: أنا حر في ملكي - أتصرف فيه كما أشاء، ولو أدي ذلك إلى مخالفة القانون . . هذا بطبيعة الحال خطأ فالإنسان ليس حر التصرف بحيث يفعل في ماله ما يشاء . . ولعل هذه هي النظرية التي قالها قوم " شعيب " حينما قال لهم: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم . ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (هود: 85). فقالوا له حينئذ: (يا شعيب، أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء). (هود: 87).
وظاهر أن منطقهم منطق أعوج . . وهذه هي الرأسمالية الباغية، التي تعطى لصاحب المال الحرية المطلقة للتصرف في ماله كما يشاء . . أما الإسلام فغير هذا تمامًا . . فالحقيقة أن الإنسان مستخلف في ماله، وهذا أساس فكرة الاستخلاف في الاقتصاد الإسلامي، ومفادها أن الإنسان ليس مالكًا حقيقيًا للمال، فالمال مال الله، وإنما هو مستخلف فيه، يعني أنه وكيل فيه - استخلفه الله ووكله على هذا المال، ليرعاه، وينفق منه في الوجوه الشرعية، ولهذا يقول تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد: 7). فالمال حقيقة مال الله، كما قال تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور: 33). (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم). (آل عمران: 180).
من الذي خلق المال ؟ من خلق مادته ؟ وهيأه للانتفاع به ؟ إنه الله.
إذا زرعت زرعا، فمن الذي أنبته ؟ (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) (الواقعة: 64) . من الذي فجر الماء من الأرض ينبوعًا، أو أنزله من السماء أمطارًا ؟
من الذي جعل النبته في الأرض تأخذ مقادير معينة محددة من الغذاء والأملاح، فتكون هذه حلوة، وهذه مرة، وهذه مالحة ؟ إنه الله.
(1/498)
كذلك إذا كنت تاجرًا، من الذي سخر الرياح تجري في الأرض، والفلك تجري في البحار، ومن الذي سخر الناس ليشتروا منك ويبيعوا لك ؟ إنه الله.
وهكذا . . فالمال، والأسباب التي يأتي عن طريقها المال، كلها من الله وبتسخير منه سبحانه . ..
إن المال - باعتبار الأصل - هو مال الله . وادعاء الإنسان بأن المال ماله هو ادعاء باطل.
وهو - باعتبار آخر - مال الجماعة أيضًا . فقد أسهمت الجماعة كلها ولا شك في تكوينه وتنميته، بجهود مباشرة وغير مباشرة، منهم من ساهم من قريب، ومنهم من ساهم من بعيد . والمرء وحده لا يستطيع أن يزرع ولا أن يصنع، ولا أن يتاجر، فلولا المجتمع ما كان الفرد . ومن هنا نفهم سر إضافة الأموال إلى جماعة المخاطبين في قوله تعالى في سورة النساء: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، وارزقوهم فيها واكسوهم). (النساء: 5).
أي إذا كان هناك سفيه، يتصرف في المال بغير وعي وبغير عقل، يبعثره ذات اليمين وذات الشمال، فهذا يجب أن يحجر عليه، فلا يعطي ماله . ولكن حينما يعبر القرآن عن هذا المعنى قال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم . .) مع أن العقود الرسمية تنص على أنها " أموالهم " ولكن المعنى المراد: أنها أموال الجماعة المسلمة، لأن السفيه إذا بدد ماله فإنما يبدد مال الجماعة كلها، والضرر لا يعود على الشخص وحده بل يشمل المجموعة من حوله ومن ورائه.
ومن هنا كانت عناية الإسلام بالأموال، فالذي يقول: إن هذا مالي وأنا حر فيه، ولا أحد يقيدني . . مخطئ فيما يقول . . وهو يرتكب حرامًا إذا خالف هذا القانون ؟ لأنه صاحب قوة أو صاحب نفوذ . . بل عليه أن يطيع القانون ويمتثل لأمر الدولة في هذا الشأن، لأنه من الطاعة المعروفة.
(1/499)
أذكر هنا حادثة حكيت لي وهي أن أحد الأثرياء قيل له: إن هذا القانون صدر حماية للضعفاء، ورعاية للفقراء، فغضب وقال: ما لنا وما للفقراء ؟ إذا كان الله لا يغنيهم، فهل يطلب منا أن نغنيهم ؟ . وهذا منطق عجيب . . إنه منطق الكفار والمشركين الذي حكاه القرآن عنهم في سورة " يس " يقول الله تعالى: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟) . . إنه نفس الكلام ونفس المنطق . . ولهذا يعقب الله على قولهم فيقول: (إن أنتم إلا في ضلال مبين) . أي من قال هذا فهو في ضلال، لأنه عمي عن السنن الكونية التي وضع الله عليها هذا الكون، إن الله يرزق الناس بعضهم من بعض، وهناك شبكة من الأسباب والمسببات قام عليها هذا الوجود . فكون بعض الناس يعتقد أنه حر في ماله يفعل كيف يشاء به . . هذا خطأ شنيع، وبخاصة إذا كان هؤلاء - كما ورد في السؤال - يصومون ويصلون ويحجون ويعتمرون ..
هذا - للأسف - هو الفهم المغلوط للدين، وهو أن الإنسان يأخذ من الدين ما يوافق هواه، ويرفض ما لا يوافق هواه، وهو الذي يحج ويعتمر متطوعًا: ألا ينفق الكثير من ماله لأداء الحج والعمرة ؟ فلماذا يبخل بعد ذلك في مساعدة أخيه المسلم، ويرفض تنفيذ قانون دولته، إذا كان هذا القانون يحمي الفقير، فيلجأ المالك إلى طرد المستأجر من بيته، لأنه أقوى منه مالاً ونفوذًا ؟ . . هذا لا يجوز، وهذا يستدعي الشك في تدين هؤلاء . . إن مثل هذا التدين غالبًا ما يكون مغشوشًا مدخولاً، ويدخله الرياء والعياذ بالله.
إن الواحد من هؤلاء تراه يصلي ويصوم ويحج ويعتمر، ثم لا يتورع عن ارتكاب الحرام، وعند العدل بين الخلق تجده يميل ميزانه ويمشي مع هواه، ويتبع خطوات الشيطان . . ألا يكون مثل هذا فتنة للآخرين، ومبررًا للتهجم على الدين وأهله ؟.
(1/500)
إن الدين يأمر بحسن المعاملة، حتى اشتهر بين المسلمين أن " الدين المعاملة " وهذا يقتضيك ألا تظلم أحدًا بل أن تحاول الإحسان إلى غيرك من الناس.
إن الذين يخالفون القانون الذي يحفظ الحقوق ويقر العدل ويقيم ميزانه هؤلاء يعتبرون شرعًا مخالفين للدين نفسه، لأن الدين يأمر بطاعة مثل هذه القوانين التنظيمية ما دامت بالمعروف وفي غير معصية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الإسلام والتجارة
س: هل صحيح أن الدين يكره التجارة ؟ وهل هناك حديث نبوي يدل أو ينص على أن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا ؟ وهل هذا ينطبق على التجار الذين يتجرون بالأشياء المباحة ويربحون ربحًا حلالاً ؟
أرجو توضيح ذلك بالتفصيل، وشكرًا.
س . حـ.
جـ: هذا السؤال يمس قضية مهمة، وبخاصة في هذه الأيام.
إن الإسلام لا يكره التجارة، فإنها وسيلة من وسائل الكسب المشروع، حتى أن القرآن يطلق عليها وصفًا جميلاً، يقول: (. . يبتغون من فضل الله) (المزمل: 20). فسمى طلب الرزق عن طريق التجارة ابتغاء من فضل الله . ويقول أيضًا: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) (البقرة: 198). وهذه الآية نزلت في موسم الحج، أي حتى في أثناء الحج يجوز للإنسان أن يبيع ويشتري، وقد كان المسلمون يتحرجون من ذلك قبل نزول الآية، ولكن هذه الآية رفعت عنهم الحرج، وأباحت لهم التجارة في هذا الموسم العظيم.
ويقول تعالى في شأن صلاة الجمعة: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (الجمعة: 10). يقول سيدنا عمر: " ليس هناك مكان أحب أن يأتيني الموت فيه بعد الجهاد في سبيل الله، إلا أن أكون في سوق أبيع وأشتري من أجل عيالي " وأخذ هذا من قول الله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض بيتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله). (المزمل: 20).
فالتجارة ليست منكرة ولا مكروهة في الدين.
(1/501)
لقد امتن الله على قريش أن كانت لهم تجارة في الشتاء والصيف يرتحلون من أجلها إلى الشام واليمن . يقول تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: 1-4). وقال تعالى: (أولم نمكن لهم حرمًا آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء). (القصص: 57).
وقد كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تجار معروفون، مثل عبد الرحمن بن عوف، الذي هاجر من مكة إلى المدينة ولم يكن معه شيء من مال أو متاع، فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: يا أخي إني من أكثر الناس أموالاً فتعال أشاطرك مالي، وعندي زوجتان أنظر إلى أوقعهما في قلبك أطلقها لك، فإذا استوفت عدتها تزوجتها، وعندي داران، تسكن إحداهما وأنا أسكن الأخرى، هذا الإيثار العظيم من سعد بن الربيع قابله عفاف وترفع من عبد الرحمن ابن عوف قال له: يا أخي بارك الله لك في مالك وفي أهلك وفي دارك، إنما أنا امرؤ تاجر، فدلوني على السوق . فدلوه على السوق فباع واشترى وعمل بالتجارة حتى غلب اليهود فيها وجمع ثروة ضخمة، حتى أنه حينما مات صولحت إحدى نسائه - وكن أربع نسوة - على ربع الثمن فكانت نصيبها ثمانين ألف دينار . . . أي أن هذا المبلغ كان يساوي 32/1 من التركة، ولا ننس القدرة الشرائية للدينار في ذلك الوقت . . وكل هذا من التجارة . . ولعلنا نعلم أن عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة . . فلو كان في التجارة حرج وإثم ما كان عبد الرحمن بن عوف من المبشرين فالتجارة إذن لا شيء فيها.
إلا أن التجارة ينبغي أن يكون الإنسان فيها على حذر، لأن فيها أشياء إذا قارفها ولم يتجنبها يمكن أن تجره إلى سخط الله وإلى نار الجحيم . . والعياذ بالله.
(1/502)
ولهذا جاء في الحديث: " إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبر وصدق " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح) .فالبر والصدق والتقي منجاة للتاجر من النار يوم القيامة . وقد جاء في حديث آخر: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة . وذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم: " المنفق سلعته بالحلف الكاذب " (رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي ذر) . وقد جاء في حديث آخر عن التجار: " إنهم يحدثون فيكذبون، ويحلفون فيأثمون " (رواه أحمد بإسناد جيد والحاكم، واللفظ له، قال: صحيح الإسناد من حديث عبد الرحمن بن شبل) . وجاء في حديث آخر أنه: " جعل الله بضاعته يبيع بيمينه، ويشتري بيمينه " (رواه الطبراني من حديث سلمان قال المنذري: ورواته يحتج بهم في الصحيح) . فهذا الذي يتاجر باسم الله، ولا يتورع أن يجعله بضاعة يحلف به كاذبًا ويغلظ الإيمان في كل بيع وفي كل شراء . . . يرتكب إثمًا عظيمًا، ولا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا ينال شيئًا من رحمته تعالى.
إن اسم الله ينبغي أن يجل ويقدس ولا يبتذل (ولا تجعلوا الله عرضه لأيمانكم) (البقرة: 224) . فما بالك إذا استعمله التاجر في الحلف الكاذب ؟ وقصده من ذلك ترويج بضاعته ولو بالغش والخداع والباطل . ..
هذه آفة التجارة . أن لا يبالي التاجر إلا بالكسب حلالاً كان أم حرامًا . . فإن كان كذلك اندرج تحت الحديث الذي ذكرناه آنفًا، فكان من الفجار يوم القيامة.
أما التاجر الذي يستحق مرضاة الله، وينجو من الآفات التي يقع فيها معظم التجار، فهو التاجر الذي تتوفر فيه هذه الشروط.
أولا: أن يتاجر في المباح، ولا يتاجر فيما يحرم شرعًا.
(1/503)
فالأشياء التي حرمها الإسلام، كالخمر والخنزير، لا يصح للتاجر المسلم أن يتاجر بشيء من ذلك . . حتى ولو باعها لغير مسلم، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - لعن في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها وآكل ثمنها . . فكل من شارك فيها بجهد ما فهو ملعون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه قربة مملوءة خمرًا ليهديها إلى النبي، فقال له عليه الصلاة والسلام: " إن الله قد حرم الخمر " قال له: إذن أبيعها. قال: " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . قال: إذن أكارم بها اليهود - أي يهديها لهم مجاملة - فقال: إن الذي حرم بيعها وشربها حرم أن تكرم بها اليهود " . قال: فماذا أصنع بها ؟ قال: " اذهب فشنها على البطحاء " (رواه الحميدي في مسنده) . أي صبها وأهرق ما فيها على الطريق.
ومن هنا نعلم بأن صناعة الخمر، واستيرادها، وتصديرها، والتجارة فيها، وكل ما يتعلق بها فهو حرام، بل أكثر من ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حبس العنب أيام القطاف ليبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة " (رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الحافظ في بلوغ المرام).
فالأمر الأول هو ألا يتاجر المسلم في محرم.
ثانيًا: ألا يغش ولا يخون فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من غش فليس منا " (رواه مسلم وغيره . ومعظم رواياته: من غشنا، وقد روى هذا المتن عدد: منهم أبو هريرة، وابن عباس وابن مسعود).
ثالثًا: ألا يحتكر، لأن الاحتكار حرام . فالنبي يقول: " لا يحتكر إلا خاطئ ". (رواه مسلم وأبو داود).
وهذا يتناول كل بضاعة أو سلعة يحتاج إليها المسلمون، من قوت أو غير قوت . ووصف المحتكر بأنه خاطئ ليس أمرًا هينًا، فالله سبحانه وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم كانوا خاطئين: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). (القصص: 8).
(1/504)
رابعًا: ألا يحلف كاذبًا، بل يتجنب أن يحلف حتى ولو صادقًا بقدر الإمكان، وقد سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - اليمين الكاذبة باليمين الغموس، أي أنها تغمس صاحبها بالإثم في الدنيا وبالنار في الآخرة، ولا ينظر الله إلى صاحبها يوم القيامة وهي تترك الديار بلاقع، وتخرب البيوت - والعياذ بالله.
خامسًا: ألا يغلي الأسعار على المسلمين، كأن تحدد الحكومة السعر، ويزيد التاجر على التسعيرة، أو يستغل حاجة المسلمين إلى السلعة فيرفع ثمنها عليهم، ليربح أرباحًا فاحشة أكثر مما يجوز.
لقد رفعت الحكومة رواتب الموظفين بنسب معينة، لتواجه حالة الغلاء وموجة ارتفاع الأسعار ولكن التجار يستغلون ذلك ويزيدون الأسعار في مقابل تلك الزيادة في الرواتب بلا مبرر ولا سبب لرفع السعر سوى الجشع والرغبة في الإثراء السريع من غير طريقه الصحيح . إن رفع الأسعار على المسلمين بهذه الطريقة يعتبر جريمة، لأنه يسبب ضيق الحياة على الناس، وكثير من الناس دخلهم ضئيل وأحوالهم المعيشية سيئة، ولهذا روى معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مرض موته، حيث قال للناس من حوله: أجلسوني حتى أحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسوه فقال: سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة " فقيل له: أسمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: غير مرة ولا مرتين (رواه أحمد والطبراني والحاكم وكلهم عن زيد بن مرة عن الحسم عن معقل) أي أنه - عليه الصلاة والسلام - كرر ذلك مرارًا لعظم خطر هذا الأمر.
(1/505)
ليقنع التجار بالكسب المعقول، لماذا يكسبون مائة بالمائة ؟ ألا يكفي ربح عشرين بالمائة أو خمسة عشر ؟ لم الجشع ولم الطمع ؟ ولم الربح الفاحش ؟ ألا يكون ذلك على حساب المستهلك المسكين . . اربح قليلاً وبع كثيرًا أفضل . أما أن تحاول أن تجمع الدنيا بين يديك وتظن أن كل ما تجمعه حلال، فهذا خطأ . إن الإسلام جاء بالعدل، فإذا لم يحدد نسبة الربح، فإنه ينبغي مراعاة روح العدل التي جاء بها ودعا إليها . والعدل أمر فطري.
سادسًا: ينبغي أن يحرص التاجر الذي يريد إرضاء ربه على أن يزكي ماله، فيقوم بضاعته كل عام ويزكيها بنسبة ربع العشر أي 5و2% ويدخل في ذلك الأموال السائلة، والسلع التجارية التي عرفت قيمتها، أما الأشياء الثابتة كالمباني والموازين والمكاتب وما إلى ذلك كالثلاجات التي تحفظ فيها بعض السلع، هذه الأشياء لا تدخل في حساب الزكاة . وإنما الذي يدخل فيها النقود والبضائع المتداولة المعدة للبيع - كما قلنا - والتي تسمى " عروض التجارة " وكذلك الديون المرجوة له . أما الديون التي عليه فإنه يقتطعها ويحسبها من المبلغ الذي سوف يزكيه، والباقي يدفع عنه الزكاة بالنسبة التي ذكرتها آنفًا وهي تعادل خمسة وعشرين ريالاً في كل ألف ريال، و25 ألفًا في كل مليون . . . ولا يستكثر بعض الناس من أصحاب الملايين هذا المبلغ المفروض في أموالهم، ولا يتركوا للشيطان مجالاً للوسوسة وللأمر بالفحشاء، وللتخويف من الفقر (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً) (البقرة: 268)، (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين). (سبأ: 39).
(1/506)
سابعًا: يجب على التاجر المسلم ألا تشغله تجارته عن واجباته الدينية، عن ذكر الله عن الصلاة، وعن حقوق الأخوة في الإسلام، وحقوق الجيران، وهذا التذكير يوجه للتجار خاصة، لأن الغالب أن يستغرق التاجر في المادة، ويعيش في دوامة الأرقام والحسابات، ولا يفكر صباحه ومساءه إلا في الكسب والمرابح، وما دخل خزانته وما خرج منها . . وهذه هي الخطورة ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن). هذا التاجر الذي يلتزم الأمانة والصدق في بيعه وفي شرائه، وفي سائر معاملاته، يكون يوم القيامه مع النبيين والصديقين والشهداء . وقد ورد في حديث آخر: " الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا " (رواه الأصبهاني والبيهقي من حديث معاذ بن جبل وأشار المنذري إلى ضعفه) . . هذه صفات التجار الذين يستحقون أن يكونوا في رفقة النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة، وحسن أولئك رفيقا، إنهم لا تلهيهم ولا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، كما وصف الله المؤمنين من عباده بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب. (النور: 37، 38).
فالتاجر الذي لا تلهيه تجارته عن واجباته الدينية، الذي يزكي ماله، والذي يلتزم حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يكون فيه الجشع الذي يدفعه إلى احتكار السلعة أو إغلاء الأسعار على المسلمين، أو الغش أو الحلف كاذبًا، أو التعامل بييع الحرام . . التاجر الذي يلتزم حدود الله ولا يخرج عنها يكون يوم القيامة مع الصديقين والشهداء.
(1/507)
وكل تاجر يستطيع أن يكون كذلك، ولكن للأسف " قليل ما هم " فإن الإنسان قلما يتذكر واجباته الدينية، ويقنع بالحلال، ولا يتطلع إلى الحرام والإثراء على حساب الآخرين.
نسأل الله عز وجل أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه.
فوائد البنوك
س: كنت موظفًا أتقاضي راتبًا متوسطًا، وكنت أوفر منه مبلغًا أودعه البنك وأتقاضى عليه فائدة، فهل يصح لي ذلك أم لا، علمًا بأن المرحوم الشيخ شلتوت أفتى بجواز هذه الفوائد وسألت بعض العلماء، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها . ومما أذكره أني كنت أدفع زكاة مالي، ولكن فائدة البنك كانت تزيد عن المبلغ الذي أخرجه.
وإن كانت الفائدة غير جائزة فماذا أفعل بها ؟
ج: إن الفوائد التي يأخذها المودع في البنك، هي ربًامحرم، فالربا: هي كل زيادة مشروطة على رأس المال . أي ما أخذ بغير تجارة ولا تعب، زيادة على رأس المال فهو ربًا. ولهذا يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون). (البقرة: 279).
فالتوبة معناها هنا أن يبقى للإنسان رأس ماله، وما زاد على ذلك فهو ربًا. والفوائد الزائدة على رأس المال، جاءت بغير مشاركة ولا مخاطرة ولا مضاربة ولا شيء من المتاجرة ..فهذا هو الربا المحرم . وشيخنا الشيخ شلتوت لم يبح الفوائد الربوية فيما أعلم، وإنما قال: إذا وجدت ضرورة - سواء كانت ضرورة فردية أم ضرورة اجتماعية - يمكن عندها أن تباح الفوائد، وتوسع في معنى الضرورة أكثر مما ينبغي.
وهذا التوسع لا نوافقه عليه رحمه الله.
وإنما الذي أفتى به الشيخ شلتوت هو صندوق التوفير، وهو شيء آخر غير فوائد البنوك . وهذا أيضًا لم نوافقه عليه.
(1/508)
فالإسلام، لا يبيح للإنسان أن يضع رأس ماله ويأخذ ربحًا محددًا عليه، فإنه إن كان شريكًا حقًا، فيجب أن ينال نصيبه في الربح وفي الخسارة معًا، أيًا كان الربح، وأيًا كانت الخسارة.
فإذا كان الربح قليلاً شارك في القليل، وإذا كان كثيرًا شارك في الكثير، وإذا لم يكن ربح حرم منه، وإذا كانت خسارة تحمل نصيبه منها، وهذا معنى المشاركة في تحمل المسئولية.
أما ضمان الربح المحدد، سواء كان هناك ربح أو لم يكن، بل قد يكون الربح أحيانًا مبالغ طائلة تصل إلى 80% أو 90% وهو لا ينال إلا نسبة مئوية بسيطة لا تجاوز 5% أو 6%، أو قد تكون هناك خسارة فادحة، وهو لا يشارك في تلك الخسارة . . . وهذا غير طريق الإسلام . . وإن أفتى بذلك الشيخ شلتوت رحمه الله وغفر له.
فالأخ الذي يسأل عن فوائد البنوك: هل يأخذها أم لا ؟ أجيبه: بأن فوائد البنوك لا تحل له، ولا يجوز له أخذها . ولا يجزيه أن يزكي عن ماله الذي وضعه في البنك، فإن هذه الفائدة حرام، وليست ملكًا له، ولا للبنك نفسه، في هذه الحالة . . ماذا يصنع بها ؟ ..
أقول: إن الحرام لا يملك، ولهذا يجب التصدق به، كما قال المحققون من العلماء، بعض الورعين قالوا بعدم جواز أخذه ولو للتصدق . . عليه أن يتركه أو يرميه في البحر، ولا يجوز أن يتصدق بخبيث.
(1/509)
ولكن هذا يخالف القواعد الشرعية في النهي عن إضاعة المال وعدم انتفاع أحد به . لابد أن ينتفع به أحد . . إذن ما دام هو ليس مالكًا له، جاز له أخذه والتصدق به على الفقراء والمساكين، أو يتبرع به لمشروع خيري، أو غير ذلك مما يرى المودع أنه في صالح الإسلام والمسلمين ؛ ذلك أن المال الحرام كما قدمت ليس ملكًا لأحد . فالفائدة ليست ملكًا للبنك ولا للمودع، وإنما تكون ملكًا للمصلحة العامة، وهذا هو الشأن في كل مال حرام، لا ينفعه أن تزكي عنه، فإن الزكاة لا تطهر المال الحرام، وإنما الذي يطهره هو الخروج منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا يقبل صدقة من غلول " (رواه مسلم) .والغلول هو المال الذي يغله الإنسان ويخونه من المال العام . لا يقبل الله الصدقة من هذا المال لأنه ليس ملكًا لمن هو في يده.
وهل يترك تلك الفوائد للبنك، لأنها محرمة عليه ؟
لا يتركها، لأن هذا يقوي البنك الذي يتعامل بالربا، ولا يأخذها لنفسه، وإنما يأخذها ويتصدق بها في أي سبيل من سبل الخير.
قد يقول البعض: إن المودع معرض للخسارة إذا خسر البنك وأعلن إفلاسه مثلاً، لظرف من الظروف، أو لسبب من الأسباب.
وأقول لمثل هذا بأن تلك الخسارة أو ذلك الإفلاس لا يبطل القاعدة ولو خسر المودع نتيجة ذلك الإفلاس، لأن هذا بمثابة الشذوذ الذي يثبت القاعدة، لأن لكل قاعدة شواذ، والحكم في الشرائع الإلهية - والقوانين الوضعية أيضًا - لا يعتمد على الأمور الشاذة والنادرة . . فإن الجميع متفق على أن النادر لا حكم له، وللأكثر حكم الكل . فواقعة معينة لا ينبغي أن تبطل القواعد الكلية.
القاعدة الكلية هي أن الذي يدفع ماله بالربا يستفيد ولا يخسر، فإذا خسر مرة من المرات فهذا شذوذ، والشذوذ لا يقام على أساسه حكم.
وقد يعترض سائل فيقول: ولكن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه، فلماذا لا آخذ من أرباحه ؟
وأقول: نعم إن البنك يتاجر بتلك الأموال المودعة فيه.
(1/510)
ولكن هل دخل المودع معه في عملية تجارية ؟ طبعًا لا.
لو دخل معه شريكًا من أول الأمر، وكان العقد بينهما على هذا الأساس وخسر البنك فتحمل المودع معه الخسارة، عندئذ يكون الاعتراض في محله، ولكن الواقع أنه حينما أفلس البنك وخسر، أصبح المودعون يطالبون بأموالهم، والبنك لا ينكر عليهم ذلك، بل قد يدفع لهم أموالهم على أقساط إن كانت كثيرة، أو دفعه واحدة إن كانت قليلة . . على أي حال، فإن المودعين لا يعتبرون أنفسهم مسئولين ولا مشاركين في خسارة البنك، بل يطالبون بأموالهم كاملة غير منقوصة.
العمل في البنوك
س 1: تخرجت في كلية التجارة وسعيت في طلب الرزق فلم أجد إلا عملاً بأحد البنوك، ولكني أعلم أن من أعمال البنوك ما يقوم على الربا كما أعلم أن الدين لعن كاتب الربا . فهل أقبل هذا العمل أم أرفضه علمًا بأنه مصدر رزقي ؟
ج: النظام الاقتصادي في الإسلام يقوم على أساس محاربة الربا، واعتباره من كبائر الذنوب التي تمحق البركة من الفرد والمجتمع، وتوجب البلاء في الدنيا والآخرة نص على ذلك الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة، وحسبك أن تقرأ في ذلك قول الله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات، والله لا يحب كل كفار أثيم). (البقرة: 276). (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله). (البقرة: 287 - 289).
وقول رسوله: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ..
وسنة الإسلام في تشريعاته وتوجيهاته أن يأمر المسلم بمقاومة المعصية، فإن لم يستطع كف يده - على الأقل - عن المشاركة فيها بقول أو فعل، ومن ثم حرم كل مظهر من مظاهر التعاون على الإثم والعدوان، وجعل كل معين على معصية شريكًا في الإثم لفاعلها، سواء أكانت إعانة بجهد مادي أم أدبي، عملي أم قولي.
(1/511)
ففي جريمة القتل يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " رواه الترمذي وحسنه.
وفي الخمر يقول: " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه " رواه أبو داود وابن ماجه.
وفي جريمة الرشوة يلعن الرسول: " الراشي والمرتشي والرائش - وهو الساعي بينهما " كما روى ابن حبان والحاكم.
وفي الربا يروي جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه - وقال: " هم سواء " رواه مسلم، ويروي ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي . وصححه وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه، ورواه النسائي بلفظ: " آكل الربا ومؤكله وشاهداه - إذا علموا ذلك - ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة ".
وهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة هي التي تعذب ضمائر المتدينين الذين يعملون في مصارف أو شركات لا يخلو عملهم فيها من المشاركة في كتابة الربا وفوائد الربا.
غير أن وضع الربا لم يعد يتعلق بموظف في بنك أو كاتب في شركة، إنه يدخل في تركيب نظامنا الاقتصادي وجهازنا المالي كله، وأصبح البلاء به عامًا كما تنبأ رسول الله: " ليأتين على الناس زمان لا يبقي منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره " رواه أبو داود وابن ماجة.
ومثل هذا الوضع لا يغير فيه ولا ينقص منه امتناع موظف عن تسلم عمله في بنك أو شركة، وإنما يغيره اقتناع الشعب - الذي أصبح أمره بيده وحكمه لنفسه - بفساد هذا النظام المنقول عن الرأسمالية المستغلة، ومحاولة تغييره بالتدرج والأناة، حتى لا تحدث هذه المشكلة الخطيرة، فقد سار على هذه السنة في تحريم الربا ابتداء كما سار عليها في تحريم الخمر وغيرها.
(1/512)
والمهم هو الاقتناع والإرادة، وإذا صدق العزم وضح السبيل.
وعلى كل مسلم غيور أن يعمل بقلبه ولسانه وطاقته بالوسائل المشروعة لتطوير نظامنا الاقتصادي، حتى يتفق وتعاليم الإسلام، وليس هذا ببعيد، ففي العالم دول تعد بمئات الملايين لا تأخذ بنظام الربا، تلك هي الدول الشيوعية.
ولو أننا حظرنا على كل مسلم أن يشتغل في البنوك لكانت النتيجة أن يسيطر غير المسلمين من يهود وغيرهم على أعمال البنوك وما شاكلها، وفي هذا على الإسلام وأهله ما فيه.
على أن أعمال البنوك ليست كلها ربوية فأكثرها حلال طيب لا حرمة فيه، مثل السمسرة والإيداع وغيرها، وأقل أعمالها هو الحرام، فلا بأس أن يقبله المسلم - وإن لم يرض عنه - حتى يتغير هذا الوضع المالي إلى وضع يرضي دينه وضميره، على أن يكون في أثناء ذلك متقنًا عمله مؤديًا واجبًا نحو نفسه وربه، وأمته منتظرًا المثوبة على حسن نيته " وإنما لكل امرئ ما نوى ".
وقبل أن نختم فتوانا هذه لا ننسى ضرورة العيش، أو الحاجة التي تنزل - عند الفقهاء - منزلة الضرورة، تلك التي تفرض على صاحب السؤال قبول هذا العمل كوسيلة للتعيش والارتزاق والله تعالى يقول: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم).
هل يتحقق الربا في الأوراق النقدية ؟
س: كثرت المناقشات والمجادلات حول الفائدة التي يحصل عليها الدائن من المدين: يقرض الرجل ألفًا من الدراهم يستردها بعد مدة معلومة ألفًا ومائة أو ألفًا ومائتين وتكون المعاملة بأوراق (بنكنوت) . . البعض يراها أنها حلال وليس فيها ربا، إذا جرت بالأوراق لا بذهب أو فضة، اللذين يقال منهما كانت تصنع العملة في القديم وفيهما فقط يحرم أخذ الفائدة المحددة في الوقت المحدد، وحجة هؤلاء أن مثل هذه الأوراق لم تكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك فلم تكن ضمن ما شمله التحريم.
(1/513)
أما الفريق الآخر فيرى أن لا فرق في التعامل بين ذهب أو فضة أو ورق، فالورق يقوم مقام الذهب أو الفضة في المعاملات، فهو بذلك مثله تمامًا في التحريم.
والآن وقد بسطنا أما فضيلتكم هذين الرأيين نرجو أن تتكرموا بموافاتنا برأي الشريعة في هذا الأمر.
جـ: أقول للأخ السائل عن هذا الحكم، إنني أرجح وأصحح رأي الفريق الثاني ولا أرى صوابًا غيره، وهو أن الأوراق " البنكنوت " تقوم مقام الذهب من حيث النقدية، ومن حيث المعاملة، فلا فرق بين ذهب وفضة، وبين ورق، أصبح الآن هو الذي يرى، الناس لم يعودوا يرون الذهب قط في المعاملات، ولا يرون الفضة إلا في الأمور التافهة، وأصبح هذا الورق هو العملة السائدة المنتشرة في العالم كله، فكيف نعطل حكم الربا من أجل أن الناس يتعاملون بورق ولا يتعاملون بذهب وفضة ؟ ؟
(1/514)
إن هذه الأوراق، من يملكها يعد في نظر الناس غنيًا، يجب عليه ما يجب على الأغنياء من الزكاة، ولا يجوز في نظر أحد أن يدفع له من مال الزكاة لاعتباره فقيرًا لا يملك ذهبًا ولا فضة، ولو قال أحد الناس ذلك لعدوه مهووسًا أو مجنونًا، هذه الأوراق يدفعها الرجل مهرًا، فإذا هو يستحل بها الفرج، لأنها مال، ويدفعها الرجل ثمنًا للسلعة، فإذا هو يستحل بها المبيع، ويدفعها الرجل أجرة للشيء المستأجر، فيستحل الانتفاع بالعين المستأجرة ويدفعها الرجل دية، إذا قتل خطأ، فيعوض عن دم القتيل وهكذا . . . كل المعاملات تجرى بهذه الأوراق، فهي تقوم تمامًا مقام الذهب والفضة، ولا يمكن أن يشك أحد في ذلك . . . وإلا ما رضي الإنسان بأن يأخذ هذه الأوراق دية عن مقتول ولا أن يأخذها مهرًا عن ابنته، ولا أن يأخذها ثمنًا لسلعة، أو أجرة لدار أو نحو ذلك، وإنما يراها الناس نقودًا، فإنها أصبحت نقودًا بالتعامل، وباعتماد السلطات الشرعية إياها، فأصبح لها قوة الذهب وقوة الفضة، فإني لا أرى أي مبرر أو مسوغ للتشكك في ذلك، أو التشكيك فيه، فمن أخذ فائدة على هذه الأوراق، أو أعطى فائدة فقد دخل في حكم الربا الحرام قطعًا، وأذن بحرب من الله ورسوله، وكل من اشترك في هذا العقد الربوي، فهو ملعون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.
محنة الفرد المسلم في مجتمع لا يحكمه الإسلام
يا صاحب الفضيلة . هذه هي المرة الثالثة الني أوجه فيها رسالتي إليكم . وأكتفي هنا بأن أسجل صورة ملخصة للرسالتين السابقتين.
(1/515)
إني أكتب هذه الرسالة إلى فضيلتكم مبتدئًا إياها بتهنئتكم على ما وهبكم الله من سعة الاطلاع وغزارة العلم، ونظرتكم الثاقبة إلى المسائل الدينية والدنيوية، ثم توجيهاتكم القيمة . ولا أخال فضيلتكم إلا أن تعتبروني صادقًا فيما أقول، لأنه ليس ثمة ما يدعوني إلى سوى الصدق . هذه الرسالة - سيدي - لا أريد الجواب عليها بالراديو أو التلفاز، فهي شخصية بحتة، ولهذا تجد فضيلتكم مع هذا ظرفًا معنونًا باسمي.
يا صاحب الفضيلة، قد ظهر في هذا العصر أمور ومعاملات لم تكن موجودة أيام الصحابة والتابعين والأئمة، وأنا أعلم أن الإسلام غير عاجز عن حلها . ولكن أين المجتهدون ؟ ولو وجدوا، فمن يجمعهم لحل كل غامض ؟ ثم أيضًا أين هم العلماء الذين صارعوا الحياة المادية (التجارة ومشاكلها، وتغير النظم ومتاعبها، وتجدد المعاملات بأنواعها) فعلاً، فعرفوا قسوتها وذاقوا أتعابها ؟ إن أغلب علماء الدين يعرفون فقط ما دونته كتب الفقه القديمة عن المعاملات والجنايات وغيرها، لمجرد وظيفة قضاء وما أشبهها . ولذلك فهم لا يعرفون مدى الصعوبات التي تدونها الكتب، مع أن الحل موجود في الكتاب والسنة، إما بالنصوص الخاصة أو بالنصوص العامة، لو وجد التعمق والاجتهاد . مثلهم بذلك مثل الطبيب الذي يصف الدواء من الكتاب مع صرف النظر عن ظروف المرض والمريض، فأين أمثال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي منع قطع يد السارق، ومنع الزكاة عن المؤلفة قلوبهم، ومنع حد شارب الخمر . . . إلخ . لظروف خاصة، ورغم وجود آيات ناصة، فذلك هو العلم الصحيح والاجتهاد الحي، الذي حق للإسلام أن يسمى به " الملة السمحة ".
(1/516)
ومن المتأخرين، زار البلاد الأجنبية التي أنا صاحب تجارة فيها، شيخان عربيان من الراسخين في العلم (لم أسترخصهما بأن أذكر اسمهما، إنما يعرفهما فضيلتكم حق المعرفة) فعرضت عليهما مسائل كان في خاطري منها شيء، منها التأمين على البضائع المشحونة وغيرها لأن أهلها يصرون على ذلك، أو نعوضهم نحن عما يتلف.
ومنها: الاقتراض من البنوك لتوسعة العمل ومنه الكسب، وكل هذه تشتمل على مبالغ ضخمة لا يمكن تطبيق ما جاء في الكتب عليها، ولا العملاء ولا البنوك يوافقون على غير أنظمتهم بها.
فأجاب أحدهما حفظه الله أنه لا يقدر أن يفتي بمثل هذه المسائل لأنها تحتاج إلى اجتهاد إجماع . فقلت له: إني لا أطلب فتوى ولكن أريد رأيه الخاص بهذه المسائل المستجدة . فأجابني أنه إذا كانت المسألة مسألة إبداء رأي فهو حسب الظروف الراهنة لا يرى بأسًا بهذين الأمرين.
أما الثاني فهو مبدئيًا لم يتردد بأن يقول لي " لا بأس " إنما اشترط أن يكون المؤمن عنده شركة غير مسلمة، وأضاف أن المرحوم الشيخ بخيت أفتى بذلك.
والآن قد استجد عندي مسألة ثالثة، لا أطلب من فضيلتكم الفتوى من جهتها، وإنما ألتمس أن تتكرموا بإبداء رأيكم فيها، لأنها في الواقع مسألة عويصة وفي الصميم.
والمسألة هي: أنا صاحب تجارة في بلاد أجنبية ليس لها دين رسمي في دستورها، إنما حكومتها خليط من المسلمين وغيرهم، وكل منهم يتبع القوانين الغربية، وسكانها فيهم المسلمون وغير المسلمين وحكومتها تقول: إن كل ما تجبيه من مكوس وضرائب وجمارك . . إلخ هو لفائدة الشعب - مسلميهم وغير مسلميهم - ولكن المصيبة أن ضرائب تلك البلاد تصاعدية وباهظة فوق ما يتصوره العقل أو ترضى به النفس والذوق السليم . فلو كانت تلك الضرائب معقولة لهان الأمر ولم يظهر لدي أي مشكلة . ولنأخذ أمثلة من ضرائبهم التصاعدية لدخل السنوي، (تاركين العشرات من أنواع الضرائب الأخرى) ليتخيلها فضيلتكم:
(1/517)
(1) إذا كان دخلك السنوي 40000 فالضريبة عليه 12000.
(2) إذا كان دخلك السنوي 000 ,100 فالضريبة عليه 75000.
(3) إذا زاد دخلك السنوي عن 000 ,100 تصل الضريبة إلى 89%.
(4) إذا جمعنا كل أنواع الضرائب التي يدفعها الإنسان سنويًا فقد تصل إلى 108% من دخله . أي أنه يصرف على بيته وأيضًا يدفع 8% من رأس المال (لأن المصرف البيتي والشخصي لا يخصم من الدخل قبل تقدير الضريبة) فأنا شخصيًا دفعت في العام الماضي: 000 ,70 كضريبة دخل فقط.
فالسؤال الآن هو: هل يمكنني أن أنوي ما أدفعه أنه للقسم المسلم من السكان . وبذلك تسقط الزكاة لأني لو أخرجتها فوق ما أدفع للحكومة من تلك لثقل الحمل على كاهلي ؟
وقبل أن تبدوا رأيكم بهذا السؤال، أعرف أن لدى حضرتكم بعض الملاحظات عليه فها أنا أوضحها :
ملاحظة فضيلتكم الأولى: " أنت لم تدفع المبلغ اختيارًا، بل جبرًا ".
جوابي: نعم، ولو دفعته اختيارًا لما عرضت لي هذه المشكلة، ولم يكن لزوم بحثها . أيضًا بإمكاني أن أنويها للمسلمين طوعًا لا كرهًا، أو أنوي ما يجب إخراجه لهم.
وفيما يلي أختصر بعض الملاحظات والجواب عليها . إذ كانت مطولة في أصل الرسالة.
ملاحظة فضيلتكم الثانية: لم لا تترك هذه البلاد ؟
الجواب: حكومة تلك البلاد اشتراكية فلا تسمح لي بإخراج نقودي من بلادهم.
ملاحظة ثالثة: اخرج بنفسك ودع نقودك وابدأ العمل من جديد في بلاد عربية غير اشتراكية :
الجواب أنا الآن في الـ 65 من العمر، ومع أني ولله الحمد محتفظ بحيويتي، فالذي بعمري لا أقول لا يمكنه، بل أقول: إن ظروفه غير ظروف الشباب . وأنا عليّ مسئوليات عائلية، ولي منزلة اجتماعية لا يسهل إزاءها التقشف.
ملاحظة رابعة: هل تشكو من مرض ؟
الجواب: جسماني لا، ولكني مرهق عقليًا ومتوتر عصبيًا . وإلى حد ما فإنني بسبب ذلك خائر القوى، فاقد الطمأنينة والاستقرار.
ملاحظة خامسة: لماذا لا تعرض نفسك على طبيب نفساني ؟
(1/518)
الجواب: لم أترك بابًا إلا طرقته . وقد هالني أن من يسمون أطباء نفسانيين هم أحوج الناس إلى العلاج . إذن لا يوجد طبيب نفساني بحق على الإطلاق . وإني أرى أن طبيبي النفساني يكمن في عالم ديني مثقف، واسع الاطلاع، مجرب يراعى الظروف والأحوال، وإني أرجو الله أني في هذه الرسالة قد وجدت ضالتي المنشودة.
تكرموا بدراسة ظروفي دراسة دقيقة، ثم تفضلوا بإعطائي رأيكم الذي أرجو أن أجد فيه ما يريح النفس إن شاء الله.
ع . س.
الجواب:
الأخ الفاضل حفظه الله ووفقه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فأبدأ رسالتي إليكم بإزجاء الشكر لكم على ما أضفيتموه علي في رسائلكم السابقة من أوصاف وفضائل، أسأل الله تعالى أن يجعلني لها أهلاً، وأن يحقق حسن ظنكم بي، ويغفر لي ما لا تعلمون.
وأثني بالمعذرة عن تأخري في الإجابة عن رسالتكم بل رسائلكم، التي سرني ما تضمنته من معان تدل على فهم ووعي، وخبرة بالحياة والناس، والحقيقة أني أخرت الرد عليكم عن قصد حسن لا عن إهمال متعمد، فقد كنت أؤمل أن أجد عند نفسي فراغًا يمكنني من كتابة رد مفصل على رسالتكم، نظرًا لما اشتملت عليه من رغبة صادقة في معرفة حكم الإسلام - كما أتصوره على الأقل من وجهة نظري - في مسائل مهمة، أصبحت جزءًا من حياتنا الحاضرة للأسف الشديد.
