ترجمة صاحب الفتاوى
بقلم:
السيد علي الغاياتي في جريدته "منبر الشرق"
بعنوان
العلم والعلماء
لا شك في أن علماء الدين الحنيف العاملين بِعِلْمِهِم، الهادين لقومهم هم ورثة الأنبياء في هداية الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، ولا شك أن فضيلة مُفتِينَا الأَجَلِّ الأستاذ الكبير الشيخ "حسنين محمد مخلوف" في طليعة هؤلاء العلماء الأعلام.
ولقد أذيع أخيرًا أنه سيعود إلى دار الإفتاء، وربما تَمَّ ذلك في هذين اليومين (نُشِرَت هذه الكلمة في عدد 22 فبراير، سنة 1952م من مِنْبر الشرق وصَدَرَ الأمر الملكي بتعيين فضيلة المفتي الأكبر الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتيًا للديار المصرية في يوم 26منه للمرة الثانية حفظه الله ووفقه).
وهو نَبَأ سارٌّ في هذه الظروف التي تحتاج لمثل عِلْمِه ودينه، ونشاطه ونفعه. ولقد كانت دار الإفتاء المصرية بحاجة إليه، كما كان الأزهر الشريف بحاجة إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم.
وإنه لَيَسُرُّنَا أن نجعل حديث اليوم عن أستاذنا المفتي، الذي سيبقى مفتيًا "لمنبر الشرق" على كل حال.
وُلِدَ ـ حَفِظَه الله ـ يوم السبت 6 مايو سنة 1890م (بباب الفتوح بالقاهرة) وحفظ القرآن الكريم بالأزهر وجَوَّدَ قراءته فيه على شيخ القراء الأستاذ المرحوم الشيخ محمد علي خلف الحسيني، والتحق بالأزهر طالبًا في الحادية عشرة من عُمْرِه، وتَلَقَّى دُرُوسَهُ في مختلف العلوم على كبار الشيوخ بالأزهر ومنهم المغفور له وَالِده شيخ علماء الأزهر الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي والشيخ عبد الله دراز والشيخ عبد الهادي مخلوف والشيخ علي إدريس العدوي والشيخ عبد الفتاح المكاوي والشيخ محمد الطوخي والشيخ يوسف الدجوي والشيخ عبد الحكم عطا والشيخ محمد راضي البحراوي والشيخ محمد بخيت المطيعي والشيخ أحمد نصر العدوي والشيخ محمد البيجرمي والشيخ عبد المعطي الشرشيمي وغيرهم من أعلام العلماء بالأزهر الشريف.(1/1)
ولَمَّا أكمل دراسة العلوم الأزهرية التحق بالقسم العالي (بمدرسة القضاء الشرعي) وكانت إذ ذاك تابعة للأزهر ودرس بها مختلف العلوم، وبعد أن أتم مُدَّتَه وهي أربع سنين تقدم للامتحان لِنَيْلِ شهادة العالمية وامتُحِنَ أمام اللجنة العلمية الأزهرية المؤلفة برياسة المغفور له الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر وعضوية المغفور لهم السيد بكري الصدفي مفتي الديار المصرية، والشيخ عبد الكريم سلمان عضو المحكمة العليا الشرعية، والشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية أخيرًا، والسيد أحمد الحنبلي، شيخ السادة الحنابلة بالأزهر، والشيخ أحمد هارون عضو المحكمة العليا الشرعية فنال الشهادة بتفوق في سنة 1914م ولم يجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وعلى أثر ذلك أخذ يُلْقِي دروسه في الأزهر فقَرَأَ شرح الملوي على السلم في علم المنطق، والوليدية في علم آداب البحث والمقولات الحِكَمِية في الفلسفة بحاشية والده عليها وكتاب ابن مَسْكَوَيْهِ في الأخلاق إلى أن عُيِّنَ قاضيًا بالمحاكم الشرعية في يونية سنة 1916م، وما زال يَرْقَى من درجة إلى درجة ومن محكمة إلى أخرى في القضاء حتى عُيِّنَ رئيسًا لمحكمة الإسكندرية الابتدائية الشرعية في أواخر سنة1941م ثم عُيِّنَ رئيسًا للتفتيش الشرعي بوزارة العدل في عهد الوزارة النَّحَّاسية التي تَوَلَّتْ الحكم في 4 فبراير سنة1942م، واستمر يَشغَل هذا المنصب إلى أن أُقِيلَت الوزارة.
وكان في سنة1928م، قد اخْتِير مُفَتِّشًا للمحاكم الشرعية بوزارة الحَقَّانِيَّة وتَوَثَّقت الصلة بينه وبَيْنَ وزيرها إذ ذاك المصلح العظيم علي ماهر باشا، ونَهَضَ بأعباء التفتيش الشرعي، واشترك في المشروعات الإصلاحية الهامة في الوزارة، ومنها إصلاح قانون المحاكم الشرعية وقوانين المجالس الحسبية ومحاكم الطوائف المِلِّيَّة.
ونُدِبَ في هذه المدة لتدريس العلوم الأزهرية في قسم التخصص بمدرسة القضاء الشرعي مدة ثلاث سنوات.(1/2)
وفي أكتوبر سنة1944م صدر مرسوم ملكي بتعيينه نائبًا للمحكمة العليا الشرعية.
ولَمَّا خلا مَنصِب الإفتاء بانتهاء مدة فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم عُيِّنَ مفتيًا للديار المصرية في سنة1945م.
وما أن تسلم مقاليد منصبه الجليل حتى وَفَّر كل جهوده للنهضة به وإعلاء شأنه وحِفْظ كرامته، وما زال يُعْطِيه كل وقته وفكره إلى أن انتهت مدة خِدْمته القانونية في 5 مايو سنة1950م.
ولم يَرْكَن إلى الدَّعَة والراحَة بل أخذ يُلْقِي دروسه بالمشهد الحسيني يوميًّا، ويُصْدر الفتاوى والبحوث الهامة التي ننشرها أسبوعيًّا في باب أنشأناه خصيصًا لأجله بعنوان (باب الإفتاء) فكان في ذلك خيرٌ كثير للمسلمين.
وقد جُمِعَ ما صَدَرَ منها لنفع المسلمين بها في جزء طبع ونشر، وانتفع به الناس كثيرًا، وسيطبع جزء ثانٍ قريبًا بمشيئة الله (وقد طُبع فيما بعد ونَفِدَت نُسَخُه كالأول) ولا يزال يوالينا بفتاويه وبحوثه، جزاه الله خيرًا.
وفي هذه الفترة ألَّف فضيلته كتاب "المواريث في الشريعة الإسلامية"، وهو كتاب جليل قارن فيه بين المذاهب الفقهية، وقانون التوريث بأسلوب عصري جميل وشرح فيه قانون المواريث المعمول به في المحاكم الشرعية بالقطر المصري.
وألَّف تفسيره للقرآن الكريم "صفة البيان لمعاني القرآن" وهو من أهم التفاسير.
وهو عضو في جماعة كبار علماء الأزهر الشريف منذ عام 1948م بأمر ملكي.
ومُنِحَ كُسوة التشريف العلمية من الدرجة الثانية وهو رئيس لمحكمة طنطا الابتدائية الشرعية ثم من الدرجة الأولى وهو مُفْتٍ للديار المصرية.(1/3)
وكان والده المغفور له العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي شيخ شيوخ علماء الأزهر وصاحب المؤلفات العديدة، والباع الطويل في عِلْمَيِ المعقول والمنقول وكان عضوًا بمجلس إدارة الأزهر في عهد مشيخة المغفور لهما الشيخ حسونة النواوي والشيخ سليم البشري، وهو الذي أنشأ المكتبة الأزهرية كما كان المفتش الأول للأزهر والمعاهد الدينية، ثم شيخ الجامع الأحمدي بطنطا والمشرف على إدارة معهدَيْ دسوق ودمياط، ثم الوكيل للجامع الأزهر، والمدير العام للأزهر والمعاهد الدينية إلى سنة 1915م ثم استمر يلقي دروسه للعلماء والطلاب في علم التوحيد وعلم الأصول الفقهية وعلم الفلسفة وعلم التفسير إلى أن تُوُفِّيَ بالقاهرة في إبريل سنة1936م وله تاريخ حافل مجيد في إصلاح الأزهر والنهضة بالتعليم الديني، رحمه الله وأجزل ثوابه.
هذه نُبْذَة وجيزة من تاريخ حياة مفتينا الشيخ "حسنين محمد مخلوف" الذي سيبقى ذكره كما بقي ذكر والده في الصالحين الأبرار، والعلماء الأخيار.
"وإنما المرء حَدِيثٌ بعدَه فكُنْ حديثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى"
أَمَدَّ الله لَنَا في عمره، ونَفَعَ به الإسلام والمسلمين.
كتبه:
علي الغاياتي(1/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم، الذي أَرْسَلَ خاتم رسله بالهدى ودين الحق، وبعثه بكتاب عربي مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، هدًى للمتقين ورحمة وبُشْرَى وسعادة لجميع الخلق، فكان برهان صدق في الدين، وحجة باقية أبد الدهر للعالمين وأوجب على العباد الاعتصام بحبله والوفاء بعهده، والقيام بحقه، وأَمَرَ رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتبليغه وبيانه وأَمَرَ الخلق بطاعته، فبَلَّغَ الرسالة، وأَدَّى الأمانة، وبيَّن وفسَّر، وبشَّر وأَنْذَر، وحَضَّ وحَذَّر، وتَرَكَ أمته على المَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، وقام أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ مِنْ بَعْدِه مَقام صدق في إقامة الدين وتبليغ أحكامه، كتابًا وسُنَّة، وسلَك مسلكهم في ذلك مَن تبعهم بإحسان، ومن تَلاهم من أعلام الإسلام وفقهاء الأمة المجتهدين، فلم يَدَعُوا بابًا من أبواب الفقه في الدين إلا وَلَجُوه وبيَّنوا حُكم الله ورسوله فيه، وأَتَوْا فيه بالعَجَب العجاب، والبيان المستطاب.
وتركوا للأمة آثارًا عِلْمية ضخمة تهتدي بهَدْيها، وتستضيء بنورها في جميع شؤونها على مدى الأزمان.
ومن ذلك الفتاوى الهامة في الحوادث النازلة الخاصة والعامة.
ومن هذه الموسوعات العلمية في التفسير والحديث والفقه ـ يستقي الفقهاء الأمناء: البيان والإفتاء فيما يُطْلَب منهم بيانه والإفتاء فيه في الحوادث الهامة الواقعة.
ومِن هذا المَعِينِ الذي لا يَنْضُب، حَرَّرْنَا هذه (الفتاوى الشرعية والبحوث الإسلامية) احتسابًا لوجه الله تعالى وقيامًا بما افترضه الله على العلماء من التَّبْيِين والإرشاد والتعليم والدعوة إلى الحق والهدى بقَدْرِ الاستطاعة، ورَهْبَة مِنَ الوعيد الشديد على كتمان العلم عمن يبتغيه ويحتاج إليه.(1/5)
وحرصنا كل الحرص فيها على استقصاء البحث والأمانة في النقل، والصراحة في القول، والصَّدْع بالحق، فإن ذلك هو الحق وسبيل النجاة والفوز يوم الحساب، وسِوَاه باطل وضلال، وتَعَدٍّ لحدود الله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ).
كما حَرَصنا على بَسْطِ القول والإيضاح، وتدعيم الأحكام بالأدلة والأسانيد، غير متقيدين بمذهب الحنفية وإن كان هو المذهب الرسمي في الإفتاء.
وهذه الفتاوى سَبَقَ أن نُشِرَ كثير منها في (باب الإفتاء) بجريدة "منبر الشرق" لصديقنا المجاهد، الوطني الصادق "السيد علي الغاياتي" ـ رحمه الله وأَجْزَل ثوابه ـ إجابة عن أسئلة وَرَدَت إلينا خاصة عن طريقها، ابتداء من شهر يونية سنة 1950م.
ثم طُبعت في مجموعتين (الأولى) في غُرَّة جُمادَى الآخرة سنة 1370هـ بما نُشر فيما بين منتصف شهر يوليو سنة 1950م وشهر مارس سنة 1951م (والثانية) في 8 شوال سنة 1371هـ فيما نُشِرَ بين إبريل سنة 1951م، ويونيه سنة 1952م.
وأَمَّا المجموعة الثالثة التي صَدَرَت بعد ذلك فقد نُشِرَت منها فتاوى بالمنبر ولم تُطْبَع مستقلة، ثم طُبِعَت منها طبعة بَعْدُ، والله وَلِيُّ التوفيق.
وقد ضَمَمْنَا الآن هذه المجموعات الثلاثة وجَعَلْنَاها كتابًا واحدًا جامعًا لكثير مما تَمَسُّ إليه الحاجة مِن الفتاوى الشرعية، والبحوث الإسلامية: عِلمًا، وعَملًا، واعتقادًا، ورتبناه أبوابًا، راجين من الله تعالى قَبُولَها والنفعَ بها للمسلمين عامة والمَثُوبة عليها للعاملين بها.
وعلى الله توكلي واعتمادي، وبه أستعين، وإليه أَبْرَأُ من الحَوْل والقوة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
كتبه
حسنين محمد مخلوف
مفتي الديار المصرية سابقًا(1/6)
وعضو جماعة كبار العلماء بالأزهر
غرة ذي القعدة سنة 1384هـ
4مارس سنة 1965م بالقاهرة(1/7)
الإفتاء في صدر الإسلام
منصب الإفتاء في صدر الإسلام من أَجَلِّ المناصب الدينية خطرًا، وأعظمها أثرًا، وأَحْفَلِها بالتَّبِعَات الجِسام، فهو خلافة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التبليغ عن ربه، ونَشْر دينه الذي ارتضاه الله تعالى لعباده دينًا، وهو تعليم وإرشاد، وفَهْم وتَبَصُّر في معاني القرآن والسنن، واجتهاد واستنباط الأحكام منها، فمنها يستمد عامة المسلمين العلم الديني، وبه يُرْشِدُون إلى الحق والهُدَى، وإليه يَفْزَعُونَ لِمَعرفة ما يَجِب العلم به من أحكام الله تعالى، وأحكام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شتى الوقائع والحوادث.
والذين حَمَلُوا عِبء هذا المنصب الجليل مِنْ فقهاء الإسلام، ودار القضاء والإفتاء على أقوالهم بين الآنام، وعُنُوا بضبط قواعد الحلال والحرام، وخُصُّوا باستنباط الأحكام من القرآن والسنة، وهم ـ كما وَصَفَهم الإمام ابن القيم ـ في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الغذاء. يشير إلى ذلك قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ) وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
وأولو الأمر على ما ذكره جمهور المفسرين هم العلماء بالدين، والرد عند التنازع إلى الله تعالى هو الرجوع إلى كتابه المُبِين، فهو القول الفَصْل والحجة واليقين، والرد إلى ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ بعده هو الرَّدُّ إلى سُنَّته الواضحة وتعاليمه الحَقَّة، فهي مَقْطَع الحق وفصل الخطاب.(1/8)
يستفتيهم الناس في الحوادث فيفهمونها حق الفهم، ويمعنون النظر والروية فيها، حتى يفقهوا ظاهرها وخافيها، ثم ينظرون فيما جاء بشأنها في الكتاب والسنة، وفيما استقر عليه إجماع المجتهدين في الأمة، ثم يقضون فيها بما قضى به الله، تعالى، ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلا اجتهدوا الرأي وبَذَلُوا الوُسْعَ في استنباط الأحكام من موارد الشريعة، فإذا هُدُوا إليها قالوا للناس: هذا في دين الله حلال أو حرام، وهذا حق أو باطل تعليمًا وإرشادًا.
وكانوا مُتَأَهِّبِينَ للفُتْيَا بعلم غَزِير، واطِّلَاع وَاسِع، وحِفْظٍ ودِرَاية، وصَفَاء ذهن واستقامة فهم، وقوة مَدْرَك، ورسوخ مَلَكَة، وإحاطة برُوح التشريع واختلاف الآراء وتَطَوُّر الزمان والعادات، مع صلاح في الدين، وصراحة في الحق، وأمانة في النقل، وصَدْع بأمر الله تعالى في كل أمر والله المستعان.
روي عن الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "لا يَحِل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله، تعالى، بصيرًا بحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصيرًا باللغة الفصحى والشعر الجيد، وما يحتاج إليه منهما في فهم القرآن والسنة، ويكون مع هذا مشرفًا على اختلاف علماء الأمصار، وتكون له في ذلك قريحة وَقَّادَة فإذا بلغ هذه الدرجة فله أن يفتي في دين الله تعالى ويُبَيِّن الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي".
وقيل ليحيى بن أَكْثَم: "متى يَحِل للرجل أن يُفْتِيَ؟ فقال: إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر" يريد بالرأي فَهْم معاني النصوص وعِلَلِها الصحيحة التي نَاطَ الشارع بها الأحكام، ويريد بالأثر السنن الثابتة عن الرسول، صلى الله عليه وسلم.
ومع تأهبهم للإفتاء بهذه العدة القوية الحكيمة، كانوا يكرهون التسرع في الإفتاء، ويَوَدُّ كل واحد منهم أن يَكْفِيَه غيرُه أمرَه وكلهم أمناء أتقياء عارفون أوفياء.(1/9)
رُوي عن عبد الرحمن بن أبي ليلي ـ وهو من كبار التابعين ـ أنه قال: "أَدْرَكْتُ عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما منهم رجل يُسْأَل عن شيء إلا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه، ولا يُحَدِّث حديثًا إلا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه". بل كان من السلف من يخاف من الإفتاء ويَنْدَم لصدوره منه.. قال سُحْنُون يومًا: "إنا لله، ما أَشْقى المفتي والحاكم، ها أنا ذا يُتعلَّمُ مني ما تُضْرَب به الرقاب وتؤخذ به الحقوق، أمَا كنت عن هذا غَنِيًّا؟".
وكيف لا وقد وَرَدَ في سنن أبي داود من حديث مسلم بن يسار قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قال عَلَيَّ ما لم أقل فليتبوأ بيتًا في جهنم، ومن أُفْتِيَ بغير عِلْم فعَمِلَ بفتواه كان إثمه على مَنْ أَفْتَاه، ومَن أشار على أَخِيه بأمر يَعْلم الرُّشْد في غيره فقد خَانَه".
وعن علي، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَفْتَى بغير علم لعنته ملائكة السموات والأرض".
وقد عَرَفَ المُفْتُون في الصدر الأول خطورة هذا المنصب، وأنه المنصب الذي تَوَلَّاه الله تعالى بنفسه، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ). وقال تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَةِ) فقاموا بحقه على غاية من الحذر والخوف من الله، تعالى.
وعَرَفوا أن أول مَن قام في الإسلام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين محمد بن عبد الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فكان يُفتي عن الله، تعالى، بوحيه وكانت فتاويه هي الحجة وفصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها والتحاكم إليها ثانية الكتاب. وليس لأحد من المسلمين: العدول عنها ما وجد إليها سبيلًا فعرفوا أنهم خلفاء أكرم الرسل في التبليغ عن الله تعالى وهداية الخلق إلى الحق والعلم والهدى والنور.(1/10)
ثم قام بالفتوى بعض أصحابه الصادقين الأتقياء، وهم كما وصفهم الإمام ابن القيم (عسكر القرآن وجند الرحمن) أَلْيَن الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأحسنها بيانًا، وأصدقها إيمانًا وأَعَمُّهَا نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة، وكانوا بَيْن مُكْثِر من الفتوى ومُقِلٍّ ومتوسط، جزاهم الله تعالى خير الجزاء.
والذين حُفِظَت عنهم الفتوى من الصحابة مائة ونَيِّفٌ وثلاثون نفسًا ما بين ذكر وأنثى، رضي الله عنهم أجمعين.
والمكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو محمد بن حزم: "يمكن أن يُجْمَع من فتاوى كل واحد منهم سَفْرٌ ضخم".
وقد جمع الإمام أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون ـ وكان أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث ـ فتاوى ابن عباس في عشرين كتابًا.
فأمَّا أبو حفص عمر بن الخطاب، فهو الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قط، إلا سلك فجًّا غير فجِّك".
ومن كلام ابن مسعود يوم مات عمر: "إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم". وقال: "لو أن علم عمر وُضِعَ في كِفَّة الميزان ووُضِعَ عِلم أهل الأرض في كِفَّة لَرَجَح علم عمر".
وقال سعيد بن المسيب: "ما أعلم أحدًا بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلم من عمر".
وقال الشعبي: "إذا اختلف الناس في شيء فخُذُوا بما قال عمر".
وقال عليه الصلاة والسلام: "لقد كان فيمَن قَبْلَكم مِن الأمم مُحَدَّثُون (مُلهَمون)، فإنْ يَكُنْ في أمتي أحد، فإنه عمر".
ولقد استُشهد وهو في الصلاة لِسِتٍّ بَقِينَ من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين هجرية ودفن في الحجرة الشريفة عند النبي، صلى الله عليه وسلم.(1/11)
وأما علي بن أبي طالب فهو الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنت مني وأنا منك". وقال عمر: "توفي رسول الله وهو عنه راض". وقد كان بحرًا زاخرًا، وله أَقْضِيَة وفتاوى أَضْحَت مَضرِب الأمثال، ومن المشهور قولهم: "قضية ولا أبا حسن لها".
واستُشهِدَ ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين، واختُلِفَ في موضع دفنه رضي الله عنه.
وأما عبد الله بن مسعود فهو سادس ستة في الإسلام، وهو من القُرَّاء المشهورين، وممن استظهر القرآن على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهاجر الهجرتين، وصَلَّى إلى القبلتين، وشَهِد بدرًا والحديبية، وتوفي سنة 32هـ ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان، رضي الله عنهما.
وأما عائشة أم المؤمنين فهي زوج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي حَفِظَت عنه شيئًا كثيرًا، حتى قيل إن ربع الأحكام مَنْقُول عنها. وقال عطاء: "كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة".
وقال عروة بن الزبير: "ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة".
وقال الزهري: "لو جُمِعَ علم عائشة إلى علم جميع أزواج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل". وقد قاربت السبعين وتوفيت ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة58 من الهجرة بالمدينة وصلى عليها أبو هريرة، رضي الله عنهما.
وأما زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي فقد كان أعلم الصحابة بالفرائض، وهو أحد الذين استظهروا القرآن في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتوفي، رضي الله عنه، سنة 45 بالمدينة، وصلى عليه مروان بن الحكم.
وأما عبد الله بن عباس فهو الذي سَمَّاه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُرْجُمَان القرآن، ودعا له بقوله: "اللهم عَلِّمْه الحكمة، اللهم فَقِّهْه في الدين وعَلِّمْه التأويل" أي التفسير.(1/12)
ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ووصفه عمر بقوله: "فتى الكهول، له لسان سَؤُول، وقلب عَقُول". وقال طاووس: "إني رأيت خمسين من الصحابة إذا ذاكروا ابن عباس فخالفوه لم يَزَلْ يُقَرِّرُهُم حتى يَنْتَهُوا إلى قوله".
وقال مروان: "كنت إذا رأيت ابن عباس قُلْتُ أجمل الناس، فإذا تكلم قلت أفصح الناس وإذا تَحَدَّث قلت أعلم الناس".
وقال عطاء: "كان أناس يأتون ابن عباس في الشعر والأنساب، وناس يأتونه لأيام العرب ووقائعها، وناس يأتونه للعلم والفقه، فما منهم صِنف إلا ويُقْبِل عليهم بما شاؤوا". توفي بالطائف وهو ابن سبعين سنة في سنة 68هـ وصلى عليه محمد بن الحنفية، رضي الله عنهما.
وأما عبد الله بن عمر فقد كان عَلَمًا من أعلام الإسلام، وإمامًا في الورع والزهد واقتفاء آثار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهاجر إلى المدينة مع أبيه وهو ابن عشر سنين، وشهد المشاهد كلها بعد بدر وأحد، وشهد غزوة الخندق وسنه خمس عشرة سنة، وكان عالمًا مجتهدًا لَزُومًا للسنة فَرُورًا من البدعة، ناصحًا للأمة، وكان إذا أعجبه شيء مِن مَالِه تَصَدَّق به، لا يَنامُ من الليل إلا قليلًا يَقْضِيه في عبادة ربه متهجدًا قانتًا لله، تعالى، وقد وصفه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله "إنه رجل صالح" وقد عاش ستًّا وثمانين سنة، وأفتى في الإسلام ستين سنة، وتوفي ـ رضي الله عنه ـ في أوائل 73هـ في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي.
والمتوسطون من الصحابة في الفُتْيَا ثلاثة عشر: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله ابن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهم أجمعين.
ويضاف إلى هؤلاء طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم أجمعين.(1/13)
ومن المفتين المُقِلِّين في الفتيا من الصحابة: أبو الدرداء وأبو سلمة المخزومي وأبو عبيدة بن الجراح، والحسن والحسين ابْنَا علِي، وأبي بن كعب، وأبو ذر، وصفية وحفصة وأم حبيبة، وميمونة أمهات المؤمنين، وأسامة بن زيد، والبراء بن عازب، والمقداد بن الأسود، وسهل بن سعد الساعدي، وأسماء بنت أبي بكر، وحذيفة بن اليمان، وعمرو بن العاص، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وحسان بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وخالد بن الوليد، ورافع بن خُدَيج، وفاطمة الزهراء، وبلال، والعباس بن عبد المطلب، وآخرون، رضي الله عنهم أجمعين.
والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كما هُم سادة الأمة وأئمتها هم سادة المُفْتِين والعلماء، وقد قال قتادة في قوله تعالى: (وَيَرَى الذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ) (سبأ:6) هم أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم.
وقال الشعبي: ثلاثة كان يستفتى بعضهم بعضًا، فكان عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت يستفتي بعضهم من بعض، وكان علي وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض وقال مسروق: "جالست أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرأيتهم كالإخاذة (الإخاذة بكسر الهمزة غدير الماء): الإخاذة تَرْوِي الراكِبَ والإخاذة تَرْوِي الراكِبَيْن، والإخاذة تروي العشرة، والإخاذة لو نَزَلَ بها أهل الأرض لأَصْدَرَتْهم".
وحسبنا هذا في المفتين من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين.
أما المفتون من التابعين في أمصار الإسلام ومن حَمَلَ العلم عنهم من العلماء والأئمة فيضيق عن ذكرهم هذا المقام، وربما عُدْنَا إليه في مَقَامٍ آخر والله المستعان.(1/14)
هذه لَمْحَة من تاريخ الإفتاء في عهد رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه تلقي ضوءًا لامعًا على هذا المنصب الجليل، وتَدُلُّ على عِظَم شأنه في الإسلام، وحَسْبُكَ أن ما أُثِرَ عنهم من الفتاوى كان مَصدرًا من مصادر التشريع، وذَخِيرة عُظْمَى من الأحكام، ونورًا لازلنا ولن نزال نستضيء به في حُلْكَة الظلام، ونرجع إليه على تَوالي الأيام والله أعلم.(1/15)
أمانة فقهاء الإسلام
جاءنا كتاب من مسلم غَيور يَوَد لو تطمئن نفسه ببيان ما كان عليه السلف الصالح من المسلمين: هل كانوا متزمتين في الدين لا يَرَوْنَ إلا ما هو عزيمة ومشقة، أو كانوا سُمَحَاءَ يَجْمَعون بيْن ما هو شديد وما هو رفيق بالناس من الأحكام؟
ويَسُرُّنَا أن تَتَحَرَّك بواعث الهمم إلى البحث والاستقصاء في أمثال هذه البحوث، فهي البشير بالخير، والسبيل إلى نشر فضائل الإسلام، وإذاعة فضل السابقين الأولين في جهادهم العظيم.
ألا فلتعلم ـ وفقك الله ـ أن الله، تعالى، قد بعث رسوله خاتم النبيين، بكتاب عربي مبين رحمة للعالمين، وأَمَرَه أن يُبَيِّنَه للناس ويُقِيمَ تعاليمه ويَنْشُرَ علومه، ويُبَلِّغَه كما أُنْزِلَ ليحفظه المسلمون ويبقى متواتر الرواية محفوظًا كما أُنْزِلَ إلى يوم الدين. فبَلَّغَ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل القرآن سُورًا وآيات وبيَّن بالسنة ما فيه، وأَمَرنا بطاعة الله وطاعة رسوله فيما بَلَّغَ وبَيَّن فقال تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) وقال: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) فعَلِمَ الصحابة التنزيل وأحاطوا به كل الإحاطة، وكان هو دستور الأمة والملة، ورَوَوْا عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله وفعله وتقريره وبيانه وأحكامه ولم يَدَعُوا شيئًا مما قاله أو فَعَلَه إلا أَقَرُّوه ورَوَوْه وبَيَّنُوه للأمة ونَقَلُوه لمن بعدهم بصدق وأمانة ودقة وتثبت، امتثالًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "لِيُبَلِّغِ الشاهدُ منكم الغائبَ، فرُبَّ مبلَّغٍ أَوْعى مِن سامِع". وفي هذا إشارة إلى وُجوب التثبت من الرواية والحرص على أدائها كما سُمِعَت لِمَنْفَعة العباد في كل زمان.(1/16)
وقد دَرَجَ السلف الصالح على ذلك، فما كَتَمُوا عِلمًا، ولا شَرَعوا حُكْمًا، وإنما نقلوا بالأمانة ما رَوَوْه وما فَهِموه بسلائقهم السليمة وعقولهم الناضجة المستنيرة، وانتشرت الأحاديث في الأمة وسائر الأقطار، وتفرق الرواة فيها فمَسَّت الحاجة إلى تَمْحِيص الروايات والأحاديث، والبحث عن حال الرواة وضبطهم وإتقانهم وأمانتهم وعدالتهم وعقائدهم وميولهم وصدقهم، فنهض بذلك الأئمة الثقات والأعلام الأَثْبَات، وبَذَلُوا فيه جُهدًا جَبارًا لم يَسْبِق لأمة من أمم الأرض أن نهضت بمثله، في عزم وأمانة، وصدق ومثابرة، وتأليف وتدوين، وبحث واستقصاء وتَحَرٍّ وإتقان، فأثمرت جهودهم ثَمَرًا شهيًّا، وتَمَيَّز الزُّبْدُ من المَخِيض، والطَّيِّبُ من الخَبِيث، والصادق من الكاذب، واستَقَرَّت السُّنَّة وظهرت أعلامُها نَقِيَّة من الزائف والدخيل، حتى لم يَبْقَ لأحد شُبْهَة في صحة الحديث الصحيح، ولا في عدم صحة ما انتقدوه من المَرْوِيَّات وهو أقسام عديدة كما في علم مصطلح الحديث.
يَعْرِف ذلك تَمام المعرفة مَن رَاضَ نفسه على دراسة السُّنَّة ورواياتها وشروحها، وما أُلِّفَ فيها من الكتب والمسانيد، وما أُلِّفَ في الجَرْحِ والتعديل، وما ذُكِرَ في تواريخ الرواة ونشأتهم وجميع أحوالهم، وفي المكتبة الإسلامية من ذلك ما تَقَرُّ به الأعين، وما يبعث في النفوس كل الطمأنينة إلى نَقَاءِ السُّنَّة وأمانة الأئمة وفقه المجتهدين والتابعين لهم من فقهاء الإسلام، رضي الله عنهم أجمعين.(1/17)
ثم جاء دور المجتهدين في الدين وهم أعلام الأمة تَخَصَّصُوا في العلم بكتاب الله، تعالى، وسُنَّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودراستهما أوفى دراسة، والإحاطة بهما أكمل إحاطة، قدر الطاقة البشرية وفي العلم باللغة وأساليبها وقواعدها ومَبَادِيها وعلومها وآلاتها وآدابها وطرائقها فعَرَفوا الناسخ والمنسوخ، والمُقَيَّد والمطلق، والعام والخاص، والمُعَلَّل والتَّعَبُّدي، وغير ذلك، ودَوَّنُوا طرائق الاستنباط والاجتهاد في علم أصول الفقه، وكان لكل مجتهد أصحاب وتلاميذ هم أئمة ثقات، وأنصارهم أعلام أثبات، فدُوِّنَت المذاهب ودُوِّنَ الفقه الإسلامي، وهو ذخيرة السالفين التي تركوها لمن بعدهم هدى ونورًا وحجة وبرهانًا. ولم يكن هنالك تَزَمُّت أو تَهَاوُن، لا مِن الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المجتهدين ولا من الفقهاء الباحثين، بل هناك أمانة وصدق واجتهاد واستنباط وبحث بريء نَزِيه، لا يُمْلِيه هوى ولا يَبْعَثُه إلا غَرَض واحد، وهو القيام بإبلاغ الناس شريعة الله ورسوله، وبِنَاء الأحكام على أصول محكمة وقواعد ثابتة طاعة لله تعالى ولرسوله، صلى الله عليه وسلم.
بهذه العجالة السريعة والإِلْمَامة العابرة نطمئن نفسك (أيها السائل) وندعوك إلى الأخذ عن الثقات الأثبات الذين يعرفون الحلال والحرام، ويَتَثَبَّتون في الأحكام، فَهُمُ الهُدَاة الأعلام، والله يوفقك ويهديك السبيل الأقوم، والله أعلم.(1/18)
السُّنَّة النبوية ثانية الأدلة الشرعية
(السؤال): هل السنة النبوية دليل شرعي؟ وهل للعامي أن يَجْتَهد في الدين؟
(الجواب): الأدلة الشرعية أربعة: (الكتاب) وهو القرآن الكريم، (والسنة الثابتة) لقوله تعالى في كتابه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ)، وقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) وقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي)، وقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وغير ذلك من الآيات الدالة على أن قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله وتقريره تشريع يُتَّبَع فهو المبلِّغ عن الله تعالى بوحيه إليه، والوحي إما مَتْلُوٌّ وهو القرآن وإما غير مَتْلُوٍّ وهو السنة الثابتة. قال ـ تعالى ـ في شأن رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوْحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى) جبريل ـ عليه السلام ـ بأمر الله تعالى.
وليس للمسلم أن ينكر حُجِّيَّة السنة بعد ما تَلَوْنَا من الآيات.
(وثالث الأدلة) إجماع مجتهدي الأمة على حُكْم شرعي وهم لا يُجمِعون إلا عن بَيِّنَة ودليل من الكتاب أو السنة؛ ولذلك كانت دلالة الإجماع راجعة إلى القرآن والسنة.(1/19)
(ورابعها القياس) وطريقه الاجتهاد الصحيح. ولم يَجْتَهِد الأئمة إلا في دِلالة القرآن والسنة، فهم لا يَخْرجون عنها ولا يَلجؤون في الاستنباط إلا إليها، والأخذ بقول من أقوالهم أَخْذٌ بما دَلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع بطريق صحيح من طرق الدلالات المقررة في علم الأصول. وطرح أقوالهم جملةً ضربٌ في بَيْدَاء وسَفَرٌ في مُضِلَّة بغير أَدِلَّاء، وحرمان من ثروة علمية ضخمة، وذخائر نفيسة قَيِّمَة، وغُرُورٍ فاضح، وسَفَه في الرأي واضح، وجهالة فاحشة وضلال مبين وإثم خطير بل قد يكون هوى وضلالًا وجموحًا عن الحق، وجنوحًا إلى باطل من القول والرأي: فإن كنتَ عالمًا متمكنًا في الدين باحثًا حقًّا، فاطَّلِعْ أولًا على أقوالهم وأدلتهم وبحوثهم وأوجه خلافاتهم، ثم احكم في الأمر، إن كنت من أهل العلم بالدين حقًّا وصدقًا بما تراه حقًّا بعد ذلك وقَلَّمَا تَجِد جديدًا، وإن كنت عاميًّا ليس لك إلى ذلك سبيل ولا يد لك فيه فاعتمد على ما قالوا واتبع ما اجتهدوا لعجزك عن الاجتهاد مثلهم في الأحكام، وعدم توافر وسائل النظر والاستنباط والترجيح لديك. قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وهل يُسْلِم العليل قِيَادَه لغير الطبيب الحاذق، ولا تُعطَى القيادة في الحرب لغير القائد المجرَّب؟ اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون. والله أعلم (فيه رَدٌّ على من هان لديه أمر الدين فأخذ يدفع من هب ودب من الناس إلى الاجتهاد فيه، والاجتهاد في الدين أمر خطير. بينما ذلك محرم على العامي فيما هو أقل شأنًا كالطب والهندسة وغيرهما، وقد أدى التطفل على موائد الاجتهاد في الدين إلى خطر جسيم، وقول في الدين بغير حُجَّة ولا سلطان وهو فُحْش وضلال)(1/20)
القرآن يُوجِب الأخذ بالسنة النبوية
أوجب الله، تعالى، على عباده المؤمنين طاعته وطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي بعثه للناس كافة مبشرًا ونذيرًا وداعِيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأَوْحى إليه بما أوحى من القرآن والبيان والشرائع فيما تَمَسُّ إليه حاجة البشر وتدعو إليه مصلحة الأمة في أمور الدين والدنيا جميعًا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وجعل طاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ طاعة له فقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) وقال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) والرد إلى الله، تعالى، وإلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند التنازع في أمر من أمور الدين دقيقًا كان أو جليلًا، هو الرد إلى كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والرد إلى رسوله في حياته، وإلى سُنَّته بعد وفاته، وهو من مقتضيات الإيمان ولوازمه، وقد أخبر تعالى أنه خير للمؤمنين، وأن عاقبته أحسن عاقبة، إذ به الهداية، وفيه النجاة، كما أن الإيمان لا يتم إلا بالاحتكام إلى الرسول في حياته، وإلى سُنَّته الثابتة بعد وَفَاتِه فيما يَعْرِض من الخلافات والمنازعات وبِقَبُول قضائه برضًا وطمأنينة، وتسليم وإذعان.(1/21)
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فلا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفْتُوا حتى يُفْتِيَ، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يَقْطَع فيه ويَحْكُم، ولا فرق في ذلك بين حال حياته وحال وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكما لا يجوز التقدم عليه في شيء من ذلك حال حياته، لا يجوز التقدم على ما أُثِرَ عنه من السنن والشرائع بعد وفاته، فمن آثر قضاءه على قضاء الرسول وقوله على قوله، وقدم رأيه وهواه على ما ثَبَتَ من هَدْي النبوة فقد قَدَّمَ نفسه على الرسول وعصى ربه في قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وكان بذلك ضالًّا ضلالًا مبينًا وخاسرًا خسرانًا عظيمًا.
قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) إنه تعالى جعل رفع أصواتهم فوق صوت رسوله المبعوث سببًا لحبوط أعمالهم، فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطًا للأعمال وخسرانًا مبينًا؟
ودَلَّ قوله تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) على أن مِن لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبًا إذا كانوا معه إلا باستئذانه، وإذنه يعرف في حياته مُعَايَنة، وبعد وَفَاتِه بدلالة سُنَنِه الصحيحة الثابتة عليه.(1/22)
(وجملة القول) أن أَمْر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجب الاتباع، وأن سنته ثابتة الحُجِّيَّة في أحكام الدين بنص القرآن، فليس لمسلم أن يَنْأَى بجانبه عن الأخذ بقول الرسول وسُنَنِه، ويقول لا نُذْعِن إلا لِمَا جاء في القرآن وَحْدَه، فإنه بِهَذا الزعم قد أَعْرَض عن القرآن وخالفه ونَاقَضَ نفسه في قوله ورأيه إذ القرآن أوجب طاعة الرسول والرد إلى سنته، والاحتكام إلى أقواله والرضا والتسليم بقضائه، وحَرَّمَ مخالفته والإعراض عن سنته الثابتة، وجعل الأخذ به أخذًا بالقرآن (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).
وكيف يتأتى العمل بالقرآن بدون بيان من الشارع لِمَا أُجْمِلَ فيه من الأحكام؟ ألا ترى أن القرآن أَمَرَ بالصلوات ولم يُبَيِّن عَدَدَها، ولا عدد ركعاتها ولا كيفيتها ولا شروطها ولا مبطلاتها، وأمر بالزكاة ولم يُبَيِّن نِصَابَها ولا جميع ما تَجِبُ فيه، ولا شروط وجوبها، وكذلك الصوم والحج، فبينت السنة كل ذلك، (مما جعل الامتثال والطاعة والعمل بالأحكام الشرعية في حيز الإمكان، وكان ذلك) محالًا لولا البيان، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال تعالى: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ).
نسأل الله أن يوفقنا جميعًا لطاعته وطاعة رسوله واتباع سنته الراشدة وهديه القويم. والله أعلم.
(في هذا رَدٌّ على نَفَر من الناس يدعون اليوم عن جهالة أو عن عمد إلى الإعراض عن السنن وعدم الاعتداد بها في الدين، ويطعنون في الرواية والرواة توصلًا إلى توهين الإسلام عقيدة وعملًا والإسلام هو العقبة الكأداء في سبيلهم وسبيل دعاة المبادئ الهدامة وسائر المبطلين).(1/23)
القرآن والأحاديث القدسية
(السؤال): ما هو الفَرْق بين الحديث القدسي وغير القدسي؟ وما هو الفرق بينهما وبين القرآن؟
(الجواب): القرآن هو كتاب الله، تعالى، الذي أنزله على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوحى به إليه لفظًا ومعنًى بوَاسطة جبريل، عليه السلام، فتَلَقَّفَه جبريل سماعًا من الله، تعالى، ثم بلغه بأمر الله كما سَمِعه إلى رسوله فحفظه الرسول ورواه وأمر بكتابته وبَلَّغَه إلى أمته بلفظه ومعناه كما أمر. بخلاف السنة فإن المُوحَى به فيها إلى الرسول هو المعنى فقط وقد بَيَّنَه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفى بيان وشرحه أبلغ شرح وأصدقه وأوفاه.
وقد أوضح هذا الإمام الجويني بقوله:
كلام الله المنزل قسمان:
(قسم) قال الله تعالى لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن الله يقول: افعل كذا وكذا وأمر بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربُّه. ثم نَزَلَ على النبي وقال له ما قال ربه، ولم تَكُنْ العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يَثِقُ به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال. فإن قال الرسول يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند يتفرق وَحَثَّهم على المقاتلة، لا ينسب إليه كذب ولا تقصير في أداء الرسالة.
(وقسم آخر): قال الله لجبريل اقرأ على النبي هذا الكتاب فنَزَلَ جبريل بكل كلماته وحروفه مُبَلِّغًا لها كما أُمِرَ من غير تغيير كما يكتب الملك كتابًا ويُسَلِّمه إلى أمين. ويقول اقرأه على فلان فهو يقرؤه ولا يُغَيِّر كلمة ولا حرفًا منه اهـ.
والقسمان هما القرآن والسُّنَّة كما أفاده الحافظ السيوطي في الإتقان، وقال: إن جبريل أمين الوحي كان يَنزِل بالسُّنَّة كما يَنزِل بالقرآن. ومن هُنا جازت رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أَدَّاهَا بالمعنى ولم تَجُز رواية القرآن بالمعنى؛ لأن جبريل أداه باللفظ ولم يُبَحْ له إيحاؤه بالمعنى.(1/24)
والسر فيه أن المقصود من القرآن التعبير بلفظه المنزل والإعجاز به فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، وأن تحت كل كلمة منه معانيَ لا يُحاط بها كثرةً، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بكل ما يشتمل عليه وقد أراد الله التخفيف على الأمة حيث جعل المنزَّل عليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظه المُوحَى به، وقسم يروونه بالمعنى وهو الأكثر. ولو جُعِلَ كله مما يُروَى باللفظ لَشَقَّ كثيرًا، وبالمعنى لم يُؤمَنْ التبديل والتحريف اهـ.
وقريب من هذا قول الزهري حين سُئِلَ عن الوحي: "الوحي ما يوحي به الله إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه وهو كلام الله تعالى ومنه ما لا يَتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته. ولكنه يُحَدِّث به الناس حديثًا ويُبَيِّن لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه" اهـ.
والأول القرآن والثاني السنة.
فخصائص القرآن أنه وحي باللفظ والمعنى، وأنه كلام الله تعالى وأنه معجِز ومتعبَّد بتلاوته، وأنه لا تجوز روايته بالمعنى، وأنه لا يَمَسُّه إلا المطهرون، بخلاف السنة فإنها إيحاء بالمعنى، ولفظها من عند الرسول، وغير معجِز ولا مُتعبَّد به لكونه كلام البشر، وتجوز روايتها بالمعنى لمن لا يُخِلُّ به، ولا يَحْرُم مَسُّها ولا قراءتها على المُحدِث.
وكذلك اخْتُصَّ القرآن بأنه مُنَزَّل بواسطة جبريل ـ عليه السلام ـ فلا يكون وحيًا مناميًّا ولا إلهامًا، بخلاف السنة، فإن الوحي بها كما يكون بواسطة جبريل كما ذكره الجويني والسيوطي يكون منامًا، كما في حديث معاذ "أتاني رَبِّي فقال فيم يَخْتَصِم الملأ الأعلى" الحديث، ورؤيا الأنبياء وحْي إذ ليس للشيطان سبيل عليهم كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ).(1/25)
وقد يكون إلهامًا بإلقاء معنًى في القلب تقوم الأدلة القاطعة على أنه من عند الله تعالى وقد يكون بسماع كلام الله من غير رؤيته كما في حديث ليلة الإسراء. قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
هذه فروق ستة بين القرآن والسنة عامة.
وأما الفرق بين نوعَي السنة (وهي الأحاديث القدسية) نسبة إلى القُدُس بمعنى الطهارة والتنزيه (وسائر الأحاديث النبوية) فهو أن الأُولَى قد أضافها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الله، تعالى، لفظًا كما في حديث أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه عن ربه إن الله، تعالى، قال: (يا عبادي إني قد حَرَّمْت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تَظَالَموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستَهدوني أَهدِكم...) الحديث رواه مسلم. وكما في حديثه الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عَزَّ وجَلَّ: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها، ومن تَقَرَّب منِّي شِبرًا تَقَرَّبْت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يَمْشي أتيته هَرْوَلة، ومن لقيني بقُرَاب الأرض (ما يُقَارِب مِلْأَها) خطيئة لا يشرك بي شيئًا لَقِيتُه بمثلها مغفرة) (رواه مسلم) بخلاف غير القدسية فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يضفها لفظًا إلى الله، تعالى، وإن كانت وحيًا يُوحَى.
وفرق بعضهم بينهما بأن القدسية ما كانت متعلقة بذات الله وصفاته، وغير القدسية ما كانت متعلقة بغير ذلك كالأحكام والحِكَم والأمثال ونحو ذلك.(1/26)
وفي (السفينة) للراغب الأصفهاني نقلًا عن المجموعة الحفيدية "فائدة" في الفرق بين الحديث القدسي والقرآن، قال الكَرْماني في أَوَّل كتاب الصوم: "القرآن لفظ مُعْجِز ومُنَزَّل بواسطة جبريل" وهذا ـ أي الحديث القدسي ـ معجِز وبدون الواسطة "أي في كثير من الأحيان" ويُسمَّى الحديث الإلهي والرباني "فإن قُلْتَ" الأحاديث كلها كذلك، كيف وهو لا ينطق عن الهوى "قلتُ" الفرق أن القدسي مضاف إلى الله تعالى مَرْوِيٌّ عنه بخلاف غيره. وقد يُفرَّق بأن القدسي ما يتعلق بتنزيه ذاته وصفاته الجلالية والكمالية. قال الطِّيبي: القرآن هو اللفظ المنزَّل به جبريل على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ والقدسي إخبار الله بمعناه بالإلهام أو المنام، فأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله تعالى ولم يَرْوِها عنه اهـ. وللكلام على أنواع الوحي ورواية الحديث بالمعنى وشروطه تفصيلًا مجال آخر والله أعلم.(1/27)
ردٌّ على رسالة ضلالة وفتنة
حول ترتيب سور القرآن الكريم
قرأت اليوم وأنا على فراش المرض بجريدة "شيخ الصحافة" نبأ جاء فيه: أن موظفًا بوزارة العدل أصدر رسالة بعنوان "رتِّبُوا القرآن كما أنزله الله" نادى فيه بترتيبه حسب نزوله، فتكون "سورة العلق" أول السور (لقد جَهِلَ أن أول ما نَزَلَ قوله تعالى: "اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقرأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" وباقي السورة نزلت بعدُ. فكيف تكون سورة العلق كلها أول السور) ثم تَلِيهَا "سورة القلم" هكذا حتى يُخْتَتَم القرآن " بسورة النصر" وقال: وبذلك نستطيع أن نتتبع حركات ذِهْن الشارع "كذا" ونَتَفَهَّم حِكَمَه ونتخيل تصوراته "كذا" ونَدْرُس منطقه ونسير مع هَدْيِه خطوة خطوة من أول سورة أُنْزِلَت حتى آخر سورة، فتنتظم أحوالنا وأمورنا، ويستقيم منطقنا، ونعيش كما أراد الله لنا ـ نحن المسلمين ـ أن نعيش.(1/28)
هذا ما قاله هذا الكاتب الضَّالُّ الجريء الذي طَوَّعَت له نفسه أن يكتب رسالة وينشرها بين المسلمين في موضوع يجهله، دون أن يُكَلِّف نفسه مراجعة ما دَوَّنَه أئمة الحديث والسنن وعلماء التفسير والمتخصصون بدراسة علوم القرآن من مُطَوَّلات ومختصَرَات، حتى أصبح من المعروف عند علماء المسلمين أن ترتيب القرآن الذي نَقْرَؤه في المصاحف ونحفظه في الصدور ونُعَلِّمُه الناس ونرويه بالتواتر من لَدُن عهد الرسالة إلى الآن ترتيب توقيفي من الشارع، مطابق لِمَا كان يتلوه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في قراءته في الصلاة وغيرها، ولِمَا سمعه من جبريل ـ عليه السلام ـ في مَرَّاتِ عَرْضِ ما نَزَلَ من القرآن كل عام في شهر رمضان، لِيَقِفَه على هذا الترتيب المُوحَى به من الله تعالى والذي نَجِدُه الآن في المصاحف، ولِيَقِفَه على مواضع الآيات من السور، فقد كان يقول له عندما ينزل بآية أو آيات: ضع هذه الآية في موضع كذا من سورة كذا. وقد تكون السورة مكية وفي خلالها آيات مَدَنِيَّة وبالعكس، ولله تعالى حِكْمَة بالغة في ذلك.
وقد اتبع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في جَمْعِهم القرآن كتابة هذا الترتيب التوقيفي فجاء المصحف الإمام على طِبْقِه، وانعقد إجماع المسلمين على ذلك.
وقد أَفَاضَ كثير من المفسرين في بيان مناسبة الآيات بعضها لبعض ومناسبة السورة تِلْو السورة.
يقول هذا الكاتب إنه بذلك يستطيع أن يَتَتَبَّع حركات ذِهْن الشارع إلخ، ولا يدري أن الشارع هو الله تعالى وإنما يُبَلِّغ رسوله عنه ما شَرَع، وليس للشارع ذهن ولا حركات ذهن ولا تصورات وهيئة ذهنية، وكأني به بعيد كل البعد عن أَوَّلِيَّات هذا الموضوع والمصطلحات الإسلامية وما يجب لله تعالى من الكمال، وما يتنزه عنه من النقص الذي منه نسبة الذهن بمعناه المعروف إليه، تَعَالَى اللهُ عما يقول هذا الجاهل الضال علوًّا كبيرًا.(1/29)
ومن أغرب ما قاله أن ترتيب القرآن على النحو الذي يقترحه يؤدي إلى انتظام أحوالنا وأمورنا واستقامة منطقنا وعيشنا كما أراد الله أن نعيش، كأن ما نحن فيه الآن من فوضى وفساد، واختلال أحوال وانحلال أخلاق، وإلحاد في العقائد، وعيش نَكِد ممقوت، إنما مَرَدُّه إلى بقاء القرآن على ترتيبه الحالي، كَبُرَت كلمة تخرج من فِيهِ، ونعوذ بالله من جهل يُورِد صاحبه مَورد الهَلَكَة، إن ذلك كَذِب على الله وعلى رسوله وكَذِب على جميع المسلمين وباطل من القول وزُور.
وأي دخل للترتيب في ذلك، وأي علاقة بَيْنَه وبين ما نحن فيه، أو بينه وبين ما يَوَدُّ أن نكون عليه إذا استُجيب لمقتَرَحه الفاسد.
ومَن الذين يَطلُب منهم هذا الكاتب الضال ترتيب القرآن كما أُنْزِل، أهم علماء الدين أم الجهلة بالدين؟ أمَّا علماء الدين فهذا رأيهم الذي بيَّناه، وأما الجهلة بالدين فلن يجترئ منهم أحد على الخوض في هذا الباطل، ونحن له بالمرصاد، نحاربه باللسان والسنان حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
(وبعدُ) فإننا نطلب من الحكومة أن تصادر هذه الرسالة الضالة فورًا وننصح لمؤلفها أن يَدَع الاشتغال بما يجهله لمن هم أهله وأحق به، ورَحِم الله امرأ عَرَفَ قدر نفسه.(1/30)
وفي (الإتقان) للإمام السيوطي أن الإجماع مُنْعَقِد على أن ترتيب الآيات في السور توقيفي وقد نَقَلَ الإجماع عليه غير واحد، منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر في مناسباته، وعبارته: "وترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين". وعن ابن عباس فيما أخرجه عنه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم أنه سَأَلَ عثمان عن ترتيب الأنفال والتوبة، فأجابه عثمان بأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت تَنْزِل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نَزَلَ عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: "ضَعُوا هذه الآيات في السورة التي يُذْكَر فيها كذا وكذا".
وعن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت جالسًا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ شَخَصَ بِبَصَرِه ثم صَوَّبَه ثم قال: "أتاني جبريل فأَمَرَني أن أَضَعَ هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...) إلى آخر الآية".
وأخرج البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: (وَالذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) قد نسختها الآية الأخرى فلم نَكْتُبُهَا؟ قال: يا بن أخي لا أغير شيئًا منه من مكانه.
وقد ثبت أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قَرَأَ البقرة كلها وآل عمران والنساء وقَرَأَ الأعراف كلها في صلاة المغرب، وقرأ (الم تنزيل) و (هل أتى على الإنسان) في صبح يوم الجمعة، وقرأ (ق) في الخطبة، وغير ذلك من السور، فدَلَّت قراءته لها بِمَشْهَد من الصحابة على أن ترتيب الآيات توقيفي، وما كان الصحابة لِيُرَتِّبُوا ترتيبًا سَمِعُوا النبي يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر.
وقال مكي: ترتيب الآيات في السور بأمره، صلى الله عليه وسلم.(1/31)
وقال القاضي أبو بكر: ترتيب الآيات أَمْر واجب، وحُكْم لازم، فقد كان جبريل يقول ضَعُوا آية كذا في موضع كذا. وقال: الذي نَذْهَب إليه أن ترتيب القرآن ونَظْمَه الذي حَوَاه مصحف عثمان ثابت على ما نَظَمَه الله ورَتَّبَه عليه من آيٍ، لم يُقَدِّم في ذلك مُؤَخَّرًا ولا أَخَّر منه مُقَدَّمًا، وأن الأمة ضَبَطَت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آيَ كل سورة ومواضعها وعَرَفَت مواقعها كما ضَبَطَت عنه نَفْس القراءات وذات التلاوة.
وأخرج عن ابن وهب قال: سَمِعْت مالكًا يقول: إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي، صلى الله عليه وسلم.
وقال البغوي في شرح السنة: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُلَقِّن أصحابه ويعلمهم ما نَزَلَ عليه من القرآن الذي هو الآن في مَصَاحِفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تُكْتَب عَقِب آية كذا في سورة كذا، فثَبَتَ أن سَعْي الصحابة كان في جَمْعِه في مَوْضِع واحد لا في ترتيبه اهـ.
وقال ابن الحصار: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي، كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ضَعُوا آية كذا في موضع كذا، وقد حَصَل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وممَّا أَجْمَع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف اهـ.(1/32)
وهذه الأدلة وما لم نذكره من أمثالها، ومن الروايات الصحيحة، دليل على أن ترتيب السور أيضًا توقيفي من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِوَحي إليه من رب العالمين بواسطة أمين الوحي ـ عليه السلام ـ وإليه ذَهَب القاضي وابن الأنباري والكَرْماني والطِّيبي شارح البخاري والزركشي والبيهقي وابن عطية وأبو جعفر بن الزبير وأبو جعفر النحاس وابن الحصار واختاره السيوطي، قال أبو بكر بن الأنباري: فاتِّسَاقُ السور كاتِّسَاق الآيات والحروف كله عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوحي إليه من الله، تعالى، فمَن قَدَّم سورة أو أَخَرَّها فقد أفسد نَظْم القرآن وعَصَى الله ورسوله وجميع المسلمين.
ولا نحب أن نُطِيل بإيراد النصوص الكثيرة في ذلك. فما ذَهَبَ إليه هذا الكاتب الغَوِيُّ ـ وإِنْ قَصَرَه على السور ظاهرًا ـ يوجب نَزْع الآيات من سورها وتأليفها على حسب تواريخ النزول وذلك قلب لأوضاع القرآن كلها، وضلال مُبين وفتنة كبرى للإغواء والتضليل في شأن التنزيل، وإلا فماذا يصنع بالسورة المشتملة على المكي والمدني، والسابق واللاحق في النزول؟ وفي أي مكان مُعَيَّن يَضَعُها مع اشْتِمَالِها على ذلك؟ وما جَدْوَى وَضْعِها في مكان معين غير مكانها الحالي وفيها الآيات المختلفة نزولًا؟ وبأي ضابط أو قانون يَضَع الترتيب الذي يريده ويَوَدُّ أن يكون عليه كتاب رب العالمين؟ والله أعلم بسر ترتيبه وحكمه وتنسيقه. والله أعلم. وقد كان جبريل، عليه السلام، يَسْمَع قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآنَ الكريم في شهر رمضان كل عام بهذا الترتيب المُجْمَع عليه والمأمور به قراءة وكتابة ورواية.(1/33)
اتِّبَاع الهَوَى مَضَلَّة واتباع الحق هداية
ونعني باتباع الهوى الانقياد إلى ما تهوى الأنفس وتَنزِع إليه من الشهوات دون التفات إلى ما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحق المبين والنهْج القويم.
وللإنسان بطبيعته أهواء ونزعات، وميول وإرادات. فإذا خَضَع لها وجَرَى وراءها، واتخذها إلهًا معبودًا وغرضًا مقصودًا، ولم يَقِف عند ما حَدَّد الشارع العليم والحكيم من حدود، ضرب في بيداء الضلال، واستحق من الله العقوبة والنكال.
وقد ذم الله اتباع الهوى ونهى عنه فقال: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) فجعل، سبحانه، أمر الناس دائرًا بين الاستجابة إلى ما دَعَا إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِن الهُدَى والحق، وبَيْن اتباع الأهواء والنزعات بغير هُدًى من الله، ووَصَف عبّاد الهوى بالإغراق في الضلال وأَنْذرهم بشديد النَّكال.
وقال تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ) فأَمر خليفته داود ـ عليه السلام ـ باتباع الحق في قَضَائِه، ونَهاه عن اتباع الباطل فيه وأنذر الذين يضلون عن سبيل الله بالعذاب الشديد.(1/34)
وقال، تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ) فأمره باتباع الشريعة التي جَعَلَه الله عليها، وأوحى إليه بها وأمر باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الجاهلين، وذمهم أبلغ الذم إذ جعلهم من الظالمين، الذين تولى بعضهم بعضًا بالإغواء والإضلال.
إن الهوى رَدِيف الباطل، والهدى رَدِيف الحق، والحق الأمر الثابت الذي لا يَزُول ولا يتحول، والباطل هو الأمر الذي لا ثَبَات له ولا استقرار، والحق هو الهدى الذي أمر الله ورسوله به، وجاءت الشريعة المُطَهَّرة دَاعية إليه.
والباطل هو الهوى الذي نَهَى الله ورسوله عنه، وجاءَت الشريعة مُبَغِّضَة فيه منذرة بالعقاب الشديد مُبتغِيَه، وليس بعد الحق إلا الضلال، فالضلال والباطل والهوى أسماء لِمَعانٍ متقاربة يجمعها الانحراف عن طاعة الله، تعالى، وطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالضالون قد أعماهم الهوى عن الحق وتاهوا في بيداء الغواية عن السبيل المستقيم فكانوا من الهَلْكَى.
والمبطلون قد عَصَوا الله ورسوله من بعد ما تبيَّن له الحق، ووضحت أعلامه وقامت دلائله فكانوا من الهَلْكَى.
وأتباع الهوى قد استدبروا الحق وانقادوا للنَّزَوَات وأرخَوْا لأنفسهم العِنان فجَرَت على غير هُدًى في مَرَاتِع الشهوات فكانوا من الهَلْكَى الذائقين العذاب الأليم.(1/35)
أما أهل الحق الناجون فهم الذين أطاعوا الله ورسوله وعَصَوا الهوى وامتثلوا قوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) وقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
فآية الإيمان طاعة الله تعالى فيما أَمَرَ به ونَهَى عنه في كتابه المُبِين وطاعة الرسول فيما جاء به عن ربه، وقد أُوتِيَ الكتابَ ومِثْلَه معه، فلا يَنْطِق أبدًا عن الهوى، ولا يُشَرِّع في الدين إلا بِوَحي سماوي، أو باجتهاد يُقَرُّ عليه، فسُنَّتُه دليل شَرْعي مُسْتَقِل واجب الاتباع، وطاعته فرض فيما أمر به ونهى عنه من غير حاجة إلى عَرْضه على الكتاب، وإلى ذلك الإشارة بتكرير الفعل في قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) كما ذَكَرَه الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين.
أما طاعة أولي الأمر فقد أَمَرَ بها في ضِمْن طاعة الرسول ولذلك لم يُكَرِّر الفعل بل قال تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) إيذانًا بأنهم إنما يطاعون تَبَعًا لطاعته، فمن أَمَرَ منهم بما فيه طاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أَمَرَ بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لا طاعة لمخلوق قي معصية الخالق" وقال: "إنما الطاعة في المعروف".(1/36)
وقد أَمَرَ الله المؤمنين عند التنازع في أَمْر بالاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله، وجعل الرد إليهما من لوازم الإيمان والاحتكام إلى غيرهما احتكامًا إلى الطاغوت، والطاغوت ما تجاوز به العبد حَدَّه من معبود أو متبوع أو مُطاع، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا).
وفي الرد إلى كتاب الله، تعالى، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عصمة من الزلل وأَمْنٌ من خَطَرات الهوى ووساوس النفس ودسائس الشيطان ونجاة من جريرة العصيان.
ومَن سَبَرَ سَيْر الفرق التي دَعَتْ إلى غير الحق في العقائد "كفرقة القاديانية والبهائية والإسماعيلية الباطنية" عرف أنهم ما أُتُوا إلا من قِبَل اتباع الهوى وزيغ القلوب والجري وراء الشهوات والإعراض عن طاعة الله وطاعة رسوله وإيثار هوى النفوس على هَدْي القرآن والسنة.(1/37)
اتبعوا الهوى ولَجُّوا في الضلال والعناد لبواعث وأغراض وفتن وغوايات، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فأنكروا المعروف، ورفعوا رأسًا بالمنكر، وسلكوا غير سبيل المؤمنين، وأضلوا أتباعًا جُهَّالًا يَتَّبِعُون كل ناعق ويَهِيمُون في كل وادٍ، فباؤوا بكِفْلَيْنِ من العذاب.
أما أهل الحق وهُم أهل السنة والجماعة فَهُم الذين آثروا هُدى الله والرسول على هوى أنفسهم وأطاعوا فيما أُمِروا به ونُهُوا عنه ورَدُّوا الأمر إلى كتاب الله، تعالى، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووَقَفُوا عند حدودهما فَنَجَوا من الضلال والنَّكال.
وإنه لواجب حَتْم على المؤمن أن يَلْتَمِس لكل نَازِلة حُكْمَ الله ورسوله فيها، إمَّا بالبحث والاستقصاء والاجتهاد في مَوَارِد الشريعة إن تَهَيَّأَت له الأسباب، وإما بالرجوع لأهل الذكر كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فإذا هُدِيَ إليه وَقَفَ عنده ولم يتعد حَدَّه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وفاز بالرضا والنعيم المقيم (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).(1/38)
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين والمرسلين
(السؤال) جاء في الحديث: "إنه لا نَبِيَّ بَعْدِي" فَهَل في القرآن أيضًا دليل على ذلك؟
(الجواب): حَسْبُك ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "كانت بنو إسرائيل تَسُوسُهم الأنبياء، كُلَّما هَلَك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي".
وما روى أحمد والترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أنس مرفوعًا: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي".
فقد ختم الله تعالى رسالاته للأمم التي أَوحَى بها إلى رسله السابقين برسالة الإسلام وختم رُسُلَه الأكرمين وأنبياءه المختارين برسوله ونبيه محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) وقد سَمَّاه الله في القرآن رسولًا ونبيًّا فقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) وقال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وقال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) وقال تعالى: (اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) وقال تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقال تعالى: (يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وقال تعالى: (يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) وقال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) وقال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) وقال تعالى: (الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ) فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول ونبي وخاتم المرسلين والنبيين بنص القرآن والحديث الصحيح.(1/39)
فمن يَزعُم أن هناك نبيًّا بعثه الله، تعالى، للناس بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كطائفة القاديانية والبهائية وأشباههم من الفِرَق الضالة فقد أنكر صريح القرآن وخرج بذلك عن الإسلام ولا خلاف في ذلك بين المسلمين. وكونه رسولًا وخاتم النبيين من المعلوم من الدين بالضرورة وهو نص القرآن الكريم، فزعْمُ خلافِه كُفْر وزندقة وإلحاد وضلال مُبِين، والله أعلم.(1/40)
وجوب توقير القرآن الكريم وتعظيمه
وَرَدَ إلينا سؤال من سائل (بأشمون) يُعْرَف مضمونه من الإجابة عنه فنقول:
لا مِرْيَة في وجوب توقير القرآن الكريم وتعظيمه قولًا وفعلًا. ومِن ذلك ألا تُتَّخَذ آياته هُزُوًا، وأن تُصَان عن الذكر في مواضع التَّنَدُّر والهَزْل والتَّبَذُّل، وكيف يُقْدِم مسلم على ذلك وهو يعلم أن القرآن كلام الله تعالى أَوْحَى به إلى رسوله الكريم، وأن الذين يُلْحِدون في آياته، ويتخذونها هزوًا لهم عذاب عظيم، وقد يكون ذلك كُفرًا والعياذ بالله. ومن الرِّدَّة عن الإسلام عياذًا بالله تفضيل غير المسلم على المسلم من حيث دِينُه، واحتقار دين الإسلام من حيث هو دين، وقول المسلم عن نفسه إنه قد تَنَصَّر أو نصراني، ويَجِب على من صَدَر ذلك منه أن يُبادر بالتوبة إلى الله: (وَهُوَ الذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)
ولِيَحْذَر أن تأخذه العزة بالإثم، ويَحْمِله العناد على التمادي في الباطل، فإنَّ أَمْرَ الدين والحلال والحرام يجب أن يكون بمَنْأًى عن كل ذلك (فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) والله أعلم.(1/41)
وجوب تعظيم المصحف وآيات القرآن الكريم
(السؤال): ما حكم من دخل "بيت الخلاء" وبجيبه المصحف الشريف ناسيًا، ولم يتذكر إلا وهو في حالة قضاء الحاجة، وقد تَكَرَّرَت هذه الحالة على غير عِلْم منه؟
(الجواب): تعظيم المصحف الشريف مُجْمَع عليه، ومن تعظيمه ألاّ يَمَسَّه مُحدِث ولا حائض ولا نُفَسَاء. وألاّ يُنْقَلَ إلى دار الحرب في الغزو، وألاّ يُوضَعَ في مكان ممتَهَن.
ومن تعظيمه ألاّ يدخل به إنسان موضع الخلاء وهو موضع القاذورات والنجاسات. ولا جُنَاح على من دخل به الموضع ناسيًا لحديث: " رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهوا عليه" فإذا كان كثير النسيان يَنْبَغي بل يجب عليه ألاّ يَحْمِلَ في جيبه المصحف حتى لا يَقَع منه إخلال بتعظيمه وحُرْمَته.
وفي فتح القدير: "ولو كانت رُقْيَة في غُلَاف مُتجافٍ لم يُكْرَه دخول الخلاء بها والاحتراز عن مثله أفضل" ونَقَلَه صاحِبَا البحر والدر وأقَرَّاه. والمراد بالرُّقْيَة كما ذكره النابلسي ما اشتملت على الآيات القرآنية، ومفهومه أنها لو كانت في غلاف مُتَّصِل به فَيُكْره بالأولى الدخول بها في هذا الموضع. وقد ذكر الشرنبلالي أنه يُكْرَه الدخول للخلاء ومعه شيء مَكتُوب فيه اسم الله تعالى أو قرآن أو شيء من آياته الكريمة. اهـ.
ومن هذا يُعلم عدم جواز دخول الخلاء بالحجب المشتملة على آيات قرآنية والمغلفة بالقماش أو الجلد على وجه الاتصال، والله أعلم.(1/42)
حُرْمَة دَفن المصحف مع الميت
(السؤال): هل يُباح شرعًا وضع المصحف الكريم مع الميت عند دفنه؟
(الجواب): أَجْمَع المسلمون على وجوب تعظيم المصحف واحترامه وتوقيره وصيانته من كل دنس وقَذَر، حتى حكم الفقهاء بكفر من ألقى به في القاذورات، ونَصُّوا على حرمة وضعه في الأماكن المهينة، وحرمة كتابته بمادة نَجِسَة، وحرمة السفر به وقت الحرب إلى أرض العدو إذا خيف وقوعه في أيديهم وامتهانهم له، وعلى حُرْمَة اتخاذه كوسادة للنوم، أو للاتكاء عليه، وعلى حرمة الدخول به في بيت الخلاء، كما أَفْتَى بذلك الإمام أبو عمرو بن الصلاح.
ومن تعظيمه تحريم مَسِّه على الحائض والنفساء والجنب والمُحدِث لقوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ) على القول بأن الضمير في قوله "لا يَمَسُّه" عائد إلى القرآن، ويؤيده ما رواه حكيم بن حزام أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تَمَسَّ القرآن إلا وأنت طاهر".
وقال الإمام النووي الشافعي: يَحْرُم على المُحدِث مَسُّ المصحف وحمْله سواء حَمَلَه بعلاقة أو في كمه أو على رأسه، وسواء مَسَّ نفْس الأسطر أو ما بَيْنَها أو الحواشي أو الجِلْد فكل ذلك حرام اهـ.
ولا شُبهة في أن جسم الميت يَتَحَلَّل منه بعد الدفن قَيْحٌ وصديد وسوائل نَجِسَة ويُصْبِح جيفة قذرة، فإذا وضع المصحف معه تَلْحَقُهُ لا محالة هذه النجاسات وذلك محرم شرعًا.
وفي حاشية الدر قبيل باب الشهيد أن ابن الصلاح أفتى بأنه لا يجوز أن يُكتَبَ على الكفن يس والكهف ونحوهما خوفًا من صديد الميت. ثم قال: إنه لا يجوز تعريض الأسماء المعظمة للنجاسة اهـ.
ونُقِلَ عن الفتح أنه تُكره كتابة القرآن وأسماء الله تعالى على الدراهم وما يُفْرَش، وما ذاك إلا لاحترام كتاب الله وخشية وَطْئِه ونحوه مما فيه إهانة، فالمنع هنا، أي من الكتابة على الكفن، ثابت بالأولى اهـ.
وكذلك وضع المصحف في القبر مما يُعرِّضه للنجاسة لا محالة. والله أعلم.(1/43)
آداب تلاوة القرآن وسماعه
(قد أَفْرَدْنَا هذا المبحث في رسالة خاصة مُسهَبة فراجعها)
قال تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) يُلْقُون إليها الأسماع في إصغاء وخشوع، وأدب وخضوع، وصَمت وادِّكار، وتفكر واعتبار، مؤمنين بأن ما يسمعونه هو كلام رب العالمين، نَزَلَ به الروح الأمين على سيد المرسلين، فوعاه قلبه، ونَطَق به لسانه، وبلغه إلى أمته أداء للأمانة، وإبلاغًا للرسالة، فرقانًا بين الحق والباطل، هاديًا إلى سبيل الرشاد، مبشرًا بالوعد الصادق من أَذْعَن له وأطاع في العباد، منذرًا بالوعيد العدل من تَمَرَّد عليه وعصى، مذكرًا بأيام الله وما خلا من قرون، ومضى من شؤون، ذاكرًا ما أعد الله للمتقين من جنات وعيون ونعيم مقيم، وما أعد للكافرين من نار موقدة وعذاب دائم أليم.
فترى المؤمنين حقًّا عند تلاوته وسماعه قد خَفَتَت أصواتهم لرهبته وخَشَعَت قلوبهم لخشيته، وذَرَفَت عيونهم من مَخَافَته، وأَقْبلوا على رَبِّهم تائبين، ومن ذُنُوبهم مستغفرين، وفي رضاه طامعين، ومن غضبه وَجِلِين.(1/44)
ذلك كان شأن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والصدر الأول من المسلمين عند سماع القرآن وتلاوته، وذلك ما تشير إليه آية (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) حيث وَصَفَت المؤمنين بأنهم إذا ذُكِرَ الله بصفات الجلال، وأنه القاهر فوق عباده المنفرد بالقدرة والسلطان والقوة والجبروت، وَجِلَت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته، وفَقِهوا ما في ثناياها من مَعَانٍ وأحكام، وبشارة ونذارة، ووعد ووعيد، وعِظَات وأمثال، قَوِيَ يقينهم بالله، وأَقْبلوا على ما فيه رضاه، وأعرضوا عما يُسْخِطُه ولا يَرْضَاه. كما يشير إليه قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فإن الأمر بالاستماع والإنصات عند قراءته في الصلاة وخارج الصلاة أمر صريح، وقد جعله الله مَناط الرحمة ليُعْلَم أن اللغو عند قراءته والتصدية والمكاء والجلبة والضوضاء من موانع الرحمة، ونعوذ بالله ممن يضل سعيه فيَحُول بعمله بين نفسه ورحمة ربه.
فأين نحن الآن من أسلافنا، وهم القدوة في الهدى، وقد اتخذ بعض القراء القرآن أغاني، فالقارئ يَفْتَنُّ في النغم والتلحين ويخرج به عن سَنَن الترتيل وقواعد التجويد، ويعيد الآية عند استحسان السامعين للنغمة وطلبهم الإعادة، والسامع يَسْتَخِفُّه الطرب لا من معاني القرآن، بل من حسن التوقيع وموسيقى الشيطان وأَفَانِين الألحان، وطلب الإعادة منه وغير ذلك مما يستحي المؤمن الوقور من ذِكْره، وكثيرًا ما يكون ذلك في بيوت الله التي شرفها الله تعالى بإضافتها إليه، وجعل لها حُرْمَة وللدخول فيها والمُكْث بها آدابًا وسننًا.(1/45)
وكيف نرجو الثواب ونقصِد التعبد بالقراءة والسماع، والأمر على ما وصفنا من حركات طائشة وأقوال مرذولة، وصياح وضوضاء واستحسان للنغمات الغنائية وإغراء بالمزيد منها، وطلب إعادة للآية لحسن التوقيع، وانتهاك لحرمة المساجد، وتجاوز في القراءة للحدود المرسومة المروية عن القدوة وأئمة الهدى؟
وأين الخشية من الله، والخوف عند تلاوة آية العذاب الذي تَنْخَلع من هَوْله القلوب، والرهبة من آية الوعيد الذي يَشُقُّ المَرَائِر؟ وأين الخشوع والتفكر؟ وأين التوبة والاستغفار من الذنوب عند التذكر؟
إن من القُرَّاء والحمد لله مُجِيدين، وأتقياء صالحين، يَجِب الاقتداء بهم والتأدب بآدابهم، وفي السامعين من يُحْسِن الاستماع ويتأدب بآدابه، وخاصة في بعض الرِّيف ولكن من القراء والسامعين من يجب أن يُؤَدَّب ويُزْجَر عن مُقَارَفَةِ هذا المنكر.
وعلى العلماء والوعاظ أن يُعْنَوْا ببيان آداب القرآن تلاوة وسماعًا للعامة في الدروس وفي المساجد وغيرها، وبيان ما لبيوت الله تعالى من حُرمة وآداب.
وعلى مشيخة القراء في مصر أن تراقب القراء المستهترين الذين لا يُجِيدون فن القراءة ويخرجون عن حدود التجويد المرسومة، ثم تذيع رأيها فيهم للمراجع الرسمية حتى يصان القرآن ويتأدب الناس بآداب تلاوته وسماعه، وتتوافر للمساجد حرماتها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله لا يضيع أجر المحسنين.(1/46)
حرمة تَلْحِين القرآن بالألحان الموسيقية
كتب الأستاذ السيد علي الغاياتي ـ رحمه الله ـ في المنبر مقالًا قيمًا تحت عنوان: أين الإسلام والمسلمون؟ جاء فيه:
"وكأن هذا الانحراف والفساد لم يَكْفِ طلاب الفوضى الأخلاقية ودعاة الإباحية والتجريد فقام بعضهم في هذه الأيام بِشَنِّ حَمْلة أليمة على كتاب الله العزيز، إنهم يريدون تَلْحِين القرآن الكريم كما تُلَحَّن الأغاني أو الصلوات عند غير المسلمين، وهو إثم عظيم يَدُلُّ على الجهل المطبق بأصول الدين وأحكام القرآن المجيد.
ومن الأسف أن "بعض العلماء" قد سُئِلَ في ذلك فلم يُجِبْ جوابًا قاطعًا وهذا التردد يشجع أنصار هذه الحملة المنكرة، وإباحة التلحين بشرط أو بغير شرط أمر يجب رفضه بتاتًا سدًّا للباب في وجوه الجاهلين والعابثين.
وقد عرضنا المسألة على فضيلة المفتي الأكبر السابق الشيخ حسنين محمد مخلوف، وهو من هو، فأملى علينا الرد الآتي بالتليفون قال، حفظه الله:
هذا الموضوع خطير، والبحوث المتعلقة به واسِعة الأطراف دقيقة المسلك يعرفها من تَخَصَّص لدراستها، ولا يُحْسِن القول فيها من ليس له إلمام بها، ومن لم يمارس من أمرها شيئًا. ولا بأس أن نُجْمِل القول في ذلك تاركين التفصيل فيه إلى مجال آخر، فنقول:
القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، نَزَلَ به الروح الأمين على سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرَوَاه عنه كما أُنْزِلَ لفظًا وتلاوة، وقرأه على أصحابه جميعًا في الصلاة وغيرها وكرره وأعاده، وروي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتواتر القاطع، واستمرت الرواية للقرآن لفظًا وتلاوة في كل العصور إلى وقتنا هذا بالتواتر القاطع، وكان ذلك مِن حفْظ الله للقرآن من التحريف والتبديل كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).(1/47)
وقد أجمع المسلمون في كل العصور على أن القراءات التي يُتلَى بها القرآن مروية عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعضها مروي بالتواتر القاطع.
وقد استنبط الأئمة من التلاوة المروية أحكامًا ضابطة لها، فضبطوا المد والغَنّ والوقف والإدغام والإشمام والتسهيل، وسائر الأحكام لِيُتْلَى القرآن دائمًا بالكيفية المروية عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك نَوْع آخر من حِفْظ القرآن الكريم.
وسَمُّوا الفن الجامع لذلك (علم التجويد) وأجمعوا على أن تلاوة القرآن بغير التجويد على النحو المروي والخروج بتلاوته عنه إثم عظيم.
ولهذا العلم أئمة ورواة لا يزال الخَلَف منهم ينقلونه عن السَّلَف، ويُعلِّمون الناس كيفية التلاوة طبقًا لأحكامه إلى الآن، والحمد لله.
ولا يجوز أن يُتلَقَّى علم القراءة عمن يجهل هذه الأحكام ولا يعرف من أمرها شيئًا.
إذا تَقَرَّر هذا فموضوع التلحين الذي أثاره بعض الناس الآن بغير داعٍ له ولا مُوجِبَ إذا أرادوا منه إيقاع التلاوة على الوَجْه المشروع الذي يُتلَى به القرآن الآن من وقت أن أُنزِلَ فليس ذلك بجديد، ولا نظن أنهم يريدون ذلك وإلا كانوا عابثين. وإن أرادوا به تلحين القرآن بالألحان الموسيقية التي تُلَحَّن بها الأغاني والمواويل طبقًا للقواعد الموسيقية، أو أرادوا الترنم به على نحو الترنم الكَنَسي تاركين قراءته على النحو المشروع الذي بَيَّنَّاه، فهذا أمر لا يجوز للمسلمين الإقدام عليه، ومَن أَجَازَه يَرْتَكب أعظم الإثم، ويُدْفَع في صدره بكل قوة. ولا يجوز أن يدخل في أمر التلاوة من يجهل أصولها وأحكامها.
(وبعد) فما هو السر في إثارة هذا الموضوع الآن، وما هي المصلحة التي تعود على المسلمين من تطبيق الأنغام الموسيقية على كلام الله تعالى؟
وما هي المفسدة التي بَدَت في بقاء التلاوة على الكيفية التي أجمع عليها المسلمون؟(1/48)
وما مدى معرفة الذين أثاروا هذا البحث لعلوم القرآن وأحكام تلاوته، والكتب المؤلفة في ذلك، وأقوال الأئمة فيها من الصدر الأول إلى الآن؟
وكيف استباحوا لأنفسهم أن يخوضوا فيما لا علم لهم به؟
وأخيرًا ننصح لهؤلاء الكاتبين أن يَدَعُوا ما لا يعرفون إلى ما يحسنون القول فيه (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) والله أعلم.(1/49)
وصول ثواب قراءة الفاتحة وبعض سور القرآن للموتى
(السؤال): هل ورد في الشريعة ما يفيد وصول ثواب قراءة الفاتحة للميت أو للحي؟
(الجواب): اعلم أن مذهب الحنفية وصول ثواب قراءة القرآن إلى الميت بل وإلى الحي، كما نص عليه في الهداية والبدائع والبَحْر وغيرها، وقد أطال صاحب الفتح في بيانه.
وكذلك مذهب الشافعية كما في المنهاج، ففيه أن المختار وصول ثواب القراءة إلى الميت إذا سأل القارئ ذلك من الله تعالى وينبغي الجزم به؛ لأنه دعاء فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعي فيجوز بالأولى بما هو له، ويبقى الأمر موقوفًا على استجابة الدعاء اهـ.
ونَقَلَ ابن أبي زيد في الرسالة عن ابن فرحون من أئمة المالكية، أن الراجح ما عليه المتأخرون من وصول ثواب القراءة إلى الميت.
وقال ابن رشد: إن مَحَلَّ الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين من المالكية ما لم تخرج القراءة مَخْرَج الدعاء بأن يَقُول القارئ قَبْل قراءته: اللهم اجعل ثواب ما أَقْرَؤه لفلان. فإذا خرجت مخرج الدعاء كان الثواب لفلان قولًا واحدًا وجاز من غير خلاف اهـ.
وذكر ابن قُدَامَة في المغني وهو من فقهاء الحنابلة، أن الميت ينتفع بسائر القربات، ومنها قراءة القرآن، وأن أَيَّة قُرْبَة فَعَلَها الإنسان وجَعَلَ ثوابها للميت المسلم نَفَعَه ذلك بإذن الله تعالى.
وقال ابن تيمية، وهو أيضًا من أئمة الحنابلة: إن الميت ينتفع بجميع العبادات البدنية من صلاة، وصوم، وقراءة قرآن، كما ينتفع بالعبادات المالية وغيرها من صدقة ودعاء واستغفار اهـ.
وقال تلميذه الإمام ابن القيم: أفضل ما يُهدَى إلى الميت الصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه، وأما قراءة القرآن وإهداء الثواب إليه تطوعًا بغير أجر، فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج اهـ.(1/50)
وقد روى ابن قدامة عن مَعقِل بن يَسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا يس على موتاكم" رواه أبو داود. وقال الشوكاني في نَيْل الأوطار: رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وابن حبان وصححه وأَعَلَّه القطان. وضعف إسناده الدارقطني وحَمَلَه ابن حبان على من حضرته وفاة مجازًا لا على الميت حقيقة ورده المحب الطبري. والحق وصول ثواب ذلك كله للميت.
وغاية ما قيل في هذا الحديث إنه ضعيف الإسناد، وهو مما يُعمَلُ به في مثل هذا المقام.
(وقد بَيَّنِّا هذا البحث بيانًا شافيًا في فَتْوَانا الصادرة في 14أغسطس سنة: 1947م، والمُسَجَّلة بدار الإفتاء تحت رقم: 377، والمطبوعة في 13من شوال سنة 1366هـ 29من أغسطس سنة 1947م مع تعليقات هامة وأسانيد شرعية وقلنا فيها: ولا بُعْدَ في إهداء الثواب للميت بل للحي أن يسأل القارئ ربه تعالى أن يجعل ثواب ما فعله من الطاعات لذلك الغير؛ لأن الذي يَملِك ثواب المؤمن وجزاءه هو الله تعالى وحده، والذي رتب الجزاء على الفعل هو الله وحده، والذي قدره ويضاعفه إن شاء هو الله وحده، فله أن يمنح الثواب للفاعل، وله أن يمنحه لمن جعله الفاعل له، فضلًا منه ورحمة ولا معقب لحكمه. والمجعول له قد أَهَّلَ نفسه لهذه المنحة بإيمانه وتصديقه وإقراره بالعبودية لله، فكان في المعنى ساعيًا في هذا الفضل الذي جعل ثوابه إليه والله أعلم).
وإذا شئت المزيد فارجع إلى هذه الفتوى، وقد طُبِعَت طبعة أُخْرَى بزيادات هامَّة والله الموفق.(1/51)
هبة ثواب القراءة للميت
(السؤال): ما حُكْم قراءة القرآن الكريم وهِبَة ثوابها للميت؟
وما حكم إعطاء الصدقة للفقير وهبة ثَوَابِها للميت؟
وهل ذلك يَخْتَصُّ بيوم العيد أو في سائر أيام السنة؟
(الجواب): قال ابن تيمية من أئمة الحنابلة: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة وغيرها. وقال ابن القيم في كتاب الروح: أفضل ما يُهْدَى إلى الميت الصدقة والاستغفار، والدعاء له والحج عنه، وأما قراءة القرآن وإهداؤها إليه تطوعًا من غير أجر، فهذا يصل إليه، كما يَصِلُ إليه ثواب الصوم والحج. وقال في موضع آخر من كتابه: والأَوْلَى أن يَنْوِيَ عند الفعل أنها للميت ولا يشترط التلفظ بذلك اهـ.
وذهب الحنفية إلى أن كل من أتى بعبادة سواء أكانت صدقة أو قراءة قرآن، أو غير ذلك من أنواع البر، له جَعْلُ ثوابها لغيره، ويَصِل ثوابها إليه وفي "فتح القدير": روي عن علي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "مَن مَرَّ على المقابر وقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة ثم وَهَبَ أَجْرَها للأموات أُعْطِيَ من الأجر بعدد الأموات".
وعن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل فقال السائل: "يا رسول الله إنا نتصدق عن موتانا ونَحُج عنهم وندعو لهم، هل يَصِل ذلك إليهم؟ قال: نعم إنه ليصل إليهم، وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أُهدِيَ إليه" اهـ.
ومذهب الشافعية أن الصدقة يَصِل ثوابها إلى الميت باتفاق، وأما القراءة فالمختار كما في شرح المنهاج وصول ثوابها إلى الميت وينبغي الجزم به؛ لأنه دعاء.
ومذهب المالكية أنه لا خِلَاف في وصول ثواب الصدقة إلى الميت، واختُلف في جواز القراءة للميت، فأصل المذهب كراهتها، وذهب المتأخرون إلى جَوَازها، وهو الذي جَرَى عليه العمل، فيَصِل ثوابها إلى الميت، ونَقَل ابن فرحون أنه الراجح ومذهب الحنفية وصول ثوابها إلى الميت.(1/52)
ومن هذا يُعلَمُ الجواب عن السؤال وأن كل ذلك ليس مُخْتَصًّا بوقت مُعَيَّن بل يوم العيد كغيره من سائر الأيام، والله أعلم.(1/53)
حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن
في المذاهب الأربعة
(السؤال): رجل من حَمَلَة القرآن الكريم يقرؤه بأجرة وهو في حاجة إلى ذلك لمعيشته فهل يحل له أخذ الأجرة على القراءة، كما يَحِلُّ أخذها على تعليم القرآن؟
(الجواب): ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يَجُوز أخذ الأجرة على فعل القُرَب والطاعات كالصلاة والصوم، ومنها تعليم القرآن وقراءته، ولكن المتأخرين من فقهاء الحنفية استثنوا من ذلك أشياء منها تعليم القرآن، فأفْتَوا بجواز أخذ الأجرة عليه استحسانًا خشية ضياع القرآن إذا لم يُعْطَ المعلمون أجرًا على تعليمه، إذ الغالب حينئذ أن ينصرفوا عن القيام به.
وبقي حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن على ما تَقَرَّر في أصل المذهب من عدم الجواز لعدم تَحَقُّق هذه الضرورة فيه.
قال الخير الرملي في حاشيته على البحر في كتاب الوقف: المفتَى به جواز الأخذ استحسانًا (أي للضرورة) على تعليم القرآن لا على القراءة المُجَرَّدة كما في التتارخانية، حيث قال فيمن أوصى لقارئ القرآن على قبره بكذا: لا معنى لهذه الوصية ولصلة القارئ بقراءته؛ لأن هذا بمنزلة الأجرة. والإجارة في ذلك باطلة وهي بدعة ولم يفعلها أحد من الخلفاء. وقد ذكرنا مسألة تعليم القرآن على الاستحسان اهـ. وقال تاج الشريعة: إن القراءة بالأجرة لا يستحق الثواب عليها لا للميت ولا للقارئ. وقال العَيْنِي في شرح الهداية: ويمنع القارئ للدنيا، والآخذ والمعطي آثمان اهـ.
وذهب أحمد "كما ذكره ابن قدامة" إلى أن مِمَّا لا يجوز أخذ الأجرة عليه القُرَبَ التي يختص فاعلها بكونه من أهل القُربة، يعني أنه يشترط كونه مسلمًا كالإمامة والأذان والحج وتعليم القرآن. واستدل على ذلك بأحاديث منها حديث عبد الرحمن بن شبل الأنصاري، قال: سمعت(1/54)
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "اقرؤوا القرآن ولا تَغلُوا فيه ولا تَجْفُوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به". رواه أحمد في مسنده والأثرم في سننه اهـ. مُلَخَّصًا من المغني. وقراءة القرآن من هذا الباب كما هو ظاهر فلا يجوز أخذ الأجرة عليها. كما لا يجوز على تعليمه.
والقول بعدم جواز أخذ الأجرة على التعليم هو الذي نَصَّ عليه أحمد وبه قال عطاء والضحاك والزهري. وعنه رواية أخرى حكاها أبو الخطاب، أنه يجوز أخذ الأجرة عليه كما أفتى به المتأخرون من الحنفية.
وممن ذهب إلى جوازه مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأبو قلابة كما في المغني وابن سيرين والحكم بن عيينة كما في المُحَلَّى لابن حزم.
وذهب المالكية إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على ما لا يقبل النيابة من المطلوبات شرعًا كالصلاة والصوم، بخلاف ما يَقْبَلُها فيجوز أخذ الأجرة عليه، ومنه تعليم القرآن وقراءته، ففي مُخْتَصَر خليل وشرحه: "وجازت إجارة على تعليم القرآن كله أو بعض منه مُعَيَّن".
وفي حاشية البناني عليه عند قول خليل: "ولا مُتَعَيَّن كركعتي الفجر" أي ولا يجوز الإجارة على أمر مطلوب من كل شخص بعينه كركعتي الفجر ما نصه: لكن ليس مرادهم بذلك كل مندوب بل كان ما لا يقبل النيابة كالصلاة والصوم، وأما غيرهما من سائر المندوبات كقراءة القرآن وسائر الأذكار فتجوز الإجارة عليها. قال ابن فرحون في شرح ابن الحاجب: هذا حُكم الصلاة والصوم الواجب في ذلك والمندوب، وأمَّا قراءة القرآن فالإجارة عليها مَبْنِية على وصول ثواب القراءة إلى الميت، ثم استدل على أن الراجح وصول ذلك إليه بكلام ابن رشد وغيره. اهـ. وقد أوضحنا ذلك ورَجَّحْنَاه في فتوى سابقة بما لا مزيد عليه.(1/55)
وذهب الشافعية كما في شرح المنهاج وحواشيه إلى أن الإجارة لا تصح لفعل عبادة تجب فيها النية بحيث يتوقف أصل حصولها عليها، كالصلاة والإمامة وتَصِح لِمَا ليس كذلك كالأذان، والإقامة، والخطبة، وتعليم القرآن، وقراءته ويصح الاستئجار لقراءة القرآن في صور:
القراءة عند القبر للانتفاع بنزول الرحمة حيث يُقرأ القرآن ويكون الميت كالحي الحاضر في الانتفاع به سواء أَعَقَّب القراءة بالدعاء للميت أو جعل ثواب قراءته له أو لا فتعود منفعة القراءة للميت في كل ذلك.
القراءة في غير المقبرة مع الدعاء عقبها بحصول الثواب للميت؛ لأن الدعاء بعدها أقرب إجابة وأكثر بركة.
القراءة بحضور المستأجر أو نحو ولده.
القراءة في غيبة المستأجر مع ذكره في القلب حالة القراءة ولو في أولها؛ لأن تذكره سبب لشمول الرحمة له إذا تنزلت على قلب القارئ.
وتصح الإجارة لمطلق القراءة مع نِية الثواب للميت على ما صَحَّحه بعض المفتين واختاره ابن السُّبْكي وصاحب الرَّوض وهي من صالح العمل.
وذهب ابن حزم كما في المُحَلَّى إلى أنه لا تجوز الإجارة على كل واجب تَعَيَّن على المرء من صوم أو صلاة أو حج أو فتيا أو غير ذلك؛ لأن الطاعة المفترضة لابد من عملها. فأخذ الأجرة عليها لا وجه له فهو من أكل أموال الناس بالباطل. وأما ما ليس كذلك فتجوز الإجارة عليه مثل أن يحج عنه تطوعًا أو يصلي عنه تطوعًا أو يُؤَذِّن عنه تطوعًا أو يصوم عنه تطوعًا؛ لأن كل ذلك ليس واجبًا على أحدهما ولا عليهما، فالعامل يعمله عن غيره لا عن نفسه فلم يُطِعْ ولم يَعْصِ. والمستأجر أنفق ماله في ذلك تطوعًا لله تعالى فله أجر ما اكتسب بماله ومن ذلك تعليم القرآن وقراءته فتجوز الإجارة عليهما اهـ. ملخصًا (من ص 191وما بعدها جـ:8).
خلاصة المذاهب
وخلاصة المذاهب
(1) جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن عند مالك والشافعي وأحمد في رواية وابن حزم ومتأخِّرِي الحنفية.(1/56)
(2) وجواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن عند مالك والشافعي وابن حَزْم خلافًا للحنفية والحنابلة.
الأدلة:
وَرَدَت في هذا الباب أحاديث بعضها يدل على الجواز وبعضها يدل على المنع، وكان ذلك مثار الخلاف بين الفقهاء في الحكم.
فذهب الجمهور إلى الجواز واستدلوا كما في نَيْل الأوطار والمحلى وغيرهما من المعتبرات.
(1) بحديث ابن عباس: "إن نفرًا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرُّوا بماء (بأهل ماء) فيهم لَدِيغ أو سليم، فعَرَضَ لهم رجل من أهل الماء، فقال هل فيكم من راق فإن في الماء رجلًا لديغًا أو سليمًا (هو سيد ذلك الحي) فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاة (أي على أن يأخذ منهم شاة أجرًا على القراءة والرقية) فجاء بالشاة إلى أصحابه فكَرِهُوا ذلك (بعد أن ذكر القصة لهم) وقالوا أخذت على كتاب الله أجرًا حتى قَدِمُوا المدينة فقالوا يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" رواه البخاري. فقوله "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" عَامٌّ يَشْمَل الأجر على الرقية والتلاوة والتعليم، فيُفِيد حَلَّ أخذ الأجرة على كل ذلك.
ومنه يُعلم الحكم في الحادثة المستَفتَى عنها ولا يحمل الحديث على خصوص أخذ الأجرة على الرقية بدلالة سياق القصة، فإن إجابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الجواب العام وهو في منصب التشريع، ومن الفصاحة بالمحل الأرفع ظاهرة في أن المقصود التعميم لا التخصيص وإلا لأتى في الجواب بما يفيده. ولذلك نظائر كثيرة في أجوبته، صلى الله عليه وسلم.(1/57)
(2) وبما أخرجه الشيخان وغيرهما عن سَهْل بن سعد الساعدي في المرأة التي وهبت نفسها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعرض عنها، فقام رجل فقال يا رسول الله: زَوِّجْنِيهَا إن لم يكن لك بها حاجة، ولم يكن مَعَه إلا إزاره، ولم يَجِد شيئًا يُصْدِقها به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجْتُكَها تُعَلِّمها من القرآن" وفي رواية لأبي داود: "عَلِّمْها عشرين آية وهي امرأتك".
(3) وبحديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: "ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف نفس فَخُذْه".
(4) وقد استدل ابن حزم على جواز أخذ الأجرة على التعليم والقراءة بما في البخاري عن ابن عباس، وبما في الصحيحين عن سهل بن سعد. وبما رواه عن سعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر أنهما أُعْطِيَا على قراءة القرآن أَجْرًا، وعن الوضين بن عطاء قال كان بالمدينة ثلاثة مُعَلِّمين يعلمون الصبيان فكان عمر بن الخطاب يَرْزُق كل واحد منهم خمسة عشر كل شهر.
واستدل القائلون بعدم الجواز:
(1) بحديث عبد الرحمن بن شبل الأنصاري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اقرؤوا القرآن ولا تَغْلُوا فيه" لا تَتَعَدَّوا حدوده من حيث اللفظ والمعنى "ولا تجفوا عنه" لا تبتعدوا عن تلاوته وتُقَصِّروا فيها "ولا تأكلوا به" لا تَجْعَلوه سببًا للأكل "ولا تستكثروا به" لا تجعلوه من الدنيا. رواه أحمد في مسنده. وقال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات "شوكاني" ورواه الأثرم في سننه "مغني" ورواه البيهقي وأبو ليلي والطبراني في الأوسط "الجامع الصغير" وأخرجه ابن حزم في المحلى بلفظ "تَعَلَّموا القرآن إلخ" وقَدَح فيه بأن راويه عن ابن شبل هو أبو راشد الحبراني وهو مجهول، وقال الشوكاني إن هذا الحديث أخص من محل النزاع؛ لأن المنع من التَّأَكُّل بالقرآن لا يستلزم المنع من قبول ما دفعه المتعلم بطيبة من نفسه. اهـ.(1/58)
(2) وبحديث عمران بن حصين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اقرؤوا القرآن واسألوا لله به فإن من بعدكم قومًا يقرؤون القرآن يسألون به الناس" رواه أحمد والترمذي حديث حسن ليس إسناده بذاك. اهـ.
وقال الشوكاني: إنه ليس فيه إلا تحريم السؤال بالقرآن وهو غير اتخاذ الأجر على تعليمه اهـ.
ونحن نقول بحرمة السؤال والشحاذة بالقرآن، وإن هذا يفسر النهي في حديث ابن شبل عن الأكل به، وأنه نَهْي عن السؤال بالقرآن ولا شك أن هذا غير أخذ الأًجْرَة على تعليمه أو على قراءته بطيبة نفس وهي أُجْرَة في مقابلة عمل.
(3) وبحديث أبي بن كعب قال: "عَلَّمْت رجلًا القرآن فأَهْدَى لي قوسًا فذكرت ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن أخذتها أخذت قوسًا من نار فرَدَدْتُها" رواه ابن ماجة وأخرجه البيهقي والرُّويَاني. ونقل الشوكاني عن البيهقي وابن عبد البر أنه حديث معلول بالانقطاع بين أُبَيٍّ وعطية الكلاعي الذي روَى عنه، ونقل عن ابن القطان أنه معلول بجهالة عبد الرحمن بن سلم الراوي عن عطية.
وضعف ابن حزم هذا الحديث وقَدَح في طُرُقه بما يعلم من الرجوع إلى المحلى في بابه.
وأجيب عن الحديث بأنه قضية عَيْن (حادثة فردية) فيَحْتَمِل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عَلِم أن ابن كعب فعل ذلك خالصًا لوجه الله تعالى فكَرِهَ له أن يأخذ عوضًا عنه بعد ذلك. وأما من عَلَّم القرآن على أنه لله وأنه يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس فلا بأس به.
(4) وبحديث عبادة بن الصامت عند أبي داود وابن ماجه وهو نحو حديث أُبَيٍّ. وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي وفيه مقال. وأجيب عنه بأنه قضية عَيْن كحديث أبي. وضعف ابن حزم طرقه في المحلى.(1/59)
وبعدَ أن أَوْرَدَ ابن حزم أدلة المانعين، ومنها حديث عبد الرحمن بن شِبل بلفظ: تَعَلَّموا القرآن ولا تغلوا فيه، قال إنه لم يَصِحَّ شيء من هذه الأحاديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين عِلَلَها وخلص من ذلك إلى القول بالجواز استنادًا إلى حديث ابن عباس، والحديث المشهور في زواج الرجل بتعليم المرأة شيئًا من القرآن.
(5) وبحديث جابر عند أبي داود قال: "خرج علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي فقال اقرؤوا فكُلٌّ حَسَن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القِدْح (السهم) يتعجلونه ولا يَتَأَجَّلُونَه" وبحديث سهل بن سعد عند أبي داود وفيه "أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: اقرؤوه قبل أن يقرأه قوم يقيمونه كما يقام السهم يتعجل أجره ولا يتأجله" (والجواب عنهما) أنهما إخبار مِن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يكون عليه الناس بعد زمانٍ من تلاوة القرآن بدون تفكير وتدبر فيه فِيهِ، فتراهم يسرعون في تلاوته إسراعًا فيخرج من أفواههم كما يَخْرج السهم من القَوْس. وكذلك في السؤال بالقرآن طلبًا للعاجلة وكلا الأمرين مذموم، فالقرآن كتاب هداية لابد من التبصر فيه والتأمل في معانيه، ولا يكون ذلك مع الإسراع والهَذْرَمَة به ولا يجوز أن يُستجدَى به ويُسأَلَ الناس بقراءته وهذا كما جاء النهي عنه في الأحاديث السابقة فاتفقت الروايات في معانيها على نحو ما أسلفنا ولا دلالة فيها على منع أخذ الأجرة على تعليمه وقراءته.(1/60)
هذا، وقد مال الشوكاني في "نيل الأوطار" إلى المنع، وقال إن مجموع أحاديث الباب تُفِيد الظن بعدم الجواز وتَنْهَض للاستدلال بها على المطلوب وإن كان في كل طريق من طُرُقِها مقال لتقويها بانضمام بعضها إلى بعض، وجمع بينها وبين حديث ابن عباس بأن حديث ابن عباس وَرَد عامًّا فيشمل الرخصة في أخذ الأجرة على الرقية والتلاوة والتعليم، والأحاديث الأخرى خصصته بمنع أخذها على التعليم فقط فبقي ما عَدَاه جائزًا. اهـ. ملخصًا.
وقد عَلِمْتَ ما في هذه الأحاديث من الضعف وأن أكثرها من القضايا العَيْنيَّة أو في معانٍ أخرى، والحق ما ذهب إليه الجمهور وابن حزم. ولا يخفى ما في الأخذ به من العون على حفظ القرآن ونشره وتربية الناشئة عليه خصوصًا في هذا الزمن الذي يحارب فيه القرآن من أعدائه، وكل الأمم له أعداء بكل وسيلة وحيلة.
ومع ما ذكرنا نسوق قول العلامة الحفني في حاشيته على الجامع الصغير: إن أخذ المقابل على القرآن مذموم حيث كان غنيًّا غنًى ظاهرًا أو غنى قلبيًّا. أما لو كان محتاجًا فلا بأس بأخذ المقابل، ففيه إشارة إلى عدم المغالاة في الأجر وأنه يكفي أخذ ما به الكفاف، والكفاف في كل زمن بحَسْبِه فلا يتغالى فيه إلى حد يدخل به الآخذ فيمن استكثر بالقرآن. وقد جاء في السنة في فضل تَعَلُّم القرآن وقراءته ما لا يَخْفَى فليأخذوا من الدنيا بقدر الحاجة ليغنموا في الآخرة ذلك الجزاء الموفور. وَفَّقَنَا الله وإياكم إلى ما فيه الخير والصلاح، والله أعلم.(1/61)
من وحي القرآن في حرمة الربا
لم يَتْرُك القرآن شأنًا من شؤون الخلق في دينهم ودنياهم إلا أرشدهم فيه إلى السبيل الأقوم وهداهم إلى المَحَجَّة البيضاء لِيَسْعَد الفرد والمجتمع في النشأتين، ففي آية جامعة من سورة آل عمران نهى الله المؤمنين عن الربا لمّا عَلِمَ أنه السوس يَنخَرُ في العظام، والنار تأتي على الهشيم، والفساد الأعظم يَدِبُّ في المجتمع، والرذيلة تلوث النفوس بالطمع والشره والخبل، وتنزع منها معاني المروءة والنجدة والتعاون والرحمة وتقيم بدلها مادية جافة قاطعة للأرحام ذاهبة بالفضيلة والإنسانية الرحيمة. فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فنهاهم عن الربا وبَيَّنَ ما كانوا عليه في الجاهلية من أَمْر التضعيف فيه، تَشْنِيعًا عليهم وتِبْيَانًا لِعَاقِبَتِه، وأنه يستأصل الثروة ويأتي على الكثير فهو حرام قل أو كثر (تضاعف أو لم يتضاعف) لقوله تعالى في سورة البقرة: (وَحَرَّمَ الرِّبَا) وأشار القرآن إلى أن الفلاح والخير في اتقائه واجتنابه فقال: (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كما أشار إلى العقوبة المُعَدَّة لأَكَلَته بقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ التِي أُعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ) وفي ذلك إيماء إلى أن من يرابي أشبه الناس بالكافرين في عاقبته وعقوبته (قال تعالى: "الذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ" ويقول، تعالى، فيمن عاد إلى الربا بعد النهي عنه: "وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ") (فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).(1/62)
وقد نهى القرآن عن الربا نَهيًا قاطعًا فوَجَبَ على المؤمنين طاعة الله ورسوله فيما نَهَى عنه، ولذلك عقب الله هذا النهي بقوله: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فلا تُرْجَى رحمة الله وإحسانه وبِرُّه إلا للطائعين الذين امتثلوا أمره واجتنبوا نهيه، ولم يُحَادُّوه في شرعه ودينه بباطل من القول وزور.(1/63)
من وحي القرآن في المسارعة إلى الخير
ثم أمر الله تعالى بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة بأَسْرِهَا، ورَغَّبَهم فيها بالمَثُوبَة العظمى والسعادة الخالدة فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ) وهم الذين أطاعوا الله ورسوله فأَدَّوا فرائضه واجتنبوا محارمه، ومنها الربا والبغي والظلم، وأكل أموال الناس بالباطل والمُوبِقَات الكبرى التي ذُكرت في آيات أخرى من القرآن كالزنا وقَتل النفس المعصومة بغير حق.(1/64)
من وحي القرآن في إنفاق المال في الخير
وقد وصف الله المتقين بأنهم (الذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) في اليسر والعسر، وقد نَوَّهَ القرآن في كثير من الآيات بما للإنفاق في الخير من الأثر العظيم في فلاح الفرد والأمة، فالمال عَصَب الحياة، ولن تَنْهَض أمة بدونه، واكتنازه بمثابة حَجْز الماء عن الزرع، والزرع لا يحيا إلا بالماء، وفي بَذْلِه سَدٌّ لحاجة المُعْوِزِين وتَصْفِية لنفوسهم من الأضغان، وإراحة لهم من الهموم، وتخفيف عليهم من أثقال الحياة، وتعاون على إقامة ما يعجز الفرد وحده عنه.
وفي الحث على الإنفاق في اليسر والعسر والمَنْشَط والمَكْرَه التفات إلى ناحية اجتماعية وفكرة تعاونية رَدَّدَها القرآن كثيرًا وأقام مَعَالِمَها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يُروَى عنه من الأحاديث مما يَدُلُّ على اعتناء التشريع الإسلامي بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية ليقوم بناء الدولة الإسلامية على أساس قويم وطيد.(1/65)
من وحي القرآن في كظم الغيظ والعفو عن الناس
وكما عُنِيَ القرآن بما سَلَفَ عُنِيَ كثيرًا بتهذيب النفوس وانتزاع كَوَامِن الشر والفتنة منها، فقد استقر في الطبائع الانفعال الشديد عند حصول مكروه أو فوات مرغوب، والغيظ من مقاومة ما تميل إليه النفس وتشتهيه، والغضب مما يسيء ويضر. ثم ظهور ذلك في البطش والإيذاء والعقوبة والانتقام. ومتى بَدَتْ هذه الآثار على الجوارح ظَهَرَ في الوجه الاحمرار والتقطيب، وفي العين الشر والشرر، وفي اللسان البَذَاء والسَّب والشتم، وفي اليد الإيقاع والبطش، وانقلب الإنسان وَحْشًا هَائجًا بعد أن كان إنسانًا هادئًا وادِعًا.
وليس في ذلك خير بل فيه الضرر بالنفس إذ تَجَرَّدَت من إنسانيتها وأَصَابَت بالضرر البالغ غيرها. وفيه الضرر بالمجتمع إذ تَكْتَظ النفوس بالبغضاء، وتَنْطَوي على الشر، وتَنْتَوِي الانتقام، وتَنْقَطع بينها الوشائج، وتَزْدَاد الإِحَن والسَّخَائِم. وأي شيء أَضر على المجتمع من هذه الحالة القلقة المضطربة التي تُحِيل الأَنَاسِيَّ إلى ذئاب ضارية؟
وقد عالج القرآن هذه الظواهر النفسية بأنفع علاج، فأشار إلى كظم الغيظ وحبسه عند امتلاء النفس به فلا يبدو على الجوارح شيء من آثاره وانفعالاته، ولا ينتقم الإنسان ممن غاظه وأضر به، ولا يُنفِذُ وعيده مع القدرة عليه، ويَقْهَر نفسه الجَمُوح على تغليب جانب الصفح والعفو والتجاوز عن الإساءة.
فإذا قدر الإنسان على رياضة نَفْسِيَّة بهذه الفضيلة كان شجاعًا قويًّا. فليس الشجاع الصُّرَعَة، إنما الشجاع من يَملِك نفسه عند الغضب.
وفي حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظه وهو قادر على أن يُنفِذَه، دعاه الله تعالى في الجنة يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره الله تعالى من أي الحور شاء".
وعن الحسن: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: ليقم من كان له على الله تعالى أجر. فلا يقوم إلا إنسان عفا.(1/66)
وقد كان العفو والصفح من شمائل الرسل، فقال يوسف ـ عليه السلام ـ لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
وقال الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه يوم فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".(1/67)
في الاستغفار من الذنوب وقبول التوبة
ولَمَّا كان الإنسان خَطَّاءً صَريع الأهواء كثير النزعات تَغْلِبه نفسه الأمارة بالسوء في كثير من المواقف، ويندفع للمعاصي بجذب الشيطان ووسوسته واستجابة دواعي الهوى، فتح الله له باب الإنابة إليه والاستقالة من العثرات والاستغفار من الهفوات. والتوبة نَدَم والندم عنوان صلاح النفس واتجاهها إلى اليمين وأصحاب اليمين، وأَمَارَة البغض للمعاصي والمقت لها والامتثال لأمر الله وطاعته، ولذلك جاء عقب ما تقدم: (وَالذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ثم بَيَّنَ تعالى ما أعده لهؤلاء الأوابين من المثوبة فقال: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ) (آل عمران:130 ـ 136)
إن عصيان العبد لربه أشد من عصيان العبد للعبد، فإنَّ شُرُوده من سيده المنعِم المتفضِّل عليه بالإيجاد والرزق والحياة والنعيم أشد من شروده من أخيه الإنسان الضعيف مثله.
وقد عامل الرب ـ سبحانه ـ عباده بالعفو وفَتَح لهم باب الإنابة وكتب على نفسه الرحمة والإثابة، وأغدق عليهم من فَيْض فضله نعيمًا لا ينقطع مداه وغفر لهم الذنوب وعفا عن السيئات، والمؤمنون مأمورون بالتخلق بأخلاق الله، والله تعالى يقول: (وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٌ) (فصلت:34، 35)(1/68)
إلا أن القرآن العظيم ما ترك فضيلة صغيرة ولا كبيرة إلا وَجَّهَ الأمة والأفراد إليها، وما ترك لأحد حجة على الله، ولله الحجة البالغة، نسأل الله الهداية لاتباع سبيل المؤمنين والأخذ بهدي الدين وما بُعث به خاتم المرسلين، والله أعلم.(1/69)
تقليد الأئمة في مذاهبهم الفقهية
رُفع إلينا سؤال من الشيخ عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي ببيروت ـ لبنان هذا نَصُّه:
(السؤال): هل يجوز للإنسان التقليد أو التلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة ولو لغير ضرورة قبل العمل أو بعده في المعاملات أو في العبادات، كالصلاة أو التيمم أو الوضوء أو الغسل، كمن توضأ وضوءًا واجبًا أو اغتسل غسلًا واجبًا من ماء قليل مستعمَل في رفع حدث مقلِّدًا لمذهب الإمام الشافعي، وترك النية مقلِّدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة، فهل يكون وضوؤه أو غسله صحيحًا أم لا؟
(الجواب): (نشر هذا الجواب في رجب سنة 1373هـ بمنبر الشرق)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اطَّلعنا على هذا السؤال ونقول: من رحمة ـ الله تعالى ـ بعباده أن أرسل خاتم رسله محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشريعة هي خاتمة الشرائع وهي عامة وافية كفيلة بما يحتاج إليه البشر في كل زمان، دستورها الأول القرآن الكريم، والثاني السنن الصحيحة ـ ومنهما يَتَوَلَّد أَصْلَان آخران ـ هما إِجْمَاع المجتهدين على الحُكْم الشرعي، والقياس الصحيح فيما لم يَرِدْ فيه نص، وهو باب فسيح يَسُدُّ حاجة الأمة فيما يَجِدُّ من الحوادث والشؤون على تعاقب الدهور واختلاف الأحوال والعصور، وقد عُنِيَ علماء الأصول بتحرير القواعد والضوابط التي يُتوصَّلُ بها إلى استنباط الأحكام من هذه الأصول.
والأحكام العملية: وهي التي يُبحَث عنها في الفقه ـ منها ما لا يحتاج إلى نظر واجتهاد، وهي ما ثبت بالدليل القطعي واستفاض العلم به حتى أصبح معلومًا من الدين بالضرورة كأركان الصلوات الخمسة وتحريم الكبائر.(1/70)
ومنها ما هو مَحَل نظر واجتهاد وهذا النوع متشعب الأطراف، وهو الذي جرى في حَلَبَتِه فقهاء الإسلام واختلفت فيه أنظارهم واتَّسَعَ به نِطَاق الفقه الإسلامي، والذي قام بعبئه هم المجتهدون الذين تَوَافَرت لهم وسائل الاجتهاد ومَلَكته. أما مَن عَدَاهم من عامة المسلمين الذين لم تتوافر لهم وسائل النظر في الأدلة والاجتهاد في استنباط الأحكام، فهم المقلدون الذين يجب عليهم الأخذ بمذاهب المجتهدين، إذ كل من جَهِلَ حكمًا ولم يكن في استطاعته الاجتهاد وجب عليه أن يسأل عنه العلماء به لقوله تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وإلا لتعذر العمل عليه وكان تكليفه به مع عدم القدرة على استنباطه تكليفًا بما ليس في الوُسْعِ، فكان من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهؤلاء الرجوع إلى العلماء ولم يُلزِمْهم النظر والاجتهاد لعدم تمكنهم منهما وعدم توافر وسائلهما لديهم.(1/71)
التقليد
فالتقليد مشروع في الأحكام العملية، وهو كما قال الآمدي: "العمل بقول الغير من غير حُجَّة مُلْزِمة" وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن العامي وهو الذي ليس له أهلية الاجتهاد في الأحكام وإن كان مُحَصِّلًا لبعض العلوم، يَجِب عليه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواهم للآية السالفة، وهي عامة لكل المخاطبين الذين لم تتوافر لهم وسائل العلم بالأحكام؛ ولأن العامة في زمن الصحابة والتابعين كانوا يستفتون المجتهدين منهم ويتبعونهم فيما يُبَيِّنُونه لهم من الأحكام وكان المجتهدون يبادرون إلى إفتائهم، والكشف لهم عما جَهِلوا، ولم يُنْكِرُوا عليهم استفتاءهم إياهم، فكان ذلك إجماعًا على مشروعية التقليد في الفروع، غير أن العامي في الاستفتاء مُقَيَّد باستفتاء من عُرِفَ بالعلم والعدالة وأهلية النظر فيما يُستفتَى فيه، فلا يجوز له أن يَستفتيَ من لم يُعرَفْ بالعلم والعدالة احتياطًا في أمر الدين.(1/72)
لا يجب التزام مذهب مجتهد مُعَيَّن
إذا تَقَرَّر هذا فهل يَجِب على العامي التمذهب بمذهب مجتهد مُعَيَّن والتزام جميع عزائمه ورخصه بحيث لا يجوز له الخروج عنه؟
الحق الذي ذهب إليه جمهور العلماء أنه لا يجب عليه ذلك بل له أن يعمل في مسألة بقول أبي حنيفة مثلًا، وفي أخرى بقول مجتهد آخر للقطع بأن المستفتِين في كل عصر من زمن الصحابة ومَن بعدَهم كانوا يَستفتُون مرة واحدًا، ومرة غيرَه، غير ملتزمين مفتيًا واحدًا، وعلى ذلك لو التزم مذهبًا معينًا كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي لا يلزمه تقليده في كل مسألة، وقد اختار ذلك الآمدي وابن الحاجب والكمال بن الهمام في تحريره والرافعي وغيره؛ لأن التزامه غير مُلزَمٍ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب واحد معين من الأئمة فيُقَلِّدَه في دينه، فيأخذ كل ما يأتي ويَذَر، دون غيره. وقال ابن أمير حاج في شرحه على التحرير، ثم في أصول ابن مُفْلِح: وذكر بعض أصحابنا (يَعْنِي الحنابلة) والمالكية والشافعية: هل يَلْزَمه التمذهب بمذهب والأخذ برخصه وعزائمه؟ فيه وجهان أشهرهما: لا، كجمهور العلماء فيتخير، ونُقِلَ عن بعض الحنابلة أنه قال: وفي لزوم الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمره وهو خلاف الإجماع وتَوَقَّف في جوازه. وقال أيضًا: إن خالفه في زيادة علم أو تَقْوَى فقد أحسن، ولم يَقْدَح في عدالته بلا نِزَاع بل يجب في هذه الحالة، وأنه نَصُّ أحمد، وكذلك قال القُدُوري الحنفي: ما ظنَّه أقوى، عليه تقليده فيه اهـ.(1/73)
ثم قال ابن أمير حاج بعد نقل هذا: "وقد انْطَوَت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك (يعني الالتزام) بل لا يَصِح للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذاهب على حَسَبِه. أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة، بل قال أنا حنفي أو شافعي. أو غير ذلك لم يَصِر كذلك بمجرد القول كما لو قال أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يَصِرْ كذلك بمجرد قوله.
يوضحه أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهْله وبُعده جدًّا عن سيرة إمامه وعلمه بطريقه، فكيف يَصِح الانتساب إليه بالدعوى المجردة والقول الفارغ عن المعنى اهـ.
ولذلك اشتهر قولهم: العامي لا مذهب له. ففي البحر في باب قضاء الفوائت: "وإن كان عاميًّا ليس له مذهب مُعَيَّن، فمذهبه فتوى مُفتِيه وإن لم يَسْتَفْتِ أحدًا أو صادف الصحة على مذهب مجتهد أجزأه اهـ".
ومما تقدم يُعْلَم أنه لا يجب تقليد مجتهد مُعَيَّن، وأن التلفيق (يعني العمل بقول مجتهد في مسألة وبقول آخر في أخرى) لضرورة وَلِغَيْرها في العبادات والمعاملات جائز تخفيفًا ورحمة بالأمة.(1/74)
الرجوع عن التقليد
وليس للعامي إذا قلد مجتهدًا في مسألة (واتَّصَل عَمَله بها) الرجوع عنها وتقليد غيره فيها، لأن الرجوع عن التقليد بعد العمل بَاطِلٌ اتفاقًا لِمَا فيه من إبطال عَيْن فعله وهو غير جائز؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي، لا يُنْقَض.
أمَّا قَبل العمل ـ كما إذا استَفْتَى مجتهدًا وعرف حكم المسألة منه ثم استفتى آخر فيها وعرف الحكم منه ـ فله أن يعمل بقول أي واحد منهما، نص على ذلك الآمدي وابن الهمام في التحرير وصاحب جمع الجوامع ومسلم الثبوت وغيرهم من علماء الأصول.(1/75)
جواز تتبع الرخص
وينبني على جواز التلفيق في التقليد (بالمعنى المتقدم أولًا) جواز اتباعه رُخَصَ المذاهب في المسائل المختلفة كما ذهب إليه الجمهور، فيعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تَعلُّقَ لواحدة منها بالأخرى، كما إذا توضأ مراعيًا الشرائط على مذهب الشافعي، ثم في وضوء آخر راعى الشرائط على مذهب أبي حنيفة؛ لأن للمُكَلَّف أن يَسلُك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن قد عمل بقول مجتهد آخر في ذات المسألة التي يريد التقليد فيها لِمَا عَلِمْتَ من أنه ليس للمُقَلِّد الرجوع بعد العمل بقول أحد المجتهدين في حادثة إلى قول مجتهد آخر فيها.
قال في التحرير وشرحه: "ويَتَخَرَّج منه ـ أي من كَوْنِه لم يَلْتَزم مذهبًا مُعَينًا ـ جواز اتباعه رُخَصَ المذاهب أي أخذه من كل منها ما هو الأهون فيما يَقَع من المسائل" ومثله في مسلم الثبوت في أصول الفقه، أما ما نُقِلَ عن ابن عبد البر من أنَّه لا يجوز للعامي تَتَبُّع الرخص إجماعًا فليس على إطلاقه، إذ قد روي عن الإمام أحمد ابن حنبل في هذا روايتان، وحمل القاضي أبو يَعلَى الرواية التي تقول بفسق متتبع رخص المذاهب على غير مُتَأَوِّل ولا مُقَلِّد، فالقصد التيسير على الناس، فمن توضأ على مذهب أبي حنيفة له أن يصلي على مذهب الشافعي وبالعكس.
فالتلفيق على هذا الوجه جائز لعدم اتحاد المسألة التي لَفَّقَ فيها؛ ولأنه لا يلزم لمقلد استفتاءُ مُفْتٍ مُعَيَّن على ما أسلفنا بيانه.
ومن هذا يُعلم أن تتبع رخص المذاهب بأن يأخذ المقلد بقول المذاهب في المسائل المتعددة جائز.
أما إذا اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا فلا يجوز كما حققه الكمال في التحرير وصاحب مسلم الثبوت في باب الإجماع وكلاهما في فَن أصول الفقه؛ لأنه لا يَتَرَتَّب على الأخذ برخص المذاهب في المسائل المتعددة ـ وهو التلفيق بالمعنى المتقدم ـ خَرْقُ الإجماع في مسألة متفق عليها، وقد اختار ذلك الآمدي والرازي.(1/76)
وعلى ذلك فالتلفيق بتتبع الرخص جائز في الصورة التي ذكرها السائل فإن الماء القليل المستعمَل مطهِّر عند مالك، فإذا أخذ المقلد بهذا الحكم مقلدًا مذهب مالك أجزأ، ثم قلد مذهب أبي حنيفة في عدم لزوم الدَّلْك والنية في الوضوء والغسل يكون وضوؤه أو غسله صحيحًا؛ لأنه لم يتبع الرخص في مسألة واحدة بل في مسائل إذ الحكم على طهورية الماء منفصل عن الحكم على صحة الوضوء أو الغسل مع تَرْك الدَّلْك والنية.(1/77)
الخلاصة أن التقليد واجب على غير المجتهد لضرورة العمل، وأنه لا يجب على المقلد التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهب مقلدًا غير إمامه، وأن مذهب العامي فتوى مفتيه المعروف بالعلم والعدالة، وأن التلفيق بمعنى العمل في كل حادثة بمذهب جائز، ويتخرج على جوازه جواز تتبع رخص المذاهب في المسائل المتعددة كالوضوء على مذهب الشافعي ثم الصلاة به بعد اللمس على مذهب أبي حنيفة، أما التلفيق بمعنى تتبع الرخص في مسألة واحدة فغير جائز فلا يَصِح الوضوء إذا ترك الترتيب في غسل الأعضاء، ومَسَحَ أقل من رُبع الرأس على ما سَبَق تَحْقِيقه، وأن الرجوع عن التقليد بعد العمل في حادثة واحدة باطل، فإذا عقد زواجه وَفْق شروط مذهب أبي حنيفة بأن تَوَلَّت الزوجة البالغة العقد بنفسها مثلًا وعاشرها زوجها معاشرة الأزواج، ثم طَلَّقَها ثلاث تطليقات، فليس له أن يُقَلِّد مذهب الشافعي الذي يَرَى أن النكاح لا يَنْعَقد بعبارة النساء بل لابد من الولي؛ لأن هذا تلفيق التقليد في مسألة واحدة، وهو باطل اتفاقًا، ولابد لهذه الزوجة لكي تحل لمطلقها أن تتزوج بغيره زواجًا صحيحًا ويدخل بها حقيقة، ويُطلِّقها وتنقضي عِدَّتها، ومما تقدم عُلم الحكم في هذه المسائل، والله أعلم.(1/78)
الإسلام والشيوعية
(السؤال): هل الشيوعية تلتقي مع الإسلام فيما تدعو إليه؟
(الجواب): مما لا خفاء فيه أن الشرائع السماوية ضرورية للبشر في الحياة العلمية والعملية والاجتماعية، فهي التي تُعَلِّم وتُهَذِّب، وتُرْشِد وتُوَجِّه، وتقيم في النفوس الوازع الأقوى عن الانقياد للأهواء والشهوات واقتراف المآثم والمنكرات. وتَغْرِس فيها الرغبة في الخير والعمل الصالح والعزوف عن الشر والعمل الفاسد أملًا في الثواب وخوفًا من العقاب من الإله الخالق القوي العزيز المتصرف في ملكوته بقدراته وسلطانه، العليم بذات الصدور، المجازي يوم البعث والنشور.
وهي الدستور الإلهي الحكيم الذي إذا انتهجه الناس في الحياة سادهم الأمن والسلام وانتظمت شؤونهم المعاشية، وقامت العلاقات بينهم على المحبة والإخاء، والتعاطف والتعاون، والخير والبر، واحترام الحقوق والواجبات.
ولهذا وبهذا بعث الله تعالى الرسل إلى الأمم وأنزل الكتب والشرائع تبصرة وهداية وتقويمًا للبشرية وإصلاحًا وخيرًا للفرد والجماعة وقطعًا للحجج والمعاذير (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وكان من سنة الله تعالى وحكمته التدرج في الرسالات حَسَب استعداد البشرية لتعاليمها، حتى إذا بلغت أَشُدَّها واستوت أرسل الله بأوفى الرسالات وأكملها وأصلحها لكل زمان وأدومها صفوةَ خلقه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة للعالمين، وختم به النبيين والمرسلين.(1/79)
فأين من هذا ذلك المذهب الشيوعي الذي قام على الجحود وإنكار الوجود لمبدأ كل موجود، ومحاربة الرسالات الإلهية والتشريعات السماوية والقضاء على كل ما يَمُتُّ إلى الدين والتدين بصلة من تعلم وتعليم، وتأليف ونشر، ومساجد ومعابد، والتنكيل بالمتدينين وحرمان المسلمين منهم من دراسة كتابهم وطبعه ونشره، ومن كتبهم الإسلامية ومعاهدهم التي تعلمهم دينهم، وأذاق المسلمين سوء العذاب في بلادهم إذا أَعْلَنوا شعائر الدين، وكذلك فعلت الشيوعية فيما اجتاحته من البلاد الإسلامية الأخرى كالتركستان الغربية التي كانت تضم نحو أربعين مليونًا من المسلمين وغيرها من البلاد التي انتزعت الإسلام منها، وكان يُذْكَر فيها اسم الله كثيرًا.
إن الإسلام والشيوعية لا يجتمعان في قِرَاب واحد؛ ولذلك دَأَبَت الشيوعية على محاربته في كتابه وعلومه وتعاليمه ومعاهده وفي أبنائه، وانحرفت بأحداثهم ذات اليسار بِخِدَعٍ وإغراءات وأمانٍ كِذابٍ، وبَتَّت ما بينهم وبين الإسلام من وَشَائِجَ وصِلاتٍ، ولا نَجَاة للمسلمين من شرورها وأخطارها إلا بأن يَعْتَصِموا بكتابهم وهَدْي نبيهم ويعملوا بهما في كل شؤون حياتهم العلمية والعملية والاجتماعية، ففيهما الهدى والنور والوقاية من كل الشرور، والسعادة والحياة الكريمة للأفراد والجماعات، ذلك هو الحصن المنيع والملجأ الرفيع، والعلاج الواقي والدواء الشافي، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين والله أعلم.(1/80)
طائفة الإسماعيلية
(السؤال): هل طائفة الإسماعيلية من الطوائف الإسلامية؟
(الجواب): هذه الطائفة من الطوائف الخارجة عن الإسلام في عقائدهم وعباداتهم وتعاليمهم، فعقائدهم كُفْر بَوَاح، وعبادتهم لله أسرار كاذبة، وتعاليمهم نِحَلٌ باطلة تنتهي بإباحية صارخة، فليسوا من الإسلام في شيء، ومِن ثَمَّ لا يجوز مُنَاكَحَتُهُم، ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين.
ولا يَخْدَعَنَّكم عن حقيقتهم تَظَاهُرهم بالإسلام، وتسميتهم بأسمائه كعلي وإسماعيل. فإن أهل النِّحَل الباطلة التي قامت على الكَيْد للإسلام والقرآن منذ قرون متطاولة يَحْرِصون كل الحِرْص على خِدَاع العامة بالتظاهر بالإسلام كَذِبًا وافتراء سَترًا لمقاصدهم، وإخفاء لتدبيرهم، وإمعانًا في التلبيس والإغواء، حتى إذا وقع الجاهل في أَشْرَاكهم، وسَكَنَت نفسه إليهم، واطمأنوا إلى استعداده لخلع رِبقة الإسلام من عنقه، أَلْقَوا إليه بباطلهم، وكاشفوه بتعاليمهم، وأباحوا له ما حَرَّمَ الله عليه فباء بالكفر الصريح.
وفي التاريخ أصدق الأدلة على ذلك، وعلى أن الإسماعيلية هي فرقة الباطنية الحُلُولية، وهي دولة القرامطة التي فعلت الأفاعيل للقضاء على الإسلام ودولته، وارتكبت أَفْحَش الفظائع في أوطانه وأُمَمِه (راجع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية والخطط المقريزية وفضائح الباطنيين للغزالي وغيرهما).
ومثل هذه الطائفة طائفة البهائية والقاديانية (الأحمدية) وأضرابهم في الكفر والضلال، والله أعلم.(1/81)
اعتناق مذهب البهائية رِدَّة
(السؤال): من موظف بمصلحة الميكانيكا بالقاهرة:
يَمتلك رجل حِصة في منزل بالميراث عن والده المسلم، ولهذا الرجل ولدان وبنتان، وقد اعتنق هو وأحد ولديه وبنتاه مذهب البهائية الذي يُقَرِّر أن القيامة التي جاءت في الكتب السماوية هي قيام البهاء بدعوته، وأنه قد انتصب ميزانًا، وتَمَّ الحساب فلا بَعْثَ ولا نشور بعد الموت خلافًا لِمَا تثبته الأديان السماوية. أمَّا الولد الثاني فقد تَمَسَّكَ بالإسلام الحنيف، وقد تُوفِّيَ هذا الرجل البهائي في سنة 1951م وظهر أنه كَتَبَ لابنه البهائي الحصة التي يَمْلِكها بالميراث عن والده المسلم في المنزل المذكور. فما حكم الشرع في ذلك؟ وهل له حق التصرف في هذه الحصة بتمليكها لولده البهائي؟
(الجواب): باعتناق هذا الرجل مذهب البهائية المعروف صار مرتدًّا عن الإسلام لِمَا عُرف عن عقائدها من أنها كُفْر صُراح. والمرتد عند الحنفية يَزُول مُلْكُه عن ماله زوالًا موقوفًا، فإن أسلم عاد إليه ملكه، وإن مات على رِدَّتِه وَرِثَ كَسْبَ إسلامه وارِثُه المسلم، وأما كَسْب رِدَّتِه فلِبَيْت المال (المالية) ويَنْبَنِي على ذلك أنَّ تَصَرُّفَه في ماله يكون موقوفًا إذا كان مبادلة مال بمال كالبيع أو تَبَرُّعًا كالهِبَة ونحوهما، فإن أسلم صَحَّ تَصَرفه فيه، وإن مات على ردته بَطَلَ تصرفه فيه.
وبقول أبي حنيفة في زوال الملك زوالًا موقوفًا بسبب الردة قال مالك وأحمد في رواية عنه، وهو الأصح من قول الشافعي.
فبموت هذا الرجل مرتدًّا تبطل جميع تصرفاته في ماله بالبيع أو الهبة أو الرهن ونحو ذلك، ويَرِث ابنُه المسلمُ ما كَسَبه المرتد في حال إسلامه وهو الحصة المذكورة التي تملَّكها بالميراث عن والده. والله أعلم.(1/82)
طائفة القاديانية
من الفرق الزائغة المنشقة عن الإسلام فرقة القاديانية التي أسسها مِرْزَا غلام أحمد القادياني في القرن التاسع عشر في الهند.
ولد في قرية قاديان بالهند سنة 1839م ونشأ في أسرة عريقة وتلقى مبادئ العلوم وقرأ الكتب المتوسطة في المنطق والحكمة اليونانية والعلوم الدينية والأدبية والطب القديم على والده، ثم اشتغل بالوظائف فترة من الزمن. وقد أصيب في شبابه بمرض هستيريا ونوبات عصبية عنيفة وكان يتداوى منها ويحاول التقوية بالأغذية الجيدة وبعض المشروبات المسكرة، واشتغل مع ذلك بما أسماه عبادات ومجاهدات وزعم بادئَ أمره فيما أذاعه من الكتب والرسائل ومنها "براهين أحمدية" أنه مُكَلَّف من الله تعالى بإصلاح الخلق على نَهْج المسيح ابن مريم وأن له إلهامات ومكاشفات إلهية وأن مَن يَحضُرُ إلى قاديان يرى الآيات السماوية والخوارق ودعا الجمعيات الإسلامية إلى المناداة بفضل الإنجليز "وهم ذوو السلطان إذ ذاك بالهند" وأن الجهاد ضدهم حَرَام وأنهم نِعمة عظيمة من الله ورحمة. وقال إنه نشر خمسين ألف كتاب ورسالة وإعلان بأنهم أصحاب الفضل والمنة على المسلمين فيَجِب على المسلمين طاعتهم بل صَرَّحَ بأنه من خُدَّامِهم، وطَلَب إليهم أن يعاملوا أُسْرَتَه بالعطف والرعاية ما داموا من غرس الإنجليز وصنائعهم وأن ما يبدو من إغلاظه القول في الرد على القسوس الطاعنين في الإسلام إنما هو لدفع سوء الظن به.(1/83)
وتَدَرَّجَ من حديث الإلهامات والمكاشفات إلى زعم أن روح المسيح الموعود قد حَلَّت فيه وأن ما يتحدث به هو كلام الله كالقرآن والتوراة وأن دمشق التي قيل إن المسيح سينزل فيها آخر الزمان هي قاديان. وأنها بلدة مقدسة وقد كُنِّيَ عنها بالمسجد الأقصى وهي الثالثة بعد مكة والمدينة ويسميها أتباعه الرَّبْوة، وأن الحج إليها فريضة وأنه قد أُنزِلَ عليه آيات سماوية تربو على عشرة آلاف، وأن من يكذبه في ذلك كافر، وأنه قد شهد له بالنبوة القرآن والرسول محمد وسائر الأنبياء قبله ـ عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه ـ بل عَيَّنُوا زمن بعثته ومكانها وقد صرح بموت المسيح ودفنه في كشمير وعَيَّن قبره فيها.
تلك هي عقيدته وعقيدة أتباعه وخلفائه فيه وأن من لا يدخل في بيعته يعامل كالكافر ولذلك امتنع ظفر الله خان وزير الخارجية في باكستان إذ ذاك وهو من زعماء القاديانية من الصلاة على جثمان مؤسس باكستان محمد علي جناح، رحمه الله تعالى.
ولم يَكْفِه زَعْمُ النبوة بل زَعَمَ أنه مُقَدَّم على سائر الأنبياء وقال: آتاني الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين. وزعم أن الله تعالى أوحى إليه: أنت مني بمنزلة ولدي، اسمع يا ولدي يا قمر يا شمس، أنت مني وأنا منك، ظهورك ظهوري، يَحْمَدك الله من عرشه ويمشي إليك..." إلى آخر مزاعمه الضالة وأقواله المفتراه.
يقول الدكتور محمد إقبال شاعر الهند العظيم: إن القاديانية خطر على الإسلام وديانة باطلة كاذبة مستقلة عنه ومحاولة منظمة لتأسيس طائفة جديدة تقوم على أساس نبوة منافسة للنبوة المحمدية. وقد رد الدكتور بهذا على جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند الذي يعطف على القاديانية في بلاده وفي باكستان لغلوهم في مناهضة الإسلام والنبوة المحمدية.(1/84)
ويقول صديقنا الباحث العلامة السيد أبو الحسن على الحسني النَّدْوي مدير ندوة العلماء بالهند في كتابه "القادياني والقاديانية" الذي استَقَيْنَا منه أكثر هذه المعلومات الثابتة في كتب ورسائل هذا الضال المطبوعة والمنشورة في الهند وغيرها ما نصه:
إن القاديانية مؤامرة خطيرة ومِحْنَة عُظْمَى وثورة على النبوة المحمدية وعلى خلود الرسالة الإسلامية وعلى وحدة هذه الأمة.
وقد اطلعنا من قبل على كتابهم "التبليغ" وما فيه من كفر وضلال وكذب على الله والأنبياء وتَزَلُّف ونِفَاق للإنجليز الحاكمين إلى أَبْعَد حَدٍّ وأَخَسِّه حتى زعم حرمة الجهاد ضدهم ودعا إلى طاعتهم والخنوع لهم وذم المسلمين الذين يَرَوْن خلاف ذلك.
ولَمَّا مات في السادس والعشرين من مايو سنة 1908م خلفه صديقه الحميم وصِنْوُه في الكفر والضلال حكيم نور الدين صاحب "تصديق براهين أحمدية" فدعا بدعوته وبالغ فيها واستمر ست سنين حتى توفي في 13مارس سنة1914م وقبل موته استخلف بشير الدين محمود أكبر أبناء مؤسس الطائفة.
ولَمَّا تَوَلَّى زعامتها تَشَبَّثَ بعقيدة نبوة والده في صراحة وصرامة ودافع عنها بقوة وحماسة ورد على منكريها أو مؤوليها بغلظة وحِدَّة.
وللقاديانية فرع الأدهوري يتزعمه محمد علي "صاحب ترجمة القرآن بالإنجليزية والمؤلفات الكثيرة" وهو يلقب مؤسس الطائفة بالمسيح الموعود في عامة كتبه ويحاول التأويل في دعوته ونِحلَتِه بباطل من القول، وله إلحاد في تأويل آيات القرآن وتحريف في تفسيره وقد أقام ترجمته على هذا الإلحاد والتحريف فالحَذَر الحَذَر منها وهكذا أكثر المترجمين من الطوائف المنشقة عن الإسلام ومن المستشرقين الحانقين على الإسلام ورسوله والقرآن والمسلمين.(1/85)
ومن هذه النُّبْذة التاريخية المختصرة يَعْلَم القارئ أنَّ حُكْمَنَا فيما كتبناه مِرَارًا بكفر القاديانية وخلعهم رِبْقَةَ الإسلام حكم قائم على بينات من كتبهم ورسائلهم التي انتشرت في الهند قبل التقسيم وبعده وفي سائر بلاد الإسلام، وإن جَهِلَها أكثر المسلمين وخُدِعَ عن حقائق هذه الطوائف كثير من الكتاب المعاصرين، أرشدهم الله إلى الحق وحفظهم من مغبة الجهل. والله أعلم.(1/86)
المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام
كتبت جريدة منبر الشرق ما يأتي تحت هذا العنوان:
استغلت الجماعة الأحمدية بالهند رأيًا لأحد الشيوخ الأزهريين قال فيه بوفاة عيسى ـ عليه السلام ـ فأذاعوا أن علماء الأزهر الشريف أَفْتَوا بالإجماع بموت عيسى ابن مريم، وهم يريدون من وراء ذلك أن يثبتوا أن زعيمهم "غُلام أحمد" القادياني هو المسيح المنتظر؛ لأن المسيح قد مَاتَ وحَلَّت رُوحه فيه.
وقد هال هذا الأمرُ علماءَ الإسلام في الهند، فطلبوا بيانًا من مبعوث المؤتمر الإسلامي والأزهر هناك، فبادر بإرساله إليهم فترجموه إلى اللغة الأوردية، ونشروه في الصحف الإسلامية الهندية. وهو بالطبع يخالف رأي الشيخ المذكور ويتفق مع رأي أهل السنة والجماعة.
ولَمَّا كانت المسألة من الأهمية بمكان، وكان إخواننا مسلمو الهند وغيرهم من أمة القرآن ينتظرون كلمة مباشرة من كبار علماء الأزهر، فقد عرضنا الأمر على فضيلة المفتي الأكبر السابق (الشيخ حسنين محمد مخلوف) فبعث إلينا ـ أثابه الله ـ بالبيان الشافي ونصه:
إن مما تظاهرت عليه أدلة العقل والنقل وأجمعت عليه الرسالات السماوية أن الله تعالى واحد لا شريك له، له الكمال المطلق والقدرة الشاملة والعلم المحيط والحكمة البالغة والتدبير المحكم لكل شيء خلقًا وإيجادًا وبقاء وإفناء (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
ابتدع خلقه الأول من غير مادة وهي من خَلْقِه الذي ابتدعه، وابتدع النوع الإنساني على غير مثال سَبَق بخلق آدم من المادة الطينية، ثم خَلَق زوجه منه فكان خلقه من غير أبوين أول سطر في لوح الوجود الإنساني ناطق بكمال قدرة الخالق ـ جل وعلا ـ وبداعة صنعته، وكان السطر الثاني خلق عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ من غير أب.(1/87)
خلقهما الله تعالى بيد قدرته وأوجدهما بكلمته، ولا يتعاظم شيء على قدرته. وأبدع على غير مثال عالم الروح فخلق الأرواح ونفخها في الأجسام وهي من أمره تعالى استأثر بإيجادها وبعثها وتصريفها. ولم يستطع أشد الناس جحودًا للإلهيات أن يَنسُبَ لإنسان خَلْقَ روح وبَعْثَها في جسد وتَرَتُّبَ أثر الحياة عليها وإنما ذلك لله تعالى وَحْدَه.
وقد خلق الله لكل إنسان روحًا تتصل به عند تكوينه وتنفصل عنه إذا انقضى أجله المقدر له وتبقى بعد انفصالها طليقة في عالمها الروحي تَسْبَح حيث تشاء حتى يأمرها الله تعالى يوم يبعث مَن في القبور بالعودة إلى جسدها الذي أنشأه الله للنشأة الأخرى.
ومما لا خفاء فيه أن الأنبياء أحياء في قبورهم حياة بَرْزَخِيَّة خاصة أقوى من حياة الشهداء، وأن ذلك لا يُنَافِي وجود أرواحهم في السماء، إذ أن الأرواح في عَالَمِها لا تَحُدُّها الأبعاد ولا تقيدها القيود، وقد لقي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرواح الأنبياء في بيت المقدس ليلة الإسراء وصلى فيه بالأنبياء إمامًا، ولَقِيَ موسى في السماء ليلة المعراج وتَقاوَلاَ فيها بما جاء به الحديث الصحيح، كما لقي غيره من الأنبياء. وثبت أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرد السلام على من يسلم عليه وتُعْرَض عليه أعمال أمته.
ولا يمكن أن تنتقل أي روح فضلًا عن أرواح الأنبياء إلى جسم آخر تَحِل فيه وتُصرِّفُه كما يزعمه القائلون بتناسخ الأرواح وهم ممن لا يَمُتُّ إلى الإسلام ولا إلى سائر الديانات السماوية بسبب، وجميعهم خارجون عن الملة مارقون عن الشرائع. فمن يقول منهم ـ كالقادياني ـ بأن روح عيسى حَلَّت فيه بعد موته فهو ضالٌّ مضِلٌّ مفتَرٍ كذاب.(1/88)
أما عيسى ـ عليه السلام ـ فعقيدة المسلمين أنه لم يُقْتَل ولم يُصْلَب وأنه لم يَمُتْ وأنه رُفع إلى السماء بجسمه وروحه حيًّا دون موت، وأنه لا يزال في السماء حتى يأذن الله بما يأذن به، وأن الله تعالى كف عنه بني إسرائيل حين دَبَّرُوا قتله، ولهم عادات في قتل أنبيائهم والفتك بمن يُخَالِفهم، وبالغ في إحباط كَيْدِهم بإلقاء شَبَهِهِ على ذلك المنافق الذي دَلَّهُم عليه، فكان جزاؤه القتل وجزاء عيسى الإكرام بالرفع، وقال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مستوفيك وقابضك إليَّ وافيًا بجسمك وروحك (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا).
ورفع عيسى إلى السماء حيًّا كرفع نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة المعراج بروحه وجسده يقظة لا منامًا إلى السماء كما هو الحق. ولا غرابة في ذلك فإنها معجزات خارقة لا توزن بموازين العادات ولا تقاس بمقاييسها.
والله تعالى قادر عند ذلك على أن يُحدِثَ في الجسم البشري ما يُعِدُّه لهذه الرحلة ويُحوِّلَ ما يحيط به إلى ما يناسبه في هذه الحالة كما حَوَّلَ النار المحرقة بردًا وسلامًا على إبراهيم، وحول جبريل من الصورة الملكية إلى الصورة البشرية في لَمْحِ البصر حين كان يلقى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالوحي بصورة دِحْيَة الكلبي، وحين التقى بإبراهيم عليه السلام في بيته ضيفًا مع الملائكة قُبيل إنزال العذاب بقوم لوط.
وما دام ذلك في نطاق القدرة الإلهية ـ وقد وقع فعلًا وجاء به الخبر الصادق كما جاء بمعجزات الأنبياء وخوارقهم التي لا تحيط بها العقول ـ فأي غرابة في ذلك؟(1/89)
لا جرم أن استغرابه أو استبعاده إنما ينشأ عن دَخَلٍ في الصدر، وشك في الخبر، وتحديد لقدرة الله بحدود قدرة البشر، وإلا فمن آمن بقدرة الله على كل ممكن وآمن بالرسلات وبأن للرسل معجزات وبأن المعجزات أمور ممكنة في ذاتها هَيِّنَة جدًّا على خالقها، خارقة لعادة البشر، معجزة لهم وحدهم ـ أيقن بأن ذلك كله هين يسير.
وغَنِيٌّ عن البيان أن شأن عيسى ـ عليه السلام ـ من مَبْدَأ خَلْقِه إلى طَوْرِه في المهد إلى طور شبابه إلى طور قيامه بالدعوة في بني إسرائيل إلى طور عداوتهم له إلى طور تدبيرهم اغتيالَه ـ كان شأنًا عجيبًا، وكان كل ذلك ابتلاء لبني إسرائيل وأتباعه. وكان للافتراء والكذب عليه ونسبة ما لم يقله إليه شأن أعجب، وحسبنا قول الله تعالى حكاية عنه وهو في المهد: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ) أي بعد النزول (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام. والله أعلم.(1/90)
كلمة عن القاديانية
(نشر المنبر هذه الكلمة في يوم 2يناير 1953م)
أرسل إليَّ أحد الأفاضل من أصدقائنا العاملين المخلصين نشرة بالأُرْدِيَّة، عُنِيَتْ بطبعها وتوزيعها جمعية القاديانية الأحمدية في ربوة بالباكستان، أراد فيها صاحبها أن يَرُدَّ على مفتي الديار المصرية العلامة الجليل الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف ـ حفظه الله وأبقاه ـ إذ جاء في فتوى له ما أصابهم في صميمهم، ولم يعجبهم بطبيعة الحال ما جاء فيها من بيان لحقيقتهم ومعتقداتهم الباطلة (نُشِرَت فتوانا بشأنهم في باكستان بالأردية والعربية وكان لها أثر عظيم في جميع الأوساط وفي الإطاحة بمركز وزير الخارجية الباكستاني إذ ذاك وكان زعيمًا للقاديانية)
وأما ما جاء في هذه النشرة من الخُزَعْبِلَات والأَبَاطِيل، فلم يَكُن من شأنه يُلْتَفَتُ إليه في هذه الديار، إذ عرف الشعب الباكستاني بأجمعه أن هذه الفرقة المارقة إنما رَبَّاهَا الاستعمار في حجره وصنعها على عَيْنِه، وأنه لولا الاستعمار الإنكليزي لَقُضِيَ عليها في مَهْدِها، وقد قامت في البلاد حركة شعبية عنيفة منذ ستة أشهر شاركت فيها جميع الطبقات، تُطالِب بفَصْل هذه الطائفة عن المسلمين وجَعْلِها في عِدَاد الأقليات غير المسلمة، وتَنْحِية رجالها عن المناصب الرئيسية كلها.(1/91)
وقد بدأت تظهر لهذه الحركة نتائج حسنة، منها رجوع كثير منهم عن ضلالهم وخشية رجالهم في دوائر الحكومة على مناصبهم، والبعد عن الدعاية لنِحلَتِهم خوفًا على وظائفهم، هذا هو الحال في بلادنا التي نَبَتَت فيها هذه الشجرة الخبيثة. فلَسْنَا بحاجة اليوم إلى أن نرد على كل نشرة أو مقال لهم، فإن علماءنا وكُتّابنا قد قَضَوْا الوَطَر من ذلك، أما البلاد العربية فيظهر من مقالات بعض الصحف في تأييدهم أن البلاد العربية لا تزال بحاجة إلى أن نُبَيِّن لها حقيقة أمر هذه الطائفة المارقة الملقبة بالأحمدية تارة والقاديانية أخرى. فَلْنُبَيِّنْ بكلمة مُوجَزَة حقيقة هذه النِّحْلَة ومعتقداتها.(1/92)
فأول ما يَجِب أن نَلْفِت إليه أنظار القراء أن المتنبي الكذاب المدعو "مِيرْزَا غلام أحمد" قد ادعى النبوة وصَرَّح بذلك غير مرة في خطبه وكتبه، وكان القوم متفقين على ذلك، حتى انقسموا إلى طائفتين قبيل الحرب العالمية الأولى، على أثر وفاة خليفة "الغلام" الأول، الطبيب نور الدين. فأرادت طائفة من نبهائهم وعلى رأسهم محمد علي، رئيس الأحمدية اللاهورية السابق، وكمال الدين مدير مسجد "ووكنج" بلندن وصدر الدين رئيس الأحمدية اللاهورية الحالي، بعدما تُوفِّيَ الأَوَّلَان، أن يكون محمد علي هو الخليفة الثاني، لكن جمهرة أتباع الغلام أَبَوْا إلا أن يكون ابن صاحبهم بشير الدين محمود هو الخليفة الثاني وإمام الطائفة بأجمعها. لكن محمد علي، وكمال الدين، وصدر الدين، ومَن على شاكلتهم أَبَوْا النزول على إرادة جمهورهم وانفصلوا عن بشير الدين وأتباعه القاديانيين وأسسوا لهم مركزًا جديدًا في لاهور وأَسْمَوا أنفسهم "الأحمدية" وبَيَّنُوا للناس أنهم يَرَوْنَ أن غلام أحمد لم يكن نبيًّا، وإنما كان المسيح الموعود والمهدي بصورة المُجَدِّد، وأنه كان يكلمه الله، وأن الوحي لم ينقطع بموت محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن الله يُكَلِّم عباده الصالحين إلى الآن، وأن من لم يؤمن بغلام أحمد يعد عاصيًا ولا يكون كافرًا. إلى غير ذلك من السخافات، كما تَجِدُه مفصلًا في كتبهم، لكن بشير الدين محمود لم يقبل منهم هذه الأعذار الباردة وتلك التأويلات البعيدة، فأراد أن يقيم عليهم حجة أبيه وألف كتابًا ضخمًا أسماه "حقيقة النبوة" سنة 1915 الميلادية، أي بعد انفصال اللاهوريين بقليل، وأورد فيه عشرين حجة على نبوة أبيه، والحجة السابعة منها أن "غلام أحمد" بنفسه ادعى النبوة ولقب نفسه "بالنبي" و"الرسول" ثم استشهد على هذه الحجة السابعة بتسعة وثلاثين قولًا من مؤلفات أبيه، ادعى فيها النبوة وأنه يُوحَى إليه مثل قوله: أُقْسم بالله الذي نفسي بيده أنه هو الذي(1/93)
أرسلني وسماني نبيًّا (تتمة حقيقة الوحي: ص68).