ورغم طول المدة لم أتمكن من تحقيق ما رغبت فيه حتى جاءتني رسالتك الأخيرة، فأجبرتني على أن أكتب لك شيئًا رغم ضيق الوقت وكثرة الشواغل، ومشكلة أمثالنا: أن الواجبات عندهم أكثر من الأوقات، والزمن لا ينتظر، والناس لا يعذرون، والعمر قصير، والظهر كليل، وقد قال حكيم: لا تسأل الله أن يخفف حملك ولكن سله أن يقوي ظهرك.
إن المسائل التي سألت عنها كلها تنبع من عين واحدة، وكلها يعبر عن مشكلة واحدة، وهي مشكلة الفرد المسلم يعيش في ظل نظام غير إسلامي، وحياة غير إسلامية.
(1/519)
إن كل الأمور التي سألت عنها من التأمين على البضائع، والاقتراض من البنوك لتوسعة التجارة، ووجود ضرائب تصاعدية عالية في بعض البلاد، مع ما يجب على المسلم في ماله من زكاة . . . كل هذه وأمثالها، لم تكن لتحدث لو كان نظام الإسلام هو الذي يحكم الحياة، ويقود المجتمع وفق شرع الله . ولكن مأساتنا أننا أخذنا أنظمة الحضارة الغربية وخاصة في المال والاقتصاد، وهي أنظمة رأسمالية، تقوم في الأساس على فلسفة للمال غير فلسفتنا، ونظرة للحياة غير نظرتنا . فالربا يجري منها مجرى الدم في العروق، لا تحيا إلا به، ولا يمكنها الاستغناء عنه، والمعاملات المشتملة على (الغرر) تسري في نظامها كله . . ولهذا يكون من الظلم أن نحاول نحن ترقيع هذا النظام بأجزاء إسلامية، لأن هذه الأجزاء ستكون " قطع غيار " في غير جهازها وغير مكانها.
إن خطأنا الأساسي أننا نستفتي الإسلام في مشكلات لم يصنعها هو، ونريد منه أن يعالج أمراضًا جلبناها نحن من مكان آخر، ولم نتبع أسلوب الإسلام في الوقاية منها.
نستورد نظام المصارف أو البنوك بعجره وبجره، كما أنشأته الرأسمالية الغربية الربوية اليهودية، ونخضع رقابنا له، ونجري معاملاتنا على أساس وجوده . ثم نقول للإسلام: حل مشكلاتنا مع البنوك الربوية.
وجواب الإسلام الصحيح: أن دعوا هذه البنوك واسسوا لأنفسكم مصارف أو " بنوكًا " إسلامية الأساس، تقوم على غير الربا وتتعامل بشرع الله - إن كنتم مؤمنين.
وليس هذا بالمستحيل ولا بالمتعذر لو صدقت النيات وصحت العزائم، فقد قيل: إذا صدق العزم وضح السبيل.
وقد كتب كثير من الباحثين الإسلاميين المتخصصين في المالية والاقتصاد كثيرًا من البحوث الجيدة حول إقامة مصارف إسلامية، ووضعوا مشروعات عملية لهذا، ولا يحتاج الأمر إلا إلى التبني من جهات تملك المال والنفوذ.
(1/520)
قد تقول: وما ذنب الفرد إذا انحرف المجتمع، أو انحرفت الأنظمة والحكومات ؟ وماذا يستطيع أن يفعل وهو فرد، لا يقطع عرقًا ولا يريق دمًا ؟
والجواب: أن المجتمع ما هو إلا أفراده، وقد ساهم هو بسكوته ورضاه، بل بتعامله الإيجابي مع المؤسسات اللاإسلامية - في صنع الواقع المخالف للإسلام.
وينبغي أن يظل الفرد المسلم غير راض عن نفسه، وعن الأوضاع المعوجة من حوله وأن يبقى هذا الشعور حيًا متوقدًا بين جنبيه، حتى يستطيع - بالتعاون مع أمثاله من المؤمنين الثائرين على حياتهم وعلى انحرافات مجتمعهم أن يعملوا على تغيير الأوضاع اللاإسلامية إلى أوضاع إسلامية، يومًا ما.
إن هذه الشحنة هي رصيد هذا التغيير المنشود . وبدون هذه الشحنة النفسية من الغضب والنقمة لا أمل في أن يستقيم نظام أعوج، أو يصحح وضع منحرف.
لا بد أن يبقي الفرد المسلم في ظل الأوضاع المذكورة شاعرًا بالإثم، وبالضيق، وبالتبرم، فإن هذا الإحساس من بقايا الإيمان، لأن معناه أنه لا يزال يرى المعروف معروفًا والمنكر منكرًا وأن أخطر ما تصاب به الأمة المسلمة أن تفقد - بطول رؤيتها للمنكرات وإلفها لها - إحساسها بها، وتمييزها لها، فلا تلبث أن يختلط عليها الأمر ويلتبس عليها السبيل، وتضطرب في حياتها الموازين، حتى ترى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا . وقد تتوغل في الضلال، فتنتهي إلى مرحلة أسوأ وأقبح، وهي أن تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، وربما تفعل ما فعلت بنو إسرائيل، فتقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس.
إني أشعر ويشعر كل عالم غيور فاهم لحقيقة الإسلام وحقيقة الأوضاع من حوله ولا يأخذ الأمور بظواهرها، ومن سطوحها لا من أعماقها - أشعر بأن الفرد المسلم يعاني من هذه الأوضاع ما ينوء به ظهره، إذا أراد أن يحيا مسلمًا حقًا، غير مخدوش الإسلام.
(1/521)
ولكني أشعر بجوار ذلك أن من المخاطرة بدين المرء، وبمصير المجتمع كله - إصدار " فتاوى تبريرية " غايتها محاولة إيجاد مخارج فقهية لإضفاء الشرعية على الواقع الذي يضغط علينا ضغطًا شديدًا، ناسين أن رسالة الدين أن يرتفع بواقع الناس إلى مثله العليا، لا أن يهبط بمثله ليبرر واقع الناس.
إن هزيمتنا الروحية والفكرية أمام الحضارة الغربية وشعورنا بالنقص تجاهها، هي التي وضعتنا هذا الوضع الغريب، وهي محاولة تطويع الدين للحياة، بدل تطويع الحياة للدين.
وأي حياة ؟: إنها حياة لم نصنعها نحن بعقولنا وأيدينا مختارين، بل صنعت لنا فأخذناها كما هي، فنحن معها مجرد مستوردين يأخذون ما يصنع لهم، لا منتجين يصنعون ما يلائمهم . وفرق كبير بين الصانع والمستورد . الصانع إيجابي منشئ، والمستورد سلبي مستقبل.
ولئن جاز استيراد السلع المادية على كراهة، لا يجوز استيراد الأفكار والمذاهب، وما ينبثق عنها من أنظمة تعبر عنها، ولئن حدث ذلك في غفلة الزمن وغيبة الشخصية الإسلامية عن مسرح الواقع - لا يجوز أن يكون عملنا الفكري البحث عن فتاوى، لإلباس الأوضاع الأجنبية زيًا شرعيًا.
إن أول مظاهر السيادة والاستقلال أن نتحرر من عقدة النقص تجاه الغرب وفلسفته وحضارته وأنظمته، وأن نصمم على أن نقول " لا " بملء فينا، لكل ما لا يوافق ديننا.
إننا لا نبقي للدين أي احترام إذا جعلنا مهمته تبرير الواقع وتسويغ ما يفعله الحكام، يمينيين كانوا أو يساريين، رأسماليين أو اشتراكيين . أي جعلناه مجرد " موظف تشريفات " عمله أن يرحب بكل وضع جديد، ويبارك كل نظام مستحدث، فهو في أيام سطوة الرأسمالية يحلل الربا والاحتكار والتظالم الاجتماعي، وفي أيام سطوة الاشتراكية يجيز التأميم والمصادرات بحق وبغير حق ..
(1/522)
المشكلة إذن ليست مشكلتك يا أخي وحدك، ولكنها مشكلة الأمة الإسلامية في هذا العصر: هل تريد أن تعيش بالإسلام وتحيى نظامه وحضارته أم تريد أن تظل ذيلاً للحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والاشتراكي.
وبعبارة أخرى: هل تريد أن تعيش لرسالتها، أصيلة تقود ولا تقاد وتُتَّبع ولا تَتَّبع أم تريد أن تحيا حياة القرود، مهمتها التقليد والمحاكاة ؟
الأمر يا أخي أكبر مما تتصور، ويتصور بعض المتعجلين من المشتغلين بالفقه والفتوى، فلا تحمل على علماء الدين إذا خالفوك في الاتجاه، ولا ترمهم بجهل الدين والحياة، وثق أن عمر - الذي تحدثت عنه في رسالتك - لو كان موجودًا اليوم لرفض هذه الأوضاع كلها، وغيرها باسم الإسلام، ولم يجعل أكبر همه أن يسوغها بأي سبيل.
على أن المسائل التي سألت عنها ليست في درجة من حيث القبول والرفض، ولعل أقربها إلى القبول عملية التأمين على البضائع فيمكن أن يكون لها وجه من الناحية الشرعية لولا أنها مشوبة بالربا، كما هو الشأن في كل شركات التأمين حاليًا.
ويمكن إجازة ذلك بحكم الظروف الراهنة، وبقدر الحاجة، بخلاف التأمين على الحياة، فهو بعيد كثيرًا عن صور المعاملات الإسلامية، ولا ضرورة إليه.
أما الاقتراض من البنوك بالفوائد، فهو حرام قطعًا، لأنه الربا الذي لعن محمد - صلى الله عليه وسلم - آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه . ولا يحل مثل هذا الحرام القطعي إلا لضرورة، مثل الحاجة إلى القوت للأولاد، والكسوة الضرورية لهم، وعلاج المريض الذي يخشى عليه من تفاقم المرض ونحو ذلك.
أما التوسع في التجارة فليس ضرورة يباح لها مثل هذا الحرام الذي آذن القرآن أصحابه بحرب من الله ورسوله.
وليعش المسلم قانعًا بالقليل من الحلال مباركًا له فيه، بدل الكثير من الحرام الذي يمحقه الله في النهاية، فالربا وإن أكثر فهو إلى أقل.
(1/523)
أما موضوع ما تدفعه من ضرائب تصاعدية باهظة لتلك الدولة التي ذكرتها من الزكاة، وهي دولة لا دينية، ومن بين سكانها مسلمون ونيتك أن يكون هذا للمسلمين من رعاياها . . فهذا ما لا يجوز بحال . فإنما يصح أن يحتسب ما يؤخذ من المال زكاة إذا توافرت له شروط ثلاثة :
1- أن يؤخذ ما يؤخذ باسم الزكاة ورسمها، أي بشروطها ونسبها ومقاديرها الشرعية، لأنها شعيرة من شعائر الإسلام الكبرى، والشعائر لا بد أن تبقى لها صورتها وعنوانها.
2- أن يصرف في مصارف الزكاة الشرعية كما أمر الله في كتابه . وهذا مترتب على الأول.
3- أن يدفع بنية الزكاة، لأنها عبادة ولا تجزئ إلا بنية.
فلو سلمنا بتحقيق الشرط الثالث وهو النية، فمن أين لنا بالشرطين الأولين ؟
ولقد رجحت في كتابي " فقه الزكاة " أن الضرائب الوضعية في البلاد الإسلامية نفسها لا يجوز أن تحتسب من الزكاة، فكيف ببلاد وثنية أو لا دينية لعل المسلمين لا يصيبهم من دخل حكوماتها إلا الفتات لو أصابوه.
وما اخترته هنا هو ما أفتى به العلامة المجدد السيد رشيد رضا، وشيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت رحمهما الله .وقد قرأت أخيرًا أن مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في القاهرة في مايو 1965 اتخذ في ذلك قرارًا هذا نصه:
" إن ما يفرض من الضرائب لمصلحة الدولة، لا يغني القيام به عن أداء الزكاة المفروضة ".
ولهذا، فإن عليك أن تقوي إرادتك، وتعزم على إخراج زكاتك، تطهيرًا لنفسك ومالك وشكرًا لنعمة الله عليك، فما أظن تلك الضرائب تطهر نفسًا أو مالاً أو تفي بشكر النعمة، ولا أظنك تعتقد هذا أيضًا.
ومعنى هذا أن المتدين يتحمل من الأعباء المالية ما لا يتحمله غيره، وهذا صحيح . ولكن هذه ضريبة الإيمان والإسلام في عصر ضعف فيه الدين، وقل اليقين، ولهذا جاء في الحديث: " أن القابض على دينه في هذا الزمان كالقابض على الجمر " وكان المستمسك بدينه في خضم فتن هذا العصر له أجر خمسين من بعض الصحابة.
(1/524)
وأعتقد أن في هذه الصفحات ما يكفي لتوضيح ما سألت عنه، ووصله بجذوره الحقيقية، وما كنت أحسب حين أمسكت بالقلم إلا أنني سأكتب لك سطورًا معدودة، ولكن الله هو الذي قدر لي أن أكتب ما كتبت، عسى أن يكون فيه نفع وعبرة.
أما ما تشكوه من إرهاق الجسم، وقلق النفس، وتوتر الأعصاب، فأنصحك بتلاوة القرآن تلاوة تدبر، والتضرع إلى الله تعالى والوقوف على عتبته موقف العبودية الخاشعة، ومجالسة الصالحين ما استطعت وقراءة سيرهم، ففي ذلك شفاء لما في الصدور.
وإني لمعجب بكلامك العميق البصير عن الطب ورجاله، وأسأل الله أن يشرح لك صدرك، وييسر لك أمرك، ويثبت على الحق قدميك، ويجعل لك نورًا تمشي به في الظلمات، وفرقانًا تميز به بين المتشابهات، ويغنيك بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأن يجعل لنا حظًا من هذه الدعوات معك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرشوة لاستنقاذ سجين مذنب
س: ما حكم الشرع بالنسبة لشخص ضبط في تهريب مخدرات في بلد ما، وله عم يتجول بين الناس يطلب سلفة لإنقاذ هذا المهرب " السجين " بطريق الرشوة، علمًا بأن العم غير راض عن تصرف ابن أخيه . وإنما الدافع لإنقاذه هو طول مدة السجن (خمسة عشر عامًا) وللسجين عائلة لا يعولها سواه ؟
(1/525)
ج: هذا الشخص الذي ارتكب هذا الذنب، وهذه الجريمة، جريمة تهريب المخدرات، يستحق العقوبة، التي تقررها السلطات الشرعية المسئولة، لأنه ليس هناك أشد إفسادًا للناس من هذه المخدرات، هي كالخمر أو هي أخت الخمر، ولهذا يرى ابن تيمية وغيره أن شاربها يحد حد الخمر، وأن مستحلها يكفر، بل لعل أثرها أشد ضررًا من ضرر الخمر نفسها، لأنها تعيش الناس في أوهام، في واد من الأحلام يرى البعيد قريبًا، والقريب بعيدًا، ويتخيل ما لا يقع، رجل " مسطول " يقول: رأس بلا كيف تستأهل ضرب السيف . مثل هذا الصنف لا ينفع، لا في حرب إسرائيل، ولا تنهض به أمة، ولا ترتفع به راية، ولا تقوم به نهضة ولا تتحقق به حياة طيبة . . فالشخص الذي يساعد على إفساد الشعب وعلى إفساد الناس، في تجارة المخدرات أو في تهريبها يستحق عقوبة بليغة، فإذا قررت دولة ما عقوبة مثل هذا بالسجن خمس عشرة سنة يجب أن ينالها، وهو يستحقها، فالسعي في تخليص مثله من العقوبة المستحقة سعى في باطل وإثم مبين.
فإذا كان السعي في تخليصه عن طريق الرشوة، يكون الإثم أكبر، لأننا نزيد الفساد فسادًا آخر . . لا نكتفي بالفساد الذي صنعه صاحبنا في ترويج هذا السم، ولكن نأتي إلى فساد آخر . . فساد أخلاقي . . فنفسد الناس الموظفين، أو القادرين على أن يفعلوا شيئًا في هذه النواحي، بالرشوة، فهذه الرشوة حرام، حرام، والساعي فيها يرتكب محرمًا لا شك فيه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد لعن الراشي والمرتشي والرائش (رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وزادوا: والرائش يعني الذي يسعى بينهما . ورواه أحمد والبزار والطبراني عن ثوبان وفيه من لا يعرف)، والرائش هو المتوسط بينهما . . . كلهم ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما أفسد مجتمعاتنا شيء كهذه الرشوة، الرشوة تفسد كل شيء، تجعل كل شيء لا يمكن أن يتم إلا بالدفع، قال الشاعر :
إذا كنت في حاجة مرسلاً وأنت بها كلف مغرم
(1/526)
فأرسل حكيمًا ولا توصه وذاك الحكيم هو الدرهم
إن الحياة لا تفسد، والمجتمعات لا تدمر، إلا بمثل هذه الأمور.
إن هذا الشخص - العم - يرتكب إثمًا عظيمًا بسعيه في تخليص هذا السجين الذي استحق جزاءه عن طريق الرشوة.
وبدل أن يدفع رشوة، يدفع هذا المال لأولاد السجين، فما دام له عيال وهو مشفق عليهم، فبدلاً من أن يجمع المال، أو يستلف من الناس، ليدفع رشوة، ويرتكب فسادًا عريضًا، يدفع هذا لأولاد ابن أخيه، هذا هو الأولى . وفي الحقيقة نرى واجبًاعلى الحكومات والدول أن ترعى أولاد السجناء، وهذا ولا شك قصور في القوانين الوضعية فهي لا تلتفت إلى هذه الناحية، فحين تسجين الناس، لا تبحث عمن وراءهم . . وهذا مما يتسبب في فساد آخر، لأن الأولاد إذا تركوا بدون كفاية اقتصادية، ولا رعاية اجتماعية فإنهم يكونون معرضين لأن تأخذهم أيدي الشر والإفساد، وتعلمهم ما يضرهم . فلابد من رعاية المجتمع، عن طريق الضمان الاجتماعي وغير ذلك.
والله أعلم.
الكذب مجانب للإيمان
س: أعجب لمسلم يؤدي جميع فرائض الإسلام، ومع ذلك لا يتورع عن الكذب فهل يعتبر هذا من الصالحين؟
جـ :الكذب خلق سيئ ليس من أخلاق الصالحين ولا المؤمنين، وإنما هو من أخلاق المنافقين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " (رواه الشيخان). وفي رواية أخرى: " أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن، ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ". (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما).
(1/527)
فالكذب ليس من خصال المؤمنين، وإنما هو من خصال المنافقين، الذين يكذبون دائمًا، ويؤكدون كذبهم بالحلف، حتى في يوم القيامة يكذبون أمام الله ويحلفون له كما كانوا يحلفون للمسلمين في الدنيا، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون . وقد جاء في القرآن الكريم " (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) (النحل: 105). وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال: نعم . قيل: أيكون بخيلاً ؟ قال: نعم . قيل: أيكون كذابًا؟ قال: لا ". (رواه مالك مرسلاً عن صفوان بن سليم).
من الناس من يكونون ضعفاء النفوس، يتصفون بالجبن وشدة الفزع.
ومن الناس من يكونون بخلاء، يتصفون بالشح وقبض اليد.
هاتان الصفتان قد تكونان في الجبلة والطبع.
ولكن الكذب لا يكون إلا مكتسبًا، وهذا الذي يحاسب عليه الإسلام ويشدد فيه أبلغ ما يكون التشديد . وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا.
وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". (متفق عليه من حديث ابن مسعود).
(1/528)
فالصدق عادة تكتسب بالتحري، وبالمجاهدة وبالرياضة وبالتعود . وعلى المسلم أن يعود أبناءه منذ نعومة أظافرهم على الصدق، وينهاهم عن الكذب . حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع أحد الآباء يقول لابنه مرة: سأعطيك كذا وكذا . فقال له: هل تنوي أن تعطيه ؟ قال: لا . قال: إما أن تعطيه وإما أن تصدقه . فإن الله نهى عن الكذب . قال: يا رسول الله، أهذا من الكذب ؟ قال: " نعم . إن كل شيء يكتب . الكذبة تكتب كذبة، والكذيبة تكتب كذيبة " (رواه أحمد وابن أبي الدنيا عن حديث الزهري عن أبي هريرة ولم يسمع منه) . والكذب يتفاوت قطعًا، فكلما كان ضرره أشد كان النهي عنه أعظم والإثم فيه أكبر . هناك كذب يعتبر من الصغائر، وكذب يعتبر من الكبائر.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر ". (رواه مسلم).
هؤلاء المذكورون في الحديث يرتكبون المعصية دون حاجة إليها، فالملك أو الرئيس الكذاب الذي يدجل على الناس - والمفروض فيه أن يكون قدوة حسنة إثمه عظيم.
والذي يزني بعد أن تجاوز طيش الشباب إلى حكمة الشيخوخة.
والعائل المستكبر فقير لا حيلة له ومع ذلك يتكبر أن يسمع الموعظة، أو النصيحة، أو غير ذلك مما فيه إرشاد له وتوجيه إلى الخير . هؤلاء الثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
الكذب الأبيض
س: وعدت صديقتي أن أزورها في يوم معين، فلما جاء ذلك اليوم شغلتني بعض الشواغل العائلية، فلم أقم بزيارتها الموعودة فلما قابلتها استحييت منها فاعتذرت بأن ضيوفًا قدموا علي فجأة فلم أتمكن من مغادرة المنزل.
(1/529)
فهل هذا اللون من الكذب حرام ؟ مع أنه لا يضر صاحبتي ولا يضرني، وإنما خلصني من مأزق حرج بلطف، ولهذا يسمونه " الكذب الأبيض " ؟ وليس مثل الكذب في البيع والمعاملة، والذي يترتب عليه غش وتدليس، أو الكذب في الشهادة الذي يترتب عليه ضياع حقوق، وما شابه ذلك من الكذب الذي لا يشك إنسان في تحريمه دينًا.
إنني وغيري نتورط كثيرًا في هذا النوع من الكذب الذي يكاد يطبع حياة الناس اليومية، حتى أصبح من سمات العصر.
ولهذا أود أن تشرحوا لنا موقف الدين من هذه البلوى، عسى أن تجدوا لنا فيها رخصة نستريح إليها، ونعتمد عليها . وإلا فيا ويلنا وويل أهل عصرنا كافة إلا من رحم ربك . وقليل ما هم.
جـ: إن انتظار المستفتي رخصة يستريح إليها من عالم ديني يثق به أمر لا حرج فيه شرعًا، وبحث العالم المفتي عن رخصة لسائله تريحه من الحيرة والقلق والشعور بالإثم، أمر لا بأس به أيضًا، وقد قال إمام الفقه والحديث والورع، سفيان الثوري رحمه الله: إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.
ولكن ليس كل ما تطلب الرخصة فيه يكون في الاستطاعة الحصول عليها.
ومن ثم لا أجد هنا متسعًا للرخصة في الكذب وإن سماه الناس أبيض، إلا في حدود ضيقة سأبينها بعد.
فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام، ويعده من خصال الكفر أو النفاق . . ففي القرآن نقرأ: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون). (النحل: 105).
وفي السنة: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر (رواه الشيخان) . وفي رواية لمسلم: " وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ".
وفي حديث آخر للشيخين: " أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: : إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
(1/530)
ولهذا جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا: " الكذب مجانب الإيمان " (رواه البيهقي وصحح الموقوف) .وعن سعد بن وقاص رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب " (رواه البزار وأبو يعلي ورواته رواة الصحيح والدارقطني مرفوعًا وموقوفًا، وقال الموقوف أشبه بالصواب). وفي حديث مرسل رواه مالك: قيل يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال: " نعم " . قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال: " نعم " . قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: " لا ". (رواه مالك مرسلاً عن صفوان بن سليم).
ولهذا قالت عائشة: " ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكذب ". (رواه أحمد والبزار وابن حيان والحاكم وصححاه).
وهذا كله يدلنا على مدى نفور الإسلام من الكذب . وتربية أبنائه على التطهر منه، سواء ظهر من ورائه ضرر مباشر أم لا . يكفي أنه كذب، وإخبار بغير الواقع، وتشبه بأهل النفاق.
وليس من اللازم ألا يلتزم الناس الصدق إلا إذا جر عليهم منفعة، ولا يجتنبوا الكذب إلا إذا جلب عليهم مضرة، فالتمسك بالفضيلة واجب وإن كان وراءها بعض الضرر الفردي المباشر واتقاء الرذيلة واجب وإن درت بعض النفع الآني المحدود.
وإذا كان الإنسان يكره أن يكذب عليه غيره، ويخدعه باعتذرات زائفة، وتعللات باطلة، فواجبه أن يكره من نفسه الكذب على الآخرين، على قاعدة عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
على أن من أكبر وجوه الضرر في الكذب أن يعتاده اللسان، فلا يستطيع التحرر منه، وهذا هو المشاهد الملموس، الذي عبر عنه الشاعر قديمًا فقال :
عود لسانك قول الصدق وارض به إن اللسان لما عودت معتاد
(1/531)
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذرنا من ولوج هذا الباب الذي ينتهي بصاحبه بعد اعتياد دخوله إلى أن يكتب عند الله من الكذابين . فيقول: " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا". (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وصححه واللفظ له).
ومع هذا فإن من خصائص الإسلام أنه دين يجمع بين المثالية والواقعية في توازن وتناسق ولا يكتفي بالتحليق في أجواء المثاليات المجنحة، دون النزول إلى أرض الواقع الذي يعيشه الناس، كما فعل بعض فلاسفة الأخلاق المثاليين من أنصار مذهب الواجب لذاته مثل الفيلسوف الألماني الكبير " كانت " الذي لم يرخص في الكذب ونحوه في أي موضع، ولأي سبب ومهما تكن النتيجة.
أما الإسلام فهو منهج الله الذي يعلم من طبيعة الحياة، وضرورات الناس فيها، ما جعله يرخص في الكذب في مواضع معينة، مراعاة لطبيعة البشر، وتقديرًا لما ينزل بهم من ضرورة قاهرة أو حاجة ملحة.
ولم أجد من وضح هذا الجانب، ووفاه حقه من البحث والشرح مثل الإمام أبي حامد الغزالي في موسوعته الإسلامية " إحياء علوم الدين " ويحسن بي أن أنقل هنا مقتطفات من حديثه بلفظه، لما فيها من التحقيق والبيان حيث يقول:
" اعلم أن الكذب ليس حرامًا لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً، وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل، فيكون مأذونًا فيه، وربما كان واجبًا.
(1/532)
قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله، فدخل دارًا، فانتهى إليه فقال: أرأيت فلانًا ؟ ما كنت قائلاً ؟ ألست تقول: لم أره ؟ وما تصدق به . وهذا الكذب واجب.
فتقول: " الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا".
ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بكذب، فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة . فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا لضرورة.
والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: " ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء من الكذب، إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها ". (أخرجه مسلم).
وقالت أيضًا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا أو نمى خيرًا ". (متفق عليه).
وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل الكذب يكتب على ابن آدم، إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما ". (أخرجه أحمد بزيادة فيه وهو عند الترمذي مختصر وحسنه).
قال: " فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له، أو لغيره ".
(1/533)
أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله، فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان، فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله " (الحاكم من حديث عمر بلفظ: " اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله " وإسناده حسن، كما قال الحافظ العراقي)، وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلمًا، وعرضه بلسانه، وإن كان كاذبًا.
وأما عرض غيره: فبأن يسأله عن سر أخيه، فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضرات من نسائه، بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه، فيعدها في الحال تطييبًالقلبها، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به.
ولكن الحد فيه، أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر، ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعًا في الشرع من الكذب، فله الكذب، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى، لأن الكذب يباح لضرورة، أو حاجة مهمة فإن شك في كون الحاجة مهمة، فالأصل التحريم، فيرجع إليه.
" ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد، ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، وكذلك مهما كانت الحاجة له، فيستحب له أن يترك أغراضه، ويهجر الكذب، فأما إذا تعلق بغرض غيره، فلا يجوز المسامحة لحق الغير، والإضرار به، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ثم هو لزيادات المال والجاه، لأمور ليس فواتها محذورًا، حتى إن المرأة لتحكي من زوجها ما تفخر به، وثكذب وتكذب لأجل مراغمة الضرات (أو الزميلات)، وذلك حرام.
(1/534)
وقالت أسماء: سمعت امرأة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل، أضارها بذلك، فهل على شيء فيه ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ". (متفق عليه، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق).
" ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب (أو المدرسة أو الصلاة) إلا بوعد أو وعيد، أو تخويف كاذب، كان ذلك مباحًا.
" نعم، روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذبًا، ولكن الكذب المباح أيضًا قد يكتب، ويحاسب عليه، ويطالب بتصحيح قصده فيه ثم يعفي عنه، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح، ويتطرق إليه غرر (أي خطر) كبير، فإنه قد يكون الباحث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه، وإنما يتعلل ظاهرًا بالإصلاح، فلهذا يكتب ".
" وكل من أتي بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله: هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ؟، وذلك غامض جدًا، والحرام تركه، إلا أن يصير واجبًا، بحيث لا يجوز تركه، كما لو أدي إلى سفك دم، أو ارتكاب معصية كيف كان ". (إحياء علوم الدين، جـ 3، ص 137، ص 139).
وعلى ضوء هذا الشرح والبيان الوافي، نعود إلى السؤال المذكور، وما جاء فيه من اعتذار بأمر لم يحدث، تخلصًا من الحرج، وهذا غير الأمور الثلاثة المستثناه في الحديث فهل هو مما يقاس عليها ؟ يبقي على أصل الحرمة.
والحقيقة، أننا إذا نظرنا إلى سؤال الأخت المستفتية، نجدها ارتكبت خطأين اثنين:
الأول: أنها وعدت صديقتها بالزيارة وأخلفت، مع أن الوفاء بالوعد واجب، وإخلافه من آيات النفاق، كما ذكرنا، إلا من عذر.
الثاني: أنها بررت هذا الإخلاف بعذر مختلق، فعالجت الخطأ بخطأ آخر . على نحو ما قال الشاعر :
إذا استشفيت من داء بداء فاقتل ما أعلك ما شفاك
(1/535)
وكان الأولى بها أن تقول الحقيقة، وإن ظهر تقصيرها، حتى لا تعود إلى ذلك مرة أخرى . ولا مانع من التلطف والترفق في اختيار الصيغة التي تظهر بها الحقيقة لصديقتها . ومن التلطف المباح هنا أن تستخدم " المعاريض بدل الكذب الصريح . فقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب . وقال عمر: أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب ؟ (رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعًا وموقوفًا، قال البيهقي: الصحيح موقوف). وروي ذلك عن ابن عباس وغيره . وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب . فأما إذا لم تكن حاجة أو ضرورة، فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعًا، ولكن التعريض أهون.
ومثال التعريض ما روي أن مطرف بن عبد الله أحد علماء التابعين الأجلاء، دخل على زياد بن أبيه الوالي الأموي المعروف، فسأله الوالي عن سبب تأخره في زيارته، فقال: ما رفعت جنبي منذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله.
ففهم الأمير منه أنه يتعلل بمرض أصابه، مع أن السليم أيضًا لا يرفع جنبه إلا ما رفعه الله، وهذا ما قصده مطرف.
فإذا لم يحضرها، أو لم يمكنها التعريض بمثل ما ذكرنا فهل يجوز لها التصريح بالكذب، كما فعلت السائلة ؟
والجواب هنا يتوقف على معرفة مدى العلاقة بين الصديقين، وهل يخشى أن تسوء أو تضعف إذا ذكرت ما وقع بالفعل ؟ فإذا خشي ذلك، وكان قلب الصديقة لا يطيب إلا بمثل ما اعتذرت به إليها، كان ذلك من باب الضرورة التي تقدر بقدرها، على ألا تتخذ ذلك عادة، فيسهل الكذب عليها لحاجة، ولغير حاجة.
والتشديد في هذا النوع من الكذب ليس معناه أن حرمته في درجة ما جاء في السؤال من الكذب في البيع والمعاملة، أو الكذب في الشهادة ونحوها، فإن الكذب المحرم تتفاوت مراتبه تفاوتًا بعيدًا.
فمنه ما هو من صغائر المحرمات.
(1/536)
ومنه ما هو من كبائر المحرمات، كالكذب في الشهادة التي عدها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر، وقرنها القرآن والسنة بالإشراك بالله تعالي.
ومثل ذلك الكذب في اليمين، كالذي يفعله التجار لترويج السلعة، ففي الحديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، المنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره - أي يطيل ثيابه كبرًا واختيالاً - ". (رواه مسلم).
وكذلك كذب الملوك والرؤساء، لما وراءه من دجل وتضليل، ففي الصحيح: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل (أي فقير) مستكبر ". (رواه مسلم أيضًا).
ومثله الكذاب، الذي يكذب الكذبة فتنتشر عنه في الآفاق، مثل أصحاب الصحف، ووكالات الأنباء في عصرنا.
وشر من هذا كله، الكذب على الله ورسوله، كما في الحديث المتواتر: " من كذب على متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار ".
كذبة أول نيسان (أبريل)
س: دق جرس الهاتف، فكانت مكالمة من أحد الأصدقاء، يسوق إلى فيها خبرًا آلمني وأزعجني، ورآني أهلي وأولادي، فأخبرتهم الخبر فاغتموا لغمي، وما هي إلا ساعة زمن، حتى اتصل الصديق نفسه مرة أخرى، ليبلغني أن الخبر لا أساس له . وإنما هي كذبة أول نيسان (أبريل) . فقلت له: إن هذا حرام ولا يجوز لكنه قال: لم يقصد إلا المداعبة والمزاح على عادة الناس في مثل هذه المناسبة.
فما رأيكم في مجاراة مثل هذا التقليد، وتكدير الناس بأخبار غير صحيحة، وإن كان المقصود منها المداعبة ؟ وهل يسوغ مثل هذا العمل شرعًا ؟
جـ: الكذب خلق سيء، ورذيلة من أعظم الرذائل التي يراها الشرع الإسلامي مجافية للإيمان، ويعتبرها إحدى آيات النفاق.
ولم يجز الشرع الكذب إلا في حالات معينة ذكرناها في فتوى سابقة، وليس منها الكذب للمداعبة.
(1/537)
بل حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكذب لإضحاك القوم، فقال: " ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له . . ". (رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي).
وفي حديث آخر: " لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة، والمراء (الجدل) وإن كان صادقًا " (رواه أحمد والطبراني) كما جاء أكثر من حديث نبوي يحذر المسلم من ترويع أخيه وإزعاجه، جادًا أو مازحًا.
وروى أبو داود بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذه، ففزع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا ".
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهمًا قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسيرة فخفق (نعس) رجل على راحلته، فأخذ رجل سهمًا من كنانته، فانتبه الرجل، ففزع . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا ". (رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات).
وعن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب). واعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الخيانة أن تكذب على من يثق بك، ويصغي إليك بأذنه وقلبه، وأنت تكذب عليه . يقول: " كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو به مصدق وأنت له به كاذب ". رواه أحمد والطبراني عن النواس بن سمعان بإسناد جيد كما قال الحافظ العراقي وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود من حديث سفيان بن أسيد وضعفه ابن عدي).
وبهذا يتبين لنا أن الكذب بهذه الصورة، وبهذه المناسبة خاصة حرام من جهات أربع :
الأولى: حرمة الكذب ذاته، الذي نهى عنه القرآن والسنة.
(1/538)
الثانية: ما وراءه من ترويع إنسان، وإدخال الفزع والكدر عليه ساعة من الزمن، وربما على أسرته معه، بغير مسوغ ولا حاجة.
الثالثة: ما فيه من خيانة لإنسان هو لك مصدق، وأنت له كاذب.
الرابعة: مجاراة عادة سخيفة، وإشاعة تقليد باطل، لم ينبت في أرضنا، ولم ينشأ من بيئتنا . فهو تشبه بغير المسلمين فيما يعد من رذائلهم وسخف أعمالهم.
وكثيرًا ما تتضمن كذبة ذلك اليوم إشاعات قد يضر انتشارها بالمجتمع كله.
والخلاصة أن الكذب حرام في كل يوم، وتزداد حرمته في ذلك اليوم خاصة، لما ذكرنا من اعتبارات، فلا يليق بمسلم المساعدة على ترويج هذا الزور، والله الموفق.
الدجاج المذبوح واللحوم المستوردة من بلاد أجنبية
س: ما حكم أكل الدجاج واللحوم المحفوظة التي تستورد من الخارج ؟
جـ: إن الدجاج واللحوم المحفوظة التي تأتي من الخارج أنواع: منها ما يأتي من عند أهل الكتاب، وهؤلاء قد أباح القرآن أكل طعامهم وذبائحهم، قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم). (المائدة: 5)
ولكن بعض المسلمين يشترطون أن يكون قد عرفوا طريقة الذبح وأنه قد ذكر اسم الله عليه والبعض الآخر يتساهل في ذلك ودليله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله بعضهم فقالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا باللحم، ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال: " سموا الله عليه وكلوا ". (رواه البخاري).
وقد أخذ بعض العلماء من هذا قاعدة هي أن ما غاب عنا لا نسأل عنه، فنحن لا نسأل عما غاب عنا . إنما إذا عرفنا الطعام أنه من أهل الكتاب أكلناه وسمينا الله عند الأكل وكفي بهذا.
أما ما يأتي من عند الشيوعيين فهذا أمر آخر، ذلك أن للتذكية شروطًا :
(1/539)
بعض هذه الشروط في موضع الذبح، وبعضها في آلة الذبح وبعضها في الذابح نفسه، فليس كل ذابح تحل ذبيحته، إنما الذي أجازه الشرع هو ذبيحة المسلم أو الكتابي . وبعضهم أدخل من كان له كتاب فرفع، مثل المجوس، وإن كان جمهور الفقهاء لا يجيزون ذبح المجوس أيضًا . وقد ورد فيهم حديث للرسول - صلى الله عليه وسلم -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ".
الفقرة الأخيرة من الحديث: " غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " جاءت بسند ضعيف، لهذا لم يأخذ بها أبو ثور وابن حزم وغيرهما، فأجازوا أن يأكل المسلم ذبيحة الكتابي ومن كان عنده شبهة كتاب كالمجوسي.
والذي نؤكده أنه لا يجوز ذبيحة أي ذابح، إنما يشترط في الذابح أن يكون مسلمًا أو مؤمنًا بكتاب سماوي، ذلك أن الذبح هو إزهاق لروح خلقها الله عز وجل وهذا الإزهاق، ليس مأذونا به من قبل الله إلا لمن آمن به، وآمن بأن له وحيًا، وآمن بأن هناك آخره . وذلك هو المسلم والكتابي.
أما الذي ينكر الله ويجحد رسالاته ولا يعترف لله بسلطان أي سلطان فهذا لم يعطه الله الحق أن يذبح مخلوقًا أو كائنًا حيًا، أو يزهق روح حيوان ما، ليس له هاذ الحق، وليس عنده هذا الإذن.
ولهذا حين يذبح المسلم يقول: باسم الله والله أكبر.
أي أنني أذبح وأزهق الروح مأذونًا من الله، عندي تصريح إلهي بإزهاق هذه الروح . وهذا الكائن الحي أقتله باسم الله . أما الذي لا يعترف بالله إطلاقًا فكيف يباح له هذا، وكيف يمنح هذا الحق، وكيف يعطي هذه الرخصة ؟ ولم يعطه الله ذلك . ولهذا فالمرتد والملحد، الذي لا يؤمن بالله ولا برسالاته ولا بأي دين سماوي ولا بأي كتاب أنزله الله، ولا بأي نبي مرسل من الله، كالشيوعي، هذا لا تحل ذبيحته بالإجماع.
ومن هنا لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا هذا الدجاج واللحوم التي ترد من عند الشيوعيين، فهي قد ذبحها قوم ينكرون الله عز وجل.
(1/540)
الأصل فيها ذلك . قد يوجد هناك مسلمون، أو نصارى، إنما الأصل، أن هذا المجتمع، مجتمع قائم على حرب الدين، وعلى حرب الله، وعلى إنكار الوحي وإنكار الأديان، وعلى اعتبار الأديان مخربة ومعوقة ومخدرة للشعوب، لهذا ينبغي لأهل الأديان عامة، وينبغي للمسلمين خاصة أن يردوا لهم ذبائحهم ويقولوا لهم: ليس من حقكم أن تذبحوا ولا أن تقتلوا هذه الأرواح، ولا هذه الكائنات الحية، فلم يعطكم الله هذا الحق.
هذا ما أفتى به وأنا مطمئن في هذا الجانب.
فلا يجوز للباعة والتجار المسلمين أن يستوردوا هذه الأنواع من اللحوم والدجاج وكذلك للمستهلكين، لا يجوز لهم أن يستهلكوها وينتفعوا بها . وبالله التوفيق.
تحريم الخمر من قطعيات الدين
س 1: قرأت في إحدى الصحف الكويتية مقالاً لكاتب يهاجم فيه قانون تحريم الخمر الذي نعده مفخرة لحكومة الكويت وبرلمانها ويقول الكاتب: إن الله نهى في كتابه عن الخمر ولكنه لم يحرمها، والعجيب أن أحد الحاضرين أيّد هذا الكلام، وطالبني بنص صريح من القرآن يقول: إن الخمر حرام، فلما لم يسعفني حفظي للقرآن ذكرت له بعض الأحاديث التي فيها لعن الخمر وشاربها وعاصرها وحاملها . . الخ، فقال صاحبي: أنا أريد نصًا من القرآن لا من الحديث . فهل صحيح أن القرآن لم يحرم الخمر ؟ وما حكم من يزعم ذلك ؟
جـ 1: قلت في مثل هذا الموضوع في فتوى سابقة:
إن من أعظم الفتن تحويل الأمور القاطعة إلى أمور محتملة، وجعل الأمور المجمع عليها أمورًا مختلفًا فيها، وهذا يصدق على تحريم الخمر الذي أجمعت عليه الأمة الإسلامية جيلاً بعد جيل . وأصبح معلومًا من دين الإسلام بالضرورة، بحيث لا يحتاج إلى مناقشة ولا دليل كوجوب الصلاة والزكاة، وكحرمة الزنا والربا.
(1/541)
ومن الخطر أن ننقاد غافلين للهدامين الذين يريدون أن يجعلوا كل شيء في الدين - حتى الأصول والضروريات - محل بحث وجدال، وقيل وقال، وقد أجمع العلماء على أن من أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، ولم يكن حديث عهد بالإسلام ولا ناشئًا ببادية أو ببلد بعيد عن دار الإسلام: فإنه يكفر بذلك ويمرق من الدين، وعلى الإمام أن يطلب منه التوبة والإقلاع عن ضلاله، وإلا طبقت عليه أحكام المرتدين ..
وأما حديث عهد بالإسلام والناشئ بالبادية ونحوها، فيعرف الحكم ويبين له الصواب فإن أصر على موقفه عُد مرتدًا.
ومع وضوح حرمة الخمر، ومعرفتها من الدين بالضرورة كما ذكرت، أتطوع بالجواب فأقول :
إن حرمة الخمر ثابتة من عدة وجوه:
أولا: من القرآن الكريم :
فقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون).
ففي هاتين الآيتين تأكيد لتحريم الخمر بأكثر من وجه :
( أ ) وذلك لأنه قرنها بالأنصاب - وهي الأصنام - والأزلام، وقد قال تعالى عن الأزلام (ذلكم فسق) قال ابن عباس: لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهم إلى بعض، وقالوا: وحرمت الخمر وجعلت عدلاً، أي معادلة للشرك . رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وإنما أخذوا هذا من اقترانها بالأنصاب، وجاء في الحديث " مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن " رواه أحمد.
( ب ) ثم أخبر عن هذه الأشياء بأنها رجس، وهذا لفظ لم يطلق في القرآن إلا على الأوثان ولحم الخنزير وهو يدل على التنفير والزجر الشديد.
( ج ) ولم يكتف بذلك، فجعلها من " عمل الشيطان" وعمل الشيطان إنما هو الشر والفحشاء والمنكر . قال تعالى: (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر).
(1/542)
( د ) وعقب على ذلك بقوله (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والأمر بالاجتناب هو العبارة التي استخدمها القرآن في الزجر عن الأوثان وعبادتها فقال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور)، (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . . .) كما استخدمها في ترك كبائر الذنوب والآثام . مثل قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم).
(هـ) ثم رتب على هذا الاجتناب الفلاح بقوله (لعلكم تفلحون) فدل على أن هذا الاجتناب واجب مؤكد، فإن تحصيل أسباب الفلاح واجب لازم.
( و ) ثم علل الأمر بالاجتناب ببيان بعض مضار الخمر والميسر الاجتماعية والدينية من تقطيع الأواصر والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ثم ذيّل الآية بقوله: (فهل أنتم منتهون)، ولهذا حين سمعها المؤمنون قالوا: قد انتهينا يا رب، قد انتهينا يا رب.
فهاتان الآيتان، كما نرى - دالتان أبلغ الدلالة على تحريم الخمر، والزجر عنها، وإنما أتي الذين ناقشوا في ذلك من جهلهم باللغة والشرع معًا، وزعمهم أن التحريم لا يستفاد إلا من لفظ " حرم " و" يحرم " وهذا جهل مركب، فإن التحريم - بإجماع العلماء - تدل عليه ألفاظ كثيرة، مثل: لعن فاعله، أو تشبيهه بالشيطان، أو الإخبار بأنه رجس . . . إلخ.
وما قول هؤلاء المجادلين في القتل والزنى والسرقة وأكل الربا وأكل مال اليتيم ونحوها مما لا يجادلون هم ولا غيرهم في قطيعة حرمته، ومع هذا لم ينه عن شيء منها في القرآن بلفظ " التحريم " ؟!
على أننا نقول لهؤلاء المكابرين :
(1/543)
إن القرآن الكريم نص على تحريم الخمر بلفظ التحريم أيضا، وذلك أن الله تعالى قال في سورة الأعراف (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق . . . الآية) فالإثم حرام بنص الآية، ثم قال تعالى قي سورة البقرة (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فإذا كان الإثم حرامًا وكان في الخمر إثم كبير بنص القرآن فهي حرام بلا شك.
ثانيًا: من السنة :
روى الشيخان عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام " وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل فقال: " يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وشاربها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها، وساقيها ومسقاها " والأحاديث في ذلك كثيرة موفورة.
ومن زعم أنه لا يقبل الاحتجاج بالسنة فقد كذب القرآن نفسه، الذي صرح بأن الرسول هو مبين القرآن وشارحه قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ولو رد الناس السنة اكتفاء بالقرآن ما عرفوا صلاة ولا زكاة ولا حجًا فإنها كلها جاءت مجملة في القرآن وإنما بينتها السنة.
وقد قال رجل لمطرف بن عبد الله أحد التابعين: لا تحدثونا إلا بالقرآن . فقال له مطرف: " والله ما نريد بالقرآن بدلاً . . . ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا "
يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن هنا أمر القرآن بطاعة الرسول، والاحتكام إليه، مقارنًا للأمر بطاعة الله، قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
ثالثا: الإجماع:
(1/544)
هذا إلى أن علماء الإسلام في سائر الأعصار قد أجمعوا على تحريم الخمر، إجماعًا مؤكدًا لا شك فيه ولا جدال، حتى أصبح ذلك معلومًا من الدين بالضرورة، كما قلنا في مطلع حديثنًا.
رابعًا: قواعد الشريعة الكلية :
على أنه لو لم يكن هناك نص ولا إجماع في المسألة لكانت قواعد الشريعة العامة، ومبادئها الكلية كافية في الدلالة على تحريم الخمر، فإن التحريم في الإسلام يتبع الخبث والضرر، فما تحقق ضرره بالفرد أو بالجماعة كان حرامًا، ولو لم يرد فيه نص بخصوصه.
وضرر الخمر على الفرد في دينه وجسمه وعقله ونفسه وماله مما لا ريب فيه، وكذلك ضررها على الأسرة في تماسكها وترابطها حيث نرى السكيرين لا يقدرون مسئوليتهم عن زوجاتهم وأولادهم، فيهملون رعايتهم وتربيتهم بل النفقة عليهم، ومن وراء ذلك كله ضرر المجتمع كله بانتشار العربدة، وفساد الأخلاق وخراب البيوت، وضياع الأموال، وانتشار الأمراض مما يؤدي في النهاية إلى التفسخ والانحلال العام، فأي إنسان له مسحة من عقل أو دين يبيح هذا الفساد العريض الذي تسببه أم الخبائث، ومفتاح الشر ؟ وأعجب من ذلك أن تقرن هذه الإباحة أو الإباحية بشريعة الإسلام ؟
شرب البيرة
س: ما حكم شرب " البيرة " في الإسلام ؟ وإذا كانت البيرة حرامًا فلماذا تباع علنًا في المقاهي والبرادات ؟ علمًا بأن البيرة التي تباع الآن والمكتوب عليها " بدون كحول " أثبت تحليل أحد الخبراء لها أن بها نسبة من الكحول تقدر بـ(5 ,3%).
ج: أما الشراب الذي يطلق عليه اسم " البيرة " فليس من مهمتي ولا مهمة أهل الفتوى أن يحللوا كل مشروب إلى عناصره الأولية، ويعرفوا ماذا يشتمل عليه.
وكل ما أستطيع أن أقوله هنا: إن الجمعية الدولية لمنع المسكرات قد أدخلت البيرة ضمن الأشربة الممنوعة التي تحاربها.
وعلى كل حال فإن القاعدة الشرعية: أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
(1/545)
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى قال: " يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع هو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد " قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه، فقال: كل مسكر حرام " رواه أحمد والشيخان.
وعن جابر بن عبد الله أن رجلاً من جيشان - وجيشان من اليمن - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر يقال له: المزر، فقال: أمسكر هو ؟ قال: نعم فقال: كل مسكر حرام.
" إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " . قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال ؟ قال: " عرق أهل النار، وعصارة أهل النار " . رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وإذا كان التحريم مبنيًا على الإسكار، فإن المادة الفعالة في الإسكار هي " الكحول " كما قرر أهل الخبرة والتحليل.
فإذا ثبت أن نوعًا من البيرة خال من الكحول، واطمأن لذلك قلب المسلم فلا بأس بشربه وإذا ثبت له أن بها قدرًا من الكحول - ولو ضئيلاً - بحيث يسكر الكثير منها فهي حرام.
وإن شك في ذلك فليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في المشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
ولا يخدعن المسلم عن دينه أن هذه المشروبات لا تسمى خمرًا، فإنه لا عبرة بالأسماء متى وضحت المسميات.
روى أحمد وأبو داود عن أبي مالك الأشعري: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليشربن أناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير إسمها ".
وروى النسائي بسنده عن رجل من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يشرب ناس من أمتي الخمر، ويسمونها بغير اسمها ".
(1/546)
وأود أن أقول للأخ السائل: إن في عصير الفواكه المتنوعة وألوان المياه الغازية المختلفة التي تغمر الأسواق ما يغني عن هذه البيرة المشبوهة، ومن فضل الله على عباده أن يسر لهم من ألوان الحلال الطيب ما يغني عن المحرمات والمشتبهات.
هل للخمر منافع وما هي ؟
س: ذكر الله عز وجل أن في الخمر منافع، فما هي ؟ وما مضارها ؟ ومتى حرمت الخمر ؟
ج: الله تعالى يقول: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما اكبر من نفعهما). (البقرة: 219).
فالخمر بنص القرآن فيها إثم كبير، وفيها بعض المنافع
والمقصود بالمنافع التي في الخمر هي المنافع الاقتصادية . . من ناحية التجارة ومن ناحية الإنتاج: في بعض البلاد، يزرعون العنب والكروم من أجل بيعها عصير خمر ويكسبون من ورائها الملايين . ..
وهذه المنافع هي التي يسوغ كثير من الناس اليوم بها تجارة الخمر . . ويزعمون أنها تجتذب السائحين، فيكسبون من ورائهم عملات صعبة . . وهذا شيء مهم . ولكن الشرع الحنيف أهدر هذه المنافع ولم يقم لها اعتبارًا في مقابلة الإثم الكبير والأضرار العظيمة التي في الخمر . . أضرارها على الفرد، وأضرارها على الأسرة وأضرارها على المجتمع ".
أضرارها على الفرد جسميًا، وعقليًا ونفسيًا، وقد كتب في ذلك كثير من الأطباء ومن الغريب حقًا أن يفعل الإنسان باختياره ما يسلبه عقله، ويجعله يهرف (ويهذي) ويخوض في أودية الأوهام وما يسلبه أيضًا إرادته، حيث يصبح عبدًا للكأس وأسيرًا لها، ومدمنًا عليها . . كما قال الشاعر قديمًا.
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
وما تسلبه كذلك صحته بالتدريج، حتى يصبح جسمه وكرًا لعدة أسقام.
(1/547)
فهذا الإدمان داء من الناحية النفسية والعصبية والبدنية ومن ناحية خطر الخمر على الأسرة . . حيث يترك السكير أهله وأولاده وهم محتاجون إلى القوت، ويشتري بنقوده ذلك الشراب المسكر الضار الخبيث، الذي يسحب الرجل من بيته، ليلقي به في الحانات والأزقة المظلمة بدلاً من أن يؤنس أسرته، ويشرف على تربية أولاده، ويزور أرحامه وأصدقائه ويعمل ما ينفعه في أمر دينه ودنياه.
وبهذا تصبح الأمة أمة من السكارى لا قيمة لها، لا تثبت في معركة، ولا تصمد أمام عدو ولا تقوم بها نهضة، أو ترتفع لها راية . . فضرر الخمر على الأفراد، وعلى الأسر والجماعات ضرر لا شك فيه والقاعدة الإسلامية المستفادة من هذه الآية الكريمة :
أن كل شيء كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام.
الإسلام، إنما يشرع ما كانت منفعته خالصة، أو كانت راجحة . أي نفعه أكبر من ضرره ويحرم ما كانت مضرته خالصة أو كانت راجحة.
أما متى حرمت الخمر، فنحن نعلم أن الخمر حرمت بالتدريج.
فأول ما نزل بشأنه قوله تعالى في سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر . .) الآية . ثم قوله في سورة النساء: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى).
ثم جاء التحريم القاطع في سورة المائدة وهو (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟). (المائدة: 9).
وهنا قال عمر رضي الله عنه: قد انتهينا يا رب.
وسورة المائدة التي تشتمل على هذه الآية قالوا إنها من أواخر ما نزل من القرآن الكريم . . . ولعلها نزلت في السنة التاسعة، أو نحو ذلك . . أي في أواخر العهد المدني.
أحكام التدخين في ضوء النصوص والقواعد الشرعية
س: أرجو من فضيلتكم الإفتاء بالنسبة للتدخين . . هل هو حلال أم حرام ؟ وذلك بالنظر إلى النقط الموضحة بعد.
(1/548)
1- في كتاب " الحلال والحرام " أفتيتم بأن التدخين حرام مستندًا إلى أنه قد ثبت ضرره (الطبعة الأخيرة).
2- في حلقة تليفزيونية أخبرتنا أن التدخين حرام أو مكروه كراهة التحريم.
3- في تقرير لكلية الأطباء الملكية البريطانية قالوا فيه (أقلعوا عن التدخين وإلا عاجلتكم المنية) ..
4- بلغنا أنه قد أفتى بعض كبار علماء الدين بأن التدخين بين حرام ومكروه، ومسموح به.
( أ ) فهو حرام في حالة عدم قدرة المدخن على تحمل مصاريف التدخين.
( ب ) ومكروه للقادر عليه.
( ج ) ومسموح به إذا كان هناك راحة نفسية للمريض من التدخين.
5- نرى كثيرين من علماء ورجال الدين يدخنون.
ملحوظة: من أضرار التدخين التي أعلنت عنها (كلية الأطباء الملكية البريطانية) :
(1) 27500 بريطاني يفتك بهم التدخين سنويًا، وتتراوح أعمارهم بين 34-65.
(2) 155 ألف بريطاني سيموتون سنويًا بسرطان الرئة خلال الثمانينات.
(3) 90% من حالات الوفاة بسرطان الرئة تحدث نتيجة التدخين.
(4) الأسباب الرئيسية لحدوث الوفاة بين المدخنين: الإصابة بسرطان الرئة - النزلات الشعبية - تليف الكبد - أمراض الشريان التاجي - الذبحة الصدرية - سرطان الفم: البلعوم والحنجرة - الأطفال الذين تلدهم نساء يدخن يولدون أقل من الوزن الطبيعي - والأمهات أكثر عرضة للسقط.
كما أعلن في مجلة Lancet لانست البريطانية، وهي مجلة طبية محترمة أن التدخين مرض وليس عادة وآفة يمارسه أغلب أفراد العائلة، أو أنه عادة يؤدي إلى امتهان الفرد لكرامته، وأن عدد المتوفين نتيجة التدخين أضعاف وفيات وحوادث السيارات، وينصح الطبيب الذي يدخن بأنه غير أمين على مهنته.
لعلنا نحصل على رأى قاطع بالأسانيد القرآنية والمحمدية حتى لا يكون هنا مجال للنقاش وخصوصًا أن ضرره قد ثبت بتقرير أكبر هيئة طبية محترمة في العالم (150 صفحة)
ولك مني ألف تحية، ووفقكم الله دائمًا..
دكتور ف . حـ - الدوحة
(1/549)
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آلة وصحبة ومن نهج نهجه (وبعد)
ظهر هذا النبات المعروف الذي يطلق عليه اسم " الدخان " أو (التبغ) أو (التمباك) أو (التتن)، في آخر القرن العاشر الهجري، وبدأ استعماله يشيع بين الناس، مما أوجب على علماء ذلك العصر أن يتكلموا في بيان حكمه الشرعي.
ونظرًا لحداثته وعدم وجود حكم سابق فيه للفقهاء المجتهدين، ولا من بعدهم من أهل التخريج والترجيح في المذاهب، وعدم تصورهم لحقيقته ونتائجه تصورًا كاملا، مبنيًا على دراسة علمية صحيحة، اختلفوا فيه اختلافًا بينًا.
فمنهم من ذهب إلى حرمته.
ومنهم من أفتى بكراهته.
ومنهم من قال بإباحته.
ومنهم من لم يطلق حكمًا بل ذهب إلى التفصيل.
ومنهم من توقف فيه وسكت عن البحث عنه. (انظر: مطالب أولى النهي شرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة ج 6 ص 218).
وكل أهل مذهب من المذاهب الأربعة فيهم من حرمه، وفيهم من كرهه، وفيهم من أباحه.
ولهذا لا نستطيع أن ننسب إلى مذهب القول بإباحة أو تحريم أو كراهة.
أدلة المحرمين :
أما المحرمون فاستندوا إلى عدة اعتبارات شرعية يجمع شتاتها ما يلي :
1- الإسكار :
فمنهم من قال إنه مسكر، وكل مسكر حرام، والمراد بالمسكر في قولهم: مطلق المغطي للعقل، وإن لم يكن معه الشدة المطربة . قالوا: ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة.
وبعضهم قال: معلوم أن كل من شرب دخانًا كائنًا ما كان أسكره، بمعنى أشرقه، وأذهب عقله بتضييق أنفاسه ومسامه عليه، فالإسكار من هذه الحيثية لا سكر اللذة والطرب. (الفواكه العديدة في المسائل المفيدة . الشهير بمجموع المنقور ج 2).
ورتب بعضهم على هذا عدم جواز إمامه من يشربه.
2- التفتير والتخدير:
(1/550)
وقالوا: إن لم يسلم أنه يسكر، فهو يخدر ويفتر . وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن كل مسكر ومفتر ". (رمز له السيوطي في الجامع الصغير بعلامة الصحة وأقره المناوي في فيض القدير).
قالوا: والمفتر ما يورث الفتور والخدر في الأطراف . وحسبك بهذا الحديث دليلاً على تحريمه.
3- الضرر :
والضرر الذي ذكروه هنا ينقسم إلى نوعين :
( أ ) ضرر بدني: حيث يضعف القوي، ويغير لون الوجه بالصفرة، والإصابة بالسعال الشديد، الذي قد يؤدي إلى مرض السل.
ومن سديد ما قاله بعض العلماء هنا: أنه لا فرق في حرمة المضر بين أن يكون ضرره دفعيًّا (أي يأتي دفعة واحدة) وأن يكون تدريجيًا، فإن التدريجي هو الأكثر وقوعًا.
( ب ) ضرر مالي: ونعني به أن في التدخين تبذيرًا للمال، أي إنفاقه فيما لا يفيد الجسم ولا الروح، ولا ينفع في الدنيا ولا الآخرة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال . وقال الله تعالي: (ولا تبذر تبذيرًا . إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا). (الإسراء: 27).
وقال أحد العلماء :
لو اعترف شخص أنه لا يجد فيه نفعًا بوجه من الوجوه، فينبغي أن يحرم عليه، لا من حيث الاستعمال . بل من حيث إضاعة المال، إذ لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر، وإحراقه بالنار، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف.
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر فيما مضى: شيخ الإسلام أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، وشيخ المالكية إبراهيم اللقاني . ومن علماء المغرب: أبو الغيث القشاش المالكي . ومن علماء دمشق: نجم الذين بن بدر الدين ابن مفسر القرآن، العربي الغزي العامري الشافعي . ومن علماء اليمن: إبراهيم بن جمعان، وتلميذه أبو بكر بن الأهدل.
(1/551)
ومن علماء الحرمين: المحقق عبد الملك العصامي، وتلميذه محمد بن علامة، والسيد عمر البصري . وفي الديار الرومية (التركية) الشيخ الأعظم محمد الخواجه، وعيسى الشهواي الحنفي، ومكي بن فرو المكي، والسيد سعد البلخي المدني.
كل هؤلاء من علماء الأمة أفتوا بتحريمه ونهوا عن تعاطيه. (انظر الفواكه العديدة ج 2 ص 80-87).
مستند القائلين بالكراهة :
أما القائلون بكراهته، فقد استندوا إلى ما يأتي :
( أ ) أنه لا يخلو من نوع ضرر، ولا سيما الإكثار منه . مع أن القليل يجر إلى الكثير.
( ب ) النقص في المال، فإذا لم يكن تبذيرًا ولا إسرافًا ولا إضاعة . فهو نقص في المال، كان يمكن إنفاقه فيما هو خير منه وأنفع لصاحبه والناس.
( ج ) نتن رائحته التي تزعج كل من لم يألفها وتؤذيه، وكل ما كان كذلك فتناوله مكروه كأكل البصل النيئ والثوم والكرّات ونحوها.
( د ) إخلاله بالمروءة بالنسبة لأهل الفضائل والكمالات.
(هـ) يشغل عن أداء العبادة على الوجه الأكمل.
( و ) ومن اعتاده قد يعجز في بعض الأيام عن تحصيله فيتشوش خاطره لفقده.
( ز ) ومثل ذلك إذا كان في مجلس لا ينبغي استعماله فيه، أو يستحي ممن حضر.
وقال الشيخ أبو سهل محمد بن الواعظ الحنفي :
الذي تفيده الأدلة كراهته قطعًا، وحرمته ظنًا، وكراهته لا يتوقف فيه إلا مخذول مكابر، لقاطع الحق معاند، فكل منتن مكروه كالبصل . وهذا الدخان الخبيث أولى، ومنع شاربه من دخول المسجد ومن حضوره المجامع أولى.
مستند القائلين بالإباحة:
وأما القائلون بالإباحة فتمسكوا بأنها الأصل في الأشياء، ودعوى أنه يسكر أو يخدر غير صحيحة ؛ لأن الإسكار غيبوبة العقل مع حركة الأعضاء، والتخدير غيبوبة العقل مع فتور الأعضاء، وكلاهما لا يحصل لشاربه . نعم، من لم يعتده يحصل له إذا شربه نوع غثيان، وهذا لا يوجب التحريم.
ودعوى أنه إسراف فهذا غير خاص بالدخان. (انظر: رد المختار "حاشية ابن عابدين" ج 5 ص 326).
(1/552)
هذا ما ذهب إليه العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي.
وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحباني شارح " غاية المنتهى " في فقه الحنابلة :
" كل عالم محقق له اطلاع على أصول الدين وفروعه، إذا خلا من الميل مع الهوى النفساني، وسئل الآن عن شربه بعد اشتهاره، ومعرفة الناس به، وبطلان دعوى المدلين فيه بإضراره للعقل والبدن لا يجيب إلا بإباحته، لأن الأصل في الأشياء التي لا ضرر فيها ولا نص تحريم: الحل والإباحة، حتى يرد الشرع بالتحريم . . واتفق المحققون على أن تحكم العقل والرأي بلا مستند شرعي باطل ". (انظر رد المختار (حاشية ابن عابدين) ج 5 ص 36).
وهذا ما قاله الشيخ بناء على ما تبين له في زمنه . ولو عرف ما ظهر من ضرره اليوم لغيّر رأيه يقينًا.
القائلون بالتفصيل :
وأما القائلون بالتفصيل فقالوا :
إن هذا النبات في حد ذاته طاهر غير مسكر ولا مضر ولا مستقذر، فالأصل إباحته، ثم تجري فيه الأحكام الشرعية :
فمن لم يحصل له ضرر باستعماله في بدنه أو عقله، فهو جائز له.
ومن ضره حرم عليه استعماله كمن يضر به استعمال العسل.
ومن نفعه في دفع مضر كمرض، وجب عليه استعماله.
وثبوت هذه الأحكام بموجب العارض، ويكون في حد ذاته مباحًا كما لا يخفى.
أقوال المعاصرين :
وإذا غضضنا الطرف عن المتقدمين، ونظرنا إلى أقوال المعاصرين، وجدناهم أيضًا مختلفين في إصدار حكم بشأنه.
(1/553)
فمنهم - كالشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق - الذي تبنى رأي بعض من سبق من العلماء، أن الأصل فيه الإباحة، وتعرض له الحرمة أو الكراهة بمقتضى، كأن يحصل منه ضرر كثير أو قليل، في النفس أو في المال أو فيهما، أو يؤدي إلى مفسدة، وضياع حق، كحرمان زوجته أو أولاده، أو من يحق عليه نفقتهم شرعًا من القوت بسبب إنفاق ماله في شرائه، فإذا تحقق شيء من هذه العوارض حكم بكراهته أو حرمته على حسب ضعفها أو قوتها، وإذا خلا منها وأشباهها كان حلالاً. (انظر: فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف ج 2 ص 112 - 113).
ومنهم من جزم بحرمته، وألّف فيه بعض الرسائل، وعامة علماء نجد يحرمونه، وخصوصًا إذا تعاطاه عالم من علماء الدين، وقد قال العلامة الشيخ محمد بن مانع كبير علماء قطر ومدير معارف السعودية في عصره - قال في حاشية له على " غاية المنتهي ج 2 ص 332 :
" إن القول بإباحة الدخان . ضرب من الهذيان، فلا يعول عليه الإنسان، لضرره الملموس، وتحذيره المحسوس، ورائحته الكريهة، وبذل المال فيما لا فائدة فيه، فلا تغتر بأقوال المبيحين . فكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولعل من أعدل ما قيل فيه وأصحه استدلالاً، ما ذكره المغفور له الشيخ الأكبر محمود شلتوت شيخ الأزهر في فتاويه حين قال: (مما يذكر هنا أن الشيخ رحمه الله كان مبتلى بالتدخين حيث اعتاده من عهد الشباب ولم يستطع التحرر من سلطانه . ولكنه لإنصافه رجح القول بالتحريم إعمالاً لعلل الأحكام وقواعد التشريع العامة).:
" إذا كان التبغ لا يحدث سكرًا، ولا يفسد عقلاً، فإن له آثارًا ضاره . يحسها شاربه في صحته، ويحسها فيه غير شاربه . وقد حلل الأطباء عناصره، وعرفوا فيها العنصر السام الذي يقضي - وإن كان ببطء - على سعادة الإنسان وهنائه . وإذن فهو ولاشك، أذي وضار . والإيذاء والضرر خبث يحظر به الشيء في نظر الإسلام.
(1/554)
وإذا نظرنا مع هذا إلى ما ينفق فيه من أموال، كثيرًا ما يكون شاربه في حاجة إليها، أو يكون صرفها في غيره أنفع وأجدى.
وإذا نظرنا إلى هذا الجانب عرفنا له جهة مالية تقضي في نظر الشريعة بحظره وعدم إباحته.
ومن هنا نعلم أخذًا من معرفتنا الوثيقة بآثار التبغ السيئة في الصحة والمال . أنه مما يمقته الشرع ويكرهه . وحكم الإسلام على الشيء بالحرمة أو الكراهة لا يتوقف على وجود نص خاص بذلك الشيء . فلعلل الأحكام، وقواعد التشريع العامة، قيمتها في معرفة الأحكام، وبهذه العلل وتلك القواعد، كان الإسلام ذا أهلية قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حكمه من حل أو حرمة . وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء، فحيث كان الضرر كان الحظر، وحيث خلص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفع والضرر كانت الوقاية خيرًا من العلاج ". (الفتاوى للشيخ شلتوت ص 354 طـ . مطبعة الأزهر). ا هـ.
تمحيص وترجيح:
ويبدو لي أن الخلاف الذي نقلناه عن علماء المذاهب عند ظهور الدخان، وشيوع تعاطيه، واختلافهم في إصدار حكم شرعي في استعماله، ليس منشأه في الغالب اختلاف الأدلة، بل الاختلاف في تحقيق المناط.
أعني أنهم متفقون على أن ما يثبت ضرره على البدن أو العقل يحرم تعاطيه.
ولكنهم يختلفون في تطبيق هذا الحكم على الدخان.
فمنهم من أثبت له عدة منافع في زعمه . ومنهم من أثبت له مضار قليلة تقابلها منافع موازية لها . ومنهم من لم يثبت له أية منافع، ولكن نفى عنه الضرر . وهكذا.
ومعنى هذا: أنهم لو تأكدوا من وجود الضرر في هذا الشيء لحرموه بلا جدال . وهنا نقول: إن إثبات الضرر البدني أو نفيه في " الدخان " ومثله مما يتعاطى ليس من شأن علماء الفقه، بل من شأن علماء الطب والتحليل . فهم الذين يسألون هنا، لأنهم أهل العلم والخبرة . قال تعالى: (فاسأل به خبيرًا) (الفرقان: 59) .وقال: (ولاينبئك مثل خبير). (فاطر: 14).
(1/555)
أما علماء الطب والتحليل فقد قالوا كلمتهم في بيان آثار التدخين الضارة على البدن بوجه عام وعلى الرئتين والجهاز التنفسي بوجه خاص . وما يؤدي إليه من الإصابة بسرطان الرئة مما جعل العالم كله في السنوات الأخيرة ينادي بوجوب التحذير من التدخين.
على أن من أضرار التدخين ما لا يحتاج إثباته إلى طبيب اختصاصي ولا إلى محلل كيماوي، حيث يتساوى في معرفته عموم الناس، من مثقفين وأميين.
وينبغي أن نذكر هنا ما نقلناه من قبل عن بعض العلماء، وهو أن الضرر التدريجي كالضرر الدفعي الفوري، كلاهما مقتض للتحريم . ولهذا كان تناول السم السريع التأثير في الصدر والسم البطيء التأثير حرامًا بلا ريب.
وعلى هذا القول: إن اختلاف علماء الفتوى في التحريم والإباحة في نبات الدخان إنما هو بناء على ما ثبت لدى كل منهم من الإضرار أو عدمه.
أما ما يقوله بعض الناس: كيف تحرمون مثل هذا النبات بلا نص ؟
فالجواب: أنه ليس من الضروري أن ينص الشارع على كل فرد من المحرمات، ويبغي أن يضع ضوابط أو قواعد تندرج تحتها جزئيات شتى، وأفراد كثيرة . فإن القواعد يمكن حصرها، أما الأفراد فلا يمكن حصرها.
ويكفي أن يحرم الشارع الخبيث أو الضار، ليدخل تحته ما لا يحصى من المطعومات والمشروبات الخبيثة أو الضارة، ولهذا أجمع العلماء على تحريم الحشيشة ونحوها من المخدرات، مع عدم وجود نص معين بتحريمها على الخصوص.
وهذا الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري، نراه متمسكًا بحرفيه النصوص وظواهرها، ومع هذا يقرر تحريم ما يُستضر بأكله، أخذا من عموم النصوص قال: وأما كل ما أضر فهو حرام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. فمن أضر بنفسه أو بغيره فلم يحسن، ومن لم يحسن فقد خالف كتاب (أي كتابة) الله الإحسانَ على كل شيء ". (انظر: المحلى ج 7 ص 504-505، المسألة 1030 طـ . الإمام).
(1/556)
ويمكن أن يستدل لهذا الحكم أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار " . كما يمكن الاستدلال بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا). (النساء: 29).
ومن أجود العبارات الفقهية في تحريم تناول المضرات عبارة الإمام النووي في روضته قال :
" كل ما أضر أكله كالزجاج والحجر والسم، يحرم أكله . وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل، إلا المستقذرات الطاهرات، كالمني والمخاط . فإنها حرام على الصحيح . . إلى أن قال: ويجوز شرب دواء فيه قليل سم إذا كان الغالب السلامة واحتيج إليه.
ومن الناس من يتمسك هنا بقاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما نص الشرع على تحريمه.
والرد على هؤلاء أن من علماء الأصول من عكس ذلك فقال: الأصل في الأشياء الحظر إلا ما جاء الشرع بإباحته.
والصحيح من قول هؤلاء وهؤلاء التفصيل . فالأصل في المنافع الإباحة، لقوله تعالى في معرض الامتنان على عباده: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29). ولا يمتن عليهم بما هو محرم عليهم.
وأما المضار، وهي: ما يؤذي البدن أو النفس أو هما معًا . فالأصل فيها الحظر والتحريم.
على أن في " التدخين " نوعًا من الضرر يجب ألا يغفل، وهو ضرر يقيني لا شك فيه، وهو الضرر المالي . وأعني به إنفاق المال فيما لا ينفع بحال، لا في الدنيا ولا في الدين، ولا سيما مع غلاء أثمانه، وإسراف بعض هواته في تناوله، حتى إن أحدهم قد ينفق فيه ما يكفي لإعاشة أسرة كاملة.
أما ما يجده بعض الناس من راحة نفسية في التدخين، فليس منفعة ذاتية فيه، وإنما ذلك لاعتياده عليه وإدمانه له فهو لهذا يرتاح لاستعماله . شأن كل ما يعتاد الإنسان تعاطيه مهما كان مؤذيًا وضارًا غاية الضرر.
وقد قال الإمام ابن حزم في " محلاه " (المحلى: ج 7 ص 503، مسألة 1027) : السرف حرام . وهو:
1- النفقة فيما حرم الله تعالى، قلت أو كثرت، ولو أنها جزء من قدر جناح بعوضة.
(1/557)
2- أو التبذير فيما لا يحتاج إليه ضرورة، مما لا يبقى للمنفق بعده غنى.
3- أو إضاعة المال وإن قل برميه عبثًا...
قال الله تعالى: (ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) ا هـ . ولا يخفى أن إنفاق المال في التدخين إضاعة له.
وقد أعجبني مما نقلته من قبل قول أحد العلماء: لو اعترف شخص أنه لا يجد في التدخين نفعًا بوجه من الوجود، فينبغي أن يحرم عليه . من حيث أنه إضاعة للمال . إذا لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر، وإحراقه بالنار، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف.
فكيف إذا كان مع الإتلاف للمال ضرر يقينا أو ظنًا ؟ . أي أنه اجتمع عليه إتلاف المال وإتلاف البدن معًا.
فواعجبًا لمن يشتري ضرر بدنه بحُرِّ ماله طائعًا مختارًا.
وهناك ضرر آخر، يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي، وأقصد به، أن الاعتياد على التدخين وأمثاله، يستعبد إرادة الإنسان، ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة . بحيث لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة إذا رغب في ذلك يومًا لسبب ما . كظهور ضررها على بدنه، أو سوء أثرها في تربية ولده، أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم، أو نحو ذلك من الأسباب.
ونظرًا لهذا الاستعباد النفسي، نرى بعض المدخنين، يجور على قوت أولاده، والضروري من نفقة أسرته، من أجل إرضاء مزاجه هذا، لأنه لم يعد قادرًا على التحرر منه.
وإذا عجز مثل هذا يومًا عن التدخين، لمانع داخلي أو خارجي، فإن حياته تضطرب، وميزانه يختل، وحاله تسوء، وفكرة يتشوش، وأعصابه تثور لسبب أو لغير سبب.
ولا ريب أن مثلي هذا الضرر جدير بالاعتبار في إصدار حكم على التدخين.
ويتبين من هذا التمحيص الذي ذكرناه: أن إطلاق القول بإباحة التدخين لا وجه له، بل هو غلط صريح، وغفلة عن جوانب الموضوع كله، ويكفي ما فيه من إضاعة لجزء من المال بما لا نفع فيه وما يصحبه من نتن الرائحة المؤذية، وما فيه من ضرر بعضه محقق، وبعضه مظنون أو محتمل.
(1/558)
وإن كان لهذا القول وجه فيما مضى، عند ظهور استعمال هذا النبات في سنة ألف من الهجرة، بحيث لم يتأكد علماء ذلك العصر من ثبوت ضرره، فليس له أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلمية الطبية في بيان أضراره، وسيّئ آثاره، وعلم بها الخاص والعام، وأيدتها لغة الأرقام.
وحسبنا ما جاء في السؤال من إحصاءات، تضمنها تقرير أكبر هيئة طبية محترمة في العالم وإذا سقط القول بالإباحة المطلقة . لم يبق إلا القول بالكراهة أو القول بالتحريم.
وقد اتضح لنا مما سبق أن القول بالتحريم أوجه وأقوي حجة . وهذا هو رأينا . وذلك لتحقق الضرر البدني والمالي والنفسي باعتياد التدخين.
وإذا قيل لمجرد الكراهة، فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم ؟ الظاهر الثاني.
نظرا لقوة الاعتبارات والأدلة التي أدت إلى القول بالتحريم فمن أنزل الحكم عن الحرام لم ينزل عن درجة المكروه التحريمي.
ومهما يكن فمن المقرر أن الإصرار على الصغائر يقربها من الكبائر . ولهذا أخشى أن يكون الإصرار على المكروه مقربًا من الحرام.
على أن هناك ملابسات واعتبارات تختص ببعض الناس دون بعض، تؤكد الحرمة وتغلظها كما تؤكد الكراهة عند من قال بالكراهية، بل تنقلها إلى درجة التحريم.
وذلك مثل أن يضر الدخان شخصًا بعينه، حسب وصف طبيب ثقة، أو حسب تجربة الشخص نفسه، أو حسب تجربة آخرين في مثل حاله.
ومثل أن يكون محتاجًا إلى ثمنه لنفقته أو نفقة عياله، أو من تجب عليه نفقتهم شرعًا. (وينبغي أن يذكر هنا أيضًا أن ملايين من المسلمين يموتون من الجوع - حقيقة لا تجوزًا - على حين تنفق عشرات الملايين في شهوة التدخين).
ومثل أن يكون الدخان مستوردًا من بلاد تعادي المسلمين، ويذهب ثمنه لتقويتها على المسلمين.
ومثل أن يصدر ولي الأمر الشرعي أمرًا بمنع التدخين، وطاعته واجبة فيما لا معصية فيه.
ومثل أن يكون الشخص مقتدى به في علمه ودينه، مثل علماء الدين، ويقرب منهم الأطباء.
(1/559)
هذا وينبغي أن نضع في اعتبارنا ونحن نصدر حكمًا بشأن التدخين عدة أمور لابد من مراعاتها، لتكون نظرتنا شاملة وعادلة.
الأولى: أن من المدخنين من يتمنى الخلاص من التدخين، ولكنه عجز عن تحقيق ذلك لتمكن هذه العادة من جسمه وأعصابه تمكنًا لم يجعل لإرادته قدرة على التحرر منه، بحيث يصيبه أذى كثير إذا تركه . فهذا معذور بقدر محاولته وعجزه، ولكل امرئ ما نوى.
الثانية: أن ميلنا إلى تحريم التدخين لما ذكرنا من وجهة النظر والاعتبارات الشرعية، لا يعنى أنه مثل شرب الخمر أو الزنى أو السرقة مثلاً، فإن الحرام في الإسلام درجات، بعضها صغائر، وبعضها كبائر، ولكل حكمه ودرجته . فالكبائر لا تكفرها إلا التوبة النصوح، أما الصغائر فتكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وقيامه، وغير ذلك من الطاعات، بل يكفرها مجرد اجتناب الكبائر.
وقد جاء عن ابن عباس وبعض السلف أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة . ولكن هذا أيضًا غير متفق عليه.
الثالثة: أن المحرم المختلف فيه ليس في درجة الحرام المتفق عليه . ولهذا يصعب أن ترمي فاعله بالفسوق، وأن تسقط شهادته، ونحو ذلك، وخصوصًا إذا كان مما عمت به البلوى.
هذا، وقد تبين من هذه الدراسة: أن ما حكاه صاحب السؤال عن بعض العلماء: أنه أدار معظم الحكم في التدخين على المقدرة المالية وحدها، أو عدمها، فيحرم في حالة عجز المدخن عن مصاريف التدخين، ويكره للقادر عليه، فهو غير سديد ولا مستوعب ؛ فإن الضرر البدني والنفسي يجب أن يكون له اعتباره أيضًا، بجوار الضرر المالي.
إن الغني ليس من حقه أن يضيع ماله، ويبعثره لما يشاء ؛ لأنه مال الله أولاً، ومال الجماعة ثانيًا.
وإن ما جاء في السؤال من أن كثير من علماء الدين يدخنون، فإن هؤلاء العلماء لم يدَّعو لأنفسهم العصمة، وكثير منهم ابتلوا به في مرحلة الشباب والطيش، ثم ضعفت إرادتهم عن التخلص من نيره، ومنهم من أفتى بحرمته رغم أنه مبتلى بتعاطيه.
(1/560)
وقد رأينا من الأطباء أيضًا كثيرين يؤمنون بأضرار التدخين، ويتحدثون أو يكتبون في ذلك، ومع ذلك لم يقلعوا عن التدخين.
وإذا كان التدخين مذمومًا في شأن الرجال، فهو أشد ذما في شأن النساء، لأنه يشوّه جمال المرأة، ويغير لون أسنانها، ويجعل رائحة فمها كريهة، مع ما يجب أن تكون عليه الأنثى من حسن وجمال.
ونصيحتي لكل مدخن أن يقلع عن هذه الآفة، بعزيمة قوية، وتصميم صارم ؛ فإن التدرج فيها لا يغني.
ومن كان ضعيف الإرادة، عليه أن يقلل من شرها ما استطاع، ولا يحسّنها لغيره، ولا يغري بها أحدًا، كأن يقدمها للآخرين، أو يلح على زواره بتناولها، بل ينبغي أن يبين لغيره أضرارها المالية والبدنية والنفسية، وأقرب هذه الأضرار أنه أصبح عبدًا لها بحيث لم يستطع أن يتخلص منها، وعليه أن يسأل الله تعالى أن يعينه على التحرر من نيرها.
ونصيحتي للشباب خاصة، أن ينزهوا أنفسهم عن الوقوع في هذه الآفة التي تفسد عليهم صحتهم، وتضعف من قوتهم ونضرتهم، ولا يسقطوا فريسة للوهم الذي يخيل إليهم أنها من علامات الرجولة، أو استقلال الشخصية . ومن تورط منهم في ارتكابها يستطيع بسهولة التحرر منها، والتغلب عليها وهو في أول الطريق، قبل أن تتمكن هي منه، وتتغلب عليه، ويعسر عليه فيما بعد النجاة من براثنها إلا من رحم ربك.
وعلى أجهزة الإعلام أن تشن حملة منظمة بكل الأساليب على التدخين وتبين مساوئه.
وعلى مؤلفي ومخرجي ومننتجي الأفلام والتمثيليات والمسلسلات، أن يكفوا عن الدعاية للتدخين، بوساطة ظهور " السيجارة " بمناسبة وغير مناسبة في كل المواقف.
وعلى الدولة أن تتكاتف لمقاومة هذه الآفة، وتحرير الأمة من شرورها، وإن خسرت خزانة الدولة ملايين من العملات، فصحة الشعب الجسمية والنفسية أهم وأغلى من الملايين والبلايين.
تشميت العاطس: حكمه وحكمته
(1/561)
س: أنا مؤمن بأن الإسلام لا يشرع شيئًا إلا لحمكة، قد تظهر لبعض الناس، وقد تخفى على آخرين، وقد تخفى على الجميع، امتحانًا من الله لعباده.
ومع هذا أعتقد أيضًا أنه لا حرج على المسلم أن يلتمس حكمة ما شرعه الله تعالى، عند أهل الذكر وأولى العلم، وإذا لم يعلمها هو.
ولهذا لجأت إليكم لأسأل عن الحمكة في أمر معروف بين المسلمين، وهو ما يتعلق بالعطاس :
لماذا يقول العاطس بعد عطاسه: الحمد لله ؟
ولماذا يدعو له من يسمعه ويقول له: يرحمك الله ؟ وهو المسمى في لغة الشرع " تشميت العاطس "، مع أن العطاس من الأمور الطبيعية التي تعرض لكل إنسان في حالتي الصحة والمرض عند وجود أسبابه.
وهل هذه الأشياء لازمة شرعًا: الحمدلة من العاطس، والتشميت من المستمع ثم الرد عليه من العاطس، أم هي آداب يجوز تركها ؟
ج: ( أ ) أحسن الأخ في اعتقاده أن الله تعالى لا يشرع شيئًا إلا لحكمة ومصلحة . ذلك أن من أسمائه تعالى الحكيم "، وهو اسم تكرر في القرآن الكريم.
فهو سبحانه حكيم فيما شرع وأمر، كما أنه حكيم فيما خلق وقدر.
فهو لا يشرع شيئًا عبثًا ولا يخلق شيئًا باطلاً، كما قال أولو الألباب: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك).
يقول الإمام ابن القيم: " والقرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجود الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان ".
قال: ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة. (مفتاح دار السعادة ج 2 ص 24).
(1/562)
( ب ) وأحسن الأخ ثانيًا في إعلانه أن من الحكم ما يخفى وجهها على بعض الناس، على حين يظهر ذلك لآخرين، وأن منها ما يخفى على الجميع لحكمة أيضًا هي الابتلاء والامتحان من الله لعباده، ليظهر من يطيع ربه ممن لا يطيع إلا عقله، ومن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وحكمة أخرى هي أن يُعمل الناس فكرهم، ويبذلوا جهودهم لمحاولة استجلاء ما خفي عليهم من وجوه الحكم والمصالح، وفي هذا الاجتهاد واستفراغ الوسع في المعرفة مصالح كثيرة كانت تفوت لو أن الله تعالى اختصر عليهم الطريق، ونص على الحكمة والمصلحة من وراء كل ما خلق، وكل ما شرع نصًا مباشرًا دون أي جهد منهم.
( ج ) وأحسن الأخ ثالثًا في محاولة التماسه للحكمة فيما خفي عليه، ممن يظن فيه المعرفة من أهل العلم . وليس هذا دليلاً على شك يساوره، بل على رغبة في زيادة يقين يطمئن به وقديما قال الخليل إبراهيم: (رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال: أو لم تؤمن ؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي). (البقرة 260).