وكذلك ذكر الميرزا بشير بن محمود نُبذة مما أُوحيَ به إلى أبيه، حُجَّة على نبوته وصدق دعواه. ومن حُسْنِ الحظ أن بعض شياطينه كان يَتَكَلَّم بالعربية. فانظروا يا أبناء العرب إلى هذا الوحي بلغتكم وهذه بعض آياته:
(1) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وتهذيب الأخلاق.
(2) إني مع الرسول أقوم وألوم من يلوم.
(3) إني مع الرسول أقوم وأفطر وأصوم.
(4) إنا أرسلنا أحمد إلى قَوْم فأَعْرَضوا وقالوا كذاب أَشِر.
لقد أتى بشير الدين محمود، الابن الوفي للمتنبي الكذاب بتسع وثلاثين قطعة من الكلام المنزل في زعمه على أبيه، كما أورد تسعًا وثلاثين حجة على نبوته المزعومة لكننا آثرنا الآن الاقتصار على بعض منها فقط. وفي ذلك كفاية للمتبصر. وإن أراد الاستزادة من هذا الباب فنحن على استعداد لموافاته بما يريد.
فالحق الذي لا مِرَاء فيه ولا مَجَالَ فيه لأدنى ريب ولا شبهة أن الرجل المدعو غلام أحمد، المولود في قرية قاديان من قرى (بنجاب) في الهند، والمتوفى بها سنة 1908 الميلادية، قد ادعى النبوة ادعاء صريحًا، وأن من ينكر ادعاءه ذَلِكَ مدخول في عقله أو إيمانه أو ديانته. وأما ما أول به أقواله محمد علي وكمال الدين وأتباعهما، فذلك دليل على أن اللَّجاج والمكابرة إذا استوليا على أحد ولم تَتَدَارَكه رحْمَة وتوفيق من رَبِّه فليس في العالم شيء يمكن أن يعصمه من الزلل والتمادي في الغي. وقد رَدَّ عليهم بَشير الدين محمود دفاعًا عن نبوة أبيه ردًّا أحاط بجميع جوانب الموضوع. أما نَحْن، فقد عَرَفْنَا مِن كتب الغلام نفسه أنه ادعى النبوة، بما لا يتطرق إليه أَدْهَى شك ولا ارتياب، وإنما استشهدنا بكتاب بشير الدين محمود؛ لأنه ولد الغلام وخليفته وإمام طائفته.(1/94)
هذا، وَهَبْ أن محمد علي وكمال الدين وصدر الدين ومن معهم صادقون في أن الغلام ما ادعى النبوة وإنما كان المسيح الموعود بصورة المجدد، كما يقولون، فما معنى عدم انقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عيه وسلم؟ وحقيقة الأمر أن القوم اضطُّرُّوا إلى القول بعدم انقطاع الوحي لورود عبارات بالعربية والإنجليزية والأردية في مؤلفاته يقول عنها إنها أنزلها الله عليه كما كان ينزل على النبيين من قبل. فهذه الآيات المنزلة على مَسِيحِهِم ومُجَدِّدهم ـ بزعمهم ـ هي التي ألجأتهم إلى القول بعدم انقطاع الوحي بعد خاتم النبيين، فكان مثلهم في ذلك كمثل المستجير من الرمضاء بالنار.
أما بشير الدين محمود فما زال برًّا بأبيه وفيًّا بنبوته معلنًا بكفر من لا يؤمن بنبوته، إلى أن قامت في البلاد حركة شعبية عنيفة تطلب فصل القاديانيين عن المسلمين وجعلهم أقلية كسائر الأقليات غير المسلمة، فقامت قيامتهم وجعلوا يُنادُون بالويل والثبور، وشرعوا يذيعون الفتنة بعد الفتنة أنهم لا ينكرون ختم النبوة، وأنهم يؤمنون أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان خاتم النبيين، وأن الغلام أحمد ما كان إلا نبيًّا ظليلًا غير تشريعي، مما لا يقدح في عقيدة ختم النبوة التي يَتَمَسَّك بها المسلمون في العالم وما ذلك إلا لِيُخَفِّفوا من غُلَوَاء الحركة الشعبية وشدة بأسها.
والحركة قائمة والمعركة حَامٍ وَطِيسُها بين الشعب والحكومة، وعسى أن تُسْفِر القضية عما تَقَرُّ به أعين المسلمين ويُثْلِج صدورهم، والله المستعان.
مسعود الندوي
معتمد دار العروبة للدعوة الإسلامية
رابندي ـ باكستان
(7 ـ فتاوى شرعية ـ 1)(1/95)
وجوب الإيمان بالرسل ومعناه
(السؤال): ما حُكم العامي الذي يَجْهَل نُبُوَّة نبي أو رسول من الخمسة والعشرين نبيًّا المذكورين في القرآن والذين يَجِب على المسلم العلم بهم تفضيلاً؟
(الجواب): يجب الإيمان بالرسل إيمانًا إجماليًّا فيما عُلِمَ إجمالًا، وتفصيليًّا فيما عُلِمَ تفصيلاً، وقد نَصَّ القرآن على خمسة وعشرين منهم.
وقال العلامة الباجوري في حواشي جوهرة التوحيد:
(معنى كون الإيمان واجبًا بهم تفصيلاً أنه لو عُرِضَ عليه واحد منهم لم يُنْكِر نبوته ولا رسالته، فمَن أنكر نبوة واحد منهم أو رسالته كَفَر. لكن العامي لا يُحْكَم عليه بالكفر إلا إن أنكر بعد تعليمه، وليس المراد حِفظ أسمائهم وجوبًا).
وقال العلامة الأمير: إنَّ جَهْل واحد من هؤلاء يضُر في أصل الإيمان فيما عُلم بالضرورة كمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأما نحو (اليسع) فأكثر العامة يجهلون اسمه فضلاً عن رسالته، فالظاهر أنه كغيره من المتواتر لا يُعَدُّ كفرًا إلا بعناد بعد التعليم. اهـ والله أعلم.(1/96)
ذكر الله تعالى بعد الأذان
(السؤال): يقول أناس بعد أذان الفجر: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله) جهرًا سَبع مرات. فهل لهذا أصل شرعي؟
(الجواب): إن معانيَ هذا الباب لا يتذوقها إلا العارفون، والكلام فيها ضَافِي الذيول، وحَسْبُك منه الآن ما نقول، فسبح بحمد ربك وكن من الشاكرين. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ).
ووَرَدَ في الذكر ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة وأبى سعيد، رضى الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَقْعُد قوم يذكرون الله إلا حَفَّتْهم الملائكة وغَشِيَتهم الرحمة ونَزَلَت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده).
وعن عائشة، رضى الله عنها، قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر أن يقول قبل موته: (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه) متفق عليه.
وعن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبْحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، أستغفر الله وأتوب إليه. مَن قالها كَتَبَ الله كما قال، ثم عُلِّقَت بالعرش لا يمحوها ذنب عمله صاحبها حتى تلقى الله يوم القيامة مختومة كما قالها). أخرجه البزار في مسنده، كما ذكره الشوكاني في شرحه تحفة الذاكرين.
ويؤيده ما رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن أبى شيبة في مصنفه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه في فضل سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم وبحمده، وما ورد في الكتاب والسنة في فضل الاستغفار.(1/97)
أما قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ) ففيه مع الدلالة على طلب الذكر في كل وقت، والتحذير من الغفلة عنه، وعلى مشروعية الذكر اللساني المصاحب للتوجُّه القلبي، وعلى التضرع والخشوع فيه، والخوف من الله تعالى تنبيه على الاقتصاد بحيث يكون وسَطًا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً).
وذكر العلامة الألوسي في تفسيره، أن المراد بالجهر رفْع الصوت المُفْرِط، وبما دونه نوع آخر من الجهر. اهـ أي أقل منه.
ومن هذا يُعْلَم الجواب عن السؤال، وأن شعار المؤمنين ذكر الله تعالى في كل حال. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أكثر عباد الله ذكرًا واستغفارًا ودعاء وابتهالاً، وله في التعبير عن خَلَجَات نفسه وخواطر قلبه في مقام العبودية لله والتضرع إليه روائع وجوامع، فينبغي لكل مؤمن أن يكون منها على ذكر دائم.
ومما يجب التنبيه إليه أن كثيرًا من حلقات الأذكار الحالية يقترن بها بِدَع ومحرمات، فمن تحريف في أسماء الله تعالى إلى التزام هيئات بَشِعَة وحركات مستهجَنة، إلى أعمال جاهلية وشعوذة شيطانية لا يُقِرُّها الشرع ولا يعرفها الدين الخالص. ومن واجب مشيخة الطرق الصوفية أن تُرشِدَ الذاكرين، وتُعَلِّم الجاهلين، وتَضرِب على أيدي المشعوذين، حتى يبدو الإسلام في نقائه وجماله، ورُوَائِه وكماله. ويعرف الناس كافَّة أنه بريء من هذه البدع والخرافات والشعوذة والمنكَرات (لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْ كُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ).(1/98)
وعند ذلك تُؤَدِّي الطرق الصوفية رسالتها للمريدين، وتكون خير مِعْوَان على نشر الدين وتهذيب نفوس السالكين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله أعلم.(1/99)
التوبة تمحو الذنوب
(السؤال): شخص ارتكب معاصيَ كثيرة كبيرة ثم تاب، وتَكَرَّرَ ذلك منه. ثم تاب التوبة الأخيرة وعَزَم ألاّ يعود، فهل مع ذلك يُدَان أهله بمثل ما فعل؟
(الجواب): من ارتكب شيئًا من المعاصي التي حرمها الله تعالى ثم تاب منها توبة نصوحًا نَدِمَ فيها على ما فعل وأَقْلَع عنه وعَزَم على ألاّ يعود، ورَدَّ المظالم لأهلها إن كانت متعلقة بحقوق العباد، فقد وَعَد الله تعالى تَفضُّلًا منه ورحمة بعباده أن يَقْبَل توبته كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) ووعده حق وخبره صدق.
وقال تعالى في سورة الفرقان بعد أن ذكر أنواعًا من الكبائر والموبقات: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا).
والتوبة تمحو الذنب ولا يبقى له أثر أصلًا نعمة من الله وفضلًا. والله أعلم.(1/100)
عاصٍ يتوب
(السؤال): شاب زَلَّتْ قدَمُه فارتكب الفاحشة مع إحدى قريبات زوجته ويريد الانصراف عنها والتوبة من هذه الكبيرة، فكيف السبيل إلى ذلك؟
ويقول: إني لَحَائِر خائف فأرشدني.
(الجواب): الشعور بِعِظَم الجريرة، وفَدَاحَة الجريمة، والخوف من غضب الله تعالى أول ما يدعو المؤمن إلى مَقْتِ المعصية، ويصرفه عنها ويُخِيفُه منها، ويدعوه إلى التوبة والاستغفار والندم والحسرة، والعزم المصمَّم على عدم العودة أبدًا، وفي حديث ابن مسعود (التوبة من الذنب ألا تعود إليه أبدًا) وفي الحديث: (التوبة النصوح: الندم على الذنب حين يَفرُطُ منك، فتستغفر الله تعالى ثم لا تعود إليه أبدًا) (الجامع الصغير).
فإذا وفَقَّه الله لذلك فقد سَلَكَ الهدى، وقَرَعَ باب العفو والرضا، والله يحب التوابين، ويحب المتطهرين.
والآن وقد استَفَقْتَ أيها الشاب النادم، وارْعَوَيْتَ عن الذنب، واعتزمت الفَيْئَة إلى الله، وأنفذت ما عقدت عليه العزم، ابتغاء رحمة الله ورضاه، فرحمة الله منك قريب، ورضاه عنك مَرْجُوٌّ، وقبوله لك مأمول، والله أرحم الراحمين. والله أعلم.(1/101)
تكرر الذنب والتوبة
(السؤال): شخص يذنب كثيرًا ثم يتوب، ولكن لا يَلْبَث أن يعود لضعف إرادته وانقياده لعاطفته، فهل تُقْبَل منه التوبة؟ وهل من طريق إلى علاج نفسه؟
(الجواب): قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فَقَرَن الفلاح بالتوبة إلى الله والإنابة إليه، وجَعَلَها شعار المؤمنين، وقد وَعَدَ الله التائبين بقَبول توبتهم والعفو عن سيئاتهم فضلاً منه ورحمة، والواجب على المؤمن كلما أذنب أن يُتبِعَ الذنبَ بالتوبة النصوح، وحقيقتها نَدَمٌ على ما فعل، وإقلاع عن الذنب، وعزم على ألا يعود، والله غفور رحيم.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سَقَطَ على بعيره وقد أضله في أرض فلاة) (متفق عليه) وفي حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ـ عز وجل ـ يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ) (رواه الترمذي).
وأعلم أنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون، وأن التوبة والاستغفار من مظاهر العبودية الحقة لله تعالى.
وفي حديث مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم).
هذا باب الرجاء وبجانبه باب الخوف، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.(1/102)
ولعلاج النفس الأمارة بالسوء وسائل شتي، أهمها المجاهدة والمحاسبة والابتعاد عن مواطن الفتن، فمن حام حول الحِمَى يوشك أن يواقعه، واجتناب قرناء السوء، والإكثار من الصلاة بخشوع وهي التي تنْهَى عن الفحشاء والمنكر، وتلاوة القرآن بتدبر وإِمْعَان، والنظر في سيرة النبي الأعظم وأصحابه الطاهرين، وفي ذَلِك تعليم وإرشاد، وإيقاظ وتوجيه، وعصمة وأمان، وإضعاف لِحَظِّ الشيطان. وكم من مذنب قرَّبه الله إليه بقَبول توبته والإقلاع عن حَوْبَته والندم على فعلته، بعد أن كشف الغطاء عن بصيرته، ووفقه للهداية إلى الصراط المستقيم، كما ورد في صادق الأخبار، والله المستعان. والله أعلم.(1/103)
التحذير من وسوسة الشيطان
وَرَدَ إلينا (السؤال) الآتي من شاب يقول فيه:
إني نشأت في طاعة الله ـ سبحانه ـ استجابة لدعوة الحق، ولَمَّا قضَى الله أن يُحَال بيني وبين الاتصال بالدعوة وَسْوَس إليَّ الشيطان ببعض المنكر ففعلت، وما زال بي يُغويني ويضلني حتى تَحَيَّرت في أمري. فماذا أفعل؟
(الجواب): أيها الشاب، أَقِم على الدعوة وأَوْفِ بالعهد إن العهد كان مسؤولاً، واعلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيزين له القبيح ويوسوس له بالباطل، ويحاول أن يُغويَه ويفتنه عن دينه بكل وسيلة حتى يَبَرَّ في قسَمه: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وحبائله شتي ووسائله كثيرة، ولا نجاة من شَرِّه إلا بتقوى الله والاعتصام بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر، وأن المؤمن إذا ارتكب ذنبًا ثم تاب إلى الله وندم على ما فعل قبل توبته ومَحَا حَوْبَته. فلا يَمْنَعنَّك من متابعة الطاعة ما فَرَطَ منك من معصية، ولا يَصُدَّنَّكَ عن الحق سَبْقُ الوقوع في الباطل، واستَعِن بالله وبما في القرآن من هدًى على نفسك وقرينك، وأَدِم تلاوة الذكر الحكيم، ولا تجالس إلا الأخيار، وعُد إلى ربك عابدًا قانتًا، والله يتولى هداك، ومنه التوفيق والمَعُونة. والله أعلم.(1/104)
حديث عرض الأعمال على الرسول صلى الله عليه وسلم
وردت إلينا عدة أسئلة عن حديث: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم...) الحديث، هل هو حديث مرويٌّ؟ وما معناه؟
(الجواب): قد رُوِيَ هذا الحديث بهذا اللفظ في الجامع الصغير بإسناد ضعيف عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ ورُوِيَ عن بكر بن عبد الله المُزَني مرسَلاً بلفظ: (حياتي خير لكم؛ تُحَدِّثُون) بضم المثناة الفوقية وكسر الدال المشدَّدة (ويُحَدَّثُ لكم) بضم أوله وفتح الدال المشددة (فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعْرَض عليَّ أعمالكم، فإن رأيتُ خيرًا حَمِدتُ الله، وإن رأيت شرًّا استغفرت لكم) اهـ.
وفي المواهب اللَّدُنِّيَّة وشرحها: روى البزار بسند جيد عن ابن مسعود رفعه بلفظ: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، تُعرَض عليَّ أعمالكم فما كان من حَسَن حَمِدتُ الله عليه، وما كان من سيئ استغفرت الله لكم).
وروى عبد الله بن المبارك عن سعيد بن المسيب (تابعي جليل) قال: (ليس من يوم إلا وتُعْرَض على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعمال أمته غدوة وعشِيًّا، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فيَحْمَد الله ويستغفره لهم).
والحديث المرسل (ومثاله عند المحدِّثين قول التابعي: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذا) له عند الشافعي حكم الحديث الضعيف، إلا أن يَصِحَّ مَخْرَجه بمجيئه من وجه آخر، فيُقبَل ويُحتَج به، ولذلك احْتَجَّ الشافعي بمراسيل سعيد بن المسيب لإسنادها من وجوه أُخَر، وذهب إلى أن المراسيل يُحْتَجُّ بها إذا اعتَضَدَت بمسانيد وأما عند الحنفية والمالكية فيُحتَج بها مطلقًا متى كان الرواة ثقات (كما تَقَرَّر في الأصول والمصطلح).
وهذا الحديث قد رُوِي مرسلاً ورجاله ثقات، كما نَقَلَه العزيزي في شرح الجامع الصغير، ورُوِيَ مُسنَدًا عن أنس، ومرفوعًا بإسناد جيد عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فيُقبَل باتفاق الأئمة.(1/105)
وإذا ثبت هذا الحديث روايةً فمعناه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان خيرًا للأمة في حياته، إذ حَفِظَها الله تعالى بِسِرِّ وُجُودِه من الضلال والفتن والاختلاف وهدى به الناس إلى الحق المبين، وبعد أن توفاه الله لازال خيره موصولاً وظل بِرُّهُ ممدودًا. إذ تُعرَضُ عليه أعمال أمته كل يوم فيحمد الله على ما يَجِد من خير، ويسأل الله لهم مغفرة الصغائر وتخفيف العقاب على الكبائر، وهذا خير عظيم، فكان عليه السلام في حياته خيرًا للأمة، وكانت وفاته خيرًا لها.
وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ثَبَتَ في الأحاديث حي في قبره حياة برزخية خاصة أقوى من حياة الشهداء التي نَطَقَ بها القرآن في غير آية، لا يعلم كُنْهَهَا إلا واهبها ـ جل وعلا ـ وهو على كل شيء قدير، وعَرْضُ الأعمال عليه تكريمًا له ولأمته من الأمور الجائزة عقلا الواردة سمعًا، فلا مجال لإنكاره، ويهدي الله لنوره من يشاء. والله أعلم.(1/106)
الجَمْع بين حديثين
بَيَّنَّا في الفتوى السابقة ما يتعلق بحديث (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) من جهة الرواية، وما يُفِيدُه من عَرْض أعمال المؤمنين على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غدوةً وعشيًّا في حياته البرزخية الخاصة. وقد انْسَاقَ إلى الأذهان أنه معارَض بحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أخرجه البخاري في التفسير والرقاق وأحاديث الأنبياء، وأخرجه مسلم في بَابَيْ الطهارة وصفة القيامة، وأخرجه النسائي في الجنائز، وطلب منا كاتب فاضل بيان مَحْمِل الحديثين.
(والجواب): أن حديث ابن عباس رواه البخاري في بعض أبوابه بلفظ: قام فينا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب فقال: "إنكم تُحشَرون حُفاةً عُراةً غُرْلًا" ثم قرأ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) "وإن أول الخلائق يُكْسَى يوم القيامة إبراهيم الخليل، وإنه سيُجاءُ برجال من أمتي فيُؤخَذُ بهم ذات الشمال، فأقول: يارب أصحابي. فيقول الله: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح": (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) "فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم".
فهؤلاء الرجال قد وصفهم الرسول بأنهم من أمته وأصحابه، وأخبره الله تعالى أنهم أحدثوا بعده رِدَّة، ولم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقهم، وأنه مَقضِيٌّ في أمرهم بعذاب النار.(1/107)
وقد اختلف العلماء في تَعْيِينهم كما ذكره شُرَّاح الحديث، فقيل: هم الذين ارْتَدُّوا عن الإسلام على عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فقاتلهم حتى ماتوا على الكفر. وهم قوم من جُفَاة الأعراب دَخَلوا في الإسلام رَهْبَة، وليس لهم نُصْرَة في الدين، يُحْشَرون بالغُرّة والتحجيل لكونهم من جملة الأمة وهُمَا من خصائصها، فيناديهم من أَجْلِ السِّيما التي عليهم ويقول: يا رب أصحابي. فيقال له إنهم بَدَّلُوا بعدك دينهم، ولم يموتوا على ظاهر ما فارقتهم عليه، فيُؤْمر بهم إلى جهة النار فيقول الرسول: (سُحْقًا سُحْقًا) كما في بعض الروايات ويُذهِبُ الله عنهم الغُرَّة والتحجيل، ويُطفئُ نورَهم.
وهذا القول هو الظاهر من الحديث؛ ولذا رجَّحَه القاضي عياض والباجي وغيرهما والإمام النووي في شرح مسلم في باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
وهؤلاء المرتدون لا تُعْرَض أعمالهم على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته البرزخية كما لا تُعْرَض عليه أعمال سائر من مَاتَ على الكفر من أمة الدعوة، لا فَرْقَ بين من كان في عهد الرسالة ومن جاء بَعْدَه، وإنما تُعْرَض عليه أعمال (أمة الإجابة) وهم الذين ماتوا على الإيمان؛ لذلك يَحمَد الله على ما أتَوا من حسنات، ويستغفر الله لهم فيما أتَوا من سيئات، ولا يمكن الاستغفار لمن مات كافرًا.
فلا تعارض بين الحديثين، إذ حديث ابن عباس في شأن من ارتد عن الإسلام في عهد الصديق وقُتِلَ على ردته وكفره، وهؤلاء لا تُعْرَض أعمالهم على الرسول؛ ولذلك تَخفَى عليه، وحديث عرض الأعمال خاص بمن مات من المؤمنين من أمة الإجابة على الإسلام.(1/108)
ويؤكد ذلك ما نَقَلَه الحافظ في الفتح عن بعض العلماء في تفسير حديث ابن عباس من أن المراد به من مات على الكفر، والمراد (بأمتي) أمة الدعوة لا أمة الإجابة. ويُرَجِّحه ما في حديث أبي هريرة من قوله ـ عليه السلام ـ فأقول (بُعْدًا وسحقًا) ويؤيده كونه خفي عليه حالهم، ولو كانوا من أمة الإجابة لَعَرَف حالهم لِكَوْن أعمالهم تُعْرَض عليه اهـ . حيث يشير إلى أن أعمال من مات الكفر لا تُعرَضُ على الرسول وإن كان من أمة الدعوة؛ ولذا تَخفَى عليه، وأن الذي يُعرَضُ عليه أعمال من مات من أمة الإجابة؛ ولذا يعرفها، وإن كان الراجح عندنا في تفسير الحديث ما قدمناه.
هذا وقد عَلِمْتَ مما ذكرناه أن حديث عرض الأعمال رُوِيَ مرفوعًا بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود، وحديث ابن عباس مرفوع أيضًا وكلاهما حديث آحاد لا يفيد القطع كالمتواتر بل يفيد غَلَبَة الظن بمعناه لثبوت صدق ناقله، وأنه لا تَعارُض مع إمكان الجمع بين الحديثين، والجمع بينهما بما ذكرنا ظاهر من عبارتهما مُشَارٌ إليه في الشروح فلا لبس ولا خفاء. والله أعلم.(1/109)
أسئلة متنوعة
ما الفريق بين أمة الدعوة وأمة الإجابة الوارد ذكرهما في بيان حديث عرض الأعمال على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وما الفرق بين الحديث المتواتر وحديث الآحاد والحديث المرسَل؟
وهل حديث (بين الرجل والكفر تَرْك الصلاة) حديث ثابت؟ وما معناه؟
وهل اعتقاد الإنسان أنه لولا النَّذْر ما كان في بيته بهيمة أو ما عاش له ولد اعتقاد جائز؟
وهل مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يَتُب يموت كافرًا؟
وهل عَرْض أعمال أمَّة الإجابة على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البرزخ خاص بالأحياء أو يَشْمَل الأموات؟
(الجواب):
(1) المراد بأمة الإجابة: من بَلَغَتهم دعوة الإسلام فاستجابوا لها وماتوا مؤمنين بها.
والمراد بأمة الدعوة: من بلغتهم الدعوة فَلَم يستجيبوا لها وماتوا على الكفر الظاهر كالمشركين وسائر الكفار، أو على الكفر الباطن كالمنافقين.
2ـ الحديث المتواتر: هو ما يرويه عدد تُحِيلُ العادة تَوَاطُؤَهم على الكذب من ابتدائه من جهة الراوي إلى انتهائه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ولابد أن يكون مستنِدًا في انتهائه إلى الحِسِّ، ويضاف إلى ذلك أن يَصْحَبَ خبرَهم إفادةُ العلم اليقيني لسامعه كحديث: (من كَذَبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوأ مَقْعَده من النار) فقد نَقَلَ النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة.
ويقابله حديث الآحاد وهو أقسام؛ منه المشهور كحديث: (إنما الأعمال بالنيات) ومنه العزيز ومنه الغريب، ومنه الصحيح والحسن والضعيف. ومن الضعيف (الحديث المرسَل) وهو ما يرفعه التابعي مطلقًا، أو التابعي الكبير إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد ذهب إلى الاحتجاج به أبو حنيفة ومالك وأحمد، وإلى عدم الاحتجاج به الشافعي، إلا إذا اعتَضَد بمجيئه مسنَدًا من وجْه آخر، إلخ ما ذكر في علم مصطلح الحديث في هذا الموضوع.(1/110)
3ـ في الجامع الصغير للحافظ السيوطي، عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر تَرْك الصلاة) رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وفي شرحه معناه، أنَّ تَرْك الصلاة وُصْلَة بين العبد والكفر أي يوصله إليه. وهو محمول إما على المستحِلِّ لتركها، وإما على أن من تركها يشبه الكفار، إذ هي الفارق بين المسلم والكافر، وإما على أنه بتركها يستحق عقوبة وهي القتل. وهذا تفظيع لجريمة ترك الصلاة.
4ـ واعتقاد الإنسان أنه لولا النَّذْر ما كان له ما ذكر في السؤال، اعتقاد باطل وجَهْل فاضِح.
5ـ والكبيرة غير الكفر لا تُخْرج العبد المؤمن من الإيمان والتصديق، ولا تدخله في الكفر، بل يُعَدُّ بارتكابها مؤمنًا عاصيًا، كما يشير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا). فإذا مات على عصيانه ولم يَكُن مستحِلًّا له، فإن عَذَّبه الله تعالى فبالعدل وإنْ أَثَابَه فبالفضل، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) أي من الصغائر والكبائر غيرَ الشرك والكفر، مع التوبة أو بدونها. وليس للعبد المؤمن أن يَتَّكِل على جواز الغفران ويَدَع التوبة أو العمل، لأنه مَنُوط بالمشيئة، وهو لا يَعلم من أمرها شيئًا.(1/111)
6ـ والظاهر من حديث عَرْض الأعمال أنه مختَصٌّ بالأحياء من أمة الإجابة كما بَيَّنَّاه في فتوى سابقة، والأمر في حَيِّز الإمكان ودائرة القدرة الإلهية، وقد وَرَدَ به السمع ورواه الثقات من المحدِّثين، وأقل مراتبه الضعف من جِهَة الإسناد وهو شيء غير الوضع. ولا يَحِل لمسلم أن يجزم بأنه ليس بحديث والحالة هذه، لِمَا في ذلك من الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذِ الكَذِب كما يكون بنسبة قول إليه لم يَقُلْه، يكون بنفي قَوْل عنه قد قاله ولو احتمالًا، وفي الحديث: (مَن كذَب عليَّ متعمِّدًا فلْيَتَبَوَّأ مَقعَده في النار).
وَإِذَا لَمْ تَرَ الهِلَالَ فَسَلِّمْ لأِنُاَسٍ رَأَوْهُ بِالأَبْصَارِ
نسأل الله الهداية والتوفيق. والله أعلم.(1/112)
تأنيب الضمير مفتاح التوبة
كتب إلينا رجل من أهالي طنطا، أنه قد زَلَّ في ماضيه زَلَّة فاحشة فاتصل بسيدة متزوجة ونَجَم عن ذلك طلاقها من زَوْجها ولَهَا منه أولاد، كما نَتَجَ عنه فيما بعد طلاقه لزوجته، وله منها أولاد، ولكنهم صغار، وقد تَزَوَّج بهذه السيدة ولا زالت مَعَه، ولا زال في كَنَفِه أولادها من زوجها السابق، وأولاده من زوجته السابقة، فماذا يَصْنَع للتكفير عن ذنبه؟ وطَلَبَ إلينا نَشْر البيان في (المنبر) مُلِحًّا في ذلك وقد أخفَى اسمه وعنوانه.(1/113)
ومع أن هذا البيان لا يدخل في نطاق الإفتاء إلا أنه تَوْجِيه عام لمسلم حائر كما يقول، يشعر بعظم الذنب، ويبغي إرضاء ربه وإرضاء ضميره (فنقول) لهذا السائل وأمثاله ممن أغواهم الشيطان، فزَيَّنَ لهم العصيان: إن هذه المعصية من كبائر الذنوب وعظائم الآثام، فيها عدوان على العرض، وعدوان على الزوج، وعدوان على الأسرة، فضلاً عن العدوان على حق الله الذي شَرَعَ الشرائع وحدَّد الحدود وحرَّم الفواحش، ولكن الله تعالى وهو لطيف قد سَبَقَت رحمتُه غَضَبه ووَسِعَت رحمتُه كل شيء ففتح للمذنبين باب التوبة من الذنوب وحَثَّهُم على الولوج منه إلى ساحة الغفران ووَعَد بقبول توبتهم إذا أخلصوا النية فيها وأنابوا إلى ربهم نادمين، فقال تعالى: (وَهُوَ الذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وقال تعالى في سورة الفرقان بعد أن ذكر الفواحش ومنها الزنا وأوعد بالعقاب الشديد عليها: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا) وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ).(1/114)
فمن ارتكب ذنبًا عظيمًا واعتَدى فيه على حق من حقوق الله، تعالى، ثم أَتْبَعَ ذلك بالتوبة والاستغفار فإن الله، تعالى، قد وَعَدَ بقَبول توبته ومَحْوِ خطيئته، وإذا كان الحق الذي اعتُدِيَ عليه حقًّا لأخيه الإنسان، يَجِب عليه مع التوبة والإنابة رَدُّه إلى صاحبه إن أمكن وتَيَسَّر، وإلا فعليه أن يُدِيم الاستغفار والتصدق والإحسان والعمل الصالح. راجيًا مِن الله القَبول، وأن يُلْهِمَ صاحبَ الحق التجاوزَ عن حَقِّه يوم الحساب والجزاء والمُلك يومئذ لله. فهو في عَفْو الله تعالى والله عَفُوٌّ غفور رحيم.
ومن أهم الحسنات وأعظم الطاعات وأَرْجَاها قبولاً كفالةُ اليتامى وتعهدهم بالتربية والإحسان والعناية بشؤونهم وتَدْبِير أُمُورِهم، وكذلك القيام بتربية الأولاد على الصَّلَاح والتقوى وتوجيههم إلى الخير وما فيه نَفْع لهم في دينهم ودنياهم.
فإذا تَعَهَّدَ هذا السائل أولاد زوجته هذه مِن غيره وأولاده من زوجته السابقة بالبِرِّ والإحسان وثاب إلى الله وأناب وأَقْبَل على ربه بقلب خاشع، يُرْجَى له القبولُ والغفرانُ يوم يؤخذ بالنواصي والأقدامِ، والرحمةُ من العذاب يوم العرض والحساب. والله ولي المتقين، والله أعلم.(1/115)
حديث موضوع
(لم يَأْلُ علماء الحديث جُهدًا في تخريج الأحاديث ومعرفة الصحيح والضعيف منها ومعرفة الموضوع الذي لا أصل له والتنبيه عليه وذكر واضعه أو أمَارات وَضْعِه وقد بَذَلوا في ذلك جهودًا جبارة تَشْهَد لهم بأنهم أُوتوا من المهارة والحذق والمعرفة والضبط والإحاطة بتواريخ الرجال وصفاتهم وأحوالهم ما لم يتوافر في علماء أية أمة من الأمم أو أي دين الأديان. ولهم في ذلك موسوعات ومؤلفات معروفة في المكتبة الإسلامية وهي مرجع الباحثين الذين يَنْشُدُون الحق ولا يُلْقُون القول في الحديث وأئمته جُزافًا)
(السؤال): رَوَتْ إحدى المجلات لفظة: (أَتَرِعُونَ عن ذِكْر الفاجر حتى يعرفه الناس! اذكروا الفاجر بما فيه يَحْذَرْه الناس) فهل هو حديث صحيح؟ وما معناه؟
(الجواب): ذكر الإمام السيوطي هذا الحديث بهذا اللفظ في الجامع الصغير وضبط العزيزي لفظة (أَتَرِعُون) بفتح الهمزة وكسر الراء وضم العين، والهمزة استفهامية، وقال: معناه: أَتَتَحَرَّجون وتمتنعون عن ذكر الفاجر بما فيه خشية أن يعرفه الناس، فإذا امتنعتم عن ذلك فمن يعرفه؟ فاذكروه إذا كان معلِنًا بما فيه من غير زيادة ليعرفه ويحذره الناس. قال العلامة الحفني في شرحه: إنه حديث موضوع أي كَذِب، لم يَقُلْهُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكره العلقمي وغيره لتفرد الجارود بروايته عن فهد بن حكيم والجارود وَضَّاعٌ اهـ. والله أعلم.(1/116)
حديث آخر موضوع
(السؤال): هل وَرَدَ في الأحاديث: (لو أحسن أحدكم ظنَّه في حَجَر نَفَعَه الله به)؟
(الجواب): يروي العامة هذا على أنه حديث نبوي، وهو قَوْل موضوع وكَذِب مَصْنُوع، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة. وهو كلام فاسد؛ إذ معناه أن إحسان الظن بأي شيء ولو كان حَجَرًا سبب في الانتفاع به، وهذا بإطلاقه غير صحيح، فإن إحسان الظن بالأصنام والأوثان وما أشبهها كُفْر بَوَاحٌ يُوْبِق صاحبه في النار. وإحسان الظن بالزنادقة وأهل الزيغ والضلال والظلمة والفجار من المَضَار. وإحسان الظن بالمشعوذين الدجالين والماكرين المخادعين والأعداء المحاربين من أشد الأخطار، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وقوله عليه الصلاة والسلام: (احترسوا من الناس بسوء الظن).
نعم، هناك نوع من الظن حَسَن نافع كظن الخير في أهل العلم والصلاح وذوي المروءة والاستقامة، ومن على شاكلتهم، فإنَّه يَنْفَع صاحبه في الاقتداء بِهِم والاستفادة منهم والإحسان إليهم، بل هو مندوب إليه. وإساءة الظن بهم منهي عنها كما في حديث: (إياكم والظن فإن الظنَّ أَكْذَبُ الحديث) ولكنه غير المقصود بخصوصه في الجملة المسؤول عنها التي خرجت بالمبالغة إلى حَدِّ الكذب على الله، تعالى، وعلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما دام لم يَقُلْه، فاعرف أرشدك الله مواطن الأمور متى تحسن الظن ومتى لا تحسنه، وأعط كل مَوْطِن حُكْمَه وذلك من الحكمة. والله أعلم.(1/117)
حديث النوم بعد العصر موضوع
(السؤال): يروي بعض الناس حديثًا نصُّه: (من نام بعد العصر وجُنَّ فلا يلومنَّ إلا نفسه) فهل هذا حديث نبوي؟
(الجواب): الحديث في الجامع الصغير بلفظ: (من نام بعد العصر فاختُلِسَ فلا يلومنَّ إلا نفسه) خَرَّجَه أبو يَعلَى في مسنده عن عائشة، ورواه من طريقه صاحب كشف الخفاء وصاحب مجمع الزوائد.
وقال المُناوي: إن مدار هذا الحديث على عمرو بن حصين عن ابن عُلَاثَة وهو متروك الحديث كما قاله الذهبي والهيثمي فالسند واهٍ ضعيف.
وكذلك رواه ابن حبان عن أحمد بن يحيى بن زهير عن عيسي بن أبي حرب الصقال عن خالد بن القاسم عن الليث بن سعد عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة، قال ابن الجوزي: إن خالدًا كَذَّاب، والحديث لابن لَهِيعَة فأخَذه خالد ونسبه إلى الليث، وقد أنكر الليث معرفته فهو حديث موضوع اهـ ملَخَّصًا، أي كذب على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُحَدِّث به وذلك مُحَرَّم وضلال ويحرم نَسَبُه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
أقول: وهو الظاهر فإنه غير ثابت بأي حال ولا مستساغ في العقول أن يُحدِثَ النوم بعد العصر الاختلال والجنون. والله أعلم.(1/118)
اتق شَرَّ من أحسنت إليه
وَرَدَ إلينا عن هذه الجملة: هل هي حديث نبوي كما اشتهر عند العامة أو ليست بحديث؟
(الجواب): إنها ليست حديثًا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكره الحافظ السخاوي، والأشبه أنها حِكمة لبعض السلف ذات معنًى صحيح، وهو أن من النفوس البشرية نفوسًا فُطِرَت على لؤم الطبع، وجحود المعروف، ونكران الجميل، ومقابلة الإحسان بالإساءة، كما يشير إليه قوله تعالى: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فقابلوا إنعام الله عليهم بسعة الرزق ورَغَد العيش ونِعْمة الغنَى بالجحود والكفر بَدَل الحمد والشكر.
فإذا امتُحِنَ المُحسن بطائفة من هؤلاء، وجب أن يَتَّخِذ الحِيطَة لشرهم ويتقي وسائل كيدهم، والاحتراسُ من الناس من الكياسة والفِطْنة على أن ذلك لا يمنعه من موالاة الإحسان ولا يصده عن متابعة صنع الجميل، فلعله علاج وإصلاح، وفيه خير كثير، وناهيك بما كان من أبي بكر الصديق ـ رضي الله عليه ـ مع ابن خالته مِسطَحٍ، فقد كان مِسطَحٌ مهاجرًا مُعدِمًا وكان أبو بكر ينفق عليه من ماله بِرًّا وإحسانًا، فلَمَّا افتَرَى المنافقون حديث الإفك، وخاض مِسطَح مع الخائضين، أقسم أبو بكر ليمنَعَنَّ عنه النفقة، فنزل قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقال أبو بكر: أنا أحب أن يَغْفِر الله لي. ووصله بالنفقة كما كان، بل ضاعفها طمعًا في الرحمة والغفران، وما أجمل العفو عن المسيء والصفح عن المذنب والإحسان إليهما ثقة بوعد الله تعالى والله لا يخلف الميعاد.
نسأل الله التوفيق. والله أعلم.(1/119)
حرمة جَلْدِ عُميرة
(السؤال): ما حكم جَلْدِ عُميرة شرعًا؟
(الجواب): جَلْدُ عُميرة كناية عن الاستمناء باليد كما في القاموس، ويُسمَّى (الخَضْخَضَة) كما في اللسان، وكان معروفًا عند العرب قديمًا، وإن لم يَكُن مشتهرًا كما تُفِيدُه كتب اللغة، ويدل عليه حديث (ناكح اليد مَلْعُون). وما رواه سعيد بن جبير من قوله: (عَذَّبَ الله أمَّة كانوا يعبثون بِمَذَاكِيرِهم). وما رواه عطاء من قوله: (سَمعت قومًا يُحْشَرون وأيديهم حَبَالَى) قال: وأظن أنهم الذين يَستمنون بأيديهم. كما ذَكَرَه الآلوسي والخازن. وما ذكره ابن دقيق العبد من أنه لم يكن معهودًا عند العرب ولا ذَكَرَه أحد منهم في شِعْره فيما وصله، مردود بما بَيَّنَّا.
وهي عادة قبيحة ضارة ضررًا فاحشًا بالأجسام والعقول، تنشأ من الفراغ والتوقان وعدم القدرة على الزواج. وقد أَمَرَ الله تعالى مَن هذا شأنه بالاستعفاف والصبر والاحتمال، فقال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وبيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العلاج بقوله فيما رواه ابن مسعود: "يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أَغَضُّ للبصر وأَحْصَنُ للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاءٌ" أي أنه يؤدي ما يؤديه الخِصَاء فهو شبيه به.(1/120)
وقد ذهب جمهور الأئمة إلى تحريم الاستمناء باليد. قال في (سُبُل السلام) تعليلاً لذلك: لأنه لو كان مباحًا لأرشد الشارع إليه؛ لأنه أسهل اهـ واستدلوا على التحريم بقوله تعالى: (وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ) أي الكاملون في العدوان، ويَنْدَرِج الاستمناء في اليد في ما (وَرَاءَ ذَلِكَ) قال النسفي: وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول أكثر العلماء. ونقل رواية سعيد بن جبير وعطاء.
وفي تفسير القرطبي عن حرملة بن عبد العزيز أنه قال: سألت مالكًا عن الرجل يجلد عُميرة فتلا هذه الآية. وهذا لأنهم يُكَنُّونَ عن العضو المعروف بأبي عميرة، وفيه يقول الشاعر:
إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لَا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لَا دَاءٌ وَلَا حَرَجُ
وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأَجْرَاهَا بين الناس، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يُعْرِض عنها لِدَنَاءَتِها اهـ ملخصًا.
والمروي عن الشافعي في الجديد تحريمه، ونُقِل عن ابن حنبل أنه يجيزه بحجة أنه إخراج فضلة من البدن عند الحاجة كالفَصْد والحجامة، ذكر ذلك عنه القرطبي والآلوسي في تفسيرَيهما، ولم أَقِفْ عليه في فقه الحنابلة.
وفي (شرح الدر) في بابَي الصوم والحدود أن الاستمناء بالكف حرام عند الحنفية؛ لحديث (ناكح اليد ملعون) وفيه التعزير. إلا أنه لو خاف الزنا يُرْجَى أَلَّا وَبَالَ عليه اهـ.(1/121)
ونَقَل العلَّامة ابن عابدين الفقيه عن أبي الليث أنه قال: إذا فَعَلَه الرجل إرادة تَسكين الشهوة المُفرِطة الشاغلة للقلب وكان عَزَبًا لا زوجَةَ ولا أَمَةَ، أو كان إلا أنه لا يَقْدِر على الوصول لعذر أرجو أنْ لا وَبَالَ عليه أي أَنَّه لا عِقَاب عليه. وأما إذا فَعَلَه لاستجلاب الشهوة فهو آثم اهـ من ابن عابدين.
ويشير إلى ذلك قول النسفي (لإرادة الشهوة) في العبارة السابقة.
ومن هذا يظهر أن جمهور الأئمة يَرَوْنَ تحريم الاستِمْناء ويؤيدهم في ذلك ما فيه من ضَرَر بالغ بالأعصاب والقُوَى والعقول، وذلك يُوجِب التحريم، وأن المروي عن أحمد وعن الحنفية من جَوَازِه إنما هو عند الحاجة والضرورة القُصْوَى فيكون من باب ارتكاب أخف الضررين، والله أعلم.(1/122)
الجهاد وطاعة الوالدين
(السؤال): تلميذ يريد الذهاب إلى الجهاد في سبيل الله، ووالداه يمنعانه فهل يغاضبهما ويذهب إليه أو يطيعها ويقعد؟
(الجواب): إن الجهاد إذا أَصْبَح فَرْض عَيْن على كل مُكَلَّف قادر ـ يجب عليه ألا يَقْعُد عنه بأي حال، ولو لم يأذن له والداه أو أحدهما بالذهاب إليه؛ لأن القعود عنه معصية (ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ولو كان المخلوق أحد الوالدين أو كليهما.
وإذا كان الجهاد لا يزال فرض كفاية وقد قام به البعض فإنه يُسْقِطُ الحَرَج عن الباقين فلا معصية في التخلف عنه، فإذا ذهب مغاضبًا والديه فقد ارتكب معصية العقوق المُحَرَّم، ولابد من إذنهما في هذه الحالة، ففي صحيح البخاري عن أبي العباس الشاعر قال: سمعت عبد الله ابن عمر يقول: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستأذنه في الجهاد، فقال: (أَحَيٌّ والداك) قال نعم. قال: (ففيهما فجاهد) وفي رواية لمسلم: (ارجع إلى والديك فأحْسِن صُحْبَتَها) وفي رواية أخرى لأبي داود وابن حبان: (ارجع فأضحِكهما كما أبكيتهما).
وأصرح منه حديث أبي سعيد عن أبي داود بلفظ: (ارجع فاستأذنهما فإن أَذِنَا لك فجاهد وإلا فبِرَّهُمَا).(1/123)
قال الحافظ في الفتح: وجمهور العلماء على أنه يُحَرَّمُ الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما منه بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن بِرَّهُمَا فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تَعَيَّنَ الجهاد فلا إذنَ، ويشهد له حديث عبد الله بن عمرو قال: (جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله عن أفضل الأعمال قال: الصلاة. قال: ثم مَهْ؟ قال: الجهاد. قال: فإنَّ لِي والدَينِ. فقال: آمرك بوالديك خيرًا. فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لأجاهِدَنَّ ولأَتْرُكَنَّهما. قال: فأنت أعلم) وهو محمول على جهادِ فَرْض عَيْن توفيقًا بين الحديثين اهـ ملخصًا. والله أعلم (وقال ابن حزم في المُحَلَّى: ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين إلا إن نَزَلَ العدو بقوم من المسلمين ففَرْضٌ على كل من يُمْكِنه إعانتهم أن يقصدهم مُغِيثًا لهم، أَذِنَ الأبوان أم لم يَأْذَنَا إلا أن يَضِيعَا أو أحدهما فلا يَحِلُّ له تَرْك من يَضِيعُ منهما اهـ)(1/124)
العهود والأَحْلَاف في الإسلام
ما من عَمَلٍ حَسَن عظيم الأثر في علاقات الأفراد والجماعات، وتقوية روابط المحبة والإخاء بين الناس واجْتِثَاث أسباب النفاق والخصام من النفوس ـ إلا دَعَا الإسلام إليه، وحَثَّ الناس عليه، وحذرهم من إهماله أو التهاون فيه.
وما من عمل سيئ يعود بالضرر والشر على الفرد والمجتمع، إلا نهَى الإسلام عنه وشدد النكير عليه، وتوعد مُقْتَرِفَه بالعقاب الشديد في الدنيا وفي دار الجزاء.
ومن ذلك العهد والتحالف فإن كان على خير وبِر وجلْب نفع ودفع ضر وتحقيق مصلحة ودرء مفسدة، وجب الوفاء به شرعًا لقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤولًا) وقوله تعالى: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) وقوله تعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) وإن كان على شَرٍّ وضُرٍّ فقد أبطله الإسلام، وهو من التعاون على الإثم والعدوان.
فمن عهود الخير العهد بين العبد وربه على أن يقوم العبد بحق العبودية والطاعة لله تعالى ومنه عهد الإيمان بما أوجب الله الإيمان به، وعهد الإيمان بالقرآن وأنه خاتم الشرائع، والإيمان برسالة خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه.
ومنه نَذْر الطاعة والقربة لله تعالى سواء كان نَذْرًا مطلقًا أو معلقًا على حصول أمر محبوب أو أمر مكروه، والوفاء بهذا العهد واجب لقوله تعالى: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) والإخلال به معصية وإثم.(1/125)
ومن عهود الخير العهد بين الناس بعضهم مع بعض على الطاعة والجِدِّ في الخير والإصلاح كالعهد الذي يأخذه بعض مشايخ الصوفية على المُرِيدِين، والأصل فيه البيعة النبوية التي تَمَّتْ بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبَيْن رَهْط الأوس والخزرج عند العقبة قبل الهجرة، والبيعة التي تَمَّتْ بيْن الرسول والمؤمنين يوم الحديبية.
ومنها العهد الذي كان يُبْرِمه وَلِي الأمر لأهل الكتاب من رعيته أن يرعاهم ويعدل فيهم ويُؤَمِّنَهُم على الأرواح والأموال والأعراض. فهذا عهد واجب الوفاء شرعًا، به صاروا أهل ذمة وعهد، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وبه التزم كل فريق أن يوفيَ ما وجب عليه فلا عدوان ولا ظلم ولا ضَرَر ولا مُمَالَأَة لعدو ولا كَيْدَ ولا انحراف. وفي هذا العهد خير عام وأمن شامل وسلام.
وقد خَصَّهُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذكر تأكيدًا له وتَنْوِيهًا بعظيم شأنه وخطر الإخلال به فقال فيما يرويه عنه عبد الله بن عمرو: (مَن قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يَرُحْ رائحة الجنة وإن رِيحَها ليوجد من مسيرة مائة عام) وفيما يرويه أبو هريرة: (أَلَا مَن قتل نفسًا معاهدًا، له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر ذمة الله) أي نقض عهده وذِمَامَه. وفي حديث آخر رفعه: (من قتل نَفْسًا معاهدًا بغير حَقِّها لم يَرُحْ رائحة الجنة وإن ريح الجنة ليوجد من مسيرة مائة عام) فجعل الرسول جزاءَ قتل المعاهد بغير حق الحرمانَ من الجنة وليس بعد الجنة إلا النار.
أمَّا عهود المعصية التي يَحْرُم الوفاء بها فَمِنْهَا نَذْر المعصية، وهو باطل شرعًا مردود على صاحبه، وفي الحديث (لا نذر في معصية).(1/126)
ومنها ما يتعاهد عليه الأشرار من التعاون على السلب والنهب وقَطْع الطريق وإخافة السَّابِلَة، أو التعاون على الاعتداء على الأنفس وإلحاق الأذى والضرر بجماعة من الأمة مسلمين أو ذميين، أو على إحداث فتنة، وإثارة شَغَب، وإزعاج آمنين، فكل هذه عهود باطلة مُحَرَّمَة شرعًا والتحالف عليها إثم كبير.
ومنها التحالف على شق عَصَا الطاعة، والخروج على الجماعة، والدعوة إلى الضلالة، وفي الحديث الصحيح: (مَن دَعَا إلى ضلالة كان عليه مِن الإثم مثل آثام من تَبِعَه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا) (ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت مِيتَة جاهلية) وفي صحيحَي البخاري ومسلم: (ومَن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يُطِع الأمير) أي الآمر بما هو طاعة (فقد أطاعني، ومن يَعْصِ الأمير فقد عصاني) وفي صحيح الترمذي: (مَن أهان السلطان أهانه الله) والمراد به الحاكم المسلم العادل.
والمعاهدة على هذا فساد عظيم، والله لا يحب الفساد، والمتعاهدون عليه يستحقون أشد العقاب قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
هذه أنواع من عهود الخير، وأنواع من عهود الشر، يُقَاس عليها أشباهها، والله يَهْدِي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله أعلم.(1/127)
استحباب أخذ العهد
تحريم الهَرَب من الجندية
تحريم التدجيل والتمويه
(السؤال): رجل ينتسب للصوفية يأخذ العهود على المريدين، ويَجْبِي منهم العوائد، ويأخذ مبالغ كبيرة نظير منع الشبان من الانخراط في الجندية بطرق خاصة يَزْعُمُها، ويَجْلِس أحيانًا بَيْن الناس حتى إذا حَانَ وقت الجمعة صَرَفَهم إلى المسجد للصلاة، ودَخَل إلى حجرته وأَغْلَق بابها ونوافذها، ثم يَخْرج إليهم حين يعودون من الصلاة، زاعمًا أنه كان يؤدي الفريضة في الحرم. فما حكم ذلك شرعًا؟
(الجواب):
(1) أما أخذ العالم الناصح عهدًا على مُرِيدِيه أن يُطِيعُوا الله ورسوله، ويؤَدُّوا الفرائض ويمتثلوا ما أَمَر الله تعالى به، ويَجْتَنِبُوا ما نهَى عنه، ويتأدبوا بآداب الإسلام، ويتواصَوا بالحق والمعروف، ويتناهَوْا عن الباطل والمنكر، ويتعاونُوا على البر والتقوى، فذلك مندوب إليه شرعًا، بل مطلوب طلبًا أكيدًا إذا اقتضاه صلاح أمْر المسلمين وجَمْعُ كَلِمَتِهم على التقوى، وتزكية نفوسهم من نَوَازع الشر، وتوجيه قلوبهم إلى الخير، وقُوَاهم إلى العمل الصالح الذي يرفع شأن المسلمين ويقوي شوكتهم، ويَضَعُ عنهم الإصر والأغلال التي أحاطت بهم.
وقد أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العهد على المؤمنين يوم بيعة الرضوان، وأخذ العهد على رَهْط الأوس والخزرج ليلة العقبة، فكان ذلك أَصْلًا لأخذ هذه العهود، ولوجوب الوفاء بها وأصلًا للبيعة بالخلافة العامة، فهي عهود بين المسلمين على القيام بفرائض الإسلام وسنته، والانْزِجَار عن مَنَاهِيهِ ومَساخِطِه، طاعة لله تعالى ورسوله، لا لهوًى نفسي، ولا غرض دني، ولا عرض دنيوي، فمن أسلم وجْهَه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقَى وفاز بالجزاء الأوفى، ومن جعل هَمَّه إرضاء شهواته وإشباع جَوْعَاته وقضاء لُبَانَاتِه باء بالخسران المبين.(1/128)
(2) وأما تقديم المريدين لشيوخهم شيئًا مما ينتفع به في العيش بِرًّا وعونًا لهم، فلا بأس به إذا كان ذلك بغير استشراف من الشيخ له ولا طلب، وبسماحة نفس من المريد، فهو من باب الإهداء الخالي عن شائبة الكراهة والحظر.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يُهْدُون إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان يقبل هداياهم، ويكافئ عليها، ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
(3) وأما انخراط أبناء الأمة في سِلْك الجندية لتكوين جيش قوي للمسلمين فهو من الواجبات العامة والضرورات الحيوية للدولة التي يَجِب على العلماء والقادة الترغيب فيها والتشجيع عليها، وتيسير الوسائل إليها، ولا يجوز بحالٍ صرفُ الناس عنها وتمهيد السبل للفرار منها، فدولة الإسلام إنما قويت وعَزَّت يوم كان المسلمون جميعًا أحلاف حرب وصِيَالٍ يجاهدون في سبيل الله، ويحملون السلاح لإعلاء كلمة الله، ولحماية دعوة الحق من كيد أعداء الله.
وما مُنِيَتْ الدولة بالذلة وأصيبت بالوهن إلا حين تَرَكَت الجهاد وألقَتِ السلاح، وعَدَّت الجندية مهانة فمَكَّنَتْ لأعدائها في الأرض، وخضعت لهم في جميع شؤون الحياة، فامْتَصُّوا دماءها ونَثَرُوا أشلاءها، واغتصبوا أموالها، والمال عَصَب الحياة، وحَرَّمُوا عليهم حمل السلاح وحيازته حتى يَعْجِزُوا عن دَفْع الشر، وعن الدفاع عن حُرُمات الأرواح والأوطان، وإن أول واجب الآن على جماعة المسلمين أن يُعِدُّوا وسائل القوة والدفاع ما استطاعوا، وأن يَتَعَلَّمُوا فنون الحرب الحديثة ما وَسِعَهم ذلك، وأن يُؤَدُّوا بأسلحتهم ما فَرَضَه الله عليهم من الجهاد في سبيل الله لرَدِّ العدوان وتحرير الأوطان وأن يشعر كل فرد أنه جندي في جيش الإنقاذ، وأن الموت في عزة تحت ظلال السيوف خير من الحياة في ذلة تحت أصفاد الاستعباد.(1/129)
فلا يجوز لمسلم أن يُعِين مسلمًا على الهرَب من الجندية؛ فذلك جريمة كبرى، وأشد منها خطرًا وأعظم إثمًا أن يسلُك له سبيلًا غير شريف، فيكون في عِداد المُحْتَالين الآثِمِين.
ألا فلْيَعلم هذا الشيخ إنْ كان من حزب الله أنه آثم حين يُعِين شابًّا على التخلُّص من أعباء الجندية، وهي للقوة والعزة، والسبيل لإعلاء الإسلام.
(4) وأما زَعْمُه أو زعم العامة له أنه، وهو بمصر، يصلي الجمعة في الحرم، وبينه وبين الحرم أقطار وبحار، فهو من الدجَل المفضوح الذي جاز قديمًا على عقول البُسَطاء، وكشف عنه اليَقِظون من العُلَماء.
وإن مَن يَزْعُم أنه من أهل الخُطُوات أو يُقِرُّ ويقر أتباعُه على هذه المُفْتَرَيات، يجب زَجْرُه والكشف عن دَخِيلته، ونُصْحُ الناس بالتنبيه على غِوَايته.
وما جَرَّأَهم على ذلك إلا ثِقَتهم بغفلة الأمة، ومُبادَرة العامة إلى تصديقهم، ولو أنهم كانوا من الأتقياء لذهبوا مع الناس إلى المسجد الجامع وأدَّوْا فريضة الجمعة أئمةً أو مأمومين ووعَظُوا الناس في هذا اليوم المُبارَك، والجمع الحاشد بما فيه نفع لهم في الدين والدنيا.
وما أُثِر عن أفضل الخلق وخير القرون، وهم بالمدينة، أنهم كانوا يتركونها ويُؤَدُّون الصلاة في الحرم المكي.
انْتَهِجُوا أيها المُرْشِدُون مناهج الحق، ودَعُوا أمثال هذه الدعاوَى والتُّرَّهَات وأَعِدُّوا الأمة إلى تَبَوُّئِ مقاعد العزة والكرامة، واتقوا الله لعلكم تفلحون. والله أعلم.(1/130)
حرمة التبرُّك بالكنائس
(السؤال): جاء (بمنبر الشرق) في عدد يوم 11 مايو سنة 1951 م أن بعض المسلمين والمسلمات يقصدون إلى كنيسة (سانت تريزا) بحي شبرا؛ لاعتقاد أن للمدفون بها من أحبار النصارى كرامات وخوارق عادات، وأنه يشفي المريض ويَفُك الأسير ويَرُد الغائب، وأن في زيارته بركة وخيرًا. وطلب الكاتب منَّا بيان حكْم الدين الحنيف في ذلك.
(الجواب): اعتقاد ما ذُكِر فيمَن بهذه الكنيسة وأمثالها من الموتى اعتقاد فاسد، ومُنْكَر مُحَرَّم، وجَهالة يَنْبِذُها العلم، وحماقة يَأْبَاها العقل، فليس هناك كرامات، بل أوهام وخُرَافات وأكاذيب وتدجيلات. ومن المعلوم بَدَاهَة أنَّ الكرامات مِنَح إلهية وهِبَات ربانية لا يُجْرِيهَا الله تعالى إلا على أيدي أحبائه وأوليائه، وهم كما قال تعالى: (الذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وقال في آية أخرى: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا المُتَّقُونَ).
والإيمان هو التصديق الجازم بما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن رَبِّه مِنْ أَحْكَام وشرائع، والتقوى هي امتثال أمر الله واجتناب نَهْيِه، إذ بهما يَتَّقِي المؤمن عذاب النار، فمن فَقَدَ في حياته الإيمان الحق فهو غير مؤمن، ومن فقد مع إيمانه التقوى فهو مؤمن عاصٍ، وكلاهما بنص الآية ليس وليًّا لله تعالى ولا كرامة له بحال في الحياة فضلاً عما بعد الوفاة.(1/131)
ولتحقيق القول في الولاية والكرامة وأنها هل تقتصر على حال الحياة أو لا، مقام آخر لا تتسع له هذه الفتوى، غير أن من المجمع عليه أن الكرامة الإلهية لا تكون إلا للمسلم التقي، وأما كشف الضر عن الناس فهو لله تعالى وحْدَه، قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقال تعالى في تقريع المشركين وإلزامهم الحجة: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).
ومما يجب شرعًا زَجرُ هؤلاء العامة عن هذه المعتقدات الفاسدة والزيارات المحرمة وتعليمهم أنها تنافي التوحيد الخالص الذي لا نَجَاةَ ولا أَمْنَ من عِقاب الله إلا به. والله أعلم.(1/132)
تمني الموت مَنْهِيٌ عنه
(السؤال): هل يجوز شَرْعًا أن يَتَمَنَّى الإنسان الموت إذا أصابته محنة؟
(الجواب): لا يجوز للمسلم أن يَتمنَّى الموت إذا مَسَّهُ مكروه وامْتُحِنَ في حياته بما يَضُرُّه ويؤذيه في نفسه أو ماله أو جاهه، بل يصبر على ما أصابه فإن ذلك من عزم الأمور، ويحتسب أجر ذلك عند الله تعالى وهو ولي الصابرين، وروَى أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يَتمنَيَنَّ أحدكم الموت لِضُرٍّ نَزَلَ به في الدنيا، لكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي) ونهَى المؤمنَ عن تمني الموت إذا نَزَلَ به ضُرٌّ وأُمِرَ أن يَلْجَأ إلى الله ـ سبحانه ـ مستعينًا به سائلًا خير ما عنده له.
وأما قول الله، تعالى، على لسان يوسف عليه السلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) فقد قال ابن حزم: إنه ليس استعجال الموت المنهي عنه، بل هو دعاء بألَّا يتوفاه الله تعالى إذا توفاه إلا مسلمًا اهـ من المحلَّى. فهو دعاء بطلب الخير المحبوب.
وهكذا الإسلام يربي النفوس حتى في خلجات الصدور وأحاديث النفس، فينهاها عن تمني الموت فرارًا من تكاثر المِحَن، ويَحُثُّها على اللِّيَاذ عند ذلك بالله تعالى واستمداد العون منه على كشف الضر وتفريج الكرب، وعلى الخير والرضا عند نزول المكاره بالقضاء، فإذا أخذ المؤمن نفسه بذلك كان من أولي العزم الأقوياء واستحق أجر الصابرين ونال درجة المقربين.
أما الاستسلام للوساوس والجَزَع عند المكاره وتمني الخلاص منها بالموت فذلك ضعف وخَوَر، ونقص في الإيمان والثقة بالله تعالى، ونسأله تعالى التثبيت واليقين. والله أعلم.(1/133)
أيهما أفضل التقي الأعمى أو التقي البصير؟
(السؤال): أي الرجلين أفضل عند الله تعالى تقي أعمي لا يرى بعينيه المنكرات أو تقي بصير يراها ويجاهد نفسه فيها؟
(الجواب): قد اقتضت حكمة الله تعالى في تكوين مخلوقاته أن يكون فيها الفاضل والمفضول، لا فرق في ذلك بَيْن أفراد الإنسان وأنواع الجماد والأزمنة والأمكنة وغيرها. فما وَرَدَ فيه نص على التفضيل أو أومأت إليه الدلائل نعلمه ونُقِرُّه، وما لم يَرِد فيه ولا قامت عليه أدلة وأمارات نَكِلُ أمره إلى الله تعالى، ولا نهجُم فيه على الغيب، وقد قال الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) وليس في البحث عنه كبير فائدة، بل هو من التعمق الذي ليس له ثمرة ولا عظيم فائدة، وصرف الوقت فيما هو أنفع وأَجْدَى مطلوب من المكلفين شرعًا وعقلًا.
على أن الأعمى وقد فَقَدَ حبيبتَيه إذا صبر على بليته عَظُمَ أَجْرُه وعُوِّضَ عنهما الجنة، كما في حديث أنس قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن الله ـ عز وجل ـ قال: إن ابتلَيت عبدي بحبيبتَيه (أي عينيه) فصبر عوضته منهما الجنة" رواه البخاري. فله بذلك كبير فضل على البصير من هذه الجهة.
وإذا نظر إلى أنه هو والبصير وإن اشتركا في ثواب جهاد النفس فيما يُدرَكُ من الموجودات بالسمع وباقي الجوارح عدا البصر، فقد انفرد البصير بمجاهدة النفس فيما يُدرَكُ بحاسة البصر، وليس هو بالأمر القليل، فإذا وقى نفسه من هذه المرتبات الفاتنة كان ثوابه أعظم من الأعمى من هذه الجهة، فلكلٍّ فضيلةٌ ومَزِيَّةٌ، وقد يكون الشيء الواحد فاضلاً من جهة ومفضولاً من جهة أخرى. والله تعالى أعلم.(1/134)
وجوب إبراء الذمة من الحقوق
وَرَدَ إلينا السؤال الآتي نَصُّه بتوقيع رمزي:
( طَلَّقْت زوجتي ومَعَهَا ولدان صغيران، ولم أُعْطِهَا وَرَقَة الطلاق بل تَرَكْتُها ست سنوات، فلم أفكر طول هذه المدة أن أُرْسِل لها إشهاد الطلاق، وفي الحقيقة لم يَكُن نيتي تعذيبها أو إلحاق الضرر بها، ولَمَّا عَزَمْتُ على رجوعها لعصمتي تُوُفِّيَت إلى رحمة الله تعالى، ولها عندي حقوق كثيرة في حياتها معي وبعد طلاقها، فهل أجد حلاًّ في الشرع يمكنني من تخفيف عبء الحقوق التي لها عليَّ؟ أم أن موتها سيكون سببًا في شقائي في الدار الآخرة)
والتوقيع (الظالم ج. هـ )
(الجواب): تبين لنا من هذا السؤال أن السائل أصبح حي الضمير يقظ الإحساس، أوّابًا منيبًا حريصًا على براءة ذمته من الحقوق وعلى إيفاء ما عليه من واجبات، شأن المؤمن التقي الذي يخشى أن يلقَى الله تعالى مُوقَر الظهر بالأوزار، ويود إرشاده إلى طريق النجاة، فرجونا أن يكثر الله من أمثاله بين المسلمين.
ونفيده بأن ما كان حقًّا ماليًّا لمطلقته في ذمته قد انتقل بوفاتها إلى ورثتها الشرعيين، وهم كما يظهر من السؤال ولداها منه القاصران فيجب عليه أن يؤديَ لهما جميع ما في ذمته لأمهما فيجعله كله لهما، ويتولاه بحكم ولايته عليهما بالتنمية والاستثمار والحفظ، إلى أن يبلغا سن الرشد. وينبغي أن يَكتُبَ ذلك ويُشهِدَ عليه احتياطًا للمستقبل، وبذلك يَخرج من العهدة ويُكتَبُ في ديوان الأمناء الأوفياء، ومن المقطوع به أن الله تعالى سيجزيه عن ذلك خيرًا ويُعظِمُ له أجرًا وهو سبحانه أعدل الحاكمين، وما كان حقًّا غير مالي يوفيه لها بالدعاء والاستغفار لها والصدقة عليها، وذلك غاية المقدور له. والله أعلم.(1/135)
واجب المرأة في الإسلام
للمرأة وظيفتها في الحياة وعليها أن تعليَ شأنها فيها
قال صاحب المنبر: وردت إلى (المنبر) أسئلة عديدة موجهة إلى حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقًا في شأن المرأة المسلمة في الإسلام، وما لها وما عليها فيه، فأحلناها على فضيلته فكتب البيان الآتي، قال حفظه الله:
عُنِيَ الإسلام أتم عناية بإعداد المرأة لتصلح للمساهمة مع الرجل في بناء المجتمع على أساس من الدين والفضيلة والخلق القويم، وفي حدود الخصائص الطبيعية لكل من الجنسين، فرفع شأنها وكوّن شخصيتها وقرّر حريتها ومالكيتها لمالها، وفرض عليها كالرجل طلب العلم والمعرفة، ثم ناط بها من شئون الحياة ما تهيئها لها طبيعة الأنوثة وما تحسنه، حتى إذا نهضت بأعبائها كانت زوجة صالحة وأُمًّا مربية وربة منزل مدبرة وكانت دعامة قوية في بناء الأسرة والمجتمع.
ما أباحه الإسلام للمرأة وما منعها منه
وكان من رعاية الإسلام لها حق الرعاية أن حاط عزتها وكرامتها بسياج منيع من تعاليمه الحكيمة، وحمَى أنوثتها من العبث والعدوان، وباعد بينها وبين مظانّ الرَّيب وبواعث الافتتان، فحرم على الرجل الأجنبي الخَلوة بها والنظرة الخائنة إليها، وحرم عليها أن تبديَ زينتها إلا ما ظهر منها، وأن تتشبه بالرجال فيما هو من خاصة شئونهم، كما حرم على الرجال التشبه بالنساء فيما هو من خصائصهنّ، وأعفاها من وجوب صلاة الجمعة والعيدين مع ما عُرف عن الشارع من شديد الحرص على اجتماع المسلمين وتواصلهم، وأعفاها في الحج من التجرد للإحرام، ومنعها الإسلام من الأذان العام، وإمامة الرجال للصلاة، والإمامة العامة للمسلمين، وولاية القضاء بين الناس، وأثَّم من يوليها بل حكم ببطلان قضائها على ما ذهب إليه جمهور الأئمة، ومنعها من ولاية الحروب وقيادة الجيوش، ولم يُبِحْ لها من معونة الجيش إلا ما يتفق وحرمة أنوثتها.
ليس للمرأة أن تترك ما حدده لها الشارع(1/136)
وقد قال تعالى للمؤمنين بعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم: (فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إن كنتم تؤمنون باللهِ واليومِ الآخِرِ ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى القرآن والسنة، قال تعالى: (وما آتاكم الرسولُ فخُذُوه وما نهاكم عنه فانتَهُوا) فليس للمرأة المؤمنة أن تترك ما حدده الشارع الحكيم وتأخذ بما نهاها عنه، وقد قال تعالى لنساء نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونساء الأمة تَبَعٌ لهنّ إجماعًا: (وقَرْنَ في بيوتِكنَّ ولا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجاهليةِ الأولَى وأَقِمنَ الصلاةَ وآتِينَ الزكاةَ وأَطِعْنَ اللهَ ورسولَه).
وعن أنس، رضي الله عنه، أن بعض النساء قلن: يا رسول الله، ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله، فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قعدت منكنّ في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى" والجهاد سَنَام الإسلام وعموده، وما دونه لا يُدانيه فضلاً وأجرًا.
وقال تعالى: (وإذا سألتموهنَّ متاعًا فاسألوهنَّ مِن وراءِ حِجابٍ) قال القرطبي: ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى. وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة؛ بدنَها وصوتَها، فلا يجوز كشف ذلك إلا للضرورة القصوى، وفي الحديث: "المرأة عورة وإذا خرجت استَشرفها الشيطان، وإنها لا تكون أقرب إلى الله منها في بيتها" وقد حرم عليها الخَلوة بالأجنبي.(1/137)
وفي الحديث الصحيح: "لا يَخلُوَنَّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي رحم" وفيه في الولاية العامة: "لن يُفلِحَ قوم وَلَّوا أمرَهم امرأة" وفيه: "لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" وفيه: "صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهنّ كأسنمة البُخْتِ المائلة لا يدخلن الجنة ولا يَجِدنَ ريحها" وهذا من أعلام النبوة.
ولا سبيل إلى استقصاء الآيات والأحاديث الواردة في ذلك لكثرتها بل ما كنا في حاجة إلى ذكرها وهي من بديهيات التشريع، وفيها الدلالة القاطعة على أن الشريعة الإسلام حددت للمرأة وظيفتها في الحياة ورفعت من شأنها بما جعلته لها وبما منعها منه على السواء.
ما مُنعَت منه المرأةُ كان لخيرها
وكل ما أباحه لها الشارع وما منعها منه إنما هو لخيرها وصونها، وسدِّ ذرائع الفتنة منها والافتتان بها، حذرًا من أن يَحِيقَ بالمجتمع ما يُفضي إلى انحلاله وانهيار بنائه، والله أعلم بما للطبائع البشرية من سلطان ودوافع، وبما للنفوس من ميول ونوازع، والناس يعلمون، والحوادث تصدق.
ولقد بلغ من أمر الحَيطة للمرأة أن أمر الله تعالى نساء نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحجاب، وهنَّ أمهات المؤمنين حرمةً واحترامًا، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تمس يده، وهو المعصوم، أيديَ النساء اللاتي بايَعنه، وأن امرأة لم تُوَلَّ وَلاية من الولايات الإسلامية في عهده ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهود من بعدهم من الملوك والأمراء، ولا حضرت مجالسَ تَشَاوُرِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أصحابه من المهاجرين والأنصار.
فمن واجب المرأة المسلمة أن تقف عند الحدود التي رسمها لها الشارع الحكيم، وحسبها مساهمةً في بناء المجتمع أن تقوم بما خصصها به من الشئون وهى كثيرة وجليلة وهامة. والله الموفق.(1/138)
ونشر المنبر الكلمة الآتية بالعدد 830 في 20 مايو سنة 1955م(1/139)
صيحة رجل الدين الكبير في واجبات المرأة دينًا وخلقًا
نشرت (الأهرام) الغراء في صباح الثلاثاء 10 مايو سنة 1955 م في باب (ما قل ودل) ما يأتي، بتوقيع مفتينا الأجَلِّ، مع تعليق من رئيس تحريرها الفاضل:
عزيزي الأستاذ الكبير أحمد الصاوي
تحية وسلامًا. إن اهتمامكم بنشر رسالة الآنسة الفاضلة في (ما قل ودل) بالأمس لدليل على عنايتكم بأخطر ظاهرة اجتماعية تنذر بانحلال الأمة المصرية إذا ظلت المرأة على ما وصفته الآنسة بحق في رسالتها من التبرج والاستهتار والظهور في الطرق والمجتمعات بما تأباه الفضيلة وكرامة الأنوثة العفيفة.
لقد هان أمرها على نفسها، وهان على الرجل في سبيل إرضائها ذل الخضوع ومَعَرّة الاستهتار. بل إن الرجال من يُغري المرأة بهذه المظاهر ولا يَرضَى منها إلا أن تبدوَ عارية مستهترة.
وليست التَّبِعَة في ذلك على المرأة وحدها بل يتحمل الوزر معها الرجلُ الذي استرعاه الله حمايتَها وصَوْنَ كرامتها إذا هي استهانت بها، والرجالُ الذين يشُدون أزرها ويُغرُونها بالفتنة بما يقولون ويكتبون، والذين يؤثرون السلامة والعافية فيَركَنُون إلى الصمت والإغضاء مع ما حملهم الله من أمانة النصح في الدين والنهي عن المنكر وتأديب المفسدات والمفسدين.
أحزَنَ الآنسةَ الجامعيةَ الفاضلةَ استهتارُ المرأة وعبثها بكرامتها، وأَمَضَّها إغضاء الرجل ورخاوته، وأزعجها المصير المحتوم لهذا الانحراف الخطير، فبعثت برسالتها القيمة إلى (الأهرام) صوتَ صدقٍ ودعوةَ حقٍّ، فلها وللأهرام وافر الشكر.(1/140)
ومن غريب الاتفاق ما قلته في بيان نشرته (الأهرام) في سنة 1951 م بالحرف الواحد: (وإننا ننتظر من السيدات الفُضْلَيَات أن يعملن بجد وصدق لرفعة شأن المرأة في النواحي الدينية والأخلاقية والاجتماعية والعلمية الصحيحة في حدود الأنوثة والتعاليم الإسلامية، قبل أن يطالبن بالحقوق السياسية، وأن نسمع منهنّ صيحة مُدَوِّيَة للدعوة إلى وجوب تمسك النساء عامةً بأهداب الدين الحنيف والفضيلة في الأزياء والمظاهر والاجتماعات النسائية وغير ذلك مما هو كمال وجمال للمرأة المهذبة الفاضلة، ذلك خير لهن وأصلح). حسنين محمد مخلوف
(الأهرام): وهذه الصيحة من رجل الدين الكبير جديرة بأن تُدوِّيَ في القلوب قبل الآذان، فالاستماع إليها خير للبلاد كلها وأصلح.
أحمد الصاوي محمد(1/141)
العَوْرة في حَقِّ المرأة
وَجْه المرأة ليس بعورة
(السؤال): هل وَجْه المرأة عَورة؟
(الجواب): وَجْه المرأة ليس بعورة (عند الحنفية وكثير من الأئمة) فيَجُوزُ لها إبداؤُه، ويَجُوز للرجل الأجنبي النَّظَرُ إليه، ولكن بغير شهوة. فإن كان بشهوة في غير مواضع الضرورة حُرِّم، والله أعلم.
بهذا أَفْتَينا في فتوانا المنشورة "بِمِنْبَر الشرق" في عدد 15 سبتمبر سنة 1950م، وتفصيلاً لِمَا أجملناه فيها نقول:
1ـ قال الشوكاني في "نيل الأوطار": وقد اخْتُلِف في مقدار عَوْرَة الحُرَّة، فقيل: جميع بدنها ماعدا الوجهَ والكفين. وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد قوليه، والشافعي في أحد أقواله، وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومالك، وقيل: والقدمين وموضع الخَلخَال. وإلى ذلك ذهب القاسم في قولٍ، وأبو حنيفة في روايةٍ عنه، والثوري، وقيل: بل جميعها بدون استثناء. وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، ورُوي عن أحمد. وسبب اختلاف هذه الأقوال ما وقع من المفسرين من الاختلاف في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).
2ـ وقال الإمام النووي في المجموع: المشهور من مذهب الشافعية أن عورة الحُرَّة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وأبو ثور وأحمد، في رواية، وطائفة من الأئمة. وقال أبو حنيفة والثوري والمُزَنِي: قَدَمَاها أيضًا لَيْسَا عورة. وقال أحمد: جميع بدنها عورة إلا وجهها فقط. اهـ ملخصًا.(1/142)
3ـ وقال الإمام أبو بكر الجَصَّاص المتوفَّى سنة 370هـ في أحكام القرآن وهو من أكبر أئمة الحنفية في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): ورُوِيَ عن ابن عمر وأنس وابن عباس ومجاهد وعطاء أنَّ ما ظهر منها ما كان في الوجه والكف: الخِضاب والكُحْل. وعن ابن عباس أيضًا أنها الكف والوجه والخاتم. وعن عائشة: الزينة الظاهرة القُلْب (بضم فسكون، سُوار المرأة) والفَتْخة (بفتح الفاء وسكون التاء المثناة وفتح الخاء المُعْجَمة، حلْقة من فضة كالخاتم). وقال سعيد بن المسيب: وجهها مما ظهر منها.
والمراد من الزينة مواضعها. ألَا تَرَى أن سائر ما تتزين به المرأة من الحُلِيِّ والقُلْب والخلخال والقِلادة يجوز أن تُظهرها للرجال إذا لم تَكُن لابسة لها، فعلمنا أن المراد مواضع الزينة، كما قال ـ تعالى ـ في نَسَق الآية: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) إذ المراد به مواضعها قطعًا. وموضع الزينة الظاهرة ـ عندنا ـ هو الوجه والكفان، لأن الكُحل زينة الوجه، والخضاب والخاتم زينة الكف، فإذا أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين.
ويَدُلُّ على أن الوجه والكفين من المرأة لَيْسَا بعورة أنها تُصلي مكشوفةَ الوجه واليدين، فلو كانا عورة لكان عليها سَترهما كما عليها سَتْر ما هو عَورة. وإذا كان كذلك جاز للأجنبي أن ينظر من المرأة إلى وَجْهِها ويَدَيْهَا وإلى قدميها أيضًا ـ في رواية: بغير شهوة ـ فإن كان يشتهيها إذا نَظَرَ إليها حُرِّمَ إلا في مواضع الضرورة مثل أن يُرِيد تزوَّجَها أو الشهادة عليها أو يريد حاكم أن يسمع إقرارها اهـ.(1/143)
4ـ وإنما أُبيح النظر إلى الوَجْه والكفين بل والقدمين بغير شهوة لِمَا ذَكَرَه الإمام النَّسفي من أجلِّ أئمة الحنفية في تفسيره من أن المرأة لا تَجِدُ بُدًّا من مُزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنِّكَاح (الخِطْبَة) وتُضْطَرُّ إلى المَشي في الطرقات، وظهور قدميها وخاصة الفَقِيرَات منهن. وقال: (إنَّ المراد من الزينة ما تتزين به المرأة من حُلِّي وكُحْل وخِضاب، ومن عدم إبدائها عدم إظهار مواضعها، والمراد بما ظَهَرَ من الزينة هو ما جَرَت العادة والجِبلَّة بظهوره وهو الوَجْه والكفان والقدمان، ففي سترها حَرَجٌ بَيِّن) اهـ .
5ـ وفي الهداية وهو مِن أمهات كتب الحنفية: وبَدَنُ الحرة كله عورة إلا وجهها وكفيها، واستثناؤهما للابتلاء بإبدائهما، والقَدَم ليس بعورة على الأصح.
وفيها: ولا يجوز أن ينظر الرجل من الأجنبية إلا وجهها وكفيها لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا). قال ابن عباس وعلي: ما ظهر منها الكحل والخاتم. والمراد مواضعهما، وهو الوجه والكف؛ ولأن في إبدائهما ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذاً وإعطاءً وغير ذلك، فإن كان لا يَأْمَن الشهوة لا يَنظر إلى وجهها إلا لحاجة، فدَلَّ ذلك على أنه لا يُبَاح له النظر إلى وَجْهها وكَفَّيْها إذا شَكَّ في الاشتهاء، كما إذا عَلِمَ أو كان أكبر رأيه ذلك اهـ.(1/144)
6ـ وفي بدائع الصنائع للإمام الكاساني من أكابر أئمة الحنفية المتوفى سنة 587هـ (ص121 ج5): لا يَحِل النظر للأجنبي من الأجنبية الحرة إلى سائر بدنها إلا الوجه والكفين لقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية. إلا أنَّ النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة وهي الوجْه والكفان قد رُخِّص فيه بقوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) والمراد مواضع الزينة، ومواضع الزينة الظاهرة الوجه والكفان، فالكحل زينة الوجه والخاتم زينة الكف؛ ولأنها تحتاج إلى البيع والشراء والأخذ والإعطاء، ولا يمكنها ذلك عادةً إلا بكشف الوجه والكفين، فيَحِلُّ لها الكشف، وهذا قول أبي حنيفة، ورُوِيَ عنه أنه يَحِلُّ النظر إلى القدمين أيضًا. ثم قال: إنما يَحِلُّ النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة من غير شهوة، فأما عن شهوة فلا يَحِل؛ لأن النظر عن شهوة سبب الوقوع في الحرام فيكون حَرامًا إلا في الضرورة بأن دُعِيَ للشهادة أو كان حاكمًا فأراد أن ينظر إليها ليجيز عليها إقرارها، فلا بأس أن ينظر إلى وجهها، وإن كان لو نظر إليها لاشتَهَى أو كان أكبر رأيه ذلك؛ لأن الحرمات قد يسقط اعتبارها لِمَكان الضرورة. وكَذَلِكَ إذا أَرَادَ أن يتَزوج امرأة فلا بأس أن ينظر إلى وجهها وإن كان عن شهوة؛ لأن النكاح بعد تقديم النظر أدل على الألفة اهـ.
7ـ وفي فتح القديم من أهم كتب الحنفية: إن حِلَّ النظر مَنُوط بعدم خشية الشهوة بقطع النظر عن كون العضو عورة أو لا؛ ولِذَا حُرِّمَ النظر إلى وجه الشاب الأمرد الصبيح، مع أنه ليس بعورة، إذا شك في الشهوة، فلا ملازمة بين كون الوَجْه ليس بعورة وجواز النظر إليه، بل المَدَار على عدم الشهوة اهـ بتصرف.(1/145)
8ـ وقد بَيَّنَ السيد عبد الغني النابلسي كما نَقَلَه ابن عابدين الشهوة التي هي مناط الحرمة، بأن يتحرك القلب ويميل الطبع إلى اللذة، وربما انتشر العضو إن كثر هذا الميل، وعدم الشهوة بألاّ يتحرك القلب إلى شيء من ذلك، بمنزلة مَن نَظَرَ إلى ابنه الصبيح أو ابنته الحسناء اهـ.
9ـ وفي التنوير وشرحه: ويَنْظُرُ من الأجنبية إلى وجهها وكفيها فقط، فإن خاف الشهوة امتنع نظره إلى وجهها، فحِلُّ النظر مقيد بعدم الشهوة، كما اعتمده الكمال في فتح القدير، فإن كان عن شهوة حرم اهـ وحسبنا هذا من الفقه.
من أقوال المفسرين
10ـ قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الزينة خِلْقِية ومكتَسَبة، فالخلقية وجهها، والمكتسبة ما تحاوله المرأة من تحسين خِلْقتها بالثياب والحُلِيِّ والكحل والخضاب. ومن الزينة ظاهر وباطن، فما ظهر فمباح أبدًا لكل الناس من المحارم والأجانب، وما بطن لا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله ـ تعالى ـ في الآية. وقد استَثنَى الله تحريم إبداء الزينة ما ظهر منها. وقد اختُلف فيه، فذهب ابن جبير إلى أنه الوجه والثياب، وقال ابن عباس وقتادة والمِسْوَر: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقُرْطَة والفَتَخ ونحو هذا فمباح أن تُبْدِيَه لكل من دخل عليها من الناس.
ثم قال: ويَظْهَر لي من ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألاّ تُبْدِيَ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يَظْهَر بحكم الضرورة فيما لابد منه من حركة أو إصلاح شأن ونحوه، فما ظهر على هذا الوَجْهِ مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو مَعْفُوٌّ عنه، ورجح أخيرًا أن الاستثناء مقصور على الوجه والكفين اهـ بتلخيص.(1/146)
11ـ وقال الآلوسي في تفسير هذه الآية: إنها تضمنت نهي النساء عن إبداء ما يَتَزَيَّنَّ به من الحُلِيّ ونحوه إلا ما جَرَت العادة والجِبِلَّة بظهوره وكان الأصل فيه الظهور، كالخاتم والكحل والخضاب، فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب، وإنما المؤاخذة في إبداء ما خَفِي من الزينة كالسُّوار والحُلِيّ والدُّمْلُج والقلادة والإكليل والوِشَاح والقُرْط.
والمشهور من مذهب الحنفية ـ كما ذَكَره الزمخشري ـ أن مواضع الزينة الظاهرة من الوجه والكَفَّين والقدمين ليست من العورة مُطْلَقًا فلا يُحَرَّم النظر إليها (والمراد من الإطلاق شمول الشابة والعجوز) لحديث عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي ـ صلى الله وعليه وسلم ـ وعليها ثياب رِقاق فأَعْرَض عنها وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بَلَغَت المحيض لم يَصْلُح أن يُرَى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفه، صلى الله وعليه وسلم. ولحديث ابن عباس في تفسير ما ظهر منها أنه رقعة الوجه وباطن الكف. ولحديث ابن عمر أنه (الوجه والكفان) ولعل القدمين عندهما كالكفين، ولم يذكراهما اكتفاء بالعلم والمقايسة، فإنَّ الحَرَجَ في سَتْرِهما أشد من الحرج في ستر الكفين، لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يَمْشِين لقضاء مصالحهن في الطرقات اهـ بتصرف يسير.
ونجتزئ بهذا عن إيراد أقوال مفسرين آخرين خشية الإطالة.
ومن هذا يتبين أن الذي يجوز إبداؤه من المرأة عند الحنفية هو مواضع الزينة الظاهرة وهو الوجه والكفان، وكَذَا القدمان في رواية عن الإمام، فلا يَجُوزُ إبداء غيرهما من الرأس والشعر والرقبة والصدر والذراعين والساقين ونحو ذلك.(1/147)
وإن عِلَّةَ الجواز في الوَجْه والكفين والقَدَمَيْن راجعة إلى الضرورة والحاجة المَاسَّة ودفع الحرج والمشقة في السِّتر، ومعلوم بَدَاهة أن الضرورة تُقَدَّر في الشرع بقدرها، وأن الاستثناء لا يُتوسع فيه، ولا ضرورة مطلقًا في إبداء غير هذه الأعضاء التي استُثنيَت، ولا في إبداء الزينة الفاحشة التي تُبْدِيها النساء الآن في وجوههن وأيديهن وأرجلهن، فيَبقَى حُكْمُها على الحرمة الأصلية بالنسبة لنظر الأجانب من الرجال دون الأزواج وذوي المحارم.
هذا تفصيل ما أجملناه في الفتوى وهذه نصوصه من مصادرها في مذهبنا وفي كتب التفسير، وقد عَلِمْتَ أنه رأي كثير من الأئمة.
نعم هناك من يَرَى أن الوجه عورة كما سبق في عبارة الشوكاني، وهناك من يرى أنه ليس بعورة ولكن يجب ستره خوف الفتنة. وهناك من يُفَرِّق في ذلك بين الشابة والعجوز. وهناك من يَقْصُر الجواز على مواضع الضرورة التي أَشَرْنا إليها. ولكلٍّ رأيُه وحُجَّتُه. ومَرَدُّ الخلاف في هذا إلى الخلاف في تفسير (مَا ظَهَرَ مِنْهَا).
وليس للمُقَلِّد لمذهب بعد أن اسْتَقَرَّت المذاهب أن يَنْقُض مذهبًا بمذهب ولا أن يَطْعَن في حكم مُدَوَّن في مذهب بمجرد مخالفته لحكم مذهب آخر.
وسبيل العلماء في البحث أن يَطْلُبَ السائل من المُعلِّل (كلمتان مصطلَح عليها في أدب المناظرة) تصحيح النقل إن كان ناقلًا، وإقامة الدليل إن كان مدعيًا، ثم يجري البحث بينهم إلى مداه حَسَب الأوضاع المُقرَّرة في علم آداب البحث والمناظرة، مع وُجُوب رعاية الأدب الإسلامي والهَدْي النبوي في البيان بالقول واللسان.
أما الإقْذَاع والسِّباب فهو سبيل الحَمْقَى من الجهال والسفهاء من الغوغاء، وهو سبيل يأباه الدين ويَعِفُّ عنه الخلق الكريم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله أعلم.(1/148)
حُكْم إبداء المرأة وجهها بالزينة الفاحشة
(السؤال): ما الحكم في إبداء المرأة وجهها بالزينة التي جَرَت عادة النساء الآن باستعمالها بالمساحيق والأصباغ، وفي النظر إليه مع ذلك؟
(الجواب): الوجه ليس بعورة كما أَجْمَعَت عليه نصوص الحنفية، ويجوز إبداؤه لمكان الضرورة ولدفع الحرج في ستره، ويجوز النظر إليه بغير شهوة، ويحرم إذا كان بشهوة إلا في مواضع الضرورة، كخطبة النكاح والشهادة والحكم، كما بَيَّنَّا في فتوانا السالفة الذكر وقد قلنا فيها ما نصه: (إن علة جواز إبداء الوجه والكفين عند الحنفية وكثير من الأئمة، والقدمين في رواية عن أبي حنيفة، راجعة إلى الضرورة والحاجة الماسة ودفع الحرج والمشقة في الستر. ومعلوم بداهة أن الضرورة تُقَدَّر في الشرع بقدرها، وأن الاستثناء أي استثناء مواضع الزينة الظاهرة في قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) لا يُتَوسَّع فيه، ولا ضرورة مطلقًا في إبداء الزينة الفاحشة التي يبديها النساء الآن في وجوههن وأيديهن وأرجلهن فتَبقَى كلها على الحرمة الأصلية بالنسبة لنظر الأجانب من الرجال دون الأزواج والمحارم) فارجع إليها إن شئت.
على أن هذه الزينة الفاحشة مَظِنّة غالبة لإثارة الشهوة، فيحرم إبداء الوجه بها، ويحرم النظر إليه معها، وإن كان الوجه من مواضع الزينة الظاهرة؛ لِمَا قلنا من حرمة النظر إلى الوجه بشهوة في غير موضع. والله أعلم(1/149)
كشف ذراعَي المرأة حرام
(السؤال): زعم بعض الناس أنه يَجُوز للمرأة كَشْف الذراعين والساقين ولُبْس الثياب التي يظهر منها الذراعان والساقان، فهل هذا صحيح؟
(الجواب): اتَّفق الفقهاء على أن ذراعَي المرأة الحرة وساقَيها عورة لا يجوز إبداؤها ولا يَحِلُّ للأجنبي تعمد النظر إليها؛ لأن هذه الأعضاء مواضع الزينة الباطنة ولبس الثياب التي تظهرها محرم لكونه ذريعة إلى المحرم. وقد بينّا ذلك في فتوانا السابقة حيث جاء فيها ما نصه:
(ومِن هذا يَتَبَيَّنُ أن الذي يجوز إبداؤه من بَدَنِ المرأة عند الحنفية هو مواضع الزينة الظاهرة وهو الوجه والكفان، وكذا القَدَمَان في رواية عن الإمام. فلا يَجُوز إبداء غيرهما من الرأس والشعر والرقبة والصدر والذراعين والساقين ونحو ذلك) والله أعلم.(1/150)
صبغ المرأة شعرها
(السؤال): أحل الإسلام للمرأة أن تتزين في منزلها لزوجها، فهل عليها من إثم إذا هي صبغت رأسها بالسواد لتزيل أثر الشَّيب، وهي تَرَى أن ذلك أدعى لسعادتها مع زوجها؟
(الجواب): نعم يجوز لها أن تَصبُغ شعر رأسها بالسواد بإذن زوجها، ومن الإذن إقرارها على ذلك، وموافقتها عليه.
قال النووي في شرح صحيح مسلم ما نَصُّه: إن تحمير الوجه والخضاب بالسواد وتطريف الأصابع (يقال: طَرَّفَت المرأة بَنَانَها خضَّبَته) جائز، فإن لم يكن لها زوج أو كان وفعلته بغير إذنه فحرام، وإن أَذِنَ جاز في الصحيح. والله أعلم.(1/151)
خَفْض البنات مشروع
قرأت مَقال حضرة الدكتور الغوابي في خِتَان البنات فشَكَرْت له غَيرته الدينية وسداد رأيه في بحثه القيم، ويَطِيب لي أن أشرح آراء فقهاء المذاهب فيه.
فمذهب الشافعية أن الختان واجب في حق الذكر والأنثى. وبه قَطْع الجمهور كما ذكره النووي في المجموع.
ومذهب الحنابلة كما في المغني لابن قدامة أنه واجب في حق الذكور، وليس بواجب بل هو سنة ومَكْرُمَة في حق الإناث، وهو قول كثير من أهل العلم.
ومذهب الحنفية والمالكية أنه سنة في حقهما وهو من شعار الإسلام.
وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر الشافعي: قال الماوردي: ختان الأنثى قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله، لِمَا أخرجه أبو داود من حديث أم عطية أن امرأة كانت تَختِن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَنْهَكي فإن ذلك أَحْظَى للمرأة. وله شاهدان من حديث أنس ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ، وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي.
وفي المدخل لابن الحاج أنه اختُلف في النساء هل يُخْفَضنَ عمومًا؟ أو يُفَرَّق بين نساء الشرق فيُخفَضنَ، ونساء الغرب فلا يُخفَضنَ لعدم الفضلة المشروع قطعها منهن بخلاف نساء الشرق. والله أعلم.(1/152)
حكم ختان البنات
ورد إلينا سؤال: ختان البنت، وهو المسمَّى بالخِفاض، هل هو واجب شرعًا أو غير واجب؟
(الجواب): أن الفقهاء قد اختلفوا في حكم الختان لكل من الذكر والأنثى هل هو واجب أو سنة؟ فذهب الشافعية كما في المجموع للنووي إلى أنه واجب في حق الذكر والأنثى، وهو عندهم المذهب الصحيح المشهور الذي قَطَعَ به الجمهور. وذهب الحنابلة كما في المغني لابن قدامة إلى أنه واجب في حق الذكور، وليس بواجب بل هو سنة وتكرمة في حق الإناث، وهو قول كثير من أهل العلم. وذهب الحنفية والمالكية إلى أنه سُنَّة، وليس بواجب في حقهما، وهو من شعار الإسلام.
فتَلَخَّص من ذلك أن أكثر أهل العلم على أن خِفَاضَ الأنثى ليس واجبًا، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، ويُروَى أيضًا عن بعض أصحاب الشافعي، فلا يُوجِب تَرْكُه الإثمَ، وأن ختان الذكر واجب شرعًا، وهو شعار المسلمين، وفي مِلَّة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو مذهب الشافعية والحنابلة. ومن هذا يُعلَم أنه لا إثم في تَرْكِ خفض البنات (ختانهن) كما دَرَجَ عليه كثير من الأمم الإسلامية بالنسبة لَهُنَّ. والله أعلم.(1/153)
الإسراء والمعراج
في ليلة السابع والعشرين من شَهْر رَجَب على ما حَقَّقَه جمْع من الأئمة (كما في المواهب اللدنية وغيرها) وقيل في ليلة السبت سبعة عشر خَلَت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، كما في فتح المُعِين حاشية شرح الكَنز في الفقه الحنفي ـ وقعت معجزة الإسراء والمعراج لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأُسرِيَ به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام كما قال تعالى: (سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).
وكان الإسراء والمعراج يَقَظَة بالجسد والروح معًا على التحقيق، وفي المسجد الأقصى صلى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بِجَمْع من الأنبياء إمامًا إعلامًا من الله تعالى بأفضليته على سائر مَن سبقه من الأنبياء وإمامته لهم ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ وقد رأى في مَسراه من الآيات وعجائب الصنعة الباهرة والقدرة القاهرة ما أعده للارتقاء إلى أعلا مراتب الكمال اللائقة بالبشر.
ثم عُرج به إلى السماء فاستَفتَح له جبريل عليه السلام أبوابها، والتقى فيها بأرواح بعض الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وما زال يَرقَى في المعارج حتى بلغ سدرة المنتَهَى في الأفق الأعلى. وأراه الله كذلك في معراجه من الآيات الكبرى ما لا يحيط به الوصف تكميلًا له وإكرامًا، وناجاه مناجاة الخليل لخليله والحبيب لحبيبه، وجمع له بين الخُلَّة والمحبة، فكان أقرب المقربين وأفضل الأنبياء والمرسلين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو فضل عظيم.(1/154)
وفي هذه الرحلة السماوية فرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلب من ربه التخفيف عن أمته بعد أن سمع من أخيه موسى عليه السلام ما سَمِعَ، وما زال يدعو ربه ألاّ يَشُقَّ على أمته حتى أوحى الله إليه أنه جعلها خمس صلوات في العَدِّ وخمسين في الأجر، والله رؤوف رحيم.
فاخْتُصَّت هذه الليلة بفرض أعظم فرائض الإسلام وأقوى مبانيه وأركانه بعد الشهادتين، وهي فريضة الصلاة التي يشتغل فيها القلب بالنية والإخلاص والخشوع لله والطاعة له والتجرد عما سواه. ويشتغل فيها اللسان بالذكر والحمد والثناء على الله وتلاوة آياته والشهادة له بالألوهية، ولمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرسالة والسلام عليه. وتشتغل فيها الجوارج بالقيام والركوع والسجود، وهو أعظم مظاهر العبودية والطاعة، فلا جَرَمَ أن كانت الصلاة أفضل العبادات وأَجَلَّ نِعَم الله على عباده بعد الإيمان. كيف وهي مناجاة بين العبد وربه خمس مرات في اليوم والليلة يَحمَد ربه ويمجده ويثني عليه ويخصه بالعبادة والاستعانة ويطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، ويَقْرَع باب رحمته ورضوانه، ويتذلل ويخضع ويخشع ويقف في مقام العبودية المحضة لرب العالمين.(1/155)
كما اختُصَّت بظهور تلك المعجزة الباهرة التي نَطَقَ بها القرآن تصديقًا للرسول في دعوى الرسالة وتأييدًا له في دعوة الحق، وتبعتها معجزة أخرى، وذلك أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد أن عاد في تلك الليلة نفسها من رحلتيه الأرضية والسماوية، وأخبر في الصباح بما رأى، فسارع أقوياء النفوس إلى تصديقه وسارع المشركون كدَأْبِهم إلى التكذيب، وطلبوا منه أن يَصِف لهم بيت المقدس، وهم يعرفونه ويعلمون أنه لم يذهب إليه قط، تعجيزًا له، فأطلعه الله على كل ما فيه حتى يجيء الوصف كاملاً، فوصفه لهم أدق وصف، وَصْفَ مشاهدة وعِيَان فبُهِتُوا، وكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. والحمد لله رب العالمين.
ولله ـ تعالى ـ أن يُفَضِّل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والجمادات بما شاء من أنواع الفضل، وهو الفعال لِمَا يريد، المتصرف في ملكه بما يشاء تصرفًا مطلقًا، لا مُعقِّبَ لحكمه وهو على كل شيء قدير.
ولذلك كانت هذه الليلة على ما ذهب إليه المحققون من الليالي الفاضلة، وفضلها راجع إلى فضل ما وقع فيها وما أنعم الله به على هذه الأمة، فالله الحمد والمنة والشكر والثناء على هذه النعمة.
وقد جَرَى المسلمون من قديم على التأهب للقيام بشكر الله ـ تعالى ـ في هذه الليلة من كل عام إذ هي ليلة ذكرى هذا الفضل العظيم. ومما يُشْكر به ـ تعالى ـ التقرب إليه بنوافل الطاعات، ومنها الصلاة وتلاوة القرآن والصدقات وصلة الأرحام والدعاء والتضرع ونحو ذلك.(1/156)
ولعل الزيارة الرَّجَبِية من هذا القبيل إذ يَشُدُّ المسلمون الرِّحَال لزيارة المسجد الحرام وزيارة سيد الأنام في شهر رجب، وقد يَعْتَمِرون مع ذلك تنسكًا لله ـ تعالى ـ وشكرًا له على نعمه الوافرة التي من أَجَلِّهَا ما أنعم به في ليلة السابع والعشرين من رجب الفرد. غير أنه يجب أن يُعلَم أن القيام بهذا الشكر لله ـ تعالى ـ ليس بواجب في خصوص هذه الليلة، فيجوز إيقاعه فيها كما يجوز في غيرها، وأن الاجتماع في هذه الليلة لذلك ليس مسنونًا ولا واجبًا.
فإذا خلا القيام بهذه النوافل والطاعات في هذه الليلة عن اعتقاد الوجوب لم يكن به بأس، وإنما الحذر من اعتقاد أن الشارع أوجبه أو أنه سنة مأثورة عن الصحابة أو سلف الأمة. والله أعلم.
هذا، وإننا نسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفق المسلمين إلى طاعته ومرضاته والقيام بفرائضه ومسنوناته، وأن يَقيَ الإسلام شر كَيْدِ عِدَاته وينصره عليهم نصرًا مُؤَزَّرًا يشفي صدور قوم مؤمنين.(1/157)
البدع في ليلة المولد الشريف
(السؤال) من العلاقي: في هذه البلاد عادة سنوية؛ وهي أن الأهالي يَنصِبون خشبة طويلة (الصاري) أمام المساجد ويُزَيِّنُونها بالبَيَارِق ويُغَنُّون ويَرْقُصون حَوْلَها كل ليلة من أول شهر ربيع الأول. وفي ليلة الثاني عشر منه (ليلة المولد) يذبحون عندها الذبائح ويجتمع الرجال والنساء للرقص واللهو ويحضر معهم شيخهم وبعد صلاة العشاء يدخلون المسجد ثم يقرؤون قصة المولد ويُنشِدون قصائد، وقد تكون معهم مزامير. فإذا طَلَع النهار يَذْبحون ذبائح أخرى ويجتمعون للأكل ثم يأخذون بَيَارِقَهم ويَطُوفون حول البلد بنسائهم وهم يُنشِدون القصائد والنساء تُزَغْرِد حتى إذا انتَهَوا إلى هذه الخشبة أَقْبَل عليها الناس يُقَبِّلُونَها فهل ذلك جائز شرعًا؟
(الجواب): إن إحياء ليلة المولد الشريف وليالي هذا الشهر الكريم الذي أشرق فيه النور المحمدي إنما يكون بذكر الله ـ تعالى ـ وشكره لِمَا أنعم به على هذه الأمة من ظهور خير الخلق في عالم الوجود، ولا يكون ذلك إلا في أدب وخشوع وبُعْد عن المحرمات والبدع والمنكرات. ومن مظاهر الشكر إطعام الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا، ومواساة المحتاجين بما يُخَفِّف ضائقتهم وصلة الأرحام.
والإحياء بهذه الطريقة وإن لم يَكُن مأثورًا في عهده ـ صلى الله وعليه وسلم ـ ولا في عهد السلف الصالح إلا أنه أَمْر لا بأس به وبدعة حسنة.(1/158)
قال صاحب المدخل بعد أن أشار إلى ما يرتكبه العامة في ليلة المولد من البدع السيئة: (وكان يجب أن يُزَادَ في هذا الشهر الكريم الذي مَنَّ الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين من العبادات والخير شكرًا للمولى ـ سبحانه ـ على ما أَوْلَانَا من هذه النعم العظيمة، وإن كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَزِد فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات. وما ذاك إلا لرحمته بأمته ورِفْقِه بهم؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يترك العمل خَشْيَةَ أن يُفْرَض على أمته رحمة منه لهم، لكن أَشَار ـ عليه الصلاة ـ إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله لمن سأله عن صوم يوم الإثنين: (ذلك يوم وُلِدْتُ فيه) فتشريف هذا اليوم يَتَضَمَّن ضمنًا تشريفَ هذا الشهر الذي وُلِد فيه، فينبغي أن نَحْتَرمه حق الاحترام، ونُفَضله بما فَضَّل الله به الأشهر الفاضلة، وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خَصَّها الله تعالى به من العبادات التي تُفْعَل فيها، وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يَخُصُّ الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات.
أما كل ما خالف ذلك، مما جاء في السؤال، فهو بِدَع منكرة لا أصل لها في الدين، فلا يجوز نصب هذه الخشبة لذلك أمام المساجد، ولا تعليق البيارق عليها، ولا الرقص ولا الغناء حولها، ولا اختلاط النساء بالرجال في هذه الليالي، ولا فعل شيء من ذلك في المساجد فضلًا عن المزامير ولا الطواف حَوْل البلد بهذه الطريقة، ولا تَقْبِيل الخشبة المنصوبة.
والواجب على المسلمين الكَفُّ عن هذه البدع والإقلاع عن هذه العادات وتجريد ذكر المولد الشريف من كل ما ينافي جلاله وتعظيمه واحترامه وتوقيره
يَا عُصْبَةً مَا ضَرَّ أُمَّةَ أَحْمَدٍ وَسَعَى إِلَى إِفْسَادِهَا إِلَّا هِي
طَارٌ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَادِنٍ أَرَأَيْتَ قَطُّ عِبَادَةً بِمَلَاهِي(1/159)
وإن التَّبِعَة الكبرى في هذه المنكرات على من نَصَّبُوا أنفسهم منصب القدوة، وسَلَّم العامةُ لهم قِيَادَهم فلم يوجهوهم للخير والعمل الصالح، ولم يُرشدوهم إلى حُكْم الدين بل زينوا لهم البدع باسم الدين حتى تَمَكَّنَت في نفوسهم، وأصبحت عقائد راسخة في قلوبهم، وتَعَذَّر على المُصلِحين معالجة أمورهم ورَدُّهم عن هذا المنكر إلى المعروف. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله أعلم.(1/160)
فضل شهر رجب الفرد
من الأيام والشهور الإسلامية مواسم خير وطاعة وَجِدٍّ واجتهاد فيما قَرَّب إلى الله زُلْفَى، وفيما يُبتغَى به من الله من إجزال المثوبة ومضاعفة الأجر، فخَصَّ الله ـ تعالى ـ يوم الجمعة ويوم عرفة وأيام مِنًى وليلة القدر بمزيد فضل على سائر الأيام والليالي، وخَصَّ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس والأشهر الحرم بمزيد فَضْل على باقي الشهور.
والتفاضل بين الموجودات في الخصائص والمزايا والصفات والآثار من السُّنَن الكونية التي اقتضتها الحكمة الإلهية وتَجَلَّت فيها القدرة الربانية وإبداع الصُّنْع والخَلْق، لا فَرْقَ في ذلك بين الأزمنة والأمكنة والأجناس والأنواع والأشخاص ولن تَجِدَ لسُنَّةِ الله تبديلًا.
وقد كانت الأشهر الحرم الأربعة مُعَظَّمة في شريعة ـ إبراهيم عليه السلام ـ واستمر ذلك باقيًا في عَقِبِه من ذرية إسماعيل الذبيح ـ عليه السلام ـ فكان العرب قبل الإسلام يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل فيها قاتل أبيه لم يَهِجْه ولم يَمَسَّه بِسُوء. ومنها شهر رجب ويسمونه (رَجَب الفَرْد) لانفراده عن بقية الأشهر الحرم المتتابعة: ذي القعدة وذي الحجة والمحرم. ويسمونه (رجب مُضَر) لأنهم كانوا أشد تعظيمًا له من غيرهم، فكأنهم اخْتُصُّوا به. (ورَجَب الأَصَمّ) إذ كانوا لا يَسمَعون فيه قَعْقَعَة السلاح ولا صَريخ النَّفْر والاستغاثة، كما يُسَمُّونه (مَنْصَل الأَسِنَّة) فلا يَدَعُون فيه رمحًا فيه حديدة ولا سَهْمًا فيه حديدة إلا نَزَعُوهَا منه للأمن فيه من القتال وإدراك الثأر.(1/161)
واستمر بعد ذلك في العَرَب إلى أن ابْتَدَع مبتدعهم النسيءَ فكانوا يَنسَؤُون الشهر الحرام حين تُعْجِلُهم الحاجة إلى الغزو والقتال فيه فيؤخرونه إلى الذي يَلِيه ويحرمونه مكانه فيَنسَؤُون شهر المحرم إلى صفر، وشهر رجب إلى شعبان، وفي ذلك نَزَل قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) وقوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِه الذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِؤوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ).
وبَقِيَ لهذه الأشهر الحُرُم حُرْمَتُها في الإسلام، فنُهيَ المسلمون عن انتهاكها بارتكاب ما حرَّم الله من المعاصي والآثام حيث قال تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). ورُوي عن قتادة أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها. وإن كان وزر الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله ـ تعالى ـ يعظم من أمره ما يشاء، فعَظِّموا ما عظم الله فإنما تُعَظَّم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل.
أما القتال في الأشهر الحرم، فذهب الجمهور إلى إباحته وأن حُرْمَته منسوخة بآية السيف، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ في هذه الآية: (وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) دون تخصيص بشهر دون شهر. وذهب آخرون إلى حُرْمَته. وذهب عطاء بن أبي رباح إلى أن القتال فيه إنما يجوز دفاعًا عن حق لا ابتداءً. وهو تَفْصِيل حسن.(1/162)
وفي قوله تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) دِلالة على أن من يقترف الذنب فيها ظالم لنفسه متجاوز حَدَّه مُعْتَدٍ أثيم، فإذا عوقب على فعلته كان ذلك قضاء عدلًا وجزاء وِفاقًا للجرم الشنيع (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلعَبِيدِ).
وكما تُضاعَف السيئات في الأشهر الحرم تُضاعَف الحسنات فيكون أجرها أعظم وأوفَى، ولذلك يُنْدَب فيها الإكثار من عمل الخير والبر ومنه صلة الأرحام ومواساة ذوي الحاجة، وتفريج كرب المسلمين والسعي بالصلح بين الناس، وإنصاف المظلوم بالكف عن ظلمه وانتزاع الحق له من ظالمه، والإنابة إلى الله ـ تعالى ـ في السر والعلن، والتوبة إليه مما جنت الألسن والأيدي من الذنوب، والتماس رضا الله ـ تعالى ـ بالإقبال على مَحَابِّه والكف عن مساخطه.
ولشهر رجب من الفضل الحظُّ الأوفر، فقد خصه الله ـ تعالى ـ بمنقبة عظمى، إذ أسرى في إحدى لياليه برسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأراه في ليلته المباركة ما أراه من الآيات الكبرى الدالة على باهر قدرته وعظيم سلطانه، فكان الإسراء معجزة باهرة ثبت الله بها قلوب المؤمنين وأظهرهم على ما انطوت عليه جَوَانِح المرتابين المنافقين، ثم عَرَج به في تلك الليلة إلى السموات العُلا وفيها ناجاه ربه وفرض عليه وعلى أمته خمس صلوات في اليوم والليلة وهي سَنَام الإسلام وعموده والفيصل بين الإيمان والكفر.
وحَسْبُ شهر رجب الفرد فضلًا ومَنقَبة بأن يكون شهر الإسراء والمعراج.
وليس لزيارة القبور في رجب فضل على زيارتها في غيره بل هي سُنَّة مأثورة في سائر الأشهر للعظة والاعتبار بالموت وتذكر الآخرة وما فيها من أهوال وحساب، على أن يُجتَنَبَ فيها البدع المنكرة ويتأدب الزائر بأدب الإسلام فيها.
وأما صوم شهر رجب كله وكذلك صوم شعبان كله فلم يُؤْثَر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما كان يصوم كثيرًا من أيام شعبان. والله أعلم.(1/163)
التوكل والأخذ بالأسباب في الإسلام
منح الله الإنسان العقل لِيُفَكر ويُدَبِّر، ووهبه الإرادة ليختار ويُؤثِر، وأمده بالقوة ليعمل وينفِّذ. وما دام في الدنيا فله أهداف يسعى إليها، ومطالب تضطره الحياة إليها، تلجئه الطبيعة البشرية فيتلمس لها الوسائل التي جَرَت السنة الكونية بالاعتماد عليها، والأسباب التي من شأنها أن تُوَصِّل إليها، وقَلَّمَا يحصل على ما يريد دون أن يكدح ويَكِدّ ويسعى ويَجِدّ، ويَسْلُك إليه السبيل الأَسَدَّ. وقد مَضَت سُنَّة الله ـ تعالى ـ بربط المسبَّبات بالأسباب، حتى استقر في الأفهام أن محاولة نيل المطالب دون مباشرة أسبابها ضرب من العبث، وطمع في غير مطمع. فالجوع لا يندفع إلا بالغذاء، والحر والبرد لا يُدْرَءان إلا بالكساء، والأرض لا تنبت إلا بالبذور والماء، والأمراض لا تزول إلا بالعلاج والدواء، والتناسل إنما يتم بالازدواج، والعلم إنما يُنال بالتعلم، والنصر إنما يُنال بالجهاد. ولا يَجْرِي على غَيْر هذا السَّنَن إلا الخوارق والمعجزات.
وقد جَرَى الإسلام في أَحْكَامه على هذا المنهاج، فأَوْجَب التوسل إلى المقاصد بالأعمال فقال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).
وأوجب العمل بالمأمورات لِنَيْلِ السعادة الدنيوية والأخروية، وجَعَل مناط الثواب والعقاب في الآخر ما يعمله الإنسان في الدنيا (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).(1/164)
وحَرَّمَ ترك الكسب وإهمال الأسباب في بعض الأحوال كما يشير إليه قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
فمن ترك الكسب ولزم عُقْرَ داره، وأغلق على نفسه الأبواب حيث لا طريق لأحد إليه، وانتظر القوت من السماء، وظن ذلك توكلًا فقد ارتكب إثمًا وجَهِلَ سنة الله ـ تعالى ـ فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة ولا طعامًا ولا قوتًا.
وكان من دأب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرة الأسباب، فتَداوَى من الداء، وأمر بتعاطي الدواء فقال: "ما أَنْزَل الله داء إلا أنزل له شفاء فتَداوَوا" وَظَاهَرَ في الحرب بين دِرْعَيْنِ، ولَبِسَ على رأسه المِغفَر، أخذًا بالسبب المألوف في اتقاء الأعداء، وهو الذي عصمه الله من الناس، وأقعد الرماة على فَمِ الشِّعْب، وحَفَر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، وأذن أصحابَه في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر بنفسه إليها وتَعاطَى أسباب الأكل والشرب لدفع الجوع والظمأ، وتَزَمَّلَ وتَدَثَّر، وادَّخَر لأهله القوت ولم ينتظر ذلك من السماء.
فكان ذلك تعليمًا للأمة وإرشادًا، وتشريعًا للكسب وتَعَاطي الأسباب.
غير أن الارتباط بين الأسباب والمسبَّبات ليس ذاتيًّا طبيعيًّا بحيث إذا وُجِدَ السبب وُجِدَ المسبَّب لا مَحَالَة، وإنما هو ارتباط عادي مَحْضٌ قد يَتَخَلَّف فيه المسبَّب عن السبب، بل كثيرًا ما يَتَخَلَّف، كما يَشْهَد به الواقع والمشاهدة، فإنا نَرَى أحكم الناس رأيًا وأوسعهم حيلة يبتغي إلى غرضه كل سبب ووسيلة، ثم نراه يُخفِق فيه إخفاقًا شديدًا، ونرى الفسائل تُغرَس في الأرض الخصبة وتُروَى بالماء وتُتعَهَّد بوسائل الإنماء وتُحاط بأسباب الوقاية من الآفات، ثم نراها وقد جَفَّت وصَوَّحَت، فلم تَنَلْ حظًّا من الحياة، أو نرى الآفة قد أَحَاطَت بثمرها فلم تَبْقَ منه باقية.(1/165)
وترى الرجل يتخذ أقصى ما يستطيعه من وسائل السعادة ثم لا يَسْعَد، ويباشر أسباب بَسْطَة العيش ثم يظل عمره ضيق اليد لا يكاد يحصل على الكفاف، بل يحوط نفسه بأسباب الوقاية أو العلاج فيصاب ولا يَبْرَأ، إلى نظائر لا تُحصَى كثرة.
بينما نشاهد كثيرًا حدوث المسبَّب إِثْرَ مباشرة السبب. فما هو السر في ذلك مع بذل الوُسْع في اكتساب الأسباب؟
(نعم) السر فيه أن الأمر ليس أمر الأسباب والوسائل وحدها، وليس مَرَدُّه مجرد إرادة الإنسان وقدرته، وإنما وراء ذلك إرادة أعلى لا تساويها إرادة، وقدرة أقوى لا تغالبها قدرة، تدبِّر بالحكمة هذا الكون وتنظمه، وتهيمن عليه وتصرفه، وتُوَجِّه هذا الإنسان وتُوَفِّقه، بِيَدِها وحدَها الخلق والأمر، والحياة والموت، والمنع والإعطاء، والتوفيق والخِذْلان، إذا شاءت وُجود المسبَّب بَعْد السبب وُجِدَ، وإذا لم تشأ لا يوجد، وإذا شاءت وفقت للأسباب الصحيحة، وإذا شاءت خذلت في مجال الاختيار والعمل (مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ).(1/166)
تلك هي إرادة الله ـ تعالى ـ وقدرته، وهو القاهر فوق عباده، الفعال لِمَا يريد، الذي خَلَقَ الأسباب والمسبَّبات، والذي يَفْتَقِر إليه الإنسان ولا يستغني عنه طرفة عين في وجوده وفي بقائه وفي سائر شؤونه، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ. نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ...أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ...أَفَرَأَيْتُمْ المَاءَ الذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) (للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
فإلى الله ـ تعالى ـ وَحْدَه مَرَدُّ الأَمْر في حُدُوث المسبَّبات أو عدم حدوثها بعد مباشرة الأسباب، ومنه سبحانه يُسْتَمَدُّ العَوْن والتوفيق عند الابتلاء، فما شَاءَ الله كان وما لم يشأ لم يَكُنْ. ليس في ذلك خفاء، وكله مَسْطُور في لوح الوجود، يُدْرِكه ويُذْعِنُ له ويَفْقَه أسراره وحِكَمَه من كان على بَيِّنَة من رَبِّه وعلى هُدًى ونور في أمره.(1/167)
ولو اجتمع الخلق جميعًا وكان بعضهم لبعض ظهيرًا على إيجاد شيء لم يُرِدِ الله وجودَه، أو توفيق إنسان أراد الله خِذلانه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فإذا رَسَخَ ذلك في قلب المؤمن، وأَدْرَكَ بنور بصيرته أن الله ـ تعالى ـ هو خالق الأشياء كلها أسبابها ومسبَّباتها، وأنه جعل الأسباب وَحْدَها غير كافية في الوجود، ولا يَتِمُّ معها المطلوب إلا بمشيئته تعالى وتوفيقه، وأنه أقام عمارة الكون بالحكمة على هذا النظام البديع ـ لم يَجِد بُدًّا من الاعتماد على الله في جميع شؤونه. فليَلجأْ بقلبه إليه ويتوكل بكليته عليه وكفى بالله وكيلًا، وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ).
والتوكل تفويض إلى الوكيل واعتماد عليه، وثقة بقدرته، ويقين بحوله وقوته، ومن أحق من الله ـ تعالى ـ أن يفزع الإنسان في المُلِمّات إليه ويتوكل عليه، وهو مالك الأمر كله وإليه المرجع والمآب؟
فيباشر الإنسان الأسباب، ويعتمد بقلبه على مسبِّب الأسباب في جميع شؤونه لافتقاره إليه في كل حال، فيرمي البذرة في الأرض الصالحة معتمدًا على الله في إنباتها، والله ـ تعالى ـ هو الذي ينبتها إن شاء.(1/168)
ويتناول الدواء متوكلًا على الله في دفع الداء. والله ـ تعالى ـ هو الذي يَشفيه إن شاء، ويجاهد متوكلًا على اللهِ واللهُ هو الذي ينصره إن شاء، كما يشير إليه قوله تعالى: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وقوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن سأله: أَأَعْقِل ناقتي أم أَدَعُهَا؟ فقال: "اعقلها وتوكل".
وفي الحديث الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ. احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تَعجِز فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا. ولكن قل: قدَّر اللهُ وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان".
فأشار ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله: "احرص على ما ينفعك" إلى وجوب الأخذ بالأسباب وبقوله: "استعن بالله" إلى وجوب التوكل عليه، فمن تَرَك الأسباب مُكْتَفيًا بالتوكل فقد راغم الحكمة الإلهية وجهل سنة الله، وكان ظالمًا عاصيًا بترك ما أمره الله به.
ومن تَرَكَ التوكل على الله مستغنيًا بالأسباب فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأَخَلَّ بواجب التوحيد. على أن التوكل في الواقع من جملة الأسباب فلابد منه في إتمام المطالب.
وجملة القول أن اكتساب الأسباب أمر لابد منه عادة وشرعًا، والتوكل على الله أمر ضروري لا محيص عنه ما دام إليه المرجع، ولِحَوْلِه ولقوته مَرَدُّ سائر الأمور، والإخلال بأحد الأمرين جَهْل ومُكابَرة، ولا شيء أبعث على راحة النفس واطمئنان الضمير من أن يشعر الإنسان في مطالب حياته بأنه أدى الواجب عليه بقدر استطاعته في الحد الذي يَملِكه. ثم يَدَع ما وراء ذلك لمالك الأمر كله، فإذا نجح حَمِدَ الله وشكر، وإذا أخفق رضي بما قضى الله وقدر.
هذا، وللصوفية في هذا المجال ـ وهم صفوة الأمة وأرباب المجاهدات ـ أقوال وأحوال لا يَتَّسِع لها المقال. والله المستعان.(1/169)
محاسبة النفس قُربة ومفتاح خير
ورد إلينا خطاب خلاصته:
إنى كمسلم أَتُوقُ إلى تصفية ما بيني وبين الناس، حتى لقد فكرت في وسيلة أَنَالُ بها عَفْو أصدقائي عني وتَنَازُلَهم عن حقوقهم قِبَلي، فكتبت ورقة استغفار واعتذار، رجاء أن يُوقِّعوا عليها بما يفيد صفحهم عني، ولكن عليَّ تَبِعات مالية لبعضهم، وأشعر بمرارة وتأنيب ضمير لبقائها بذمتي لعجزي عن سدادها عجزًا تامًّا وعدم استطاعتي مطالبتَهم بالتنازل عنها، ومنهم من قضَى نحبه، ومنهم من ينتظر، وقد استَبَدَّ بي الألم وأرَّقني الفكر في المصير، وزادني رَهَقًا على رَهَق قول الفقهاء: إن حقوق العباد لا تُغفَرُ حتى يغفرها صاحبها. فهل من بيان يُرِيحني ويطمئن نفس في حياتي الدنيوية والأخروية؟
(الجواب): إن أقرب الناس إلى الله ـ تعالى ـ من يحاسب نفسه على ما قَدَّمَت يداه من عمل، وعلى ما يَعقِدُ عليه العزم من شؤون، فيُنِيب إلى الله ـ تعالى ـ مما اجترح من السيئات راجيًا عفوه ورضاه، طامعًا في واسع رحمته وعظيم فضله، وهو ـ سبحانه ـ أرحم الراحمين، ويصلح ما بينه وبين الناس فيستقيلهم من عثرات لسانه وسيئات فعاله، ويطلب منهم التجاوز عما أسلف والعفو عما اقترف طامعًا ألا يردوه حسيرًا. والمؤمن الكريم لا يَرُدُّ سائلًا ولا يخيب آملاً ويتخلق بأخلاق الله، ومنها الكرم والعفو والتجاوز والصفح، ويُروَى: (من جاءكم مُتَنَصِّلًا فأَقِيلُوه) وذلك من الجانبين عنوان صدق الأخوة ونقاء النفس وطهارة القلب، وسبب في بقاء الجماعة متماسكة القوَى سليمة البنيان، بريئة من التصدع والانشقاق.(1/170)
فإذا استطاع الإنسان أن يَنَالَ العفو ممن أساء إليه فقد فَازَ كل منهما بالحسنى وغَنِم الصالحة، وإذا تَعزَّرَ عليه ذلك لمثل وفاة المجني عليه فإن الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور كفيل أن يُرضِيَ عنه خُصَمَاءه إذا تعلقوا به يوم الحساب، ولن يضيع عليه توبته، وهي عمل حسن وخير، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يَرَه. والله أعلم.(1/171)
حكم التفاؤل والتشاؤم في الإسلام
(السؤال): كثيرًا ما يتفاءل الإنسان بشيء، وكثيرًا ما يتشاءم من شيء، فهل لذلك أصل في الشريعة الغراء؟ وما حكمه شرعًا؟
(الجواب): إن شعور الإنسان بالتفاؤل والبِشْرِ عند سماع الكلمة الطيبة أو رؤية الشيء الحسن، وشعوره بالتشاؤم والانقباض عند سماع الكلمة المستَكرَهة أو رؤية الشيء القبيح أَمْر فُطِرَت عليه النفوس البشرية كما يشير إليه حديث: "ثلاثةٌ لا يَسْلَم منهن أحد: الطِّيَرَة، والظن، والحسد" (والطِّيَرَة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تُسكَّن: التشاؤم) والناس في ذلك متفاوتون، فمنهم من ينمو هذا الشعور في نفسه ويَقوَى بالاعتياد وشدة الانتباه ودقة الملاحظة حتى لا يكاد يفارقه في كل شؤونه، ومنهم من يَقِل إحساسه به ويضعف شعوره حتى يكاد يتلاشى، وفيما بين ذلك درجات ومراتب.
فإذا اعتمد الإنسان في شؤونه على التفاؤل والتشاؤم بحيث يجعل لهما سلطانًا على نفسه وتحكمًا في إرادته وتأثيرًا في عزيمته. وهما أكثر ما يكونان بالشيء يَعرِض عفْوًا ويَحدث مصادفة، فقد آوَى إلى وَهْم ورَكَنَ إلى سراب وضَلَّ السبيل، فإن الإقدام على الشيء أو الإحجام عنه إنما يعتمد على العزم والتصميم بعد إعمال الفكر والرَّوِيَّة وتقليب الأمر على مختلف وجوهه، فإذا عزم الأمر أخذ في الأسباب وأنفذ ما صمم عليه متوكلًا على الله ـ تعالى ـ فلا يصرفه عن وجهه ولا يثنيه عن قصده كلمة عابرة يتلقفها سَمْعُه من إنسان لا يقصده ولا يعرف عنه شيئًا، أو وُقُوع بَصَره على شيء لا تَعَلُّقَ له به يتوهم فيه الشر، أو صوت غراب ناعب، أو بروح طير طائر، أو تحذير كاهن أو عَرَّاف ونحو ذلك مما لا يستقيم في العقول السليمة أن له دخلًا فيما تجري به الأقدار.(1/172)
وعن عكرمة قال: كنت عند ابن عباس فمَرَّ طائر فصَاحَ، فقال رجل: خير خير. فقال ابن عباس: ما عند هذا خير ولا شَرّ. وقد كانوا في الجاهلية يعتمدون في أمورهم على الطير. فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يَمْنَةً تَيَمَّن به واستمر في قصده، وإن رآه طار يَسْرَةً تشاءم به ورَجَعَ، ويُسَمُّون ما طار يَمْنَةً السائحَ وما طار يَسْرَةً البارحَ.
وربما كان أحدهم يَهِيج الطير ويَزْجُره ليطير فيعتمده في أمره معتبرًا أن تيامنه يجلب نفعًا وتياسره يستعقب ضرًّا، مع أنه ليس في شيء من سُنُوح الطير وبُرُوحِه ـ وهو حيوان لا ينطق ولا يميز ـ ما يَسُوغُ في بداهة العقل أن يَبْعَثَ على الإقدام أو الإحجام أو يكون له تأثير في النفع أو الضر. بل ذلك إغفال للعقول الموهوبة، وتكلف بتعاطي ما لا أصل له، وطلب للعلم من غير مَظَانِّه.
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الطَّوَارِقُ بِالحَصَى وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللهُ صَانِعُ
وكانوا يتشاءمون بِنَعِيبِ الغراب وصوت البومة ومرور الظباء وسَمَّوا كل ذلك تَطَيُّرًا حيث كان أصله زَجْر الطير وإزعاجه. وقد نَهَى الشارع عنه فقال صلى الله عليه وسلم : (الطِّيَرَة شِرْك) كأنهم أشركوا مع الله غيره إذا اعتقدوا أن السُّنُوح يجلب الخير والبُرُوح يَجلِب الشر. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا طِيَرَة" وقال: "مَن تَكَهَّن أو رَدَّهُ عن سفره تَطَيُّرٌ فليس منا" وذلك إذا اعتقد أن الذي رآه من حال الطير يوجب ما ظنه من خير أو شر ولم يُضِفِ التدبير والتقدير إلى الله ـ تعالى ـ وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة والظن والحسد، فإذا تطيرت فلا تَرْجِع، وإذا حَسَدْت فلا تَبْغِ، وإذا ظننت فلا تُحَقِّق" وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعًا: "إذا تطيرتم فامْضُوا وعلى الله فَتَوَكَّلوا".(1/173)
فالمنهي عنه في التطير أن يكون باعثًا على الإحجام والعدول عن الأمر كما كانوا في الجاهلية يُحْجِمون عنه إذا خرج القِدْح الذي عليه علامة الشر في الاستقسام بالأزلام.
والأدب في ذلك أن يمضي الإنسان في سبيله ثقة بالله وتوكلًا عليه غير آبِهٍ بما رأى من طَير ونحوه، كما يشير إليه ما في السنن: "فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله" وما رواه ابن عمر مرفوعًا: "من عَرَضَ له من هذه الطِّيَرَة شيء فليقل: اللهم لا طَيْرَ إلا طَيْرُك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك".
أما الفَأْل، وأكثر ما يستعمل في الخير، فقد كان يعجب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان إذا خرج لحاجة يُعْجِبُه أن يسمع يا نَجِيح يا راشد. وقد لقي في سفره للهجرة رجلًا فقال: "ما اسمك؟" قال: يزيد. فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر يَزِيدُ أَمْرُنَا". وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة" (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة مرفوعًا: كان يعجبه الفأل ويَكْرَه الطيرة. وعن بُرَيْدَة أن النبي ـ صلى الله وعليه وسلم ـ كَانَ لا يَطَّيَّر من شيء.
قال الحَليمى: وإنما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه الفأل الحسن؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله لغير سبب مُحَقَّق، والتفاؤل حسن ظن بالله. والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله على كل حال. انتهى.
وقال الطِّيبي: معنى الترخص في الفأل والمَنْع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئًا ظنه حسنًا مُحَرِّضًا له على طلب حاجته فليفعل ذلك، وإن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله، فلو قَبِلَه وانتهى عن المُضِيِّ فهو الطيرة اهـ.
وجملة ذلك أن الإنسان إذا تفاءل أو تشاءم يمضي لسبيله في عمله دون أن يعتمد على تفاؤله أو تشاؤمه وألا يجعل ذلك موجِبًا للفعل أو الترك.(1/174)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه: كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يحب الفأل ويَكْرَه الطيرة، وهو أن يفعل أمرًا أو يَعزِم عليه متوكلًا على الله تعالى فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره مثل أن يسمع: يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، فيتفاءل بذلك خيرًا وكان يَنهَى عن التشاؤم، فإذا سمع كلمة: ما يفلح أو ما يتم، لا يتطير ولا يتشاءم ولا ينثني عن قصده خلافًا لِمَا كانوا عليه في الجاهلية من العدول عن القصد إذا تشاءموا عند زجر الطير أو الاستقسام بالأزلام. وفي الصحيح عن معاوية بن الحكم قال: يا رسول الله منا قوم يتطيرون! قال: "ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يُصَدُّنَّكم" اهـ ملخصًا.
ومن هذا يظهر أن التشاؤم الموجِب للإحجام والصد منهي عنه شرعًا، وأن التفاؤل بحيث لا يكون هو الموجِب للإقدام على الفعل جائز شرعًا، بل كان مما يُحِبُّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم.(1/175)
الدعوة العامة لتحديد النسل يُنْكِرُهَا الإسلام
تحديث النسل أو كما يُسَمُّونَه (تَنْظِيم النسل) ودعوة الأمة إليه بصفة عامة مشروع خطير تَجَاذَبَته الأفكار والأقلام منذ سنين ولم يُثِرْهُ بادئ الأمر عندنا إلا الاستعماريون حين أفزعهم تزايد السكان وأقلقهم نمو الأمة ويَقَظَة الشعور العام فيها إلى أساليب الاستعمار والتَّنَبُّه العام إلى ما له من فَادِح الأخطار على البلاد ومُناداة الشعوب في كل الأقطار العربية بضرورة تحريرها وتخليصها من شروره ومفاسده، فنادَوا في طول البلاد وعرضها بالخوف من المجاعة الجائحة إذا استمر تزايد السكان ولم يُحدَّدْ النسل بطريقة حاسمة وعَمَدوا إلى خداع العامة باسم الدين، فزعموا أن الإسلام يبيح هذا التحديد بصفة عامة، بل قال قائلهم وهو مدرس جامعي عن عمد أو خطأ: إن إباحة الإسلام العزلَ من الزوجات شرعًا دليل على إباحته تحديد النسل بصفة عامة.
فبَيَّنَّا لهم في أكثر من مَقام أن من أهم مقاصد التشريع الإسلامي تكثيرَ سَوَادِ الأمة ونموها على ممر الدهور حتى تُوَاجِه الأحداث والخطوب بقوًى عاملة وتستثمر خيرات البلاد بكثرة كادحة وتَقِف في وجوه الأعداء بجيوش حاشدة تُمِدُّها على التوالي أمداد متتابعة إذا جد الجِدُّ، وقديمًا قالوا: إِنَّمَا العِزَّة للكاثر.
لذلك أوجب الإسلام على أهله الكسب والعمل والجد في الحياة وفي استنباط وسائل العيش الرغيد للأمة بطريق الزراعة والتجارة والصناعة والتوسع فيها واستخدام أقوى الوسائل وأفضلها إلى غاية الطاقة، وجعل كل فَرْع من فروعها من فروض الكفايات حتى تَسْتَغْنِيَ الأمة بخيراتها ومنتجاتها عن كثير مما تستورده من غيرها، وتَعِزَّ بكثرتها أمام تلك القوى التي تنافسها أو تَنصِب لها العداوة وتُدَبِّر لها الشرور والمكائد وعوامل الضعف والذلة.(1/176)
ولَمَّا كان ذلك لا يتم إلا بالأيدي العاملة والعقول المفكرة والجماعات القوية المتعاضدة رغب الشارع في كثرة النسل وحَثَّ عليه فقال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الولود الودود فإني مُكَاثِر بكم" وقال: "تناكحوا تناسلوا تَكثُروا فإني مُبَاهٍ بكم الأممَ يوم القيامة" ونهى عن الجَبِّ والخِصاء والتَّرَهُّب وهجر النساء تبتلاً لمنافاة ذلك للغرض الأسمى الذي دعا إليه. ورَغَّبَ في الزواج وأباح تعدد الزوجات إلى أربع بشرطه المشروع.
فحين دعا الإسلام إلى كثرة النسل لهذه الحكم والمقاصد قرر بجانب ذلك وجوب العمل بمختلف الوسائل لإنماء الموارد الاقتصادية في البلاد علاجًا لِمَا يُتَوَقَّع من تزايد عدد السكان وهو العلاج الصحيح الذي يجمع بين قوة الأمة والعمل على توفير حاجاتها الضرورية للحياة.
وإن الأمة لا تَسْعَد إلا بهما ولا تهنأ إلا في ظلهما.
وإن في دعوة الأمة إلى تحديد النسل بصفة عامة إذا استجابت لها ـ وما أظنها تفعل ـ كل الخطر عليها، فيها ضعفها وانكماشها، فيها ذلتها واستصغارها، فيها إغراء الأعداء بها وتمكين الاستعمار من الطمع فيها، بتوالي الزمن والعَجز عن استثمار بعض الأقطار العربية.
ونُكرِّر مرة أخرى أننا حينما نريد للأمة نموًّا في العدد نريد منها جِدًّا واجتهادًا وعلمًا نافعًا يُنير لها الطريق فيما تفعل وأن تضاعف الجهود كلما تزايد العدد فإذا سلكت هذا السبيل لا يضيرها عددها بل يُعِينُها على ما هي بسبيله.
أما الكلام عن العزل الذي أشار إليه بعض الكاتبين وحَسِبَه حجة، فمع أن في جوازه خلافًا (كما يُعْلَم من مراجعة أقوال الفقهاء والمحدثين فيه) لم يكن في الإسلام دعوة عامة إليه في أي عصر من العصور من عهد النبوة إلى الآن، كما يَدْعُون اليوم إلى التحديد بصفة عامة، وهذا كافٍ في رَدِّ الاحتجاج به في هذا الموضوع.(1/177)
وقد قلنا مرارًا إن هناك حالات فردية خاصة قليلة جدًّا تدعو إلى منع الحمل كما تدعو إلى العزل وهذه لا شك في إباحتها، فإن الضرورات الشرعية تُبِيحُ المحظورات شرعًا كما أباحت للمريض الفطر في رمضان والصلاة قاعدًا عند العجز عن القيام وترك الحج لعدم الاستطاعة الجسمية مع وفرة المال، وكما رَخَّصَت في أكل الميتة للمضطر ونحو ذلك.
ولا يمكن أن تكون هذه الإباحات والرُّخَص إلا خاصة بأرباب الأعذار.
وهل يُعقَل أن الشَّارِع يدعو دعوة عامة إلى كثرة التناسل وفي الوقت نفسه يُبِيحُ الدعوة إلى تحديد النسل؟ أليس هذا تناقضًا محالًا عليه؟
والأجدر بالقائمين بهذه الحملة الصاخبة لتحديد التناسل أن يوجهوا جهودهم للدعوة إلى الاستزادة من العلم والإنتاج والقوى والجهود لاستخراج كنوز الأرض وذخائرها ومقاومة أعداء الإسلام وهم الكثرة المتعاضدة المتساندة في القضاء عليه وعلى أهله في أقطارهم. والله يوفق الجميع إلى ما فيه الخير والصلاح. والله أعلم.(1/178)
حول الدعوة العامة لتحديد النسل
(نشر هذا السؤال وجوابه في المنبر بعدد 23 مارس سنة 1956)
(السؤال): فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، مفتي الديار المصرية السابق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد) قَلَّمَا كان من الصعب العسير على النفس المؤمنة التي لا تَقْبَل الحكم على الأشياء إلا عن عقيدة وإقناع ـ قبول القول بجواز تحديد النسل خشية الفقر بعد قول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ) وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) وقوله في أولي الألباب: (وَالذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) وقوله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) وقوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وقول النبي الكريم: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثِرٌ بكم" وقوله: "تناكَحوا تناسَلوا تَكثُروا فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة" وقوله: "سوداء وَلُودٌ خير من حسناء عَقِيم" إلى غير ذلك من النصوص الصريحة التي توجب تفويض أمر الخلق إلى الله رب الخلق والأمر، فهو يعلم ما في الأرحام ويخلق ما يشاء(1/179)
ويختار (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) ثم هو يحي ويميت ويَبْسُط الرزق لمن يَشاء ويَقْدر.
ولا تسمح النصوص بجعل الفقر سببًا لتحديد النسل؛ لأنه عَرَض زائل والأيام دول بين الناس، وإنما تدعو إلى السعي وعدم التواكل والعمل على تكثير النسل وتوجيهه في رحاب الدين إلى العمل المنتج لخير البلاد والعباد.
وبهذا يضع الإسلام الحل العادل لمشكلة تزايد السكان التي قذفت في قلوب المستعمرين الرعب وأطاحت بأطماعهم تلك التي شاءوا بها القضاء على وحدة العرب وقوتهم، والله غالب على أمره.
ولَمَّا كانت الدعوة إلى تحديد النسل خشية الفقر يريد دُعاتها أن تكون دعوة عامة إليه، لوجود الأغنياء قِلَّة بين الأغلبية العظمى من الفقراء، وهو أمر مشهود ومعروف مع توافر النسل من الفقراء وقلته بين الأغنياء.
وفي هذا التحديد شبه العام قضاءٌ على كِيان الأمة وإذهاب لِرِيحِهَا، وعدوان صارخ على حرية الإنسان وحق الأسرة لم يَقُل به قرآن ولا سُنَّة ولا إجماع.
ولَمَّا كان قَصْر التحديد فيما قالوا على الفقراء بحجة وجود الفساد والتشريد في نسلهم، ووَلَدَانِ في رأيهم خير من ثمانية، وهذا أمر لا يستسيغه العقل، فقد نرى الأكثرية من الفقراء أحرص الناس على حياة دينهم ودنياهم وفي نشأتهم الأمل الوَضَّاء الحَافِل بجمال العلم ونهضة العمل وجلال الإيمان والجهاد، بينما نَرَى العكس في أغلبية نشء الأغنياء على قِلَّتِه، وكم رأينا الأيتام ذَوِي الفقر والفاقة قد أَصْبَحوا سادة وقادة، بينما انتكس الحال في غيرهم من ذوي اليسار والقوة والجاه.
ثم إننا لا ندري كيف السبيل إذا ما أُصِيبَت المرأة ذات النسل بعد إجراء التحديد بعُقم ثم مات نسلها؟ عَلَّنَا نظفر بعقار جديد ضد الموت! وبهذا نُبقي على عُدَّة الوطن وأجيال المستقبل!(1/180)
ويا تُرى هل التحديد يكون قَصْرًا على زوجة ذات نسل طُلِّقَت أو عاشت ما قدر لها أن تعيش ثم قضت نحبها بالموت؟ أم يتناول الأخرى بعد أن تأتي بما فوق العدد؟ أم تُستأصَل منها عوامل الحمل منذ بدء حياتها الزوجية فتُحرَم النسل؟ وحينئذ ما ذنبها؟ لعل أيسر طريق أن يعيش من فقد زوجة ذات نسل في رهبانية، ولكن لا رهبانية في الإسلام.
وإذا كان يرى بعض القائلين بجواز التحديد ما يصيب فكرة القائلين بعدمه استنتاجًا من قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ) فإن الذي نَلْقَى الله عليه أن المأخوذ من هذا القول الكريم تصوير الدنيا في صورتين:(1/181)
أولهما مذمومة حقير شأنها إذا ما كَاثَرَ الناس فيها بالأموال والأولاد ابتغاء الافتخار والخُيَلَاء والاسترسال في الشهوات والسخرية من الناس وتَعَدِّي الحدود إلى ما يوجب سُخْط الله وغضبه وعقابه. والحياة بهذه الصورة فتنة ومتاع الغرور والخُسران، وفي هذا يقول الله: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ). والأخرى محمودة لدى العقلاء مرغوب فيها، يدعو إليها ربنا بقوله: (سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ منْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ. الذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ...) إلخ (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...) إلخ. وهي دعوة صريحة إلى المبادرة للحصول على مغفرة الله والرضوان باتخاذ وسائل الحياة من الأنفس والأموال قُرُبات عند الله شكرًا له على ما أَنْعَم، واستمتاعًا بتلك الزينة التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق اعترافًا بفضله وواسع كرمه.
وإذا لم يَكُن كذلك فعلى أي أساس يقوم العمران؟ وبأي وسيلة يكون التعاون على البر والتقوى؟ وما الذي يؤخذ من قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ)؟ ألم يكن القصد واضحًا في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ...)؟ إلخ. وهو إنذار واضح لكل من لم يَتَوَّجه بكل هذه الوسائل إلى الله حبًّا ووقفًا على الخير في سبيل مرضاته.(1/182)
ولَمَّا كان العزل مختلَفًا في حُكْمه، وعند القائلين بالإباحة رخصة في الحالات الفردية الاضطرارية، كما في حالة ثبوت عدم قدرة الزوجة على احتمال الحمل ثبوتًا طبيًّا صحيحًا ـ فهو إذن رخصة جزئية لا يمكن أن تكون عامة أو شبه عامة، كإباحة التحديد خشية الفقر لغلبة حاله على عموم الأمة إلا النسبة الضئيلة من الأغنياء.
وإذا صَحَّ قول عمرو بن العاص الصحابي: وإياكم وكثرة العيال فإنهم يُثقِلون الظهر. على فرض حَمْلِه على هذا الوجه فإن أبا بكر الصديق وهو من عُرِفَ برجاحة إيمانه في الأمة وعُلُوِّ كَعْبِه بين صحابة الرسول قد كَرِهَ العزل؛ لأن فيه تقليل النسل وقطع اللذة عن الموطوءة، ومن القائلين معه بالكراهة من الصحابة الأجِلَّاء عمر وعلي وابن مسعود (راجع المغني لابن قدامة: جزء 1/7 ص23).
فلهذا أرفع إلى فضيلتكم وأنتم حُمَاة الدين وعلمائه الأبرار هذا الخطاب، رجاء التكرم بكشف اللثام عن هذا الأمر الخطير بِبَيَان قاطع في الموضوع على صفحات "منبر الشرق" (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نظمي متولي أحمد العسال
بميت غمر
(الجواب): ورد إلينا هذا السؤال وطلب مُحَرِّره الفاضل الجواب عليه، وما أَتْمَمْت قراءته حتى وجدت في طَيِّه الجواب الشافيَ والبيان الكافيَ، ووجدته مطابقًا لِمَا سبق بيانه ونشره في هذا الموضوع الخطير من الوجهة الشرعية والاجتماعية، ولا بأس أن نلخص ما بيناه فيما يلي:(1/183)
(1) فكرة تحديد النسل بصفة عامة ـ في الأقطار الإسلامية التي لا يزال للدول المستعمِرة نفوذ فيها أو طمع في الاستئثار بخيراتها ـ فكرة غريبة دخيلة تخفي وراءها كيدًا استعماريًّا خبيثًا لم يتفطن له الكثير من الناس، ومنهم من يَأْبَى أن يتفطن، والسر عند علام الغيوب. فليس أبغض للمستعمِرين ولا أَعْوَدَ على سياستهم بالفشل من تزايد عدد المسلمين الذي من شأنه أن يحملهم على الكَدْح في الحياة والسعي للحرية وتحطيم أغلال الاستعمار لينعموا بخيرات بلادهم ويعيشوا رافهين.
وقد قرأت أخيرًا في بعض الصحف إِثْرَ اجتماع الأقطاب العظام ما يومئ إلى فزع الدول الكبرى من كثرة عدد العرب وقلة عدد اليهود، ولتزايد العدد في الدولة رهبته وقوته وآثاره ونتائجه، فلْنُكْثِرْ رغم ما يُدَبِّرون، ولْنَتَسلَّحْ بالقوة ولْنَشُقَّ طريقنا إلى الحياة الحرة. وإن الدول التي هَصَرَتها الحروب وأكلتها الشدائد لَتَسعى جاهدة في تنمية عددها ومضاعفة قوتها لتواجه المستقبل بعُدَّة الكفاح المثمر.
(2) وإننا في الوقت الذي نعارض فيه تحديد النسل بصفة عامة نستوجب على الحكومات العربية أن تتضافر فيها القوى لاستغلال جميع موارد البلاد زراعيًّا وصناعيًّا لتنعم بخيراتها، وهي والحمد لله وفيرة وبلادها من أخصب البلاد، وفيها كنوز وذهب أحمر وأسود ومعادنَ وخيرات حِسَان، وفيها ما يَحْتَاج لأضعاف أضعاف أَيْدي أهلِها الآن لاستثمار هذه الخيرات الوفيرة، فلْنُعِدَّ لهذا الجهاد أبناءَنا لنستغنيَ بهم عن الأجانب عنا، ولْنَدَعْ هذه الفكرة المَاكِرة فهي مِعوَل هدم وسوسة تَنْخَر في العظم (والآن وقَدْ أقيم السد العالي واهتمت الحكومة أي اهتمام بالتصنيع واستغلال جميع الموارد تحتاج الأمة إلى أضعاف الأيدي العاملة الحالية)(1/184)
(3) ومع أننا نعارض بقوة فكرة التحديد بصفة عامة نقرر في صراحة أن الشريعة السمحة تبيح اتخاذ وسائل مَنْع الحمل، بل وسائل الإجهاض قبل نَفْخ الروح في بعض الحالات، وهي حالات فردية اضطرارية يكون فيها الضرر محَقَّقًا بالحامل أو غالبًا بشهادة الطب الصادقة لا بالوهم والخيال. وهذا كما تبيح للمريض الفطر في رمضان إذا كان الصوم يضره وقَرَّرَ الطبيب المسلم الحاذِق ذلك أو دَلَّت عليه تجربة صحيحة أو ظهرت له أمارة صادقة، وكما تبيح للحامل والمُرْضِع الفطر إذا خَافَتَا على نفسهما أو وَلَدِهِمَا، على التفصيل المُبَيَّن في الفقه.
4ـ والخلاف بَيْنَنَا وبين دعاة التحديد ليس في هذه الجزئيات الاضطرارية، وإنما هو في الدعوة العامة إلى التحديد، لا فَرْقَ بَيْن حالة الضرورة وحالة الاختيار، كما أُشِيرَ إليه في السؤال.
وبعد، فلَعَلَّ في هذا ما يُرْشِد بعض الباحثين إلى أن الأَوْلَى والأحق بجهودهم وإمكانياتهم أن يُوَاجهوا الشعوب في الأقطار العربية إلى التوفر على العمل المنتج ويُعِدُّوا لهم ما ليس في إمكان الأفراد من الوسائل التي بها تَسْعَد الأمم وتبقى في رغد العيش ورفاهة النعيم. والله أعلم.(1/185)
أسئلة منوعة
رُفع إلينا كتاب يتضمن طلب بيان الحكم (1) في التسمية بعبد النبي وعبد المسيح (2) وفي الاستمتاع بما مَلَكَتْه اليمين (3) وفي حكم بقاء البِغَاء العَلَني في الدولة (قبل إلغاء البِغَاء رسميًّا) وفيما يجب لإنقاذ البغايا مما وَقَعْنَ فيه (4) وفي حكم تَعَدُّد الزوجات.
(الجواب)
(1) إنه لا يجوز التسمية شرعًا بعبد النبي خشية اعتقاد العبودية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما لا تجوز التسمية بعبد المسيح كذلك على ما ذهب إليه الجمهور. وقد ثبت أن بعض الصحابة كان اسمه قبل الإسلام عبد العُزَّى فسَمَّاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد الإسلام عبد الرحمن، وتَكَرَّر ذلك لعدة منهم. وقيل بجواز التسمية بعبد النبي؛ لأنه لا يسبق إلى ذهن أحد منهم معنى ربوبية النبي للمُسَمَّى بعبد النبي عند المسلمين، ولكن الواجب كما ذكره العلامة الحفني في حاشيته على الجامع الصغير ترك التسمية به لإيهام هذا المعنى ولو على بُعْد اهـ. وما وقع من ذلك فمنشؤه الجهل بأحكام الدين وآداب التسمية، وإنما يُسمَّى بعبد رب النبي أو نحوهما.