كما يدل هذا من ناحية أخرى على حرصه على الاستزادة من العلم، وهو ما أمر به القرآن حين قال: (وقل رب زدني علمًا) (طه: 114). وما رغب فيه الرسول حين قال: " لن يشبع المؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة ". (رواه الترمذي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري).
آداب العاطس ومن سمعه :
( د ) أما ما سأل عنه الأخ من الحكمة فيما شرعه الإسلام من أدب العطاس من حمد، وتشميت ودعاء، فيحسن بي قبل بيانها أن ألقي بعض الضوء على حقيقة ما شرعه الإسلام في ذلك وحكمه، فإن الحكم يسبق الحكمة :
1- فأول ما يشرع للعاطس أن يحمد الله تعالى . فيقول: " الحمد لله " أو " الحمد لله على كل حال " أو " الحمد لله رب العالمين " كما جاءت بذلك الأحاديث، وهو ما اتفق على استحبابه، كما قال النووي.
(1/563)
2- ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطس صوته لئلا يزعج أعضاءه ولا يزعج جلساءه، وأن يرفعه بالحمد، ليسمع من حوله، وأن يغطي وجهه، لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه . فعن أبي هريرة: قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس وضع يده على فيه، وخفض صوته ". (أخرجه أبو داود والترمذي بسند جيد كما في الفتح، وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه عند الطبراني).
3- ثم يجب على من سمعه يحمد الله تعالى أن يشمته، أي يدعو له بقوله: يرحمك الله . كما في حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل من عنده: يرحمك الله: وهذا من حق المسلم على المسلم.
والظاهر أنه فرض عين، كما أكدت ذلك عدة أحاديث، بعضها جاءت بلفظ الوجوب الصريح " خمس تجب للمسلم " وبعضها بلفظ الحق الدال عليه: " حق المسلم على المسلم ست " وبلفظ " على " الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، بقول الصحابي: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا ريب أن الفقهاء - كما قال ابن القيم - أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء وبه قال جمهور أهل الظاهر، وجماعة من العلماء.
وذهب جماعة إلى أن التشميت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ورجحه ابن رشد وابن العربي من المالكية، وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة.
وذهب جماعة من المالكية إلى أنه مستحب، ويجزئ الواحد عن الجماعة.
وهو قول الشافعية.
والراجح من حيث الدليل القول الأول، كما قال الحافظ ابن حجر . قال: والأحاديث الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين، ففرض الكافية يخاطب به الجميع على الأصح، ويسقط بفعل البعض (انظر فتح الباري في شرح البخاري ج 13 ص 222، س 237 ط الحلبي).
4- ويستثننى من عموم الأمر بتشميت العاطس عدة أصناف مثل :
(1/564)
( أ ) من لم يحمد الله بعد عطاسه . فشرط التشميت الحمد . وقد روى البخاري عن أنس قال: عطس رجلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر . فقيل له: فقال: " هذا حمد الله، وهذا لم يحمد الله " وهذا أمر مجمع عليه.
( ب ) المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث . وذلك أن المزكوم قد يتكرر منه العطاس مرات كثيرة، فيشق على جليسه أن يشمته في كل مرة، وإذا لم يدع له بالدعاء المشروع للعاطس فلا بأس أن يدعو له بدعاء يلائمه، مثل الدعاء بالعافية والشفاء وما هو من هذا القبيل.
( ج ) الكافر . فعن أبي موسى الأشعري قال: كانت اليهود يتعاطسون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يقول: يرحمكم الله فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم ". (أخرجه أبو داود وصححه الحاكم كما قال الحافظ).
وهذا يعني أن لهم تشميتًا مخصوصًا، وليسوا مستثنين من مطلق التشميت.
( د ) من عطس والإمام يخطب يوم الجمعة، لما ورد من منع الكلام والإمام يخطب، وإمكان، تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب.
5- ويجب على العاطس أن يرد على من شمته فدعا له بالرحمة، أن يدعو له بالهداية وصلاح البال كما جاء في حديث أبي هريرة عند البخاري وعند غيره " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله . فإذا قال له: يرحمك الله فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم.
أو يدعو له ولنفسه بالمغفرة كم في حديث ابن مسعود: " يغفر الله لنا ولكم ". (أخرجه البخاري في الأدب المفرد والطبراني).
وأجاز بعض العلماء الجمع بين الصيغتين . وقد أخرج في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله . قال: "يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم ".
حكمة الحمد والتشميت عند العطاس :
(هـ) وإذا عرفنا أدب العطاس وأحكامه، فقد آن لنا أن نستحلي وجه الحكمة والمصلحة في ذلك، وهي في الواقع تتجلى في ثلاثة أمور :
(1/565)
أولا: إن اتجاه الإسلام في آدابه عامة إلى ربط المسلم بالله في كل أحيانه، وعلى كافة أحواله، وينتهز لذلك الفرص الطبيعية والمناسبات العادية التي من شأنها أن تحدث وتتكرر كل يوم مرة أو مرات، ليذكر المسلم بربه، ويصله بحبله، فيذكره تعالى مسبحًا، أو مهللاً، أو مكبرًا، أو حامدًا، أو داعيًا.
وهذا سر الأذكار والأدعية المأثورة الواردة عند ابتداء الأكل والشرب، وعند الفراغ منها، وعند النوم واليقظة، وعند الدخول والخروج، وعند ركوب الدابة ولبس الثوب، وعند السفر، والعودة منه . . . وهكذا.
فلا غرابة أن يعلم المسلم إذا عطس أن يحمد الله، وأن يقول سامعه: يرحمك الله، وأن يرد عليه: يهديكم الله . . وبهذا تشيع المعاني الربانية في جو المجتمع المسلم، شيوعها في حياة الفرد المسلم.
أما تخصيص العاطس بالحمد، فقد قال العلامة الحليمي، الحكمة فيه أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ، الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بهذا أنها نعمة جليلة، فناسب أن تُقابل بالحمد لله، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع " ا هـ.
وأما قول السامع " يرحمك الله، فقد أكد القاضي ابن العربي في ذلك: أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له: يرحكم الله، كان معناه: أعطاك الله رحمة يرجع بها بدنك إلى حاله قبل العطاس، ويقيم على حاله من غير تغيير . ا هـ.
وقال ابن أبي جمرة في شرح العطاس: وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله على عبده فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس . ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه، ثم الدعاء بالخير بعد الدعاء بالخير، وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلاً منه وإحسانًا إلخ. (انظر: فتح الباري " المذكور سابقًا ").
ثانيًا: كما تحرص الآداب الإسلامية على ربط المسلم بإخوانه المسلمين.
(1/566)
وبعبارة أخرى: على إشاعة معاني الإخاء والمحبة والتواد بين الناس . فهي التي تجعل للحياة طعمًا، وتعين على فعل الخير، وتطرد الكآبة والتعاسة من حياة الجماعة.
أما الأنانية والفردية والحسد والبغضاء، فهي - كما سماها الرسول - داء الأمم وحالقة الدين.
ولا عجب أن جاء أدب العطاس في هذا الخط، ليقر لونًا من ألوان " المجاملة " الاجتماعية الطيبة، التي تنافي الجفوة والتقاطع والهجران، وتثبت معاني التواصل والمودة والرحمة . قال ابن دقيق العيد: " ومن فوائد التشميت تحصيل المودة، والتآلف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النفس عند الكبر، والحمل على التواضع . . . " وكلها معان إنسانية جميلة.
ثالثًا: إن الإسلام قد جاء في هذا الأدب ما أبطل اعتقادات الجاهلية التي لم تقم على أساس من عقل أو نقل، وما نشأ عن هذه الاعتقادات من عادات مستقبحة في الفطرة، ضارة بالحياة.
فقد ذكر العلامة ابن القيم أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون بالعطاس ويتشاءمون منه، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح.
قال رؤبة بن العجاج يصف فلاه: قطعتها ولا أهاب العطاس.
وقال امرؤ القيس: وقد أغتدى قبل العطاس بهيكل . ..
أراد أنه كان ينتبه لصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم، لئلا يسمع عاطسًا، يتشاءم بعطاسه . وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمرًا وشبابًا، وإذا عطس من يبغضونه قالوا له: وريًا وقحابًا ". (الورى كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب كالسعال وزنًا ومعنى).
فكان الرجل إذا سمع عطاسًا يتشاءم به، يقول: بك لا بي . أي أسال الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي . وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد.
فلما جاء الله سبحانه بالإسلام، وأبطل رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما كان عليه الجاهلية من الضلالة، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه الدعاء له بالرحمة.
(1/567)
وكما كان الدعاء على العاطس نوعًا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ (الرحمة) المنافي للظلم، وأمر العاطس أن يدعو لمشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم . أو يهديكم الله ويصلح بالكم.
فأما الدعاء بالهداية، فلما أن اهتدى إلى طاعة الرسول، ورغب عما كان عليه أهل الجاهلية، فدعا له أن يثبته الله عليها، ويهديه إليها.
وكذلك الدعاء بإصلاح البال، وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله . . وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة، فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال.
وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت (يغفر الله لنا ولكم) ليستحصل من مجموع دعوتي العاطس والمشمت له المغفرة والرحمة لهما معًا. (انظر مفتاح دار السعادة: ج 2 ص 276، 277).
والحمد لله رب العالمين.
عناية الإسلام بالصحة العامة والطب
س: أرجو أن تتفضلوا بالإجابة عن هذا السؤال بما عهد عنكم من الشرح والتفصيل وهو :
هل صحيح أن الإسلام لا يعترف بالعدوى ! وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا عدوى " وأن الأمور كلها تجري بقضاء الله وقدره، فلا داعي للخوف من العدوى . إن انتشار مثل هذه الأفكار بين العامة يعوق عمل الذين يعملون في الصحة العامة أو في الطب الوقائي ولا سيما إذا روجها أناس يتحدثون باسم الدين، ممن يلبسون لبوس المشايخ أو المطاوعة، كم سمعت ذلك من خطبة جمعة بأحد المساجد أخيرًا.
نحن نعتقد بما لدينا من معلومات محدودة عن ديننا الإسلامي أنه يحرص على الصحة ويقاوم الأمراض، ويأمر بالوقاية قبل المرض، وبالعلاج بعد المرض، ويحذر من العدوى . ولكنا نرجو إسهامكم في نشر الوعي الصحي ببيان موقف الشرع الإسلامي من هذه الأمور، مؤيدًا بالأدلة من الكتاب والسنة . جزاكم الله خيرًا.
(1/568)
ج: إن من أكبر آفات الإسلام في عصرنا ما يتمثل في أولئك الحشوية من أنصاف الجهلة أو أنصاف المتعلمين، الذين يتزيون بزي الدين ويتحدثون باسمه وعَّاظًا أو خطباء أو مدرسين وهم لا يعرفون منه إلا قشورًا تافهة، أو نقول رديئة.
أو معلومات مشوشة، أو أحاديث موضوعة أو ضعيفة، أو حتى صحيحة ولكنهم يضعونها في غير موضعها، ويفهمونها على غير وجهها فيضلون ويضلون . ويزيد الطين بلة أن هؤلاء كثيرًا ما يجدون منزلة في قلوب العوام الذين لا يميزون بين الغث والسمين، فهم يستميلون عواطفهم، ويشبعون أخيلتهم بالمبالغات في الترغيب والترهيب، والقصص والحكايات.
والحقيقة أن موقف الإسلام من الصحة والوقاية وسلامة الأبدان موقف لا نظير له في أي دين من الأديان . فالنظافة فيه عبادة وقربة، بل فريضة من فرائضه.
( أ ) إن كتب الشريعة في الإسلام تبدأ أول ما تبدأ بباب عنوانه " الطهارة " أي النظافة فهذا أول ما يدرسه المسلم والمسلمة من فقه الإسلام.
وما ذلك إلا أن الطهارة هي مفتاح العبادة اليومية " الصلاة " كما أن الصلاة مفتاح الجنة فلا تصح صلاة المسلم ما لم يتطهر من الحدث الأصغر بالوضوء ومن الحدث الأكبر بالغسل . والوضوء يتكرر في اليوم عدة مرات، تغسل فيه الأعضاء التي تتعرض للاتساخ والعرق والأتربة.
ومن شرط صحة الصلاة كذلك نظافة الثوب والبدن والمكان من الأخباث والقاذورات.
وفوق ذلك أشاد القرآن والسنة بالنظافة وأهلها . فقال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (البقرة: 222) وأثنى على أهل مسجد قباء فقال: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين). (التوبة: 108).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الطهور شطر الإيمان " أي نصفه . وهو حديث صحيح رواه مسلم . وروي في حديث عند الطبراني " النظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة ".
(1/569)
ومن ذلك شاعت بين المسلمين هذه الحكمة التي ينطق بها خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف لها مثيل عند غيرهم، وهي " النظافة من الإيمان ".
وروي في بعض الأحاديث " تنظفوا فإن الإسلام نظيف "، " تنظفوا حتى تكونوا كالشامة بين الأمم ".
وقد عني النبي - صلى الله عليه وسلم - بنظافة الإنسان، فدعا إلى الاغتسال، وخاصة يوم الجمعة " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " (رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري) . " حق على كل مسلم في كل سبعة أيام يوم يغسل فيه رأسه وجسده ". (متفق عليه عن أبي هريرة).
وعنى بنظافة الفم والأسنان خاصة، فرغب في السواك أعظم الترغيب " السواك مطهرة للفم مرضاة لرب ". (رواه أحمد عن أبي بكر والشافعي في مسنده وأحمد أيضًا والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عائشة وابن ماجة وعن أبي أمامه الباهلي وعلقه البخاري بصيغة الجزم).
وبنظافة الشعر، " من كان له شعر فليكرمه ". (أبو داود عن أبي هريرة).
وبإزالة الفضلات من الإبط والعانة وتقليم الأظافر ..
وعني بنظافة البيت وساحاته وأفنيته فقال: " إن الله جميل يحب الجمال، طيب يجب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم ولا تتشبهوا باليهود ". (رواه مسلم من حديث ابن مسعود).
وعني بنظافة الطريق، وتوعد كل من ألقى فيه أذى أو قذرًا.
( ب ) وحذر أشد التحذير من أعمال قد يرتكبها بعض الجهال دون اكتراث لنتائجها . مع أنها تعد من أشد مصادر العدوى خطرًا، فضلاً عما في ارتكابها من منافاة الذوق السليم والبعد عن خصائص الإنسان الراقي.
ومن هذه الأعمال: البول في الماء وبخاصة الراكد . . البول في الحمام . . . . التبرز في الظل أو في الطريق أو في موارد الماء وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمور " الملاعن الثلاث " لأنها تجلب على صاحبها لعنة الله والملائكة والصالحين من الناس.
(1/570)
( ج ) كما رغب الإسلام في العمل والنشاط والحركة والبكور، وحذر من التباطؤ والتكاسل والترهل، ودعا إلى رياضة الأجسام بالسباحة والرماية وركوب الخيل، وما شابهها من ألوان الفروسية وجعل من حق الأولاد على آبائهم أن يدربوهم على ذلك، وشرع التنافس والمسابقات تشجيعًا على ذلك، وإغراء به . وسبق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل، وأعطى السابق . كما شرع المسابقة على الأقدام ونحوها.
( د ) ومن عناية الإسلام بصحة الأجسام: تحريمه المسكرات والمفترات (المخدرات) مهما اتخذت لها من أسماء وعناوين، وتشديده في ذلك غاية التشديد، وإيجابه العقوبة الشرعية على من تناولها . وتأثيمه كل من شارك فيها بجهد ما، يساعد على تناولها، حتى أنه لعن في الخمر عشرة.
( هـ ) ومن عناية الإسلام بالأجسام: إنكاره على من حرم ما أحل الله من الطيبات تدينًا، أو شحًا (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (الأعراف: 32). (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا) (المائدة: 87) . وفي مقابل ذلك نهى عن الإسراف في الطعام والشراب خشية الإضرار بالبدن (كلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف: 31). والإسلام دين اعتدال في كل شيء.
( و ) كما أنه حرم إرهاق البدن بالعمل وطول السهر والجوع، وإن كان ذلك في صورة عبادة الله تعالى فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رهط من أصحابه أراد أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام، والثاني أن يصوم الدهر فلا يفطر، والثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج . وقال لهم: " أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "
كما أنه أنكر على عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو وغيرهما الغلو في التعبد، مذكرًا بحق أبدانهم وأسرهم ومجتمعهم عليهم.
(1/571)
( ز ) ومن عناية الإسلام بحق الأجسام ما شرعه من رخص في أداء الفرائض، إذا كان العمل بالعزائم يؤذي الجسم - كأن يسبب له مرضًا، أو يزيد في مرض قائم، أو يؤخر الشفاء منه، أو يؤدي إلى مشقة زائدة، فهنالك يدع الوضوء إلى التيمم، والصلاة قائما إلى الصلاة قاعدًا أو مضطجعا، وله الفطر في رمضان، إلى غير ذلك من أنواع التخفيف إلى بدل أو إلى غير بدل حتى أصبح مقررًا عند عامة المسلمين: أن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان.
( ح ) والإسلام، كما عني بالطب سواء كان طبًا علاجيًا أم وقائيًا، وإن كانت عنايته بالوقائي أكثر، لما هو معلوم: إن درهم وقاية خير من قنطار علاج . وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة أحاديث تصف بعض الأدوية لبعض الأمراض . وقد اهتم بها بعض العلماء، ظانين أنها كلها جزء من الدين والوحي الإلهي، ولكن الواقع أن منها ما هو من خبرات البيئة ونتائجها.
ومنها ما يليق ببيئة معينة في حرارتها ومناخها وظروفها كالبيئة الصحراوية العربية ولا يمكن أن يحمل على العموم لكل الناس، كما بين ذلك المحقق ابن القيم رحمه الله.
على أن هناك جانبًا هامًا يتعلق بالطب، يغفله الكثيرون ممن يروق لهم الحديث عن الطب النبوي أو الطب في الإسلام، ذلك هو الجانب التوجيهي الذي يتصل بمهمة الدين ووظيفة الرسول.
فقد أدخلت الأديان الوثنية والمحرفة أفكارًا فاسدة، وخرافات باطلة، عوقت نمو الطب الصحيح، وأفسدت الإتنفاع به، فجاء نبي الإسلام، فطارد تلك الأوهام، وصحح تلك الأغلاط، ووضع جملة من المبادئ الخالدة، تعد بحق حجر الأساس لقيام صرح مشيد لطب إنساني علمي سليم.
ومن هذه المبادئ المحمدية :
1- قرر قيمة البدن، وحقه على صاحبه، وسمع الناس لأول مرة في جو الدين " إن لبدنك عليك حقًا ".
(1/572)
ومن حقه عليه أن يطعمه إذا جاع، ويريحه إذا تعب، وينظفه إذا اتسخ، وكذلك يداويه إذا مرض . هو حق واجب لا يجوز في نظر الإسلام أن ينسى ويهمل لحساب الحقوق الأخرى، ولو كان منها حق الله عز وجل.
2- حل مشكلة الإيمان بالقدر، الذي كان يعتقده المتدينون معارضًا للتداوي وطلب العلاج، ظانين أن عليهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء.
روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي عن أبي خزامة قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقي نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، فهل ترد من قدر الله شيئًا ؟ قال: " هي من قدر الله " . وفي المسند: جاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى ؟ قال: نعم، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء . وهذا هو الجواب الحاسم فإن الله قدر الأسباب والمسببات، وجعل من سننه في خلقه دفع قدر بقدر، فيدفع قدر الجوع بقدر الغذاء، ويدفع قدر العطش بقدر الشرب، والداء بالدواء، وكل من الدافع والمدفوع قدر الله . فإنه عليه السلام كان يفعل التداوي في نفسه، ويأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه . وفي الصحيح من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه عليه.
وحينما ذهب عمر إلى الشام وعلم قبل دخولها أن هناك طاعونًا شاور أصحابه في الرجوع واستقر الرأي على العودة بمن معه بعدًا بهم عن مواطن الخطر، فقال أبو عبيدة: أنفر من قدر الله يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة.
نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله . أرأيت لو كان لك واديان أحدهما مخصب والآخر مجدب، أليس إن رعيت المخصب رعيته بقدر الله ؟
3- أقر سنة الله في العدوى وأمر بالاحتراز والوقاية والعزل الصحي في الأوبئة العامة كالطاعون ونحوه، بل وسع دائرة الوقاية حتى شملت الحيوان الأعجم.
(1/573)
وقال: " لا يوردن ممرض على مصح " (رواه البخاري عن أبي هريرة) . والممرض: الذي إبله مراض، والمصح: الذي إبله صحاح . ومعنى: لا يورد عليه: لا يخلط المريضة الجرباء بالصحيحة أثناء ورود الماء.
وفي مسلم: أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ارجع فقد بايعناك ".
وعند ابن ماجة: لا تديموا النظر إلى المجذومين.
ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم -: كلم المجذوم وبينك وبينه قدر رمح أو رمحين.
وقال في شأن الطاعون - وهو وباء عام -: " إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه ".
وهذا حصر للوباء في أضيق نطاق.
أما حديث " لا عدوى " فهو صحيح رواه البخاري ولكن معناه: أن الأمراض لا تعدي بطبعها وذاتها كما يعتقد أهل الجاهلية، بل بتقدير الله تعالى، وبناء على سننه الكونية.
4- قاوم ما يسمى " بالطب الروحاني " واحترم الطب القائم على الملاحظة والتجربة والأسباب والمسببات، وأبطل ما أشاعته الوثنية الجاهلية عند العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب من اطراح الأسباب الظاهرة والسنن الكونية . والاعتماد على الأسباب الخفية والقوى المجهولة من عزائم ورقي غير مفهومة، وشعوذة يروجها السحرة والدجالون.
(1/574)
روى الإمام أحمد عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم، فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير . قالت: فدخل فجلس إلى جانبي، فرأي في عنقي خيطًا فقال: ما هذا الخيط ؟ قلت: خيط رقي لي فيه . فأخذه فقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الرقي والتمائم والتولة (رواه أحمد وأبو يعلي بإسناد جيد والحاكم وقال صحيح). شرك " قالت: قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت، فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها . إنما يكفيك أن تقولي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا ".
وروى بسنده عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلت على عبد الله بن حكيم وهو مريض، نعوده، فقيل له: لو تعلقت شيئًا، (أي حجابًا أو خرزًا أو نحو ذلك) فقال: أتعلق شيئًا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: : " من تعلق شيئًا وكل إليه ".
وروي عن عقبة بن عامر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - " من علق تميمة فقد أشرك ".
وفي رواية " من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له " (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم) . ووضع مبدءًا تشريعيًا بقطع الطريق على من يدعون الطب وليسوا من أهله " من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن ". (رواه البخاري من حديث ابن عباس).
وأما الرقي فهي دعاء وتضرع إلى الله، وليست بدواء، وقد حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأدوية بحسب زمنه، فقال: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم، وكية بنار " ولم يعد منها الرقية أو ما يماثلها.
(1/575)
5- فتح باب الأمل على مصراعيه أمام الأطباء والمرضى معًا، في الشفاء من كل مرض، مهما طال واتصل، وقضى على اليأس المحطم، وعلى ما يسمى بالأمراض المستعصية . روى البخاري عن أبي هريرة " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ".
وروى مسلم وأحمد عن جابر " لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى ".
وروى أحمد " أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله " قال الشوكاني: فيه دليل على أنه لا بأس بالتداوي لمن كان به داء قد اعترف الأطباء بأنه لا دواء له، وأقروا بالعجز عنه.
وقال ابن القيم في " زاد المعاد " :
في قوله - صلى الله عليه وسلم - " لكل داء دواء " تقوية لنفس المريض والطبيب وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه، فإن المريض إذا شعرت نفسه أن لدائه دواء يزيد تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته، وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه، وأمراض الأبدان على وزن أمراض القلوب وما جعل الله للقلب مرضًا إلا جعل له شفاء بضده، فإن علمه صاحب الداء واستعمله وصادف داء قلبه أبرأه بإذن الله تعالى ". (زاد المعاد ج3 ص 69).
6- عني الإسلام بالصحة النفسية عناية فائقة " فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان " ولا ريب أن بين الناحية النفسية والناحية الجسمية تبادلاً في التأثير، كلاهما يؤثر في الآخر قوة وضعفًا، وصحة وسقمًا، واعتدالاً وانحرافًا، وقد أثبت ذلك علماء النفس وأطباء الجسم من قديم. (يراجع " شفاء النفس " من سلسلة اقرأ).
وقديمًا قالوا: العقل السليم في الجسم السليم . وعلق على ذلك برناردشو فقال: بل الجسم السليم في العقل السليم.
(1/576)
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قوة الروح وأثرها في قوة البدن حين كانوا يبنون المسجد، والصحابة يحملون حجرًا، وعمار يحمل حجرين حجرين، فقال: " إن عمارًا مليء إيمانًا من قرنه إلى قدمه ".
وأشار إليها مرة أخرى حين نهاهم عن الوصال في الصيام، فقالوا له: تنهانا عن الوصال وتواصل ؟ قال: " وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ". (رواه البخاري).
ومن مثله في قوة الروح حتى يحتمل ما يحتمله عليه السلام ؟ والمؤمن أقوى الناس روحًا، وأصحهم نفسًا، فقد ملأ الإيمان ما بين جوانحه أمنًا وطمأنينة ورضًا وأملاً وحبًا، وطهر نفسه من أدران الحقد والغل والحسد والبغضاء وأمراض القلوب الفتاكة.
وإذا قيل: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فالحق أنه يأكل فوق ذلك: صحة الإنسان وأعصابه . وما أصدق القائل: لله در الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله :
والقائل :
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله
وفي الحديث " دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة ".
والحسد داء اجتماعي ونفسي لا ريب، ومع هذا فهو داء جسماني أيضًا.
هذه هي المبادئ الخالدة التي أرسى الإسلام قواعدها، وحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تثبيتها، وهي جديرة - إذا روعيت وطبقت - أن تنشئ أجيالاً من الأصحاء الأقوياء الذين لا ينتصر الدين ولا ترقى الدنيا إلا بهم.
وبالله التوفيق.
سماع الأغاني
س: يحرم بعض الناس سماع الأغاني - أيًا كان لونها - مستدلين بقوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين).
واحتجوا بأن بعض الصحابة قالوا: إن لهو الحديث في الآية هو الغناء، كما يحتجون بآية أخرى هي قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) والغناء من اللغو فهل هذا الاستدلال بالآيتين صحيح ؟ وما رأيكم في سماع الأغاني ؟
(1/577)
أفتونا في هذه المسألة الخطيرة، فإن الناس تنازعوا تنازعًا شديدًا وفي حاجة إلى حكم بين وقول فصل، ولكم منا الشكر ومن الله الثواب.
ج: مسألة الغناء بآلة (أي مع الموسيقى) وبغير آلة، مسألة ثار فيها الجدل بين فقهاء المسلمين منذ الأعصر الأولى، فاتفقوا في مواضع، واختلفوا في أخرى.
اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية، إذ أن الغناء ليس إلا كلامًا فحسنه حسن وقبيحه قبيح . وكل قول يخالف أدب الإسلام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم وقوة التأثير ؟
واتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك في مواطن السرور المشروعة كالعرس، وقدوم الغائب وأيام الأعياد، وقد وردت في ذلك نصوص صحيحة صريحة.
واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينًا، فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير آلة بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًا، بل عده حرامًا.
والذي نفتي به ونطمئن إليه من بين تلك الأقوال: أن الغناء - في ذاته - حلال فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص صحيح بحرمتها، وكل ما ورد في تحريم الغناء فهو إما صريح غير صحيح، أو صحيح غير صريح . ومن ذلك الآيتان المذكورتان في السؤال.
(1/578)
فأما الآية الأولى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) (لقمان: 6) . إلخ . فقد استدل بها بعض الصحابة والتابعين على حرمة الغناء وخير جواب لنا عن تفسيرهم هذا ما ننقله عن الإمام ابن حزم في المحلى: قال: لا حجة في هذا لوجوه: أحدها: إنه لا حجة لأحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين . والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم، لأن الآية بها وصف (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذها هزوًا) وهذه صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف، فلو أن امرءًا اشترى مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوًا لكان كافرًا، فهذا هو الذي ذمه الله تعالى، وما ذم قط عز وجل من اشترى لهو الحديث ليتلهى به، ويروح نفسه، لا ليضل عن سبيل الله تعالى . وكذلك من اشتغل عن الصلاة عامدًا بقراءة القرآن أو بقراءة السنن أو بحديث يتحدث به أو بغناء أو بغير ذلك فهذا فاسق عاص لله تعالى، ومن لم يضيع شيئًا من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن . ا هـ.
وأما الآية الثانية (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) (القصص: 55). فالاستدلال بها على حرمة الغناء غير سليم أيضًا، فإن الظاهر من الآية أن اللغو هو سفه القول من السب والشتم ونحو بذلك . وبقية الآية تنطق بذلك، قال تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم . سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) فهي شبيهة بقوله تعالى في عباد الرحمن: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا).
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة اللغو ككلمة الباطل تعني ما لا فائدة فيه، وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرمًا ما لم يضيع حقًّا أو يشغل عن واجب.
(1/579)
روي عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتي به يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو، وقال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).
قال الإمام الغزالي: " إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء عن طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم والمخالفة فيه على أن لا فائدة فيه - لا يؤاخذ به، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص ؟ ".
على أنا نقول: ليس كل غناء لغوًا، إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه، فالنية الصالحة تجعل اللهو قربة والمزح طاعة، والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم).
وننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في المحلى ردًا على الذين يمنعون الغناء قال: " واحتجوا فقالوا: أمِن الحق الغناء أم من غير الحق ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث " وقد قال الله تعالى (فماذا بعد الحق إلا الضلال). (الفرقان: 63).
فجوابنا وبالله التوفيق:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " فمن نوى باستماع الغناء عونًا على معصية الله تعالى فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوى به ترويج نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق . ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستانه متنزهًا، وقعوده على باب داره متفرجًا وصبغه ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك، ومد ساقه وقبضها وسائر أفعاله. (المحلى)
وأما الأحاديث التي استدل بها المحرمون فكلها مثخنة بالجراح، لم يسلم منها حديث دون طعن في ثبوته أو دلالته أو فيهما معًا . قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه " الأحكام ": لم يصح في التحريم شيء، وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة، وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع.
(1/580)
وإذا سقطت أدلة التحريم بقي الغناء على الإباحة الأصلية، فكيف وقد جاءت نصوص ثابتة تفيد حل الغناء ؟ نكتفي منها بما ورد في الصحيحين أن أبا بكر دخل على النبي في بيت عائشة وعندها جاريتان تغنيان فانتهرهما أبو بكر وقال: " أمزمور الشيطان في بيت رسول الله ؟ " فقال النبي عليه السلام: " دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد " ولم يرد نهي عن الغناء في غير العيد، وإنما المعنى أن العيد من المواطن التي يستحب فيها إظهار السرور بالغناء وغيره من اللهو البريء.
ولكن لا ننسى في ختام هذه الفتوى أن نضيف إليها قيودًا لابد من مراعاتها :
( أ ) فلابد أن يكون موضوع الأغنية مما يتفق وتعاليم الإسلام وآدابه ..
فالأغنية التي تقول: " الدنيا سيجارة وكأس " مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجسًا من عمل الشيطان ويلعن شارب " الكأس " وعاصرها وبائعها وحاملها وكل من أعان فيها بعمل، كما أن التدخين ضرر محقق.
والأغنية التي تمجد صاحب " العيون الجريئة " أو " صاحبة العيون الجريئة " أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)، (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) ..ويقول رسول الله: " يا علي لا تتبع النظرة النظرة ؛ فإنما لك الأولى وعليك الثانية " وهكذا.
( ب ) ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به، ولا غبار عليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول، وتعمد الإثارة، والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة - ينقل الأغنية من دائرة الحلال إلى دائرة الحرام من مثل ما يسمعه الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تصرح بـ " ياه " و" يوه " و" ييه " ..إلخ.
ولنذكر قول الله لنساء النبي: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
(1/581)
(جـ) هذا إلى أن الدين حرم الغلو والإسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحا، إن هذا دليل على فراغ القلب والعقل من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار حقوق أخرى كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود، وما أصدق وأعمق ما قاله ابن المقفع: " ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع ".
( د ) على أن المستمع - بعد الحدود التي ذكرناها - يكون فقيه نفسه، فإذا كان الغناء، أو نوع خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة ويسبح به في شطحات الخيال الحسي فعليه أن يتجنبه ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.
ولا ريب أن هذه القيود قلما توافرت جميعًا في أغاني هذا العصر بكمها وكيفها وموضوعها وطريقة أدائها والتصاقها بحياة أقوام بعيدين كل البعد عن الدين وأخلاقياته ومثله . فلا ينبغي للمسلم التنويه بهم، والمشاركة في نشر ذكرهم، وتوسيع نطاق تأثيرهم إذ به يتسع نطاق إفسادهم.
ولهذا كان الأولى بالمسلم الحريص على دينه أن يأخذ بالعزيمة لنفسه وأن يتقي الشبهات وينأى بنفسه عن هذا المجال الذي يصعب التخلص فيه من شائبة الحرام إلا ما ندر.
ومن أخذ بالرخصة فليتحر لنفسه وليتخير ما كان أبعد عن مظان الإثم ما استطاع، وإذا كان هذا في مجرد (السماع) فإن الأمر في (الاحتراف) بالغناء يكون أشد وأخوف ؛ لأن الاندماج في البيئة "الفنية" كما تسمى خطر شديد على دين المسلم يندر من يخرج منه سالمًا معافى ..
وهذا في الرجل، أما المرأة فالخطر منها وعليها أشد، ولذا فرض الله تعالى عليها من التصوّن والتحفظ والاحتشام في لبسها ومشيتها وكلامها ما يباعد الرجال من فتنتها وما يباعدها من فتنة الرجال ويحميها من أذى الألسن وشره الأعين وطمع القلوب المريضة كما قال تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقال: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
(1/582)
واحتراف المرأة المسلمة للغناء يعرضها لأن تفتن أو تُفتن ويورطها في محرمات قلما تستطيع التغلب عليها من الخلوة بالأجنبي للتلحين أو التسجيل أو التعاقد أو غيرها، ومن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها اختلاتطًا لا تقره الشريعة بل الاختلاط بالنساء المتبرجات "المتحررات" من المسلمات بالوراثة ومن غير المسلمات هو محرم أيضًا.
مشاهدة التليفزيون
س: أنا شاب أبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، ولي أخوة صغار، يذهبون كل يوم إلى منزل جيراننا لمشاهدة التليفزيون عندهم، ولما طلبت من والدي شراء جهاز خاص بنا، قال: إن التليفزيون " حرام "، ولا أدخله بيتي . أرجو أن ترشدونا في هذا الموضوع.
جـ: لقد تكلمت عن حكم " التليفزيون " قبل ذلك: هل هو حلال أم حرام ؟ وذلك في أول حلقة قدمتها للمشاهدين في برنامج " هدي الإسلام " من " تليفزيون " قطر . وقلت في ذلك :
إن " التليفزيون " كالراديو والصحيفة والمجلة، كل هذه الأشياء أدوات ووسائل لغايات ومقاصد، لا تستطيع أن تقول هي خير، كما لا تستطيع أن تقول هي شر . كما لا تستطيع أن تقول: إنها حلال أو إنها حرام ولكنه بحسب ما توجه إليه .وبحسب ما تتضمنه من برامج ومن أشياء ...كالسيف، فهو في يد المجاهد أداة من أدوات الجهاد، وهو في يد قاطع الطريق أداة من أدوات الإجرام .. فالشيء بحسب استعماله . والوسائل بحسب مقاصدها.
ممكن أن يكون " التليفزيون " من أعظم أدوات البناء والتعمير الفكري والروحي، والنفسي والأخلاقي والاجتماعي . و"الراديو" و"الصحيفة" كذلك.
وممكن أن تكون من أعظم أدوات التخريب والإفساد، فهذا راجع إلى نوعية ما يتضمنه من مناهج وبرامج ومؤثرات.
(1/583)
الذي أستطيع أن أقوله: إن هذه الأشياء فيها الخير، وفيها الشر، وفيها الحلال وفيها الحرام . والذي قلته من أول الأمر: إن المسلم يستطيع أن يكون فقيه نفسه في هذه الأمور، فينفتح "الراديو" أو " التليفزيون " عندما يكون هناك خير ويغلقه عندما يكون هناك شر، يسمع ويشاهد الأخبار والبرامج الثقافية، والبرامج الدينية والتعليمية والترفيهية المقبولة، ويرى الأولاد الرسوم المتحركة والأشياء التي تسلي الأطفال ..أو تعلمهم ما ينفع.
وهناك بعض الأشياء لا تجوز رؤيتها . مثل كثير من "الأفلام" . الأفلام العربية - للأسف - فإن معظم هذه الأفلام مدمر " مخرب " مفسد . . جل مضمونها أن كل بنت لابد أن يكون لها صاحب، لابد أن تحب وتعشق، وبالتالي لابد أن تكذب على أهلها، وتتعلم كيف تتسلل من البيت، وتتخلص بالكلام المعسول وبالقصص المفتراة، وبكذا وبكذا . . أفلام هي مدرسة لتعليم هذه الرذائل . ومعظم الأفلام - والحق يقال- لا تعنى إلا بهذه الناحية . . لا تخلو من مواقف الإغراء الجنسي، ومن شرب الخمر، ومن الرقص الخليع، ويقولون: إن الرقص أصبح في دنيانا ثقافة وفنًا رفيعًا . الفتاة التي لا تتعلم الرقص لا تكون عصرية . وهل حرام أن يجلس الشاب مع الفتاة ويكلمها وتكلمه ويعقدا صداقة بريئة ؟
هذه هو الذي جعل بعض المتدينين الحريصين على دينهم، المشفقين على أخلاق أبنائهم وبناتهم، يقاومون دخول هذه الأدوات إلى بيوتهم ؛ لأن شرها أكثر من خيرها، وإثمها أكبر من نفعها، وما كان كذلك فهو حرام، ولا سيما أن هذه الوسائل شديدة التأثير على الأنفس والعقول، وسريعة التسلل إلى الأفكار والعواطف، فضلاً عما فيها من سرقة الأوقات والإلهاء عن الواجبات.
(1/584)
ولا شك أن هذا هو ما يقتضيه الاحتياط، عند غلبة الشر والفساد، ولكن البلوى عمت بهذه الأشياء، ولم يعد في مقدور أكثر الناس الاستغناء عنها، وخصوصًا أنها تتضمن جوانب إيجابية نافعة، ولهذا كان الأيسر على الناس، والأليق بالواقع، هو ما قلته من وجوب الحرص على الانتفاع بالخير، وترك الشر الخالص أو الغالب من " الأفلام الرديئة والتمثيليات وما في معناها ".
فمثل هذا يمكن أن يتخلص الإنسان منه بإغلاق الراديو أو " التليفزيون " والصحيفة أيضًا إذا عرضت صورًا خليعة يمتنع عنها، أو مقالات سيئة يتجنب قراءتها، وهكذا . فالإنسان مفتي نفسه، وبمقدوره أن يسد باب الفساد عن نفسه، وإذا كان لا يملك نفسه أو أسرته، فالأولى ألا يدخل هذه الأدوات والأجهزة إلى منزله، سدًا للذريعة.
هذا هو رأيي في هذه الأمور، والله تعالى الموفق إلى سواء السبيل.
وتبقى في هذه الناحية المسئولية الكبرى على الدولة بصفة عامة، وعلى المسئولين عن هذه الأجهزة الإعلامية بصفة خاصة، فإن الله سائلهم عن كل ما تحمله هذه الأدوات للناس، فليحضروا للسؤال من الآن جوابًا
اقتناء التماثيل
س: ما حكم التماثيل في الإسلام ؟ إن لديّ تماثيل لقدماء المصريين، أريد وضعها زينة في البيت، فاعترض البعض وقالوا: إنها حرام، فهل هذا صحيح ؟
جـ: حرم الإسلام التماثيل . . . كل الصور المجسمة، ما دامت لكائن حي مثل الإنسان أو الحيوان فهي محرمة، وتزداد حرمتها إذا كانت لمخلوق معظم . مثل ملك أو نبي كالمسيح أو العذراء، أو إله من الآلهة الوثنية مثل البقر عند الهندوس، فتزداد الحرمة في مثل ذلك وتتأكد حتى تصبح أحيانًا كفرًا أو قريبًا من الكفر، من استحلها فهو كافر.
فالإسلام يحرص على حماية التوحيد، وكل ما له مساس بعقيدة التوحيد يسد الأبواب إليه.
(1/585)
بعض الناس يقول: هذا كان في عهد الوثنية وعبادة الأصنام، أما الآن فليس هناك وثنية ولا عبادة للأصنام وهذا ليس بصحيح . . فلا يزال في عصرنا من يعبد الأصنام، ومن يعبد البقرة ويعبد الماعز . فلماذا ننكر الواقع ؟ هناك أناس في أوروبا لا يقلون عن الوثنيين في شيء . . . تجد التاجر يعلق على محله (حدوة حصان) مثلاً، أو يركب في سيارته شيئًا ما . . فالناس لا يزالون يؤمنون بالخرافات، والعقل الإنساني فيه نوع من الضعف ويقبل أحيانًا ما لا يصدق . . حتى المثقفون، يقعون في أشياء هي من أبطل الباطل ولا يصدقها عقل إنسان أمي.
فالإسلام احتاط وحرم كل ما يوصل إلى الوثنية أو يشم فيها رائحة الوثنية . . ولهذا حرم التماثيل.
فتماثيل قدماء المصريين من هذا النوع.
ولعل بعض الناس يعلقون هذه التماثيل بوصفها نوعًا من التمائم، كأن يأخذ رأس " نفرتيتي " أو غيرها ليمنع بها الحسد أو الجن أو العين . . وهنا تتضاعف الحرمة . إذ تنضم حرمة التمائم إلى حرمة التماثيل.
لم يبح من التماثيل إلا ألعاب الأطفال فقط، وما عداها فهو محرم . . وعلى المسلم أن يتجنبه.
التصوير الشمسي
س: أقتني آلة تصوير ؛ لأقوم بالتصوير بها في وقت المناسبات والرحلات، فهل في التصوير بها إثم أو حرمة ؟.
كما يوجد لدي في غرفة النوم صور لبعض الممثلين من الرجال، وصحف تشتمل على صور للنساء، فهل في وجودها لدي حرج ؟ وما حكم ذلك في شرعنا الإسلامي ؟
(1/586)
جـ: أما التصوير " بالكاميرا " وهي آلة التصوير، فقد ذهب مفتي مصر الأسبق العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، وكان من كبار العلماء، ومفتي عصره، ذهب في رسالة له اسمها " الجواب الكافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي " إلى إباحة هذا التصوير وقال بأن ذلك في الحقيقة ليس عملية خلق كما جاء في الحديث " يخلق كخلقي . . . " وإنما هو حبس للظل . وما أحسن تسميته بـ " العكس " كما يسميه أبناء الخليج، والمصور يسمونه " العكاس " وذلك لأنه يعكس الظل كالمرآة . فهذه العملية، عملية حبس الظل أو عكسه، ليس كما يفعل النحات أو الرسام، ولذا فهو لا يدخل في الحرمة وإنما هو مباح، وقد وافق على فتوى الشيخ محمد بخيت كثير من العلماء، وقد اخترت هذا الرأي في كتابي " الحلال والحرام " ..