(2) وأما حِلُّ الاستمتاع بالرقيقات فهو صريح قوله تعالى: (وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) والمراد بما مَلَكَتْه الأيمان الرقيقات اللاتي مُلِكْنَ مِلْكًا شرعيًّا صحيحًا. وفي هذا أعظم الرفق بهن حيث وَفَّرَ الشارع لهن من الاستمتاع المشروع في حالة الرق ما تتمتع به الحرائر بجانب ترغيبه في فَكِّ الرقاب وإعتاقها في كثير من الآيات والأحاديث. أمَّا الاسترقاق غير المشروع فهو حَرَام والاستمتاع فيه زِنَا مُحَرَّم، والآن لا رِقَّ في البلاد أصلًا.(1/186)
(3) وأمَّا البِغَاء فتحريمه بجميع صُوَرِه وأشكاله من بديهيات الدين، وإبقاؤه إثم عظيم، وارتكاب الفاحشة من الكبائر مطلقًا سواء بأَجْر أم بغير أجر، والواجب منع البغاء والبغايا وإقامة الحد الشرعي على من يرتكب هذه الفاحشة، وإجبارهن على العفة والفضيلة، ومنعهن من الإثم والرذيلة والمُحَرَّم وكفالة العيش لهن بالطرق المشروعة، ولا حَرَجَ في التصدق عليهن من ذوي الإحسان ابتغاء الحيلولة بينهن وبين السقوط في مهاوي الفحشاء والرذيلة وحَمْلهن على العفاف والاستقامة.
(4) وأما تَعَدُّد الزوجات في الإسلام فمن المحاسن التي لا تُنكَر بشرط القدرة والعدل بينهن لقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) أي إن خشيتم عدم العدل بينهن فيما تَملِكون من القَسْم والنفقة وحسن العشرة بالمعروف فتزوجوا بواحدة.
وأما قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ) فالمراد منه العدل القلبي والتسوية بينهن في الميل والمحبة وهو ما لا يملكه الإنسان بحسب طبيعته البشرية؛ ولذلك قال تعالى: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ) وهو ليس شرطًا في إباحة التعدد باتفاق الأئمة.
وما أحاط بالمجتمع من جَرَّاء فساد علاقات الزوجية وفَصْمِها، فأهم أسبابه عدم العدل المقدور للإنسان بين الزوجات، وعدم التربية الإسلامية، وأمور أخرى لا يَتَّسع المجال لذكرها.
(وبعد) فإن التأدب بآداب الإسلام، ووزن الأمور بميزان الشرع الحنيف، واتباع الهدي النبوي في كل الشؤون بعد استقصاء البحث عنه من مصادره الصحيحة ـ واجب على كل مسلم، وكفيل بسعادته في الدين والدنيا. والله أعلم.(1/187)
حكم اتخاذ أَبْرَاج الحمام في الشريعة الإسلامية
(السؤال): رجل قام بِبِنَاء بُرْج للحمام، واتخذ فيه عددًا قليلًا من الحمام فجَمَعَ هذا الحمام من الحمام الغريب عددًا كبيرًا لا نعلم له صاحبًا ولا مكانًا وكان الرجل يعلم يقينًا في حال إنشاء البرج أن حمامه سيجمع معه حمامًا غريبًا. فهل في اتخاذ البرج مع هذا العلم حرمة؟ ومع ذلك لو ظهر صاحب للحمام الطارئ على حمام البرج لا يسلَّم إليه مع ملاحظة أن الحمام الطارئ غير حمام بلادنا المعروف فيها؟ نرجو الجواب ولفضيلتكم من الله الثواب.
(الجواب): المنصوص عليه في مذهب الحنفية أن الإنسان إذا نصب شبكة فوقع فيها صيد، أو نصب فسطاطًا للصيد فوقع فيه صيد مَلَكَ ما وقع فيهما ـ فكذلك إذا اتخذ برجًا للحمام البري المعروف باسم (الحمام الجبلي) يأوي إليه، فكل ما دخل فيه منه وما أفرخه فيه مِلك له يَحِلُّ له أكله وبيعه وهبته. إلا أنه ينبغي أن يَعلِفَه ولا يتركه بغير علف حتى لا يتضرر به الناس في أقواتهم وإلا كُره اتخاذه. فإذا اختلط به حمام أهلي لغيره وآوى إلى البرج لا ينبغي أن يحبسه فيه؛ لأنه ربما يطير فيعود إلى محله الأصلي، وإن حبسه يطلب صاحبَه ليرده إليه؛ لأنه كاللُّقَطة، فإذا لم يَحْبِسه وفَرَّخَ عنده فالفرخ ملك له إن كانت الأنثى مِلكه والغريب هو الذكر، وملك لغيره إن كان الأمر بالعكس. فإن عرفه ردَّه إليه مع الأم. وإن لم يعرفه فإن كان فقيرًا جاز له أكله، وإن كان غنيًّا تصدق به ثم اشتراه إن شاء.
وكذلك الحكم لو كان كل من الذكر والأنثى غريبًا؛ لأن ولد الحيوان يتبع أمه فالبيض والفراخ لصاحب الأم (راجع التنوير وحاشيته أول كتاب الصيد، وآخر كتاب اللُّقَطَة، والفتاوى الهندية وحاشية أبي السعود على مُلاّ مسكين في كتاب اللُّقَطة).(1/188)
ومن هذا يُعلم أن اتخاذ أبراج الحمام جائز شرعًا، وأن الحمام البري الذي يأوي إليها وأفراخه حلال لصاحب البرج، وأن الحمام الأهلي الذي يختلط بحمام البرج ويدخل معه فيه لا يَمْلِكه صاحب البرج، ويلزمه رَدُّه لأصحابه إذا عرفهم، وحكمه حكم اللُّقَطة، وأما فراخه فتتبع الأم على الحكم على ما أسلفناه. والله أعلم.(1/189)
بدعة المَحمِل وتقبيل مِقْوَد الجمل
(هذه الفتوى أصدرها فضيلة الأستاذ الكبير المفتي ردًّا على ما نَشِرَ بإحدى الصحف في 19 سبتمبر سنة 1950م من أن الاحتفال بالمَحمِل عادة طيبة، وتقبيل أمير الحج وغيره مِقْوَد الجمل تعظيم لرب الجمل ورب الكعبة، وقاسه الكاتب على تقبيل الحجر الأسود، وساق حديث عمر المشهور، ثم قال: إن هذا الاحتفال يحضره من زمن طويل كبار العلماء والشيوخ، ولم ينكروا شيئًا مما فيه، حتى أصبح بذلك بدعة حسنة ورمزًا دينيًّا. ثم دعا إلى التجديد في الدين، وعَدَّ ما رآه من التجديد الحسن وما قاله فضيلة المفتي المحقِّق بيانًا بإحدى الصحف من أن تقبيل المِقْوَد مهزلة وسخرية وأن الاحتفال به بدعة سيئة، مِن التَّزَمُّت والجمود في الدين، فأصدر فضيلته هذه الفتوى القيمة، بيانًا لحكم الله وتبصرة لأولي الألباب. ونُشِرَت بالمصري والمنبر ومجلة الإسلام في سبتمبر وأكتوبر سنة 1950م وهذا نصها "المنبر")
لا خلاف بين المسلمين في أن ما يَقَع في (حفلة المَحمِل) السنوية من الطواف بالجمل سبع مرات في الدائرة التي تُرْسَم أمام السرادق وتقبيل مِقْوَد الجمل، وما إلى ذلك مما يتصل به بدع مستَحدَثة سيئة، لا أصل لها في الدين، وتاريخ ابتداعها معروف لعامة المؤرخين.
ولا خلاف في أن البدعة تكون سيئة إذا لم يَشْهَد لها أَصْل في الدين الحنيف وتزداد سوءًا بقدر ما تترك في النفوس مِنِ اعتقاد أنها مشروعة في الإسلام وما يَنْجُم عن ذلك من آثار الجهل بالدين الحنيف.(1/190)
وقد استنكر كثير من العلماء والمفتين هذه المهزلة وفاتحوا في أَمْرِها وُلَاة الأمور. وأذكر منهم العلامة المغفور له الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية، والمغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي شيخ الأزهر، ولم يَقَع منهما تقبيل ولا تسليم، وأَبْدَوْا اشمئزازهم من هذه البدع وأنها ـ فوق كونها بدعًا ـ تمثيل هزلي وعمل جاهلي يجب على الرشيد أن يَنأى عنه بجانبه، وأن يَنهَى عنه من يجهل أمره من العامة وغيرهم.
ومهما يكن الغرض من مراسم الاحتفال بالمَحْمَل، وإظهار فَضْل مصر في العناية بالبيت الحرام فإنه لا يُبَرِّر عَمَلاً مرذولًا وتمثيلًا ممقوتًا تأباه العقول وتَنفِر منه النفوس المسلمة.
فما شُرِعَ الطواف سبع مرات إلا حول بيت الله المعظم، ومِن ثَمَّ لا يجوز الطواف حَوْل غيره من بَيْت أو قبر. وما شُرِع التقبيل إلا للحجر الأسود تعبُّدًا لله ـ تعالى ـ في الطواف بالبيت، ولولا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مأمور من الله بتقبيله لَمَا قَبَّلَه ولَمَا قبله أحد من الناس، كما بين ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في حديثه المشهور.
ولذلك لم يُشرَع تقبيل غيره من أحجار الكعبة ولا تقبيل شيء من المسجد الحرام، فيجب أن يقتصر التقبيل على ما شُرِع فيه، ولا يجوز فيه القياس والتنظير؛ لأن الأمور التعبدية التي لا تدرك العقول سرها ليست موضعًا للقياس عليها كما بينه أئمة الأصول.
ولو ساغ القياس والتنظير في هذا لجاز تقبيل كل شيء في المسجد الحرام بحجة تعظيمه كالحطيم وبئر زمزم ومقام إبراهيم، مع أن شيئًا من ذلك لا يجوز.
وبالأَوْلَى لا يجوز تقبيل مِقوَد الجمل الذي لا مِيزة له على سائر الجمال إلا أنه يحمل الهودج المعروف.(1/191)
وأي علاقة بين تعظيم البيت الحرام وبين مقود الجمل؟ وأي شبه بين الحجر الأسود وهذا المقود؟ وهل يَعُدُّ عاقلٌ مَن تعظيم المساجد مثلًا أن يقبل الناس أعمدتها ومحاريبها وعتبات أبوابها وما هو أعلى من ذلك وأدنى من توابعها؟
لذلك كله بَيَّنَّا أن هذه الأعمال بِدَعٌ سيئة وأن الواجب رد المسلمين إلى الحق والهدى وإرشاد العامة إلى تركها، فإن من أمات بدعة فقد أحيا سنة.
وقد سبق أن تحدثت في هذا الموضوع مع أولي الشأن، وما زلت أرجو الله ـ تعالى ـ أن يقضيَ على هذه البدع التي تأصلت وتشعبت فروعها حتى ظن عامة الناس أنها من الدين أو على الأقل بدع حسنة، مع أن قليلًا من التفقه في أحكامه والتبصر في حكمه يرشد إلى سوئها ومذمتها.
وليس علينا في ذلك ضَيْر، بل الضَّيْر كله في الإبقاء على ما لم يشرعه الله ورسوله، ولم يشهد له أصل من أصول التشريع الإسلامي.
هذا هو الحق، وهذا هو الطريق المستقيم، نُبَيِّنُه للناس تذكرة وتَبْصِرة، والله الهادي إلى سواء السبيل.(1/192)
التاريخ الهجري
(السؤال): يحتفل المسلمون بعيد الهجرة في أَوَّل المحرم فهل حدثت الهجرة فيه؟
(الجواب): خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الخميس ليلاً، لهلال ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة من البعثة، وأقام ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غار ثور ثلاث ليال وخَرَج منه ليلة الإثنين ووَافَى المدينة لاثنتي عشرة ليلة خَلَت من الشهر.
ولَمَّا وُلِّيَ الخلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ورأى مَسِيسَ الحاجة إلى توقيت الحوادث بتاريخ ثابت أَمَرَ باتخاذ الهجرة تاريخًا إسلاميًّا؛ لأنها أهم حادث في الإسلام فرَّق بين الحق والباطل وأَعَزَّ الله به الإسلام وانتشرت به الدعوة في الجزيرة واشتدت به سواعد المسلمين.
وكان ذلك سنة سبع عشرة من الهجرة النبوية، وجعل التاريخ من مستهل شهر المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه. ومن هذا التاريخ أصبح التاريخ الهجري شعار الدولة الإسلامية، وأصبح مبتدأ السنة الهجرية شهر المحرم. والله أعلم.(1/193)
حكم جاحد وجوب الأركان الأربعة
(السؤال): ما حكم من اعتقد عدم وُجُوب الصلاة والزكاة والصوم والحج؟
(الجواب): هذه العبادات مِن أَرْكَان الإسلام وفرائضه المعلومة من الدين بالضرورة، فمن جَحَد وُجُوبَها وأنكر مشروعيتها فهو كافر بإجماع المسلمين.
قال الشوكاني في (نَيْل الأوطار): "لا خلاف بين المسلمين في كُفْر من تَرْك الصلاة منكِرًا لوجوبها، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة" اهـ.
وقال الإمام النووي في المجموع: "إذا ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها أو جحد وجوبها ولم يترك فعلها في الصورة فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين، ويَجِب على الإمام قتلُه بالردة إلا أن يُسلِم، وتَسْرِي عليه جميع أحكام المرتدين، وهذا إذا كان قد نشأ بَيْن المسلمين، فأما من كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة من المسلمين بحيث يجوز أن يخفى عليه وجوبها، فلا يكفر بمجرد الجَحْد، بل نُعرِّفُه وجوبها، فإنْ جَحَدَ بعد ذلك كان مرتدًّا. ومن جحد وجوب صوم رمضان والزكاة والحج فهو مرتد" اهـ.
وأما من تركها كسلًا وتهاونًا مع اعتقاد وجوبها فسيأتي بيان حكمه في فتوى أخرى في الباب الخامس. والله أعلم.(1/194)
خيانة الخدم
(السؤال): يشتري بعض الطهاة والخدم ما يُكَلِّفُهم المُخَدَّمون بشرائه، ويزيدون في الأثمان عند محاسبتهم، ويأخذون الزيادة لأنفسهم. فما حكم ذلك شرعًا؟
(الجواب): ما يأخذه هؤلاء الأتباع وأمثالهم من أموالِ متبوعيهم بهذه الطريقة هو اختلاس وخيانة للأمانة، وأكل لأموال الناس بالباطل، وكسب خبيث، وهو محرم شرعًا، ويجب عليهم الإقلاع عن هذه المعصية والتوبة منها. والله أعلم.(1/195)
الاستعمار يستخدم الخونة في التقاتل بين المسلمين
(اعتدت فرنسا الغاصبة على مراكش المسلمة، وتطاول المقيم الفرنسي على سلطان مراكش، وسار بعض الخَوَنَة من المراكشيين في ركاب الغاصبين، فجعلوا بعض المسلمين يَحْمِلون السلاح لمحاربة إخوانهم في الدين والوطن، وشَبَّت الثورة دخل البلاد، وترامت أنباؤها إلى مصر والأقطار الشقيقة، وقام العالم الإسلامي يغضب لمراكش الشقيقة فأصدر فضيلة الأستاذ الكبير هذه الفتوى الجليلة، وطبعت منها ألوف النسخ ووُزِّعَت في كل مكان، وأذاعتها وكالة الأنباء العربية في الشرق العربي كله بالعربية والإنجليزية، ونشرها كثير من الصحف والمجلات. "المنبر" وكان الفضل في ذلك للمجاهد الكبير القائد الباسل زعيم الريف صديقنا الأمير الجليل محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمه الله وأكرم مثواه)
تَضَافَر الكتاب والسنة وإجماع الأمة على حُرْمَة دماء المسلمين. وقد خطب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حَجَّة الوداع فقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم (جمع بَشْرَة، وهي ظاهر جِلْد الإنسان) عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت؟".
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من حَمَلَ علينا السلاح فليس منا" وفي رواية مسلم: "من سَلَّ علينا السلاح فليس منا" وفي رواية أحمد: "من رَمَانَا بالنَّبْلِ فليس منا".(1/196)
والمقصود من ذلك أن مَن حَمَل على المسلمين سلاحًا أو نَبْلًا أو أي أداة للقتال يريد به قتال أخيه المسلم "بغير حق مشروع" فليس من الإسلام ولا من أهله في شيء، ففيه دلالة ـ كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح ـ على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه؛ لأن من حق المسلم على المسلم أن يَنْصُرَه ويقاتل دُونَه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله، فضلًا عن قتله. وهذه الحرمة وهذا الإثم العظيم والوعيد الشديد فيمن لا يَستحِلُّ ذلك. فأما من يستحله مكابرًا للشارع فإنه يكفر باستحلال الحرام.
وفي البخاري من رواية أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يُشِرْ أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يَدْرِي لعل الشيطان يَنْزَغ في يَدِه" يُغْرِيه حتى يَحْمِله على قَتْل أخيه "فيَقَعَ في حفرة من النار" فقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مجرد الإشارة بالسلاح إلى الأخ المسلم خَشْيَةَ أن يُضِلَّه الشيطان فيصيب أخاه فيُعذَّبَ أشد العذاب في النار، وفي رواية عنه "الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى الآخر بحديدة".
وقال أبو بكر بن العربي: إذا استحق الذي يشير بالحديدة هذا اللعن فكيف بالذي يصيب بها؟ وإنما يستحق اللعن إذا كانت إشارته تهديدًا سواء أكان جادًّا أم هازلًا.
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سِبَاب المسلم فسوق وقتاله كفر". ولا يخفى ما فيه من المبالغة في الزجر والتحذير من الإقدام على قتال المسلم أخاه المسلم.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" فسمى الرسول من يفعل ذلك كافرًا مبالغة في التحريم والتحذير.(1/197)
وأعظم من هذا إثمًا وأشد تحريمًا في دِين الله وشريعة الإسلام من يُقْدِم على قتال أخيه المسلم في صفوف أعداء الإسلام الذين يُحَارِبون الشعوب الإسلامية لاستلاب حرياتها والاستيلاء على أوطانها، ويقتحمون بالحديد والنار مَنَازِل الآهلين الآمنين لاستعمار البلاد واستعباد العباد، ويَكِيدون للإسلام وأهله بمختلف الوسائل الشريرة، فإن موالاتهم وإسداء المعونة لهم في هذه الحروب ـ ولو مع غير المسلمين ـ بأية صورة من الصور، فضلًا عن القتال في صفوفهم، من أشد المحرمات وأكبر الكبائر. وقد يكون كفرًا بواحًا إذا اعتقد المسلم حِلَّه، وذلك لِمَا فيه من القوة لهم ومن تمكينهم من أعناق المسلمين ورقاب المؤمنين، وإذلال الموحدين والقضاء على دين رب العالمين.
هؤلاء الأعداء حرب على المسلمين في كل زمان ومكان فتَحرُمُ موالاتهم والثقة بهم، وتَحرُمُ إعانتهم ونصرتهم في السلم والحرب، وخاصة إذا أرادوا المسلم على أن يقاتل أخاه المسلم أو يَكِيد له أو يَخْذُله في جهاده أو يُضْعِف من شأنه ويخرب في دياره، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ) وقال تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) وقال تعالى: (لَا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).(1/198)
أمَّا غير المسلمين الذين ليسوا حربًا علينا فتجوز محالفتُهم وعقد المعاهدات معهم، ما دام في ذلك خير ومصلحة لنا، كما فعله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلح الحديبية، فإذا انقلب المعاهِد حَرْبًا بعد ذلك فلا عَهْد ولا محالفة، بل حَرْبٌ ومُنَاجَزَة.
إخواننا المسلمين في شمال أفريقيا:
قد امتحنكم الله بهذه الدولة العاتية التي نَشَرَت الفساد في الأرض، وضَمَّت جوانحها على بغض الإسلام والمسلمين والنكاية بالدين، وعَمَدَت إلى المنافقين وبعض المارقين (إشارة إلى ما كان من (الجلاوي) المغربي من مُمَالَأَة المستعمرين على أبناء وطنه المسلمين) فاتَّخَذَت منهم صَنَائع ومَعَاوِل هَدْم مفسدين، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. واعلموا أن مع الصبر الظفر، ومع الحَذْر السلامة، وبالجهاد في سَبِيل الله تَنَالون إحدى الحسنيين لا مَحَالَةَ. وأنَّ الذِين يؤيدونكم وينصرونكم في جهادكم مِن إخوانكم المسلمين هم المؤمنون حقًّا، قولاً وفِعْلاً، الذين عَمَرَت قلوبهم بالإيمان، وسَلِمَت ضمائرهم من فتنة الشيطان، ولم تُلوَّث بالخيانة للإسلام والوطن وموالاة الأعداء والخائنين.
أَمَّا أولئك الذين آزَرُوا العدو وأَيَّدُوه، وشَهَرُوا السلاح في وجوه إخوانهم المسلمين، فإن استحلوا ذلك كانوا مرتدين عن الإسلام خارجين عن حظيرته والعياذ بالله ـ تعالى ـ وإلا فهم آثمون الإثم العظيم وجزاؤهم العقاب الأليم المشار إليه بقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ومن ينجيه من عذاب الله وغضبه (يوم يَفِرُّ المرءُ من أخيه. وأمِّه وأبيه. وصاحبتِه وبنيه. لكلٍّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه)؟ نسأل الله السلامة والعافية من خزي وعذاب الآخرة.(1/199)
على المسلم أن يَحْمل السلاح للدفاع عن دينه وماله وعرضه ووطنه، فإن مات دون ذلك فهو شهيد، سواء أكان الباغي عليه مسلمًا أو غير مسلم (ذلك موقفنا اليوم من إسرائيل الباغية فعلينا الجهاد بالمُهَج والأموال) والله ولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والله أعلم.(1/200)
حكم التصوير واتخاذ الصور
(السؤال): ما حُكْم صُنْع الصور واتخاذها في الشريعة الغَرَّاء؟
(الجواب): تصوير الشيء حيوانًا كان أو غير حيوان قد يكون بصنع جِسْم على مثاله وهيئته، ويسمى الواحد تمثالاً، والجمع تماثيل. وقد يكون برَقْمِ صورته ونقشها على وَرَقٍ أو ثوب أو ستر أو حائط ونحوها، وتسمى صورة ومنه الصور الفوتوغرافية المعروفة وقد يسمى مثالًا أو تمثالًا.
فإن كان التصوير لِمَا ليس له روح كالأشجار والبحار والسفن والأبنية ونحوها حل صنعها واتخاذها مجسمة وغير مجسمة.
وورد استثناء لعب البنات منها، فرُخِّصَ لهن فيها. وعليه يُخَرَّج جواز صنع العرائس المتَّخَذة من القماش والقطن أو من الجبس أو الخشب أو الكاوتشوك أو الحلوى وغيرها من لعب الأطفال، كما أَفتينا بذلك في فتوى ستأتي.
وإن كانت غير مُجَسَّمَة، وهي التي لا ظل لها كالمَرْقُومَة على حائط أو ثوب أو ورق أو ستر أو بساط أو مَعدِن، ففي حكمها خلاف بين الفقهاء.
قال الإمام أبو بكر بن العربي كما في إرشاد الساري: "حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إنْ كانت ذات أجسام حُرِّمَ بالإجماع. وإن كانت رقْمًا فأربعة أقوال: الجواز مطلقًا لظاهر حديث الباب (وسنذكره) والمنع مطلقًا، والتفصيل، فإن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس وتَفَرَّقَت الأجزاء جاز، قال: وهو الأصح، والرابع وإن كانت مِمَّا يُمْتَهَن جاز، وإن كانت معلَّقَة فلا" اهـ. وإلى الأول ذهب بعض السلف، واختار الأخير الإمام النووي.
وقد وَرَدَت أحاديث صحيحة في النهي عن التصوير واتخاذ الصور سدًّا لذريعة الشرك والوثنية: منها ما أخرجه البخاري عن مسلم بن صبيح قال: (كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير فرأى في صُفَّتِه (بضم الصاد وفتح الفاء المشددة) تماثيل (صورًا لمريم عليها السلام) فقال: سمعت عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون).(1/201)
وعن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يُعَذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أَحْيُوا ما خلقتم).
وعن ابن عباس قال: سمعت محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (من صَوَّرَ صورة في الدنيا كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ).
وقد لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المُصَوِّر. والمراد من الصور في هذه الأحاديث الرَّقْمية والمنقوشة، ويُفْهَم مِن حُكْمِها بالأولى حكم الصور المجسَّمة ويؤيد أن المراد بها ذَلِكَ ما في حديث عائشة أنها اشترت نُمْرُقة فيها تَصَاوِير، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يُقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وإن البيت الذي فيه هذه الصور لا تدخله الملائكة).
ومَا في حديث أبي زُرْعَة قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة لمروان بن الحكم، فرأى أبو هريرة رجلًا مصوِّرًا يُصَوِّر في سقفها (أي صورة لذي رُوح) فقال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: ومن أَظْلَم ممن ذَهَبَ يخلق كخلقي).
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهم: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعَّد عليه بهذا الوعيد الشديد، سواء صنعه بما يُمْتَهَن أو بغيره، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فَلْس أو إناء أو حائط أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس صورة حيوان فليس بحرام.
هذا حكم نفس التصوير وأما اتخاذ المصور صورة حيوان فإن كان معلقًا على حائط أو ملبوسًا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يُعَدُّ ممتَهَنًا فهو حرام وإن كان في بِسَاط يُدَاسُ ومِخَدَّة ووسادة ونحوها مما يُمتَهَن فليس بحرام. ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له انتهى.(1/202)
والظاهر أن الوسيلة تُعطَى حكم مقصدها، فيدور حكم الصنع مع حكم الاتخاذ تحريمًا وتحليلًا.
وعن عائشة أنها قالت: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تَصَالِيب (تصاوير كما في الرواية الأخرى) إلا نَقَضَه (كَسَرَه وغير صورته).
وعنها قالت: قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سفر (قبل غزوة تبوك) وقد سترت بقِرام لي (بكسر القاف ستر فيه رَقْم ونقش) على سَهْوَة لي (بفتح السين والواو بينهما هاء ساكنة، صُفَّة في جانب البيت أو كُوَّة) فيها تماثيل (تصاوير) فلما رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هتكه (نزعه) وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت فجعلناه وسادة أو وسادتين). وفي رواية: (فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا في البيت نجلس عليهما).
وعنها ـ رضى الله عنها ـ قالت: قَدِمَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سفر وعلَّقت دُرْنُوكًا (بضم الدال والنون بينهما راء ساكنة سترًا له خَمَل) وفيه تماثيل، فأمرني أن أَنْزِعه فنَزَعْته) انتهى. وفي رواية مسلم: (فجعلته مِرفَقَتين فكان يَرْتَفِق بهما).
وفي حديثَي عبد الله بن عمر وعائشة في الصحيحين قالا: وعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جبريل في ساعة يأتيه فيها، فرَاثَ (أبطأ) عليه حتى مضى وقت ثم دخل جبريل على النبي وقال: ما يخلف الله وَعْدَه ولا رُسُلُه، ثم التفت فإذا جَرْو (كلب) تحت سريره، فقال: يا عائشة، متي دخل هذا الكلب؟ فقالت: والله ما دَرَيتُ، فأَمَرَ به فَأُخْرِجَ، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلقيه فشَكَا إليه ما وجد، فقال له: إنّا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب.(1/203)
وفي السنن من حديث أبي هريرة: (أتاني جبريل، فقال: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت، إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرَام ستر فيه تماثيل. وكان في البيت كلب فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فلْيُقْطَع فتُجعَل منه وسادتان منبوذتان تُوطَئان، وَأْمُرْ بالكلب فلْيُخْرَجْ) ففعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اهـ.
قال القَسْطَلاَني: فيه ترجيح القول بأن الصورة التي تَمْنَع الملائكة من دخول البيت لأجلها، هي التي تكون باقية على هيئتها مرتفعة غير مُمْتَهَنة.
ثم قال: والحاصل مما سبق كراهة صورة حيوان منقوشة على سَقْف أو جدران أو وسادة منصوبة أو ستر معلق أو ثوب مَلْبُوس، وأنه يجوز ما على أرض وبِسَاطٍ يُدَاس ومِخَدة يُتَّكَأ عليها ومقطوع الرأس وصورة الشجر. والفرق أن ما يُوطَأ ويُطرَح مُهَانٌ مُبتَذَل، والمنصوب مرتفع يشبه الأصنام، وأنه يُحَرَّم تصوير حيوان على الحيطان والسقوف والأرض ونسج الثياب اهـ.
وقد استدل القائلون بجواز الصور الرقمية مطلقًا بما رواه البخاري عن بُسْر بن سعيد عن زيد ابن خالد عن أبي طلحة قال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة) قال بسر: ثم اشتكى زيد فعُدْنَاه فإذا على بابه سِتْر فيه صورة، فقلت لعبيد الله بن الأسود الخولاني، ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: (إلا رَقْمًا في ثوب) زاد في رواية عمر بن الحارث قلت: لا. قال: بلى اهـ .
فدل استثناء الرَّقْم على جواز اتخاذ الصور الرَّقْمِيَّة مطلقًا، سواء امْتُهِنَت أوْ لا وسواء بقيت على هيئتها كاملة أوْ لا.
ولذلك قال بعض السلف: لا بأس بالصور التي لا ظل لها، وإنما نُهيَ عما كان له ظل.(1/204)
وخصه آخرون بما كان رَقْمًا في ثوب، سواء امتهن أو لا، عُلِّقَ في حائط أو لا، وكَرِهُوا ما كان له ظل أو كان مُصَورًا في الحيطان وشبهها، سواء كان رقمًا أو غيره، كما نقله النووي في شرح مسلم.
والظاهر أن الشارع حين حرم صنع الصور المُجَسَّمة واتخاذها إنما قصد إلى سد ذريعة الشرك، فقد كانت الأصنام والأوثان التي عُبِدَت من دون الله في الجاهلية تماثيل لرجال صالحين تَقَادَمَ عليها الزمن وجهل التاريخ، فقال الناس: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى)
وقد جاء الإسلام بالتوحيد الخالص ومَحْوِ الشرك والقضاء على الوثنية في حقيقتها ومظاهرها المختلفة.
أما الصور الرقمية فلم تكن يومًا ما معبوداتٍ في الجاهلية، ولكنها تتصل بتلك الصور المجسَّمة نوعًا ما، وتُذَكِّر بما كان من أمرها، فقطعًا لمادة الشرك وسدًّا للذريعة على الوجه الأكمل حرَّمها الشارع بادئَ ذي بَدء، وتوعد من يصنعها أو يتخذها بالعقاب الشديد لحداثة العهد بالوثنية والأوثان.
ولكن لَمَّا استقر الإسلام وامَّحَت الوثنية ودَالَت دول الأصنام واستضاءت القلوب بنور الإيمان، واهتدت العقول بتعاليم القرآن، رَخَّصَ الشارع في الصور الرقمية، في حديث (إلا رَقْمًا في ثوب) فكان تدرُّجًا في التشريع اقتضته الحكمة ودَعَت إليه الضرورة. فمن السلف من أجازها مطلقًا أخذًا بظاهر هذا الحديث، ومن الناس من أجازها إذا لم يَسلُكْ بها مسلك التعظيم كما كانوا في الجاهلية يعظمون الأصنام، ومنهم من أجازها إذا لم تكن على الهيئة الكاملة للإنسان أو الحيوان لِمَا في بقائها كاملة من لَمْح الأصل والتذكر ولو من بُعْدٍ بالجاهلية الأولى.
وهناك جَمْع من العلماء سلك بها مسلك الصور المجسَّمة مبالغة في سد الذريعة وأخذًا بإطلاق ما ورد من الأحاديث في هذا الباب.(1/205)
ولعل القول الأول أولى بالنسبة إلينا في عصرنا، وعليه يُخرَّج جواز صنع الصور الشمسية واتخاذها للإنسان والحيوان، وليس فيها شائبة وثنية الآن، بل لها نفع عظيم في كثير من مرافق الحياة والشؤون الدولية والمالية والحربية وغيرها. ومتى وُجِدَ المُسَوِّغ للحِلِّ فيما وَرَد عن الشارع مع اقتضاء الضرورة الأخذ به فلا ينبغي العدول عنه رفقًا بالناس، والدين يسر لا عسر فيه. والله أعلم بالصواب.(1/206)
حكم صنع دُمَى الأطفال واتخاذها
(السؤال): ما حكم الشرع في صنع الحلوى بالصور المُلَوَّنَة المزركشة كصورة بنت أو جَمَل حصان أو سَبْع؟ وما حكم من يشتريها أو يَتَّجِر فيها؟ وهل شراؤها تبذير منهي عنه؟
(الجواب): نقل الإمام أبو بكر بن العربي والإمام النووي والقَسطَلاَني وغيرهم الإجماع على حرمة اتخاذ الصور المجسَّمة، واستَثنَوا منها كما وَرَدَ لعب البنات، فقد رَخَّصَ الشارع فيها ولو كانت مُجَسَّمَة، سواء أكانت من قطن أو قماش أو خشب أو طين أو حلوى أو غير ذلك، وسواء أكانت صورة بنت أو فرس أو جَمَل أو نحوه.
قال النووي في شرح مسلم: وأجمعوا على مَنْع ما كان له ظل ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبَنَاتِ لصغار البنات مِن الرخصة في ذلك، لكن كَرِه مالك شراء الرجل ذلك لابنته، وادَّعَى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث اهـ .
وقال القَسطَلَاني: وهذا الإجماع مَحَلُّه في غير لعب البنات اهـ . وظاهر أن الإمام النووي لم يَرْتَضِ بالقول بالنسخ، وأن الترخيص لا يختص بكون اللعبة صورة بنت واللاعبة بنتًا صغيرة، فلا فرق بين صورة وأخرى، ولا بين أن يكون الطفل اللاعب بنتًا أو ولدًا.
ومن هذا يُعْلَم أنه (لا بأس من صنع هذه الدُّمَى من الحلوى واتخاذها وبيعها وشرائها) وإن كُرِهَ تَنْزِيهًا عند مالك شراء الوالد لها.
أما أن الشراء تبذير، فذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في معايشهم وحاجياتهم، ويُسرِهم وعسرهم كما لا يَخفَى.(1/207)
ليس موقفنا الآن دعوة المسلمين إلى ترك المكروه تنزيهًا وما هو خلاف الأَوْلى، ولا الدعوة إلى الزهد والورع وترك ما فيه شبهة؛ لأن الأمر أخطر من هذا بكثير. والواجب الآن أن نَصرِف جهودنا وتفكيرنا أولاً في الدعوة إلى تَرْك المحرمات والكبائر الموبقات كالربا والزنا وشُرْب المسكرات، والميسر وسائر المقامرات، وأَكْل أموال الناس بالباطل والسعاية والوقيعة والافتراء والظلم والبغي والإفساد، وما إلى ذَلِك مما يوشك أن يَقْضِيَ على المجتمع وما يُنْذِر بسوء العقبى ودَمَار الديار.
وعلى كل فرد من المسلمين واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، في بيته وأسرته، في قومه وعشيرته، في بلده وغير بلده، والله المستعان. والله أعلم.(1/208)
سقاية الماء صَدَقة جارية
(السؤال) (أولاد سلامة): عندنا مدرسة ابتدائية يُوَرِّد لها مياهَ الشرب سَقّاءٌ بأجر شهري (40 قرشا) ويجلب لها المياه من الآبار وغيرها، ومع ذلك لا تكفي المدرسة ولا تَسُدُّ حاجتها، وقد فَكَّرَ واحد أن يشتريَ مِضَخَّة ماصَّة من ماله الخاص وينشئها في فناء المدرسة لسد الحاجة وتوفير الصحة. فهل يعتبر ذلك صدقة جارية؟ وهل إذا أُعطِيَ أجرَ السَّقّاء نظير ذلك كل شهر يؤثر أخذه إياه في ثوابه؟
(الجواب): سقاية الماء تبرعًا لوجه الله تعالى عمل بر يثاب عليه المسلم، وقد أَقَرَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آل العباس على سقاية الحاج فهي فيهم أبدًا، وهي جارية تندرج في حديث (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) ولذا تَعَارف المسلمون من قديم إنشاء مساقي المياه في الطرق لشرب السابلة والدواب تقرُّبًا لله ـ تعالى ـ وطَمَعًا في مَثُوبَته، فإذا نوى هذا الرجل بوضع المِضَخّة المذكورة في المدرسة سقاية التلاميذ مياهًا صالحة للشرب غير ملوَّثة بما يضر بالصحة، ولم يَتَقَاضَ على ذلك أجرًا فله ثواب مُدَّخَرٌ عند الله تعالى. سواء تبرع بالمِضَخّة نهائيًّا أو أبقاها على مِلْكِه وتَبَرَّع بمنفعتها للناس.
أما إذا لم يقصد ذلك وإنما قصد الحصول على ذلك الأجر الشهري الذي كان للسَّقّاء، فله ما قصد وليس له ذلك الثواب الأخروي العظيم، والأفضل له إخلاص النية لله ـ تعالى ـ والتبرع بهذا العمل والتعفف عن هذا الأجر الضئيل الذي يحرمه ذلك الثواب الجزيل إذا لم يكن به حاجة إليه. والله أعلم.(1/209)
بدعة بعض المتصوفة
(السؤال): يقوم رجال من المنتسبين للصوفية بمراسيم في الموالد الكبيرة حول (الصاري) وهي أن يَقِف أربعة منهم، كل واحد قِبَلَ الآخر مشيرًا بذراعيه قابضًا باسطًا محرِّكًا جسمه يَمْنَةً ويَسْرَةً قائلاً: يا الله يا الله، بصوت مرتفع، ثم يدور بعد ذلك طابوران يتقدمهم المنشد يصافح رجالُ كلِّ طابور جميعَ من يقف في الحلقة، يحدث ذلك ثلاث مرات. فهل لذلك أصل في السنة أو في عمل السلف؟
(الجواب): نحمَد الله ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وبعد، فاعلم أنه لا أصل في الدين لذكر الله ـ تعالى ـ بهذه الهيئات المذكورة بالسؤال، ولم يُعرَف عن السلف الصالح، ولا دعا إليه العارفون من أئمة الصوفية، بل هو من البدع السيئة التي استحدثها بعض أهل الطرق، جهلاً بهَدْي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذكر ربه، وهو من المحرم شرعًا خصوصًا إذا أدَّى التزام هذه الهيئات في الذكر إلى اعتقاد مشروعيتها وطلبها، ولو على سبيل الندب.
وقد استقر الآن في عقائد العامة من المداومة عليها ودعوة جَهَلَة مشايخ الطرق إليها، ودفاعهم عنها واستمساكهم بها، أنها من الدين، بل مما لابد منه في الذكر ونيل الثواب والأجر، وهذا مما يوجب التحريم ويُوقِع في الإثم العظيم.
والواجب على كل قادر من العلماء والمشايخ الدعاة إلى الحق أن يَنْهَى عنها ويزجر من يأتي بها ويرشده إلى خطرها، وإلى أن اقتران المعصية بالطاعة مُؤْثِم ومُحْبِط للثواب.
أما الثواب الذي وَعَدَ الله به الذاكرين فإنما يكون لمن يَذْكُره ـ جل شأنه ـ بخشوع القلب وخضوع الجوارح وحضور الفكر وشهود جلال ذي الجلال، لا بهذه الهيئات والحركات التي أنكرها الراسخون في العلم من أعلام الصوفية منذ ابْتُدِعَت هي وأمثالها كما يعلم من الاطلاع على كثير من كتبهم.(1/210)
وإن مقام العبودية هو المقام الأسنى الذي وصف الله ـ تعالى ـ به عباده المصطَفَينَ الأخيار، خاطبهم به وشَرَّفَهم بنسبته في كثير من آي القرآن الكريم، ووصف به عباده الطائعين وعباده المُخْبِتِين، ولا يمكن التحقق بهذا المقام إلا إذا وَقَفَ العبد بين يَدَيْ مولاه يذكره ويناجيه، ويدعوه ويبتهل إليه بما شَرَعَه ـ سبحانه ـ في عبادته وأرشد إليه على لسان رسوله، وهو الذي دَرَجَ عليه القدوة من سَلَف الأمة وصُلَحَائها، وخروج العبد عن هذا المنهج والابتداع فيه من وسوسة الشيطان التي يبغي له بها الخِذْلان ويُرْدِيه بها في حَمْأة العصيان.
ومن العَجَب أن يَسْكُت بعض المنتسبين للعلم عن إنكار هذه البِدَع وما إليها من الشعوذة والتدجيل الذي اعتاده بعضهم، يَشْهَدُونَها ويُقِرُّونَهُم عليها ويُجَارُونهم في فِعْلِها، بل يدافعون المنكرين لها الذائدين عن حِمى الدين والداعين إلى سَبِيل رب العالمين وهُدَى إمام العابدين، نسأل الله أن يديهم سواء السبيل.(1/211)
أكذوبة معرفة الأثر
حُرْمَة الكَهَانَة في الإسلام
(السؤال): يذهب بعض العامة عند إرادة الزواج إلى بَعْض المنجمين ليخبرهم عما سيكون عليه حال الزوجين من تَوَافُق أو اختلاف، ويذهبون عند اشتداد المرض على مريض إلى عراف ومعهم منديله ليخبرهم بوساطة المنديل عما سيكون عليه من شفاء أو موت. فهل ذلك جائز شرعًا؟
(الجواب): كل ذلك وأشباهه باطل من القول وَزُور من العمل لم يُعْرَف في عهد النبوة ولا في الصدر الأول ولم يَرِد له أَصْل في الدين، بل وَرَدَ النهي عنه صريحًا كتابًا وسُنَّة، وهو ضَرْب مِن الاستقسام بالأزلام الذي كانوا يَفْعَلُونه في الجاهلية لِيَعْرفوا ما قُسِمَ لهم وما لم يُقسَم لهم، فحَرَّمه الله ـ تعالى ـ في سياق المحرمات: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ) أي تَتَعَرَّفوا ما قُسِمَ لكم بَواسطتها. وهو نَوْع من الكَهَانَة، إذ الكاهن من يدَّعِي علم المستقبل بالتنجيم أو زَجْر الطير أو طَرْق الحصى والوَدَع ونحوه، أو فنجان القهوة. وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل ذلك. فَعَنْ عائشة قالت: سَأَلَ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسٌ عن الكُهَّان فقال: ليسوا بشيء. (متفق عليه) ومعناه أن قَوْلهم باطل لا حقيقة له.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن اقتبس عِلْمًا من النجوم اقتبس شُعْبَة من السحر) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. فأفاد أنه حَرَام كالسحر، فكما أن تَعَلُّمَ السحر والعمل به حرام فكَذَا تَعَلُّمُ علم النجوم لهذا القَصْد والعمل به حَرَام.
وعن أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: مَن أتى كاهنًا أو عرافًا فَصَدَّقَه بما يقول فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد. رواه أحمد ومسلم. والمراد بالكفر حقيقته إن اعتقد أنهما يعلمان الغيب، وإلا فالمراد به المعصية الكبيرة القريبة من الكفر.(1/212)
وعن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من أتي عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا) رواه أحمد ومسلم. أي لم يجعل له ثوابًا فيها.
فهؤلاء كلهم كهان يُحَرَّم عليهم التكهن، ويُحَرَّم على الإنسان أن يسألهم، أو يستمع لهم، أو يصدقهم، ويحرم عليه أن يعطيهم أجرًا، وهو حرام، وسماه الشارع (حُلْوَان الكاهن) وجعله كسبًا خبيثًا.
والالتجاء إلى هذه الوسائل لمعرفة المستقبل من الأقدار مُفسِد للعقول وضار بالمصالح، إذ يعتقد من سمع أقوالهم أنهم قد اطَّلَعوا على ما حُجِبَ عنه، فيُقدِم أو يُحجِم، ويَفرح أو يَحزن، ويعيش في تصرفه وراء أوهام وخيالات، وقد يكون الشر فيما ظنه خيرًا، والخير فيما ظنه شرًّا.
والشريعة الغراء كما حافظت على الأبدان بوقايتها من المحرمات التي تضعفها أو تهدمها كالمخدرات والمسكرات، حافظت على العقول مما يُوهِنُهَا أو يفسدها، ومن ذلك منعها من الجري وراء هذا السراب حتى يَبقَى ميزان الفهم ومَدَار العلم سليمًا من الآفات.
وكم يكون الإنسان سعيدًا إذا أخذ في أَمْرِه كله بالأسباب الطبيعية، وفكر بعقله، مهتديًا بتجاربه واستشارته ذوي الرأي الناضج، ثم أَقْدَم على ما يريد معتمدًا على الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه.
وكم يكون شقيًّا إذا ظل حياته عَبْدَ الأوهام والخرافات، حليف الشعوذة والتكهنات، يقلد الخادعين، ويجري وراء الدجالين، ويُلغي عقله الموهوب له للتفكر والتبصر.
وينبغي أن يُعلَمَ أنه ليس من هذا الباب الاستخارة الثابتة في السنة الصحيحة ولا التفاؤل بالفأل الحسن، كما لا يَخفَى على المتأمل، وإن أَرَدْتَ المزيد فعليك بمراجعة كتب السنة وتفسير الآلوسي وغيره لآية المائدة. والله أعلم.(1/213)
دَجَل
(السؤال): تَدَّعِي امرأة أنها متصلة بمن يكشف عن الغيب ويخبرها بالسرقة ومكانها وأسماء السارقين، وبالمرض وعلاجه، وكثيرًا ما تصف الحشيش دواء للمرض وتتهم الأبرياء وتسبب بين الناس عداوة وفتنة، فما حكم ذلك شرعًا؟
(الجواب): اتخذ الدجالون هذه المزاعم خداعًا للبسطاء من العامة وطريقًا للكسب الحرام، وهي ضرب من الكِهَانة المحرمة شرعًا، ولا فرق بين من يستعين في تكهنه بالنجوم أو الضرب بالحصى أو قراءة الكف ونحوه مما هو محرم شرعًا، وبين من يزعم كذبًا أنه يستعين بقرين من عالم الجن يسميه سيدًا أو خادمًا ويوهم الناس أنه يحدثه ويخبره عن الغيب، فإن الكل في الضرر والحرمة سواء.
وكما تحرم هذه الأعمال على الدجالين، ويحرم التكسب بها، يحرم على المسلمين أن يذهبوا إليهم لمثل هذه الأغراض، وأن يُصَدِّقوهم فيما يزعمون، وأن يعطوهم أجرًا على ما يفترون.
وإذ كان الحَجْر واجبًا شرعًا على من يَضُر العامة ـ كالطبيب الجاهل والمُكَارِي المفلِس والمفتي بغير علم ـ فهو على هؤلاء الدجالين أوجب وألزم، لخطورة عملهم وعِظَم مفسدتهم وأكلهم أموال الناس بالباطل. وعلى المسلمين أن يَتَوَاصَوْا بالقضاء على هذه المفاسد، وينصحوا العامة حتى لا يَقَعُوا في حَبائِلهم، والله ولي المصلحين.(1/214)
خرافات سخيفة
(السؤال): وَرَدَ إلينا سؤال من أحد المصلين في بعض المساجد يتضمن أن بعض المدرسين وَعَظَ الناس بعد صلاة الجمعة فذكر حكايتين:
(إحداهما) أن حُجَّة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله ـ لم يدخله الله الجنة إلا لأنه كان يومًا يكتب فوقفت على قَلَمِه ذبابة، فتَرَكَها حتى رَوِيَت من المِدَاد ثم طارت، وذلك بعد أن أمر الله تعالى به إلى النار وأخبره أن ما قَدَّمَه من أعمال صالحات غير مقبول عنده.
و(الثانية) أن الله ـ تعالى ـ كان يُنَزِّل كل سنة من السماء في الشتاء عباءة لرجل عابد يتقي بها البرد، فأنزل الله عليه إحدى السنين عباءتين، فسأل الله ـ تعالى ـ فأخبره بأن أحدهما له والأخرى لرجل عاصٍ فاسق كان يمشي وراءه دون أن يَشْعُر به لِيَتُوب على يديه، فأخذ يؤمن على دعاء العابد فغَفَرَ الله له وأنزل الله له العباءة الأخرى.
فهل لذلك أصل في الشرع؟
(الجواب): إن هذه حكايات مخترعة، وخرافات سخيفة لا يَصِح أن يذكرها عالم في مقام الوعظ والتذكير. والوعظ إنما يكون بالحقائق وبالقول الصادق الذي وَعَظَ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وبالوقائع الصحيحة لبعض الصالحين لا بالقصص الخرافية والمفتريات الباطلة.
وقد جَهِلَ الخطيب أنه قد افترَى على الله الكذب وهو ينسُب إليه ـ سبحانه ـ من القول ما لم ينزل به سلطانًا في كتابه أو على لسان رسوله، ومعلوم أنه ليس كل ما في الإمكان يقع في الوجود. ثم ما هو الدليل على أن ما عمله الإمام حجة الإسلام من صالح الأعمال لم يقبله الله ـ تعالى ـ وأنه قد سِيقَ إلى النار ولم يُنْجِهِ منها ويُدْخِله الجنة إلا قِصَّة الذبابة؟ وما هو الدليل على صحة خَبَر نزول العباءتين؟
ولم يَرِد فيما صَحَّ من الأخبار عما نزل من السماء سوي ما جاء في القرآن من نزول مائدة عيسى ـ عليه السلام ـ ونزول المن والسلوى على بني إسرائيل في أرض التِّيه، وكلاهما معجزة لنبي.(1/215)
ولا يُخلي هذا الخطيبَ من الإثم وجودُ هذه القصص وأمثالها في بعض الكتب الخرافية، فإن العالم الثَّبْت يَجِب أن يكون كالصَّيْرَفِي النَّقَّاد، يَزِن القول بميزان الشرع والعقل، ولا يقبل الزائف ولا يرتضيه، بل يرفضه ويكذب مُدَّعِيه. والله أعلم.(1/216)
شبح القتيل وهمٌ وخيال
(السؤال): يَعْتَقد أناس، وخاصة في الريف، أن مَن مات قتيلًا يَظْهر له شَبَح في المكان الذي قُتل فيه، يمثل حركاته ونَبَرَات صوته كما كان في الحياة. فهل لِذَلك أَصْل في الدين؟
(الجواب): هذه خُرَافة شائعة لا أَصْل لها في الدين، بل نُهيَ عن اعتقادها. وقد كان من مَزَاعم العرب في الجاهلية أن أرواح الموتى أو عظامهم التي بَلِيَت تَصير طيرًا يُسمَّى (الهامة) ويُسمَّى (الصَّدَى) قال لَبِيد:
فَلَيْسَ النَّاسُ بَعْدَكَ فِي نَفِيرٍ وَلَا هُمُ غَيْرَ أَصْدَاءٍ وَهَامِ
وأن رُوح القتل الذي لم يُدْرَك ثأره تَصِير هامة، فتَزْقُو عند قبره تقول: (اسقوني، اسقوني) وما تزال كذلك حتى يُدْرَك ثأره، فعند ذلك تَطير ولا تَعُود، وفي ذلك يقول ذو الإصبع:
يَا عَمْرُو إِلاّ تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الهَامَةَ اسْقُونِي
وقد زعموا ذلك لِمَا جُبِلُوا عليه من الحَمِيَّة والأَنَفَة، وما استَقَرَّت عليه عاداتهم من الحرص على الأخذ بالثأر، فتخيلوا أن رُوح القتل لا تَفْتَأ تُرَفْرِف على قبره تشكو الظمأ وتطلب السُّقْيَا، إلا أَنَّهَا لا تَبْغي الرِّيَّ بالماء وإنما تَبْغِيهِ بالدِّمَاء، فإذا ثَأَرَ أَوْلِيَاء الدم من القاتل تَبَدَّلَ ظمؤها رِيًّا، وشَفِيَت مما تَجِد، وطارت إلى غير رَجعة هانئة هادئة.
ولَمَّا بَزَغَ الإسلام، بَدَّدَ هذه العقيدة فيما بَدَّدَ من المزاعم والأوهام، وبَيَّن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه لا حقيقة لما يزعمون، فقال فيما رواه عنه أبو هريرة: (لا هامة) ومراده بالنفي النهي عن هذا الاعتقاد الباطل، ووجوب تطهير العقول من هذا الوهم الكاذب.(1/217)
ومنه ما يزعمه جهلة العوام على غِرار تلك الخرافة العتيدة من ظهور روح القتل في المكان الذي قُتل فيه، وذهابها ومجيئها بحركات تُمَاثل ما كان عليه في حياته. وكل هذا وَهْم وخيال مَنْهِيٌّ عن اعتقاده بدلالة هذا الحديث المروي في الصحيحين. والله أعلم.(1/218)
أكذوبة لا رؤيا ولا أضغاث أحلام
نشرنا في العدد السابق من (منبر الشرق) رسالة من جَدَّة بعنوان (رؤيا أم أضغاث أحلام) وهي تدور حول موضوع قديم طالَمَا لاكَتْه أَلْسُن الجهلاء هنا وهناك. وقد رجعنا في ذلك إلى فضيلة المفتي الأكبر الشيخ حسنين محمد مخلوف فبعث إلينا ـ حفظه الله ـ مشكورًا بالكلمة الحاسمة التالية:
سَرَت بين العامة منذ سنين أكذوبة الوصية المزعومة التي وَضَعَها من سمَّى نفسه الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي، وشيخ الروضة الشريفة، وخادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الروضة النبوية، وزعم أنه تَلَقَّاها منامًا من صاحب الرسالة العظمَى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأمره بنشرها وأمر كل من اطَّلَع عليها بإذاعتها، فطبعها وأذاعها في مصر وغيرها.
وقد نبهنا من استفتانا عنها منذ أَمَد بعيد إلى أنها فِرْيَة تَوَلَّى كِبْرَها أحد الدجاجلة لحاجة في نفسه، وأنها في لغتها وأسلوبها ومعانيها شاهدة على نفسها بأنها موضوعة مفتراة.
ومن الثابت في الأحاديث الصحيحة أن الشيطان لا يتمثل بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرؤيا، وأن من رآه فقد رآه حقًّا، ومن حدثه فقد حدثه صدقًا. فمن زعم أنه رآه منامًا بصورة وهيئة أو حالة تنافي ما عُرف من أوصافه السَّنِيَّة وكماله الخَلْقي والخُلُقي فهو كاذب أثيم. ومن زعم أنه رآه منامًا وسَمِعَ منه كلامًا، وكان كلامًا غَثًّا وقولاً رَكيكًا لا وزن له في الفصحى، فهو كاذب في الأمرين، فقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، ومن المُحَال أن يتكلم بالعامية المرذولة واللهجة المستَهجَنة والألفاظ الركيكة.(1/219)
وهل يُعْقَل أن يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الرجل: (يا شيخ أحمد أنا خجلان من فِعْل الناس ولا أقدر أن أقابل الملائكة) ويقول: (وتخبرهم يا أحمد بأن لهم العذاب من العزيز الجبار، وتُغْلَق أبواب الرحمة) ويقول: (وأعوذ بالله من هذا القرن وانهيار طريق الحق لا عادل به، ويذنبون وهم على دِين أحمد، وفي دينهم يكرهون، وفي دنياهم يَعْمَهون)! وحاشاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول مثل هذا القول الركيك الفاسد، وأن يقول عن القرن لا عادل به، وقد ثبت في الصحاح أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق إلى يوم القيامة.
وهل يعقل أن يقول الرسول: (وفي عام الأربعين ثم في عام الخمسين ثم في عام الثمانين يَحْصُل كذا من أشراط الساعة الكبرى) والوارد فيها غير ذلك؟
ثم يقول الرسول: (فإذا أخبركم الشيخ أحمد بهذه الوصية منقولة عن اللوح المحفوظ بقلم القدرة) ولا يذكر جواب الشرط ثم يقول: (ومَن لا يعرف أن يكتبها فلْيُؤَجِّر عليها بأربعة أو خمسة ريال، ومن كَتَبَها وكان فقيرًا أغناه الله) وهذا من أسخف القول وأفسده، ثم يقول: (وإن كان مديونًا قَضَى الله دَينه وإن كان مذنبًا غَفَر الله له) ولم يجعل الله إغناء الفقراء من فقرهم وقضاء ديون المَدِينين وغفران ذنب المذنبين جزاء لمن كتب بيده القرآن أو السنة في كتاب أو لوح فضلًا عن هذه الوصية المزعومة.
إن أَمَارات الوَضْع والافتراء لائحة ظاهرة لا تحتاج إلى بيان لكل من له عقل سليم.
ثم بعد ذلك من هو أحمد الذي زعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي أي تاريخ كان خادم الحرم النبوي وشيخ الروضة؟ وما بلده ونسبه حتى يُعرف أمره؟
إنه شخصية خيالية واسم وأوصاف منتَحَلة انتحلها ضالٌّ كذاب. وإذا كانت رواية الأحاديث لا تُقْبَل من راوٍ مجهول وتُرَدُّ في وجهه فكيف بالرؤيا المنامية من مجهول وفي أمر غير معقول، وبكلام غير مقبول، إنها باطل من القول وزور.(1/220)
وجملة القول أنه يجب أن يُعلَمَ أنها وصية مُفتَراة يَحْمِل صاحبها وزر كذبه على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتبوأ بها مقعده من النار، وعلى كل من وقعت في يده أن يَعْدِمها ويُبَصِّر من انخدع بها وأن يَعْلَم أن الكذب على الرسول حَرَام، حيًّا كان أو ميتًا، وأن منه زَعْمَ رؤيته وقَوْلَه مثل هذا القول المرذول.
ولعل الكاتب الذي نشرت جريدة (المنبر) له المقال في العدد السابق بعنوان: (رؤيا أم أضغاث أحلام) يَطْمَئِن ويَطْمَئِنُّ معه الناس في الحجاز إلى أن هذه الوصية المزعومة كذب وافتراء. وكان الأولَى به أن يذهب إلى الحرم النبوي وهو على مَقْرُبة منه فيسال القائمين بأمره عن هذا الشيخ أحمد ليعلم أنه لاوجودَ له بين خدم الحرم وعندئذ يعرض هذه الوصية على هيئة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بالمدينة المنورة أو بمكة أو بجدة وكلهم من أفاضل العلماء لتصدر بيانًا رسميًّا بأنه لا وجود لهذا الدَّعِيِّ الزاعم أنه الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي، وأن هذه الوصية أكذوبة من أكاذيب الدجالين. والله أعلم.(1/221)
أكذوبة لا رؤيا ولا أضغاث أحلام
بيان رسمي
نشرنا (بمنبر الشرق) في العدد الماضي تحت هذا العنوان بيانًا للناس في شأن الوصية المكذوبة التي أذاعها دجال أثيم، تَسَمَّى بأحمد، وزعم أنه خادم الحرم النبوي وخادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الروضة الشريفة، وقلنا إنها في لغتها وأسلوبها ومعانيها شاهدة على نفسها بأنها موضوعة مفتراة، وأن هذا الزاعم لرؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منامًا وأنه أوصاه بهذه الوصية، مجهول ولا وجود له بين خدام الحرم، وأغلب الظن أنه دسيسة غير مسلم.
ومن المصادفات السارة أني بعد كتابة هذا البيان ونشره بجريدة (المنبر) بمدة قرأت مقالًا ضافيًا لفضيلة الأستاذ صديقنا الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مَكَّة المكرمة تحت عنوان: (تنبيه وتحذير) يقول فيه:
(وصل إلى أيدينا مَنشور سَخِيف لأفَّاكٍ جاهل أثيم، يقول صاحبه إن اسمه الشيخ أحمد، وأنه خادم الحرم النبوي وشيخ الرَّوْضَة، وخادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبارات هذا المنشور من الضعف والركاكة والاضطراب بحيث تَدُلُّ دلالة واضحة على جهل صاحب المنشور وغباوته)
إلى أن يقول: (والحقيقة أن كل من عنده أدنى تفكير يعرف بمجرد اطِّلاعه على هذا المنشور السخيف مدى الكذب والافتراء الذي ارتكبه هذا الدجال، ومدى الجرأة التي اجترأ بها على مقام الرسول صلى الله عليه وسلم)(1/222)
ثم نقل فقرات من المنشور وقال: (بلغنا أن نسخًا عديدة من هذا المنشور الخبيث وُزِّعت بين الناس، وافتتن به بعض العامة من البسطاء، فصدقوا ما جاء به دجل وتزوير، فنحن لذلك أصدرنا هذا التنبيه والتحذير آملين من الجمهور أن يتنبهوا لأمثال هذه الخرافات والسخافات، وألا يندفعوا وراء كل دجال يضحك على عقولهم ويعبث بها. ثم إنا نرجو من كل مواطن يستطيع معرفة مصدر هذا المنشور أن يدلنا على صاحبه الأفاك، وقد جَعَلْنا مكافأة مالية مُرْضِيَة لكل مَن يَتِم بواسطته القبض عليه، فنرجو من كل من يعرف شيئًا عنه أن يتصل بأقرب مركز لهيئات الأمر بالمعروف).
ولقد سرنا هذا التوافق العجيب، وسرنا أكثر اهتمام صديقنا الشيخ عبد الملك بتحذير العامة من تصديق هذا المنشور وصاحبه، وتقدير مكافأة مالية لمن يرشد إليه، ولا ريب أن صدور هذا البيان الرسمي قاطع في أن هذا الذي زعم أنه خادم الحرم النبوي الشريف والروضة الشريفة شخصية خيالية كما قُلْنَا لا وُجُودَ لها في الحرم والروضة الشريفة.
وعلى المسلمين هنا وهناك أن يَحذَروا أمثال هؤلاء الدجالين الذين يشترون بآيات ثمنًا قليلًا ويُضِلُّون الناس بنشر هذه الخرافات والمزاعم الفاسدة.
ولقد اطلعنا على هذا المنشور أو الوصية منذ سنين وأرشدنا السائلين عنه إلى أنه أكذوبة وضلالة وخرافة، وأنه تجب مصادرته ومحاكمة واضعه ومُرَوِّجِيه صيانة لمقام النبوة الشريف وزجرًا للمفترين الضالين.
وشكر الله لفضيلة الأستاذ جهاده وعظيم جهوده في تنوير بصائر العامة من المسلمين والذَّبِّ عن حرمات الدين.(1/223)
عبث وخرافة
(السؤال) (بورسعيد): وَرَدَ إليَّ وإلى كثير من أصدقائي خطابات مكتوب فيها البسملة وأسماء الله الحسنى، ومطلوب فيها أن يُرْسِل كل من تصل إليه اثنتَي عشرة صورة منها لاثنَي عشر شخصًا من أصدقائه لِيَنَال الخير والسعادة وإلا صُبَّت عليه المصائب صبًّا ـ فهل إذا تَأَخَّر أحد عن تنفيذها يصاب بتلك المصائب الفادحة وإذا قام به ناله الخير العظيم؟
(الجواب): كتابة هذه الخطابات وإرسالها والاهتمام بأمرها والتصديق بما جاء بها عبث لا يقره العقل السليم، وخرافة ينكرها الدين الحنيف، فلا نَفْع في فعل ذلك ولا ضرر في تركه، بل الاشتغال به إضاعة للزمن والمال في غير جَدْوى، وظَنُّ أن له تأثيرًا في جَلْب الخير أو درء الشر ظن فاسد. وهو من الخرافات التي ابْتَدَعها الدجالون وانْسَاق إليها البسطاء الجاهلون، فاعلم ذلك وارْبَأ بنفسك عن الخسران المبين، والزم نهج أهل الحق واليقين. والله أعلم.(1/224)
خرافة المَراغة
(السؤال): يزعم بعض الناس أنَّ العَاقِر إذا تَمَرَّغَت في التراب في بُقْعة معروفة باسم المَراغة حَمَلَت؛ ولذا يذهب النساء إليها كثيرًا ويتمرغن فيها مرارًا ثم ينهضن معتقدات أن ذلك من أسباب الحمل وزوال العقم. فهل لِذَلك أصل شرعي؟
(الجواب): هذه العقيدة من الخرافات الشائعة قديمًا بين الناس وما أكثر الخرافات بين العامة، وليس لها أصل في الدين ولا في الطب. وإن النساء لَيَرْتَكِبْنَ بهذا التمرغ في الرَّغَام منكَرًا فظيعًا، إذ تَنْكَشف أَجْسَامُهن وعَوْرَاتهن بحَرَكة التَّمَرُّغ والتقلب السريعة، فيَرَاهُنَّ النَّظَّارة من الفساق الذين يأتون إلى هذه المَراغات لذلك.
وواجب على أزواجهن وأولياء أمورهن أن يمنعوهن منعًا باتًّا عن هذا المنكر، ويرشدوهن إلى أن للحمل أسبابًا طبيعية وعادية لمن أراد الله لهن الحمل، ليس منها التمرغ في المَراغات ولا شيء من هذه الخرافات.
ويقرُب من ذلك في الفساد ما بلغنا من أن بعض النسوة يصعدن إلى أعلى مأذنة المسجد الأحمدي بطنطا ويمكثن قليلًا ثم يهبطن معتقدات أن ذلك يزيل العقم ويسرع بالحمل، ولا يَخفَى ما في ذلك من ضلال العقيدة وفساد العمل.
أمَّا حصول الحمل بعد ذلك في بعض الحالات فمن باب المصادفة لا غير ولو لم تتمرغ المرأة أو تصعد على المنارة لحصل. والله أعلم.(1/225)
مجون وخرافة
(السؤال) (طبهار ـ فيوم): فكر أحد الضباط الفرنسيين أن يَبعث بخطاب إلى عشرة أشخاص ويُكلِّفَ فيه كل واحد منهم أن ينسخ منه عشر نسخ يرسلها إلى عشرة أشخاص آخرين، وعلى كل واحد من هؤلاء أن ينسخ منه عشر نسخ يبعث بها إلى عشرة آخرين وهلم جرًّا. وشرط أن يكون الإرسال فورًا قبل مضي 72 ساعة، وزعم أن من يفعل ذلك يكون سعيد الحظ ويناله خير كثير، ومن لم يفعل وسَخِر من الفكرة أو مَزَّقَ الورقة يصيبه ضَرر عظيم، وذكر أسماء أشخاص في أمريكا واستراليا وغيرهما جَرَّبُوا ذلك. وقد وصلت للسائل نسخة من هذا الخطاب، فما هو الرأي الشرعي في ذلك؟
(الجواب): هذا نوع من المُجُون والعَبَث لا يَلِيق بالعاقل أن يغمس يده فيه ولا أن يجاريَ مبتدعيه، ضَنًّا بوقته أن يَضِيع في غير جَدْوَى، وحِرصًا على عقله أن يَضِلَّ ويَغْوَى إذا اعتقد أن السعادة والشقاوة والنفع والضرر رَهْن بالقيام بهذا العمل أو إهماله. فليس في قضايا العقول ولا في تعاليم الإسلام أن لذلك وأشباهه أي تأثير فيما يُصِيب الإنسان من خَيْر أو شَرٍّ، وإنما المقدور قد سَبَقَ به القلم (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا) وإذا اقتضت الحكمة الإلهية رَبْطه بالأسباب فإنما يرتبط بالأسباب التي جَرَتْ بها السنن الكونية لا بِمِثْل هذه الأُحْمُوقَة الغَثَّة.
والعجب كل العجب ممن يُلقي بالاً لأمثال هذه الخرافات ويضيع وقته في كتابة هذه الخطابات، ويظن أنها تَجْلِب خيرًا أو تَدْرَأ شرًّا، وهو إنما ينادي بحمقه ويعلن ضعف عقله وسفاهة عمله. والله أعلم.(1/226)
قول جريء وتصوف كاذب
(السؤال) (الإسكندرية): نشرت إحدى المجلات بيتين وهُمَا:
بِذِكْرِ اللهِ تَزْدَادُ الذُّنُوبُ وَتَنْطَمِسُ البَصَائِرُ وَالقُلُوبُ
فَتَرْكُ الذِّكْرِ أَفْضَلُ كُلِّ شَيْءٍ وَشَمْسُ الذَّاتِ لَيْسَ لَهَا غُرُوبُ
ونشرت لبعض الكاتِبِين تفسيرًا لهما، فهل يجوز صدور ذلك من المسلم؟
(الجواب): إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بِدْعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وقد قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ) وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وقال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وقال تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَقْعُدُ قوم يذكرون الله إلا حَفَّتْهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده) وقال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) وقال: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق وخير لكم من أن تَلْقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلي يا رسول الله. قال: ذكر الله) وقال: (مَن قَعَد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرَة ـ حسرة ونقصان ـ ومن اضطجع مضجعًا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرَة) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في فَضْل الذكر والحَث عليه وأنه مَجْلَبة الرحمة والسكينة والقرب والطمأنينة، كيف لا وذكر الله ـ تعالى ـ واستحضار عَظَمَته وَجَلَاله وقَهْره وسلطانه وقوته وجبروته مما يبعث في القلوب المخافة والوَجَل من العصيان ومُقَارَفَة الذنوب، وذكر رأفته ـ تعالى ـ ورحمته ومِنَّتِه وإحسانه(1/227)
وكرمه وإنعامه ينشر في القلوب الرجاء والسكينة والراحة والطمأنينة، فإذا ذكر المؤمن ربه ولم يغفُل قلبه عنه ولجأ إلى باب إحسانه يبتغي من فضله ورضوانه، باسطًا يدَ الرجاء سائلًا العطاء، وَجِلَ القلب من الحرمان ـ ذكره الله تعالى في ملأ من عنده، فأعطاه ما يتمنى وفوق ما يتمنى إذ كان بهذا المقام عبدًا أوابًا مُطيعًا قائمًا بحَقِّ سَيِّده وواجب عبوديته، فمن كَرَمِ اللهِ وجُودِه أن يوفيَه جزاءه ويَمْنحَه الحسنى وزيادة، ومن وَجَدَ حلاوة الذكر عرف كيف يحصل له الاطمئنان بِذِكْر الله وكيف تَنْقَشع الحُجُب عن قلبه عند ذلك حتى يَصِير كأنه يَرَى نور الله عِيانًا.
أما الذي يَغفُل قلبه عن ذكر الله ـ تعالى ـ فهو الطريد المحروم الذي أظلمت سريرته، وانطمست بصيرته، وعميت عيون قلبه، وغشيتها حجب القطيعة، وباء بالخسران العظيم، وقد قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى).
وظاهرٌ أن قائل هذين البيتين قد عارض قول الله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ) بقوله: بذكر الله تَنْطَمس البصائر والقلوب. وعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْر أعمالكم وأزكاها وأرفعها ذكر الله) بقوله: تَرْك الذكر أفضل من كل شيء. وعارض قول الله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكِمْ) بقوله: بذكر الله تَزْدَاد الذنوب. وجعل الذكر من المعاصي والذنوب.(1/228)
فإذا قَصَد المعارضة كان زنديقًا كافرًا، وإذا أراد أن الذكر إنما يكون لمن غاب والذات العلية ليست غائبة، فمع التسليم بالمقدمة الأولى فهو استظهار على الله تعالى وعلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإيثار لمراده على مراد الله ورسوله، ولعبارته على نصوص الكتاب والسنة في الذكر، وذلك كفر صريح.
فإن زعم أن له سلفًا في مثل ذلك من بعض المتصوفة فقد أخطأ، فإن الصوفية وهم صفوة حزب الله أكثر المؤمنين ذكرًا لله ـ تعالى ـ وأدومهم على طاعة الله وأحرصهم على التأدب مع الله، والوقوف عند حدود الله، وأشدها محاسبة للنفس حتى على الخطرات والأنفاس، وقد اتَّفَقُوا على وجوب إجراء الأحكام وإقامة الحدود الشرعية على من خالف من المكلَّفين حكم الشريعة في قوله وفعله، ولذلك أفتَوْا هم وعلماء الشريعة وأئمة الدين بقتل الحَلَّاج حين خَرَق بعبارته المشهورة أسوار الشريعة، وقالوا إنه فتح في الإسلام ثغرة لا يَسُدُّها إلا رأسه.
ومن المتفق عليه أن مُجَرَّد التفوه بما يوهم نقصًا في حق الله مُحرَّم شرعًا ولو لم يقصد معناه.
ومن البيِّن أنه لا يصح نشر مثل هذا القول ولو مع التمحُّل في تأويله لِمَا في النشر من إذاعة ما لا يجوز إقراره، ولِمَا في التمحُّل من إغراء أمثال هؤلاء الجهال بالدين والتصوف بالتعبير بمثل هذه العبارات المنكَرة الفاحشة.
وأي فائدة للمسلمين من نشر مثل ذلك؟ بل فيه إساءة للمسلمين عامة والصوفية خاصة، ومسرة لأعداء الدين من الزنادقة والملحدين والكفرة الضالين، ولولا ضرورة الرد بعد النشر ووجوب البيان بعد الاستفتاء ما استجزنا ذكر هذين البيتين في صدر السؤال، ولكنا ذكرناهما أسوة بقول الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) (لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إَنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). هذا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا للاتباع ويكفيَنا شر الابتداع. والله تعالى أعلم.(1/229)
حديث موضوع
(السؤال) (أَرْبِيل بالعراق): شاع على أَلْسِنة العامة أن من الأحاديث النبوية: (من تَسَرْوَل قائمًا وتَعَمَّمَ قاعدًا ابتلاه الله ببلاء لا دواء له) فهل هذا صحيح؟
(الجواب): هذا حديث موضوع وأمارة الوضع فيه ظاهرة فإن لُبْسَ السراويل من قيام والتعمم من قعود لا يُعْقَل أن يُفْضِيَ إلى أذى يسير فضلًا عن هذا البلاء الذي ليس له دواء، والأمر فيهما متروك إلى اختيار الناس ومشيئتهم كما في سائر المباحات، ولا وجود لهذا الحديث المفترَى في الصحاح. والله أعلم.(1/230)
حديث وارد
(السؤال): اشتهر بَيْن الناس قولهم: "اللهم لا سَهْل إلا مَا جَعَلْته سهلًا وأنت إذا شئت جعلت الحَزن سهلًا" فهل هذا حديث وارد؟
(الجواب): ذكر المُناوي في كنوز الحقائق هذا الحديث بلفظ "اللهم لا سهْل إلا ما جعلته سهلًا" نقلًا عن مسند الفردوس للديلمي، ورواه ابن حبان والبيهقي والحاكم وابن السُّني والضياء في المختارة وفي بعض رواياته "وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلًا". والله أعلم.(1/231)
حديث حب الحسين
(السؤال): قرأت في لوحة مكتوبة بخط فارسي جميل "حسين مني وأنا من حسين، أحب اللهَ من أحب حسينًا" فهل هذا حديث ثابت؟
(الجواب): هو بعض حديث، ففي مصابيح السنة للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود من الأحاديث الحسان ما نَصُّه: "عن يَعلَى بن مُرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا، حسين سِبْط من الأسباط". وقد التزم البَغوي ألاّ يذكر في كتابه ما كان منكَرًا أو موضوعًا. ثم الصواب عربيةً أن يكتب: "أحب الله من أحب حسينًا" بالنصب والتنوين. والله أعلم.(1/232)
جواز الوضوء داخل بيت الخلاء
(السؤال): حنفية الوضوء موجودة بداخل المَحَل المُعَد لقضاء الحاجة "بيت الخلاء" ولا يتيسر الوضوء من غيرها، فهل يجوز الوضوء منها مع تَرْك ذكر الأدعية المأثورة عند الوضوء؟
(الجواب): نعم، يجوز الوضوء من هذه الحنفية مع التحرز عن النجاسة، ولا تتوقف صحته على ذكر الأدعية المأثورة لأنها آداب ومندوبات فقط، ومن تعظيم ذكر الله ـ تعالى ـ وأسمائه ألّا تُذكر في مواضع النجاسات كبيت الخلاء، والدين يسر. والله أعلم.(1/233)
وجوب الاغتسال من الاحتلام
(السؤال): موظف مُقَيَّد بمواعيد عمله اعتاد أن يستيقظ من نومه بعد الاحتلام بوقت لا يَتَّسِع للغسل قبل الذهاب لِمَحَل عمله، فهل يجوز له التيمم للصلاة، وهل يجوز له الخروج من منزله بدون غسل؟
(الجواب): الغسل واجب من الاحتلام، ولا يجوز لمن احتلم وهو واجد للماء أن يتيمم، وليس من الأعذار المبيحة للتيمم ضِيق الوقت عن الاغتسال لأجل الذهاب لِمَحَل العمل. وعلى من ابتُليَ بذلك أن يَتَعَوَّد الاستيقاظ مبكرًا بحيث يَتَّسِع وقته للاغتسال والصلاة والسعي إلى عمله في موعده طاهرًا مطهرًا. وما كان الكسل والتهاون والسهر الطويل في اللهو واللعب الموجِب للتأخر في النوم صباحًا ذريعةً إلى ترك العزائم المفروضة والأخذ بالرخص. والمؤمن الذي اعتاد الطهارة يشعر دائمًا قبل الاغتسال سواء أكان من الاحتلام أم من غيره بضيق وحَرَج، وأنه سجين مَحْبِسه، لا يستطيع قراءة القرآن ولا مَسَّ المصحف ولا أداء الصلاة بل ولا مباشرة العمل الذي أقدره الله عليه وأقامه فيه وجعله سبب رزقه الحلال. ولا يجد فِكاكًا من هذا الضيق إلا بالمبادرة إلى الاغتسال والطهارة وأداء العبادة المفروضة في وقتها وأداء العمل في طهارة جسم وطهارة نفس. والطهارة من الإيمان والمرء ابن عادته، فاعْتَدِ الطهارة ولا تَعْتَدْ ضدها.
أما الخروج من المنزل قبل الاغتسال فليس ممنوعًا، ولكن ما دامت الضرورة لا تلجئه إلى الخروج قبله فالأدب ألّا يبرح منزله إلا بعد الاغتسال (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ). والله أعلم.(1/234)
حكم قراءة المُحْدِث القرآن ومَسِّه المصحف
(السؤال): هل يجوز للمحدِث قراءة القرآن الكريم ومس المصحف الشريف؟
(الجواب): أما عن قراءة القرآن فيجوز للمُحدِث حَدَثًا أصغر (غير المتوضئ) قراءة ما شاء من القرآن، ويُحَرَّم على المحدث حدثًا أكبر (الجنب) قراءة القرآن ولو آية، كما تحرم على الحائض والنُّفَسَاء لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن" رواه أبو داود والترمذي. ورُوِيَ عن علي أنه لم يكن يَحْجُب النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قراءة القرآن شيءٌ ليس الجنابة. رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
وعنه، وقد سئل عن الجُنُب يقرأ القرآن أنه قال: لا، ولا حَرْفًا. وهو مذهب عمر والحسن البصري، والنخعي، والزهري، وقتادة، وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. ورُوي عن سعيد بن المسيب أنه أجاز قراءة القرآن للجنب، وقال: أليس هو في جَوْفه. والمُعَوَّل عليه قول الجمهور.
وأمَّا عن مَسِّ المصحف، فذهب جمهور الأئمة إلى أنه يحرم على المحدث حدثًا أصغر مس المصحف كما يُحَرَّم على الجنب والحائض والنفساء. وذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وداود إلى جواز مَسِّه المصحف.
أما المحدث حدثًا أكبر فيُحَرَّم عليه مَسُّه، وقد رُوي ذلك كما في المغني عن ابن عمر والحسن وعطاء والشعبي وطاوس والقاسم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد، ولم يخالف فيه إلا داود الظاهري، فقد أباح مسه، ولا عبرة بخلافه بعد انعقاد الإجماع على الحرمة.(1/235)
واستدل الجمهور بقوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ) بناء على عودة الضمير إلى القرآن، وبما جاء في كتابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمرو بن حزم من قوله: "لا يمس القرآن إلا طاهر" وهو كتاب تلقاه الناس بالقَبول، وقال ابن عبد البر: إنه شبيه بالمتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابًا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجعون إليه ويَدَعُون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد له بالصحة عمرُ بن عبد العزيز.
واستدل الإمام أحمد بحديث ابن عمر: "ولا يُمَس المصحف إلا على طهارة" وقد ناقش الشوكاني في نيل الأوطار هذه الأدلة من حيث دلالتها على الحرمة، ولكنه لا يجوِّز للمحدث حدثًا أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود اهـ.
وقد استثنى الجمهور مسه بحائل منفصل كخريطة أو وعاء فأجازوه وأجاز الإمام محمد بن الحسن من الحنفية في إحدى الروايتين عنه مسه بالكُمِّ، بناء على أن المحرَّم هو المس المباشر باليد بلا حائل، وفي الرواية الأخرى أنه يحرَّم، بناء على أن المباشرة لا يلزم أن تكون باليد، والكم متصل باللابس فيكون مباشرًا للمس. وقد أشرنا إلى هذا البحث في فتاوى سابقة. والله أعلم.(1/236)
حكم مس المحدِث المصحفَ
جواب عن سؤال يُعْرَف مضمونه منه:
ذهب جمهور الأئمة إلى أنه يُحَرَّم مس المصحف على المحدث حدثًا أكبر أو أصغر، كما في سائر كتب الحنفية، وفي المجموع للنووي، والمغني لابن قُدَامة وغيرهما مستدلين بقوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ) بناء على رجوع الضمير في (يمسه) إلى القرآن. وقد ناقش العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" هذا الاستدلال بما لا يَتَّسِعُ المجال لذكره هنا.
واستدلوا أيضًا بما في كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمرو بن حزم: "لا يَمَسُّ القرآن إلا طاهر" وهذا الكتاب تَلَقَّتْه الأمة بالقبول، ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن وغيره، ورواه الأثرم.
وقال حافظ المَغْرِب الإمام ابن عبد البر: "إنه أشبه بالمتواتر لتلقي الناس له بالقبول". وقال يعقوب بن سفيان: "لا أعلم كتابًا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتابعين يرجعون إليه ويَدَعُون رأيهم".
وقال الحاكم: "قد شهد عمر بن عبد العزيز والزُّهْري لهذا الكتاب بالصحة".
وكذلك استدلوا بحديث ابن عمر: "ولا يُمَسُّ المصحف إلا على طهارة". وبه احتج أحمد بن حنبل على الحرمة. وخالف الجمهورَ في ذلك داودُ الظاهري، فأباح مسه لمن ليس طاهرًا محتَجًّا بكتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قيصر فإن فيه آية من القرآن، وأجيب عن ذلك بالفرق بين المصحف وكتاب المراسلة المشتمل على الآية والآيتين فقط.
ثم قال الشوكاني ما نصه: "وأما المحدث حدثًا أصغر، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم بن محمد وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز. واستدلوا بما سلف، وقد سلف ما فيه" اهـ.
ومن هذا نعلم أن هناك قولًا لبعض الأئمة بجواز مس المصحف لمن به حدث أصغر يسوغ الأخذ به عند الضرورة. والله أعلم.(1/237)
حكم استحمام الرجال والنساء في الحمامات
(السؤال): وَرَدَ في بعض الكتب حديث: (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يَدْخل الحمام إلا بمئزر) فهل هو حديث صحيح؟ وما حكم دخول الحمام للرجال والنساء في الشريعة الإسلامية للاستحمام فيه؟
(الجواب): ينبغي أن نمهد للجواب بما يأتي:
أولًا، ستر العورة واجب وكَشْفها حرام، بالنص والإجماع، وفي حديث مرفوع: "من لم يستر عورته من الناس كان في لَعْنَة الله والملائكة والناس أَجْمعين". رواه أبو حنيفة في مسنده. والعورة إنما سُميت عورة لقُبْحِ ظهورها، مأخوذة من العَوَر وهو النقص والعيب والقبح، ومنه عور العين، والكلمة العوراء: القبيحة.
وهذا الحكم أدب اجتماعي جاء به الإسلام ليربيَ في النفوس مَلَكة الحياء، والحياء خير كله، وليسد ذرائع الفساد والفتنة، ويَصُونَ الأعراض عن التهتك والابتذال، ويقيم بناء المجتمع على أساس من الفضيلة والعفة والشرف والمروءة.
ثانيًا، عورة الرجل تختلف عن عورة المرأة، لبناء أمرها على المبالغة في التستر والصيانة، فعورة الرجل من ركبته إلى سرته، فالركبة عَوْرَة، والسرة ليست بعورة، وإليه ذهب الحنفية. أو هي ما بين السرة والركبة، وهما ليستا بعورة، وإليه ذهب مالك وأحمد والشافعي في الأوجه الصحيحة عنده، وفي وَجْه آخر أنهما عورة، ففَخِذ الرجل عورة عندهم جميعًا، وإليه ذهب جماهير العلماء كما ذكره النووي، وقيل: ليس بعورة. وضعفه الشوكاني في نيل الأوطار، وقيل: العورة هي القُبُل والدُّبُر فقط. وإليه ذهب داود، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى عورة الرجل، ويحرم على المرأة أن تنظر إلى عورة الرجل الأجنبي منها، ويباح لكل منهما النظر إلى ما عَدَاها من سائر الجسد ـ إذا أُمنت الفتنة ـ وهذا قول لا يُعَوَّل عليه شرعًا.(1/238)
وعورة المرأة الحرة جميع بدنها ما عَدَا الوجهَ والكفين. وإليه ذهب الحنفية ومالك والأوزاعي، والشافعي في أحد أقواله. قيل: والقدمين وموضع الخلخال أيضًا. وإليه أيضًا ذهب أبو حنيفة في رواية عنه، وقيل: بل جميع بَدَنِها عورة ما عَدَا الوجهَ. وإليه ذهب أحمد وداود، وقيل: جميعها عورة بدون استثناء. وهو قول لبعض الشافعية ورواية عن أحمد كما أوضحناه في فتوى أخرى.
فرَأس المرأة الحُرَّة وشَعْرها وعنقها، وبطنها، وظهرها وذراعها، وفَخِذها، وساقُها عورة باتفاق، يُحَرَّم على الرجل الأجنبي النظر إليها. وأمَّا المرأة فيحرم عليها أن تنظر من المرأة ما يحرم على الرجل أن ينظره من الرجل وهو ما بَيَّنَّاه سابقًا. ويباح لها النظر إلى ما عداه من جسدها.
قال في بدائع الصنائع: "ما يحل للرجل أن ينظر إليه من الرجل يحل للمرأة أن تنظر إليه من المرأة وكل ما لا يحل له لا يحل لها" اهـ.
ثالثًا، كلمة الحمام تَنْصَرف عند الإطلاق إلى ذلك البناء المعروف في سائر البلاد الشرقية منذ قرون بعيدة، وهو الذي يدخله الناس للتنظف أو التطهر أو الاستشفاء، وهو مشتق من الحَميم وهو الماء الحار، ولم يكن الحمام موجودًا ببلاد العرب في عهد النبوة، وإنما كان ببلاد الأعاجم التي فُتِحَت فيما بَعْدُ كما يشير إليه الحديث الآتي.
وبَحْثُنا الآن إنما هو في حكم دخول هذه الحمامات العامة دون الحمامات الخاصة التي تُعَدُّ في المنازل، وفيما وَرَدَ فيها من الأحاديث.
إذا تَمَهَّدَ هذا فاعلم أن دخول الحمام قد نهى عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولًا، ثم رخص للرجال أن يدخلوه بالمآزر الساترة للعورة حتى لا يَرَى أحد عورة أحد، ولم يرخص للنساء في دخوله إلا لمرض أو نِفَاس بشرط ستر عورتهن فيه، حتى لا ترى المرأة من المرأة ما يحرم النظر إليه.(1/239)
روى جابر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُدخل حَلِيلَتَه الحمامَ. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخمر" رواه الترمذي. وهو صريح في نهي الرجال والنساء عن دخول الحمام مطلقًا.
وروى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يَدْخُل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا يدخل الحمام" رواه أحمد.
وهو دَالٌّ على الترخيص للرجال في الدخول فيه بالمئزر، ويؤيده ما رواه النسائي عن جابر بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر" وفي مسند أبي حنيفة مرفوعًا: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخل الحمام إلا بمئزره".
وفي شرح السمعاني على السنن: إنما رخص في دخوله بالمئزر؛ لأنه يُؤمَن معه من كشف العورة ونظر البعض إلى عورة البعض اهـ.
وفي المغني لابن قُدَامَة عن الإمام أحمد قال: إذا علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فادخله وإلا فلا تَدْخُل. وعن سعيد بن جبير: دخول الحمام بغير مئزر حرام اهـ.
أما النساء فحديث أبي هريرة صريح في إطلاق نَهْيِهِن عن الدخول فيه، ويؤيده حديث جابر المار، وحديث عائشة وقد دخل عليها نسوة من أهل حِمْص فقالت: من أنتن؟ فقلن: من أهل الشام. فقالت: لعلكن من الكُورة التي يدخل نساؤها الحمامات! قلن: نعم. قالت: أما إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ما من امرأة تَخْلع ثيابها في غير بيتها إلا هَتَكَت ما بينها وبين الله تعالى". رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.(1/240)
ثم رخص للحائض والنفساء في دخوله كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ستُفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتًا يقال لها الحمامات فلا يدخلها الرجال إلا بالإزار، وامنعوها النساء إلا مريضة أو نُفَسَاء" (رواه أبو داود وابن ماجه) وهو من أعلام النبوة.
وهل الرخصة لخصوص المريضة والنفساء أو لذوات الأعذار مطلقًا؟ ذهب إلى الأول بعض الفقهاء ورجحه الشوكاني، وذهب آخرون إلى الثاني وهو الظاهر.
وقد نقل النووي في المجموع عن السمعاني أن دخول الحمام مباح للرجال بشرط التستر وغض البصر، ومحظور على النساء إلا لعذر، وإذا دخلن لضرورة فلا يدخلن إلا بمئزر سابغ، ومثله عن الإمام الغزالي.
فالرخصة في دخول الحمام مُقَيَّدَة في حق الرجال والنساء بما ذكر، ولكن الناس لضعف وَازِع الدين والخلق في نفوسهم وغلبة الاستهتار قد تحللوا من هذه القيود، فبدت العورات وكُشفت السوءات وارتفع الحياء حتى بلغ الاستهتار ببعض الرجال أن يُمَكِّنوا الحَلَّاق والمكيس ـ (الذي يتولى إزالة الدَّرَن عن الأجسام بكيس من الصوف يَلْبَسه في يده) والمدلك أو الدلاك كما يسميه الغزالي ـ من مس العورة الغليظة للحلق والتنظيف والتدليك.
أما النساء فيَخْلَعن ثيابهن ويُبدين عوراتهن ويمشين في الحمام عاريات كيوم ولدتهن أمهاتهن، معتقدات أن ستر العورة لا يكون إلا عن الرجال، فحَمَلْنَ بذلك وزرًا عظيمًا وإثمًا كبيرًا.
ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى القول بمنع دخول الحمام مطلقًا في هذا الزمان لعدم إمكان التحرز فيه عن كشف العورة ورؤيتها. ولئن ملك أحد أمر نفسه فإنه لا يملك أمر غيره.
احتاط الشارع في هذا الباب للفضيلة أن تُهْدَر، وللكرامة الإنسانية أن تُهَان، وللعفة أن تُبتذَل، وحَصَّن حماها أقوى تحصين فحرم مسه، وحرم كشفه، وحرم النظر إليه.(1/241)
والنظرة رسول الهوى، وبريد الفتنة، وباعث الشر، فكم هتَكت أستارًا، ومزقت حجبًا، وأثارت شهوات، وأَوْدَت بأعراض، وأفضت إلى محرمات.
ومن هذا يُعْلَم بالأولى حكم الاستحمام على شواطئ البحار وما فيه من مآثم ومفاسد خصوصًا في المصايف التي تبتذل فيها النساء والرجال إلى أفحش حَدٍّ. نسأل الله الهداية، ونعوذ به من الغواية. والله أعلم.(1/242)
في كيفية وضوء الغسل
(السؤال): هل يؤخَّر غسل الرِّجْلَيْنِ في وضوء الغسل إلى ما بعد إفاضة الماء على جميع البدن، أو يكمل الوضوء بغسلها ثم يُفَاض الماء على جميع البدن؟
(الجواب): ذهب أكثر الحنفية إلى أن المغتسل حين يتوضأ يؤخر غسل رجليه ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسلهما، أخذًا من رواية ميمونة كيفية غسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذهب بعضهم إلى أنه لا يؤخر غسلهما إكمالًا للوضوء أخذًا من رواية عائشة كيفية غسله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومنهم من فصل بين أن يكون في مجتمع الماء فيؤخره، وألاّ يكون فيه فلا يؤخره وقال في المجتَبَى: إنه الأصح اهـ.
وفي الهداية: ثم يتوضأ وضوءه للصلاة إلا رِجْليه، وإنما يؤخر غسلهما؛ لأنهما في مستنقع الماء المستعمل فلا يفيد غسلهما، حتى لو كان على لوح، لا يؤخره اهـ.
وفي شرح الزيلعي: لم يذكر المصنف تأخير غسل الرجل؛ لأنه لا يؤخره إلا إذا كان في مستنقع الماء اهـ.
وفي البحر أنه لا خلاف في جواز التقديم والتأخير وإنما الخلاف في الأولوية والأفضلية فقط اهـ.
وللمالكية طريقتان: إكمال الوضوء بغسل الرجلين، وتأخيرهما بعد تمام الغسل كما في الشرح الصغير وحواشيه.
وذهب الشافعية "كما في المجموع وفتح العزيز" إلى جواز الأمرين، وإنما الخلاف في الأولى منهما، وأن السُّنَّة تتأدَّى بكل منهما، وقد ثبت الأمران في الصحيح من فعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في روايتَي عائشة وميمونة، إلا أن ما روته عائشة هو الأغلب من أحواله، وما روته ميمونة هو القليل الجواز، وبذلك كان أظهر القولين عندهم التقديم، وذهب الحنابلة كما في "هداية الراغب" إلى أنه يتوضأ وضوءه للصلاة كاملًا فيغسل رجليه ثم يحثو الماء على رأسه وبدنه. والله أعلم.(1/243)
متى لا تُنقَضُ الضفائر في الغسل
(السؤال): فتاة حديثة الزواج، مواظبة على الصلاة، تقول: إن في غَسْل رأسها بالماء ونقض ضفائرها كلما اغتسلت لإزالة الجنابة مَشَقَّة كبيرة حيث يصعب عليها تزيين شعرها وتسويته بعد الغسل كما كان قبله، ولابد لها من ذلك، وتخشى أن يفضيَ بها ذلك إلى التهاون في أداء فريضة الصلاة فماذا تفعل؟
(الجواب): تعميم بَشَرَة الجسم بالماء في الغسل من الجنابة واجب بإجماع الأئمة، لحديث علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يُصِبْهَا الماء فَعَلَ الله به كذا وكذا في النار" رواه أحمد وأبو داود.
ومثل غسل الجنابة الغسل من الحيض والنفاس، فيجب على المرأة في الغسل أن تصيب بالماء منابت شعر رأسها؛ لأنها من البشرة، مضفورًا كان أو غير مضفور، ولا يلزمها نقض ضفائرها متى وَصَل الماء إلى أصول شعرها عند الحنفية والشافعية منعًا للحرج، ولحديث أم سلمة قالت: يا رسول الله إني امرأة أشدُّ ضَفْرَ رأسي أفأَنْقُضه للغسل من الجنابة؟ (وفي رواية للحيض والجنابة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، إنما يكفيك أن تَحثيَ على رأسك ثلاث حَثْيَات من ماء، ثم تفيضي عليك بالماء فإذا أنت قد طهرت" رواه الجماعة إلا البخاري.
وكذلك عند الحنابلة في غسل الجنابة لتكرره. ولهم في الغسل من الحيض قولان: أحدهما وجوب نقضه. والآخر استحبابه من غير وجوب.
وذهب المالكية ـ كما في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه ـ إلى أنه مع تحقق وصول الماء إلى بشرة الرأس يجوز للمرأة ألاّ تنقُض ضفائرها في الغسل، بل تَجْمَع شَعْرَها وتضمه وتحركه بيدها ليداخله الماء. والله أعلم.(1/244)
حكم سماع الجنب القرآن
(السؤال): هل يُحَرَّم على الجنب سماع القرآن؟
(الجواب): لا يحرم على الجنب سماع القرآن، وإنما تحرم عليه قراءته على تفصيل في المذاهب في مقدار ما يُحَرَّم. والله أعلم.(1/245)
حكمة وجوب اعتزال الحائض
(السؤال): قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) فما هي الحكمة في اعتزالهن؟ وهل الأمر بالاعتزال للوجوب؟
(الجواب): عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت؛ أي لم يصاحبوها، فسئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح" والأمر في قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا) للوجوب. فيقتضي وجوب الاعتزال أثناء المحيض في موضعه المعروف وحرمة الإتيان فيه. وقد أَكَّدَ الله هذا الأمر بقوله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ...) إلخ. وقد صرح القرآن بعلة هذا الحكم بقوله (هُوَ أَذًى) أي مستَقذَر تنفر منه الطباع أو ضرر، وقد ورد في الخبر أن الإتيان في الحيض ـ أي بمعنى المداومة عليه ـ يورث جُذَام الولد. فهو ضرر.
ويقول الأطباء: إنه في وقت الحيض ينفتح عنق الرحم ليخرج دم الحيض، وتقل حموضة المَهْبِل، وتضعف مقاومة الجهاز التناسلي للميكروبات. ولذا يجب اجتناب عمل أي فحص مَهبِلي، أو إدخال الإصبع أو الجِمَاع أثناء الحيض لِمَا يؤدي إليه من دخول الميكروبات لباطن الرحم ومنها إلى البريتون، فيؤدي إلى التهابات حادة ذات عواقب وخيمة.(1/246)
ويقولون: إن دم الحيض في حالات الالتهابات المزمنة يحتوي على ميكروبات من إفراز الغدد الرَّحِمِيَّة، وهذه الميكروبات تكون في حالة تَكَوُّن طول الشهر، وفي زمن الحيض تنمو وتتكاثر وتختلط بدمه، فيؤدي الجماع في هذه الفترة إلى إصابة الرجل بالتهابات تناسلية.
وقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من أتى حائضًا فقد كَفَر بما أنزل على محمد" والتعبير بالكُفْر محمول على استحلال إتيانها، أو على المبالغة في الزجر والترهيب. فلا يُعَارِض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله أصبت امرأتي وهي حائض. فأمره رسول الله أن يُعْتِق نَسَمَة".
ونص الشافعي على أنه كبيرة عظيمة. والله أعلم.(1/247)
جَوَاز التيمم لِخَوف المرض
(السؤال): هل يَجُوز للإنسان أن يَتَيمم إذا خاف المرض باستعمال الماء؟
(الجواب): لا يجوز للإنسان أن يتيمم إذا قَدَرَ على استعمال الماء بأية صورة، فإذا لم يَقْدِر على استعمال الماء البارد وقَدَرَ على استعمال الماء الساخن يستعمل الساخن، ولا يجوز له التيمم لرفع الحدث واستباحة الصلاة.
أما المريض الذي يَشْتَد عليه المرض أو تَطُول مُدَّتُه إذا استعمل الماء فيباح له التيمم عند الحنفية بشرط أن يَغْلِب ذلك على ظنه بأمارة أو تجربة أو قول طبيب حاذق مسلم غير ظاهر الفسق. وكذلك الصحيح الذي يَخَاف حدوث المرض باستعمال الماء يجوز له التيمم، إذا لم يكن الخوف مجرد شك ووهم، بل كان بغلبة الظن استنادًا إلى ما ذُكِرَ.
ونص المالكية على أن المريض إذا خاف حدوث مرض آخر به، أو زيادة المرض الذي به، أو تَأَخُّر بُرْئِه إذا استعمل الماء يجوز له التيمم، ومَهْمَا قَدَرَ على استعمال الماء لا يجوز له التيمم، والمراد بالخوف العلم أو الظن لا الشك والوَهْم، وإنما يعتبر العلم والظن إذا استند إلى تجربة تَقَدَّمَت في نفسه أو غيره ممن يُقارِبه في مِزاجه أو خبر عارف بالطب ولو غير مسلم (راجع حواشي الرهوني والزرقاني على مَتْن خليل).
وعند الحنابلة كما في المغني لابن قدامة: الجريح والمريض إذا خاف على نفسه من استعمال الماء فَلَه التيمم، وهذا قول أكثر أهل العلم، ومنهم عكرمة، وطاوس، والنخعي، وقتادة، ومالك، والشافعي. وقال عطاء والحسن: لا يجوز له التيمم إلا عند عدم الماء.
والخوف المبيح للتيمم هو خوف التَّلَف عند أحمد، وهو أحد قولي الشافعي، والصحيح في المذهب أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء أو خاف شيئًا فاحشًا أو ألمًا غير محتَمَل، وهذا مذهب أبي حنيفة اهـ.(1/248)
وقد عَلِمْتَ أن الخوف المُعْتَبَر هو اليقين أو غلبة الظن استنادًا إلى الدليل، ولا عبرة بالشك والوهم وذلك باتِّفَاق المذاهب، وهو الخوف الذي يبيح للصائم الفطر. وقد نَصُّوا في باب الصوم على تحديد الخوف بما ذكر. والله أعلم.(1/249)
لا يجوز التيمم للقادر على تَسْخِين الماء
(السؤال): هل يَجُوز للمحْدِث وهو صحيح أن يتيمم للصلاة إذا خاف بَرْد الماء وهو قادر على تسخينه؟
(الجواب): القاعدة أن المُحْدِث متى قَدَرَ على استعمال الماء بأي وجه من الوجوه لا يجوز له التيمم إجماعًا، فالقادر على تسخين الماء واجِدٌ للماء حقيقة، وقد علق الشارع جواز التيمم بفقدان الماء حقيقة أو حكمًا بقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) فإذا تَيَمَّمَ من شُرِحَت حالته بالسؤال وصلى به فصلاته باطلة ويجب عليه إعادتها، والواجب عليه رفع الحَدَث مطلقًا بالماء، وهو قادر على تسخينه. والله أعلم.(1/250)
حكم التيمم لخوف خروج الوقت
(السؤال): نام وهو جنب، ثم استيقظ قرب طلوع الشمس بفترة لا تتسع للغسل، فهل يجوز له أن يتيمم لأداء صلاة الصبح في وَقْتِها، أو لا بد أن يغتسل ويؤديَ الصلاة ولو خارج وقتها؟
(الجواب): ظاهر الرواية في مذهب الحنفية أنه لا يجوز التيمم لخوف فوات الفريضة؛ لأنها تفوت إلى بدل وهو القضاء، فلا بد أن يغتسل الجنب ثم يؤديَ الفريضة ولو كان بعد وقتها. وأجاز الإمام زُفَر من الحنفية التيمم لخوف فَوَاتِها. واختاره بعض فقهائهم. ومال إليه الكمال ابن الهمام. واختار آخرون للاحتياط أن يتَيَمَّم ويصليَ ثم يغتسل ويُعِيد الصلاة.
وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية أن للعلماء في ذلك قولين، فالأكثر كأبي حنيفة والشافعي وأحمد يأمرونه بطلب الماء، وإن صلى بعد طلوع الشمس. ومالك يأمره أن يصلي للوقت بالتيمم اهـ. وهو مشهور مذهب مالك كَمَا في الشرح الصغير وحاشيته، ومَحَلُّه ما لم يَقْصِده استثقالًا للماء فيُعَامَل بنقيض قصده، ومقابل المشهور أنه لا يجوز التيمم ولو أَدَّى عدمه إلى الصلاة بعد الوقت كما هو مذهب الجمهور. وحكى عبد الحق عن بعض الشيوخ الاتفاق عليه، اهـ. ومن ذلك يُعْلَم أن الأحوط لمن شُرحت حالته بالسؤال ولم يكن في استطاعته في الواقع الفراغ من الغسل قبل خُرُوج الوقت أن يتيمم ويصليَ ثم يعيد الصلاة بعد الغسل خارج الوقت. والله أعلم.(1/251)
النية في الغُسل
الغُسل بماء فيه صابون
(السؤال): هل النِّيَّة والترتيب في غُسل الجنابة شَرْطَان في صحته؟ وهل يجوز الغسل من الجَنَابَة بماء فيه صابون؟
(الجواب): مذهب الحنفية أن النِّيَّة والترتيب ليسا شرطًا لصحة الغسل، وإنما السنة فيه البدء بالتسمية والنية وغسل القُبُلَيْن ثم الوضوء كوضوء الصلاة مع تأخير غسل الرجلين إن كان يَقِف حَالَ الغسل في مَحلٍّ يجتمع فيه الماء وإلا لا يؤخره، ثم إفاضة الماء على جميع البدن ثلاثًا يستوعب الجسد بكل واحدة منها مع التَّدْلِيك في المرة الأولى لِيَعُمَّ الماء بَدَنَه في الأخيرتين، بادئًا بِصَبِّ الماء على رأسه ثم يَغْسِل المَنْكِب الأيمن فالأيسر، ثم يُتِمُّ إفاضة الماء على سائر الجسد.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن النِّيَّة فَرْض في الغسل.
وذهب الحنابلة إلى أنها شَرْط في صحته فقط، أما الدَّلْك فهو سنة عند الشافعية والحنابلة كالحنفية، وفرض عند المالكية.
ويجوز الغسل بماء فيه صابون عند الحنفية لِمَا في "إمداد الفَتَّاح وحواشيه" من جواز الوضوء والغسل بالماء الذي طُبِخَ بما يقصد به النظافة كالسِّدر (ورق النَّبْق) أو خالطه بغير طبخ كالصابون ونحوه ما دام لم يخرج بذلك عن طبع الماء وهو الرقة والسيلان.
وفي الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بغسل الذي وَقَصَته ناقته وهو مُحْرِم بماء وسدر. وأمر قيس بن عاصم حين أسلم أن يغتسل بماء وسدر، واغتسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بماء فيه أثر العَجِين، وكان يغتسل ويغسل رأسه بالخِطْمِيِّ (بكسر الخاء المعجمة وتشديد الياء في آخره: نَبْت بالعراق طيب الرائحة يعمل عمل الصابون في التنظيف) وهو جُنُب، ويجتزئ بِذَلك اهـ ملخصًا. ولا فَرْق في ذلك كله بين الغسل من الجنابة والغسل من الحيض والنِّفاس.(1/252)
وقال ابن حزم في المُحَلَّى: (كل ماء خالطه شيء طاهر مُباح فظَهَر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يَزُلْ عنه اسم الماء فالوضوء به جائز، والغسل به للجنابة جائز) ورُوى بسنده حديث أم هانئ بنت أبي طالب قالت: دخلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح وهو في قُبَّة له، فوجدته قد اغتسل بماء كان في صَحْفة إني لأرى فيها أثر العجين، وإن ميمونة أم المؤمنين ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اغتسلا من قصعة فيها أثر العجين.
ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: إذا غسل الجنب رأسه بالخِطميِّ أَجْزَأَه. ورُوي هذا عن علي، وثبت عن سعيد بن المسيب وابن جُرَيْج، وعن صواحب النبي من نساء الأنصار والتابعات منهنّ أن المرأة الجنب والحائض إذا امْتَشَطَت بِحِنَّاء رقيق أن ذلك يجزئها من غسل رأسها للحيضة والجنابة، ولا تُعِيد غسله، وثَبَتَ عن النخعي، وعطاء، وأبي سلمة، وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب يَغْسِل رأسه بالسِّدْر والخطمي أنه يجزئه ذلك من غسل رأسه للجنابة، وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة والشافعي وداود اهـ. وخالف مالك في ذلك، ومن هذا تَعْلَم أن الاغتسال بماء فيه صابون جائز ما لم يخرج الماء عن رقته وسيلانه ولو تغير طعمه ولونه وريحه. والله أعلم.(1/253)
حكم المصاب بسَلَس البول
(السؤال): شخص يَكْثُر خُرُوج البول منه وخاصة في فصل الشتاء بغير إرادته، فهل ينتقض وضوؤه بذلك؟ وهل يَجِب عليه تَطْهِير ثوبه كلما أصابه البول في هذه الحالة؟
(الجواب): خروج البول ولو قطرة واحدة ناقض للوضوء لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحْدَثَ حتى يتوضأ" غير أنه إذا دام خروجه واسترسل ولم يَسْتطِع منعه ـ هو المعروف باسم سلس البول ـ كان ذلك عذرًا يبيح الترخص بقدره، والضرورات تبيح المحظورات، والمشقة تَجلِب التيسير.
وحكم من ابتُليَ بهذا العذر ونحوه كاستطلاق بطن أو انفلات ريح أو رعاف دائم أو جرح لا يَرقَأ ـ حكم المستحاضة (وهِي ذات دم نقَص عن أقل مدة الحيض أو زاد على أكثره أو زاد على أكثر مدة النفاس، أو زاد على عادتها في أقل مدة الحيض والنفاس وتجاوز أكثرهما، أو حُبْلَى أو آيِسَة).
وقد نص الحنفية على أنها تتوضأ لوقت كل فرض، لا لكل فرض ولا لكل نَفْل، وتصلي به ما شاءت من الفرائض والنوافل في الوقت. ويَبْطُل وضوؤها بخروجه عند أبي حنيفة ومحمد. ويجب أن تستأنف الوضوء للوقت الآخر، وكذلك من به سَلَس البول ونحوه.
ويشترط لثُبُوت العذر ابتداءً أن يستوعب وقتًا كاملًا من أوقات الصلاة بحيث لا ينقطع زمنًا يَسَع الوضوء والصلاة، والانقطاع اليسير في حكم العدم، وشرط بقائه ودوامه بعد ذلك أن يوجد ولو مرة واحدة في كل وقت كامل من أوقات الصلاة، ولا يُعَدُّ منقطعًا إلا إذا زال وقتًا كاملًا.(1/254)
وأما الثوب الذي تُصيبه نجاسة العذر فقيل: لا يجب غسله؛ لأن قليل النجاسة يعفى عنه. وقُدِّر في النجاسة المائعة بقدر مُقَعَّر الكف فأُلْحِقَ به الكثير للضرورة؛ ولأن العذر غير ناقض للوضوء فلم يكن نجسًا حكمًا. وقيل: يجب غسل الزائد عن القدر المَعْفُوِّ عنه إذا أفاد الغسل بأن كان لا يصيبه مرة بعد أخرى وإلا لا يجب ما دام العذر قائمًا. واختاره مشايخ الحنفية وصححه في البدائع.
وقال ابن قدامة الحنبلي في شرحه الكبير على المغني: إن المستحاضة تغسل فرجها وتَعْصِبُه وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي ما شاءت من الصلوات، وكذلك من به سَلَس البول والمذي والريح والجرح الذي لا يَرقَأ دمه والرُّعَاف الدائم، ويجوز لهؤلاء الجمع بين الصلاتين وقضاء الفوائت والتَّنَفل إلى خروج الوقت. وتتقيد الطهارة بالوقت إذ هي طهارة ضرورة، فإذا توضأ قبل الوقت وخرج منه شيء من الحدث بَطَلَ وضوؤه، وإذا توضأ بعد دخول الوقت صح وارتفع الحدث ولم يؤثر في الوضوء ما يتجدَّد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه، وإذا خرج الوقت بطل الوضوء اهـ ملخصًا.
وذهب الشافعية كما في المجموع وشرح المِنْهَاج إلى أن المَدَار في ثبوت العذر على الاستمرار والدوام غالبًا، ويَجب في الاستحاضة وما أُلْحِق بها غسل النجاسة وشد المحل بنحو عصابة عقب الغسل، والوضوء لكل فريضة عقب الشد في وقت الصلاة لا قبله؛ لأنها طهارة ضرورة فتتقيد به كالتيمم، والمبادرة بالصلاة عقب الوضوء، إلا لمصلحة تتعلق بالصلاة كانتظار الجماعة، ويُصلَّى به الفريضة والنوافل القبلية والبعدية، ولا يُصلَّى به فريضة أخرى حتى يتوضأ لها. ولا يبطل الوضوء والصلاة بتجدُّد الحدث أثناءهما اهـ بتلخيص.(1/255)
وفي مذهب المالكية ـ كما في شرح متن خليل ـ طريقتان: إحداهما أن العذر لا ينقض الوضوء مطلقًا ولا تَبْطُل به الصلاة، غير أنه يستحب لمن ابتُليَ به أن يتوضأ لكل صلاة إلا أن يؤذيه البرد. والأخرى، وهي التي شَهَرَها ابن رشد أنه لا ينقض الوضوء ولا تبطل به الصلاة إذا لازم نصف وقت الصلاة على الأقل، إلا أنه يستحب الوضوء إذا لازم نصف الوقت أو أكثره لا إن لازم كل الوقت. ويَنتَقض الوضوء إذا لازم أقل من نصف الوقت فيتوضأ لكل صلاة اهـ.
وذهب الظاهرية وابن حزم، كما في المحلَّى، إلى أن من غلب عليه خروج البول ـ وهو من به سلس البول، ويسميه ابن حزم "المستَنكَح" بمعنى من غُلب عليه ـ يجب عليه بعد غسل الموضع حسب الطاقة بدون حرج ومشقة الوضوء لكل صلاة فرضًا أو نافلة، فيتوضأ للفريضة ويتوضأ وضوءًا آخر للنافلة، ثم لا شيء عليه فيما خرج منه بعد ذلك في الصلاة أو فيما بين الوضوء والصلاة، ولا بد أن يكون الوضوء أقرب ما يمكن للصلاة اهـ ملخصًا.
وجملة القول أن جمهور الفقهاء قاسوا أرباب الأعذار على المستحاضة لورود النص فيها، فالحنفية والحنابلة ذهبوا إلى أنها مأمورة بالوضوء لوقت كل صلاة، والشافعية ذهبوا إلى أنها مأمورة بالوضوء لكل فريضة، والمالكية لم يُوجِبوا عليها الوضوء مطلقًا في الطريقتين، فذهبوا في أرباب الأَعْذَار إلى ما بَيَّنَّاه بطريق القياس.
ويُعلم من هذا أن مجرد خروج البول بكثرة كما في السؤال لا يُعَدُّ عذرًا مبيحًا للترخص المذكور، وإنما يكون كذلك إذا دَامَ واستمر على النحو الذي بيناه في المذاهب، ولعل الأرفق بأرباب الأعذار مذهب الحنفية والحنابلة، وللعامي أن يُقَلِّده ولو كان من مُقَلِّدة المذاهب الأخرى. والله أعلم.(1/256)
لا تَصِحُّ الصلاة إلا بالنية
(فرضت الصلاة ليلة المعراج وهي ليلة السبت سابع عشر رمضان قبل الهجرة بسنة ونصف وقيل: ليلة السابع والعشرين من رَجَب قبل رمضان المذكور. و كانت الصلاة قبل ذلك صلاتين، صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها. قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) وقد خص الله ـ تعالى ـ خاتم رسله بالصلوات الخمس كما خصه بالأذان والإقامة وافتتاح الصلاة بالتكبير وخصه بالتأمين والركوع والسجود وتحريم الكلام)
(السؤال): ما حكم الشريعة الغَرَّاء فيمن صَلَّى بغير نِيَّة وفيمن نَوَى ولم يُصَلِّ؟
(الجواب): النية لابد منها في الصلاة، بل في كل عبادة مَقْصُودة، وهي شرط لانعقادها، فإذا صلى بغير نِيَّة فلا صلاة له، وإذا نَوَى صلاة الفرض ولم يُصَلِّه لم يُؤَدِّ الفرض الذي كُلِّف به، ولا يخرج بمجرد النية عن عُهْدَة التكليف، وأما ما وَرَد في بعض الأحاديث الضعيفة الإسناد من قوله عليه الصلاة والسلام: "نِيَّة المؤمن خير من عَمَله" فليس معناه، كما في شروح الجامع الصغير، أن النية الصالحة تُغْني عن العمل كما يَظُنُّ بعض العامة، وإنما معناه أن المؤمن لَمَّا كانت نِيَّتُه دائمًا أن يعبد الله ـ تعالى ـ ولا يشرك به شيئًا، ويطيعه ولا يعصيه، كانت نيته خيرًا من العمل من جهة دوامها وانقطاع العمل بالفراغ منه، والدائم خير من المنقطع، ومن جهة أن النية من عَمَل القلب فلا يَدْخُلها الرياء لعدم الاطلاع، عليها بخلاف العمل الظاهر فإنه قد يَتَطَرَّق إليه الرِّيَاء، وما لا يَقْبل الرياء خير مما يقبله، والخروج من عهدة التكليف لا يكون إلا بهما معًا.(1/257)
وقد ذكر حجة الإسلام الغزالي أن النية والعمل لابد منهما في تمام العبادة، والنية أحد جزأيها لكنها خيرهما؛ لأن الأعمال بالجوارح غير مُرَادَة إلا لتأثيرها في القلب، فيميل إلى الخير ويُقْلِع عن الشر، فيتفرغ للذكر والفكر الموَصِّلَين إلى الأنس والمعرفة، اللذين هما سبب السعادة الأخروية اهـ. فالعمل وسيلة إلى المقصد الأصلي وهو إصلاح القلب، وإصلاحه لا يتم إلا بالنية، فكانت خيرًا من العمل من هذه الناحية، وعلى كل حال فلا دلالة في الحديث على الاكتفاء بالنية عن العمل. والله أعلم.(1/258)
قبلة صلاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكة والمدينة
(السؤال): إلى أي قبلة كان يصلي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة قبل الهجرة؟ وما مدة صلاته بالمدينة إلى بيت المقدس؟
(الجواب): اختلف العلماء في هذه المسألة، والأصح أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصلي حين فرضت عليه الصلاة بمكة متجهًا إلى الكعبة، ولم يَزَل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ كما نقله القرطبي في تفسيره.
ولَمَّا قَدِمَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة مهاجرًا أوحى الله تعالى إليه أن يصليَ إلى صخرة بيت المقدس بدل الكعبة فصلى إليها ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا على ما رواه البخاري. وقال أبو حاتم البستي: صلى إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام سواء اهـ. ثم نسخ الله ذلك وأمره أن يستقبل الكعبة في صلاته كما كان بمكة، قال تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
ومن هذا يُعْلَم أن صلاته بالمدينة إلى الصخرة لم تكن اجتهادًا منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما نُقِلَ عن بعضهم وإنما كانت بوحي من الله تعالى غير مَتْلُوٍّ، وأن النسخ كان بالقرآن. ولذا عده الأصوليون من باب نسخ السنة بالقرآن وقالوا: إن القبلة نسخت مرتين، فاستقبال الكعبة بمكة نسخ باستقبال بيت المقدس بالمدينة، وهذا نسخ باستقبال الكعبة بعد تلك المدة.(1/259)
ونقل القرطبي إجماع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ بالقرآن، وقد أنكر اليهود النسخ من أصله ليتم لهم ما زعموه باطلًا من أن التوراة غير منسوخة، وطَعَنُوا في الإسلام بتجويزه النسخ وقالوا: إن محمدًا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه. فأنزل الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). والله تعالى أعلم.(1/260)
حكم الإيقاظ لصلاة الفجر بذكر الله
(السؤال): اعتاد بَعْض المسلمين في جِهَتِنا أن يُوقظ الناس لصلاة الفجر بقوله بِصَوت عالٍ في الحي: (لا إله إلا الله الملك الحق المبين، محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين) وقد ينشد:
يَا نَائِمًا مُسْتَغْرِقًا فِي المَنَامِ ... ... قُمْ وَاذْكُرِ الحَيَّ الذِي لَا يَنَامُ
مَوْلاَكَ يَدْعُوكَ إِلَى ذِكْرِهِ ... ... ... وَأَنْتَ مُسْتَغْرِقٌ فِي المَنَامِ
وقد أَلِفَ الناس منه ذلك وحَمِدوا له تذكيرهم بأمر الله، فما حكم ذلك؟
(الجواب): اعلم أن إيقاظ النائمين وتَنْشِيط الوَانِين للاستعداد لصلاة الفجر في أول وقتها أمر مشروع يَشْهَد له ما في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لا يمنعن أحدًا منكم أذانُ بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل لِيَرْجِع قائِمُكُم ولِيَنْتَبِه نائِمُكُم" أي لِيَعُود القائم منكم ليلًا للتهجد إلى شيء من الراحة لينهض لصلاة الفجر نشيطًا، وليوقظ النائم ليستعد للصلاة في أول الوقت بالوضوء أو الاغتسال.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" وزاد في رواية: "فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر". قال القاسم بن محمد: لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقَى هذا وينزل هذا اهـ.
فكان بلال يؤذن قبل الفجر لِمَا ذُكِرَ، وعبد الله بن أم مكتوم يؤذن عند طلوعه للإعلام بدخول الوقت. وقد تَرْجَم لهما البخاري في صحيحه. وقال الحافظ إنه أراد بذلك أن يبين أن المعنى الذي كان يؤذن لأجله قبل الفَجْر غير المَعْنى الذي كان يُؤَذن له بعد الفجر، وأن الأذان قبله لا يكفي عن الأذان بعده اهـ.(1/261)
وقد أَقَرَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك كما دَلَّ عليه الحديثان فكان أصلًا لمشروعية ما يقوم به كثير من المؤذنين في غَسَقِ الليل قبيل الفجر من التسبيح والتهليل والابتهال إلى الله ـ تعالى ـ إلى أن يَطْلُع الفجر قصدًا إلى المعنى الذي كان من أجله يؤذن بلال ـ رضي الله عنه ـ فهو نداء وتذكير وإن اختلف عن الأذان الأول في صيغته إذ كان الأول بألفاظ الأذان المعروفة كما يُفِيده ظاهر الحديث وهذا بالتهليل والتسبيح والابتهالات.
وكذلك يَشْهَد لمشروعية ما يَفْعَله بعض المسلمين اليوم من إيقاظ النائمين للتأهب لصلاة الفجر بذكر الله تعالى والثناء على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعِظَة الغافلين بما يَسْتَحِث هممهم ويَسْتنْهِض عزائمهم للمسارعة إلى الصلاة، وكل ذلك عبادة وطاعة. فإذا كان قبل طلوع الفجر فهو في معنى أذان بلال، وإذا كان بعد طلوعه فهو في معنى أذان ابن أم مكتوم، والغالب الأول.
وإذا عُلِمَ أن تَكْرَار الأذان العام بعد طلوع الفجر غير مشروع، وأن أكثر الناس في هذا الوقت وقبله ما بَيْنَ نائم يَغِطُّ في نومه ووَسْنَان كسلان، والنوم لذيذ والدَّعَة محبوبة، ولذا زِيدَ في أذان الفجر جملة: "الصلاة خير من النوم" وإذا تُرِكُوا وشأنَهم حُرِمُوا فضيلة الصلاة في أول وقتها، بل حُرِمُوا أداءها في وقتها ـ عُلم موقع هذا النداء من الحسن والفائدة، فهو إيقاظ وتنبيه وهو من التعاون على البر والتقوى ومن الذكرى التي تنفع المؤمنين.
وكم حُرِمَ أناس إدراك فضيلة أول وقت الفجر، بل صلاة الفجر في وقتها بسبب غفلتهم أو استسلامهم للدَّعَة والكَسَل؛ ولذلك كان هذا النداء خيرًا وبرًّا وعملًا مشروعًا مشكورًا. ولا يدفعه ما ذكره صاحب المدخل فإنه في زمان غير زماننا، والناس اليوم في أشد الحاجة إلى الإيقاظ والعِظَة وتكرار التذكير، وفي المنع منه حرمان من خير كثير وثواب جزيل.(1/262)
وقد شهدنا أثر هذا النداء في الأحياء التي ينادى فيها، فكثير من أهلها رجالًا ونساءً يلبونه سِراعًا وينهضون للصلاة فيفوزون بفضل صلاة الفجر في أول وقتها، قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وفي الحديث: "من صلى البَرْدَيْن دخل الجنة" والبَرْدَان مثنى بَرْد بفتح الباء وسكون الراء وهما الغَدَاة والعَشِي يَعْني صلاة الفجر والعصر، وسُمِّيَتَا بَرْدَين؛ لأنهما تُصَلَّيَان في بَرْدَي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سَوْرَة الحر، والمراد الصلاة في أول وقتها.
وقد رأيت في سنة 1935م بالمدينة المنورة ـ على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ رجلَ الشرطةِ يَمُرُّ بالحوانيت في السوق، وأهله عادةً مشغولون بالبيع والشراء، وقد لا يسمعون الأذان للصَّخَب في الأسواق فينادي بأعلى صوته (الصلاةَ الصلاةَ) فيسارعون إلى ترك متاجرهم والذَّهاب إلى الحرم الشريف لإدراك صلاة الجماعة، فما أحسن ذلك وأجمله. وفقنا الله ـ تعالى ـ جميعًا إلى ما فيه الخير والفلاح. والله أعلم.(1/263)
حرمة تأخير الصلاة بلا عذر
(السؤال): إذا لم يُؤَدِّ المسلم الصلاة في أوقاتها بدون عذر ثم قضاها، هل عليه عقاب في الآخرة؟
(الجواب): أداء الصلاة في أوقاتها واجب وتأخيرها إضاعة لها. وقد فَسَّرَ عبد الله بن مسعود قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) بأنهم أَخَّرُوها عن وقتها. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: ما أعرف شيئًا مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. قيل: الصلاة! قال: أليس صَنَعْتُم ما صنعتم فيها؟ وقد قال ذلك حين أَخَّرَ الحَجَّاج الصلاة عن وقتها. وفي رواية أنه حين رأى منه ذلك أراد أن يكلمه فيها فنهاه إخوانه شَفَقَة عليه منه، فخَرَج ورَكِبَ دابته فقال في مَسِيرِه: والله ما أَعْرِف شيئًا مما كُنَّا عليه على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا شهادة أن لا إله إلا الله (أي في إمارات الشام والبصرة) فقال رجل: فالصلاة يا أبا حَمْزَة؟ فقال: قد جعلتم الظهر عند الغروب، أفتلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فمن أَخّرَ الصلاة عن أوقاتها أَثِمْ. ومن لم يُؤَدِّها حتى فاتت أثم إثمَين. فإذا قضاها تَحَلَّل من إثم الترك، وبَقِي عليه إثم التأخير، فإذا تاب إلى الله منه توبة نصوحًا واستغفر الله من ذنبه يزول عنه إثم التأخير ويؤوب بالعفو والمغفرة بفضل الله تعالى ومشيئته.
وقد بَيَّنَّا ذلك في فتوى أُخْرى حيث قُلْنَا ما نَصُّه: "من فاتته صلوات مكتوبة بلا عُذْر، قد ارتكب إثمين عظيمين: إثم تَرْكها وإثم تَأْخِيرها، والإثم الأَوَّل يَزُول بالقضاء، والثاني يزول بالتوبة بعد القضاء فإذا قَضَاها وتاب لا يُعاقَب على الترك ولا على التأخير ويُغْفَر له ويُعْفَى عنه فضلًا من الله ورحمة".(1/264)
وقد أشار إلى ذلك شارح التنوير في أول باب قضاء الفوائت، وقد جعل الله توبة العبد ماحية للذنوب فضلًا منه وكرمًا، ووَعَدَ ـ ووعده صدق ـ بقَبول التوبة من عباده والعفو عن سيئاتهم، وبأن الحسنات ومنها التوبة يذهبن السيئات، فالحمد لله حمدًا كثيرًا إذ فتح للمذنبين باب الرحمة والقبول ويَسَّر لهم سبيلهما، والله ذو الفضل العظيم.(1/265)
جَلسة القضاء ليست عذرًا لتأخير الصلاة
(السؤال): قَاضٍ يجلس للقضاء فتفوته الفريضة اختيارًا فَهَل تُعَدُّ الجلسة عذرًا شرعيًّا يُبيح له تأخيرها عن وقتها؟
(الجواب): يَحْرُم شرعًا تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر وليس من الأعذار الشرعية جَلْسة القضاء بل على القاضي أن يَرْفَع الجلسة ويؤديَ الفريضة في وقتها، ثم يعود إلى عمله، وعليه في التهاون في ذلك وهو في منصب القدوة إثمان عظيمان. ومثل القاضي في ذلك أشباهه من أرباب الأعمال. والله أعلم.(1/266)
وجوب قضاء الفوائت
(السؤال): فاتته صلوات مفروضة مدة من الزمن، وكان يحفظ القرآن فنَسِيَه بسبب تَرْكه القراءة لِمَرض اعتراه، فهل يتوقف سقوط الصلاة عنه على ذهابه إلى ساحة الجهاد، أو ينتظر حتى يَحْفَظ القرآن ثم يَقْضيَ الفوائت حَسَب اجتهاده في عددها؟
(الجواب): من فاتته صلوات وجب عليه قضاؤها وكلما أمكنه التعجيل كان خيرًا. ولا تسقط عنه الفوائت إلا بالقضاء، وعليه أن يتحَرَّى مقدارَها إن عَجَزَ عن تحديدها بالضبط. ولا يتوقف القضاء على حفظ القرآن كله، بل يكفي أن يحفظ منه مقدار ما تصح به الصلاة. والله أعلم.(1/267)
قضاء الفوائت أولى من أداء النوافل
(السؤال): شاب كان في غفلة عن الصلاة وقد مَنَّ الله ـ تعالى ـ عليه بالإقبال عليها فصلى منذ سنتين وأراد أن يقضي ما فاته فأفتاه بعض العلماء بأن يقضي ما مضى، وأفتاه آخرون بعدم قضائه، وقال له الأولون لا تُصَلِّ السُّنَّة حتى تقضي جميع الفوائت فما هو القول الفصل في ذلك؟
(الجواب): الحمد لله ـ تعالى ـ إذ وَفَّقَكَ وهَدَاك لقضاء ما فاتك من فرائض الصلاة، فإن من عليه فوائت يجب عليه قضاؤها فإذا قضاها زال عنه إثم الترك وبقي عليه إثم التأخير عن الوقت، فيزول بالتوبة إلى الله ـ تعالى ـ بعد القضاء كما نَصَّ عليه في الدر المختار. ونص الحنفية على أن مَنْ عليه فوائت يصلي السنن الرواتب والرغائب المستحبة، وأن قضاء الفوائت أهم وأولى من باقي النوافل كصلاة الليل مثلًا كما ذكره العلامة ابن عابدين في باب قضاء الفوائت وكتاب الصوم نقلًا عن الطحاوي والشُّرُنْبُلالي فاقض ما فاتك من فرائض الصلاة، واجمع بين القضاء وأداء هذه السنن والرغائب.
وفي مذهب المالكية قولًان: قول بجواز التَنَفُّل مطلقًا. وقول بتحريمه لاستدعائه تأخير الفرائض إلا السنن والشفع المتصل بالوتر وركعتي الفجر. والله أعلم.(1/268)
فوائت الصلاة لا تسقط
(السؤال): رجل فاتته فرائض الصلاة سنين كثيرة بلا عذر ثم تاب إلى الله ـ تعالى ـ فهل بهذه التوبة يَسْقُط عنه ما فاته من هذه الفرائض؟
(الجواب): من فاتته صلوات مكتوبة بلا عُذر قد ارتكب إثمين عظيمين إثْم تَرْكها وإثم تأخيرها، والإثم الأول يزول بالقضاء والثاني يزول بالتوبة ولكن بعد القضاء، فإذا قضاها وتاب لا يُعَاقب على التَّرْك ولا على التأخير ويُغفر له ويُعفَى عنه فضلًا من الله تعالى ورحمة.
وقضاء الفوائت واجب بالدليل الذي وَجَبَ به الأَدَاء على ما اخْتَارَه جمهور الحنفية، فما لم يعملها لا يخرج عن عُهْدَة الوجوب.
وإذا كثرت الفوائت بحيث زادت عن ستٍّ بخروج وَقْت السادسة على ظاهر الرواية عند الحنفية سَقَطَ الترتيب بَيْنَها في القضاء، فلم يُلْزَم أن يُصَلِّيَ ما قَدَر عليه فيها بترتيب أوقاتها، كما سَقَطَ الترتيب بَيْنَها وبين الفريضة الوقتية؛ فلَهُ أن يُصَلي الفائتة قبل الوَقْتِيَّة أو بعدها عند كثرة الفوائت.
وكذلك له أن يصلي مع كل فريضة وَقْتِيَّة فائتة مثلها قَبلها أو بعدها حتى يغلب على ظنه أنه قد قَضَى كل ما عَلَيْه من الفوائت. والله أعلم.(1/269)
حكم تارك الصلاة كسلًا
(السؤال): ما حكم من ترك الصلاة والصوم والزكاة عمدًا من غير عذر، تهاونًا كسلًا؟ وما عقابه شرعًا؟
(الجواب): هذه العبادات من مَبَاني الإسلام ودَعَائِمه، وقد فَرَضَها الله ـ تعالى ـ على عباده، فمن تَرَك الصلاة عامدًا بدون عُذر، تهاونًا وكسلًا، مع اعتقاد وجوبها عليه فقد أَثِم إثمًا عظيمًا، بدلالة القرآن والسنة وإجماع المسلمين.
وقد ذهب جماعة من السلف إلى أنه يَكْفُر بهذا الترك، وتَجْرِي عليه جميع أحكام المرتدين، ولو بِتَرْك صلاة واحدة عند أكثرهم، وهو مروي عن علي وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وأصح الروايتين عند أحمد، ووجه لبعض أصحاب الشافعي.
وذهب الجمهور من السلف والخلف، ومنهم مالك والشافعي، إلى أنه مع فِسْقِه لا يُحكم بكفره، وإن لم يَتُب يُقتل حدًّا كالزاني المُحْصَن، ولكنه يُقتل بالسيف.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وجماعة من أهل الكوفة، والمُزَنِي من الشافعية، إلى أنه مع فِسْقِه بهذا الترك لا يكفُر ولا يُقتل ولكن يُعَزَّر ويُحْبَس حتى يصليَ.
وأَدِلَّة المذاهب مَبْسُوطَة في المُطَوَّلَات ومنها "المغني" لابن قدامة و"المجموع" للنووي "ونَيْل الأوطار" للشوكاني.
ويُعْلَم من هذا أن جمهور الأئمة يَحْكُمُون بقتله حَدًّا أو كُفْرًا، وأن أَخَفَّ الأقوال في حُكْمِه أنه فاسق يُعَزَّر ويُحْبَس حتى يصليَ.
وأما تَرْك الصوم والزكاة عَمْدًا تهاونًا وكسلًا مع اعتقاد وجوبها فلا خلاف في أنه فِسْق وإِثْم عظيم يَجِب فيه التعزير الزاجر، ويأخذ الإمام الزكاة قَهْرًا من الممتنع.
وقد كثر تَهاوُن الناس في هذه العبادات، فلْيَعْرِفوا حُكْم الإسلام فِيهِم، وأنهم عند الله عُصَاة مذنبون. والله أعلم.(1/270)
فِدْيَة الصلاة والإيصاء بها
(السؤال): شخص مريض منذ سنين، لم يُصَلِّ أثناء مرضه، فهل يجوز أن يُخْرج فدية عما فاته من الصلوات؟ وإذا جاز فكيف تقدر؟
(الجواب): يجب على المريض أن يُؤَدِّيَ الصلاة متى قَدَرَ ولو بالإيماء برأسه، ولا يجوز له إخراج الفِدْيَة عن صلاته وهو حي. فإنْ تَعَذَّر عليه أَدَاؤُها ودَامَ ذلك أكثر من خمس صلوات سقطت عنه الصلاة لِعَجْزِه، ولو كان عقله سليمًا في ظاهر الرواية وعليه الفتوى، فلا يلزمه الإيصاء بالفدية لسقوط الصلاة عنه، والله أحق بِقَبُول العذر منه.
وأَمَّا إذا كان قادرًا على الصلاة ولو بالإيماء ولكنه لم يفعل حتى مات، فإنه يجب عليه الإيصاء بالفِدْيَة، فيُخرِج عنه وَلِيُّه ـ وهو من له وِلاية التصرف في ماله بوراثة أو وصاية ـ من ثلث تِرْكَتِه عن كل صلاة حتى الوِتْر نصف صاع من بُرٍّ أو دقيق، أو صاعًا من شعير أو تمر أو قيمة ذلك، وهي أنفع وأفضل (والصاع قَدَحَان وثلث بالكيل المصري) فإن لم يوصِ جاز له أن يَتَبَرَّع عنه وَلِيُّه بها.
وإذا صَلَّى عنه لا يَسْقُطُ الفرض؛ لأن الصلاة عبادة بَدَنِيَّة مَحْضَة لا تَقْبَل النيابة، "نعم" يجوز عندنا أن يصلي ويجعل ثواب صلاته للميت، فيزيد في حسنات الميت، ولكن ذلك شيء آخر غير سقوط الفريضة عن الميت.
وقد نَصَّ فقهاء الحَنَفِيَّة فيمن فاتته صلوات كثيرة، وأراد قضاءها ونسي كميتها أنه يعمل بأكبر رأيه، فإن لم يَجْتَمع له رَأْيٌ يَقْضِ حتى يَتَيَقَّن أنه لم يَبْقَ عليه شيء. وكذلك يعمل بالحساب في كمية الصلوات الفائتة وفِدْيَتها من بعد البلوغ.
كما نَصُّوا على أن الفِدْيَة إذا أُخْرِجَت من الذُّرَة تُحْتَسب الذرة بِحَسَب القيمة، فلا يُخرِجُ منها نصف صاع أو صاع، وإنما يُخرِجُ منها ما قيمته بحَسَب سِعْرِ البلد قيمة نصف صاع من بُرٍّ أو صاع من شعير. والله أعلم.(1/271)
عدم استطاعة القيام في الصلاة
(السؤال): هل يَجُوز أداء الصلاة الوقتية وقَضَاء الفوائت من قُعُود بسبب مرض روماتزمي يحدث آلامًا خفيفة في الركوع والسجود والقيام؟
(الجواب): مذهب الحنفية أنه إذا تَعَذَّر أو تَعسر على المريض كل القيام في الصلاة بسبب وجود ألم شديد كدوران رأس أو وجع ضرس أو صداع أو رمد أو روماتزم ونحو ذلك، سواء أكان حدوث ذلك في الصلاة أم قَبلَها، أو غَلَب على ظن المصلي بتجربة سابقة أو إخبار طبيب مسلم حاذق أو ظهور الحال زيادةُ المرض أو إبطاءُ البُرْء منه بسبب القيام في الصلاة ـ صلى قاعدًا بركوع وسجود إذا استطاعهما، ويقعد كيف تيسر له بغير ضرر للعذر.
وأما إذا قَدَرَ على بعض القيام بدون زيادة مشقة ولو مقدار التحريمة وقراءة آية، فإنه يقوم للصلاة بهذا القدر الممكن إلى أن يتعسر عليه القيام فيقعد.
وإن تَعَذَّر عليه الركوع والسجود، وقَدَرَ على القعود ولو مستندًا صلى قاعدًا بالإيماء للركوع والسجود برأسه، وجعل إيماءه للسجود أخفض من إيمائه للركوع. وكذا لو عجز عن السجود وقدر على الركوع كمن به جراحة في حلقه يومئ بهما. وإذا تعذر عليه القعود مع تعذر الركوع والسجود صلى بالإيماء برأسه مستلقيًا على ظهره أو على جنبه.
ولا فرق في ذلك كله بين الأداء والقضاء.
وظاهر أن الألم الذي يبيح الصلاة من قعود هو الألم الشديد دون الخفيف المحتَمَل فإن هذا لا يَسْقُط به ركن القيام. وهو فرض في الفرائض أداء وقضاء. وفي الواجبات دون النوافل، وكذلك يقال في الألم الذي يسقط به ركن الركوع والسجود. والله أعلم.(1/272)
حكم صلاة عاري الرأس
(السؤال): هل يجوز للرجل أن يصليَ وهو عاري الرأس؟
(الجواب): كثيرًا ما سُئِلت عن ذلك وكنت أجيب عنه شِفَاها، ولكن بعض المهتمين بالشؤون الدينية وتبصير الناس بالحق والهدى رغب إليّ أن أكتب الحكم في هذا الموضوع، فاختصرت القول وأوجزت في البيان لعدم الحاجة إلى أكثر من هذا المقال.
يجوز للرجل أن يصليَ مكشوف الرأس، فإنها ليست من العورة في حقه، ولذلك يكشف في الإحرام وجوبًا، غير أن الأفضل أن يصليَ على الصورة التي كان يفعلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ هي أفضل الحالات وأكمل الهيئات، ولم ينقل إلينا فيما نقَل الثقات من هَدْيه في صلاته ومَلْبَسه أنه صلى مَكْشوف الرأس مع توافر الدواعي لنقله لو فعله، ومن زعم ثبوت ذلك عنه فلا دليل لديه، والحق أحق أن يُتَّبَع، بل المنقول الثابت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان من عادته لبس العمامة أو القَلَنْسُوَة أو هما معًا في مجالسه وفي خطبه وفي استقباله الوفود وفي سلمه وحربه، فقد دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، وكانت عمامته تسمى "السحاب" أهداها لعلي بن أبي طالب، وكانت له عمائم أخرى. وسئل ابن عمر: كيف كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَعْتَمُّ؟ فقال: يدير كُور العمامة على رأسه ويفرشها من ورائه ويُرخي لها ذؤابة. وعنه رضي الله عنه: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اعتم سَدَل. أي أرخى طرف عمامته.
ووردت عدة أحاديث في إسدال طرفها وفي عَذَبَتها وفي مَوْضعها، من الوراء أو الجانب الأيمن أو الأيسر، وكلها ظاهرة في التزامه لُبْسَها في كل أحواله.
ولم يُنْقَل إلينا ولا عَرَف عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه جَلَسَ بين أصحابه، أو مشى في الطريق، أو خَطَبَ أو استقبل الوفود، أو غَزَا وهو حَاسِر الرأس دون عمامة أو قلنسوة، ومن ادَّعَى شيئًا من ذلك فعليه البرهان.(1/273)
وقد وَرَدَ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَمَّمَ عبد الرحمن بن عوف، وعمم علي بن أبي طالب يوم غدير خَمِّ بعمامة سَدَلَ طرفها على مَنْكِبه، وقال: "إن الله أَمَدَّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة مُعَمَّمِين هذه العمة" وقال: "إن العمامة سِيمَا الإسلام وهي حاجز بين المسلمين والمشركين" أي لأن المسلمين يتعممون بخلاف المشركين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذا بَيِّن في أن الفرق في الاعتقاد والعمل بلا عمامة غير حاصل، فلولا أنه مطلوب أن يُفَرَّق بين الفريقين بلبس العمامة لم تكن هناك فائدة" اهـ. وقال أبو بكر بن العربي: "إن العمائم سنة المرسلين" اهـ وخير المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله فتكون العمامة من سنته أيضًا.
وقد استن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك جَرْيًا على عادة أشراف العرب، حيث كانوا لا يجلسون في المجالس، ولا يَخْطُبون في المجامع، ولا يحضرون في المحافل إلا وعلى رؤوسهم العمائم. فكانت العمائم عندهم شعار الكرامة والعزة والسيادة والرياسة والمروءة والوقار. ولا زالت هذه العادة بَيْنَ العرب إلى وَقْتِنَا هذا، وسَرَت منهم إلى غيرهم من المسلمين في الممالك الإسلامية إلا من شَذَّ ونَأَى بجانبه عن تقاليد الإسلام المتوارثة والعادات العربية الصميمة، أَنَفَةً من العرب والعروبة واستكبارًا في الأرض وإحياءً لعصبية جنسية ممقوتة. بل لازلنا نشعر نَحْن المسلمين في بلادنا من أجل تأصل هذه العادة في نفوسنا بأن من يغشى مجالس العظماء والسادة عاريَ الرأس قد أخل بالمروءة وتجرد من الحياء، وكان حقيقًا بالعتاب بل بالعقاب (كان ذلك إلى وقت قريب).(1/274)
ولا شك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يَخْتَار لنفسه من الأحوال والأفعال والصفات والهيئات إلا أَشْرَفَها وأفضلَها وأعزَّها وأكرمَها. فلا يُعقَلُ بعد أن وصف العمائم بأنها سيما الإسلام، وأنها الفارق بين المسلمين والمشركين، وأنها شعار الملائكة يوم بدر ويوم حنين، وبعد أن عُرِفَ عنه لُبْسُها في سلمه وحربه، وفي مجلسه وعلى منبره ـ أن يدعها في صلاته، ولو جازت الصلاة بدونها؛ لأن الجواز مرتبة، والكمال والتأدب مرتبة أعلى وأعظم، وللرسول أعظم المراتب وأجلها.
من ذلك يظهر أن لبس العمامة عادة عربية قديمة، وسنة نبوية قويمة، وتقليد إسلامي متوارث، وعنوان على المروءة والشرف، فإذا كان مطلوبًا من المسلم إن يحافظ على هذه العادة والسنة في عامة الأحوال، لا جَرَمَ أن يكون طلب المحافظة عليها في الصلاة آكَد وأَلْزَم لتأكد الأدب فيها مع الله ـ تعالى ـ أكثر من غيرها.
والآن وقد تنوع غطاء الرأس من عمامة إلى طربوش إلى طاقية ونحوهما، كما تنوع في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عمامة إلى قلنسوة إليهما معًا، ينبغي أن يعلم أن مناط الأفضلية تَغْطِية الرأس بأي غطاء متعارَف، لِمَا في كشفه من سوء الأدب، وإن كانت الصلاة جائزة، سواء أكان الرأس مغطًّى أم مكشوفًا؛ فمن صلى مغطَّى الرأس فقد فعل الأكمل، ومن صلى عاريَ الرأس جَازَت صلاته، ولكن مع القصور عن مرتبة الكمال. والله أعلم.(1/275)
فتوى أُخْرَى في حكم الصلاة والرأس عارٍ
تَكَرَّر السؤال عن هذا الحكم (وأَجَبْنَا عنه) مِرارًا بأن صلاة الرجل ورأسه عارٍ صحيحة؛ لأن الرأس ليس بعورة بدليل وجوب كشفه في الإحرام ولكن يستحب أن لا يكون عاريًا. قال في البدائع: إن اللبس المستحب في الصلاة أن يصليَ الرجل في قميص وإزار ورداء وعمامة اهـ.
وأما المرأة فلابد من ستر رأسها في الصلاة؛ لأن رأسها عورة.
كما ذكرنا في فتوى أخرى أن الصلاة والرأس عارٍ مكروهة للرجل. في مذهبنا كراهة تنزيهية فلا تَبْطُل به الصلاة شرعًا ولكن فاته الأدب المُسْتَحَب.
وقلنا في فتوى أخرى: يجوز للرجل أن يصليَ عاريَ الرأس أو مع غطائه بأي غطاء جَرَى عُرْف جمهور المسلمين في ديار الإسلام بِلُبْسِه والتَّمَيُّز عمَّن سِوَاهُم من غير أهل الإسلام، وذلك يختلف باختلاف الأقاليم والأحوال ولكن الأفضل أداؤها مع ستر الرأس.
وأما المرأة فلا تصح صلاتها إلا بغطاء رأسها. قال في البدائع: وأما المرأة فالمستحب لها في الصلاة ثلاثة أثواب درع وإزار وخمار، فإن صلت في ثوب واحد متوشحة به يجزيها إذا سترت به رأسها وسائر جسدها سوى الوجه والكفين، وإن كان شيء مما سوى الوجه والكفين مكشوفًا فإن كان قليلًا جاز وإن كان كثيرًا لا يجوز اهـ ملخصًا. والله أعلم.(1/276)
حكم الصلاة في النعال
(السؤال): هل يجوز للمسلم دخول المسجد ونَعْلَاه في قدميه والصلاة بهما في كل وقت؟
(الجواب): في صحيح البخاري عن سعيد بن زيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك: أكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي في نَعْلَيه؟ قال: نعم. وقال الحافظ في الفتح: هو محمول كما قال ابن بطال على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة. والصلاة في النعال من الرُّخَص لا من المستحبات كما ذكره ابن دقيق العِيد؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة.
وعن أبي سعيد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلَمَّا انصرف (أي من الصلاة) قال لهم: "لم خلعتم؟" قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. فقال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، بولًا أو غائطًا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثًا فليمسحه بالأرض ثم لِيُصَلِّ فيهما" (رواه أحمد وأبو داود).
وقال النووي في المجموع بعد أن أَوْرَد هذا الحديث: إنه يُؤْخذ منه جواز المشي في المسجد بالنعل، وأن الصلاة في النعال الطاهرة جائزة اهـ.
ونقل الشوكاني عن صاحب منتقى الأخبار أنه يؤخذ من هذا الحديث أن دَلْكَ النِّعال يُجْزئ، وأن الصلاة في النعلين لا تكره اهـ.
وقال: إنه يؤخذ منه أيضًا جواز المشي في المسجد بالنعل اهـ.
وقد وَرَدَ مرفوعًا: "خَالِفُوا اليهود فإنهم لا يُصَلُّون في نعالهم ولا خِفافهم" فيُفِيد استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. فإذا كان أهل الكتاب اليوم يُصَلُّون في النعال فلا استحباب في صلاتنا بالنعال، ويبقى أنها رخصة فقط مقيدة بالطهارة من النجاسة، فيجوز لمن تحقق خلو نعليه منها أن يصليَ بهما في المسجد وغيره ما شاء من الفرائض والنوافل.(1/277)
ولا يصح اعتقاد عدم جواز الصلاة في النعال بعد ثبوت الجواز عن الشارع، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى مرة بغير نعال وأخرى بنعال طاهرة. غير أن الجائز شرعًا يستوي فيه طَرَفَا الفعل والترك، ورخصة الجواز يجوز العمل بها ويجوز تركها، ولنا مع اعتقاد الجواز وبيانه أن نُرَجِّح أحد الجائزين على الآخر بما يقتضيه ظَرْف الزمان وظرف المكان، وأَهْل الكتاب عامة يُصَلُّون الآن في معابدهم بالنعال والأحذية فنخالفهم في ذلك.
ولا شك في أن المساجد اليوم من حيث الفُرُش والنظافة غيرُها في العهود السابقة، والطرق غير الطرق، فإذا رَجَّحْنا للعامة الذين لا يَقِفُون عند الحدود ولا يفقهون مواقع القيودِ الدخولَ في المساجد والصلاة فيها بغير النعال لم نُجاوِزْ في ذلك أَصلًا شرعيًّا. والله أعلم.(1/278)
صلاة المريض
(السؤال): مَكَثْتُ في المستشفى مريضًا عدة أيام فاتتني الصلوات فيها، فهل يجب علي شرعًا قضاؤها؟ وهل إذا قضيتها أَخْرُج من عُهْدَة الوجوب؟
(الجواب): المنصوص عليه عند الحنفية أن من عجز عن أداء الصلاة بقيام وركوع وسجود تسقط عنه هذه الأركان؛ لأن العاجز عن الفعل لا يكلف به شرعًا، وكذلك من خاف زيادة المرض إذا أتى بها تسقط عنه دفعًا للضرر ومنعًا للحرج، إلا أنه إذا عجز عن الصلاة قائمًا يُصَلِّي قاعدًا بركوع وسجود وجوبًا، فإن عَجَزَ عنهما وَجَبَ أن يصليَ قاعدًا بالإيماء، وهو تحريك الرأس، ويجعل السجود أخفض من الركوع، فإنْ عَجَزَ عن القعود وجب أن يستلقيَ ويومئَ إيماء؛ لأن سقوط الأركان لأجل العذر والضرورة فيقدر بقدره.
وعن عمران بن الحصين قال: مرضت فعادني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "صل قائمًا، فإن لم تَسْتَطِع فقاعدًا، فإن لم تَسْتَطع فعلى جنبيك تومِئ إيماء".
ولو عجز عن الإيماء فلا شيء عليه، لِمَا رواه ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في المريض: "إن لم يستطع قاعدًا فعلى القَفَا يُومِئ إيماء، فإن لم يستطع فالله أَوْلَى بقبول العذر".
وإذا سقطت عنه الصلاة بحكم العجز حتى عن الإيماء، ومات في مَرَضِه لقيَ اللهَ ـ تعالى ـ ولا شيء عليه؛ لأنه لم يدرك وقت القضاء، وأما إذا بَرِئ وصح من مرضه، فإن كان المتروك صلاة يوم وليلة (خمس فرائض) أو أقل فعليه القضاء إجماعًا، وإن كان أكثر فالصحيح أنه لا يلزمه القضاء؛ لأن هذه الفوائت الكثيرة لم تَفُت بتضييعه مع القدرة فكان معذورًا، ولا يجب عليه القضاء منعًا للحرج؛ ولذلك سقط عن الحائض قضاء الصلاة اهـ (بتصرف من بدائع الصنائع).
فالسائل لا يعد معذورًا بسبب المرض بحيث لا يجب عليه قضاء ما فاته من الصلوات الكثيرة، إلا إذا عجز عن أدائها قيامًا وقعودًا وإيماء.(1/279)
فأما إذا عجز عن القيام ولكنه قَدَرَ على أداء الصلاة قاعدًا بركوع وسجود ولم يؤدها كذلك، فإنه لا يُعَدُّ معذورًا في الترك.