هذا التصوير كما ذكرت لا شيء فيه، بشرط أن تكون الصورة نفسها التي يلتقطها أو يعكسها حلالاً . . فلا يصور امرأة عارية أو شبه عارية أو مناظر لا تجوز شرعا.
وإنما لو صور أبناءه أو أصدقاءه أو مشاهد طبيعية أو حفلاً بريئًا في مناسبة أو غير ذلك . . . فهذا لا شيء فيه.
وهناك حالات ضرورية يبيح فيها التصوير حتى أشد المتزمتين، مثل صور الهوية أو جواز السفر أو صور المشبوهين.
أما اقتناء صور الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، ومن شابههم، فهذا لا ينبغي لمسلم حريص على دينه.
ما شأن المسلم باقتناء صورة لممثل أو ممثلة أو مغني أو مغنية ؟
هذا لا يقتنيه إلا أناس معينون، فارغون، يشغلهم هذا اللون من الصور.
ولكن إذا كان يقتني مجلة أو أكثر فيها صور خليعة للنساء، وهذا مما يستدعي الأسف، خاصة في هذا الزمن حيث جعلت صورة المرأة وسيلة للدعاية لأكبر السلع، وكأنما هي شبكة يصطادون بها العملاء، كأن يصوروا امرأة وهي في مظهر غير لائق تشرب نوعًا من المرطبات كأسلوب للدعاية والإعلان . . . . وهكذا . ..
(1/587)
والمجلات والصحف تنهج نفس الطريقة، فبدلاً من أن تجعل من صورة الشاب أو الشيخ مثلاً وسيلة للدعاية لسلعة من السلع، تأتي بصورة فتاة فاتنة أو أكثر من فتاة.
وعلى كل حال، إذا كان الأخ الذي يسأل، يقتني مجلة معينة، لما فيها من ثقافة نافعة، ولا يريد الصورة أو الصور التي فيها، وإنما تأتي هذه الصور عرضًا، فلا بأس، والأفضل أن يتخلص من الصور الخليعة الخارجة عن الأدب، وإن كان لا يستطيع ذلك، فليضعها في مكان غير مرموق، ولا يلفت النظر، وليتخلص منها بمجرد قراءتها . وبالنسبة لتعليق الصور، فهو غير جائز ؛ لأن الصورة في هذه الحالة توضع موضع التعظيم، وهذا مخالف شرعًا . . . لأن التعظيم لا ينبغي إلا لله رب العالمين . . ..
الدين والحرية
س: ما موقف الإسلام من الحرية ؟ فإن بعض الشباب يعتقدون أن الدين ضد الحرية، وما هي الحرية التي جاء بها الإسلام ؟ وما حدودها ؟
(1/588)
جـ: جاء الإسلام فقرر مبدأ الحرية، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلمته المشهورة في ذلك: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا . وقال علي بن أبي طالب في وصية له: لا تكن غيرك وقد خلقك الله حرًا. فالأصل في الناس أنهم أحرار بحكم خلق الله، وبطبيعة ولادتهم هم أحرار، لهم حق الحرية، وليسوا عبيدًا . . جاء الإسلام فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين: فكريًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، ودينيًا، واقتصاديًا، جاء فأقر الحرية، حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، أهم الحريات التي يبحث عنها البشر . . جاء الإسلام وهو دين فأقر الحرية الدينية، حرية الاعتقاد . فلم يبح أبدًا أن يكره الناس على اعتناقه، أو اعتناق سواه من الأديان وأعلن في ذلك قول الله عز وجل: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) (يونس: 69) هذا في العهد المكي، وفي العهد المدني جاء في سورة البقرة: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) (البقرة: 256) وسبب نزول هذه الآية يبين لنا إلى أي مدى وصل الإسلام في تقديس الحرية، وفي تكريم هذا المعنى، وتأكيد هذا المبدأ، فقد كان الأوس والخزرج في الجاهلية إذا امتنعت المرأة من الحمل فنذرت إذا ولدت ولدًا هودته، أي جعلته من يهود، وهكذا نشأ بين الأوس والخزرج هاتين القبيلتين العربيتين بعض أبناء يهود، فلما جاء الإسلام وأكرمهم الله بهذا الدين وأتم عليهم نعمته، أراد بعض الآباء أن يعيدوا أبنائهم إلى الإسلام دينهم، ودين الأمة في ذلك الحين، وأن يخرجوهم من اليهودية، ورغم الظروف التي دخلوا فيها اليهودية، ورغم الحرب التي بين المسلمين وبين اليهود، لم يبح الإسلام إكراه أحد على الخروج من دينه وعلى الدخول في دين آخر ولو كان هو الإسلام . فقال: (لا إكراه في الدين) في وقت كانت الدولة البيزنطية تقول: إما التنصر وإما القتل . وكان المصلحون الدينيون في
(1/589)
فارس يتهمون بأشنع التهم، وهكذا . ..
لم يكن مبدأ الحرية قد جاء نتيجة تطور في المجتمع، أو ثورة طالبت به، أو نضوج وصل إليه الناس، وإنما مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين . . جاء مبدأ من السماء، ليرتفع به أهل الأرض، جاء الإسلام ليرقى بالبشرية بتقرير هذا المبدأ، مبدأ حرية الاعتقاد، وحرية التدين . ولكن هذا المبدأ الذي أقره الإسلام مشروط ومقيد أيضًا بألا يصبح الدين ألعوبة في أيدي الناس . . كما قال اليهود (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) (آل عمران: 72) آمنوا الصبح وفي آخر النهار تولوا: لقد وجدنا دين محمد صفته كذا وكذا . . . فتركناه . أو آمنوا اليوم واكفروا غدًا . . أو بعد أسبوع . . شنعوا على هذا الدين الجديد . . أراد الله سبحانه ألا يكون هذا الدين ألعوبة، فمن دخل في الإسلام بعد اقتناع وبعد وعي وبصيرة فليلزمه وإلا تعرض لعقوبة الردة . فالحرية الأولى حرية التدين والاعتقاد.
(1/590)
أما الحرية الثانية فهي حرية التفكير . . والنظر . . فقد جاء الإسلام يدعو الناس إلى النظر في الكون، وإلى التفكير (إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا) (سبأ: 46)، (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) (يونس: 101) (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: 46) حمل الإسلام حملة شعواء على الذين يتبعون الظنون والأوهام وقال: (إن الظن لا يغني من الحق شيئًا) (النجم: 28) وعلى الذين يتبعون الهوى وعلى الذين يقلدون الآباء، أو يقلدون الكبراء والرؤساء، حمل أولئك الذين يقولون يوم القيامة: (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (الأحزاب: 67) وحمل على أولئك الذين يقولون: (إنا وجدنا آبائنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون) (الزخرف: 22) وجعلهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً . . حمل على المقلدين والجامدين ودعا إلى حرية التفكير وإلى إعمال العقل وإعمال النظر، وصاح في الناس صيحته (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة: 111) واعتمد في إثبات العقيدة الإسلامية على الأدلة العقلية، ولهذا قال علماء الإسلام: " إن العقل، الصريح أساس النقل الصحيح " العقل أساس النقل . فقضية وجود الله قامت بإثبات العقل، وقضية نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما ثبتت بإثبات العقل أولا، فالعقل هو الذي يقول: هذا رسول، قامت البينة على صدقه ودلت المعجزات على صحة نبوته، ويقول العقل: هذا كذاب وهذا دجال ليس معه بينة، وليس معه معجزة . فهذا هو احترام الإسلام للعقل، وللفكر.
(1/591)
ومن هنا ظهر في الإسلام نتيجة للحرية الفكرية، الحرية العلمية، وجدنا العلماء يختلفون، ويخطيء بعضهم بعضًا، ويرد بعضهم على بعض، ولا يجد أحد في ذلك حرجًا . نجد في الكتاب الواحد: المعتزلي والسني، والكشاف لإمام معتزلي وهو الزمخشري نجد أهل السنة ينتفعون به، ولا يرون حرجًا في ذلك . . كل ما يمكن أن يأتي رجل من أهل السنة وعلمائهم كابن المنير يعمل حاشية عليه باسم " الانتصاف من الكشاف " أو يأتي إمام . كالحافظ ابن حجر فيؤلف كتابه " الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف " . وهكذا فكان العلماء ينتفع بعضهم بكتب بعض، وبآراء بعض، ورأينا اختلاف الفقهاء وسعة صدورهم في الخلاف بين بعضهم وبعض، هذا كله يدل على حرية الفكر وعلى الحرية العلمية في داخل الأمة الإسلامية.
وحرية القول والنقد أيضًا أقرها الإسلام، بل جعل ما هو أكثر من الحرية إذ جعل القول والنقد - إذا تعلقت به مصلحة الأمة، ومصلحة الأخلاق والآداب العامة - أمرًا واجبًا . . أن تقول الحق، لا تخاف في الله لومة لائم، أن تأمر بالمعروف، أن تنهي عن المنكر، أن تدعو إلى الخير، أن تقول للمحسن: أحسنت وللمسيء: أسأت . هذا ينتقل من حق إلى واجب إذا لم يوجد غيرك يقوم به . أو إذا كان سكوتك يترتب عليه ضرر في الأمة، أو فساد عام، حين ذاك يجب أن تقول الحق، لا تخشى ما يصيبك " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور " هذا ما وصل إليه الإسلام . . ليس في الإسلام أن تكتم أنفاس الناس ولا أن يلجم الناس بلجام فلا يتكلموا إلا بإذن، ولا يؤمنوا إلا بتصريح، كما قال فرعون لسحرته: (آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟) يريد ألا يؤمن الناس إلا إذا أذن، وألا يتكلم الناس إلا بتصريح من السلطات العليا . . لا ..
(1/592)
جاء الإسلام فأباح للناس أن يفكروا . . بل أمرهم أن يفكروا، وأباح للناس أن يعتقدوا ما يرون أنه الحق، بل أوجب عليهم ألا يعتنقوا إلا ما يعتقدون أنه الحق وأوجب على صاحب العقيدة أن يحمي عقيدته ولو بقوة السلاح، وأمر المسلمين أن يدافعوا عن حرية العقيدة حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، بحد السيف، وبحد السلاح تحمى الحرية، ويمنع الاضطهاد حتى لا تكون فتنة، أي لا يفتن أحد في عقيدته وفي دينه . وقال الله تعالى في أول آية نزلت في شرعية القتال والجهاد في الإسلام (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) قال فيها: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا) لولا أن قيض الله مثل المؤمنين المسلمين بسيوفهم يدافعون عن الحرية . . وعن الحريات العامة، ما استطاع أحد أن يعبد الله في الأرض، وما وجدت كنيسة، ولا بيعة ولا مسجد، ولا أي معبد يذكر فيه اسم الله كثيرًا، فهذا هو الإسلام، جاء بهذه الحريات . . جاء بالحرية ولكنها حرية الحقوق، وليست حرية الكفر والفسوق . ليست الحرية التي يزعمونها اليوم حرية شخصية، هكذا يسمونها . . أي أن تزني وأن تشرب الخمر، وأن ترتكب الموبقات كما تشاء، ثم بالنسبة للأمور الأخرى التي تتعلق بالمصلحة " لا حرية " لا تنقد، لا تقل ما تعتقد، لا تقل للمحسن أحسنت، لا تقل للأعرج: أنت أعرج، لا . . إنما لك الحرية الشخصية . . حرية إفساد نفسك، إفساد أخلاقك، إفساد ضميرك، إفساد عبادتك، إفساد أسرتك، لك الحرية في ذلك . . إذا كان هذا هو معنى الحرية، فالإسلام لا يقر هذه الحرية، لأنها حرية الفسوق لا حرية الحقوق، إنما الإسلام يقر الحرية حرية التفكير، حرية العلم، حرية الرأي والقول والنقد، حرية الاعتقاد، والتدين، هذه الحريات التي تقوم عليها الحياة، حرية التعاقد حرية التصرف بما لا يؤذي أحدًا، حرية التملك بالشروط والقيود المشروعة، بدون ضرر ولا ضرار . . فهذه هي
(1/593)
القاعدة العامة في الإسلام: " لا ضرر ولا ضرار " . فأي حرية ترتب عليها ضرر لنفسك، أو ضرار لغيرك، يجب أن تمنع، ويجب أن تقيد في هذه الحالة فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك، أما أن تدعى الحرية ثم تدوس الناس، هذا لا يقول به أحد . لك حرية المرور في الطريق، ولكن على أن تلتزم آداب المرور، لا تصدم الناس، ولا تصدم السيارات، ولا تدس المشاة، ولا تخترق قوانين المرور، وهذا التقييد لحريتك، أن تقف والضوء أحمر، أو أن تمشي على الجانب الأيمن، أو غير ذلك، هذا التقييد من المصلحة العامة، وكل دين وكل نظام لابد أن يوجد فيه مثل هذه القيود، وهذا ما جاء به الإسلام، وهذا أفضل ما يمكن أن تصل إليه البشرية.
تمني الموت
س: ماذا تقول في امرأة تصلي، وتدعو ربها أن يعجل بموتها ؟
(1/594)
جـ: هذا ممنوع شرعًا، فالإنسان ليس من حقه أن يدعو ربه أن يعجل بموته، أو يتمنى الموت، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، وقال: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإما محسنًا فعسى أن يزداد، وإما مسيئًا فعسى أن يتوب " (رواه الشيخان وغيرهما عن أنس) . أي أن الإنسان لا ينبغي أن يستعجل الموت، ولا أن يتمناه ؛ لأنه أحد رجلين: إما أن يكون من المحسنين فطول عمره سيتيح له فرصة للزيادة من الإحسان . وإما أن يكون مسيئًا فعسى أن يهيّئ الله له فرصة للزيادة من الإحسان . وإما أن يكون مسيئًا فعسى أن يهيء له الله فرصة للتوبة . . يستعتب ويرجع إلى الله عز وجل، فلماذا يطلب الموت ؟ وفي حديث آخر " فإن كان ولا محالة، فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي " (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أنس) . يدع الأمر لله، لا يختار لنفسه، فإن كانت الحياة خيرًا له، فإن طول عمره خير يطلب ويرجى، وجاء في الحديث " خير الناس من طال عمره وحسن عمله " (رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكر بإسناد صحيح كما في التيسير). فلعل بقاءه في الحياة فيه منفعة له، ومنفعة للناس، وإن كان الموت خيرًا له، توفاه الله، لأنه قد يكون، إذا طال به الأجل ارتكب شيئًا لا تحمد عاقبته، فيترك الأمر إلى علم الله وإلى إذن الله وإلى مشيئته.
هذا هو أدب المؤمن مع الله.
أما أنه بمجرد إصابته ببلاء في الدنيا، كأن توفيت له زوجة أو بنت، أو ولد أو نزل به مرض، يتمنى معه فراق الحياة، وتصبح حياته كلها جحيمًا، فهو الذي يجعل من حياته جحيمًا . . لأن الإنسان بإمكانه أن يجعل حياته طيبة سعيدة بالرضا وباليقين، كما روي في بعض الأحاديث " إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجل الغم والحزن في السخط والشك ".
(1/595)
الفرح والروح في الرضا واليقين . . فيرضى الإنسان بما عند الله عز وجل، يرضى بقضاء الله وقدره، ويوقن بالجزاء عند الله . . . وهو راض بيومه، موقن بغده . . هذا الرضا وهذا اليقين يعطيه الفرح والروح والأمن النفسي، والطمأنينة الروحية هذه التي قال فيها بعض السلف " إننا نعيش في سعادة لو علم بها الملوك جالدونا عليها بالسيوف": فهي ليست سعادة القناطير المقنطرة، ولا سعادة القصور المشيدة، ولكنها سعادة النفس.
البكاء على الميت
س: بنتي ماتت، وأنا أبكي كثيرًا عليها، ويقول لي بعض الناس: إن البكاء مخل بالدين فما قول الشرع في ذلك ؟
أم مسلمة
جـ: البكاء نوعان :
بكاء رحمة - من شدة العاطفة، ومن الحنان، وهذا لا يخلو منه أحد، إلا من قسا قلبه . النبي - عليه الصلاة والسلام - بكى حينما ماتت بنت بنته . . فدهش بعض الصحابة فسألوه في ذلك: أتبكي يا رسول الله وقد نهيت عن البكاء ؟ قال: هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء . . . يعني أن قلبه ليس مقدودًا من صخر . لا، إنه قلب إنسان . . وقلب الإنسان يتأثر فحينما يرى الإنسان طفلة أمامه تحتضر وتلفظ الأنفاس الأخيرة، ألا يبكي ؟ بلى ؟ ؟ إنه يبكي ما دام ذا قلب وهذا لا حرج فيه.
(1/596)
وعندما مات ابنه إبراهيم قال - عليه الصلاة والسلام -: " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا " . المهم أن الإنسان، لا يقول مع البكاء، إلا ما يرضى الله " إنا لله وإنا إليه راجعون "، " إن لله ما أخذ ولله ما أعطى "، " اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرًا منها " مثل هذا الكلام الطيب الذي يصبح له ثقل في الميزان يوم القيامة . أما أن يلطم الخد، ويشق الجيب ويدعو بدعوى الجاهلية، أو يولول، أو يعول، فهذه الأشياء هي الممنوعة وهي المحظورة وهي التي برئ منها النبي - صلى الله عليه وسلم - . فمجرد البكاء، لا شيء فيه، لأن بعض الناس دمعتهم قريبة، يبكي لأدنى الأشياء، فلعل هذه الأخت السائلة عاطفية، حساسة، فتبكي كلما تذكرت، فلا حرج عليها . لكن ينبغي أن تقول كلما تذكرت " إنا لله وإنا إليه راجعون " فعسى أن تكون هذه البنت في ميزانها يوم القيامة، وحجابًا لها من النار إن شاء الله . ولكن لتحذر أن تغلط بكلام يسيء الأدب في حق الله عز وجل، عليها أن ترضى بقضاء الله عز وجل، وإن ذرفت عينها الدمع في بعض الأحيان.
الاشتراك في الجمعيات الماسونية
س: نحب أن نستوضح رأيكم في موضوع اختلفنا عليه ما بين مؤيد ومعارض، وذلك هو موضوع " الماسونية " . فمن قائل: إنها دعوة استعمارية يهودية صهيونية، ومن قائل: إنها دعوة إنسانية، تدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة.
فهل عندكم ما يلقي الضوء على خبايا هذه الفكرة أو الجمعية ؟ . وهل هناك حرج شرعًا من الانضمام إليها، والانتظام في عقد أنصارها وأعضائها ؟
م . ع .، أ . س . ل - عمان
جـ: لا أجدني مضطرًا إلى أن أكشف عن خبايا هذه الفكرة أو الجمعية، وحقيقة نواياها، وما تنطوي عليه من أسرار، وبحسبي أن أضع أمام الأخوين السائلين هذه الحقائق التي لا ريب فيها، ولا خلاف عليها:
(1/597)
أولاً: المسلم إنسان واضح، لا يستخفي في السراديب كاللصوص، ولا يهوى الظلام كالخفافيش، وإنما يحب النور، ويعيش في نور . فهو كما وصفه القرآن (على نور من ربه) (سورة الزمر: 22) فهو لهذا لا يقبل دعوة بغير بينة ولا بصيرة ولا برهان، لأنه يقدر ذاته، ويحترم عقله الذي وهبه الله . ومن هنا خاطب الله رسوله بقوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (سورة يوسف: 108).
فلا ينبغي إذن لمسلم أن ينتظم في دعوة ليس على بينة من مقاصدها وأهدافها، فربما كانت هذه المقاصد منافية لدينه، أو محظورة في شريعته، كتقديم أعضاء الجمعية على غيرهم، وإن لم يكونوا أهلا، ونحو ذلك.
ثانيًا: ليس هناك أدنى حاجة للمسلم إلى الانضمام لجمعية يلابسها الغموض من كل جانب، وتحيط بها الريب والشبهات من هنا وهناك . وقد وضع رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أمام كل مسلم قاعدة للسلوك المأمون حين قال: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ".
وما دام في استطاعة المسلم أن يدع الأمر المختلف فيه إلى أمر متفق عليه، وأن يذر المشكوك فيه إلى المتيقن، بدون حرج في دينه، أو تضييق عليه في دنياه، فلا ينبغي أن يعدل عن ذلك.
ثالثًا: إن كانت هذه الجمعية تدعو إلى مبادئ الإنسانية، والأخوة العالمية، كما يقال، فلسنا - نحن المسلمين - في حاجة إلى جمعية أجنبية الأصول والمنابع، تدعونا إلى الإخاء والمساواة والحرية . أو تعلمنا المحبة والتسامح . فنحن أساتذة الدنيا في هذه المعاني ونحن دعاتها ومعلموها للناس.
وإن كانت تدعو إلى شيء آخر تكنه صدور زعمائها ومؤسسيها، ولا يطلع عليه إلا خاصة الخاصة، فلسنا نقبل أن نقاد كما تقاد الأنعام، لا تدري أهي ذاهبة إلى المرعى أم إلى القصاب.
والخلاصة: إن كان في هذه الفكرة ما في الإسلام، فقد أغنانا الله بالإسلام، وإن كان فيها ما يخالف الإسلام، فلا نرضى أن نبيع ديننا بملك المشرق والمغرب.
(1/598)
رابعا: إن هذه الجمعية غريبة عنا، دخيلة علينا، لم تنبت في أرضنا، ولم تنشئها أيدينا، ولم تصنعها أفكارنا، فقد أنشأها قوم غير قومنا، في دار غير دارنا، أعني أننا - نحن العرب والمسلمين - لم ننشئها، بل أنشأها قوم آخرون من اليهود أو النصارى في بلاد الغرب، لأهدافهم ومآربهم الخاصة بهم.
وقد عرفنا من كتاب ربنا، وأيده منطق التاريخ والواقع، أن هؤلاء القوم يجهدون كل الجهد لتحويلنا عن طبيعتنا وقبلتنا وعقيدتنا " (انظر في ذلك: " بروتوكولات حكماء صهيون " و" الغارة على العالم الإسلامي " و" التبشير والاستعمار في البلاد العربية والإسلامية " وغيرها) .ولن يرضوا بغير هذا بديلا، وصدق الله العظيم: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل: إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا نصير). (سورة البقرة: 120).
خامسًا: كل من يدخل هذه الجمعية يلتزم بالسمع والطاعة لأوامرها، مهما تكن طبيعتها، وتنفيذ قراراتها بدون قيد ولا شرط . ومعنى هذا: أن أوامرها فوق أوامر الله جل شأنه وأن قراراتها فوق كل سلطة حتى سلطة الشرع نفسه.
ومن المعلوم من الإسلام بيقين أن مثل هذا الالتزام المطلق أو الأعمى لا يجوز لمسلم ؛ لأنه ضرب من الشرك والتعبد لغير الله . فالذي له الطاعة المطلقة والخضوع المطلق هو الخالق جل وعلا أما من عدا ذلك فطاعته مقيدة بالمعروف، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
حتى الإمام المسئول أو الدولة ذات السلطة الشرعية، التي يجب لها الطاعة والولاء لا يجوز الالتزام بطاعتها في المعصية، كما في الحديث الصحيح: " فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
وإذن يكون مجرد الالتزام بالطاعة المطلقة لقادة هذه الجمعية السريين حرامًا بينًا، سواء أمروه بمعصية بالفعل أم لا.
(1/599)
سادسًا: إن هذه الجمعية تقوم على أساس " علماني " . وهذا ما لا ينكره دعاتها . ومعنى " العلمانية ": أنهم يؤمنون بعزل الدين عن الدولة، أو فصل الدولة عن الدين . بحيث يكون التشريع لممثلي الشعب وليس لله، وهذه الفكرة قد تقبل في " المسيحية " التي ليس فيها تشريع محدد ملزم، والذي أجاز فيها المسيح لأتباعه أن يدعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
أما الإسلام فلا يجيز لأحد أن يدعي حق التشريع لنفسه، فيحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله . وإنما يجيز للناس أن يجتهدوا لأنفسهم في ضوء ما شرع الله تعالى . أما الحكم بغير ما أنزل الله فهو ظلم أو كفر أو فسوق، بنص القرآن.
سابعًا: تعمل هذه الجمعية على تحطيم الرابطة الدينية أو - على الأقل - توهين عراها، وتحطيم قواها . فإذا كان الإسلام يشيد بأخوة المسلم للمسلم، ويجعلها من الإيمان (إنما المؤمنون أخوة) (سورة الحجرات: 10). ويجعل رابطة العقيدة فوق رابطة الدم والنسب إذا تعارضتا كما في قوله تعالى: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (سورة المجادلة: 22). فإن هذه الجمعية تجعل رابطتها فوق الأديان والقوميات وكل ما يربط الناس بعضهم ببعض.
وبهذه النقاط كلها يتضح لنا أن أي مسلم يعتز بدينه، ويحترم نفسه، ويحرص على إرضاء ربه، لا يجوز له بحال أن يتورط في دخول هذه المتاهات التي إن عرف أولها فلن يعرف آخرها.
أما خبايا هذه الدعوة فقد كتب فيها كتب شتى . لعل من أهمها ما كتبه الجنرال التركي " رفعت أتلخان " وقد نقل إلى العربية من مؤلفاته: كتاب " أسرار الماسونية " وفيه - بالوثائق والأرقام من مصادرهم اليقينية - ما يكفي ويشفي، والله أعلم.
التعامل مع الأعداء
(1/600)
س: أود أن تتفضلوا بالإفادة عن حكم الشريعة الإسلامية في الشخص المسلم الذي يتعامل مع أعداء دينه ووطنه معاملات تجارية أو اقتصادية أو غيرها تعود بالنفع على العدو، سواء كان ذلك في وقت السلم أو في وقت الحرب.
جـ: لا شك أن المسلم مأمور بمجاهدة أعداء دينه ووطنه، بكل ما يستطيع من ألوان الجهاد، الجهاد باليد، والجهاد باللسان، والجهاد بالقلب، والجهاد بالمقاطعة . . كل ما يضعف العدو ويخضد شوكته يجب على المسلم أن يفعله، كل إنسان بقدر استطاعته، وفي حدود إمكانياته، ولا يجوز لمسلم بحال أن يكون رداءًا أو عونًا لعدو دينه وعدو بلاده، سواء كان هذا العدو يهوديًا أم وثنيًا . . أو غير ذلك فالمسلم يقف ضد أعدائه الذين يريدون أن ينتقصوا حقوقه وينتهكوا حرماته بكل ما يستطيع، وكل من والى أعداء الله وأعداء الدين وأعداء الوطن فهو منهم، كما قال الله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51) أي من كان مواليًا لهم بقلبه أو بلسانه أو بمعاملته أو بماله، أو بأي طريقة من الطرق أو أسلوب من الأساليب فهو منهم . . يصبح في زمرتهم . . وهذا ما حذّر القرآن منه في أكثر من سورة، وفي أكثر من آية، جعل الذين يتولون الكفار جزءًا منهم وبعضًا منهم . . (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) (الأنفال: 73 )، فالمسلم لا يوالي الكافر، والبر لا يوالي الفاجر، فإذا والاه كان دليلاً على نقص إيمانه أو على زوال إسلامه والعياذ بالله، فهو نوع من الردة، ولون من المروق عن الإسلام، المفروض أن المسلم إذا لم يستطع أن يجاهد أعداءه بالسيف، فعلى الأقل يجاهدهم بالمقاطعة، لا يتسبب في أن ينفعهم اقتصاديًا أو ماديًا أو تجاريًا، لأن كل دينار أو كل ريال أو كل قرش أو كل روبية تذهب إلى العدو، معناه: أنك أعطيتهم رصاصة أو ثمن رصاصة تتحول بعد ذلك إلى صدر مسلم وإلى قلب مسلم ومن هنا كان اليهود حينما يجمعون تبرعات في أمريكا وفي غيرها كان شعارهم لافتة معروفة: ادفع
(1/601)
دينارًا تقتل عربيًا . فالمال هو الذي سيشتري السلاح الذي يقتل . . . وهكذا . . أنت إذا عاونت مشركًا أو كافرًا أو فاجرًا يحارب المسلمين، فأنت بذلك تقتل نفسًا مسلمة، وهذه كبيرة من الكبائر العظمى (ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا) (المائدة: 32). (ومن يقتل مؤمنا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا). (النساء: 93).
فالمفروض في المسلم ألا يكون مع أعدائه أبدًا، مهما أظهروا من حسن النوايا فهذا كذب - يقول الله تعالى: (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) (الجاثية: 19)، (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51) ويقول: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) (المائدة: 82)، فلابد أن نعرف هذا جيدًا، وأن يكون كل مسلم مع أمته الإسلامية، ومع دينه . . . . وهذا أقل شيء . . وهو أمر فطري في الأمم . . فالإنسان إذا حارب سواه، لا يحاربه بالسلاح فقط، بل بأكثر من ذلك . . . بالمقاطعة . . المشركون حينما أرادوا في مكة أن يحاربوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، أول ما حاربوه، لم يكن حرب السلاح، وإنما كانت حربًا اقتصادية بالمقاطعة . . قاطعوه وأصحابه، وأهله، ممن انتصروا، من بني المطلب وبني هاشم . . . حاصروهم، وقاطعوهم ولم يبيعوا لهم ولم يشتروا منهم، ولم يزوجوهم، ولم يتزوجوا منهم، وذلك معناه: الحرب الاقتصادي معناه الإعداد . . فهكذا . . وهؤلاء مشركون . . فالمسلمون أولى بأن يعرفوا ذلك وأن يقاطعوا كل عدو لله، وكل عدو للمسلمين، وكل من خرج على ذلك فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين.
قتيل المعركة وتكفير الذنوب
س: ما الحكم في شاب مسلم، ذهب ليقاتل مع المقاتلين في الأرض المقدسة، فكتب الله له أن يقتل في أرض المعركة، هل يعد شهيدًا ؟ وهل يغفر له ذنوبه التي ارتكبها من قبل كالتقصير في بعض الفرائض، أو اقتراف بعض المحرمات ؟
م . ح. - من الدوحة
(1/602)
جـ: كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولم يعرف بردة عن الإسلام (من استهزاء بعقيدة، أو إنكار فريضة، أو استحلال محرم مقطوع به، أو استخفاف بشريعة مجمع عليها) - إذا قتل في المعركة بين المسلمين واليهود الكفار - شهيد من شهداء المسلمين، تجري عليه كل أحكام الشهداء، فلا يغسل ولا يكفن، ويدفن في ثيابه التي قتل فيها، لتظل آثار الدماء والجراح شاهدة له يوم القيامة.
أما هل يعد قتاله وقتله في سبيل الله أم لا ؟ فهذا أمر مرجعه إلى النيات والبواعث والمقاصد التي هي أساس تقويم الأعمال كلها في الإسلام، (إن الله لا ينظر إلى صوركم . ولكن ينظر إلى قلوبكم) . " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ".
والجهاد في الإسلام ليس عملاً دنيويًا، وإنما هو قربة وعبادة من أعظم ما يقرب إلى الله عز وجل لهذا اشترط فيه إخلاص النية لله، وتصفية القلب من كل باعث دنيوي كحب الشهرة أو التظاهر بالشجاعة، أو العصبية لقوم أو عشيرة ونحوها . وفي هذا ورد حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما: " أن أعرابيًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " . " وكلمة الله ": هي الدعوة إلى الإسلام.
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو . قال: " يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرًا محتسبًا، بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا، بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، يا عبد الله بن عمرو على أي حال إن قاتلت أو قتلت - بعثك الله على تلك الحال ".
وأما الذنوب التي ارتكبها الشهيد من قبل فهي قسمان:
(1/603)
1 - ذنوب تتعلق بحقوق مالية، كغصب أو سرقة أو ديون وودائع ونحوها، فهذه لا تكفرها الشهادة، لأنها من حقوق أفراد العباد.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ".
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف قلت ؟ " قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين، فإن جبرائيل قال لي ذلك " . رواه مسلم وغيره.
2 - وأما الذنوب التي بين العبد وربه كشرب الخمر وترك الصلاة والصيام ونحوها من غير جحود ولا استخفاف فالنصوص ناطقة بأن الله تعالى يغفرها للشهيد، ويطهره من آثارها بفضله ورحمته . فقد جاء في أكثر من حديث: أن الشهيد يغفر له في أول دفقة من دمه، بل جاء في أكثر من حديث: أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
فكل ذنب لم يصل إلى درجة الردة أو النفاق - والعياذ بالله - يدخل في دائرة المغفرة التي أكرم الله بها الشهداء.
ولعل أبلغ ما يوضح ذلك هذا الحديث النبوي الشريف: روى الدارمي عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القتلى ثلاثة: مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل " . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: " فذلك الشهيد الممتحن " (أي الذي امتحن الله قلبه للتقوى، وشرح صدره) في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة.
(1/604)
ومؤمن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، جاهد بنفسه ماله في سبيل الله، إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: ممصمصة (أي ممحصة مطهرة مكفرة) محت ذنوبه وخطاياه - إن السيف محاء للخطايا - وأدخل من أي أبواب الجنة شاء.
ومنافق جاهد بنفسه وماله، فإذا لقي العدو قاتل حتى يقتل . فذلك في النار . إن السيف لا يمحو النفاق. (رواه الدارمي بهذا اللفظ في " مشكاة المصابيح " وقال المحدث الشيخ الألباني في تعليقه على أحاديث المشكاة: إسناده صحيح . ورواه بنحو هذا الإمام أحمد بإسناد جيد، والطبراني وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في " الترغيب والترهيب " للمنذري في كتاب الجهاد).
وفي رواية لابن حبان في صحيحه في وصف الصنف الثاني: " ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله . . . إلخ ".
ومعنى فرق: أي خائف وجزع.
وليس بعد بيان النبوة بيان . إن السيف محاء للخطايا ومطهرة من دنس الذنوب سواء كانت ترك بعض الواجبات أم فعل بعض المحظورات، ولا حجر على رحمة الله تعالى: إن السيف يمحو الخطايا، ولا يمحو النفاق أبدًا . ولا يطهر من رجس الردة والإلحاد.
فالذين يحملون أسماء المسلمين، ويعيشون بين ظهرانيهم ولكنهم يضمرون بل يظهرون أحيانًا - التنقص للإسلام والاستخفاف بأحكامه، والمحادة لدعاته لا يطهر خبثهم شيء، ولو قُتلوا بأيدي اليهود الفجار.
موقف المسلم عند الشدائد والأزمات
س: أنا طالب، عشت سنوات قليلة مع أهلي في غاية السعادة، ثم توفى أبي، وبعد أن انتهت أمي من العدة تزوجت رجلاً آخر، عشت سنتين مع أمي وزوجها، ثم طردني عمي من البيت، وخرجت بلا أب ولا أم ترحمني ولا أعرف أهلاً لي . . فهل أنتحر ؟ أم أصبر ؟ أم ماذا ؟
أنا الآن في المرحلة الثانوية، وفي القسم الداخلي.
(1/605)
جـ: أما أنت يا بني فليس لك إلا الصبر الذي أمرنا الله أن نستعين به وبالصلاة على شدائد الحياة (يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين) الصبر مفتاح الفرج، إن شاء الله.
والمفروض في المسلم أن يواجه الحياة برباطة جأش، وبنفس قوية، وإرادة حديدية، وأن يكون أقوى من الأحداث، بتوكله على الله، واستمساكه بعراه، واعتصامه بحبله . أن يكون واثقًا من الله عز وجل، وأن الغد سيكون له، وأن بعد الليل فجرًا، وأن مع العسر يسرًا، فدوام الحال من المحال، كثير من الناس الذين نسمع عنهم في التاريخ، إنما تربوا في مدرسة الألم والحرمان، إن الله سبحانه أراد لأنبيائه أن يتألموا من صغرهم، لم نر نبيًا ولد منعمًا مرفهًا في فمه ملعقة من ذهب كما يقولون.
الأنبياء . . . أكثرهم وُلد في مهد الألم وفي أحضان العذاب . سيدنا موسى عليه السلام منذ لحظة ولادته يرمى في البحر، حيث أوحى الله إلى أمه أن ألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني . ثم يلتقطه عدو لله وله، فرعون، الذي كان يقتل الذكور من بني إسرائيل حتى يتخلص من موسى، وتحدث المعجزة الإلهية، فيتربى موسى في بيت فرعون، وينشأ وينمو في حجره.
سيدنا يوسف عليه السلام نقرأ في القرآن الكريم قصته، ونعرف كيف تجرع العذاب منذ نعومة أظافره . . حسده إخوته، ثم أرادوا أن يقتلوه ليتخلصوا منه واقترحوا أن يلقوه في الجب، وألقي فعلاً، ثم استخرج منه، وأخذ إلى سوق الرقيق حيث بيع كما تباع الشياه، ثم استخدم في البيوت كما يخدم العبيد، ثم اتهم بالفاحشة كما يتهم الفسقة، ثم ألقي في السجن بضع سنين، كما يلقى المجرمون.
وبعد هذا، ماذا كان ؟
بعد هذا الابتلاء مكنه الله في الأرض، وصار عزيز مصر، وصارت له الكلمة النافذة في يده المالية والتموين وأمور الاقتصاد كلها، في تلك الظروف القاسية والمجاعة الرهيبة التي عمت بلاد الشرق يومئذ.
كل هذا بفضل الصبر، كما قال الله في قصة يوسف :
(1/606)
(إنه من يتق ويصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
التقوى والصبر هما مفتاح النصر، وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
أما الانتحار، فليس فكرة تراود مسلمًا.
للأسف أن كثيرًا من القصص والروايات والمسرحيات التي تكتب للمسلمين معظمها تنتهي بالانتحار . . كأنه ليس هناك ما يتخلص به الإنسان ويلوذ بكنفه من الحياة الكئيبة أو من مآزق هذه الدنيا إلا أن ينتحر.
لا . . إن روح الإنسان ليست ملكه . . إنما هي ملك الله عز وجل.
فليس له أبدًا أن يفرط في هذه الأمانة، وهذه الوديعة، وأن يفارق الحياة بالانتحار.
الانتحار كبيرة من أعظم الكبائر . . تكاد تقارب الكفر - والعياذ بالله - لما تحمل وراءها من معنى اليأس من رحمة الله والله تعالى يقول:
(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). (يوسف: 87).
أوصى هذا الطالب أن يصبر وأن يثبت بعزيمة قوية، وإرادة فولاذية، بإيمان صلب، يستهين بالمعوقات، ولا يبالي بما في الحياة من لأواء، ومن عذاب ..
وعسى الله تعالى أن يطلع له الفجر، فإن الفجر لا يأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل ظلامًا، وهو آت إن شاء الله، ولا ريب فيه . . وليستقبل الحياة بصبر جميل والله يوفقه ويسدد خطاه، وعسى أن يكون في المجتمع من يسمع هذا فيرعى شأنه، فإن من أعظم الأعمال مواساة اليتيم والإحسان إليه، وخير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه.
اليهود ودم المسيح
س: أصدر مجمع الكرادلة الكاثوليك في مقر البابوية في الفاتيكان قرارًا يتضمن تبرئة اليهود من دم المسيح وصلبه، وقامت ضجة في العالم العربي والإسلامي حول هذا القرار لما له من مغزى سياسي، فهل يعد هذا القرار مخالفًا لوجهة النظر الإسلامية التي لا تعترف بصلب المسيح وتقول: إن الله رفعه إليه ؟ وهل يؤخذ اليهود المعاصرون بذنب أسلافهم ؟
(1/607)
جـ: يعتقد المسلمون أن المسيح عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، كما هو صريح القرآن الكريم، ولكن هذا لا ينفي مسئولية اليهود التاريخية في محاولة القتل والترتيب له والمعاونة عليه، فهم إن لم يقتلوا المسيح بالفعل، فقد قتلوه بالنية والاعتقاد والاعتراف وهذا ما سجله القرآن الكريم عليهم ضمن سلسلة جرائمهم المتواترة مع الأنبياء من عهد موسى منقذهم إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) (النساء: 155، 156، 157). ومعنى " شبه لهم " أنهم رأوا شبهه فظنوه إياه فقتلوه . فجريمة القتل التي يتحمل اليهود القسط الأكبر منها، إن لم تقع على المسيح نفسه فقد وقعت على من اعتقدوا هم أنه المسيح، والأعمال بالنيات، وحسبنا أنهم اعترفوا بذلك وتبجحوا به كما ذكر القرآن الكريم.
وإذا كان اليهود لم يقتلوا المسيح فعلا، فقد قتلوا من قبله نبي الله زكريا، وابنه السيد الحصور يحيى، وغيره من النبيين والصديقين، وقال القرآن مخاطبًا لهم: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذبتم وفريقًا تقتلون).
وقال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم . أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين).
وقال سبحانه في شأن بني إسرائيل: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). (البقرة: 61).
(1/608)
واليهود المعاصرون يتحملون نصيبًا من المسئولية مع أسلافهم في جرائم العصيان والاعتداء وقتل الأنبياء بغير حق، وذلك لأنهم راضون عن هذه الجرائم، وحامدون لأسلافهم عليها، فهم شركاؤهم فيها إلا إذا أعلنوا البراءة منها وسخطهم عليها وذمهم لمن اقترفها وهيهات . ومن أجل ذلك دمغ القرآن اليهود المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بجرائم آبائهم فقال تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) (البقرة: 51)، (وإذ قلتم يا موسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون . وظللنا عليكم الغمام). (البقرة: 55، 56، 57).
ومن المعلوم أن اليهود المعاصرين للنبي لم يتخذوا العجل ولم يقولوا لموسى ما قالوا، ولكن رضاهم عن أسلافهم وتمجدهم بهم جعلهم شركاء لهم . ومثل ذلك قوله تعالى: (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين). (البقرة: 91).
إن اليهود المعاصرين مدفوعون بجرائم أسلافهم، وما أشبهها . ولكنهم أضافوا إليها على مر العصور جرائم وجرائم تنفطر من قسوتها القلوب، يكفينا أن نذكر منها ما اقترفوه في الأرض المقدسة من أعمال وحشية مع الشيوخ والنساء والصبيان.
الدين والصعود إلى القمر
س: يعلن الغربيون من أمريكان وروس وغيرهم أن في استطاعة الإنسان الوصول إلى القمر، عن طريق المركبات الفضائية، ولكن كثيرًا من المتدينين يكذبون هذا الادعاء، ويعتبرونه حديث خرافة، حتى إن بعضهم زعم أن هذا ينافي ما جاء به القرآن من أن الله جعل السماء سقفًا محفوظًا، وحفظها من كل شيطان مارد، فما رأيكم في ذلك ؟
(1/609)
جـ: أود أن أقول للأخ السائل: إن القرآن الكريم ليس فيه نص صريح يمنع من وصول الإنسان إلى القمر أو إلى غيره من الأجرام السماوية . كما أنه لا يشتمل على نص للوصول إلى تلك الأجرام، فليس هذا من رسالة الوحي المنزل من عند الله تعالى . كل ما فيه أن الله تعالى حفظ السماء من الشياطين كما قال سبحانه: (ولقد جعلنا في السماء بروجًا وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين). (الحجر: 16، 17، 18).
ومعنى حفظ السماء من الشيطان أنه لا ينالها ولا يدنسها، ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته، فالشيطان موكل بهذه الأرض، وبالغاوين من أبناء آدم فيها، أما السماء - وهي موضع الطهارة، ودار الملائكة، ورمز السمو والارتفاع، وقبلة دعاء المؤمنين - فالشيطان مطرود عنها مطارد، لا ينالها ولا يدنسها إلا محاولة منه ترد كلما أراد استراق ما يدور هناك من أحاديث بين الملائكة مما كلفهم الله به من أمور الكون . فهناك تقذف بالشهب الثاقبة التي تقف بالمرصاد لكل شيطان مارد (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظًا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملأ الأعلى، ويقذفون من كل جانب . دحورًا، ولهم عذاب واصب . إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب). (الصافات: 6، 7، 8، 9، 10).
ولقد كان مردة الجن قبل البعثة المحمدية يمارسون عملية استراق السمع من الملأ الأعلى، وربما خطف بعضهم كلمة ونجا بها قبل أن يدركه الشهاب الثاقب، لينزل بها الشيطان إلى وليه من الكهنة والعرافين، فيزيد على الكلمة مائة كلمة.
حتى إذا كانت البعثة المحمدية، فوجئت الجن بأن السماء قد حصنت تحصينًا لا عهد لهم به، وملئت بحرس شديد لا ينفذ منه أحد، يرميهم بالشهب فتسقط عليهم وتفتك بهم فلم يعد هناك سبيل أي سبيل إلى استراق السمع الذي كانوا يحاولونه من قبل، على ما كان فيه من مخاطرة.
(1/610)
هذا ما اعترف به مؤمنو الجن أنفسهم، كما حكى عنهم كتاب الله إذ قالوا: (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا). (الجن: 9).
أما هذا الحرس ما هو ؟ وأين هو ؟ وكيف هو ؟ فلا نعرف عن ذلك شيئًا ؛ لأن المصدر الفذ لهذه المعرفة هو الوحي المعصوم من كتاب الله وسنة رسوله، فإذا لم يقولا لنا شيئًا عن ذلك، كففنا عن الخوض فيه، واكتفينا بما جاء به النص، ولو علم الله خيرًا لنا في الزيادة والتفصيل لزاد وفصل، وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث وإضاعة للجهد والوقت، وشغل للعقل البشري بما ليس في طاقته وليس من اختصاصه، وليس مما يفيد العلم به شيئًا في عمل الإنسان ورسالته في الحياة.
هذا ما جاء في القرآن عن حفظ السماء من مردة الجن والشياطين.
أما بنو الإنسان فلم يرد ما يمنع وصولهم إلى السماء ولا ما يفيد وصولهم إليها . فهذا من الشئون الدنيوية التي تركها الخالق للخلق، وتركها الوحي للعقل، لينظر فيها على ضوء مصلحته، وقد خاطب الله المكلفين بقول: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) (يونس: 101). (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء). (الأعراف: 185).
وليس من الحكمة أن نجزم بمنع شيء لم يأت في الدين نص قطعي يمنعه، وربما استطاع العلم غدًا أن يحقق هذا الشيء الذي يحلم به علماء الفضاء . وهم الآن قد خطوا خطوات واسعة في هذا السبيل.
ولا ندري ماذا يتمخض عنه الغد وسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم.
(تنبيه): كانت هذه الفتوى قبل صعود الأمريكان إلى القمر بعدة سنوات.
التوبة في الكبائر
(1/611)
س: ما قولكم في شخص ما، سواء ارتكب شيئًا من الأمور التي سأذكرها أم ارتكبها جميعًا، وهي: فاحشة الزنا وما شابهها، رمي المحصنات وأكل أموال الناس بالباطل، مع الاعتبار بأن مرتكبها تاب إلى الله توبة نصوحًا، وأما فيما يتعلق بأكل الأموال بالباطل، فإنه لا يستطيع رد ما أخذه من الناس، لعدم توفره معه، سواء أكان قليلاً أم كثيرًا ؟
جـ: هذه الجرائم الثلاث التي يسأل عنها الأخ وهي: جريمة الزنا، أولا، فهذه يتوب إلى الله عنها، ويندم ويستغفر الله عز وجل، ويعزم عزما صادقًا على ألا يعود لمثل هذا الذنب أبدًا، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
بعض العلماء شددوا وقالوا: لا بد أن يذهب إلى أهل المزني بها ويستسمحهم لأن هذا أمر يتعلق بحقوق العباد، فلا بد أن يسامح العباد في حقهم، ومعنى هذا أن يذهب الرجل إلى من يريد أن يستسمحه فيقول له: لقد زنيت بامرأتك أو بابنتك فاصفح عني وسامحني . . طبعًا، هذا شيء لا يعقل حدوثه، لأن ذلك الرجل سوف يقتله أو يفعل به الأفاعيل.
ولهذا حقق المحققون أن التوبة من الزنا تكون بين المرء وخالقه تعالى . فإذا تاب وأناب وندم واستغفر، فالمرجو أن يعفر الله له ويعفو عنه.
أما رمي المحصنات الغافلات العفيفات المؤمنات، فهذه جريمة كبيرة وهي من السبع الموبقات، المهلكات في الدنيا والآخرة . وقد قال الله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون). (النور: 22، 23).
(1/612)
وجعل الله على القذف عقوبة تعرف بحد القذف في الدنيا وهو ثمانون جلدة وهذه عقوبة مادية، ولا تقبل شهادة القاذف، بعد ذلك، وهذه عقوبة مدنية أدبية، حيث يسقط اعتباره وتنزع عنه الثقة فلا تقبل شهادته، وعقوبة دينية أخرى وهي قوله تعالى: (وأولئك هم الفاسقون) (النور: 4) . أي أن يوصم القاذف بالفسق . . (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم). (النور: 5).
ولكن بماذا تكون التوبة هنا ؟
اختلف الفقهاء والأئمة . ..
فهنا حق لله عز وجل، وحق للمرأة المقذوفة.
فإن كان قال فيها أمام ملأ، فلابد أن يكذب نفسه أمام هذا الملأ، حتى يرضي الله تعالى عنه . أو يذهب إلى صاحبة الحق ويستسمحها ..
أما أن يفضح عرضها، ويقول فيها كلامًا يسير مسير الريح في كل مكان، ويبقى وصمة عليها وعلى أسرتها، وعلى ذريتها، من بعدها، ثم يقول: تبت إلى الله . . فهذا لا يكفي . لابد من تكذيب نفسه، والاعتراف بأنه كذب عليها، أو استرضاء صاحبة الحق . . فصاحب الحق له أن يسمح . . وإلا قدم نفسه ليجلد الثمانين جلدة، ويتوب إلى الله بعد ذلك . . . فتقبل توبته.
أما أكل أموال الناس بالباطل، وبطرق غير مشروعة ..
أقول: بأن الحقوق المالية لابد أن ترد إلى أصحابها، حتى الشهادة في سبيل الله، لا تكفر هذا الحق للآدمي . . إنه ليس أعظم من أن يستشهد الإنسان في سبيل الله، ومع هذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله سائل: يا رسول الله، إذا قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ قال: نعم . ثم استدعاه وقال له: ماذا قلت آنفًا ؟ قال: قلت كذا . . قال: " إلا الدين . . أخبرني بذلك جبريل آنفًا ". (رواه مسلم).
الديون، والتبعات، لابد أن ترد إلى أصحابها.
(1/613)
فكونه يأكل أموال الناس عن طريق الرشوة أو الغصب، أو النهب، أو الغش أو أي طريقة من الطرق المحرمة، ثم يقول: تبت إلى الله . . . أو يحج، أو يجاهد ويستشهد . . . لا . . . لابد من رد هذه الحقوق المالية، حيث لا تسامح من هذه الناحية.
فإن كان عاجزًا، فليذهب إلى أصحاب الحقوق، ويسترضيهم لعلهم يرضون عنه، فإن لم يرضوا، فإنه لابد أن ينوي بنفسه أنه كلما قدر على شيء دفعه إلى أصحاب الحق.
فإذا مات، ولم يكمل ما عليه من هذه الحقوق، تولى الله إرضاء خصومه يوم القيامة، والله عفو غفور.
جواز نبش المقبرة القديمة لمصلحة
بعثت إدارة بلدية " دبي " بالإمارات العربية المتحدة هذه الرسالة إلينا: " وبعد، فإشارة إلى المكالمة الهاتفية التي تمت بين فضيلتكم وبيني يوم أمس والتي تحدثنا فيها عن المشكلة التي تعترضنا في دبي فيما يختص بمشروع المجاري العامة الذي يجري العمل فيه حاليًا في البلاد، وقد شرحت لفضيلتكم هذه المشكلة على ضوء تقرير المهندسين والفنيين الذين يشرفون على تنفيذ المشروع والذين أجمعت آراؤهم على ضرورة مرور الأنابيب من مقبرة دارسة قديمة، لم تستعمل منذ أكثر من عشر سنين بالإضافة إلى أن المنطقة التي قد تمر منها الأنابيب لا توجد بها مقابر تقل أعمارها عن خمس وعشرين سنة، وبعكس ذلك فإن مرور المجاري في مدخل المدينة يترتب عليه أضرار جسيمة تلحق الأذى بالمصالح العامة وتعرض حركة السير في المدينة إلى شلل كلي يعطل حركة العمل والتجارة بالمدينة، ويلحقها والبنايات المحاذية للحفريات بأخطار تهددها بالأذى.
وحيث أن حل هذه المشكلة يتوقف على ما يأمر به الدين الحنيف، فإننا نرجو التكرم بالتدارس مع الإخوة الأفاضل علماء الدين في قطر الشقيقة، وإعلامنا عن رأي شريعتنا الإسلامية السمحة في هذا الموضوع، للتمكن من السير على ضوئه في متابعة هذا المشروع.
أخوكم مدير بلدية دبي
جـ: السيد الفاضل مدير بلدية دبي المحترم
(1/614)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وبعد:
فردًا على كتابكم المؤرخ في 17 من ربيع الأول سنة 1390 هـ الموافق 22/5/1970 الخاص بموضوع المقبرة القديمة التي أجمعت تقارير الفنيين والمهندسين على ضرورة مد أنابيب المجاري منها.
وقد اطلعت على تقرير الفنيين الخاص بالمشروع، وعرفت منه الأضرار الكثيرة التي تترتب على مد الأنابيب من المدخل الرئيسي للبلد الذي هو البديل الوحيد للمقبرة.
وبعد دراسة الموضوع من الناحية الشرعية، حسبما جاء في كتب الشريعة ومن الناحية الواقعية حسبما جاء بالتقرير، أستطيع أن أقرر التالي وبالله التوفيق.
إن الأصل في نبش القبور، وإخراج الموتى منها، والانتفاع بالأرض عدم الجواز حفاظًا على كرامة الميت وحرمته . وهذا ثابت بالإجماع . إلا إذا وجد سبب شرعي يقتضي ذلك.
والأسباب الشرعية لذلك ترجع إلى أمور منها:
1 - مرور زمن طويل على المقبرة، بحيث يعرف منها: أن الميت رم وبلي، وصار ترابًا، ويعرف ذلك بالخبرة، فإن البلاد والأرض تختلف طبيعتها.
2 - إذا كان الميت يتأذى بوجوده في هذا القبر، كما إذا صار موضع القبر رديئًا لوجود مياه أو قذارة تنز عليه أو نحو ذلك.
3 - إذا تعلق حق لآدمي حي بالقبر أو بالميت نفسه . حتى أن الفقهاء جوزوا شق بطن الميت من أجل مال قليل بلعه عمدًا أو خطأ، ومنهم من جوز نبش القبر من أجل درهم أو من أجل بيع أرض القبر بالشفعة ونحو ذلك ". (انظر: المجموع للنووي جـ 5 . والدر المختار وحاشية ابن عابدين جـ 1 ص 839 . ص: 840 ط استانبول).
(1/615)
وعند الحنفية لا يجوز إخراج الميت بعد إهالة التراب عليه، إلا لحق آدمي، كما إذا سقط في القبر متاع أو كفن بثوب مغصوب، أو دفن معه مال، قالوا: ولو كان المال درهما، وكذلك إذا اشترى أرضًا فدفن فيها ميته ثم قام الشريك أو الجار ببيعها فتملكها بالشفعة، فهو مخير بين إخراج المدفون منها أو إبقائه فيها والتصرف في ظاهرها بالزرع أو البناء فوقها، قالوا لأن حقه في باطنها وظاهرها فإن شاء ترك حقه في باطنها، وإن شاء استوفاه ". (انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه جـ 1 ص 839، 840 ط. استانبول).
فإذا جاز مثل هذا التصرف من أجل حق آدمي فرد، فأولى أن يجوز لحق المجموع ومصلحتهم ودفع التضرر عنهم.
4 - أن تتعلق بالمقبرة مصلحة عامة ضرورية لجماعة المسلمين، لا يتم تحقيقها إلا بأخذ أرض المقبرة أو جزء منها، ونقل ما فيها من رفات.
وذلك أن القواعد الشرعية العامة: أن المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام . فإذا كان هذا يطبق على الحي، حتى أن الشرع ليجيز نزع ملكية أرضه وداره وإخراجه من مسكنه من أجل حفر نهر، أو إنشاء طريق، أو إقامة مسجد، أو توسيعه أو نحو ذلك . فأولى أن يطبق على الميت، الذي لو كان حيًا ما رضى أن نؤذي إخوانه من أجله.
وإذا عرفنا ذلك وجدنا أن هناك سببين يجيزان شرعًا الانتفاع بالمقبرة المذكورة بالشروط التي سنذكرها.
السبب الأول:
هو وجود مياه قذرة ترشح على المقبرة من جور الصرف التابعة للبنايات المجاورة مما نشر عليها الأوساخ والروائح الكريهة.
وقد ذكر العلامة ابن قدامة الحنبلي في " المغني ": أن الإمام أحمد سئل عن الميت يخرج من قبره إلى غيره . فأجاب بجواز ذلك إذا كان هناك شيء يؤذيه . أي مثل الماء ونحوه . وقال: قد حول طلحة، وحولت عائشة.
وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع رديئة، فلم ير بأسًا أن يحولوا وينقلوا إلى مكان آخر. (المغني: جـ2 ص: 425 ط. مطبعة الإمام).
(1/616)
وقال المارودي الشافعي في الأحكام السلطانية: إذا لحق القبر سيل أو نداوة . قال أبو عبد الله الزبيري يجوز نقله، ومنعه غيره . قال النووي: قول الزبيري أصح، فقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه دفن أباه يوم أحد مع رجل آخر في قبر . قال: " ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير هينة في أذنه " وفي رواية للبخاري: " أخرجته فجعلته في قبر على حدة ".
قال النووي: وذكر ابن قتيبة في المعارف وغيره: أن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة - رضي الله عنهم - دفن، فرأته ابنته عائشة بعد دفنه بثلاثين سنة في المنام، فشكا إليها النز، فأمرت به، فاستخرج طريًا، فدفن في داره بالبصرة. (فتاوى ابن تيمية: جـ 1 ص: 14).
والسبب الثاني:
هو مصلحة الجماعة في المدينة التي تتعرض لأضرار كثيرة عددها تقرير الفنيين في ثمانية، وقد جاءت الشريعة برفع الضرر، ودفعه ما أمكن واحتمال أخف الضررين لدفع أكبرهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاها، وهذا من أصول الشريعة التي لا خلاف عليها.
فإذا كان إبقاء المقبرة كما هي يضر بمجموع المسلمين الأحياء، ترجحت مصلحة الأحياء وجاز الانتفاع بالمقبرة، ونقل ما بقى فيها إلى مقبرة أخرى.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: أن معاوية في خلافته أراد أن يجري في المدينة المنورة العيون التي سميت " عيون حمزة " ولم يكن فيها من قبل عين جارية، فاقتضى ذلك نقل الشهداء من قبورهم، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب، لم ينتهو حتى أصابت المسحاة رجل أحدهم، فانبعث دمًا. (فتاوى ابن تيمية: جـ 1 ص: 14).
ولا شك أن معاوية فعل ذلك في المدينة، وفيها كثير من الصحابة . ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم، وهذا يعد إجماعًا.
وبناء على ذلك نرى أنه لا مانع شرعًا من الانتفاع بالمقبرة المذكورة بشروط:
(1/617)
أولاً: أن يقتصر على الجزء الذي لم يدفن فيه من خمس وعشرين سنة إلا إذا دعت الحاجة إلى استخدام الجزء الآخر، أو كانت مياه الصرف وصلت إلى كل أجزاء المقبرة، أو يخشى ذلك خشية مرجحة، فيحسن نقل كل رفاتها حينئذ.
ثانيًا: أن يحرص العاملون في الحفر على عدم كسر العظام، فقد روى أبو داود مرفوعًا: " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ".
ثالثًا: أن تجمع العظام التي يعثر عليها، وتنقل - بكل احترام - إلى مكان آخر تدفن فيه، بمعرفة أهل الرأي والدين.
هذا ما اتضح لنا في هذا الأمر . والله ولي التوفيق.
حقيقة الصوفية
س: ما حقيقة الصوفية والتصوف ؟ وما موقف الإسلام منه ؟ نسمع أن من الصوفيين من خدم الإسلام بالعلم والعمل . ونسمع أن منهم من هدم الإسلام بالبدع والضلالات . فما الفرق بين هؤلاء وأولئك ؟
جـ: التصوف: اتجاه يوجد في كل الأديان تقريبًا . . اتجاه إلى التعمق في الجانب الروحاني، وزيادة الاهتمام به.
يوجد هذا في بعض الأديان أكثر منه في أديان أخرى.
في الهند . . هناك فقراء الهنود، يهتمون بالناحية الروحية اهتماما بالغًا، ويجنحون إلى تعذيب الجسد من أجل ترقية الروح وتصفيتها بزعمهم.
وكذلك في المسيحية . ولا سيما في نظام الرهبانية.
وفي فارس، كان هناك مذهب ماني.
وعند اليونان ظهر مذهب الرواقيين.
وفي بلاد أخرى كثيرة، ظهرت النزعات الروحية المتطرفة، على حساب الناحية الجسدية أو المادية.
والإسلام حينما جاء، جاء بالتوازن بين الحياة الروحية والحياة الجسدية والحياة العقلية.
فالإنسان - كما يتصوره الإسلام - جسم وعقل وروح . ولابد للمسلم أن يعطي كل جانب من هذه الجوانب حقه.
(1/618)
وحينما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أصحابه من يغالي في ناحية من النواحي زجره، كما حدث لعبد الله بن عمرو بن العاص، فقد كان يصوم ولا يفطر، ويقوم فلا ينام، وترك امرأته وواجباته الزوجية . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا عبد الله إن لعينك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لبدنك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه ".
وحينما ذهب فريق من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون أزواجه عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال بعضهم لبعض " وأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثاني: وأنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج . فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالتهم فجمعهم وخطب فيهم وقال: " أما إني أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
فمن هنا جاء الإسلام بالتوازن في الحياة، يعطي كل ناحية حقها، ولكن الصوفية ظهروا في وقت غلب على المسلمين فيه الجانب المادي والجانب العقلي.
الجانب المادي، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات، بعد اتساع الفتوحات، وكثرة الأموال، وازدهار الحياة الاقتصادية، مما أورثت غلوا في الجانب المادي . مصحوبًا بغلو آخر في الجانب العقلي، أصبح الإيمان عبارة عن " فلسفة " و" علم كلام " " وجدل "، لا يشبع للإنسان نهمًا روحيًا، حتى الفقه أصبح إنما يعني بظاهر الدين لا بباطنه، وبأعمال الجوارح . لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها.
(1/619)
ومن هنا ظهر هؤلاء الصوفية ليسدوا ذلك الفراغ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء، وصار لدى كثير من الناس جوع روحي، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس، وإعطاء الأولية لأعمال القلوب وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية، وصرفوا إليها جل تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم . حتى قال بعضهم: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف.
وكان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنة، وقافين عند حدود الشرع، مطاردين للبدع والانحرافات في الفكر والسلوك.
ولقد دخل على أيدي الصوفية المتبعين كثير من الناس في الإسلام وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة وخلفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر، أو متعصب عليهم.
غير أن كثيرًا منهم غلوا في هذا الجانب، وانحرفوا عن الطريق السوي، وعرفت عن بعضهم أفكار غير إسلامية، كقولهم بالحقيقة والشريعة، فمن نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم . وكان لهم كلام في أن الأذواق والمواجيد تعتبر مصدرًا من مصادر الحكم . . أي أن الإنسان يرجع في الحكم إلى ذوقه ووجدانه وقلبه . . وكان بعضهم يعيب على المحدّثين، لأنهم يقولون: حدثنا فلان قال وحدثنا فلان . . . ويقول الصوفي: حدثني قلبي عن ربي . ..
أو يقول: إنكم تأخذون علمكم ميتًا عن ميت، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت . . أي أنه متصل - بزعمه - بالسماء مباشرة.
فهذا النوع من الغلو، ومثله الغلو في الناحية التربوية غلوا يضعف شخصية المريد كقولهم: إن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله، ومن قال لشيخه: لم ؟ لا يفلح . ومن اعترض " انطرد ".
(1/620)
هذه الاتجاهات قتلت نفسيات كثير من أبناء المسلمين، فسرت فيهم روح جبرية سلبية كاعتقادهم القائل: أقام العباد فيما أراد . . . دع الملك للمالك، واترك الخلق للخالق ..
يعني بذلك أن يكون موقفه سلبيًا أمام الانحراف والفساد وأمام الظلم والاستبداد، وهذا أيضًا من الغلو والانحرافات التي ظهرت عند الصوفية.
ولكن كثيرًا من أهل السنة والسلف قوّم علوم الصوفية، بالكتاب، والسنة، كما نبه على ذلك المحققون منهم، ووجدنا رجلاً كابن القيم يزن علوم القوم بهذا الميزان الذي لا يختل ولا يجور، ميزان الكتاب والسنة . فكتب عن التصوف كتابًا قيمًا، هو كتاب: " مدارج السالكين إلى منازل السائرين " . ومدارج السالكين هذا عبارة عن شرح لرسالة صوفية صغيرة اسمها " منازل السائرين إلى مقامات: إياك نعبد وإياك نستعين " لشيخ الإسلام إسماعيل الهروي الحنبلي.
هذا الكتاب من ثلاثة مجلدات، يرجع فيه إلى الكتاب والسنة، ونستطيع أن نقرأه ونستفيد منه باطمئنان كبير ..
والحقيقة أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، والحكم هو النص المعصوم من كتاب الله ومن سنة رسوله.
فنستطيع أن نأخذ من الصوفية الجوانب المشرقة، كجانب الطاعة لله . وجانب محبة الناس بعضهم لبعض، ومعرفة عيوب النفس، ومداخل الشيطان، وعلاجها، واهتمامهم بما يرقق القلوب، ويذكر بالآخرة.
نستطيع أن نعرف عن هذا الكثير عن طريق بعض الصوفية كالإمام الغزالي مع الحذر من شطحاتهم، وانحرافاتهم، وغلوائهم، ووزن ذلك بالكتاب والسنة، وهذا لا يقدر عليه إلا أهل العلم وأهل المعرفة.
ولهذا أنصح الرجل العادي بأن يرجع في معارفه إلى المسلمين العلماء السلفيين المعتدلين الذين يرجعون في كل ما يقولون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والله الموفق.
التصوف بين مادحيه وقادحيه
(1/621)
س: كنا مجموعة متنوعة المشارب والثقافات، جلسنا نتدارس ونتناقش في بعض أمور الدين فانتهى بنا الحديث إلى موضوع اختلفنا في شأنه اختلافًا حادًا هذا الموضوع الذي اختلفنا في شأنه هو التصوف وكتبه وطرقه ورجاله، ومناهجه الفكرية والتربوية.
فمنا من رفضه رفضًا كليًا، واعتبره ضد الإسلام الصحيح، ومنا من قبله قبولاً مطلقًا، واعتبره الطريق الوحيد للوصول إلى الإسلام معرفة وتذوقًا وسلوكًا.
ولم نستطع أن نصل إلى رأي حاسم في الموضوع، لأن لكل منا خلفيته الثقافية التي تحدد مسار تفكيره.
لهذا نريد منكم بيانًا واضحًا وحاسمًا حول التصوف ونشأته واتجاهه ومميزاته وعيوبه، حتى يمكننا أن نحدد موقفنا منه على بينة، دون تعصب له أو عليه.
وفقكم الله ونفع بعلومكم المسلمين.
جـ: عرضنا لهذا الموضوع في فتوى سابقة، ولكن لا مانع من العودة إليه مرة أخرى لأهميته وضياع الحقيقة فيه بين المفرطين في المدح، والمفرطين في القدح، ولهذا يحتاج إلى مزيد بيان.
ولا بأس أن نلقي من الضوء ما يكشف بعض جوانب الموضوع وينير الطريق لمن أراد السلوك على بصيرة.
(1/622)
كان المسلمون في عصر الصحابة ومن تتلمذ على أيديهم يتعلمون ويعلمون الإسلام كله، في شموله وتوازنه وإيجابيته وعمقه، ولم يكونوا يبرزون جانبًا على حساب جانب آخر ولم يغفلوا ظاهرًا لباطن، ولا باطنًا لظاهر، بل اهتموا بالعقل والروح والجسم جميعًا، وعنوا بالفرد والمجتمع معا ورعوا مصالح الدنيا والآخرة، وكما يقول الفقهاء مصالح العباد في المعاش والمعاد . فلما تعقدت الحياة وتطورت - لعوامل كثيرة داخلية وخارجية وجد في المجتمع الإسلامي من قصر همه على الجانب العقلي كالمتكلمين، ومن جعل أكبر همه الجانب العملي الظاهري كالمشتغلين بالفقه، وبجوار هؤلاء وأولئك من شغله متاع الحياة الأدنى، وأغرقه ترف المعيشة المادي، كالأمراء والأغنياء ومن سار في ركابهم من طلاب الدنيا . في هذا الوقت ظهر المتصوفة ليعنوا بجانب هام أيضًا هو الجانب الروحي والنفسي في الحياة الإسلامية، ويملأوا الفراغ الذي لم يسده أهل الفقه ولا أهل الكلام، وليستنقذوا الناس من الاستغراق في متاع الدنيا وزخرفها.
كان علماء السلف يأخذون دين الله كله - كما قلنا - بمراتبه كلها من الإسلام والإيمان والإحسان التي جاءت في حديث جبريل المشهور . ثم صار أهل الفقه أخص بمعرفة الإسلام وأحكامه الظاهرة، وأهل الكلام أخص بالإيمان وما حوله من بحوث . . وجاء أهل التصوف ليقولوا: نحن أخص بمرتبة الإحسان.
(1/623)
كان التصوف في أوامره ينزع إلى تحقيق غاية عملية هي النجاة بالنفس من سخط الله وعذاب الآخرة، عن طريق الزهد والتقشف ومجاهدة النفس، وأخذها بأدب الشرع وتقوى الله، ثم ظهر من العلماء والمربين من جسد جانب الخوف والتخويف من الله كالحسن البصري، ثم برز إلى جانب الخوف والخشية - عنصر جديد هو الحب الإلهي، ظهر ذلك في شعر رابعة العدوية (ت 185 هـ) وفي أقوال أبي سليمان الداراني (ت 215 هـ) وذي النون المصري (ت 245 هـ) وأبي يزيد البسطامي وغيرهم، ممن صرحوا بأنهم لا يطيعون الله ويؤدون الواجبات خوفًا من عذاب النار ولا رغبة في نعيم الجنة، ولكن حبًا لله، وطلبًا لقربه.
واشتهر في هذا قول رابعة:
كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظًا جزيلاً
أو بأن يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلاً
ثم تحول التصوف بعد ذلك من طريقة للتربية الخلقية والروحية إلى فلسفة تشتمل على مفاهيم غريبة عن الإسلام، وانحرافات عن تعاليمه الأصلية، لعل أبرزها هو القول بالحلول ووحدة الوجود، أجل انحرف التصوف انحرافًا شديدًا على يد الحلاج الذي غره الغرور فقال: أنا الله . على مذهب من يقول بحلول الخالق في المخلوق، كقول النصارى في المسيح . كان هذا الانحراف سببًا في غضبة الفقهاء والجماهير المسلمة عليه فقتل سنة 309 هـ وأكثر الصوفية أنفسهم يبرأون من نظرية الحلاج.
ثم زاد الانحراف والغلو في فلسفة " وحدة الوجود " التي تظهر في مؤلفات محيي الدين بن عربي (المتوفي سنة 638 هـ) وغيره، ممن زعموا أن لا موجود إلا الله ولا ثنائية في الوجود، فليس ثمت خالق ومخلوق، ورب ومربوب.
ونتيجة هذه الفلسفة هي نفي المسئولية - التي هي عماد الأخلاق - والتسوية بين الأخيار والأشرار، والموحدين والوثنيين، فالجميع مظهر لتجلي الحق . لهذا قال ابن عربي:
(1/624)
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فدير لرهبان ومرعى لغزلان
وبيت لأوثان وكعبة سائف وألواح توراة ومصحف قرآن
فهو في الواقع مذهب هدام.
تعقيب على الاتجاه الصوفي:
ولا شك أن الناس قد اختلفوا في الصوفية بين متعصب لهم يبرز محاسنهم ويتبني وجهة نظرهم في كل شيء ويحامي عنهم ولو خطأ، بلى هو لا يتصور الحكم عليهم بالخطأ أبدًا . ومتعصب عليهم يذمهم جميعًا، ويذم ما انفردوا به ولو كان حقًا في نفسه، ويعلن أن التصوف مذهب دخيل على الإسلام، مأخوذ من المسيحية والبوذية والبرهمية وغيرها.
ولكن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إن التصوف له جذور إسلامية أصيلة لا تجحد، وفيه عناصر إسلامية أساسية لا تخفى . نرى ذلك في القرآن والسنة وسيرة الرسول الكريم وأصحابه الزاهدين مثل عمر وعلي وأبي الدرداء، وسلمان وأبي ذر وغيرهم . ومن يقرأ القرآن والحديث يجد فيهما تحذيرًا متكررًا من فتنة الحياة الدنيا ومتاعها وتوجيه الهمم إلى الله وإلى الدار الآخرة، وتحريك القلوب بالتشويق إلى الجنة وما فيها من رضوان الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، والتخويف من النار وما فيها سبحانه في مثل قوله (يحبهم ويحبونه)، (والذين آمنوا أشد حبًا لله)، (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، (والله يحب المحسنين)، (والله يحب الصابرين)، (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا) إلخ.
(1/625)
كما جاء في القرآن والأحاديث نصوص غزيرة في الزهد والتوكل والتوبة والشكر والصبر واليقين والتقوى والمراقبة وغيرها من مقامات الدين، ولم يعطها العناية اللائقة بها - من التفسير والتعليل، والتقسيم والتفضيل - غير الصوفية . ولهذا كانوا أعلم طوائف الأمة بعيوب النفس، وأمراض القلوب ومداخل الشيطان، وأكثرهم عناية بأحوال السلوك وتربية السالكين، وكم تاب على أيديهم من عاص وكم أسلم من كافر ولكن التصوف لم يقف عند الدور الأول الذي كان يراد به الأخلاق الدينية ومعاني العبادة الخالصة لله . وكان قوامه الإرادة . كما قال ابن القيم، ولكنه انتقل من وصفه علم الأخلاق الإسلامي إلى نظرية في المعرفة تسعى إلى الكشف والفيض الإلهي عن طريق تصفية النفس . . ثم كان من الانحرافات ما كان.
ولهذا فإن من المكابرة إنكار المؤثرات الأجنبية في التصوف مما خرج به في كثير من الأحيان عن " وسطية " الإسلام واعتداله، إلى تشدد كتشدد الرهبانية، أو غلو كغلو البوذية . ومن مظاهر الانحراف عند الصوفية هذه الأفكار.
1 - اعتبار الذوق أو الوجدان الشخصي أو الإلهام - مقياسًا في معرفة الحسن والقبيح وتمييز الصواب من الخطأ، حتى غلا بعضهم في ذلك فقال: " حدثني قلبي عن ربي " في مقابلة ما يقوله علماء السنة: حدثنا فلان عن فلان . . . . عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2 - تفرقتهم بين الشريعة والحقيقة، وقولهم: من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم، فهذا يترتب عليه ألا يحارب كافر ولا ينكر على منكر.
3 - تحقيرهم لأمر هذه الحياة، على خلاف نهج القرآن (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) والسنة " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي " . نهج الصحابة من مثل قولتهم المأثورة " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا ".
(1/626)
4 - غلبة النزعة الجبرية والسلبية على أكثرهم، مما أثر في تفكير عامة المسلمين وجعلهم يعتقدون أن الإنسان مسير لا مخير، وأن لا فائدة من مقاومة الفساد ومحاربة الباطل، لأن الله أقام العباد فيما أراد " وشاع بينهم هذا القول: دع الملك للمالك، واترك الخلق للخالق " . وهذا أدّى إلى تغليب الروح الانهزامية أو الانسحابية في حياة جمهور المسلمين.
5 - إلغاء شخصية المريد في تربيتهم السلوكية والفكرية، بحيث يفنى في شيخه ولا يناقش فضلاً عن أن يعترض، أو يقول: " لم " فضلاً عن " لا " ومن كلماتهم: " المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل " و" من قال لشيخه: لم ؟ لا يفلح ".
وقد انتشرت هذه الأفكار في العصور المتأخرة، وتقبلها الكثيرون على أنها من صميم الإسلام . فلما بزغ فجر النهضة الحديثة في بلاد المسلمين ظن كثير من المثقفين أن هذه الأفكار السلبية السائدة هي الإسلام، فأعرضوا عنه - وربما عادوه - جهلاً منهم بحقيقة القيم الإسلامية الأصيلة.
على أن الحق يقتضينا أن نضيف هنا أن الصوفية الأولين المعتدلين حذروا من الشطط والانحراف، وأوجبوا التقيد بنصوص الشريعة وقواعدها التي لا تخطئ ولا تحيف.
ينقل ابن القيم عن شيوخ القوم أقوالاً عديدة لهم في ذلك، منها قول سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد (ت 297) مثل قول الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقال: " من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة ".
وقال أبو حفص: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال.
وقال أبو سليمان الدارني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
(1/627)
وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.
ولعل أعدل ما قيل عن الصوفية، هو جواب ابن تيمية حين سئل عنهم فكان من قوله: تنازع الناس في طريقهم: فطائفة ذمت " الصوفية والتصوف " وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة . ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام.
وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.
والصواب: أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أجل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين . وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم، كالحلاج مثلا، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق، مثل الجنيد سيد الطائفة وغيره . ا هـ . والله أعلم.
(1/628)
بسم الله الرحمن الرحيم .
مقدمة.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبتوفيقه تتحقق الغايات، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير سيدنا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد .
فهذه هي الحلقة الثانية أو الجزء الثاني من كتابي "هَدْي الإسلام " أو "فتاوى معاصرة ". وقد كان المتوقع أن تخرج إلى حيّز الطباعة والنشر منذ سنوات، فجل موادها جاهز منذ سنين، ولكنها كانت في حاجة إلى مراجعة واستكمال لبعض الجوانب القليلة، إلا أن الواجبات الآنيّة الضاغطة لم تمكني من تحقيق ما أردت.
وحينما أعرت من دولة قطر إلى الجزائر الشقيقة في السنة الدراسية الماضية (1990م/ 1991م) اصطحبت معي هذا الجزء في حقيبة معي؛ لأنتهز بعض أوقات الفراغ لمراجعتها. ولكن السنة انتهت ولم تتح لي هذه الفرصة، وعدت بالحقيبة إلى الدوحة كما أخذتها.
وأحمد الله تعالى أن يسر لي مراجعة مواد هذا الجزء وترتيبها في أبوابها المناسبة، حتى تهيأت للنشر، وتتميز هذه المواد أنها كلها محررة مكتوبة، حتى ما كان منها منقولاً من شريط " كاسيت" أعدت كتابته، حتى تنضبط عبارته، ويستقيم أسلوبه، وأكثر من ذلك أني أعدت صياغة الأسئلة نفسها من جديد، حتى تكون معبرة بوضوح وسلاسة عن الموضوع المسئول عنه، إلا بعض الأسئلة التي رأيتها وافية بالغرض من حيث سلامة الأداء والتعبير.
إن منزلة الإفتاء منزلة عظيمة، ولهذا جعلها الإمام ابن القيم بمثابة "التوقيع عن رب العالمين" كما ينبئ عن ذلك عنوان كتابه الشهير: "إعلام الموقعين". والمفتي قائم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان الحلال والحرام من التصرفات، والصحيح والفاسد من المعاملات، والمقبول والمردود من العبادات، والحق والباطل من الاعتقادات.
(2/1)
وهذا ما جعل بعض علماء السلف الصالح يتهيبون الفتوى، ويفرون منها ما استطاعوا، ويحيل بعضهم على بعض في ذلك، واشتهر بينهم ذلك الأثر: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" (رواه الدارمي في: سننه عن عبيد الله بن أبي جعفر مرفوعا مرسلا، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/57). وذلك لشعورهم بثقل التبعة، وضخامة المسئولية أمام الله تبارك وتعالى، حتى قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- معتذرًا عن تخوفه من الفتوى في بعض المسائل: "يريدون أن يتخذوا ظهورنا جسورًا إلى جهنم ".
وإن من أعظم الجرائم في الإسلام: جريمة الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، فيحلون الحرام، أو يحرمون الحلال، بغير إذن من الله جل جلاله كما قال تعالى منذرًا ومحذرًا: (ولا تقولوا لما تَصِفُ ألْسِنَتكم الكَذِب هذا حلال وهذا حرام لِتَفْتَروا على الله الكذب إن الذين يَفْتَرُون على الله الكذب لا يُفْلِحون. مَتَاع قَليل وَلَهُم عَذَاب أليم) (النحل: 116، 117). وقال أيضًا: (قل أرأيتم ما أَنْزَلَ الله لكم من رِزْق فَجَعَلْتُم منه حراما وحلالاً قل آللَّهُ أذِنَ لكم أم على الله تَفْتَرُون) (يونس: 59).
وقد علق العلامة الزمخشري على هذه الآية بقوله: (وكفى بهذه الآية زجرًا بليغًا عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وألا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز، إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله تعالى ).
وقال ابن المنكدر: المفتي يدخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يفعل! .
(2/2)
وإن مما يعجل بفناء العالم: أن يتخذ الناس رءوسًا جهالاً، فإذا سئلوا أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا، كما حدثنا عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (رواه الشيخان بلفظ: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا "). وإن المرء لتذهب نفسه حسرات، وينقطع قلبه زفرات، حين يرى الفتوى اليوم وقد هان أمرها، حتى اجترأ عليها من ليس له في الفقه نصيب، وادعى الاجتهاد من لا يعرف مجرد تعديد شروط الاجتهاد، وأفتى في المعضلات التي تقضي المجامع العلمية فيها دورات ودورات ولا تنتهي منها، وربما خالف إجماع الأولين والآخرين، وهو لا يبالي بأولئك ولا هؤلاء، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود، وأحمد عن حذيفة كما في صحيح الجامع الصغير).
بل إن بعض الشباب ليجترئ على اقتحام حمى الفتوى في أعوص القضايا، العقدية والعلمية، الفردية والجماعية، فيحلل ويحرم، ويكفِّر ويؤثم، يخطئ السابقين، ويضلل اللاحقين، ويرمي بنباله ذات اليمين وذات الشمال، وهو رخو العود، لم يكتمل تكوينه بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
هذا وقد بينت في مقدمة الجزء الأول من " الفتاوى " وفي رسالة " الفتوى بين الانضباط والتسيب" منهجي في الإفتاء في الاستدلال والترجيح والبيان، وأنه لا يكتفى بالإجابات المقتضبة بأن هذا الأمر يجوز، أو لا يجوز، صحيح أو فاسد كما يفعل بعض أهل الفتوى قديمًا وحديثًا.
ولكنه يقوم على الإجابات المفصلة، التي لا تكتفي بأقرب دليل، ولا بأقل القليل، بل تجتهد أن تجمع من الأدلة، ما ينقع الغلة، ويشفي العلة، وجل هذه الإجابات " بحوث " في موضوعها.
(2/3)
وبعبارة أخرى أرى الفتوى عندي لونًا من الدعوة، فهي تتضمن إلى بيان الحكم الشرعي، من الوجوب أو الاستحباب أو الكراهية أو الحرمة أو الإباحة ما لا بد منه من تصحيح المفاهيم، وبيان الحقائق، ورد الأباطيل، ودفع الشبهات، وتوضيح الحِكَم والأسرار، حرصًا على إضاءة العقول، وإحياء القلوب، وترشيد المسيرة، وإنصاف الإسلام المظلوم والمفترى عليه والمضيع، بين غباء أبنائه، ومكر أعدائه، وحمق أصدقائه، وعجز علمائه، وفساد أمرائه.
وفي رأيي أن عصرنا أحوج ما يكون إلى المزج بين الفقه والدعوة، بحيث يكون الداعية فقيها، والفقيه داعية. فلن يجدد الدين في عقول الأمة وضمائرها إلا الداعية الذي يحمل عقل الفقيه، والفقيه الذي يحمل روح الداعية.
وهذا ما ينبغي أن نعمل له، ونعد له العدة، حتى تبرز هذه الفئة المرجوة إلى حيز الوجود، وتنطلق في الآفاق، تفتي عن بينة، وتدعو على بصيرة، كما قال تعالى: (قل هذه سَبِيلي أدعو إلى الله على بَصِيرَة أنا ومن اتَّبَعَني وسُبْحَان الله وما أنا من المشركين) (يوسف: 108).
كما أؤكد هنا أني في هذا الجزء من الفتاوى مستمر في منهجي الذي آمنت به، وارتضيته لنفسي، في الدعوة والتثقيف والتربية والإفتاء، وهو: منهج ( الوسطيّة) التي ميز الله بها هذه الأمة (وكذلك جَعَلناكم أمّة وَسَطًا) (البقرة: 143). فلا أجنح إلى الغلو والتنطع، فقد هلك المتنطعون، ولا أميل إلى التفريط والتسيب، فإن الدين بين الغالي فيه والجافي عنه، المفرط فيه.
والخير كل الخير في التوازن والاعتدال الذي دعا إليه القرآن: (ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (الرحمن: 8،9). الوسطية بين الطغيان والإخسار في الميزان.
(2/4)
وقد قرأت كلمات نيرة للإمام أبي إسحاق الشاطبي في هذا المعنى زادتني يقينًا بالمنهج الذي اخترته، واستمساكا بعروته الوثقى، والذي أعتبر الاهتداء إليه فضلاً من الله تعالى على، وكان فضله علينا عظيمًا، ونعمه لا تعد ولا تحصى، جعلنا الله أهلاً لشكرها، وزادنا منها.
يقول الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. .
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين. .
وأيضًا (دليل ثان غير استدلاله بالقاعدة الأصولية التي تقدمت له في: كتاب المقاصد في المسألة الثانية عشرة من النوع الثالث). فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأكرمين، وقد رد (أي على جماعة من أصحابه طلبوا منه ذلك) -عليه الصلاة والسلام- التبتل، وقال لمعاذ لمّا أطال بالناس في الصلاة: "أفَتَّانٌ أنت يا معاذ " (أخرجه في: التيسير عن الخمسة إلا الترمذي). وقال: " إن منكم منفرين " (رواه البخاري في: صلاة الجماعة). وقال: "سددوا، وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا " (رواه البخاري في: كتاب الإيمان). وقال: عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" رواه أحمد والشيخان وأبو داود عن عائشة كما في صحيح الجامع الصغير برقم -4085). وقال: "أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل" (بعض حديث أخرجه في التيسير عن الستة عن عائشة). ورد عليهم الوصال. وكثير من هذا.
(2/5)
وأيضًا فإن الخروج إلى الأطراف خارج من العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق: أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضًا، لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب العنت والحَرج بُغِّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد، وأما إذا ذُهِب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة) (الموافقات 4/258،259 بتعليق الشيخ عبد الله دراز).