وكذلك إذا عجز عن أدائها قاعدًا بركوع وسجود، ولكنه قَدَرَ على أدائها قاعدًا بالإيماء ولم يُؤَدِّها كذلك، فإنه لا يعد معذورًا بالترك.
وإذا عجز عن أدائها قاعدًا بالإيماء، ولكنه قَدَرَ على أدائها مستلقيًا يومئ برأسه إيماء ولم يفعل فإنه لا يعد معذورًا بالترك.
ويجب عليه في كل ذلك قضاء ما فاته؛ لأنه قد تَرَك الصلاة مع القدرة على أدائها، بالوجه المرخص له به شرعًا ولا يُعَدُّ معذورًا؛ لأن المعذور الذي يسقط عنه القضاء هو من عجز عن الصلاة ولو بالإيماء. وأكثر الناس غافلون عن ذلك.
والقضاء مُوَسَّع يصح في أوقات العمر كله. ما عدا أوقات النهي الثلاثة: (عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول عن كبد السماء، وعند غروبها).
ويعد المريض عاجزًا عن القيام إذا وَجَد بسببه ألمًا شديدًا كدوران رأس، أو وجع ضرس، أو صداع، أو مَغَص، أو رَمَد، أو خاف لُحُوق ضَرَر بنفسه أو ماله من عدو آدمي أو غيره لو صلى قائمًا، أو كان في مكان لا يَسْتَطيع أن يَنْصِبَ قامته فيه، أو خاف زيادة المرض، أو إبطاء البُرء، أو سَيَلان الجُرْح لو صلى قائمًا، وذلك بتجربة سابقة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق أو ظهور الحال.
وكذلك يُعَدُّ عاجزًا عن القعود من يُسَبِّب له القعود شيئًا من ذلك أو يخشى منه نحو ما ذكر.
ومن وجب عليه القضاء إذا قضى فوائته خرج من عهدة الوجوب وفرغت ذمته مما شُغل بها شرعًا، ولم يُعاقَبْ عقاب تارك الصلاة في قول جمهور الأئمة، ولكن بَقيَ عليه إثم التأخير فيُرجَى أن يزول بالتوبة إلى الله أو بالحج المبرور، بِنَاء على القول بأنه يُكَفِّر الكبائر كما بَيَّنَّا ذلك في فتوى أخرى. والله أعلم.(1/280)
لا تَبْطُل الصلاة برؤية المصلي عَوْرَة سواه
(السؤال): إذا مَرَّ أمام المصلي شخص مكشوف العورة فَوَقَع بصر المصلي عليها هل تبطل صلاته؟
(الجواب): نص الحنفية على أن صلاته لا تبطل على القول المختار ولو كان النظر بشهوة وذلك لعدم إمكان التحرز عن ذلك. ومقابل المختار القول بفسادها، والقول المختار أوفق. والله أعلم.(1/281)
السُّقْطُ كالولد حُكمًا
(السؤال): هل من أَنْزَلَت سُقْطًا تُعَدُّ نفساء وتُحَرَّم عليها الصلاة؟
(الجواب): مذهب الحنفية أن السُّقْطَ كالوَلَد في الحكم إذا ظهر بعض خَلْقه كَيَدٍ أو رِجْل أو إصبع أو شعر أو ظُفر ونحوه فتصير به نُفَسَاء وتنقضي عدتها بوضعه، وإذا لم يظهر شيء من خَلْقه لا يكون له حكم الولد ولا تترتب على إسقاطه هذه الأحكام.
ومدة النفاس لا حَدَّ لأقلها، وأكثرها أربعون يومًا.
ولا تجوز الصلاة للمرأة ما دَامَت نُفَساء سواء وضعت ولدًا أو أنزلت سُقْطًا قد ظهر بعض خلقه. والله أعلم.(1/282)
حكم الصلاة في الطائرة
(السؤال): ما حكم الصلاة في الطائرة؟
(الجواب): حكم الصلاة في الطائرة هو حكم الصلاة في السفينة، إذ أن الطائرة سفينة الهواء، كما أن المركب سفينة الماء. وقد نص الحنفية على أنه لا تصح الصلاة في السفينة الجارية بالإيماء لمن يقدر على الركوع والسجود اتفاقًا بين الإمام وصاحبيه، وأنه تَصِح الصلاة فيها جالسًا بركوع وسجود لمن لا يَقْدِر على القيام لِعُذر كدوران الرأس عند الصاحبين وهو الأظهر. وقال في الحاوي القدسي: وبه نأخذ؛ لأن القيام ركن فلا يُترَكُ إلا لعذر مُحَقَّق. وذهب الإمام إلى جواز الصلاة في السفينة جالسًا من غير عذر؛ لأن الغالب في القيام دوران الرأس، والغالب كالمتحقَّق فأقيم مقامه، ونظيره: السفر أقيم مقام المشقة، والنوم أقيم مقام الحدث في نقض الوضوء، وقد عَلِمْتَ استظهار قول الصاحبين.
ولا فرق في ذلك بين صلاة الفرض والواجب والنفل.
ويلزم استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة، وكلما استدارت السفينة عنها يتوجه باستدارتها إلى القبلة في خلال الصلاة إن قَدَرَ على ذلك بدون مشقة وإلا سقط وجوب استقبالها.
وأما ما جاء في مَجْمَع الزيادات من أنه إذا عجز عن استقبالها يُمْسِك عن الصلاة حتى يقدر عليه، فالظاهر أنه محمول على حالة رجاء زوال العذر قبل خروج الوقت، لِمَا تقرر من أن قبلة العاجز جهة قدرته، وهذا كذلك، وإلا لزم تأخير الصلاة عن وقتها إذا استمر العذر حتى خرج الوقت، بل تأخير صلوات مفروضة كثيرة عن أوقاتها في بعض الأسفار في المحيطات التي يستمر فيها اشتداد الرياح والأعاصير ساعات كثيرة أو يومًا فأكثر.
وكذلك المسافر في الطائرة السابحة في الهواء يصلي فيها الصلوات المفروضة وغير المفروضة بركوع وسجود ـ وهو جالس إذا لم يُمْكِنه القيام ـ مستقبلًا القبلة إذا قَدَرَ على استقبالها وإلا سقط عنه فرض الاستقبال كما سَقَطَ عنه فرض القيام لعدم الإمكان.(1/283)
وظاهر أنه وهو مسافر يصلي الرباعية قَصْرًا. ويجوز له في قول بعض الأئمة الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمْع تَقْديم أو جمع تأخير ترخيصًا وتيسيرًا في السفر. والله أعلم.(1/284)
الصلاة على النبي من ذكر الله تعالى
(السؤال): هل الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصيغ المعروفة تُعَدُّ ذكرًا لله تعالى؟
(الجواب): ذكر العبد المؤمن ربه تمجيد وثناء، وتضرع ودعاء، وإنابة واستغفار، ومناجاة وسؤال، وتَفَكُّر في آلاء الله، وتدبر في صنع الله واستدلال بآياته على وحدانية ذاته، ثم هو حب ووِصَال، ثم شُهُود وفَنَاء. وكل ذلك يكون في السر وفي الجهر، وفي الخَلْوة والجَلْوة، وفي القيام والقعود، وفي الصلاة وغيرها، وفي تلاوة القرآن وسماعه، وفي سائر الشؤون والأحوال.
وما خَلا قلب من ذكر الله إلا تغشته ظلمات، وأَكَنَّتْه حُجُب، وأحاطت به وساوس الشيطان، فكان فيه الكفر والفسوق والعصيان.
وأما الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال القُشيري: هي من الله تعالى على نبيه تشريف له وزيادة تكرمة فهي رحمة خاصة. وقال أبو العالية: هي من الله ـ تعالى ـ ثناء عليه عند الملائكة، من الملائكة والناس دعاء له بزيادة الإنعام والإكرام.
قال تعالى: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ومعناه كما رُوي عن ابن عباس أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يُبارك لنبيه في أمره ويَزِيد في قَدْره، والملائكة يَدْعُون ربهم أن يرفع ذكره، وقيل: إن الله يترحم على النبي، وملائكته يدعون له اهـ والمعاني متقاربة.
وصلاتنا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلب من الله تعالى ودعاء له أن يزيد في إنعامه وإحسانه وفَضْله على رسوله المصطفى من خَلقه، وما من كمال إلا وعند الله أكمل منه، وما من إحسان إلا وَفَوْقَه إحسان، وذلك فَضْل الله يؤتيه من يشاء.(1/285)
ففي الصلاة على النبي ذكر لله ـ تعالى ـ إذ هو المدعو والمطلوب منه ذلك الفضل، وأما ذكر الله تعالى فقد يكون في ضمن الصلاة على النبي، وقد يكون مجردًا ليس معه صلاة على النبي نحو: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك. بل قد يكون بمجرد القلب كما في حالة التفكير في الآلاء والتأمل في الآيات. فبَيْن الذكر والصلاة عموم وخصوص مطلق يجتمعان في الصلاة على النبي، وينفرد الذكر في الثناء المحض. وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/286)
ذكر السيادة في التشهد
(السؤال): نرجو شرح حديث "لا تسيدوني أو لا تسودوني في الصلاة".
(الجواب): هذا ليس بحديث بل هو كَذِب. قال في شرح الدُّرِّ وحاشيته: ونُدِبَ السيادة أي ذكر كلمة (سيدنا) في الصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التشهد الأخير؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عين سلوك الأدب فهو أفضل من تركه كما ذكره الرملي الشافعي في شرحه على منهاج النووي، وأما حديث "لا تسودوني في الصلاة" فكذب وباطل لا أصل له، وكذلك حديث "لا تسيدوني" فمع كونه كذبًا فهو لَحن لغةً اهـ ملخصًا. والله أعلم.(1/287)
تخصيص إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالذكر في التشهد
(السؤال) من العراق يقول: يقول الله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فما بالنا في التشهد نخصص إبراهيم بالذكر دون غيره من الأنبياء؟
(الجواب): إن من خصائص هذه الأمة أنها تؤمن بجميع الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فلا تفعل كما فعل اليهود والنصارى، يؤمنون البعض ويكفرون بالبعض، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي في الإيمان بأنهم رسل من عند الله لعباده؛ ولذلك تشهد هذه الأمة على سائر الأمم السابقة يوم القيامة بأن رسلهم قد بَلَّغُوا الرسالة وأَدَّوا الأمانة كما قال تعالى: (لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).(1/288)
وتخصيص إبراهيم ـ عليه السلام ـ بالذكر في التشهد في الصلاة ليس من باب التفريق بين الرسل في الإيمان بهم كما لا يَخْفَى، وإنما هو لحِكْمَة تظهر مما سنذكره، مع الإيمان برسالته هو وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام. وذلك أن الله ـ تعالى ـ قد خَصَّه بمزيد من الفضائل والمناقب، فهو خليل الله، وأبو كثير من الرسل والأنبياء، فمن ذريته إسماعيل أبو العرب، وإسحق أبو إسرائيل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وكفاه فضلًا ورِفعة أنه أبو صفوة خلق الله وخاتم رسله محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ وأن الله قد استجاب دعاءه في قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) فلا يذكره أهل الملل جميعًا إلا بالجميل. وأمر الله تعالى نبيه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول لقومه: (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وأن يقتديَ به في قوله: (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنيفًا) ولم يتوافر ذلك كله لغيره من الأنبياء؛ ولذلك خُصَّ التشبيه به في التشهد دون غيره.(1/289)
وفي الدر المختار وحاشيته: وخُصَّ إبراهيم بذلك لأسباب ثلاثة: (الأول) سلامه علينا ليلة المعراج، حيث قال لنبينا عليه السلام: أَبْلِغ أمتك عني السلام. (الثاني) أنه سمانا المسلمين كما أخبرنا عنه ـ تعالى ـ بقوله: (هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) بناء على عود الضمير إلى إبراهيم، أي بقوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) والعرب من ذريته، إذ هم ذرية ابنه إسماعيل، فقصَدنا إظهار فضله مجازاة على هذين الفعلين منه. (الثالث) أن المطلوب صلاة يتخذ الله بها نبينا خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، وقد استجاب الله دعاء عباده فاتخذه خليلًا كما في حديث الصحيحين: "ولكنّ صاحبكم خليل الرحمن".
وهناك أسباب أخرى للتخصيص منها: أن ذلك لأبوته للأنبياء، والتشبيه في الفضائل بالآباء مرغوب فيه. ومنها: أنه لرِفعة شأنه في الرسل وكونه أفضل بقيتهم على الراجح اهـ بتصرف.
والمعنى في التشهد دعاء الله في كل صلاة أن يصليَ على محمد وعلى آله، والصلاة من الله رحمة كما صلى من قبلُ على أبينا إبراهيم وعلى آله، والتشبيه إنما هو في أصل الصلاة لا في قدرها، وإلا فالثابت أن القَدر الحاصل في الصلاة والبركة لنبينا ولآله أعلى من القدر الحاصل لإبراهيم وآله ـ عليهم السلام ـ كما رواه النسائي.
ومن ذلك يُعلم أنه لا علاقة بَيْن عدم التفريق بين الرُّسل في الإيمان بهم أجمعين وبيْن تخصيص إبراهيم بالذكر في التشهد دُون غيره من الرسل، وتُعْلَم الحكمة في هذا التخصيص الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(1/290)
صلاة الوتر
(السؤال): ما حُكْم صلاة الوتر؟ وما مِقْدار ركعاته؟ وما حُكم القنوت فيه في رمضان؟
(الجواب): اعلم أن الوتر واجب عند الحنفية وسُنَّة مؤكدة عند الأئمة الثلاثة. وهو ثلاث ركعات عند الحنفية. وركعة واحدة عند المالكية. وأقله ركعة عند الشافعية والحنابلة. وتجوز صلاته جماعة في رمضان دون سائر الشهور عند الحنفية. وتُنْدَب عند المالكية. وتُسَنُّ عند الشافعية والحنابلة.
وأمَّا القنوت فيه فواجب عند الحنفية في رمضان وغيره. وسُنَّة في رمضان وغيره عند الحنابلة. وسُنَّة في النصف الثاني من شَهْر رمضان عند الشافعية. وغير مشروع في الوِتْر في رمضان وغيره عند المالكية. والله أعلم.(1/291)
تحية المسجد
(السؤال): يَدْخل بعض الناس المسجد قَبْل الغروب بِبِضْع دقائق لصلاة المغرب جماعة، فيصلي تحية المسجد عَقِب دخوله وَقْت الغروب، فهل ذلك جائز شرعًا؟
(الجواب): يُكرَهُ تحريمًا عند الحنفية أداء تحية المسجد في أوقات ثلاثة: أحدها عند اصفرار الشمس وضَعفها حتى تَقْدِر العين على مقابلتها إلى أن تغرب، لِمَا أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: ثلاثة أوقات نهانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نصليَ فيها وأن نَقْبُرَ مَوْتانَا (يريد صلاة الجنازة لا الدفن): عند طلوع الشمس حتى ترتفع (أي قدر رمح أو رمحين) وعند زَوَالِها حتى تَزُولَ (تميل عن كبد السماء) إلى جهة الغرب، وحين تَضَيَّفُ (بفتح التاء والضاد المُعْجَمَتَين وتشديد الياء المثناة أي تتضيف وتميل) للغروب حتى تغرب. ومثل تحية المسجد ركعَتَا الوضوء، وركعَتَا الطواف، وسنة الفجر وقت طلوع الشمس، وكذلك الفرائض والواجبات التي لَزِمَت في الذمة قبل دخول هذه الأوقات المكروهة، فلا شيء من ذلك يصح فيها في مذهب الحنفية. أما الحكم عند الشافعية، فقد نص عليه الإمام النووي في المجموع حيث قال: "إن الأوقات التي تُكْرَه فيها الصلاة خمسة: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تَغْرُبَ، والأوقات الثلاثة السابقة. وإن الصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات الخمسة هي التي ليس لها سبب مُتَقَدِّم عليها، فأمَّا ما لها سبب متقدم عليها فلا كراهة فيها كقضاء فائتة، وصلاة منذورة، وصلاة جنازة، وسجدة تلاوة، وصلاة طواف.(1/292)
وأَمَّا تحية المسجد فلا كراهية في أَدَائِها في هذه الأوقات، إذا كان دخول المسجد لغرضٍ كاعتكاف، أو طلب علم، أو انتظار صلاة، ونحو ذلك من الأغراض، وأما إذا كان دخول المسجد لا لحاجة بل لمجرد صلاة التحية، فيُكْرَه على أَرْجَح الوجهين لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تَتَحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها" وهذا يتحرى بصلاته طلوعها وغروبها (ص170جـ4) والمراد بالكراهية كَرَاهَة التحريم على أَصَحِّ الوجهين (ص180جـ4)
ومن هذا يُعلم أن في حكم أداء تحية المسجد في هذه الأوقات كلها تفصيلًا عند الشافعية، وأن القول باستحبابها في أي وقت إنما هو في حال دخول المسجد لغرض آخر غير أدائها كما يظهر من نصوصهم. والله أعلم.(1/293)
في الأذان
(السؤال): هل يجوز تسكين الراء في لفظ (الله أكبر) في الأذان وإفرادها؟
(الجواب): رُوي الأذان موقوفًا، ويُسْتَحَبُّ عندنا أن يَقِفَ المؤذن على التكبيرة الأولى بالسكون، ويجوز أن يَصِلَها في التكبيرة الثانية، وفي هذه الحالة يَجُوز له إسكان الراء وتحريكها بالضم حركة إعراب وتحريكها بالفتح بنقل حركة اسم الجلالة في التكبيرة الثانية إلى الراء. وأَمَّا التكبيرة الثانية فلابد من إسكان رائها، وتحريكها خطأ. والله أعلم.(1/294)
الصلاة والتسليم بعد الأذان
(السؤال): ما حكم الصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقب الأذان؟
(الجواب): كثر السؤال قديمًا وحديثًا عن حكم الصلاة والتسليم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقب الأذان بالصيغة التي تَعَارَف أكثر المؤذنين في القرى والأمصار في بلادنا وغيرها منذ قرون.
وقد تجاذب الفقهاء القول في هذا الحكم من قديم لعدم ورود نص فيه من كتاب أو سنة، وانتصر كل فريق لرأيه، وأُلِّفَت فيه رسائل لم يَخْلُ بعضها من طُغيان القَلَم وحِدَّةِ الجدل. وسَرَى خلاف أهل العلم فيه إلى من لا يَعرفُ له من العامة وِرْدًا ولا صَدَرًا؛ فمنهم المتعصب المائق؛ ومنهم الناظر الحائر، والأمر أهون من ذلك بكثير، ولا مجال فيه لغير أهل العلم.
فمما لا خلاف فيه أن الصلاة والتسليم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مطلوبان شرعًا، وهما من خصائص هذه الأمة تكريمًا لرسولها وإعظامًا لمن أَذِنَ الله ـ تعالى ـ أن يَقْرِنَ اسمه باسمه في الأذان والصلاة تَشْريفًا له وإعلامًا بعظيم قَدْرِه عند ربه، وجعل الشهادة له بالرسالة شطر الإيمان وسبيل رضا الرحمن، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فلَم يُقَيِّد الأمر ـ وهو دَالٌّ على الوجوب ـ بحال دون حال ولا بوقت دون وَقْت، بل أَطْلَقَ ليأتيَ المُكلَّف بما يخرج به عن العهدة في كل حال ووقت، وقد ذهب جمع من فقهاء المذاهب ـ كما نقله الألوسي في تفسيره ـ إلى وجوب الصلاة والسلام كُلما ذُكِرَ أو سُمِعَ ذِكْره على الذاكر والسامع، صلى الله عليه وسلم.(1/295)
ولا خلاف في أن الأذان الشرعي في عهد النبوة والصدر الأول وما بعده إلى أواخر القرن الثامن كان خِلْوًا من ذِكْر الصلاة والتسليم عَقِبه، وإنما استُحْدِثَا في سنة 791هـ في أيام السلطان الناصر في عشاء ليلة الإثنين فقط، ثم فيها وفي يوم الجمعة، ثم في كل الأوقات ما عَدَا المغربَ في كل الأيام، كما في شَرْح الدر وحاشيته عن الحافظ السخاوي في "القول البديع" فهو أمر مستَحدَث بلا خلاف، ثم وَقَعَ الخلاف بين الفقهاء فيه هل هو بِدْعَة حسنة أو غير حسنة. وصَوَّب الحافظ السخاوي أنه بِدْعَة حسنة، ومثله شارح الدر من الحنفية والقطب الدردير من أئمة المالكية في شرحه الكبير على متن خليل، والعلامة الدسوقي في حاشيته عليه، وقد أفتى بذلك شيخنا الفقيه الحجة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية، رحمه الله.(1/296)
وفي النهاية لابن الأثير كما نَقَلَه صاحب اللسان: البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلالة. فما كان خلاف ما أَمَرَ الله ورسوله به فهُوَ في حَيِّز الذَّمِّ والإنكار، وعليه يُحْمَل حديث: "كل مُحْدَثَة بِدْعَة وكل بدعة ضلالة" وهي التي ينصرف إليها لفظ البدعة عند الإطلاق. وما كان واقعًا تحت عموم ما نَدَبَ الله ورسوله إليه وحَضَّ الشارع عليه فهو في حيز المدح، وعليه يُحمل ما ورد في حديث عمر في قيام رمضان: "نِعْمَتِ البدعة هذه" وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال الممدوحة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما وَرَدَ الشرع به؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جعل له في ذلك ثوابًا، فقال: "من سَنَّ سُنَّةً حسنة كان له أَجْرُها وأَجْرُ من عَمِلَ بها إلى يوم القيامة" وقال في ضد ذلك: "من سَنَّ سنة سيئة كان عليه وِزْرُها ووِزْر من عمل بها إلى يوم القيامة" وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله ورسوله به. ومن هذا النوع المحمود قول عمر في صلاة التراويح: "نعمت هذه البدعة" لَمَّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حَيز المدح وسماها بدعة ومدحها؛ لأن النبي لم يسنها، وإنما صلاها لياليَ في المسجد ثم تركها فيه ولم يواظب عليها ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر ـ رضي الله عنه ـ جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سماها بدعة. وهي على الحقيقة سنة لقوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بَعْدِي" وقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذَيْن من بَعْدِي أبي بكر وعمر" اهـ بتصرف وإيضاح.(1/297)
ويؤخذ من كلام الشاطبي في الاعتصام أن البِدْعة لا تُطْلَق حقيقة إلا على ما لم يشهد له أصل في الشرع، وهي بدعة الضلالة، ولا تُطْلَق البدعة على ما يشهد له أصل في الشرع إلا مجازًا، كجمع القرآن في المَصَاحف، وتدوين الدواوين في عهد عمر، وتدوين الحديث وعلوم العربية التي هي علوم آلية لفهم القرآن والسنة، وكذلك سائر المستحدثات التي يشهد لها أصل في التشريع الإسلامي.
فما اسْتُحْدِث من الصلاة والتسليم عَقِب الأذان إذا كان قد ورد في الشرع ما يشهد له لا يسمى بدعة إلا مجازًا، على رأي الشاطبي، ويُسَمَّى بدعة حسنة أو بدعةَ هُدًى على رأي الجمهور.
وإذا لم يَرِد في الشرع ما يَشْهَد له كان بدعة سيئة باتفاق. والذي نَمِيلُ إليه ونستظهره أنه بدعة حسنة تَنْدَرِج في أَصْلٍ عامٍّ شرعي، وهو الأمر بالصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير مقيد بوقت ولا حال ولا صيغة، فلا بأس من فعلها، ولا تقصير في تركها. والله أعلم.(1/298)
الأذان يوم الجمعة
(السؤال): اختلف الناس عندنا في الأذان الثاني يوم الجمعة، هل يكون على باب المسجد، أو يكون في داخله بين يَدَيِ الخطيب؟
(الجواب): كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعهد أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، أذانًا واحدًا، حين يجلس الإمام على المنبر للخطبة، فكان بلال يؤذن إذا جلس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان كذلك في عهد الخليفتين بعده، فلَمَّا كثر الناس بالمدينة وتباعدت المنازل، أمر عثمان ـ رضي الله عنه ـ بزيادة أذان آخر على الزَّوْرَاء، وهي كما فسرها الإمام البخاري: موضع بسوق المدينة.
قال الحافظ في الفتح: وتَبَيَّنَ أن عثمان أَحْدَثَه لإعلام الناس بدخول الوقت قياسًا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب اهـ.
وقال الإمام العيني في العمدة: إن هذا الأذان الذي أَحْدَثَه عثمان قد أحدثه باجتهاده وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعَدَم الإنكار، فصَارَ إجماعًا سكوتيًّا" اهـ.
وهو حُجَّة، وثَبَت الأمر على هذا وأَخَذَ الناس به في جميع البلاد، فكان في يوم الجمعة من ذلك الحين أذانان: أذان أول عند الزوال فوق المآذن ونَحْوِها للإعلام بدخول وقت الظهر، وأذان ثانٍ بين يدي الإمام للإنصات للخطبة.
وفي الفتح: وأَمَّا ما أَحْدَثَه الناس بعد ذلك قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى اهـ. وقوله قبل الجمعة أي قبل دخول وقتها وهو وقت الظهر وكان يحدث قبله بنحو نصف ساعة للاستعداد لصلاة الجمعة.
وأُطْلِق في أحاديث الباب على الإقامة للصلاة أَذَانٌ أيضًا تغليبًا، فقيل: "كان الأذان على عَهْد الرسول وأبي بكر وعمر أَذَانَيْنِ يوم الجمعة" والمراد كما فَسَّرَه ابن خزيمة "أذان وإقامة".(1/299)
كما سُمِّيَ ما زَادَه عثمان أذانًا ثالثًا، وإن كان هو الأول وُجُودًا في يوم الجمعة نظرًا إلى أنه زِيدَ على الأذانين الأَوَّلَيْن، وهما الأذان بيْن يدي الخطيب ثم الإقامة للصلاة بعد الخطبة.
وفي صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فلَمَّا كان عثمان، رضي الله عنه، وكَثُرَ الناس زَادَ النداء الثالث على الزوراء.
وقد رُوِيَ عن الزهري في هذا الحديث كما في الفتح أن بلالًا كان يؤذن إذا جلس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر، وروي عنه أن بلالًا كان يؤذن على باب المسجد، وفي رواية أبي داود: كان بلال يُؤَذِّن بَيْن يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على باب المسجد. ولا تَنَافِيَ بَيْن هذه الروايات كما هو ظاهر، فإن مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذ ذاك من الصغر بحيث كان النداء على بابه نداء بَيْن يدي الرسول لقربه من منبره. قال الحافظ: وكان هذا النداء للإعلام بدخول الوقت، ولَمَّا زِيدَ الأذان الأول كان للإعلام وكان الذي بين يَدَيْ الخطيب للإنصات، واسْتَقَرَّ العمل في ذلك العهد على جعل هذا الأذان بين يدي الإمام للإنصات.
ففي الهداية والدر: وإذا صَعِدَ الإمام على المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر، وبذلك جرى التوارث اهـ.
وفي المجموع للنووي نقلًا عن المحاملي قال الشافعي: أحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر اهـ. والله أعلم.(1/300)
فضل سورة الكهف
حكم قراءتها يوم الجمعة وسماعها من المذياع
(السؤال): في بعض الجهات يُحْضِرُ أهل المسجد يوم الجمعة (المذياع) لسماع القرآن الكريم منه بدلًا في القارئ وهو موجود. فهل في هذا حَرَج شرعًا؟
(الجواب): ينبغي أن يُعلَمَ أولًا أنه قد وَرَدَت آثار في فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ففي أحكام الأشباه والنظائر لابن نُجيم الحنفي: مما اختُصَّ به يوم الجمعة قراءة سورة الكهف فيه، وقال ابن عابدين: أي في يَوْمها وليلتها. والأفضل في أولهما مبادرةً للخير وحذرًا من الإهمال اهـ.
وفي زاد المعاد لابن القيم: من خَوَاصِّ يوم الجمعة قراءة سورة الكهف فيه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سَطَعَ له نور من تحت قدميه إلى عَنان السماء يُضيء له يوم القيامة، وغُفِرَ له ما بَيْنَ الجمعتين". وقال: الأشبه أنه من قول أبي سعيد الخدري. وقال النووي في المجموع: رواه البيهقي بإسناده عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا ورُوي موقوفًا عليه، وعن عمر ورُوي بمعناه عن ابن عمر: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غُفِرَ له ما بين الجمعة إلى الجمعة" وفي إسنادهما ضعف. ثم قال: ويستحب قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة وليلتها اهـ.
وحديث أبي سعيد ـ وإن قيل بوقفه عليه ـ مما ليس للرأي فيه مجال فيُحْمَل على السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/301)
فالمستَحَب قراءة سورة الكهف في أي وَقْت من يوم الجمعة وليلتها، لا في خصوص الوقت الذي قبل صلاتها، فإذا قُرئَت فيه بالمسجد تَأَدَّى بها المستَحَب، إلا أنه يجب أن يُعلَمَ أن أداءه بهذه الكيفية ليس من السنن المأثورة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هو أمر مستحدث؛ فكما يجوز قراءة سورة الكهف في هذا الوقت يوم الجمعة وليلتها يجوز قراءة غيرها من سور القرآن فيه، ويجوز تَرْك القراءة رأسًا والاشتغال في هذا الوقت بنحو الذكر والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل ذلك مستحب فيه كما ذكره النووي وغيره. فإذا قُرِئَت سورة الكهف يوم الجمعة في المساجد قبل الصلاة، مع العلم بأنها ليست سُنَّة مأثورة بل هي إِحْدَى الحالات الجائزة التي يُؤَدَّى بها هذا المستحب، فلا بأس بذلك.
ومثل القراءة السَّمَاع بل لَعَلَّه أَحَبَّ، فقد رُوِي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لابن مسعود: "اقرأ عليَّ القرآن" قلت: أَقْرَأُ عليك وعليك أُنْزِل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" (رواه البخاري) قال القَسطَلاَني: لأن المستمع أقوى على التَّدَبُّر ونفسه أَخْلَى وأَنْشَط لذلك من القارئ، لاشتغاله بالقراءة وأحكامها اهـ.
وقال النووي: وفي الحديث استحباب استماع القراءة والإصغاء إليها والتدبر فيها، واستحباب طلب القراءة من الغير ليستمع إليه وهو أبلغ في التدبر اهـ.
فمَن قرأ السورة ومن سَمِعَها فلَهُمَا الأَجْر الذي وَرَدَ في الحديث السابق.
إذا تَمَهَّد هذا فهل الأفضل أن يَسْمَع القرآن من القارئ بالمسجد أو من المذياع يؤتى به بداخل المسجد؟(1/302)
لا شك أن السماع من كلٍّ جائز، ولسماع القرآن في المذياع ما للسماع من القارئ من الفائدة والأثر في النفوس وما له من الحكم، فقد استظهرنا في فَتْوَى أخرى وجوب سجدة التلاوة على السامع من المذياع، وألاّ يَشْرَبَ الدُّخَانَ أثناء سَمَاع القرآن مِنْه، إذ لا فَرْقَ بين السماع منه والسماع من القارئ إلا بُعْد المسافة وقُربها بعدًا لا يتأثر به وصول الصوت.
على أن السماع من القارئ في المذياع قد يكون أوفى وأكمل إذا كان المذيع أجود قراءة وأحسن أداء وأعلم بفن التجويد.
إلا أنه لَمَّا كان استبدال المذياع بالقارئ يُفْضِي بعد حين إذا عَمَّ وانْتَشَر إلى قلة الحُفّاظ وانعدامهم لإهمالهم والانصراف عنهم، وفي ذلك ضَرَر عظيم وخَطَر جَسِيم، نَرَى أن الأفضل إسناد القراءة في يوم الجمعة وفي الحَفَلَات التي يُتَيَمَّن فيها بالذكر الحكيم، وفي ليالي رمضان إلى القراء المجيدين وعدم الاكتفاء في ذلك كله بالمذياع. والله أعلم(1/303)
حكم صلاة الجمعة
(السؤال): هل صلاة الجمعة سُنَّة أو فرض؟ أفيدونا أثابكم الله.
(الجواب): نَقَلَ ابن المنذر وابن العربي الإجماع على أن صلاة الجمعة فَرْض عَين على كل رجل مُكَلَّف. وقال ابن قدامة في المغني: أَجْمَعَ المسلمون على وُجُوبِها. وقال العراقي: إن مذاهب الأئمة الأربعة مُتَّفِقَة على أنها فَرْض عَيْن لكن بشروط شَرَطَها أهل كل مذهب. وروى ابن وهب عن مالك أن عزيمة الجُمُعة على كل من سَمِعَ النداء. وأما ما رواه عن مالك من أن شُهُودها سُنَّة فلأن مالكًا ـ رضي الله عنه ـ يُطْلِق السُّنَّة على الفرض، والمراد أن شهودها من سنن الإسلام وشرائعه.
والدليل على فرضيتها قوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) وحديث طارق بن شهاب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" رواه أبو داود.
وطارق بن شهاب صحابي، وإن لم يَصِح له سَمَاع فحديث مرسل، ومرسل الصحابي حُجَّة عند الجمهور، وقد شَدَّ من عَضُد هذا الحديثِ حديثُ حَفْصَة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "رواح الجمعة واجب على كل محتلم" وما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأةً أو مسافرًا أو عبدًا أو مريضًا" وفي الروايتين دليل على عدم وُجُوب الجمعة على النساء (راجع نَيْل الأَوْطَار للشَّوْكَاني والمُغْني). والله أعلم.(1/304)
وقت صلاة الجمعة
(السؤال): بمعسكرات التَّلِّ الكبير للجيش البريطاني المُحْتَلِّ حوالي خمسة آلاف عامل مسلم وفي يوم الجمعة يؤدون صلاة الجمعة في الثانية بعد الظهر؛ لأن السلطة الإنجليزية لا تَسْمَح لهم بالصلاة إلا بعد انتهاء العمل في هذه الساعة، فهل هذه الصلاة صحيحة؟
(الجواب): وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة الظهر، وهو يمتد من زوال الشمس من كبد السماء إلى بلوغ ظل كل شيء مِثْلَيه سِوَى فيء الزوال، ووقت العصر منه إلى الغروب وهذان الوقتان هما المُبَيَّنَان في النتائج الفلكية بالديار المصرية التي يظهر منها أن الساعة الثانية بعد الظهر هي من وقت الظهر الشرعي فيَصِح أداء فريضة الجمعة فيها بشرط أن تَتِم الصلاة قبل دخول وَقْت العصر. وإن كان الأفضل أداءها في أول الوقت كما كان يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أن جميع العمال أو غالبهم في هذه المعسكرات وفي مقدمتهم المتعهدون بهم طالبوا السلطة الأجنبية بإعفائهم من العمل أول وقت الجمعة ليتمكنوا من أداء هذه الفريضة الدينية فيه وإلا أضربوا عن العمل داخل المعسكرات طُول هذا الوقت ـ لخضعت لإرادتهم ولم تَجِد بُدًّا من إجابتهم احترامًا لشعورهم الديني العام، والأجنبي لا يَحترم إلا بالقوة ولا يَخْضَع إلا لَهَا ولا يقويه ويغريه إلا التفرق والتخاذل، والوحدة والتضامن أعظم قوة وأقوى عُدَّة. وحاجتهم الشديدة إلى العمال المصريين تدعوهم إلى إجابة هذا الطلب ما دام إجماعيًّا أو غالبيًّا. والله أعلم.(1/305)
هل المسجد شرط في صحة الجمعة؟
(السؤال): أراد أهل بلد تجديد مسجدهم فهَدَمُوهُ ليقيموا بَدَلَه وليس فيها مسجد سواه، فهل يتركون أداء الجمعة في مُدَّة إقامة البناء لعدم وُجُودِ مسجد أو يَصِحُّ أن يقيموها في غير المسجد؟
(الجواب): ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يشترط لصحة الجمعة أداؤها في المسجد، قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ولا يشترط لصحة الجمعة البنيان، بل يجوز إقامتها فيما قَارَبَه من الصحراء وبهذا قال أبو حنيفة لِمَا رواه كعب بن مالك قال: أسعد بن زرارة أول من جمَع بنا في هَزْم النبيت في حَرَّة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات" رواه أبو داود (الهَزم بسكون الزاي: ما اطمأن من الأرض. وبنو بياضة: قبيلة من الأنصار. والحرة: أرض ذات حجارة سُود. ونَقِيع الخَضَمات بفتح الخاء والضاد المعجمتين: هو موضع ببلاد مُزَيْنَة على ليلتين من المدينة وهو الذي حَمَاه عمر لنَعَم الفَيء وخَيْل المجاهدين فلا يَرْعَاه غيرها) وقال عطاء: وكان ذَلِكَ بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. والنقيع: بَطْن من الأرض يُسْتَنْقَع فيه الماء مُدَّة، فإذا نَضَبَ نَبَتَ الكَلَأُ، وحَرَّة بني بياضة: قرية على ميل من المدينة. وكان الأصل عَدَمَ اشتراط ذلك، ولا نَصَّ في اشتراطه ولا معنَى نَصٍّ اهـ.
وفي المجموع للنووي الشافعي: ولا يشترط إقامتها في مسجد، ولكن تجوز في ساحة مكشوفة بشرط أن تَكون داخلة في القرية أو البلدة مَعْدُودة في خُطَّتها، فلو صَلَّوْها خارج البلدة لم تَصِحَّ بلا خلاف سواء كانت بقرب البلدة أو بعيدًا منها، وسواء صَلَّوْها في ركن أم ساحة، ولو انهدمت أَبْنِيَة القرية أو البلدة فأقام أهلها على عمارتها لزمتهم الجمعة فيها سواء كانوا في سقائف ومَظَالَّ أم لا؛ لأنه مَحَلُّ الاستيطان. قال القاضي أبو الطيب: ولا يُتَصَوَّر إقامة الجمعة عند الشافعي في غير بِناء إلا في هذه المسألة.(1/306)
أما المالكية فذَهَبُوا كما في الشرح الكبير إلى أن المَسْجِدِيَّة شرط وجوب وصحة معًا أو شرط صحة فقط، ولا تَصِح في بَرَاحٍ أُحِيطَ بأحجار من غير بناء؛ لأنه لا يسمى مسجدًا إذ المسجد ما له بناء وسقف على المعتَمَد، فلا يَصِح لأهل قرية انهدم مسجدهم وبقيَ بلا سقف أن يُؤَدُّوا الجمعة فيه إلا على القول الأول.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: قال أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء إن المسجد ليس شرطًا لإقامة الجمعة؛ إذ لم يُفصَّل دليل وجوبها، وأَيَّدَه بما رُوي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى الجمعة في بطن الوادي، وقد رَوَى ذلك أصحاب السِّيَر ومنهم ابن سعد اهـ ملخصًا.
ومن هذا يُعلَمُ أن أهل هذه القرية يَلْزَمُهُم أداء الجمعة في الأرض البَرَاحِ التي في قريتهم على بعض المذاهب، وعلى ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الجمعة على أهل القرى أيضًا كالأمصار، وهذا هو الأحق بالاعتبار حتى لا تُهْجَر إقامة الجمعة بها. والله أعلم.(1/307)
صلاة الجمعة خارج المسجد
(السؤال): ذَهَبْنَا لصلاة الجمعة في مسجد صغير من مَسَاجد السكة الحديدية ووجدنا المكان مزدحمًا فاخَتَرْنا جزءًا من الأرض برصيف المحطة خارج حائط المسجد من الجهة البحرية، وجلسنا للصلاة، ونحن نسمع صوت الإمام ولكنا لا نَرَاهُ وأمامنا رصيف المحطة المتَخَذ طريقًا لسير الجمهور، وأَحْرَمْنَا لها، وبعد القراءة والركوع والسجود أَدْرَكْنَا من جلوس الإمام للتشهد أننا مسبوقون بركعة فمِنَّا فَرِيق أَتَى بركعة أُخْرَى وأَتَمَّ الجمعة، ومنا فريق سَلَّم مع الإمام ثم صلى الظهر أربع ركعات، فهل الصلاة في هذا المكان صحيحة؟ وهل الصواب ما فعله الفريق الأول أو الفريق الثاني؟
(الجواب): الظاهر من السؤال أن المكان الذي صَلَّى فيه السائل ورفاقه الجمعة ملاصق للمسجد وواقع بجوار حائطه، وأنهم يَسْمَعون فيه صوت الإمام ويعلمون انتقالاته في الصلاة، وإذا كان كذلك فاقتداؤهم به صحيح عندنا، ولا يُعَدُّ الحائط حائلًا مانعًا من الجواز ما دام لم يشتبه عليهم أمر الإمام، على ما صَحَّحَه العلامة الشُّرُنبُلالي في حاشيته على الدرر استنادًا إلى ما في البرهان: (لو كان بينهما حائط كبير لا يمكن الوصول منه إلى الإمام، ولكن لا يشتبه حاله عليه بسماع أو رؤية لانتقالاته، لا يمنع صحة الاقتداء في الصحيح، وهو اختيار شمس الأئمة الحُلواني) اهـ.
وقد قال شمس الأئمة فِيمَن صلى على سَطْح داره المتصلة بالمسجد مقتديًا بإمام المسجد: إنه يجوز؛ لأنه إذا كان متصلًا بالمسجد لا يَكُونُ أشد حالًا من مَنْزِل بينه وبين المسجد حائط. ولو صلى رَجُل في مثل هذا المنزل وهو يَسْمَع التكبير من الإمام أو المكبر يجوز فكذا القيام على السطح اهـ.
فالعبرة بعدم الاشتباه دون اتحاد المكان على ما صححه الشُّرُنبُلالي. وفي هذا رخصة عظيمة وتيسير على الناس في حالة ضيق المساجد يوم الجمعة.(1/308)
وذهب المالكية ـ كما في الشرح الصغير ـ إلى جواز الجمعة في الطريق المتصلة بالمسجد من غير فصل بنحو بيوت أو حوانيتَ بدون كراهة عند ضيق المسجد واتصال الصفوف اهـ فإذا اتصل أحد الصفوف بالمسجد بالصف خارجه صحت صلاتهم وصلاة من وراءهم خارج المسجد مع وجود حائط المسجد.
وذهب الشافعية ـ كما في المجموع ـ إلى جَوَازِ الاقتداء إذا كان بَيْنَ الإمام والمأموم جِدَار المسجد والباب النافذ بَيْنَهما مَفْتُوح، فوَقَفَ المأموم في قُبَالَتِه، فلو لَم يَكُن في الجدار باب أو كان ولم يكن مفتوحًا أو كان مفتوحًا ولم يَقِف في قُبَالَتِه بل عَدَلَ عنه، فوجهان؛ قيل: لا يَصِحُّ الاقتداء لِعَدَم الاتصال. وقِيلَ: يَصِحُّ ولا يَكُونُ الحائط حائلًا سواء كان قُدَّام المأموم أو عن جنبه اهـ مُلَخَّصًا.
وذهب الحنابلة ـ كما في المغني ـ إلى أنه لو كان بَيْنَ الإمام والمأموم حائل يمنع رؤية الإمام أو مَن وراءه ففيه روايتان، إحداهما لا يَصِح الاقتداء به، والأخرى يَصِح.
وقد سئل الإمام أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس.
وسئل عن رجل يصلى الجمعة وبينه وبين الإمام سترة فأجاب بالصحة إذا لم يقدر على غير ذلك.
بل قال ابن قدامة: إذا كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن ففيه روايتان. ورجح القول بالصحة، وقال إنه مذهب مالك والشافعية اهـ ملخصًا.(1/309)
وإذا كانت الصلاة في المكان المسؤول عنه صحيحة فحُكْمُ من سُبِقَ بركعة في صلاة الجمعة أنه يأتي بأخرى يَقْرَأ فيها ويركع ويسجد سجدتين ويَتَشَهَّد في القعود ثم يُسَلِّم، وبذلك يكون مدرِكًا للجمعة، فعن أبي هريرة مرفوعًا: (من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة) رواه الأثرم، وابن ماجه ولفظه: (فلْيُصَلِّ إليها أُخْرَى) وقال في المغني: أكثر أهل العلم يَرَوْن أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مُدْرِك لَهَا يُضِيفُ إليها أخرى وتُجْزِيه. وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وأنس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعلقمة، والأسود، وعروة، والزهري والنخعي، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحق، وأبي ثور، والحنفية اهـ. وهو مذهب أحمد. ومثله في المجموع للنووي، فالصواب ما فعله الفريق الأول دون الثاني. والله أعلم.(1/310)
حكم الخطبة باللغة العامية وبلغة غير عربية
(السؤال): هل يجوز في خطبة الجمعة أن تكون باللهجة العامية المعروفة الآن في مصر لتقربيها من أذهان العامة بدلًا من اللغة الفصحى؟
(الجواب): شُرِعَت خطبة الجمعة للوعظ والتذكير وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها في الدين والدنيا، ولا يَتِمُّ ذلك على الوَجْه الأكمل إلا إذا كانت باللغة التي تَنْفَعل بها النفوس، وتتأثر المشاعر، وتَتَحَرَّك أوتار القلوب، وكُلَّمَا كان الخطيب أَفْصَحَ بيانًا وأبلغ مقالًا وأَجْزَلَ كلامًا وأحكم أسلوبًا كان أشد للنفوس أسرًا وللقلوب امتلاكًا وللأسماع استرعاء.
فالشعوب الإسلامية العربية وما ماثلها فقهًا في اللغة، وإعرابًا في المقال، وعلمًا بمَناحي أساليبها لا تَلْتَذُّ بها أسماعهم ولا تَهْتَزُّ لها قلوبهم إلا إذا كانت عربية فصيحة بليغة بينة، على سَنَنِ خطب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخطب الفصحاء من أهل اللسان والبيان، فالسنة في خطبة الجمعة لهؤلاء، وخطيبهم منهم، أن تكون كما قال الإمام النووي باللغة الفصحى بليغة مرتَّبة مبيِّنة من غير تَمْطِيط ولا تقعير، وألاّ تكون ألفاظها مُبْتَذَلَة مُلَفَّقَة فإنها لا تَقَع في النفوس مَوْقعًا كاملًا وألا تَكُون وحشية؛ لأنه لا يَحْصُل مَقْصُودها، بل تُختار لها ألفاظ جَزْلَة مَفْهُومة، وتُكْرَهُ الكلمات المشتركة (أي التي تحتمل معانيَ مختلفة) والبعيدة عن الأفهام، وما يَكُدُّ عقولَ الحاضرين اهـ. وقال ابن قدامة: ويُسْتَحَبُّ أن يكون الخطيب في خطبته مُتَرَسِّلًا مُبِينًا مُعْربًا، لا يَعْجَل فيها ولا يَقْطَعها. ا.هـ.
وقال الشوكاني: يُسْتَحب للخطيب أن يُفَخِّم أمر الخطبة ويرفع صوته ويُجْزِل كلامه اهـ.
وقال ابن القيم في الهدي النبوي: كانت خُطَبُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلماتٍ جامعاتٍ اهـ. وهي ما جَمَعَت بين وَجَازَة اللفظ وبلاغته، وفخامة المعنى وضخامته.(1/311)
فهذه أقوال جماهير الأئمة من الشافعية والحنابلة وغيرهم فيما يُسَنُّ أن تكون عليه خطبة الجمعة.
وينبغي أن يكون ذلك بالنسبة للشعوب الإسلامية العربية وما ماثلها فيما أسلفناه، فتكون بالفصحى إحياءً لهذه السُّنَّة التي دَرَجَ عليها السلف الصالح ولم يُؤْثَر عنهم خلافها، وتمكينًا للغة العربية في الألسنة والأسماع والقلوب والأذواق، ونَشْرًا لألفاظها الفصيحة وأفانينها العجيبة وأساليبها البَدِيعَة، وفي ذلك تَقْرِيب للعامة من لغة القرآن، وتوجيه إلى التحدث بها بَدَلَ اللهجات العامية التي يتخاطب بها أَبْنَاء العروبة في مختلف الأقطار.
وإذا نُظرَ للأمر من حيث الأَثَر والثَّمَرَة فإن العامة وإن أَلِفُوا العامية في مخاطباتهم ومحاوراتهم يفهمون الفصحى جيِّدًا وتَقَعُ في نفوسهم أَحْسَن موقع، ويَوَدُّونَ لو استطاعوا التحدث بها والإبانة عن أغراضهم بألفاظها وأساليبها، ويَسْتَهْجِنُون خطبة الجمعة بالعامية، ويَزْوَرُّونَ عن الخطيب إذا جَنَحَ إليها واتَّبَعَ سبيلها، ولا يجدون في نفوسهم أثرًا لِوَعْظِه ولا لَذَّةً في سَمَاعِ قوله، وكان لديهم بالعامي أشبه منه بالعالم.
أما الشعوب الإسلامية التي لا تَعْرِف العربية أصلًا أو لا تُحْسِن الإبانة بها فمن العبث أن يُلْزَمُوا بسماع الخطبة من خَطِيبِهم باللغة العربية وهم لا يَفْقَهُونَهَا، ومن الخير لهم الذي قَصَدَه الشارع بخطبة الجمعة أن تكون باللغة التي يفهمونها ويُدْرِكُون معانيَها، وإن كان عليهم أن يتعلموا لغة القرآن لِيَقِفُوا عليه، ويَنْهَلُوا منه، ويَسْتَقُوا من مَعِينِه، إذ لا يمكن فهم مراميه والإحاطة بمعانيه إلا بلغته التي نَزَلَ بها، وهو دستور الإسلام، وإليه المرجع في الأحكام.(1/312)
لذلك ذهب الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله عنهم ـ إلى أن الخطبة في حالة العجز عن العربية (أي من الخطيب والسامعين) تكون بلغة أخرى وهي التي يَفْهَمها السامعون. بخلاف حالة القدرة على العربية، فإنه يشترط أن تكون الخطبة بها. ولا شك أن فيما ذَهَبَا إليه تيسيرًا على الناس، وتوفيقًا حَسَنًا ورعاية لسائر الشعوب الإسلامية على اختلاف لغاتها، وتحقيقًا لحكمة الشارع في تشريع خطبة الجمعة لجماعة السلمين.
ومن أجل هذا حَمَلْنا عبارات النووي وابن قُدَامَة وأضرابهما على ما إذا كانت الجماعة والخطيب من الشعوب التي تَعْرِف العربية، وصَرَفْناهَا عن عُمُومِها تفاديًا من إلقاء الخطبة بالعربية لمن لا يَعْرِفها وهو العَبَث الصريح.
بَقِيَ بعد هذا مذهب المالكية ومذهب الإمام أبي حنفية.
أَمَّا المالكية فقد شَرَطُوا في خُطْبة الجمعة أن تكون بالعربية، وعَمَّمَه بعض فقهائهم فقال: ولو كان السامعون لا يعرفون العربية، فإذا لم يَكُنْ فيهم من يُحْسن الإتيان بالعربية لم تَلزمهم خطبة الجمعة والعيدين اهـ من الشرح الكبير وحواشيه.
وفي ذلك نظر ظاهر في حالة جهل السامعين بالعربية، فإن الأولى أن يَخطُبَهم الخطيب بلغتهم وألاّ يَدَعَ الخطبة رأسًا.
وأما أبو حنيفة فقد أجاز للخطيب أن يَخطُبَ بغير العربية ولو كان قادرًا عليها.
وفيه نظر أيضًا، فإنه لا موجِبَ للإعراض عن لغة القرآن وإلقاء الخطبة بغيرها في حالة القدرة على الخطابة بالعربية وفَهْم السامعين لها.
وظاهر أنه متى أُطْلِقت كلمة (العربية) في هذا المَقَامِ فالمراد بها اللغة الفصحى دون اللهجة العامية للعرب.(1/313)
فالخلاصة من ذلك أن الخُطبة في بلادنا تكون باللغة الفصحى لا العامية، وفي الشعوب غير العَرَبِيَّة تكون بلغاتها المعروفة، وأن الأَجْدَر بعلمائنا الخطباء أن يُقِيمُوا للفُصْحَى بناءها ويَنْصِبُوا أعلامها ويُحْيُوا دَارِسها ويَنْشُرُوا ألفاظها وأساليبها، وهم أَجْدَر الناس بذلك وأَحَقُّهم به، وليس يَلِيقُ بهم أن يَنْزِلوا في خطبهم إلى دَرَكِ العامية وسَقَطِها. والله المستعان.(1/314)
هدي النبوة في خُطْبَة الجمعة
(السؤال) من (المنصورة): نَرْجُو بَيَان هَدْي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبة الجمعة وما تَوَارَثه المسلمون فيها بعده، ومذاهب الأئمة فيها، وحكم الدعاء للسلطان.
(الجواب): اعلم أن الكلام في خطبة الجمعة في موضعين:
أحدهما في بيان حكمها من الوجوب أو الندب.
والثاني في بيان كونها خطبتين بينهما جلسة خفيفة أو خطبة واحدة.
فأمَّا حُكْمُها فقد ذَهَب الأئمة الأربعة إلى وُجُوبها وأَنها شرط لصحة الجمعة ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري وداود الظاهري ومن تَبِعَه، فقد ذهبوا إلى أنها مندوبة فقط، وإليه ذهب ابن حزم، فقال: ليست الخطبة فرضًا، فلو صَلَّاها إمام دون خطبة صلاها ركعتين جهرًا ولابد، وإنما يستحب له أن يخطب خطبتين على أعلى المنبر مقبلًا على الناس بوجهه يَحْمَد الله تعالى ويصلي على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويُذَكِّر الناس بالآخرة ويأمرهم يما يَلْزَمُهُم في دينهم. انتهى من المُحَلَّى.
ودليل الجمهور على وجوب الخطبة قوله تعالى: (يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) فإن الخطبة ذكر الله فتدخل في الأمر بالسعي إليه وذلك دليل وجوبها وكونها شرطًا لانعقاد الجمعة. وما رُوي عن عمر وعائشة أنهما قالا: إنما قُصِرَت الصلاة لأجل الخطبة. فأَخْبَرَا أن شطر الصلاة سَقَطَ لأجل الخطبة وشطر الصلاة كان فرضًا فلا يسقط إلا لتحصيل ما هو فرض. ولأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يترك الخطبة للجمعة في حال، وقد قال كما في صحيح البخاري: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فصلاة الجمعة مأمور أن تكون على الهيئة التي صَلَّاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو لم يصلها إلا بالخطبة قَبْلها.
وناقش ابن حزم في المحلى هذه الأدلة وخَلَصَ منها إلى القول بالندب، وإليه ذهب الشوكاني في نَيْلِ الأوطار.(1/315)
وعلى القول بالوجوب ـ وهو المنصور ـ هل الواجب خطبتان أو خطبة واحدة؟
ذهب الشافعية ـ كما في المجموع للنووي ـ إلى أن تَقَدُّمَ خطبتين شرط لصحة صلاة الجمعة لحديث: "صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" ولم يُصَلِّ الرسول الجمعة إلا بخطبتين، ولِمَا في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما.
ويجب في كل منهما حَمْد الله ـ تعالى ـ والصلاة والسلام على رسول الله، والوصية بتقوى الله وطاعته واجتناب مَعْصِيَته، ويجب قراءة آية من القرآن في إحدى الخطبتين على ما ذكره الشافعي في "الأم" ويستحب كونها في الأولى، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية ويستحب فيها الدعاء لأئمة المسلمين ووُلَاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش المسلمين اهـ ملخصًا.
وذهب الحنابلة كما في المغني إلى أنه يشترط للجمعة خطبتان؛ لأنهما أُقِيمَتَا مَقَام الركعتين. فكل خطبة مكان رَكعة والإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الركعتين. ويشترط فيهما حَمْد الله ـ تعالى ـ والصلاة والسلام على رسوله، والموعظة، وقيل بوجوبها في الثانية، وأمَّا قِرَاءة آية من القرآن فقِيل شَرْط لكل واحدة من الخطبتين وقيل في إحداهما. ويستحب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات اهـ ملخصًا.
وذهب المالكية ـ كما في الشرح الصغير والكبير وشرح الخرشي ـ إلى أن الخطبتين شرط لصحة الجمعة قَبْلَها في المشهور فلو ترَك إحداهما لم تَصِحَّ الصلاة، ومقابل المشهور ما رواه ابن المَاجَشَون أنهما سُنَّة (وهذا يوافق مذهب ابن حزم) فاتَّفَقَ الأئمة الثلاثة على عدم صحة الجمعة بخطبة واحدة. أما الحنفية فقد ذَهَبُوا إلى أن الخطبة شَرْط لصحة الجمعة كما بَيَّنَّاه سابقًا.(1/316)
والسنة أن يخطب الإمام خطبتين خفيفتين يفتتح أولاهما بحمد الله تعالى والثناء عليه والتشهد والصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يَعِظ الناس ويُذَكِّرُهُم ويقرأ سورة ثم يجلس جلسة خفيفة، ثم يقوم فيخطب الخطبة الثانية يحمد الله ـ تعالى ـ فيها ويُثني عليه ويُصلي على رسوله ويدعو للمؤمنين والمؤمنات. وقد دَرَجَ المسلمون على ذلك في جميع الأعصار اتباعًا للسنة المأثورة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى قال الإمام ابن حزم وهو من أعلم الأئمة بالحديث: إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما صلى الجمعة قط إلا بخطبتين قائمًا يجلس بينهما. وفي هذا رَدٌّ على القائلين بأنه صَلَّاها أوَّلًا بخطبة واحدة فَلَمَّا أَسَنَّ صَلَّاهَا بخطبتين بينهما جلسة للاستراحة.
وكذلك قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في بيان هَدْيِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبة الجمعة أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان إذا صَعَد المنبر استقبل الناس بِوَجْهِهِ وسلم عليهم وجلس حتى إذا فَرَغ بلال من الأذان قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخطب من غير فصل بَيْنَ الأذان والخطبة لا بإِيرَاد خَبَر ولا غَيْره، وكان يعتمد على عَصًا قبل أن يتخذ المنبر. ولم يُحْفَظ عنه أنه أخذ بِيَدِه سيفًا. وما يظن بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائمًا إشارة إلى أن الدين قَامَ بالسيف فمن فَرط جهله. وأَمَّا بَعْدَ اتخاذه المنبر فلم يُحْفَظ عنه أنه كان يَرْقاه بسيف أو قَوْس أو غيره. وكان يخطب الجمعة قائمًا ووجهه قِبَلَ أصحابه وقت الخطبة، ثم يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيخطب الثانية، فإذا فَرَغَ منها أخذ بلال في إقامة الصلاة اهـ ملخصًا.(1/317)
ذلك هَدْي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه سُنَّته التي وَاظَبَ عليها ودَرَجَ عليها بعده الخلفاء الراشدون والأئمة المجتهدون في جميع العصور، سواء من ذهب إلى أن الخطبة مندوبة كالظاهرية وابن حزم، ومن ذهب إلى أن الواجب خطبة واحدة كالحنفية، أو خطبتان كالأئمة الثلاثة، لاتفاقهم جميعًا على أن السنة المأثورة عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطبتان قبل صلاة الجمعة، وقد تَقَدَّمَ قول الإمام ابن حزم: ما صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجمعة قط إلا بخطبتين قائمًا يَجْلِس بَيْنَهُمَا جِلسة خفيفة.
أما الدعاء للسلطان (ويراد به في عُرْفُ الفقهاء ولي الأمر الحاكم الذي بيده السلطة والقوة) في الخطبة الثانية كما جَرَى به العُرْف في الأقطار الإسلامية منذ عُصُورٍ فإنه وإن كان أمرًا مستحدَثًا لا بأس به إذا لم يَكُن فيه مُجَازَفَة في وصِفه كما نَصَّ عليه النووي في المجموع، بل هو حَسَن؛ لأن في الدعاء له بالصلاح دُعَاءً للرعية به، وذلك مُستحبٌّ غير مكروه كما ذكره ابن قدامة في المغني والعدوي في حاشيته على الخرشي وابن عابدين في حاشية الدر، على أنه قد ثَبَتَ الدعاء لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ولمن بعدهما، والله ولي المصلحين. والله أعلم.(1/318)
اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد
(السؤال): كان يوم العيد الأكبر هذا العام (سنة 1369هـ) يوم الجمعة، فهل يجوز الجَمْع بين الصلاتين، كأن تُصلَّى الجمعة بعد صلاة العيد مباشرة، كما قاله بعض العلماء؟
(الجواب): ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، تُؤَدَّى الصلاتان، كلٌّ في وقتها المشروع، فلا تَسْقُط إحداهما بالأُخرى، ولا تُصلَّى الجمعة عَقِب صلاة العيد مباشرة.
وذهب الشافعية إلى عَدَم سقوط الجمعة عن أهل البلد، باتفاق أئمة المذهب، فيَجِب عليهم أداؤها في وَقْتِها وأداء صلاة العيد في وقتها.
وللشافعية في أهل القرى الذين تلزمهم الجمعة لبلوغهم نداءَ البلد، إذا حَضَروا فصَلَّوا العِيد في البلد وجهان أصحهما سقوطها، فلا تَجِبُ عليهم الجمعة، لِمَا رواه البخاري عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال في خطبته: أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن أراد من أهل العالية (قرية قرب المدينة) أن يصليَ معنا الجمعة فلْيُصَلِّ، ومن أراد أن يَنْصَرِفَ فلينصرف" ولم يُنْكِر عليه أحد من الصحابة. ولأنهم إذا قعدوا بالبلد حتى يصلوا الجمعة فَاتَهُم التهيؤ للعيد، وإذا خرجوا إلى قراهم ثم عادوا للجمعة كان عليهم في ذلك مَشَقَّة، والجمعة تَسْقُط بالمشقة.
وذهب أحمد إلى عدم وجوب الجمعة على أهل البلد والقرى في هذا اليوم، فإذا لَمْ يُصَلُّوا الجمعة وَجَبَ الظهر، لحديث زيد بن أرقم وقد سَأَلَه معاوية: هل شهدت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عِيدَيْن اجتَمَعَا؟ قال: نعم، صلى العيد أول النهار، ثم رخص في الجمعة فقال: "مَنْ شَاءَ أن يُجَمِّعَ فلْيُجَمِّعْ" وفي رواية "من شاء أن يُصَلِّيَ فلْيُصَلِّ" (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه).
وعن أبي هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عِيدَان، من شاء أجزأه عن الجمعة، وإنا مُجَمِّعُون" (رواه أبو داود وابن ماجه).(1/319)
وهل يجوز أن تُقَدَّم الجمعة فتُصلَّى في وقت العيد أي قبل الزوال؟ لم يُجِز جمهور الأئمة ذلك، ورُوي عن أحمد أنه يجوز، وتجزئ الجمعة عن صلاة العيد وصلاة الظهر في ذلك اليوم. قال ابن قدامة: وإن قَدَّمَ الجمعة فصَلَّاها في وقت العيد تجزئ عن العيد والظهر ولا يلزمه شيء سوى العصر عند من يجوِّز صلاة الجمعة في وقت العيد؛ لِمَا رواه أبو داود بإسناده عن عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد فجمَّعَهما وصلاهما ركعتين بُكرةً فلم يَزِدْ عليهما حتى صلى العصر. ورُوي عن ابن عباس أنه بلغه فعل ابن الزبير فقال: أصاب السنة. قال الخطابي: وهذا لا يجوز إلا على قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال، فعَلَى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد والظهر. أمَّا إذا قَدَّمَ العيد فصلاة دون الجمعة فإنه يُصَلِّى الظهر اهـ.
ومن ذلك تَعْلَم أنه لم يَقُل أحد من الأئمة بالجمع بين صلاتي العيد والجمعة في وقت الأول بحيث تُؤَدَّى صلاتان، وأن الأقوال في المسألة دائرة بين أداء الصلاتين كلٌّ في وقتها، أو أداء العيد في وقته وعدم وجوب الجمعة. وهذا عند الجمهور الذين لا يُجِيزون أداء الجمعة قبل الزوال، أما جواز أداء الجمعة في وقت العيد والاكتفاء بها عن صلاة العيد فهو عند من يقول بجواز هذا التقديم أخذًا بظاهر حديث عطاء.
والقول المعمول به في الديار المصرية هو الجمع بين الصلاتين على أن تُؤدَّى كل منهما في وقتها المشروع. والله أعلم.(1/320)
سجود التلاوة لسماع آية السجدة من المذياع وغيره
(السؤال): هل يجب سجود التلاوة على السامع كلما سمع آية السجدة من القارئ؟
وهل يجوز تأخير السجود عن التلاوة والسماع أو يجب فورًا؟
وماذا عليه إذا نَسِيَ عَدَد السجدات الواجبة عليه عند أدائها؟
وهل يجب عليه السجود إذا سَمِعَ آية السجدة من البَبَّغَاء أو المذياع؟
(الجواب):
(1) سجود التلاوة واجب عند الحنفية على كل من القارئ والسامع؛ لأن آيات السجدة في القرآن ثلاثة أنواع: نوع فيه الأمر الصريح بالسجود لله ـ تعالى ـ ونوع تضمن استنكاف الكفار من السجود حين الأمر به، ونوع فيه حكاية امتثال أنبياء الله.
وكلٌّ مِن امتثالِ الأمر ومخالفة الكفار والاقتداء بالأنبياء واجب.
ولو كَرَّرَ القارئ آية السجدة الواحدة في مَجْلِس واحد كَفَتِ الكلَّ سجدةٌ واحدة من كل من القارئ والسامع دفعًا للحرج.
ولو تلا آيتين في مجلس واحد، أو آية واحدة في مجلسين وجب على القارئ والسامع سجدتان. والأصل في ذلك أن السجدات تتداخل بشرط اتحاد الآية والمجلس، ولا تتداخل إذا تعددت الآية أو المجلس.
(2) ولا يجب السجود على الفور، بل يجوز تأخيره عن وقت التلاوة والسماع. ومن الأعذار التي تُبِيح التأخير عدم صلاحية المكان لأدائها أو عدم الطهارة ونحو ذلك.
(3) ومن وَجَبَت عليه عدة سجدات ونسي عددها حين أدائها فحُكْمُه حكم من فاتته عدة صلوات مفروضة ونسي عددها عند القضاء، فيَتَحَرَّى ويعمل بأكبر رأيه، فإن لم يجتمع له رأي يقضي حتى يتيقن أنه لم يَبْقَ عليه شيء.
(4) وقد نص الحنفية على أن من سمع آية السجدة من الطير كالببغاء لا يجب عليه السجود في القول المختار؛ لأنها ليست قراءة بل محاكاة لعدم التمييز، وقيل يجب؛ لأن السامع قد سمع كلام الله ـ تعالى ـ وإن كان من الطير الحاكي.
وكذلك نصُّوا على أن من سمع آية السجدة من صدى صوت القارئ لا يجب عليه السجود وعَلَّلَه العلامة الطحاوي بأنه محاكاة اهـ.(1/321)
والذي نستظهره أن السماع من المذياع ومن المسَرَّة (التليفون) سماع للقراءة من القارئ وإن كان على بُعد وبواسطة أجهزة لنقل الصوت وتكبيره، ولا فرق بينه وبين سماع القراءة من قارئ وراء جدران أو حاجز خشبي أو زجاجي أو على بُعد مع تكبير الصوت بالميكروفون فإنه في كل ذلك يجب السجود في حالة السماع من القارئ فكذا في السماع من المذياع والمسرة. وليس ذلك مِن قِبَل سماع الصدى كما لا يخفى.
ولا حرجَ في إيجاب السجود بعد أن أُبِيحَ تأخيره لغير سبب لأحد الأسباب المذكورة وما ماثلها وإن كان التأخير بغير سبب مكروهًا تنزيهًا خشية النسيان. والله أعلم.(1/322)
إمامة شارب الحشيش
(السؤال): هل تجوز الصلاة خَلْفَ شارب الحشيش؟
(الجواب): سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك فأفتى بأنه لا يجوز أن يولَّى الإمامةَ بالناس من يأكل الحشيش "ومثله من يشربه" ويفعل شيئًا من المنكرات المحرمة مع إمكان تولية من هو خير منه.
وقال: إن الأئمة مع اتفاقهم على كراهة الصلاة خلف الفاسق قد اختلفوا في صحتها، فذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما إلى عَدَم صِحَّتها. وذهب أبو حنيفة والشافعي، ومالك وأحمد في الرواية الأخرى عنهما، إلى صحتها.
وأما ما اشتهر من قوله: "صلُّوا خَلْف كل بَرٍّ وفاجر" فلم يَثبُت أنه حديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل في سنن ابن ماجه عنه: "لا يَؤُمُّ فاجر مؤمنًا" إلا أن ينهره بصوت أو عصا اهـ والله أعلم.(1/323)
صلاة الشكر غير مشروعة
(السؤال): هل في الشريعة الغَرَّاء صلاة تسمَّى صلاة الشكر؟
(الجواب): لم يَرِد في الكتاب ولا في السنة نص يفيد مشروعية هذه الصلاة لا فرادى ولا جماعة، وأمر العبادات يُقتَصر فيه على ما ورد عن الشارع، ولا سبيل فيه إلى القياس، ولا مجال فيه للرأي، وإنما الذي أُثِرَ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السجود لله تعالى شكرًا إذا أتاه ما يسره أو بُشِّرَ به، ففي حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا أتاه أمر يَسُرُّه أو بُشِّرَ به خَرَّ ساجدًا شكرًا لله تعالى. (رواه الستة إلا النسائي) ورواه أحمد بلفظ: أنه شهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم، ورأسه في حجر عائشة، فقام فخر ساجدًا، فأطال السجود ثم رفع رأسه فتوجه نحو صدقته. ورُوي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سجد لله شكرًا حين أحضر عبد الله بن مسعود رأس اللعين أبي جهل بين يديه يوم بدر. وسجد أبو بكر الصديق حين بُشر بفتح اليمامة. وسجد علي حين بُشر بوجود (ذي الثُّدَيَّة) بين قتلى الخوارج، إذ عرَف أنه في الحزب المُبْطِل وأنه هو المُحِق. وسجد كعب بن مالك لَمَّا تِيبَ عليه في حديث تخلفه عن تبوك.
فمن تَجَدَّدَت له نعمة ظاهرة أو رزقه الله مالًا أو ولدًا أو وَجَدَ ضالته أو اندفعت عنه نِقْمَة أو شُفِيَ له مريض أو قَدِمَ له غائب ونحو ذلك يستحب أن يسجد شكرًا لله ـ تعالى ـ على ما أَوْلَاه من الخير والنعمة سجدة كسجدة التلاوة في كيفيتها وشروطها، فيكبر بدون رفع اليدين ويسجد فيحمد الله ـ تعالى ـ ويَشْكُر ويُسَبِّح ثم يَرْفَع رأسه مكبرًا. وليس بعدها تشهد ولا تسليم. والسجود لله ـ عز وجل ـ أبلغ مظاهر العبودية وأصدقها، والعبد فيه أقرب ما يكون من ربه عز وجل وهو خير، والله تعالى يقول: (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).(1/324)
وممن ذهب إلى استحباب هذه السجدة أحمد والشافعي وداود، وابن المنذر وإسحاق وأبو ثور، وأبو يوسف ومحمد، وهو المُفتَى به عند الحنفية. ورُوي عن أبي حنيفة أنه لا يَرَاهَا، وفُسِّرَ ذلك بأنه لا يراها مشروعة على الوجوب، وقيل: لا يراها سنة.. والمعتمَد كما في الأشباه أنه لا خلاف بينه وبين صاحبيه في الجواز، وإنما الخلاف في السُّنِّيَّة. ورُوي عن مالك روايتان أشهرهما الكراهة، والثانية أنها ليست سنة، واستَبْعَد الشوكاني في نيل الأوطار هذه الروايات بعد ورود حديث أبي بَكْرَةَ وحديث عبد الرحمن بن عَوْف اللذَيْن أوردهما صاحب المنتقى.
هذا هو المشروع في مَقَام الشكر، وخلافه بِدْعَة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. والله أعلم.(1/325)
القصر والجمع بين الصلاتين في السفر
(السؤال): رجل من أهل مصر سافر إلى أسيوط، وأقام بها ثلاثة أيام، فهل يجب عليه قَصْر الصلاة؟ وهل يجوز له جَمْع بين الصلاتين بدون عذر؟
(الجواب): يجب عليه أن يقصر الرباعية في مذهب الحنفية. وهو المروي عن علي وعمر وابن عمر وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن، وهو مذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار.
ويجوز له الإتمام والقَصْر، والإتمام أفضل، في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وهو المروي عن عائشة وعثمان.
ورَجَّحَ الشوكاني في نيل الأوطار مذهب الحنفية.
وأمَّا الجمع بين الصلاتين فيكون بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وهو جائز في السفر مطلقًا تقديمًا وتأخيرًا عند الشافعي وأحمد، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء، فيجوز عندهم تأخير الظهر إلى وقت العصر، وتقديم العصر في وقت الظهر، وصلاتهما معًا جمع تأخير أو تقديم، وكذلك في المغرب والعشاء، سواء كان هناك عذر أو لا، وسواء كان ذلك أثناء الجّدِّ في السير أو بَعْدَه.
وذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا لِمُحْرِم في عَرَفَة ومُزْدَلِفة.
وذهب الليث بن سعد وهو المشهور عن مالك إلى أن الجمع لا يجوز إلا إذا كان المسافر مُجِدًّا في السير. وقَيَّدَ الأوزاعي فقيه الشام جواز الجمع بحالة العذر. وقال أحمد في رواية واختاره ابن حزم، وهو مروي عن مالك أيضًا أنه يجوز الجمع جمع تأخير فقط ولا يجوز جمع تقديم. وأدلة المذاهب في نَيْلِ الأوطار، وإن شئت فراجعه. والله أعلم.(1/326)
فَتْوَى أخرى في الجَمْع بين الصلاتين في السفر
(السؤال) من بورسعيد: هل يجوز شرعًا أن أصليَ الأوقات الخمسة المكتوبة جملة واحدة قبل السفر صباحًا من بورسعيد إلى القاهرة نَظَرًا لعدم تَيَسُّر أدائها في أوقاتها أثناء السفر أو لا؟
(الجواب): يجب على المُكلَّف أن يحافظ على أداء كل فريضة في وقتها ويأثم بتأخيرها عنه، إلا أن الشارع قد رَخَّصَ للمسافر سفرًا طويلًا يُبِيح قصر الصلاة أن يجمع بين الظهر والعصر تقديمًا أو تأخيرًا، وبين المغرب والعشاء كذلك. وهو قول كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء. وممن روى ذلك سعد ومعاذ وأسامة وأبو موسى وابن عباس وابن عمر. وبه قال طاوُس ومجاهد وعكرمة. وإليه ذهب الشافعي وأحمد والثوري وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر.
وذهب الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن سِيرِين ومَكْحُول وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز الجمع في السفر إلا لمُحْرِم في عَرَفَة بين الظهر والعصر جمع تقديم، وفي مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير.
وذهب مالك فيما شَهَرَه ابن رشد إلى جواز الجمع في السفر ولو قصيرًا سواء جَدَّ بالمسافر السير أو لا. وقيل: لا يجوز الجمع إلا إذا جد به السير.
ولم يُشْرَع للمسافر ولا لغيره جمع الصلوات الخمس جملةً جمع تقديم أو جمع تأخير، بل يجب أن يؤديَ صلاة الصبح وحدها في وقتها. ويجمع المسافر إذا أراد بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء تقديمًا أو تأخيرًا. وللعامي أن يُقَلِّد مذهب الأئمة الثلاثة في جواز الجمع بين الفريضتين في السفر الطويل لِمَا فيه من اليسر والرخصة.(1/327)
ويحسُن أن نُبَيِّن مذهب الشافعية فيه أَخْذًا مما في المجموع للنووي والتُّحْفَة وحواشيها ـ قالوا: للمسافر سفرًا طويلًا أن يُصَلِّيَ الفريضتين معًا قصرًا في وقت الأولى أو يصليَهما معًا قصرًا في وقت الثانية، غير أنه إذا كان نازلًا في وقت الأُولَى وسائرًا في وقت الثانية فالتقديم أفضل، وفي العكس التأخير أفضل، وإذا كان سائرًا فيهما أو نازلًا فيهما فالتأخير أفضل.
ويشترط لصحة جَمْع التقديم ثلاثة شروط:
الأول، الترتيب بين الفريضتين؛ لأن الوقت للأولى والثانية تابعة لها.
الثاني، نِيَّة الجمع بينهما، ومَحلُّها على الأصح مع الإحرام بالأولى أو في أثنائها أو مع التحلل منها بالسلام.
الثالث، الموالاة بين الصلاتين بدون فصل طويل ويُغْتَفَر الفصل اليسير والفارق بينهما العُرْف على الصحيح.
أما جمع التأخير فلا يشترط فيه شيء من ذلك وإن كان يستحب على الصحيح مراعاة الترتيب والنية والموالاة، وإنما يشترط أن يكون التأخير بِنِيَّة الجمع. ومَحَل النية وقت الأولى بحيث يبقى منه على الأقل قدر ما يَسَعُ الصلاة، فإن أَخَّرَهَا بغير نِيَّة الجمع حتى خرج وقتها أو ضاق بحيث لا يَسَعُ الفريضةَ كان عاصيًا بالتأخير وصَارَت الأُولَى قضاء. وإذا جمع المسافر الفريضتين جمع تقديم أو جمع تأخير تكونان أداء لا قضاء، والأفضل ترك الجمع مراعاة لخلاف الحنفية. ويستحب له فعل السنن الرواتب مع رعاية الموالاة بين الفريضتين في جمع التقديم اهـ ملخصًا.
ومن هذا يُعلَم أنه لا يجوز جَمْع الصلوات الخمس مرة واحدة في السفر كما لا يجوز في الحَضَر، وأن الرخصة في الجَمْع قاصرة على ما ذُكِرَ. والله تعالى أعلم.(1/328)
زكاة الجنيهات الذهب باعتبار قيمتها الحالية
فُرِضَت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة كالصوم وذُكِرَت في اثنين وثمانين موضعًا من القرآن الكريم.
(السؤال): إذا حَالَ الحَوْلُ على النِّصَاب من الأوراق المالية ذات المائة قرش مثلًا تُخْرَج عن كل ورقة بمائة قرش ربع العُشْر أي قرشين ونصف قرش صاغ.
فإذا حال الحول على نصاب من الجنيهات الذهب هل يُعتَبر كل جنيه ذهب مساويًا لمائة قرش كما كان، أو تعتبر قيمته الحالية وهي نَحْو أربعة جنيهات من الوَرَق، فنخرج عنه عشرة قروش صاغ؟
(الجواب): يُزكَّى الجنيه الذهب بحسب قيمته الحالية في الأسواق، فإذا كان يساوي أربعمائة قرش أو أقل أو أكثر تُخرَج زكاته بحسب ذلك بعشرة قروش صاغ أو أقل أو أكثر. والله أعلم.(1/329)
زكاة الحُلِيّ
(السؤال): هل يجب إخراج الزكاة عن الذهب والفضة اللذين يستعملهما النساء حُلِيًّا للزينة؟
(الجواب): اختلف الأئمة في زكاة الحُلِيّ المصنوع من الفضة والذهب، فذهب الحنفية إلى وجوب الزكاة فيه، وهو مذهب عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وميمون بن مهران، وجابر بن زيد، والحسن بن صالح، وسفيان الثوري، وداود، رضي الله عنهم أجمعين.
وذهب الشافعية ـ كما في مجموع النووي ـ إلى أن الحُلِيَّ المباح استعماله للنساء، وكذا ما يباح استعماله للرجال كخاتم ومِنطَقة السيف لا تَجِب فيه الزكاة في القول الأصح المشهور، كما لا تجب في ثياب البَدَن والأثاث وعوامل الإبل والبقر، وهو مذهب عبد الله بن عمر، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والزهري، وابن سيرين، والشعبي، والقاسم بن محمد، وإسحق وأبي ثور، وابن المنذر، رضي الله عنهم أجمعين.
وذهب المالكية ـ كما في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ـ إلى أنه لا تجب الزكاة في الحُلِيّ المباح الاستعمال ولو لرجل، ولا في المتَّخَذ لأجل الكِرَاء، سواء أُبِيح استعماله لمالكه كالأساور والخلخال للنساء، أو لم يُبَحْ كالأساور والخَلخال للرجال، وذلك على المعتَمَد من المذهب.
وذهب أحمد إلى أنه ليس في حُلِيِّ المرأة إذا كان مما تَلْبَسه أو تُعِيرُه زكاة، وقال في المغني: لا زكاة في الجواهر التي يُتَحَلَّى بها، مثل الماس واللؤلؤ والمرجان ونحو ذلك. وهو مذهب الحنفية أيضًا مهما بَلَغَت قيمتها، إلا أن تُتَّخَذ للتجارة.
وقال ابن حزم في المحلَّى: إن الزكاة واجبة في حُلِيّ الفضة والذهب سواء كان حلي امرأة أو حلي رجل. وكذلك حِلْيَة السيف والمصحف والخاتَم، وكل مصنوع من الذهب والفضة، حَلَّ اتخاذه أم لم يَحِلَّ.
هذه أقوال الأئمة في زكاة الحلي.(1/330)
وهناك قول آخر مروي عن أنس وهو أن الزكاة تجب فيه مرة واحدة ثم لا تجب فيه بعد ذلك. وظاهر أن هذا كله في غير الحلي المتَّخَذ للتجارة، كالحلي في حوانيت الصَّاغَة فإنه من عروض التجارة التي تجب فيها الزكاة. والله أعلم.(1/331)
معنى سبيل الله في مصارف الزكاة
(السؤال) من "بيت المغرب" بالقاهرة: قامت جماعة من المسلمين بنشر التعليم الديني ببلادنا لِمَحْو الجَهْل، ودَعَتِ المسلمين إلى ضرورة جَمْع أموال الحبوب والماشية وزكاة الفطر وجلود الأضاحي للاستعانة بها في إنشاء مَدَارِس إسلامية ومكاتب تحفيظ القرآن، ولكن جماعة من المنتسبين للعلم في البلاد قالوا: إن هذا ليس من مَصَارِف الزكاة فلا يجوز شرعًا صرف الزكاة إليه؟ نرجو البيان الشرعي.
(الجواب): إن من مصارف الزكاة الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ) إلى آخر الآية، إنفاقَها (فِي سَبِيلِ اللهِ) وسبيل الله عام يشمل جميع وجوه الخير للمسلمين؛ من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد وتجهيز الغزاة في سبيل الله، وما أشبه ذلك مما فيه مصلحة عامة للمسلمين. كما دَرَجَ عليه بعض الفقهاء واعتمده الإمام القفال من الشافعية ونَقَلَه عنه الرازي في تفسيره، وهو الذي نَخْتَاره للفتوى.
وبناء عليه لا مانع من صرف زكاة النقدين والحبوب والماشية وكذا زكاة الفطر في الأغراض المشار إليها في السؤال لما فيها من المصلحة الظاهرة للمسلمين خصوصًا في هذه الديار.
وأمَّا جلود الأضاحي فلا وَجْهَ للتوقف في صَرْفِها في هذه المشروعات التي تعود بالخير على المسلمين إذا تَصَدَّق بها المُضَحُّونَ في ذلك. والله تعالى أعلم.(1/332)
حكم صرف زكاة المال وزكاة الفطر إلى غير المسلمين
(السؤال): هل يجوز شرعًا أن يُعْطَى غيرُ المسلمين شيئًا من زكاة الأموال التي لا تجب إلا على المسلم؟
(الجواب): أجمع المسلمون على أن الزكاة المفروضة في الأموال لا يجوز الصرف منها لأهل الذمة لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث معاذ بن جبل: "أَعْلِمْهُم أن عليهم صَدَقَة تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ على فُقَرَائهم" أي من أغنياء المسلمين وتُرَدُّ على فقرائهم ا.هـ بإيضاح من بداية المجتهد للإمام ابن رشد.
وفي المغني لابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن زكاة الأموال لا تُعْطَى لِكَافِر، لحديث معاذ (المذكور) ولو كان عاملًا على الزكاة أي جابيًا ومحصلًا، ولا يجوز إعطاؤه أجر عمله منها في إحدى الروايتين عند الحنابلة ا.هـ ملخصًا.
وفي المجموع للنووي: لا يجوز دفع زكاة الأموال للكافر اتفاقًا لحديث معاذ، قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على أنه لا يُجْزِئ دفْع زكاة المال إلى ذِمِّي.
أما زكاة الفطر فمذهب الشافعية والمالكية والحنابلة والليث وأبي ثور عدم جواز إعطائها للذمي، وأجاز أبو حنيفة إعطاءها له، والأَوْلَى إعطاؤها عنده لفقراء المسلمين ا.هـ ملخصًا.
وفي البحر والدُرِّ: لا يجوز دفْع زكاة الأموال إلى الذِّمِّيِّ لحديث معاذ، فإن فيه الأمر بِرَدِّهَا إلى فقراء المسلمين، فالصرف إلى غيرهم مخالفة للأمر، أي فيكون حرامًا، وهو حديث مشهور يجوز تخصيص الكتاب به بعد أن خُصِّص عمومه بدليلٍ قطعيٍّ مُحَرِّمٍ بالنص إعطاءَها للفقير الحربي، وبالإجماعِ إعطاءَها للأصول والفروع، فيُخَصُّ الباقي بخبر الواحد كما عرف في الأصول.
أما صدقة الفطر، فذهب أبو يوسف إلى عدم جواز إعطائها له كزكاة الأموال، وذهب الإمام إلى جوازه. ا.هـ ملخَّصًا.(1/333)
فهذا إجماع المذاهب الأربعة وإجماع المسلمين كافة، وحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاطع في عدم جواز إعطاء أهل الذمة شيئًا من زكاة أموال المسلمين وأنه لا يجزئ، ومذهب جمهور الأئمة عدم جواز دَفْع صدقة الفطر لغير المسلمين. والله أعلم.(1/334)
جواز دفع الزكاة للأقارب
(السؤال): له أخوات فقيرات متزوجات من أزواج فقراء، فهل يَجُوز له شرعًا أن يصرف زكاة ماله إِلَيْهِنَّ؟
(الجواب): ذهب الحنفية وأحمد في إحدى الروايتين عنه كما في "المغني" إلى جواز دفع الزكاة لغير الأصول والفروع من بَقِيَّة الأقارب؛ كالإخوة والأخوات والأَعْمَام والعمات والأخوال والخالات إذا كانوا فُقَرَاء، بل هم أولى بالإعطاء؛ لأنه صدقة وصلة رحم، كما رواه سلمان بن عامر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثِنْتَان صدقة وصلة" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه.
وفي الفتاوى الظهيرية: ويبدأ في الصدقات بالأقارب، ثم الموالي، ثم الجيران، ولو دفع زكاته إلى من نفقته واجبة عليه من الأقارب جاز إذا لم يَحْتَسِبْها من النفقة ا.هـ أي: وبالأَوْلَى من لم تجب نفقته عليه من الأقارب.
وذهب الشافعية "كما في المجموع" إلى أنه يجوز دفع الزكاة للقريب الفقير الذي لا تجب نفقته عليه، ولا يجوز دفعها إليه مِن سَهْم الفقراء والمساكين إذا كانت نفقته واجبة عليه.
وفي نيل الأوطار: "وأمَّا غير الأصول والفروع من القرابة الذين تَلْزَم نفقتهم، فذهب الهادي والقاسم والناصر والمؤيَّد بالله ومالك والشافعي إلى أنه لا يُجْزِئ الصرف إليهم". وقال أبو حنيفة وأصحابه والإمام يحيى: يجوز ويُجْزِئ لعموم الأدلة المذكورة في الباب اهـ.
ومن هذا يُعلَمُ أن صرف الزكاة للأخوات المذكورات في السؤال جائز باتفاق لعدم وجوب نَفَقَتهم على أَخِيهِن. والله أعلم.(1/335)
حكم التصدق على غير المسلم
(السؤال): هل يجوز للمسلم أن يَتَصَدَّق على غير المسلم، وخاصة إذا كان مريضًا أو بائسًا؟
(الجواب): تُطلَق الصدقة على ما يَشْمَل الزكاة المفروضة وزكاة الفطر وسائر صدقات التطوع، فأمَّا الزكاة المفروضة فلا يجوز دفعها إلى غير المسلم بالإجماع. قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على أنه لا يُجْزِئ دفع زكاة المال إلى الذمي. نقله عنه ابن قُدَامة في المغني، والنووي في المجموع، واستدل له ابن حزم بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعلها لفقراء المسلمين فقط في حديثه لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وقال له: "فأَعْلِمْهُم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتُرَدُّ في فقرائهم".
وأما صدقة الفطر فذهب الإمام أبو حنيفة إلى جواز دفعها إلى غير المسلم، وذهب جمهور الأئمة وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة إلى عدم جوازه.
أما سائر صدقات التطوع فجمهور الأئمة على جواز دفعها إليه، غير أن الأفضل صرفها إلى القريب الفقير لِمَا فيه مِن صِلَة الرحم، وفي الحديث: "الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثِنْتَان صدقة وصلة". وإلى مَن في شِدَّة حاجة من المسلمين كفقراء اليتامى والأرامل، وإلى الأصهار الفقراء، وإلى الفقراء من أصدقاء الوالدين والزوجة.
ولو صُرِفَت إلى غير المسلم جاز، وكان للمتصدق ثواب في الجملة، ولكنه دون الثواب إذا صرفها لمن ذُكروا. والله أعلم.(1/336)
زكاة التأمين النقدي
(السؤال): ما مَدَى خضوع ما يدفعه المستأجر من تأمين للمالك للزكاة إذا بلغ نصابًا شرعيًّا وحال عليه الحول؟
(الجواب): التأمين النقدي الذي يدفعه المستأجِر لمالك الأرض مال مملوك للمستأجِر مُودَع عند صاحب الأرض ضمانًا لسداد الإيجار في مواعيده، ولو أنه سيُخصم من الإيجار المطلوب عند حلوله فتجب زكاته على مالكه لا على صاحب الأرض إذا توافرت شرائط الوجوب ومنها بلوغ النصاب وحَوَلان الحَوْل. والله أعلم.(1/337)
فِدْيَة الصوم عن المريض
(السؤال) "طُوخ ـ قليوبية": مَرِض رجل بالرَّبْو وأمره الأطباء بالإفطار في رمضان في العام السابق فأفطر بعض أيامه ولَمَّا شَرَعَ في القضاء ضايقه الرَّبْو كثيرًا فلم يُتِمَّ. فهل يجوز له الفطر في رمضان الآتي أَوْ لَا؟ وهل إذا أفطر يكفي أن يُخرج فدية عن كل يوم أفطره؟
(الجواب): المريض بالربو ونحوه إذا غلب على ظنه زيادة مرضه أو إبطاء بُرْئِه بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق، جاز له الفطر ووجب عليه قضاء ما أفطره من أيام رمضان بعد زوال العذر الذي رخص الشارع له في الفطر من أجله، ولا فدية عليه عند الحنفية، خلافًا للشافعية حيث قالوا بوجوب الفدية لكل يوم قَدَح من الحنطة مع القضاء. فإن استمر العذر حتى مات المريض فلا تجب عليه الوصية بالفدية لعدم إدراكه عدة من أيام أُخَر ووجب على وَلِيِّه إخراجها من ثلث مال الموصِي، فإن لم يُوصِ بها جاز لوليه التبرع بها.
أمَّا المرض الذي يتحقق معه اليأس من الصحة بأن فَنِيَت قوة المريض أو أشرف على الفناء وعجز عن الصيام كالمصاب بالفالِج أو السل الشديد أو السرطان أو نحو ذلك (ومنه الربو إذا ثبت أنه لا يُرجَى بُرؤه) فإنه في حكم الشيخ الفاني فيُفْطِر وتَجِب عليه الفدية وهي طعام مِسْكِين عن كل يَوْمٍ أفطره. فإن لم يقدر على الفدية استغفر الله ـ تعالى ـ والله غفور رحيم.
ويلزم المريضَ المسئولَ عنه أن يستشير الطبيب المعالج إذا كان مسلمًا حاذقًا عن أَثَر صومه في رمضان المقبل في صحته، فإن أخبره بأنه يُفضي إلى زيادة مرضه أو إبطاء بُرئه أفطر وقضى بعد زوال المرض. وله أن يَعتَمد على التجربة السابقة إذا كانت قريبة العهد بحيث لا ينتظر تغير حاله في هذه المدة، والله تعالى أعلم.(1/338)
الترخيص للمريض في الفطر
(السؤال): اعتراه مرض بسبب عملية جراحية في شهر رمضان، فأفطر اثنَي عَشَر يومًا ولم يقضها إلى الآن ويريد أن يكفر عن الصوم فكيف تكون الكفارة شرعًا؟ وطلب الجواب قبل حلول شهر رمضان التالي.
(الجواب): المريض إذا غَلَبَ على ظنه بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق أن صومه يُفْضِي إلى هلاكه أو زيادة مرضه أو إبطاء شفائه أو نحو ذلك جاز له الفطر في رمضان شرعًا ووجب عليه قضاء ما أفطره من رمضان في أيام أُخَر ولا كفارة عليه قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولا يَلزَم عند الحنفية أن يكون القضاء قبل رمضان التالي ولا أن تكون أيامه متتابعة بل يجوز أن تكون بعده وفي أيام متفرقة وفي ذلك تيسير وسَعَة. والله أعلم.(1/339)
خبر الطبيب غير المسلم
(السؤال): شاب مَرِض بالسُّلِّ في سنة 1948م واسْتَمَرَّ في علاجه إلى سنة 1952 ثم خَرَجَ من المِصَحّة ولا يزال يَتردَّد عليها كل شهرين أو ثلاثة للاطمئنان على حالته، وقد أفطر شهر رمضان مدة المرض كلها، والطبيب المعالج له مَسِيحي، وأخبره بأن الصوم يَضُرُّه صِحِّيًّا، فهل يقبل قوله ويؤخر القضاء إلى أن يُصَرَّح له بالصوم؟
(الجواب): المرض من الأعذار المبيحة للفطر شرعًا، فإذا أفطر المريض فعليه القضاء بعد زوال العذر لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ويُعتبر العذر قائمًا إذا أخبره طبيب مسلم حاذِق بأنه لا يَزَالُ بحالة يَضُرُّه الصوم معها، أو عَلِمَ ذلك من نفسه بطريق التجربة أو بظهور أمارة تَدُل عليه. واشترط الحنفية في الطبيب الإسلام والحذق، ويكفي فيه أن يكون مَسْتُور الحال، وجَزَمَ الزيلعي باشتراط العدالة فيه أيضًا، وضَعَّفَه في البحر والنهر. وقال الطحاوي: وإذا أَخَذَ بقول طبيب ليس فيه هذه الشروط وأفطر فالظاهر لُزُوم الكفارة، كما لو أَفْطَر بدون أمارة ولا تَجْرِبة لعدم غَلَبَة الظن، والناس عنه غافلون. واشترط الشافعية في الطبيب الإسلام والعدالة. واشترط المالكية فيه أن يكون مأمونًا عارفًا كما في الحطاب والشرح الكبير، ولم يَنُصُّوا على اشتراط الإسلام.
وللاحتياط عند الاشتباه في قيام المرض أو زواله يَلْزَم أن يَعرِض المريض نفسه على طبيب مسلم حاذق، فإن منعه من الصوم بقيام العذر امتنع وإن لم يمنعه صام. والله أعلم.(1/340)
فتوى أخرى في فِدْيَة الصيام عن الميت
(السؤال): مَرِضَت سيدة مرضًا شديدًا في شَهْر رمضان فَلَمْ تستطع أن تَصُومَ منه سوى ستة أيام، واستمر مَرَضُهَا إلى أن تُوُفِّيَت في شهر صفر التالي له دون أن تَقضيَ ما فاتها من أيامه، فهل يجوز لابنها أن يخرج فدية عن صوم هذه الأيام التي فاتتها؟
(الجواب): ذهب أبو حنيفة ومالك، والشافعي في قوله الجديد، وأحمد والليث وأبو عبيد إلى أن الولي يُطعم عن الميت في قضاء رمضان لكل يوم مسكينًا ولا يصوم عنه، لِمَا أخرجه عبد الرزاق عن عائشة موقوفًا أنها قالت: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم. ولِمَا أخرجه النسائي عن ابن عباس موقوفًا أنه قال: لا يصوم أحد عن أحد. ولِمَا رُوي عن ابن عمر موقوفًا: من مات وعليه صيام شهر يُطعَم عنه مكان كل يوم مسكينًا. وعن عائشة قالت: يُطْعَم عنه في قَضَاء رمضان ولا يُصَام عنه. وسُئِلَ ابن عباس عن رَجُل مات وعليه نَذْر صَوْمِ شهر وعليه صيام رمضان فقال: أَمَّا رمضان فلْيُطْعِم عنه، وأَمَّا النذر فيُصَام عنه.
والولي هو القريب وارثًا كان أو غير وارث على ما اختاره النووي في شرح مسلم. وقيل هو الوارث خاصة، وقيل هو العَصَبة خاصة.
وذهب الحنفية إلى أنه هو المتصرف في المال فيشمل الوصيَّ ولو أجنبيًّا كما ذكره ابن عابدين في الصوم، وإلى أن الفدية التي يُخْرِجها الولي عن الميت تؤخذ من ثلث مال الميت وجوبًا إن أوصى بإخراجها، وجوازًا إن لم يوصِ، فإن تَبَرَّعَ بها الولي جاز، معلقًا على مشيئة الله، وكان ثوابها للميت. والله أعلم.(1/341)
حكم فطر الحامل والمرضع
(السؤال): هل يجوز الإفطار للحامل أو المرضع إذا خافَتَا من الصيام على الجنين أو الرضيع؟ وهل يلزمهما القضاء والفدية أو يلزمهما أحدهما؟
(الجواب): لا خلاف في أنه يجوز للحامل الإفطار إذا خافت على الجنين وللمرضع إذا خافت على الرضيع، لحديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله عز وجل وَضَعَ عن المسافر الصومَ وشَطْرَ الصلاة، وعن الحُبْلَى والمُرْضِع الصومَ". (رواه الخمسة) وليس المراد مِن الخَوْف مُجَرَّدَ التَّوَهُّم والتخيل بل غَلَبَةَ الظن بِلُحُوق الضرر به بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق، وذهب بعض الفقهاء ومنهم الإمام ابن حزم إلى وجوب الإفطار عليهما في هذه الحالة لسقوط الصوم عنهما.
والقائلون بجواز الفطر لَهُمَا منهم مَن أَوْجَبَ عليهما القضاء والفدية، وإليه ذهب سفيان ومالك والشافعي وأحمد، ومنهم من أوجب القضاء فقط، وإليه ذهب الحنفية، وهو مذهب علي من الصحابة والحسن من التابعين. وذهب إسحق إلى أنهما يُفْطِرَان ويُطْعِمَان ولا قضاء عليهما وإن شاءتا قَضَتَا ولا إطعام عليهما.
ومثلُ الخوف منهما على الجنين والرضيع خوفُ الحامل على نفسها من المرض الذي يستتبعه الحمل، وخوفُ المُرْضِع على نفسها من المرض الذي يستتبعه الرضاع إذا كان بطريق من الطرق التي ذكرناها، فيجوز لكل منهما الفطر إذا وَجَدَ الخوف المذكور. والله أعلم.(1/342)
تأثير الصيام في المرضى بالقُرْحَة
(السؤال): هل يجوز للمريض بالقرحة في "المعدة" أو "الإثنا عشر" الفطر في رمضان؟ وهل يضره الصيام؟
(الجواب): قُدِّمَ إلينا هذا السؤال من كثيرين، فرأينا أن نستفسر عن هذا المرض وتأثير الصيام في المرضى به من العالم الحُجَّة الدكتور سليمان عزمي "باشا" الأستاذ بكلية الطب سابقًا، فتفضل سعادته بالبيان التالي:
من المشاهدات الثابتة لدى الأطباء أن الجُوعَ ضار بمن يشكو من القرحة في المعدة أو الإثنا عشر؛ لأنه يُحدِث للمريض ألمًا يختلف في شِدَّتِه، وقد يؤدي إلى مضاعفات تختلف في خطورتها.
فمن المعروف عن أعراض هذا المرض أن حُمُوضَة المعدة تتزايد بعد الطعام، وتبلغ قمتها بعد ساعتين إلى أربع ساعات من تناوله، وفي هذه الفترة التي تَبْلُغ فيها الحموضة زيادتها يشعر المريض بألم شديد في معدته.
ومن أهم مسكنات هذا الألم ما عرفه المرضى بالإحساس والمشاهدة، وما عرفه الطب بالخبرة والتجربة.
فأما ما عرفه المرضى بالمشاهدة فهو أن الألم يكون في شدته أثناء الجوع وتَخِفُّ حِدَّتُه بل تزول بعد تناول الطعام لتعود ثانية في دورتها الآخذة في الازدياد.
وأما ما عرفه الأطباء بالخبرة فهو وصف الأدوية التي تهبِّط إفراز المعدة حتى لا يزيد إفرازها ولا تزيد حموضتها، وتُعطَى هذه عادة قبل الطعام.
كذلك تُعطَى له الأدوية التي تعادل الحموضة وهي المعروفة عند الأطباء بالقلويات أو ما شابهها من الأدوية المستَحدَثة التي لها نفس هذه الخاصية؛ لأنها تَتَّحِدُ مع الأحماض وتقلل الحموضة فيخف الألم، وهي تُعطَى عادة بعد الطعام بساعة أو ساعتين.
ومن القواعد الأساسية للعلاج المسلَّم بها من أخصائي الأمراض الباطنية والتي تحتمها المشاهدات، إعطاء الغذاء لتفادي الجوع بكميات صغيرة على فترات منظمة متقاربة بحيث تكون الفترة بين الوجبات أربع ساعات، وعلى أن تكون من الأطعمة المسموح بها لهذا المرض.(1/343)
كذلك استعمال الدواء لابد أن يكون على فترات مثل هذه الفترات، منها ما هو قَبْل الأكل ومنها ما هو بعده بساعة أو ساعتين.
وعليه نرى من طبيعة العلاج في حَدِّ ذَاتِه أن الإفطار مُحَتَّم، وأن الصيام ضار، سواء أكان لراحة المريض وتخفيف آلامه أم لِنِظَام العلاج وشفاء المرضى.
ولا أعرف دواء في تهبيط الإفراز أو تخفيف الحموضة أو تعادلها يستمر مفعوله مدة تقارب مدة الصيام.
ويفهم بالبديهة أن امتلاء المعدة بعد الجوع الشديد بالغذاء أو بالماء ضار أَيَّما ضَرَر بالمَعِدَات المريضة خصوصًا المصابة بالقُرْحَة؛ ولذلك يَنْصَح الطِّبُّ دائمًا هؤلاء المرضى بتقليل كَمِّيَّات الطعام وتقريب فتراته على النحو الذي بيناه، كما يُنصح بتقليل كميات الطعام للأصحّاء عمومًا محافظةً على سلامة معداتهم وعدم إصابتها بالأمراض، ومن مبادئ الطب الحديث: "عالج صحتك بوسائل المحافظة عليها، ولا تنتظر أن تمرض فتُعالَجَ لتستردها.
هذا ما قاله الطبيب الحجة الثقة في تأثير الصوم في المريض بهذه القرحة، وقد نص الحنفية كما في البدائع على أن المرض المرَخِّص في الفطر هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم، وعلى أن المرض يوجب الفطر إذا خيف منه الهلاك وإلقاء النفس إلى التهلكة حرام، ومن أفطر لهذا العذر وجب عليه القضاء بعد زواله، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). والله أعلم.(1/344)
حكم فطر صوم رمضان للمرضى بالبول السكري
(السؤال): هل مرض البول السكري يُبِيحُ الفطر للمريض في كل أحواله؟
(الجواب): فرض الله ـ تعالى ـ الصوم على الصحيح المُقِيم، ورخص للمريض أن يفطر إذا أجهده المرض بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فليس كل مرض يُبيح الفطر عند جمهور الأئمة، والمرجع في بيان ما يبحيه وما لا يبيحه إلى رأي الطبيب المسلم الحاذق، أو إلى التجربة الصادقة، أو دلالة الحال كما نص عليه الفقهاء.
ومرض البول السكري تختلف حالاته، وقد رَأَيْتُ للإجابة عن هذا السؤال أن أستطلع رأي الفاضل الثقة (الدكتور محمد ناجي المحلاوي) الطبيب الأخصائي الأستاذ للأمراض الباطنية بكلية الطب بالجامعة فأجاب بما يأتي:
يظهر السكر في البول في حالات مختلفة نُجْمِلُها بما يلي:
أولًا: قد يظهر السكر في البول بدون ارتفاع نسبته في الدم بسبب خلل خِلْقي في الكُلَى، وقد ينشأ عنه انخفاض نسبة السكر في الدم عن المعدل الطبيعي للجسم. وعند ذلك يجب الإفطار حتى يمكن تعويض الجسم عما يَفقده من السكر الذي تُفرزه الكُلَى في البول، وإلا نَتَجَ عن الصيام نقص كبير في كمية السكر في الدم، تظهر آثاره في علامات مرضية شديدة منها الرعشة وتهيج الأعصاب والقيء والعرق الغزير واضطراب التفكير، بل قد تشبه في بعض الأحيان تأثير الخمر في حالات السُّكْر البَيِّن.
ثانيًا: قد يظهر السكر في البول عند بعض السيدات أثناء الرضاعة، وهذه حالة ليست مرضية، وحكم الإفطار فيها هو نفس حكم إفطار المرضع بوجه عام.(1/345)
ثالثًا: وقد يحدث مرض البول السكري نتيجة لخلل في تمثيل المواد السكرية والنشوية (أي قدرة الأنسجة على استعمالها في عمليات الاحتراق) ويُعزَى هذا الخلل في الأغلب إلى نقص مادة الأنسولين في الجسم، وهي المادة التي تُفرزها غدة البنكرياس، وهذا هو المرض المشهور "بالسكر" وهو يظهر في درجات تتفاوت تفاوتًا كبيرًا في الخفة والشدة.
فهناك حالات خفيفة لا يَكَادُ يظهر فيها السُّكَّر في البول إلا بكمية قليلة وفي فترات قصيرة. وهذه الحالات لا يَضُرُّها الصيام بل قد يُفِيدُها وخصوصًا إذا كان المريض بَدِينًا (سمينًا).
أما في الحالات الشديدة حيث يبلغ ارتفاع نسبة السكر في الدم مبلغًا كبيرًا، وحيث يظهر السكر بكميات كبيرة في البول باستمرار فإن الفطر فيها ضروري؛ لأن الجسم لا غنى له عن التغذية المستمرة المنظمة، لتوفير المواد السكرية اللازمة لعمليات الاحتراق المستمرة في الأنسجة، مع إعطاء كميات الأنسولين اللازمة. ويُضاف إلى ذلك أن المريض في هذه الحالات يُفرز كميات كبيرة جدًّا من البول، فيفقد بذلك كميات كبيرة من الماء يجب تعويضها بالشرب، وإذا صام المريض فيها فإن الأنسجة تَلْجَأ إلى المواد الدهنية المخزونة، وقد ينتج عن ذلك تراكم بقايا تمثيل هذه المواد إلى درجة كبيرة، قد تُسَبِّب تسمم الجسم بهذه المواد، وقد تَصِل إلى درجة الغيبوبة المعروفة (بالكُومَا).
وفيا بين الحالات الخفيفة والحالات الشديدة التي ذكرناه حالات متوسطة يختلف حكمها من حيث الإفطار، فيُترَكُ للطبيب المعالج تَقْدِيرُها وإبداء الرأي فيها.
دكتور محمد ناجي المحلاوي(1/346)
فعلى المسلم الذي يريد الخروج من العُهْدَة والتحريَ في أمر الدين إذا أُصيب بمرض السكر أن يَعْرِض نفسه على طبيب مسلم حاذق موثوق به في دينه لفحصه والوقوف على درجة مرضه بواسطة تحليل البول أبو الدم أو هما، وبيان أثر الصوم في حالته، فقد يخبره بوجوب الفطر حتى لا يُلقِيَ بنفسه إلى التهلكة فيَتَّبِعُ رأيه، وقد يخبره بوجوب الصوم. والله أعلم.(1/347)
الحقنة الشرجية في رمضان مفطرة
(السؤال): هل الحقنة الشرجية مُفطرة للصائم؟
(الجواب): الحَقْن في الشرج هو إدخال أي مادة سائلة من فَتْحَة الشرج إلى الأمعاء الغليظة، إما بقصد طَرْد الفضلات وهي التي يستعمل فيها عادة البايونج أو الماء والصابون ونحوه مما لا يمكث في الأمعاء إلا يسيرًا ثم يُقْذَف مع الفضلات من هذه الفتحة، وإما بقصد إمداد الجسم بالغذاء أو الدواء أو السائل في الحالات المرضية التي يَتَعَذَّر فيها إعطاء هذه المواد من طريق الفَم أو حَقْنها في الوريد أو العضل أو تحت الجلد، وفي هذه الحالات تُترَكُ هذه المواد حتى تمتص، هذا ما قاله الأطباء الحاذقون.
وكيفما كان فإدخال هذه المواد السائلة من فتحة الشرج إلى الأمعاء مفطِر شرعًا باتفاق الأئمة في المذاهب الأربعة؛ إذ الأمعاء من الجَوْف كالمعدة وسائر الجهاز الهضمي وما يدخل فيه اختيارًا مُفْطر، لحديث "الفطر مما دَخَل" رواه أبو يَعلَى في مسنده مرفوعًا عن عائشة، وذكره البخاري تعليقًا فقال: وقال ابن عباس وعكرمة: الفطر مما دخل وليس مما خرج. والمراد الدخول من المنافذ المعروفة بدلالة العُرْف.
وقد نص الحنفية على أن من احتَقَن أفطر ووجب عليه القضاء ولا كفارة عليه في الأصح، وفسروا الاحتقان بصب الدواء في الدبر بواسطة الحقنة، وبمثله قال الحنابلة كما في المغني، والشافعية كما في المجموع، والمالكية كما في الشرح الكبير، وإن خالفوا الطب بقولهم: إن السائل يَصِل بالحقنة الشرجية إلى المعدة.(1/348)
وفي المجموع للنووي أن هذه الحقنة مفطرة على المذاهب سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء وَصَلَت إلى المعدة أم لا، وبه قَطَعَ الجمهور ونقله ابن المنذر عن عطاء، والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وحكاه العبدري وسائر الأصحاب عن مالك، ونقله المتولي عن عامة العلماء. والله أعلم (وخالف ابن حزم فقال: إن ما يدخل إلى الجوف من الدبر أو الإحلِيل أو الأُذُن أو العَين أو الأنف أو من جُرْح في البطن أو في الرأس لا يُفْطِر، وقال: إننا ما نُهِينَا عن أن يُوصَلَ إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يُحَرَّم علينا إيصاله. راجع المُحَلَّى ص 214 جـ6. وعليه فالحُقَن بجميع أنواعها لا تُفْطِر، والمُعَوَّل عليه قول الجمهور)(1/349)
شرب الدخان في نهار رمضان مُفْطر
(السؤال): هل شرب الدخان المعروف مُفْسِد للصوم شرعًا؟
(الجواب): نص الحنفية على أن الدخان عامة إذا دَخَل حَلْق الصائم بدون صنع منه لا يُفسد صومه لعدم إمكان التَّحَرُّز عنه، فصار كالبلل يَبْقَى في الفم بعد المضمضة لعدم القدرة على الامتناع عنه.
وأما إذا أَدْخَله حَلْقه بصنعه وإرادته أيًّا كان الدخان، وبأيِّ صورة كان إدخاله، وهو متذكر صومه، فإن صومه يَفْسُد شرعًا لإمكان التحرز عنه.
وقد فرَّع العلامة الشُّرُنبُلالي على ذلك حكم شرب الدخان المعروف كما في "إمداد الفتاح" وشرحه على الوَهْبَانية فقال بلزوم الكفارة مع القضاء في حالة فساد الصوم، وهي الحالة الثانية المذكورة بناء على الأَصَحِّ في وُجُوبِ الكفارة بتناول ما يَمِيل إليه الطبع وتنقضي به شهوة البطن، وتابعه العلامة ابن عابدين في حاشية الدر. ولا شك أن الدخان المعروف من أشد ما تستدعيه الشهوة وتَمِيلُ إليه نفوس شاربيه، حتى إن أكثرهم يصبر على الجوع والظمأ الشديدين ولا يكاد يصبر على تَرْكه، ففي شربه في نهار رمضان عمدًا القضاء والكفارة على الأصح. والله أعلم.(1/350)
قضاء الصوم
(السؤال) من (لبنان ـ حمانا): رجل تَرَكَ صيام رمضان ثلاث سنوات لإصابته خلال هذه المدة بمرض السُّلِّ، ثم مَنَّ الله عليه بالشفاء، ولكنه فُوجِئَ بِمَنْعِهِ من الصوم ثلاث سنوات أخرى بعد التقرير الطبي عن حالته الصحية، فماذا يَفْعَل تِجَاه ما فاته من أيام رمضان وتِجَاه المستقبل؟
(الجواب): لا شك أن هذا الرجل في المدة الأولى معذور في الفطر بعذر المرض، وكذلك في المدة الثانية؛ لقول الأطباء إن الصوم يضره صحيًّا فيها، فهو معذور أيضًا متى كان الأطباء مسلمين حاذقين مأمونين.
ومن تَرَكَ الصوم في رمضان لعذر المرض لا يجب عليه القضاء حتى يقدر عليه فيدرك عدة من أيام أُخَرَ. فإذا لم يقضِ بعد زوال العذر والقدرةِ على الصوم حتى شارف الموت وجب عليه الوصية بالفدية بقدر ما أدرك من الأيام الأُخر إذا كان له مال، ووجب على وَلِيِّه الذي له حق التصرف في ماله إخراجُ الفدية عنه من ثلث ماله الباقي بعد التجهيز ووفاء الديون بدون توقف على إجازة الورثة، ولو زادت الفِدْيَة عن الثلث لا يَجِب الزائد إلا بإجازة الوَرَثَة.
وإن لم يوصِ بالفدية قبل موته جاز أن يَتبرَّع عنه وليه بالفدية، ويُرجَى قبولها بمشيئة الله تعالى فتسقط عنه المطالبة بالصوم في الآخرة، وإن بَقيَ عليه الإثم للتأخير بدون عذر كما لو كان عليه دَين لإنسان ومَاطَلَه حتى مات فأوفاه عنه وصيه أو غيره.
وأما إذا استمر العذر حتى مات بدون قضاء ما فاته فإنه لا تجب عليه الوصية بالفدية لعدم إدراكه عدة من أيام أُخَر.
(والخلاصة) أن هذا الرجل لا يَلْزَمه الصوم في المدة الثانية مادام الأطباء الأمناء الحُذَّاق قد قرروا أنه يضره في صحته، ويُنظر في أمر القضاء بعد زوال العذر على حَسَب ما بَيَّنَّاه. والله أعلم.(1/351)
صيام رمضان في شمال أوربا
(السؤال ـ والجواب): تلقى فضيلة المفتي استفتاء من أعضاء البعثات المصرية عن حكم الشريعة الغَرَّاء في صيام رمضان للمسلمين المقيمين في شمال أوربا، حيث تبلغ مدة صوم اليوم فيه 19ساعة، وقد تَزِيد إلى 22ساعة أو أكثر، فأَرْسَل فضيلته إليهم بالطائرة الفتوى الآتي نصها، ومَهَّدَ فيها بما يجب له الصلاة والصوم خوفًا عليهم من الافتتان في هذه البلاد.
(المنبر)
إن التشريع الإسلامي في العبادات قد بُنِيَ على توثيق الصلات بين العبد وربه وحسن قيام العباد بحق الله ـ تعالى ـ الذي أفاض عليهم نعمة الوجود، ومن عليهم بالفضل والوجود والخير والإحسان (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا) فهي تربية وتهذيب، ونظام وإصلاح يَرقَى بالفرد والمجتمع إلى مراقي السعادة والفلاح.
ورأسها وعمادها الصلاة، وهي مناجاة بالقلب واللسان بين العبد ومولاه، يشهد فيها العبد افتقاره لخالقه وإحسانَ الخالق إليه مع استغنائه عنه، ويَعْلَمُ عن يقين أن الأمر كله لله وأنْ لا معبود بحق سواه، فهو الواحد الأحد، الفرد الصَّمَد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.(1/352)
ومن أهمها الصيام، وهو رياضة رُوحِيَّة تُعِدُّ النفوس البشرية للسمو إلى معارج الكمال والتحليق في أجواء العلم والعرفان، وتُعوِّدها الصبر والثبات والقوة والعزة، وتصفيها من شوائب المادية وعوائق الجسمية، وتُبَغِّض إليها المآثم والمنكَرات، وتحبب إليها الفضائل والمَكرُمات. وقد بُنِيَ تشريع الصوم كما بني التشريع الإسلامي عامةً على السماحة والتيسير والطاقة والرفق بالناس، فلم يكن فيه إعنات ولا إرهاق، ولم يكن فيه حرج ولا عسر، قال
تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقال في الصوم: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أَمَرْتُكُم بأمر فأتوا به ما استطعتم" وفي الحديث الصحيح: "سَدِّدُوا وقَارِبُوا".
هذه السماحة وهذا اليسر قد ظَهَرَا جليًّا في فريضة الصوم، في الترخيص بالفطر للمسافر ولو كان صحيحًا؛ لِمَا يلازم السفرَ غالبًا من المشقات والمتاعب، وللمريض لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء، حتى لا تتفاقم عِلَّتُه أو يُبطئَ بُرْؤُه، ولمن ماثَلَهما في الضرورة والاحتياج إلى الفطر، كالحامل التي تَخَاف على نفسها أو جنينها المرضَ أو الضعف، والمرضعِ التي تخشى ذلك على نفسها أو رضيعها، والطاعنِ في السن الذي لا يقدر على الصوم، فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان على أن يَقضيَ كلٌّ من المسافر والمريض والحامل والمرضع ما أفطره في أيام أُخَرَ خالية من هذه الأعذار، وعلى أن يُخرِجَ الشيخ الفاني فدية الصوم عن كل يوم أفطره حسبما بُيِّنَ في الفقه.(1/353)
والصوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة فإن مجرد طولها لا يُعَدُّ عذرًا شرعيًّا يبيح الفطر، وإنما يباح الفطر إذا غَلَب على ظن الإنسان بأمارة ظهرت أو تجربة وقعت أو بإخبار طبيب حاذق أن صومه هذه المدة يُفْضِي إلى مَرَضِه أو إلى إعياء شديد يَضُرُّه، كما صرح به أئمة الحنفية، فيكون حُكْمُهُ حُكْمَ المريض الذي يَخْشَى التلفَ أو أن يزيدَ مرضه أو يُبطئَ شفاؤه إذا صام.
هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر وفي التيسير على المكلَّفين.
وكل امرئ بصير بنفسه، عليم بحقيقة أمره، يعرف مكانها من حِلِّ الفطر وحرمته.
فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف أو إعياء، يقينًا أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أَوْمَأْنَا إليها، حَلَّ له الترَخُّصَ بالفِطْر، وإذا كَانَ لا يُؤَدِّي إلى ذلك حُرِّمَ عليه الفِطْر. والناس في ذلك مُختلفون ولكل حالة حُكْمُهَا، والله يعلم السر وأخفى. والله أعلم.(1/354)
لا يجوز الفطر إلا لعذر مُعْتَبَر شَرْعًا
الامتحان وصوم رمضان
(السؤال): وَرَدَت إلينا أسئلة كثيرة من بعض طلاب المدارس والجامعات تتضمن أنهم سيؤدون امتحان هذا العام في بعض أيام من رمضان، ولابد فيها من بَذْل الجهد في المذاكرة والتحصيل استعدادًا للامتحان، فهل يُعَدُّ ذلك عذرًا يُبِيح لهم الفطر شرعًا في هذه الأيام؟
(الجواب): إن الامتحان في ذاته ليس عذرًا يبيح الفطر، وكم أَدَّاهُ ناس وهُمْ صِيَام! إذ أنه يَقَع عادة في غُدْوَة النهار وينتهي في منتصفه تقريبًا، وكذلك الاستذكار فإنه يكون عادة في الليل بعد الإفطار، والمَسْنُون في الأكل في سائر الأيام فضلًا عن أيام الصوم الاعتدالُ والتوسط حتى لا تَحْدُث للآكل بِطْنَة وتُخَمَة تَعُوقُه عن مواصلة العمل بسهولة. والامتحان والاستذكار دُونَ أعمال كثيرة يقوم بها الصائمون بدون أن يَجِدُوا مَشَقَّة أو يَمْسَسْهم سوء. ولكن هناك حالتان:
الأولى: أن يَغْلِب على ظن أحد هؤلاء الطلاب وهو صحيح مُقِيم خَوْفُ المرض إذا صام مع أداء الامتحان، إما بأمارة ظهرت وإما بتجربة وَقَعَت وإما بإخبار طبيب مسلم حاذق (لا مجرد التوهم والتخيل) ففي هذه الحالة يُبَاح له الفطر شرعًا، ففي شرح الدر وحواشيه "أن الصحيح إذا خاف على نفسه المرض إذا صام بطريق من الطرق المذكورة يباح له الفطر وأنه مثل المريض الذي يخاف بإحدى هذه الطرق زيادة المرض أو إبطاء البرء. فالذاهب لِسَدِّ النهر أو كَرْيِهِ (حَفْرِه) إذا اشتد الحَرُّ وخاف الهلاك يجوز له الفطر، والحامل إذا خافت على نفسها أو على الجنين، والمرضع إذا خافت على نفسها أو على الرضيع يباح لهما الفطر شرعًا، وعليهما القضاء في أيام أُخَرَ ليس فيها هذا العذر.(1/355)
الحالة الثانية: أن يُجهدَه العمل ويَشُقَّ عليه بحيث لا يستطيع أداء الصوم وإن لم يَخْشَ منه المرض، والحال أنه لابد له مِن أدائه لضرورة العيش، فالظاهر أنه يُبَاح له الفطر في هذه الحالة أخذًا مما استظهره العلامة ابن عابدين في المحترف الذي ليس عنده ما يكفيه وعياله، ولابد له من العمل لضرورة المعيشة والصوم يُضْعِفُه، من أنه يُبَاح له الفطر إذا لم يمكنه مباشرة عمل لا يُؤَدِّيه إلى الفطر، وكذلك في الزَّارِع الذي يخاف على زرعه الهلاك أو السرقة ولا يجد من يعمل له بِأُجْرَة المثل وهو يقدر عليها؛ لأن له قطع الصلاة لأقل من ذلك صيانة لماله، فالفطر أولى.
وظاهر أن مبنى ذلك تقدير الضرورة (الواقعية الصحيحة لا الوهمية والخيالية) إذ الطالب الذي لا يستطيع أداء الامتحان مع الصوم لبلوغه حدًّا من الإعياء يُضِرُّ به مضطر لأداء الامتحان اضطرار الفقير إلى عيشه، ولابد له منه في وقته المحدد له، وفي تركه فيه مضرة له، فيباح له الفطر وعليه القضاء في أيام أخر ليست فيها هذه الضرورة. أما إذا استطاع أداء الامتحان مع الصوم بدون أن يلحقه مرض أو إعياء ضار به فإنه يجب عليه الصوم ويُحَرَّم عليه الفطر.
وقد نصوا على أن الحَصَّادَ إذا لم يقدر على الحَصَاد مع الصوم وكان يَهْلَك الزرع بتأخيره يجوز له الفطر، وكذلك الخباز، وعليهما القضاء، ومثلهما عمال المناجم والغواصون والحجارون وسائقو القطارات وأشباههم.
ومما يجب أن يُعْلَم أن فريضة الصوم محكَمة والثواب مقطوع به لمن أحسنه، وأن رخصة الفطر مِنْحَة من الشارع لأرباب الأعذار حقيقة، لا وهمًا وخيالًا ولا مغالطةً واحتيالًا، والاحتيال على الفطر فرارًا من الصوم لا يَخْفَى على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكل امرئ بما كسب رهين، وهو أدرى بحاله وانطباق الحكم عليه.(1/356)
وأجدر الناس بالطاعة والامتثال والصبر والاحتمال من يرجو من الله ـ سبحانه ـ أن ينير بصيرته ويلهمه الصواب ويُوَفِّقه للسَّدَاد ويفتح له المغاليق وييسر له الصعاب، وكيف يستقيم أن يَعصيَه ويترك فريضته بلا عذر يُسوِّغُه في الوقت الذي يَبْسُط إليه فيه يد الرجاء ويبتهل إليه بالدعاء ويستمد منه العَوْن والإلهام، وهو الفتاح العليم. والله أعلم.(1/357)
حكم علاج الضِّرْس في الصوم
(السؤال): شخص اشتدت آلام ضِرْسِه وهو صائم فاضطُّر لِوَضْع بعض مواد طبية مثل روح القَرَنْفُل، فهل يفطر بذلك؟
(الجواب): لا يُفْسد عندنا بوضع شيء من الزيت المعروف بروح القرنفل فوق الضرس وإن وجد الصائم طعمه في حلقه. وفي المحيط: "طعم الأدوية وريح العطر إذا وُجد في حلقه لا يفطر" ا.هـ بل لو وضع في ضرسه ثَمَر القرنفل ولم يدخل في جوفه لا يفطر؛ ففي شرح الدر: "لو مَضَغَ الأَهْلِيلَجَ فدخل البصاق حَلْقَه ولم يدخل من عَيْنِها في جوفه لا يفسد صومه" ا.هـ لعدم إمكان التحرز منه، بل فيه: "لو ابتلع ما بين أسنانه وهو دون الحمصة لا يفطر، وعلله في البحر بأنه فِعْل لا يمكن الاحتراز منه فيجعل بمنزلة الريق" ا.هـ والله أعلم.(1/358)
حكم قُبْلَة الصائم ولَمْسِه زوجتَه
(السؤال): وَرَدَ في حديث صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يباشر زوجاته وهو صائم، فما مَعْنَى هذه المباشرة؟
(الجواب): روى البخاري في صحيحه عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقَبِّل ويُبَاشِر وهو صائم، وكان أَمْلَكَكُم لِأِرْبِه (رواه الجماعة إلا النسائي كما ذكره صاحب منتقى الأخبار) والمباشرة في الأصل الْتِقَاء البَشَرَتَيْن، وتستعمل في الجِمَاع، ومنه قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ) والمراد بها في هذا الحديث لَمْسُ بَشَرةِ الرجل بَشَرةَ المرأة لا الجِمَاع، بدليل ما رواه البخاري عن عائشة نفسها في صدر الباب حين سألها حكيم ابن عقال: ما يحرُم عليّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فَرْجُها. وحين سألها مسروق: ما يحل للرجل من امرأته صائمًا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. وبدليل ما عرف من الشرع ضرورة من منافاة الجماعِ الصومَ وإفساده له، فَدَلَّ ذلك قطعًا على إرادة ما دون الجماع من لفظ المباشرة في هذا الحديث، من نحو القُبْلَة والمُعَانَقَة والملامسة والمداعبة. والمباشرة أعم من التقبيل، فعطفها عليه من عطف العام على الخاص. (والأرب) بفتح الهمزة والراء: الحاجة، ويُرْوَى بكسر الهمزة وسكون الراء: أي العضو المعروف، وقد أشار البخاري إلى ترجيح التفسير الأول، ومعناه أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أغلبكم لهواه وحاجته، وفسره الترمذي في جامعه بقوله: أَيُّكم أَمْلَك لنفسه. فمعنى لأربه: لنفسه. ورجحه الحافظ العراقي. وقد أشارت عائشة ـ رضي الله عنها ـ بقولها: وكان أملككم لأربه. إلى أنه يباح القبلة والمباشرة بغير الجماع لمن يَكُون مالكًا لأربه دون مَن لا يَأْمَن الإنزال أو الجماع.(1/359)
وبَيَّنَ ذلك الماوردي بقوله: يَنْبَغِي أن يُعْتَبَر حال المُقَبِّل، فإن أَثَارَت منه القبلة الإنزالَ حُرِّمَت عليه؛ لأن الإنزال يُمْنَع منه الصائم، فكذلك ما أَدَّى إليه. وإن لم تؤدِّ القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بِسَدِّ الذريعة.
ويقرُب منه قول النووي إن القبلة ليست مُحَرَّمَةً على مَن لم تُحَرِّك شهوتَه، لكن الأَوْلَى له تركها، أي خشية الوقوع في الحرام، وفي حديث الصحيحين: "من حام حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه" وأمَّا مَن حَرَّكَت شهوتَه فهي حرام في حَقِّه على الأصح اهـ.وقول الحافظ في الفتح إنه ينظر في ذلك إلى التأثر بالمباشرة (ومنها القبلة) وعدمه اهـ.
قال القَسطَلاَني: وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رخص في القبلة للشيخ وهو صائم، ونهى عنها الشاب، وقال: "الشيخ يَمْلِك أَرَبه، والشاب يَفْسُد صومه" ففهمنا من التعليل أنه دائر مع تحريك الشهوة بالمعنى المذكور، والتعبير بالشيخ والشاب جرى على الأغلب من أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم، ومن أحوال الشباب في قوة شهوتهم، فلو انعكس الأمر انعكس الحكم اهـ.
فقبلة الصائم ومباشرته بما دُونَ الجماع مِن المُبَاح ما لم تُثَرْ شَهْوَتُهُنَّ، فإن صحبهما إنزال فسد الصوم؛ لأن الإنزال بالمباشرة قضاء شَهْوَة الفرج وهو مُنافٍ للصوم.
قال النووي: ولا خلاف أن القبلة لا تبطل الصوم إلا إن أنزل بها اهـ.
وقال ابن قدامة: إن قَبَّلَ فأنزل أفطر بلا خلاف اهـ.
وكأنهما لم يعتدا بما ذهب إليه ابن شُبرُمة من أن القبلة مفطرة ولو لم ينزل، ولا بما ذهب إليه ابن حزم من أن التقبيل لا يُفْطِر ولو أَنْزَل.
وإذا فَسَدَ الصوم بالإنزال إثر التقبيل أو المباشرة بالمعنى المذكور ففيه القضاء عند الجمهور، والقضاء والكفارة عند المالكية.(1/360)
وفي الحالة التي تُبَاح فيها القُبْلَة والمباشرة ذَهَبَ قوم إلى كراهتهما كراهة تنزيه وهو مشهور مذهب المالكية، والكراهة التنزيهية لا تنافي الإباحة كما عُرِفَ في الفقه.
وذهب آخرون إلى عَدَم الكراهة، وهو المنقول عن أبي هريرة وسعيد وسعد بن أبي وقاص، وهناك من ذهب إلى تحريمها مُطْلقًا وهو مَحْجُوج بحديث عائش ومن ذهب إلى التفريق بين الشيخ والشاب، وقد عَلِمْتَ أن المَدَارَ على تحريك الشهوة وعدمه لا على السِّنِّ، بدليل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يقبل عائشة وهي شابة، على أن ابن القيم قد ذكر في الهَدْي أنه لم يَصِحَّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ التفريق بين الشاب والشيخ، ولم يَجِئْ من وَجْهٍ يثبت، وما رواه أبو هريرة مما يدل على هذا الفرق فحديث معلول.
أما الجماع الذي يوجب الغسل شرعًا فقد اتفق الأئمة على أنه يُفسد الصوم سواء أولَجَ أو لم يولج، وسواء أَنْزَلَ أو لم يُنْزِل، وفيه القضاء والكفارة والإثم العظيم.
ومما يجب التنبه له أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين كان يقبل زوجاته وهو صائم ويباشرهن (بالمعنى الذي أوضحناه) وهو صائم إنما كان ذلك لعدم تأثره بهما لشدة تَقْوَاه ووَرَعِه وضبطه لنفسه وحواسِّه، فكل مَن أَمِنَ على نفسه الإنزال أو الجماع كان في معناه فيلحق به في حكمه، ومن ليس في معناه فهو مغاير له في الحكم.
وأنه إنما فعل ذلك لا لشهوة التقبيل والمعانقة، بل للتشريع وبيان الرخصة والتيسير في أمر كثير الوقوع محبوب للنفوس، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وحسبك هذا في بيان الحديث، والله يتولى هداك.
تنبيه:
(مثل هذا الحديث لا يذكر للعامة إلا مشروحًا خشية الوقوع في اللبس والخطأ لعدم الفهم، ومن الحكمة تلوين الخطاب لهم بقدر ما تَسَعُه عقولهم)(1/361)
تدارك النزيف في الصيام
(السؤال): رجل يُنْزَفُ من أنفه ولو بقي أثناءه معتدل القامة يستنفد ذلك منه دمًا كثيرًا، ولو استلقى على ظهره حسب نصيحة أهل الخبرة يَتَسَرَّب الدم إلى حلقه، فما حكم صومه شرعًا؟
(الجواب): سألت طبيبًا فاضلًا فأخبرني بأن انقطاع النزيف مِن الأَنْف لا يَتَوَقَّف على الاستلقاء على الظهر، بل يمكن قَطْعُه باستنشاق الماء البارد في الوضع العادي بدون استلقاء، فلا ضرورة تدعو الصائم إلى الاستلقاء وَقْتَ النَّزْفِ حتى يَنْصَبَّ الدم في حلقه فيفطر بابتلاعه.
لذلك نُفتي السائل بأنه مادام في الإمكان علاج النزف باستنشاق الماء البارد لا يجوز الالتجاء إلى الاستلقاء الذي يفضي إلى الإفطار، فإذا تفاقم الأمر وقَرَّر طبيب حاذق ضرورة اتخاذ وسيلة أخرى للعلاج والإنقاذ تؤدي إلى الإفطار، كان هذا الصائم من أرباب الأعذار، فيفطر وعليه القضاء. والله أعلم.(1/362)
القبلة في الصوم
(السؤال): شاب قَبَّل شابة أَجْنَبِيَّة منه في نَهَار رمضان بشهوة وأَنْزَلَ، فهل يَفْسُدُ صَوْمُه بذلك؟ وهل عليه القضاء والكفارة أو القضاء فقط؟
(الجواب): لَقَد أَثِمَ هذا الشاب باقترافه هذا المنكر، وعليه التوبة منه، وفَسَدَ صومه، وعليه القضاء دون الكفارة. والله أعلم.(1/363)
العَجْز عن الصوم وحكمه
(السؤال): شخص اضطَّرَّه المرض إلى فِطْر أيام من رمضان، فما هو الواجب عليه شرعًا؟
(الجواب): مذهب الحنفية أن المريض الذي رَخَّصَ له الشارع في الفطر يجب عليه قضاء ما أفطره من أيام رمضان بعد زوال العذر، لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولا فِدْيَة عليه، خلافًا للشافعية حيث قالوا بوجوب القضاء والفدية لكل يوم مُدٌّ من حنطة.
فإن استمر مرضه إلى أن مات لم يَلْزَمه القضاء ولم يجب عليه الإيصاء بالفدية؛ لأن وجوبه فرع وجوب القضاء.
فإذا زال العذر ولم يقض ما فاته مع القدرة حتى شَارَف الموت وجب عليه الإيصاء بالفدية من ثلث ماله، فإن أَوْصَى وجب على وَلِيِّه أن يَفديَ عنه بعد موته عن كل يوم مثلَ فِطرة الصوم (عن كل يوم نصفُ صاع من بُرٍّ، أو صَاعٌ من تمر أو شعير، أو قيمة ذلك عند الحنفية).
وإن لم يوصِ وتَبَرَّع عنه وليه بالفدية جاز وسقط عنه الفرض، وإن بَقِيَ عليه إثم تأخيره كما لو كان على الميت دَين وماطل فيه حتى مات فأوفاه عنه وليه، فإنه يسقط عنه الدين ولكن يبقى عليه إثم المماطلة والتأخير.(1/364)
صوم الولي عن الميت
وهل يَصِحُّ صوم الولي عن الميت؟ اختلف الفقهاء في ذلك:
1 ـ فذهب أبو حنيفة ومالك، والشافعي في قوله الجديد، إلى أن الولي لا يصوم عن الميت بل يُطْعِم عنه لكل يوم مسكينًا، لما أخرجه النسائي عن ابن عباس موقوفًا: "لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد" ولِمَا أخرجه عبد الرزاق عن عائشة موقوفًا: "لا تصوموا عن موتاكم وأَطْعِموا عنهم".
ولا يُقَالُ: قد جاء في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إن أمي مَاتَت وعليه صَوْم شهر أَفَأَقْضِيه عنها؟ فقال: "لو كان على أُمِّك دَيْن أَكُنْتَ قاضِيَه عنها؟" قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يُقضَى" وعن عائشة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
لأنا نقول: إن هذا منسوخ؛ لأن فتوى الراوي بخلاف مَرويِّه بمنزلة رواية الناسخ.
هذا ما قالوه، وقد رده الشوكاني في نيل الأوطار بأن الحق اعتبارُ ما رواه الصحابي دون ما رآه، وما وَرَدَ مرفوعًا في الباب يَرُدُّ ذلك كله.
2 ـ وذهب أحمد والليث وأبو عبيد إلى أن الولي لا يصوم عن الميت في قضاء رمضان، وأمَّا في قضاء النذر فيصوم عنه.
3 ـ وذهب ابن حزم إلى أن الولي يَصُوم عن الميت وجوبًا أي صوم كان نذرًا أو غيره.
4 ـ وذهب الجمهور، ومنهم الشافعي في القديم، إلى أن الولي يصوم استحبابًا عن الميت. وقال النووي: إنه المختار من قول الشافعي، وقال به طاووس والحسن والزهري وقتادة وأبو ثور والأوزاعي، وإليه ذهب أصحاب الحديث. وقال البيهقي: هذه سنة ثابتة لا أعلم في صحتها خلافًا بين أصحاب الحديث.(1/365)
من هو الولي
وقد اختلف الفقهاء في المُرَاد بالوَلي؛ فاختار النووي أنه القريب وارثًا أو غير وارث، وقيل هو الوارث خاصة، وقيل هو العَصَبة، وذهب الحنفية إلى أنه المتصرف في المال، فيشمل الوصي ولو أجنبيًّا، كما ذكره ابن عابدين في الصوم.
جَعْل ثواب الصوم للميت
ومع أن الحنفية قد ذهبوا إلى أنه لا يصوم أحد عن أحد أخذًا من حديث ابن عباس، إلا أنهم قالوا: إن للولي وغيره أن يَجْعَل ثواب صومه وصلاته للميت تَبَرُّعًا بمثابة الصدقة، لِمَا صَرَّحَ به في الهداية من أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، صلاة أو صومًا أو صدقة أو حجًّا أو غيره.
وفي البدائع إن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد" إنما هو في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب. فإن من صام أو صلى أو تَصَدَّق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز، ويَصِل الثواب إليهم عند أهل السنة والجماعة.
وقد بَيَّنَّا ذلك تفصيلًا في فتوانا المسجلة بدار إفتاء الديار المصرية بتاريخ 14 أغسطس سنة 1947م برقم 377 مع تذييلها بتعليقات هامة وأسانيد شرعية وطُبِعَت بمفردها في أغسطس سنة 1947م.(1/366)
المريض الفاني
وينبغي أن يُعْلَم تَتِمَّةً لهذا البحث أن المريض الذي تَحَقَّقَ اليأس من صحته، أو الذي تتناقص صحته في كل يوم إلى أن يموت، وهو المسمَّى (بالشيخ الفاني) لفناء قوته، أو لإشرافه على الفناء حتى عجز عن الصوم ـ يُرَخَّص له فِطْر رمضان وتجب عليه الفدية عن كل يوم أفطره لو كان مُوسِرًا، ويُخَيَّر بيْن دفعها في أول الشهر أو في آخره، ولا يجب عليه القضاء، ولكنه إذا قدر على الصوم بعد أن أَخْرَجَ الفدية وجب عليه قضاء ما أفطره، إذ الفدية خَلَف عن الصوم المعجوز عنه لا غير، ومن هذا يتبين ما يجب على المريض في كل حال. والله أعلم بالصواب.(1/367)
هل وضع مِرهَم البواسير يُفطر
(السؤال): رجل مصاب بالبواسير ولابد له حين قضاء الحاجة من إدخال إصبعه في الموضع المعروف للتنظيف والتَّسَوُّك بالمرهم الموصوف، فهل ذلك يُفسد صومه؟ وهل يباح له الفطر لذلك شرعًا؟
(الجواب): قد نَصَّ الحنفية على أن إدخال الإصبع في هذا الموضع مُبْتَلَّة يُفْسِد الصوم، فإذا لم يكن لهذا المريض بُدٌّ من إجراء ما ذكَر في وقت الصوم كان من أرباب الأعذار المبيحة للفطر وعليه القضاء بعد البُرْء. والله أعلم.
(19) صوم رمضان في الأقطار التي لا تَطْلُع فيها الشمس أشهرًا أو يطول النهار فيها كثيرًا
(السؤال): تُقيم كريمتي وزوجها الآن في ألمانيا، وقد كَتَبَتْ إِلَيَّ تَسْتَفْهِمُ عن الواجب عليها وعلى المسلمين هناك في شهر رمضان بالنسبة إلى الصيام، حيث تقول: إن الشمس تستمر طالعة 20ساعة وتختفي أربع ساعات، فهل يلزمهم الصيام قبل طلوع الشمس بساعة ونصف، وهو وقت طلوع الفجر، وعلى ذلك فيَصُومُون إحدى وعشرين ساعة ونصف، ويُفطرون ساعتين ونصفًا أم ماذا؟ وما حكم الصلاة أيضًا في هذه البلاد وكذلك في البلاد التي تستمر فيها الشمس طالعة نحو ستة أشهر وتغيب نحو ستة أشهر؟
هذا يا صاحب الفضيلة ما نريد الاستفهام عنه، فلعلنا نظفر في وقت قريب بما يزيل العقبات عن المقيمين في تلك البلاد ببيان حكم الله ـ تعالى ـ تيسيرًا عليهم وتبيانًا لسماحة الدين الحنيف.(1/368)
(الجواب): اطلعنا على هذا السؤال ونُفِيدُ بأنه فيما يختص بالبلاد التي تغيب فيها الشمس ستة أشهر أو نحو ذلك اختلف الفقهاء في وجوب الصلاة على المقيمين بها وعدم وجوبها، فقال بعضهم: لا تجب الصلاة عليهم لعدم وجود السبب وهو الوقت. وقال بعضهم: تجب عليهم الصلاة، وعليهم أن يُقَدِّروا لها أوقاتها بالقياس على أقرب البلاد التي تطلُع فيها الشمس وتغرُب كل يوم. والقول الأخير قول الشافعية، وهو قول مصحَّح عند الحنفية، وهو الذي اخترناه للفتوى مراعاة لحكمة تشريع الصلاة.
وفيما يَخْتَصُّ بصوم أهل هذه البلاد فإنه واجب عليهم، وعليهم أن يَتَحَرَّوا عن دخول شهر رمضان وعن مدة الصيام فيه بالقياس على أقرب البلاد التي شهد أهلها الشهر وعرفوا وقت الإمساك والإفطار فيه، وهو كذلك مذهب الشافعية الذي اخترناه للفتوى.
وأما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصلاة يَجِب عليهم أداؤها في أوقاتها لتميزها تميزًا ظاهرًا. وبالنسبة للصوم يجب عليهم الصوم في رمضان مِن طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أَدَّى الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصوم الهلاكَ أو المرضَ الشديد فحينئذ يُرَخَّص له الفطر، ولا يُعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال وإنما المعتبَر غلبة الظن بواسطة الأمارات أو التجربة أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يُفْضِي إلى الهلاك أو المرض الشديد أو زيادة المرض أو بطء البُرْء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة. وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطر. والله تعالى أعلم.(1/369)
حكم صوم الست من أيام شوال
(السؤال): رُفع إلينا سؤال عن حكم صوم الست من شوال بعد يوم عيد الفطر متتابعة.
(الجواب): إنه وَرَدَ في الحديث كما في نَيْل الأوطار عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال فذاك صيام الدهر" رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، ورواه أحمد من حديث جابر. وعن ثوبان عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" رواه ابن ماجه اهـ.
وبيانه أن الحَسَنَة بعشر أمثالها، فصيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام الست بستين يومًا، وهذا تمام السنة، فإذا استمر الصائم على ذلك كل عام فكأنه صام دهره كله.
وفي الحديثين دليل على استحباب صوم الست بعد اليوم الذي يفطر فيه الصائم وجوبًا، وهو يوم العيد، والمتبادَر من الإتْباع أن يكون صومها بلا فاصل بينه وبين صوم رمضان سِوَى هذا اليوم الذي يُحَرَّم فيه الصيام، وإن كان اللفظ يَحتمل أن يكون الستُّ من أيام شوال والفاصلُ أكثرَ من ذلك.
كما أن المتبادَر أن تكون الست متتابعة، وإن كان يجوز أن تكون متفرقة في شوال، فإذا صامها متتابعة من اليوم الثاني منه إلى آخر السابع فقد أتى بالأفضل، وإذا صامها مجتمعة أو متفرقة في شوال في غير هذه المدة كان آتيًا بأصل السنة.
وممن ذهب إلى استحباب صوم الست الشافعيةُ وأحمد والظاهرية، ففي المجموع للنووي: ويستحب صوم الست من شوال لما رواه مسلم وأبو داود، واللفظ لمسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر كله" ويستحب أن يصومها متتابعة في أول شوال (أي بعد اليوم الأول منه الذي يحرم فيه الصوم) فإن فَرَّقَها أو أخَّرها عن أول شوال جاز وكان فاعلًا لأصل السنة لعموم الحديث وإطلاقه، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال أحمد وداود ا.هـ ملخصًا.(1/370)
وفي المغني لابن قدامة إن صوم الست من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم، وبه قال الشافعي، واستدل أحمد بحديثَي أبي أيوب وثوبان ا.هـ ملخصًا.
والمختار عند الحنفية كما في الدر وحاشيته أنه لا بأس به؛ لأن الكراهة إنما كانت لأنه لا يُؤْمَن أن يُعَدَّ ذلك من رمضان فيكون تشبهًا بالنصارى، وذلك مُنْتَفٍ بالإفطار أول يوم من شوال، كما في التجنيس لصاحب الهداية والنوازل لأبي الليث والواقعات للحسام الشهيد والمحيط البرهاني والذخيرة. وكان الحسن بن زياد لا يرى بأسًا بصومها، ويقول: كَفَى بيوم الفطر مُفَرِّقًا بينها وبين رمضان. وكذلك عامة المتأخرين لم يَرَوْا بأسًا بصومها. واختلفوا هل الأفضل التفريق أو التتابع ا.هـ من الغاية. وكرهه أبو يوسف، وقد علمت أن المختار خلافه عندنا.
وكره مالك صومها، وقال في الموطأ كما نَقَلَه في المجموع: وصوم ستة أيام من شوال لم أَرَ أحدًا من أهل العلم والثقة يصومها، ولم يبلغنا ذلك عن أحد من السلف، وأن أهل العلم كانوا يَكْرَهُون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلحِقَ برمضان أهلُ الجفاء والجهالة ما ليس منه لو رأَوا في ذلك رخصةً عند أهل العلم ورَأَوهم يفعلون ذلك ا.هـ وقد ضعفه النووي في المجموع وابن قُدَامة في المغني والشوكاني في نَيْل الأوطار، والصحيح ما قدمناه. والله أعلم.
تَمَّ الجزء الأول من الفتاوى، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين.(1/371)
الصوْم عن الميت ومذاهب الأئمة فيه:
قال في المغني: وسأله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلٌ عن أمه التي ماتت وعليها صومُ شهرٍ، أفأصومُ عنها؟ قال: "نعم". ا هـ.
وعن ابن عباس قال: جاء رجلٌ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صومُ شهرٍ، أفأقضيه عنها؟ فقال: "لو كان على أمك دَيْنٌ أكنتَ قاضيه عنها؟ "قال: نعم. قال: "فَدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقضَى". "رواه البخاري ومسلم".
وعنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صومُ نذْرٍ، أفأصوم عنها؟ فقال: "أرأيتِ لو كان على أمكِ دَين فقضيتِه أكان يُؤدَّى ذلك عنها؟". قالت: نعم. قال: "فصُومي عن أمكِ". "رواه مسلم وأخرجه البخاري تعليقًا بمعناه".
وعن عائشة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن مات وعليه صيام صام عنه وَلِيُّهُ. (سيأتي بيان الولي بعد). "متفق عليه". ورُوي نحوه عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما.
وهو تقرير لقاعدة عامة فِيمَن مات وعليه صوم واجب، بأيِّ سبب من أسباب الوجوب أنه يُصام عنه ويسقط عنه الواجب بفعل النائب عنه. وكذلك حديث ابن عباس الأول، ويُشير إلى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه: "فدَينُ الله أحقُّ أن يُقضَى". وأما حديث ابن عباس الثاني، فهو تنصيص على بعض أفراد العام، وهو صوم النذر فلا يَصلح مُخصِّصًا ولا مقيِّدًا لحديث عائشة.(1/372)
فاستُفيد من هذه الأحاديث ـ كما يُؤخذ من نيل الأوطار ـ أن الوليَّ يصوم عمَّن مات وعليه صوم واجب بعد التمكُّن من أدائه، أيَّ صوم كان، نذْرًا أو غيره، وجوبًا كما قاله ابن حزم، أو استحبابًا كما ذهب إليه الجمهور، ومنهم الشافعي في القديم، وصححه النووي وقال: إنه المختار مِن قول الشافعي. وقال به من السلف طاوس والحسن والزهري وقتادة وأبو ثور وداود. وإليه ذهب أصحاب الحديث وجماعة من مُحدِّثي الشافعية والأوزاعى. وقال البيهقي: هذه السُّنة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أصحاب الحديث في صحتها فوجب العمل بها انتهى.
ويجب عليه الإيصاء به، وبصومه عن الميت تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ منه.
"أقول": وفي تشبيهه في الأحاديث بقضاء الدَّيْنِ عنه دليل على إجزائه عن الميت وفراغ ذِمته منه.
14- الإطعام عمن مات وعليه صوم:
وذهب أبو حنيفة والشافعي في قوله الجديد، والثوري في رواية إلى أن الولي لا يصوم عن الميت في النذر ولا في غيره؛ بل يُطعم عنه لكلِّ يوم مسكينًا، استنادًا لمَا أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس "موقوفا" أنه قال "لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، ولا يُصلِّي أحدٌ عن أحد، ولكن يُطعِم عنه". ولمَا أخرجه عبد الرزاق عن عائشة "موقوفا" أنها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم، وأطْعِمُوا عنهم. (يؤخذ منه انتفاع الميت بالإطعام عنه) ولأن الصوم عبادة بدنية لا ينوب فيها أحد عن أحد كالصلاة، وفُتْيَا ابن عباس وعائشة بهذا ـ وهو خلاف ما رَوَيَاهُ "مرفوعا" من صوم الولي ـ بمنزلة رواية الناسخ.
ورده الشوكاني تبعًا للحافظ في الفتح بأن الحق اعتبار ما رواه الصحابي دون ما رآه لاحتمال أن يُخالف ذلك الاجتهاد وقال: وما رُوي مرفوعًا في الباب يَرُدُّ ذلك كله. اهـ.(1/373)
وذهب أحمد والليث وأبو عبيد وإسحاق إلى أن الولي لا يصوم عن الميت إلا في النذْر؛ تَمَسُّكًا بأن حديث عائشة مُطلق، وحديث ابن عباس الثاني مُقيد، فيُحمل المطلق على المقيد، ويكون المراد ممَّن قوله في الحديث الأول "وعليها صيام" أيْ: صيام نذْر، وقد علمتَ الجواب عن ذلك مما سلَف. (أيْ: في قولنا وهو تقرير لقاعدة عامَّة.. الخ).
أما في غير النذْر ـ فالواجب أن يُطعِم عنه لكل يوم مسكينًا؛ لمَا رُوي عن ابن عمر "موقوفًا بإسناد حسن" مَن مات وعليه صيام شهر فلْيُطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا. "رواه ابن ماجه"، وعن عائشة قالت: يُطعم عنه في قضاء رمضان ولا يُصام عنه. وسُئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذرٌ أن يصوم شهرًا، وعليه صيام رمضان. فقال: أما رمضان فليُطعم عنه، وأما النذْر فيُصام عنه.
وفرَّق في المغني بين النذر وغيره، وقال تفريعًا عليه: إن الصوم "أي في النذر" ليس بواجب على الولي؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شبَّهه بالدَّين، ولا يجب على الولي قضاء دين الميت، وإنما يتعلَّق الوجوب بتَرِكته إنْ كان له تركة، وإلا فلا شيء على وارثه، ولكن يُستحب أن يُقضى عنه لتفريغ ذِمته وفكِّ رِهانه فكذلك ها هنا.
ولا يختصُّ ذلك بالولي، بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه وأجزأه؛ لأنه تبرُّعٌ، فأشبه قضاء الدين عنه. اهـ. وقد علمت الجواب عن ذلك مما تقدم.