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه وناشره وقارئه، وكل من أسهم أو أعان في إخراجه، وتعميم النفع به (ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بَعْد إذ هَدَيْتَنا وَهَبْ لنا من لَدُنْكَ رَحْمَة إنك أنت الوهاب) (آل عمران: 8).
القاهرة: صفر1412هـ.
سبتمبر 1991 م.
أ. د/ يوسف القرضاوي
.
في مصادر الإسلام من القرآن والحديث .
كتابة المصحف بالطريقة الإملائية الحديثة .
س: لماذا لا يطبع القرآن على الطريقة الإملائية العادية تيسيرًا لقراءته، وتسهيلاً على الطلاب لتلاوته وحفظه وكتابته؟ هل هناك ما يمنع ذلك شرعًا؟ وهل يجوز كتابة بعض الآيات على السبورة بالطريقة الإملائية العادية للطلاب أثناء الدرس؟ .
جـ: من خصائص هذا القرآن الكريم، كتاب هذه الأمة، الكتاب الخالد المعجز، من خصائصه: أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظه بنفسه، كما قال عز وجل: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: 9).
فهذا الكتاب محفوظ، لم يستحفظه الله الناس كما استحفظ الكتب الأخرى أهلها (إشارة إلى قوله تعالى عن التوراة: -يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء- المائدة: 44). ولم يدع للبشر أن يتولوا حفظه بأنفسهم، بل هو تولى بنفسه أن يحفظ هذا الكتاب؛ لأنه يتضمن كلمة الله الأخيرة للبشرية، فهو آخر الكتب، أنزل على آخر الرسل، لآخر الأمم.
(2/6)
ولما تولى ذلك سبحانه، يسر الوسائل المعينة على ذلك، فمن هذه الوسائل: تواتُر هذا الكتاب منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليوم، وإلى ما شاء الله إلى قيام الساعة، تواتره جيلاً عن جيل، يحفظونه عن ظهر قلب كبارهم وصغارهم، يتلونه كما أنزل، بكل كلمة، وبكل حرف، وبطريقة أدائه المتواترة: بغنه، وبمده، وبحركاته، وبسكناته، فهو متواتر بلفظه وبمعناه. وهذا لم يتوافر لأي كتاب قط، من كتب الديانات كلها.
ومن وسائل حفظه كذلك أن الله ألهم المسلمين منذ عهد الصحابة أن يحافظوا على رسمه، فلا يغيروا فيه ولا يبدلوا صور كتابته كذلك مبالغة في صيانته، وهذا الكتاب يقرؤه المسلمون كما رسم في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وكان ذلك في عهد عثمان، ولهذا يسمى مصحف عثمان، ويوصف رسمه بالرسم العثماني، نسبة إلى الخليفة الثالث أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. فهذا المصحف كتب بحضرة الصحابة وأقروه، وصار إجماعًا منهم.
وقد اختلفت طريقة الكتابة وقواعد الإملاء فيما بعد ذلك، على توالي العصور، ولكن المسلمين لم يجرءوا حتى اليوم أن يغيروا من طريقة الرسم العثماني، قد غيّروا بعض الشيء، إذ لم يكن هناك نقط فوضعت، ولم يكن هناك شكل فوضعوه فيما بعد. ولكن صورة الكلمات بقيت كما هي وغير ذلك مما تختلف به كتابة القرآن عن الكتابة العادية، لم يجرءوا على تغييرها. لقد زادوا النقط والشكل، أما أن يغيروا شكل بعض الكلمات مثل " الرياح " تكتب في المصحف " الريح" أو مثل الصلاة تكتب هكذا " الصلواة " أو الربا تكتب هكذا " الربوا " فلم تمتد أيديهم إليها بالتغيير قط.
هناك من يدعو اليوم إلى كتابة المصحف بالطريقة الإملائية الحديثة لنيسر على الناس القراءة، حتى لا يختلف المصحف عن سواه من الكتب التي يقرأها الناس. ولهم في ذلك اعتبارات وأدلة.
(2/7)
ولكن الأكثرين -وأنا منهم- في الحقيقة يميلون إلى أن يبقى المصحف كما هو. . برسمه، وبطريقته التي كتب بها أول الأمر، مبالغة في الحفاظ على هذا الكتاب الإلهي؛ ليعلم الناس أننا نقرأ كتابنا كما أنزل كما قرأه محمد -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، وكما نزل به جبريل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فليس لأحد أن يزيد أو ينقص أو يغير شيئًا فيه، هذا بالنسبة للمصحف ككل. .
ولكن إذا أخذنا آيات من المصحف لنستشهد بها في كتاب، أو لنكتبها على السبورة، أو نحو ذلك، فلا بأس في هذه الحالة أن تكتب على الطريقة الإملائية الحديثة، لتكون أسهل في التعليم، لا بأس بهذا وإن كان على المعلم أو المعلمة أن يشير للطالب أو الطالبة إلى أن المصحف له طريقة خاصة في كتابة بعض الكلمات، حتى يكون منها على علم، فلا يتعثر بتلاوة هذا الكتاب، الذي جعل الله تلاوته عبادة، وجعل تلاوة كل حرف فيه بعشر حسنات.
وبالله التوفيق!.
كتابة بعض آي القرآن بالحرف اللاتيني .
س: وصلتني رسالة من بعض الإخوة في أوربا يسألون عن حكم كتابة القرآن الكريم بالحرف اللاتيني للذين يدخلون الإسلام من الأجناس التي لا تعرف العربية ولا يسهل عليهم قراءتها. فكان هذا الجواب.
جـ: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد .
فقد أنزل الله تعالى القرآن عربيًا، كما نصت على ذلك آياته الكثيرة، مثل قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنًا عَرَبِيًا لَعَلّكم تَعْقِلون) (يوسف: 2). (وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًا) (الرعد: 37).
(2/8)
(وإنه لتنْزِيل رَبّ العالمين. نَزَل به الرُّوحُ الأمين. على قَلْبِك لِتَكُون من المُنْذِرِين. بِلِسَان عَرَبيٍّ مُبِين) (الشعراء: 192 - 195). ( قُرآنًا عَرَبِيًا غَير ذِي عِوَجٍ) (الزمر: 28). (كتاب فصلت آياته قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون) (فصلت: 3) ( إنا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون) (الزخرف: 3).
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكتب هذا القرآن الكريم منذ أنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالحرف العربي المعبر عن اللسان العربي، فهو قرآن وكتاب، ومن حيث هو قرآن: يتلى باللسان العربي، ومن حيث هو كتاب: يكتب بالحرف العربي المعبر عن الأصوات التي تميزت بها العربية.
وعلى هذا أجمعت الأمة منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعهد خلفائه الراشدين المهديين الذين أمرنا أن نتمسك بسنتهم، ونعض عليها بالنواجذ.
وقد تميز هذا القرآن عن الكتب السماوية التي سبقته بأن الله تعالى تولى حفظه بنفسه ( إنا نحن نزلنا الذِّكْرَ وإنا له لحافظون) (الحجر: 9).
ومن دلائل هذا الحفظ أن قيض الله تعالى له من استظهره وحفظه في صدره، وهو ما لم يعرف لأي كتاب مقدس آخر، وحفاظ القرآن كله يعدون بعشرات الألوف، ومنهم صبيان لا يتجاوزون السابعة من العمر، بل منهم أعاجم لا يحسنون فهم كلمة من العربية، ولكنهم يحفظون القرآن لا يخرمون منه حرفًا، وقد شاهدت ذلك لدى الباكستانيين والهنود والأتراك. . . وغيرهم.
ومن دلائل هذا الحفظ أن الأمة الإسلامية منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان -أي بعد وفاة النبي الكريم- ببضعة عشر عامًا، تلقت بالقبول المصاحف التي كتبت في ذلك الوقت بإشراف لجنة علمية على رأسها زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وأجمعت على أن تبقى هذه المصاحف كما رسمت، لا تغيِّر فيها ولا تبدِّل، رغم تطور طرائق الرسم والإملاء، إلا ما اقتضته الضرورة في أضيق الحدود التي لا تغير من صورة الكلمة المكتوبة، وفي هذه الحدود زادوا النقط والشكل.
(2/9)
وبقي المصحف برسمه العثماني إلى يومنا هذا، ولم يقبل أحد من المسلمين أن يغير رسمه إلى الرسم الإملائي المعتاد، وإن كان أيسر على الناس، مبالغة في الحفاظ على النص القرآني من أي تغيير قد يحدث في المستقبل خطأ أو عمدًا.
وإذا كان هذا هو موقف المسلمين الإجماعي من الرسم العثماني للنص القرآني وحرصهم عليه، ورفضهم لأي تغيير في صورته مع بقاء الحرف العربي كما هو، فكيف نجيز كتابة النص القرآني بحرف آخر غير الحرف العربي، مثل الحرف اللاتيني، مع أن هذا الحرف لا يوجد به ما يعبر عن كل الأصوات العربية التي لها أحرف خاصة في لغة العرب، مثل الصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والحاء، ونحوها.
وربما قيل: إن ذلك يمكن أن يعالج بوضع علامات خاصة كالتي وضعها المستشرقون لتمييز الصوت الذي لا يوجد له حرف خاص يعبر عنه في الحروف اللاتينية، ولكن هذا يفيد من يعرف اللغة العربية وأصوات الحروف فيها. أما غيره فلا يستفيد منها إلا بعد دراسة وتدريب.
ثم هناك أشياء مثل همزة الوصل ومتى ينطق بها ومتى لا ينطق، وكذلك التنوين في حالة الوصل، وحالة الوقف، واختلاف ذلك في حالة النصب عن حالتي الرفع والجر، وأيضًا التنوين في التاء المربوطة واختلافه عن التاء المفتوحة في حالة الوقف.
وغير ذلك، مما يمكن أن يظهر بالممارسة، ولا يصلح معه إلا التلقي الشفهي.
على أنه قد يمكن في حالة الضرورة القصوى أن يرخص لبعض الناس الذين يصعب عليهم التلقي بالمشافهة، أن يكتب لهم سورة الفاتحة مثلاً، وبعض الآيات، أو السور القصار، من أجل القراءة في الصلاة، على أن توضع كل العلامات اللازمة والموضحة لسلامة النطق، وعلى أن يكون ذلك للعون على حفظ الكلمات منطوقة بالعربية، وأن يراجع نطقه على من يعرف العربية حتى يطمئن إلى سلامته. . وبعد الحفظ التام لا داعي لإبقاء النص بالحرف اللاتيني، فقد أدى مهمته، ولم يعد له حاجة.
(2/10)
ولعل مما يؤيد هذه الرخصة بهذه الشروط وفي هذه الحدود، ما اتفق عليه رأي المسلمين من جواز كتابة النص القرآني بالحرف العربي، بغير الرسم العثماني، بل بالرسم الإملائي المعتاد وذلك في غير المصحف، كما في الكتب التعليمية والمجلات الدينية وغيرها بقصد التسهيل والتيسير على جمهور الناس الذين لم يتمرسوا بقراءة الرسم العثماني الموروث.
أما ما عدا ذلك، فيجب أن يبقى النص القرآني مكتوبًا بالحرف العربي، وفي هذا فوائد كثيرة أهمها: أن يحرص المسلم على تعلم العربية، باعتبارها لغة القرآن والحديث، ولغة العبادة ولغة الثقافة الإسلامية، وقد ذهب بعض الأئمة كالشافعي -رضي الله عنه- إلى وجوب تعلم العربية لمثل هذا الاعتبار، وأيد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم " .
وبهذا يستقي المسلم معرفته بدينه مباشرة من منابعها الصافية دون كثرة الوسائط.
كما أن اللغة العربية تربطه بالمصحف الشريف من ناحية، وبإخوانه المسلمين الناطقين بالعربية من ناحية أخرى.
وقد كان الإسلام والعربية يسيران جنبًا إلى جنب في عهد الصحابة ومن تبعهم بإحسان من خير القرون، ولو مضى الأمر على هذا المنهاج ما كان عندنا عالمَان: أحدهما عربي والآخر إسلامي، بل كان هناك عالَم واحد: عربي إسلامي أو إسلامي عربي لا غير.
ومن هنا ينبغي أن يفهم أن الأصل في الفتوى: هو عدم جواز كتابة النص القرآني بغير الحرف العربي. وإذا ترخصنا في كتابة الفاتحة أو بعض الآيات القصار، فيجب أن يكون في حدود الضرورة القصوى، وما أُبيح للضرورة، يقدر بقدرها، كما هو مقرر في القواعد الشرعية.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
حول بعض (الوقوف) في كتاب الله.
س: أنا معْنيٌّ بدراسة علوم القرآن الكريم، وخصوصًا بالوقف والوصل فيه، وقد صليت خلفكم صلاة التراوٍيح، وفي أكثر من رمضان، أعجبني كثيرًا اختياركم لأماكن الوصل والوقف. وهي مبنية على مراعاتكم للمعاني القرآنية.
(2/11)
لهذا أحببت أن أسألكم عن بعض «الوقوف» في القرآن الكريم، اختلفت فيها مع بعض زملائي، فرأينا أن نستنير برأيك حولها.
1- من ذلك قوله تعالى في أواخر سورة يوسف: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) فمعظم المصاحف المطبوعة، تقف على قوله: ( أدعو إلى الله) ثم تستأنف بعده (على بصيرة أنا ومن اتبعني ) (يوسف: 108).
فهي بهذا تجعل فقرة ( أدْعُو إلى الله على بَصِيَرةٍ أنا ومن اتَّبَعَنِي ) جملتين اثنتين لا جملة واحدة، وأنا أرى خلاف ذلك.
2ـ وفي نفس السورة حدث خلاف حول الوقف في الآية الكريمة على لسان يوسف قال: ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) (يوسف: 92). وذلك بعد أن قال له إخوته: ( تَاللَّه لقد آثَرَك الله علينا وإن كنا لخاطئين).
فهل الوقف عند قوله: (لا تَثْرِيب عليكم) أو عند كلمة ( اليوم )؟.
3- وفي سورة الحديد يقول الله تعالى: (والذين آمَنُوا بالله ورسله أولئك هم الصِّدِّيقُون والشُّهَداء عند ربهم لهم أجْرُهم ونُورُهم والذين كَفَروا وكَذَّبوا بآياتنا أولئك أصْحاب الجَحِيم) (الحديد: 19).
فهل يوقف عند قوله: (الصديقون) أم عند قوله: (عند ربهم)؟ وبعبارة أخرى: هل هما صنفان أو ثلاثة تتحدث عنهم الآية؟.
جـ: .
1- الذي أرجحه في الآية الكريمة من سورة يوسف: (قل هذه سَبِيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني): أن فقرة (أدعو إلى الله على بَصِيرة أنا ومن اتَّبَعَني) جملة واحدة، وهي جملة تفسيرية للجملة قبلها (هذه سبيلي) فهو يشرح هذه السبيل بأنها: الدعوة إلى الله على بصيرة هو وكل من آمن به واتبعه. فضمير(أنا) في الآية تأكيد لفاعل(أدعو)، وليس مبتدأ لخبر مقدم هو (على بصيرة )، والصحيح أن تعرب (على بصيرة) على أنها حال من فاعل (أدعو).
ولو جعلت هذه الفقرة جملتين: الأولى: (أدعو إلى الله)، الثانية(على بصيرة أنا ومن اتبعني) لأخل ذلك بمعنيين كبيرين: .
(2/12)
الأول: ربط الدعوة بهذا الوصف الجميل: (على بصيرة) وهذا الربط لا يتأتى إلا بربط الفقرة كلها، وجعلها جملة واحدة، وعدم الوقف على قوله (إلى الله)؛ لأن (على بصيرة) ستكون خبرًا مقدمًا للمبتدأ بعدها، وهو الضمير والمعطوف عليه (أنا ومن اتبعني).
الثاني: جعل الدعوة إلى الله على بصيرة من أوصاف الأتباع أيضًا، فكل من اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة وبالوقف على (إلى الله) ينفصل الأتباع عن الدعوة، وتنفصل الدعوة عن البصيرة.
لهذا أرجح كل الترجيح عدم الوقف على قوله: (إلى الله)، وقراءة الفقرة كلها متصلة (أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
2- كما أرجح في الآية الأخرى من سورة يوسف: الوقوف عند قوله: (اليوم) وبهذا يرتبط هذا الظرف بالتثريب قبله، لا بالمغفرة بعده، فيوسف يقول لإخوته بعد اعترافهم بخطئهم وإثمهم: (لا تثريب عليكم اليوم) ثم يدعو لهم بقوله: (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
ولو كان الوقف على قوله (عليكم) لكان لفظ (اليوم) ظرفًا لفعل (يغفر)، وكان بذلك خبرًا لا دعاء، وكان هذا جزمًا من يوسف بأن الله يغفر لهم اليوم، مع أن اللائق بالموقف أن يكون دعاء ورجاء منه ويؤيده قولهم لأبيهم بعد ذلك: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. قال سوف أستغفر لكم ربي) (يوسف: 97، 98).
ولو كانت الجملة خبرًا لا دعاء لم يكن هناك معنى لطلب الاستغفار من أبيهم مرة أخرى، بعد أن أخبرهم الصديق بأن الله يغفر لهم اليوم.
قال الألوسي: وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على (اليوم) وهو ظاهر في عدم تعلقه بـ (يغفر) وهو اختيار الطبري وابن إسحاق وغيرهم، وهو الذي يميل إليه الذوق، والله أعلم ا هـ.
(2/13)
3ــ وأما آية سورة الحديد: (والذين آمَنوُا بالله ورسله أولئك هم الصِّدِّيقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) فالذي أرجحه عدم الوقف على كلمة (الصديقون)؛ لأن (الشهداء) معطوف عليها. هي خبر عن المبتدأ الثاني (أولئك)المشار به إلى (الذين آمنوا بالله ورسله) وشبه الجملة (عند ربهم) حال.
فالله تعالى يخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله بأنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، وبأن لهم أجرهم ونورهم.
بخلاف الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، فأولئك أصحاب الجحيم.
فالقسمة إذن ثنائية: المؤمنون بالله ورسله، وهم أصحاب الجنة، والكفرة المكذبون، وهم أصحاب الجحيم.
وقد استظهر أبو حيان في تفسيره كون الشهداء مبتدأ، وما بعده خبرًا، ورده الألوسي قائلاً: ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم خلافه.
ومما يرجح ما قاله الألوسي قوله تعالى بعد ذلك بآية واحدة: (سَابِقوا إلى مَغفرة من ربكم وجَنّة عَرْضُها كَعَرْض السماء والأرض أُعِدَّت للذين آمنُوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (الحديد: 21).
مما يدل على أن السورة تدور على فضل الإيمان بالله ورسله، وفضل المؤمنين وعظيم جزائهم ومنزلتهم عند الله، فهم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم، وليس الشهداء قسمًا آخر.
على أنه لو قيل بالوقف على " الصديقون" واستأنف الكلام عن الشهداء على اعتبار ما لهم من منزلة خاصة، لاقتضى هذا أن يكون الشهداء أفضل من الصديقين، بدليل تخصيصهم بأن لهم وحدهم أجرهم ونورهم. والمعروف خلافه، وهو: أن أفضل الناس بعد النبيين هم الصديقون، ويليهم الشهداء وهو الترتيب الذي يشير إليه قوله تعالى: (ومن يُطِع الله والرسول فأولئك مع الذين أنْعَمَ الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشُّهدَاءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رَفِيقًا) (النساء: 69).
وقف مفسد للمعنى .
(2/14)
س: سمعتكم في بعض الدروس تنكرون على من وقف من القراء المعاصرين على قوله تعالى في سورة المائدة: (قال فإنها محرمة عليهم) ثم استأنف فقال: (أربعين سنة يَتِيهُون في الأرض فلا تَأْسَ على القوم الفاسقين) (المائدة: 26).
فما وجهه نظركم في هذا الوقف؟ وما وجه الخطأ فيه؟ فإننا سمعنا ذلك من أكثر من قارئ من المشاهير؟ جزاكم الله خيرًا.
جـ: الوقف من حيث الجواز واللزوم والمنع مبني على فهم المعنى. كالإعراب في النحو، فهو فرع المعنى.
ولهذا تتفاوت المصاحف في مواضع لوقف والوصل، والحكم عليها تبعًا لتفاوت أفهام المشرفين عليها. فتجد بعض المصاحف يوجب الوقف على موضع معين من آية، ويرى لزومه، ويضع حرف " الميم" الدالة على ذلك، على حين تجد مصاحف أخرى ليس فيها هذا الرمز.
وتجد مصاحف تضع علامة المنع من الوقف، وهو حرف " لا " وأخرى لا توافقها.
ومصاحف تضع علامة ترجيح الوقف" قلي "، أو ترجيح الوصل" صلي"، أو علامة تجويز الطرفين "ج" وأخرى تخالفها في ذلك.
وأفضل المصاحف في ذلك في رأيي هو المصحف الذي أشرفت عليه اللجنة العلمية الشهيرة من كبار علماء الشريعة والقراءات واللغة في مصر، وهو المصحف المعروف باسم" مصحف الملك " وإن كان هناك بعض استدراكات قليلة عليه، كأي عمل بشري.
ومن القراء العصريين من لا يتأمل المعنى جيدًا، فيقف حيث لا ينبغي أن يقف، كما في الآية الكريمة المسئول عنها من سورة المائدة.
فقد جاءت الآية في سياق الحوار بين موسى وقومه، لحثهم على دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم دخولها، ورغم التذكير والتبشير والتحذير، أصر القوم على ألا يدخلوها ما دام فيها أهلها، فإن خرجوا منها فلا مانع إذن أن يدخلوها!!.
وانتهى الحوار بهذا القول الوقح من القوم لنبيهم ومنقذهم: (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (المائدة: 24).
فماذا كان جواب موسى؟ .
(2/15)
(قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فَافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) (المائدة: 25)، وهنا جاء الحكم الإلهي القدري: (قال فإنها مُحَرَّمَة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) (المائدة: 26).
فتحريم الأرض المقدسة عليهم لم يكن تحريمًا مؤبدًا ولا مطلقًا، بل هو مقيد بهذه السنين الأربعين، عقوبة من الله لهم، وحتى يتربى جيل جديد في رحابة الصحراء بعيدًا عن قهر الفراعنة، وذل الاستبداد، ولو كان التحريم دائمًا ما دخلوها قديمًا بعد موسى، وقام لهم ملك داود وسليمان عليهما السلام، ولا دخلوها حديثًا، وأقاموا فيها دولتهم التي فعلت بنا الأفاعيل.
والوقف على قوله: (فإنها مُحَرَّمَة عليهم) كما يحلو لبعض القراء، يفسد المعنى، ويوهم بالتحريم المطلق، وإن" الأربعين سنة " منفصلة عن التحريم، ومقصورة على التيه وحده، والصواب أن مدة التحريم هي نفسها مدة التيه، وذلك يتبين بالوصل بين خبر " إن" وظرفه الزماني، فتكون القراءة (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) والله أعلم.
المجترئون على الحديث النبوي.
س: تتعرض السنة المطهرة، وبعبارة أخرى: يتعرض الحديث النبوي الشريف ما بين آونة وأخرى لهجمات شرسة ممن يدعون العلم والتجديد، والفكر الحر، وغير ذلك من الأوصاف التي يزكون بها أنفسهم، ويزفونها لدى القراء، الذين لا يعرفون حقيقتهم، وقد ينطلي على بعضهم تلك الدعاوى الزائفة.
ولا زلنا نذكر ردكم على من زعم يومًا في مجلة عربية سيارة: أن في صحيح البخاري أحاديث موضوعة ومفتراة (انظر الرد المشار إليه في الجزء الأول من: فتاوى معاصرة، بعنوان " دفاع عن صحيح البخاري").
واليوم نقرأ في بعض المجلات لأناس من هؤلاء يسودون صفحاتها بالطعن في الحديث ورجاله، وفي الفقه وأئمته، وفي الأمة وتاريخها، وفي السلف الصالح وأمجاده، ولا يجد هؤلاء من يرد عليهم، ويكشف عوارهم، ويبين بطلان مزاعمهم.
(2/16)
ولا بد أنكم قرأتم ما كتبه أحد هؤلاء أو بعضه، ولا بد أنه أغضبكم كما أغضبنا، وهو غضب للحق لا لشيء آخر.
فهل نطمع في كلمة منكم تشفي الصدور، وتسكت هؤلاء المتطاولين بالباطل، المستكبرين في الأرض بغير الحق، الذين يفترون على الله وعلى رسوله وعلى علماء الأمة الكذب وهم يعلمون؟ .
جعل الله من لسانكم وقلمكم سيفًا ينصر الحق ويمحق الباطل، وأيدكم بنصره في مقاومة المبطلين المغرورين. آمين.
جـ: أود أن أطمئن الأخ الكريم أن السنة النبوية والحديث الشريف بخير إن شاء الله، ولن تنال هذه الأقلام الجاهلة والمشبوهة من السنة إلا كما تنال هبة الريح من طود راسخ أشم، ومهما علا ضجيج الباطل في فترة من الفترات، فإنه عن قريب سيسكت، ولن يبقى إلا صوت الحق، وصدق الله إذ يقول: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (الأنبياء: 18).
وقد رد الإمام الشافعي على أمثال هؤلاء، ورد ابن قتيبة على آخرين. ولا زلنا نراهم في عصرنا يختفون كالخفافيش ثم يظهرون.
ولكن لم أر من تبجح وتطاول كهذا الذي أشار إليه الأخ السائل وأمثاله من الجهال الذين جمعوا بين الجهل الفاضح، والإفك الواضح.
لقد رأينا من هؤلاء المجترئين الذين يقتحمون حمى العلم، وهم ليسوا من أهله من يزعم أن الأئمة والفقهاء، كانوا إذا أرادوا أن يجيزوا أمرًا منعته الشريعة، أو يلغوا أمرًا أوجبته الشريعة، اخترعوا له حديثًا!! فيالله من هذا الاجتراء، بل هذا الافتراء!!.
(2/17)
أيمكن أن ينسب لمثل أبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو الثوري، أو الليث بن سعد، أو الأوزاعي، أو ابن حنبل، أو داود، وأصحابهم أو شيوخهم، وشيوخ شيوخهم من أمثال سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، والزهري، وعلقمة، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، ومسروق، وغيرهم من جبال العلم، وأئمة الورع، وقمم التقوى أن يفتروا على رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- ويكذبوا عليه متعمدين، ويخترعوا أحاديث من عند أنفسهم، ليحللوا بها، ويحرموا ما شاءت لهم أهواؤهم؟!!.
وفي مقام آخر يقول هذا المدعي المغرور (المصور 9/12/1983، والكاتب هو حسين أحمد أمين): (لقد كان الناس في الماضي إن أرادوا تطوير حكم من أحكام الشريعة على ضوء الأحوال المستجدة للمجتمع الإسلامي، يخترعون الأحاديث ثم ينسبونها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تقضي بما يريدون تحقيقه) (غير أنه لم يعد بوسع الحكومات اليوم أن توحي إلى أحد فقهائها أن يخترع حديثًا عن إسحاق بن نصر عن يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة عن أبيه عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا ينكح أحدكم امرأة على امرأته " ).
هذا ما قاله هذا المتعالم المتفاصح المنتفخ بالباطل مفتريًا على فقهاء الأمة، متقولاً على تاريخ العلم، وعلى تراث الإسلام.
فلم يكن في الأمة فقيه يستحق كلمة فقيه، يحل لنفسه أو لغيره أن يكذب على رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي قال: "من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (رواه جم غفير من الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذا اتفق علماء الحديث على أنه متواتر).
والذين استباحوا وضع الأحاديث تقربًا إلى اللّه تعالى لم يكونوا من الفقهاء، بل من جهلة المتصوفة وأمثالهم، ولم يكن ما وضعه هؤلاء في الأحكام وبيان الحلال والحرام، بل في الترغيب والترهيب، والقصص والمواعظ ونحو ذلك.
(2/18)
ومع هذا وقف لهم علماء الأمة وكشفوا زيفهم، وردوا باطلهم، وبينوا أن دين اللّه قد أكمله اللّه بالحق، فلا يحتاج إلى التزيد بالباطل. قيل للإمام عبد اللّه بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة!.
ولنفترض أن وضاعًا اخترع حديثًا كالذي ذكره صاحبنا، ولفق له سندًا عن أبي موسى الأشعري، أو ابن مسعود، أو ابن عمر، أو أبي هريرة، أو غيرهم، وجاء يحدث به، فهل يظن صاحبنا أن الفقهاء والمحدثين كانوا يقبلون أي حديث من عُرْض الطريق، يحدث به رجل مجهول لا يعرف من شيوخه الذين تلقى عنهم، ولا من تلاميذه الذين أخذوا عنه؟.
إن الذي يقول هذا الكلام السخيف، وسمح له من سمح أن ينشر في مجلات سيارة! يجهل كل الجهل الأصول والقواعد والموازين العلمية المتينة التي أرساها علماء الأمة في هذا المجال، وتوارثها الخلف عن السلف.
لقد قعَّد القوم قواعد، وأصلوا أصولاً، أصبحت علمًا شامخ الذرا، بل علومًا جمة، هي علوم الحديث.
ولقد عد منها ابن الصلاح في "مقدمته" المشهورة "65" خمسة وستين علمًا أو نوعًا، ونقل ذلك عنه من بعده كالنووي والعراقي وابن حجر، وزاد السيوطي في شرحه للتقريب للنووي أنواعًا أخرى فأوصلها إلى "93" ثلاثة وتسعين نوعًا (انظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للسيوطي، بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف 2/ 386 وما بعدها، ط. ثانية سنة 1385هـ 1966م، مطبعة السعادة بالقاهرة).
كانت أولى هذه القواعد: ألا يقبلوا حديثًا بلا إسناد، فلا يقبل من أحد أن يقول: قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن يكون صحابيًا، ممن رآه -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه (انظر في تعريف الصحابي: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 49 52 ط. حيدر آباد، والنوع التاسع والثلاثين من مقدمة ابن الصلاح وفروعها).
(2/19)
وهؤلاء الصحابة عدول، عدلهم اللّه تعالى في كتابه، وأثنى عليهم في أكثر من سورة من قرآنه، كما في آخر سورة الفتح، وخص بالثناء المهاجرين والأنصار، وأهل بيعة الرضوان (انظر الآية -29- من سورة الفتح: والآية: -100- من سورة التوبة، والآيتين -8،9- من سورة الحشر، والآيتين -58،59- من سورة الحج، والآية -18- من سورة الفتح). كما عدلهم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- في جملة من أحاديثه (وحسبنا منها الحديث المشهور: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. . " الحديث متفق عليه بألفاظ متقاربة عن ابن مسعود وعمران بن حصين، ورواه مسلم عن عائشة، وأبي هريرة والترمذي والحاكم عن عمران بن حصين، والطبراني والحاكم عن جعدة بن هبيرة. ولذا قال السيوطي: يشبه أن الحديث متواتر، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة المناوي 3/478،479 ط 0 دار المعرفة، بيروت 1391هـ 1972م، وكذا صحيح الجامع الصغير وزيادته، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني ج3 . الأحاديث:3283،3287،3289،3290). وقد شهدت سيرتهم بعدالتهم، وشهد لهم التاريخ، أنهم الذين حفظوا القرآن والسنة ونقلوهما إلى الأمة، ونشروا دين الله في أقطار الأرض، وكانوا أفضل جيل عرفته البشرية إلى اليوم.
ولم يحفظ التاريخ لأصحاب نبي من مواقف البذل، وروائع البطولة، ومكارم الأخلاق، ومقامات التقوى، ما حفظ لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (يراجع في ذلك الكتب التي ألفت في الصحابة خاصة مثل: الاستيعاب لابن عبد البر -ت: 463هـ-، وأسد الغابة لابن الأثير أبي الحسن على بن محمد -ت: 63هـ-، والإصابة للحافظ ابن حجر -ت: 852هـ-، وأيضًا طبقات ابن سعد -ت: 230هـ-، وانظر تعديل الصحابة في الكفاية للخطيب ص 46ـ49، وما ألف في مناقبهم مثل: الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري، وما ألف حديثًا في ذلك مثل: حياة الصحابة للكاندهلوي وغيره، وهو كثير).
(2/20)
أما مَنْ دون الصحابة: فلا بد أن يسند الحديث إلى صحابي، ويبين عمن تلقاه من الرواة حتى يصل إلى الصحابي.
ولا بد أن تتصل حلقات الرواة، بحيث يكون كل منهم قد أخذ مباشرة عمن روى عنه، ولا تقبل هذه السلسلة من الرواة إذا سقطت منها حلقة واحدة في أولها أو أوسطها أو آخرها.
وهذه السلسلة المتصلة الحلقات من الرواة هي التي سماها علماء المسلمين: الإسناد، أو السند، وشددوا فيه كل التشديد، منذ عهد مبكر، وبالتحديد: منذ ذرَّ قرن الفتنة في عهد عثمان -رضي اللّه عنه- وبرزت الأهواء والتحزبات.
وفي هذا يقول التابعي (يقصد بالتابعي: من تتلمذ على الصحابة وأخذ عنهم العلم. وإليهم الإشارة بقوله: "والذين اتبعوهم بإحسان" التوبة 100) الجليل، الفقيه المحدِّث الإمام محمد بن سيرين: ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السُنَّة فيؤخذ عنهم، ويُنظر إلى أهل البدع فيجتنب حديثهم ) (أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، والترمذي في علل الجامع).
وقال الإمام عبد اللّه بن المبارك ت 181هـ: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) (كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي ت327هـ ج1 قسم 1ص16 ط. حيدر آباد 1371هـ 1952م).
وقال ابن سيرين وغيره: ( إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) (المصدر السابق ص15)، وقد ذكره بإسناده عن ابن سيرين وغيره.
وفي بعض الروايات عن ابن سيرين: كان يقال: ( إن هذه الأحاديث دين) (المصدر نفسه). . . إلخ، ومعنى العبارة أن هذا القول كان شائعًا قبل ابن سيرين، أي في عصر الصحابة.
ومما لا يجهله أهل العلم الدارسون لتاريخ الأمم والأديان أن اشتراط الإسناد الصحيح المتصل في نقل "العلم الديني" و"علم النبوة " مما تفردت به أمة الإسلام عن سائر الأمم، كما ذكر ذلك ابن حزم وابن تيمية وغيرهما.
(2/21)
ولا يحسبن القارئ البعيد عن الثقافة الإسلامية أنهم كانوا يقبلون أي إسناد يُذكر لهم، وأن بوسع أي واحد أن يُركب لهم سلسلة من أسماء الثقات إلى أن يصل إلى الصحابي الذي سمع من النبي -عليه الصلاة والسلام- فهم إنما يقبلون الإسناد إذا توافرت له جملة شروط لا بد منها: .
1- أن يكون كل راوٍ من رواته "معلوم العين والحال" وبعبارة أخرى: معروف الشخصية، معروف السيرة، فلا يُقبل سند فيه: حدثنا فلان عن رجل، أو شيخ من قبيلة كذا، أو عن الثقة دون أن يذكر اسمه.
ولا يُقبل سند فيه راوٍ لا يُعرف من هو؟ وما بلده؟ ومن شيوخه؟ ومن تلاميذه؟ وأين عاش ومتى؟ وأين ومتى توفي؟ وهو الذي يسمونه "مجهول العين " ولا يُقبل راوٍ عُرف شخصه وعينه، ولم تُعرف حاله وصفته، بخير ولا شر، ولا إيجاب ولا سلب، وهو الذي يسمونه "مجهول الحال"، أو "المستور ".
ب- أن يكون موصوفًا بـ"العدالة" ومعنى العدالة يتصل بدين الراوي وخلقه وأمانته فيما يروي وينقل، بحيث تنطق أقواله وأعماله أنه امرؤ يخشى اللّه تعالى، ويخاف حسابه، ولا يستبيح الكذب أو التزيد أو التحريف. وقد احتاطوا أشد الاحتياط، فكانوا يردون الحديث لأقل شُبهة في السيرة الشخصية لناقله، أما إذا علموا أنه كذب في شيء من كلامه فقد رفضوا رواية، وسموا حديثه "موضوعًا " أو "مكذوبًا " وإن لم يُعرف عنه الكذب في روايته الحديث. مع علمهم بأنه قد يصدق الكذوب. وقد فسروا "العدالة" بالسلامة من الفسق وخوارم المروءة. .
ومن دلائل هذه العدالة: أن لا يُرى عليه كبيرة، ولا يصر على صغيرة. وأكثر من ذلك أنهم اشترطوا مع التقوى "المروءة " وفسروها بأنها التنزه عن الدنايا وما يشين عند الناس، كالأكل في الطريق، أو المشي عاري الرأس في زمنهم.
فلم يكتفوا من الراوي أن يجتنب ما ينكره الشرع، بل أضافوا إليه ما يستقبحه العُرف، وبهذا يكون إنسانًا مقبولاً عند اللّه وعند الناس.
(2/22)
ولا يُقال: قد يتظاهر بعض الناس بالعدالة، ويتصنع المروءة، وفؤاده هواء، وباطنه خراب، فهو يقول ما لا يفعل، ويُسر ما لا يُعلن، شأن المنافقين الذين يخادعون اللّه والذين آمنوا.
فالواقع يقول: إن الزيف لا بد أن ينكشف، والنفاق لا بد أن يفتضح، وقال على كرم اللّه وجهه: غش القلوب، يظهر على صفحات الوجوه، وفلتات الألسنة. وقد قال الشاعر: .
ثوب الرياء يشف عما تحته .
فإذا اكتسيت به فإنك عارِ.
وقبله قال زهير في معلقته: .
ومهما تكن عند امرئ من خليقة .
وإن خالها تخفى على الناس تُعلم.
جـ- ولا يكون الراوي ثقة مقبولاً بمجرد اتصافه بالعدالة والتقوى، بل لا بد أن يضم إلى العدالة والأمانة "الضبط ".
فقد يكون الراوي من أتقى عباد اللّه، وأعلاهم في الورع والصلاح، ولكنه لا يضبط ما يرويه، بل يغلط فيه فيكثر الغلط، أو ينسى فيخلط حديثًا بحديث.
لهذا كان لا بد من "الضبط" سواء أكان ضبط صدر بقوة الحفظ، أم ضبط كتاب بسلامة الكتاب والعناية به.
وهم يشترطون هنا للحديث الصحيح أن يكون راوٍيه في أعلى درجات الضبط والإتقان، حتى يُطمأن إلى حفظه وإجادته. ويعرفون ذلك بمقارنة رواياته بعضها ببعض، وبروايات غيره من الحفاظ الثقات.
وكثيرًا ما يكون الراوي ضابطًا حافظًا متقنًا، ولكنه يعمَّر، فتضعف ذاكرته، ويتشوش عليه حفظه، فيضعفونه بذلك، ويقولون: اختلط بآخره أي آخر حياته، وقد يُصنفون الرواة عنه بأمارات وأدلة مختلفة، فيقولون: هذا روي عنه قبل اختلاطه فيُقبل، وهذا روي عنه بعد اختلاطه، أو لا يُعرف متى روي عنه، فيرد.
(2/23)
د- أن تكون حلقات السند كلها متصلة، متماسكة من مبدأ السند إلى منتهاه، فإذا سقطت حلقة في السلسلة في أولها أو أوسطها أو آخرها، كان الحديث ضعيفًا مردودًا، مهما تكن مكانة رجاله من العدالة والضبط، حتى إن بعض أئمة التابعين الذين يُستسقى بهم الغيث، وتُضرب أكباد الإبل لطلب العلم منهم، مثل الحسن البصري، وعطاء، والزهري، وغيرهم، إذا قال: قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- ولم يذكر الصحابي الذي سمع الحديث من رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- لم يُقبل حديثه، لاحتمال أن يكون سمعه من تابعي آخر، وأن يكون التابعي سمعه من تابعي. . . وهكذا، وإذا جُهلت الواسطة لم يُقبل الحديث، وهذا يسمونه "المرسل" وإن كان بعض الفقهاء يقبله بشروط خاصة.
ومعنى هذا: أن يكون كل راوٍ تلقى الحديث عمن فوقه تلقيًا مباشرًا، بلا واسطة، ولا يجوز للراوي أن يحذف الواسطة. بناء على أن المحذوف ثقة عنده، فربما كان الموثق عنده مجروحًا عند غيره، بل إن مجرد حذف الواسطة يشكك في المحذوف.
وإذا عُلم من حال بعض الرواة المعدَّلين المقبولين في الجملة، أنه حذف في بعض المرات بعض الوسائط، وذكر لفظًا محتملاً مثل: "عن فلان" اعتبروه "تدليسًا" فلا يقبلون من حديثه إلا ما قال فيه: حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو سمعت. ونحوها. كما قالوا في مثل محمد بن إسحاق صاحب السيرة المعروف. أما إذا قال: عن فلان، فحديثه ضعيف؛ لأن "عن" تحتمل التلقي بالواسطة، كما تحتمل الأخذ المباشر، ومجرد الاحتمال من مثله يضعف الحديث.
هـ- ألا يكون الحديث شاذًا. ومعنى الشذوذ عندهم: أن يرويه الثقة مخالفًا من هو أوثق منه، كأن يروي أحد الثقات الحديث بصيغة، أو زيادة معينة، ثم يرويه راوٍ آخر أقوى منه وأوثق بغير هذه الصيغة، وغير هذه الزيادة.
(2/24)
وكذلك إذا رواه واحد بعبارة، ورواه اثنان أو جماعة غيره بعبارة مخالفة. فهنا يقبل حديث من هو أوثق ويسمى عندهم "المحفوظ" ويرد المخالف ويسمى "الشاذ" مع أن راوٍيه عندهم ثقة مقبول.
وألا يشتمل الحديث على علة قادحة في سنده أو متنه.
وهذه إنما يعرفها أئمة هذا الشأن، ممن عايشوا الأحاديث، وخبروا الأسانيد والمتون، حتى إن الحديث ليبدو في ظاهر الأمر مقبولاً، لا غبار عليه، فإذا نظر إليه هؤلاء الصيارفة الناقدون، سرعان ما يكتشفون فيه خللاً يوجب وهنه. ولهذا نشأ علم رحب يسمى علم "العلل" (انظر في هذا كتاب: علل الحديث للدكتور همام عبد الرحيم سعيد، وهو دراسة منهجية في ضوء كتاب: علل الترمذي لابن رجب. نشر دار العدوي عمان).
ومن هنا نتبين أنه لا مجال لما أوهمه بعض الغرباء عن هذا العلم، أن بإمكان بعض الناس أن يخترع إسنادًا صحيحًا بل في غاية الصحة، ويركب عليه حديثًا يُحلل ويُحرم، أو يوجب ويُسقط ما شاء، ثم يأتي به إلى الفقهاء، أو رجال الحديث، فيقبلوه منه على عواهنه، فهذا كلام امرئ مغرق في الخيال. بل في الجهل المركب؛ لأنه جاهل، ويعتقد أنه عالم.
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
نقد الحديث بين السند والمتن.
أو بين الشكل والمضمون.
س: كنا مجموعة من الجامعيين المثقفين ثقافة (مدنية) كما يطلقون عليها، أعني أننا من خريجي الجامعات الحديثة، لا من خريجي الأزهر الشريف، وكلياته العريقة، وكنا نتحدث في أمور الدين، حيث إن معظمنا من المتدينين، الذين يحرصون على أداء الفرائض، واجتناب المحرمات. وانجرّ الكلام إلى الأحاديث النبوية، وما دخل عليها من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة. . التي حشيت بها بعض الكتب، ونقلها بعض رجال الحديث، فشوهت جمال الإسلام.