15- من هو ولي الميت؟ وهل يختصُّ الصوم بالولي؟
وقد اختلف الفقهاء في المراد بالولي؛ فاختار النووي في شرح مسلم أنه القريب وارثًا أو غير وارث. وقيل: هو الوراث خاصة وذهب الحنفية إلى أنه هو المُتصرِّف في المال، فيشمل الوصي ولو أجنبيًّا، كما ذكره ابن عابدين في الصوم.(1/374)
كما اختلفوا في أنه هل يختص الصوم بالولي أم لا؟ فقيل: يختص به، ورجَّحه الشوكاني تبعًا للحافظ في الفتح؛ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية؛ ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك بعد الموت، إلا ما ورد فيه النصُّ، فيُقتصر عليه، ويبقى الباقي على الأصل. وصححه النووي وقال: إنه لو صام عن الميت أجنبيٌّ، فإذا كان بإذن الولي صحَّ وإلا فلا. وزاد الإمام القسطلاني الشافعي (المتوفى سنة 923 هـ) أنه يصحُّ الصوم عن الميت من الأجنبي إذا أذِن له الميت أو الولي بأُجْرة أو بدونها اهـ.
وقيل: لا يختصُّ به، بل يُقبل منه ومن المُتبرع ولو أجنبيًّا، وهو صريح عبارة المغني وظاهر صنيع البخارى، وبه جزَم أبو الطيب الطبري وقوَّاه بتشبيهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بالدَّيْن، والدَّين لا يختصُّ بالقريب، ذكره الحافظ في الفتح.
وقال الحنفية: إن مَن أفطر لعُذر كالمرض ومات وهو على حاله لا يجب عليه القضاء؛ لعدم إدراكه عدةً مِن أيام أُخر؛ إذ وُجوب القضاء فرعُ وجوبِ الأداء، وهو لم يجب عليه الأداء، ولا يجب عليه الإيصاء بالإطعام. ولكن لو أوصى به صحَّتِ الوصية ونُفِّذَتْ من الثلث.
فإذا برأ مِن مرضه ولم يَقضِ ما فاته مع تَمكُّنه حتى أدركه الموت لزِمه القضاء ووجب عليه الإيصاء بأن يُطعم عنه لكل يومٍ مسكينًا؛ لأنه لمَّا عجز عن القضاء بعد وُجوبه بتقصيرٍ منه تحوَّل الوُجوب إلى بدله، وهو الإطعام فوجب عليه الإيصاء به، ويجب على الوليِّ تنفيذ الوصية من الثلث، فإن لم يُوصِ لم يجب عليه الإطعام عنه، فإنْ تبرَّع به هو أو أجنبيٌّ عنه جاز مُعلَّقًا بمشيئة الله ـ تعالى ـ وكان ثوابه للميت.(1/375)
ولا مانع من القول بسقوط المُطالبة في الآخرة عن الميت بالصوم إذا أطعم عنه الوليُّ بعد وفاته وإنْ بقي عليه إثْم التأخير، كما لو كان عليه دين لإنسان فمَاطَلَهُ به حتى مات ثم أدَّاه عنه مُتبرِّع، فإنَّ ذِمَّته تفرغ منه، ويبقى عليه إثْم المُمالطة إلى الموت.(1/376)
الحج يُكفِّر الذنوب ولا يُسقط الحقوق
(السؤال) هل الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة يكفِّر جميع الذنوب والمعاصي السالفة، ويُسقط ما على الإنسان من حقوق لله تعالى وللعباد ؟
(الجواب) روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (من حج لله فلم يرفُث) الرَّفَث: الفُحش في القول. وقال الأزهري: هو كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة (ولم يفسُق) لم يأت بسيئة ولا معصية (رجع كيوم ولدته أمه) أي رجع من ذنوبه مشابهًا لنفسه في أنه يخرج بلا ذنب كما خرج يوم الولادة بلا ذنب والذنوب تشمل الصغائر والكبائر والتَّبِعات فيكفرها جميعًا الحج المبرور المقبول المأجور.
أما الصغائر فلا خلاف في أنه يكفِّرها ويهدمها. وأما الكبائر والتبعات فليس معنى تكفيره إياها ما يظنه كثير من الناس خطأ من أنه يُسقطها، سواء تعلقت بحق الله تعالى أو بحق العبد، فإنه لم يقل أحد بذلك وإنما معناه أنه يسقُط إثم تأخير التوبة منها فقط. أما الحقوق نفسها فإنها لا تسقط مطلقًا، لأنها ليست ذنوبًا ومعاصيَ، وإنما الذنب والمعصية تأخيرها، وهو الذي يُسقطه الحج المبرور، ويجب على من عليه هذه الحقوق أداؤها بلا تأخير، وإذا أتم الحج بالوقوف بعرفة واستمر على تأخيرها صار آثمًا من جديد بهذا التأخير.
ذكر ذلك العلامة ابن نجيم في (البحر الرائق) وبيَّنه العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه بما خلاصته "أن من أخَّر صلاة عن وقتها فقد ارتكب معصية وهي التأخير، ووجب عليه القضاء، وإذا مطَل الدَّينَ فقد ارتكب معصية هي المَطل مع وجوب القضاء، وكذلك من قتل إنسانًا فقد ارتكب معصية وهي الجناية على النفس، ووجب عليه شيء آخر وهو تسليم نفسه للقصاص أو تسليم الدية، فإذا أخرها كانت معصية أخرى غير معصية القتل.(1/377)
وكذا نظائر ذلك مما يكون معصية يترتب عليها واجب، سواء كان هذا الواجب من حقوق الله تعالى أم من حقوق العباد. فما ورد في الأحاديث من تكفير الحج للذنوب والتَّبِعات فالمراد تكفيره لما هو ذنب وكبيرة كتأخير الصلاة ونحوها ومَطل الدين والجناية على النفس.
وأما الواجبات المترتبة على ارتكاب تلك الذنوب، من لزوم قضاء الصلاة وأداء الدين وتسليم نفسه للقصاص أو تسليم الدية، فإنها لا تسقط؛ لأنها ليست ذنوبًا بل هي واجبات. والتكفير إنما يكون للذنوب، ألا ترى أن التوبة تكفر الذنوب بالاتفاق، ولا يلزم من ذلك سقوط الواجبات المترتبة على تلك الذنوب.
على أن التوبة من ذنب الغصب مثلًا لا تتم إلا بأداء واجب وهو رد المغصوب أو ضمانه، ولا يخرج الغاصب عن عهدة الغصب في الآخرة إلا به، فمن غصب شيئًا ثم تاب لا تتم توبته إلا برده أو ضمانه دون تأخير.
والحج كالتوبة في تكفير الكبائر، سواء تعلقت بحقوق الله تعالى أو بحقوق العباد أو لم تتعلق بحق أحد، أعني لم يترتب عليها واجب آخر كشرب الخمر ونحوه، فيكفِّر الحج الذنب ويبقى حق الله تعالى وحق العبد في ذمته، إن كان ذنبًا يترتب عليه حق الله أو حق العبد، وإلا فلا يبقى عليه شيء.
وقد أشار إلى ذلك العلامة اللقاني في شرحه الكبير على (جوهرة التوحيد) حيث قال: "إن من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أي سقط عنه إثم مخالفة الله تعالى، ولا يتناول ذلك حقوق الله وحقوق العباد؛ لأنها في الذمة وليست ذنوبًا، وإنما الذنب المَطل في الحق فيتوقف على إسقاط صاحبه " اهـ.
ونقل القسطلاني عن الترمذي أن الحقوق نفسها لا تسقط بالحج، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه بالحج؛ لأنها حقوق لا ذنوب وإنما الذنب تأخيرها، فالتأخير يسقط بالحج لا هي أنفسها، ولو أخرها بعد الحج تجدد إثم آخر.
وبالجملة فالحج المبرور يُسقط إثم المخالفة لا الحقوق. انتهى بإيضاح.(1/378)
وظاهر أنه لا فرق في ذلك بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فيسقط في الكل إثم التأخير فقط بالنسبة لما مضى دون الأصل ودون التأخير المستقبل، كما بيَّنه ابن نُجيم وابن عابدين.
ومن هذا يُعلم أن المظالم والتبعات وإن سقط بالحج إثم تأخيرها في الماضي لا تسقط هي، بل لا بد من وفائها، وأنه يتجدد إثمٌ آخر بعد الحج بتأخير الوفاء مع القدرة عليه، فإن عجز عن الوفاء وتاب إلى الله تعالى ومات على ذلك يُرجَى أن يسقُط عنه إثم التأخير عن الوفاء. والله أعلم.(1/379)
الحج بمال حرام غير مقبول
(السؤال) هل يسقط فرض الحج إذا حج الإنسان بمال حرام؟
(الجواب) الحج فرض على من استطاع إليه سبيلاً، فمتى أدَّاه المكلَّف بأركانه وشروطه صح شرعًا وسقط عنه، سواء أدَّاه بمال حلال أو حرام، غير أنه إذا أدَّاه بمال حلال كان حجه صحيحًا مقبولًا، وترتَّب عليه الثواب المُدَّخر عند الله تعالى لحجاج بيته العظيم. وإذا كان أدَّاه بمال حرام كان صحيحًا ولكنه غير مقبول فلم يكن له ثواب فيه.
وذلك أن الصحة الشرعية تعتمد أداء الفعل بأركانه وبشروطه، وأثرُها سقوطُ الفرض وتفريغُ الذمة مما شُغلت به، وأنه لا يُعاقَب عقاب تارك الحج، وأثر كونه بمال حرام أنه لا يُقبل منه فلا يُثاب عليه. ولا يلزم من الصحة القبول، ألا ترى من صلَّى مرائيًا، فإنه بإتيانه بالفعل سقط عنه الفرض، ولكنه بقصده الرياء لم يُقبل منه فلم يُثَبْ عليه، وكذلك الصائم المغتاب يسقط عنه فرض الصوم لأدائه بالفعل، ولكن لا يُقبل منه لارتكابه معصية الغيبة فلا يُثاب عليه، فالفعل في الحالتين صحيح شرعًا ولكن بلا ثواب.
قال في (البحر الرائق): "ويجتهد ـ أي الحاج ـ في تحصيل نفقة حلال، فإنه لا يُقبل بالنفقة الحرام، كما في الحديث، مع أنه يسقط الفرض عنه معها، ولا تَنافيَ بين سقوطه وعدم قبوله، فلا يُثاب عليه لعدم القبول ولا يعاقَب عقاب تارك الصلاة" انتهى. أي لسقوط الفرض بسبب إتيانه بالفعل مستوفيًا أركانه وشروطه. ومن هذا يُعلم أن الحج بمال حرام وإن سقط به الفرض غير مقبول عند الله تعالى ولا ثواب له. والله أعلم.(1/380)
الوفاء بالحج المنذور
(السؤال) نذر إنسان لله تعالى أن يحج إلى بيته الحرام إن شفاه الله من مرضه، وكان قد أدى فريضة الحج قبل ذلك، فشفاه الله وتيسرت له أسباب الحج من جهة المال، فعزم على الوفاء بالنذر في هذا العام، غير أن الأطباء قرروا أنه وهو في الحادية والسبعين من عمره لا يمكن أن يتحمل حرارة الجو بالأقطار الحجازية في هذا العام، فماذا يصنع للوفاء بهذا النذر؟ وهل يكفي التصدق بالمال الذي أعدَّه للحج؟
(الجواب) مذهب الحنفية أن من نذر طاعة لله تعالى كالحج مثلًا وجب عليه الوفاء بهذه القربة التي التزمها في الحال إن كان النذر مطلقًا مثل "لله عليَّ حجة" أو عند تحقق الشرط إن كان النذر معلقًا مثل "إن شفاني الله فعليَّ لله حجة" لقوله تعالى: (ولْيُوفُوا نُذورَهم) وقوله: (وأوفَوا بعهدِ الله إذا عاهدتم) والنذر نوع عهد من الناذر مع الله ـ عز وجل ـ فيلزمه الوفاء بعهده، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" ولا تجزئ عنه الكفارة، سواء أكان الشرط المعلق عليه مما يقصد الناذر حصوله كالمثال المذكور أم لا، نحو "إن دخلت هذه الدار فلله عليَّ حجة".
وقال في "البدائع": ثم الوفاء بالمنذور به نفسه حقيقة إنما يجب عند الإمكان، فأما عند التعذر فإنما يجب الوفاء به تقديرًا بخلفه؛ لأن الخلف يقوم مقام الأصل كأنه هو، كالتراب حال عدم الماء، وكالأشهُر حال عدم الأقراء (جمع قُرء وهو الحيض) حتى لو نذر الشيخ الفاني الصوم يصح نذره وتلزمه الفدية؛ لأنه عاجز عن الوفاء بالصوم حقيقة، فيلزمه الوفاء به تقديرًا بخلفه ويصير كأنه صام. اهـ(1/381)
والفدية خلف عن الصوم عند العجز عنه بالنص، فإذا نذر إنسان الحج وجب عليه الوفاء به في الحال إن كان النذر مطلقًا، وعند تحقق الشرط إن كان معلقًا، وكل ذلك عند الإمكان، فإذا عجز عن ذلك لعذر كالمرض مثلًا تُقبل النيابة عنه في الحج ويسقط عنه الفرض بحجة النائب إذا كان العذر لا يُرجَى زواله كالعَمَى والزِّمَانة والكِبَر الذي لا يستمسك معه الإنسان على الراحلة، ولا إعادة عليه مطلقًا، سواء استمر به ذلك العذر أم لا.
وأما إذا كان العذر مما يُرجَى زواله فيُشترط لجواز النيابة عنه في الحج دوامُ العجز إلى الموت حتى يَستوعب العجزُ بقيةَ العمر ويَقعَ به اليأس عن الأداء بالبدن، وينبني على ذلك أنه إذا زال العذر وجب عليه أداء الحج بنفسه، ولم تُعتبر حجة النائب عنه، وإذا لم يَزُل العذر حتى مات ظهر أن حج الغير عنه وقع صحيحًا مجزيًا وخرج به عن عهدة النذر.
ولجواز حج الغير عن العاجز شروط مذكورة في بابه، منها أن يكون للعاجز عن الحج ببدنه مال ينفق منه على النائب عنه في الحج، فإذا لم يكن له مال لم يجب عليه الحج بنفسه، فلا يُقبل منه أن ينيب عنه غيره فيما لم يجب عليه، وقد نصُّوا على أن العذر يجب أن يكون قائمًا قبل إنابة الغير عنه، وعلى أن تكون نفقة النائب على الآمر بالحج من مصاريف السفر ذهابًا وإيابًا وإقامة إلى آخر ما ذكر من الشروط.
أما التصدق بالمال ممن عجز عن الحج بنفسه فلم يشرع خلفًا للحجة المفروضة أو المنذورة، فلا يخرج به عن عهدة الفرض أو النذر ولا تسقط به عنه هذه الحجة.
وظاهر أن الشيخوخة وحرارة الجو مجتمعتَين لا تُعَدّان عذرًا مانعًا من الوفاء بالحجة المنذورة بالنفس، إلا إذا غلب على الظن بمعونة رأي أحد الأطباء المسلمين الحاذقين أو التجربة الصادقة حدوث ضرر معه من أداء الحج بالنفس، كما نصُّوا عليه في باب الصوم.
ومن هذا يُعلم الجواب عن السؤال. والله أعلم.(1/382)
حكم الحج بمال من ربح الحشيش ونحوه
(السؤال) رجل يجمع أموالًا من أرباح الاتجار في الحشيش ونحوه من المحرمات ثم يحج بهذا المال فهل يسقط عنه الفرض؟
(الجواب) تعاطي الحشيش حرام، يجب تعزير متعاطيه عند الحنفية والشافعية، وإقامة الحد عليه عند الإمام ابن تيمية من أئمة الحنابلة، والاتجار في المُحرَّم حرام، والكسب منه خبيث، والحج من مال حرام غير مقبول ولا ثواب له وإن سقط به الفرض.
وقد نصَّ فقهاء الحنفية على أن الحج عبادة تؤدَّى بالنفس والمال معًا، فيجب أن يكون المال حلالًا، فإذا أدَّاه بمال حرام فمع صحة الحج وسقوط الفرض لم يكن له ثواب عليه، وأثم من حيث إنفاق المال الحرام فيه، وذلك كمن صلَّى في أرض مغصوبة فإن الفرض يسقط عنه بأداء الصلاة ولكن مع الإثم لشَغل المكان المغصوب. ومثل هذا المال في الحكم سائر الأموال المحرمة كالربا والمال المغصوب والمسروق ونحو ذلك؛ لأن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان من حلال طيب. والله أعلم.(1/383)
جواز الحج بالمال الموهوب
(السؤال) هل يجوز للمسلم أن يؤديَ الحج من المال الموهوب له بقصد المساعدة على الحج أو من الجوائز المالية التي تُعطى له ولو بهذا القصد ؟
(الجواب) نعم، يجوز للإنسان أن يؤديَ الحج فرضًا أو نفلًا من المال الذي يوهَب له ومن الجوائز المالية التي تُمنح له، ولو كان المقصود من إعطائها إياه المساعدة على أداء الحج؛ لأنه قد ثبت له مِلك هذه الأموال بمجرد قبضها ملكًا صحيحًا، فكان له حق التصرف فيها بسائر أنواع التصرف كما يدل عليه حديث بَريرة، فقد تُصدِّق عليها بلحم فأحضرته إلى بيت مولاتها أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فطبخته ولم تقدمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طعامه لظنها أنه صدقة يحرُم عليه الأكل منها، فسأل عنه ليأكل منه وقال: "هو لك صدقة ولنا هدية" أي أن تَملُّكه بالصدقة يجيز لها التصرف فيه بالإهداء، ولذلك حل للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأكل منه مع حُرمة أكله الصدقة. والله أعلم.(1/384)
حكم الحج عن الميت
(السؤال) إذا تُوفِّيَ أحد قبل أن يؤدي فريضة الحج مع وجوبها عليه فهل يجوز شرعًا أن يحج غيره عنه بمال يدفعه إليه الوارث أو غيره تبرعًا منه؟ وهل يسقط الفرض عن المتوفَّى بذلك؟
(الجواب) يجوز الحج عن الميت الذي لم يؤدِّ فريضة الحج مع استطاعة السبيل إليه سواء أكان المؤدِّي وارثًا أو غيرَ وارث؛ لما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها ؟ قال: "نعم حُجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دَين أكنتِ قاضيتِه؟ اقضوا اللهَ فالله أحق بالوفاء" (رواه البخاري والنسائي بمعناه) وفي رواية أخرى: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن أختي نذرت أن تحج... إلى آخره. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "نعم" دليل على إجزاء الحج عن الميت من الولد وكذلك من غيره فيما وجب عليه بنذر أو غيره بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء" وفي الرواية الثانية دليل على صحة الحج عن الميت من غير الوارث لعدم استفصاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأخ هل هو وارث أو لا ؟ إذ تَرْكُ الاستفصالِ منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مقام الاحتمال يُنزَّل منزلة العموم في المقال كما تقرر في الأصول.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلٌ فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ قال: "أرأيت لو أن أباك ترك دينًا عليه أقضيته عنه؟" قال: نعم. قال: "فاحجج عن أبيك" رواه الدارقطني. وفيه دليل على أنه يجوز للابن أن يحج عن أبيه حجة الإسلام بعد موته وإن لم يقع منه وصية ولا نذر.(1/385)
ويدل على جواز الحج من غير الولد حديث شُبرُمة، وهو ما رُوي عن ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة. فقال: من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: "حججت عن نفسك؟" قال: لا. قال: "حُج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (رواه أبو داود وابن ماجه)
وفي شرح مسلم للنووي أن جواز الحج عن الميت مذهب جمهور الأئمة، سواء أكان العجز عن حج مفروض أم عن حج منذور، وسواء أوصى به الميت أم لا، ويجزئ عنه، وقال مالك والليث لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام.
ويُشترط لجواز هذه النيابة أن تكون نفقة المأمور بالحج في مال الآمر المتبرع، وهي ما يحتاج إليه في الحج من مصاريف السفر برًّا أو بحرًا، والطعام والشراب وثياب الإحرام والمسكن، وأن ينويَ النائب الحجَّ عن المتوفَّى. والأفضل عند الحنفية أن يكون النائب قد أدَّى أولًا فريضة الحج عن نفسه إذا تحقق وجوبها عليه كما جاء في حديث شبرمة. والله أعلم.
الحجُّ عن الميت:
قال في المغنى: وجاءت امرأة من "جُهينة" إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أمي نذرتْ أن تحجَّ فلم تحج حتى ماتت، أفَأَحُجُّ عنها؟ قال:"نعم حُجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دَيْنٌ، أكنتِ قاضِيَتِهِ؟ اقْضُوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء". اهـ. "رواه البخاري عن ابن عباس والنسائي بمعناه".
وفي رواية لأحمد والبخاري في النذور بمثل ذلك، وفيها قال: أتى رجل النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن أحتي نذرتْ أن تحج... الخ اهـ.
وفي رواية: أفيَجزي عنها أن أحجَّ عنها ؟ قال: "نعم" اهـ.
وفي قوله: "نعم". دليل على إجزاء الحج عن الميت من الولد، وكذلك من غيره، فيما وجب عليه بنذرٍ، أو غيره، بدليل قوله: "اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء".(1/386)
وفي قوله: "أكنتِ قاضيتِه". دليل على أن مَن ماتُ وعليه حجٌّ، وَجَبَ على وَلِيِّهِ أن يُجهِّز مَن يحجُّ عنه من رأس ماله؛ كما أن عليه قضاء دُيونه منه، ويُجزئ عنه فتفرغ ذِمَّته منه.
وفي شرح الطحاوية: "وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يُسقطه من ذمة الميت ولو كان مِن أجنبي ومن غير ترِكته كما دلَّ عليه حديث أبي قتادة. اهـ.
ويلحق بالحج كلُّ حقٍّ ثبت في ذمته لله ـ تعالى ـ من نذْر أو كفارة أو زكاة أو غير ذلك.
وفي الرواية الثانية دليلٌ على صحة الحج عن الميت من غير الوارث لعدم استفصاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأخ هل هو وارث أو لا، وترك الاستفصال منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في مقام الاحتمال ينزل منزلةَ العموم في المقال؛ كما تقرَّر في الأصول.
وعن ابن عباس: أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلٌ فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام، أفأحجُّ عنه؟ قال: "أرأيتَ لو أن أباكَ ترك دَيْنًا عليه، أقضيْتَه عنه" ؟ قال: نعم. قال: "فاحْجُجْ عن أبيكَ". "رواه الدارقطنى".
وفيه دليل على أنه يجوز للابن أن يحجَّ عن أبيه حجة الإسلام بعد موته وإنْ لم يقع منه وصيةٌ ولا نذر.
ويدلُّ على جواز الحج عن الميت من غير الولد: حديث شبرمة: وهو ما روي في السُّنن وصحيح ابن خزيمة وغيره عن ابن عباس: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة فقال: "مَن شبرمة"؟ قال: أخٌ لي أو قريبٌ لي قال: "أحججتَ عن نفسك؟ "قال: لا. قال: "حُجَّ عن نفْسكَ، ثم حُجَّ عن شبرمة". "رواه أبو داود وابن ماجة".
وقال البيهقى: هذا إسناد صحيح، ليس في الباب أصحُّ منه، وفي رواية : "هذه عنك، وحج عن شبرمة" .(1/387)
وبهذا الحديث أخذ الشافعية والحنابلة والأوزاعي وإسحاق أنه لا يجوز إحجاج الصَّرورة عن غيره، (وهو الذي لم يحج عن نفسه حجة الإسلام وسُمِّي صَرورة من الإصرار وهو التشدُّد في الذنب والامتناع عن الإقلاع عنه وأصله من الصَّرِّ؛ وهو الشدة، كما أشار إليه الراغب في مفردته). وذهب الحنفية ومالك وأحمد في رواية إلى جوازه، وبه قال الحسن والنخعي وأيوب "المغني"، إلا أن الأفضل أن يكون قد حجَّ عن نفسه. "البدائع".
وقال في الفتح والبحر ورد المحتار: يجوز مع الكراهة التنزيهية في حق الآمر، والتحريمية في حق المأمور إذا كانت قد اجتمعت فيه شروط الحج، ولم يحج عن نفسه، لإثمه بالتأخير، وأما إذا كان فقيرًا لم يجب عليه الحج فلا يُكره حجه عن الغير لحديث الخثْعمية. "الآتي في مبحث الحج عن العاجز" فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسألها هل حجَّتْ عن نفسها أم لا. ولو كان شرطًا لسألها أو بيَّنه لها، وأجابوا عن حديث الباب بأَجوبة لا تنهض. "راجع الزيلعي".
هذا، والأحوطُ ـ خروجًا من الخلاف ـ: أن يكون النائب قد سبق له الحج عن نفسه إلا إذا كان فقيرًا لم يَجب عليه الحج شرعًا، والله أعلم.(1/388)
حكم الحج عن العاجز
(السؤال) ورد إلينا سؤال يتضمن أن السائل حنفي المذهب وقد نيَّف على الستين ومرض أخيرًا بالسكر وضعف بصره ضعفًا شديدًا، وأصيب بالشلل في اليد اليسرى والرجل اليسرى حتى أصبح المشي عسيرًا عليه ولو مع الاستناد إلى غيره، ولم يؤدِّ حجة الإسلام فهل يجوز له أن ينيب عنه غيره في أدائها ؟
(الجواب) قد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز لمن قدر بنفسه على الحج المفروض أن ينيب عنه غيره في أدائه، بل يجب عليه أن يؤديَه بنفسه، ولو أحَج عنه غيرَه لا يسقط عنه الفرض لاستطاعته الحج وقت الإنابة، فكان تركه الحج بنفسه إيثارًا للراحة لنفسه على أمر ربه، وهو بهذا يستحق العقاب، بخلاف الحج النفل فإنه تُقبل فيه الإنابة ولو مع القدرة؛ لأن باب النفل أوسع، خلافًا للشافعي، وعن أحمد فيه روايتان.
أما من عجز عن أداء الحج بنفسه بعد القُدرة عليه لمرض أو حبس ونحوهما فقد رخَّص الله تعالى له أن ينيب عنه غيره، أو ينوب عنه غيره في أدائه وهو مذهب الحنفية والجمهور.(1/389)
فإذا أدى النائب الحج سقط الفرض عن المحجوج عنه في ظاهر الرواية، وهو مختار الإمام السرخسي ومحققي المتأخرين، ويشهد له ما رواه أحمد والنسائي من أن امرأة جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "أرأيت لو كان على أبيكِ دين أكنتِ قاضيتِه؟" قالت: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يُقضى" وبما رواه الجماعة عن ابن عباس قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستويَ على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم" ففي الحديثين دليل على جواز الحج من الولد نيابة عن أبيه إذا كان ميئوسًا من قدرته على الحج المفروض بنفسه، وقوله عليه الصلاة والسلام: نعم. معناه حجي عنه أي قضاء عنه، فأفاد أن الحج يقع عن المحجوج عنه.
وظاهر أن هذا الحكم لا يختص بالخثعمية ولا بحج الولد عن والده؛ لأن الأصل عدم الخصوص في بيان الأحكام ولم يوجد ما يدل على التخصيص، قال في فتح الباري إن دعوى الاختصاص بالولد جمود اهـ (وقد بينا ذلك بإسهاب في فتوانا المؤرخة 14 أغسطس سنة 1947 م المسجلة برقم 377 بدار الإفتاء).
ويُشترط لجواز النيابة عن العاجز في الحج المفروض دوام العجز إلى الموت؛ لأن الحج فريضة العمر فيجب أن يستوعب العجز بقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء بالبدن، فإذا أحَج عنه غيرَه في حال قيام العذر، فإن استمر العذر حتى مات ظهر أن الحج وقع مُجزيًا عنه لتحقق شرط الرخصة، وإن زال العذر ظهر أن الحج لم يقع مُجزيًا عنه لانتفاء شرط الرخصة ووجب إعادته بنفسه.(1/390)
وأفاد الكمال في (الفتح) أنه لا فرق في لزوم الإعادة بزوال العذر بين ما يُرجَى من الأعذار زواله كالمرض والحبس، وما لا يُرجَى كالعَمَى والزِّمَانة. وفصَّل آخرون من فقهاء الحنفية فأوجبوا الإعادة في الأول دون الثاني.
ويُشترط لجواز النيابة عن الغير أن تكون نفقة المأمور من مال الآمر، وهي ما يحتاج إليه في الحج من طعام وشراب وثياب إحرام وركوب حسب المتعارف، وأن ينويَ النائب الحج عن الآمر. والأفضل عندنا أن يكون النائب قد أدَّى أولاً حجة الإسلام عن نفسه إذا تحقق وجوبها عليه. ومن هذا يُعلم أنه يجوز للسائل أن ينيب عنه غيره في الحج عنه، ويقوم بنفقته وينوي الغير الحج عنه، والله أعلم.
الحج عن العاجز ومذاهب الأئمة فيه:
قال ابن قدامة وجاءت امرأة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يَثْبُتَ على الراحلة أفأحجُّ عنه قال: "أرأيتِ لو كان على أبيك دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ". قالت: نعم. قال: "فدَيْنُ الله أحقُّ أنْ يقضى". اهـ.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: جاءت امرأة من خثعم (خَثْعم كجعفر: جبلٌ وأبو قبيلة من مَعَدّ. اهـ.). عامَ حجة الوداع فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحجَّ عنه. قال: "نعم".
وروى النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب، وأدركتْه فريضة الله في الحج، فهل يَجزي أن أحجَّ عنه؟ قال: "أأنتَ أكبر أولاده؟" قال: نعم، قال: "أرأيتَ لو كان عليه دَيْنٌ أكنتَ تَقْضيهِ". قال: نعم، قال: "فحجّ عنه".(1/391)
وفي الحديثينِ دليل على جواز الحج من الولد نِيابة عن والده إذا كان مأْيوسًا مِن قدرته على الحج المفروض، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "نعم" معناه حُجِّي عنه أو حج عنه أيْ قضاء عنه، فيُفيد أن الحج يقع عن المَحجوج عنه، ويُجزئ عنه، وبه قال أحمد والشافعي، وهو ظاهر الرواية عند الحنفية ومختار السرخسي، وجمع من المُحققين.
وقال في نيل الأوطار: ولا يختصُّ ذلك بالخثعمية؛ لأن الأصل عدم الخصوصية. ولا بالابن يحج عن أبيه خلافًا لمَنِ ادَّعَى أنه خاص به.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "أحمد بن محمد الكناني الشافعي المولود بمصر، المتوفى بها سنة: 852 هـ". في فتح الباري: ولا يخفى أن دعوى الاختصاص به جُمود. اهـ.
واشترط "الحنفية" لجواز النيابة عن العاجز بعد القدرة في الحج الفرض لعُذر يُمكن زواله عادةً كحبسٍ أو مرض ـ أن يستوعب العجْز بقية عمره، حتى لو أحجَّ عن نفسه وهو مريض توقُّف جوازِه؛ فإنْ مات أجزأه، وإن تعافى منه بطَل، ووجبتْ عليه الإعادة.
وكذا لو حجَّ عن نفسه وهو محبوس.
فإن كان العجز لعُذر لا يُمكن زواله عادة كالعمَى أو الزِّمانة أو ضعف القلب أو كوْنه لا يثبت عل الراحلة إلا بمَشقة شديدة ونحو ذلك ـ وجب أن يُنيب عنه وسقط عنه الفرض بحجِّ النائب، ولا إعادة فيه، وإنْ عُوفِيَ بعدُ.
وذهب "الشافعية" إلى أن مَن عجز عن الحج لعِلَّةٍ، فإنْ كان يُرجى زوالها لا يجوز له الاستنابة عنه فيه في حياته.
وإن كان لا يُرجى زوالها وهو المَعضوب (المعضوب: الضعيف والزَّمِنُ لا حِراك به. "قاموس"). يُنظر ـ فإن كان له مالٌ، ووجد مَن يستأجره بأجرِ المثل، وجب عليه أن يَستنيب عنه، فإذا عُوفي وقدِر على الحج بنفسه، فالصحيح أنه لا يَجزيه حجُّ النائب، وعليه أن يحجَّ بنفسه ـ وإن لم يجد مالًا. أو وجده ولم يجد مَن يستأجره، أو وجده ولكن بأكثر مِن أجر المِثْل، لم يجب عليه الحج، ويكون غير مستطيع. "المجموع للنووي".(1/392)
وذهب "الحنابلة" إلى أن مَن توفرت فيه شروط وُجوب الحج وعجز عنه، فإن كان لمانعٍ مَيْئُوسٍ مِن زواله وجَب أن يَستنيب فيه، متى وجد مَن ينيبه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وسقط عنه الفرض ولم تجب عليه الإعادة، وإنْ عُوفي بعد، خلافًا للشافعي في الصحيح من مذهبه.
وإن كان لمانعٍ مَرْجُوِّ الزوال ليس له أن يَستنيب عنه؛ فإنْ فعل لم يُجزئه، وإنْ لم يبرأ. وبه قال الشافعي. اهـ. "المغني".
وذهب المالكية ـ في المشهور ـ إلى أن العاجز مطلقًا لا يَستنيب عنه مادام غير مستطيع للحج بنفسه ولا يسقط عنه الفرض بحجِّ النائب لو استناب عنه. وأجاز بعض متأخريهم للمريض الذي لا تُرجى صحته أن يَستنيب مَن يحجُّ عنه كما سيأتي عند الكلام على "مذهب المالكية فيما يصل ثوابه إلى الميت من العبادات".
قال النووي في شرح مسلم: ويُؤخذ من حديث الخثعمية جواز الحج عن العاجز بموت أو عضْبٍ وهو الزِّمانة والهرم ونحوهما ـ وهو مذهب الجمهور سواء أكان العجز عن فرضٍ أم نذْر، وسواء أوصى به أم لا، ويُجزئُ عنه.
وقال مالك والليث لا يحج أحدٌ عن أحدٍ إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام وحكى عن النخعي وبعض السلف أنه لا يصحُّ الحج عن ميت ولا غيره، وهي رواية عن مالك وإنْ أوصى به. اهـ.
ولعل وجه هذا القول ما ذكره القرطبي من أن ظاهر حديث الخثعمية مُخالف لظاهر قوله ـ تعالى ـ (وأنْ ليسَ للإنسانِ إلَّا ما سَعَى). فنُرجح ظاهر القرآن لتواتره.
قال الشوكاني: ولكنه يُقال هو عموم مخصوص بأحاديث الباب، ولا تعارُض بين عامٍّ وخاصٍّ. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: إن عموم السعي في الآية مخصوصٌ اتِّفاقًا. اهـ.
والحق ما ذهب إليه الجمهور لهذه الأحاديث الصحيحة، وهي صريحة في انتفاع الميت وفراغ ذمته ممَّا شغلها ووُصول ثوابه إليه، والله أعلم.(1/393)
هل يجوز سفر المرأة إلى الحج بدون زوج أو مَحرم؟
وهل يجوز حج الصبي؟
(الجواب) إن الأئمة قد اختلفوا في اشتراط الزوج أو المَحرم للمرأة في السفر البعيد، فذهب الحنفية إلى أنه يُشترط في سفر المرأة إلى الحج شابة كانت أم عجوزًا أن تكون مع زوج أو محرم بالغين عاقلين مأمونين، فإن لم يوجد لها زوج ولا محرم لا يجب عليها الحج؛ لأنها تُعد غير مستطيعة، ولا يجوز لها هذا السفر.
والمَحرم هو من لا يجوز له زواجها على التأبيد بسبب قرابة أو مصاهرة أو رضاع، والسفر البعيد هنا ما كانت مسافته بالسير المعتاد ثلاثة أيام ولياليها، وقيل يومًا واحدًا، ولا عبرة بالسفر الآن بالطائرة، بل المُعتبر شرعًا تقدير المسافة بالسير المعتاد.
وذهب الشافعية إلى أنه لا يجب الحج على المرأة إذا لم تكن مع زوج أو محرم أو نسوة ثقات، فإذا وُجِد أي واحد من هذه الثلاثة لزمها الحج، وإن لم تجد شيئًا منها لم يجب عليها الحج، وهذا في حج الفريضة. أما الحج النفل فالصحيح عندهم أنه لا يجوز إلا مع الزوج أو المحرم لعدم الضرورة فيه.
ونقل الشوكاني عن الإمام أحمد أنه لا يجب الحج على المرأة إذا لم تجد محرمًا، ومثله الزوج، وأن اشتراط المحرم أو الزوج في الحج مذهب آل البيت وأبي حنيفة وإسحاق والشافعي في أحد قوليه. ونقل عن مالك وأحمد في رواية أخرى أنه لا يُشترط الزوج أو المحرم في سفر الفريضة، ورجَّح ابن حزم في المُحلَّى عدم وجوب الزوج أو المحرم في سفرها، فإذا لم تجد واحدًا منهما تحج ولا شيء عليها.
وقد فرَّق بعض الفقهاء بين الشابة والعجوز، فاشترط وجود الزوج أو المحرم مع الشابة دون العجوز، والجمهور على عدم الفرق بينهما.
وأما حج الصغار فالمنصوص عليه في مذهب الحنفية أن عبادة الصبي ومنها الحج تصح منه وإن لم تجب عليه وله ثوابها. وقيل ينتفع بها والده أيضًا.(1/394)
وعند الحنابلة كما في المغني أن حج الصبي صحيح، فإن كان مُميزًا أحرم بإذن وليه، وإن لم يكن مميزًا أحرم عنه وليه فيصير محرمًا بذلك، وبه قال مالك والشافعي. وعن ابن عباس: رفعت امرأة صبيًّا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج. قال: "نعم ولك أجر" وعن جابر قال: خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجَّاجًا ومعنا النساء والصبيان، فلبَّينا عن الصبيان ورمينا عنهم. وكان ابن عمر يفعل ذلك. ورُوي أن أبا بكر طاف بابنه في خِرقة، وبه قال عطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق. وقال ابن المنذر: كل من يُحفظ عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي، وقال أحمد: يرمي عنه أبوه أو وليه، ونفقته في مال وليه.
ومن هذا يُعلم أن حج الصبي الذي لم يبلغ الحلم صحيح وإن لم يجب عليه، وأن ما يجري عليه العمل الآن بالديار المصرية من حج النساء بدون زوج أو محرم موافق لبعض المذاهب والأقوال، وأن مذهب الحنفية عدم جواز سفرهنَّ للحج بدون زوج أو محرم، ومذهب الشافعية عدم جواز حج الفريضة بدون زوج أو محرم أو جمع من النساء الثقات. والله أعلم.
حج المرأة بغير زوج أو محرم
(السؤال) من بنغازي ـ ليبيا: هل يجوز للمرأة أن تؤدي فريضة الحج بغير زوج أو مَحرم؟
(الجواب) ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يُشترط أن يصحب المرأة في سفر الحج زوج أو محرم، فإن لم يوجد أحدهما فلا يجب عليها الحج، إذ تُعَدُّ غير مستطيعة له، والله تعالى يقول: (وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلاً). وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "ألا لا تَحُجَنَّ امرأة إلا ومعها مَحرم" وعنه أنه قال: "لا تسافر امرأة ثلاثة أيام إلا ومعها مَحرم أو زوج". والسر في ذلك أمن الفساد.
وذهب الشافعية إلى أنه لا بد أن يصاحبها في سفرها للحج المفروض زوج أو محرم أو نسوة ثقات لأمن الفساد.(1/395)
وذهب المالكية إلى أنه لابد في سفرها للحج أن يصاحبها زوج أو محرم أو رفقة مأمونة، وإذا سافرت مع الرفقة المأمونة لابد أن تكون هي أمينة في نفسها، وإلا لا تسافر معهم. والله أعلم.(1/396)
الحج عن الميت ووصول الثواب إليه
(السؤال) هل ينتفع الميت بحج غيره عنه بعد مماته ؟
(الجواب) نعم يصل ثواب حج الغير عن الميت إلى الميت، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أمي قد نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها ؟ قال: "حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء".
وانعقد الإجماع على أن قضاء الدين عن الميت يُبرِّئ ذمته منه ويسقطه عنه ولو كان من غير تركته ومن غير ورثته. وفي شرح العقيدة الطحاوية في وصول ثواب الحج إلى الميت ما نصه: فعن محمد بن الحسن (صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة) أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة، والحج للحاج. وعند عامة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح اهـ.
ومما ينبغي أن يُعلم أن ثواب الدعاء يصل إلى الميت من أي داعٍ بالإجماع، ولذا شُرع الدعاء في صلاة الجنازة وبعد الدفن، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو للموتى عند زيارة قبورهم كما في صحيح مسلم. وأصل ذلك قوله تعالى : (والذين جاءوا من بعدِهم يقولون ربَّنا اغفرْ لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمان) فأثنى الله تعالى عليهم باستغفارهم لمن سبقهم من المؤمنين، فدلَّ على انتفاعهم باستغفار الأحياء.
وكذلك يصل ثواب الصدقات إلى الموتى بالإجماع كما في الصحيحين، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إن أمي تُوفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت عنها ؟ قال: "نعم" قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها. يريد بستانه.(1/397)
ومن هنا نشأت الأوقاف الخيرية التي تُخصَّص فيها صدقات على الواقفين بعد موتهم وعلى آبائهم وذريتهم ابتغاء وصول ثوابها إليهم، وهي أوقاف صحيحة شرعًا مشروعة في عهد الرسول والصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، ويجب على من يَليها أن ينفِّذ شروطها كما أراد الواقفون ولا يعدل عنها، ويأثم ويستحق العزل إذا أخل بها. وما هي إلا خير وبر وإحسان ومعونة للمحتاجين، والنصوص الشرعية صريحة في الندب إليها والحث عليها وانتفاع الواقفين بها. وكذلك من قصدوا وصول الثواب إليهم من المسلمين. وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم يُنتفَع به". والله أعلم.(1/398)
استلام الحجر الأسود
(السؤال) سُمع أحد الخطباء يروي حديثًا هذا لفظه:"الحجر الأسود يمين الله عز وجل، يصافح به خلقه كما يصافح الرجل أخاه" فهل هذا ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
(الجواب) لم يصح هذا حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وردت في فضل الحجر الأسود أحاديث، وعن عمر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقبِّلك ما قَبَّلتُك.
وقد روى النسائي ما يُشعر بأن عمر رفع قوله هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج من طريق طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت عمر قبَّل الحجر ثلاثًا ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبلك ما قبلتك. ثم قال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل ذلك. قال الطبري: وإنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخَشيَ عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب التعظيم لبعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان.
وقال المُهلَّب: حديث عمر هذا يرد على من قال إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة اهـ.
وهذا صريح في أنه ليس بحديث، وإنما هو قول لبعض الناس مردود بما ذُكر. وقال الخطَّابي تصحيحًا لمعناه فقط: معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به فخوطبوا بما يعهدونه.(1/399)
وقال المحب الطبري: معناه أن كل ملك إذا قَدِم عليه الوافد قَبَّل يمينه، فلما كان الحاج أول ما يَقْدم يُسنُّ تقبيله، نزل منزلة يمين الملك ولله المثل الأعلى اهـ.
فهو كلام على التجوز، ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، قال: وإنما شُرع تقبيله اختيارًا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حين أُمر بالسجود لآدم عليه السلام.
وفي قول عمر هذا تسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يفعله، ولو لم تُعلَم الحكمة فيه. وفي شرح الترمذي أنه يُكره تقبيل ما لم يَرِدْ الشرع بتقبيله اهـ.
ومن هذا يعلم السائل أن ما ذكره بعض الخطباء ليس واردًا وإن صح معناه بالتأويل الذي ذكره الخطَّابي والمحب الطبري. والله أعلم.(1/400)
البدء بأيهما أفضل، بالحج أم بالزيارة؟
(السؤال) هل الأفضل لمن قصد الحج والزيارة في سفر واحد أن يبدأ بالحج أو بالزيارة؟
(الجواب) اتفق فقهاء السلف على جواز البدء بأيهما شاء وعلى أفضلية البدء بالمدينة للزيارة إذا كانت في طريقه إلى مكة تيسيرًا له وتخفيفًا. وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خُيِّر بين أمرين يختار أيسرهما وأهونهما. واختلفوا فيما هو الأفضل بالنسبة لمن ليست المدينة في طريقه إلى مكة كأهل مصر مثلاً، فذهب علقمة والأسود وعمرو بن ميمون إلى أفضلية البدء بالزيارة لإحراز فضيلة الإحرام بالحج من ميقات المدينة الذي أحرم منه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجته. وذهب من التابعين إلى أفضلية البدء بالحج عبد الرحمن بن يزيد وعطاء والنخعي، ومجاهد. واختاره أبو حنفية وأحمد، وبه أفتى الليث السمرقندي. ومأخذ ذلك على ما يظهر لنا اعتبار الأصالة والتبعية كما صرح به النخعي ومجاهد فيما رُوي عنهما: إذا أردت مكة للحج أو العمرة فاجعل كل شيء لهما تبعًا سواء أكان الحج فرضًا أو نفلاً. وإليه يشير حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبرى بعد وفاتى كان كمن زارنى في حياتى" رواه الدارقطني والطبراني في الكبير والأوسط من طريق حفص بن سليمان القارئ عن ليث بن أبي سُليم عن مجاهد عن ابن عمر، وحفص قد وثَّقه أحمد، وحديثه الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزُرني فقد جفانى" رواه ابن عدي في الكامل (ص 397 جـ ثان من "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" للسيد السمهودي).
وقال السمهودي في موضع آخر: إن مأخذ من رجَّح البدء بمكة المبادرة إلى قضاء الفرض، ولذا قال ابن قدامة رواية عن أحمد: إذا حج الذي لم يحج قط يعني من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق المدينة لأنى أخاف أن يحدث به حدث، فينبغى أن يقصد مكة من أقصر الطرق ولا يتشاغل بغيرها اهـ.(1/401)
وقال صاحب الفصول نقلاً عن صالح وأبي طالب: إذا حج للفرض لم يبدأ بالمدينة لأنه إذا حدث به حدث كان في سبيل الحج فإذا كان تطوعًا بدأ بالمدينة اهـ.
ومقتضى ما ذُكر أن الخلاف إنما هو في الحج المفروض. أما في النفل فيبدأ بالمدينة للزيارة ثم يحرم ممن ميقاتها للنُّسك. وقد نُقل الاتفاق على ذلك، ولكن قد علمت مما سبق إطلاق القول بأفضلية البدء بالنُّسك سواء كان فرضًا أو نفلاً. وكذلك القول فيمن يسافر بقصد العمرة والزيارة وليست المدينة في طريقه إلى مكة، فالأفضل له على القول الأول البدء بالزيارة، وعلى الثاني بالعمرة كما صرَّح به النخعي ومجاهد. ويظهر لنا ترجيح القول الثاني في الحج والعمرة بإشارة الأحاديث السابقة، فيبدأ بالنُّسك ثم يُتْبِع بالزيارة، وإن رجَّح السمهودي الأول، والسعيد من وفقه الله تعالى لأدائهما على أى نحو كان. والله أعلم بالصواب.(1/402)
موت المُحْرِم
(السؤال) مُحْرم مات يوم عرفة، فهل يُغسَّل ويُصلى عليه أو لا؟
(الجواب) يُغسَّل من مات مُحرمًا ويُكفَّن في ثوبَي إحرامه، ويُصلَّى عليه صلاة الجنازة، ويُدفَن ولا تُغطَّى رأسه بالكفن، ولا يَقرَبه طِيب. ففي الصحيح عن ابن عباس: بينا رجل واقف مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته (دقت عنقه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تُحنِّطوه (الحَنُوط الطِّيب الذي يُصنع للميت) ولا تُخمِّروا (تغطوا) رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي" وفي رواية عنه زيادة: "ولا تُمِسُّوه طِيبًا ". وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُتِيَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل وَقَصَتْهُ راحلته وهو مُحْرِم فقال: "كفِّنوه في ثوبيه واغسلوه بماء وسدر ولا تُخمِّروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي" وفي رواية: "ولا تُحنِّطوه" وفي رواية: "ولا تقربوه طيبًا".
قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في هذا الحديث (أى برواياته) خمس سنن (1) كفِّنوه في ثوبيه، أي يُكفَّن الميت في ثوبين (2) واغسلوه بماء وسدر، أي أن في الغسلات كلها سدرًا (3) ولا تُخمِّروا رأسه (4) ولا تقربوه طيبًا (5) وكان الكفن من جميع ماله اهـ. والله أعلم.(1/403)
المرور بالطائرة فوق عرفة ليس وقوفًا بها
(السؤال) هل يتأدَّى ركن الوقوف بعرفة في الحج بالمرور فوقها بالطائرة ؟
(الجواب) الوقوف بعرفة في التاسع من ذى الحجة معناه الكينونة في ذلك المكان المعروف في الوقت المحدود والوجود فيه سواء كان الحاج واقفًا أو قاعدًا، أو ماشيًا أو راكبًا، محمولاً أو غير محمول، فكل ذلك يتحقق ركن الحج ويتم به كما نص عليه الحنفية، ولا يُطلق لغة ولا شرعًا ولا عُرفًا على من كان بطائرة في الجو محاذيًا أرض عرفة أنه قد وقف بعرفة، فإذا لم يوجد على أرضها في جزء من ذلك الوقت المحدد واكتفى بوجوده في الطائرة وقت وقوف الحاج لا يكون مؤديًا ركن الوقوف على الوجه المشروع ويفوته الحج. والله أعلم.(1/404)
حكم الاكتحال في الإحرام
(السؤال) هل يجوز للحاج أو المعتمر أن يكتحل وهو مُحرم؟
(الجواب) رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : يكتحل المُحرم بأي كحل شاء، ما لم يكن فيه طيب. وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة سألتها: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد، أمَا إنه ليس بحرام ولكنه زينة ونحن نكرهه اهـ. (المُحلَّى لابن حزم)
وعلى ذلك يجوز للمُحرم استعمال القطرات والمراهم لعلاج العيون وغيرها وليس عليه شيء في ذلك مادام جميعها ليس طِيبًا ولا زينة. والله أعلم.(1/405)
فضل الروضة الشريفة
(السؤال) ورد حديث بلفظ" ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". فهل بقعة الروضة الشريفة من أرض الجنة التي وعد الله بها المتقين؟
(الجواب) هذا الكلام خرج مخرج المجاز، والمراد أن هذه البقعة الشريفة خصَّها الله تعالى بمزيد الفضل لمزيد قربها من بيت رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنبره الذي ينشر من فوقه عِلم الإسلام وتعاليمه، فكانت الصلاة فيها مؤدية إلى الجنة ونعيمها. وهذا كما يقولون في اليوم الطيب الهواء العليل النسيم الذي لم يقع فيه ما يسوء وجرت ساعاته بالخير: هذا من أيام الجنة.
وكما قيل في الضأن إنها من دواب الجنة كناية عن بركتها وخيرها وعِظم النفع بها، وكما قال عليه الصلاة والسلام: "إن الجنة تحت ظلال السيوف" كناية عن عِظم فضل الجهاد، وإلا فقد تكون الأرض التي يقع عليها الجهاد أرض كفر بل أكثر ما تكون كذلك.
والمقطوع به في كل ذلك أنه ليس المراد بالجنة جنة الخلد لأن الله تعالى وصفها بقوله: (إنَّ لك أنْ لا تجوعَ فيها ولا تَعْرَى. وأنَّك لا تَظمأُ فيها ولا تَضْحَى) وبقعة الروضة الشريفة بالمدينة ليست على هذه الصفة، فتبين أن الكلام خرج مخرج التَّجوُّز.
وهذا مثل ما ورد في حديث مسلم: " سَيحان وجَيحان والفرات والنيل كلها من أنهار الجنة" فإنه ليس المراد كما ظن بعض الجهال أنها آتية من الجنة، بل المراد أن هذه الأنهار لبركتها وعظم النفع بها كأنها من الجنة فأضيفت إلى الجنة تَجوُّزًا بهذا المعنى، وإلا فالمحسوس غير ذلك ووصف الجنة لا ينطبق عليها.
واستعمال المجاز والكناية كثير في القرآن وفي كلام أفصح العرب الذي أُوتي جوامع الكلم صلوات الله وسلامه عليه، وفي كلام الصحابة الفصحاء وخاصة في عهد ازدهار اللغة والبلاغة (راجع المُحلى لابن حزم في ص 283 ـ 7) ففيه تصريح بما قلنا. والله أعلم.(1/406)
استقبال القبر الشريف في الزيارة والدعاء
(السؤال) هل السنة عند زيارة قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يستقبل الإنسان القبلة ويدعوَ الله بما يشاء أو يستقبل القبر ويجعل ظهره إلى القبلة ويدعو؟
(الجواب) روَى القاضي عياض في كتاب الشفاء عن ابن حميد أحد رواة مالك، رضي الله عنه، أن أبا جعفر المنصور ناظر مالكًا في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قومًا فقال: ( لا ترفعوا أصواتَكم فوقَ صوتِ النبيِّ ولا تجهروا له بالقولِ كجهرِ بعضِكم لبعضٍ أنْ تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون) ومدح قومًا فقال: (إنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسولِ اللهِ أولئك الذين امتَحن اللهُ قلوبُهم للتقوى لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيمٌ) وذمَّ قومًا فقال: (إنَّ الذين ينادونك من وراءِ الحجراتِ أكثرُهم لا يعقلون) وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًّا. فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو بعد الزيارة أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه؟ فهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيُشَفِّعَه الله فيك، قال تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسَهم جاءوك فاستغفروا اللهَ واستغفرَ لهم الرسولُ لوجدوا اللهَ توابًا رحيمًا).(1/407)
وقال الشهاب الخفاجي في شرحه: ومذهب مالك وأحمد والشافعي استحباب استقبال القبر الشريف في السلام والدعاء، وهو مُسطَّر في كتبهم، وصرح به النووي في أذكاره وإيضاحه، ونقله السبكي عن الشافعية فقال: يُستحب أن يأتيَ القبر الشريف ويستقبله ويستدبر القبلة، بعيدًا من رأس القبر بنحو أربعة أذرع ويُسلِّم عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يتأخر ويُسلِّم على أبي بكر ثم يُسلِّم على عمر رضي الله عنهما، ثم يرجع لموقفه الأول مستقبِلاً القبر ويدعو بما أراد. اهـ. ومثله عند الحنفية كما نقله الكمال في فتح القدير، وكما يؤخذ من الفتاوى الهندية. وذهب الليث وشيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه يستقبل في الدعاء القبلة ولم يرتض جمهور الفقهاء ذلك ومنهم القاضي عياض رحمه الله. والله أعلم.(1/408)
مكان الجسد الشريف أفضل بقاع الدنيا
(السؤال) ما أفضل بقاع الدنيا ؟
(الجواب) أفضل البقاع على الإطلاق البقعة التي تضم جسد المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد نقل الإجماع على ذلك القاضي عياض والقاضي أبو الوليد الباجي وابن عقيل الحنبلي والتاج الفاكهي والزركشي والقرافي والسبكي وغيرهم. وأفضليتها باعتبار مجاورتها لأفضل الأجساد وأشرفها على الإطلاق.
ويلي هذه البقعة الطاهرة الكعبةُ المشرفة ومواضعُ أجساد الأنبياء وأرواحهم ـ عليهم السلام ـ كما قرره شيخ الإسلام البلقيني، كما انعقد الإجماع بعدُ على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد، واختلفوا في أيهما أفضل، فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة وذهب آخرون إلى العكس.
ومرجع تفضيل الأزمنة والأمكنة إما كثرة الثواب على الأعمال في بعضها وبه صرَّح العز بن عبد السلام في أماليه حيث قال: إن تفضيل مكة على المدينة أو عكسه معناه أن الله رتَّب على العمل في إحداهما من الثواب أكثر مما رتَّبه على العمل في الأخرى.
وإما أمر آخر غير كثرة الثواب على الأعمال كالمجاورة للأشرف، وبه صرح القرافي والتقي السبكي في بيان وجه أفضلية القبر الشريف على سائر البقاع بالإجماع.
وكيف لا يكون كذلك وهو مهبط الملائكة والرحمات والبركات التي يعم فيضها الأمة في كل زمان؟ وقد ورد بيان ذلك في حديث "وفاتي خيرٌ لكم" بأن "أعمالكم تُعرض عليَّ فإن رأيت خيرًا حمدتُ اللهَ، وإن رأيتُ غير ذلك استوهبت الله ذنوبكم".
وهو حي في قبره حياة برزخية خاصة أكمل من حياة الشهداء، ولذا ورد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَردُّ السلام على من يُسلِّم عليه، وكل ذلك فضل من الله تعالى أَولاَه أشرفَ خلقه وأحبهم إليه، والله على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والله أعلم.(1/409)
الاستئجار على الحج ومذاهب الأئمة فيه:
قد عُلم حُكم النيابة عن الميت والعاجز في الحج بدون أجر.
ونذكر هنا حكم الاستئجار عليه في المذاهب فنقول:
1ـ مذهب الحنفية عدم جوازه لعدم جواز أخْذ الأُجرة على الطاعات كالصلاة والصوم ونحوهما وتبطل الإجارة. وليس للنائب إلا مقدار نفقة الطريق وهو لا يستحقها بطريق العِوَض، بل بطريق الكفاية؛ لأنه فرَّغ نفسه لعمل ينتفع به الميت أو المُستنيب. "المبسوط وغيره".
2ـ ومذهب الشافعية جوازه بناء على جواز النيابة فيه، وإنما تجوز في حق الميت أو المعضوب، وأجرةُ الحج حلال مِن أطيب المكاسب. "المجموع".
3ـ ومذهب الحنابلة ـ في أشهر الروايتين ـ عدم الجواز إلحاقًا للحج بالصلاة في عدم جواز أخذ الأجرة عليها، "وبه قال الحنفية"، وفي الرواية الثانية الجواز "وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر"؛ لأنه مادام يجوز أخذ النفقة عليه فيجوز الاستئجار عليه، كبناء المساجد والقناطر. "المغني".(1/410)
مصاريف تجهيز الزوجة على زوجها
(السؤال) ما المراد بالتجهيز الشرعي للميت؟ وهل يلزم الزوج مصاريف تجهيز زوجته المتوفاة بما فيه الدفن أم أن ذلك يكون من مال الزوجة؟ وإذا كانت على الزوج هل يلزم بما زاد عن مصاريف التجهيز الشرعي أو يكون ذلك من مال الزوجة؟
(الجواب) إن تجهيز الميت هو ما يلزم له من حين موته إلى أن يُوَارَى في قبره من نفقات غسله وكفنه وحمله ودفنه والجلوس له ونحو ذلك حسب المعروف عادة بغير إسراف ولا تقتير، وليس منه ما يُنفق للمأتم والسرادقات ونحوها، وتجهيز الزوجة وتكفينها حسب المعروف واجب على زوجها على قول أبي يوسف المُفتَى به ولو كانت غنية، متى كانت نفقتها واجبة عليه قبل موتها بأن لم يوجد ما يُسقطها من نشوز ونحوه، وإذا قام غير الزوج بما يلزم لها بلا إذن من الزوج أو القاضي يكون متبرعًا؛ لأنه قام بما يجب على غيره بغير إذنه كما في تنقيح الحامدية عن الخير الرملي، وكذلك إذا زاد المعروف وقد أَذِن الزوج به يكون متبرعًا بالزيادة. والله أعلم.(1/411)
الغُسل وعدد مراته وصفة مائه
(السؤال) من القنطرة شرق: أرجو شرح الحديث الآتي: عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسِدر، واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتنَّ فآذِنَّنِي" فلما فرغنا آذنَّاه فأعطانا حِقوه فقال: "أشْعِرْنها إياه" يعنى إزاره.
الجواب: أخرج البخاري هذا الحديث بهذا اللفظ في الجنائز، ورواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وهو واضح، وأفاض القول في شرحه الحافظ في الفتح، والعيني في العمدة، والقسطلاني في إرشاد الساري فيُرجع إليها، غير أنَّا نشير إلى أن المشهور أن المتوفاة هي (زينب زوج أبي العاص بن الربيع) وكانت وفاتها أول سنة ثمان، وأن الواجب هو الغسل مرة واحدة تعم البدن بعد إزالة النجس إن كان، والمُستحب ثلاث، فإن لم يحصل بها الإنقاء فخمس، فإن لم تَفِ فسبعٌ ولا يُزاد عليها، وقد فوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهنَّ في الإكثار ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، وهو المراد بالأكثر ليجتهدن في ذلك بحسب الحاجة إلى الإنقاء لا التشهي.
ودل الحديث على جواز الغُسل بالماء الذي خالطه السدر ونحوه كالصابون مادام لم يخرج عن طبعه وهو الرقة والسيلان؛ وذلك لأنه أبلغ في الإنقاء والتنظيف، وعلى أنه يُسن لغير المُحْرِم وضع الكافور إن وُجِد في الماء لتطييبه، ويقوم مقامه المسك ونحوه.(1/412)
وقوله: "آذِنَّنِي" (بمد الهمزة وكسر المعجمة وتشديد النون الأولى المفتوحة وكسر الثانية) أي أعلمننى. وقد أعطاهن إزاره وأمرهن أن يجعلنه الثوب الذي يلي جسدها لتنالها بركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببركة ثوبه، وإنما أخَّره ولم يناولهن إياه أولاً ليكونَ قريب العهد من جسده الشريف، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل لا سيما مع قرب العهد بعَرَقِه المبارك، وهذا من أمارات حبه ورحمته وشفقته على بنته صلى الله عليه وسلم. وفيه دليل على مشروعية التبرك بآثار الصالحين، ويُروى أن الإمام أحمد بن حنبل كانت عنده ثلاث شعرات من الجسد الشريف فأمر أن توضع واحدة على عينه، وأخرى على عينه الأخرى، وأخرى على فمه إذا كُفِّن تبركًا بآثاره صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(1/413)
وجوب الطهارة لصلاة الجنازة
(السؤال) هل تصح صلاة الجنازة بدون وضوء ؟
(الجواب) صلاة الجنازة فرض كفاية على جماعة المسلمين إذا قام به البعض سقط عن الباقين ولا يُشترط فيها الجماعة. ويُشترط لصحتها ما يُشترط لصحة سائر الصلوات من النية والطهارة واستقبال القبلة وستر العورة، حتى لو صلى القوم على جنازة وهم على طهارة والإمام على غير طهارة وجب إعادتها؛ لأن صلاة الإمام غير جائزة لعدم الطهارة فكذا صلاتهم لبنائها على صلاته، ولو كان الإمام على طهارة والقوم على غير طهارة جازت صلاة الإمام ولم يكن عليهم إعادتها، لأن حق الميت قد تأدَّى بصلاة الإمام.
ونص الحنفية على أن من الأعذار المبيحة للتيمم خوفَ فوت صلاة الجنازة؛ لأنها تفوت بلا خلف عنها، فإذا خِيف فوتها بالاشتغال بالطهارة جاز التيمم لها لما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا فاجأتك صلاة الجنازة فخشيت فوتها فصلِّ عليها بالتيمم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أُتِيَ بجنازة وهو على غير وضوء فتيمم ثم صلى عليها. وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز أن يتيمم لها لأنها مثل الجمعة وسجدة التلاوة وسائر الصلوات. والله أعلم.
...(1/414)
تلقين الميت مُستحب
(السؤال) هل التلقين الذي يحصل إثر دفن الميت مشروع أو لا ؟
(الجواب) قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى يُحيي الموتى في القبور حياة برزخية خاصة يتأتَّى معها سماع سؤال الملكين وفهمه والجواب عنه ورد السلام على من يُسلِّم عليهم من الزائرين. ففي السنن أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دُفِنَ ويقول: "سَلُوا الله له التثبيت فإنه الآن يُسأل" وقال: "إنه ليسمع قرع نعال المُشيِّعين" وفي الصحيح أنه قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وقال: "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيُسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام".
ولذلك أمرنا بالسلام على الموتى والدعاء لهم، فينفعهم هذا التلقين في السؤال، وقد استحبه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وكرهه آخرون من أصحاب مالك وغيرهم، واختلف الصحابة فيه قبلهم ففعله بعضهم وأمر به ومنهم أبو أُمامة الباهلي، ولم يفعله آخرون، وكيفما كان فهو ليس بواجب، وإذا فُعل فلا بأس به، بل هو مُستَحبٌّ كما سبق، وقد أفتى بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه. والله أعلم.(1/415)
بدعة التركيبة على القبر
رُفع إلينا (سؤال) من سعادة (وحيد يسري) بتاريخ 18 / 2 / 1949 م يطلب فيه الإفادة عن حكم الشريعة الإسلامية في إقامة نُصُب "تركيبة كاملة" من الرخام المرمر الإيطالى حسب الرسمين المرافقين على أحد القبور، وهي عبارة عن سرير ووسادة، فهل تجيز الشريعة الإسلامية ذلك؟ أو الأفضل أن تكون التركيبة من النوع المتبع في سائر المقابر؟
(الجواب) إن إقامة هذه التركيبة فيها إضاعة أموال كثيرة وخاصة في بلاد أجنبية وإنفاق لها في غير سبلها المشروعة ولا منفعة تُرجى منها للميت، في حين أن هذه الأموال لو أُنفقت في عمل دائم يجري ثوابه على الميت ما دام قائمًا كان خيرًا. وفي الحديث "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له".
ومن يتتبع ما ورد عن الشارع في هذا الموضوع يرى أنه يقصد إلى البساطة التامة في شؤون الموتى من كفن وتجهيز وتشييع ودفن ومقبرة، ويوجِّه همم المسلمين إلى أعمال البر والخير الذي ينتفع به الأحياء والأموات، والله الموفق للخير وما فيه النفع العام. والله أعلم.
...(1/416)
إحراق جثث الموتى من المسلمين
(السؤال) طلبت إحدى المصالح الحكومية بيان حكم الشريعة الإسلامية في إحراق جثث الموتى من المسلمين في زمن الأوبئة وفي حالة الوصية بذلك من المتوفَّى.
(الجواب) إنه لا خلاف بين المسلمين في أن للإنسان حرمة وكرامة حيًّا وميتًا كما يشير إليه قوله تعالى (ولقد كرمنا بنى آدم) ومن كرامته بعد موته دفنه في اللحد أو القبر كما يشير إليه ما قَصَّه الله تعالى من أمر هابيل وقابيل وَلَدَيْ آدم ـ عليه السلام ـ حيث يقول جل شأنه: (فبعث الله غرابًا يبحثُ في الأرضِ ليُريَه كيف يُواري سوأةَ أخيه قال يا ويلتا أَعَجَزْتُ أنْ أكونَ مثلَ هذا الغرابِ فأُوَاريَ سوأةَ أخي فأصبحَ من النادمين) وقد أجمعت الشرائع السماوية على ذلك وبيَّنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولاً وفعلاً فيما ورد عنه من السنن، وانعقد إجماع المسلمين على الدفن بالكيفية المسنونة المأثورة، ودرج عليها الصحابة والتابعون وسائر المسلمين إلى الآن، فلا يجوز بحال العدول عن ذلك إلى إحراق جثث الموتى، ولو أوصى أحد بذلك فوصيته باطلة لا نفاذ لها. لم يُعرف الإحراق لأجسام الموتى إلا في تقاليد المجوس، وقد أُمرنا بمخالفتهم في شعائرهم وتقاليدهم التي تواضعوا عليها مما لا يوافق شريعة الإسلام. والله أعلم.(1/417)
جواز تشريح جثث الموتى
(السؤال) هل يجوز شرعًا تشريح جثث الموتى لأغراض علمية وفي الحوادث الجنائية؟
(الجواب) اعلم أن تطبيب الأجسام وعلاج الأمراض أمر مشروع حفظًا للنوع الإنساني حتى يبقى إلى الأمد المُقدَّر له. وقد تداوى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفسه وأمر به من أصابه مرض من أهله وأصحابه، وقال عليه الصلاة والسلام: "تَداوَوا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء". وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل لم يُنزل داء إلا أنزل له شفاء عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ" ودرج بعده أصحابه على هديه في التداوي والعلاج. فكان الطب تَعلُّمًا وتعليمًا مشروعًا بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله بل بدلالة الآيات الواردة في الترخيص للمريض بالفطر تمكينًا له من العلاج وبُعدًا عما يوجب تفاقم العلة أو الهلاك، والترخيص لمن به أذى في رأسه بحلق رأسه في الإحرام، وهو علاج للعلة وسبب للبرء، والترخيص للمريض بالعدول عن الماء إلى التراب الطاهر حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه. وفي ذلك كله تنبيه على حرص الشارع على التداوي وإزالة العلل والحمية من كل ما يؤذى الإنسان من الداخل أو الخارج، كما أشار إليه الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) فكان فن الطب علمًا وعملاً من فروض الكفاية التي يجب على ولاة الأمور في الأمة الإسلامية القيام به وإقامة طائفة منها بهذا الواجب ويأثمون بتركه، كما أن جميع ما تحتاج إليه الأمة من العلوم والصناعات في تكوينها وبقائها من فروض الكفاية التي أمر بها الشارع وحثَّ عليها وحذر من التهاون فيها للحاجة الشديدة إليها.(1/418)
ومن مقدمات فن الطب بل من مقوماته تشريح الأجسام، فلا يمكن للطبيب أن يقوم بطب الأجسام وعلاج الأمراض بأنواعها المختلفة إلا إذا أحاط خبرًا بتشريح جسم الإنسان علمًا وعملاً، وعرف أعضاءه الداخلية وأجزاءه المكونة لبنيته واتصالاتها ومواضعها وغير ذلك، فهو من الأمور التي لابد منها لمن يزاول الطب حتى يقوم بما أوجب الله عليه من تطبيب المرضي وعلاج الأمراض، فلا يمتري في ذلك أحد.
وإذا كان شأن التشريح ما ذُكر كان واجبًا على الأمة قيام طائفة منها به، فإن من القواعد الأصولية أن الشارع إذا أوجب شيئًا يتضمن ذلك إيجابَ ما يتوقف عليه ذلك الشيء، فلما أوجب الصلاة كان ذلك إيجابًا للطهارة التي تتوقف الصلاة عليها، وإذا أوجب ـ بما أومأنا إليه من الأدلة على الأمة ـ تَعلُّم فريق منها الطب وتعليمه ومباشرته، فقد أوجب بذلك عليها تعلُّم فن التشريح وتعليمه ومزاولته عملاً.
هذا دليل جواز التشريح من حيث كونه علما يُدرس وعملاً يمارَس بل دليل وجوبه على من تخصص في مهنة الطب البشري وعلاج الأمراض.
أما التشريح لأغراض أخرى كتشريح جثث القتلى لمعرفة سبب الوفاة وتحقيق ظروفها وملابساتها والاستدلال به على ثبوت الجناية على القاتل أو نفيها عن متهم، فلا شبهة في جوازه أيضًا إذا توقف عليه الوصول إلى الحق في أمر الجناية للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام حتى لا يُظلم بريء ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم.
وكم كان التشريح فيصلاً بين حق وباطل وعدل وظلم، فقد يُتهم إنسان بقتل آخر بسبب دس السُّم له في الطعام ويشهد شهود الزور بذلك، فيثبت التشريح أنه لا أثر للسُّم في الجسم وإنما مات الميت بسبب طبيعى فيُبرَّأ المتهم، ولولا ذلك لكان في عداد القاتلين أو المسجونين.(1/419)
وقد يزعم مجرم ارتكب جريمة القتل ثم أحرق الجثة أن الموت بسبب الحرق لا غير، فيثبت التشريح أن الموت جنائى والإحراق إنما كان ستارًا أُسدل على الجريمة، فيُقتص من المجرم، ولولا ذلك لأفلت من العقاب وبقي بين الناس جرثومة فساد.
وهنا قد يُثار حديث كرامة جسم الإنسان وما في كشفه وتشريحه من هوان، فيظن جاهل أنه لا يجوز مهما كان بواعثه، ولكن بقليل من التأمل في قواعد الشريعة يعلم أن مدار الأحكام الشرعية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، فما كان فيه مصلحة راجحة يؤمر به، وما كان فيه مفسدة راجحة يُنهى عنه. ولا شك أن الموازنة بين ما في التشريح من هتك حرمة الجثة وما له من مصلحة في التطبيب والعلاج وتحقيق العدالة وإنقاذ البرىء من العقاب وإثبات التهمة على المجرم الجاني تنادى برجحان هذه المصالح على تلك المفسدة.
وقد اطلعت بعد كتابة هذا على فتوى في هذا الموضوع لشيخنا المحقق الشيخ يوسف نصر الدجوي ـ رحمه الله ـ قال فيها ما نصه:
ليس عندنا في كتب الفقه نصوص شافية في هذا الموضوع، وقد يظن ظان أن ذلك محرَّم لا تجيزه الشريعة التي كرمت الآدمي وحثت على إكرامه وأمرت بعدم إيذائه، ولكن العارف بروح الشريعة وما تتوخاه من المصالح وترمي إليه من الغايات يعلم أنها توازن دائمًا بين المصلحة والمفسدة، فتجعل الحكم لأرجحهما على ما تقتضيه الحكمة ويوجبه النظر الصحيح. فيجب إذًا أن يكون نظرنا بعيدًا متمشيًا مع المصلحة الراجحة التي تتفق وروح الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة.(1/420)
وإذن نقول: من نظر إلى أن التشريح قد يكون ضروريًّا في بعض الظروف، كما إذا اتُّهم شخص بالجناية على آخر، وقد يبرأ من التهمة عندما يُظهر التشريح أن ذلك الآخر غير مجني عليه، وقد يُجنَى على رجل ثم يُلقَى بعد الجناية عليه في بئر بقصد إخفاء الجريمة وضياع الجناية إلى غير ذلك مما هو معروف، فضلاً عما في التشريح من تقدُّم العلم الذي تنتفع به الإنسانية كلها وينقذ كثيرًا ممن أشفَى على الهلكة، أو أناطت به الآلام من كل نواحيه، فهو يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، إلى غير ذلك مما لا داعي للإطالة فيه ـ نقول: من نظر إلى ذلك الإجمال وما يتبعه من التفصيل لم يسعه إلا أن يُفتيَ بالجواز تقديمًا للمصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، ومتى كان تشريح الميت بهذا القصد لم يكن إهانة له ولا منافيًا لكرامته.
على أن هذا أولى بكثير فيما نراه مما قرره الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم؛ من أن الميت إذا ابتلع مالاً شُقَّ بطنه لإخراجه منه ولو كان مالاً قليلاً، ويقدره بعض المالكية بنصاب السرقة أى ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وكلام الشافعية قريب من هذا، وربما كان الأمر عندهم أهون وأوسع في تقدير المال الذي يبتلعه، فإذا قسنا ذلك المال الضئيل على ما ذكرنا من الفوائد والمصالح وجدنا الجواز لدرء تلك المفاسد وتحصيل تلك المصالح أولى من الجواز لإخراج ذلك المال القليل فهو قياس أولويٌّ فيما نراه اهـ.
غير أنَّا نرى أنه لابد من الاحتياط في ذلك حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة فليقتصر فيه على قدر الضرورة، وليتقِ الله الأطباء وأولو الأمر الذين يتولون ذلك، وليعلموا أن الناقد بصير والمهيمن قدير، والله يتولى هُدَى الجميع. والله أعلم.(1/421)
جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء
قامت بمصر مؤسسة علمية اجتماعية تسمى " دار الإبصار" تأسست في شهر يناير سنة 1951م ومن أغراضها إيجاد مركز لجمع العيون التي تصلح لعملية ترقيع القرنية وتوفيرها، وإيجاد المواد الأخرى اللازمة لهذه العملية الخاصة باسترداد البصر وتحسينه وتوزيع العيون الواردة إلى الدار على الأعضاء، وطلبت الدار من مصلحة الطب الشرعي بتاريخ 31 أكتوبر سنة 1951م السماح لها بالحصول على العيون اللازمة لهذه العملية من دار فحص الموتى الملحقة بمصلحة الطب الشرعي.
ونظرًا إلى أن الجثث التي تُنقل إلى دار فحص الموتى للتشريح لمعرفة أسباب الوفاة كلها خاصة بحوادث جنائية ـ طلبت المصلحة بكتابها المؤرخ 18 / 2 / 1952م من قسم الرأي المختص إبداء الرأي في هذا الطلب من الوجهة القانونية، فأرسل إلينا مستشار الدولة كتاب القسم المؤرخ 3 إبريل سنة 1952م برقم 103 المتضمن طلب بيان الحكم الشرعي في هذا الموضوع. وأضاف إلى ذلك أن بالولايات المتحدة معاهدَ كمؤسسة دار الإبصار المصرية تقوم بجمع عيون الموتى لتوزيعها على من يطلبها من الأطباء بعد التأكد من صلاحيتها فنيًّا لعملية الترقيع القرني، وكذلك في إنجلترا وفرنسا وجنوب أفريقيا وبعض بلدان أوربا تشريعات خاصة لتسهيل الحصول على هذه العيون. وقد اطلعنا على قانون دار الإبصار وعلى الكتب المشار إليها وعلى بحث ضافٍ في هذا الموضوع لسعادة (الدكتور محمد صبحي باشا طبيب العيون الشهير)
(الجواب) إنه واضح مما ذُكر أن الباعث على طلب هذه المؤسسة الحصول على عيون بعض الموتى إنما هو التوصل بها فنيًّا إلى دفع الضرر الفادح عن الأحياء المصابين في أبصارهم، وذلك مقصد عظيم تقره الشريعة الإسلامية بل تحث عليه، فإن المحافظة على النفس من المقاصد الكلية الضرورية للشريعة الغراء.(1/422)
فإذا ثبت علميًّا أن ترقيع القرنية بهذه العيون هو الوسيلة الفنية لدرء خطر العمى أو ضعف البصر عن الإنسان يجوز شرعًا نزع عيون بعض الموتى لذلك بقدر ما تستدعيه الضرورة لوجوب المحافظة على النفس، ولذا تقررت مشروعية التداوي من الأمراض محافظة على النفس من الآفات، فقد تداوى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما أَلَمَّ به من الأمراض، وأمر الناس بالتداوي لإزالة العلل والآلام فيما هو أقل شأنًا مما نحن بصدده، وذلك يستلزم مشروعية وسائله وجواز استعمال ما تقتضيه ضرورة التداوي والعلاج ولو كان محظورًا شرعًا، إذا لم يقم غيره مما ليس بمحظور مقامه في نفعه بأن تعين التداوي به.
على أن الواجب شرعًا على الأمة أن تختص منها طائفة بالطب والعلاج بقدر ما تستدعيه حاجتها وبحسب تنوع أمراضها، فيجب أن يكون فيها أطباء في كل فروع الطب ومنهم أطباء العيون سدًّا لحاجة الأمة في هذا الفرع، بحيث إذا قصَّرت الأمة في ذلك كانت آثمة شرعًا.
وهذا الواجب هو المعروف في الأصول (بالواجب الكفائي أو الفرض الكفائي) ويجب عليهم أن يحذقوا الفن حتى يؤدُّوا وظائفهم أكمل أداء، فإذا هُدوا إلى علاج نافع لأمراض العيون يحفظ حاسة البصر أو يعيدها بعد الفقد وجب عليهم أن ينفعوا الناس به، ووجب تمكينهم من وسائله بقدر ما تقتضيه الضرورة والحاجة.
وللوسائل في الشرع حكم المقاصد، ولذلك جاز أن يباشر طلاب الطب وأساتذته تشريح جثث الموتى ما دام ذلك هو السبيل الوحيد لتعلم فن الطب وتعليمه والعمل به، وبدونه لا يكون طب صحيح ولا علاج مثمر، بل لا يُعدُّ طبيبًا من لا يعرف فن التشريح علمًا وعملاً كما قرر ذلك جميع الأطباء.(1/423)
فيجب أن يُمكَّن (أطباء هذه المؤسسة) من القيام بهذه المهمة الإنسانية الجليلة، وعلاج عيون الأحياء بعيون الموتى الصالحة لذلك، كشفًا للضرر عنهم، ولا يمنع ممن ذلك ما يُرى فيه من انتهاك حرمة الموتى، فإن علاج الأحياء من الضرورات التي يُباح فيها شرعًا ارتكاب هذا المحظور.
هذا بتسليم أنه انتهاك لحرمة الموتى، ولكن من القواعد الشرعية أن (الضرورات تُبيح المحظورات) ولذا أُبيحَ عند المخمصة أكل الميتة المحرَّمة، وعند الغُصّة إساغة اللقمة بجرعة من الخمر المحرمة إحياء للنفس إذا لم يوجد سواهما مما يَحل، وجاز دفع الصائل ولو أدى إلى قتله، وجاز شق بطن الميِّتة لإخراج الولد منها إذا كانت حياته تُرجَى، بل قيل بجواز شق بطن الميت إذا ابتلع لؤلؤة ثمينة أو دنانير لغيره.
وإباحة المحظورات تقديرًا للضرورات قاعدة يقتضيها العقل والشرع، وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار" وقد بُني عليها كثير من الأحكام، ولذا قال الفقهاء: "الضرر يزال" فعملاً بهذه القاعدة يجوز نزع عيون بعض الموتى مع ما فيه من المساس بحرمتهم لإنقاذ عيون الأحياء من مضرة العمى والمرض الشديد.
ومن القواعد العامة أن الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، ولذا أجاز الفقهاء بيع السَّلَم مع كونه بيع المعدوم دفعًا لحاجة المفلسين، وأجازوا بيع الوفاء دفعًا لحاجة المدينين.
ولا شك أن حاجة الأحياء إلى العلاج ودفع ضرر الأمراض وخطرها بمنزلة الضرورة التي يباح من أجلها ما هو محظور شرعًا، والدين يسر ولا حرج فيه، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدينِ من حرجٍ) على أنه إذا قارنّا بين مضرة ترك العيون تفقد حاسة الإبصار ومضرة انتهاك حُرمة الموتى نجد الثانية أخف ضررًا من الأولى، ومن المبادئ الشرعية أنه "إذا تعارضت مفسدتان دُرِئَ أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما ضررًا. ولا شك أن الإضرار بالميت أخف من الإضرار بالحي.(1/424)
ويجب أن يُعلم أن إباحة نزع هذه العيون لهذا الغرض مقيَّدة بقدر ما تستدعيه الضرورة، لما تَقَرر شرعًا أن ما أُبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها فقط، ولذلك لا يجوز للمضطر لأكل الميتة إلا قَدْر ما يَسُد الرمق، وللمضطر لإزالة الغصَّة بالخمر إلا الجرعة المُزيلة لها فقط، ولا يجوز أن تستر الجبيرة من الأعضاء الصحيحة إلا القدر الضروري لوضعها، ولا يجوز للطبيب أن ينظر من العورة إلا بقدر الحاجة الضرورية.
وغير خافٍ أن ابتناء الأحكام على المبادئ العامة والقواعد الكلية مسلك أصولي في تَعرُّف الأحكام الجزئية في الحوادث والوقائع النازلة التي لم يرد فيها بعينها نص عن الشارع، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية لا تضيق ذرعًا بحادث جديد، بل تفسح له صدرها وتشمله قواعدها الكلية ومبادئها العامة.
وإذ قد عُلِمَ من هذا أنه يجوز شرعًا بل قد يتعين نزع عيون بعض الموتى لهذا الغرض العلمي الإنساني بقدر ما تستدعيه الضرورة، يعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك بقانون عام يخضع له جميع الموتى على السواء؛ لأن ذلك فضلاً عن أنه لا تقتضيه الضرورة ـ كما هو ظاهر ـ مُفْضٍ إلى مفسدة عامة لا وزن بجانبها لمصلحة علاج مريض أو مرضى، مظهرها ثورة أولياء الموتى وأهليهم إذا أُريدَ انتزاع عيون موتاهم قهرًا ثورة جامحة عامة. فيجب أن يقتصر في ذلك على عيون بعض الموتى ممن ليس لهم أولياء ولا يُعرف لهم أهل، ومن الجُناة الذين يُحكم عليهم بالإعدام قصاصًا، والتحديد بهذا وافٍ بالغرض دون اعتراض أحد أو مساس بحقه. والله أعلم..(1/425)
السؤال في القبر حق
(السؤال) هل سؤال القبر ثابت؟ وهل تُعاد الروح إلى الجسد بعد الموت؟
(الجواب) السؤال في القبر للمؤمن والكافر حق، ونعيم القبر حق وعذابه حق، والروح تُعاد إلى الجسد بعد الموت عقب الدفن بالقدر الذي يستطيع معه الميت فهم السؤال ورد الجواب، وهو نوع آخر من الحياة ليس كحياة الدنيا، وطريق ثبوته حديث الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي المُسند عن أبي سعيد الخدري قال كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جنازة فقال: "أيها الناس إن هذه الأمة تُبتلَى في قبورها، فإذا الإنسان دُفن وتفرَّق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإذا كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت. فيفتح له باب إلى النار فيقال له: هذا منزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت فإن الله أبدلك به هذا. ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له: اسكن. ثم يفسح له في قبره.
وأما الكافر ومثله المنافق فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: لا دَريت ولا اهتديت. ثم يُفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا. ثم يُفتح له باب إلى النار، ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعًا يسمعه خلق الله كلهم إلا الثَّقَلَيْن" فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُثبِّتُ اللهُ الذين آمنوا بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ ويُضلُّ اللهُ الظالمين ويفعلُ اللهُ ما يشاء).(1/426)
وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب نحوه، وروى عن أبي هريرة يرفعه أنه قال في حديثه: إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولُّون عنه مدبرين، وإن روح المؤمن بعد السؤال والجواب تُجعل في النسم الطيب وهي طير خُضْر تعلق بأشجار الجنة، ويُعاد الجسم إلى ما بدأ منه من التراب، وذلك قوله تعالى: (يُثبِّتُ اللهُ الذين آمنوا بالقولِ الثابتِ) الآية.
وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين وفي كتاب الروح، وأفاض فيه الأستاذ الوالد عليه سحائب الرحمة في كتابه "المطالب القدسية في أحكام الروح وآثارها الكونية". والله أعلم.(1/427)
مأتم الأربعين بدعة سيئة
(السؤال) هل من المشروع إقامة مأتم الأربعين المعروف الذي يفعله الناس اليوم في بلادنا ؟
(الجواب) هذه بدعة سيئة لم تكن في عهد النبوة ولا في عهود الصحابة والتابعين، وهي خير العهود وهم أفضل القرون، بل لم تكن معروفة عند جمهور المسلمين في بلادنا وغيرها إلى عهد غير بعيد، وإنما هي بدعة مستحدَثة دخيلة لا يشهد لها أصل من أصول الدين، فهي مذمومة منكَرة، فيها تكرير العزاء وهو غير مشروع لحديث "التعزية مرة" ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار" وفيها إضاعة الأموال في غير وجهها المشروع، في حين أن الميت كثيرًا ما تكون في ذمته ديون أو حقوق لله تعالى لا تتسع موارده للوفاء بها مع تكاليف هذا المأتم، وقد يكون الورثة في أشد الحاجة إلى هذه الأموال، ومع هذا يقيمون هذا المأتم استحياء من الناس ودفعًا للنقد، وكثيرًا ما يكون في الورثة قُصَّر يلحقهم الضرر بتبديد أموالهم في هذه البدعة التي يُقصد بها غالبًا الفخار والسمعة والتباهي بالغنى. ولهذا أهبنا بالمسلمين أن يُقلعوا عن هذه العادة الذميمة التي لا ينال الميت منها رحمة أو مثوبة، بل لا ينال الحي منها سوى المضرة في المال والدين، وأن يعلموا أنه لا أصل لها في الدين، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله) والاتباع هو الخير، والابتداع هو الشر، والوقوف عند حدود الله شعار المؤمنين الصادقين.(1/428)
وقد أوضحنا هذا في فتوانا التي أصدرناها بدار الإفتاء المصرية (في 13 من شوال سنة 1366 هـ 29 من أغسطس سنة 1947 م) ثم بعد ذلك أخبرنى صديق ثقة أنه لم يقم في المملكة العربية السعودية مأتم ليلة الأربعين للملك (عبد العزيز آل سعود) طيَّب الله ثراه اتباعًا للسنة المُطهَّرة، وأن الملك سعود حين علم بما اعتزمه المسلمون في سوريا من إقامة مأتم الأربعين في المفوضية السعودية أبى ذلك وأعلن أن ذلك لا يجوز شرعًا بل هو بدعة وأنه لا يرضى أن تقوم للبدعة قائمة باسم والده رحمه الله.
والعجب من أقوام يُحيُون ما درَجوا عليه من البدع على غرار أولئك الذين قالوا: (إنَّا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنَّا على آثارِهم مقتدون) ويُميتون ما مضت به السنة المطهرة، وقد قال تعالى: (أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ) وقال تعالى: (مَن يُطعِ الرسولَ فقد أطاعَ اللهَ) نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق. والله أعلم.(1/429)
بدع منكرة في زيارة القبور
(السؤال) من المنصورة: كثير من الناس يطوفون عند زيارة الأولياء حول الأضرحة ويُقبِّلون المقاصير المضروبة على قبروهم، ويوفون ما التزموه من النذور لهم، ويطلبون منهم الشفاعة وقضاء الحاجات، فهل يجوز ذلك شرعًا؟
(الجواب) إن الطواف لم يُشرَّع إلا حول البيت المعظَّم تعبَّدًا لله سبحانه وطاعة، فلم يرد عن الشارع في الكتاب أو السنة نَصٌّ في الطواف حول غيره، ولم يؤثر عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وهم خير القرون أن طاف أحد منهم حول قبر عند زيارته، فلا يجوز الطواف حول القبور، ويجب التزام آداب الزيارة عند حصولها حتى تقع على الوجه المشروع ولا تقترن بمحرَّم أو مكروه من الأعمال.
كما لا يجوز تقبيل المقاصير والشبابيك والأبواب والقباب والأعتاب والتمسح بها في الأضرحة والمشاهد، وكل ذلك من أعمال الجاهلية التي يعتقد العامة أنها من باب العبادة أو المبالغة فيها، يتقربون إلى الله بها ويرجون المثوبة عليها، وما هي في شيء منها، إذ أن العبادة إنما تكون بما شرعه الله وحدده في كتابه أو سنة رسوله، وليس للعباد أن يُشرِّعوا فيها ما لم يُشرِّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمثوبة إنما تكون على الطاعات لا على المنكرات (ومن أضلُّ ممَن اتبعَ هواهُ بغيرِ هدًى من اللهِ) وابتدع في عبادته ما لم يأذن به الله، وكيف يرجو الثواب وهو غارق في بدعته وضلالته، مخالف لربه في هديه وشريعته.
وقد أفتينا مرارًا بأن زيارة القبور من السنن المأثورة، وأن الزائر يجب أن يتبع الهدي النبوى في الزيارة، فإن ابتدع فيها وآثر بدعته على هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد ضل وأضل.(1/430)
ومما يجب أن يعلم أن الدعاء مخ العبادة ومظهر العبودية ولا تكون العبادة حقًّا ولا العبودية صادقة إلا إذا تجردت عن شوائب المنكرات والمعاصي وخلصت لله تعالى وحده (فاعبد الله مخلصًا له الدين) وإن الله تعالى قد طلب منا أن ندعوه ووعدنا الاستجابة فقال تعالى: (ادعونى أستجبْ لكم) وإنما يستجيب في الدعاء الحق، وقد نهانا أن ندعو غيره ممن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، إذ أن الله تعالى وحده هو الذي يجيب المضطر إذ دعاه، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي ينفع ويضر، وهو الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وفي الحديث الصحيح: "إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك". وفي الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدونى أهدكم، يا عبادى كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادى كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسُكم ".
فالمؤمن يتجه إلى الله تعالى بقلبه ويدعوه وحده بما يريد في الدنيا والآخرة، ولا يلجأ إلا إليه ولا يدعو لذلك سواه. ويجب مع ذلك أن يباشر الأسباب التي أذن الله فيها، ولا يبتدع ما لم يشرعه الله ولم يأذن به.
ومن أسباب إجابة الدعاء طاعة الله واجتناب محارمه والوقوف عند حدوده والاعتصام بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/431)
ومن العوائق عن إجابة الدعاء تلبس الداعي بما هو محرم في دين الله كما يشير إليه حديث: "أنى يستجاب له ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي من حرام" فهو دعاء لاشك مردود وعمل باطل لا ثمرة له. وفي الحديث الصحيح: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" فيجب التزام هذا المنهج في الدعاء والتأدب بأدب الإسلام فيه، واجتناب كل ما ينافيه من قول وفعل واعتقاد. والله ولى التوفيق.
وأما النذور ففي حديث عائشة رضي الله عنها: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيَه فلا يَعصِهِ " ونذر الطاعة لا يكون إلا لله تعالى، ونذر المعصية يكون لغيره، فعلى من نذر نذرًا معلقًا بحصول شيء محبوب له أن ينذر القربة لله، كأن يقول: إن شفَى الله تعالى مريضي فلله عليَّ أن أتصدق على الفقراء بكذا، أو أبني مسجدًا أو نحو ذلك، ولا يجوز أن ينذر للولي نفسه كأن يقول: نذرت لفلان كذا. فإن فعل ذلك كان نذرًا باطلاً لا يوفي به.
هذه حدود الله في النذر فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وما أيسر التأدب بآداب الإسلام في النذور لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. اللهم قد بلغت. والله أعلم.(1/432)
حكم زيارة النساء للقبور
(السؤال) قال بعضهم إن زيارة النساء للقبور ردة عن الإسلام توجب فسخ نكاحهن، فهل ذلك صحيح؟
(الجواب) زيارة القبور مستحبة للعظة والاعتبار وتذكر الموت وأهوال الآخرة، وفيها انتفاع الموتى بالدعاء لهم، ففي الحديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكِّر الآخرة" أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم. وفي حديث آخر أخرجه الحاكم: "فزوروا القبور فإنها تذكِّر الموت". وكان عليه ـ الصلاة والسلام ـ يزور قبور شهداء أُحد وقبور أهل البقيع ويسلِّم عليهم ويدعو لهم ويقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم حسن العاقبة". رواه مسلم وأحمد وابن ماجه.
واخْتُلِف في زيارة النساء، فقال جماعة بكراهتها كراهة تحريم أو تنزيه لحديث أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن زوارات القبور. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وذهب الأكثر إلى الجواز إذا أُمِنت الفتنة، واستدلوا بما رواه مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ فقال: "قولي السلام عليكم أهل الديار المؤمنين.." الحديث، وبما أخرجه البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتقي الله واصبري" الحديث، ولم يُنكِر عليها الزيارة، وبما رواه الحاكم أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة، وبحديث عبد الله بن أبي مُليكة أن عائشة أقبلتْ ذات يوم من المقابر فقلتُ لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلتِ؟ فقالت: من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن زيارة القبور؟ أي للنساء، قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها.(1/433)
ومن هذا يُعلم الجواب عن حديث أبي هريرة، ويجاب عنه أيضًا بأنه محمول على الزيارة التي تقترن بها فتننة أو محرَّم كالندب ونحوه، أو بحمله على المكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يُفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ عنه من الصياح ونحو ذلك، فإذا أمن جميع ذلك فلا بأس من زيارتهن لاحتياجهن إلى تذكُّر الموت كالرجال، وبهذا يُجمع بين أحاديث الباب، وقد أشار إلى ذلك العلامة السراج والإمام العيني من الحنفية، وقال الشُّرُنبُلالي: الأصح ندب الزيارة للنساء والرجال اهـ أي متى خلت من المحظورات الشرعية، فإذا اقترنت بها كُرِهَت ولو من الرجال، ومن هذا يُعلم أنه لم يقل أحد من الأئمة والفقهاء بما قيل في السؤال، فليتق الله قائله. والله أعلم.
زيادة إيضاح لحكم زيارة النساء للقبور
ورد إلينا (سؤال) يتضمن أن هناك من يزعم أن زيارة النساء القبور رِدَّة عن الإسلام، (فأجبناه) في فتوى سابقة بأنه لا قائل بذلك من الأئمة، بل أقصى ما قاله بعضهم إنها حرام، وقال الجمهور إنها جائزة، كما ذكره النووي في المجموع وابن قُدامة في (المغني) والشوكاني في (نيل الأوطار) والعيني في (عمدة القارئ) والقسطلاني في (إرشاد الساري) وأئمة الحنفية إذا لم تقترن بمعصية.
ولا بأس أن نزيد المقام إيضاحًا فنقول: انعقد إجماع المسلمين على أن من السنة زيارة الرجال للقبور بعد أن كانت منهيًّا عنها في صدر الإسلام، فمن أتى بها فقد أتى بالسنة وأحياها، إلا أن لها آدابًا مسنونة يلزم اتباعها والعمل بها والوقوف عند حدودها التي حدَّدها الشارع قولاً وفعلاً، فإذا خرج الزائر عنها فقد خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.(1/434)
وقد ورد في السنة الترغيب في زيارة القبور بأنها تذكِّر الموت وأهوال الآخرة، وتبعث في النفوس العظة والاعتبار، كما جاء فيها بيان آدابها وما يجوز وما لا يجوز فيها، فواجب العلماء أن يبينوا للناس أحكامها ويحثوهم على إقامة سننها، ويُحذِّروهم من البدع والمنكرات التي تختف بها، ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، حتى تقع الزيارة على نحو زيارة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزيارة أصحابه والتابعين لهم بإحسان.
يقولون للناس افعلوا السنة واتركوا البدعة والمنكر، ولا يقولون اتركوا السنة إذا احتفت بها البدع والمنكرات. يشير إلى ذلك قصة المرأة التي مرَّ بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي تبكي على قبر صبيها، فسمع منها ما يكره، فقال لها: "اتقي الله واصبري" حيث وعظها وبيَّن لها أن ما فاهت به ينافي الطاعة والتقوى ويحرمها ثواب الصبر والرضا بالقضاء، ولم ينهها عن زيارة القبر، فدعا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السنة ونهى عما احتف بها من المنكر.
أما زيارة النساء القبور فقد وردت فيها أحاديث صحيحة اختلف الفقهاء في فهمها فكان ذلك مثار اختلافهم في حكمها، فمِن ذاهب إلى حرمتها أو كراهتها، ومِن ذاهب إلى جوازها مع الكراهة التنزيهية، ومِن ذاهب إلى أنها تندب لهن كالرجال.
عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لعن الله زوَّارات القبور" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زائرات القبور. واللعن الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وهو من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع عن قبول رحمته وتوفيقه. وقد عُهد في لسان الشرع تحريم الفعل على المسلم بلفظ اللعن، حتى جعله بعضهم أمارة على أن الذنب كبيرة، ومنه حديث "لعن الله الرجلة من النساء" "لعن الله السارق".(1/435)
وفرق بين الردة والحرمة في المعنى والأحكام، فإن الردة خروج عن الإسلام وقد تكون باستحلال الحرام، ومن أحكامها الدنيوية القتل بعد الاستتابة، وحكمها في الآخرة الخلود في النار. وأما فعل الحرام بدون استحلال فهو معصية فقط، وصاحب الكبيرة غير مخلَّد في النار عند أهل السنة والجماعة. وقد ورد عن الشارع لعن غير المسلم بمعنى طرده عن رحمة الله، كما في قوله تعالى: (لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيلَ على لسانِ داودَ وعيسى بنِ مريمَ ذلك بما عَصَوْا وكانوا يعتدون) وقد أخذ بعض فقهاء الشافعية بظاهر هذا الحديث فقالوا إن زيارة النساء القبورَ حرام أو مكروهة كراهة تحريم، وتعقبه النووي في المجموع بأنه قول شاذ في المذهب. والذي قطع به الجمهور أنها جائزة مع الكراهة التنزيهية. ونُقل عن صاحب البحر وجهان للشافعية، أحدهما الكراهة كما قال الجمهور، والآخر عدم الكراهة، وقال: إنه الأصح عندى إذا أُمِنَ الافتتان اهـ.
(وقد يقال) كيف يقطع الجمهور بالجواز مع ما يفيده ظاهر الحديث من التحريم؟
(فالجواب) أنه قد أخرج البخاري في باب زيارة القبور عن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بامرأة تبكي عند قبر. وفي رواية: فسمع منها ما يكره فقال: "اتقي الله واصبري". وقال القسطلاني: مطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يَنهَها عن الزيارة وإنما أمرها بالصبر والتقوى لما رأى من جزعها، فدل على الجواز، واستدل به على جواز زيارة القبور، سواء كان الزائر رجلاً أو امرأة. قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور اهـ.(1/436)
وأخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ من رواية عبد الصمد: "وكانت تبكى صبيها" فأفاد الحديث برواياته المتفق عليها بين الشيخين جواز زيارة النساء القبور كالرجال؛ لأن حاجة المرأة إلى العظة والاعتبار والتذكر كحاجة الرجل، وما يقترن بالزيارة مما يُكره يقع من كلٍّ منهما، وكلاهما منهي عنه، فتجوز الزيارة من كلٍّ من الرجال والنساء إذا تجرَّدت مما يُعدُّ شرعًا مكروهًا ومنكَرًا، بل تُندب كما صرَّح به الحنفية.
وروى مسلم عن عائشة في حديث طويل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبرها أن جبريل ـ عليه السلام ـ قال له: "إن ربك يأمركِ أن تأتي أهل البقيع وتستغفري لهم" قالت عائشة: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ أى عند الزيارة، قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" الحديث. وقال النووي في شرحه: فيه دليل لمن جوَّز للنساء زيارة القبور اهـ
ولمَّا تعارضت هذه الأحاديث الصحيحة مع حديث أبي هريرة وجب دفع التعارض بينها وذلك بوجوه:
(أولها) ما ذهب إليه الجمهور من الجمع بينها، حيث لم يُعلم المتقدِّم والمتأخِّر منها ولا مرجِّح لأحد المتعارضين كما تقرر في الأصول، وذلك بحمْل حديث النهي على حالة اقتران الزيارة بالنياحة والتعديد ونحوه مما لا يجوز، وحمْل أحاديث الجواز على حالة خلوها من ذلك.
ومرجع النهي عن الزيارة في الواقع إلى النهي عن المعصية المقارنة لها، لا إلى نفس الزيارة مثل قول الشارع: لا تطف عريانًا. فإن النهي متَّجه إلى العُري لا إلى الطواف، فهو مأمور به والعُري فيه منهيٌّ عنه والمطلوب إيقاعه مع الستر، ويشير إلى ذلك حديث المرأة السابق ذكره، حيث لم ينهها عن الزيارة ونهاها عن قول ما يُكره.(1/437)
وممن أشار إلى الجمع بين الأحاديث بما ذكر القسطلاني في (الإرشاد) والنووي في (المجموع) وابن عابدين في (رد المحتار) ففي الإرشاد: وأما حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا كانت زيارتهن للتعديد والبكاء والنَّوْح على ما جرت به عادتهن اهـ وفي المجموع نقلاً عن بعض الشافعية: وعندي أن زيارتهن إن كانت لتجديد الحزن والتعديد على ما جرت به عادتهن حرام، وعليه يُحمل حديث أبي هريرة، وإن كانت للاعتبار من غير تعديد ولا نياحة كُره، إلا أن تكون عجوزًا لا تُشتَهى فلا تُكره اهـ وفي (رد المحتار) عن الرملي مثله، قال: وهو توفيق حسن اهـ
(الوجه الثاني) ما ذهب إليه الإمام الحافظ ابن عبد البر من أن النهي عن زيارة القبور ورد عامًا للرجال والنساء، ثم وردت الإباحة بعد ذلك عامة لهم جميعًا فيكون حديث أبي هريرة منسوخًا بأحاديث الإباحة، ومثله حديث ابن عباس. وقد ذكر ذلك الإمام ابن قدامة حيث قال: رُوي عن أحمد أنها لا تُكره لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها" وهذا يدل على سبق النهي ونسخه، فيدخل في عمومه الرجال والنساء اهـ وهذا مبنيٌّ على دخول النساء في قوله: "كنتُ نهيتكم" وقوله: "فزوروها" وهو قول لكثير من الأصوليين خلافًا للشافعية.
(الوجه الثالث) أن حديث أبي هريرة محمول على المُكثِرات من الزيارة. قال الشوكاني والعينى: وبه قال القرطبي لما تقتضيه صيغة المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه الإكثار من ضياع حق الزوج والتبرج والتشبه بمن يلازم القبور لتعظيمها وغير ذلك من المفاسد. وعلى هذا يُفرَّق بين الزوارات والزائرات اهـ.(1/438)
فقد ظهر بهذا أنه لا تعارض بين الأحاديث وأن حديث أبي هريرة غير مراد ظاهره، وأن إطلاق القول بالتحريم أخذًا بظاهره غير مُتَّجه ولا معول عليه في مذهب الشافعية، وأن قطع الجمهور بالجواز إنما هو في حالة خلوِّ الزيارة من المنكر. إذ لا يُعقل أن تجوز مع اقترانها به، ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، ذلك هو الحق الذي لا مراء فيه.
وقال الشوكاني: قد ذهب إلى كراهة الزيارة للنساء جماعة من أهل العلم، وتمسَّكوا بحديث أبي هريرة، واختلفوا في الكراهة، هل هي كراهة تحريم أو تنزيه، وذهب الأكثر إلى الجواز إذا أُمنت الفتنة، واستدلوا بأدلة (منها) حديث عائشة الذي رواه مسلم، وحديث المرأة الذي رواه البخاري، وقد تقدما (ومنها) ما رواه الحاكم أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة. وقال القرطبي: إذا أُمِنَ جميع ما ذُكر (من المنكرات) فلا مانع من الإذن لهن لاحتياجهن إلى تذكُّر الموت كالرجال. ثم قال: "وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر" اهـ ونقل ابن قدامة في المغني عن أحمد روايتين؛ الكراهة التنزيهية وعدم الكراهة لهن. واستدل على عدمها بحديث ابن أبي مُليكة أنه قال لعائشة: يا أم المؤمنين من أين أقبلتِ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن. فقلتُ لها: قد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن زيارة القبور. قالت: نعم، نهى ثم أمر بزيارتها (نقله صاحب المُنتقى عن الأثرم في سننه، وأخرجه الحاكم وأورده العيني في العمدة) وهو مؤيد لما تقدم عن ابن عبد البر وصريح في نسخ النهي العام بالإباحة العامة للرجال والنساء. وصرح الحنفية كما في الدر وغيره بندب الزيارة للرجال والنساء لعموم الحديث. وقيل: تُحرَّم عليهن. وقال في البحر: الأصح أن الرخصة ثابتة لهن اهـ نعم، استظهر العيني في العمدة أن زيارة القبور مكروهة للنساء، بل حرام في هذا الزمان لا سيما نساء مصر؛ لأن خروجهن على وجه الفساد والفتنة(1/439)
اهـ ولكنه على إطلاقه غير مسلَّم، فمن النساء عجائز لا يُشتَهين وغير عجائز تقيَّات صالحات يخرجن للزيارة في حرص على العفاف والآداب، وقد يكن في رعاية ذويهن أو حماية أزواجهن، ولا يسع أحدًا أن ينكر أن في المسلمات قانتات عابدات يتقين الله ويطعنه، فلا يأتين بمنكر في الزيارة وغيرها، ولا فساد ولا فتنة في خروجهن لزيارة قبور موتاهن. ووجود نسوة على غير هذه الحالات لا يسوِّغ إطلاق الحكم وتحريم الزيارة على الجميع، وفيهن كثيرات لم يقم بهن موجب التحريم.
ولذلك فصل الفقهاء بين الحالات، وكان ذلك توفيقًا حسنًا بين الروايات، فإذا قيل إن الزيارة مطلقًا يجب ألا تشوبها منكرات ولا مفاسد، فتُباح للرجال والنساء على السواء إذا خلت من ذلك، ولا تجوز إذا اقترنت بشيء منه، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلاد ـ كان قولاً مَرضيًّا، وهو لباب السنة وصريح الهَدي النبوي، وخلاصة مذاهب الجمهور من الفقهاء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله أعلم.
خاتمة
في مشروعية زيارة القبور وحكم زيارة النساء لها وآداب الزيارة
في مشروعية زيارة القبور:(1/440)
وزيارة القبور مُستحبَّة للعِظة والاعتبار وتذَكُّر الموت وأهوال الآخرة، وانتفاع الموتى بالدعاء والاستغفار لهم والترحُّم عليهم، ففي الحديث: "كنتُ نَهيتُكم عن زيارة القبور، فقد أُذِنَ لمحمد في زيارة قبر أمه، فزُوروها فإنها تُذَكِّر الآخرة". رواه الترمذي وصححه، وأخرجه مسلم وأبو داود والحاكم، وفي حديث أخرجه الحاكم: "فزوروا القبور فإنها تُذكِّر الموت". وكان عليه الصلاة والسلام يزور قبور شهداء أُحد كل حوْل مرة، ويسلم عليهم. ويزور قبور أهل "بقيع الغرقد" بالمدينة مرارًا، ويسلم عليهم ويدعو لهم ويقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ". رواه مسلم وأحمد وابن ماجه. وكانت فاطمة تزور قبر عمِّها سيد الشهداء حمزة ـ رضي الله عنه ـ وكان ابن عمر لا يمرُّ بقبر إلا وَقف عليه وسلم عليه. وفي زاد المعاد: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحُّم عليهم والاستغفار لهم، ويأمر مَن معه من أصحابه أن يقول: "السلام عليكم أهل الديار .. " الخ. وفيه: وكان يتعاهد الميت بالزيارة إلى قبره والسلام عليه والدعاء له، كما يتعاهد الحيُّ صاحبه في الدار الدنيا. اهـ وذهب ابن حزم إلى أن زيارة القبور واجبة ولو في العمر مرة، لوُرود الأمر بها.
(ب) في زيارة النساء للقبور:(1/441)
والزيارة مأذون فيها للرجال باتِّفاقٍ. أما للنساء فقيل بكراهتها كراهة تحريم وقيل ـ كما في المجموع ـ كراهة تنزيهٍ، وهو الذي قطع به جمهور الشافعية. وقال الرُّويَاني في البحر: الأصحُّ أنه لا يُكره إذا أَمِنَ الإنسان الفتنة؛ ويُؤيده حديث مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زُرتُ القبور؟ قال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين". الخ. وحديث البخاري ومسلم: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بامرأة تبكي عند قبرٍ فقال: "اتَّقي اللهَ واصْبري". ولم يُنكر عليها الزيارة. ورواية الحاكم زيارة فاطمة قبر عمِّها حمزة في سفْح جبل أُحد. ونقل في المجموع أنه لو كانت زيارة النساء لتجديد الحزن والتعديد والبكاء والنَّوْح على ما جرت به عادتُهُنَّ حرُم. وعليه يُحمل الحديث: "لعَن اللهُ زواراتِ القبور". وإنْ كانت للاعتبار من غير تعديد ولا نِياحة كُرِهَ "أي تنزيهًا" إلا أن تكون عجوزًا لا تُشتَهَى فلا تُكرَهُ، كحضور الجماعة في المساجد، ومع هذا فالاحتياط للعَجوز ترك الزيارة لظاهر الحديث. اهـ
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد، فروي عنه كراهتها. والرواية الثانية لا يُكره. اهـ من المغني.
وعند الحنفية قيل بالحُرمة؛ وقيل بالكراهة، وقيل بالترخيص لهنَّ في الزيارة ووَفَّق الخير الرملي بمثل ما تقدم عن النووي في المجموع. وقال ابن عابدين: وهو توفيق حسن.(1/442)
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وقد ذهب إلى كراهة الزيارة للنساء جماعةٌ من أهل العلم. واختلفوا في الكراهة: هل هي كراهة تحريم أم تنزيه؟ وذهب الأكثر إلى الجواز إذا أُمنت الفِتنة. ونقل عن القرطبي في الجمع بين الأحاديث الواردة في الباب بأن اللعن في الحديث للمُكثرات من الزيارة لمَا تقتضيه الصيغة من المبالغة. ولعل سببه ما تُفضي إليه من التبرُّج والصِّياح ونحوه. وقد يُقال: إذا أُمِنَ جميعُ ذلك فلا مانع من الإذن لهنَّ؛ لأن تذكُّر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. اهـ.
ثم قال الشوكاني: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر. اهـ وعليه نعتمد.
(ج) في آداب زيارة القبور:
ومِن آداب الزيارة أن يَزورها الإنسان قائمًا مُستدْبِر القبلة مستقبلاً بوجهه الميت، وأن يسلم على أهل القبور، ولا يمسح القبر ولا يَمَسَّهُ فضلًا عن أن يُقبِّلَه، ويدعو عنده لهم قائمًا بما علَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه الدعاء عند الزيارة، وأن يَنصرف عقِب ذلك.
وقد كان ابن عمر يجيء إلى قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: "السلام على النبيِّ، السلام على أبى بكر، السلام على أبي" وينصرف. وكذلك كان أنس بن مالك. ولا بأس أن يقرأ عند القبر سورة "يس" لحديث "من دخل المقابر فقرأ سورة "يس" خفف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات". "بحر" وأن يقرأ من القرآن ما تيسَّر له من الفاتحة، وأول البقرة وآية الكرسي، وآخر البقرة من قوله تعالى (آمَنَ الرَّسولُ) وسورة "يس" وتبارك "الملك" و"التكاثر" و"الإخلاص" اثنتي عشرة مرة أو إحدى عشرة مرة أو سبعًا أو ثلاثًا. ثم يقول: اللهم أوْصل ثوابَ ما قرأته إلى فلان أو إليهم. "ابن عابدين".(1/443)
وفي نور الإيضاح وشرحه للشُّرُنْبُلالي الحنفي: ولا يُكره الجلوس للقراءة على القبر في المختار لتأدية القراءة على الوجه المطلوب بالسَّكِينة والتدبُّر والاتعاظ. اهـ.
وفي فتح القدير: واختلف في إجْلاس القارئين ليَقرءوا عند القبر، والمختار عدم الكراهة. اهـ
وفي المغني: ولا بأس بالقراءة عند القبر. وقد رُوي عن أحمد أنه قال: إذا دخلتم المقابر فاقرءوا آية الكرسي وثلاث مرات (قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ) ثم قولوا: اللهم إن فضله لأهل المقابر. اهـ.
وفي رواية الإحياء: "إذا دخلتم المقابر فاقرءوا الفاتحة والمعوذتينِ وقلْ هو الله أحد، واجعلوا ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم". اهـ.
وتقدم عن النووي عن الإمام الشافعي أنه يُستحب أن يقرأ عند القبر عقِب الدفْن شيءٌ من القرآن، وإنْ ختموا القرآن كله كان حسنًا. اهـ.
وما رُوي عن أحمد من قوله: إن القراءة عند القبر بدعةٌ قد رجع عنه، كما ذكره ابن قدامة الحنبلي.
وفي المبدع من كُتب الحنابلة: وقد صحَّ عن ابن عمر أنه أوصى إذا دُفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتِمتِها. اهـ مِن هداية الراغب.
وأفضل أيام الزيارة يوم الجمعة، وقيل هو ويومٌ قبله ويوم بعده، وقد ذَكر في زاد المعاد في باب الجمعة أن الموتى تَدْنُو أرواحهم مِن قُبورهم وتُوافيها في يوم الجمعة، فيَعرفون زُوَّارَهم ومَن يَمُرُّ ويسلم عليهم. ورَوى محمد بن واسع أن الموتَى يعلمون زُوارهم يوم الجمعة ويومًا قبله، ويومًا بعده. اهـ.
ولا يخفى أن وُصول ثواب القراءة إلى الميت لا يتوقف على أن تكون حال الزيارة، بل يصل الثواب إليه مطلقا.(1/444)
وقد قال ابن القيم في كتاب الروح: وأما قراءة القرآن وإهداؤها إلى الميت تطوُّعا بغير أجر فهذا يصل إليه، كما يصل إليه ثواب الصوم والحج، فكما أن ثواب الصوم والحج عنه يصل إليه، وهما لا يكونانِ حال الزيارة، كذلك يصل إليه ثواب القراءة مطلقًا، سواء كانت عند القبر أو بعيدة عنه، ويُؤيد هذا ما سبق نقله عن كثير من الفقهاء.
وقوْل ابن القيم في "زاد المعاد" في باب الجنائز: إن قراءة القرآن للميت عند القبر أو غيره بدْعة مكروهة، يُنافي ما ذكره نفسه في كتاب "الروح" وما ذكره غيره من الفقهاء خلَا أبا حنيفة الذي رُوي عنه القول بكراهة القراءة عند القبر؛ أيْ كراهة تنزيهية، وقد علمتَ أن المختار عند الحنفية عدم الكراهة عنده. والذي ينبغي التعويل عليه ما ذكره في كتاب "الروح" وذكره غيره.
وأيُّ فرقٍ بين قراءة القرآن له، وبين الصلاة والصوم والحج، والدعاء والاستغفار له، وكلها طاعات يُرجَى من الله أن يجعل ثوابها للميت إذا جعلها الفاعل له، ولا حرج على الله في فعله وفضله، ومنه الجُود والإحسان.
وجُملة القول في الزيارة أنه يجب اتباع هدْي النبوَّة فيها، والتأدُّب بآدابها المَسنونة، وتجريدها من المآتم والبدع المُنكرة، حتى تقع في موقعها الشرعي. والله أعلم.
اللهم اجعلنا مِن الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وفَقِّهْنَا في الدين، ولا تحرمنا أجر العاملين، واهدنا الصراط المستقيم. وصلِّ وسلم على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين.
تَمَّ بعونه ـ تعالى ـ وتوفيقه تحرير هذه الفتوى وما أُلحق بها في يوم الجمعة13 من شوال سنة 1366هـ "29 من أغسطس سنة1947 م" بالقاهرة.
ثم زِيد فيها زيادات هامة مع تنسيق مُحْكم، وتمَّت بفضل الله ـ تعالى ـ وتوفيقه يوم الجمعة يوم عرفة تاسع ذي الحجة سنة: 1387هـ "8 مارس سنة: 1968م". بيد الفقير إلى عفْو مولاه الرءوف.
... ... ... ... ... ... ... حسنين محمد مخلوف(1/445)
... ... ... ... ... ... مفتى الديار المصرية السابق
... ... ... ... ... ... وعضوجماعة كبار العلماء بالأزهر.(1/446)
خرافة دوران الميت بنعشه
(السؤال) سار الناس بجنازة في البلدة وأمامها الطبول والبنود، وإذا بالنعش يدور بالناس ويرجع بهم إلى الوراء ثم يندفع إلى الأمام بسرعة، فاعتقد الناس أن ذلك من فعل الميت تعلقًا منه ببعض الأماكن، فتقدَّم آخرون لحمل النعش فحصل معهم ما حصل مع السابقين فهل هذا من فعل الميت حقيقة ؟ نلتمس الجواب.
(الجواب) كثر ادعاء الناس حدوث هذه الحالة من الموتى في بلادنا وخاصة القرى إذا كانوا من المنتسبين إلى بعض الطرق الصوفية، فيزعمون أن المتوفى دفع الجنازة إلى جهة كَرهًا عن حامليها، ثم جذبها إلى أخرى كذلك، وكلما أكثر المشيِّعون من الأذكار ازداد الدفع والجذب، وهكذا إلى أن ينتهيَ بهم المطاف إلى القبر بعد جهد وعناء.(1/447)
وليس لهذا أصل في الدين، فلم يَرد في الكتاب ولا في السنة ما يشير إلى وقوع مثل ذلك لنبي أو ولي لا في الأمم السابقة ولا في هذه الأمة، وما أُثر شيء من ذلك في الصدر الأول وهو خير القرون وأفضلها عن صحابي أو تابعي، ولا عن إمام من أئمة المسلمين ولا صالح من أتقيائهم المرضيين، ولو وقع ـ وهو مما تتوافر الدواعي على نقله بلا ريب ـ لنقله إلينا الثقات كما نقلوا إلينا صحيح الأخبار والآثار. وقد أفاض المؤرخون في وصف جنازة إمام أهل الحديث وأتقى الأمة في عصره الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ وصفًا دقيقًا لم يقل أحد إنه فعل مثل ذلك. ولِمَ يفعل المؤمن التقي العابد هذه الحركات وهو مُقبل على ربه فرح بما بُشِّر به من النزول في دار المقام ومن الزُّلفى عند المَلِك العلَّام، كما ورد في الأحاديث أن ملائكة الرحمة تحف المؤمن وهو في سياق الموت مبشرات بما أعد الله له في الدار الآخرة من النعيم المقيم. ومن كان هذا شأنه يود لو يسرع به الناس إلى القبر ليخْلص من دار الشقاء وينعم بدار الكرامة والنعيم، والقبر للمؤمن روضة من رياض الجنة. ولو استطاع المؤمن بنفسه أن يطير إلى قبره لم يَلْوِ إلى جهة ذات الشمال وذات اليمين مؤثرًا له على الدنيا وما فيها من متاع ومال وبنين.(1/448)
إن الميت جثة هامدة وروحه التي ترفرف عليها في شغل بأمرها عن هذه الحركات، والناس هم الذين يأتونها بتأثيرات نفسية وانفعالات عصبية تدافع فيما بينهم وتزاحم، ويكفي أن يتجه واحد من حملة النعش إلى جهة فيتجه إليها الباقون اضطرارًا من غير شعور. أرأيت لو وُضِع النعش فوق سيارة يقودها سائق غريب نازح من بلد آخر أكان يفلت منه قيادها وتُسلب منه إرادته ويتولى المسير بها ذلك الميت إلى غير طريقها المرسوم إلى نهر أو ترعة أو بلد آخر أو إلى داره التي أُخرج منها؟ كلا ثم كلا. وما أجدر المسلمين أن يُطهِّروا عقولهم من مثل هذه التُّرَّهات ويرجعوا فيما يعتقدون ويعملون إلى ما كان عليه الصدر الأول والسلف الصالح من هذه الأمة، فهم مشكاة النور وهم أحسن الأسوة، وعِلْمهم النبع الصافي الذي لم تكدره الدِّلاء، ونهجهم الصراط المستقيم الذي اتبعه الهداة الأدِلاّء. والله أعلم.(1/449)
حرْمة حَمْل بساط الرحمة
(السؤال) هل يجوز شرعًا للمسلم أن يحمل ما يسمونه بساط الرحمة في جنائز المسيحين؟
(الجواب) للإسلام الحنيف مبادؤه وأحكامه في العبادات والعادات والمعاملات، بيَّنتْها الشريعة الغرَّاء وجرى عليها السلف الصالح من الأمة، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهة من الورع في الدين اجتنابها.
ولأهل الكتاب طقوس دينية وتقاليد مِلِّيَّة يحافظون عليها ويحرصون على إقامتها في عباداتهم وعاداتهم وأفراحهم وأتراحهم كدين وعقيدة، ولا أصل لها ولا دليل عليها، وليس للمسلمين أن يشاركوهم فيها، ومن ذلك حمل الصليب أو البساط الذي يسمونه بساط الرحمة في الجنازات، وخاصة إذا كان مرسومًا عليه الصليب، كما أنهم لا يشاركون المسلمين فيما هو من شعائر الإسلام، فيحرم على المسلم حمل الصليب وحمل بساط الرحمة المزعوم وكل ذلك ضلال مبين وحرام شنيع حرمة شديدة. ولا يجوز شرعًا أن تكون المجاملة بين أهل الملل في الوطن الواحد بفعل محرَّم أو ترك واجب. والله أعلم.(1/450)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، خاتم النبيينَ والمُرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعينَ أجمعينَ. "وبعد"
فهذه فتوى شرعية هامة أصدرناها جوابًا عن سؤال إلينا عن طريق جريدة الأهرام بشأن مأْتم ليلة الربعين، وبيان ما يُرجى وُصول نفعه وثوابه إلى الميت من أعمال البرِّ والطاعات التي يَعملها الناس لأجْله بعد وفاته، وقُيِّدَتْ بسِجِلَّاتِ دار إفتاء الديار المصرية برقم: 377 سنة 1947م ـ ونشرت خلاصتها بجريدة الأهرام.
ونظرًا لحاجة الناس إليها، وكثْرة طلَب صُور منها للوقوف على حُكم الشريعة الغرَّاء في موضوعها ـ رأينا طبعها مع بعض تعليقات هامَّة عليها تَمَسُّ الحاجة إليها، اعتمدنا فيها على ما ورد مِن أحاديث الأحكام، وما استنبطه منها أئمة الحديث والفقه الأعلام. ولم نقصد إلى تقرير مذهب الحنفية بخُصوصه في كل بحث.
وقد اشتملت أصلًا وتعليقًا ـ مع صِغَرِ حجْمها ـ على مباحث شرعية وأحكام فقهية في موضوعها لا يَستغنِي عنها طالب علْم وهُدًى وتَفَقُّه في الدِّين، وأرجو مِن الله تعالى ـ فضلًا وكرَمًا ـ أن ينفع بها المسلمين، ويثيب العاملين بها ثواب المُتقين، ويكتب لنا بها أجر المُرشدين الناصحين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أُنيب. والحمد لله رب العالمينَ.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
في يوم الجمعة: 13 شوال سنة: 1366 هـ كتبه
... ... 29 أغسطس سنة: 1947م مفتى الديار المصرية
... حسنين محمد مخلوف
فتوَى في ذِكْرى الأربعين
نشرت الأهرام الكلمة الآتية تحت عنوان "سُنَّة حَسَنة" في عدد يوم الأحد التاسع من شهر رمضان سنة: 1366 هـ "27 من يوليو سنة: 1947م".(1/451)
لقد ابتلاني الله ـ تعالى ـ بفقْد ولدي (توفي إلى رحمة الله في يوم الأربعاء: 29 من رجب سنة: 1366 هـ "الموافق: 18 من يونية: 1947م" ولدي الشاب الصالح عبد الحميد الطالب بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول "جامعة القاهرة الآن" رحمه الله، وألْهمنا الصبر على مصابه) فصبرتُ، واقْتُطعتْ مِنِّي فلذة الكبد فما تبرَّمتُ؛ فلله ـ تعالى ـ الحمد على نعمة الرضا بالقضاء، ومنه وحده المثوبة وعظيم الجزاء، على الصبر على البلاء.
وقد تساءل أصدقائي عن ليلة الأربعين المعتاد إحياؤها ببلادنا، فأخبرتُهم أن إحياءها على النحو المُتَّبَعِ بِدْعةٌ مذمومة لا أصل لها في الدين. وأني مُكتفٍ فيها وفي غيرها من الأيام بما بيني وبين ربي من عمل يُرجَى ثوابه بمشيئة الله ـ تعالى ـ لمَن افتقدتُه، ولهم منِّي مع عظيم الشكر وافرُ الدعوات.
... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية
... ... ... ... ... ... حسنين محمد مخلوف
وعلى أثر ذلك وصلني من مُحبٍّ وفي السؤال الآتى:
فضيلة الأستاذ الأكبر مفتي الديار المصرية ـ حفظه الله ووفَّقه.
أتقدمُ بكل تَجِلَّةٍ واحترام إلى فضيلة الأستاذ الأكبر مُفتي الديار المصرية لمناسبة فتْواه الحقَّة في موضوع "الاحتفال بذكرى الأربعين" المنشورة في الأهرام راجيًا أن يتفضل علينا بتِبيان الأعمال التي يُرجَى ثوابها للميت، كما جاء في كلمتكم القيمة؛ لأني ممَّن اتَّبع فعلا هذه السُّنة الحسنة التي أقمْتَها فضيلتكم بعدم إحياء ليلة الأربعين رغم إجماع الناس عليها إجماعًا باطلًا شرعًا. وأنتهز هذه الفرصة فألْتمس من فضيلتكم التكرُّم بنشر ما يجهله العامة أو يتَجاهلونه من أحكام الشريعة الإسلامية في المآتم وما يَجرى فيها مِن بِدَعٍ ومُنكرات ـ أجزل الله ـ تعالى ـ أجر فضيلتكم وأنزل السكينة على قلبكم الحزين، وأدام عليكم نعمة الرضا بالقضاء، ولكم من الله ـ تعالى ـ أوفي الجزاء.(1/452)
... ... ... ... ... ... حافظ البديوي
... ... ... ... ... ... المحامي: "191 شارع شبرا بالقاهرة".
وقد بعثت جريدة الأهرام إليَّ هذا السؤال بعد نشرها له كما نُشرت الخلاصة السابقة المشار إليها فحرّرت الفتوى الآتية: (المسجلة بدار الافتاء برقم: 377 بتاريخ: 14 أغسطس سنة: 1947م). ونشرتِ الأهرام خلاصتها بعدد يوم: 12 أغسطس سنة: 1947م.
(1) نصُّ الفتوى الشرعية
بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، أقول:
(إنَّ إقامة مأْتم ليلة الأربعين بِدْعةٌ سيئة مذمومة شرعًا) وإن عامة الناس يحرصون الآن على إقامة مأتْم ليلة الأربعين، لا يختلف عن المأتم يوم الوفاة، فيُعلنون عنه في الصحف، ويُقيمون له السرادقات، ويَستأجرون القراء، وقد ينحرون الذبائح. ويفِدُ المُعزُّون فيُشكر منهم مَن حضر، ويُلام من تخلَّف ولم يعْتَذِر، ويُقيم السيدات بجانب ذلك مأْتمًا بالمنزل من ضحْوة النهار للنَّحِيب والبكاء، وتجديد الأسى والعزاء.
ولا سند لشيء من ذلك في الشريعة الغرَّاء، فلم يكن مِن هدْي النبوة ولا مِن عمل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولا مِن المأثور عن التابعين إقامة هذا المأْتم، بل لم يكن معروفًا عند جمهور المسلمين في بلادنا بهده الصورة الراهنة إلى عهد غير بعيد. وإنما هو أمرٌ استُحدثَ أخيرًا ابتداعًا لا اتِّباعًا. وفيه من الابتداع ما نُهِيَ عنه شرْعًا.(1/453)
فيه التزام علْم ممَّن يُقتدَى بهم عادةً في البلاد، ظاهرة أنه قرْبة وبِرٍّ، حتى استقرَّ في أذهان العامَّة أنه من المشروع في الدِّين، وذلك خطأ جسيم. وفيه إضاعة الأموال في غير سبيلها المشروع. وفيه أن الميت قد يكون عليه ديون للعباد وحُقوق لله ـ تعالى ـ لا تتَّسع مَوارده للوفاء بها مع تكاليف هذا المأْتم المُبتدع. وقد يكون أهل الميت في أشد الحاجة إلى هذه الأموال، ومع هذا يُقيمون اضطرارًا مأتم الأربعين استحياء مِن الناس، ودفعًا للنقْد، وانسياقًا وراء العادات. وقد يكون في الورثة قُصَّرٌ يلحقهم الضرر بتبديد أموالهم في هذه البِدْعَة وليس من المشروع إنفاقها في ذلك. وفيه مع ذلك تجديد الحزن وتكرير العزاء، وهو مَكْروه شرْعًا.
ففي مع ذلك تجديد الحزن وتكرير العزاء، وهو مَكروه شرعًا. ففي الحديث: "التعْزية مرة". "كما في نيل الأوطار (للعلَّامة الإمام محمد بن على بن محمد الشوكاني قاضي قضاة القُطر اليماني، المتوفى بصنعاء سنة: 1255هـ شرحًا على "منتقى الأخبار" للإمام مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية المتوفى بحرَّان سنة 652هـ وهو جد شيخ الإسلام الإمام تقي الدين أبي العباس ابن تيمية المشهور شيخ الإمام ابن القيم رحمهم الله وأثابهم) وفي الفتاوى التتارخانية: لا ينبغي لمَن عزَّى مرة أن يُعزيَ أُخرى. اهـ "وفي الدر المختار": تُكْره التعْزية بعد ثلاثة أيام؛ لأنها تُجدد الحُزن إلا لغائبٍ. اهـ ومثله عند الشافعية "كما في المجموع". بل قال الشافعي "كما في الأم": وأكْره المآتم ـ وهي الجماعة ـ وإنْ لم يكن لهم بكاء؛ فإن ذلك يُجدد الحزن، ويُكلف المئونة. اهـ.(1/454)
لهذا ولغيره من المفاسد الدينية والدنيوية أهبنا بالمسلمين أن يُقلعوا عن العادة الأربعينية الذميمة، التي لا ينال الميت منها رحمةٌ ولا مثوبة. بل لا يَنال الحي منها غالبًا سوى المضرة وخاصة إذا كان القصد بإقامتها مجرد التفاخُر والسمعة أو دفع الملامة والمَعَرَّةِ، وأن يعلموا أنه لا أصل لها في الدين؛ وأنها بِدْعة سيئة.
وفي الحديث: "كل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار". وإنَّما الذي ينبغي أن يُعمل لأجل الميت في كل وقت وحال مع الإمكان والطاقة هو ما فيه نفع له وثواب يرجى أن يصله في حياته البرزخية من الطاعات والقُربات، كالدعاء والاستغفار له وتلاوة القرآن وهِبة ثوابها له في أيِّ يوم والتصدُّق عنه والحج عنه، إذا أمكن والصلاة والصوم عنه على التفصيل الآتي:
وقد تضافرت الأدلة في هذا الباب على أن ثواب هذه الطاعات ونحوها من القربات يصل بفضل الله ورحمته وعظيم قُدرته إلى ممَّن أُهْدِيَ إليهم من أرواح الموتى من المؤمنين في مُستقرهم في البرزخ، وينعمون به ويفرحون كما يفرح الحي بالهدية تُهدَى إليه من قريب أو صديق حميم.
ولتكون ـ أيها الأخ المسلم ـ على بيِّنة من ذلك، نذكر لك بادئ ذي بَدْء طرفًا من أحوال الأرواح وخاصة بعد الموت في طورها البرزخي حسبما ورد في صحيح الأخبار، ثم نُردفه بما ورد من الأدلة الشرعية في انتفاع الموتى بهذه الطاعات وما قاله الأئمة في ذلك.(1/455)
حال الروح الإنساني قبل الموت وبعده
(الروح لغة يذكر ويُؤنث)
أثبت العلم أن الروح الإنساني جسم نُوراني لطيف مُبْدع من غير مادة، سارٍ في جوهر الأعضاء سريان الماء في النبات، والنار في الفحم لا يتبدل ولا يتحلَّل، فيُفيده هذا السريان الحياةَ وتوابعها،وبانقطاعه يحصل للجسد الموت.
وهذا الروح هو الحامل لصفات الكمال مِن العقل والفهْم، وهو الإنسان في الحقيقة، والمشار إليه بلفظ "أنا" دون الهيكل المخصوص والقابل للزوال والفناء. وإلى هذا ذهب الإمام مالك وجمهور المُتكلِّمين والصوفية والرازي وإمام الحرمين، واختاره الإمام ابن القيم وقال إنه هو الذي دلَّ عليه الكتاب والسُّنة، وانعقد عليه إجماع الصحابة وأقام عليه زُهاء مائة دليل في كتابه "الروح". وهناك مذاهب أخرى سقيمة في معنى الروح لا نُطيل بذِكْرها والرد عليها.
وكل ما يُؤْثر عن العلماء في شأن الروح إنما هو من قبيل الأوصاف والأحوال التي هي من باب الآثار والأحكام لا من قبيل الكشْف عن الحقيقة الذاتية؛ لأنها مما استأثر الله بعلْمه فلا تَبلغه عقول البشر. ولذلك لمَّا سأل اليهود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن حقيقة الروح وكُنْهِهِ ـ امتحانًا وتعجيزًا ـ لم يُجبهم بها، بل بما في قوله تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي) أيْ: العلْم بكُنْهه من شأنه ـ تعالى ـ وحده لا تصلُ إليه مَدارك البشر.(1/456)
واعلمْ أن عالَم الأرواح يختلف عن عالَم المادة اختلافًا كثيرًا في أحواله وأطواره، فالروح يَخلقها الله ـ تعالى ـ ويَسلكها في الجسد وهو جنينٌ، كما يُشير إليه قوله تعالى: (ثُمَّ أنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ) فتُحدث له نوعًا من الحياة والحركة، ثم إذا انفصل وبَرز إلى الحياة الدنيا تُوجبُ له حِسًّا وحَرَكَةً وشعورًا "ويُسمَّى بذلك حيًّا". ثم تُفارقه في الوقت المُقدَّر أزلًا لقطْع علائقها به فتَبطل هذه الآثار، ثم يَفْنَى البَدَنُ ويَصير بعد زمان ترابًا، "ويُسمَّى عند ذلك "ميتًا".(1/457)
ولكن الروح ـ وهي في البرزخ ـ كما قال تعالى: (ومِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلَى يومِ يُبْعَثُونَ) وهو ما بين الحياة الدنيا والحياة الأُخرى، أيْ من حينِ الموت إلى يوم البعث والنشور تبقَى حية مُدركةً تَسمع وتُبصر وتَسبح وتَجول في مَلكوت الله ـ تعالى ـ حيث أراد وقدَّر، وتتصل بالأرواح الأخرى وتُناجيها وتُخبرها بشئونٍ سواء أكانت أرواح أموات أم أرواح أحياء (رُوي أن ثابت بن قيس بن شماس خرج مع خالد بن الوليد إلى حرب مُسيلمة الكذاب فاستُشهد ـ رضي الله عنه ـ وكان عليه درع نفِيسة. فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينما رجلٌ من الجند نائم، إذ أتاه ثابت في منامه فقال له: أُوصيك بوصية وإيَّاكَ أن تقول هذا حلمٌ فتُضيِّعَها، إني لمَّا قتلتُ أمسِ، مرَّ بِي رجلٌ من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خِبائه فرسٌ يستَنُّ في طوله "يعدو لمَرَحِهِ وهو مشدود القوائم بحبلٍ" وقد كفأ على الدرع بُرْمةً وفوق البرمة رملٌ فأتِ خالدًا فمُرْهُ أن يبعث إلى درعي، فيأخذه وإذا قدمتَ المدينة على خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقل له إنَّ عليَّ من الدَّيْن كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيقٌ، فأتى الرجل خالدًا فأخبره، فبعث إلى الدرع وأتَى بها وحدَّث أبا بكر برُؤياه فأجاز وصيَّته. ذكر ذلك الإمام ابن عبد البر وغيره، وقد أجازت الوارثة وهي بنته هذه الوصية، وذكر ابن القيم قصة مصعب بن جُثامة وعوف بن مالك مما هو أعجب في كتابه الروح. اهـ) وتشعر بالنعيم والعذاب، واللَّذة والألم بحسب حالها وما كان لها من اعتقاد وعمل في الحياة الدنيا، وترِدُ أفنية القبور وتَعرف المسلم (وفي زاد المعاد لابن القيم أن الموتى تدنو أرواحهم من قُبورهم وتُوافيها يوم الجمعة فيَعرفون زُوَّارهم ومَن يَمُرُّ بهم ويُسلم عليهم ويلقاهم أكثر مِن معرفتهم بهم في غيره من الأيام فهو يوم يلتقي فيه الأحياء والأموات، ورُوي أن الموتى يعلمون بزُوَّارهم يوم(1/458)
الجمعة ويومًا قبله ويومًا بعده. اهـ) وتَرُدُّ السلامَ، ويُعرض عليها مَقْعدها من الجنة أو النار، وقد تأوي إلى المنازل وتتصل؛ بأهلها "اتصالًا رُوحيًّا". وكذلك يختلف مُستقر الأرواح في عالَم البرزخ بحَسَبِ حالها واعتقادها وأعمالها في الدنيا، فمُستقر أرواح الأنبياء في أعلى عِلِّيينَ. ومع ذلك لها اتصال بأبْدانهم الشريفة وإشراق عليها كإشراق أشعة الشمس عل وجْه البسيطة، وقد تنتقل إلى أبدانهم الشريفة كلمْح البصر وتَرُدُّ السلام، ومُستقر أرواح الشهداء الجنة، تَرِدُ أنْهارَها، وتأوِي إلى قناديلَ مُعلقة بالعرش.
ومستقر أرواح سائر المُؤمنين الجنة وترِد أفنية القبور والمنازل كما قدَّمنا، ومستقر أرواح الكفَّار سِجِّينٌ، وما أدْراك ما سِجين، إنه ديوان الشرِّ. والمُنَعَّم من الأرواح يَنعم في صور مُختلفة مُتفاوتة، كما أن المُعذب كذلك. والروح في كل ذلك لطيفةٌ ربانية لا يَحُدُّها مكانٌ ولا يَحْصرها حيِّزٌ ولا ترى بالعيون والآلات كما ترى الماديات. وقد يأذن الله لها وهي في عالَم البرزخ أن تتصل بالبدَن كله أو ببعض أجزائه الأصلية اتصالًا خاصًّا (ذهب أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الظاهري المتوفى بالأندلس سنة456هـ في كتابه "المُحلَّى" إلى أنه لا مساءلة في القبر إلا للرُّوح، وأنها لا تعود إلى الجسم بعد مُفارقته إلا يوم القيامة والأحاديث الصحيحة تَرُدُّهُ. وردَّ عليه ابن القيم في كتابه "الروح" بما دحض حُجته، وكذلك الحافظ ابن حجر في الفتح) لا كالاتصال الدنيويِّ يُشبه اتصال أشعة الشمس وأضواء القمر بالعوالِم الأرضية وهو اتِّصال إشراق وإمداد فيَشعر البدن كذلك بالنعيم والعذاب، ويسمع ويُجيب بواسطة الروح.(1/459)
وقد لا يأذن الله لها بالاتصال بالبدن فتَشعر الروح بذلك شُعورًا قويًّا ويستمر ذلك الشأن للأرواح إلى أن تَفْنَى ثم تُعاد بعد الفناء إلى الأجساد في النشأة الأُخرى للحساب والجزاء. راجع كتاب "الروح" لابن القيم (هو الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي الفقيه المفسر النحوي الأصولي المتكلم، الشهير بابن قيم الجوزية، وُلد سنة 691هـ ولازَم شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، وسُجن معه في قلعة دمشق وعُذِّب بسببه، ثم أُطلق بعد وفاته وتوفي بدمشق في رجب سنة 751 هـ ومن مؤلفاته كتاب الروح، وزاد المعاد، وإعلام المُوقعين، وإغاثة اللهفان، والطرق الحُكمية في السياسة الشرعية ومدارج السالكين) وكتاب: "المَطالب القدسية في أحكام الروح وآثارها الكونية" للأستاذ الوالد (هو العلامة البارع في المنقول والمعقول شيخ شيوخ الأزهر والدي الشيخ محمد بن حسنين بن محمد بن علي مخلوف العدوي المالكي الأزهري، وُلد ببلدة بني عدي القبلية بمركز منفلوط بمديرية أسيوط بالصعيد في15 رمضان سنة 1277 هـ 27 مارس سنة 1861م وتُوفي بالقاهرة في سنة 1355 هـ 11 إبريل سنة 1936م وكتابه هذا مرجع هام في مباحث الأرواح في جميع أطوارها، طُبع أولًا في سنة 1350 ثم طبع ثانيًا في سنة 1382 بمطبعة السيد مصطفي البابي الحلبي الشهير بمصر، وله مؤلفات عديدة قيمة في الأصول والفلسفة ومختلف العلوم والبحوث) رحمهما الله، وتفسير العلامة الآلوسي (هو الإمام العلامة المفسر شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي المتوفى ببغداد سنة 1270هـ وتفسيره من أجلِّ التفاسير وأجمعها وأوْفاها، وشائعٌ في البلاد الإسلامية جميعها) لآية: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: 85) وقال حُجة الإسلام الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي المتوفى بطُوس سنة 505 هـ في كتابه "الإحياء": الحق الذي تنطق به الآيات والأخبار أن الموت(1/460)
انتقالٌ وتغيرُ حالٍ، وأن الروح باقية بعد مُفارقة الجسد مُنعَّمة أو مُعذبة ومعنى مُفارقتها له انقطاع تصرُّفها عنه، وكل ما هو وَصْفٌ للروح بنفسها من إدراك وحُزن وغَمٍّ، ونعيم وفرَح يَبقى لها بعد مُفارقتها للجسد، وما هو وصْف لها بواسطة الأعضاء كبطْشٍ باليد وسمْع بالأذن وبَصَر بالعيْن يبطل بمَوته إلى أن تُعاد الروح إلى الجسد. اهـ أما إدراكها المسموعات والمُبصَرات من غير آلة كإدراك الملائكة والجنِّ فهو مِن جملة مَعارفها الثابتة لها بنفسها كما هو ظاهر. اهـ
هذا هو مذهب جمهور أهل السُّنة والجماعة وبهِ وردتِ الأحاديث والآثار وهو الصحيح.(1/461)
الحياة في القبر والسؤال فيه وما ورَد في ذلك:
وقد دَلَّتِ الأحاديث الصحيحة على ثُبوت نوع خاص من الحياة للموتى في قبورهم، وعلى سُؤالهم ونعيمهم وعذابهم فيها، وأن القبر روضة من رِياض الجنة أو حُفرة من حُفر النار بحسب الاعتقادات والأعمال، وأن المُنَعَّم والمُعذَّب فيه الروح والبدن معًا، وأن الأرواح تسمع وتُجيب وتردُّ السلام على مَن يَسلم عليها. فعَن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا فرغ مِن دفْن الميت وقف عليه فقال: "استَغْفِرُوا لأَخِيكمْ، وسَلُوا له التَّثْبِيتَ، فإنه الآن يُسأل". أخرجه أبو داود والبزار والحاكم وصححه. وروَى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللهُ الذينَ آمَنُوا بالقوْلِ الثابتِ في الحياةِ الدُّنْيَا وفي الآخَرِةِ) أن أول تَثبيتهم في الآخرة هو تثبيتهم في قبورهم حين يُسألون بعد الموت عن مُعتقدهم في الله ورسوله وعن دِينهم. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري. وعن عثمان مرفوعًا: "القبر أوَّلُ منزلٍ مِن منازلِ الآخرة، فإنْ نجَا منه الميتُ فما بعده أيْسر، وإنْ لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه". (رواه أحمد والترمذي وحسَّنه وابن ماجه والحاكم وصحَّحه) وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ أن تثبيت الموتَى المؤمنين في الحياة الدنيا هو تثبيتهم في القبر إذا جاء الملكانِ إلى الميت في القبر فقالَا له: مَن ربُّك؟ قال: ربيَّ الله. قالا: وما دِينك ؟ قال: دِيني الإسلام. قالا: مَن نبيُّك؟ قال: نبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم. فالمراد من الآخرة يوم القيامة. اهـ آلوسي.(1/462)
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "إذا دَفنْتُمُونِي فأَقِيموا حول قبري قدْر ما تُنْحَرُ جَزُورٌ، ويُقَسَّمُ لحمُها حتَّى أسْتَأْنِسَ بكمْ وأعْلمَ ماذا أُراجعُ بهِ رُسلَ رَبِّي". "رواه مسلم". وكان مِن دُعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن صلَّى عليه صلاة الجنازة قوله: "وأَعِذْهُ مِن عَذَابِ القَبْرِ". "رواه مسلم". وقوله: "اللهم وقِهِ مِن فِتْنَةِ القَبْر ومِن عذابِ جهنَّم، اللهمَّ ثَبِّتْ عند المسألة مَنْطِقَهُ، ولا تَبْتَلِهِ في قبْرِه".
وهل السؤال في القبر مُختصٌّ بهذه الأمة أو عامٌّ لها ولغيرها؟ جزَم بالأول الحكيم الترمذي وبالثاني ابن القيم. ومما ورَد في ذلك حديث البراء بن عازب، وهو حديث متصل الإسناد مشهور، رواه جماعة عنه، وأخرجه أحمد وأبو داود، وجمَع طُرقه الدارقطني في مُصنَّفٍ مُفرد. وفي الصحيحينِ عن أبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ قال: لمَّا كان يوم بدْر، وظهر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مُشركي قريش أُمَّ ببِضْعة وعشرين من صناديدهم فأُلقوا في القليب، ونادى الرسول بعضهم بأسمائهم: "أليس قد وجدتم ما وعَد ربُّكم حقًّا، فإني وجدتُ ما وعَد ربي حقًّا". فقال عمر: يا رسول الله، ما تُكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسْمع لمَا أقولُ منهم".
وفي عيون الأثر (لأبي الفتح محمد بن محمد بن محمد اليَعمري الشهير بابن سيد الناس المتوفى بمصر في سنة: 734هـ). قال قتادة: أحياهم الله حتَّى سمعوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَوبيخًا لهم. اهـ.(1/463)
وأخرج أبو بالشيخ حديثًا قال فيه: كانت امرأةٌ بالمدينة تَقُمُّ المسجد "تكنسه" فماتت فلم يُخبر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرَّ على قبرٍ وسأل عنه، فأخبروه أنه قبر أم مِحْجَن التي كانت تقمُّ في المسجد فصلى عليها وقال: " أيُّ العمل وجدتِ أفضلُ" ؟ قالوا يا رسول الله، أتسمعُ!! قال: "ما أنتم بأسمعَ منها". وذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها أجابتْه "قَمُّ المسجدِ".
وأخرج حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البَرِّ بإسناد صحيح عن ابن عباس مرفوعًا: " ما مِن أحدٍ يمرُّ بقبر أخيه المُؤمن كان يعرفه في الدنيا فيُسلِّم عليه إلاَّ عرَفه وردَّ عليه".
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واللفظ للبخاري ـ "إن العبد إذا وُضع في قبره وتولَّى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرْع نعالهم، أتاه ملكانِ يُقعدانه، فيقولانِ ما كنتَ تقول في هذا الرجل "محمد"؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبدُ الله ورسوله فيُقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا. وأما الكافر أو المنافق فيُقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيقال له: لا دريتَ ولا تليتَ، ثم يُضرب بمِطرقة من حديدٍ ضربةً بين أذنيه فيَصيح صيحةً يسمعها مَن يليه إلا الثقلينِ".
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "القبر روضةٌ مِن رِياض الجنة أو حُفرة من حفر النار". رواه الترمذي والطبراني.
فالموتى يسمعون ويُجيبون في قبورهم، وإليه ذهب كثير مِن أهل العلم واختاره الطبري وابن قتيبة.(1/464)
وذهب آخرون إلى عدم سماع الموتى لظاهر قوله ـ تعالى ـ: (فإنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى). وقوله: (ومَا أنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي القُبُورِ). "والجواب": أن السماع المنفيَّ عنهم هو سماع الانتفاع والقبول لا مُطلق السماع، بدليل المُقابلة في قوله ـ تعالى ـ: (إنْ تُسْمِعُ إلَّا مَن يُؤْمُنُ بِآيَاتِنَا). أي: سماع انتفاع وقبول، تترتَّب عليه آثاره. وهذا لا يُنافي السماع للمَوتَى في الحياة البرزخية.
قال الآلوسي في تفسيره: والحق أن الموتى يسمعون في الجملة، بأن يَخلق الله في بعض أجزاء الميت قوةً يَسمع بها ـ متى يشاء الله ـ السلام وغيره، أو بأن يكون السماع للرُّوح، ولا يَمتنع أن تسمع بل أن تُحَسَّ، وتُدرِك بعد مُفارقتها للبدن بدون وساطةِ قُوًى فيه: وحيث كان لها على الصحيح تَعَلُّقٌ، لا يعلم كُنْهَهُ ولا كيْفيَّته إلا الله ـ تعالى ـ بالبدن كله أو بعضه بعد الموت، وهو غير التعلُّق بالدنيوي به ـ أجرى الله ـ سبحانه ـ عادته بتمكينها من السمع، وخلْقه لها عند زيارة القبر وعند حمْل البدن إليه وعند الغُسْل. اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق (إبراهيم بن موسى اللخْميّ الغرناطي الشهير بالشاطبي من أئمة المالكية المتوفى في سنة: 790هـ). في كتابه: "الاعتصام" إنه لا بُعْد ولا نَكير في كوْن الميت يُعذَّب بردِّ الرُّوح إليه عاريةً، ثم تَعْذيبه على وجْه لا يَقْدِرُ البشر على رُؤيته اهـ. وقال: إنه لا يصحُّ تحكيم العادة الدنيوية المُشاهدة من قبل هذا وتحكيمها على الإطلاق في كل شأن غير صحيح لقُصورها. اهـ.
وهذه شئون لا تُحيط بكُنْهِهَا العقول ولكنها في مُتناول القُدرة الإلهية الشاملة (إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شيئًا أنْ يَقُولَ لهُ كُنْ فيَكُونُ). فيجب الإيمان بما وَرَدَ فيها عن الصادق المَصدوق ـ صلى الله عليه وسلم.(1/465)
قال شارح الطحاوية، وقد تواترتِ الأخبار عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثبوت عذاب القبْر ونعيمه لمَن كان لذلك أهلًا، وفي سؤال الملكينِ فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يُتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وُقوف على كيفيَّته؛ لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تُحيله العقول، ولكنه يأتي بما تَحَارُ فيه العُقول. اهـ.
وقد استقر رأْي سلف الأمة على ما دلَّت عليه هذه الأحاديث الصحيحة ولا عِبْرة بمَن يُنكره، فإن شأن الأرواح يَدِقُّ ويَسمو عن مدارك المَحجوبينَ بحُجب المادة الكثيفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: (هو الإمام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله الشهير بابن تيمية الحرَّانى الدمشقي الحنبلي، وُلد في حران سنة: 661 هـ وتوفي مُعتَقلًا في قلعة دمشق سنة: 728 هـ وله من المُؤلَّفات ما يَزيد على أربع آلاف كراسة، وهو شيخ الإمام ابن القيم ـ رحمهما الله تعالى.). ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم لرُوح الميت وبدنه، وأن الروح تبقَى بعد مُفارقة البدن مُنَعَّمَةً أو مُعذَّبةً، وأيضًا تتصل به أحيانًا فيَحصل له معها النعيم أو العذاب. اهـ.
وقال في موضوع آخر: واستفاضت الآثار بمعرفة الميت أهلَه وأحوالَ أهلِه وأصحابه في الدنيا وأن ذلك يُعرض عليه.
وجاء في الآثار أنه يرَى أيضًا وأنه يدري بما يُفعل عنده فيُسَرُّ بما كان حَسَنًا ويتألَّم بما كان قبِيحًا. (انظر: الإحياء للغزالي وعمدة القاري للإمام الحافظ قاضي القضاء بدر الدين محمود بن محمد بن موسى الحلبي الأصل العيني الحنفي المولود في عيناب سنة: 762هـ والمتوفى بمصر سنة: 855 هـ). وتجتمع أرواح الموتَى فيتنزَّل الأعلى إلى الأدنَى لا العكس. اهـ.(1/466)
وقد أوضح ذلك تلميذه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه: "الروح" واستوعب هذا البحث بأطرافه وأفاض في تِبْيانه والاستدلال عليه الأستاذُ الوالد ـ رحمه الله ـ في كتابه: "المطالب القدسية".(1/467)
4- تلقين الميت عقِب الدفْن واستحبابه:
وإذْ ثبت إحياء الميت في قبْره وسؤاله فيه عقب دفْنه، فاعلم أن تلقينه بعد الدفن ـ كما هو الواقع الآن عندنا ـ مشروع وفيه نفع وتثبيت له فإن الميت يستأنس بالتذكير على ما ورد في الأخبار. "كما نقله العلامة ابن عابدين في حاشية الدر".
وقد استحبَّه جمهور الشافعية واختاره ابن الصلاح كما ذكره النووي في المجموع، وكذا القاضي وأبو الخطاب من فقهاء الحنابلة ورَوَيَا فيه حديثًا عن أبي أُمامة الباهلي وهو وإنْ كان ضعيفًا إلا أنه اعتضد بشواهد من الأحاديث، "كما قاله الحافظ ابن حجر"، وبعمل أهل الشام قديمًا، ومنهم مَن يُقتدى به. "كما ذكره النووي".
وروى أبو المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وقد فعله أهل الشام عند موت أبي المغيرة، واستحبَّه راشد بن سعد، وحمزة بن جندب، وحكيم بن عمير، كما نقله ابن قُدامة في المُغني. اهـ.
والحاصل أنه لا بأس به، بل يُستَحبُّ، والله أعلم.
"هذا" وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا التلقين فأجاب في فتاويه بأنه قد ثبت عن طائفةٍ من الصحابة أنهم أمروا به كأبي أُمامة الباهلي وغيره، ولم يفعله كثيرون منهم، ولذا قال الإمام أحمد وغيره لا بأس به، واستحبَّه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وكرهه طائفةٌ من أصحاب مالك وغيرهم.
وقد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الميت يسأل ويُمتحَن في قبره، وأنه أمر بالدعاء له بالتثبيت، وقال لأصحابه: "سلوا له التثبيت فإنه الآنَ يُسأل".
وقال: "ما أنتم بأسمعَ لمَا أقولُ منهم". وأمر بالسلام على الموتَى وأخبر أن أرواحهم تُرَدُّ إليهم ويَرُّدونَ السلام، ولهذا قيل: إن التلْقِينَ ينفع الموتَى. اهـ. ملخصًا.(1/468)
الدعاء للميت والاستغفار له وما ورد فيه وفي انتفاعه به:
قال ابن قدامة في المغني: (هو الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي المتوفى بدمشق سنة: 620 هـ صاحب كتاب المغني على مختصر الإمام أبي القاسم الخرقي الحنبلي. وهو من أجلُّ الكتب الفقهية المُعتمدة في المذهب. قال الإمام: عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي المتوفى بالقاهرة سنة: 660 هـ الذي اعترف له العلماء بالاجتهاد المُطلَق ولقَّبُوه بسُلطان العلماء: ما رأيتُ في كتب الإسلام في العلْم مثل المُحلَّى لابن حزْم والمغني لابن قدامة في جَوْدتهما وتحقيق مافيهما. وقال: لم تَطِبْ نفسي بالفُتْيَا حتى صارت عندي نسخة من المغني، وقد أمر الملك عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ بطبعه فطُبع بمَطبعة المنار بالقاهرة). وقد دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكل ميتٍ صلَّى عليه صلاة الجنازة. (في الدعاء أمرانِ: "أحدهما" ابتهالُ الداعي إلى الله ـ تعالى ـ وتوجهه إليه بقلبه. "والثانى": طلب حصول أمر مرغوب فيه للمدعو له سواء كان نفس الداعي أو غيره. والأول خاصٌّ بالداعي وله ثوابه حيث الْتجأ إلى الله وحده في أمره. والثاني: خاصٌّ بالمدعو له في نحو (اللهم اغفرْ له وارحمْه وعافِه واعفُ عنه) يطلبُ الداعي من الله ـ تعالى ـ الغُفران والرحمة والعافية ويرجو حصول ذلك له ونفعه به. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود: "إذا صليتُمْ على الميت فأَخْلِصوا له الدعاء". والأمر هنا للوُجوب). اهـ.
وكما شُرع الدعاء للموتى في صلاة الجنازة، شرع الدعاء والاستغفار لهم عقب الدفْن كما تقدَّم في حديث: "استغفروا لأخيكم وسلُوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل". وعند زيارة القبور.
وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يُعلِّم أصحابه ما يدعون به لهم إذا خرجوا لزيارة القبور ويطلب منهم الاستغفار لمَن فيها.(1/469)
وعن بُريدة بن الحصيب قال: كان رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المَقابر أن يقول قائلهم: "السلامُ عليكمْ أهلَ الديار مِن المُؤمنين والمُؤمنات والمسلمين والمسلمات، وإنَّا إن شاء الله بكمْ لاحقون، أسألُ الله لنا ولكم العافية". "رواه مسلم وابن ماجه وأحمد".
وأخرج مسلم عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلَّما كان ليلتها يخرج إلى البقيع من آخر الليل فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون: غدًا مُؤجَّلون، وإنَّا إن شاء الله بكم لا حقونَ. اللهم اغفرْ لأهل بقيعِ الغَرْقَدِ". (الغرقد : شجر عِظام، أو هي العوْسج؛ أيْ: الشوك إذا عظُم، والبقيع مقبرة المدينة المنورة وكانت منْبت الغرْقد قبلًا. اهـ).
وفي زاد المعاد: وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم، والترحُّم عليهم والاستغفار لهم، ويأمر من معَه بالسلام عليهم والدعاء لهم: وكان يتعاهَد أصحابه بزيارة قبورهم والسلام عليهم والدعاء لهم؛ كما يتعاهد الحيُّ صاحبه في دار الدنيا. اهـ.
وقال ـ تعالى ـ (واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤمناتِ). وقال ـ تعالى ـ: (والذينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنَا ولإخْوانِنَا الذينَ سَبَقُونَا بالإيمانِ). وقال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لي ولوَالِدَيَّ وللْمُؤمنينَ يومَ يقومُ الحِسابُ). وقال: (ويَسْتَغْفِرُونَ للذِينَ آمَنُوا). وقال ـ تعالى ـ: (والملائكةُ يُسَبِّحُونَ بحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَستغفرونَ لمَن فِي الأرضِ).
وفي فتح القدير: "للإمام الكمال ابن الهُمام محمد بن عبد الواحد السيواسي ثم الإسكندري الحنفي المتوفى بالقاهرة سنة: 861 هـ" أن ما في الكتاب العزيز من الأمر بالدعاء للوالدينِ ومن الإخبار باستغفارٍ للمُؤمنينَ قطعيٌّ في حصول النفْع لهم. اهـ. أيْ: أمواتًا وأحياء.(1/470)
وفي شرح المنهج مِن كتب الشافعية: والظاهر أن الدعاء متفق عليه أن ينفع الميت والحى، القريب والبعيد، بوَصيَّة وغيرها. وفيه أحاديث كثيرة؛ بل كان أفضل الدعاء أن يدعو المؤمن لأخيه بظهر الغيب. اهـ.
منها ما أخرجه مسلم وأهل السُّنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علْمٍ يُنتفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له".
وحكى الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف الحوراني النووي الشافعي "المتوفى في نوى سنة: 676 هـ" في شرحه على صحيح مسلم الإجماع على وُصول ثواب الدعاء إلى الميت. اهـ.(1/471)
التصدُّق على الميت وما ورد فيه:
ثم قال في المغني: وسأل رجل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت أفيَنفعُها إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: "نعم". "رواه أبو داود وروي ذلك عن سعد بن عبادة". اهـ. وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رجلًا قال للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن أمي افتُلتتْ نفسُها "ماتت فجأةً" وأراها لو تكلمَّت تصدَّقتْ، فهل لها مِن أجرٍ إنْ تصدقتُ عنها؟ قال: "نعم". "متفق عليه". وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن أمي تُوفيت، أينفعها إنْ تصدَّقتُ عنها؟ " قال: نعم". قال: فإن لي مَخْرقًا (بفتح الميم وسكون الخاء المُعجمة وفتح الراء ـ بستانًا) فأنا أُشهدك أني قد تصدَّقتُ به عنها "رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي". وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن أبي مات ولم يُوصِ، أَفَيَنْفَعُهُ أنْ أتصدَّق عنه؟ قال: "نعم". "رواه مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد). وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله، إنَّا نتصدَّق عن موتانَا، ونحجُّ عنهم، وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: "نعم، إنه يصل إليهم، وإنهم ليَفرحون به كما يفرح أحدُكم بطبقٍ إذا أُهدِيَ إليه". رواه في فتح القدير عن أبي حفص الكبير العُكبري، وفيه دليل على انتفاع الميت بالحجِّ عنه أيضًا وسيأتي.
وفي بدائع الصنائع "للإمام: أبي بكر الكاساني الحنفي المتوفى بحلب سنة: 587 هـ. أن سعد بن أبي وقَّاص سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إن أمي تحب الصدقة، أفَأَتَصَدَّقُ عنها؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تصدَّق". اهـ. قصَد الابن أن ينفع أمه بوُصول ثواب هذه الصدقة إليها. فأقرَّه ـ صلى الله عليه وسلم.(1/472)
وفي هذه الأحاديث دليل على أن صدقة الولد تنفع الوالدينِ بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل ثوابها إليهما. ويُخصَّص بها عموم قوله ـ تعالى ـ: (وأنْ ليسَ للإنسانِ إلَّا مَا سَعَى). كما سيأتي عن الشوكاني. وحكى الإمام النووي في: شرح صحيح مسلم الإجماع على أن الصدَقة تقع عن الميت، ويصل ثوابها إليه من غير تَقييد بكوْنها من الولد "نيل الأوطار".
وقال ابن قدامة: إنه لا خلاف بين العلماء في الدعاء والاستغفار للميت والصدقة عنه أن ذلك ينفعه ويصل إليه ثوابه. اهـ. بإيضاح سواء أكان ذلك من الأولاد أم من الأقارب أم من غيرهم من المسلمين والأوَّلان: عبادة بدنية مَحْضة، كالصلاة والصوم والتلاوة، والثالث: عبادة مالية محْضة كالزكاة والكفارة.
أما الحج فالجمهور على أنه عبادة مركبة تُؤدَّى بالبدن والمال معًا. وعدَّه ابن قدامة عبادة بدنية إمَّا جرْيًا على ما ذهب إليه بعض الأئمة، ومنهم قاضيخان من أئمة الحنفية من أنه كالصلاة والصوم عبادة بدنية، والمال شرط الوجوب فقط، وإما أنه أراد أنه عبادة بدنية غير محْضة؛ لأنه بدنيٌّ من حيث الوقوف بعرفة والطواف والسعي ورمي الجمار، وماليٌّ من حيث اشتراط الاستطاعة، ووجوب الجزاء بارتكاب مَحظورات الإحرام، ولا مُشاحَةَ في الاصطلاح.
وقد نازع ابن حزم في الصوم فذهب إلى أنه عبادة مركبة كالحج من حيث الإمساك والإطعام في جبْر ما نقض منه.(1/473)
مذاهب العلماء في وصول ثواب جميع الطاعات إلى الميت:
مذهب الحنفية
ذهب الحنفية إلى أن كل مَن أتى بعبادة سواء كانت دعاء أو استغفارًا أو صدقة أو تلاوة أو ذِكْرًا أو صلاة أو صومًا أو طوافًا أو حجًّا أو عمرةً أو غير ذلك، مِن أنواع الطاعات والبِرِّ، لهُ جَعْلُ ثوابِها لغيْره من الأحياء أو الأموات (أيْ: اهداؤه له بأن يسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل ثواب ما فعله من الطاعات لذلك الغيْر. ولا بُعْدَ في ذلك؛ لأن الذي يملك ثواب المؤمن وجزاءه على الطاعة هو الله ـ تعالى ـ وحده والذي رتَّب الجزاء على الفعل هو الله وحده، والذي قدَّره ويُضاعفه إنْ شاء هو الله وحده، فله أن يمنح الثواب للفاعل، وله أن يمنحه لمَن جعله الفاعل له ـ فضلا منه ورحمةً ولا مُعقِّب لحُكمه، والمَجْعول له قد أهَّل نفسه لهذه المِنْحة بإيمانه وإقراره بالعبودية لله، فكان في المعنى ساعيًا في هذا العمل الذي جعل ثوابه له.
وأما ما رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من أنه لا يصوم أحدٌ عن أحد ولا يُصلي أحدٌ عن أحدٍ، فحمْله عدم خُروج المَنوب عنه عن عهد التكليف بفعل النائب لعدم قبول هاتينِ العبادتينِ النيابةَ، فتَبْقيان في ذِمته، وهذا شيء آخر غير جعْل ثواب الصوم والصلاة للغير بحيث ينتفع به الميت كانتفاعه بالدعاء والصدقة، ومثل قراءة القرآن تبرُّعًا وإهداء ثوابها للميت كما ذكره ابن القيم.(1/474)
قال في "بدائع الصنائع": إن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا يصوم أحدٌ عن أحد ولا يُصلي أحد عن أحد"، إنما هو في حق الخروج عن العُهدة لا في حق الثواب، فإن من صام أو صلى أو تصدَّق، وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل السُّنة والجماعة، وعليه عمَلُ المسلمين من لدُنِ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومنا هذا من زيارة القبور وقراءة القرآن عليها والتلقين والصدقات والصوم والصلاة وجعْل ثوابها للموات ولا مانع من ذلك عقلًا؛ لأن إعطاء الثواب مِن الله إفضالٌ منه لا استحقاقٌ عليه، فله أن يتفضَّل على مَن عُمِل لأجله بجعْل الثواب له، كما له أن يتفضل بإعطاء الثواب من غير عمل رأسًا. اهـ.
وقال في البحر الرائق: "للعلامة زين الدين بن إبراهيم الشهير بابن نجيم الحنفي المتوفى سنة: 970هـ شرح متْن الكنز للنسفي": والظاهر أنه لا فرْق بين أن ينوي عند الفعل الغير أو يفعله لنفسه ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره لإطلاق كلامهم . اهـ.). ويصل ثوابها إليه، (أي: إذا فعل ذلك تبرُّعًا بدون أجر). كما في الهداية والبحر وغيرهما، وقد أطال في بيان ذلك الكمال وفي فتح القدير.
وفي الفتح رُوي عن على عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: مَن مَرَّ على المقابر وقرأ: (قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ). إحدى عشر مرة ثم وهب أجرها للأموات أُعطي مِن الأجر بعدد الأموات.
وعن أنس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "اقرءوا على موْتاكم يس". "رواه أبو داود".
وعن الدارقطني أن رجلًا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال كان لي أبَوانِ أبَرُّهُمَا حال حياتهما فكيف لي بِبِرِّهِمَا بعد موتهما، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن مِن البِرِّ بعد الموت أن تُصلى لهما مع صلاتِك وأنْ تصوم لهما مع صوْمك".(1/475)
وعن أنسٍ أنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إننا نتصدق عن موتانَا ونحجُّ عنهم وندعو لهم، هل يصِل ذلك إليهم؟ قال: "نعم إنه يصل إليهم، وإنهم لَيَفْرحون به، كما يفرح أحدكم بالطبق إذ أُهدي إليه".
وأما قوله ـ تعالى ـ: (وأنْ ليسَ للإِنْسانِ إلَّا مَا سَعَى). فهو مُقيَّدٌ بما إذا لم يَهَبِ العاملُ ثواب عمله لغيره، فقد ثبت في الصحيحينِ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحَّى بكبشينِ أمْلَحَيْنِ أحدهما عن نفسه والآخر عن أُمته واشتهرت رواية هذا الحديث عن عِدَّةٍ من الصحابة، فيجوز تقييد الآية بما لم يجعله صاحبه لغيره.
وثبت في السُّنة ثُبوتًا بلغ مبلغ التواتُر أن مَن جعل شيئًا من الصالحات لغيره نفعه الله به مثل حديث صلاة الولد وصيامِه لوالديه مع صلاته وصيامه لنفسه، وحديث قراءة سورة الإخلاص وهِبَةِ أجْرها للموات، وقراءة يس على الموتَى، وحديث: إنَّا نتصدَّق عن موتانَا ونحج عنهم وندعو لهم بوصول ذلك إليهم وإنهم ليَفرحون به، كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه.
وثبت الأمر بالدعاء للوالدينِ في قوله ـ تعالى ـ (وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). واستغفار الملائكة للمؤمنين في قوله ـ تعالى ـ: (والملائكةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ في الأرْضِ). وذلك قطعيٌّ في حصول الانتفاع بعمل الغيْر، فقطعنا بانتفاء إرادة ظاهر الآية وبتقييدها بما لم يَهَبْهُ العامل لغيره. اهـ. من الفتح.
ومعنى الآية ـ أنه ليس ينفع الإنسان في الآخرة إلا ما عمله في الدنيا ما لم يعمل له غيره عملًا، ويهبه له فإنه ينفعه، كذلك مَن صلَّى أو صام أو تصدَّق أو أتى بأية قُرْبَةٍ، فجعل ثواب ذلك لغيره جاز، لا فرق بين أن تكون القُربة عبادةً مالية أو بدنيةً أو مركبة منهما.
ولا يخفى أن وُصول الثواب لا يستلزم سقوط الفريضة وتفريغ الذمة منها.(1/476)
وقال الإمام الفقيه: عثمان بن علي بن محْجن الزيلعي الحنفي "المتوفى بالقاهرة سنة: 743 هـ". في شرحه على متْن الكنْز للنسفي: "ليس في وصول عمل الغير إلى الميت شيءٌ، مما يُستبعد عقلًا؛ لأنه ليس فيه إلا جعْل ما له من الأجر لغيره والله ـ تعالى ـ هو المُوصِّل إليه، وهو قادر عليه ولا يَختص ذلك بعملٍ دون عمل". اهـ. وللكلام في هذه الآية بقية ستأتي.
8- مذهب الحنابلة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: إن الميت ينتفع بجميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة "أيْ: تطوُّعًا بلا أجرٍ". (زدنا هذا القيْد أخذًا من عبارة ابن القيم الآتية ولقول شيخ الإسلام نفسه: "ولا يصحُّ الاستئجار على القراءة وإهداؤها إلى الميت؛ لأنه لم يُنقل عن أحد من الأئمة الإذْن في ذلك. وقد قال العلماء: إن القارئ إذا قرأ لأجلِ المال فلا ثواب له، فأيُّ شيء يُهديه إلى الميت وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة لم يَقل به أحدٌ من الأئمة، وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. اهـ. بحروفه ومثل القراءة في عدم جواز الاستئجار عليها سائر العبادات البدنية إلا ما استثناه الفقهاء. "رسالة شفاء العليل لفقيه الشام السيد: محمد أمين الشهير بابن عابدين الحنفي المولود بدمشق سنة: 1198 والمتوفى بها سنة: 1252 هـ". وسيأتي للبحث بقية). كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة ونحوها باتفاق الأئمة. "راجع إلى الصدقة"، وكما لو دُعِيَ له واستُغْفِرَ له. اهـ.
وقال ابن القيم في كتابه: "الروح": "أفضل ما يُهدى إلى الميت "الصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه، وكذا قراءة القرآن وإهداؤها إليه تطوُّعًا بغير أجرٍ، فإنه يصل إليه ثوابُها، كما يصل إليه ثواب الصوم والحج". اهـ.(1/477)
قال في موضع آخر: والأولَى أن يَنوي عند الفعل أنها للميت، ولا يُشترك التلفُّظ بذلك. اهـ. (راجع شفاء العليل وحاشية ابن عابدين على الدر المُختار في بابي الجنائز والحج عن الغير. وفيهما أنه يصحُّ إهداء الثواب كله أو بعضه للميت وأنه إذا قُرئت الفاتحة ـ مثلًا ـ لأهل المقبرة وصل إلى كل منهم ثوابها كاملًا لسَعة الفضل كما أفتَى به الإمام: ابن حجر المكي تَبَعًا لجمع من المفتين. والله أعلم).
وقال ابن قدامة في "المغني": إن أية قُربة فعلها الإنسان، وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك بمشيئته ـ تعالى ـ ومن ذلك فعل الواجبات التي تتأتى فيها النيابة. اهـ.
مذهب الشافعية فيما يصل ثوابه إلى الميت من العبادات:
نقل ابن قدامة "في المغني" عن الشافعية أن الذي يصل ثوابه إلى الميت الدعاء والاستغفار والصدقة وهذا مُجمع عليه بين الأئمة والواجب الذي يقبل النيابة كالحج وما عدا ذلك لا يفعل عنه، ولا يصل ثوابه إليه. اهـ. أي كالصلاة وقراءة القرآن، وهما من العبادات البدنية المَحضة.
وفي "الإتقان" "للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد السيوطي الشافعي المتوفى سنة 911 هـ: الأئمة الثلاثة على وُصول ثواب القراءة إلى الميت ومذهبنا خلافه لقوله تعالى: (وأنْ ليسَ للإنْسانِ إلَّا مَا سَعَى) اهـ.
وفي "نيل الأوطار": المشهور مِن مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن، وذهب ابن حنبل وجماعة من الأئمة وجماعة من أصحاب الشافعي إلى وصوله ذكره النووي في الأذكار اهـ.
ونقل العلامة ابن عابدين في شفاء العليل وفي حاشيته على الدر أن مالكًا والشافعي ذهبَا إلى أن العبادات البدنية المحْضة كالصلاة وتلاوة القرآن لا تصل إلى الميت بخلاف غيرها كالصدقة والحج.(1/478)
وقد استدلَّ الشافعية على عدم وصول ثواب القراءة بآية (وأنْ ليس للإنسانِ إلَّا ما سَعَى) "كما ذكر في الإتقان" وبحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عملُه إلَّا مِن ثلاثٍ: عِلْمٍ علَّمه، أو صدَقةٍ جاريةٍ، أو ولدٍ صالح يدعو له". "رواه مسلم عن أبى هريرة".
كما استدل بها المعتزلة على أنه لا يصل إلى الميت ثواب شيء من عبادات غيره مُطلقًا بدنيةً أو غير بدنية؛ لأنها ليست من سعيه. والجواب عنها:
أولا: كما قال الإمام ابن حزم في "المُحلَّى" في كتاب الحج: إن هذه الآية مكية اتفاقًا. وقد رُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبار مُتواترة من طرق صحاح عن خمسة من الصحابة في الحج عن العَاجز؛ فصحَّ أن الله ـ تعالى ـ بعد أن لم يجعل للإنسان إلا ما سعَى تفضَّل على عبادة فجعل لهم ما سعى فيه غيرهم بهذه النصوص الثابتة. اهـ.
وقال في كتاب الصوم: إن الله الذي أنزل هذه الآية هو الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (لِتُبَيِّنَ للناسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ) وقال: (مَنْ يُطِعِ الرسولَ فقدْ أطاعَ اللهَ) فصحَّ أنه ليس للإنسان إلا ما سعَى، وما حكم الله أو رسوله بأنه مِن سعْي غيره عنه، والصوم عنه من جملة ذلك. اهـ.
وحاصلة أن الآية منسوخة أو مُخصَّصة بما دلَّت عليه هذه الأحاديث من انتفاع الميت بحج غيره عنه وصومه عنه، وهما ليسَا من سعْيه وعمله، ولا فرق بين الحج والصوم في ذلك. وعلمتَ ما تقدم عنه في الصوم من أنه عبادة مركبة كالحج من المال والبدن معًا.(1/479)
ثانيًا: بما قدَّمناه عن الكمال ابن الهمام، في "فتح القدير" من أن هذه الآية يجب تقييدها بما لم يَهَبْهُ العامل للميت. فقد ثبت في الصحيحينِ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضحَّى بكبشينِ أملحينِ أحدهما عن نفسه والآخر عن أُمته وهو حديث مشهور؛ فيَجوز تقييد الآية به بما لم يجعله صاحبه لغيره. وثبت في السُّنة متواترًا أن مَن جعل شيئًا من الصالحات لغيره كصلاة وصيام وتلاوة وصدقة وحج نفعه الله به، وثبت الأمر بالدعاء للوالدينِ في آية (وقُلْ رَبِّ ارْحمْهُمَا كمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) واستغفار الملائكة للمؤمنين في آية (والملائكةُ يُسبحونَ بحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَستَغْفرُونَ لِمَنْ في الأرضِ) وذلك قطعيٌّ في حصول الانتفاع بعلْم الغير فقطعنا بانتفاء إرادة ظاهر الآية، وبتقييدها بما لم يهبْه العامل. اهـ. ملخصًا.
ثالثا: كما في الآلوسى وغيره أن انتفاع الميت بسعي غيره له مبنيٌّ على إيمانه وصلاحه، وهما مِن عمله وسعْيه خاصة، فجعل عمل الغير نفس سعْي الميت وعمله بهذا الاعتبار. وقد دلَّ على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن العاص بن وائل نذَر في الجاهلية أن ينحر مائة بدَنة، وأن هشام بن العاص نحَر حصَّته خمسين، وأن عمرًا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فقال: "أمَّا أبوك فلو أقرَّ بالتوحيد فصُمْتَ وتَصَدَّقْتَ عنه فنفعه ذلك". فقد أخبره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن موت أبيه على الكُفر مانع من وصول الثواب إليه، وأنه لو أقرَّ بالتوحيد لأجزأ ذلك عنه ولَحِقه ثوابُه.
وحاصل المعنى أنه ليس للإنسان إلا ما سعى فيه، وهو ما باشره مِن عمل نفسه وما تسبَّب فيه بإيمانه مِن عمل غيره لأجله. وذلك يشمل كل قُربة يعملها الغيرُ لأجل الميت المؤمن، ويهب ثوابها له كما هو ظاهر.(1/480)
وبهذا يُرَدُّ أيضًا على الشافعية والمالكية في استدلالهم بهذه الآية على ما ذهبوا إليه في العبادات البدنية المحْضة. ومنها قراءة القرآن على الموتَى وعلى المقابر.
والجواب عن الحديث ـ كما قال ابن حزم والزيلعي ـ أنه لا يُفيد إلا انقطاع عمل الميت لنفسه فقط، وليس فيه دلالة على انقطاع عمل غيره عنه أصلًا ولا المنْع من ذلك.
قال ابن حزم: وليس بصحيح ما قاله الفقهاء مِن أن عمل الأبدان لا يعمله أحدٌ عن أحد، بل كل عمل أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به أن يعمله المرء عن غيره وجب أن يعمل على الرغم من ذلك. وقياسهم العبادات البدنية على الصلاة قياس باطل؛ لاتفاقهم على جواز أن يُصليَ المرءُ الذي يحج عن غيره ركعتينِ عند المقام عن المَحجوج عنه. فإذا أجازوا ذلك فلْيُقَسْ عليه سائر أعمال الأبدان. وكذلك قولهم: لا يُصام عنه، كما لا يُصلَّى عنه قياس باطل. بل يُصلَّى عنه النذْر والفرض إن نسِيَهُ أو نام عنه ولم يُصلِّه حتى مات؛ لدخول ذلك تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "فدَين اللهِ أحقُّ أنْ يُقضَى". ولا فرق بين الصيام والحج فللمال مدخل في كل منهما. ففي الحج بجَبْره بالهدي والإطعام. وفي الصوم بجبْره بالعِتْق والإطعام". اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي "المولود في سنيكة بشرقية مصر سنة 823 هـ والمتوفى سنة" 926 هـ: إن مشهور المذهب "أي في تلاوة القرآن" محمول على ما إذا قُرئ لا بحضرة الميت ولم يَنْوِ الثواب له. أو نواه ولم يدعُ (انظر شفاء العليل. ويُؤخذ منه أنه إذا قُرئ القرآن بحضرة الميت ونوى القارئ الثواب له يَصِلُ إليه ثواب القراءة، ويُؤيد ذلك حديث قراءة "يس" عند المُحتَضَر. وكذلك إذا قرئ في غيبة الميت، أيْ عند القبر أو بعيدًا عنه ونوى الثواب له. ودعا القارئ بأن يصل ثواب القراءة إلى الميت فإنه يصل إليه ثواب القراءة وهذه الصورة هي ما في عبارة شرح المنهاج). اهـ.(1/481)
وفي شرح المنهاج من كتب الشافعية: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور والمُختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغي الجزم به؛ لأنه دعاء فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعي فيجوز بالأولَى بما هو له، ويبقى الأمر موقوفًا على استجابة الدعاء.
وهذا المعنى لا يختصُّ بالقراءة، بل يَجري في سائر الأعمال" (نيل الأوطار جزء 4 فجميع أعمال الطاعات إذا اقترنت بسؤال الله إيصال ثوابها إلى الميت، يصل إليه بمشيئة الله، شأن كل دعاء تُرجَى استجابته). اهـ.
وفي المجموع للنووي: يُستحب أن يمكث على القبر بعد الدفْن ساعةً يدعو للميت ويَستغفر له. نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب، وقالوا: يُستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، وإنْ ختموا القرآن كان أفضل. اهـ.
وفيه: سُئل القاضي أبو الطيب عن ختم القرآن في المقابر؛ فقال: الثواب للقارئ. ويكون الميت كالحاضرين تُرجَى له الرحمة والبركة! ويُستحب قراءة القرآن في المقابر لهذا المعنى وأيضًا، فالدعاء عقب القراءة أقرب إلى الإجابة والدعاء ينفع الميت. (فبيَّن القاضي أن حِكمة استحباب قراءة القرآن في المقابر أمران: رجاءُ حصول الرحمة والبركة للميت ببركة القرآن، ورجاء قَبول دعاء القارئ له؛ لأن الدعاء بعد قراءة القرآن أقرب إلى الإجابة، وفيهما نوعُ نفعٍ للميت. وفي هذا البيان جُنوح إلى القول المشهور وقد نَقل النووي في الأذكار عن جماعة من أصحاب الشافعي أنه يصل ثواب القراءة إلى الميت، كما ذهب إليه الإمام أحمد وجماعة من العلماء) اهـ.(1/482)
وقال الشوكاني إن عموم الآية مخصوص بالصدَقة من الولد لحديث الصدقة وبالحج منه لحديث الخثعمية، ومن غيره لحديث المُحْرم عن شبرمة، وبالصلاة من الولد لحديث صلاة الولد وصومه لوالديه مع صلاته وصومه لنفسه وبالصيام منه لهذا ولحديث صوم المرأة عن أمها ومن غيره لحديث صيام الوليِّ وبقراءة "يس" ممن الولد وغيره لحديث: "اقرءوا على موتاكم يس". وبالدعاء من الولد لحديث: "أو ولدٍ صالح يدعو له" ومن غيره لآية: (والذينَ جاءُوا مِن بَعْدِهمْ). ولحديث "استَغْفِرُوا لأخيكم وسَلُوا له التَّثْبيت". وحديث: "أفضل الدعاء للأخ بظهر الغيْب". وكما تُخصص الأحاديث المذكورة هذه الآية تُخصص حديث أبى هريرة: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث". فإن ظاهره أنه ينقطع عنه ما عدا هذه الثلاث كائنًا ما كان، وقيل يُقاس على هذه المواضع غيرها فيَلحق الميت كل شيء فعله غيره له. اهـ. ملخصًا.
وقيل يُقتصر على ما ورد وإنما ذكرنا "مَن غير الولد"؛ لأن ما يفعله الولد قد يُقال إنه من سعْي الوالد لحديث: "ولد الإنسان من سعْيه". فكل ما يفعله الولد داخل في الآية فلا حاجة إلى التخصيص.
وظاهر أن هذه المُخصصات منها ما ورد في عبادة بدنية ومنها ما ورد في عبادة مالية ومنها ما ورد في عبادة مُركبة منهما فلا يتمُّ الاستدلال بالآية والحديث للشافعية والمُعتزلة، والله أعلم.
19- مذهب المالكية فيما يصل ثوابه إلى الميت من العبادات:(1/483)
وفي الشرح الكبير وحاشيته للعلامة محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي "في باب الحج" أن الدعاء والصدقة والهدْي مما تُقبل فيه النيابة عن الغير، يصل ثوابه إلى الميت بلا خلاف، ويكون وُقوعه من النائب بمنزلة وقوعه من المنوب عنه في حصول الثواب، بخلاف الصلاة والصوم (لحديث ابن عباس السابق: "لا يصوم أحدٌ عن أحد ولا يُصلي أحدٌ عن أحد". وقد علمتَ تفسيره مما في بدائع الصنائع، وهو لا يُنافي ما ذهب إليه المالكية مِن أن الصلاة والصوم مِن أحد عن أحد لا يُسقطان عنه الفرض، ولا يترتب عليهما فراغ ذِمَّتِه مما شغلها. ولكنه ينتفع بثوابهما) والحج وقراءة القرآن فإنه لا تُقبل فيها النيابة، ولا يصل ثوابها إلى الميت، أيْ: بحيث تُفرغ ذِمته مما شغلها كما تُفرغ لو فعلها المنوب عنه.
وفي التوضيح: من العبادات ما لا يَقبل النيابة بالإجماع؛ كالإيمان بالله تعالى ـ أيْ كالصلاة ـ ومنها ما يقبلها بالإجماع؛ كالدعاء والصدقة، وردِّ الدُّيون والودائع. واختُلف في الصوم والحج، والمذهب أنهما لا يقبلان النيابة. اهـ.
وقد علمتَ مما تقدم مذهب المالكية في الصوم، وأن من مات وعليه صوم واجب وقد أوصى بالإطعام عنه بعد موته، يجب على الوليِّ أن يُطعم عنه. والظاهر أنه يَجزيه ويسقط عنه بذلك ما في ذمته من الواجب. وإنْ لم يُوص فلا صوم ولا إطعام عنه.
أما الحج عنه فقد عُلِمَ مما تقدم في مبحث "الحج عن العاجز" مشهور مذهب المالكية فيه، وهو عدم جواز النيابة فيه مطلقًا، صحيحًا كان المَنوب عنه أو مريضًا، كانت النيابة في الفرض أو في النفْل، بأجر أو تطوُّعًا؛ وذلك بناء على أنه عندهم عبادة بدنية محْضة، لا تقبل النيابة كالصلاة والصوم؛ ولأن العبادة فُرضت على جهة الابتلاء والاختبار، وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتْعاب البدن، فبه يظهر الانقياد أو النفور، بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقْص المال، وهو يحصل بالنفس وبالغير.(1/484)
وفرَّعوا على ذلك أنه لا يسقط بحج النائب فرضُ الحج ولا نفْله عن المَنوب عنه حيًّا أو ميتًا. وإنما له بركة الدعاء، وثواب النفقة والمساعدة على الخير فقط، وأما الحج فهو للحاج.
ولكن بعض متأخِّريهم ذهب إلى أنه يصحُّ مع الكراهة أن يَستنيب الصحيح مَن يحجُّ عنه حجةَ النفل. وأن يستأجر المريض الذي لا تُرجى صحته مَن يحج عنه فرضًا أو نفلًا؛ فإنْ فعلا صحت الإجارة. كما يصحُّ مع الكراهة أن يتطوع الوليُّ أو القريب عن لميت بالحج. وأجازوا مع الكراهة أن يُوصيَ بالحج عنه بأجْر؛ فإن فعل صحَّتِ الإجارة والوصية، ونُفِّذَتْ مِنَ الثلث وقيل: لا تُنفَّذ؛ لأن الوصية لا تُبيح الممنوع.
قال في منح الجليل: وإنما صحت النيابة في الفرض مع الكراهة لغير المستطيع، ونفذت الوصية به لأجْلِ ما فيه من شائبة المال؛ كنِيابة إمام الصلاة مَن يصلى عنه؛ فإنه لا يسقط فرْض الإمام بفعل النائب، وصحَّتِ للمال ومُلازمة المحلِّ الذي صلى فيه. اهـ.
وقد أجيب عمَّا استدلوا به على عدم الجواز:
1ـ بأن قياس الحج على الصلاة غير صحيح؛ لأن عبادة الحج مالية بدنية معًا؛ فلا يرجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة. على أن المالكية أجازوا الحج عن الغير إذا أوصى به ولم يُجيزوا ذلك في الصلاة.
2ـ وبأنَّ حصْر الابتلاء في المباشرة ممنوع؛ لأنه يوجد في الآمر مَن بذله المال في الأجرة. "راجع فتح الباري". وأما قراءة القرآن للموتى فأصل المذهب أنها لا تَقبل النيابة، فلا يصل ثوابها إليه. ولكن ذهب متأخِّروهمْ إلى جوازها "وهو الذي جرى عليه العمل" فيَصل ثوابها إلى الميت، ونقل ابن فَرحون أنه الراجح، كما ذكره ابن أبى زيد في الرسالة.
وفي الشرح الصغير: وكُرِهَ قراءةُ شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور؛ إلا بقصْد التبرك بالقرآن بلا عادة فإنه يجوز. اهـ والكراهة تَنزيهية بدليل تعليلها بأن ذلك ليس من عمل السلَف.(1/485)
وقال الإمام ابن رشد: محل الخلاف ما لم تخرج القراءة مخرج الدعاء؛ بأن يقول قبل قراءته: اللهمَّ اجعلْ ثوابَ ما أقرأُهُ لفلانٍ. فإذا خرجتْ مخرج الدعاء كان الثواب لفلان قولًا واحدًا، وجاز من غير خلاف. اهـ.
وعلى هذا ينبغي أن يقول القارئ قبل قراءته ذلك؛ ليصل ثواب القراءة إلى الميت باتفاق أهل المذهب.
20- كلام الإمام القرافي فيما يصل للموتى من أنواع القرابات:
وقال الإمام أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي الأصل، المصري المولد والمنشأ القرافي المالكي، المُتوفَّى بمصر سنة 684 هـ في كتابه "الفروق" في الفرق الثاني والسبعين بعد المائة: إن أنواع القُربات ثلاثة: قسْم حجَر الله ـ تعالى ـ على عباده في ثوابه، ولم يَجعل لهم نقله إلى غيرهم؛ كالإيمان والتوحيد. وقسْم اتَّفق الناس على أنه ـ تعالى ـ أذِن في نقله للميت وهو القُربات المالية؛ كالصدقة والعِتْق، وقسْم اختلف فيه؛ هل فيه حجْرٌ أم لا وهو الصيام والحج وقراءة القرآن (لم يرد الحصْر كما هو ظاهر) فلا يصل شيء من ذلك للميت عند مالك والشافعي (أي: في المشهور في المذهبين، وإلا فالمُتأخِّرون من علماء المذهبينِ ذهبوا إلى حصول النفع للميت في هذه العبادات، ومنها القراءة، ونفْعُها إما بوصول ثوابها أو حصول بركتها) وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصل ثواب القراءة للميت. فمالك والشافعي يحتجانِ بالقياس على الصلاة (علمتَ أن الصلاة عن الميت مشروعة في منْسك الحج عنه، وفي صلاة الولد عن والديه مع صلاته، كما في حديث الدارقطني، ومتى ورد النصُّ كان هو المُعَوَّلُ عليه) ونحوها مما هو فعل بدني، والأصل في الأفعال البدنية ألا ينوب فيها أحد عن أحد، ولظاهر قوله تعالى: (وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعَى) ولحديث: "إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا مِن ثلاث: صدقةٍ جارية، وعلْمٍ ينتفع به، وولدٍ صالح يدعو له". واحتج أبو حنيفة وأحمد بالقياس على الدعاء، فإن الإجماع على وُصول ثوابه(1/486)
للميت، فكذلك القراءة والكل عملٌ بدنيٌّ، وبظاهر قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ للسائل: "صَلِّ لهما مع صلاتك، وصُمْ لهما مع صوْمك". أي لوالديك.
وبعد أن ناقش الدليلينِ قال: إن الذي يتَّجه ولا يقع فيه خلاف أنه يحصل للموتى بركة القراءة لا ثوابها (يوافق رأي القاضي أبى الطيب من الشافعية) كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يُدفن عندهم أو يدفنون عنده.
ثم قال الإمام القرافي: وهذه المسألة وإنْ كان مُختلفًا فيها، فينبغي للإنسان ألا يُهملها، فلعلَّ الحق هو الوصول إلى الموتى، فإن هذه أمور خفية عنَّا، وليس الخلاف في حُكم شرعي، إنما هو في أمر واقع هو كذلك أم لا. وكذلك التهليل (قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". راجع في فضلها الصحيحين) الذي اعتاد الناس عمله ومِن الله الجُود والإحسان، هذا اللائق بالعبد (في هذا ردٌّ على مَن يُضيِّق واسعًا، ويُصَعِّبُ سهلًا، فإن فضل الله عظيم، ورحمته وَسِعَتْ كل شيء، ولا حرَج على الفضل الإلهي أن يَجعل ثواب هذه الطاعات لمَن جعلها له فاعلُها، فإنْ أبَوْا إلا التحجير والتضييق مع دلالة ما قدَّمنا من الأسانيد فلهم دِينهم ولِيَ دِين). اهـ.
خلاصة
ويُلخَّص ممَّا تقدم أن مذهب الحنفية والحنابلة وُصول ثواب جميع الطاعات والقربات إلى الميت وانتفاعه بها إذا جُعل له ثوابها، ومذهب الشافعية في المشهور والمالكية في الأصل وصول ثواب القربات ما عدا العبادات البدنية المحْضة، كالصلاة والصوم، وتلاوة القرآن والذكر. وقد علمتَ رأيْ المُتأخرين من الشافعية والمالكية، وأن المختار عندهم وصول الثواب إلى الميت بالشروط السابقِ ذكرها.(1/487)
قراءة القرآن على الموتى وعلى المقابر والمذاهب فيها:
ذهب الحنابلة إلى أن قراءة القرآن على الموتى وعلى المقابر تنفع الموتى ويصل ثوابها إليهم كسائر القُرَب والطاعات البدنيَّة من الدعاء والاستغفار لهم والحج والصوم عنهم.
قال ابن قدامة: وهذه أحاديثُ صحاحٌ تدلُّ على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الدعاء للميت والاستغفار له والحج والصوم عبادات بدنية وقد أوصل الله ثوابها إلى الميت فكذلك ما سواها، مع ما تقدم من حديث ثواب القراءة فقد ورد حديث في ثواب مَن قرأ "يس" وتخفيف الله ـ تعالى ـ عن أهل المقابر بقراءتها . اهـ.
ويُشير ابن قدامة بهذا إلى قوله قبل هذا الفصل: وروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "مَن دخل المقابر فقرأ سورة يس خُفِّف عنهم يؤمئذٍ، وكان له بعدد مَن فيها حسناتٌ". وروي عنه عليه الصلاة والسلام: "مَن زار قبر والديه فقرأ عنده أو عندهما "يس" غُفر له". وإلى ما ذكره في باب "ما يُفعل عند المُحتِضر" من قوْل أحمد: ويَقرءون عند الميت إذا احْتُضر لِيُخَفَّفَ عنه بالقراءة، يقرأ "يس" وأمَر بقراءة فاتحة الكتاب.
وفي الشرح الكبير لمتْن المقنع في مذهب الحنابلة في هذا الباب: ويقرأ عنده سورة "يس"؛ لمَا رَوى معقل بن يسار قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "اقرءوا "يس" على موتاكم". رواه أبو داود، وروى أحمد: "يس" قلب القرآن، لا يَقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غُفر له، واقرءوها على مَرْضاكم". وحديث معقل بن يسار كما في "نيل الأوطار" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وابن حبان وصححه، وأعلَّه ابن القطَّان، وضعَّف إسناده الدارقطني وحمله ابن حبان على مَن حضرتْه الوفاة مجازًا باعتبار ما يَئول إليه لا على الميت حقيقة. وردَّه المُحبُّ الطبرى. وقال الشوكاني: إن اللفظ نصٌّ في الميت، وتناوله للحي المُحتَضَر مجاز، فلا يُصار إليه إلا بقرينة. اهـ.(1/488)
وهذا الحديث مع ضعف إسناده يُفيد بإطلاقه ومع إرادة المعنى الحقيقي اللفظ الموتَى استحباب قراءة "يس" على الموتى مُطلقًا، سواء أكانت القراءة عند المقبرة أو بعيدًا عنها والحديثانِ الآخرانِ يُفيدان جواز قراءتها عند المقبرة، كما أفادت رواية أحمد قراءتها على المرضى، ولا تَنافي بينهما، فتقرأ على المرضى وعلى الموتى مطلقًا.
وفي شرح الجامع الصغير للعزيزي وحاشيته: إن إسناده ضعيف، وإن "يس" تقرأ على المُحتَضَر وعلى الميت، جمعًا بين القولينِ، وأن تخصيصها بالقراءة ـ كما قال ابن القيم ـ لمَا فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة للمؤمنين. اهـ. ولتحصل للميت بالقراءة بركتها ليُخفف عنه ما يجده.
وقد ثبت في الصحيح اختصاصُ بعض آيات من القرآن وبعض سوره بفضائل كما في آية الكرسي وآخر البقرة وسورة الفاتحة والإخلاص والمُعوذتينِ وغيرها.
"أقول": فإذا جازت قراءة "يس" عند المريض لتخفيف وطأة المرض عنه، وعند المُحتَضَر لتخفيف سكْرة الموت عنه، فَلِمَ لا تجوز قراءتها على مَن مات للتخفيف عنه في قبره أيضًا.
وأيُّ فرق بين هذه الأحوال بعد أن ثبت بالسُّنة المُستفيضة أن الروح حية باقية، تَشعر باللذَّة والألم، ويصل إليها ثواب الدعاء والاستغفار والصدقة بالإجماع، ولم يقل أحدٌ بأن الحديث موضوع وغاية ما قيل فيه: إنه ضعيف الإسناد وهو يُعمل به في مثل هذا المقام عند أئمة الحديث.
ونَوْطُ التخفيف بقراءة "يس" إنما هو مِن سعة الرحمة وعظيم الفضل الإلهي كما نِيطَ الشفاء بقراءة الفاتحة في حديث الرُّقْية المشهور، وقد تكون الحاجة إلى ذلك بعد الخروج مِن دار العمل أشدُّ وأعظم، ولا مانع من استعمال لفظ موتَى في المُحتضر والميت حقيقةً، جمْعًا بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز عند الشافعية، أو في معنًى يَعُمُّهُمَا؛ وهو مَن انقطع الرجاء في حياته أو نحو ذلك فيكون من باب عُموم المجاز، وهو جائز في الاستعمال باتفاق الأصوليينَ.(1/489)
ثم اعلم أن القراءة مطلقًا لأجل الميت إنما تجوز، ويصل ثوابها إليه إذا كانت تبرُّعًا بدون أجر، كما ذهب إليه الحنفية وابن تيمية وابن القيم ـ وسيأتي بحثها.
تنبيه
اعلم أن مِن أدب التلاوة أن تكون بترتيل حسنٍ يُعين على الفهم والتدبُّر، وألا تخرج التلاوة عن قانون التجويد إلى قانون الغناء والتمْطيط وتقطيع الحروف؛ فإن ذلك لا يجوز شرعًا، وألا تكون بالأصوات المُجتمعة المرتفعة؛ كما يقع ذلك من القارئين بمصر عند غُسل الميت وفي القرافة عند الدفن؛ فإن ذلك مكروه. وإذا اشتمل على إخلال بحق التلاوة يحرم، كما أفاد ذلك القُطب أبو البركات سيدي أحمد الدردير العدوي المالكي المتوفى بمصر سنة 1201 هـ في "الشرح الصغير".
فتوَى للأستاذ الوالد في قراءة القرآن للميت ووُصول ثوابها إليه:
وبعدَ تحرير هذا وقفتُ على فتوى للأستاذ الوالد ـ رحمه الله ـ وهو مالكي المذهب حرَّرها في سنة1349هـ جوابًا على أسئلة وردت إليه من بعض البلاد الإسلامية جاء فيها ما نصُّه:
وأما قراءة القرآن للميت سواء أكانت على القبر أم بعيدًا منه، فقد اختلف الفقهاء في وصول ثوابها إليه، والجمهور على الوصول (وهو رأيُ الحنفية والإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم، والمتأخرين من المالكية والشافعية) وهو الحقُّ، خصوصًا إذا وَهَب القارئ بعد القراء ثواب ما قرأه للميت. وللقارئ أيضًا ثوابٌ لا ينقص من أجر الميت شيئًا. والتفصيل (هذا جواب عن أحد الأسئلة المتعلقة بالقراءة والصدقة) بين القراءة والصدقة بالنقود يختلف باختلاف مقدار الصدقة ونفْعها للفقير وحال المُتصدِّق، واختلاف القراءة وما يُدفع للقراء من الأجر "بناء على رأيٍ للمالكية في جواز أخذ الأجر على القراءة" ومسألة الأجر والثواب قِلَّةً وكثرةً مَوكولة إلى الله ـ تعالى ـ وفي يده يَبْسُطُهَا لأيِّها كيف يشاء.(1/490)
وقد ورد في كلٍّ من القراءة ما يحثُّ على فعله. وقد علمتَ أنه لا فرق ذلك بين القرب والبُعد؛ لأن الله ـ تعالى ـ هو المطلع على القارئ وإحسانه العمل وإخلاصه فيه، وعلى المُتصدق وإخلاصه في صدقته، وهو المُقدِّر لهذا وذاك، والقرب والبعد بين القارئ والمتصدق وبين الميت لا دخل له في وصول الثواب إليه، وهناك هدايَا كثيرة غير النقود يتصدَّق بها على الميت كالدعاء له وجمع الاتفاقات المَعاشية، التي ينتفع بها الفقراء من طعام وشراب ولِباس ووقْف أرضٍ أو دار أو إسكان مُستحقٍّ لذلك، إذا قصد إهداء ثوابه لروح الأموات كالنقود سواء والله أعلم. اهـ كلام الأستاذ الوالد عليه سحائب الرحمة والرضوان.
23- أثر النِّيَّة في الأعمال:
تقدم القول في الطاعات والقُربات التي يُرجَى وصول ثوابها إلى الأموات إذا فعلها الأحياء لأجلهم. وهناك أعمال ندَب إليها الشارع، وحثَّ عليها كصِلة الأرحام ورعاية الأيتام وعيادة المرضى وتشييع الجنازات وإصلاح ذات البيْن وعمارة المساجد ونحو ذلك، فإذا عملها المسلم طاعةً لله وامتثالًا وتقرُّبًا إلى الله ـ تعالى ـ بها كَتب له أجر ما عمِل وأثابه عليه، وهناك أعمال عادية تتكيَّف بالنِّيَّة كالإمساك من الفجر إلى الغروب إن كان مجرد حميَّةٍ وتطبُّب كان عملًا لا أجر فيه ولا يُسمَّى صومًا شرعًا، وإنْ كان بنِيَّة العبادة والطاعة كان صومًا مأجورًا، وكالجلوس في المسجد إنْ كان لراحة إن النوم كان عملًا غير مأجور، وإنْ كان نيَّة الاعتكاف طاعة لله كان له أجر عند الله تعالى.
وكذلك في التُّرُوك كترْك الخمر ونحوه إنْ كان لمجرد كراهة طعْمها أو فقدان ثمنها أو مَضرَّتها الجسيمة، كان تركًا مجرَّدًا لا ثواب له، وإن كان لحُرمتها وخوف عقاب الله على مُعاقرتها كان عملًا مأْجورًا.
وهكذا في كثير من الأعمال والتروك إذا عملها الإنسان بنِيَّةٍ صالحة مُخلصًا لله كُتب له ثوابُها.(1/491)
فإذا وَهب العامل هذا الثواب الموعود لغيره مِن الأموات والأحياء ضاعفه الله ـ تعالى ـ فتفضل به على العامل وبمِثله على الموهوب مِنَّةً منه تعالى وإحسانًا.
فعليك أيها المسلم أن تُخلص النيَّة لله ـ تعالى ـ في الأعمال والتروك وتقصد طاعته والامتثال له فيها لتغنمَ الأجر الموعود، وتبلغ المقصود، وتقصد البر والإحسان بهِبَةِ ثواب ما تشاء من القُربات والطاعات لمَن تُريد من الأحياء والأموات، ولك ولهم أجر غير منقوص، والله لا يُضيع أجْرَ مَن أحسن عملًا.
هذا ما اتسع له الوقت في الإجابة على السؤال مع اشتغال البال، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(1/492)
حُكم أخْذ الأجْرة على قراءة القرآن:
غير أنه مما يلزم التنبُّه له أن وصول ثواب تلاوة القرآن إلى الميت مُقيد بما إذا كانت القراءة تطوُّعًا بدون أجر، كما ذكره ابن القيم (وهو رأيْ شيخ الإسلام ابن تيمية) وأئمة الحنفية (ذهب الحنفية إلى عدم جواز الاستئجار على الطاعات، كتعليم القرآن وتلاوته، وتعليم الفقه، والأذان، والإقامة، والإمامة، والوعظ، والحج، والعمرة، والغزو والصلاة والصيام، وغير ذلك مما يُعَدُّ في نفسه طاعة. بمعنى أنه لا تجب الأجرة ولا يجوز أخذها ولا إعطاؤها، والإجارة باطلة. وبه قال الضحاك وعطاء والزهري وأحمد في رواية.
واستثنى المتأخرون منهم تعليم القرآن، فأجازوا أخذ الأجرة عليه تَحَرُّزًا من ضياعه وترغيبًا في حفظه، وعليه الفتوى. وبه قال مالك والشافعي وأبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر. وكرهه مع الشرط الحسن وابن سيرين وطاوس والشعبي والنخعي. وبعضهم استثنى أيضًا الأذان والإقامة والإمامة وتعليم الفقه والوعظ للضرورة. وبقي أخْذ الأجرة على القراءة المجردة على الحظْر لعدم وجود الضرورة فيه كما نَصُّوا عليه، فلا يجوز أخذ الأجرة عليها، كما لا يجوز أخذ الأجرة على الصلاة والصيام.
نعم، يجوز للإنسان أن يتبرع بثواب هذه العبادات لغيره حيًّا أو ميتًا بدون استنابة ولا تأجير، فيُرجى أن يصل ثوابها إليه. فإذا تبرَّع إنسان بقراءة القران للميت، وجعل ثوابه له جاز سواءً كانت القراءة عند القبر أو بعيدًا عنه، ففي وصايَا "الوَلْوَالِجية": لو زار قبر صديقٍ أو قريب له، وقرأ عنه شيئًا من القرآن فهو حسن. اهـ وفي "خزانة المُفتين": ولو زار قبر صديق له فقرأ عنده لا بأس به". اهـ وقد نُقل عن الإمام القول بكراهة القراءة عند القبر وهو رواية، والكراهة فيه يظهر أنها تنزيهية.(1/493)
وينبغى أن يُعلم أن الكلام هنا في مقامينِ: أحدهما قراءة القرآن تبرُّعًا وإهداء ثوابها إلى الميت، والثاني الاستئجار على القراءة للميت أو لغيره، الأول جائز والثاني ممنوع. فقد نصُّوا على أن التبرُّع بالقراءة وإهداء ثوابها للميت بمثابة الدعاء إذ القارئ يسأل الله أن يجعل الثواب للميت ولا ضيْر في ذلك ولا نيابة فيه، ونَصُّوا على أن القارئ للدُّنيا ـ وهو الذي يقرأ لأجْل الأجْر ـ لا ثواب له، والآخِذ والمُعطي آثمانِ. "شفاء العليل".
وعند أهل المدينة يجوز أخذ الأجرة على التلاوة، وبه أخذ الشافعي ونصير وعصام وأبو النصر الفقيه وأبو الليث "معنى" ولعله لضرورة إحياء القرآن والحثِّ على تلاوته وروايته؛ ولمَا ذكره ابن فرْحون. أو لحصول البركة بقراءته ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة: "وما اجتمع قومٌ في بيت مِن بيوت الله يتلون كتاب الله ويَتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتْهمُ الرحمة وحَفَّتْهُمُ الملائكة وذَكَرَهُمُ الله فيمَن عنده". وقال النووي: إن التقييد بالمسجد خرج مخرج الغالب لاسيما في ذلك الزمان، فلا يكون له مفهوم يعمل به. اهـ) سواء أكانت القراءة من ولد الميت أم من غيره (وسواء كانت القراءة عند القبر أم بعيدة منه) وأما الاستئجار على تلاوة القرآن فغير جائز عند الحنفية، وأجازه المالكية (أيْ: في قول كما تفهمه العبارة الآتية) وذكر ابن فرحون أن جواز أخْذ الأجرة على قراءة القرآن مبنيٌّ على وصول ثواب القراءة لمَن قُرئ لأجله كالميت. وهو الراجح عندهم كما سلَف. والله أعلم.(1/494)
الصلاة عن الميت ومذاهب الأئمة فيها:
تقدم قول ابن قدامة في المغني إن أية قُرْبة فعَلها الإنسان وجعل ثوابها للميت نفعه ذلك بمشيئة الله ـ تعالى. اهـ.
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: الصحيح أن الميت ينتفع بجميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة، كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة ونحوها، وكما لو دُعي له. اهـ. وهو صريح في انتفاعه الصلاة عنه وفراغ ذِمَّته ممَّا وجب عليه منها عند الحنابلة.
وذهب الحنفية في الاستحسان إلى أن الصلاة عن الميت تنفعه ويصل ثوابها إليه إذا وُهبت له، ولكنها لا تُسقط عنه ما وجب عليه في ذِمَّتِهِ منها وإنما الذي يُفرغ ذمته الإطعامُ عن كل صلاة، كما تقدم في الصوم أنه لا يُصام عن الميت وإنما يُطعم عنه لكل يوم مسكينٌ. وتُعتَبر كل صلاة بصومِ يومٍ في الصحيح. "الزيلعي والدر وحاشيته".
فلا يجوز أن يصوم الوليُّ أو يُصلِّيَ عن الميت ليكون قضاءً عمَّا وجَب عليه؛ لمَا رواه ابن عباس مرفوعًا "لا يصوم أحدٌ عن أحد ولا يُصلِّي أحدٌ عن أحد". ولكن للولي وغيره أن يجعل ثواب صومه أو صلاته للميت تبرُّعًا بمثابة الصدَقة، لمَا صرَّح به في الهداية مِن أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاةً أو صومًا أو صدقةً أو حجًّا أو غيره. ورَوى الدارقطني أن رجلا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال كان لي أبوانِ أبرهما حال حياتهما فكيف لي ببِرِّهُما بعد موتهما؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن مِن البرِّ بعد الموت أن تُصليَ لهما مع صلاتك، وتصومَ لهما مع صيامك".
وتقدم عن "البدائع" أن حديث "لا يصوم أحدٌ عن أحد ولا يصلي أحدٌ عن أحد" إنما هو في حق الخروج عن العُهدة لا في حق الثواب، فإن من صام أو صلى أو تصدَّق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السُّنة والجماعة وعليه عمل المسلمين مِن لدُنْ عهد النبوة إلى يومنا هذا. اهـ.(1/495)
وذهب مالك إلى أن الصوم عبادة بدنية لا تُقبل فيها النيابة، فكما لا يُصلِّي ولا يتوضأ أحدٌ عن أحد لا يصوم أحدٌ عن أحد، فإذا مات وعليه صوم فلا صيام ولا إطعام عنه إلا أن يُوصيَ به، ذكره الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد الشهير بابن رشد الحفيد القرطبي المالكي المتوفى بمراكش سنة595 هـ في "بداية المجتهد" قال الشافعي: فيُطعم عنه وليُّه وُجوبًا. وبه في الجديد. "راجع البداية في كتاب الصوم".
ومما تقدم في موضوع الصوم والصلاة والإطعام عن الميت يظهر انتفاع من مات وعليه صوم واجب بصوم غيره عنه، وبإطعام غيره عنه ووُصول ثوابهما إليه. وكذا انتفاع من مات وعليه صلاة واجبة بصلاةٍ غيره عنه وإطعامه عنه عن كل صلاة ووصول ثوابهما إليه وإنْ لم يَسقط عنه فرض الصوم وفرض الصلاة في بعض المذاهب، بل يكون ثوابهما كثواب الصدقة يمحو السيئات ويُكثر الحسنات.
ولا شك أن في الإطعام عنه برًّا بالمساكين وسدًّا لحاجتهم، ولذلك ثوابٌ عظيم، وما عمل ذلك إلا لأجله، فيَصِل إليه ثوابه لتَسَبُّبِهِ فيه في الحقيقة.(1/496)
الزواج العُرْفِيّ
"السؤال": هل إذا عقد الزوجانِ زواجهما بإيجابٍ وقَبول شرعيينِ وبحضور شاهدينِ مُستوفيَينِ للشرائط الشرعية بدون إثبات العقد في وثيقةٍ رسمية لدَى المأذون أو الموظف المُختصِّ يكون زواجًا شرعيًّا وتحلُّ به المُعاشرة بينهما أو لابدَّ مِن إثباته في الوثيقة الرسمية؟
"الجواب": عقد الزواج إذا استوفَى أركانه وشروطه الشرعية تحلُّ به المُعاشرة بين الزوجينِ وليس مِن شرائطه الشرعية إثباته كتابةً في وثيقة رسمية ولا غير رسمية، وإنما التوثيق لدَى المأذونِ أو الموظف المُختص نظامٌ أوجبتْه اللوائح والقوانين الخاصة بالمحاكم الشرعية خشيةَ الجُحود وحفظًا للحقوق وحذَّرت مِن مُخالفته لما لهُ مِن النتائج الخطيرة عند الجُحود. والله أعلم.(1/497)
الخِطبة ليست عقدًا شرعيًّا
"السؤال": هل مجرد الخِطبة أو قراءة الفاتحة أو دفْع المهر قبل العقد يجعل الزواج أمرًا واقعًا؟
"الجواب": الزواج عقد لا يتمُّ إلا بالإيجاب والقبول بشروطهما الشرعية. وما يسبقه عادةً من الخطبة وقراءة الفاتحة ودفْع المهر وتقديم الهدايا والشبْكة لا يُثبت زوجيةً بين الطرفينِ ولكل منهما فسْخ الخِطبة وردُّ ما دُفع كاملًا مادام العقد الشرعي لم يتمّ. والله أعلم.
الخِطْبة ليستْ عقْدَ زواجٍ
"السؤال": رجل خطب امرأة واتَّفق مع والدها على المهر العاجل والآجل، ودفع لها مبلغ خمسة جنيهات من العاجل، على أن يدفع الباقي عند العقْد، ثم مات قبل العقد، فكيف يكون الحال في مبلغ الخمسة جنيهات؛ هل تكون حقًّا لهذه المرأة أم لورثته؟
"الجواب": إن ما دفعه الخاطب لمَخطوبته على أنه من المهر ومات قبل العقد الشرعي يكون بوفاته حقًّا لوَرثته، يُقسَّم بينهم بالفريضة الشرعية، ولا شيء منه للمَخطوبة المَذكورة شرعًا. والله أعلم.(1/498)
حُكم الشبْكة
"السؤال" من "أبى كبير شرقية": خطب فتاةً، وقدَّم إليها الشبكة المعروفة، ولم يعقد عليها ثم فُسخت الخطبة، فهل يجب عليها رَدُّ الشبْكة إلى الخاطب؟
"الجواب": جرى عُرف الكثير في مصر على أن يُقدم الخاطب لمَخطوبته بعد الخِطبة وقبل إجراء عقد الزواج قِطعة حُلِيٍّ باسم "الشبكة" أو يدفع إليها مقدارًا من المال لتشتريَ به الشبكة التي تختارها.
وقد أصبح هذا من الأمور التي تُشترط لإتمام الزواج كالمَهر بحيث لا يتم الزواج في الأوساط التي تعارفت ذلك إلا بتقديم الشبكة عَيْنًا أو بدلًا ودفْع المهر معًا، بل تعارفوا نُقصانَ المهر بقدْر قيمة الشبكة عند تقديمها، وزيادته بقدْرها إذا لم تُقدَّم، إذ أنها ستُشترى منه بمعرفة الزوجة، فإذا فُسخت الخطبة ولم يتمّ إجراء العقد لأي سبب وجَب على المخطوبة ردُّ الشبكة إن كانت قائمة، ورد بدَلها إن كانت هالكةً أو مُستهْلَكةً؛ وذلك لأن المعروف عُرفًا والثابت واقعًا أن الخاطب إنما يدفعها على سبيل المُعاوضة وعلى شريطة إتمام العقد، وهذا العُرف مما يُعتبر شرعًا ويُدار عليه الحُكم، فوجب أن يكون حُكمُها حُكمَ المهر إذا عَدَلَتِ المخطوبة عن الزواج وكانت قد أخذتْه فإنه يجب ردُّهُ كاملًا إلى الخاطب إنْ كان قائمًا، وردُّ بدَله إنْ كان هالكًا أو مُستهلَكًا.
على أنه في بعض الجهات التي لم يَجْرِ العُرف فيها بذلك إذا قال الزوج إنه دفَع الشبكة على أن يتمَّ العقد، أو على أنها من المهر، وجَب عند فسْخ الخطبة أن تَرُدَّهَا المخطوبة إن كانت قائمةً، وبدلها إنْ كانت هالكةً أو مستهلكةً؛ لأن الزوج هو الدافع لها وهو أعلم بجهة دفْعه، فالقول له بيَمينه، ومَن دفع شيئًا على أنه واجبٌ عليه فظهَر أنه ليس بواجبٍ فله استردادُهُ. والله أعلم.
...(1/499)
الخَلْوَةُ بالمَخطوبة
"السؤال": هل يجوز لمَن يخطب فتاةً أن يذهب بها وحدها إلى السينما ونحوها أو يَختليَ بها في غير رِقْبَةٍ مِن أهلها؟
"الجواب": إن هذه الفتاة أجنبية مِن خاطبها، والخَلْوة بها قبل العقد مُحرمة شرعًا، فلا يجوز لهما ذلك شرعًا، وهو ذريعةٌ من ذرائع الفساد في المجتمع، والتهاون فيه نذير شَرٍّ مُستطير، وكم كانت له نتائج خطيرة، فليَحْذر المسلمون ذلك ولْيَقِفُوا عند حُدود الله وشرائعه. والله أعلم.(1/500)
الشهود في الزواج
"السؤال": هل يُشترط الشهود لجواز عقد الزواج، حتى لا يجوز للرجل أن يتزوَّج امرأةً بغير حضور شاهدينِ؟
"الجواب": ذهب الأئمة الثلاثة إلى أن الشهادة شرط في جواز النكاح، فلا نِكاح إلا بشهود ولا يصحُّ العقد إلا بشهادتهم، وهو مَرْويٌّ عن جماهير الصحابة والتابعين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا نِكاحَ إلا بِبَيِّنَةٍ". وعنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "البَغايَا اللاتِي يُنْكِحْنَ أنْفُسَهُنَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ".
وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم مِن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومَن بَعدَهم مِن التابعين وغيرهم، "كما في منتقى الأخبار وشرحه".
وذهب الإمام مالك ـ كما في الشرح الكبير وحاشيته ـ إلى أن الإشهاد على النِّكاح "واجبٌ" وكونِه عند العقد مَندوبًا زائدًا على الواجب، فإنْ حصل الإشهاد عند العقد فقد حصَل الواجب والمندوب، وإنْ لم يحصل عند العقد كان واجبًا عند البناء "الدخول" فإذا دخل بلا إشهادٍ فُسِخَ النِّكاح" اهـ. وأفاد الشوكاني أن الحق ما ذهب إليه الجمهور اهـ. وهو الجاري عليه العمل في ديارنا المصرية. والله أعلم.(1/501)
الزواج في شهْر المُحرَّم
"السؤال": يعتقد بعض العامة أن عقد الزواج في شهر المُحرم مَكروهٌ شرعًا فهل ذلك صحيح؟
"الجواب": هذا الاعتقاد لا أصل له في الدِّين، وهو من جهالات العامة، وقد بيَّنَّا فساده في عدَّة فتاوَى أصدرناها تصحيحًا لاعتقاداتهم وبيانًا لجواز عقد الزواج في هذا الشهر المبارك كغيره من الشهور. والله أعلم.(1/502)
بُطلان الزواج المُؤقت
"السؤال": تزوَّج بعقد وبشُهود لمدة مُحددة، فما حُكم هذا الزواج شرعًا؟
"الجواب": هذا الزواج المؤقت باطلٌ شرعًا كما ذهب إليه جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة، ففي الهداية: والنكاح المؤقت باطل. وفي منْح الجليل: وفسخ النكاح لأجلٍ مُسَمًّى، ولو بعُد الأجلُ، وهو نِكاحُ متعةٍ، ويُلحق به الولَدُ، وهل يجب فيه مهر المثل أو المهر المسمى؟ قولانِ اهـ مُلَخَّصًا. وفي المغني لابن قدامة: ولو تزوَّجها على أن يُطلِّقها في وقت بعَيْنه لم ينعقد النكاح؛ لأن هذا الشرط مانعٌ مِن بقاء النكاح، فأشبهَ نِكاح المُتعة.
وعن الشافعي في أظهر قولَيْهِ أن النِّكاح يصحُّ ويبطلُ شرطُ التوقيت؛ لأن النكاح وقع مُطلقًا، وإنما شرَط على نفسه شرطًا، وذلك لا يُؤثر فيه، كما لو شرط ألاّ يتزوج عليها أو ألَّا يُسافر بها اهـ.
فهذا العقد باطلٌ عند جمهور الأئمة يجب فسْخه، وعند الشافعي يصحُّ ويَبطل الشرط، وأجمعوا على عدم صحة العقد مع بقاء شرط التوقيت. والله أعلم.(1/503)
زواجٌ مُريب ومُسِيء
"السؤال": هل يجوز في الشريعة الغرَّاء أن تَهَبَ المسلمة نفسها للزوج المسلم الكُفْءِ؟ وفي أيِّ سِنٍّ تستطيع ذلك؟ وهل يشترط علْم والديها وحضور شُهود ودفْع مهر؟ وهل يجوز العقد شِفَاهًا أو لابد مِن تحريره بيد المأذون الشرعي؟
"الجواب": مذهب الحنفية أن البنْت البالغة يجوز لها أن تَلِيَ عقد زواجها، وأن الزواج ينعقد بكل لفظ وُضِعَ شرعًا لتمليكِ عيْنٍ كاملة في الحال، كلفظ الهِبَةِ، إذا كانت على وجْه النكاح، فأما إذا قامت قرينةٌ على خلاف ذلك، كما لو طلب رجلٌ من امرأة أن تَهَبَ نفسها له بدُون حضور شُهود وتسميةِ مهْرٍ، فقبلت فلا ينعقد النكاح، وتكون المُعاشرة المُترتبة على ذلك حرامًا حُرْمةً غليظةً. وإن الزواج لا يصحُّ إلا بحضور شاهدينِ متوافرةً فيهما الشروط المَنصوص عليها شرعًا، ولا بد فيه من مهرٍ، وإذا لم يُسَمَّ في العقد وجب مهرُ مثل الزوجة، ويجوز أن يكون المهر المُسَمَّى مُؤَجَّلًا، كما يجوز تعجيله كله أو بعضه.
ويجوز شرعًا إجراء العقد شفاهًا وكتابةً، ولكن تدوينه لدَى المُوثِّقِ المُختصِّ في وَرقةٍ رسميةٍ نظامٌ وَضْعِيٌّ قضت به ضرورة صيانة الحقوق عند التَّجاحُد أو عند الوفاة، ولا بدَّ من العمل به.
وقد نصَّتْ الفقرة الرابعة من المادة99 من لائحة ترتيب المَحاكم الشرعية على أنه "لا تُسمع عند الإنكار دعوَى الزوجية أو الإقرار بها إلا إذا كانت ثابتةً بوَثيقة زواجٍ رسميةٍ في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة1931م".(1/504)
وعِلْمُ والِدَيِ الزوجينِ وإنْ لم يكن شرطًا في صحة العقد شرعًا إلا أنه لابدَّ منه احترامًا للتقاليد المُتَّبَعَةِ واتقاءً للشبهات والاعتراض من جانب والد الزوجة بعدم الكفاءة، وتعمُّد إخفاء الأمر عليهما مثارُ رِيبَةٍ ظاهرة تَجُرُّ إلى سُوء القالَة، وتقطع الصلة بين الأبناء والآباء، وقد تُؤدى إلى أحداثٍ جسام، وإلى الاتِّهام بأن هذا الزواج لم يتمّ إلا بطريق الإغْراء والإغْواء، وستبقَى هذه السُّبَّةُ والرِّيبَة عالقةً بهما وبأُسَرهما وبما يُنجبان من ذريَّةٍ أبدَ الدهر، ولا يرضى بذلك إلا طائشٌ مُستهترٌ لا يُقدِّر أعقاب الأمور، وسيَندم أشدَّ الندم بعد حين ـ ولاتَ حينَ مَنْدَمِ ـ واللهُ يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مُستقيم. والله أعْلمُ.(1/505)
وُجوب تجديد عقْد الزواج
على مَن يرجع إلى الإسلام بعد الرِّدَّةِ
"السؤال": إذا تاب المُرْتد فعاد إلى الإسلام هل يجِب تجديد عقد زواجه باعتبار أن زوْجته قد بانتْ منه بسببٍ الرِّدَّةِ أو يكتفي بالعقد الأول؟
"الجواب": رِدَّةُ أحد الزوجينِ تُوجب الفُرقة بينهما؛ لأن الردة بمنزلة الموت لأنها سبب يُفضي إليه، والميت لا يكون مَحَلًّا للنكاح، ولهذا لم يَجُزْ نِكاح المُرتد ابتداء، فكذا في حال البقاء؛ ولأنه لا عِصْمة مع الردة، ومِلك النكاح لا يبقى مع زوال العِصمة، وتَثبت هذه الفُرقة بنفس الرِّدة عندنا فتثبُت في الحال.
وهي فسْخٌ لا طلاقٌ عند الإمامينِ أبى حنيفةَ وأبى يوسف، وفسْخ النكاح هو رفعه من الأهل وجعله كأنْ لم يكن، فإذا عاد الزوج المُرتد إلى الإسلام وجَب تجديد عقد الزواج بيْنه وبين زوجته، لزوال العقد الأول وبُطلانه بالردة.
وهذا فيما يكون ردةً وكُفْرًا باتفاق. وكذلك فيما يختلف حُكم أئمة الفقهاء في أنه ردةٌ أوْ لا، فإنه يُؤمر بتجديد العقْد احتياطًا.
قال في جامع الفصولين في المسلم يشتمُ دينَ الإسلام: إنه وإنْ أمكنَ تأويلُ كلامه بما لا يُخرجه عن الإسلام يُؤْمر بالاستغفار والتوبة وتجديد عقد الزواج احتياطًا اهـ ويُعزَّر بما يَردَعه عن هذا المنكر.
وينبغي بهذه المناسبة أن يُعلَمَ أن الحكم على المسلم بأنه قد انفصم عن عُروة الإسلام بقولٍ أو فعْلٍ يَصدر منه مِن الخُطورة بمكان، فلا يَجوز أن يُلْقَى فيه القول جُزافًا وأن يُرمَى بالكُفْر والخروج عن المِلَّة مع إمكان حمْل قوله أو فعله على مَحملٍ صحيح ، بل يجب فيه التريُّث والتبصُّر وتقليب الأمر على كافَّة وُجوهه، حتى إذا لم يكن هناك مناصٌ من الحُكم عليه بالرِّدَّةِ حُكم بها وعُوقب عليها.
ولذلك قال أئِمَّتُنَا: لا يُفْتَى بكُفْر مسلم إذا أمكنَ حمْلُ كلامه على مَحمل حسَنٍ، أو كان في كُفره اختلاف بين الأئمة، ولو كان ذلك رواية ضعيفةً.(1/506)
وقالوا: إذا كان في المسألة احتمالاتٌ تُوجب الكُفرَ واحتمالٌ واحدٌ يمنعه فعلى المُفتي أن يَميل إلى هذا الاحتمال؛ لأن الإسلام ثابت بيقينٍ فلا يزول بالاحتمال والشك، إلا إذا صرَّح بإرادة مُوجَب الكفر وهو يعلم أنه يُوجبه؛ فتكون رِدَّتُهُ ثابتةً بيقين ، فلا كفْرَ بالمُحتَمل؛ لأن الكفر نهاية العقوبة، فتُستدعَى نهاية الجِناية، ومع الاحتمال لا نهاية، كما ذَكَرَهُ صاحب "الفتاوى التتارخانية" وغيره مِن أئمة الحنفية.
وفي ذلك بلا شك احتياطٌ حكيم لجمع كلمة المسلمين وصِيانة وحْدتهم من التفرُّق، حتى لا تَعْصِفَ بها ريح الخلاف، ولا يَتَّخذَ ذَوُو الأهواء من تقاذُف المسلمين بكلمة الكُفر والشرك ذريعةً إلى تأريثِ نار الفِتْنَةِ بينهم وإثارة الضغينة في نفوسهم.
وعلى العلماء الراشدينَ، وهم القدوة في الدِّين، أن يُلقوا دروسًا واعيةً على العامَّة في أدب القول وأدب البحْث وأدب الوعْظ، وأن يُعلِّموهم أن القذْف بالشرك مع إمكان الحمْل على مَحملٍ حسنٍ صحيحٍ ليس مِن الدِّينِ في شيء، بل فيه الإثْم العظيم، والله يَهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مُستقيم. والله أعلم (وظاهرٌ أنه ليس من القول المُحتِمل للإسلام والكُفْرِ القولُ بأن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس بخاتم النبيين وأن هناك نبيًّا بعده بل هو كفر بواح وزندقة صريحة والعياذ بالله)(1/507)
حُكم الإسلام الثاني بعد الرِّدَّة
"السؤال": مسيحيٌّ أشهر إسلامه وتزوَّج مسلمة تاركًا زوجته المسيحية، وبعد مرور ستة أشهر ارتَدَّ عن الإسلام وعاد إلى زوجته المسيحية، ثم في أواخر ديسمبر سنة1949م أشهر إسلامه ثانيًا وعاد لمُعاشرة زوجته المسلمة، ولا يزال يُعاشرها مُعاشرةَ الأزواج، فما حُكم الشرع في هذا الرجل؟ وهل يُعتبر إسلامه صحيحًا مع أن لافتةَ محلِّه التجاري لا تزال باسمه المسيحي القديم؟
"الجواب": إن آخر أمر هذا الرجل على حسَب ما جاء بالسؤال أنه عاد إلى الإسلام في أواخر سنة1949 م فهو مسلم في حقِّ الأحكام الظاهرة والله يتولَّى السرائر، وليس لنا أن نُنَقِّبَ عن طاويات القلوب، أما من جهة مُعاشرته لزوجته المسلمة فبِمُجرد رِدَّتِهِ وقعت الفُرْقة بينه وبينها بغير طلاق في قول أبى حنيفة وأبى يوسف المُفتَى به، ولا تحلُّ له بمُجرد عودته إلى الإسلام في المرة الثانية، بل لابدَّ مِن عقد جديد مُستوفٍ شرائطَه الشرعية، فإذا كانت المُعاشرة الآنَ بدون عقد فهي مُعاشرة مُحَرَّمَةٌ، ويجب التفريق بينهما حتى يُجرِيَا عقدًا جديدًا. ومجرد وُجود الاسم القديم على اللافتة لا يُعَدُّ رِدَّةً عن الإسلام بل قد يكون لأغراضٍ تجارية. والله أعلم.(1/508)
حُرمة المباشرة في غير موضوع الحرْث
"السؤال": ما حُكم مباشرة الرجل زوجته في غير موضع الحرث كما يفعل قومُ لوط؟ وهل تحرم عليه بذلك؟
"الجواب": ذهب أو حنيفة وأصحابه إلى أن مُباشرة الزوجة في هذا الموضع أمرٌ مُنكر مُحرَّم كفِعل قوم لوط، وإنْ كان لا يُوجب تحريم الزوجة ولا إقامة الحد الشرعي عليه، فيُعزر عليه الزوج بما يراه القاضي رادعًا وزاجرًا. وعدَّه المالكية من أسباب طلب التطليق للضرَر، فإذا ثبت لدَى القاضي حَكَمَ بتطليق زوجته منه وعلى الزوجة ألاّ تُمكنه من هذه الفعْلة المنكرة، وقوله تعالى في سورة البقرة: (نساؤُكمْ حرْثٌ لكمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ) لتعميم جهات الإتْيان أيْ: من أي مكان شئتم من القدام أو الخلف أو الفوق أو التحت ما دام في القُبُل، لا لتعميم مواضع الإتيان، بدليل التعبير بالحرْث فإنَّ موضع الحرث وهو الزرع والإنتاج إنما هو القُبُلُ لا غير. أما المحاشُّ فليست كذلك، ... على أن الإتيان فيها لم يكن معروفًا عند العرب والخطاب في الآية إنما هو طبقًا لمَا هو مألوفٌ معروف عندهم. والله أعلم.(1/509)
الحِكْمة في أن الإسلام أباح تعدُّد الزوجات؟ وهل لذلك شروط معينة؟
أباح الإسلام تعدُّد الزوجات بشرط العدل بينهنَّ فيما تُوجبه الزوجية من الحقوق؛ من النفقة والكُسوة والسُّكْنَى والخدمة والمُعاشرة بالمَعروف. وحرَّم على الزوج أن يَقترن بأكثر مِن واحدة إذا لم يستطع العدْل بينهن في ذلك. وأباح للزوجة بجانب ذلك أن تطلب الحُكم بالطلاق إذا أعْسر زوجها بنفقتها أو امتنع عنها أو ضارَّها في المُعاشرة بحيث يُصبح دوام العِشْرَةِ بينهما غير مُستطاع.
وأباح التعدُّد بشرط العدْل لحِكمٍ كثيرة، "منها" تحصين النساء وعفافهن والقيام بسدِّ حاجاتهنَّ إذا زِدْنَ عددًا عن الرجال وخاصة في أعقاب الحُروب. "ومنها" القضاء على المُخادنة المُحرَّمة التي كثيرًا ما يُضطرُّ الرجل إليها إذا حُرِّم عليه التزوُّج بأخرى وهو في مسيس الحاجة إليها، وتُضطر المرأة إليها غالبًا بحُكم الطبيعة إذا لم يكن لها زوج شرعي، فجعل الشارع من الزواج الحلال مُتَّسَعًا وفَرَجًا للجميع.
"ومنها" إنقاذ الطفولة من التشرُّد وصيانة المجتمع مِن مفاسده من جرَّاء إنسال أطفالٍ غير شرعيينَ نتيجةً لتلكَ المُخادنة الآثمةَ في حال المنْع مِن تعدُّد الزوجات، والمُحافظة على الأنساب مِن الفِطرة ومن الضروريات لبناء المُجتمع الصالح.
"ومنها": سدُّ حاجة الأمة بإنجاب أولادٍ كثيرينَ ينهضون بأعبائها العمرانية ويكونون عُدَّةً لها وقُوة في السلم والحرْب، إلى غير ذلك مِن الحِكَم السامية التي نراها أدخل في باب الاجتماع منها في باب التديُّن،ونراها خيرَ دِعايَةٍ لحِكمة التشريع الإسلامي في نظام الأسرة الذي يجب أن يُؤخذ كُلًّا لا يتجَزَّأُ عند البحث والدراسة وأن يتقصَّاه الباحثون بتعمُّق وخِبرة واعتدال.(1/510)
مُعاشرة الحامل من زنا والعقد عليها
"السؤال": تزوَّج رجلٌ بفتاة على أنها بِكْرٌ، وعند الدخول بها وجدها ثَيِّبًا، فستر عليها وعاشَا معًا، وبعد الدخول بأربعة أشهر وضعتْ مَولودًا وامتنعت عن إرضاعه حتى مات ـ ومعنى هذا أنها كانت حاملًا لخمسة شهور تقريبًا عند العقد.
هل هذا العقد صحيح شرعًا برغم حملها من غير المعقود عليه؟
2ـ هل يُؤاخذ هذا الرجل بما يُؤاخذ به الزاني في اتصاله بها أثناء المدة التي عاشرها فيها؟
3ـ لو عاشرها بعد ذلك كله وأنجب منها أولادًا فما هو موقف هؤلاء الأولاد من النسب والميراث؟
"الجواب": إن العقد على الحامل مِن زنا صحيحٌ شرعًا ويَحرم على الزوج وَطْؤُهَا إذا كان الحمل مِن غيره حتى تضع، ويجوز له مُعاشرتها معاشرةَ الأزواج بعد وضْع الحمل الذي كان مِن غيره سفاحًا. وما يُرزقان به من أولاد بعد ذلك فهم أولادهما شرعًا ويَرثون كُلًّا منهما إذا مات. والله أعلم .(1/511)
حُرمة زواج فرع الأخ
"السؤال": رجل تزوَّج بنت بنت أخيه، فهل ذلك يجوز شرعًا؟
"الجواب": هذا الزواج باطلٌ شرعًا لقوله ـ تعالى ـ في بيان المُحرَّمات: "وبنات الأخ" والمراد فرع الأخ مهما نزل سواء أكان أخًا شقيقًا، أمْ لأبٍ، أم لأمٍّ، فيجب عليهما المُتاركة فورًا وإلا فرَّق القاضي بينهما. والله أعلم.(1/512)
صحة زواج أخت المُطلقة بعد انقضاء عِدَّتِها
"السؤال": تزوجتُ من امرأة ورُزقت منها بولدٍ واحد، وحصل نزاع أدَّى إلى طلاقها في سنة1954 م ولهذه المرأة أُخت مات زوجها منذ خمس سنوات فهل يجوز لي التزوُّج بها ونحن الآن في سنة 1956 م؟
"الجواب": يجوز للسائل أن يتزوج أُخت مُطلقته المَذكورة إن كانت هذه المُطلَّقة قد انقضتْ عِدَّتُهَا شرْعًا. والله أعلم.(1/513)
مجرد العقد على الأمهات لا يُحرم البناتِ
"السؤال": رجل سبق أن عقد على امرأة ثم طلَّقها قبل الدخول بها ولم تحصل بينهما خَلْوَةٌ مطلقا، وكان إذ ذاك لم يبلغ الحلم، والآن يُريد الزواج بابنتها، فما حكم الشرع في ذلك؟
"الجواب": العقد على الأمهات لا يُحرم البنات إذا لم يكن هنا دخولٌ ولا خلْوة صحيحة بالأمهات، فلا تَحرُم بِنْتُهَا ولا بنت بنتها على العاقد مع عدم الدخول والخلْوة الصحيحة. والله أعلم.(1/514)
زوجةٌ تستحقُّ التعزير
"السؤال": من "الشهداء منوفية" زوجة ذهبت بدون علْم زوجها إلى رجل دجَّال، وعرضتْ نفسها عليه، وأجرى لها عملية كَيٍّ في موضع حسَّاس بجسمها، فقدمت شكوى انتهت بالحُكم عليه بالحبس شهرينِ، فهل تُعَدُّ هذه الزوجة خائنة بذلك؟ وإذا طلقها تُحرم مِن النفقة أمْ لا؟
"الجواب": لا شك أن ما فعلتْه هذه الزوجة مُحرَّمٌ شرعًا، وتستحق عليه التعزيز والتأديب سواء أكان ذلك بغير علم زوجها أم بعلْمه، ولا تأثير لذلك في وُجوب نفقة العدَّة إذا طلقها ولا في مُتجمد نفقتها قبل الطلاق. والله أعلم.(1/515)
حُرمة التزوُّج بالمُلْحد
"السؤال": هل يجوز لرجلٍ مُلْحدٍ يُنكر وُجود الله ـ تعالى ـ وينكر اليوم الآخر أن يتزوج مسلمةً؟
"الجواب": إنكار ما عُلم من الدِّين بالضرورة كُفْرٌ بَواحٌ، وقد أجمعت الشرائع السماوية على وُجود الله ـ تعالى ـ وعلى البعث في اليوم الآخر للحساب والجزاء فإنكارهما كفرٌ صريح، فإذا ثبتَ إنكار هذا الرجل لمَا ذُكِرَ فلا يحلُّ لمُسلمة أن تتزوَّجه بحالٍ، والعقد باطلٌ إلا أن يعود إلى الإسلام بتوبة صريحة يُقِرُّ فيها بما جحده، فيجوز لها التزوُّج به بعد ثبوت ذلك. والله أعلم.(1/516)
حُكم زنا الزوج بأمِّ زوجته
"السؤال": زوجة فاجأتْ زوجها يومًا وهو يرتكب الفاحشة مع أمها، فهل يُوجب ذلك حُرمتها على زوجها شرعًا أو أنها ما تزال حلالًا له؟
"الجواب": المنصوص عليه في مذهب الحنفية أن مَن زنَا بامرأة حُرِّمَتْ هيَ على أُصوله وفُروعه، وحُرمت عليه أُصولها وفروعها ومنها زوجته، وهو قول عمر وابن مسعود، وابن عباس في الأصحِّ، وعِمران بن حُصين، وجابر، وعائشة، وجمهور التابعينَ كالحسن البصري، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وطاوس، ومُجاهد، وابن يسار، وحمَّاد، والثوري، وإسحاق بن راهويه. كما في "فتح القدير" وهو مذهب أحمد بن حنبل، فيما يَرويه جماعةٌ عنه لحديث: "ملعون مَن نظر إلى فرْج امرأةٍ وابنتها". وفي رواية: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرْج امرأة وابنتها".
وذهب الشافعي إلى أن مَن زنا بامرأة لا تَحرم عليه أُمُّها ولا بِنْتُهَا؛ لأن الوَطْءَ الحرامَ لا يُحرِّم الحلال، وهو قول ابن المسيب، ويحيى بن يعمر، وعُروة ، والزهري، وأبى ثور، وابن المنذر، كما في المُغنى لابن قدامة، وهو المُعتمد في مذهب مالك، وعنه رواية أخرى تُوافق مذهب الحنفية والحنابلة، كما يُؤخذ من الشرح الكبير، ومِن هذا يُعلم الجواب عن السؤال. والله أعلم.(1/517)
حُكمُ تَزَوُّجِ الزاني بمَن زنَا بها أو تزوُّجِه بابْنتها
"السؤال": إذا زنا رجل بامرأة، هل يحلُّ له التزوُّج بها؟ وهل يحرم عليه التزوُّج مِن بنتها؟
"الجواب": يجوز للرجل أن يتزوج بمَن زنا بها ولو كانت حاملًا منه، وإليه ذهب الحنفية، ففي الفتاوى الظهرية: رجل تزوَّج حاملًا مِن زنًا منهُ، فالنكاح صحيح عند الكُل، ويَحِلُّ له وَطْؤُها عند الكُلِّ اهـ أيْ: عند الإمام وصاحبيه. وفي الفتح: أما لو كان الحبل من زنا منه جاز النكاح بالاتفاق اهـ. وفي شرح التنوير: لو نَكَحَهَا الزاني حلَّ له وَطْؤُهَا اتفاقًا اهـ.
وهذا بخلاف ما لو كان الحبَل مِن زنًا مِن غيره فإنه يجوز له العقْد عليها، ولكنْ يَحرم وَطْؤُها حتى تضع حمْلها عند الإمام ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يجوز العقد والنكاح فاسد.
وشرَط الإمام ابن حزم في جواز تزوُّج الزاني بمَن زنا بها أن يتوبَا ويُصلِحَا؛ لمَا رُوِي عن جابر بن عبد الله حين سُئل عن الرجل يزني بامرأةٍ ثم يُريد نكاحها أنه قال: "إذا تابَا وأصلحَا فلا بأسَ". ومثله عن ابن عمر وابن مسعود. ورَوَى ابن عمر أن رجلًا حضر إلى أبي بكر وقال له: إن ضيفًا ضافني فزنا بابنتي فأحاله على عمر. فضرب عمر في صدْره وقال له: قبَّحك الله ألَا سترتَ على ابنتكَ. فأَمَرَ بهما أبو بكر فضُرِبَا الحدَّ ثم زوَّج أحدهما الآخر، ثم أمر بهما أن يُغَرَّبَا حوْلًا، وقال ابن حزم إلا أن الأظْهر أنه كان بعد توبَتِهما. جـ 9/475 وهو مذهب الحنابلة كما في المغني لابن قدامة، وفيه: وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يُشترَط ذلك اهـ.(1/518)
ويجوز لمَن زنا بامرأة أن يتزوج من بنتها كما ذهب إليه الليث بن سعد والشافعي والظاهرية ومالك في إحدى الروايتينِ عنه؛ لأنها أجنبيةٌ منه ولا يَثبت نسبها إليه شرعًا ولا يجري التوارُث بينهما، فلم تَحْرُمْ عليه كسائر الأجنبيات. والحرام لا يُحرِّم الحلال، وهو رواية ابن عباس، وبها قال سعيد ويحيى وعروة والزهري وأبو ثور وابن المنذر، وقال في المغنى: إنه قولُ عامَّة الفقهاء وإليه ذهب ابن حزم.
وذهب الحنفية إلى أنه لا يَجوز له أن يتزوَّج بنت مُزْنِيَتِهِ لانتشار حُرمة المُصاهرة بالزنا في أصول كل منهما وفُروعه، وهو مذهب أحمد ومالك في رواية أخرى، ورُوِي عن عمران بن حصين وبه قال الحسن وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والنخاعي والثوري وإسحاق.
ومِن ذلك يُعلم أن زواج الرجل بابنة مُزنيته مُختلَف في صحته بين الأئمة على الوجه المذكور، بناء على أن الحرام هل يُحرم الحلال أوْ لا يُحرمه؟ والله أعلم.(1/519)
تزوُّج ذات الزوْج باطل أو فاسد
"السؤال": طلبت النيابة معرفة الحُكم الشرعي فيمَن تزوجت بزوج وهي في عصمةِ زوْج آخر ثم طلَّقها الثاني، هل تلزمها العدَّة بعد طلاقها من الزوج الثاني أم لا؟
"الجواب": إنه إذا كان زواج الثاني لهذه المرأة مع علْمه بأنها زوجة الأول كان زواجُه بها باطلًا ولا عدَّة عليها ولو دخل بها؛ لأن وطأهُ لها زنًا مُحَرَّمٌ، والزنا لا حُرمة له، ويُعاقبانِ عقاب الزُّناة، وإنْ كان زواج الثاني بها مع عدم عِلْمه بأنها زوجة للأول كان زواجه بها فاسدًا، تجب المُتاركة فيه شرعًا، وعليها العدَّة إذا كان قد دخل بها؛ مُحافظة على حَقِّهِ في نسَب ولده، لعذره بعدم علْمه بنكاح الأول والعقاب عليها وحْدها. والله أعلم.(1/520)
حُرْمة التزوُّج بزوجة الأب
"السؤال": رجل تزوَّج امرأةً بعقد نكاح شرعيٍّ ثم طلَّقها قبل الدخول، ولهذا الرجل ولدٌ يريد الزواج من هذه المرأة، فهل يحلُّ له ذلك شرعًا؟
"الجواب": لا يحلُّ لهذا الولد الزواج بهذه المرأة؛ لأنها امرأةُ أبيه، وقد قال تعالى: "ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكمْ مِنَ النِّسَاءِ" والمراد بالنكاح هنا العقْد، سواء دخل بها الأب أو لم يدخل. ولذا أجمع الفقهاء على أنه يَحْرُمُ على الرجل التزوُّج بزوجة أصْلِه ولو بعيدًا، دخل بها الأصل أو لم يدخل. والله أعلم .(1/521)
تأثير الرِّدَّةِ في عقْد الزواج
"السؤال" من "غزَّة": رجل حُكم عليه في قضية شرعية في القدس، فبعث برسالة إلى المحكمة يقول فيها: إن أحكام الدين الإسلامي في قضيته غير عادلة، وأنه سيبحث له عن دِينٍ آخر فيه عدْل وحِفْظٌ للحقوق، وأنه سيَقف ثروته على الأدْيرة، وامتدح الرُّهبان وعشْرتهم. فسألتْه المَحكمة عن رسالته فأصرَّ عليها فحكمتْ برِدَّته عن الإسلام، وفسْخ نِكاحه من زوجتيه سنة1933 م ثم تاب وندِم وقرَّر أن دين الإسلام هو الدين الحقُّ، فأثبتت المَحكمة إسلامه وأمرته بتجديد عقد زواجه بزوجتَيْهِ برضاهما، فلم يُجدده وعاشر إحداهما مُعاشرة الأزواج وترك الأخرى في بيت أهلها دون مُعاشرة ولا تجديد عقد فرفعت عليه دعوى بمُؤخر صدَاقِها، فحُكم عليه به، فاستأنفه زاعمًا أنها لا تزال في عِصْمَتِهِ ولا داعي لتجديد العقد وإذنْ فلا محلَّ لطلبها مُؤَخَّرِ الصداق الذي لا يحلُّ إلا بالطلاق أو الموت، فرفض استئنافه وتأييد الحكم الابتدائي. وأخيرًا مات هذا الرجل في سنة 1953م فطلبت هذه المرأة ميراثها في تركته زاعمةً أنها لا زالت زوجةً للمتوفَّى وأن اعتبار ما صدر منه ردةً ليس صحيحًا؛ لأنه لم يكن عن عقيدة وإنما كان نتيجة لثورة غضبيةٍ عصبيةٍ، فلم يخرج عن الإسلام به، وكان هذا الدفاع بلسانِ وَكِيلِها، فما حكم ذلك شرعًا؟(1/522)
"الجواب": إن ردَّةَ أحد الزوجينِ تُوجب الفُرقة بينهما وتثبت هذه الفُرقة بنفس الردَّة عند الحنفية فتثبت في الحال، وهي فسْخ لا طلاق عند أبى حنفية وأبى يوسف، وفسْخ النكاح هو رفعه من الأصل وجعله كأن لم يكن، فإذا عاد الزوج المُرتد إلى الإسلام وجَب تجديد عقد الزواج بينه وبين زوجته لزوال العقد الأول وبُطلانه بالردَّة. ووُجوب تجديد العقد إنما هو فيما يكون ردةً وكُفْرًا باتفاق، وأما ما يحتمل الردة وعدمها فإن تجديد العقد فيه احتياط فقط، وفي هذه الحالة لا يُحكم بالردة وإنما يُعَزَّرُ القائل لِتَلَفُّظِهِ بما يحتمل الردَّة زجرًا له وردعًا لغيره.
والظاهر من عبارة الرسالة التي أرسلها هذا الرجل إلى المحكمة كما جاء بالسؤال أنها لا تحتمل التأويل بل هي ردةٌ، فما حكمت به المحكمة أولًا من الردة وفسْخ النكاح وثانيًا من العودة للإسلام والأمر بتجديد النكاح برضَا الزوجتين حُكم صحيح شرعًا، فلا يحلُّ للرجل بعد فسْخ نِكاحه لزوجتيه أن يُعاشرهما بعد الإسلام إلا بعقد جديد برضاهما، وما دام لم يُجدد عقد الثانية إلى أن تُوفِّي فقد انقطعت زوْجِيَّتُهُ لها من وقت الردَّة وحُكم بانقطاعها، ولا حق لها في ميراثه شرعًا، ولا عبرة بما ذكره وَكِيلُها إذ لا دليل يُؤيده فضلًا عن مناقضته لم ذكرته في قضية مُؤخَّر الصداق. والله أعلم.(1/523)
للوليِّ الاعتراض عند عدم الكفاءة
"السؤال": خُطفتْ كريمتي البالغة من العمر 16 سنةً وعُقد قِرانها بالإسكندرية بدون علمي ورغبتي وتولَّت بنفسها العقد، والذي تزوَّجته أقلُّ منها مركزًا وكفاءة في التعليم والحالة المالية والاجتماعية، فهل يحلُّ لي طلب فسْخ هذا العقد؟
"الجواب": للبنت البالغة أن تُزوج نفسها بدون وليٍّ على ما جرى عليه القضاء الشرعي بالديار المصرية، وللأب الحقُّ في الاعتراض إذا كان الزوج غير كُفْءٍ أو كان المهر أقلَّ من مهر المثل لدَى القاضي، والغالب في هذه الحوادث أنها نتيجة انعدام التربية الإسلامية والمُراقبة الدقيقة وإحدى مفاسد الاختلاط والتبِعة في ذلك على الآباء والأمهات. والله أعلم.
الاعتراض بعدم الكفاءة في الزواج للوليِّ الأقرب
"السؤال" من الأردن: هل يحلُّ لأحد الأشقاء في مذهب الحنفية أن يعترض على عدم كفاءة خطيب شقيقته البالغة من العمر عشرين سنة مع مُوافقة والدها وباقي أشقَّائها على الزواج؟
"الجواب": ليس لهذا الأخ حقُّ الاعتراض بعدم الكفاءة في هذه الحالة مع رضا والدها؛ إذ هو مُقدَّم عنه في هذا الحقِّ شرعًا، كما يعلم مِن ترتيب الأولياء على النفس في باب النكاح. والله أعلم.(1/524)
على الزوج أُجرة الطبيب وثمن الدواء
"السؤال": رجل مرضت زوجتُه في بيته، فطالبه أهلها بعِلاجها فرفض ذلك مع قدرته ماليًّا، فهل يجوز ذلك؟
"الجواب": أُجرة الطبيب وثمن الدواء لا تَجِبَانِ على الزوج لزوجته، كما نُصَّ عليه في كتب المذاهب، لكن نقل صاحب فتح الجليل عن الإمام ابن عبد الحكم من فقهاء المالكية أن على الزوج أُجرةَ الطبيب والمُداواة. ونرى الأخذ بهذا القول فيما تقضي الضرورة بإنْفاقه في ذلك، فيُلزَم الزوج به، وهو ما تُوجبه المروءة وجرى به العُرف بين الناس. والله أعلم.(1/525)
صحة زواج مسيحي بزوجة ثانية
"السؤال": مسيحي متزوج، تزوج بزوجة أخرى مسيحية بمُقتضى عقد عرفي ثم أسلم، وأبتْ هذه الزوجة الثانية "المُتزوَّجة بالعقد العرفي" البقاء معه وخرجت عن طاعته.
1ـ فهل زواجه بالثانية وقع صحيحًا في حكم الإسلام أو باطلًا؟
2ـ وهل له عليها جميع حقوق الزوجية من طاعة وخلافها بعد إسلامه مع اعترافها بالعقد العُرفي في دعوى شرعية كانت مرفوعةً عليها منه ثم شُطِبَتْ؟
"الجواب": إن زواج المسيحي قبل إسلامه بزوجة ثانية مسيحية ولو بعقد عُرفي مع بقاء الزوجة الأولى في عِصمته زواج صحيح شرعًا، كما تقرَّر من أن كل نكاح صحيح بين المسلمين فهو صحيح في حق غير المسلمين، وهذا الزواج صحيح عند المسلمين فيُحكم بصحته في حقِّ غيرهم، وإذا رفع أمره إلى القضاء وجب على القاضي أن يحكم بصحته، وإذا استُفتيَ عنه المُفتي يُفتي بذلك لقوله ـ تعالى ـ في سورة المائدة: (وأنِ احْكُمْ بيْنهمْ بمَا أنزلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) حيث أمر الله ـ تعالى ـ نبيه أن يحكم بينهم بحُكم الإسلام الذي أنزله عليه. وهذه الآية على ما ذهب إليه الجمهور مُحكَمة ناسخة للتخيير بين الحكم بينهم بما أنزل الله وبين الإعراض عنهم المُستفاد من قوله تعالى: (فإنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بيْنهمْ أوْ أَعْرِضْ عنْهُمْ) رَوَى مجاهد عن ابن عباس قال: نُسخت من هذه السورة آيتان؛ آية القلائد وقوله: (فإنْ جاءُوكَ فاحكمْ بينهم أوْ أَعْرِضْ عَنْهمْ) فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُخيَّرًا إنْ شاء حكَم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فنزلت (وأنِ احْكُمْ بيْنَهُمْ بمَا أنْزَلَ اللهُ). قال الإمام ابن حزم في "المُحَلَّى": ويُحكم على اليهود والنصارى والمجوس بحُكم أهل الإسلام في كل شيء رضوا أم سخِطوا، أتَوْنَا أو لمْ يأْتُونَا، ولا يحلُّ ردهم إلى حُكم دِينهم ولا إلى حُكمهم أصلًا، وبيَّن أن ذلك من القِوامة عليهم بالقِسْط ومن باب التعاون على(1/526)
البرِّ والتقوى وترك التعاون على الإثم والعدوان اهـ ملَّخصًا.
وفي هذا الحُكم تقريرٌ لمبدأ سيادةِ قانون الدولة وسريانه على جميع رعاياها مهما اختلفتْ دياناتُهم، وهو مبدأ مُعترَف به في التشريع الحديث وهو ما نُفتي به.
وإذا كان عقد زواج المسيحي على زوجته الثانية يستتبع كل آثاره الشرعية لصحته، فبالأولَى إذا أسلم بعد زواجه بها أن يبْقَى ما له عليها وما لها عليه مِن حُقوق الزوجية الصحيحة ثابتًا واجب الأداء، فله عليها حقُّ الطاعة ولها عليه حقُّ النفقة لبقاء الزوجية بينهما، وعلى القاضي أن يأمر كلا منهما بما وجَب عليه للآخر شرعًا. والله أعلم.(1/527)
مُؤَخَّرُ الصدَاق دَيْنٌ كسَائِرِ الدُّيُونِ
"السؤال": تُوفي رجلٌ عن زوجته قبل الدخول بها، فما مقدار ما ترثه في مُؤخَّر صداقها الذي في ذِمَّةِ زوجها ويحلُّ بالوفاة؟
"الجواب": جميع الصدَاق المُؤجَّل يَحِلُّ للزوجة بالوفاة ولو قبل الدخول بها، ويَكون دَيْنًا في تَرِكة الزوج يُؤديه ورثتُه منها إلى زوجته كسائر الديون التي تخرج مِن الترِكة قبل حقِّ الورثة. والله أعلم.(1/528)
الأسئلة في هذا الباب كثيرة والوقائع مُنوَّعة، ولكلِّ سائلٍ عبارته وظروفه وملابساته، والإفتاء فيها كثير تبعًا لها ولا يُغنى فيه جواب عن جواب وقد اقتصرنا على البعض دومًا للاختصار، ومما يلزم التنبيه عليه هنا:
(1) أن الطلاق أبْغضُ الحلالِ إلى الله تعالى: وهو فصْمٌ لعُرَى الزوجية وقطعٌ لعلائقها التي تمتدُّ إلى الأولاد والأُسَر. وله نتائج خطيرة في نظام الأسرة وكيانها. فلا يَسوغ الإقدام عليه إلا إذا اقتضتْه الضرورة ومَسَّتْ إليه الحاجة، وهو إنما شرع في الإسلام كالدواء يتداوى به من وبيل الداء، وإذا أسرف المريض في الدواء أوْدَى به وآذاه. وعند الاضطرار للطلاق يلزم أن يكون تسريحًا بإحسان لا عَنَتَ فيه ولا مُضارة كما قال تعالى (فإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تسريحٌ بإِحْسَانٍ).
(2) وأن الحلِف به ـ كما اعتاده كثيرٌ من العامَّة في المُخاصمات والمُعاملات بل في اللهْو واللعب وتَوَافِهِ الأمور ـ شأن مَن لا خلاق لهم ولا زاجرَ لهم من دِينٍ ولا حاجز مِن خُلق. فعلى العاقل الرشيد حبْس لسانه عنه حتى لا يعتاده في كثير ولا قليل، وصيانة زوجته وأُسرته بل ونفسه من مضَارِّهِ الأخلاقية والاجتماعية والمالية حيث لا ضرورة تدعو إليه.(1/529)
(3) وإن الإفتاء في حوادث الطلاق وخاصة الطلاق المعلق الآتي بيانُه، إنما هو بيان للحُكم الشرعي في الصيغة التي صدرت من المُطَلِّقِ حسبما أوضحه في استفتائه. أما قصد المُطلق الذي يدور عليه الحُكم فمَرَدُّهُ إليه والعُهدة فيه عليه، فإن شاء عاشر زوجته حلالًا فنجا، وإن شاء عاشرها حرامًا فهلك، وكذلك الشأن فيما يذكره أكثر السائلين مِن أن الطلاق صدَر منهم في حالة غضب شديدٍ، يُبَيِّنُ المُفتي الغضب الذي يقع معه الطلاق والغضب الذي لا يقع معه الطلاق ومبلغ كل منهما وضابطه، ويترك للمستفتي تطبيق هذا المبدأ على حادثته التي يعلمها من نفسه، والعهدة عليه في ذلك أيضًا فإن شاء أحيَا نفسه بالحقِّ والصدق، وإن شاء أوْبَقَهَا بالباطل والكذب. والمُفتى والقاضي كلاهما يأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر. والله أعلم.(1/530)
حكم الحلِف بالطلاق
"السؤال": تعود بعض الناس الحلِف بالطلاق في مُعاملتهم مع الناس كقولهم: "عليَّ الطلاق لأفعلنَّ كذا". فهل تنعقد هذه الأيمان ويقع بها الطلاق؟
"الجواب": تعارف الناس في الحلف بالطلاق أن يقول أحدهم: "الطلاق يلزمني لا أفعل كذا" يُريد إن فعلتُه لزمني الطلاق ووقع فيجب أن يجريَ عليهم؛ لأنه صار بمنزلة قوله: "إن فعلت كذا فأنت طالق".
وكذا تعارف بعض أهل الأرياف الحلِف بقوله: "عليَّ الطلاق لا أفعل كذَا". وهو كما قال العلامة ابن عابدين صريح في أنه طلاقٌ مُعَلَّقٌ في المعنى على فعل المَحلوف عليه بغلبة العُرف، وإن لم يكن فيه أداة تعليق صريحًا" اهـ.
فقول الحالف: "عليَّ الطلاق لأفعلنَّ كذا" معناه "إن لم أفعل كذا يلزمُني الطلاق". وقوله: "عليَّ الطلاق لتفعلنَّ كذا" معناه: "إنْ لم تفعلي كذا يلزمني الطلاق" فهو في معنى المُعلق وإنْ لم يكن تَعليقًا صريحًا، ويقع به عند الحنفية إذا تحقَّق الشرط طلاق صريح.
هذا ما جرت عليه المَحاكم الشرعية قديمًا إلى أن صدر القانون رقم 25 لسنة 1929م المستمدة أحكامه من أقوال بعض أئمة الفقه الإسلامي، فنصَّت المادة الثانية منه على أن الطلاق غير المُنَجَّزِ لا يقع إذا قُصد به الحمْل على فعلِ الشيء أو تركه لا غير. فطبقتْها المَحاكم منذ ذلك الحين وقضتْ بأن مثل هذه الصيغ وهى من قبيل الطلاق المُعلق لا يقع بها طلاق إذا قَصد الحالِف بها مُجرد حمْل نفسه أو غيره على فعْل شئ مُعيَّنٍ أو ترْكه، ولم يَقصد بها وُقوع الطلاق عند حُصول الشرط المعلَّق عليه، فكان ذلك رحمة بالناس وخاصة بزوجات العامَّة الذين لا خَلاق لهم، والذين يُسرفون في الحلِف بالطلاق إسرافًا مَمْقُوتًا يدلُّ على عدم تأدبُّهم بآداب الإسلام، وجرى العمل بهذا القانون في القضاء والإفتاء. والله أعلم.(1/531)
البَيْنُونَةُ الكُبْرَى
"السؤال": إذا بانت المرأة من زوجها بينونةً كُبرى بماذا تحلُّ له؟
"الجواب": إذا بانت المرأة من زوجها بينونةً كبرى، سواء كانت قد انقطع حمْلها وحيْضها أو لم ينقطع لا تحلُّ له إلا إذا تزوَّجت زوجًا آخر، ودخل بها دخولًا حقيقيًّا، وذاق عُسَيْلَتَهَا وذاقت عُسيلته ثم طلَّقها وانقضت عِدَّتُها منه، وعند ذلك يجوز له أن يعقد عليها عقدًا جديدًا بمهر جديد كما صرح بذلك في أحاديث الباب، وبدون هذا كله لا تحلُّ للزوج الأول باتِّفاق. والله أعلم.(1/532)
العِدَّةُ للمُطلقة قبل الدُّخول
"السؤال": رجل طلَّق زوجتَه غير المَدْخول بها، فهل يحلُّ لها أن تتزوَّج بآخر قبل انقضاء عِدَّتِهَا؟ وهل مِن حقِّ المُطلِّق أن يُطالبها بنصف ما دفعه من المهر ولو لم يُنفق عليها من حينِ العقْد؟
"الجواب": المُطلقة قبل الدخول والخَلْوَة تَبِينُ مِن زوجها ولا عِدَّةَ عليها، ولها نصف المهر المُسمَّى في العقد قال تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فمَا لكمْ عليهنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتدُّونَهَا) وقال تعالى: (وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) فيجوز لها التزوُّج بآخر عقب الطلاق، وللمُطلِّق الحقُّ في نصف المهر كله لا في خُصوص نصف المدفوع منه، وعليها نفقتها من حين العقْد إلى وقت الطلاق، على ما جرتْ عليه المَحاكم الشرعية في قضائها. والله أعلم.(1/533)
الحلِف بعد طلاقينِ بطلاقٍ مُعَلَّق
"السؤال": حلِف على زوجته بقوله "عليَّ الطلاق منك ما تدخلي البيت ثلاثة شهور" ثم مكَث لحظةً وقال: "طلاقٌ ثلاث ـ سامعةً". وقد سبق له طلاق هذه الزوجة مرتينِ وردَّها فما الحكم؟
"الجواب": إن هذا الطلاق من قبيل الطلاق المُعلَّق كأنه قال إن دخلت البيت مدة ثلاثة شهور فأنت طالق. والحكم فيه أنه إذا كان قصْد الزوج بهذا اليمين مُجرَّد حمْل زوجته على عدم دخول البيت مدة ثلاثة أشهر، لا يقع عليها الطلاق بدخولها فيه أثناء هذه المدة، على ما جرى عليه القضاء والإفتاء بالديار المصرية، على غير مذهب الحنفية. وإذا كان قصْده وُقوع الطلاق إذا دخلت البيت في أثناء هذه المدة لا مُجرد حمْلها على عدم دُخوله فيها وقع الطلاق بدخولها البيت في أثناء هذه المدة، ولسبْق وُقوع طلاقينِ قبل هذا الطلاق بانتْ منه زوجته بينونةً كُبرى، فلا تحلُّ له حتى تتزوَّج زوجًا آخر غيره زواجًا صحيحًا شرعًا، وتُطلق منه وتنقضي عدَّتُها، فالحُكم فيه يدور مع قصد الحالف. وقوله بعد لحظة: "طلاق ثلاث ـ سامعة" بيان لعدَد الطلاق في صيغة الحلِف المُعلق، وهو لو قال أولاً "عليَّ الطلاق ثلاثًا" لم يقع إلا واحد، في حال الوُقوع. والله أعلم.(1/534)
حكم طلاق الغضبان والطلاق المُكَرَّرِ
"السؤال": قال لزوجته في نوبة من نوْبات الغضب وفي لحظة واحدة: أنت طالقٌ طلقةً بائنةً. أنت طالق طلقة بائنةً. أنت طالق طلقة بائنةً. أنت طالق طلقة بائنةً. فهل تحلُّ له بعد ذلك؟
"الجواب": في السؤال لفتٌ إلى أن هذه الصيغ وقعت من الزوج في نوْبةِ غضبٍ، وكثيرًا ما يُشير المُستفتون إلى ذلك لظنِّهم أن الطلاق متى كان في حالة الغضب أيًّا كانت درجته لا يقع، مع أن الأمر ليس كذلك، فإزالةٌ لِلَّبْس ينبغي تحديد الغضب الذي يقع، أوْ لا يقعُ معه طلاق، فنقول ومن الله التوفيق:
طلاق الغضبان
رُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها حديث: "لا طلاقَ في إغلاق" واختلف الأئمة في تفسير الإغلاق، وفسَّره الإمام أحمد بالغضب (كما في زاد المعاد ونيْل الأوطار) وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: "حقيقة الإغلاق أن يُغْلق على الرجل فلا يقْصد الكلام، أو لا يعلم به، كأنه انغلَق عليه قصْده وإرادته" اهـ معناه أنه إذا لم يَنغلِق عليه في ثورة الغضب باب القصد والإرادة أو باب العلْم بالكلام الذي يقوله يقع طلاقه لبقاء قوة الإدراك عنده، وهو أمارةُ عدمِ تأثُّر عقله بالغضب. أما إذا انغلق عليه هذا الباب فإنه لا يقع طلاقه لزوال قوة الإدراك التي بها القصد والعلْم.
وقسَّم ابن القيم في زاد المعاد الغضب ثلاثة أقسام:
"الأول" ما يُزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما يقول، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
"الثاني" أن يكون في مباديه بحيث لا يمنع صاحبه من تصوُّر ما يقول وقصده، وهذا يقع طلاقه بلا نزاع.
"الثالث" أن يستحكم ويشتدَّ به فلا يُزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نِيَّتِهِ بحيث يندم على ما فرَط منه إذا زال الغضب، فهذا محلُّ نظر وعدم الوقوع في هذه الحالة قويٌّ مُتَّجِه. اهـ.(1/535)
وحاصله أن الغضب مُتفاوت الدرجات. والذي لا نزاع في عدم وقوع الطلاق معه هو الذي يزول به الإدراك، فلا يقصد صاحبه ما يقول ولا يشعر به، وهذا هو الذي عناه شيخ الإسلام في تفسير الإغلاق، بما سبق ذكره، وهو مَحمل حديث عائشة: "لا طلاقَ في إغلاقٍ" فإذا بقِيَ معه نوع مِن الإدراك ولكن انتفى القصْد لمَا يقول والشعور به، وأعقبه الندم على ما فرَط منه من غير قصد، فهذا هو مجال النظر والاجتهاد، والراجح عدم الوقوع في هذه الحالة، وخالفه شارح الغاية فجزم فيها بالوقوع.
وقد استظهر "ابن عابدين" في ردِّ المحتار أنه لا يلزم في عدم وُقوع طلاق الغضبان أن يكون بحيث لا يعلم ما يقوله ولا يقصده، كما اقتضاه كلام ابن القيم وشيخه، بل يُكتفَى فيه بغَلبة الهذَيان عليه وخلْط جِدِّهِ بهَزْله، فالمناط غلبة الخلَل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، وإنْ كان يعلم ما يقوله ويُريده؛ لأن هذه المعرفة والإرادة غير مُعتبرة لعدم صُدور أقواله وأفعاله عن إدراكٍ صحيح، كما لا يُعتبر من الصبيِّ العاقل. اهـ.
فجعل مُجرد نقْص إدراكه بسبب الغضب، الذي نشأ عنه خللُ أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته مُقتضيًا لعدم وقوع طلاقه، وإنْ بقِي معه القصْد والعلْم لعدم الاعتداد بهما لكونهما ناشئينِ عن إدراك غير تام.
أمَّا المناط عند ابن القيم وشيخه فهو انعدام القصْد والعلم ووُجودهما، فإن انعدمَا مع زوال العقل بالكليَّة لم يقع الطلاق باتفاق، وإنْ انعدمَا مع عدم زوال العقل بالكلية فهو محلُّ نظر، والراجح عندهما عدم الوقوع، وإن وُجدا وقع الطلاق بلا نزاع.(1/536)
وظاهرٌ أن التمييز بين حالة وأُخرى من حالات الغضب وإنْ أمكن في الحالات الظاهرة يَعسر في غيرها، لا على المُفتي الذي لم يُشاهد الحادثة فحسْب بل على الناس كافَّةً، عدَا الذي ألمَّ به الغضب، فإنه هو الذي يستطيع أن يُدرك مبلغ تأثُّر عقله ومَداركه به، ويحدث عنه ويَصفه وصْفًا دقيقًا، يَسُوغ للمُفتي أن يبنيَ عليه فَتْواهُ بوقوع الطلاق أو عدَم وقوعه إذا صدق القول ووضح البيان، فإذا لم يُبيِّن السائل ذلك بيانًا شافيًا وافيًا، فحسب المفتي أن يُبيِّن له مناط الوقوع وعدم الوقوع، ويترك له تطبيق أيهما على حالته الخاصَّة التي يَعرفها من نفسه، فإنْ أصاب فالخيرُ أصابَ، وإلَّا فعليه وحْده وِزْرَ الخطأ والتقصير. والله أعلم.
حُكْم الطلاق المُكرر في مذهب الحنفية
وبافتراض أن حالة الغضب في حادثتنا لم تبلغ الدرجة التي لا يقع معها الطلاق نقول: إن الصيغة الأُولى التي تلفَّظ بها الزوج يقع بها في مذهب الحنفية طلاقٌ واحد بائنٌ ما لم يَنْوِ الثلاث، والصيغ الثلاث التي تلفَّظ بها عقب الأولَى تباعًا إذا قَصَد بالثانية والثالثة منها إنشاء طلاقينِ آخرين لزوجته المَدخول بها وقع الكلُّ وبانت منه زوجته بينونةً كُبرى، وإذا لم يقصد ذلك بأنْ قصَد تأكيد الطلقة الأولى أو الإخبار عنها أو لم يقصد شيئًا فلا يقع بهما طلاقٌ آخر ديانةً، أيْ فيما بينه وبين الله تعالى، ولكن يقع بهما طلاقانِ آخرانِ مُتَمِّمَانِ للثلاث في القضاء. ففي الدُّرِّ وحاشِيَتِهِ: "ولو كرَّر الطلاق بأن قال لزوجته المدخول بها أنت طالق، أنت طالق، أو قد طلَّقتُك، وقع الكُلُّ قضاءً. وإنْ نوَى بالثانية التأكيد لم يقع دِيانةً".اهـ ومثله في واقعات المُفتين وفيها: لو قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقال: عَنَيْتُ بالثانية والثالثة إفهامها بالطلقة الأُولى صدق ديانة، وفي القضاء لا يصدق، وتُطلَّق ثلاثًا.(1/537)
وفي الدُّرِّ وحاشيته: لو قال لها أنتِ طالقٌ بائنٌ، تقع طلقةً بائنةً واحدةً، إذا لم ينوِ ثلاثًا لوصفه الطلاق بالبينونة، وقال الشافعي تقع طلقة واحدة رجعيةً لو كانت مخولًا بها. اهـ.
ومثله لو قال لها: أنت طالقٌ طلقةً بائنةً كما تُفيده عبارةُ البدائع، هذا هو الحكم في مذهب الحنفية. والله أعلم.
حكمُ هذا الطلاق في القانون
أما على ما درجت عليه المحاكم الشرعية والإفتاء بالديار المصرية بعد صدور القانون الشرعي رقم 25 سنة 1929 م فالواقع بالصيغة الأولى طلاقٌ رجعيٌّ واحد والواقع بالصيغة الثانية طلاقٌ رجعيٌّ واحد، وبالثالثة طلاقٌ مُتَمِّمٌ للثلاث، وبذلك تَبِينُ مِن زوجها بينونةً كبرى، وهذا في حكم القضاء. ولكنْ إذا كان الواقع أن الحالف قصد بالثانية والثالثة التأكيد لا إنشاء طلاقينِ فلا يقع بهما شيءٌ ديانةً، فإذا لم يكن الزوج قد طلَّق زوجته قبل هذه الحادثة طلقتينِ بحيث كانت الصيغة الأُولَى أولَّ طلاقٍ صدر منه، فله الحقُّ شرعًا في مُراجعتها من هذه الطلقة ما دامت في العِدَّة. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.(1/538)
طلاق مُعلَّقٌ بعد طلقتينِ
"السؤال": طلَّق زوجته مرتينِ طلاقًا رجعيًّا، ثم راجعها فيهما، وفي المرة الثالثة قال لها: "إنْ جئتُ ووجدتُك بالمنزل تَكوني طالقًا" ولمَّا حضر وجدها في المنزل فهل وقع بهذا طلاق ثالثٌ؟
"الجواب": هذه الصيغة طلاق معلَّق، فإنْ كان قصْد الزوج مُجرَّد حمْل زوجته على عدم الوُجود بالمنزل عند مَجيئه إليه دون وُقوع الطلاق عليها عند ذلك لا يقع به طلاق على ما جرى عليه العمل في القضاء والإفتاء أخيرًا، وإنْ كان خلاف مذهب الحنفية، وإنْ كان قصده وُقوع الطلاق إذا وجدها المنزل عند حضوره به يقع به طلاق وهو الطلاق الثالث، فتَبِينُ منه زوجته بينونةً كبرى، بحيث لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا، يترتب عليه حِلُّهَا له شرعًا، والله يعلم ما تُكِنُّهُ الصدورُ. والله أعلم.(1/539)
طلاق مُعلَّق
"السؤال": غضبتْ زوجتُه وتأهَّبتْ للخروج من المنزل قاصدةً الذهاب إلى أهلها في بلدة أخرى فقال لها ما نصُّه: "لو خرجتِ تكونين خالصةً" فقالت: "وما له" فقال لها ما نصُّه: "عليَّ الطلاق بالثلاثة لو خرجتِ ما تخشِّي البيت إلا ميتة" يُريد ما ترجع إليه طوال حياتها، فلم تعبأ بقوله، وخرجتْ من المنزل وذهبت إلى موقف السيارات للذهاب إلى بلْدتِها، فخرج وراءها بعض النِّسْوة، وأقنعْنها بالعُدول عن عزْمها فعادت إلى المنزل، فهلْ وقع عليها الطلاق بهذه الأيْمان؟ مع العلْم بأنه لم يقصد وُقوع الطلاق عليها إذا خرجتْ من المنزل ولا إذا ذهبت إلى أهلها، ولم تتَّجه نِيَّتُه إلى ذلك، وإنما قصْده منعها من الخروج، والذهب إلى أهلها وحدها.
"الجواب": إذا كان الواقع كما ذكر بالسؤال من حيث الصيغة والقصْد فلا يقع طلاق إذا خرجتْ، لا بالصيغة الأولى التي علَّق فيها الطلاق صريحًا على خروجها من المنزل، ولا بالصيغة الثانية التي هِي من قبيل الطلاق المعلَّق أيضًا؛ لأن القصد في الصيغتينِ مجرد حمْل زوجته على عدم خُروجها من المنزل دون وقوع الطلاق عليها إذا خرجت، كما ذكر بالسؤال، وذلك طبقًا لمَا جرى عليه العمل أخيرًا في القضاء والإفتاء بالديار المصرية، وإنْ كان خلاف مذهب الحنفية كما تقدَّم. والله أعلم.(1/540)
طلاقٌ مُعلَّق
"السؤال": قال لزوجته: "عليَّ الطلاق لا تدخل والدتك منزلي إلا بإذني" ثم خرج وعاد بعد نصف ساعة فوجد والدتها بالمنزل، فسأل زوجته عن ذلك، فأخبرته أن والدتها دخلتْ المنزل بدون علمها هي ولا علْم والدتها باليمين وذلك أثناء اشتغالها بمهمة بيتها، وأيَّدها في قولها جيرانها. فهل وقع الطلاق؟
"الجواب": هذه الصيغة من قَبيل الطلاق المُعلَّق، إذ معناها: إنْ دخلتْ والدتُك المنزل بغير إذني يَلزمني الطلاق أو الطلاق واجب عليَّ. فإذا لم يكن للحالف وَطَرٌ في الطلاق، وإنما قصَد مجرد الحمْل على عدم دخول أم زوجته منزله بغير إذنه لا يقع بها طلاق على ما جرى عليه العمل الآن في المحاكم الشرعية والإفتاء خلافًا لمذهب الحنفية. وأما إذا قصَد وقوع الطلاق إذا حصل الدخول بغير إذنه فيقع به طلاقٌ رجعيٌّ، إن لم يكنْ مسبوقًا بطلقتينِ. والله أعلم.(1/541)
رطلاقٌ بلفظِ: مُحرَّمة كأُمِّي وأُختي
"السؤال": قال لزوجته مُخاطبًا لها بسبب عدم طاعتها له: "حرَّمْتُك كأُمي وأُختي" فما الحكم في ذلك شرعًا؟
"الجواب": يقع بهذه الصيغة طلاقٌ واحدٌ رجعيٌّ، فله مُراجعتها ما دامت في العِدَّة، إنْ لم يكن هذا الطلاق مَسبوقا بطلقتينِ على ما جرى عليه قانون المحاكم الشرعية رقم 25 لسنة 1929م وهو المعمول به في الإفتاء، وإنْ كان مذهب الحنفية وُقوع طلاق بائن بهذه الصيغة، فإنْ كانت الزوجة قد انقضتْ عدَّتُها بعد هذا الطلاق كان لزوجها أن يُعيدها لعِصْمتِه بعقد ومهر جديدينِ بإذنها ورضاها. والله أعلم.(1/542)
حلف بالطلاق بلفظِ: "على الحرام"
السؤال:
1ـ قال لزوجته أولًا: "عليَّ الحرام لا تذهبي لمنزل فلان" ثم بعد مدة أرادت الدخول فيه ناسيةً اليمين، وقبل أن تدخل بجميع جسمها ذكَّرتْها واحدةٌ باليمين، فامتنعت عن الدخول في المنزل.
2ـ ثم قال لها ثانيًا: "لو شالت بنتك الولد الصغير عليَّ الطلاق لأضربَنَّكِ ضرْبًا مُبرحًا" فشالت البنت الولد الصغير فضربها.
3ـ ثم قال لزوجته ثالثًا في حالة غضب شديد بعد سماعه شتائمَ منها: "كُوني طالقةً"
فما الذي وقع مِن هذه الأيْمان، مع العلم بأن المأذون رأى وُقوع اليمينين الأوَّلينِ وردَّها لزوجها؟
"الجواب":
1- قوله في الحالة الأولى: "عليَّ الحرام" قد تعارفه العامة في الطلاق، ومعنى الصيغة فيها "إذا ذهبت لمنزل فلان يلزمني الطلاقُ" فهي من قبيل الطلاق المعلق، وطبقًا لمَا جرى عليه القضاء أخيرًا في المحاكم الشرعية يُنظر؛ فإن كان قصْده مجرد حمْلها على عدم الذهاب إليه، وتَهديدها بالطلاق كي لا تذهب، لا يقع بها طلاق إذا ذهبت، وإنْ كان قصْده وُقوع الطلاق إذا ذهبتْ، يقع عند حصول الشرط. وفي هذه الحالة إذا كان مراده بالذهاب مجرد التوجُّه إليه يقع الطلاق إذا توجهت إليه، وإن كان مراده به الدخول فيه كما هو الظاهر والمعروف، لا يقع إلا بالدخول فيه فعْلًا، ولم يتمّ في هذه الحالة الدخول فيه فعلًا، كما جاء بالسؤال فلم يتحقق الشرط فلا يقع الطلاق، ولكنها إذا دخلتْه بعد ذلك وقع الطلاق.(1/543)
2ـ والصيغة الثانية من قبيل الطلاق المعلَّق، وحاصل اليَمين كما يُفهم منه عُرفًا "إنْ حملتْ بنتُك الولد الصغير لأضربنَّكِ ضربًا مُبرحا، وإنْ لم أضربك هذا الضرب يلزمني الطلاق" فكان الطلاق معلَّقًا على عدم ضربها في حالة حمل البنت للولد. وقد حصل الضرْب فعلًا في هذه الحالة كما صرح به في السؤال، فلا يقع بهذه الصيغة طلاق، حتى لو كان قصْد الحالف وُقوع الطلاق عند تحقُّق الشرط وهو عدم الضرب في حالة الحمْل المذكور.
3ـ وأما الصيغة الثالثة فهي طلاقٌ مُنجَّز، كما هو صريح لفظه. فإذا كان غضبه قد بلغ حدًّا يغلب فيه الخلَل في أقواله وأفعاله، ويَختلط جدُّه بهزْله، لم يقع عليه بهذه الصيغة شيءٌ، وإنْ لم يبلغ هذا الحدَّ، ولم يصدر منه أيمانٌ غير ما ذكر بالسؤال وقع بهذه الصيغة طلقةٌ أولَى رجعية في الحالة التي لا يقع فيها في الحادثة الأولى طلاق، وطلقة ثانية رجعية في الحالة التي يقع فيها في الحادثة الأولى طلاق. وله مُراجعتها ما دامت في العِدَّة، فإذا انقضت لا يعود إليها إلا برِضاها بعقد ومهر جديدينِ.
وهذا الإفتاء من الوجهة الشرعية البحْتة، وأما من الوجهة الرسمية فلا شأن لنا بها لعدم معرفة ما دَوَّنَهُ المأذون في دفْتره الرسمي وهو الحُجة الرسمية أمام القضاء. والله أعلم.(1/544)
طلاقٌ مُعلَّق في حالة غضبٍ
"السؤال": قال مخاطبًا زوجته وأمه في حالة غضب: "عليَّ الطلاق لأذبح واحدة منكما" ولم يحصل منه شيءٌ، فما حكم هذا اليمين؟
"الجواب": إذا كانت حالة الغضب قد بلغت بالحالف مبلغًا يغلب عليه فيه الخلَل في أقواله وأفعاله واختلاط الهزْل بالجِدِّ، وإنْ كان يعلم ما يقوله ويقصده إذ قصده ليس ناشئًا عن إدراك صحيح، كما في الصبيِّ العاقل، لا يقع بهذه الصيغة شيءٌ، وإذا كانت الحالة لم تصل إلى هذا الحد، والصيغة كما هو ظاهر من قبيل الطلاق المعلق، إذْ حاصلُها: "إن لم أذبح واحدة منكما يلزمني الطلاق" فإنْ كان قصْده مجرد حمْل نفسه على ارتكاب هذه الجريمة وهى الذبْح، لا يقع طلاقٌ أصلًا طبقًا لمَا جرى عليه القضاء والإفتاء أخيرًا بالديار المصرية، وإنْ كان خلاف مذهب الحنفية، وإنْ كان قصده وُقوع الطلاق إذا لم يقع منه ذبْح عقب الحلِف فبِمُضيِّ الوقت الذي يسَع ذلك وعدم ارتكاب هذه الجريمة يقع طلاقٌ رجعيٌّ واحد إنْ لم يكن مسبوقًا بطلقتينِ.
وإنْ كان قصْده وُقوع الطلاق إذا لم يحصل منه ذبح لواحدة منهما في المستقبل غير مُقيَّد بوقت مُعين، فلا يقع الطلاق إلا في آخر لحظة من عُمره حيث تحقَّق العجز عن الفعل، ويقع طلاقًا رجعيًّا واحدًا إنْ لم يكن مسبوقًا بطلقتينِ، فلْينظر السائل في حاله التي يعرفها من نفسه ليَقف على الحُكم مما ذكَر، والله يعلَم السِّرَّ وأخفى. والله أعلم.(1/545)
طلاق مُعلَّق
"السؤال": رجل قال لزوجته: "عليَّ الطلاق لا تذهبي إلى أهلك" ثم أخذها وذهب بها إلى أهلها، ثم عاد بها، وبعد مدة طلبت منه أن تذهب إلى أهلها لتَضع عندهم فقال: "عليَّ الطلاق لا تضعي إلا في بيتي" ولكن والديه أمَراها بالذهاب لتضع في بيت أهلها فذهبت إليه، وبعد الوضع وعوْدتها إلى بيت زوجها حصل بينه وبينها نِزاعٌ استدعى حضور والدها، ولمَّا وقف على النزاع علِم أن الحقَّ بيدها فأراد أخذها إلى بيته فقال زوجها: "عليَّ الطلاق لا تخرجي ولو تقطعتِ إِرَبًا" ولكن والدها أخذها. فما حكم هذه التطليقات الثلاث هل تقع أم لا؟
"الجواب": إنْ هذه الصيغ الثلاث من قبيل الطلاق المعلق، فإذا كان الحلِف بعد تاريخ صدور قانون رقم 25 لسنة 1929م وكان قصْد الحالف مجرد منع زوجته من الذهاب إلى بيت أهلها في الصيغة الأولى، وحمْلها على الوضع في بيته في الثانية، ومنعها من الخروج منه في الثالثة لم يقع عليها بهذه الصيغ طلاق، وإنْ حصل المَحلوف عليه، وكذلك إنْ كان قصده في الأولى الطلاق إن ذهبتْ وحدها وهو الظاهر، أما إذا كان قصْده في الأولى الطلاق إن ذهبت ولو معه، وفي الثانية الطلاق إنْ وضعت في غير بيته، وفي الثالثة الطلاق إن خرجتْ، بانتْ منه بينونةً كُبرى لا تحلُّ له حتى تنكِح زوجًا غيره. والله أعلم.(1/546)
حلِف بالطلاق حصل قبل الدخول
"السؤال": تزوَّجتُ بِكْرًا، ولم أدخل بها إلى الآن، ثم حلفتُ يمينًا بصيغة: "عليَّ الطلاق ثلاثًا، من بيتي ما أعمل هذا الشيءَ ـ مشيرًا إلى شيء معين ـ ثاني مرة ولا أقربَه" وقد رجعتُ إليه بعد ذلك، حيث لم أستطع الامتناع عنه فهل وقع هذا الطلاق؟
"الجواب": هذه الصيغة من قبيل الطلاق المعلق، فإن قصد الحالف وُقوع الطلاق عند حصول الشرط وقد حصل وهو عمل هذا الشيء، وقع طلاق واحدٌ بائن، لكونه قبل الدخول، وإنْ قصد الحالف مجرد حمْل نفسه على عدم فعل هذا الشيء وقد فعله، لا يقع طلاقه أصلًا، طبقًا لما جرى عليه العمل الآن في القضاء الشرعي، تَيسيرًا على الناس، وإنْ كان خلاف مذهب الحنفية. والله أعلم.(1/547)
طلاق معلق
"السؤال":
(1) حدث نزاعٌ بين زوجته وأُختها، وسعى بعضُ أقاربِهما بالفساد بينهما، فحلَف يمينًا بالطلاق ثلاثًا ألَّا يدخل أحدٌ من أقارب زوجته الشقة التي يسكنها، فهل يقع الطلاق إذا دخل أحدٌ منهم الشقة بعد أن كفَّ عن ذلك السعْي؟ وهل يختصُّ الحلف بالساعِينَ بالفساد من الأقارب، أو يشمل جميعهم، مع العلْم بأنه نقل إلى شقةٍ أخرى.
(2) حلف أن لا يأخذ شيئًا من الزيت الذي في البطاقات الخاصة بأهله وأهل زوجته، فهل يَحنث إذا أكل طعامًا صنعوه بالزيت الخاص بهم؟
"الجواب":
(1) إن بساط اليمين الأول التحذير من دُخول أقارب زوجته الساعينَ بالفساد لا غيرهم إلى المَسكن الخاص به وبزوجته لا خصوص هذه الشقة المُعيَّنة. وإذا كانت صيغة اليمين طلاقًا معلقًا، كما هو الظاهر من السؤال، فحُكمها طبقًا لمَا جرى عليه القضاء، أن الحالف إذا قصد مُجرد حمْل زوجته على عدم تمكين أحدٍ من أقاربها المفسدين من الدخول في مسكنه لا يقع بها طلاق، وإنْ حصل دخول أحد منهم، وإنْ كان القصد وقوع الطلاق إذا حصل الدخول وقع بالدخول طلاقٌ واحد رجعيٌّ، إذا لم يكن مسبوقًا بطلقتينِ، فله مراجعتها في العِدَّة، فإذا انقضت جاز له زواجها برِضاها بعقد ومهر جديدينِ.
(4) لا يحنث في يَمينه بأكل هذا الطعام، والأيمان مَبنيَّة على العُرف، والعُرف قاضٍ بذلك فضلًا عن اللغة. والله أعلم.(1/548)
طلاق معلق
"السؤال": رجل قال لامرأته: "عليَّ الطلاق بالثلاثة إذا قلتُ لك على شيء ولم تفعليه تَكوني مُطلقة لا يُحللك ولا يُحرمك شيخٌ" ومضى على ذلك مدة، وهي مُصابة بكثرة السهْو وضعف الذاكرة، وربما تنْسَى وتُخالف ذلك. فما رأي الشرع في هذا اليمين؟
"الجواب": الظاهر من صيغة الحلف في هذا السؤال أنَّ مَقصودة مجرد حثِّها على فعْل ما يأمرها بفعله من الأشياء فهو من قبيل الطلاق المُعلق الذي لا يقع به شيء ما دام القصْد منه مجرد حمْلها على ذلك الفعل سواء فعلتْ أم لم تفعل، فإنْ قصد به وُقوع الطلاق إذا لم تفعل ما أمرها به، ولم تفعله في الزمن المناسب للفعل، وقع طلاقٌ رجعيٌّ ما لم يكن مسبوقًا بطلقتينِ. والله أعلم.(1/549)
طلاق مُنَجَّزٌ
"السؤال": في ساعة غضبٍ قلت لزوجتي: "أنت طالق ثلاث مرات مُتفرقة" وكنتُ غير مُتمالك لأعصابي، فهل لهذه الزوجة من عوْدة من غير أن تَنكح زوجًا غيري؟
"الجواب": هذه الصيغة طلاق مُنجز مُكرَّر فيه لفظ الطلاق ثلاث مرات فيقع بالثالث طلاقٌ بائن بينونةً كبرى لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره، ويدخل بها دخولًا حقيقيًّا، ثم يُطلقها أو يموت عنها وتنقضي عِدَّتها، وذلك في حكم القضاء، أما ديانةً فإن كان ينوِى بالصيغتينِ الثانية والثالثة تأكيد الطلاق الأول، لم يقع إلا طلقة واحدة رجعية ما لم تكن مسبوقةً بطلقتينِ وإنْ كان يقصد بكل صيغة إنشاء طلاقٍ، فالحكم فيها كالحكم في القضاء.
ثم إن الغضبان الذي لا يقع طلاقه هو الذي وصل به الغضب إلى أن اختلط جِدُّهُ بهزْله، وغلب عليه الخلل في أقواله وأفعاله، وإنْ كان يعلم ما يقول ويقصده، فإذا لم يكن قد وصل به الغضب إلى هذا الحدِّ، وقع طلاقه على نحو ما بيَّنَّاه. والله أعلم.(1/550)
طلاق بلفْظ الظِّهار
"السؤال": قلتُ لزوجتي أمام أناس كثيرين: "رُوحي أنتِ مُحرَّمة عليَّ كأمي وأختي" وكررتها ثلاث مرات، وكنتُ أقصد طلاقها. وقد سبق أن طلقتها قبل ذلك مرتينِ، ورددتُها فيهما شفاها دون تقييد لدَى المأذون، فما هو الحكم الشرعيُّ؟
"الجواب": يقع بهذه الصيغة طلقةٌ رجعية واحدة على ما يُؤخذ من عبارات الفقهاء. وبما أن الحالف قد سبق منه طلاقانِ وردَّهما شفاها، فإذا كانا مُنجَّزين أو معلَّقين وقصد الطلاق بكل صيغة إذا وقع المحلوف عليه فيكون الواقع باليمينِ المذكور طلاقًا مكملا للثلاثِ، وبذلك تَبِينُ منه زوجته بينونةً كبرى، وعدم التدوين في الوثيقة للطلاقينِ السابقين لا تأثير له، بل يقع الطلاق سواء دون فيها أو لم يُدَوَّنْ. والله أعلم.(1/551)
طلاق ثلاث بلفْظ واحد
"السؤال" من مكة المكرمة: رجل طلق زوجته ثلاثًا بلفظ واحد وهى حامل، وكان في حالة انزعاج وقت الطلاق، وبعد الطلاق بثلاثة أشهر أو أكثر وضعت ولدًا ولم يُعاودها إليه، فما حكم هذا الطلاق؟
"الجواب": إذا كان الأمر كما ذُكر بالسؤال فالقضاء المصري والإفتاء على أنه إذا كان الانزعاج لم يبلغ بالزوج درجةً يختلط فيها قوله ويَضطرب فعْله وجِدُّهُ وهزْله، وقع بهذه الصيغة طلاقٌ واحد رجعيٌّ، إن لم يكن مسبوقًا بطلقتينِ، ولكنه وقد ترك مراجعتها حتى انقضت عِدَّتُها بالوضع، فلا تحلُّ له إلا بعقد ومهر جديدينِ. والله أعلم.
(19) طلاقات ثلاثة منجزة
"السؤال": من الإسكندرية ـ وقع بينه وبين زوجته مُشادَّة فقال لها: "أنت طالق"، ثم راجعها، وبعد سنة حصلت مشادَّة أخرى، وكان في حالة نفسية حادَّة، فخرج من فمِه عفوًا لفظ: "أنت طالق" ثم حصل خلاف بينهما فقال لها ثالثًا: "أنت طالق" فما الحكم شرعًا.
"الجواب": إن الواقع بالصيغة الأولى طلاقٌ رجعيٌّ، وأما الصيغة الثانية فإن كان أثناء التلفظ بها قد بلغ الحالة التي يغلب عليه فيه الخلَل في أقواله وأفعاله. ويخلط جِدَّه بهزْله لا يقع بها طلاقٌ على ما حقَّق العلامة ابن عابدين، وإنْ لم يبلغ هذا الحدَّ وقع بها طلاق ثانٍ رجعيٌّ.
وأما الصيغة الثالثة فالواقع بها طلاق مُتَمِّمٌ للثلاث في حالة عدم العضب في الطلاق الثاني، وطلاقٌ ثانٍ رجعيٌّ في حالة الغضب في اليمين الثانية فله مُراجعتها مادامت في العِدَّةِ إنْ لم يسبق منه طلاقٌ آخر، والله أعلم.(1/552)
الشكُّ في الطلاق والطلاق المُعلق
"السؤال": قسْم عابدين مصر ـ قال لزوجته: "عليَّ الطلاق ما أنت قاعدة معي في هذه الليلة" فأخذها وذهب بها إلى منزل والدها وباتت به هذه الليلة، وقال الزوج أنى لم أقصد بذلك طلاقَها، ثم في يوم آخر حصل نزاع بينهما، فحلف يمينًا لا يدرى إنْ كان بالله العظيم ثلاثًا أو بالطلاق ثلاثًا، وكفَّر عن هذا اليمين بالصيام لترجيح الأول لدَيه، ثم في يوم آخر حصل نزاع بينهما فقال لها: "عليَّ الطلاق منك ثلاثة وتبقي زَيِّ أمي وأختي لازم أَفَضِّي الأُودة".
وكان في حالة غضب شديد أخرجه عن صوابه، ولم يذهب لإخلاء الغرفة بالنسبة لغضبه. فما حكم هذه الأيمان شرعًا؟ وهل وقع الطلاق بها أم لا؟
"الجواب": الظاهر من الصيغة الأولى أن الحالف قصد بها منع زوجته من البقاء معه في منزله هذه الليلة التي حلف فيها، وحيث إنه ذهب بها في هذه الليلة إلى منزل والدها فلم تُقِم فيها بمنزله، فلا يقع عليه الطلاق بهذه الصيغة؛ لعدم الحنث في اليمين.
وأما حلفه ثانيًا فلا يقع به الطلاق؛ لأن الطلاق لا يقع بالشكِّ.
وأما حلفه ثالثًا بالصيغة التي ذكرها، وقال إنها صدرت منه في حالة غضب شديد، أخرجه عن صوابه، فهي من قبيل الطلاق المُعلق فإذا كان قصده بهذا اليمين الحمْل على إخلاء الغرفة من الأثاث لا طلاق زوجته، إذا لم يرفع الأثاث منه، فلا يقع به طلاق. وإذا كان قصده وُقوع الطلاق عند عدم إخلاء الغُرفة، أيْ: فورًا كما هو الظاهر، فإنه يقع به طلاقانِ رجعيَّان قضاء، وطلاق واحد ديانة عند قصْد التأكيد إذا لم تَخْلُ الغرفةُ فورًا طبقًا للمادة الثالثة من القانون وذلك لتكريره الطلاق بقوله أولًا: "عليَّ الطلاق منك ثلاثة". وثانيًا بقوله: " تبقي زَيِّ أمي وأختي".(1/553)
وتكرير الطلاق يُوجب وقوع تطليقتينِ على الزوجة المدخول بها إذا حصل بلفظ العطف أو بدونه عند الحنفية وجمهور الأئمة، ومَحَلُّ وقوع الطلاق في هذه الحالة إذا لم يبلغ الغضب بالحالف الحدَّ الذي يغلب عليه فيه الخلَل في أقواله وأفعاله، ويخلط الجد بالهزْل، فإن بلغ هذا الحدَّ لا يقع طلاقه على ما حقَّقه العلامة ابن عابدين في بحث طلاق الغَضبان. والله أعلم.(1/554)
طلاق مُعلق
"السؤال": من القليوبية ـ حلفتُ على زوجتي بالطلاق، ورددتُ اليمين، ثم حدث شجارٌ بيني وبين أحدِ أبنائي بعد مُضِيِّ أكثر من خمس سنوات فحلفت بالطلاقِ أن يخرج من بيتي وألَّا يُعاشرني، ولكن الولد لم يخرج من البيت فخرجتُ أنا من البيت وأقمتُ ببيت آخر حتى لا أُعاشره، ومِن يوْمها لا أعامل زوجتي كزوجة، علمًا بأني لم يكن بينها وبيني شيء أثناء المُشاجرة. فما الحكم في ذلك؟
"الجواب": الظاهرُ من الطلاق الذي حلف به السائل أنه من قبيل الطلاق المُعلق فإذا كان قد قصد بالصيغة التي حلَف بها حمْل ابنه على الخروج من البيت وعدم مُعاشرته فلا يقع بها طلاق، وإنْ بقِيَ ابنه في البيت وعَاشره، أما إذا قصد به وقوع الطلاق على زوجته إنْ لم يخرج ابنه من البيت وعاشره فإنه يقع بها طلقةٌ ثانية رجعية عند وُجود المَحلوف عليه، وله مُراجعتها مادامت في العدَّة بدون إذنها ورضاها، والله أعلم.(1/555)
طلاق معلق
"السؤال": صدر منى طلاقٌ في مواجهة زوجتي بقولي لها: "تكوني طالقًا إذا خرجتْ ابنتِي دون علْمي أو إذني " وكان في نِيَّتِي التهديد فقط.
ثم انتهزت كريمتي فرصةَ سفري وخرجتْ بدون علمي.
وفي مرة ثانية حصلت مشادةٌّ بيني وبين زوجتي جعلتْني في حالة غضب شديد فقلت لها. أنت طالقٌ قبل ذلك. "حسب المبين" وخُذى منى ستينَ طلاقًا، وكنتُ في حالةٍ شاعرًا بما أقوله.
ومن يوم ذلك تجنَّبتُ زوجتي، ولشدة غضبى وتأثير ألفاظها السابقة قرَّرتُ في نفسي، إنْ كان لها رجعة أُطلقها عقب تلك الرجعة مُباشرة، وتلفَّظتُ بذلك بيني وبين نفسي. فما رأى فضيلتكم؟
"الجواب": الصيغة الأولى من قبيل الطلاق المُعلق وقد قال الحالف إنه قصد بها منْع ابنته من الخروج، ولم يقصد الطلاق فلا يقع عليه بهذه الصيغة طلاق، وإن خرجتْ ابنته من المنزل بدون علمه.
أما الصيغة الثانية، فإذا كان يقصد بها الإخبار عن الطلاق الأول فلا يقع بها شيء، أما باقي الصيغة فإنه يقع بها طلقة واحدة رجعية طبقًا للمادة الثالثة من القانون فله مُراجعتها ما دامت في العدَّة، ولم يسبق وقوع طلاقينِ منه عليها. ...