(2/25)
وانتهى بحثنا إلى أن على المسلم أن يعمل عقله في معنى أي حديث يجده، فإذا لم ينسجم مع مقتضى العقل رده وأنكره، ولا حرج عليه، لأن الإسلام لا يأتي بما يرده العقل، أو يناقض ما يقرره العلم.
وكان معنا بعض الزملاء الذين لهم دراية بعلم الدين أكثر منا، فقال: إن الحديث يجب أن ينظر إليه من ناحية سنده، أي سلسلة رواته الذين رووه، والنظر في مدى قبوله أو رده، ولا يجوز النظر إلى المعنى، الذي قد يخفى على عقولنا القاصرة، فيترتب على ذلك أن نرد الحديث الصحيح بغير حجة معتبرة.
أرجو أن تفصل بيننا في هذه المسألة المهمة، حتى لا تزل أقدامنا، ونقول في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. أثابكم الله.
ع. ص. ل.
القاهرة.
جـ: جدير بالمسلم أن يهتم بأمر دينه فالدين هو جوهر الوجود، وروح الكون، والقضية الدينية هي قضية الإنسان الأولى، وهي القضية المصيرية حقًا، لأنها تتعلق بالأزل والأبد، بالخلود في الجنة، أو الخلود في النار.
وجميل بالمثقفين من أبناء الإسلام إذا جلسوا، بعضهم إلى بعض أن يتحدثوا في أمور الدين، ويبحثوا فيها، فليس الدين حكرًا على أصحاب الثقافة الدينية وحدهم، بل إن فرضًا على كل مسلم أن يعرف من دينه ما يصحح عقيدته، ويضبط عبادته، ويقوم سلوكه، ويقف به عند حدود الله في أمره ونهيه، وحلاله وحرامه.
ولكن غير الجميل أن يخوض المسلم في خبايا العلم ومشكلاته، دون دليل يهديه من أهل الاختصاص الثقات، فمن المقرر المتفق عليه بين العقلاء: أن لكل فن رجاله ولكل علم أهله، الذين يرجع إليهم عند الاختلاف، ويحتكم إليهم عند التنازع، وهم الذين أشار إليهم القرآن بقوله: (ولا ينبئك مثل خبير) (فاطر: 14). (فاسأل به خبيرًا) (الفرقان: 59)، (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل: 43)، (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء: 83).
(2/26)
والقضية التي بحث فيها السائل وزملاؤه - وهي معرفة صحة الحديث أو ضعفه وهل ينظر فيها إلى السند أو إلى المتن أو إلي كليهما؟ - قضية علمية دقيقة، لا يقدر على الحكم فيها من كان حظه من الثقافة الإسلامية الأصيلة حظًا متواضعًا، بل ليس كل من درس علم الدين وحصل على شهادة من كلية دينية، قادرًا على ذلك، إنما يقدر عليها من رسخت قدمه في علوم الشريعة عامة، وفي علوم الحديث خاصة، ولم يكن من الحرفيين الجامدين على القديم، ولا المتعجلين المبهورين بالجديد.
ولقد عرَّف علماء السنة المختصون الحديث الصحيح بتعريف جامع مانع، وهو: ما اتصل سنده برواية عدل تام الضبط من أول السند إلى منتهاه، وسلم من الشذوذ والعلة.
فأول ما ينبغي النظر فيه - بالنسبة لعالم الحديث - هو السند، ونعني بالسند: سلسلة الرواة من آخر راوٍ إلى الصحابي الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحابة في نظر أهل السنة وجمهور المسلمين كلهم عدول عدلهم الله تعالى في كتابه في آيات كريمة متلوة إلى ما شاء الله، وعدلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث صحيحة موفورة مشهورة.
فإذا ثبتت الصحبة فلا كلام في الصحابي، إنما البحث عمن دونه من الرواة، فلا بد من معرفة كل واحد منهم: معرفة شخصه وعينه، ومعرفة: حياته وسيرته، وشيوخه وتلاميذه، وميلاده ووفاته، ولهذا نشأ ونما (علم الرجال) وعلم (الجرح والتعديل) وألفت في ذلك كتب جمة، لتقويم الرواة توثيقًا أو تضعيفًا.
وضعف حلقة واحدة من سلسلة السند، يجعل الحديث كله مردودًا. سواء كان هذا الضعف من جهة عدالة الراوي أو أمانته، أم ناحية حفظه وضبطه، ولكي يكون الحديث في مرتبة (الصحيح) لا بد أن يكون حفظ الراوي في درجة (ممتاز) أو (جيد جدًا) بتعبير عصرنا. . فإذا نزل إلى درجة (جيد) أو (مقبول) فالحديث (حسن) فقط، وهو معتبر لدى العلماء، ولكنه دون الصحيح، وهذا له أهمية عند التعارض.
(2/27)
ولا بد أن يكون السند متصلاً من مبدئه إلى منتهاه، فلو كان هناك حلقة مفقودة أو منقطعة في أول السلسلة أو وسطها أو آخرها، فإن الحديث ينزل إلى درجة الضعف، فإذا كان هناك أكثر من حلقة مفقودة فإن الضعف يزداد، و(الانقطاع في السند) يعرفه أهل الاختصاص بدلائل كثيرة مبسوطة في مواضعها من كتب العلم المتخصصة.
ولا بد لكي يكون الحديث صحيحًا - أن يسلم من أمرين هما: .
1- الشذوذ.
2- والعلة.
والمراد بالشذوذ: أن يروي الراوي الثقة حديثًا يخالف فيه من هو أوثق منه، وهذا يعرف بمقارنة الراويات بعضها ببعض.
وهذا أمر يتعلق بمعنى الحديث ومتنه في الغالب.
فإذا انفرد الثقة بحديث أو بزيادة فيه أو نقص منه، مخالفًا راوٍيًا أوثق منه، أو عددًا من الرواة الثقات، فإن حديثه يحكم عليه بالضعف من أجل هذا الانفراد، أو الشذوذ.
وأما العلة: فهي أمر خفي قد يكون في متن الحديث، أو في سنده لا يطلع عليه إلا أهل البصيرة من جهابذة الحديث ونقاده الذين يكتشفون العلل المستورة، كما يكتشف الطبيب الحاذق العلة الكامنة في بدن ظاهره الصحة والسلامة.
والظاهر من مسلك علماء الحديث أنم ركزوا على السند أكثر من تركيزهم على المتن. وهذا له سببه المعروف.
ولكن ليس معنى هذا أنهم أهملوا المتن تمامًا، كما يتوهم بعض الذين لم يتعمقوا في علوم الحديث، فكثيرًا ما تكلموا عن المتون ورووها لمخالفتها لقواطع القرآن أو السنة أو العقل، أو الحس، أو التاريخ، أو غير ذلك، وقد اعتبروا من علامات وضع الحديث وكذبه، أمورًا تتعلق بالراوي، وأمورًا تتعلق بالمروي، أي بنص الحديث.
فمما يتعلق بالمروي: أن يكون ركيك اللفظ، غير جار على أساليب العربية وقواعدها.
أو يكون ركيك المعنى، لا يليق أن يصدر مثله من مشكاة النبوة مثل "الباذنجان شفاء من كل داء" أو "قُدس العدس على لسان سبعين نبيًا" ونحو ذلك.
أو يكون مناقضًا لصريح العقل.
أو يكون مناقضًا للواقع المحس والمشاهدة.
(2/28)
أو يكون مناقضًا لحقائق الدين الثابتة بالقرآن أو بمتواتر السنة.
أو يكون منافيًا لحقائق التاريخ الثابتة.
قال ابن الجوزي: (ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع) (انظر: تدريب الراوي للسيوطي 1/274 وما بعدها).
وقد أجاد في ذلك الداعية الفقيه الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- في كتابه "السنة ومكانتها في التشريع".
بل أريد أن أقول: إن البحث في السند ليس منفصلاً عن البحث في المتن.
فإنهم كثيرًا ما ينظرون إلى الرواة من خلال مجموع ما يروونه، فإذا وجدوا راوٍيًا ينفرد برواية (الغرائب) من الأحاديث، نزلوا به إلى منزلة (الضعفاء) أو (المتروكين)، وقالوا في مثله: يروي الغرائب، أو لا يتابع على حديثه وكثيرًا ما يسردون هذه الأحاديث التي انفرد بها، تنبيهًا عليها، وتحذيرًا منها كما نجد ذلك في كتاب (الكامل) لابن عدي، و(الميزان) للذهبي.
وهناك أنواع من الحديث الضعيف، يكون سبب ضعفها مشتركًا بين المتن والسند، مثل: المضطرب، والمقلوب، والمعل، والشاذ، والمنكر، والمصحف، والمحرف.
ومن أنواع علوم الحديث: ما يتعلق بالمتن وحده، مثل معرفة: (المرفوع)، و(الموقوف)، و(المقطوع).
ومنها: معرفة الحديث الإلهي أو القدسي.
ومنها معرفة (المدرج)، و(علم غريب الحديث) وفيه كتب جمة، ومثل (علم مختلف الحديث)، وقد برع فيه الإمام الشافعي، وألف فيه الإمام ابن قتيبة كتابه الشهير (تأويل مختلف الحديث)، كما ألف الإمام أبو جعفر الطحاوي كتابه الكبير (مشكل الآثار)، وقد طبع في أربع مجلدات، وألف الإمام ابن الجوزي (مشكل الصحيحين) وغيرها كثير.
وقبل ذلك (علم ناسخ الحديث ومنسوخه) ومن أشهر ما ألف فيه كتاب العلامة الحازمي (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار). ولأبي الفرج ابن الجوزي رسالة لطيفة في ذلك.
(2/29)
ومن هنا نقول: إن البحث في متن الحديث مقبول بل مطلوب، وإن الحديث الذي يرفضه العقل مردود بلا شك.
بيد أن الأمر المهم هنا، هو: من الذي ينظر في متن الحديث ليعرف مدى قبوله من عدمه؟ ومن الذي يقول: إن هذا الحديث يرفضه العقل، فهو ضعيف؟.
إن إعطاء هذا الحق لكل من هب ودب من الناس، غير مقبول شرعًا ولا عقلاً، وإنما يجب أن يعطى هذا للثقات من أهل الاختصاص، وهم الذين جاء في مثلهم قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء: 83).
فكم من حديث ينكر ظاهره لأول وهلة، وله تأويل سائغ عند أهل العلم، ممن الواجب مراجعتهم فيه.
ومن المعروف أن اللغة فيها الحقيقة والمجاز، وفيها الصريح والكناية، فلا يحسن رد الحديث بحمله على الحقيقة، مع أنه يحتمل المجاز، أو الكناية.
وقد وضحت ذلك في كتابي (كيف نتعامل مع السنة) وذكرت له أمثلة غير قليلة.
وبعض الناس يتسرع في رد الحديث - الذي ثبتت صحته عند العلماء - بدعوى أنه يناقض صريح العقل، أو يناقض مقررات العلم، أو يعارض ثوابت الدين.
فإذا دققت النظر في دعواه لم تجدها تقوم على ساقين ووجدتها كلامًا بلا بينة.
وقد تجد ما ادعى أنه صريح العقل ليس إلا وهمًا توهمه صاحب الدعوى، فالحديث مناقض لعقله هو، ليس للعقل المجرد، أو العقل العام.
والمدرسة العقلية كثيرًا ما تجترئ على رد الأحاديث الثابتة، دون حجة مقنعة، كما فعلت المعتزلة في رد أحاديث الشفاعة، أو أحاديث رؤية الله في الآخرة، ورد بعضهم أحاديث سؤال القبر وما يعقبه من نعيم وعذاب (انظر: فصل -رد الأحاديث الصحاح- من كتابنا -المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة).
(2/30)
وكثيرًا ما يكون استبعاد وقوع الشيء - لاستحالته في العادة - سببًا في رد الحديث، واستحالة الشيء عادة لا توجب استحالته عقلاً وأصل الدين قائم على الإيمان بالغيب، فلا ينبغي أن يستبعد شيء صح به النقل عن المعصوم، ما دام في دائرة الإمكان، وهي دائرة جد رحبة.
ومن الناس من رد الحديث الصحيح لظنه أنه مخالف لمقررات العلم، وبالبحث يتبين أن ما ظنه من المقررات العلمية القطعية ليس إلا نظريات ظنية، أو آراء افتراضية، أو تخمينية.
كما تجلى ذلك في آراء (دارون) و"نظريته في النشوء والارتقاء" أو (نظرية التطور).
وكذلك كثير من النظريات التي تفسر بعض الظواهر في علوم النفس والاجتماع.
والعلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة، فهذه العلوم كلها (علوم ظنية) ولا ترقى إلى مرتبة القطع واليقين كما أكد ذلك أهل الاختصاص المنصفون، ولهذا تتغير النظريات والآراء في هذه العلوم من عصر إلى آخر، بل من بيئة - في العصر الواحد - إلى أخرى، بل من عالم باحث إلى آخر.
وبعض الناس رد الحديث الصحيح؛ لأنه في نظره معارض للكتاب ولما ثبت من الدين بنصوص أخرى.
فإذا تأملت ما ذكره لم تجد تعارضًا حقيقيًا، يستوجب رد الصحيح، وفي الستينيات اجترأ أحد الكتاب في إحدى المجلات الذائعة الانتشار على رد حديث في صحيح البخاري؛ لأنه رآه - في ظنه - مخالفًا للقرآن، ولم يكن الأمر كما زعم، والحديث صحيح، وإنما الخطأ في فهمه.
ابن القيم يربط بين السند والمتن: .
وقد ذكر الإمام المحقق ابن القيم في كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) أنه سئل: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط، من غير أن ينظر في سنده؟.
وأجاب ابن القيم عن هذا السؤال إجابة مستفيضة مفصلة استغرقت جل كتابه (نشره مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب بتحقيق وتعليق عبد الفتاح أبو غدة).
(2/31)
قال في مطلعها: (هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلمُ ذلك مَنْ تضلَّع في معرفة السُّنَن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهدْيه، فيما يأمر به وينهى عنه ويُخبِرُ عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة. بحيث كأنه مخالطٌ للرسول -صلى الله عليه وسلم- كواحد من أصحابه.
فمثل هذا: يَعْرِفُ من أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهديه وكلامه وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز: ما لا يعرفه غيره وهذا شأن كل متبع مع متبوعه، فإنَّ للأخص به، الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح: ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم، يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم، والله أعلم.
فمن ذلك: ما روى جعفر بن جِسْر، عن أبيه، عن ثابت عن أنس - يرفعه - "من قال: سبحان الله وبحمده، غرس الله له ألف ألف نخلة في الجنة، أصلها من ذهب. . . " (تتمته في "ميزان الاعتدال" للذهبي في ترجمة -جعفر- 1/404).
وجعفر هذا: هو جعفر بن جسر بن فرقد، أبو سليمان القَصَّاب البصري. قال ابن عدي: أحاديثه مناكير. وقال الأزدي: يتكلمون فيه.
وأما أبوه فقال يحيى بن معين: لا شيء، ولا يُكَتبُ حديثه. وقال النسائي والدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: خرج من حدَّ العدالة. وقال ابن عدي: عامَّةُ أحاديثه غير محفوظة.
ومن ذلك: ما رواه ابن مَنْدَه من حديث أحمد بن عبد الله الجُوَيْبَاري الكذاب، عن شقيق، عن إبراهيم بن أدهم، عن يزيد بن أبي زياد، عن أُويَس القَرَني، عن عُمر وعلي -رضي الله تعالى عنهم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: .
(2/32)
"من دعا بهذه الأسماء: اللهم أنت حيٌ لا تموت، وغالب لا تغلب وبصير لا ترتاب، وسميع لا تشك، وصادق لا تكذب، وصمد لا تطعم، وعالم لا تُعَلم - إلى أن قال - فوالذي بعثني بالحق، لو دعى بهذه الدعوات على صفائح الحديد لذابت، وعلى ماء جار لسكن، ومن دعا عند منامه بها بُعِثَ بكل حرف منها سبعمائة ألف ملك يسبحون له ويستغفرون له".
وتابعه كذَّاب آخر، وهو الحسين بن داود البلخي، عن شقيق وروى جملة منه كذَّاب آخر، هو سليمان بن عيسى (هو ابن عيسى بن نجيح السجزي. والحديث بطوله في "الموضوعات" لابن الجوزي 3/175)، عن الثوري، عن إبراهيم ابن أدهم. وهذا وأمثاله: مما لا يرتاب من له أدنى معرفة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وكلامه: أنه موضوع مُختَلق وإفك مُفترى عليه.
وذكر ابن القيم جملة من الأحاديث التي تتضمن مبالغات ممجوجة، ثم قال: .
وهذا باب واسع جدًا، وإنما ذكرنا منه جزءًا يسيرًا ليُعرف به أن هذه الأحاديث وأمثالها، مما فيه هذه المجازفات القبيحة الباردة، كلُّها كذِبٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد اعتنى بها كثير من الجهال بالحديث من المنتسبين إلى الزهد والفقر، وكثيرٌ من المنتسبين إلى الفقه!.
والأحاديث الموضوعة عليها ظلمة وركاكة، ومجازفات باردة تنادي على وضعها واختلاقها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مثل حديث: .
"من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أُعطي ثواب سبعين نبيًا".
وكأنَّ هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلى عمر نوح -عليه السلام- لم يعط ثواب نبي واحد.
وكقوله: "من اغتسل يوم الجمعة بِنيَّة وحِسْبَة، كتب الله له بكل شعرة نورًا يوم القيامة، ورفع له بكل قطرة درجة في الجنة من الدر والياقوت والزبرجد، بين كل درجتين مسيرة مائة عام. . . ".
ضوابط كلية موضوعية لمعرفة الحديث المكذوب: .
قال: ونحن ننبه على أمور كلية، يُعرَفُ بها كون الحديث موضوعًا: .
المجازفات والمبالغات: .
(2/33)
1- فمنها: اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي كثيرة جدًا، كقوله في الحديث المكذوب: "من قال لا إله إلا الله: خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له، ومن فعل كذا وكذا أعطي في الجنة سبعين ألف مدينة، في كل مدينة سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف حوراء".
وأمثال هذه المجازفات الباردة التي لا يخلو حالُ واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية الجهل والحُمْق، وإما أن يكون زِنْدِيقًا قصد التنقيص بالرسول -صلى الله عليه وسلم- بإضافة مثل هذه الكلمات إليه.
تكذيب الحس والمشاهدة للحديث: .
2- ومنها: تكذيب الحسِّ له، كحديث: "الباذنجان لما أكل له"، و"الباذنجان شفاء من كل داء" قَبَّح الله واضعهما. فإن هذا لو قاله يوحنس أمهر الأطباء لسخر الناس منه ولو أُكِلَ الباذنجان للحُمَّى والسوداء الغالبة، وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شدة، ولو أكله فقير ليستغني، لم يفده الغني، أو جاهل ليتعلم لم يفده العلم.
وكذلك حديث: "إذا عطس الرجل عند الحديث فهو دليل صدقه". وهذا - وإن صحح بعض الناس سنده - فالحس يشهد بوضعه، لأنا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله! ولو عطس مائة ألف رجل عند حديث يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بصحته بالعطاس، ولو عطسوا عند شهادة زور لم تصدق.
وكذلك حديث: "عليكم بالعدس، فإنه مبارك يُرقق القلب، ويكثر الدمعة، قدَّسَ فيه سبعون نبيًا". وقد سُئل عبد الله بن المبارك عن هذا الحديث؟ وقيل له: إنه يروى عنك! فقال: وعني أيضًا؟!.
(2/34)
أرفعُ شيء في العدس أنه شهوة اليهود، ولو قدس فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء فكيف بسبعين نبيًا؟ وقد سمَّاه الله تعالى (أدنى) (البقرة: 61) ونعى على من اختاره على المنَّ والسَّلوْى، وجعله قرين الثوم والبصل. أفترى أنبياء بني إسرائيل قدَّسوا فيه لهذه العلة والمضار التي فيه، من تهييج السوداء، والنفخ، والرياح الغليظة، وضيق النفس، والدم الفاسد، وغير ذلك من المضار المحسوسة؟!.
ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع الذين اختاروه على المن والسلوى أو أشباههم.
ومن ذلك حديث: (إن الله خلق السماوات والأرض يوم عاشوراء).
وحديث: "اشربوا على الطعام تشبعوا"؛ فإن الشراب على الطعام يفسده، ويمنع من استقراره في المعدة، ومن كمال نُضجه.
ومن ذلك الحديث: "أكذب الناس الصبَّاغون والصوَّاغون" (وقد رواه عن أبي هريرة ابن ماجه في "سننه" 2/728 وقال البوصيري في "الزوائد": "إسناده ضعيف، لأن فيه فرقدًا السبخي ضعيف، وعمر بن هارون، كذّبه ابن معين وغيره".
وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" 76 عند هذا الحديث: "رواه ابن ماجه وأحمد- في "المسند" 2/292،324،345 - وغيرهما عن أبي). . والحس يرد هذا الحديث. فإن الكذب في غيرهم أضعافه فيهم، كالرافضة - فإنهم أكذب خلق الله - والكُهَّان، والطَّرائقيين، والمنجِّمين.
كونه مما يسخر منه: .
3- ومنها: سماجة الحديث، وكونه مما يسخر منه، كحديث: "لو كان الأرز رجلاً لكان حليمًا، ما أكله جائع إلا أشبعه" فهذا من السَّمج البارد، الذي يصان عنه كلام العقلاء فضلاً عن كلام سيد الأنبياء.
وحديث " الجوْز دواء والجبن داء فإذا صار في الجوف صار شفاء" فلعن الله واضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحديث: "لو يعلم الناس ما في الحلبة (هي حب نبتٍ معروف). لاشتروها بوزنها ذهبًا".
وحديث: "أحضروا موائدكم البقل، فإنه مطردة للشيطان".
وحديث: " ما من ورقة هندباء إلا وعليها قطرة من ماء الجنة ".
(2/35)
وحديث: "بئست البقلة الجرجير، من أكل منها ليلاً بات ونفسه تنازعه، ويضرب عرق الجذام في أنفه، كلوها نهارًا، وكُفُّوا عنها ليلاً".
وحديث: "فضل دُهن البنفسج على الأدهان، كفضل أهل البيت على سائر الخلق".
مناقضة الحديث للصحيح الثابت من السنة: .
4- ومنها: مناقضته لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بيّنة.
فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه بريء.
ومن هذا الباب: أحاديث مدح من اسمه محمد أو أحمد، وأن كل من يسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار.
وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه -صلى الله عليه وسلم-: "أن النار لا يُجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة.
ومن هذا الباب: أحاديث كثيرة عُلِّقت النجاة من النار بها، وأنها لا تمس من فَعَل، وغايتها: أن تكون من صغار الحسنات، والمعلوم من دينه -صلى الله عليه وسلم- خلاف ذلك، وأنه إنما ضمن النجاة منها لمن حقق التوحيد.
تكذيب الشواهد له: .
5- ومنها: أن يُدَّعَى على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه، كما يزعم أكذب الطوائف: أنه -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمحضر من الصحابة كلهم، وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع. ثم قال: "هذا وصيي وأخي، والخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا"، ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغييره ومخالفته، فلعنة الله على الكاذبين.
وكذلك روايتهم: "أن الشمس ردت لعلي بعد العصر والناس يشاهدونها" ولا يشتهر ذلك أعظم اشتهار ولا يعرفه إلا أسماء بنت عميس!.
بطلانه في نفسه لمناقضته العقل: .
6- ومنها: أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
(2/36)
كحديث: "المَجَرَّةُ التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش".
وحديث: "إذا غضب الله تعالى أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية".
ألا يشبه كلام النبوة وهدايتها: .
7- ومنها: أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء، فضلاً عن كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي هو وحي يوحى، كما قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 4) أي وما نُطْقُهُ إلا وحي يوحى، فيكون الحديث مما لا يشبه الوحي، بل لا يشبه كلام الصحابة.
كحديث: "ثلاثة تزيد في البصر: النظر إلى الخضرة والماء الجاري، والوجه الحسن".
وهذا الكلام مما يجل عنه أبو هريرة وابن عباس، بل سعيد بن المسيب والحسن، بل أحمد ومالك رحمهم الله.
وحديث: "النظر إلى الوجه الحسن يجلو البصر". وهذا ونحوه من وضع بعض الزنادقة.
وحديث: "عليكم بالوجوه الملاح، والحدق السود، فإن الله يستحي أن يعذب مليحًا بالنار". فلعنة الله على واضعه الخبيث.
وكل حديث فيه ذكر حسان الوجوه، أو الثناء عليهم، أو الأمر بالنظر إليهم، أو التماس الحوائج منهم، أو أن النار لا تمسهم: فكذب مختلق، وإفك مفترى.
8- ومنها: أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق.
كحديث: "الهريسة تشد الظهر".
وكحديث: "أكل السمك يوهن الجسد".
وحديث: "الذي شكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قلة الولد، فأمره أن يأكل البيض والبصل".
وحديث: "أتاني جبريل بهريسة من الجنة فأكلتها، فأعطيت قوة أربعين رجلاً في الجماع".
وحديث: "المؤمن حُلو يُحبّ الحلاوة".
اشتماله على تحديد تواريخ معينة: .
9- ومنها: أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا، مثل قوله: .
"إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت".
(2/37)
كقول الكذَّاب الأشِر: "إذا انكسف القمر في المحرَّم كان الغلاء، والقتال وشُغل السلطان، وإذا انكسف في صفر كان كذا وكذا". واستمر الكذاب في الشهور كلها، وأحاديث هذا الباب كلها كذب مفترى.
مخالفته لصريح القرآن: .
10- ومنها: مخالفة الحديث صريح القرآن: كحديث مقدار الدنيا: "وأنها سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة".
وهذا من أبين الكذب، لأنه لو كان صحيحًا لكان كل أحد عالمًا أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مائتان وأحد وخمسون سنة (استُفيدَ من هذا أن الإمام ابن القيم ألف هذا الكتاب في سنة 749، قبل وفاته -سنة 751- بنحو ثلاث سنوات رحمه الله تعالى وأكرمه برضوانه). والله تعالى يقول: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله) (الأعراف: 187)، وقال تعالى: (إن الله عنده علم الساعة) (لقمان 34).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله (هو جزء من حديث رواه البخاري عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم).
ومن ذلك: الحديث الذي يُروى في الصخرة: "أنها عرش الله الأدنى". تعالى الله عن كذب المفترين.
ولما سمع عروة بن الزبير هذا، قال: سبحان الله، يقول الله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض) (البقرة: 255). وتكون الصخرة عرشه الأدنى؟!.
سماجة المعاني ومناقضتها لمبادئ الإسلام: .
11- ومنها: ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها، بحيث يمجها السمع، ويدفعها الطبع، ويسمج معناه للفطن.
كحديث: "أربع لا تشبع من أربع: أنثى من ذكر، وأرض من مطر، وعين من نظر، وأذن من خبر".
وحديث: "ذمِّ الحاكة، والأساكفة، والصوَّاغين، أو صنعة من الصنائع المباحة": .
كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ لا يذم الله ورسوله الصنائع المباحة.
(2/38)
وحديث: "إن لله ملكًا من حجارة، يقال له: عمارة، ينزل على حمار من حجارة كل يوم، فيسعر الأسعار ثم يعرج".
ومنها: أحاديث ذم الحبشة والسودان، كلها كذب (ذلك لأنها تناقض ما جاء به الإسلام من المساواة بين الناس، وإلغاء الفوارق اللونية والعنصرية وأن الناس إنما يتفاضلون بالتقوى).
كحديث: "الزنجي إذا شبع زنى، وإذا جاع سرق".
وحديث: "إياكم والزنجي فإنه خلق مشوه".
وحديث: "دعوني من السودان، إنما الأسود لبطنه وفرجه".
وحديث: "رأى طعامًا فقال: لمن هذا؟ قال العباس: للحبشة أُطعمهم، قال: لا تفعل، إنهم إن جاعوا سرقوا، وإن شبعوا زنوا".
ومنها: أحاديث ذم الترك، وأحاديث ذم الخصيان، وأحاديث ذم المماليك.
كحديث: لو علم الله في الخصيان خيرًا لأخرج من أصلابهم ذرية يعبدون الله".
وحديث: "شر المال في آخر الزمان: المماليك".
أحاديث المبالغات في فضائل الصحابة والأئمة والبلدان أو ذمها: .
ومما وضعه جهلة المنتسبين إلى السنة في فضائل الصديق رضي الله عنه: .
حديث: "إن الله يتجلى للناس عامة يوم القيامة، ولأبي بكر خاصة".
وحديث: "ما صب الله في صدري شيئًا، إلا صببته في صدر أبي بكر".
وحديث " كان إذا اشتاق إلى الجنة قبَّل شيبة أبي بكر" .
وحديث: "أنا وأبو بكر كفرسي رهان".
وحديث: "إن الله لما اختار الأرواح، اختار روح أبي بكر".
وحديث عمر: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر يتحدثان، وكنت كالزنجي بينهما".
وحديث: "لو حدثتكم بفضائل عمر، عمر نوح في قومه ما فنيت، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر".
وحديث: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، وإنما سبقكم بشيء وقر في صدره". وهذا من كلام أبي بكر بن عياش (الذي جاء في "المقاصد الحسنة" للسخاوي ص 369 وغيره من كتب الموضوعات أنه "من قول بكر بن عبد الله المزني").
(2/39)
وأما ما وضعه الرافضة في فضائل على: فأكثر من أن يعد. قال الحافظ أبو يعلي الخليلي في كتاب "الإرشاد": وضعت الرافضة في فضائل علي -رضي الله عنه- وأهل البيت نحو ثلاثمائة ألف حديث.
ولا تستبعد هذا، فإنك لو تتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال.
ومن ذلك: ما وضعه بعض جهلة أهل السنة في فضائل معاوية بن أبي سفيان. قال إسحاق بن راهويه: لا يصح في فضل معاوية بن أبي سفيان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء.
قلت: ومراده ومراد من قال ذلك من أهل الحديث: أنه لم يصح حديث في مناقبه بخصوصه، وإلا فما صح عندهم في مناقب الصحابة على العموم، ومناقب قريش، فمعاوية -رضي الله عنه- داخل فيه (وقد صنف في مناقبه ابن أبي عاصم وغلام ثعلب وأبو بكر النقاش، لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، قاله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 7/81).
ومن ذلك: ما وضعه الكذابون في مناقب أبي حنيفة، والشافعي على التنصيص على اسميهما.
وما وضعه الكذابون أيضًا في ذمهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يُروى من ذلك كله كذب مختلق.
ومن ذلك: الأحاديث في ذم معاوية.
وكل حديث في ذمه فهو كذب.
وكل حديث في ذم عمرو بن العاص فهو كذب.
وكل حديث في ذم بني أمية فهو كذب.
وكل حديث في مدح المنصور والسفاح والرشيد فهو كذب.
وكل حديث في مدح بغداد أو ذمها، والبصرة، والكوفة، ومرو، وعسقلان، والإسكندرية، ونصيبين، وأنطاكية: فهو كذب.
وكل حديث في تحريم ولد العباس على النار، فهو كذب.
وكذا كل حديث في ذكر الخلافة في ولد العباس، فهو كذب.
وكل حديث في مدح أهل خراسان الخارجين مع عبد الله بن علي ولد العباس، فهو كذب.
وكل حديث فيه: أن مدينة كذا وكذا من مدن الجنة، أو من مدن النار، فهو كذب.
وحديث: عدد الخلفاء من ولد العباس كذب.
وكذلك أحاديث ذم الوليد، وذم مروان بن الحكم.
وحديث: ذم أبي موسى (الأشعري) من أقبح الكذب. أ. هـ.
(2/40)
وبهذا البيان الجامع تسقط المقولة التي تزعم أن علماء السنة لم يلقوا بالا لمضمون الحديث، وإنما كان كل بحثهم في سند الحديث ورجاله.
ومن كلمات ابن القيم في بضع كتبه عندما ضعف بعض الأحاديث: لو كان سند هذا الحديث مثل الشمس لوجب رده. وما ذاك إلا من جهة المعنى المناقض للعقل أو النقل.
كل ما نؤكد هنا: أن هذا الحق - حق النقد للمتون والمضامين - لا يمنح لكل من هب ودرج الناس. فما أكثر الأدعياء المتطاولين، وما أكثر الجرآء بغير حق، والمتعالين بغير سلطان مبين!.
وقد بلوناهم، فلم نجد عند أحسنهم إلا القليل من العلم، والكثير من الادعاء والانتفاش، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هدى الله الجميع.
حديث "بدأ الإسلام غريبًا".
س: من الأحاديث المشتهرة على الألسنة والأقلام: حديث "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
فما مدى صحة هذا الحديث من ناحية؟ وما المراد به؟ وهل كلمة "غريبًا" من الغربة أو من الغرابة؟ فقد سمعت بعض المتحدثين في "الإذاعة" يؤكد أنها من "الغرابة والدهشة" وينفي أن يكون من "الغربة".
وإذا كان من الغربة كما هو الشائع والمتبادر، فهل يعني هذا ضعف الإسلام وأفول نجمه؟.
وهل هناك دلائل على انتصار الإسلام مرة أخرى كما انتصر في القرون الأولى للهجرة؟.
جـ: الحديث صحيح الإسناد بلا نزاع من أهل هذا الشأن، وهو مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
فقد رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة، والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود، وابن ماجه عن أنس، والطبراني عن سلمان وسهل بن سعد، وابن عباس -رضي الله عنهم جميعًا- كما في الجامع الصغير.
وقد رواه مسلم عن ابن عمر دون جملة "فطوبى للغرباء".
بهذا نعلم أن صحة الحديث لا كلام فيها. وبقي الكلام في معناه.
(2/41)
ومن المؤسف أن كثيرًا من الأحاديث المتعلقة بـ "آخر الزمان" أو ما يسمى "أحاديث الفتن" و"أشراط الساعة" يفهمها بعض الناس فهمًا يوحي باليأس من كل عمل للإصلاح والتغيير.
ولا يتصور أن يدعو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- الأمة إلى اليأس والقنوط، وترك الفساد يستشري في الناس، والمنكرات تنخر في عظام المجتمع، دون أن يصنع الناس شيئًا، يقوِّم ما اعوج، أو يصلح ما فسد، وكيف يتصور ذلك وهو -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالعمل لعمارة الأرض، إلى أن تلفظ الحياة آخر أنفاسها، كما يتضح ذلك من الحديث الشريف: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم - أي الساعة - حتى يغرسها، فليغرسها" (رواه أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس، وكذا الطيالسي والبزار، وقال الهيثمي: رواته ثقات أثبات).
ومعنى هذا أنه لن يأكل من ثمر هذا الغرس ولا أحد من بعده ما دامت الساعة قد قامت، أو توشك أن تقوم.
فإذا كان هذا مطلوبًا في أمر الدنيا، فأمر الدين أعظم وأجل، ولا بد من العمل من أجله إلى آخر رمق في هذه الحياة.
أما معنى كلمة "غريبًا" فالمتبادر أنها من "الغربة" لا من "الغرابة" بدليل آخر الحديث "فطوبى للغرباء" فالغرباء هنا جمع "غريب" والمراد به المتصف بالغربة لا الغرابة.
وإنما كانت غربتهم من غربة الإسلام الذي يؤمنون به ويدعون إليه، وهذا هو المعنى المفهوم من كلمة "غريب" في أكثر من حديث مثل "كن في الدنيا كأنك غريب" رواه البخاري.
كما جاءت جملة أحاديث وروايات فيها زيادات في هذا الحديث، في وصف "الغرباء" مما يؤكد أن المقصود هو الغربة لا الغرابة.
هذا إلى أن الواقع اليوم وفي عصور خلت، يدل على غربة الإسلام في دياره ذاتها، وبين أهله أنفسهم. حتى إن من يدعو إلى الإسلام الحق يعاني الاضطهاد والتنكيل، أو الشنق أو الاغتيال.
(2/42)
ولكن هل هذه الرغبة عامة وشاملة ودائمة أو غربة جزئية ومؤقتة؟ فقد تكون في بلد دون آخر، وفي زمن دون آخر، وبين قوم دون غيرهم، كما ذكر ذلك المحقق ابن القيم رضي الله عنه.
والذي أراه أن الحديث يتحدث عن "دورات" أو "موجات" تأتي وتذهب وأن الإسلام يعرض له ما يعرض لكل الدعوات والرسالات من القوة والضعف، والامتداد والانكماش، والازدهار والذبول، وفق سنن الله التي لا تتبدل. فهو كغيره خاضع لهذا السنن الإلهية، التي لا تعامل الناس بوجهين، ولا تكيل لهم بكيلين، فما يجري على الأديان والمذاهب يجري على الإسلام، وما جري على سائر الأمم يجري على أمة الإسلام.
فالحديث ينبئ عن ضعف الإسلام في فترة من الفترات، ودورة من الدورات، ولكنه سرعان ما ينهض من عثرته، ويقوم من كبوته، ويخرج من غربته، كما فعل حين بدأ.
فقد بدأ غريبًا، ولكنه لم يستمر غريبًا، لقد كان ضعيفًا ثم قوي، مستخفيًا ثم ظهر، محدودًا ثم انتشر، مضطهدًا ثم انتصر.
وسيعود غريبًا كما بدأ، ضعيفًا ليقوى ثم يقوى، مطاردًا ليظهر ثم يظهر على الدين كله، ملاحقًا مضطهدًا لينتشر وينتشر ثم ينتصر وينتصر.
فلا دلالة في الحديث على اليأس من المستقبل إن أحسنا فهمه.
ومما يدل على أن الحديث لا يعني الاستسلام أو اليأس، ولا يدعو إليه بحال، ما جاء في بعض الروايات من وصف لهؤلاء "الغرباء" من أنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، ويحيون ما أماته الناس منها.
فهم قوم إيجابيون بناؤون مصلحون، وليسوا من السلبيين أو الانعزاليين أو الاتكاليين، الذين يدعون الأقدار تجري في أعنتها، ولا يحركون ساكنًا، أو ينبهون غافلاً.
ومن المفيد أن أنقل هنا ما كتبه الإمام ابن القيم حول هذا الحديث، عند شرح كلام شيخه الهروي في باب: "الغربة" من "منازل السائرين" إلى مقامات "إياك نعبد وإياك نستعين" فقال رحمه الله في "مدارج السالكين": .
(2/43)
قال شيخ الإسلام: "باب الغربة" قال الله تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) (هود: 116) قال ابن القيم معلقًا وشارحًا: .
(استشهاده بهذه الآية في هذا الباب، يدل على رسوخه في العلم والمعرفة، وفهم القرآن، فإن الغرباء في العالم: هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية. وهم الذين أشار إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) (أورده الهيثمي في: مجمع الزوائد من حديث سهل بن سعد الساعدي، بنحوه وقال: رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح، غير بكر بن سليم وهو ثقة 7/278، ومن حديث جابر وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف وقد وثق 7/278)، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زهير عن عمرو بن أبي عمرو - مولى المطلب ابن حنطب- عن المطلب بن حنطب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "طوبى للغرباء": قالوا: يا رسول الله: ومن الغرباء؟ قال: "الذين يزيدون إذا نقص الناس" (بحثت عن الحديث في مظانه في المسند فلم أجده، وكذلك لم أجده في: مجمع الزوائد للهيثمي، ولا أشار إليه في المعجم المفهرس للكتب التسعة، بل لم أجد المطلب بن حنطب ضمن الصحابة الرواة في المسند، وفقًا لفهرس الشيخ الألباني. فإما أن يكون ساقطًا من المطبوع - كما تبينت ذلك مع عقبة بن مرة الجهني، فإن له ثلاثة أحاديث في المسند، ليس في المطبوع إلا واحد منها - أو يكون أحمد رواه خارج المسند، والله أعلم).
فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظًا - لم ينقلب على الراوي لفظه وهو: "الذين ينقصون إذا زاد الناس" فمعناه: الذين يزيدون خيرًا وإيمانًا وتقىً إذا نقص الناس من ذلك، والله أعلم.
(2/44)
وفي حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "النُّزَّاع من القبائل" (الحديث في الدارمي برقم -2757- وابن ماجه برقم -3988- والترمذي برقم -2631- بدون السؤال وقال: حسن غريب صحيح، والبيهقي في الزهد برقم -208- والبغوي في شرح السنة، وصححه 1/118 حديث -64- نشر المكتب الإسلامي).
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال الني -صلى الله عليه وسلم- - ذات يوم ونحن عنده -: "طوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" (الحديث في المسند وصححه الشيخ شاكر، كذا أورده الهيثمي 7/278، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف. وذكره في موضع آخر جزءًا من حديث، وعزاه إلى الطبراني في الكبير، وقال: له فيه أسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح 10/256).
وقال أحمد: حدثنا الهيثم بن جبل حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عثمان بن عبد الله عن سليمان بن هرمز عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أحب شيء إلى الله الغرباء". قيل: ومن الغرباء؟ قال: "الفرارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى بن مريم -عليه السلام- يوم القيامة" (رواه أحمد في الزهد ص77، وليس في المسند، كما رواه البيهقي في الزهد برقم -206).
(2/45)
وفي حديث آخر "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، كما بدأ. فطوبى للغرباء " قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس" (رواه البيهقي في الزهد من حديث كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده وهو ضعيف جدًا، رقم-207- كما رواه الترمذي برقم -2632-، وقال: حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح!! ولفظه: "فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي" وهذا مما أخذه عليه النقاد، ولعله حسنه أو صححه لكثرة شواهده).
وقال نافع عن مالك: "دخل عمر بن الخطاب المسجد. فوجد معاذ بن جبل جالسًا إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يبكي، فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هلك أخوك؟ قال: لا، ولكن حديثًا حدثنيه حبيبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا في المسجد، فقال: ما هو؟ قال: "إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدي، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة" (الحديث بنحو هذا اللفظ عند ابن ماجه -3986-، وضعفه في الزوائد بابن لهيعة، ورواه الحاكم بسند آخر، وقال: صحيح ولا علة له عن زيد بن أسلم1/4، وانظر: كتابنا: المنتقى من الترغيب والترهيب حديث رقم -19- ورواه البيهقي في الزهد بسند آخر، برقم -197- عن ابن عمر).
(2/46)
فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدًا: سموا "غرباء" فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة - الذين يميزونها من الأهواء والبدع - فيهم غرباء. والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين: هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا، فلا غربة عليهم. وإنما غربتهم بين الأكثرين، والذين قال الله عز وجل فيهم: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116)، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه. وغربتهم هي الغربة الموحشة. وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم. كما قيل: .
فليس غريبًا من تناءت دياره .
ولكن من تنأين عنه غريب.
ولما خرج موسى -عليه السلام- هاربًا من قوم فرعون انتهى إلى مدين، على الحال التي ذكر الله، وهو وحيد غريب خائف جائع، فقال: "يا رب، وحيد مريض غريب. فقيل له: يا موسى، الوحيد: من ليس له مثلي أنيس. والمريض: من ليس له طبيب. والغريب: من ليس بيني وبينه معاملة".
فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق. وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها. وأخبر عن الدين الذي جاء به: أنه "بدأ غريبًا" وأنه "سيعود غريبًا كما بدأ" وأن "أهله يصيرون غرباء".
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه "الغربة" هم أهل الله حقًا. فإنهم لم يأووا إلى غير الله. ولم ينتسبوا إلى غير رسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولم يدعوا إلى غير ما جاء به. وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم. فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم. فيقال لهم: "ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس، ونحن أحوج إليهم منا اليوم. وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده".
(2/47)