أما ما ذكره أخيرًا من أنه إذا كان لها رجعة فيُطلقها عقب الرجعة مُباشرة، فهو وعْد بالطلاق، فإذا لم يُطلقها عقب المُراجعة، لا يقع عليه شيء بهذه الصيغة. والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/556)
طلاق معلق على الزواج بأُخرى
"السؤال": أوقعتُ على زوجتي طلقتين، ثم صدر منى يمين ثالث بلفظ "عليَّ الحرام منكِ إذا تزوجتُ أنا فتكوني طالقة". فما الحكم في ذلك؟
"الجواب": إن هذه الصيغة الثالثة من قبيل الطلاق المُعلق، فإذا كان قصْد الحالف مجرد حمْل نفسه على عدم الزواج من أخرى لم يقع طلاقٌ إذا تزوج، وإذا كان قصده وقوع طلاق زوجته إذا تزوَّج من أخرى يقع الطلاق إذا حصل الزواج، وفي هذه الحالة تَبِينُ منه امرأته الأولى بينونةً كُبرى لسبْق وقوعِ طلاقينِ على هذه اليمين الثالثة، والله أعلم.(1/557)
طلاق منجز بلفظ ثلاثة
"السؤال": ـ الكِلْح غرْب إدْفو ـ حدث بينه وبين زوجته نزاع فقال لها: "مُطلَّقةٌ بالثلاثة. بالثلاثة) فما حُكم هذا الطلاق شرْعًا؟
"الجواب": عملًا بقانون المَحاكم الشرعية رقم: 25 لسنة: 1927 م الذي اختير للفتوى يقع بالصيغة المَذكورة طلقةً واحدة رجعية إذا لم يكن السائل قد طلق زوجته طلقتينِ قبل ذلك. والله أعلم.(1/558)
الحلِفُ بأيْمانِ المسلمين
"السؤال": صدر منِّي يمينٌ وردٌّ، ثم صدر منِّي اليمين الثاني، ونصُّه: "وأيْمانَاتٌ المسلمين ما تَتْمَدِّي في طولي طولَ حياتِي" فهل وقع به طلاق أمْ لا؟
"الجواب": الواقع بهذه الصيغة حسب المفهوم منها عُرفًا وأن من الأيمان يمينُ الطلاق ـ طلقة واحدة رجعية، وهى طلقة ثانية لسبقها بطلقة. والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/559)
رطلاق معلق
"السؤال": ـ من سوريا، دمشق ـ رجل شك في امرأته ونزْعًا لشكِّه قال لها: كوني طالقة بالثلاثة إن زَنَيْتِ سواء رأيتك أو بالسَّرِقة، وبعد مُضِيِّ بضعة أشهر قالت المرأة لزوجها لقد زَنيتُ ولكن بالقُوَّة.
فما الحكم في هذه المسألة في المذاهب الأربعة؟
"الجواب": إن هذه الصيغة يقع بها الطلاق الثلاث في المذاهب الأربعة بحُصول المعلق عليه، فتَبِينُ الزوجة من زوجها بينونةً كبرى. والله أعلم.(1/560)
طلاق بعد طلاق
"السؤال": رجل طلَّق زوجته طلقةً أولى رجعيةً وفي مدة العدة وقبل مراجعتها قال لها: أنت طالق ثلاثًا فما حكم هذه الصيغ، وهل يختلف الحكم إذا كانت في العدة أو خرجتْ منها؟
"الجواب": الصيغة الثانية والثالثة اللتانِ صدرتَا من المُطلق والزوجة في عدَّة الطلاق الرجعيِّ الأول، وقع بهما طلقتانِ أُخريانِ وبذلك بانتْ منه زوجته بينونةً كبرى، فلا تَحِلُّ له حتى تنكح زوجًا غيره بشروطه الشرعية، وإذا صدرت الصيغة الثانية بعد انقضاء العدَّة، لا يقع بها طلاق؛ لأنها صادفتْها، وهى ليست محلًّا للطلاق وكذا الثالثة فيجوز العقد عليها برِضاها ومهْر جديد. والله أعلم.(1/561)
طلاقٌ وميراثٌ
"السؤال": تزوج رجل في سنة: 1950 م من سيدة، ولم تُنجب ذريةً منه ولا ممَّن كان قبله، ثم طلَّقها في: 25 سبتمبر سنة: 1951 م طلاقًا رجعيًّا، وهو في كامل صحته وفي: 18 نوفمبر سنة: 1951 م تُوفِّيَ تاركًا شقيقينِ وثلاث شقيقات فقط.
هل السيدة المطلقة ترث أم لا؟
"الجواب": المطلقة طلاقًا رجعيًّا إذا مات زوجها وهى في العدَّة من هذا الطلاق، كما في السؤال تَرثه وفي هذه الحالة يكون لها الربع فرضًا لعدم وجود الفرع الوارث، والباقي لأخوته الأشقاء للذَّكر ضعف الأنثى. والله أعلم.(1/562)
انْفساخ الزواج بالرِّدَّة
"السؤال": قالت امرأة متزوجة إنها خرجتْ من دين الإسلام، وكانت في حالة ثورة نفسية شديدة فلمَّا عادت إلى رُشدها فورًا ندِمت كثيرًا، وتابت إلى الله ـ تعالى ـ ونطقتْ بالشهادتينِ، فهل انْفسخ بذلك عقْد زواجها؟
"الجواب": إن هذه المرأة قد ارتدَّت بهذا القول عن الإسلام، وبرِدَّتها انْفسخ نِكاحها وبعَودتها إلى الإسلام لا تحلُّ له إلا بعقد ومهر جديدينِ بإذْنها ورضاها إذا لم تكن رِدَّتها تالية لطلْقة مُكملة للثلاث. والله أعلم.(1/563)
طلاق معلق بلفْظ الظهار
"السؤال": ـ شبرا المحطة ـ رجل حلَف بالطلاق ثلاثًا بقوله: "امرأتي طالقٌ ثلاثًا زي أمي وأختي أنِّي لا أُعاشر أخي ثانيًا" مع العلم بأن عائلته جميعها في معيشة واحدة. وكان عند الحلف في حالة هيَاج شديد. فما حُكم الله ـ تعالى ـ في هذا الحلف؟
"الجواب": هذه الصيغة من قبيل الطلاق المُعلق. فإذا كان الحالف لم يقْصد وُقوع الطلاقعند حصول معاشرة أخيه، لا يقع عليه بها طلاق، وكذا لا يقع عليه بها شيء إذا بلغ منه الغضبُ الحدَّ الذي يخلط فيه الجِدَّ بالهزْل، ويغلب عليه فيه الخلل في الأقوال والأفعال، وإنْ كان يعلم ما يقوله ويقصده، أما إذا لم يبلغ هذا الحد بأن كان في مبادئ الغضب وكان يقصد الطلاق وقع عليه بها طلاقانِ رجعيَّانِ طبقًا للمادة الثالثة من قانون المحاكم الشرعية؛ ولأن العامة لا يقصدون الظهار في مثل اليمين الثانية فيقع بها بالنِّيَّة، وهذا إذا لم تكن هذه الصيغة مَسبوقة بطلاق. والله تعالى أعلم.(1/564)
طلاق منجز ثم طلاق معلَّق
"السؤال": رجل قال لزوجته: أنت طالق ثلاثًا، وهذا كان أول يمينٍ، والثاني كان بالمحكمة الشرعية، وقبل وفاء عِدَّتِها رَدَّها إليه. وأخيرًا حصلت بينهما مشاجرة بسبب شقَّة، تُريد هي الإقامةَ بها وهو لا يريد ثم قال لها: إذا قعدتِ في هذه الشقة تكوني مُحرمة عليَّ على جميع المذاهب، ثم أوقعتِ اليمينَ وسكنتْ في الشقة. فما رأي فضيلتكم؟
"الجواب": قد وقع بالصيغتينِ الأولى والثانية طلاقانِ. وأما الصيغة الثالثة فإنها من قبيل الطلاق المُعلق فلا يقع إذا كان قصْد الحالف مجرد منْع زوجته من الإقامة في الشقة المشار إليها، ولو أقامت فيها. أما إذا كان قصْده وقوع الطلاق إذا أقامت بهذه الشقة فإنه يقع بها طلاق ثالث وتبين منه زوجته بينونةً كبرى، لسبْقها بطلاقينِ، وذلك طبقًا لقانون المحاكم الشرعية، والله تعالى أعلم.(1/565)
طلاق معلق
"السؤال" من البداري نجع رزين: رجل جاءت إليه ابنتُه غاضبةً من زوجها فأقسم بالطلاق ثلاثًا إلا يُرجعها إليه. وبعد عام اتَّفق أخوها الأكبر مع زوجها على إرجاعها فرجعتْ من غير موافقة أبيها. فهل يُعتبر يمينُ والدها طلاقًا واقعًا، يحرم زوجته عليه؟
"الجواب": إذا كانت الصيغة التي حلف بها الوالد نحو: "عليَّ الطلاق بالثلاث لا أرجع بنتي إلى زوجها" فهي مِن قبيل الطلاق المعلق، فسواء كان المحلوف عدم إرجاعها أو عدم رُجوعها، وقد قصَد حمل نفسه أو حملها على عدم العودة للزوج فلا يقع طلاقه بعوْدتها إلى زوجها. أما إذا قصد وقوع الطلاق لو رجعت بنتُه إلى زوجها، فإنه يقع عليه بهذه الصيغة طلقةٌ واحدة رجعية فله مراجعة زوجته ما دامت في العدَّة عملًا بالمادتين الثالثة والخامسة من قانون المحاكم الشرعية ما لم تكن مَسبوقة بطلقتينِ أُخريين. أما لو قصد وقوع الطلاق لو أرجعها هو فلا يقع عليه طلاق بإرجاع غيره. لها بغير إذنه. والله أعلم.(1/566)
طلاق معلق
"السؤال": رجل قال لزوجته: أنا غير راضٍ عن دخول والدك الشقة "سكني" فقالت: وإذا دخل الشقة؟ فقال لها: مَتْكونِيش على ذِمَّتِي. وبعد يوم واحد دخل والدُها الشقة دقيقةً واحدةً وهو يعلم بالأمر السابق، فما رأى فضيلتكم؟
"الجواب": إنَّ هذا اليمين من قبيل الطلاق المعلق؛ لأن السؤال معاد بالجواب. فإذا كانت نِيَّتُه الطلاق لو دخل والدها الشقة وقع بهذه الصيغة طلقةٌ واحدة رجعية، وله مراجعتها ما دامت في العدة. وهذا إذا لم تكن مسبوقة بطلقتين. والله أعلم.(1/567)
طلاق بلفْظ خالصة
"السؤال": رجل في حالة غضب مع زوجته ومع ضبْطه وقصْده لما يقول قال لها: "روحي خالصة من ذمتي" فما الحكم شرعًا؟
"الجواب": وقع بهذه الصيغة طلاق رجعيٌّ إذا لم يكن مسبوقًا بطلاقينِ، فله مراجعة زوجته ما دامت في العدَّة، طبقًا لمَا جرى عليه القضاء والإفتاء عندنا. والله أعلم.(1/568)
طلاقُ الغضبان
"السؤال": حصل نزاعٌ بيني وبين زوجتي أمام أهلي، وكنت تزوجتُها رغمًا عنهم فغضبتُ وثارت ثائرتي، ولم أشعر إلا وأنا أُكَسِّر بعض أثاث المنزل، وقلتُ بأعلى صوتي زوجتي طالقٌ طالِق طالق، وأخذتُ أكرر هذا اليمين بكلمة "دون رجعة" وقلت لها ثانيًا في الوقت نفسه: "روحي وأنت طالقة" بالثلاثة دون رجعة" أكثر من ثلاث مرات، ثم قلت لها في الوقت نفسه: "روحي وأنت محرمة على تحريم الأم والأخت" وكرَّرتُ ذلك مرارًا، هذا وبعد أن هدأتْ ثورتي بنحو نصف ساعة قلت في سِرِّي "أرجعتُ زوجتي إلى عِصمتي" ثلاث مرات، وعندما صدر مني اليمين كنتُ أقصِد الطلاق الحقيقيَّ، وليس التهديد كما أنه لم يقع مني طلاق قبل ذلك . فما حكم ذلك؟
"الجواب": الغضبان الذي لا يقع طلاقه هو الذي يخلط بين جده وهزله ويغلب عليه الخلل في أقواله وأفعاله، وإن كان يعلم ما يقول ويقصده على ما حقَّق العلامة ابن عابدين. فإذا كان الحالف قد بلغ به الغضب هذا الحدَّ فلا يقع عليه بصيغة من الصيغ المذكورة بسؤاله طلاق، وإذا لم يبلغ هذا الحد بأن كان في مبادئ الغضب بانت منه زوجته بالطلقة الثالثة من الصيغة الأولى بينونةً كبرى، لا تحلُّ له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، أما باقي الصيغ فتكون لَغْوًا لصُدورها منه بعد أن صارت زوجته أجنبيةً عنه. والله تعالى أعلم.(1/569)
طلاقٌ معلق في حالة غضبٍ
"السؤال" المنصورة: حلَف بالطلاق في حالة غضب شديد أن لا يُكلم أخاه ولا يُعاشره ولا يُجالسه أبدًا ما دام مُتمسِّكًا ببقاء فلان الموظف عنده، فهل تُطلق زوجته إذا كلَّم أخاه مع تَمَسُّكه بالموظف المذكور؟ وهل يمينُ الطلاق في الغضب منعقدة؟
"الجواب": الظاهر من السؤال أنه طلاق معلق، فإذا كان قصد الحالف مجرد منع نفسه من الكلام مع أخيه ومِن مُعاشرته ومُجالسته، ما دام متمسكًا ببقاء هذا الموظف عنده، فلا يقع عليه طلاق بهذه الصيغة إذا كلَّم أخاه وعاشره وجالسه مع تمسُّك هذا الأخ بالمُوظَّف المذكور. وإذا كان قصْده وُقوع الطلاق إذا حصل منه ذلك وقع بهذه الصيغة طلاق رجعيٌّ واحد، إذا لم يكن مسبوقًا بطلقتينِ، فله مُراجعتها ما دامت في العدَّة.
وهذا كله إذا كان الحالف بحالةٍ لم يغلب عليه فيها الخلل في أقواله وأفعاله ولم يختلط جِدُّه بهزله. فأما إذا بلغ مِن الغضب حَدًّا يخلط معه بين الجد والهزل ويغلب عليه الخلل في الأقوال والأفعال فلا يقع طلاقه، كما حقَّقه ابن عابدين في بحث طلاق الغضبان. والله أعلم.(1/570)
طلاق معلَّق مُكَّرر
"السؤال": رجل حلف على زوجته بالطلاق ثلاثًا؛ أنها لو ذهبتْ إلى منزل والدها تكون طالقةً، فقالت له زوجته: لو كنتَ "جَدَع" كرِّر اليمين، فأعاد اليمين، فقالت له مثل ما قالت سابقًا، فكرَّر الطلاق مرة ثالثةً، وبعد يومينِ ذهبتْ إلى منزل والدها وجاء زوجها فوَجدها في منزل والدها، وبعد قليل حضرتْ إلى منزله فأعادها وعرَّفها بأنها طالق. فما الحكم شرعًا في ذلك؟
"الجواب": الصيغة الأولى من قبيل الطلاق المعلق فلا يقع بها طلاق إذا كان الحالف يقصد مجرد حمْلها على عدم الذهاب إلى منزل والدها، وأما إذا كان يقصد وُقوع الطلاق عند حصول الشرط وقع بالصيغة الأولى طلقةً واحدة رجعية.
وكذلك الحكم في الصيغتينِ الثانية والثالثة فإذا قصد فيهما كالأولى وقوع الطلاق عند حصول الشرط وحصل الشرط بانتْ به زوجته بينونةً كبرى قضاءً، ولا يقع بهما طلاق إذا نوى بهما تأكيد الصيغة الأولى ديانةً. والله أعلم.(1/571)
طلاق منجَّز قبل الدخول
"السؤال": طلقتُ زوجتي بقولي لها: "أنت طالق مني بالثلاثة" ولم أدخل بها للآن وهى بِكْرٌ، وذلك كان في حالة غضب شديد ولم أكن مُدركًا لما أقول، ثم أخبرني مَن كان موجودًا بالمجلس بذلك. فهل بهذا اليمين يقع الطلاق ثلاثًا أم يقع الطلاق مرة واحدة؟
"الجواب": الغضبان الذي لا يقع طلاقه هو الذي يخلط جده بهزله ويغلب عليه الخلل في أقواله وأفعاله، وإنْ كان يعلم ما يقول على ما حقَّقه العلامة ابن عابدين، فإذا كان الحالف قد بلغ به الغضب هذا الحدَّ، لا يقع عليه بهذه الصيغة طلاق، وإن لم يبلغ هذا الحد بأن كان في مبادئ الغضب وقع عليه بهذه الصيغة طلقةٌ واحدة بائنةٌ طبقًا للمادتينِ الثالثة والخامسة من قانون المحاكم الشرعية رقم 25 لسنة 1929 م فلا تحلُّ له إلا بعقد ومهر جديدينِ. والله أعلم.(1/572)
العدَّة من الطلاق
"السؤال": امرأة طلقت من زوجها في 26 أكتوبر سنة 1953م وأبرأته من كافَّة حقوق الزوجية، وفي مارس سنة1954م أقرَّت بأن عِدَّتَها انقضت برُؤيتها الحيض ثلاث مرات بعد تاريخ الطلاق المذكور. فهل تصدق هذه الزوجة في إقرارها بانقضاء العدَّة حسب ما ذكر أم لا؟
"الجواب": عدة المرأة الحُرَّة التي هي من ذوات الحيض في الطلاق بعد الدخول ثلاث حِيَضٍ، فإن أقرَّت بانقضاء عدَّتها بالحيْض صُدِّقَتْ؛ لأنه لا يُعلم إلا من جهتها وهى أمينةٌ، في حق نفسها، فإنْ كذبها الزوج حلفت، إذِ القول قول الأمين مع يَمينه، وأقلُّ مدة تصدق أنها رأت الحيض فيا ثلاث مرات هي سِتونَ يومًا على قول الإمام أبى حنيفة المُختار للفتوى في مذهبه، وجرى عليه عمل القضاء الشرعي في مصر. ومن هذا يُعلم الجواب عن السؤال. والله أعلم.(1/573)
طلاق بلفظ خالصة ومُحرَّمة
"السؤال": حدث نزاعٌ بينه وبين زوجته فقال لها: "تكوني خالصةً" فقالت له: "إن شاء الله أكون مُحرمة طول العمر" فقال لها: "تكوني حَرمانة عليَّ طول العمر" فما الحكم الشرعي في هذا مع العلم بأنه لم يحصل طلاق قبل ذلك؟
"الجواب": إن الصيغتينِ المذكورتينِ من ألفاظ الطلاق لا تحتاج إلى نِيَّةٍ؛ لأن العُرف نقلها إلى الطلاق فصارت من ألفاظه الصريحة، فيقع بكل منهما طلقة رجعية، وله مُراجعتها ما دامت في العدَّة. والله أعلمُ.(1/574)
طلاق معلق على مُعاشرته لأخيه
"السؤال": رجل حلف من مدة على زوجته يمينًا بالطلاق الثلاث وحنَثَ فيها، وأعادها إلى عِصمته بعقد ومهر جديدينِ، ثم حلف بعد ذلك أثناء مُنازعته مع شقيقه بحُضور زوجته بقوله: "عليَّ الطلاق ثلاثًا من زوجتي هذه لا أُعاشرك في عيشة مدَى الدهر" وفارقه في الحال ولم يُعاشره. فما حكم هذه اليمين إذا عاشره؟
"الجواب": إن صيغة الطلاق الثاني مِن قبيل الطلاق المُعلق وحُكمه طبقًا للمادة الثانية من قانون المَحاكم الشرعية رقم 25 لسنة 1929م أنه إذ قصد به مجرد حمْل نفسه على عدم مُعاشرة أخيه أبدًا، لم يقع بهذه الصيغة طلاق ولو عاشر أخاه. أما إذا قصد وقوع الطلاق عند حصول المعاشرة فيقع بها طلاق واحد رجعيٌّ عند حصولها، فله مراجعتها مادامت في العدة ما لم يكن مسبوقًا بوقوع طلاقينِ فتَبينُ منه زوجته بينونةً كبرى. والله أعلم.(1/575)
طلاق في حالة غضبٍ
"السؤال": حلفتُ على زوجتي يمينينِ متفرقين بلفظ: أنت طالقة، وراجعتُها إلى عِصْمَتِي في المرَّتينِ. ثم حدث ما لم أتوقعه في هذه المرة "الثالثة" حيث إنني كنتُ مريضًا بالمنزل وحضر زملائي لزيارتي، كان مِن بينهم نساء فغضبتْ زوجتي لذلك، وخرجتْ عن حدِّها بالكلام معنا، مما اضطرني أن أغضب غضبًا شديدًا، ولم أتمالك شعوري في حالة الغضب، فخرجتْ منِّي كلمة: "أنت طالق" ولم أدْرِ ما أقول، ولم أقصد بهذه الكلمة أيَّ شيء، فما رأي فضيلتكم في هذا اليمين؟
"الجواب": إن الحالف إذا كان قد بلغ به الغضب حدًّا أصبح معه يخلط الجد بالهزل ويغلب عليه الخلل في أقواله وأعماله لا يقع بهذه الصيغة "الثالثة" طلاقه، وإذا لم يبلغ به الغضب هذا الحد؛ بأن كان في مبادئ الغضب بانت منه زوجته بالطلقة "الثالثة" بينونةً كبرى. والله تعالى أعلم.(1/576)
حق الحضانة
"السؤال": رجل تزوَّج وأنجب ولدًا وبنتًا في سِنِّ الحضانة ثم طلَّق زوجته وتزوَّجتْ بآخر، وللأولاد جَدَّةٌ لأمهم مُتزوجة بعمِّ المطلقة، فهل يجوز لجدتهم حضانتهما أم لا؟ علمًا بأن المُطلِّق له أمٌّ.
"الجواب": إن الحضانة في هذه الحادثة مِن حق الجدة لأمٍّ المذكورة، ولا يَمنعها منه زواجها بعمِّ أم الصغيرين؛ لأنه مَحرم لهما والحاضنة لا يسقط حقُّها بزواجها بمَحرم للمحضون. والله أعلم.(1/577)
طلاق معلق
"السؤال" بلبيس: رجل حلف بقوله: "عليَّ الطلاق بأنِّي لا أشرب الدخان" وبعد مُضيِّ نحو عشر دقائق قال لا أشرب الدخان لمدة عام. فما حكم ذلك؟
"الجواب": الصيغة الأولى في المعنى طلاق معلق على شُربه الدخان، فإذا قصد الحالف مُجرد حمْل نفسه على ترْكه لا يقع به طلاقٌ إذا شربه، وإذا قصد به وقوع الطلاق إذا شربه وقع طلاقٌ رجعيٌّ بشربه ولو مرة في أيِّ وقت طبقًا لقانون المحاكم الشرعية، فله مُراجعتها ما دامت في العدَّة، ما لم يكن مسبوقًا بطلاقينِ، وأما قوله بعد فترة "لا أشرب بالدخان لمدة عام" فهو كلام منفصل لم يقترن بيمينٍ فلا أثر له، والحكم لليمين الأول على النحو الذي بيَّنَّاه. والله أعلم.(1/578)
طلاق بعد زواج عُرْفِيٍّ
"السؤال": عاشر رجلٌ امرأةً بزواج عرفي بدون وثيقة رسمية، وأنجب منها طفلًا قُيِّدَ باسمه ويُريد طلاقها رسميًّا فكيف يصنع؟
"الجواب": يتوقف إثبات الطلاق لدَى المأذون الشرعي على عمل إشهاد من الزوجينِ بالتصادُق على سبْق الزوجية بينهما، ثم يُدَوِّن المأذون إشهاد الطلاق في دفتره بعد ذلك. والله أعلم.(1/579)
حُكم مُعاشرة الزوجة بعد الطلاق
"السؤال": طلق زوجته وأعلنها بالطلاق في غير محلِّ إقامتها، واستمر يُعاشرها مُعاشرةَ الأزواج مع وقوع الطلاق الذي لا تعلم بحُصوله، فما حُكم الشرع في ذلك؟
"الجواب": الطلاق الذي أوقعه الزوج إن كان رجعيًّا فمُعاشرته لزوجته بعده إذا كانت قبل انقضاء عدَّتها شرعًا كانت رجعةً، ولو لم تَعلم بالطلاق، وإذا كانت بعد انقضائها أو كان الطلاقُ بائنًا كانت مُعاشرة مُحرَّمة، ويجب التفريق بينهما شرعًا. والله أعلم.
...(1/580)
في الرَّضاع
يَحرم بالرَّضاع ما يَحرم بالنسب، وقد نصَّ على التحريم به الكتابُ والسُّنة، واختلف الأئمة في القدْر الذي يُؤثر التحريم منه. فذهب عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعائشة وجمْع من التابعين والشافعي وأحمد في مشهور مذهبه وابن حزم وجماعة من الأئمة إلى أن الرضاع المُحرِّم ما كان خمس رضعاتٍ معلومات فأكثر في سِنِّ الرَّضَاع وهو سنتانِ على المُفتَى به، وأن مادون ذلك لا يحرم، لحديث عائشة قالت: أُنزل في القرآن عشر رضعاتٍٍ معلوماتٍ يُحَرِّمْنَ، فنُسخ من ذلك خمسٌ، وصار إلى رضعات معلومات يُحرمنَّ، فتُوفيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمر على ذلك، رواه مسلم، ورويَ عن سهلة بنت سهيل مرفوعًا "أرضعي سالمًا خمس رضعاتٍ فيَحرم بِلَبَنِهَا".
وذهب الحنفية والمالكية وبعض الأئمة إلى أن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم والأدلة مبسوطة في كتب الفقه.
وقد درجنا على الإفتاء بالقول الأول، وإن كان خلاف مذهب الحنفية؛ لما فيه من التيسير على الناس في هذا الزمان الذي عمَّت فيه البلوَى بإرضاع النساء أولاد غيرهنَّ بلا ضبطٍ ولا تَحَرٍّ لنتائجه، بل ولا علم بحكمه، والدِّين يُسْرٌ لا حرج فيه. والله أعلم.(1/581)
التحريم في الرضاع بخمس رضعاتٍ فأكثر
"السؤال": فتاةٌ أرضعتْها زوجة خالها في سِنِّ الرضاع، ولهذه الزوجة أولادٌ من الخال المذكور، فهل يجوز لهذه الفتاة أن تتزوج واحدًا منهم؟
"الجواب": برضاع هذه الفتاة من زوجة خالها المَذكورة أصبحتْ بنتها رضاعًا وأولادها أخوتها رضاعًا، فلا يجوز لها الزواج من أيِّ واحد منهم سواء مَن رضع معها أو قبلها أو بعدها على ما ذهب إليه الحنفية من أن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم. فأما على ما ذهب إليه الإمامانِ الشافعيُّ وأحمد في المشهور من أن التحريم يكون بخمس رضعات فأكثر، ولا تحريم بما دون ذلك، فينظر في الأمر إنْ كان عدد الرضعات أقلَّ من خمس فلا يحرم، وإنْ كان خمسًا فأكثر، ثبت التحريم. والله أعلم.(1/582)
الرضْعة الواحدة لا تُحرِّم
"السؤال": أراد الزواج من فتاةٍ فأخبرته أمها أنها أرضعتْه مرة واحدة، فهل يجوز له الزواج بها أم لا؟
"الجواب": اختلف الأئمة في الرضعة الواحدة في مدة الرضاع، وهي سنتان على المُفتَى به، فذهب الأئمة أبو حنيفة ومالك، وأحمد في رواية عنه إلى أنها تُوجب تحريم زواج الرضيع بابنة المُرضعة؛ لأن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم ـ إلا أن المُعتمَد في مذهب الحنفية، أنه لا يُعمل في الرضاع بخبر الواحد مُطلقًا ما لم يُصدقه الرجل المُدعي رضاعه. وذهب الإمامان الشافعي وأحمد في مشهور مذهبه إلى أن الرضاع المُحرِّم ما كان خمس رضعات مُتفرقات فأكثر، وأما ما دون الخمس فإنه لا يَحرم. وهذا هو الذي اخترناه للفتوَى رفقًا بالناس في أمر الرضاع. وعلى هذا لا تَحرم هذه الفتاة على مَن رضع مِن أمها رضعةً واحدة فقط على مذهب الإمامين الشافعي وأحمد. والله أعلم.(1/583)
أرضعتْ أمُّه خالتيه فحرمتْ بناتهما عليه
"السؤال": طفل أرضعتْه جَدَّتُهُ لأمه مرة واحدة في سِنِّ الرضاع، وأرضعتْ بناتها وهن خالاتُه معه وقبله وبعده. وقد رضَع هذا الطفل هو وخالةٌ له مِن أمه، وهما في سِنِّ الرضاع خمس مرات فأكثر، ولمَّا تجاوزها أرضعتْ أمه أختها الثانية وهي خالته أيضًا مع ابنة لها خمس مرات فأكثر، وله خالة ثالثة أكبر من أمه لم ترضعها أمه، ولهذه الخالة بنتٌ يريد الزواج بها الآن، فهل يجوز زواجه بها شرعًا؟
"الجواب": ذهب جمهور من الأئمة إلى أن التحريم بالرضاع لا يثبت إلا بخمس رضعات معلومات، وهو الذي اخترناه للفتوى مِن زمن بعيد تَيسيرًا على الناس، وهو مذهب الشافعية، ومشهور مذهب الحنابلة، وإنْ خالف مذهب الحنفية، وعلى هذا لا يكون لِرضاع هذا الطفل من جَدته لأمه مرة واحدة تأثير في تحريم بناتها عليه، وهن بناتُ خالاته. وإنما ينظر في حُكمهن من جهة رضاع خالتيه الأولى والثانية من أمه المرات الخمس المذكورة، فقد صارت الخالتانِ المذكورتان أُختينِ له رضاعًا، فيحرم عليه بناتهما لكونهن بنات أخْتيه من الرضاع.
وأما خالته الثالثة التي لم تُرضعها أمه فليست أخته رضاعًا، وإنما هي أخت أختيه رضاعًا، فتحلُّ له لو لم تكن محرمة عليه من جهة الخُئولة، ويحلُّ له الزواج من بناتها لانتفاء الموانع، ومن ذلك يُعلم الجواب إذا كان ما ذكر بالسؤال هو الواقع. والله أعلم.(1/584)
حِلُّ أُختِ أخيه رضاعًا ـ الرضاع المُحرّم خمسٌ فأكثرُ
"السؤال":
(1) أراد شخص الزواج من فتاة رضعتْ مع أخيه الثالث الأصغر بحيث اجتمعَا على ثدي واحد لامرأةٍ أجنبية منهما، فهل يَحِلُّ له شرعًا الزواج بها؟
(2) رضع طفل وهو في سِنِّ الرضاع من جَدَّته أم أمه، وعند خالتْه بنت يُريد الآن الزواج بها، فهلْ تحلُّ له شرعًا؟
"الجواب":
(1) هذه الفتاة أختٌ من الرَّضاع لأخيه النَّسَبِيِّ، والمنصوص عليه عند الحنفية، حِلُّ أخت أخيه رضاعًا له، فلا مانع من زواجه بها. والله أعلم.
(2) إذا رضع مِن جدته لأمه في سِنِّ الرضاع وهو سنتان، على المُفتَى به، صارت جدته أُمًّا له من الرضاع، فتحرم عليه بنت بنتها نسبًا، وهي ـ أيضًا ـ بنت أخته رضاعًا، إذ صارت خالته أخته من الرضاعة، ولو كان رضاع خالته من أمها قبل رضاعه بسنتينِ. والرضاع يُحرم الزواج في مذهب الشافعي، ومشهور مذهب أحمد متى كان خمس رضعات مُتفرقات فأكثر، وما دون ذلك لا يُحرم وقد درجنا على الإفتاء بهذا رفقًا بالناس في أمور الرضاع والمُصاهرة.
ومِن هذا يُعلم أنه يجوز لهذا الشخص الذي يرغب الزواج من بنت خالته المذكورة أن يتزوجها إذا كان قد رضع من جدته لأمه أقلَّ من خمس رضعات معلومات، وإلَّا تحرم عليه إجماعًا. والله أعلم.(1/585)
الرضاع يحرم مَن رضعتْ معه أو قبله أو بعده
"السؤال": لي زوجةُ عمٍّ رضعت منها مع طفلتها الأولى ثم أنجبت بعد هذه الطفلة بنتينِ فهل يجوز لي شرعًا أن أتزوج إحدى هاتينِ البنتين، أو يحرم عليَّ الزواج من أيِّ بنت من البنات الثلاث؟
"الجواب": برضاع السائل من زوجة عمِّه مع طفلتها الأولى، وهو في سِنِّ الرضاع صارت المُرضعة أمه من الرضاع، وجميع بناتها إخوته من الرضاع، سواء في ذلك البنت التي رضع معها، والبنتانِ اللتانِ رضعتَا من الأم بعدها، فتَحرمن عليه جميعًا. وهذا إذا أرضعتْه زوجة عمِّه خمس رضعات مُتفرقات فأكثر. وأما إذا أرضعتْه أقل مِن خمس، فإنَّ الرضاع لا يَحرم، على ما ذهب إليه الشافعي وأحمد في مشهور المذهب. وهو الذي اخترناه للفتوَى، والله أعلم.(1/586)
لا تحرم أُخت الأُخت رضاعًا
"السؤال": سيدة تُدعَى "خديجة" لها ثلاثة أولاد: عليٌّ وزكيٌّ ومحمد، وسيدة أخرى تُدعى "فاطمة" لها بنتانِ: سكينة وعلية، رضعت سكينة من خديجة ويريد محمد المذكور التزوج بعليَّة فهل هذا جائزٌ شرعًا؟
"الجواب": برضاع سكينة من خديجة في مدة الرضاع وهي سنتان على الأصحِّ المُفتَى به صارت أختًا لجميع أولاد خديجة من الرضاع سواء منهم مَن رضع معها أو قبلها أو بعدها، ولا تصير أُختها "علية" أُختًا لأولاد خديجة فيحلُّ "لمحمد" ابن خديجة أن يتزوَّج "علية" بنت فاطمة؛ لأنها أخت أخته رضاعًا، فتحلُّ، كما تحلُّ أخت الأخ نسبًا. والله أعلم.(1/587)
لا تحرم أخت الإخوة رضاعًا
"السؤال": امرأة أرضعتْ أولاد أُختها الذكور والإناث إلا بنتًا تُسمَّى (م) ويُريد ابن مِن أولادها أن يتزوج بنت خالته المَذكورة التي لم ترضع من أمِّه، وهي (م) فهل يَحِلُّ له الزواج بها؟
"الجواب": بإرضاع المرأة المذكورة أولاد أختها ما عدا البنت التي اسمها (م) في مدة الرضاع، وهي سنتانِ على المُفتَى به، صار جميع مَن أرضعتْهم أُخوة لأولادها من الرضاع دون البنت التي اسمها (م) فيحلُّ لابن المُرضِعة أن يتزوج بهذه البنت التي لم تُرضع من أمه؛ لأنها أخت إخوته رضاعًا، فتحل كما تحلُّ أخت الإخوة نسبًا، كما سلف في الفتوى السابقة، والله أعلم.(1/588)
مسألة لبَن الفحْل
"السؤال": شابٌّ ماتتْ أمُّه، وسِنُّه ثماني سنوات، فتزوَّج والده بسيدةٍ كانت تُرضع طفلةً لجيرانها ثم كبِرتِ البنت المذكورة فتزوَّجها هذا الشاب بعد أن أُفْتيَ بحِلِّهَا له وبعد سنتينِ من مُعاشرتها أخبره بعض الناس أنها لا تحلُّ له. فهل هي حلال فيُمسكها أو حرام فيسرحها؟
"الجواب": الظاهر من السؤال أن السيدة المذكورة لم ترضع هذا الشاب أصلًا وإنَّما أرضعتِ الفتاة الأجنبية منها حين صِغرها، فصارت بِنْتُها رضاعًا، وتزوجت السيدة والد هذا الشاب فإذا لم يكن اللبن الذي أرضعتْه لهذه الفتاة قد نزل لها من زوجها المَذكور الذي هو والد الشاب، بل نزل لها قبل ذلك مِن غيره، لم يكن هناك مجالٌ للاشتباه في حِلِّ زواج الشاب بهذه الفتاة؛ لأنها ليست أُخته نسبًا ولا رضاعًا باتِّفاق، كما يحلُّ له الزواج من بنت زوجة أبيه نسبًا. وأما إذا كان اللبن قد نزل لها منه، فتكون بنتُ هذا الزوج رضاعًا، فتَحرم عليه وعلى أبنائه نسبًا، ومنهم هذا الشاب في قول جمهور الأئمة. وهذه المسألة هي المُلقَّبة عند الفقهاء "بلبَن الفحل هل يحرم أم لا؟" فذهب الجمهور ومنهم الحنفية إلى أنه يحرم، وذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن يسار وبشر المريسي ومالك إلى أنه لا يحرم.
قال في البدائع في تفسير لبن الفحل إنه الرضيعة تحرم على زوج المُرضعة التي نزل لها اللبن منه؛ لأنها بنته رضاعًا وكذا على أبنائه اللذين من غير المرضعة؛ لأنها أُختهم لأب من الرضاع، وعلى هذا إذا كان لرجل امرأتانِ فحملتَا منه وأرضعت لك واحدة منهما صغيرًا أجنبيًّا، فقد صارا أخوينِ لأبٍ من الرضاعة؛ "لأن لبن المُرضعتين منه" فإذا كان أحدهما أنثى فلا يجوز النكاح بينهما؛ لأن الزوج أخوها لأبيها رضاعًا، وإذا كانتا اثنتينِ لا يجوز لرجل أن يجمع بينهما، لأنهما أختانِ لأب من الرضاع.(1/589)
هذا قول مَن يرى التحريم بلبن الفحل، وأما مَن يرى عدم التحريم به فدليله أن المحرم هو الإرْضاع، وأنه وُجد منها لا منه فصارت بنتًا لها لا له لدليل أنه لو نزل للزوج لبنٌ فارْتضعتْ منه صغيرة لم تَحرم عليه، فإذا لم تثبت الحُرمة بلَبَنِهِ هو، فكيف تثبت الحُرمة بلبن غيره أيْ وهي الزوجة" اهـ ملخصًا.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: إن القول بأن لبَن الفحل يحرم، وأن التحريم ينتشر منه كما ينتشر من المرأة هو الحقُّ الذي لا يجوز أن يُقال بغيره، وإنْ خالف فيه مَن خالف مِن الصحابة ومَن بعدهم، فسُنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحقُّ أن تُتَّبع، ويُترك كل ما خالفها لأجلها، ولا تُترك هي لأجل قولِ أحدٍ كائنًا مَن كان اهـ.
وجملة القول: إنه ينظر إلى الواقع في اللبن الذي أرضعتْه هذه الفتاة، فإذا لم يكن قد نزل للمُرضعة مِن والد زوجها الشاب حلَّت للشاب اتفاقًا وإذا كان قد نزل لها من والد زوجها الشاب فتَحرم الفتاة على الشاب في قول الجمهور وتحلُّ على قول طائفةٍ من الصحابة والأئمة. والله أعلم.(1/590)
حُكم ثبوت رَضاعٍ ظهَر بعد الزواج
"السؤال": ما رأيكم في شاب تزوَّج بنت خاله، ومضى عليها أكثر من عام وهي الآن حامل، فُوجئ بخطابٍ مَجهول يُعرفه بأن زوجته أخت له من الرَّضاعة، فسأل والدتْه، فأجابتْ بأنها رضعت على أُخته من أمه فقط، أيْ والد أخته غير والده، ولم تكن رضعت معه في حالة رضاعه، وعند سؤال أم الزوجة اعترفت بهذه الرضاعة؟
"الجواب": إنه إذا كان الواقع ما ذكر، وكان رضاع هذه الزوجة مِن أم زوجها في مدة الرضاع وهي سنتانِ على الأصح المُفتَى به ـ صارت أم الزوج أمًّا لهذه الزوجة مِن الرضاع، وصارت هذه الزوجة أختًا لجميع أولادها مِن الرضاع ومنهم زوجها، فإذا كان عدد الرضعات أقلَّ من خمس متفرقات، فلا يثبت التحريم بالرضاع، ويكون الزواج صحيحًا، وأما إذا كان العدد خمسًا فأكثر وكان ذلك في سِنِّ الرضاع فإنه يثبت التحريم ويكون زواجهما فاسدًا شرعًا تجب فيه المُتاركة، فإنْ لم يتركها الزوج فرَّق القاضي بينهما، وإنْ دخل بها دخولًا حقيقيًّا، تجب فيه العِدَّةُ من وقت المتاركة أو التفريق، ويثبت نسَب الأولاد من الزوج احتياطيًّا لإحياء الوَلد.
فإذا أقرَّ الزوج بهذا الرضاع فسد النكاح، ووجبت المتاركة، ولا يحلُّ له وَطْؤُهَا والاستمتاع بها سواء صدقتِ الزوجة أو كذبت؛ لأن الحرمة ثابتة في زعمه.
ومثل هذا تصديق الزوج أو الزوجين لمَن أُخبر بالرضاع، فيَظهر فساد النكاح، وتَثْبُتُ الحُرمة، وتجب المتاركة.
هذا حكم الديانة ـ أي فيما بين الإنسان وبين الله ـ تعالى ـ وأما في القضاء فلا يثبت الرضاع عند الإنكار في مذهب الحنفية إلا بشهادة عدلينِ أو عدْلٍ وعدلتينِ، ولا يقبل على الرضاع أقل مِن ذلك ولا يثبت بشهادة النساء بانفرادهنَّ وهذا ما أفتينا به في حادثة مُماثلة سُجلت برقم: 298 سنة: 1953 م سجل: 71 بدار الإفتاء المصرية.(1/591)
والخلاصة: أنه لا يثبت الرضاع في هذه الحادثة قضاء عند الإنكار بشهادة هاتينِ المرأتينِ: أمِّ الزوجة وأم الزوج وحدهما، ويَثبت إذا صدق الزوج وأصرَّ عليه سواء صدقت الزوجة أم لا، ومتى ثبت الرضاع قضاءً أو بتصديق الزوجينِ معًا، أو الزوج وحده فسدَ النكاح، ووجب الافتراق ويثبت نسب الأولاد إنْ كانوا، والله أعلم.(1/592)
الرضاع مرة واحدة لا يُحرم
"السؤال": "عائشة" أرضعت "نفيسة" وطفلها الرضيع في ذلك الوقت وهو محمد، ثم أراد محمد ابن عائشة أن يتزوج نفيسة. فهل يجوز زواجهما؟ علمًا بأن نفيسة لم ترضع من عائشة غير مرة واحدة.
"الجواب": برضاع نفيسة مِن عائشة أصبحتْ عائشة أُمًّا لنفيسة، وصارت نفيسة أُختًا لجميع أولاد عائشة، ومنهم محمد الذي يُريد التزوُّج منها، فإذا كان الرضاع مرة واحدةً كما ذكر بالسؤال يحلُّ له الزواج بها على ما اخترناه للفتوى من مذهب الإمامينِ الشافعي وأحمد في المشهور عنه، والله تعالى أعلم.(1/593)
ما يثبت به الرضاع قضاء
"السؤال": خطب ابنةَ عمِّه، ثم حدث سوء تفاهم فطلب والداه منه أن يتزوج غيرها فأبَى، فقال والده قد بلغني أن ابنةَ عمِّك هذه قد رضعتَ معها من أمها، فلمَّا سألت أمها حلَفت بالله إنها لم تُرضعني أصلًا، ولمَّا سألتُ والدتي قالت: إنها لا تَتذكر شيئًا بخصوص هذا الرضاع، وأخيرًا وافق والدي على زواجي بابنة عمِّي المذكورة إذِ اطَّلعَ على الحكم الشرعي في هذا الموضوع في باب الفتاوَى"بالمنبر". فنرجو التفضل بإفتائنا في الحادثة.
"الجواب": مذهب الحنفية أن قليل الرضاع وكثيره مُحرِّم للزواج إذا كان الرضاع في مُدته، وهي سنتان على المُفتَى به، وأن الرضاع لا يثبُت إلا بشهادة رجلينِ أو رجلٌ وامرأتينِ، ولا يكفي في ثبوته شهادة الواحد ولو رجلاً قبل العقد أو بعده. "نقله صاحب البحر عن الكافي والنهاية". وما في الخانية من أنه لو أخبر عدلٌ ثِقةٌ يُؤخذ بقوله فمنعناه أنه يُفتَى به احيتاطيًّا، فأمَّا الثبوت عند الحاكم فيَتوقف على نِصاب الشهادة التام، والمراد من خبر العدْل الثقة أن يكون عن مُعاينة لا عن سماع، ولا يثبت التحريم مع الشك.
وأما مذهب الشافعية والمشهورة من مذهب الحنابلة، فهو أن الرضاع المُحرم مَا كان خمس رضعات مُتفرقات فأكثر فما دون ذلك لا يَحرم وهو الذي اخترناه للفتوى لحديث عائشة قالت: "أُنزل في القرآن عشر رضعاتٍ مَعلومات يَحرمن فنسخ مِن ذلك خمسٌ، وصار إلى رضعات معلومات يُحرمْنَ، فتوفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمر على ذلك". رواه مسلم ـ وروى مالك عن الزُّهري عن عُروة عن عائشةَ عن سهلة بنت سهيل: "أرْضعي سالمًا خمس رضعاتٍ، فيَحرم بلبَنها".(1/594)
ويثبت الرضاع عند الشافعية "كما في تُحفة المُحتاج" بشهادةِ رجلينِ أو رجل وامرأتينِ أو أربع نِسْوة. والأصحُّ أنه لا يُكفي قول الشاهد إن بينهما رضاعًا، بل يجب ذكر الوقت والعدد. ولو حصل شك في الرضاع أو في عدده فلا تحريم؛ لأن الأصل عدم ما ذُكر، وإن كان من الورَع في حالة الشكِّ ترك الزواج.
ويثبت الرضاع عند الحنابلة، كما في "المغني" بشهادة امرأةٍ واحدة على الرضاع إذا كانت مَرضيَّة لحديث عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت إهاب فجاءتْ أمةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتكما فأتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرتُ ذلك له فقال: "كيف وقد زعمتْ ذلك". متفق عليه.
ولا تقبل الشهادة على الرضاع إلا مُفسرة بذِكْر الوقت والعدد، فلو شهد بأن هذه أرضعت هذا يكتفي به في تعيين أصل الرضاع، ولا يكفي للتحريم حتى يُبَيَّنَ العدد المحرم. وإذا وقع الشكُّ في وجود الرضاع أو في عدده هل كمُل أو لا؟ لم يثبت التحريم؛ لأن الأصل عدمه فلا يزال عن اليقينِ بالشكِّ، كما لو شكَّ في وجود الطلاق أو عدده.
إذا علم هذا ففي الحادثة المسئول عنها لم يُخبر بالرَّضاع سوى والدُ مريدِ الزواج لا عن مشاهدة بل عن إخبار بدُون تفسير، وذلك لا يكفي في التحريم فضلًا عن أن مَن قيل إنها أرضعت أنكرتِ الرضاع وحلفتِ اليمين على أنها لم تُرضع هذا السائل، فيحلُّ لهذا الشاب أن يتزوج بنت عمِّه المذكورة في كل المذاهب ما دام الأمر كما جاء بالسؤال، والله تعالى أعلم.(1/595)
لا يثبت الرضاع بشهادة امرأتينِ وحدهما قضاء
"السؤال": تزوَّج شخص بسيدة، وأنجب منها ثلاثة أطفال، ثم تبيَّن أنها كانت قد رضعتْ من أمه مع إحدى أخواته التي تصغر عنه، وكان الرضاع مُشبعًا مُتكرِّرًا أكثر من خمس رضعات، وقد أخبر بهذا الرضاع أمَّ الزوج وأم الزوجة فما حكم الله في هذا الزواج ؟ وما مصير هؤلاء الأطفال؟ وماذا يجب أن يُتَّبَعَ إزاء هذا الموضوع؟
"الجواب": إنه إذا كان الواقع هو ما ذكر، وكان رضاع هذه الزوجة مِن أم زوجها في مدة الرضاع وهي سنتان على الأصحِّ المُفتَى به، صارت أم الزوج أما لهذه الزوجة من الرضاع، وصار جميع أولادها أخوة لها من الرضاع، ومنهم زوجها المذكور، فيكون زواجهما فاسدًا شرعًا، وحُكم النكاح الفاسد أنه تجب فيه المتاركة، فإن لم يتركها الزوج فرَّق القاضي بينهما، وإنْ دخل بها دخولا حقيقيًّا، تجب فيه العدَّة من وقت المتاركة أو التفريق ويثبت به نسب الأولاد من الزوْج احتياطًا لإحياء الولد.
وهذا إذا أقرَّ الزوج بالرضاع، كأن قال هي أُختي رضاعًا، وأصرَّ عليه؛ لأنه أقرَّ ببطلان ما يملك إبطاله للحال، فيصدق فيه على نفسه، ولا يحلُّ له وَطْؤُها والاستمتاع بها فلا يكون في إبقاء النكاح فائدة فيُفرق بينهما، سواء صدَّقتْه الزوجة أو كذَّبتْه؛ لأن الحُرمة ثابتة في زعْمه.
ومثل هذا الإقرار تصديق الزوجينِ أو الزوج فقط لمَن أخبر بالرضاع، فيظهر فساد النكاح؛ لأن تصديق الزوج إقرار منه بالرضاع، وإقراره به مع الإصرار عليه مُثبتٌ للحُرْمة ومُوجب للمتاركة شرعًا، وأما إذا كذَّب الزوجانِ ذلك المُخبِر أو كذبه الزوج فقط ولو مع تصديق الزوجة فلا يظهر فساد النكاح، ولا تجب عليهما المتاركة؛ لأن الشارع لم يجعل لزوجة إثبات الحُرمة بالرضاع، فلا يُعتبر تصديقُها ولا إقرارها به عند تكذيب الزوج مع الإصرار عليه، ولكن الأحْوط في هذه الحالة المتاركة بينهما.(1/596)
وهذا كله حُكم الديانة ـ أي فيما بين الإنسان وبين الله تعالى ـ وأما في القضاء فلا يثبت الرضاع عند الإنكار في مذهب الحنفية إلا بشهادة عدلينِ أو عدل وعدلتينِ، ولا يقبل على الرضاع أقلُّ من ذلك ولا شهادة النساء بانفرادهنَّ، وقد صرَّح صاحب الكافي والنهاية تبعًا لمَا في رضاع الفتاوى الخانية بأنه: لا يثبت بخبر الواحد امرأةً كان أو رجلًا قبل العقد أو بعده. وقال في البحر: إنه لا يُعمل بخبر الواحد مطلقًا وهو المُعتمَد في المذهب. اهـ فلا يُحكم بفساد النكاح بسبب الرضاع بخبر الواحد ومنه إخبار امرأتينِ فقط بالرضاع كما في هذه الحادثة.
"والخلاصة": أنه لا يثبت الرضاع في هذه الحادثة قضاء عند الإنكار بشهادة هاتينِ المرأتين وحدهما ويثبت ديانة بتصديق الزوج مع الإصرار عليه سواء صدقتِ الزوجة أم لا، ولا يثبت مع تكذيب الزوج سواء كذبت الزوجة المخبر أم لا، وفي حالة الفساد يجب الافتراق ويثبت نسب الأولاد لمَا ذُكر. وهذا هو الحكم في هذه الحادثة، والله تعالى أعلم.(1/597)
الشكُّ في الرضاع يَمنع التحريم
"السؤال": من ملوى
(1) هل يجوز لرجل أن يتزوج بإحدى بنات خالتِه بعد أن قالت خالتُه: لا أعرف هل أرضعتك أم لا، وأظن أنى أرضعتُك مرة واحدة.
(2) وهل يجوز له أن يتزوج ببنت بنتها مع أنه لم يرضع من بنت الخالة التي هي أم البنت ولم ترضع بنت الخالة ولا بنتها من أمه كما لم ترضع البنت من جدتها التي هي خالته؟
"الجواب": اختلف الأئمة في مقدار الرضاع المُحرِّم، فذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأحمد في رواية عنه إلى أن قليل الرضاع وكثيره سواء في إيجاب التحريم، متى كان في مدته. وذهب الإمامانِ الشافعي وأحمد في المشهور من مذهبه إلى أن الرضاع المُحرِّم ما كان خمس رضعات مُتفرقات فأكثر كما في المغني لابن قدامه، وهو الذي اخترناه للفتوى، وإذا وقع الشكُّ في عدد الرضاع المحرم، هل كمل أم لا، بَنَى على اليقين، فلم يثبت التحريم مع الشك؛ لأن الأصل عدمه فلا يزول اليقين بالشك.
وعلى هذا لا يحرم على هذا الرجل أن يتزوج بإحدى بنات خالته ولا ببنت بنتها المذكورة للشك في حصول الرضاع أو لعدم تمام الرضعات المُحرمة، وهي خمسٌ متفرقات فأكثر على مذهب مَن ذكرنا، والله أعلم.
فتوى أخرى في أثَر الشكِّ
"السؤال": مِن مِيت غراب، دقهلية ـ تزوج بنت خاله ووُلد له منها، ثم ظهر أنها رضعت مِن والدته بعض رضعات، وبسؤال الوالدة قالت إنها تشكُّ في عدد الرضعات أهو أربع أو خمس، فما حُكم هذا الزواج شرعًا؟ وما حكم الأولاد الذين رُزقَا بهم؟(1/598)
"الجواب": رضاع هذه الزوجة من عمَّتها والدة زوجها حيث كان ثابتًا بيقينٍ، وإنما وقع الشكُّ في كوْن عدد الرضعات أربعًا أو خمسًا يحرم الزواج في مذهب الحنفية والمالكية وأحمد في رواية، متى كان الرضاع في مدته، وهي سنتانِ على المُفتَى به. ولا يحرم في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة القائلينَ بأن الرضاع المُحرم هو ما كان خمس رضعات متفرقات فأكثر لحصول الشك في كونه أربعًا فلا يحرم، أو خمسًا فيحرم، والتحريم لا يثبت مع الشك؛ لأن الأصل عدم التحريم فلا يُترك اليقين بالشكِّ، كما لو حصل شكٌّ في وجود الطلاق أو عدَده. "المغنى لابن قدامة". وقد اعتمدنا هذا القول في حوادث الرضاع رفقًا بالناس، والله أعلم.(1/599)
تكذيب خبر المرأة بالإرْضاع يُبطل أثَره
"السؤال": عرضتُ على خالتي الزواج من ابنتها فقبلتْ، وتزوَّجتُها ورُزقت منها بطفلةٍ عمرها الآن سنة تقريبًا، وفي جلسة عائلية مع خالتي قالت: "تبقى ابني وترضع من بِزِّي وتِشتمني". فدُهشتُ. وفي هذا الوقت كانت زوجتي غضبانة فتركتُها، وأرسلتُ هذا لفضيلتكم لإفتائي من ناحية الزواج ومن ناحية الابنة أيضًا، ولفضيلتكم الشكرُ.
"الجواب": إذا وقع في قلب الزوج كذبُ خالته أم الزوجة في إخبارها بأنها أرضعتْه أو شكَّ فيه فلا أثَر لهذا الخبر أصلًا، وإذا وقع في قلبه صِدْقُها فيه، فإنْ بيَّنت أن عدد الرضعات التي أرضعتْها إيَّاه أقلُّ من خمس مرَّات متفرقات، فكذلك لا أثر له، وإن بيَّنتْ أنه خمس مرات أو أكثر مُتفرقات، كانت زوجته أخته رضاعًا على ما اخترناه للفتوى وهو مذهب الشافعي وأحمد في مشهور مذهبه، وكان النكاح فاسدًا ووجب على الزوجين المُتاركة وإلا فرَّق القاضي بينهما.
وإذا وقع الشكُّ في العدد أهو خمس أم أقلُّ فلا أثَر لهذا الخبر أيضًا؛ لأن الحل ثابت بيقين فلا يزول بالشك كما نصَّ عليه الفقهاء. أما الطفلة التي رُزقَا بها فنسبها ثابت من الزوج شرعًا على كل حال، والله أعلم.
فتوى أخرى
"السؤال": "بولاق . القاهرة" ـ اعتزمتُ الزواج من ابنة خالتي، فلمَّا سمعتْ بذلك إحدى قريباتها قالت: إنها أرضعتْنا معًا بحُكم الصلة العائلية، ولمَّا سألتُ والدتي قالت: إنها لا تتذكَّر على وجه ثابت ما ذكرتْه هذه السيدة من أنها أرضعتنى، وإنْ جزمت بأنها أرضعتِ الفتاة، وزادت على ذلك أنه كان بينها وبين هذه السيدة في الزمن الذي نسبت إليه الرضاع خُصومة عائلية، وأيَّدتها في هذه الزيارة والدة الفتاة، مع العلْم بأن هذه السيدة لم تذكر حديث الرضاع إلا بعد أن عرفتْ الخطبة بيني وبين هذه الفتاة، فهل يجوز لي شرعًا الزواج منها؟(1/600)
"الجواب": إن السؤال صريح في أن موضوع الرضاع لم تُثره إلا إحدى قريبات الفتاة المَخطوبة حيث ادَّعت أنها أرضعت الخاطب، كما أرضعت المَخطوبة ولم تُخبره به إلا بمناسبة ما حدث من الخاطبة. وأن والدته قرَّرت أنها لا تذكر إرضاع هذه السيدة للخاطب على وجه ثابت، واتَّفقت والدتا الخاطب والمخطوبة على قيام خصومة بين هذه السيدة وأم الخاطب في وقت صغره لأمور عائلية. فإذا صدَّق الخاطب هذه السيدة فيما أخبرت به، وكان الرضاع في مدَّته شرعًا، وهي سنتان على الأصح المُفتَى به، وكان عدد الرضعات خمسًا فأكثر مُتفرقات على ما اخترناه للفتوى من أن الرضاع المُحرم هو ما كان خمس رضعات مفترقات فأكثر صارت هذه المُرضعة أُمًّا له ولمخطوبته من الرضاع، وصار هو ومخطوبته أخوينِ رضاعًا، فلا يحلُّ له التزوج بها؛ لأن تصديقه لها في ذلك بمثابة إقراره بالرضاع وإقراره به مع الإصرار عليه مُثبت للحُرْمة.
أما إذا لم يقع في قلبه صدْقها في إخبارها لوُجود شُبهة فيه أو وقع الشكُّ في حصول الرضاع أو عدمه أو الشك في عدده هل هو دون الخمس أو خمس فأكثر فلا يَحرم عليه الزواج من مَخطوبته إذِ القاعدة العامة أن: اليقين لا يزول بالشكِّ والأصل الحِلُّ، فلا يثبت التحريم مع الشك في الحل وعدمه كما ذكره ابن قدامة في المغني وغيره من كتب الشافعية. وهذا كله حُكم الديانة، أي فيما بين الإنسان وبين الله ـ تعالى ـ وأما في القضاء فلا يثبت الرضاع عند الحنفية إلا بشهادة عدلينِ أو عدل وعدلتين، ولا يُقبل على الرضاع أقل من ذلك كما لا تقبل شهادة النساء بانفرادهنَّ واحدة أو أكثر كما بيَّنَّاه في فتوانَا رقم: 298 في: 12 ديسمبر سنة: 1953 م سجل رقم: 71 في دار الإفتاء، والله أعلم.(1/601)
لا تحريم لعدَم الرضاع
"السؤال": شقيقتانِ أرضعت كل منهما ولد شقيقتها ثم تُوفي هؤلاء الذينَ رضع بعضهم على بعض، ثم أنجبت كلٌّ مِن الشقيقتينِ بعد ذلك، ولم يَرضع الأولاد الموجودون أحياء على بعضهم، فهل يجوز تزويج بعضهم من بعض؟
"الجواب": متى كان الحال كما ذُكر بالسؤال فإنه يجوز لأولاد كل مِن الشقيقتين الذين لم يرضعوا من الأخرى الزواج بأولاد الأخرى، والله أعلم.
...(1/602)
تحريم بنت الأختِ رضاعًا
"السؤال": رضعتُ مع أحد الأشخاص مِن والدته وكلانَا في سِنِّ الرضاع، ولهذا الشخص أختٌ تَكبره متزوجة من شخص غريب، وذلك قبل أن أرضع من والدتها، فهل يجوز لي أن أتزوج من إحدى بناتها؟
"الجواب": برضاع السائل من هذه المُرضعة صار ابنًا لها وأخًا لجميع أولادها من الرضاع سواء مَن رضع معه أو قبله أو بعده منها، ومنهم الأختُ المشار إليها بالسؤال وصارت بنتها التي يُريد التزوج بها بنت أخته رضاعًا، فتحرم عليه إذا كان قد رضع وهو في سن الرضاع، وكان عدد الرضعات خمسًا فأكثر متفرقات على ما ذهب إليه الإمام الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه، وهو الذي اخترناه للفتوى، ولا يحرم عليه التزوُّج بها إذا كان عدد الرضعات أقلَّ من خمس، والله أعلم.(1/603)
الرضاع بالشُّرْب من الكوب كالرضاع بالمصِّ من الثَّدْي
"السؤال": "المنيا" ـ شاب تزوَّج بنت خالته ولم يدخل بها، ثم أخبرته خالته بعد العقد أنها أرضعتْه وهو في سن الرضاع مع بنتها الأخرى التي تُوفيت، وكان شُربه لبنها في كوب خمس مرات أو أكثر أو أقلّ، ولا تذكر عدد الرضعات بهذه الطريقة بالضبط ـ فهل يجوز لهذا الشاب التزوج بهذه الفتاة أو يحرم شرعًا؟
"الجواب": إذا كان الحال كما ذكر بالسؤال، فيَحرم عند الحنفية على هذا الشاب التزوج بهذه الفتاة، قلَّ الرضاع أو كثر، وسواء أكان بالمصِّ من الثدْي أم بالشرب إذا وقع في قلبه صدق المُخبر، ويجب عليهما المُتاركة فورًا. وأما عند الشافعية والحنابلة في المشهور من أن الرضاع المحرم هو ما كان خمس رضعات متفرقات فأكثر، وأن ما دون الخمس لا يُحرم وأن الشك في عدد الرضعات لا يثبت به التحريم فتحلُّ له، ويصحُّ زواجه بها سواء أكان الرضاع بالمصِّ أم بالشرب من الكوب وبه نأخذ في فتاوينا، والله تعالى أعلم.(1/604)
رضاع الكبير لا يُحرم
"السؤال": رجل رضع مِن ثدي زوجته مرارًا ونزل اللبن في جوفه ـ فهل تحرم عليه زوجته؟
"الجواب": رضاع الكبير لا يُؤثر التحريم بينه وبين المُرضعة، والله أعلم.(1/605)
رضاع مُحرِّم
"السؤال": طفلٌ أرضعتْه جَدَّتُهُ أم أبيه طول مدة سِنِّ الرضاع، وله بنت عمٍّ شقيق، يريد الزواج بها وقد رضع أبوها من أمه وهي الجدة المذكورة طول مدة سن الرضاع، فهل تحلُّ هذه البنت لابن عمِّها المذكور؟ ...
"الجواب": برضاع الولد المذكور من جَدَّتِهِ لأبيه في مدة الرضاع وهي سنتانِ على المُفتى به صار أخًا لجميع أولادها من الرضاع، ومنهم عمُّه. فلا يَحِلُّ له التزوُّج ببنت عمِّه المذكورة في السؤال؛ لأنها بنت أخيه رضاعًا فتحرم عليه كما تحرم بنت الأخ نسبًا، والله أعلم.(1/606)
رضاع لا يُحرِّم
"السؤال": طفلانِ رضع كل منهما على الآخر ثم تُوفِّيَا منذ 25 سنة، ولكل من الطفلين أخواتٌ ذكور وإناث، تزوَّج بعضهم من بعض. فهل هذا الزواج صحيح؟
"الجواب": برضاع كل من الطفلينِ المذكورين اللذينِ توفيَا من أم الآخر لا يحرم زواج أبناء إحدى المُرضعتينِ من بنات الأُخرى؛ لأن كل واحد من الفريقينِ أخٌ لأخيه رضاعًا ـ وقد توفي الطفلانِ ـ وهو لا يحرم الزواج، والله أعلم.(1/607)
رضاع قد يُحرِّم مع ثبوت نسب الأولاد
"السؤال": "طوخ ـ قليوبية": أرضعتِ امرأةٌ ولدًا لغيرها، ولمَّا كبرتْ سِنُّهُ تزوَّج بِنْتها وأنجب أولادًا، فهل يحلُّ هذا الزواج شرعًا، وما حكم هؤلاء الأولاد من جهة النسب، وهل عليهما عقابٌ في الآخرة؟
"الجواب": لا يحلُّ لهذا الولد التزوج ببنت مُرضعته، لأنها أخته رضاعًا على ما ذهب إليه الأئمةُ القائلون بأن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم إذا كان الرضاع في سِنِّ الرضاع وهو سنتان على المفتَى به. وأمَّا على مذهب الشافعي والمشهور من مذهب أحمد مِن أن الرضاع المُحرم، هو ما كان خمس رضعات متفرقات فأكثر، فلا يحرم الزواج إذا كان عدد الرضعات أقل من ذلك، ويحرم إذا كان خمسًا فأكثر، وجرينا على الإفتاء به في حوادث الرضاع.
وفي حالة حُرمة الزواج تجب المُتاركة فورًا. أما الأولاد فنسبهم ثابت منه لكون الوطءِ وطأً بشُبهة إذا لم يكونَا عالمينِ بالحُرمة حين العقد ولا عقابَ عليهما في الأخرى إذا كانَا لا يعلمانِها، والله أعلم.(1/608)
رضاع
"السؤال": شابةٌ خطبها شابٌّ سبق أن رضع مِن والدتها، ورضع أخوها مِن والدته فهل يجوز لها الزواج منه؟
"الجواب": برضاع هذا الشاب من والدتها في مدة الرضاع، وهي سنتان على المفتى به صارت هذه الوالدة أُمًّا له من الرضاع، وصار هو أخًا لجميع أولادها من الرضاع، ومنهم الشابة المذكورة، فيَحرم عليه الزواج بها على مذهب الحنفية القائلينَ بأن قليل الرضاع وكثيره سواء في إيجاب التحريم. أما على مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الإمام أحمد من أن الرضاع المُحرَّم هو ما كان خمس رضعات متفرقات فأكثر فلا يَحرم عليه التزوُّج بها إلا إذا كان عدد الرضعات خمسًا فأكثر. وهذا هو الذي اخترناه للفتوى رفقاً بالناس في أمر الرضاع. والله أعلم.(1/609)
رضاع كذَّبت فيه المُخبِرة نفسها
"السؤال": أخوانِ متزوجان، الأول أنجب ابنًا والثاني أنجب بنتًا، وادعت زوجة الأول في حالة الرضاع أن بنت الثاني رضعت منها، وبعد مُضِيِّ خمسة عشر عامًا، أنكرتْ ما قالتْه أولًا، وقالت إن بنت الثاني لم ترضع منها، فهل يجوز الآن أن يتزوج ابن الأول ببنت الثاني؟
"الجواب": إذا ادَّعت امرأة أنها أرضعت طفلًا ثم أنكرت الرضاع وكذَّبت نفسها بعد ذلك، فإن الطفل لا يَحرم على أولادها ما لم يثبُت أنها أرضعتْه خمس مرات متفرقات فأكثر في مدة الرضاع بالبيِّنة الشرعيَّة، أو بتصديق الزوْج لخبرها في الرضاع هذه المرات المذكورة، والله أعلم.(1/610)
رضاع
"السؤال": رضعت من عمتي مع بنتها، فحرمت عليَّ، ولكن هل يصحُّ لي أن أتزوج من بنتٍ ولدتْها بعدها، وقد أنجبت بعدها سبع بنات؟
"الجواب": برضاع السائل من عمَّته صار جميع أولادها إخوةٌ له رضاعًا سواء من رضع منها قبله أو معه وهي البنت الكبرى أو بعده منها ومنهم البنت، التي يُريد التزوُّج بها، فتحرم عليه بناتها شرعًا، وهذا إذا كان الرضاع في سِنِّ الرضاع وهو سنتانِ على المفتى به، وكان عدد الرضعات خمسًا فأكثر متفرقات على ما ذهب إليه الإمام الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه. ولا تَحرم عليه إذا كان عدد الرضعات في سِنِّ الرضاع أقلَّ مِن خمس، وهذا هو الذي اخترناه للفتوى رفقًا بالناس، والله أعلم.(1/611)
رضاع ظهَر بعد الزواج
"السؤال": تزوجتُ من ابنة عمِّي وهي أيضًا ابنة خالتي، وأنجبت منها طفلينِ، وقد اكتشفتُ أخيرًا بطريق الصُّدْفة أنها رضعتْ مِن أمي وهي في سنِّ الرَّضاعة، مع العلم بأنها أصغر منِّي ولم نجتمع على ثدْي واحد، ومنذ ذلك اعتزلتُها. فما حكم الشرع في هذا الزواج وما الطريقة التي أتَّبِعُها؟
"الجواب": إن الرضاع المحرم على ما اخترناه للفتوى هو ما كان خمس رضعات متفرقات فأكثر، وهو مذهب الإمام الشافعي ومشهور مذهب الإمام أحمد، فإذا صدَّق الزوج مَن أخبرتْه بالرضاع، وكان عدد الرضعات خمسًا فأكثر، أو ثبت الرضاع المذكور بالبيِّنة الشرعية، كان نكاحهما فاسدًا، وحكمه أنه تجب فيه المتاركة، وإنْ لم يتركها الزوج، فرَّق القاضي بينهما، ولا حُرمة عليهما فيما مضى، وإنْ لم يُصدق الزوج هذا الخبر، ولم يثبت الرضاع المذكور بالبيِّنة الشرعية كان الزواج صحيحًا ولا تحريم بينهما، وإن كان الأحوط المُتاركة دِيانةً. أما نسب الولدينِ المذكورين، فإنه ثابت من هذا الزوج شرعًا على كل حال، والله تعالى أعلم.(1/612)
رضاع مُحرم باتفاق
"السؤال": أريد أن أتزوَّج فتاةً، وقد قالت والدتي ووالدتها بأن بيننا رضاعةً، حيث إنى وإخوتي رضعنَا مِن أمِّ الفتاة التي أرغب التزوُّج منها أيامًا كثيرة، ولكن الفتاة المذكورة لم تَرضع مِن والدتي. فما رأيْ فضيلتكم في ذلك؟.
"الجواب": مذهب الإمام الشافعي والمشهور من مذهب الإمام أحمد أن الرضاع الذي يُحرم الزواج هو ما كان خمس رضعات أو أكثر في مدة الرضاع وهي سنتان من وقت وِلادة الرضيع، ومذهب الإمامين أبى حنيفة ومالك أن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم متى كان في مدة الرضاع المذكورة.
ومادام السائلُ يُقِرُّ أنه قد رضع من أم الفتاة، التي يُريد التزوج بها أيامًا كثيرة فظاهر جليًّا أن عدد رضعاته منها كان أكثر من خمس مرات فيكون ابنًا لها من الرضاعة وأخًا لجميع أولادها لا فرق بين مَن رضع معه في وقت واحد ومَن ليس كذلك، وحينئذٍ لا يحلُّ له التزوج بالفتاة المذكورة باتفاق المذاهب الأربعة؛ لأنها أخته من الرضاعة، والله أعلم.(1/613)
رضاع مُحرم باتفاق
"السؤال": رجل يريد التزوج ببنت وكانت أمها قد رضعتْ من أمه على أخيه الأكبر منه سِنًّا، ولم ترضع معه، والرضعات كثيرة غير مَحدودة فهل يجوز له التزوج ببنتها أم لا؟
"الجواب": إذا كانت المرأة التي يُريد هذا الرجل التزوُّج ببنتها قد رضعت من أمه خمس رضعات مُتفرقات فأكثر في مدة الرضاع وهي سنتان على الأصحِّ المفتى به، صارت أُختًا له من الرضاع سواء كان رضاعها قبله أو معه، وصار جميع أولادها ومنهم هذه البنت أولاد أُخته من الرضاع، فلا يجوز له التزوُّج بهذه البنت باتفاق. والله أعلم.(1/614)
رضاع
"السؤال": لي زوجة عمٍّ، رضعت منها مع طفلتها الأولى ثم أنجبت بعد هذه الطفلة بنتين فهل يجوز لي شرعًا أن أتزوَّج إحدى هاتينِ البنتينِ أو يحرم عليَّ الزواج من أيِّ بنت من البنات الثلاث؟
"الجواب": برضاع السائل من زوجة عمِّه مع طفلتها الأُولى، وهو في سنِّ الرضاع، صارت المرضعة أمه من الرضاع، وجميع بناتها أخواته من الرضاع، سواء في ذلك الطفلة الأولى التي رضع معها، والبنتان اللتانِ رضعتَا من الأم بعدها، فتحرمْنَ عليه جميعًا. وهذا على ما اخترناه للفتوى إذا أرضعتْه خمس رضعات فأكثر. وأما إذا أرضعتْه أقلَّ من خمسٍ فإن الرضاع لا يُحرم على ما ذهب إليه الشافعيّ وأحمد في مشهور المذهب. والله أعلم.(1/615)
رضاع
"السؤال": رضعتْ والدتي مع بنت خالتها، ثم أنجبتْ هذه الخالة أولادًا كثيرين، منهم بنت وهي أصغر مِن أختها التي رضعتْ أُمِّي معها، فهل يجوز لي أنا "الابن" أن أتزوَّج من بنت خالة والدتي الصغرى، أم أن هذه البنت تُعتبر خالتي؛ لأن أختها الكبرى أخت والدتي في الرضاعة، مع العلم بأن هناك أكثر من واحد بين بنت الخالة التي رضعت معها والدتي والتي أُريد أن أتزوجها؟
"الجواب": إن والدة السائل إذا كانت رضعت من خالتها خمس مرات مُتفرقات فأكثر في مدة الرضاع وهي سنتان من ولادة المُرتضعة صارت بنتًا لخالتها من الرضاعة وأختًا لجميع أولادها، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم ويحرم زواج السائل بإحدى بنات خالةِ أمِّه لكونهنَّ خالاتُه رضاعًا على ما ذهب إليه الإمام الشافعي والإمام أحمد ـ رحمهما الله ـ في مشهور مذهبهما، وهو ما اخترناه للفتوى، أما إذا كان عدد الرضعات أقل من خمس فلا يَحرم. والله أعلم.(1/616)
للمُقلد الأخذ بأيِّ مذهب في الرضاع يُفتَى به
"السؤال": لي خالٌ شقيق أُريد أن أتزوج ابنته، مع العلم بأني رضعتُ مع أخيه خالي من الأب رضعةً واحدة مُشبعة فهل يجوز لي أن أتزوج ابنة خالي الشقيق؟ مع مُلاحظة أن الذي أخبر بالرضاع هو امرأةٌ واحدة وهي المُرضعة "أم خالي من الأب" وهل يثبت التحريم بشهادة امرأة واحدة؟ وهل يجوز لي أن أُقلد بعض المذاهب إذا كان مذهبي الذي أُقلده يُحرم ذلك مثلًا؟
"الجواب": الرضاع المُحرِّم في مذهب الإمام الشافعي، ومشهور مذهب الإمام أحمد ما كان خمس رضعات متفرقاتٍ فأكثر في مدة الرضاع وهي سنتانِ على المُفتَى به.
فإذا كان السائل لم يرضع مِن أمِّ خاله من الأب وهي زوجة جدِّه لأم صاحب اللبن سوى مرة واحدة، فإنه يحلُّ له الزواج ببنت خاله الشقيق على المختار للفتوى ما لم يوجد مانع آخر، وللسائل وأمثاله الأخذ بهذا الحُكم ولو كان في غير المذهب الذي يُقلده، والله أعلم.(1/617)
رضاع مَشُوبٌ بِشَكٍّ
"السؤال": أردتُ أن أتزوج ببنت خالتي فأخبرتْني والدتي أنى رضعتُ من خالتي المذكورة، وقال خالي إن هناك ضغائنُ بين أُمك وخالتك حملتْ الأُم على هذا القول ـ فتمَّ الزواج وأقرَّت أمي الزواج تحت تأثير خالي، ثم بعد وفاة أُمي وخالتي سألتُ خالتي الثانية فلم تُجبني جوابًا شافيًا، وأنا الآن بعيدٌ عن زوجتي حتى أعرف الحكم الشرعيَّ.
"الجواب": إنه متى وقع في قلب الزوج صِدْق المُخبر بالرضاع وجب عليه مُفارقة زوجته سواء كان الرضاع قليلًا أم كثيرًا، وهذا عند الحنفية. ومذهب الشافعية والحنابلة في المشهور عن الإمام أحمد أن الرضاع المُحرم هو ما كان خمس مرات مُتفرقات في مدة الرضاع وهي سنتانِ من ولادة الرضيع، فلا تجب المتاركة، ولا تحرم المُصاهرة بما دون الخمس ولا في حالة الشك في أن العدد خمس أو أقل، وإن كان الأحْوط المتاركة في حالة الشكِّ. ومن هذا يُعلم الجواب عن السؤال. والله تعالى أعلم.(1/618)
رضاع مُحرِّم
"السؤال": رضعتْ بنتى من زوجة عمِّها، ثم تزوجتْ من ابن زوجة عمِّها المذكورة، وعاشت معه خمس سنينَ، أنجبت خلالها طفلين، وحدث بينهما شقاق، وظهر أمر الرضاع، فما حُكم الشرع في ذلك؟
"الجواب": إذا ثبت أن هذه الزوجة رضعتْ مِن أم زوجها خمس رضعات مُتفرقات في مدة الرضاع، وهي سنتانِ على الأصحِّ المُفتَى به، كانت هذه الزوجة أُختًا لزوجها من الرضاع، بناء على القوْل بأن الرضاع المُحرم ما كان خمس رضعات متفرقات فأكثر، وهو مذهب الشافعية وأحمد في المشهور عنه، وهو الذي اخترناه للفتوى. وعلى ذلك تكون هذه الزوجة مُحرَّمة على زوجها كأُخته من النسب، ويجب عليهما الافتراق لفساد نِكاحهما شرعًا، وتجب عليها العدَّة من تاريخ الافتراق ويثبت نسب أولادهما منه، فإنْ لم يفترقَا ورفع أمرهما إلى القضاء، فرَّق القاضي بينهما والله أعلم.(1/619)
رضاع مَشوب بشكٍّ
"السؤال": "الإسكندرية" لي ابنة خالة أريد الزواج بها، ولما أبديت هذه الرغبة قالت والدتي إنها تذكر أنها قد أرضعتها، لكن لا تعرف هل أرضعتها كثيرًا أم قليلا. وفهل يباح لي زواجها شرعا ؟
"الجواب": إنه بناء على ما جرينا عليه في فتاوينا من أن الرضاع المُحرم هو ما كان خمس رضعات متفرقات فأكثر، وهو مذهب الشافعية والمَشهور من مذهب الإمام أحمد، وعلى ما تقرّر من أنه مع الشكِّ في عدد الرضعات لا يثبت التحريم؛ لأن ما ثبت بيقينٍ، لا يزول بالشكِّ، والأصل الثابت بيقين هو الحلُّ، فلا يكون لإخبار والدة السائل بأنها أرضعت هذه الفتاة مع عدم علْمها بعدد الرضعات أثَّر في تحريم الزواج، فيحلُّ للسائل الزواج من هذه الفتاة، والحال ما ذكر، والله أعلم.(1/620)
القسم بحق الله وحق المُصحف
"السؤال": رجل قال: أُقسم بحق الله ـ عز وجل ـ وبحقِّ هذا المصحف كلام رب العالمين أنِّي لا أفعل كذا وسأل الله ـ تعالى ـ إذا هو فعله أن ينتقم منه في الحال حتى لا يعود إليه، ثم بعد مدة فعَل ما أقسم على عدم فعْله، ثم أسرع بالتوبة فهل تجب عليه الكفارة بهذا الحِنْث؟
"الجواب": "الحق" من أسمائه ـ تعالى ـ الحسنى ومن صفاته العلية، "والمصحف" ما كُتب فيه القرآن الكريم الذي هو كلام رب العالمين، وقد تعارَف الناس الحلِف بذلك، فيقولون: وحقِّ الله ـ تعالى ـ يريدون بالحق الاسم أو الصفة على معنى والحق الذي هو اسم لله، أو الذي هو الله أو والحق الذي هو وصف لله، أو يريدون والله أو القرآن مع إقحام كلمة حق للإشارة إلى أن لله وللقرآن حقًّا على العبد ويقولون: " وحقِّ المصحف الشريف" يريدون ما بين دفتيه من كلام الله ـ تعالى ـ كما يقولون: "وحق القرآن" يريدون كلامه ـ تعالى ـ المُنزَّل على رسوله المقروء بالألْسنة، المحفوظ بالصدور، المكتوب في المصاحف، فهي أيْمانٌ مشروعة عند الأئمة الثلاثة وجمهور فقهاء الحنفية.
ففي الفتاوَى الخانية والظهيرية أن قول الحالف: "وحقِّ الله تعالى" يمينٌ، وقد اختاره صاحب الاختيار كما في الدُّرِّ المختار.
وفي شرح العيْني: "لو حلف بالمُصحف أو وضع يده عليه وقال: وحقِّ هذا المصحف، فهو يمينٌ لا سيما في هذا الزمان، الذي كثُرتْ فيه الأيمان الفاجِرة، ورغبة العوامِّ في الحلف بالمُصحف". ا هـ. وأقرَّه صاحب النهر، والمراد الحلف بما فيه من كلام الله ـ تعالى ـ وقال الكمال: " إن الحلف بالقرآن مُتعارَف الآن فيكون يمينًا". ا هـ. والأيمان مبنيةٌ على العُرْف.(1/621)
وإذا حنَث الحالف وجبتْ عليه الكفَّارة، وهى كما قال ـ تعالى ـ: (فَكفَّارتُه إِطْعامُ عشْرَةِ مَساكينَ مِن أوْسَطِ ما تُطعِمونَ أَهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ أوْ تَحرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ ذلكَ كفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ).
وما في السؤال من قوله: إنه سأل الله ـ تعالى ـ أن يَنتقم منه إذا أتى هذا الفعل فهو ليس بيمينٍ شرعًا. بل هو دعاء على نفسه، ولا يتعلق ذلك بالشرط كما يُؤخذ مما نصَّ عليه فقهاء الحنفية فيمَن قال: " إنْ فعَله فعليه غضبُ الله وسخطه، إنه ليس بيمينٍ شرعًا للعلَّة المذكورة ".
والدعاء على النفس بالشرِّ مُنجزًا أو مُعلَّقًا منهيٌّ عنه كما يُشير إليه قوله ـ تعالى ـ: (ويَدْعُو الإنسانُ بالشَّرِّ دُعاءَه بالخَيْرِ وكانَ الإنسانُ عَجُولًا). وفي حديث جابر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لئلَّا تُوافقوا من الله ـ تعالى ـ ساعةً فيها إجابةٌ فيَستجيب لكم". أخرجه أبو داود والبزَّار، وما أخرجه الواقدي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ من دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها في حادثة الأسير الذي هرَب منها بقوله: " قطع الله يدكِ" فليس القصْد منه الدعاء عليها، كما ذكره الآلوسى في تفسيره هذه الآية، وإنما هو نمَط ممَّا جرتْ به عادةُ العرب في وصل الكلام به بلا نِيَّةٍ مثل: "تَرِبَتْ يَمِينُكَ، ورَغِمَ أَنْفُكَ".. ونحوه. والله أعلم.(1/622)
اليمين الغَمُوس
"السؤال": رجل حلف أمام القضاء بقوله: أُقسم بالله العظيم أن عُمْر ابني: 15 سنة، وهو يعلم أن عمره يزيد عن ذلك بسَنة ونصف تقريبًا، وإنما أخبر بغير الواقع رعايةً لمصلحةِ الولد في أمر آخر، فهل لهذه اليمين كفَّارة؟
"الجواب": هذه اليمين من قَبيل اليمين الغَموس، وهى كبيرة لانتهاكِ حُرْمة اسم الله ـ تعالى ـ بها، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "الكبائر الإشراك بالله. وعُقوق الوالدين، وقتْل النفس، واليمين الغموس". رواه البخاري.
والمراد أن هذه الأربعة من الكبائر وليست كل الكبائر. والكبائر تتفاوت في الإثْم، ويعظم إثْم هذه اليمين الغَموس إذا اقتُطع بها مال امرئ مسلم أو ضُيِّعَ بها حقه، وسُميتْ غَموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، ولم يُشرع فيها الكفارة، فتجب فيها التوبة النَّصُوح رجاء التخلُّص مِن إثمها، ولا عِبرة بما ذكر مما يُبرر الكذِب في اليمين. فإن الحلِف على كذِبٍ، يَعلم الحالف كذبه حرامٌ في كل حال، والله أعلم.(1/623)
حُكم الحلِف بغير الله تعالى
"السؤال": هل يجوز الحلِف باسم ولِيٍّ من أولياء الله ـ تعالى ـ أو غيره، أو بحُرمة مقامه، أو رأسه، أو بحياة الأب، ونحو ذلك؟
"الجواب": لا يجوز الحلف إلا باسم الله ـ تعالى ـ وصفاته، ولا يَجوز الحلف بغير ذلك اتِّفاقًا لحديث ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع عمر، وهو يحلف بأبيه، فقال: "إنَّ الله ينهاكم أن تَحلفوا بآبائكم، فمَن كان حالفًا فليحلفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ". "متفق عليه". وفي رواية قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن كان حالفًا فلا يحلف إلَّا بالله، وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال لا تحلفوا بآبائكم". رواه مسلم وأحمد والنسائي.
والحلف بغير الله ـ تعالى ـ حرامٌ كما جزم به ابن حزم، أو مكروهٌ كما جزَم به إمام الحرمينِ. وللمالكية والحنابلة قولانِ، وجمهور الشافعية على أنه مكروهٌ تنزيهًا. وقال بعض الفقهاء: إن اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله ـ تعالى ـ كان بذلك الاعتقاد كافرًا. "ذكره الشوكاني".
ومِن هذا يُعلم أنه يَحرم أو يُكره الحلِف بالنبيِّ وبالولِي وبالأب، وبغيرهم ممَّا ذكر بالسؤال ونحوه. والله أعلم.(1/624)
قسَمٌ مُعلَّق
"السؤال": قال رجلٌ لعاملٍ عليه دَينٌ له: "لو استأجرتُكَ عندي قبل أن تُسَدِّدَ ما عليك مِن الدَّينِ أكونُ كافرًا". فهل هذا يمينٌ شرعًا؟
"الجواب": إذا كانت الصيغة كما ذكر كانت يمينًا مُعلَّقًا عند الحنفية، ويلزم الحالف كفارة اليمين بالحِنْث فيها كما في الدُّرِّ وحاشيته. والله أعلم(1/625)
عهد الله يمينٌ
"السؤال": رجل حلَف أولا بقوله: أعاهد الله أن أكفَّ عن التدخين ابتداءً من: 15 شعبان "سنة 1369 هـ" إلى آخر شعبان. ثم تناول الدخان في يوم: 29 منه بعد صلاة العشاء، فهل يكون في ذلك حانثًا في يمينه؟
وحلف ثانيًا بقوله: أُعاهد الله ـ تعالى ـ أن أَكُفَّ عن التدخين ابتداء من 15 شعبان إلى آخر رمضان إنْ شاء الله، ثم شرِب الدخان في: 29 رمضان بعد العشاء، فهل يحنِث بشُربه؟
"الجواب": نصَّ الحنفية على أن مِن صِيَغِ اليمينِ قوله: عهْد الله ومِيثاقه لا أفعْل كذا. فإذا فعَل حنَث في اليمين، ووجبت عليه الكفارة، وهى تحرير رقبَةٍ أو إطعام عشرة مساكين أو كُسوتهم بما يَسْتُرُ عامَّة البدن، فإن عجَز عن إحداهما صام ثلاثة أيام متتابعةٍ. وحيث إنَّ السائل قد شرب الدخان في التاريخ المذكور فيكون شربه بعد انقضاء شهر شعبان إذْ عدَّته في هذا العام 29 يومًا ونهاية اليوم الأخير منه غُروب الشمس فلم يَحنث في حلفه الأول.
أما الحلف في المرة الثانية فلا حِنْثَ فيه بالشرب في أثناء المدة لتعليق اليمين بالمشيئة، وقد نصَّ الحنفية على أنه لا حنث مع التعليق بالمَشيئة لحديث: "مَن حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه". والشرط أن يكون التعليق بالمشيئة مُتَّصِلًا بالحلف لا مُنفصلًا عنه كما ذكره الإمام السرخسي وغيره من الفقهاء، والله أعلم.(1/626)
النذْر لله وهِبَةُ الثواب للميتِ
"السؤال": هل يجوز لمَن فعل طاعة أن يهدي ثوابها لغيره حيًّا كان المُهدَى إليه أو ميتًا .. وهل يصل الثواب إليه؟
وما حُكم النذر وهبة ثواب المنذور إلى الغير؟
"الجواب": النذْر شرعًا إنما يكون فيما يُبتغى به وجه الله ـ تعالى ـ وهو الطاعة والقُربة كنذْر صلاة أو صوم أو حجٍّ أو صدقة ونحوها، وهو واجب الوفاء لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "مَن نَذَرَ أنْ يُطيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ". فإذا وفَّى بما نذَر فقد أتى طاعةً، وفعل قُرْبَةً، واستحقَّ ثوابها مِن الله ـ تعالى ـ جزاءً بمَا عمَل. ولكل مَن استحقَّ ثوابًا بطاعة أدَّاها أن يَطلب من الله ـ تعالى ـ جعل ثوابَها لغيره. وقد اتفق الأئمة كما ذكره النووي على وُصول ثواب الصدَقة والدعاء إلى الميت، ففي الصحيحينِ عن عائشةَ ـ رضى الله عنها ـ: "أنَّ رجلًا قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أمِّي أفتلتتْ "توفيت فجأةً" وأراها لو تكلمتْ تصدَّقتْ فهل لها أجرٌ إنْ تصدَّقتُ عنها؟ قال: نعم". وفي السُّنن: "إذا صلَّيتم على الميت فأخْلصوا له في الدعاء". ولو لم يكن في الدعاء للميت والاستغفار له نفْع له لمَا شرع في صلاة الجنازة.
وفي شرح المنهج أن الدعاء مُتَّفَق عليه أنه ينفع الميت والحى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الميت ينتفع بجميع العبادات البدنية من صلاة وصوم وقراءة القرآن، كما ينتفع بالعبادات المالية مِن الصدقة ونحوها، وكما لو دُعي له واستُغفر له. ا هـ.
وفي المُحلَّى لابن حزم: "إن الله ـ تعالى ـ يتفضَّل على الميت بعد موته ولا نِيَّةَ له ولا عمل بأنْ يأجُره بدعاء ابنه له بعده، وبما يعمله غيره عنْه مِن حجٍّ أو صيام أو صدَقة، ويفعل الله ما يشاء".(1/627)
وفي فقه الحنفية أن للإنسان أن يجعل ثواب جميع أنواع البِرِّ لغيره ويصل ثوابها إليه، وقد بيَّنَّا ذلك بإسهاب في فتوانَا الصادرة بدار الإفتاء في: 14 من أغسطس سنة: 1947 م المسجلة برقم: 377 وفي التعليق عليها. والله أعلم.(1/628)
أسئلة مُنوَّعة حول الديون والكفَّارة والنَّذْر
"السؤال":
(1) رجل عليه ديون للناس، وعليه نذْر واجب، وعليه كفارة صوم، ويُريد الآن أداء هذه الواجبات، ولكنه لا يستطيعه دفعةً واحدةً، فما الذي يبدأ به منها؟
(2) وهل يجوز له دفع القيمة نقدًا للمساكين في كفارة الصوم بدل إطعامهم؟.
(3) وما مقدار ما يجب دفعه لكل مسكين؟
(4) وإذا لم يُوجد في بلده مسكين، وهو مَن لا يجد قُوت يومه، فلمَن تُصرف الكفَّارة المَذكورة.
"الجواب": يُؤخذ ممَّا ذكره فقهاء الحنفية في باب الوصية، وفيما يتعلق بالترِكة من الحقوق أن يبدأ بسداد الدُّيون التي وجبتْ في ذِمَّتِه للعباد لكونهم أحوج، ثم يُثني بكفارة الصوم، ثم بالنذْر إذا كان ممَّا يجب الوفاء به شرعًا.
قال ابن عابدين: "ولا يُقدم الفرض على حقِّ الآدمي لحاجته".
وقال الطواويسي: "يبدأ بكفارة الإفطار ثم بالنذْر". ا هـ ملخصًا.
ولا فرق في هذا بين حالة ما بعد الموت وحالة الحياة، وعليه أن يقضيَ ما أفطره في رمضان حتى وجبت عليه الكفارة بدون مُراعاة هذا الترتيب.
وكفارة الصوم مثل كفارة الظَّهار في الترتيب عند الأئمة الثلاثة، وهى تحرير رقبة، "وهذا مفقود الآن"، فإن لم يجد فصيام شهرينِ مُتتابعين، فإن عجز عن الصوم لمرضٍ لا يُرجَى بُرْؤُهُ، أو كِبَرِ سِنٍّ، أطعمَ ستينَ مِسكينًا لحديث أبى هريرة قال: "جاء رجلٌ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: هلكتُ يا رسول الله. قال: وما أهلككَ؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان. قال: أعْتِقْ رقبةً. قال: لا أجدُها. قال: صُمْ شهرينِ مُتتابعينِ، قال: لا أُطيق. قال: أطعمْ ستينَ مِسكينًا". "رواه الجماعة واللفظ لابن ماجة".
وذهب مالك إلى أن أفعال الكفَّارة على التخيير، والأفضل الإطعام.
وعند الحنفية في الإطعام لكل مسكينٍ نصفُ صاعٍ مِن بُرٍّ أو صاع من تَمْرٍ أو شعير "والصاعُ قدحانِ وثُلث بالكيْل المصري".(1/629)
أو يُطعم الستونَ مسكينًا غداء وعشاء بخُبز معه إدام، أو غَداءينِ أو عَشائينِ مُشبعينِ، ويجوز دفع القيمة نقدًا، بل هي أفضل في وقت السَّعَة على المُفتَى به، ودفع العيْن أفضل في وقت الشدة.
ويَظهر لي أن دفْع القيمة أفضل في المدن، ودفع العين أفضل في القرى.
وتُصرف الكفارة لمَن تُصرف إليه زكاة الفطر والزكاة المفروضة وهم المذكورون في آية التوبة رقم: (60) ما عدَا العاملين على الصدقات؛ لأنهم لا عِمالة لهم على الكفارات.
فالفقير وهو مَن له دون النِّصاب، والمِسكين؛ وهو مَن لا شيء له على المُعتمد عليه عند الحنفية في تفسيرهما، مِن مصارف الكفارة فلا تختصُّ بالمساكين، وفي القهستاني: والتعبير المسكين اتفاق لجواز الصرْف إلى غيره من مصارف الزكاة، فلو تُصوِّر خُلُوُّ بلد منهما صُرف لباقي المصارف أو الفقراء والمساكين في بلد آخر.
وعند المالكية في الإطعام يُطعِم كل واحد من الستينَ مسكينًا، أو فقيرًا مُدًّا، وهو مَلْءُ اليدينِ المتوسطتين، ولا يُجزئ الغداء أو العشاء عن المُدِّ، خلافًا لأشهب، كما في الشرح الكبير.
وعند الحنابلة كما في المغني يُعطَى لكل مسكينٍ مُدٌّ مِن بُرٍّ وهو "ربع صاع" أو نصف صاع من تمرٍ أو شعير، ولا يُجزئ عن ذلك الغداء أو العشاء في أظهر الروايتينِ عن أحمد ـ رضى الله عنه ـ والرواية الثانية أنه يُجزئ. ا هـ. ملخصًا.
وعند الشافعية كما في المجموع يُعطى لكل مسكينٍ مُدَّانِ مِن الحِنْطَةِ، أو صاعٌ مِن سائر الحُبوب، والله أعلم.(1/630)
حُكم التحليف في الانتخابات ونحوها
"السؤال": تنافس اثنانِ على منصب العُمدية، فأخذ أحدهما يُحَلِّفُ الناخبين على المصحف الشريف أن ينتخبوه دون مُنافسه، فحلف بعضهم ثم تبيَّن أن المصلحة العامة في الجهة تُوجب انتخاب منافسه دونه، فهل يلزمه شرعًا التقيُّد باليمين وانتخاب غيْر الكُفْءِ الصالح، أو يجوز له شرعًا، يُكفر عن اليمين وينتخب الكفء الصالح.
"الجواب": الحلِف على المصحف:
نصَّ الفقهاء على أنه لو حلَف بالمصحف أو وَضع يدَه عليه، وقال: وحق هذا المصحف فهو يمين. وقال الإمام العيني: لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه الأيمان الفاجرة، ورغبة العوامِّ في الحلف بالمصحف. ا هـ. وأقرَّه في النهر، والمراد به الحلف بما فيه من كلام الله ـ تعالى ـ وقال الكمال: إن الحلف بالقرآن مُتعارَف الآن فيكون يمينًا، والأيْمانُ مبنية على العُرف. ا هـ. وقد بيَّنا ذلك في فتوى سابقة.
الحِنْثُ في اليمين:
والحنث في اليمين يُوجب الكفَّارة، وهى كما قال ـ تعالى ـ في سورة المائدة: (فَكفَّارتُه إِطْعامُ عشْرَةِ مَساكينَ مِن أوْسَطِ ما تُطعِمونَ أَهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ أوْ تَحرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ ذلكَ كفَّارَةُ أيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ).
والحنث في اليَمين مشروع إذا كان خيرًا من التمادي فيه، فعن عبد الرحمن ابن سَمُرَةَ، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا حلفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرها خيرًا منها فأْتِ الذي هو خير، وكفِّر عن يمينِك". وفي رواية: "فكفِّر عن يَمينِكَ وأْتِ الذي هو خيرٌ". رواه النسائي، وأبو داود، وذكره صاحب منتفي الأخبار.(1/631)
وقال الشوكانى: فيه دليل على أن الحنث في اليمين أفضلُ من التمادي فيه إذا كان في الحنث مَصلحة، ويختلف ذلك باختلاف حُكم المحلوف عليه، فإن حلف على فعْلِ أمرٍ واجب، أو ترك أمر حرام، فيَمينه طاعة، والتمادي فيه واجب، والحنث معصية، وعكسه بالعكس. ا هـ. أي: وإنْ حلف على فعْل أمر مُحرَّم أوترك أمر واجب فيَمينه معصية والتمادي فيه حرام، والحنث طاعة.
وقد قيل في تفسير قوله ـ تعالى ـ: (واحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) إن معناه: احْفظوها من الحِنْث ما لم يكن على فِعْلِ بِرٍّ، فإذا حلف ألَّا يتصدَّق على فلان، والصدقة عليه بِرٌّ، فإنه يحنث ويتصدَّق كما قيل في تفسير قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (ولا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بيْنَ النَّاسِ). إن معناه: لا تجعلوا الله حاجزًا لمَا حلفتم عليه، وتركتموه من أنواع الخير. ا هـ. أيْ: فافعلوا البرَّ والخير، وما فيه التقوى والإصلاح، ولا تجلعوا الأيمان حائلةً بينكم وبين ذلك، فأْتوا الذي هو خير، وكفِّروا عن اليمين، وبالأَوْلَى إذا كان الحلف على فعل معصية أو ترْك واجب فإنه يجب الحنْث والكفارة.(1/632)
هذا فقه المسألة، ولا شكَّ أن منصب العُمدية في البلاد من المَناصب ذات الشأن التي لا يجوز أن تُقَلَّدَ غير أهلها، ومَن لا يصلح لها، ولذلك شُرع الانتخاب له ضمانًا لإسناده لمَن فيه الأهلية والكفاية، وفي تعيينه المَصلحة العامَّة لأهل القرية. فمِن الواجب شرعًا على كل ناخبٍ ألًا يُراعى في الانتخاب لهذا المنصب، وما ماثله غير المَصلحة العامة، فيُنتخب الأكْفأ الأصلح، ولا يُمكَّن مَن هو دون ذلك منه بشهادته، وإلَّا كان شاهدَ زُورٍ، وساعيًا في ضرَر الجماعة، فإذا استحلفه أحدُ المرشحين لا يحلف أصلًا، وإذا حلف ثم تَبَيَّنَ له أن منافسه هو الصالح أو الأصلح حقًّا دون مَن استحلفه، وجب عليه أن ينتخب المُنافس ويُكفِّر عن يمينه، وكان الحنْث في هذه الحالة واجبًا والتمادي في اليمينِ معصيةٌ.
وكذلك الحُكم في سائر الانتخابات التي تُجرَى في البلاد لعضوية الهيئات العامة أو النقابات وغير ذلك، فإنه يجب انتخاب الكُفْءِ الصالح، ولا يجوز انتخاب مَن لا كفاية فيه ولا صلاحية لهذه الولاية، فإذا استحلف الناخب على انتخابه لزِم الحنث في اليمين، والإتيان بالذي هو خير، ولا يجب الوفاء بهذا الحلف كما يُشير إليه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّهِ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا نَذْرَ ولا يَمِينَ فيمَا لا تَملكَ، ولا في معصية، ولا في قطيعةِ رَحِمٍ". وهو محمول كما في مُنتقَى الأخبار على نفْي الوفاء بهما.
الجرأة على الله في الأيمان:(1/633)
وقد أكثر الناس من الحلف في هذه المواطن، واتِّخاذ اسم الله ـ تعالى ـ عُرضة فيها، وهو مذموم كما قالتْه السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ في تفسير قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ). إن المعنى: لا تجعلوا الله نَصْبًا لأيمانكم فتَبذلوها بكثرة الحلف بالله في كل حقٍّ وباطل؛ لأن ذلك جُرأة على الله ـ تعالى. وإلى هذا التفسير ذهب الجبائى وأبو مسلم، وهو رواية أخرى في تفسير الآية غير ما سبق ومثله في القرطبي، وزاد أن الله ـ تعالى ـ ذَمَّ مَن كثَّر اليمين بقوله: (ولا تُطِعْ كُلَّ حلَّافٍ مَهِينٍ). فالهَدْيُ القُرآني صريح في ذمِّ ذلك، ويجب التأدُّب بأدبه، والله أعلم.(1/634)
الحنْث في الأيمان والكفارة
"السؤال":
1 ـ رجل حلف على المصحف وعاهد الله ـ تعالى ـ ألَّا يشتريَ لحمًا من قصَّاب معين لخلافٍ وقع بينهما، ثم زال الخلاف، ويُريد الشراء منه، فهل تلزمه كفارة يمين إذا اشترى منه، وهل تُقَدَّمُ على الحنْث أو تُؤَخَّرُ عنه؟
2ـ عَيَّنَتْ وزارة الأوقاف مَن يُقيم الشعائر الدينية في مسجد بلدتنا بدل أخيه المتوفَّى بمُرتب شهري، فحصل بينه وبين بعض المُصلين خلاف، وحلف ألَّا يُؤذن ولا يُصليَ بالناس ولا يُخاطبهم، وعاهد الله على ذلك وأناب عنه شخصًا آخر في إقامة الشعائر، وأصرَّ على ذلك إصرارًا، فما هو الحُكم الشرعي في ذلك.
"الجواب": عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنَّ الله ينهاكمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبائِكمْ فمَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ". "متفق عليه". وذلك بذكر لفظ الجلالة أو اسمٍ آخر مِن أسمائه ـ تعالى ـ كالرحمن والرحيم والقدير، أو صفة مِن صفاته التي يَحلف بها عُرْفًا على ما ذهب إليه مشايخُ الحنفية فيما وراء النهر، لابتناء الأيْمان على العُرف، سواء أكانت الصفة صفةُ ذاتٍ، وهى التي لا يجوز وصْفه ـ تعالى ـ بضِدِّها، كعزَّة الله وجلاله، أو صفة فعْلٍ، وهى التي يجوز وصْفه بها وبِضِدِّهَا كالرحمة والغضب، لجواز أن يُقال: رحم الله المؤمنين، ولم يرحم الكافرين، وغضب على اليهود دون المسلمين.
وذهب العراقيون من الحنفية، إلى أن الحلف بصفات الذات يمينٌ وبصفات الفعل ليس بيمينٍ، والأول هو الأصحُّ، كما نقل عن البرهان وصحَّحه الزيلعي، واختاره صاحب الهداية والعناية.
الحلف بالقران:(1/635)
وقد تعارف الناس الحلف بقولهم: والقرآنُ الكريم أو وحقُّ القرآن الكريم لأفعلنَّ كذا أو لا أفعل كذا، فذهب الأئمة الثلاثة والمُتأخرونَ من الحنفية إلى أنه يَمينٌ لكوْنه حلفًا بصفة مِن صفاته ـ تعالى ـ وهى الكلام، فهو كالحلف بعِزَّتِه وجلاله، كما ذكره الكمال في الفتح ونصَّ عليه في الفتاوى الهندية ورد المحتار، وقال ابن قدامة في المغني: إن الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام الله ـ تعالى ـ يمينٌ، وبه قال ابن مسعود والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأبو عبيد وعامَّة أهل العلم.
الحلف بالمصحف:
وكذلك تعارفوا الحلف بالمُصحف يُريدون ما بين دفتيه من كلام الله ـ تعالى ـ فهو حلف بصفة الكلام فيكون يمينًا.
قال العيني: وعندي أنه لو حلف بالمصحف أو وضع يده عليه أو قال: وحقِّ هذا فهو يمينٌ، لا سيما في هذا الزمان الذي كثُرتْ فيه الأيمان الفاجرة ورغبة العوامِّ في الحلف بالمُصحف. ا هـ. وإليه ذهب الأئمة الثلاثة كما في الفتح ورد المحتار والمغني.
الحلف بعهْد الله وميثاقه:(1/636)
وإذا حلف بعهد الله أو قال: عليَّ عهد الله أو قال: عليَّ عهدٌ فهو يمين؛ لأن عهد اللهِ ميثاقه، ومعناه ـ كما ذكره الراغب في مُفرداته ـ ما ركَزه الله ـ تعالى ـ في عقولنا أو ما أمرنا الله به في كتابه وعلى لسان رسوله، والمعنى الأول راجع إلى صفة الفعل كالخلْق، والمعنى الثاني راجع إلى صفة الكلام وهى صفة ذاتٍ؛ لأن الأمر والنهى من أنواعه كما تقرَّر في علم الكلام، وقد جرى العرف بالحلف بذلك فهو يمين عند الحنفية، إذا أطلق الحالف ولم يَنْوِ، وكذا عند مالك وأحمد لو نوَى اليمين، وأما إذا نوَى عدم اليمين، فلا يكون يمينًا فيما بينه وبين الله ـ تعالى ـ كما يُؤخذ من عبارة الفتح القدير، وقال ابن قدامة: إنَّ كوْنه يمينًا مذهب الحسن وطاوس والشعبي، والحارس العُكْلي، وقتادة والأوزاعي ومالك، وقال عطاء وأبو عبيد وابن المنذر: لا يكون يمينًا إلا بالنِّيَّة، قال الشافعي لا يكون يمينًا إلا إذا نوَى بعهْد الله صفته ـ تعالى. ا هـ.
هل تُقدَّم الكفارة على الحنْث أو تُؤخَّر عنه؟
تجب الكفارة بالحنْث في اليمين المُنعقدة. واتَّفق الأئمةُ على أنه إذا أتى بها قبل الحلف لا تُجزئ، واختلفوا في الإتْيان بها بعد الحلف وقبل الحنْث، فذهب الحنفية إلى أنها لا تُجزئ؛ لأن سبب الكفارة هو الحنْث، والشيء لا يتقدَّم على سببه. وذهب جمهور الأئمة إلى أنها تُجزئ، نقل ذلك الشوكانى عن ابن المنذر والقاضي عياض والمازري وغيرهم من الأئمة، ورجَّح مذهب الجمهور وأيَّده بحديث عبد الرحمن بن سمُرة، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا حلفْتَ على يمينٍ فكفِّر عن يَمينكَ، ثمَّ ائْتِ الذي هو خيرٌ". رواه النسائي وأبو داود، وهو كما في المُنتقَى صريح في تقديم الكفارة.
هل الحنث أفضل أو التمادي؟(1/637)
وقد دلَّ الحديث السابق برواية النسائي وأبى داود، وبلفظ البخاري ومسلم: "إذا حلفتَ على يمينٍ، فرأيتَ غيرها خيرًا منها، فأْتِ الذي هو خيرٌ، وكفِّر عن يمينكَ". وبلفظ: "فَكَفِّرْ عن يَمينكَ وأْتِ الذي هو خيرٌ". "متفق عليه" على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي، إذا كان في الحنث مصلحةٌ، وذلك باختلاف المحلوف عليه، فإنْ حلف على فعلٍ واجب، أو ترك محرم، فيَمينه طاعة والتمادي واجب والحنث معصية.
وإنْ حلف على ترْك واجب، أو فعل حرام، فيَمينه مَعصية، والتمادي حرام، والحنْث واجب.
وإنْ حلف على فعل نفْلٍ، فيَمينه طاعة، والتمادي مُستحَبٌّ، والحنث مكروهٌ.
وإن حلف على ترْك مندوبٍ فالتمادي مكروه والحنث مستحبٌّ.
وإن حلف على مُباح، فإن كان يَتجاذبه الفعل والترْك فذلك يختلف باختلاف الأحوال على ما قاله ابن الصبَّاغ من الشافعية.
وإن كان مستوى الطرفين، كالحلف على ألَّا يأكل هذا الخبز، أو لا يلبس هذا الثوب فالتمادي أولَى كما ذكره الشوكانى وهو مذهب الحنفية كما في: "فتح القدير"، والحنث والتمادي مباحان عند الحنابلة كما في المغني. ...
إذا علمتَ هذا فالمحلوف عليه في السؤال الأول هو عدم شراء اللحْم من قصَّاب معين، وهو والشراء منه أمرانِ مباحانِ لا مُرجِّح لحدهما على الآخر من حيث ذاتهما، فإذا وُجد هناك مُرجِّح من أمر خارج كما إذا كان هذا القصَّاب قريب الحالف أو جاره مثلًا، فالحنث أفضل رعايةً لحقِّ القرابة والجوار، وإذا كان هناك قصاب آخر أقرب إلى الحالف فالتمادي أفضل، وإذا لم يكن هناك أي مرجح فهو مُخَيَّرٌ بين التمادي والحنْث، والظاهر عندي ترجيح الحنْث إزالةً لمَا تتركه القطيعة في النفوس.(1/638)
أما المحلوف عليه في السؤال الثاني فهو ترك إقامة الشعائر في المسجد المُعيَّن فيه على الدوام في حين أنه يتقاضَى على إقامتها فيه مرتبًا شهريًّا، لا يستحقُّه شرعًا إلا في مقابلة العمل، ولا ترضى الوزارة بصرْفه إليه إلا إذا أدَّى عمله فيه، ولا تقبل هذه الإنابة إلا إذا كانت بتصريح منها، وهى الآن لا تعلَم عنها شيئًا، وقد تَفصله عن عمله إذا علمت إصراره على الامتناع عن أداء واجب وظيفته، فقيامًا بواجبه ودفعًا للضرر عن نفسه وتحقيقًا لمصلحته يجب عليه أن يُكفِّر عن يَمينه ويعود إلى عمله، حتى يحلَّ له أجْرُه، فذلك خيرٌ له وأنفع، والله أعلم.
...(1/639)
حُكم النذْر في الشريعة
"السؤال": نذَر لله ـ تعالى ـ أن يذبح عجلًا، ويُوزع لحمه على أهل قريته. ثم بدتْ له حاجةُ مسجد القرية إلى الفُرُش، فهل يجوز له صرْف ثمن العجل في شراء حُصُر للمسجد؟
"الجواب": القاعدة العامة في النذْر أنه إذا كان في معصية حرُم الوفاء به لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " لا نذْر إلا فيما يُبتغَى به وجه الله ـ تعالى ـ". وحديث سعيد بن المسيب "لا نذْر في معصية الربِّ". وحديث ثابت بن الضحاك: "لا وفاء لنذْر في معصية الله". وحديث عائشة: "لا نذْر في معصية وكفارته كفارة يمين".
وإذا كان في طاعة وجبَ الوفاء به لقوله ـ تعالى ـ: (ولْيُوفُوا نُذُورَهُمْ). ولحديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن نذَر أن يُطيع الله فلْيُطعْه، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيهِ فلا يَعْصِيهِ". وهو صريح كما ذكره الشوكانى في الأمر بالوفاء بالنذر إذا كان في طاعة، وفي النهى عن الوفاء به إذا كان في معصية.
والطاعة التي الْتزمها الناذِر قد تكون غير مشروطة بشرط كقوله ابتداء: "لله عليَّ صومُ شهرٍ أو تصدُّقٌ بمائة جنيه". فيَلزمه الوفاء بها في الحال في قول أكثر أهل العلم، وقد تكون في مُقابلة نِعمة استجلبها أو نِقمة استدفعها كقوله: "إنْ شفاني الله فلله عليَّ صوم شهر أو تَصدُّقٌ بكذا". فيَلزمه الوفاء بها عند حصول الشرط.
وذهب جمهور الأئمة إلى أن الطاعة المَنذورة أعمُّ مِن أن يكون لها أصل في الوُجوب بالشرْع كالصلاة والصوم والحج والصدقة والوقف ونحوها من العبادات المقصودة لنفسها، أوْ لا يكونُ لها أصل في الوُجوب بالشرْع كالاعتكاف ـ على قول ـ وعيادة المريض وتشييع الجنازة، وتكفين الميت ودخول المسجد، وبناء القناطر والرباطات والسقايات ونحو ذلك مما ليس عبادةً مقصودة لذاتها.(1/640)
فكل هذه قُربات وطاعاتٌ تجب بالتزام الناذر وإيجابه، كما ذكره ابن قدامةَ في المغني.
وذهب الحنفية إلى أن الشرط في وُجوب الوفاء بالمنذور كوْنه طاعة لها أصل في الفروض الشرعية، قال في البدائع: "ومن الشروط في المَنذور أن يكون قُرْبة مقصودةً، فلا يصحُّ النذْر بعيادة المريض، وتشيع الجنازة، والوضوء والاغتسال ودخول المسجد، ومسِّ المصحف والآذان، وبناء الرباطات والمساجد وغير ذلك وإنْ كانت قُرَبًا؛ لأنها ليست بقُرب مقصودة، ويصحُّ النذر بالصلاة والصوم والحج والعُمرة والإحرام بهما، والعتْق والبَدَنة، والهدْي، والاعتكاف، ونحو ذلك؛ لأنها قُرَبٌ مقصودة. وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "مَن نذر أن يُطيع اللهَ فلْيُطعه، ومَن نذَر وسمَّى فعليه وفاؤُه بما سمَّى". إلا أنه خصَّ منه المُسمَّى الذي ليس بقُربة أصلًا: "كالنذر بالمَعاصِي مثل شُرب الخمر أو قتل فلان أو ضرْبه أو شتْمه والنذْر بالمباح من الأكل والشرب ونحوهما". والمُسمَّى الذي ليس بقُربة مَقصودة، فيجب العمل بعُمومة فيما وراءه، ومِن مشايخ الحنفية من أصل في هذا أصلًا فقال: ماله أصل في الفروض يصحُّ النذْر به، وما لا أصل له في الفُروض لا يصحُّ النذر به، كما في الأمثلة السابقة مُعلِّلًا ذلك بأن النذر إيجاب العبْد فيُعتبر بإيجاب الله ـ تعالى . ا هـ. ملخصًا.(1/641)
ونصَّ الحنفية على أن الواجب في النار الصحيح الوفاء بأصل القُرْبة، لا بكل وصفٍ الْتزمه الناذر، فلو نذَر أن يتصدَّق بهذا الدرهم فتَصدَّق بغيره عن نذْره، أو نذَر التصدُّق في هذا اليوم فتصدَّق في غدٍ، أو نذَر التصدُّق على هذا الفقير، فتصدَّق على غيره أو نذَر التصدُّق على فقراء مكةَ، فتصدَّق على فقراءِ غيرها، أو نذَر التصدُّق بعشرة دراهم خُبزًا فتصدَّق بغير الخُبز مما يُساوي عشرة دراهم، أو تصدَّق بثمنه، صحَّ في كل ذلك؛ لأنه لا دخل لهذه الأوصاف في صَيْرُورة الفعل قُرْبة، بلْ هو قُرْبةٌ بدون اعتبارها، والواجب إنما هو الوفاء بما هو قُربة في ذاته، كما نصُّوا على أن التصدُّق على الأغنياء ليس بقُربة، فلا يصحُّ نَذْرُه.
إذا علمت هذا فالناذر في هذا السؤال إذا قصد بأهل قريته خُصوص فُقرائهم صحَّ النذْر، ووجب الوفاء به، فيتصدَّق عليهم بنفس اللحم، وهذا باتفاق أو بثمنه، وهذا عند الحنفية إذا كان أنفع لهم، كما ذهبوا إليه في صدقة الفِطْر والإطعام في الكفارة، وإذا قصد الأغنياء وحدهم، لا يصح النذْر، وإذا قصدَ الجميع فمُقتضى مذهب الحنفية عدم صحة النذر؛ لأن الصرْف إلى الأغنياء ليس قُرْبة إلا أن يكونوا أبناء سبيلٍ، ولا يُجزئ في النذْر، كما لا يُجزئ في الزكاة والكفارة، وفِدْيَةُ الصوم.
ويصحُّ النذر عند الحنابلة على ما ذكره ابن قدامة حيث قال: إنْ نذَر فعْل ما هو طاعة وما ليس بطاعة لزِمه فعْل الطاعة، كما في خبر أبى إسرائيل وقد نذَر أن يقوم في الشمس ولا يستظلُّ، ولا يتكلم، ويصوم فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مرُوهُ فلْيَستظلّ ولْيَجْلِسْ ولْيَتكلَّمْ ولْيُتِمَّ صوْمَهُ". فأمره بإتمام الصوم وترْك ما سواه لكونه ليس بطاعة.(1/642)
وأما وفاء هذا النذر بشراء حُصُرِ المسجد بثمن العِجْل بدل ما انعقد عليه النذْر، فلا يجوز عند الحنفية لمَا هو ظاهر مِن أن شراء الحُصر للمسجد، وإنْ كان قربةً إلا أنها غير مقصودةٍ لذاتها، وليس مِن جنْسها عبادةٌ مفروضة شرعًا بخلاف التصدق باللحم أو ثمنه، فإنه عبادة مقصودةٌ ومِن جنْسها مفروض وهو الزكاة. ويجوز عند عامَّة العلماء؛ لمَا نقلناه عن المغني من عدم اشتراطهم كوْن المنذور عبادةً مقصودة، بل يكفي أن يكون طاعةً وقربة ولو لم تكن مقصودةً.
والأظهر في هذه الحادثة أن يَخرج السائل مِن عُهدة نذْره بالتصدُّق على فقراء قرابته إنْ قصدهم بنذْره بلحم العجل أو بثمنه لحاجة الناس اليوم إلى الغذاء وشدة الضائقة على الفقراء، وثوابه على ذلك العمل المَشكور ثوابٌ موفور، إن شاء الله، والله أعلم.(1/643)
الحلف بحياة المُصحف
"السؤال": رجل أمسك المصحف الشريف وحلف قائلًا: "وحياة المصحف أني ما أشرب سجاير بعد هذه العلبة". ثم شرب بعد مدة. فما حكم هذا الحلف شرعًا؟
"الجواب": تعارف العامة الحلف بالمصحف الشريف بقولهم: "وحق هذا المصحف" أو "وكتاب الله المنزل" أو "وحرمة هذا الكتاب" ونحو ذلك، يقصدون به الحلف بما فيه، وهو كلام الله ـ تعالى ـ المنزل على رسوله المكتوب في المصاحف. والحلف به مشروع عند جمهور الأئمة كما نصَّ عليه الحنفية في الدُّرِّ والنهر وشرح العيْني، إذ هو حلفٌ بصفة مِن صفاته ـ تعالى ـ وهى الكلام والحلف بها كالحلف بذاته، والأيمان مبنيةٌ على العُرف. ومثل ذلك قولهم: "وحياة هذا المصحف" فإنَّهم يقصدون به في العُرف الحلفَ بكتاب الله الذي له الحياةُ والدوام ما دامت الدنيا، وفي الحنْث فيه كفارة يمينٍ، "كما أوضحناه في فتاوَى سابقة". والله أعلم.(1/644)
الحلف بحقِّ البخاري
"السؤال": لي على أخي المسلم مبلغ أخَذه اقتراضًا ـ أي سلفًا ـ وعليه ثمنُ سلع أخرى، فعندما طلبتُ منه ردَّ ما اقترضَه مع دفع ثمن السلع الأخرى ـ فاجأَنِي بلفظ تَشمئز منه النفوس ولا يقبله الدِّين، فبعد ذلك لم أتمالك شُعوري، وأقسمتُ بقولي: "بحق البخاري" لا أعاملُ مسلمًا قط، ووضعتُ يدي على كتاب أظنُّه البخاري فإذا هو مصحفٌ بداخله تفسيره، ولم أقصد الحلف به، فأرجو إفادتي عن هذا اليمين لو عاملتُ مسلمًا هل يكون على الكفارة أم لا؟.
"الجواب": الظاهر من السؤال أن الحلف كان بحقِّ البخاري، وأنه قصد ذلك دون الحلف بالمصحف حيث صرح بأنه لم يحلف به، وإنما وضع يده عليه فقط.
والحلف بحقِّ البخاري ليس يمينًا مشروعًا، فلا يلزمه شيءٌ بمُوجَبه، وعليه أن يعود لمُعاملة المسلمين كما كان، والله ـ تعالى ـ أعلم.
...(1/645)
يَمينُ لَغْوٍ
"السؤال": لي صديق حصل بيني وبينه سوءُ تفاهُم، أدَّى إلى الخصام والمُقاطعة، فتدخَّل بعض المُصحلين لتسوية النزاع. ولكن صديقي حلف بلفظٍ "حرام لم أصطلح معه إلا بحق" ومعنى ذلك أن يدفع كل منا جنيهًا. ثم نتحاكم بعد ذلك، فمَن يُقضَى له بالحق يأخذ المبلغ كله يتصرَّف فيه كيف يشاء.
وقمتُ أنا أيضًا بدوري، فحلفت بلفظ "حرام لا أصطلح معه لا بحق ولا بغير حق"؛ أيْ: لا أصطلح معه مطلقًا، والآن أحب أن أصطلح معه، فما حكم هذا الحلف شرعًا؟
"الجواب": إن قولكما حرام لا أفعل كذا كلام لَغْوٌ لا حُكم لهُ ولا يترتَّب عليه أيُّ شيء، والله أعلم.(1/646)
حلفٌ وإثْمٌ
"السؤال": رجل ارتكب خطيئةً وأراد أن يرجع إلى الله ويتوب منها فقال: "أُقسم بالله العليِّ العليم ثلاث مرات وأكونُ كافرًا أو خارجًا عن الدين الإسلامي إذا رجعتُ إلى مثل هذه الخطيئة مرة ثانية". فما حكم الإسلام وقد رجع هذا الشخص إلى هذه الخطيئة التي تاب منها مرة ثانية، وهل يكون كافرًا؟
"الجواب": إن هذا الحالف قد ارتكب إثمًا بفعل تلك المعصية وإثمًا آخر برجوعه إليها وإثمًا ثالثًا بحلفه بهذه الصيغة، فيجب عليه أن يتوب توبةً نصوحًا من كل ذلك ويكفّ عن هذه المعاصي جميعها، وعليه كفارة اليمين برُجوعه إلى ما حلف على تركه، ولا يَكفر بهذه الصيغة التي حلف بها بعد عودته إلى الذنب المذكور، إنْ كان قصْده مجرد منْع نفسه من العودة إليه، والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/647)
حنث في يمينٍ وكفارة
"السؤال": أعمل بدائرة زراعية وفي ساعة غضبٍ وبلا شُعور صدر مني يمين على المصحف وأقسمتُ بالله ثلاثًا بأنِّي لن أعملَ عند صاحب العمل ولو أعطاني خمسين جنيهًا وبعد ذلك أرضاني صاحب العمل وتمسَّك بي، فأنا في حيْرة من ترْك عملي لهذا القسَم.
"الجواب": لهذا السائل أن يعود إلى عمله إذا رأى ذلك خيرًا له، وعليه حينئذٍ أن يُكفِّر عن يمينه بالله بإطعام عشرة مساكين غداء وعشاء لكل منهم، أو بكسوتهم إنْ استطاع أحدُ هذينِ الأمرين، فإن لم يستطع فعليه صيامُ ثلاثة أيام متتابعاتٍ، والله أعلم.(1/648)
حُكم تعاطي الحشيش
"السؤال": ما حُكم تعاطي الحشيش شرعًا؟
"الجواب": لم تُعرف هذه الحشيشة في الصدر الأول، ولا في عهد الأئمة الأربعة وإنما عُرفت في فتنة التتار بالمَشرق. وقد سُئل عنها شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، فأفاضَ في بيان حُكمها في غير موضع مِن فتاواه، حيث أفتَى، بأن جمهور الأئمة يَرون أنها نجسة مُحرَّمة، لا فرق بين قليلها وكثيرها، ولا بين القدْر المُسكر منها وغير المُسكر، فهي كالخمر، وأن القدْر المسكر منها حرام باتفاق المسلمين.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مُسكرٍ خمرٌ، وكلُّ مُسكر حرامٌ". وهذه مُسكرة "سيأتي أن المُراد بالإسْكار هنا التخدير وتَغطية العقل دون طرب ونشوة". وفيها من المَفاسد ما حُرمت الخمر لأجلها، فكثيرها يَصُدُّ عن ذكْر الله وعن الصلاة، ويُسكر مُتعاطيه ويُفْتِرُ قُواه، بل فيها مفاسد أخرى غير مفاسد الخمر تُوجب تحريمها، فهي بالإدمان عليها تُورث قلَّة الغيرة وزوال الحَمِيَّة، وتُفسد الأمْزجة حتى يُصابَ خلْقٌ كثير ممَّن يَتعاطَوْنَهَا بالجنون، ومَن لم يُصب به يُصاب بضعف العقل وبالخبَل، وتُكسب آكلها مهانةً ودناءةَ نفس، وضررها على نفسه أشدُّ من ضرر الخمر، وضررها على الناس أشدُّ، فحُكم قليلها وكثيرها كحُكم قليل الخمر وكثيره، فمَن تناولها وجَب إقامةُ الحدِّ عليه إذا كان مسلمًا، يعتقد حُرمتها، فإن اعتقد حِلَّهَا حُكم برِدَّتِهِ وبجَريان أحكام المُرتدِّينَ عليه.(1/649)
والقاعدة الشرعية أن مَا تشتهيه النفوس من المُحرَّمات كالخمر والزنا ففيه الحدُّ، وما لا تشتهيه النفوس كالميتة ففيه التعزيز. والحشيشة يَشتهيها آكلوها، ويَمتنعون عن تركها، فيجب فيها الحدُّ وهو ثمانونَ سوطًا. وآكلها تبطلُ صلاتُه إذا لم يغتسل منها، ولو اغتسل فهي خمرٌ، وفي الحديث: "مَن شربَ الخمرَ، لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا. فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تقبل، فإن عاد فشربها في الثالثة والرابعة كان حقًّا على الله أن يسقيَه من طينة الخبال. قيل: يا رسول الله وما طينةُ الخبال؟ قال: عُصارة أهل النار". فصلاته باطلة تارةً وغير مقبولة تارة أخرى.
ويجب الإنكار عليه باتفاق المسلمين، فمَن لم يُنكر عليه كان عاصيًا لله ولرسوله، ومَن منع المنكر عليه؛ "أيْ: حال بينه وبين العقاب بشفاعة أو دفاع أمام الحاكم"، فقد حادَّ الله ورسوله. ففي سُنن أبي داود على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "مَن حالتْ شفاعتُه دون حدود الله، فقد حادَّ اللهَ في أمره، ومَن قال في مُؤمن ما ليس فيه حُبِسَ في رِدْغَةِ الخبال حتى يخرج ممَّا قال". "الرِّدغة ـ بكسر الراء ـ مثل البيت يصاد به الضبع" ومَن خاصم في باطل وهو يعلم، لم يزل في سخط الله. حتى يَنزِعَ". "يُقلع" اهـ. فالمُخاصمون عنه مخاصمون في باطل، وهم في سخط الله. وكل مَن علِم حاله، ولم يُنكر عليه بحسب قُدرته فهو عاصٍ لله ولرسوله. اهـ ملخصًا.(1/650)
ومذهب الحنفية حُرمة تعاطي الحشيشة، والأفيون. لكن دون حُرمة الخمر؛ لأن حُرمة الخمر قطعيةٌ يَكفر مُنكرها بخلاف هذه. ولو سكِر بأكلها لا يُحدُّ بل يُعزَّر بما دون الحدِّ. وقد اتَّفق الحنفية والشافعية، كما في الفتح والبحر والجوهرة على وُقوع طلاق مَن غاب عقله بالحَشيشة؛ وهى ورَق "القِنَّبِ"، "بضمِّ القاف وكَسرها ونون مُشدَّدة مَفتوحة" لفتواهم بحُرمتها وتأديب باعَتِها، بعد أن اختلفوا فيها قبل أن يظهر أمرها من الفساد، وقالوا فيمَن رأى حِلَّهَا إنه زنديق. أما الأفيون فحرامٌ إذا لم يكن للتداوي.
والتعزيز كما ذكره فقهاء الحنفية تأديبٌ دون الحدِّ، وليس فيه شيءٌ مُقدَّر، وإنما هو مُفوَّضٌ إلى الإمام: "السلطة الحاكمة الآن" على حسب المَصلحة، وما تقتضيه الجِناية، فإن العُقوبة يجب أن تختلف باختلافها، وعليه أن ينظر في أحوال الناس، فإنَّ منهم مَن يَنْزَجِرُ باليسير، ومنهم مَن لا ينزجر إلا بالكثير وله أن يجمع في العقوبة بين الضرب والحبْس، وأن يبلغ غاية التعزيز في الجريمة الكبيرة فيَحكم بالقتْل سياسةً في الجرائم، التي تعظَّمت بالتكرار وشُرع القتل في جنسها، وقالوا في السارق إذا تكرَّرت منه السرقة "العائد" وفيمَن يَخنق الناس إذا تكرَّر منه الخنْق، وفي الساحر وفي الزنديق الداعي، إنهم يُقتلون سياسةً.
أما تعاطي الحشيشة والاتجار فيها فضررها في العقول والأخلاق والأموال ضرر فادح عظيم يَقتضي أن تكون العُقوبة عليهما مِن أشدِّ العقوبات وأكثرها ردعًا وزجرًا .
والله أعلم.
حُكم تعاطي الحشيش والأفيون وجَوْزة الطِّيب
"السؤال": ما حكم تعاطي الحشيش وبيْعه وشرائه وكذا الأفيون وجوزة الطيب (وكذا النبات المعروف في اليمن باسم: "القات"، وهو مُخدر مُفْتر، وحكمه استعمالًا حُكم ما ذكر في السؤال).(1/651)
"الجواب": سبق أنْ أَفتينا في هذا الموضوع مستفْتِيًا آخر بفَتْوَى تتضمَّن تحريم تعاطي الحشيش والاتجار فيه، عند أئمة الحنفية والشافعية وعند شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة الحنابلة، وذكرنا فتواه القيمة فيه.
وقد بنَى شيخ إسلام فتواه على أن الحشيش مُسكر، ويندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مُسكر حرام". وعلى أن كلَّ ما أسكر ولو كان من الجامِدات قد سمَّاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمرًا بقوله: "كلُّ مسكر خمرٌ". لمُخامرته العقل، أيْ: تغطيته وستره، أو مُخالطته وتغييره، وليس لقائل قولٌ بعد أن سمَّاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، فكان الحشيش من الخمر، حُكمه حُكمها تحريمًا ونجاسةً وحدًّا.
وقال ابن البيطار: إن مَن تناول مِن الحشيش يسيرًا قدْر درهم سكر، حتى إن مَن أكثر منه أخرجه إلى حدِّ الرُّعونة، وقد استعمله قومٌ فاختلفَ عقولهم، وربما قتِل، بل نَقل ابن حجر "أيْ: الهيثمي المكي" عن بعض العلماء أن في تعاطيه مَضارًّا عديدة دينية ودنيوية، ونقل عن ابن تيمية أن مَن قال بحِلِّهِ كفَرَ، وأقَرَّه أهل مذهبه، أي الحنابلة.
وقال ابن حجر في الزواجر ما نصُّه : وحكَى القرافي "وهو من أئمة المالكية"، وابن تيمية: والإجماع على تحريم الحشيشة وقال: ومَن استحلَّها كفر، وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة؛ لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في أواخر المائة السادسة وأوائل المائة السابعة؛ "أيْ: الهجرية" حين ظهرت دولة التتار. اهـ.(1/652)
وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر العقلاني شيخ المُحدثينَ ما نصُّه: واستدلَّ بمُطلق قوله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام" على تحريم ما يُسكر، ولو لم يكن شرابًا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جَزم النووي وغيره بأنها مُسكرة، وجزم آخرون بأنها مُخدرة، وهو مُكابرة؛ لأنها تُحدِث بالمُشاهَدة ما يحدث الخمر من الطرَب والنشوة والمُداومة عليها والانهماك فيها، إذ مِن خواصِّ الخمر أن قليلها يدعو إلى كثيرها، وعلى تقدير أنها ليست بمُسكرة، فقد ثبت في سُنن أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر، يُشير بذلك إلى حديث أم سلمة، قال: "نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كل مُسكر ومُفْتر". رواه أحمد في مسنده، وفُتور الجسم ضعْفه واسترخاؤه وهُموده.
وقد ذهب المالكية إلى أنَّ الحشيشة مُخدرة تُغيب العقل دون الحواس دون نشْوة وطرب ، ويَحرم منها القدْر الذي يُحدث ذلك دون القليل الذي لا يُحدثه، وهذا بناء على أن المُسكر عندهم لا يكون إلا مائعًا. ومنهم من ذهب إلى أنها مُسكرة لعدم اشتراطه في المسكر أن يكون مائعًا، بل قد يكون المُسكر من الجامدات.
ونَصُّوا على أن المسكر يُغيِّب العقل دون الحواس مع نشوة وطرب، وأنه يُحرم تعاطي القليل منه والكثير، وفي تعاطيه مُطلقًا الحدُّ. أما المُخدر ففي تعاطيه التعزيز والتأديب. اهـ. بإيضاح من الشرح الكبير.
وقال الحنفية: إنه يحرم استعمال الحشيش؛ لأنه يُفسد العقل ويَصدُّ عن ذكْر الله وعن الصلاة، وفي البحر الرائق: وقد اتُّفِق على وقوع طلاق آكل الحشيش فتوَى مشايخ المذهبين الشافعية والحنفية، لفتواهم بحُرمته وتأديب باعَتِهِ، حتى قالوا: مَن قال بحِلِّه فهو زنديق. كذا في المُبتغى وتبعه المُحقق في فتح القدير. اهـ. وممَّن جزم بتحريمه صاحب الوهبانية.(1/653)
وقد رأيتُ فيما نقله العلامة ابن عابدين عن الزواجر لابن حجر الشافعي المكي، بصدد فتواه بتحريم "جوزة الطيب" بإجماع الأئمة الأربعة، وأنها مُسكرة، أن المراد بالإسكار هنا تغطية العقل لا مع الشدة المُطربة؛ لأنها من خُصوصيات المُسكر المائع، فلا يُنافي أنها تُسمى مُخدِّرة فما جاء في الوعيد على الخمر يأتى فيها لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه. اهـ. وهو توفيق حسَنٌ بيْن القول بأنها مُخدرة والقول بأنها مُسكرة ويجرى في الحشيشة أيضًا.
وقد عُلم من ذلك إجماع الأئمة على حُرمة تعاطيها وبيعها وشرائها، وأن أدنى أحوالها أنها مُخدرة، الحديث صريح في تحريم كل مُفتر وهو المخدر.
والراجح عند الأكثر أنها مُسكرة فتأخذ حُكم المسكر، والحديث صريح في تحريم كل مسكر، ولا يَضرُّ بعد ذلك اختلاف الفقهاء في أنها نجسة كما يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، أو طاهرة كما ذهب إليه غيره؛ لأن الطهارة لا تُنافي الحرمة، ألا ترى السُّمَّ المتخذ من النبات فإنه طاهر مع الإجماع على تحريمه.
وقد اتفق الأئمة على حرمة تعاطي القدْر الذي يُحدث الإسكار أو التخدير منها وعلى حرمة القدر القليل الذي لا يحدث ذلك إذا أُخذ للهْو والطرب وحظ النفس.(1/654)
ومن ذلك "الأفيون المعروف" وهو أشد خطرًا وضررًا من الحشيش. وأما القدر الذي يؤخذ منه للتداوي من المرض فأجازه بعضهم ومنعه آخرون والخلاف فيه يتفرع على الخلاف في التداوي بالمحرم وقد بيَّناه في فتوى أُخرى، والتحقيق فيه أنه إذا تعيَّن دواءً بحيث لا يقوم غيره مقامه أصلًا، وأخبر بذلك طبيب مسلم مُتدين حاذق، أو ثبت بتجربة صادقة جاز التداوي به، وإذا كان هناك من الأدوية الحلال ما يقوم مقامه في العلاج حرُم استعماله. وهذا التفصيل ينطبق على الأفيون استعمالًا وعلاجًا، فالكثير المُخدر منه حرام، والقليل غير المخدر إذا أُخذ للهْو حرام، وإذا أُخذ للتداوي يجوز إنْ تعيَّن دواءً، ويحرم إذا سدَّ غيره من الحلال مسده في العلاج.
وعلى مَن اعتاد شيئًا من هذه المُحرمات أن يأخذ نفسه بالعلاج ولو تدريجيًّا حتى يفطمها عنه ويتوب إلى الله ـ تعالى ـ مما فرَط منه والله غفور رحيم. والله أعلم. .(1/655)
حُكم استعمال الدخان
"السؤال": ما حكم استعمال الدخان بأنواعه؟
"الجواب": إن هذا النبات لم يكن معروفًا قديمًا، وعندما ظهر، واستعمله الناس بحث فيه فقهاء المذاهب لتخريج حُكمه على الأصول المُقررة فقالوا إن الأصل في حُكمه الإباحة، ولا يَخرج عن هذا الأصل إلا لعارضٍ يقتضي الحُرْمة أو الكراهة، وممَّا يقتضي ذلك أن يحصل منه ضررٌ كثير أو قليل لمُتعاطيه في نفسه، أو ماله أو فيهما معًا، أو يُؤدي تَعاطيه إلى مفسدة وضياع حقٍّ كحِرمانِ زوجته أو أولاده، أو مَن تجب عليه نفقتُه شرعًا من القُوت، بسبب إنفاق ماله في شراء الدخان، فإذا تحقَّق شيء من هذه العوارض حُكم بكراهته أو حُرمته على حسب ضعفها وقوتها، وإذا خلا مِن هذه العوارض وأشباهها كان تعاطيه حلالًا مهما تنوَّعت صور استعماله، وقد أفتينا بذلك غير مرة، ونُشرت الفتوى في مجلة الأزهر ومجلة الإسلام، والله أعلم.(1/656)
السردين حلالٌ
"السؤال": هل يجوز أكل السردين النيلي الذي يَرِدُ من دمياط وغيرها في براميل من الخشب زِنة الواحد منها: 125 أُقَّةً؟
"الجواب": نعم يجوز أكله عندنا، وهو سمكٌ طاهر، والله أعلم.(1/657)
تحريم الدم ـ ذبائح الكتابيينَ
وردَ إلينا السؤال الأتي من شابٍّ (هو ولدُنا عبد الهادي حسنين مخلوف. وقد نال الدكتوراه في هذه الجامعة فيما بعدُ في الاقتصاد السياسي وعُيِّنَ في وزارة الخارجية المصرية، وهو ـ الآن ـ مستشار بها) مسلم مُتدين مُقيم الآن في الولايات المتحدة وعضو بعثة وزارة الخارجية بإحدى الجامعات الأمريكية، يقول فيه:
1ـ إنه يجد في لُحوم البقر التي تُقدم إليه للغذاء شيئًا من الدم، فهل يَحِلُّ أكلها مع ذلك؟
2ـ ثم هو لا يدري هل ذُكر على الذبيحة اسم الله ـ تعالى ـ أم لا، والقوم في تلك البلاد أهل كتابٍ. فهل يحلُّ أكْل ذبائحهم مع ذلك؟
3ـ وقد يكون الذبح عندهم ببَتْرِ الرأس مرة واحدة بآلات حادة دون مُراعاة طريقة الذبح المعروفة عندنا بمصر، فهل يحلُّ أكل الذبيحة مع ذلك.
"الجواب": نقصر الكلام في هذه الفُتْيَا على ما أباح الله من الحيوان البري المقدور عليه فنقول:
1ـ تحريم الدم:
قد جعل الله ـ تعالى ـ الزكاة شرطًا لحلِّ الأكْل من هذا الحيوان كالإبل والبقر والغنم والأوز والبط ونحوها. والزكاة الاختيارية إنما تكون بالذبْح فيما يُذبح من الغنم والبقر ونحوهما، وبالنحْر فيما يُنحر وهو الإبل، وبها يَطيب اللحم ويحلُّ لخُروج الدم بها مِن الحيوان، وهو مادة مُستقْذَرة بالطبع، حرَّمها الله ـ تعالى ـ في آيات كثيرة من القرآن الكريم، فقال ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (إنَّما حرَّم عليكمُ الميتةَ والدمَ ولحْمَ الخنزيرِ وما أُهلَّ به لغيرِ اللهِ). وفي سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عليكمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولحْمَ الخنزيرِ ومَا أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ). وفي سورة النحل (إنَّمَا حَرَّمَ عليكمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولحْمَ الخِنْزِيرِ ومَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ).(1/658)
وقال في سورة الأنعام: (قُلْ لا أَجِدُ فيمَا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّمًا علَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أنْ يكونَ مَيْتَةً أوْ دمًا مَسْفُوحًا أو لحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّهُ رِجْسٌ أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ). فنفَى ـ سبحانه ـ في هذه الآية حُرمة سائر الدماء إلا ما كان مسفوحًا، والمسفوح هو المصبوب السائل الذي يخرج بالذبْح أو النحْر ونحوه. وكان العرب في الجاهلية يضعونه في أمعاء الحيوان ويَشوونَه ثم يأكلونه، فحرَّم الله أكله والانتفاع به، رُوِي عن قتادة أنه قال: حرَّم الله من الدم ما كان مسفوحًا، وأما اللحم يُخالطه الدم فلا بأس به. وعن عكرمة أنه قال: لولا آية الأنعام لاتَّبَعَ المسلمون من العُروق ما اتَّبعَ اليهود. وسُئلتْ عائشة عن الدم يكون في اللحم والمذبح فقالت: إنما نهَى الله عن الدم المسفوح. وسُئلت عن الدم يكون في أعلَى القدْر فلم تَرَ به بأسًا، وقرأت آية الأنعام حتى بلغتْ (مسفوحًا).
ولتخصيص التحريم بالمَسفوح أَحَلَّ الله دمينِ غير مَسفوحينِ وهما: الكبد والطحال كما في الحديث المشهور، وأحلَّ أكْل اللحم مع بقايا أجزاء من الدم في العُروق؛ لأنه غير مسفوح .وقال الإمام الجصَّاص: لا خلاف بين الفقهاء في جوازه. اهـ.
وإلى هذا ذهب جمهور الأئمة فقالوا: إن الدم المُحرم هو الدم المسفوح لا مُطلق الدم، فيُحمل الدم المطلق في الآيات السابقة على المقيد في آية الأنعام.
وذهب ابن حزم إلى أن جملة الدم محرم مسفوحًا وغير مسفوح: وأن الله ـ تعالى ـ حرَّم المسفوح منه في مكة بآية الأنعام، ثم حرم بالمدينة الدم جُملةً بآية المائدة وهي آخر سور القرآن نزولًا. ومع هذا وافق الجمهور في أن ما يبقى من الدم في الحيوان المُذَكَّى في عُروقه وفي خلال لحمه ليس من الدم المحرم، وقال: إنه حلال. اهـ.
ولولا ذلك لوجب تَتَبُّعه في العروق واللحم لاستئصاله، وفي ذلك عُسر يأْباه يُسر الشريعة السَّمْحة.(1/659)
فلا جُناح في أكل اللحم المُذكَّى مع وُجود بقايَا الدم فيه؛ لأن ذلك مَعْفُوٌّ عنه شرعًا، والله أعلم.
2ـ التسمية على الذبيحة:
وحرَّم الله ـ تعالى ـ من الذبائح في الآيات السابقة (ما أُهِلَّ بهِ لِغَيْرِ اللهِ). وهو ما ذكر عليه غير اسمه ـ تعالى ـ وأصل الإهلال رفع الصوت، وكل رافع صوته فهو مُهِلٌّ. وكان العرب في الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح بأسماء أصنامهم وأوثانهم. فذلك هو الإهلال. والمراد من الغير في الآية الصنَم والوثَن وغيرهما كالعُزير والمَسيح والصليب والكعبة، فلا يَحِلُّ شيءٌ من الذبائح التي أُهِلَّ بها لغير الله ـ تعالى ـ ومنه (ما ذُبَحَ علَى النُّصُبِ). وهى أحجار كانت لهم منصوبة حول الكعبة يذبحون عليها. ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه للأصنام ونحوها. وقيل هي الأصنام تُنصب فتُعبد من دون الله تعالى.
وقد روى عن عمر وابنه وعلى وعائشة كراهة ما أهل به لغير الله "والمراد حرمته" وعن النخعي والحسن والثوري مثله. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يُؤكل ما سُمِّيَ المسيح عليه. وقال الشافعي وأحمد لا يحلُّ ما ذُبح لغير الله ولا ما ذبح للأصنام. اهـ.
وقد سَمَّى الله ذلك (فِسْقًا)؛ أيْ: خروجًا من الحلال إلى الحرام، قال الله ـ تعالى ـ: (أو فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ).
وكما حرَّم الله ما أُهلَّ به لغير الله، حرم ما لم يُذكر اسم الله عليه، وجعل ذكْر اسمه ـ تعالى ـ وحده على الذبيحة شرطًا في حلِّ أكْلها، سواء كان الذابح مسلمًا أو كتابيًّا، وإليه ذهب الحنفية وأحمد والثوريُّ والحسن بن صالح لقوله ـ تعالى ـ: (ولا تأكلوا ممَّا لمْ يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ). فنهَى عن الأكل من متروك التسمية وعن ترْكها، وأخبرَا بأنه فسقٌ، وهو ظاهر في حالة ترك التسمية عمدًا لا سهوًا؛ لأن الناسي لا تلحقه سِمَةُ الفسق كما ذكره الجصَّاص وغيره.(1/660)
وذهب داود والشعبي وهو مَرْوِيٌّ عن مالك وأبي ثور إلى أن التسمية شرط مطلق لعدم فصل الأدلة بين حالتي العمْد والسهْو، وإليه ذهب ابن حزم في المُحلَّى.
وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاوس والشافعي وهو مرويٌّ أيضًا عن مالك وأحمد إلى أن التسمية ليست شرطًا لحلِّ الأكل، بل هي سُنة: فمَن تركها عمدًا أو سهوًا لم يقدح ذلك في حِلِّ أكْل ذبيحتِه لحديث عائشة: "إنَّ قومًا قالوا يا رسول الله: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَمُّوا عليه أنتم وكلوا، وكانوا حديثي عهد بكُفر". رواه البخاري والنسائي وابن ماجه، كما في المُنتقى وذلك لن التسمية على الأكْل سُنة، فلو كانت التسمية على الذبيحة فرضًا، لم تَنُبِ السُّنة عن الفرض؛ لأن السُّنة لا تنوب عن الفرض كما ذكره الشوكاني.
ولعل حِكمة تحريم ما أُهلَّ به لغير الله، وما لم يُذكر اسم الله عليه أن الحيوان مملوك لله ـ تعالى ـ كسائر المخلوقات، وليس للعبد أن يتصرَّف في ملك سيده بغير إذنه وإباحته. وإذْ قد أذِن الله ـ تعالى ـ للإنسان أن يَقتات ببعض الحيوان، أوجب عليه إذا أراد الانتفاع به على الوجه الأكمل أن يُذَكِّيه ليكونَ له منه قُوت طيِّب خالص مِن شوائب القذَر والدَّنَسِ، وتلك نعمة يجب عليه أن يَشكر المُنعم المُتفضّل بها. وهو إنما يكون بتمَجيد الله ـ تعالى ـ وذِكْر اسمه وحْده عند الذبح، والإعلام بأنه إنما أَقدم عليه بإذن الله وإباحته.
وروى عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أُمامة الترخيص في ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم غير الله. وإليه ذهب عطاء والشُّعبي والليث وفقهاء الشام: الأوزاعي ومكحول وسعيد بن عبد العزيز، وقالوا: إن التحريم في قوله ـ تعالى ـ: (وما أُهِلَّ بهِ لِغَيْرِ اللهِ) مقصور على ذبائح عبَدة الأوثان الذين يُهِلُّونَ عند الذبح بأوثانهم، كما كان يفعله العرب.(1/661)
أما أهل الكتاب فإن الله ـ سبحانه ـ أحلَّ ذبائحهم بقوله: (وطعامُ الذينَ أُوتُوا الكتابَ حِلٌّ لكمْ). والمراد ذبائحهم كما ذهب إليه ابن عباس وجمهور المفسرين، مع علمه ـ تعالى ـ بأنهم يُهلُّون على ذبائحهم باسم المسيح. وأنهم لا يزالون يقولون ذلك.
فعلى هذا القول تَحِلُّ ذبيحة الكتابيِّ (أما غير الكتابي كالمَجوسي فلا تحلُّ ذبيحتُه أصلًا وبالأولَى ما لم يذبحه، بل وَقْذُهُ أو صَعْقُهُ بتيارٍ كهربائي). سواء سمَّى المسيح أو الصليب، وذبَحها لعِيد أو كنيسة؛ لأنه كتابي قد ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن وأحلَّها في كتابه. اهـ. من العُمدة للعيني، وأحكام القرآن للجصاص ، والمُغني لابن قدامة، والمُحلى لابن حزم، وروح المعاني للآلوسى المُفسِّر وغيرهم.
وقد رجَّح مذهب الجمهور بأن حلَّ ذبائح أهل الكتاب في آية المائدة مشروط بالإهلال عليها باسم الله وحده جمعًا بين الآيتينِ، فإذا أُهلَّ باسمه ـ تعالى ـ حَلَّتْ ذَبيحتُه كالمُسلم سواء، وإذا أُهِلَّ بغيره ـ تعالى ـ حُرِّمَتْ كالمسلم سواء، وإذا لم يعلم هل سمَّى الله وحده أو سمَّى الله مع غيره أو سمَّى غير الله فقط حلَّت ذبيحته، ففي الآلوسى قال الحسن : إذا ذبَح اليهودي أو النصراني فذكر غير الله ـ تعالى ـ وأنت تسمع فلا تأكل فإذا غاب عنك فكُل. فقد أحلَّ الله ذلك لك. اهـ. أيْ بقوله ـ تعالى ـ: (وطعامُ الذينَ أُوتُوا الكتابَ حِلٌّ لكمْ).
وفي صحيح البخاري عن الزهري قال: "لا بأس بذبيحة نصارى العرب، وإنْ سمعتَه يُسمي غير الله فلا تأكل، وإنْ لم تسمعه فقد أحلَّه الله وعلِم كفرهم" اهـ. رواه مالك في الموطأ مرفوعًا. وعن النخعي: إذا توارَى عنك فكُلْ. وعن حماد: كُلْ مَا لمْ تَسمعهُ أُهِلَّ به لِغَيْرِ اللهِ.(1/662)
وفي البدائع للكاساني من أئمة الحنفية: وتُؤكل ذبيحة الكتابي لقوله ـ تعالى ـ: (وطعامُ الذينَ أُتُوا الكتابَ حِلٌّ لكمْ). والمراد ذبائحهم، وإنما تُؤكل ذبيحتُه إذا لم يشهد ذبْحه ولم يُسمع منه شيءٌ، أو سمع وشهد تسميةَ الله ـ تعالى ـ وحده؛ لأنه إذا لم يسمع منه شيء، يُحمل على أنه سمَّى الله ـ تعالى وجرَّد التسمية تحسينًا للظن به كالمسلم ، فأمَّا إذا سمع منه أنه سمَّى المسيح وحده أو مع الله، فإنه لا تُؤكل ذبيحته لقوله ـ تعالى ـ: (وما أُهِلَّ بهِ لغيرِ اللهِ). اهـ. ملخصًا. وفي المغني لابن قُدامة، فإنْ لم يعلم أسمَّى الذابح أم لا، أو ذَكَرَ اسم غير الله أم لا، فذبيحتُه حلالٌ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أباح لنا أكل ذبيحة المسلم والكتابي وقد علِم أننا لا نقف على كل ذابحٍ. اهـ وفي المُحلَّى لابن حزم: وكُلُّ ما غاب عنَّا ممَّا ذكَّاه مسلم فاسق أو جاهل أو كتابي فحلالٌ أكْله؛ لمَا أخرجه البخاري عن عائشة: أن قومًا قالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذَكَرُوا اسم الله عليه أم لا؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: سَمُّوا الله أنتم وكلوا. قالت عائشة: وكانوا حديثي عهْد بكفرٍ. اهـ. حيث أباح لهم أكْله بدون اهتمام بالسؤال عنه، والتحقُّق من حصول التسمية، وندَبهم إلى التسمية عند الأكْل إقامةً للسنة كما أشار إليه الطيبيّ.
وجملة القول في ذبيحة الكتابي أنها تحلُّ، ولو علِم أنه سمَّى عليها غير الله فيما ذهب إليه بعض الأئمة، وتحلُّ عند الجمهور إذا لم يسمع وهو يهلُّ بها لغير الله، بخلاف ما إذا سمع فإنها تَحرُم، فما يذبحه إذا لم يعلم أنه ذَكر اسمًا لله عليه أو لم يذكره حلالٌ باتِّفاق، والله أعلم.
3ـ كيفية الذبح:
وقد اختلفت أقوال الأئمة والفقهاء في كيفية الذبح وآلته اختلافًا كثيرًا، وللإمام ابن حزم في ذلك قول حقيقٌ بالقبول مُؤيَّد بالدليل القويِّ من السُّنة الصحيحة.(1/663)
قال إن كمال الذبح باتفاق هو أن يُقطع الودجانِ "عِرقانِ في جانبي ثغْرة النحْر" والحلقوم والمريء "مجرى الطعام والشراب من الحلْق" (أمَّا إزهاق روح الحيوان بغير الذبح كالوقْذ وتسليط تيار كهربائي عليه فيَحرم أكْله باتفاق). فإن قطع البعض من هذه الآراب، فأسرعَ الموتَ كما يُسرع في قطْع كُلها فأكْلها حلال، فإن لم يسرع الموت فلْيُعد القطع ولا يَضره ذلك شيئًا، وأكْله حلال سواء ذبح من الحلق أعلاه وأسفل وسواء رُميتِ العقدة إلى فوق أو أسفل أو قُطع كل ذلك من العُنق، وسواء أُبين الرأس أم لم يُبَنْ. كل ذلك حلال، وممَّن ذهب إلى حِلِّ الذبيحة إذا أُبين رأسها: ابن عمر وعلي وعمران بن الحُصين وأنس وابن عباس وعطاء ومجاهد وطاوس والحسن والنخعي والشعبي والزهري والضحَّاك ، وبعضهم أكل ما لم يقطع أوداجه وما ذبح من قَفاه.
وأما آلة التذكية فهي كل شيء يَقطع قطع السكين، أو ينفذ نفاذ الرُّمح. سواء في ذلك كله العود المُحدد والحجر الحادُّ والقصبُ الحاد، وكل شيء سوى السِنِّ والظُّفْر، وما عمل منها إلى آخر ما ذكره في المُحَلَّى. جـ (7).
فالذبح بآلة حادَّة تقطع العنق وتفصل الرأس، ولو كان من القفا جائزٌ شرعًا عنده، والله أعلم.(1/664)
حُكم التداوِي بالمُحرَّم
"السؤال": وصف طبيب استعمال "كِينا بسليرى" علاجًا لضعف الأعصاب، وهى تحتوى على كحول، وقال إن شُربها مُجرَّب للشفاء من هذا المرض، فهل يحلُّ التداوي بها شرعًا؟
"الجواب": ذهب جمهور الأئمة إل حُرمة التداوي بسائر الأمور النَّجِسَة أو المُحرَّمة ومنها الخمر وكل مُسكر، لحديث أبي الدرداء، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام". "رواه أبو داود" ولحديث وائل بن حجر أن طارق بن سويد سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخمر فنهاه عنها، فقال: "إنما أَصنعها للدواء". فقال: "إنه ليس بدواء ولكنه داء". "رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى وصححه" وروى ابن القيم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئل عن الخمر يُجعل في الدواء، فقال: "إنها داء وليست بالدواء". وقال ابن مسعود كما ذكره البخاري: "إن الله لم يجعل شفاءَكم فيما حرم عليكم". ويذكر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في زاد المعاد أنه قال: "مَن تَداوَى بالخمر فلا شَفَاهُ اللهُ". اهـ.(1/665)
واختار مذهب الجمهور ابن القيم، وأيَّده بعض فقهاء الحنفية كما في التفتاوى الهندية عن الخانية والهداية وغيرهما. ونقل الشوكاني عن ابن رسلان من فقهاء الشافعية في شرح السُّنن أنه قال: يجوز التداوي بجميع الأمور النجسة سوى المُسكر، لحديث العُرَنِيِّينَ في الصحيحين حيث أمرهم الرسول بالشُّرب من أبوال الإبل للتداوي. وحمل حديث النهي عن التداوي بالنجس على عدم الحاجة إليه بأن يكون هناك دواء غيره يُغني عنه ويقوم مقامه من الطاهرات. وقال البيهقي: إن حديثي النهي إن صحَّا محمولانِ على النهي عن التداوي بالمسكر والتداوي بالحرام من غير ضرورة ، فيجمع بينهما وبين حديث العُرنيين بذلك. اهـ وفي الفتاوى الهندية عن الذخيرة: لو أن مريضًا أشار إليه طبيب بشُرب الخمر، روي عن جماعة من أئمة "بلْخ" أنه يُنظر إنْ كان يعلم يقينًا أنه يصحُّ: "يبرأ" حَلَّ له التناول. ونقل الفقيه عبد الملك عن أستاذه أنه لا يحلُّ. اهـ.
وقال بعضهم يجوز للعليل شُرب الدم والبوْل وأكْل الميتة للتداوي إذا أخبره طبيبٌ مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه. وإن قال الطبيب يتعجَّل شفاؤُك ففيه وجهانِ، وهل يجوز شرب قليل الخمر للتداوي إذا لم يجد شيئًا يقوم مقامه فيه وجهانِ، قيل يجوز، وقيل يَحرُم.
فيَتبيَّن من هذا أن التداوي بالحرام أو النجس قد فَصَّلَ القول فيه بعض فقهاء الحنفية والشافعية، فحَرَّموه في الحالة التي لا تدعو الضرورة فيها إلى التداوي به، لوجود ما يقوم مقامه في النفع والعلاج مِن الأدوية المباحة الطاهرة، وأباحوه في الحالة التي تمسُّ فيها الحاجة إليه ولا يُوجد بُدٌّ منه لعدم غناء غيره عنه في العلاج برأي الطبيب المسلم الحاذِق (وعلى هذا يَخرج حكم التداوي بنقل الدم المسفوح إلى جسم المريض).(1/666)
وهذا تفصيل حسَنٌ تُؤيده إباحة الشريعة أكْل الميتة في المَخمصة وشُرب الخمر لإزالة الغُصَّة، وغيرهما من الرُّخَص التي تَسقط فيها حُرمة المُحرَّم لعارض طارئ. ...
و"كينا بسليرى" المُستفتَى عنها على ما علمنا من الثقات نوع من الخمر، والخمر اسم لكل ما خامَر العقل وخالطه كما ذهب إليه الجمهور من الأئمة، وهو حرام لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ " كلُّ خمر حرامٌ، وكل مُسكر خمرٌ". فالتداوي به يفصل في حكمه التفصيل المذكور.
وفي ظنِّي أن هناك من الأدوية المباحة الطاهرة ومن العقاقير الحلال ما يَشفي من الأمراض التي يَزعمون أنها تُعالَج بهذه الكينا المحرمة.
ولن يعجز الأطباء عن أن يجدوا بدلها وخيرًا منها في العلاج، وكفَى زاجرًا عنها قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ " مَن تداوَى بالخمر فلا شفاهُ اللهُ".
ولا يَحرص على العلاج بها وبأمثالها من المُحرمات في غير حالات الضرورة القصوى إلا مَن لا يُقيم وزنًا للحلال والحرام، والله أعلم.
حُكم التداوي بالمحرم
"السؤال": أُصيبَ رجل بمرض فوَصف له الطبيب دواء في تركيبه الكحول وقد تردَّد في شربه لوجود هذه المادة به. فهل يجوز شرعًا أن يشربه مع ذلك؟
"الجواب": التداوي بالمُحرم النجس ومنه الخمر والنبيذ والكونياك ونحوها قد أطلق جمهور الفقهاء القول بحُرمته لحديث: "كل مُسكر خمر، وكل خمر حرامٌ، وكل شراب أسكر فهو حرامٌ". فيَحرم على الصحيح والمريض، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه إن التداوي بالحرام حرام عند جماهير الأئمة كمَالِك، وأحمد وأبي حنيفة، وهو أحد الوجهينِ في مذهب الشافعية وتبعَه في ذلك ابن القيِّم في زاد المعاد.
وفصَّل بعض الفقهاء من الحنفية والشافعية في ذلك، فقالوا بحُرمته إذا لم تَدْعُ الضرورة إليه لوُجود ما يقوم مقامه من الأدوية المباحة الطاهرة، وقالوا بإباحته إذا دعتِ الضرورة إليه لعدم وُجود غيره من المُباحات، ويَعرف ذلك الطبيبُ المسلم الحاذق.(1/667)
وهذا التفصيل حسَنٌ تُؤَيِّدُهُ إباحة أكل ما يسدُّ الرَّمَقَ من الميتة في المَخْمَصَة وشُرب قليل من الخمر لإزالة الغُصَّة. ونحو ذلك من الرُّخَص التي تسقط فيها حُرمة المحرم لعارضٍ طارئ.
ولا شك أن الأدوية المباحة الطاهرة كثيرة ميْسورة معروفة لحُذاق الأطباء المسلمين وقد قدمنا فتوى في ذلك في هذا الباب فراجعها. والله أعلم.(1/668)
حُرمة شحْم الخنزير
"السؤال": هل يحرم أكل شحْم الخنزير كما يحرم أكل لحمه؟
"الجواب": نصَّ القرآن الكريم في ثلاث آياتٍ على تحريم لحْم الخنزير، والمراد تحريم الخنزير بجميع أجزائه ومنها الشحْم، وإنما خَصَّ اللحم بالذكْر في هذه الآيات؛ لأنه أهم ما ينتفع به من الحيوان المذبوح، وسائر أجزائه كالتبَع له، على أن اسم اللحم يُراد به عُرفًا ما يُؤكل من الحيوان، ولا يتناول العظم، فكان النصُّ على تحريم اللحم نصًّا على تحريم الشحم.
ولا يُرخَّص في الأكل من لحْمه أو شحمه إلا في حالة الاضطرار الحقيقي بأن لم يجد الإنسان أصلًا ما يَسُدُّ به الرمَّق سواه، فيُباح له التناول منه بالقدْر الذي يدفع عن نفسه غائلة التلَف غير راغبٍ فيه مُستطيب له، ولا مُتجاوز القدْر الذي تندفع به الضرورة، وهذا معنى قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فلا إِثْمَ عليهِ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ).
ومن هذا يُعلم أن المسلمين المَوجودين في البلاد الأجنبية لا يُباح لهم أكْل لحم الخنزير أو شحْمه لعدم الاضطرار إليه، لإمكان سدِّ الرمَق بما سواه من اللحوم المذبوحة والطيور المذبوحة والأسمال والزيوت والسمن الصناعي الخالي من شحم الخنزير والحلال من الطعوم. ومِن هذا يُعلم حُرمة استعمال النباتين الذي فيه شحْم الخنزير مهما قلَّ، أما ما ليس فيه شحْم الخنزير، فإنه يجوز استعماله. وعلى المسلم أن يتحرَّى، ويتثبَّت في أمر دينه وحِلِّ ما يستعمله، والله أعلم.(1/669)
حُكم أكْل البُولوبيف
"السؤال": ما حكم أكل البولوبيف، أهو حلال أم حرام؟
"الجواب": البولوبيف كلمة أجنبية معناها لحْم الثور، ولحم الثور المذبوح ذبحًا شرعيًّا حلالٌ، وقد بيَّنا في فتوى سابقة أن ما غاب عنَّا من ذبائح أهل الكتاب من حيث التسمية عليها باسمه ـ تعالى ـ أو باسم غيره يحلُّ أكله شرعًا لقوله ـ تعالى ـ: (وطعامُ الذينَ أُوتُوا الكتابَ حِلٌّ لكمْ). والمراد بالطعام الذبائح عند جمهور المُفسرين، وذلك تحسينًا للظن بهم، كما نُحسن الظنَّ بالمسلم فيما يُقدم إلينا من ذبيحة، كما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم.
هذا، وبعد كتابة ما تَقدَّم قرأتُ بجريدة الأهرام في عدد: 24 ربيع الثاني سَنة 1385 هـ). أن حكومة "زانبيا" ستُصنع البولوبيف من لحْم السيد قشطة، وتطرحه في الأسواق العالمية للبيع، فإذا صحَّ ذلك فلا يُؤكل، لأن الحيوان البحري المعروف بسيد قشطة ليس ممَّا يحلُّ أكله مِن صيد البحر، وكذلك قررت أنها ستصنع السجق من لحْم الفيل، وهذا يحرم أكلُه شرعًا كما هو معروف. والله أعلم.(1/670)
البيرة والبُوظة حرامٌ
"السؤال": ما حكم شرب البيرة والبوظة المعروفة؟
"الجواب": عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام". "رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه" وفي رواية مسلم: " كل مسكر خمر وكل خمر حرام".
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سُئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن البتْغِ "بكسر الباء الموحدة وسكون التاء المثناة"، وهو نبيذ العَسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كلُّ شرابٍ أَسْكرَ فهو حرامٌ". "متفق عليه".
وعن جابر أن رجلا من جيشانَ "وجيشان في اليمن" سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شراب يشربونه بأرضهم من الذُّرة أو الشعير، يُقال له المِزْرُ "بكسر الميم وسكون الزاي". فقال: أمُسْكِرٌ هوَ؟ قال نعم، فقال: " كل مسكر حرام". "رواه أحمد ومسلم والنسائي".
وعن أبي موسى الأشعرى قال: قلت يا رسول الله أفْتِنَا في شرابينِ كُنَّا نصنعهما باليمن: البِتْع وهو من العسل ينبذ حتى يشتدُّ، والمِزْر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد. قال: وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أُعطى جوامع الكلِم بخواتيمه فقال: " كل مُسكر حرامٌ". "متفق عليه".
وعن عائشة قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفَرَق منه "بفتح الفاء والراء: مكيالٌ يسعُ ستة عشر رطلًا". فملء الكفِّ منه حرام". "رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال حديث حسن".
وعن ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام". "رواه أحمد وابن ماجه والدارقطنى وصححه".
فقد دلَّتْ هذه الأحاديث على أن كل شراب أسْكرَ فهو خمرٌ، وأن ما أسكر كثيره فالقليل منه حرامٌ، فالبيرة المعروفة إذا كان من شأنها إسكار مُتعاطي الكثير منها كانت خمرًا مُحرَّمة، وحُرمة القليل منها كالكثير.(1/671)
وهكذا الحُكم في كل شراب بهذه المثابة، "فالبوظة" المعروفة بمصر والسودان متى بلغت حدَّ الإسْكار، وذلك باشتدادها وفوَرانها سواء كان ذلك بوَضْع مادة مخدرة فيها أو ترْكها مُدَّةً يحدث فيها الاشتداد والفوَران حُرِّمَ قليلها وكثيرها، لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل مسكر خمْرٌ، وكل مسكر حرامٌ، وما أسكر كثيرُه، فقليلُه حرامٌ".
أما قبل أن تبلغ حدَّ الإسكار، فحُكمها الحِلُّ، وكذلك القول في الشراب المعروف بالسُّوبية وفي عصير القصب والفواكه وفي نقْع الزبيب أو التمر أو التين إنْ بلغ حدَّ الإسْكار، حرُم وإلا فلا.
وقد وضع الشارع هذه المبادئ العامة ليُعرف منها حكم جميع الأشربة المُسكرة، سواء كانت مِن العنب أو الزبيب أو التمر أو البُسْر أو الحنطة أو الشعير أو الذرة أو العسل أو القصب أو غير ذلك من المواد، وسواء في ذلك ما عُرف من الأشربة، زمن التشريع وما استُحدث بعده، ويُسمى بأسماء مصطلحة. وفي حديث أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ليَشربنَّ أُناس من أُمتي الخمر ويُسمونها بغير اسمها". "رواه أحمد وابن ماجه". وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفةٌ مِن أمتي الخمر، ويُسمونها بغير اسمها". "رواه ابن ماجه".
وقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما أخبر به "وهو من أعلام النبوة" فقد سمَّى الناس في الأزمنة الأخيرة الخمر بأسماء استحدثوها، كالوِيسكى ، والروم، والبيرة، والكونياك، وما إلى ذلك مما ابتدعوه من الأسماء لمَا حرَّمه الله من المُسميات، والله أعلم.(1/672)
حُكم أكْل لحم المُرْتَدِلَّة والاتجار فيه
"السؤال": ما نوع لحم المرتدلة. وما حكم الشرع في أكْلها والتجارة فيها؟
"الجواب": هذا النوع من اللحم يحتوى على لحْم الخنزير أو شحمه، كما أُخبرت بذلك من باحثين، فيحرم أكله وبيعه وشراؤه تحريمًا قطعيًّا، وقد حرَّم الله ـ تعالى ـ الخنزير لحمًا وشحمًا وشعرًا وعظمًا، وبيعًا وشراءً بقوله: (حُرِّمَتْ عليكمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولحمُ الخِنزيرِ). واسم اللحم يتناول الشحم كما أوضحناه في فتوى سابقة.
"ويجب على المسلمين مقاطعةُ المَحالَّ التي تُباع فيها هذه اللحوم، ولو لم تكن مقتصرة عليها لنجاسة أيدي العمال بها والأدوات التي يَستعملونها في البيع والشراء كالسيكين والميزان ونحوهما. ومن الغِشِّ ما يزعمونه مِن تخصيص عمال وأدوات لها بهذه المحالِّ، والناس في ذلك مُتهاونون وما الله بغافلٍ عمَّا يعملون". والله أعلم.(1/673)
حُكم المضطر لأكل الميْتة وشُرب الخمر
"السؤال": هل يحلُّ للمضطر أكل الميْتة أو شُرب الخمر؟ وما مقدار ما يحلُّ له شرعًا؟
"الجواب": قال ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (إنَّما حَرَّمَ عليكمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولحْمَ الخِنزيرِ وما أُهِلَّ بهِ لغيرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عَادٍ فلا إِثْمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ).
وقال ـ تعالى ـ في سورة المائدة بعد ذِكْر أنواع من المحرمات، ومنها الميتة حتْف أنْفها أو بالخنْق ونحوه: (فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غير مُتجانِفٍ لإثْمٍ فإنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ).
وقال ـ تعالى ـ في سورة الأنعام: (ومَا لكمْ ألَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ وقدْ فَصَّلَ لكمْ مَا حَرَّمَ عليكمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إليهِ).
... وقال فيها أيضًا: (قُلْ لا أَجِدُ فيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طاعِمٍ يَطعَمُهُ إلَّا أنْ يكونَ مَيْتَةً أوْ دمًا مَسْفُوحًا أو لحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فإنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رَحيمٌ).
وقال ـ تعالى ـ في سورة النحل: (إنَّمَا حرَّمَ عليكمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولحْمَ الخِنزيرِ ومَا أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عَادٍ فلا إِثْمَ عليهِ).
رخَّص الله في هذه الآيات لمَن اضطرَّ لأكْل الميتةِ، لكوْنه ما يسدُّ به رمَقه غيرها أو لإكراهه على الأكل منها بوَعيد يخافُ منه تلَف نفسه أو تلف بعض أعضائه أن يأكل منها غير باغ ولا عاد في أكْلها، بأن لا يتناول منها إلا بمِقدار ما يُسمك الرمَق أو يُزيل خوف التلَف.(1/674)
وهذه الرُّخصة يُسميها أئمة الحنفية: "رخصة الإسقاط"؛ لأن الله ـ تعالى ـ أسقط عن المضطر حُرمة الأكْل من الميتة، فأباحه حيثُ استثناه من دليل الحُرمة، والاستثناء تكلُّمٌ بالباقي بعد الثُّنَيَّا ، فكأنه قيل: أُحلَّ لكم عند الاضطرار أكل الميتة، فلم تتعلق به الحُرمة لهذا العُذر.
وفي "أحكام القرآن" للإمام أبي بكر الرازي أن أكل الميتة مباح في حال الضرورة، كسائر الأطعمة في غير حال الضرورة، وأنه لا يُباح للمُضطرِّ الزيادة عمَّا يسدُّ الرَّمَق، أو يُزيل خوف التلَف، وأن أكل هذا القدر فرضٌ عليه، فإذا امتنع عنه حتى مات، صار عاصيًا قاتلًا لنفسه، كما أنه إذا امتنع منه بعد الإكراه المُلجئ حتى قُتل مات عاصيًا، وكان في الحالتينِ بمنزلة مَن ترك الطعام والشراب وهو واجدُهما حتى مات فيموت عاصيًا لله جانيًا على نفسه. اهـ.
وكذلك رخَّص الله للمُضطر في شُرب شيء من الخمر بقدْر إزالة العطش الشديد أو إزالة الغُصَّة إذا لم يجد في الحالينِ سواها، أو إذا أُكره على شربها بما يتلف نفسه أو عُضوًا منه إكراهًا مُلجئًا في نظر الشارع.
... ويُستفاد ذلك من قوله ـ تعالى ـ: (وقدْ فَصَّلَ لكمْ ما حرَّمَ عليكمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إليهِ). فإنه ـ تعالى ـ فصَّل في كتابه المُحرمات ومنها الخمر في عدَّة مواضع، واستثنت هذه الآية حالة الاضطرار مِن التحريم عامَّة مِن غير تخصيص بمُحرم مُعيِّن، فانتظم عُمومها الخمر وغيرها من المُحرمات فتُباح عند الاضطرار، وقد علمت أنه لا يُباح من الخمر إلا القدْر الذي بيَّناه لا يزاد عليه تقديرًا للضرورة بقدْرها.
على أن النصَّ على إباحة الميتة للمضطر يدلُّ على إباحة الخمر عند الاضطرار وأن الميتة إنما أُبيحت لإحياء النفوس وتدارُك التلف وهذا المعنى موجود في سائر المحرمات في حالة الضرورة. فيجب أن تكون جميعها في الحكم سواء. فيُباح الضروريُّ منها عند الاضطرار. ومثله الإكراه المُلجئ.(1/675)
"تحذير": وظاهر أنه ليس من الاضطرار ولا مِن الإكراه الشرعيينِ، أنْ يَطلب منك عظيم شُرب الخمر في وليمةٍ أو مَحفل رسميٍّ. أو أن ترى مِن المُجاملة أو رعاية التقاليد الأجنبية مُجاراة الشاربين فتَحتسي معهم الخمر التي حرَّمها الله في الإسلام تحريمًا قاطعًا مُعتذرًا بهذه المعاذير الزائفة، فإن ذلك خليق أن يُسمَّى: خَورَ عزيمة وضعف إيمان وفُسوقًا عن أمر الله وعصيانًا قَبيحًا، مَنْشَؤُهُ ذِلَّة النفس والشعور بالضعة وهوان القدْر ومُطاوعة الأهواء والشهوات.
كما أنه ليس من حالات الاضطرار أن يتداوَى بالخمر، وهناك أدوية حلال يعرفها الأطباء الصالحون تقوم مقامها في العلاج والشفاء.
أما ما جاء في آخر الاستفتاء من أن هناك أقوامًا من الهمَج إذا اشتدَّ الجوع على القافلة المسافرة منهم في الصحراء ولم تجد قوتًا. تعمد إلى الضعيف من الرُّفقاء فتذبحه وتقتات بلَحْمه. فهو شرُّ فظائع الوحشية وما هو إلا قتْل النفس التي حرَّم الله. وهو مُحرَّم في سائر الأديان. الله أعلم.(1/676)
حُكم التسمية على الذبيحة بغير العربية
"السؤال": هل يشترك في حلِّ الذبيحة أن تكون التسمية عليها باللغة العربية بلفظ: "الله أكبر"، مع أن كثيرًا من أهل الكتاب لا يعرفونها؟
"الجواب": لا يُشترط ذلك بلْ الشرط ذكْر اسم الله ـ تعالى ـ أيِّ اسم كان، لقوله ـ تعالى ـ: (فَكُلُوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ إنْ كُنتمْ بآياتِهِ مُؤمنينَ. ومالكمْ ألَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ). من غير فرْق بين اسم واسم، فإذا ذُكر أي اسم من أسمائه ـ تعالى ـ كان المأكول ممَّا ذُكر اسم الله عليه، فلم يكن مُحرَّمًا سواء قرَن بالاسم الصفة بأن قال: "الله أكبر" " الله أجلُّ" "الله أعظمُ" "الله الرحمن الرحيم"، ونحو ذلك، أو لم يَقرن، بأن قال: الله أو الرحمن أو الرحيم. وسواء أكانت التسمية بالعربية أو بالفارسية أو بأيِّ لسان كان وهو لا يُحسن العربية أو يُحسنها.
ورُوي عن أبي يوسف: لو أن رجلًا سمَّى على الذبيحة بالرومية أو الفارسية وهو يُحسن العربية أو لا يُحسنها أجزأه ذلك عن التسمية؛ لأن الشرط في الكتاب والسنة ذكر اسم الله مطلقًا عن تقييده بالعربية أو الفارسية أو غيرها. "راجع بدائع الصنائع: ص: 48 ج 5". والله أعلم.(1/677)
حُكم لبس الخاتم الذهب، وشَدِّ السِّنِّ بالذهب
"السؤال": ما حكم لبس خاتم الذهب، وحلْقة الذهب، وشد السنِّ بسلك من الذهب؟
"الجواب": حرَّم الله ـ تعالى ـ الذهب على الرجال دون النساء لحديث عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ قال: "رأيتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ حريرًا فجعله في يَمينه، وذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذينِ حرامٌ على ذُكور أمتي". "رواه أبو داود بإسناد حسن". وزاد ابن ماجه: "حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ". ولحديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "حرَّم لباس الحرير والذهب على ذكور أُمتي وأُحلَّ لإناثهم". "رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح".
ومن ذلك خاتم الذهب فإنه حرام على الرجال لحديث البَراء بن عازب قال: "نهانَا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سبْع: عن خاتم الذهب، أو قال حلقة الذهب". "رواه البخاري في كتاب اللباس". وقال ابن دقيق العِيدِ وظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: واستقرَّ الإجماع على التحريم، ويُؤيده عُموم الأحاديث الورادة في الباب. اهـ.
واستُثنيَ مِن تحريم لبس الرجال الذهب شدَّ السن والضرْس بسلك من الذهب، فقد أجازه محمد ابن الحسن وهو رواية عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومذهب أحمد ابن حنبل، كما ذكره ابن قدامة في المغني، ومذهب الشافعية كما ذكره النووي في المجموع حيث قال: يجوز لمَن قُطع أنفُه اتخاذ أنفٍ من ذهب وإنْ أمكنه اتخاذه من فضة، وفي معنى الأنف السن والأُنْمُلة فيجوز اتخاذهما ذهبًا بلا خلافٍ. اهـ.
وقال: إنِ اضطر إلى الذهب جاز استعماله باتفاق في المذهب، فيُباح له الأنف والسن من الذهب ومن الفضة، وكذا شدُّ السنِّ العليلة بذهب أو فضة جائز. اهـ. ومن هذا يظهر:(1/678)
"أولا": أن لبس الرجال "الدبلة الذهبية" التي جرتِ العادة بلبسها عند الزواج حرام، والواجب إذا أُريد لبس شيء في هذا الظرف أن يُتخذ للزوج من فضة، وقد لبس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتمًا من فضةٍ.
"وثانيا": أن شدَّ الأسنان والأضراس بالأسلاك الذهبية جائز، وفي معناه استعمال الغطاء الذهبي للسنِّ والضرب إذا اقتضتْه الضرورة استثناءً من أصل التحريم، والله أعلم.(1/679)
جواز لبْس الحرير الصناعي
"السؤال": هل لبس الحرير الصناعي محرَّمٌ شرعا كالحرير الطبيعي؟
"الجواب": يُتَّخذ الحرير الصناعي من لُب الخشب ومن حطب القطن وتحول هذه المواد كيمائيًّا إلى أوراق تُشبه أوراق النَّشاف، ثم تُغمر في أحواض الصودَا الكاوية المُخففة، وبعد بُرهة تُعصر وتُقَطَّعُ قطعًا صغيرةً، ثم يُضاف إليها مادة كيماوية أخرى لتحويلها إلى نوع آخر من "السيلولوز" يذوب في الصودَا الكاوية ويُطلق عليه "الفيسكور" ويكون في هذه الحالة سائلاً لَزِجًا في لون عسل النحل، ويُمرَّر في ثقوب صغيرة جِدًّا داخل "حمض كبريتيك"، فتتكون من ذلك " فَتْلَةُ" الحرير، ثم تَبيض وتغسل وتُجفف لتكون مُعدَّة للنسْج.
هذا هو الحرير الصناعي ومادته وصناعته كما وقفنا عليه من المُختصين وهو نوع من المنسوجات مُستحدث في الصناعة، وغير معروف في الصدر الأول، ومُغاير في المادة للحرير الطبيعي الذي تُخرجه الدودة المعروفة بدودة القزِّ ويُسمَّى الإبرسيم والديباج والقز والذي وردت نصوص الشارع بتحريم لبْسه على الرجال وظاهر أن هذه المنسوجات لا تُسمَّى في عُرف الشارع حريرًا وإن سُمِّيَتْ حَريرًا في العُرْف المُستحدَث على سبيل التشبيه فقط بالحرير الطبيعي ولا تَشملها نصوص التحريم فيَجوز لبسها للرجال كسائر الثياب القُطنية والكتَّانية، والله أعلم.(1/680)
حُكم المَيْتَةِ
"السؤال": سقط جمل في بئر ولم يظهر منه إلا ذيله وفخذه فأدركه رجل مسلم بمُدية وقطع ذيله ومات الجمل بعد ذلك، فهل يُؤكل لحم ذلك الجمل أم لا؟
"الجواب": لا يحلُّ أكل لحم هذا الجمل؛ لأنه ميتةٌ، كما أفتى بذلك الإمام الفقيه الشيخ محمد عليش مُفتى السادة المالكية، في الجزء الثاني من فتاويه حيث قال في جواب سؤال مُماثل لهذا: إنه ميتةٌ. وفي شرح المجموع: وشبهه في عدم الأكل فقال: كالحيوان المتردي إنسيًّا كان أو وحْشيًّا، أي الساقط بحفرة فلا يؤكل بالعَقْرِ؛ لأنه ليس صيدًا حينئذ... الخ وقطع الذيل ليس ذبحًا شرعيًّا، ولا يحدث موتًا وإنما موت الجمل كان بالتردِّي، وقد حرَّم الله المتردية بالنصِّ. والله أعلم.(1/681)
هل يحلُّ أكل الجنين بعد ذبح الأم
"السؤال": رجلٌ يملك ناقة فذبحها ووجد في بطنها جنينًا حيًّا مستكمل الخلقة وبه شعر طوله سنتيمترانِ تقريبًا، فذبحه وأكل منه هو وآخرون، فما حُكم الأكل منه شرعًا؟
"الجواب": من نَحَرَ ناقةً "مثلًا" فوجد في بطنها جنينًا حيًّا تام الخلقة فذبحه حلَّ أكْله أما إذا وجده ميتًا فعند الإمام أبي حنيفة؛ وهو قول زفر والحسن بن زياد لا يحلُّ أكله أشعر أو لم يشعر، تكامل خلْقه أو لا؟. لأن الجنين له حياة مُستقلة تُتصور بعد موت أمه فلا بد له مِن ذبحٍ خاصٍّ به؛ ولأن ما هو المقصود من الذبح وهو فصل الدم عن اللحم لم يتحصَّل في الجنين بذبح أمه، وإسالة دم أمه لا يترتب عليها إسالة دم الجنين.
وعند الإمامين أبي يوسف ومحمد إذا ذُبحت أمه ووجد ميتًا تامَّ الخِلْقة حلَّ أكْله؛ لأن ذبح أمه ذبحٌ له عندهما، إذ هو جزء منها متصل بها يتغذى بغذائها ويتنفس بتنفسها. وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ومَن تبِعه هو الراجح المُفتى به، والله أعلم.(1/682)
حُكم الإعلان عن الدخان
"السؤال": هل يجوز الإعلان عن شركات بيْع الدخان؟ وهل هو من الكسْب الحلال شرعًا؟
"الجواب": بيَّنا في فتوى سابقة أن الدخان نباتٌ طاهر، والأصل في استعماله الإباحة، كما نصَّ على ذلك فقهاء المذاهب الأربعة. وقد تعرِض له الحُرمة أو لاكراهةَ إذا لحق شاربه شررٌ ليس باليسير، في نفسه أو ماله أو فيهما (وأخيرًا كتب كثيرٌ من الأطباء في هذه الأيام في أمريكا مقالات ضافية في إثبات ضرر الدخان، وأن تعاطيه من أسباب الإصابة بالسرطان وهو أخبث الأمراض وأفدحها وبأمراض وَبيلة أخرى فإذا ثبت ذلك طِبِّيًّا ترجَّح جانب تحريمه وإلا فالأمر على ما قرَّره الفقهاء). ولذلك قالوا إنه مما تَعتريه الأحكام التكليفية الخمسة. والاتجار فيه جائز والكسْب منه حلال.
"ولا يُقال" كيف يكون الاتِّجار فيه حلالًا مع أن استعماله قد يكون حرامًا؟
"لنا نقول": إنَّ حلَّ البيع والشراء شيء وحرمة الاستعمال شيء آخر، فالشيء الذي الأصل في استعماله الحلُّ بيْعه جائز ولا يُحرمه استعمال المُشتري له استعمالًا مُحرمًا، ألَا ترى عصير العنب والقصب ونحوه يجوز بيْعه وقد يُخمره المُشتري حتى يُسكر، والسلاح ونحوه يجوز بيعه وقد يستعمله المشترى في قتْل النفس المعصومة والعقاقير السامَّة كالزرنيخ والزئبق يجوز بيْعها، وقد يستعملها المشتري في سَمِّ آدميٍّ أو بهيمة.
ومتى جاز الاتجار في الدخان جاز الإعلان عنه وعن محال بيْعه في الصحف وغيرها، وجاز أخْذ الأجر على نشر الإعلان عنه وتوزيعه، والله أعلم.(1/683)
جواز الانتفاع بعِظام الحيوان المذكَّى
"السؤال": رجل يريد أن يجمع العظام الناتجة من الحيوان بعد الذبح من الأراضي العربية السعودية للتجارة والانتفاع بها في مَواسم الحج وخلافها، فهل هناك أي مانعٍ من الوجهة الدينية؟
"الجواب": اتَّفق العلماء على أن عظم الحيوان المأكول اللحم إذا كان مذبوحًا طاهرًا يجوز الانتفاع به وبيعه وشراؤه: لا فرق في ذلك بين أن يكون عظمَ ضحايَا أو هدايا أو غيرها، ما دام البائع غير المُضحِّى والمُهدى، فإنه لا يجوز لهما بيْع شيء من أضحيتهما وهداياهما لا عَظْمًا ولا غيره. والله أعلم.(1/684)
متى يصحُّ عقْد الشركة في الربْح
"السؤال": تمَّ التعاقُد بين اثنينِ على أن يُعطي أحدهما الآخر عشرين جنيهًا مصريًّا ليَتَّجِرَ فيها، وأن يأخذ رب المال خمسين قرشًا صاغًا شهريًا ربحًا له، فهل هذا جائز شرعا؟
"الجواب": مِن عقود التعامُل الجائزة شرعًا العقد المعروف عند الفقهاء "بعقد المُضاربة" وهو الذي يكون فيه المال من طرف، والعمل من طرف آخر والربح شركة بينهما "وصورته" أن يقول رب المال لتاجر ـ مثلًاـ: خُذْ مائة جنيه لتتجر فيها على أن ما رزَق الله ـ تعالى ـ من الربح فهو بيننا على النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك من الأجزاء المعلومة، ويَقبل التاجر ذلك، فيكون الربح الناتج من المال والعمل قسمةً بينهما بالنسبة التي يتَّفِقَانِ عليها.
وقد نَصُّوا على أن عقد المضاربة يفسد إذا اشترط أن يكون لأحدهما خمسة جنيهات ـ مثلًا ـ من الربح والباقي للآخر؛ لأن حقيقة المضاربة عقد شركة في الربح واشتراط مبلغ معين لأحدهما يُوجب قطع الشركة في الربح لجواز ألا يُثمر المال غيره فيأخذه ربُّ المال ولا يكون للمضارب شيء فلا تتحقق الشركة في الربح.
ومن هذا يُعلم أن ما جاء في العقد المذكور في السؤال من اشتراط دفع خمسين قرشًا شهريًّا لرب المال، أيْ: وأخذ المضارب باقي الربح قد أوجب فساد العقد. وأنه لأجل أن يكون صحيحًا يجب جعْل الربح بينهما مُناصفة أو مثالثة مثلًا، حتى يشتركا في الربح، فيكون لصاحب المال حظٌّ منه نظير ماله، وللمضارب حظ منه نظير عمله إذا ربحت التجارة، فيَقتسمان الربح بينهما على النسبة التي يتفقانِ عليها، وظاهر أنه لابد مع ذلك من استيفاء باقي شروط الصحة المذكورة في المذاهب.
ومِن الواجب على المسلم في المعاملات أن يرجع إليها، وألَّا يتعاقد إلا على الوجه الجائز شرعًا حتى لا تقع المعاملة فاسدة آثمةً. والله أعلم.(1/685)
حُكم تأجير الأرض بما يخرج منها
"السؤال": يُؤجر كثيرٌ من الملاك أراضيهم الزراعية للمزارعين، ببعض ما يخرج منها، كقِنطارين من القطن أو أردبينِ من البُرِّ ـ مثلا ـ وقد وردت إلينا أسئلة كثيرة ممَّن يتحرُّون الحلَّ الشرعي في معاملاتهم عن حكم هذه الإجارة شرعًا. فنقول.
"الجواب": يجوز شرعًا لمالك الأرض الزراعية أن يتصرَّف فيها كيف يشاء، قليلة كانت أو كثيرة، فله أن يزرعها بنفسه أو بعُماله وأجرائه، وله أن يُؤجرها بالنقد أو بطريق المُزارعة المشروعة، وبالضرورة يُباح له أن يَمنحها كُلًّا أو بعضًا للغير، بِرًّا ومواساةً، أو تطولًا وإنعامًا.
1ـ الاستغلال بالتأجير:
فأما الاستغلال بالتأجير، ونعني به تأجيرها بالنقود، أو بما جرى به ا00لتعامل في البلاد من الأوراق المالية، فلا شُبهة في جوازه.
وقد أجمع عليه الصحابة والتابعون وفقهاء الأمصار، وجرى به التعامُل في كل العصور، كما نقله ابن المُنذر وابن بطَّال وغيرهما من الأئمة.
وفي حديث سعد بن أبى وقاص: "اكْرُوا بالذهب والفِضة". وفي حديث رافع بن خديج: "كِراء الأرض بالذهب والورِق لا بأس به". ومثلهما سائر النقود وما في حُكمها كما هو ظاهر.
وفي ذلك مَصلحة لا تَخفَى، ورفق بالناس كثير، فإن المُلَّاك قد يعجزون عن الزراعة بأنفسهم، فلا يستطيعون استغلال أراضيهم إلا بتأجيرها للمُزارعين: والمستأجرون قد لا يملكون أرضًا، أو يحتاجون إلى أكثر ممَّا يملكون، مع قدرتهم على الزراعة، وتخصُّصهم في الفِلاحة، فلا يتيَسَّر لهم العيْش والكسْب إلَّا بالاستئجار من المُلاك، فرعايةً للمصلحتينِ جاز شرعًا استغلال الأرض بهذه الطريقة.
2ـ الاستغلال بالمزارعة:(1/686)
أما المزارعة فهي نوع خاص من التأجير، تُكْرَى فيه الأرض ببعض ما يخرج منها، وبهذا افترقت عن الإجارة المطلقة. وقد شُرعت طريقًا للتعاون بين مالك الأرض والمزارع، حتى ينال المالك ثمرةَ جهد المزارع، وينال المزارع ثمرة جهد المالك، وكلاهما يعيش في جنب الآخر، ولكلٍّ منهما حظٌّ من الثمرة وشركة في الخارج.
وشرحها الفقهاء: بأنها عقدٌ بين المالك والعامل على كِراء الأرض ببعض ما يخرج منها، بحيث يكون الخارج شركة بينهما، لكل واحد نصيب منه، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان النصيب جزءًا شائعًا مُقدَّرًا بالنصف أو الثلث أو الربع أو نحوه.
أما إذا قُدِّرَ نصيب أحدهما بشيء مُحدَّد كثمرة قطعة مُعينة من الأرض فإن ذلك قد يُؤدي إلى قطع الشركة بينهما في الخارج، إذ قد لا يَصلح زرعها أو يُصاب بآفةٍ، فلا يكون لمَن شرط له شيء من الخارج. وقد لا يَنْبُت في غيرها زرع وتنبت هي فقط، فلا يكون للآخر شيء من الخارج. ومثل هذا تقدير نصيب المالك بقنطارينِ ـ مثلًا ـ من القطن، أو بأردبينِ من الغلَّة عن كل فدان، لاحتمال ألاَّ يُثمر الفدان إلا هذا القدر، فلا يبقَى للعامل شيءٌ من الخارج، ومن ثم لا يتحقق معنى الشركة بينهما فيه.(1/687)
ويرجع استغلال الأرض بطريق المزارعة إلى عهد الرسالة، فقد ورد أن أهل المدينة كانوا أكثر الناس حقولًا ومزارعَ، وكانوا في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستغلون الأرض بطريق المُزارعة، إلا أنهم كانوا يجعلون لربِّ الأرض ما ينبت عل حافَّة الأنهر أو الجداول أو السواقي أو ثمرة قطعة معينة من الأرض، وللعامل الباقي منها، فنهاهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، وجعل ما يخرج من الأرض شركةً بينهما على النصف أو الثلث أو الربع ونحو ذلك، كما فعل بأرض خيْبر إذ عامل اليهود بعد أن أظهره الله عليهم، على أن يزرعوا له أرضها ولهم نِصف ما تُخرجه من ثمر أو زرع، واستمر اليهود على ذلك إلى صدرٍ من خلافة عمر حتى أجلاهم عنها إلى تيماء وأرْيحاء.
والحكمة في نهْيهم عما كانوا يصنعونه، أن فيه جهالةً وغررًا يُفضيان غالبًا إلى التنازُع والتخاصُم، وأكْل المال بالباطل، إذ يَحتمل ألا ينبت في حافة النهر وغيره، أو في القطعة المعينة شيء من الزرع. فلا يحصل المالك على شيء، ويحتمل ألا ينبت الزرع إلا في هذه المواضع، فلا يحصل العامل على شيء، وفي كلتا الحالتين تجهيل وغرر في العقد،وقطع للشركة في الخارج.
وعن رافع بن خديج فيما رواه مسلم: إن الناس كانوا يُؤاجرون على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما على الماذيانات "لفظة مُعربة معناها حافة الأنهر ومسايِل المياه"، وأقبال الجداول "رءوس الأنهر الصغيرة"، وأشياء من الزرع، فيَهلك هذا ويسلم هذا، أو يسلم هذا، ويهلك هذا، فلذلك زجر عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به" أيْ: كالنصف أو الثلث أو الربع ونحوه من الخارج ".(1/688)
وفي رواية عنه كما في البخاري قال: "حدثني عمي أنهما كانَا يَكْتَرِيَانِ الأرض على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما ينبُت في الأرض على الأربعاء "جمع ربيع وهو النهر الصغير" وبشيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك".
وفي رواية عنه: "كُنَّا نَكرى الأرض بالناحية منها تُسمَّى لسيد الأرض، فإمَّا يُصاب ذلك وتسلم الأرض، وإمَّا تُصاب الأرض ويسلم ذلك، فنُهِينَا عنه".
وفي تصريح الحديث بعلَّة النهي دليل على اطِّراد الحكم في كل ما تحققت فيه العلة من عقود المزارعة التي اشترط فيها أن للمالك قنطارينِ ـ مثلًا ـ من القطن عن كل فدان للاحتمال السابق، وفي ذلك جهالة تفضي إلى النزاع وقطع الشركة، حيث يُحرم العامل من الخارج، ويكون ما استأثر به المالك من أكْل أموال الناس بالباطل، ولا عِبرة باتفاق المتعاقدين على هذا الشرط الفاسد؛ لأن الأحكام الشرعية نظامٌ عام شامل يجب على المسلمين كافَّةً الخضوع له، ولا يتأثر بالاتفاق الباطل الذي يتمُّ على خلافه.
فالمزارعة تكون صحيحةً إذا شُرط فيها للمالك نصيبٌ معلوم بالنسبة واستُوفيت سائر شروط الصحة الأخرى، فإذا أخرجت الأرض زرعًا كان شركة بين المالك والعامل بالنسبة المُتَّفَقِ عليها، وإذا لم تُخرج شيئًا فلا شيء لواحد منهما، ولا أجر للعمل ولا أجر للأرض.
وإذا شُرط في المزارعة نصيبٌ محدود من الخارج لربِّ الأرض كما في الأمثلة السابقة، فسَد العقد وحُكمها وجوب أجر مثل الأرض على العامل إذا استعمل الأرض، ولو لم تُخرج شيئًا. أما الخارج فيكون لصاحب البَذْرِ؛ لأنه نماءُ مِلْكِه، فإنْ كان هو المالك، كان للمزارع أجر مثل عمله؛ لأنه أجير، وإذا فسدت الإجارة وجب للأجير أجر مثل عمله، وإن كان هو العامل كان للمالك أجر مثل أرضه؛ لأنه قد استأجر الأرض إجارة فاسدة وفيها يجب أجر مثل الأرض.(1/689)
وما ورد من الأحاديث مطلقًا في النهي عن المزارعة محمول على المزارعة التي اقترنت بها شروط مفسدة لها، فهي في الواقع نهْيٌ عن اشتراطها كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، والشوكاني في نيل الأوطار.
وممَّن حمل النهي على ذلك وأجاز المزارعة على النصف أو الثلث أو الربع دون أن يُقارنها شرط مفسد للعقد: الخلفاء الراشدون، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وسعد بن مالك، وحذيفة، وأسامة، وخباب، وعمار بن ياسر، وهو قول ابن المسيب، وطاوس وابن أبي ليلى، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والثوري، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وابن المنذر، وأحمد بن حنبل، وجمهور الفقهاء، وهو المُفتَى به عند الحنفية والمختار عند الشافعية، استنادًا إلى ما ثبت في الصحيح من معاملة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهود خيبر.
وعن أبى جعفر قال: "ما بالمدينة أهل بيتِ هجرةٍ إلا يزرعون على الثلث أو الربع".
وقال ابن القيم: في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلَّة من ثمر أو زرع " أيْ: على الوجه الذي فعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها".
هذا هو حكم الشريعة الغرَّاء في المزارعة الصحيحة والمزارعة الفاسدة التي يتعاقد عليها الناس كثير في بلادنا الآن.
ومن الواجب أن يَدَعُوا الفاسدةَ، ويتَّبِعُوا الهدْي النبوي فيما هو صحيح منها حتى يبارك الله لهم في أرزاقهم ويقيهم كثيرًا من الآفات الماحقة لأموالهم، وليس بعد الحق إلا الضلال.
وقد بيَّنا حكم استغلال الأرض بطريق المزارعة في الفتوى التي أصدرناها بدار الإفتاء في شهر أبريل سنة: 1948 م، والله وليُّ التوفيق.
"إزالة لبْس"(1/690)
بيَّنا في فَتْوانَا السابقة أنه يجوز استغلال الأرض بطريق المزارعة بجزء معلوم من الخارج منها كالنصف أو الثلث أو الربع، لا بجزء محدد كقنطارين أو أردبين ونحو ذلك، وأن هذا هو الذي عامل به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهود خيبر حين ظهر عليهم، فكانوا يزرعون له أرضها ولهم نصف ما تُخرجه من ثمر أو زرع وله النصف الآخر، وأن ذلك رأي جمهور الصحابة والتابعين. والقول المُفتَى به عند الحنفية، والقول المختار عند الشافعية! كما ذكره الإمام النووي ـ رضى الله عنه.
وقد ورد إلينا من أحد الأفاضل بميت غمْر خطاب يتضمن ما جاء في بعض حواشي متأخري الشافعية كالبرماوي والباجوري والبجيرمي من عدم جواز المُخابرة (سُميت المزارعة مُخابرة لاشتقاقها من الخبير وهو الفلاح). وهي المزارعة ولو بالنصف أو الثلث أو الربع. وما ذكره العلامة الشنقيطي في كتابه: "زاد المسلم" وطلب إفادته عن ذلك. فنفيده مع الشكر له لبحثه وعنايته بأمر دينه، بأن فيما ذكرناه إشارة إلى أن هناك قولًا آخر بعدم جواز المخابرة أصلًا. وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة والشافعي استنادًا إلى إطلاق أحاديث النهي عنها بدون تقييد بكونها على النصف ونحوه، أو بكونه على جزء معلوم كقنطارينِ ـ مثلا ـ وهذا هو الذي ذكر في هذه الحواشي.
ولكن هذا القول غير المفتى به عند الحنفية، وغير المختار عند الشافعية، كما ذكره الإمام النووي، وهو من جملة أئمتهم، وإليه تشير عبارة الباجوري في آخرها، وغير ما ذهب إليه جمهور الأئمة من الصحابة والتابعين.
وقد أجاب الجمهور عن استناد أبي حنيفة والشافعي بأن أحاديث النهي وإن وردت مطلقة محمولة على المزارعة غير الصحيحة. وقد صرح بذلك الحافظ بن حجر في الفتح، والشوكاني في نيل الأوطار، وقالَا بعد أن ذكرَا القول بالنهْي: "وعليه تُحمل الأحاديث المطلقة الورادة في النهي عن المزارعة والمخابرة، كما هو شأن حمل المُطْلق على المُقَيَّدِ". ا هـ.(1/691)
وصرح به القسطلاني والخطابي وابن القيم، وهو ما فهمه ابن عمر وابن عباس والليث بن سعد وغيرهم من فقهاء الصحابة والتابعين.
ومن ذلك يُعلم أن ما في هذه الحواشي هو القول غير المختار عند الشافعية، والمختار عندهم الجواز، وكيفما كان الأمر فالقول الذي عليه الجمهور هو ما بيَّناه في الفتوى بأسانيده، وهو الذي يُعوَّل عليه، ويعمل به فلا إشكال والحمد لله، والله أعلم.(1/692)
حُكم تسعير مواد التموين وغيرها
"السؤال": ما حكم الشرع في تسعير مواد التموين وغيرها؟
"الجواب": تسعير المواد التموينية في وقت الضائقة عمل ضروري تقتضيه المصلحة العامة، لتيسير العيش لجميع الأفراد على سواء، ولمنْع التهارج والتغالب عليها، ويدخل ذلك في باب السياسة الشرعية، التي تجعل لولي الأمر في مثل ذلك حق التخصيص والتحديد والتسعير استنادًا إلى قاعدة: "لا ضرَر ولا ضرار" وقاعدة: "الضرر مدفوع"، وتُجعل طاعته فيما يُجريه في ذلك حتمًا ومُخالفته إثْمًا والعقوبة عليها حقًا، والسياسة العادلة الرشيدة مِن الدين الحنيف.
وكذلك الحكم في تسعير غيرها مما يحتاج إليه في المعيشة كالملابس والأغذية ومواد البناء وغيرها. ومن البيِّن أنه يَحْرم بيعها بأزيد مما سُعِّرَتْ به والله أعلم.(1/693)
حُكم قسمة الأراضي بين الشركاء
"السؤال": ـ من بنغازي، ليبيا ـ ورد سؤال يتضمن أن ثلاثة يمتلكون قطعةَ أرض زراعية على الشيوع بسندٍ رسمي ولم يقتسموها بينهم قسمةً نهائية إلى الآن، وإنما تراضوا فيما بينهم على أن يختصَّ كل واحد منهم بقسم يزرعه بصفة مُؤقتة، ولم تكن الأقسام متساوية في المساحة.
فهل يجوز لصاحب القسم الأصغر أن يطلب إيجارًا من صاحب القسم الأكبر عن مقدار الزيادة في قسمه؟.
وهل حُكم الشيوع قائم بالأرض كلها في حقِّ ما عدا الزراعة؟ فإذا بيعت قطعة منها كان ثمنها للجميع، وإذا كشف في قطعة أرض منها معدن كان للجميع وما بقي من الأرض يكون للثلاثة بالسوية أم لا؟
"الجواب": اعلم أن هذه الأرض إذا كانت مملوكة للشركاء الثلاثة بالسوية فقسمتها بينهم قسمة وقتية بالتراضي لمجرد الاستغلال والاستثمار لا يزول بها ملك كل واحد منهم لنصيبه فيها شائعًا، فيبقى أثر الملكية الشائعة قائمًا فيما بينهم في حق ما يُباع منها فيقسم ثمنه بينهم بالسوية وفي حق ما يكشف فيها من الذهب أو الفضة وكل معدن ينطبع بالنار فتكون أربعة أخماسه مملوكة لهم بالسوية اتفاقًا بين أبي حنيفة وصاحبيه في رواية الجامع الصغير، والخُمس للإمام يضعه في مصالح المسلمين.
وفي رواية الأصل عن الإمام أن جميع ما يوجد بهذه الأرض من المعادن المذكورة ملك لهم بالسوية واختارها صاحب الكنز وصاحب التنوير، والراجح من مذهب الإمام مالك أن ما يوجد في مثل هذه الأرض من المعادن يكون التصرُّف فيه للإمام، فإن شاء أعطاه لهم، وإن شاء جعله في مصالح المسلمين، فإن كان ذهبًا أو فضةً بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة بشروطها وإن لم يَحُلْ عليه الحَوْلُ.(1/694)
وأما في حق الاستغلال فحيث كانت القسمة بالتراضي مهيأة على الوجه الذي اختصَّ به كل واحد من الثلاثة بقسم من الأرض، فليس لصاحب القسم الأصغر مطالبة صاحب القسم الأكبر بإيجار القدْر الزائد في قسمه ما داموا مُتراضين على القسمة بهذه الكيفية، ويجوز لكل منهم نقْض هذه القسمة في أيْ: وقت شاء وإجراؤها على الوجه الذي تتعادل به الأقسام الثلاثة أو الاشتراك في استغلالها على الشيوع بأيِّ: طريق من طرق الاستغلال، والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/695)
مرابحة
"السؤال": رجل يحترف تجارةَ السماد الكيماوي ويشتريه بالنقد ويبيعه بالنقد بثمن يزيد قليلًا عن مَصاريفه ـ فهل هذا جائز شرعًا؟
"الجواب": نعم يجوز ذلك شرعًا وهو بيع مرابحة، والله أعلم.(1/696)
بيع صوري
"السؤال": رجل باع لي فدانينِ من أرضه، وهو رشيد صحيح العقل، خوفًا من امرأته حيث إنها رفعت عليه دعوى بالنفقة الشرعية وله منها أولاد وكتب في العقد أن الثمن دفع جميعه، والحقيقة أن الثمن لم يُدفع إلى الآن وانتقل التكليف فعلًا، فهل أكون مُلزمًا شرْعًا بدفع الثمن أو ردِّ الأطيان حيث وقع الصلْح بين الزوجين؟ وإذا امتنعتُ عن ردِّ الأطيان ودفعتُ الثمن فقط هل يكون على عقاب عند الله ـ تعالى ـ أم لا؟ مع العلم أني لو رددتُ له الأطيان يُخشَى أن يَبيعها إلى غيري والغير يُعاكسني في الجوار؛ لأنها بجوار أرضي في الحدِّ. أرجو إفادتي؛ لأني خائف مِن الله من هذا الموضوع، وهو في القرابة ابن عمِّ والدي.
"الجواب": المفهوم من السؤال أن البيع الذي وقع بين المُستفتَى وقريبه بيع صوري لم يقصد به نقْل الملك المبيع إلى المشتري ولا نقل ملك الثمن إلى البائع بدليل أن عقد البيع قد سَجَّل ونقل تكليف الأطيان المبيعة فعلًا إلى المشتري بدون أن يدفع المشتري شيئًا من الثمن، وإنما قصد به مجرد التهرُّب لئلا تُوقع الزوجة حجْزًا على الأطيان المَبيعة نظير نَفقتها ونفقة أولادها، ومن المُقرَّر شرْعًا أن البيع لا يعتبر إلا إذا قُصد به تحقُّق أحكامه واقترن به الرضا بحُكمه، وبما أن هذا لم يحصل كما قررنا، فبناء عليه نرى أن عقد البيع الشرعي الذي تترتب عليه آثاره وأحكامه لم يوجد، فعلى المشتري رد هذه الأطيان المبيعة إلى البائع إلا إذا رضي ببقائها لدى المشتري مُكتفيًا منه بدفع الثمن، وأما كون المشتري يخشى إنْ رد الأطيان للبائع أن يبيعها لغيره فهذا لا يُبرر التمسُّك بها واستقاءها رغمًا عن البائع وله حقُّ الشُّفعة فيها.
فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "لا يحلُّ مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفس منه". والله أعلم.(1/697)
شركة
"السؤال": اشترك جماعة في شراء شاة وذبحوها وقُسِّم لحمها بينهم حسب سهامهم ما عدا الجلد والرأس وما حوته البطن فلم يقتسموه وقوَّمه بثمن معين، فاشتراه بعض الشركاء بهذا الثمن، فما حُكم الشرع في هذا الشراء، هل هو جائز أم حرام؟
"الجواب": هذه الشركة شركة ملك يجوز فيها لكل واحد من الشركاء أن يتصرَّف في نصيبه تصرُّفًا لا يترتب عليه ضرر بالآخرين، فإذا باع أحدُهم حُصَّته أو بعضها لباقي شركائه كان هذا البيع جائزًا شرعًا لعدم ترتُّب الضرر عليه، والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/698)
بيْع ثابت حلالٌ
"السؤال": رجل يبيع سلعةً مع زيادة في الثمن عمَّا اشترى به في مُقابل التأجيل في الدفع فهل يجوز ذلك شرْعًا؟
"الجواب": إذا باع تاجر سلعةً بثمن مُؤجَّل أكثر من الثمن الذي يبيعها به إذا كان الثمن حالًّا، جاز البيع ولا ربًا في هذه الحالة. والله أعلم(1/699)
وُجوب بيان عُيوب السلعة
"السؤال": هل يجب على التاجر أن يُبَيِّنَ للمُشترى عيوب السلعة التي يريد شرائها مع أنه إذا فعل ذلك سَتَبُورُ السِّلْعَةُ عنده؟
"الجواب": يجب على البائع أن يُبين للمشترى ما في السلعة التي يُريد شراءها من العيوب إذا كان بها عيوب. وكتمانها عنه غِشٌّ وخِداعٌ وتَلْبِيسٌ. وهو مُحرَّم بالإجماع. ففي سُنَنِ ابن ماجه عن عقبة بن عامر ـ رضى الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "المسلم أخو المسلم، لا يَحِلُّ لمُسلم باعَ من أخيه مبيعًا وفيه عيبٌ إلَّا بَيَّنَهُ". وفي مسند الإمام أحمد عن واثلة ـ رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يحلُّ لأحدٍ أن يبيع شيئًا إلا بيَّن ما فيه، ولا يحلُّ لأحد يعلم ذلك إلا بيَّنه". وقد مرَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رجل يبيع طعامًا فأدخل يده فيه فمَسَّتْ أصابعه بَلَلًا فقال: "يا صاحب الطعام ما هذا؟ "فقال: أصابتْه السماءُ ـ يعنى المطر ـ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هَلَّا جعلتْه ظاهرًا حتَّى يراهُ الناسُ، مَن غَشَّنَا فليسَ مِنَّا". وفي رواية أنه رأى داخل الطعام طعامًا رديئًا: أيْ: والظاهر منه جيدٌ فقال لصاحبه: "هلَّا بِعْتَ هذا على حِدْتِهِ، وهذا على حِدَتِهِ، مَن غَشَّ المُسلمينَ فليسَ مِنْهُمْ".
وبيان العيْب من النُّصْح الواجب لكل مسلم على أخيه وهو طريق البركة والنماء في المال وفي الحديث الصحيح: "البَيِّعِانِ بالخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا، فإنْ صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بيْعهما، وإنْ كذَّبَا وكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بيْعِهِمَا".(1/700)
وكما يكون الغِشُّ بكِتمان العيْب في العيب يكون بخلْط الرديء بالجيد وبيْعهما جملةً تَلَبُّسًا وخِداعًا، ويكون بإدخال الزائف من العُملة ضمْن الجيد لإخفائه، ويكون بإخفاء الثمن المُحدد للسلعة في التسعير عمَّن يَجْهَلُهُ، ويكون في الوزن والكيْل والعدد وفي النوع وفي الوصف، ويكون في غير البيع والشراء من المُعاملات والأقوال والأفعال.
والغِشُّ بجميع صوره وأساليبه خداع وتلبيس واحتيالٌ ومَفْسدةٌ وهو جِماعُ جرائمَ جسيمةٍ ومُحرَّمات فاحشةٍ. فهو خِيانة، والله لا يُحب الخائنينَ. وهو إيذاء ومَضَرَّةٌ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ". وهو أكْلٌ للمالِ بالباطل والله ـ تعالى ـ يقول: (ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ). وهو اجتراء على فعل مُضاد لهَدْي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطريقه، نهَى عنه وحذَّر منه بقوله في أبلغ عبارة: "مَن غَشَّنَا فليسَ مِنَّا". أيْ: "مَن غشَّ المسلمين فليس منهم".
ولْيَعْلَمِ البائعُ أن كِتمان العُيوب مِن الغِشِّ المُحَرَّمِ وأنه ماحِقٌ للبركة في المال وجالبٌ للخُسران في الدِّين والدنيا وأن البيانَ امتثالًا لأمر الشارع ووقوفًا عند حدود الله وطلبًا للحلال مِن الرِّزْق سيُعوض الله به البائع عن خسارته في الصَّفْقَة والمَبِيعة خيرًا كثيرًا، والله ـ تعالى ـ لا يُضيع عملَ عامل فلا يخشى البوار.(1/701)
ويجب أن يَعلم أن للغِشِّ في التجارة والحلف الكاذب على جَوْدة السلعة وعلى أثمانها وأوصافها ـ ترويجًا لها واستعمال الربا في البيع والشراء وقد حرَّمه الله ـ تعالى ـ تحريمًا قاطعًا، قَلَّتِ الفائدة فيه أو كثُرت ـ آثارًا سيئةً ومُدخلًا كبيرًا فيما يُصيب التجار من الخسائر والنَّكَبَاتِ فلْيَتَّقُوا الله في أنفسهم وأموالهم ولْيَقِفُوا عند الحدود التي حدَّها الله لهم في التعامُل، وهي حُدود واضحةٌ وجليَّةٌ ولا تَحتمل التحايُل ولا التأْويلات الزائفة واللهُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلَى صِرَاطٍ مُستقيمٍ. والله أعلم.(1/702)
بيْع الراديو وشِراؤه
"السؤال": هل يجوز شرعًا بيع الراديو وشراؤه واقتناؤه؟ ومثله التليفزيون.
"الجواب": الراديو "المذياع" جهاز يُذاع به القرآن الكريم والأحاديث الدينية والعلمية والاقتصادية والسياسية والأدبية والاجتماعية والأنباء المحلية والعالمية وغير ذلك، ويُذاع به بجانب هذا الأغاني والروايات والقصص والفكاهات وغير ذلك ممَّا تَتَضَمَّنُهُ برامج الإذاعات.
فهو أداة لإذاعة أنواع كثيرة من الكلام تُدار بالطريقة المعروفة في المواعيد المُقرَّرة للإذاعة، فإن شئتَ استمعتَ لمَا تُذيعه من جِدِّ القَوْل، وإنْ شئت استمعتَ لمَا تُذيعه مِن لهْو الحديث والغناء.
فعلى القول بإباحة الغناء والسماع لاشكَّ في جواز بيع المذياع وشرائه كما هو ظاهر، وعلى القول بحَظْر الغناء والسماع، نقول بجواز بيْعه وشرائه أيضًا، لعدم تَمَحُّضِهِ أداةً لِلَّهْوِ، لمَا علمتَ مِن أنه يُذاع به أيضًا ما هو خيرٌ مَحْضٌ وما فيه نفْع للناس في الدِّين والدنيا كالقرآن الكريم والأحاديث الدينية والعِظات والمعلومات النافعة، ومثله في ذلك مثل العصا تُتَّخَذُ للتَّوَكُّؤِ عليها والهَشِّ على الغنم بها، والتأديب المشروع والدفاع عن النفس والمال، وتُتَّخَذُ للضرْب "العدوان" والأذى المُحرَّم، ومثل السيف إن شئْتَه أداةَ جهاد في سبيل الله كان عُدَّةَ خيرٍ ومَثُوبَةٍ، وإنْ شئْته أداةَ سَفْكٍ لدمِ بَرِيءٍ كان عُدَّةَ شَرٍّ وإثْمٍ عظيم، ومثل الفرس تكون لرجلٍ أجْرًا، وتكون لآخرَ وِزْرًا، كما ورد في الحديث الصحيح وذلك بحسب اختلاف القصد وتنوُّع الاستعمال.(1/703)
وهذه كلها قد اتَّفَقَ الأئمة على جواز بيْعها وشرائها مع ذلك، فيجب أن يكون الحكم في المذياع كذلك. أما الآلة التي تتمحَّض للهْو والغناء كالعُود والمزامير فقد بيَّنَّا حُكم شرائها واقتنائها مع بيان حُكم الغناء والسماع في فتوَى أخرى. على أنه مِن الخير ألا يُدار عند إذاعة ما لا خيرَ فيه ولا نفع أو ما ضرره غالب، والله أعلم.(1/704)
إيداع المال في البنوك
"السؤال": موظف حوَّل مُرتَّبه إلى بنك مصر، وهو لا يأخذ منه فائدة، وللبنك أعمالٌ رِبوية، فما حُكم ذلك شرعًا؟
"الجواب": تحويل المُرتبات إلى المَصْرِف في الحساب الجاري بدون أخذ فائدة رِبوية له نتيجة تعاقُد بين المُودع والمَصْرِف على إيداع هذه المبالغ أمانة لديه، ومِن شأنها ألَّا يُوظفها في مُعاملاته الربوية، فلا يُعَدُّ المُودع بذلك مُساهمًا في المصرف؛ لأن وديعته أمانة كسائر الأمانات، وليست من رأس مال المصرف الذي يجرى فيه التعامُل بالربا المُحرم مع آخرين. وهو بمثابة أن يودع الإنسان مالًا على سبيل الأمانة عند تاجر يتعامل حلالًا مع قوم وبالربا مع آخرين، فإيداع المال عنده شيء وتعامله هو بالربا مع عملائه شيء آخر. وكذلك إيداع الأمانات من غير المساهيمن في المصرف، غير توظيف أموال المساهمين بالربا المحرم، والأول جائز والثاني محرم.
وقد أجاز الإمام أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بيع العنب وعصيره، ممَّن يعلم أنه يتخذه خمرًا بناء على عدم قيام وصْف الحُرمة والمعصية به وقت البيع، وحكى ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثوري أنه لا بأس ببيع التمْر لمَن يتخذه مُسكرًا. وقال الثوري: بِعِ الحلالَ مِمَّن شئت، واحتجَّ له بقوله ـ تعالى ـ: (وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ). وبأن البيع تَمَّ بأركانه وشروطه ـ فيجوز الإيداع المذكور عندهم بالأولى.
على أن مَن ذهب من الأئمة إلى تحريم بيْع العنب وعصيره ممَّن يَعلم أنه يتَّخذه خمرًا بناء على أنه إعانة على المَعصية والله ـ تعالى ـ يقول: (وتَعَاوَنُوا علَى البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا علَى الإثْمِ والعُدْوَانِ). وقد نَصُّوا على أنه إذا لم يعلم بيقينٍ أن المُشترى يتَّخذه خمرًا، بأن جهل حاله أو كان مُحتملًا، كما إذا كان ممَّن يعمل الخَلَّ والخمر معًا، ولم يلفظ بما يدلُّ على إرادة الخمر فالبيع جائز. (الدُّرَرَ وحواشيه، والمغنى لابن قدامة).(1/705)
وقال ابن حزم في المُحَلَّى: لا يحلُّ بيع شيء مِمَّن يُوقَن أنه يَعصِي الله به أو فيه كبيع كل شيء يُنبذ أو يُعصر ممَّن يُوقفن أنه يعمله خمرًا أو بيع الدراهم الرديئة ممَّن يُوقن أنه يُدلِّس بها، وكبيع السلاح والخيل ممَّن يُوقن أنه يعدو بها على المسلمين، فإن لم يُوقن بشيء من ذلك فالبيع صحيحٌ؛ لأنه لم يُعِنْ على إثم، فإن عصى المُشتري الله بعد ذلك فعليه إثْمه. ا هـ. مُلخصًا. والله أعلم.(1/706)
حُرمة بيع الأراضي العربية لليهود
"السؤال": رجل مسلم يملك قطعةَ أرض فضاء داخل البلدة التي يَقطنها، طمِع يهوديٌّ في شرائها ليُقيم عليها دارًا للسينما، تُدِرُّ عليهِ رِبْحًا وَفِيرًا، فهل يجوز بيعها له شرعا؟
"الجواب": إن السياسة اليهودية ـ في أنحاء العالم بلا مِراء ـ تقوم على انتزاع البلاد العربية من أهلها، وإجلائهم عنها بطريق التملُّك الفرديِّ، فيتقدم اليهودي إلى العربي لشراء عقاره بثمن يُغريه، فيقع في الشَّرَكِ ويُتَمِّم الصفقة، ثم يتقدَّم يهوديٌّ آخر إلى مالك آخر عربي بمثل ذلك، حتى إذا أحاطوا بالقرية، ورسخت أقدامهم فيها وكثر عديدهم بها، أرغموا الباقين مِن العرب على الهجرة منها بشتَّى الوسائل الوحشية.
وهكذا يتنقلون من قرية إلى أُخرى حتى تُسلم البلاد لهم، فيُمسي أهلها العرب وقد جُرِّدُوا من أملاكهم، وحُرِمُوا من أقواتهم، وأُجْلُوا عن أوطانهم، وشُرِّدُوا في الآفاق عشرات الآلاف شَرَّ مُشَرَّدٍ، يُعانون الجُوع والعُرْيَ والفاقة، ويَشربون كأس الذُّلِّ دِهاقًا. فعل اليهود ذلك في فلسطين، ويَرومون تنفيذ هذه السياسة في مصر وغيرها من البلاد العربية الإسلامية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، في ضَعَةٍ ومَذَلَّةٍ، وسُكُونٍ ومَسْكنة، حتى إذا تَمَّ لهم الأمر ولو بعد سنين، لَبِسُوا جُلود النمور، وكشَّروا عن أنياب الشَّرِّ والانتقام، وأحالوها فلسطينَ أخرى.
وقد أعدُّوا العُدَّة لذلك، ونحن أغْفال نِيامٌ، ننخدع بمَسْكَنَتِهِمْ، ونَغْتَرُّ بظواهر أحوالهم، ونظنُّ أنهم قِلَّةٌ لا يقدرون على كيْد، والله يعلم والتاريخ يشهد أن يهود العالم عُصبة واحدة، يشدُّ بعضهم أزْر بعض، ويُنفِّذون كل ما تَرْسمه قيادتهم العامة في الوطن الذي يعيشون فيه ويقتاتون منه، مهما أضرَّ ذلك بأهل الوطن. تلك هي نتيجة بيع الأراضي العربية لليهود.(1/707)
والآن وقد وضحت هذه السياسة الخبيثة والخُطط الماكرة بأجْلَى برهان، يجب أن يكفَّ المسلم عن بيع مِلْكِهِ لليَهودي مهما أغراه الثمن، وإلا كان بهذا البيع مُعِينًا لألدِّ عدو على ضَياع بلاد الإسلام، وتميكن أبغض عباد الله إلى الله من التحكُّم في ديار المسلمين ورقابهم وأموالهم وأعراضهم بأبشع صور وأدنئِها، وهذه معصية ظاهرة.
إن كل ربح يناله اليهودي في بلادنا قوة له وعُدَّة، وإذا كان على كل يهوديٍّ في العالَم قِسْط من المال يُؤديه لإسرائيل لإعزازها وتمكينها من القضاء على العروبة والإسلام، لا في فلسطين وحدها، بل فيها وفي سائر الأقطار الإسلامية، وجب أن لا يُمكَّن مِن ربْح يَرْبَحُهُ ببيْع أو شراء، وإلا كان ذلك وبالًا ومَضَرَّةً بالمُسلمين.
اليهودي يَحرم على نفسه ويحرم على أهل دينه وعامَّةِ شعبه أن يُخرج مِن جيْبه مليمًا واحدًا لمَنْفعة مسلم إلا إذا جَرَّ له رِبْحًا مُضاعَفًا.
واليهودي يحرم على نفسه أن يُسدي النُّصْح لمسلم بما ينفعه في دُنياه وأن يَدَعَ مُسلمًا ينعم بخير دون أن يُنَغِّصَ عيشه ويمتصَّ دمه ويستنزف ماله ومن أجل ذلك أشاعوا الرِّبَا بين المسلمين، وقد حرصوا عليه وقد نُهوا عنه، كما أخبر الله ـ تعالى ـ بقوله: (وأَخْذِهمُ الرِّبَا وقدْ نُهُوا عنْهُ وأَكْلِهمْ أَمْوَالَ الناسِ بالبَاطِلِ). وقوله ـ تعالى ـ: (أَكَّالُونَ للسُّحْتِ).
واليهودي يحرم على نفسه أن يبيع عربيًّا أو مسلما شبرًا من أرض فلسطين مهما بذَل مِن ثمن، فما بالنا قد عُمِّيَتْ أبصارُنا عن هذه الحقائق، وصُمَّتْ آذانُنا عن سماع الأنباء الصادقة عن هذه الخُطط الشَّنِيعة الماكرة في ديارنا، وأفْسحنا لهم مكان الصدارة في اقتصاديَّاتنا وتركناهم يتحكَّمون في تجاراتنا وأسواقنا، وهم ألَدُّ أعدائنا كما قال ـ تعالى ـ: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناسِ عَدَاوَةً للذينَ آمَنُوا اليهودَ والذينَ أَشْرَكُوا).(1/708)
لا تبيعوا لهم أيها المسلمون شيئًا من أملاككم مهما بذلوا من ثمن، واحْذرُوهم في دياركم، فإنهم أوَّل الناس حربًا عليكم وخِيانة لكم، واعلموا أن البيع لهم معصية لله، لمَا فيه من التقوية والتمكين لهم في الأرض، وذلك يُسبب خطرًا عظيمًا لجماعة المسلمين. وقد حرَّم بعض الأئمة كلَّ بيْع أعان على معصية. وكذلك حرَّم بيع عصير العنب ممَّن يُعلم أنه يتخذه خمرًا، فعن أبى هريرة عند أبى داود، وعن ابن عباس عند ابن حبان، وعن ابن مسعود عند الحاكم، وعن بُريدة عند الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن أحمد بن أبى خيثمة بلفظ: "مَن حبَس العنب أيام القطْف حتى يَبيعه من يهودي أو نصراني أو مَن يتَّخذُه خمرًا، فقد تَقَحَّمَ النار على بصيرة". حسَّنه الحافظ في بلوغ المرام، واستدلَّ به في المُنتقى على تحريم كل بيع أعان على معصية. ا هـ. مِن نيل الأوطار للشوكاني.
ومن هذا يعلم السائل وغيره أنه لا يجوز بيع أرضه لليهودي؛ لأنه مظنة الإضرار بجماعة المسلمين عامة. وقد علمتَ أن اليهود عُصبة واحدة، وأنهم جميعًا صِهيونيون يَدِينون لإسرائيل بالكيْد للعرب والمسلمين بشتَّى الوسائل، في أقلِّ الأشياء وأحقرها فضْلًا عن أكثرها وأعظمها، والله أعلم.(1/709)
الدَّيْنُ على ناظِر الوقف
"السؤال": تُوفِّي ناظرٌ على وَقْفٍ أهْلِيٍّ، وفي ذِمَّته مبالغ طائلة للمُستحقين، وهم ثلاثة فقط: أخوه الشقيق وأخواه لأبٍ، ثم توفي بعده بشهر أخوه الشقيق عن أولاد ذكور وإناث، وأُقيم الأخوان الآخران ناظرينِ على الوقف فحَجَزَا عن أولاد الأخ الشقيق ما يَخصُّهم في رِيع الوقف وفاء للدَّيْنِ الذي كان على عمِّهم الناظر المتوفَّى، فهل يجوز ذلك لهما شرْعًا؟
"الجواب": إذا كان الناظر السابق قد مات قبل أن يؤدي للمُستحقين استحقاقهم في غَلَّةِ الوقْف كانت دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فيُستوفي من تَرِكَتِهِ إن كانت له تركة قبل قسمتها بين ورثته فإن لم تكن له تركة لا يجوز استيفاؤها من غيرها مما يُجبى من غلة الوقف بعد وفاته؛ لأنه لا استحقاق له فيه لانتقال الاستحقاق بوفاته إلى مَن شرطه الواقف له، وعلى الناظرين أن يُؤَدِّيَا لأولاد أخي الناظر المتوفَّى جميع ما يَخصهم من رِيع الوقْف بوفاة أبيهم دون أن يَحجزا منه شيئًا بحُجة الوفاء بما لهما على المتوفَّى من الديون، والله أعلم.(1/710)
وقْفٌ على الذُّرِّيَّةِ
"السؤال": ـ منشاة جرجا ـ وقَف أطيانًا على نفسه مدة حياته ثم مِن بعده على ابنه ثم من بعد ابنه على ذُريته وذرية ذريته، فهل هذا النصُّ يقتضي استمرار الوقْف على جميع الذرية إلى أبد الآبدين أو يقتضي الاقتصار على ذرية الذرية فقط؟
"الجواب": لم نطلع على كتاب الوقف، فإذا كان نصُّه بهذه الصورة فهو يقتضي استمرار الوقف في ذرية الواقف ما تناسلوا، والله أعلم.(1/711)
وقْفٌ أصبح مِلْكًا
"السؤال": ـ من بني مجْد مركز منفلوط ـ وقف رجل وقفًا أهليًّا على أولاده، وخصَّ بِنْتَيْهِ منه أربعة عشر فدانًا بالسوية، ثم ماتت إحداهما في سنة: 1953 م بعد الاستحقاق وتركت خمس بنات وأختها الشقيقة، وأخًا لأب وأولاد أخٍ شقيق ذكورًا وإناثًا، فما نَصيبُ كل واحد من هؤلاء ؟
"الجواب": ما تستحقه البنت في الوقف المذكور وقت العمل بالقانون الخاصِّ بإلْغاء الوقف على غير الخيرات رقم: 180 سنة: 1952 م يُصبح مِلْكًا خالصًا لها. وبوفاتها في غضون سنة: 1953 م بعد العمل بهذا القانون يكون ميراثًا عنها لورثتها الشرعيين، وهم بناتها الخمس وأختها الشقيقة فقط، فتَستحقُّ بناتها الثُّلثينِ فرضًا بالسوية بينهن، والباقي لأختها الشقيقة لصيرورتها عُصبة مع البنات، ولا شيء لأخيها لأبيها ولا لأبناء أخيها الشقيق لحَجبهم بالأُخت الشقيقة، ولا لبنات أخيها الشقيق؛ لأنهن من ذوي الأرحام المُؤخرين في الميراث عن أصحاب الفروض والعصبات. وهذا إذا كان الأمر كما ذُكر بالسؤال، والله أعلم.(1/712)
حُكم الوقف على البنين وحدهم عند المالكية
"السؤال": ـ من طرابلس ليبيا ـ رجل مالكي المذهب وقف دار سُكناه على أبنائه الذكور دون بناته وهو يرغب الرجوع إلى العدْل بتعميم الوقف على أولاده جميعًا ذكورًا وإناثًا بالفريضة الشرعية. فهل يجوز له ذلك في مذهب الإمام مالك؟
"الجواب": المُعتمَد من مذهب المالكية كما في الشرح الصغير وحاشيته أنه يُكره الوقف على البنينَ مع حِرمان البنات، ولكن إذا وقع نفَذ، ولا يُمكن فسخه، وقيل إنه لا يجوز، ويفسخ إذا وقع، فإذا أراد السائل أن يُغير وقْفه، ويجعله على أولاده جميعًا جاز شرعًا على هذا القول وخرج من الكراهية فيُغَيِّر وقفه ويجعله لأولاده جميعًا للذَّكَر ضعف الأنثى وهو الأعْدل، والله أعلم.(1/713)
التعويض في حوادث القتْل
"السؤال": ما حكم التعويض الذي يُصرف في حوادث القتْل، هل يقسم بين الورثة قسمة الميراث، أو يختصُّ به بعضهم؟
"الجواب": مبلغ التعويض بمنزلة الدِّيَّة يقسم قسمة الميراث بين سائر الورثة بالفريضة الشرعية، والله أعلم.(1/714)
المواريث والوصايا الواجبة
أما أحكام الميراث فمُبَيَّنَةٌ في كتب الفقه وفي كتب خاصة بها وكذا أحكام الوصية الاختيارية وأما الوصية الواجبة فلم تكن معمولًا بها في القضاء والإفتاء بالديار المصرية حتى صدر القانون رقم: 71 سنة: 1946 م فعمل بأحكامه فيها ونفذ ابتداء من أول شهر أغسطس سنة: 1946 م في القضاء الشرعي والإفتاء.
ولمَّا وجدنا الحاجة ماسَّة إلى تِبيان مأْخذها الشرعي وطريقة حسابها في كل تركة فيها هذه الوصية، بيَّناهما بوضوح في كتابنا: "المواريث في الشريعة إسلامية"، ورأينا إتمامًا للفائدة أن ننقل منه في صدر هذا الباب ما يهمُّ الوقوف عليه ، ونورد بعض أمثله في طريقة حسابها؛ لتكون نماذجَ تُحتذَى في غيرها فنقول:
الوصيَّة الواجبة
اعلم أنه لا تجب عند الجمهور وصيةٌ بجزء من المال لأحد على أحد لا قريب ولا بعيد إلا على مَن عليه حقٌّ بغير بيِّنة، أو لديه أمانة بغير إشهاد، كما ذكره الحافظ ابن عبد البر مُحدث المغرب. فإذا مات إنسان عن ابن وابن ابن مات في حياته ورث الابن جميع تركته ولا شيء لابن الابن، لا بطريق الإرْث لحجبه بالابن، ولا بطريق الوصية لعدم وُجوبها.
ولمَّا كان في حِرمانه من استحقاق شيء من هذه التركة لموت أبيه قبل جدِّه ضررٌ ظاهر رُئي علاج هذه الحالة وأمثالها من طريق آخر غير الإرث أخذًا بقول بعض السلف وهو طريق الوصية، فصدر القانون المذكور بوُجوب إعطاء جزء من التركة بطريق الوصية لفرع ولد المتوفَّى الذي مات في حياته أو معه كالحَرْقَى والغَرْقَى بمثل ما كان يَستحقُّه هذا الولد ميراثًا في تركته لو كان حيًّا عند موته بشرط أن يكون هذا الفرع غير وراث، وألا يزيد ما يُعطى عن ثُلث الباقي من التركة سواء كان هذا الفرع واحدًا أو متعددًا، وسواء كان ولد المتوفَّى ذكرًا أو أنثى ، وسواء أوصَى الميت أو لم يُوصِ ،وأجاز الورثة أو لم يُجيزوا، وسمَّاه "الوصية الواجبة".(1/715)
وأوجب القانون أن تُقدَّم على سائر الوصايا الاختيارية، فإن بقِي شيءٌ بعدها من الثلث تُنفَّذ فيه الوصايا الأخرى على الترتيب المُقرَّر في أحكام الوصية عند التزاحم. "المواد: 76 ـ 78 من القانون".
سَنَدُهَا الشرْعيُّ
والأصل في هذا الباب آية: (كُتِبَ عليكمْ إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ للوَالدينِ والأقْرَبِينَ بالمَعْرُوفِ حقًّا علَى المُتَّقِينَ).
فذهب الجمهور إلى أن الوصية كانت واجبةً بهذه الآية للوالدين والأقربين ثم نُسخت بآية المواريث كما يدلُّ عليه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن خارجة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب على راحلته فقال: "إن الله قد قسَم لكل إنسان نصيبه في الميراث فلا يجوز لوارث وصية". وعن أبي أُمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوراثٍ". فتحول الحق إلى الميراث.
وهذا النوع من النسْخ يُسمَّى النسخ بطريق التحويل من محلٍّ إلى محل آخر، كما في كشف البزدويّ، فلم يبقَ للوصية وُجوب في حق الكافَّة لتحوُّل الحق فيها إلى الميراث.
وذهب جماعة من السلف القائلين بالنسْخ إلى أن المنسوخ هو وُجوبها للوالدين والأقربين الوارثين. أما وُجوبها لغير الوارثين منهم فهو باقٍ لم يُنسخ، ومِن الأقربين غير الوارثين فرع ولد مَن مات في حياة أبيه إذا كان هناك مَن يَحجبه. وعليه اقتصر هذا القانون بقدر ما دعت إليه الضرورة مُستندًا إلى هذا القول فأوجب الوصية له. وقيَّدها بالقيود الواردة فيه. "راجع كتابنا: المورايث في الشريعة الإسلامية ففيه تفصيل أوفَى".
طريقة معرفة قدْر الوصية الواجبة(1/716)
أوجب القانون هذه الوصية للفرْع غير الوراث، بقدْر نصيب أصله الذي كان يستحقه لو كان حيًّا عند موت مُورثه على أن لا يتجاوز ثلث التركة، فلابد من معرفة نصيب الأصل ليُحوَّل إلى المُوصَى له ما يجب تحويله منه.
وطريقة معرفته ـ حيث لم ينصّ عليها القانون ـ أن تُقاس هذه الوصية الجبْرية على الوصية الاختيارية "بمثل نصيب ابن" أو "بنصيب ابن لو كان" بأكثر من الثلث لم تَجز الورثة الزائد عنه، وقد بيَّنها الفقهاء، كما في المحيط البرهاني والفتاوى الهندية والدُّر وغيرها ـ بأن تُصحح الفريضة بين الورثة الموجودين، ثم يُزاد عليها مثل ذلك النصيب ثم يُخرج مقدار الوصية ويُقسَّم الباقي على الورثة.
(1) فإذا ترك ميتٌ أمًّا وابنًا، وأوصى لرجل بنصيبِ بنتٍ لو كانت. قال في "المحيط" تُبَيَّنُ الفريضة أوَّلًا، لولا الوصية فنقول: إنها من: 6 ، للأم سهْم، وللابن خمسة أسهم. وحيثُ أوصى بنصيب بنتٍ لو كانت، ونصيب البنت نصف نصيب الابن، فيُزاد على أصل الفريضة 2.5 فتكون الجملة: 8.5 وبالتصحيح: 17 سهمًا فصار كل حقٍّ ضِعْف ذلك، فيُعطَى المُوصى له أولًا: 5 أسهم لتُقدم الوصية على الميراث، فيبقَى: 12 سهمًا للأم سُدْسُها والباقي للابن. فقد أعطى المُوصَى له بنصيب بنْتٍ لو كانت نصفَ ما أعطى للابن، فاستقام التخريج.
(2) وإذا ترك بنتًا، وأختًا . ش . وأوصى لرجل "بمثل نصيب بنْته" ـ قال "في الفتاوى الهندية": للموصَى له ثلث المال؛ وذلك لأن للبنت النصف فرضًا، وللأخت الباقي، لصيرورتها عُصبة مع البنت وهو نصفٌ فيُزاد للموصى له نصف وهو مثل نصيب البنت، فالمجموع 1.5 وبالتصحيح يصير 3 فيُعطَى للموصى له سهم واحد، والباقي هو الميراث، للبنت سهم وللأخت سهم.(1/717)
(3) وإذا ترك بنتًا وأختًا . ش . وأوصى لرجل "بنصيب بنت لو كانت" تُصحَّح الفريضة فنقول: لولا الوصية لكان المال بينهما على سهمينِ لكلٍّ سهمٌ، فعُرف أن نصيب البنت الأخرى سهمٌ، فيزاد على أصل الفريضة فتَصير: 3، فصار المُوصَى له مُوصَى بسهْم من ثلاثة.
وجاء في المحيط أنه إذا تعذَّر تصحيح الفريضة على الورثة المَوجودين فيما لو كان الوراث المُسمَّى" وهو هنا الأصل الذي قُدِّرت الوصية بمثل نصيبه" يحجب بعض الورثة أو جميعهم فلا يُمكن زيادة نصيبِه عليها ـ يُقَدَّرُ موجودًا مِن الابتداء.
(1) فإذا ترك أخًا وبنتًا، وأوصَى لرجل "بنصيب ابنٍ لو كان". وأجازَا الوصية، لا يُمكن تصحيح الفريضة بين المَوجودين وزيادة نصيب الابن عليها؛ لأن الأخ يُحجب بالابن، والزيادة تُوجب تقرير المزيد عليه، فيُقدر الابن موجودًا من الابتداء، فتكون التركة بيْنه وبين البنت أثلاثًا لحجب الأخ بالابن فيُعطَى الموصَى له الثلثينِ عند الإجازة، ويبقى الثُّلث، يُقسم بين الأخ والبنت نصفينِ؛ لأنه لو لم يكن هناك وصية كان المال بينهما نصفينِ، فكذا إذا وجدت الوصية وأجازاها؛ لأن الزيادة على الثلث عند الإجازة تستحقُ في نصيبهما وذلك بالقسمة بالسوية.
أما إذا لم يُجِزَا فللمُوصَى له الثلث، والثلثان للأخ والبنت نصفين.
(2) وإذا ترك أخًا وأختًا شقيقينِ، وأوصى لرجل "بنصيب ابن لو كان"، وأجازَا الوصية، فعلى قياس ما ذُكر يكون للموصَى له كل التركة ولا شيء لهما. وإنْ لم يُجيزا كان له الثلث، والباقي للأخ والأخت أثلاثًا. هذا ما نَصُّوا عليه، وعليه القياس، والله أعلم.
أمثلة فيها وَصيَّة اختيارية بمثل النصيب
مات عن : زوجة، وأم، وابن موصى له "بمثل نصيب بنت".
وأُجيزت الوصية 8/1 6/1 الباقي تعصيبًا
3 4 17
... 6 8 34 17(1/718)
المسألة من: 24، فيزاد على الفريضة للوصية نصف نصيب الابن وهو: 8.5 = 32.5 وبالتصحيح: 65 للموصَى له: 17 والباقي: 48 منه للزوجة 6 وللأم: 8.
مات عن: زوجة، أم، 3 أبناء، موصى له "بمثل نصيب ابن آخر".
8/1 6/1 الباقي :المسألة من 24 وبالتصحيح بضرْب
3 4 17 3 × 24 = 72
... 9 12 51 "لكل ابن 17"
فيزاد على التصحيح 17 = 89 (للمُوصى له: 17 والباقي: 72 للورثة كما بُيِّنَ).
(2) أمثلة للوصية الواجبة.
(1) الورثة: أب ، أم، 3 أبناء، بنت ابن المتوفَّى
... 6/1 6/1 الباقي وصية واجبة
1 1 4
3 3 12 4
أصل المسألة من 6 وبالتصحيح 18 لكل ابن 4 فيزاد على التصحيح للوصية: 4 = 22، والباقي وهو: 18 للورثة كما بيَّنا فيتساوى الابن المتوفَّى مع الابن الحي.
(2) الورثة: زوجة، ابن، ابن بنت متوفاة
... 8/1 الباقي وصية واجبة
7
24 7
أصل المسألة: 8 فيزاد عليها نصف نصيب الابن وهو: 3.5 = 11.5.
وبالتصحيح 23 فيُعطى للوصية: 7 والباقي للورثة منه للزوجة 2 وللابن 24.
(3) الورثة: زوجة، أخوانِ لأم، بنت بنت متوفاة.
وصية واجبة
... 4/1 3/1
5
المسألة من: 12، فلو فرضت البنت موجودة لحَجبت الزوجة عن الرُّبْع إلى الثمن وحجبت الأخوين لأم فلا يزاد على الفريضة نصيب بل تُعتبر البنت موجودة من الابتداء ولها النصف فيرد إلى الثلث فتُعطى بنتها ثلث التركة وصيةً، والباقي للورثة، للزوجة منه الربع وباقية للأخوين لأم فرضًا وردًّا.
(4) الورثة: زوجة، أب، أم، بنت ابن، بنت ابن متوفَّى.
الباقي وصية واجبة(1/719)
8/1 6/1 6/1 13 24
3 4 4 39
9 12 12
المسألة من: 24 وبالتصحيح: 72 يخصُّ الابن منها: 26، وإذا زِيد للابن المتوفَّى مثلها زادت الوصية عن الثلث فتردُّ إليه وهو: 24 فيحصل: 96 فيُعطى للوصية: 24 والباقي يقسم بين الورثة كالمبين.
(5) الورثة: زوجة، بنت، بنت بنت متوفاة.
8/1 2/1 + الباقي ردًّا وصيةً واجبةً
4 + 3
8 + (6 ردًّا)
المسألة من: 8 ونصيب البنت فرضًا: 4 فيُزاد مثلها للبنت المتوفاة وهو أكثر من الثلث فيردُّ إلى الثلث ويحتاج إلى عدد له ثلث ولثلثيه ثُمن، وأقل عدد كذلك: 24 للوصية منه: 8 والباقي منه للزوجة: 2 وللبنت: 8 فرضًا، 6 ردًّا.
(6) الورثة: زوج، بنت ابن متوفى، ابن بنت متوفاة.
2/1 2/1+ الباقي ردًّا وصيةً واجبة
2 +1
4 + 2 4
المسألة من: 4 ولو كانت بنت المتوفاة موجودة مع بنت الابن لاستحقت النصف فرضًا، وبنت الابن السدس تكملة للثلثين ـ فتُعتبر موجودة من الابتداء، ولمَّا كان النصف أكثر من الثلث يرد إلى الثلث، ويحتاج إلى عدد له ثلث، ولثلثيه ربع، وأقل عدد كذلك: 12 فيؤخذ ثلثه للوصية والباقي هو التركة للزوج ربعه، ولبنت الابن الباقي فرضًا وردًّا.
إزالة شُبهة في موضوع الوصية الواجبة
أطلعنا على منشور مطبوع بعنوان "وصية واجبة" وبتوقيع أحد أهالي مصر القديمة تضمَّن عدة أخطاء في موضوع الوصية الواجبة، وطلب من العلماء إفتاءه بما يقرُّ الحق في نصابه، فرأينا قطعًا للشبهة بيان الصواب فيها بتوفيق الله فنقول:(1/720)
1-إن الوصية والإرث أمرانِ مختلفانِ حقيقة وحُكمًا، فالوصية النافذة حقٌّ للمُوصَى له في التركة يُؤدَّى منها قبل حق الورثة، كما يُشير إليه قوله ـ تعالى ـ في سورة النساء بعد بيان فرائص المواريث: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بهَا أوْ دَيْنٍ) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أوْ دَيْنٍ) (مِن بعدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بهَا أوْ دَيْنٍ) فكلٌّ مِن الوصية والدَّيْنِ حقٌّ واجب الأداء من التركة قبل حقِّ الإرث، وما بقِيَ من التركة بعدهما هو حق الورثة شرعًا.
2- ومن الوصايا ما أوجبه الشارع في التركة للوالدينِ والأقربينَ في سورة البقرة كما يدلُّ عليه قوله ـ تعالى ـ: (كُتِبَ عليكمْ إذا حَضَرَ أحدَكُمُ الموتُ إنْ تَرَكَ خيرًا الوصيةُ للوالدينِ والأَقْرَبِينَ بالمَعروفِ حقًّا علَى المُتَّقِينَ). حيث جعل الوصية لهم حقًّا واجبًا، والمراد بهم كما ذهب إليه بعض السلف غير الوارثين لنسْخ الوُجوب للوراثين منهم بآية المواريث، وهذا هو أصل تشريع "الوصية الواجبة" التي نصَّ عليها القانون رقم: 71 سنة: 1946 م وخصَّها بالفرْع غير الوراث، وحدَّدها بمثل نصيب أصله الذي كان يَستحقه لو بقي حيًّا عند وفاة المورث، بشرط ألا يزيد في جميع الأحوال عن ثلث التركة الباقية بعد تنفيذ حقَّيِ الدَّيْنِ والتجهيز فإذا كان للمتوفَّى أولاد لصُلبه ذكور وإناث، وأولاد ابن أو بنت تُوُفِّيَا في حياته وجب لهؤلاء شرعًا وصية في تركته، بالشروط التي نصَّ عليها القانون وهم غير وارثين لحَجْبِهِمْ بالأولاد الصلبيين، أما إذا كان الفرع وارثًا، كما إذا توفَّى عن بنات، وابن ابن مات في حياته، فإن ابن الابن لا تجب له وصية في التركة اكتفاء بإرثه.
3ـ وبهذا ظهر الفرق بين الفرع والوارث والفرع غير الوارث حيث تجب الوصية للثاني دون الأول.(1/721)
ويجب أن يُعلم أن قانون الوصية لم يُغير حكمًا من أحكام الميراث الثابتة في الكتاب والسنة، ولم يُوجب الوصية إلا للفرع غير الوارث، وأن الوصية تخرج من التركة قبل حق الورثة ويُوزع الباقي ميراثًا بين مستحقيه كما شرع الله ـ تعالى ـ في كتابه وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم.
4ـ ففي الحادثة التي استَفتَى عنها السائل وهى: "ميراث امرأة توفيتْ عن ثلاث بنات وعن بنت ابن تُوفي في حياتها، وعن ابني أخوين شقيقين أو لأبٍ". لا ميراث لبنت الابن لحجْبها بالبنات الصلبيات، ولكن لها وصية واجبة في التركة بمثل ما كان يستحقه أبوها لو كان حيًّا عند وفاة المُورث، بشرط أن لا يزيد عن الثلث فتُقسم التركة على فرْض وجود الابن، فيَخُصُّ البنات الثلاث ثلاثة أسهم ويخصُّ الابن سهمانِ وهما أزْيد من الثلث، فيرد النصيب إلى الثلث، ثم تقسم إلى عدد من السهام به ثلث يُصرف للوصية الواجبة، ولباقيه ثلثان وثلث للورثة وذلك هو العدد 27 فيُعطى ثلثه وهو تسعة لبنت الابن وصية واجبة والباقي وهو الميراث ثمانية عشر للبنات الثلاث، منه الثلثان وهو 12 سهمًا بالسوية بينهن، والعصبة الباقي بالسوية بينهما.
وفي الحادثة التي ذكرها تنظيرًا، وأخطأه الصواب فيها، وهى ميراث رجل توفي عن زوجة وأربع بنات وابن ابنه المتوفي قبله، تُقسم التركة باعتبار أن للزوجة الثمن فرضًا وللبنات الأربع الثلثين فرضًا، والباقي لابن الابن تعصيبًا فهو في هذه الحادثة فرع وارث بخلاف بنت الابن في الحادثة السابقة فإنها فرع غير وارث، والله أعلم.(1/722)
وصية واجبة لولدي الابن
"السؤال": توفي رجل في سنة: 1951م عن زوجته وأبنائه الثلاثة وعن ولدي ابنه المتوفى قبله وهما ذكر وأنثى ـ فما نصيب كل وارث وما مقدار الوصية الواجبة لولدي الابن؟
"الجواب": بوفاة المتوفى بعد صدور قانون الوصية رقم: 71 سنة: 1946 م عن زوجته وأبنائه الثلاثة وعن ولدي ابنه المتوفى قبله، وهما ذكر وأنثى، يكون لولدي ابنه في تركته وصية واجبة بمثل ما كان يأخذه أبوهما لو كان موجودًا وقت وفاة أبيه في حُدود الثلث طبقًا للمادة: 76 من القانون المذكور. فتُقسم التركة إلى ثلاثة وتسعين سهمًا (بيانه: تقسم التركة إلى 24 سهما للزوجة: 3 ولكل ابن من الثلاثة: 7، ثم تُضاف إليها: 7 للابن المتوفى تساوى: 31 سهمًا. وبما أن الفرع المذكور ذكر وأنثى أي: 3 فبضرب 31 × 3 = 93 سهمًا) لولدي ابنه منها واحد وعشرون سهمًا وصيةً واجبة للذكر ضعف الأنثى فيخصُّ الذكر أربعة عشر سهمًا والأنثى سبعة أسهم، والباقي وهو اثنان وسبعون سهمًا تقسم بين ورثته لزوجته ثمنها فرضًا لوُجود الفرع الوارث وهو تسعة، والباقي وهو ثلاثة وستون لأبنائه بالسوية بينهم تعصيبًا، لكل ابن واحد وعشرون، وهذا إذا لم يكن للمتوفَّى وارث آخر ولم يكن أوصى لولدي ابنه بشيء، ولا أعطاهما شيئًا بغير عوض عن طريق تصرُّف آخر. والله أعلم.(1/723)
وصية واجبة لأولاد بنت
"السؤال": توفي رجل وترك زوجةً وثلاثةَ بنين وثلاث بنات وأولاد بنت توفيت قبله ذكورًا وإناثًا فما نصيب كل منهم في التركة؟
"الجواب": لأولاد بنت المتوفي في تركة جدهم وصية واجبة بمثل ما كانت تأخذه أمهم لو كانت موجودةً حين وفاة أبيها في حدود الثلث إذا كانت وفاة الجَدَّ بعد العمل بالقانون فتقسم التركة إلى تسعة وسبعين سهمًا (أسهم التركة: 24، للزوجة: 3 وللأولاد: 21، يخصُّ كل بنت" 3/1 2، فيُضاف مثله إلى 24 = 3/1 26 وبتصحيحه بضربه في 3 = 79). لأولاد البنت سبعة أسهم وصيةً واجبةً للذكر ضعف الأنثى والباقي وهو اثنان وسبعون سهمًا للورثة منه للزوجة الثمن وهو تسعة ولأولاده الباقي للذكر ضعف الأنثى فيَخُصُّ كل ابن أربعة عشر سهمًا، وكل بنت سبعة أسهم والله أعلم.(1/724)
وصية واجبة لولدي بنت وبنتي ابن
"السؤال": توفي رجل في سنة: 1949 م وانحصر ميراثه في زوجته وفي ابنيه، ولهذا المتوفى بنت توفيت قبله وتركت ولدين ذكرًا وأنثى، وله ابن توفي قبله أيضًا وترك بنتين ـ فكيف توزع تركة هذا المتوفى؟ وما مقدار الوصية الواجبة لأولاد ولديه المتوفيينِ قبله؟
"الجواب": بوفاة المتوفى بعد العمل بقانون الوصية عن زوجته وابنيه وعن بنتي ابنه المتوفى قبله وولدي بنته المتوفاة قبله وهما ذكر وأنثى. يكون لفرع كل من ولديه في تركته وصية واجبة بمثل ما كان يأخذه أصله لو كان موجودًا وقت وفاة أبيه، بشرط ألا يزيد مجموع ذلك على الثلث ـ ولمَّا كان ذلك أكثر من الثلث يرد إلى الثلث ـ فتقسم تركة المتوفى إلى اثنينِ وسبعينَ سهما (بضرب 3 × 24) لأولاد ولديه منها أربعة وعشرون وصيةً واجبةً، تقسم بن أصليهم للذكر ضعف الأنثى. فيَخص بنتي ابنه ستة عشر سهمًا مناصفة بينهما، ويخص ولدى بنته ثمانية أسهم تقسم بينهما للذكر ضعف الأنثى، والباقي وهو ثمانية وأربعون تقسم بين ورثته: لزوجته ثمنها وهو ستة فرضًا لوجود الفرع الوارث، والباقي وهو اثنان وأربعون لابْنَيْهِ مناصفةً بينهما تعصيبًا، لكل ابن واحد وعشرون والله أعلم.(1/725)
وصية واجبة لأولاد بنت
"السؤال": توفي رجل عن أولاد بنته التي توفيت قبله في سنة: 1941 م وهم: ابنان وبنت، وعن أولاد ابنه الذي توفي قبله في سنة: 1947 م ، وهم: ثلاثة أبناء وبنت لا غير، فهل يرث أولاد البنت كما يرث أولاد الابن؟.
"الجواب": ميراث هذا المتوفى محصور في أولاد ابنه المتوفى قبله للذكر مثل حظ الأنثيينِ تعصيبًا، ولا ميراث لأولاد البنت المتوفاة قبله لكونهم من ذوى الأرحام المُؤخرين في الإرْث عن العصبات، ولكن لهم بمُقتضى قانون الوصية وصية واجبة في تركته بمثل ما كانت تستحقه أمهم لو كانت حية عند وفاة أبيها في حُدود الثلث، فيَستحقون ثلث التركة في هذه الحادثة، للذكر مثل حظ الاثنين ، بطريق الوصية الواجبة، والباقي يستحقه أولاد الابن بالميراث، والله أعلم.
...(1/726)
وصية واجبة لأولاد بنت
"السؤال": توفيت امرأة سنة: 1947 م، عن زوج وأخوة أشقاء ذكور وإناث وعن أولاد بنت ذكور توفيت قبلها فما نصيب كل منهم؟
"الجواب": بوفاة المتوفاة بعد العمل بقانون الوصية عن زوجها وأخوتها الأشقاء المذكورين وعن أبناء بنتها المتوفاة قبلها فقط يكون لأبناء بنتها وصية واجبة في تركتها بمثل ما كانت تأخذه أمهم لو كانت موجودة عند وفاة أمها في حدود الثلث فتُقسم التركة إلى تسعة أسهم منها ثلاثة وصية واجبة لأبناء بنتها بالسوية والباقي يقسم على ورثتها لزوجها نصفه فرضًا، ولأخوتها الأشقاء باقيه تعصيبًا للذكر ضعف الأنثى وهذا إذا لم يكن للمتوفاة وارثٌ آخر، ولم تُوصِ لواحد من أبناء بنتها بشيء ولم تُعطه شيئًا بغير عِوَضٍ عن طريق تصرُّف آخر. والله أعلم.(1/727)
وصية واجبة لأولاد بنت
"السؤال": توفيت جدة لأم بعد أغسطس سنة: 1946م، عن ولد وثلاثة بنات وعن أولاد بنتها المتوفاة قبلها فهل لهؤلاء الأولاد نصيب في تركتها؟
"الجواب": نعم لأولاد بنت المتوفاة الذين تُوفيت أمهم في حياة أمها مثل نصيب أمهم في تركة أمها لو كانت حية عند وفاتها بطريق الوصية الواجبة، وهو هنا السُّدس يقتسمونه بينهم للذكر ضعف الأنثى، وما بقى بعد ذلك وهو خمسة أسهم هو التركة المستحقة لأولاد المتوفاة إرثًا يقتسمونه بينهم كذلك. والله أعلم.(1/728)
وصية واجبة لبنْت ابن
"السؤال": توفي رجل في يناير سنة: 1952م، عن ورثته الشرعيين وهم: ابنه وبناته الثلاث وعن بنتي ابنه المتوفى قبله، فما نصيب كل وارث في تركته وما مقدار الوصية الواجبة فيها لبنتي الابن؟
"الجواب": بوفاة المتوفى بعد العمل بقانون الوصية عن ابنه، وبناته الثلاث، وعن بنتي ابنه المتوفى قبله، يكون لبنتي ابنه في تركته وصية واجبة بمثل ما كان يأخذه أبوهما لو كان موجودًا وقت وفاة أبيه في حدود الثلث، فتُقسم التركة أولاً إلى خمسة عشر سهمًا ستة للابن ولكل بنت ثلاثة، ويزاد للابن المتوفي ستة وهى أزيد من الثلث فتردُّ إلى الثلث وتكون الأسهم عشرين سهمًا، لبنتي ابنه منها خمسة وصيةً واجبة تقسم بينهما بالسوية، والباقي وهو خمسة عشر سهمًا تقسم بين ورثته، وهم أولاده، فيخص الذكر ستة، وكل أنثى ثلاثة ـ وهذا إذا لم يكن للمتوفى وارث آخر، ولم يكن أوصى لبنتي ابنه بشيء ولا أعطاهما شيئًا بغير عِوَضٍ عن طريق تصرُّف آخر. والله أعلم.(1/729)
وصية واجبة لأولاد ابن
"السؤال": ورد إلينا سؤال من أحد أهالي: "باسوس"، يتضمن أن رجلًا توفي بعد أغسطس سنة: 1946م، عن أولاد ذكور وعن أولاد ابنه المتوفى قبله، فقال لهم أعمامهم ليس لكم نصيب في تركة جدكم لوفاة والدكم قبله. فهل هذا صحيح شرعًا؟
"الجواب": إن أولاد الابن غير وارثينَ هنا لجَدِّهم، فلهم في تركته وصية واجبة بمثل ما كان يستحقه والدهم المتوفى، لو كان حيا وقت وفاة أبيه، بشرط ألا يزيد عن الثلث، ولو لم يُوصِ الجد بذلك. طبقا لأحكام قانون الوصية. فعلى أعمامهم أن يُعطوهم ما استحقوه في تركة جَدِّهم بهذه الصفة. والله أعلم.(1/730)
وصية واجبة لبنات بنت
"السؤال": توفيت امرأة بعد أغسطس سنة: 1946 م عن أخ شقيق، وعن بنات بنتها المتوفاة قبلها وهنَّ ثلاث، فما نصيبهنَّ في التركة؟
"الجواب": ليس لبنات البنت المتوفاة قبل أمها ميراث في تركة جَدتهن لأمهن مع وجود العاصب المذكور. وإنما لهن وصية واجبة في التركة بمثل ما كانت تستحقه أُمهنَّ لو كانت حية عند وفاة أمها، على ألا تزيد عن الثلث طبقًا لقانون الوصية، فتُقسم التركة إلى تسعة أسهُم ويخرج منها ثلثها للبنات الثلاث المذكورات بالسوية بحُكم الوصية الواجبة، والباقي وهو ستة هو الميراث، يستحقه الأخ الشقيق بالعصوبة. والله أعلم.(1/731)
وصية واجبة لأولاد بنت
"السؤال": توفيت ابنة قبل صدور قانون الوصية الواجبة، وتركت أولادًا ثم توفي أبوها في عام: 1950م، أيْ: بعد العمل بقانون الوصية، فهل لأولاد هذه البنت نصيب في تركة جدهم لأمهم بحُكم هذا القانون، أو ليس لهم نصيبٌ نظرًا لوفاة أمهم قبل صدوره؟
"الجواب": العبرة بوفاة الجدِّ فما دامت في ظل قانون الوصية رقم: 71 الصادر سنة: 1946م، فتطبق أحكامه على تركته ومنها استحقاق أولاد بنته التي توفيت قبله ولو قبل صدور القانون، وصية واجبة في تركته طبقًا لنصوصه إن كان له أولاد. والله أعلم.(1/732)
ميراث ووصية واجبةٌ
"السؤال": ـ من باسوس ـ توفي رجل سنة: 1926م، وترك ابنًا وبنتًا وأبًا وأمًّا، ثم توفي والده سنة: 1942م، وترك ابنه وبنته وزوجته وولدي ابنه المتوفَّى قبله وهما ذكر وأنثى.
ثم توفيت زوجة الثاني ووالدة الأول سنة: 1948 م ، وتركت ابنها وبنتها وولدي ابنها المتوفي قبلها وهما ذكر وأنثى فقط فما نصيب كلٍّ في التركات المذكورة؟
"الجواب": لوالد المتوفَّى الأول من تركته السدس فرضًا ولوالدته كذلك ولولديْه الباقي تعصيبًا للذكر ضعف الأنثى، ولزوجة المتوفى الثاني مِن تركته الثمن فرضًا ولولديه الباقي تعصيبًا للذكر ضعف الأنثى، ولا ميراث لولدي ابنه المتوفي قبله لحَجبهم بالفرع الوارث المُذكر، ولا لهم وصية واجبة لوفاة جدهم قبل العمل بقانون الوصية رقم: 71 سنة: 1946م.
وبوفاة المتوفاة الثالثة بعد العمل به عن ابنها وبنتها وعن ولدى ابنها المتوفى قبلها وهما ذكر وأنثى فقط يكون لولدي ابنها في تركتها وصية واجبة بمثل ما كان يأخذه أبوهما لو كان موجودًا عند وفاة أمه في حدود الثلث. ولمَّا كان ذلك أكثر من الثلث يرد إلى الثلث، وتُقسم تركة المتوفاة إلى تسعة أسهم منها لولدي ابْنها المتوفى ثلاثة أسهم وصية واجبة، للذكر سهمان والأنثى سهم، والباقي هو ستة أسهم لوالديها تعصيبًا للذكر ضعف الأنثى، والله أعلم.(1/733)
وصية واجبة وميراث
"السؤال": رجل توفي في سنة: 1951 م، وترك بنتًا وبنت بنته المتوفاة قبله وزوجةً وأخًا وأُختًا لأبٍ. فما نصيب كل منهم؟
"الجواب": بوفاة المتوفى بعد العمل بقانون الوصية رقم: 71 لسنة: 1946م عن زوجته، وبنته، وأخويه لأبيه ذكر وأنثى، وعن بنت بنته المتوفاة قبله، يكون لبنت بنته في تركته وصية واجبة بمثل ما كانت تأخذه أمها لو كانت موجودة وقت وفاة أبيها في حدود الثلث، فتُقسم تركة المتوفى إلى اثني عشر سهمًا، لبنت بنته منها الثلث وهو أربعة أسهم. وصيةً واجبة، والباقي وهو ثمانية أسهم تُقسم بين ورثته، لزوجته ثمنها فرضًا لوجود الفرع الوارث، ولبنته نصفها فرضًا، ولأخويه لأبيه الباقي، وهو ثلاثة أسهم للذَّكر ضعف الأُنثى تعصيبًا، والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/734)
ميراث ذوي الأرحام
"السؤال": توفيت امرأة في سنة: 1953م، عن أولاد أبناء خالها الشقيق وعن بنت خالها الشقيق وعن ابن خالتها الشقيقة فما نصيب كل وارث في تركتها؟
"الجواب": لبنت خال المتوفاة الشقيق ولابن خالتها الشقيقة جميع ترِكتها للذكر ضعف الأنثى ولا شيء لأولاد أبناء خالها الشقيق؛ لأنهم جميعًا وإن كانوا من الطائفة الثانية من الصنف الرابع من ذوي الأرحام إلا أنه يُقدم في الميراث أقربهم إلى الميت درجةً طبقًا لقانون المواريث رقم: 77 سنة: 1943م. والله أعلم.(1/735)
ميراث بجِهتينِ
"السؤال": توفيت امرأة عن ابني عمٍّ شقيق وأحدهما أخٌ لها من الأم ، وهما أخوان من الأب فما نصيب كل منهما في تركتها؟
"الجواب": لأخي المتوفاة من الأم السدس فرضًا بهذه القرابة والباقي لابنى العمِّ الشقيق تعصيبًا مناصفة بينهما وأحدهما هو الأخ لأم للمتوفاة فيرث بالجهتينِ فتقسم تركتُها إلى اثني عشر سهمًا لأخيها لأمها الذي هو ابن عمها الشقيق سبعة أسهم سهمانِ بوصفه أخًا لأم وخمسة بوصفه ابن عم شقيق ولابن عمها الشقيق الآخر خمسة أسهم ، والله أعلم.(1/736)
ميراث ووصية واجبة
"السؤال": توفي رجل في سنة: 1953م، عن زوجة، وخمسة أبناء وبنتين، وبنت ابن توفي قبله فما نصيب كل من هؤلاء في تركته؟
"الجواب": بوفاة المتوفى بعد العمل بقانون الوصية رقم: 71 سنة: 1946م، عمن ذكروا يكون لبنت ابنه المتوفى قبله وصية واجبة في تركته بمثل ما كان يأخذه أبوها لو كان حيًّا وقت وفاة أبيه في حدود الثلث فتقسم التركة إلى عشرة ومائة سهم لبنت الابن منها أربعة عشر سهمًا وصية واجبة، والباقي وهو ستة وتسعون سهمًا يقسم على الورثة للزوجة الثمن فرضًا وهو اثنا عشر سهمًا لوجود الفرع الوارث، ولأولاده الباقي تعصيبًا فيخصُّ كل ابن أربعة عشر سهمًا وكل بنت سبعة أسهم، والله أعلم.(1/737)
توريث بالفرْض وبالتعصيب
"السؤال": توفي رجل عن أخوة أشقاء، وأخ لأم وأخت لأم، فما نصيب كل وارث في تركته؟
"الجواب": للأخوينِ لأمِّ المَذكورين الثلث فرضًا بالسوية بينهما، والباقي لأخواته الأشقاء تعصيبًا للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم.(1/738)
ميراث بالفرْض فيه عَوْلٌ
"السؤال": توفيت امرأة عن زوج وأم وأختينِ شقيقتين لا غير، فما نصيب كل وارث في تركتها؟
"الجواب": للزوج النصف فرضًا لعدم وُجود الفرع الوارث، وللأم السُّدس فرضًا لوجود الأختينِ، وللأختين الشقيقتين الثلثان فرضًا بالسوية والمسألة من ستة وتعول بثلثها إلى ثمانية، والله أعلم .(1/739)
ميراث فرضًا وتعصيبًا
"السؤال": توفيت عن أم، وبنت، وأختٍ لأب، وأخوة لأم ذكور وإناث فما نصيب كل وارث في تركتها؟
"الجواب": للأم السدس فرضًا لوجود الفرع الوارث، وللبنت النصف فرضًا، وللأخت لأب الباقي لصيرورتها عصبة مع البنت، ولا شيء للأخوة لأمٍّ لوجود الفرع الوارث والمسألة من ستة، والله أعلم.(1/740)
ميراث فرضًا وتعصيبًا
"السؤال": ورد إلينا سؤال من إحدى ولايات تركيا. نصه:
ما قولكم في ميراث عمٍّ لسيدة هي ابنة أخيه، الذي توفي ولم يُعقب ورثةً غير زوجته، وعقب أخيه هذا ولدٌ ذَكَرٌ، وهذه السيدة الأنثى، فما حكم الشرع في ميراث هذه السيدة في عمِّها هذا الذي لم يُعقب.
"الجواب": المفهوم من هذا السؤال أن هذا الرجل المتوفي لم يعقب ذرية وأنه توفي عن زوجته، وعن ابن أخيه، وابنة أخيه فقط، فإذا كان الأمر كذلك فللزوجة الربع فرضًا، والباقي لابن أخيه تعصيبًا ولا شيء لابنة أخيه؛ لأنها من ذوى الأرحام المُؤخرين في الإرْث عن العصبة، والله أعلم.(1/741)
مواريث
"السؤال": توفيت امرأة عن زوجها وعن ابن وبنتينِ منه، ثم توفي الابن عن أبيه وأختيه الشقيقتينِ فقط، ثم توفي الأب عن زوجة، وعن البنتين المذكورتينِ من زوجته المتوفاة، وعن ابن وبنت من زوجته الحالية. ثم توفيت إحدى البنتينِ المذكورتينِ عن أختها الشقيقة وعن أخ وأخت لأبيها فما نصيب كل وارث في كل تركة؟
"الجواب": ميراث المرأة المتوفاة أولا لزوجها بحق الربع فرضًا، والباقي لأولادها للذكر ضعف الأنثى. وميراث المتوفى ثانيًا مُنحصر في أبيه تعصيبًا ولا شيء لأختيه لحَجبهما بالأب وميراث المتوفى ثالثًا لزوجته بحقِّ الثُّمن فرضًا، والباقي لجميع أولاده للذكر ضعف الأنثى.
وميراث المتوفاة رابعًا لأختها الشقيقة بحق النصف فرضًا والباقي للأخ والأخت لأبٍ تعصيبًا للذكر ضعف الأنثى، والله أعلم.(1/742)
ميراث متوفى عن ابن غائب
"السؤال": توفيت امرأة في سنة: 1947م عن ابن غائب من خمس سنينَ وعن بنت وأختينِ شقيقتين وأختٍ لأب، ثم صدر حكم شرعي في سنة: 1949 م ، بوفاة الولد الغائب المذكور طبقًا للمادة: 21 من القانون رقم: 25 لسنة: 1929م، وترك هذا الولد أخته الشقيقة وعمَّيْه الشقيقينِ فقط فما نصيب كل منهم في التركة؟
"الجواب": لبنت المتوفاة الأولى مِن تركتها النصف فرضًا، ولأختيها الشقيقتين الباقي بالسوية لصيرورتهما عصبة مع البنت، ولا ميراث للابن الغائب لعدم تحقُّق حياته وقت موت والدته، ولا ميراث للأخت لأب لحجْبها بالشقيقتين. أما الابن الذي حُكم بوفاته فلأخته الشقيقة من تركته النصف فرضًا ولعميه الشقيقين الباقي تعصيبًا بالسوية، والله أعلم.(1/743)
ميراث متوفى عن حمْل مُستكِنٍّ
"السؤال": توفي رجل عن زوجة، وحمل مستكن ،وبنات أربع، وأختين شقيقتين، وابني أخ شقيق: فما نصيب كل منهم في تركته؟
"الجواب": يوقف للحمل هنا نصيبُ "ولدٍ ذكر" إلى أن ينفصل. فإذا انفصل كله حيًّا تُقسم التركة نهائيًا على الوجه الآتي: فإن كان ذكرًا كان للزوجة الثمن فرضًا لوجود الفرع الوارث والباقي للولد والبنات الأربع للذكر ضعف الأنثى.
ولا شيء لمَن عداهم لحجْبهم بالابن، وإن انفصل الحمل أنثى كان للزوجة الثمن فرضًا لمَا ذُكر وللبنات الخَمْس الثلثانِ فرضًا بالسوية بينهن، وللأختين الشقيقتين الباقي مناصفةً بينهما لصيرورتهما عصبة مع البنات، ولا شيءَ لابني الأخ الشقيق لحجبهما بالأختين الشقيقتين ـ وإن لم ينفصل كله حيًّا، فلا ميراث له وتقسم التركة بين الزوجة والبنات والأختينِ الشقيقتينِ فقط، والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/744)
لا وصيةَ واجبة للفرع الوارث
"السؤال": توفي رجل عن زوجة وبنت وأولاد ابن توفي في حياته، فما نصيب كل وارث في تركته؟ وهل يطبق في هذه الحالة قانون الوصية الواجبة فيُعطى أولاد الابن ما كان يستحقُّه أبوهم لو كان حيًّا في تركة هذا المتوفى؟
"الجواب": للزوجة الثمن فرضًا، وللبنت النصف فرضًا، والباقي لأولاد الابن المذكورين تعصيبًا للذكر ضعف الأنثى، ولا يطبق في هذه الحادثة قانون الوصية ولو كانت الوفاة بعد أغسطس سنة: 1946م؛ لأنه إنما يطبق بالنسبة للفرع غير الوراث، والفرع هنا وارث، والله أعلم.(1/745)
وصية لوارث
"السؤال": توفيت سيدة وتركت فدانينِ، قيمتهما: 1500 جنيه الآن، ونقودًا قدرها 340 جنيها، وقد سلَّمت النقود قبل وفاتها إلى السائل، وأوصته أن يصرف منها ما يلزم لجنازتها، ويُعطى الباقي لبنتها الوحيدة، وللمتوفاة أخوة من الأب ذكور وإناث وأولاد أخ شقيق وأولاد أخت شقيقة، والكل يزعمون أنهم ورثة، ويُعارضون في الوصية فما هو الواجب اتباعه شرعًا في هذا المبلغ؟
"الجواب": حق الميت في التجهيز من غسل وكفن، وحمْل ودفن، مقدم على الدين والوصية والإرث، وحق المُوصَى له بما تنفذ فيه الوصية، مقدم على حق الإرث لقوله ـ تعالى ـ: (مِن بعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أوْ دَيْنٍ). وللمُوصِي أن يُوصي لبعض ورثته بما لا يزيد عن ثلث التركة. وينفذ ذلك بدون توقف على إجازة باقي الورثة طبقًا لأحكام قانون الوصية المستمدة من مذاهب بعض الأئمة، فإذا كانت التركة هي ما ذكر وقيمتها هي المبينة به، فلا شك أن الموصَى به أقل من الثلث فتَستحق بنت المتوفاة بحكم الوصية الباقي من المبلغ المذكور، بعد صرف ما يلزم للتجهيز، ولو لم يرضَ باقي الورثة. وما بقي من التركة بعد الوصية يقسم بين الورثة، وهم على ما جاء بالسؤال، البنت ولها النصف فرضًا، والأخوة لأبٍ ولهم الباقي تعصيبًا للذكر مثل حظ الأنثيينِ، ولا إرث لمَن عداهم، والله أعلم.(1/746)
ميراث ذوي الأرحام
"السؤال": توفي رجل عن زوجته وبنتي بنته وبنت أخيه الشقيق فقط، فما نصيب كل وارث في تركته؟
"الجواب": للزوجة الربع فرضًا لعدم وُجود فرع وارث بالفرض أو التعصيب، ولبنتي بنته الباقي من التركة بالسوية وهما من الصنف الأول من ذوى الأرحام، ولا شيء لبنت الأخِ الشقيق؛ لأنها من الصنف الثالث المُؤخَّر في الإرث عن الصنف الأول، والله أعلم.
(26) ميراث ذوي الأرحام
"السؤال": توفي رجل وترك أولاد أخواته الشقيقات ذكورًا وإناثا وأولاد بنت عمِّه الشقيق ذكورًا وإناثا؟
"الجواب": الإرْث منحصر في أولاد أخوات المتوفى الشقيقات ذكورًا وإناثاُ، للذكر مثل حظِّ الأنثيين، لكونهم من الصنف الثالث من ذوي الأرحام ، وقد استووا في الدرجة وقوة القرابة، فيشتركون في الإرث، وهذا الصنف مقدم في الإرث على الصنف الرابع، الذي من طوائفه أولاد بنت العم الشقيق. والله أعلم.(1/747)
ميراثٌ وحَجْبٌ
"السؤال": توفي رجل وترك زوجةً وأمًّا وابنًا، ثم توفي الابن وترك أمه وجَدَّته وأعمامه الأشقاء وعمَّاته الشقيقات، فما نصيب كل وارث في تركته؟
"الجواب": لزوجة المتوفى الأول الثمن فرضًا، ولأمه السدس فرضًا لوجود الفرع الوارث، ولابنه الباقي تعصيبًا.
... ولوالدة المتوفى الثاني الثلث فرضًا لعدم الفرع الوارث، وعدم وجود جمع من الأخوة أو الأخوات، والباقي لأعمامه الأشقاء تعصيبًا، ولا شيء لعماته الشقيقات لكونهن من ذوي الأرحام المُؤخرين في الإرث عن العصبات. ولا شيء للجدة لحجْبها بالأم، والله أعلم.(1/748)
ميراث بالفرض والتعصيب
"السؤال": توفي رجل عن زوجة وابنتينِ وأخت شقيقة وابن أخٍ. فما نصيب كل وارث في تركته؟
"الجواب": للزوجة الثمن فرضًا لوجود الفرع الوارث، وللبنتين الثلثان فرضًا، والباقي للأخت الشقيقة تعصيبًا كأخ شقيق، ولا شيء لابن الأخ الشقيق لحجبه، والله أعلم.(1/749)
لا وصية للفرْع الوارث
"السؤال": يملك رجل: 24 فدانًا، وتوفي سنة: 1950م عن زوجته وبنته وابن ابنه المتوفي في حياته، وبنت ابنه الثاني الذي توفي في حياته أيضًا، فما نصيب كل وارث في هذه التركة؟
"الجواب": للزوجة ثمن التركة فرضًا لوجود الفرع الوارث، وللبنت النصف فرضًا والباقي لولدي الابنين المتوفيينِ قبله للذكر مثل حظ الأنثيين، والفرع الوارث ليس له وصية واجبة، والله أعلم.(1/750)
لا ميراث للمتبنَّى ولا لعَصبته
"السؤال": توفيت سيدة تبَّناها رجل في حياته وتوفي قبلها، وتركت زوجها وبناتها الثلاث، وأخوينِ شقيقينِ لمَن تبنَّاها فهل يرث هذان الأخوان هذه السيدة؟ وكيف تقسم تركتها على ورثتها؟
"الجواب": التبني لا يَثبت به النسب، ولا الإرث شرعًا، وتركة المتوفاة تنحصر في ورثتها الشرعيينَ، وهم زوجها بحق الربع فرضًا لوجود الفرع الوارث وبناتها الثلاث يرثْن الباقي بالسوية بينهن فرضا وردًّا، ولا شيء لأخوي متبنيها الشقيقينِ لمَا ذكر، والله أعلم.(1/751)
ميراث ووصية واجبة
"السؤال": توفي رجل في سنة: 1953م، عن زوجة وأربعة أبناء وثلاث بنات وعن ولدي بنت تُوفيتْ في حياته فما نصيب كلٍّ في تركته؟
"الجواب": لولدي البنت وصية واجبة في تركتْه بمثل ما كانت تَستحقُّه أمهما لو كانت حية عند وفاة أبيها في حُدود الثلث فتُقسم هذه التركة إلى خمسة وتسعين سهمًا منها سبعة أسهم لولدي البنت المتوفاة وصية واجبة بالسوية بينهما والباقي هو الميراث فيخصُّ الزوجة منه الثمن لوُجود الفرع الوارث وهو أحد عشر سهمًا ويخصُّ كل ابن أربعة عشرَ سهمًا وكل بنت سبعة أسهم. والله أعلم.(1/752)
ميراث ذوي الأرحام
"السؤال": سيدة تُوفيت عن ابن أخيها من أمها ـ وبنت أخيها من أمها ـ وبنت ابن عمِّها فما نصيب كلٍّ في التركة؟
"الجواب": الميراث كله لابن الأخ لأم وبنت الأخ لأم للذكر ضعف الأنثى، وهما من الصنف الثالث من ذوي الأرحام ولا شيء لبنت ابن العمِّ؛ لأنها من الطائفة الثانية من الصنف الرابع المُؤخَّر في الإرث عن الصنف الثالث، والله أعلم.(1/753)
تقسيم المُكافأة كالميراث
"السؤال": رجل توفي عن زوجته وبنته ووالده ووالدته، وترك مكافأته عن مدة خدمته بالحكومة، فمَن يرث؟ ومَن لا يرث في هذه المكافأة؟
"الجواب": هذه المكافأة المستحقة للمتوفى تُعتبر ميراثًا عنه، وبوفاته عن المذكورين يكون لزوجته ثمن تركته فرضًا ولبنته نصفها فرضًا، ولأمه سدسها فرضًا لوجود الفرع الوارث، ولأبيه الباقي فرضًا وتعصيبًا، والله أعلم.(1/754)
ميراث وحجب
"السؤال": مات رجل عن زوجتينِ وأُختين شقيقتين وبنت وأم وأبناء وبنات عمٍّ شقيق وأبناء عمٍّ غير شقيق فما نصيب كلٍّ في التركة؟
"الجواب": للزوجتينِ الثمن فرضًا بالسوية بينهما لوجود الفرع الوارث وللبنت النصف فرضًا، وللأم السدس فرضًا، وللأختين الشقيقتينِ الباقي تصعيبًا لصيرورتهما عصبة مع البنت بالسوية بينهما ـ ولا شيء لأبناء العم الشقيق والعم غير الشقيق لحجبهم بالشقيقتين ولا لبنات العمِّ لكونهن من ذوي الأرحام ـ والله أعلم.(1/755)
ميراث فيه عَوْلٌ
"السؤال": توفي رجل عن زوجته ووالدته وأخته الشقيقة وأخويه لأمه وهما ذكر وأنثى وأخيه لأبيه فما نصيب كلٍّ في التركة؟
"الجواب": لزوجته الربع فرضًا لعدم وجود الفرع الوراث ولوالدته السدس فرضًا لوجود جمع من الأخوة ولأخته الشقيقة النصف فرضًا ولأخويه لأمه الثلث فرضًا بالسوية بينهما، ولا شيء للأخ لأب لاستغراق أصحاب الفروض التركة ـ فالمسألة من اثنى عشر سهمًا وعالت إلى خمسة عشر ـ للزوجة ثلاثة وللأم سهمان وللأخت الشقيقة ستة ولأخويه لأمه أربعة بالسوية بينهما، والله أعلم.(1/756)
ميراث بالتعصيب
"السؤال": ثلاثة أشقاء الأخ الأكبر توفي وترك ولدًا، والثاني توفي وترك ست بنات والثالث توفي ولم يترك ذرية، فهل جميع أولاد الأخوين يرثون في المتوفي الثالث ذكورًا وإناثًا أم لا؟
"الجواب": المفهوم من السؤال أن المتوفى الثالث ترك ابن أخ شقيق وبنات أخ شقيق آخر فتكون جميع تركته لابن أخيه الشقيق تعصيبًا، ولا شيء لبنات الأخ الشقيق الآخر لأنهنَّ مِن ذوي الأرحام المُؤخرين في الميراث عن العصبات، والله أعلم.(1/757)
حجب العصبة الأبعد بالأقرب
"السؤال": في عام: 1954م، توفيت سيدة عن أبناء عم أبيها، وأبناء عمها الشقيق وهم اثنان، وليس لها سواهم. فما نصيب كل وارث؟
"الجواب": لابني عم المتوفاة الشقيق جميع تركتها مناصفة بينهما تعصيبًا، ولا شيء لأبناء عم أبيها لحجْبهم بابني العم الشقيق، والله أعلم.(1/758)
ميراث بالفرْض والتعصيب
"السؤال": توفي رجل عن زوجته وأختيه الشقيقتينِ وابن أخيه الشقيق وبنت أخيه الشقيق. فما نصيب كل وارث في تركته؟
"الجواب": لزوجة المتوفى ربع تركته فرضًا لعدم وجود الفرع الوارث، ولأختيه الشقيقتينِ الثلثانِ فرضًا مناصفةً بينهما، ولابن أخيه الشقيق الباقي تعصيبًا، ولا شيء لبنت الأخ الشقيق؛ لأنها من ذوى الأرحام المُؤخرينِ في الميراث عن أصحاب الفروض والعَصبة، والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/759)
ميراث الأخوات مع البنات
"السؤال": توفي رجل عام: 1954م، تقريبًا، عن أخوات شقيقات أربع وعن بنات ابن ثلاث توفي قبله، فما نصيب كل وارث؟
"الجواب": لبنات الابن الثلاث الثلثانِ فرضًا بالسوية بينهنَّ، وللأخوات الشقيقات الأربع الباقي تعصيبًا لصيرورتهنَّ عصبة مع بنات الابن بالسوية بينهنَّ. وهذا إذا لم يكن هناك وارث آخر، ولا فرع يستحقُّ وصيةً واجبة والله أعلم.(1/760)
ميراث بالفرْض والتعصيب
"السؤال": توفيت امرأةٌ وتركت زوجها وابن عمٍّ لأبيها وابن ابن عم لأبيها وبنت أخٍ شقيق، وأولاد أخت شقيقة ذكورًا وإناثًا، فمَن الوارث من هؤلاء؟
"الجواب": للزوج النصف فرضًا لعدم وجود الفرع الوارث، والباقي لابن عم أبيها تعصيبًا، ولا شيء لابن ابن عم أبيها لحجْبه بابن عم أبيها ولا لغيرهم من المذكورين لكونهم من ذوي الأرحام المُؤخرين في الميراث عن أصحاب الفروض والعصبات، والله أعلم.(1/761)
ميراث ذوي رحم
"السؤال": امرأة توفيت وليس لها إلا أولاد ابن عمة أبيها وأولاد أخوال أشقاء ثلاثة، ذكور، وإناث. فما نصيب كل وارث في تركتها؟
"الجواب": جميع تركة المتوفاة لأولاد أخوالها الأشقاء للذكر ضعف الأنثى لأنهم من الطائفة الثانية من الصنف الرابع ممن ذوى الأرحام وليس فيه أحد أحق منهم بالميراث ولا شيء لأولاد ابن عمة أبيها الشقيق لأنهم من الطائفة الرابعة من الصنف الرابع من ذوى الأرحام والطائفة الثانية مقدمة على الطائفة الرابعة في الميراث والله أعلم.(1/762)
منْع من الإرْث لاختلاف الدِّين
"السؤال": رجل كان مسيحيًّا ومُتزوجًا بمسيحية ورزق منها خمسة أولاد ذكرين وثلاث بنات، ثم أسلم وتزوج بمسلمة، وطلَّق زوجته المسيحية بعد أن أشهر إسلامه، ثم توفي بتاريخ: 20 / 7 / 1954م، ولكن الأولاد مازالوا جميعًا على دينهم المسيحي، وعمرهم الآن "أي: في سنة: 1956م"، كما يأتي: بنت عمرها: 22 سنة، وبنت عمرها: 18 سنة ، وولد عمره: 17 سنة،وولد عمره: 14 سنة، وبنت عمرها: 11 سنة و 7 شهور.
والآن يُراد معرفة مَن يرثه مِن أولاده ولفضيلتكم الشكر.
"الجواب": إرث هذا المتوفى المسلم ينحصر في زوجته المسلمة، ولا ميراث لأولاده المذكورين في تركته لاعتناقهم المسيحية وقت وفاته. وليس فيهم مَن يتبعه في الإسلام.
واختلاف الدين مانعٌ من الإرْث كما نصَّ عليه الفقهاء، والله أعلم.(1/763)
القتل خطأً لا يمنعنَّ الإرْث
"السؤال": هل يرث القاتل خطأً وإذا كان يرث فمِن أيِّ تاريخ عُمل بهذا الحكم؟
"الجواب": القتل خطأ لا يمنع إرث القاتل مِن القتيل طبقًا للمادة الخامسة من القانون رقم: 77 لسنة: 1943م، المعمول به من: 12 سبتمبر: 1943م التي أُخذت من مذهب المالكية، والله أعلم.(1/764)
ميراث مَفْقود
"السؤال": رجل طلق امرأته طلقة أولَى رجعية، وفي اليوم الثاني توفي عن زوجة أخرى، وأولاده وهم ابنانِ أحدهما غائب لا يُدرى مكانه ولا حاله وثلاث بنات فما نصيب كل وارث في تركته؟
"الجواب": إذا كانت هذه المُطلقة لا تزال في العِدَّة من هذا الطلاق عند وفاة مُطلِّقها تَرِثُهُ، ويكون لها وللزوجة الأخرى مِن تركته الثمنُ فرضًا، ولأولاده جميعًا الباقي تعصيبًا للذكر مثل حظِّ الأُنثيينِ، فتقسم التركة إلى ستة عشر سهْمًا منها للزوجة والمُطلقة سهمانِ بالسوية ولكلِّ ابنٍ: 4 أسهم ولكل بنت سهمانِ وما خصَّ الابن الغائب يُوقف حتى يتبيَّن أمره، فإذا ظهر حيًّا أخذه، وإذا لم يظهر حيًّا وحُكم بموته بناء على بيِّنةٍ ثبت منها موته حقيقة بعد التاريخ الذي مات فيه والده استحقَّ ورثته الشرعيون حين الحكم بوفاته ما حُجز لأجله من التركة، وإذا حكم بموته بناء على القرائن تطبيقًا للمادة: 21 من القانون رقم: 25 لسنة: 1929م، أو بناء على البينة الشرعية التي ثبت منها وفاته حقيقة في تاريخ سابق على تاريخ وفاة مُوَرِّثه، لم يكن مِن ضمن ورثته ورُدَّ الذي كان مَحجوزًا له إلى ورثة والده الذين يستحقونه وقت موته والله أعلم.(1/765)
وصية لغير وارث
"السؤال": ـ من المملكة العربية السعودية ـ توفي والدي منذ عام بعد أن كتب وصيةً بمثل نصيب أحدِ أبنائه الستة لابن عمِّه فيما تركه ميراثًا من عقار ومنقولات وغيرها، وشهد على تلك الوصية الشهود ومنهم ابنه الأكبر. فما حُكم الشرع في هذه الوصية.
"الجواب": الوصية لغير الوارث بالثلث فأقلَّ من باقي التركة بعد أداء الدين جائزة شرعًا بدون توقُّف على إجازة الورثة، كما نُصَّ عليه في مُعتبرات كتب المذاهب الأربعة، فوصية هذا المتوفَّى لابن عمه ـ وهو غير وارث ـ بمثل نصيب أحد أبنائه صحيحة نافذةٌ شرعًا بدون توقف على إجازة الورثة، ولمَعرفة مقدار هذه الوصية تُبَيَّنُ الفريضةُ أولًا بقِسمتها على جميع الورثة، فما أصاب أحد الأبناء من الأسهم يُزاد على مخرج الفريضة، ويكون هو ما يُوازي الوصية لابن عمِّ المتوفى وبعد إخراج مقدارها من التركة يقسم الباقي على الورثة ثانيًا. والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/766)
إقرار المسيحي ببُنوة أولاد مِن زوجة ثانية مسيحية
تزوَّجها مع وُجود الأولى صحيح شرعًا
"السؤال": توفي مصري مسيحي عن زوجتينِ أولاهما تدينُ بمذهبه وعقد زواجه بها أمام الجهة المِلِّيَّةِ المختصة ولم ينجب منها أولادًا، والثانية مسيحية أشهد على زواجه منها أمام المَحكمة الشرعية وأنجب منها ولدينِ وبنتينِ وأقرَّ ببنوتهم له جميعًا أمام المحكمة الشرعية بإقرارٍ رَسميٍّ.
فما حكم الشرع في توريث هؤلاء مِن تركته، وما مقدار نصيبهم فيها، وإذا كان للمورث المذكور أخوة، فهل يرثون في تركته مع وُجود أولاد المُورث الآنفينِ المُقِرِّ لهم ببُنوتهم له على النحو السالف؟ ولا يوجد لهذا المُورِّث ورثة آخرونَ.
"الجواب": إن إقرار هذا المتوفي ببُنوة أولاده المذكورين إقرار صحيحٌ شرعًا يُعامل به، فيَرثه أولاده بعد وفاته كسائر الأولاد ـ وزواجه بالزوجة الثانية مع بقاء الأولى في عِصْمته زواج صحيحٌ شرعًا. وبذلك تُقسَّم ترِكتُه بعد وفاته بين ورثته، للزوجتين منها الثمن فرضًا بالسوية بينهما لوجود الفرع الوارث، والباقي لأولاده للذكر مثل حظ الأنثيين تعصيبًا، ولا شيء لاخوته لحجْبهم بالأولاد. والله أعلم.(1/767)
تركة ووصية بالإدارة فقط
"السؤال": من سفارة الجمهورية الإندونيسية: توفي رجل وترك بنات أخت وأبناء عمينِ لأب فقط، فكيف تُقسم التركة بين هؤلاء؟ مع العلم بأن المتوفى قبل وفاته كان قد أرسل كتابًا إلى زوج أخته قال فيه: "إذا تُوفيتُ فإن ما عندي سيكون تحت مطلق تصرُّفكم البيت والأرض" إلخ. فهل هذا الكتاب يُعتبر وصية؟ وإذا اعتبر وصية فما هو الأثر المُترتب عليها في شأن تقسيم التركة؟
"الجواب": الظاهر من هذه الصيغة أنها تفويضٌ بإدارة هذا المِلك على الوجه الشرعي، ومِن ذلك إعطاء كل ذى حقٍّ حقَّه، ولا تُفيد الوصية بالمال.
وعلى ذلك فإن هذه التركة حق لأبناء عمي المتوفى لأب تعصيبًا بالسوية بينهم، ولا شيء لبنات أُخته؛ لأنهن من ذوي الأرحام المُؤخرين في الميراث عن العصبات. والله أعلم.(1/768)
لا ميراث لمُرْتَدٍّ
"السؤال": اعتنق الإسلام وتزوَّج مسلمةً، وأنجب منها ولدًا وبنتًا ثم توفي، وكبرت البنت وتزوجتْ بمسلم، ولكن الولد ارتدَّ عن الإسلام. فهل للولد نصيب في تركة أبيه؟
"الجواب": بوفاة هذا الرجل مسلمًا عن زوجته وابنه وبنته منها يكون لزوجته الثمن فرضًا لوجود الفرع الوارث، والباقي لولديه للذكر ضعف الأنثى تعصيبًا، إذا لم يكن هذا الولد مُرتدًا وقت الوفاة، فإذا كان مُرْتَدًّا وقت وفاة أبيه فإنه لا يرث شيئًا في أبيه، ويكون باقي التركة للبنت المذكورة فرضًا وردًّا. وهذا حيث كان الحال كما ذُكر بالسؤال. والله ـ تعالى ـ أعلم.(1/769)
لا ميراث للمُطلقة بائنًا
"السؤال": رجل طلق امرأته على البراءة من مؤخر الصداق ونفقة العِدَّةِ، ثم توفيت إثر الطلاق فهل يَرثها مُطلِّقها؟
"الجواب": لا يرثها مادام الطلاق بائنًا. قال في البحر: لو ماتت المرأة لم يَرِثْها الزوج بحالٍ؛ أي في الطلاق البائنِ؛ لأن الزوج بالطلاق رضي ببطلان حقِّه، واللهُ أعلم.(1/770)
المِلْكيَّة في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. "وبعد"
فقد طلبت منَّا بعض الجهات بيان الحكم الشرعيِّ فيما تضمَّنه المنشور الذي وضع بعنوان "مشاكلنا في ضوء النظام الإسلامي" من أن الإسلام يرفض أن توجد طبقةٌ تحتكر الثروة وفي مقدمة ما عُني به من الناحية الاقتصادية توزيع الملكيات الزراعية وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد وضع العلاج الناجع لمَا تُعانيه مصر الآن من التبايُن الشاسع في توزيع هذه الملكيات فقال: "مَن كان له أرضٌ واسعة فلْيَزْرَعْهَا أو يَمْنَحْهَا أخاه، ولا يُؤجِّرها إيَّاه ولا يَكْرِيهَا". وأن مُؤَدَّى ذلك أن الملكية الفردية يجب أن تكون محدودة بطاقة الإنسان على زرْع أرضه وما زاد على ذلك يجب أن يُوزع على المُعْدمين فلا استغلال بالإيجار، بل لا تأجير مطلقًا. وكذلك عمر بن الخطاب حينما فتح المسلمون أرض سواد العراق وأرادوا قسمة أربعة أخماسها بين الفاتحينَ أبي عليهم ذلك وقال: ما يفتح بلد فيكون فيه كبير نيلٍ حتى يأتي المسلمون مِن بعدهم فيَجدوا الأرض قد قسمت وحِيزَتْ ووُرِثَتْ عن الآباء وتضيع الذُّرِّيَّةُ والأرامل.
وانتهى المنشور إلى القول بأن الإسلام يُحارب الإقطاعات الشائعة اليوم في النظام الرأسمالي الذي يُبيح الملكية المطلقة، كما يُحارب الشيوعية اللادينية التي تُنادي بأن تكون الأرض ملكًا للدولة، فينهار بذلك ركنٌ من أركان الاقتصاد السليم فضلًا عن تجاهُل المبدأ الغريزي في الإنسان وهو حب التملُّك وأن الحلَّ الوسط بين الرأسمالية والشيوعية هو أن يتملك الإنسان بقدْر طاقته الزراعية، وما زاد عن ذلك يجب أن يُعطيه لغيره من المُعدمين مجانًا.(1/771)
"الجواب": ذلك ما زعموا أنه حلٌّ لهذه المُعضلة في ضوء النظام الإسلامي. والحق الذي لا مريَّة فيه أن في الشريعة الإسلامية ما يكفُل تحقيق العدالة الاجتماعية بأوسع مَعانيها بالنسبة للأفراد والجماعات، فقد اعتبرت الفرد قِوامًا للجماعة، وسنَّتْ له النظم الصالحة لحياته في نفسه، وباعتباره عضوًا في أسرته وفي عشيرته، وفي أمته وفي المجتمع الإنساني عامة، ليكون لَبِنَةً مَتِينَةً في بنائه وعضوًا قويًّا في كيانه، كما اعتبرت الجماعة عضُدًا للفرد وظهيرًا له في أداء رسالته، والتمتُّع بحُقوقه والقيام بواجباته، ووثقت الصلة بين الفرد والجماعة بالتكافُل في جميع الحقوق والواجبات.
ولم تَدَعْ شأنًا من شؤون الفرد والجماعة إلا أنارت فيه السبيل وأوضحت النهج وكشفت عمَّا فيه من صلاح وفساد وخير وشرٍّ، فكانت لذلك خاتمة الشرائع وأبقاها على الدهر وأصلحها لكلِّ أمة وزمان.
قرَّرتْ أسمَى المبادئ وأعدل النُّظم في الاجتماع والسياسة والثقافة والاقتصاد، وما إلى ذلك مما يكفل للأمة ـ إذا هي استمسكتْ بها واعتصمت بهَدْيها ـ القوة والسلطان والحياة المُشرقة الرافهة، التي يسودها التعاوُن على البِرِّ والخير ويُظِلُّهَا الأمن والسلام.
وهذا كتاب الله ـ تعالى ـ الذي أنزله على صفْوة خلْقه عليه ـ صلوات الله وسلامه ـ بين أيدينا نُطالع فيه ما يُهدي إلى الحق وإلى صراط مُستقيم في كل ما يَمَسُّ شؤون الحياة، ونجد فيه العلاج الشافي لكل نازلة، والحلَّ الموفق لكل مُعضلة مما فيه كل الغنى عمَّا سواه من مَذاهب وآراء استحدثها الغُرباء عنه، وأُولِعَ بها بعض الدخلاء فيه أو الجهلاء بمَقاصده ومراميه.
وهل يستوي تشريع إلهي حكيم أنزله الله على رسوله لمَصالح عباده وهو العليم الخبير بما يصلح لهم ويسعد حالهم، ومذاهب وآراء يضعها آحادُ الناس كتشريع ونظام عام على ما يظنُّون ويتخيَّلون، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟(1/772)
وما هذه الثورات الفكرية والاضطرابات الدولية والدماء المُهْراقة والأموال المستنزفة والمدن المُهدَّمة والحضارات المُحتضرة والوشائج المقطعة إلا نتائج لتلك المذاهب والآراء المُستحدثة، التي لا يُقرُّها الإسلام في سياسة الشعوب ونظام الاجتماع والعُمران ويُقرر في ضوء الحق والواقع ما فيها من هدم وإفساد.
ولسنا نطمع في أن يكون الناس أمةً واحدة، ولكنَّا ندعو أممَ الأرض على اختلاف العقائد والنِّحَل ـ وفيهم الفلاسفة والعباقرة ودُعاة الأمن والإصلاح ـ أن يَدْرُسُوا مبادئ الإسلام وتعاليمه في القرآن الكريم والسُّنة الصحيحة، دراسة العالِم المُدقِّق والمفكر الحر، ليَعلموا أنها وحدها هي النظام المثالي للاجتماع والحضارة والعدل والسلام، وأن لا منجَى للعالَم ممَّا حاق به إلا بالأخْذ بها والعيش في ظلالها.
اندفعت أممٌ من الغرب بدافع الجشع والطمع وعبادة المال إلى استعمار البلاد الشاسعة، واستعباد الأمم الضعيفة واستغلال مواردها واحتكار مَرافقها، ولبست ذلك مُسوح الرهبان، خداعًا للشعوب وتغريرًا بالعقول، فمرة تزعُم أنها إنما أقدمت على ذلك لترَقِّيها وترفع مستواها وتسعد أهلها اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، ومرة تزعم أنها إنما تبسط يدها عليها وتتحكَّم في مواردها وخيراتها لتُنقذ الطبقة الدنيا من مخالب الرأسمالية! وهي في كل هذه المظاهر الكاذبة مُخادعةٌ مُرائيةٌ، لا تبغي إلا السيادة والغلَب واحتكار الأمم الضعيفة والشعوب المُفكَّكة، كما تَحتكر الأمْتعة والسلع.
وأي فرْق بين ما تَنعاه على الأثرياء من احتكار الثروات العقارية وبين ما تهالكتْ عليه وبذلت في سبيله المُهج والأموال مِن إخضاع الشعوب لسُلطانها وبسْط يدها في جميع مَرافقها قهْرًا عنها وإرغامًا لهَا؟ أليس ذلك احتكارًا لملكية الشعوب بأسْرها نفوسًا وأموالًا؟ بل هو أبشع صور الاحتكار وأفْحش أساليبه.(1/773)
ليس لنا ـ وراية الإسلام تُظلنا وتعاليمه تُشردنا ـ أن ننخدع بهذه البُروق الخالية ونُذْعِنَ لتلك الدعايات الهادمة، ونَدَعَ ما شرعه الله لنا مِن النُّظم الحكيمة المالية والاجتماعية، بل ذلك حقيقٌ أن يُوقظ دُولَ الإسلام ويُنَبِّهَ منها الشعور لمَا يُراد بها ويُدَبَّرُ لها من كيْدٍ وإذلالٍ، وأن يَحفزها لجمْع الكلمة والْتئام الصُّفوف وتَضافُر القوى للدفْع في صدور هذه الدول الطامعة، التي لا تبغي من وراء دِعايتها إلا الهدم والتدمير، وما احتالوا به لإذْكاء نار الفِتْنَةِ في نفوس طبقات العمال وأشباههم من الشعوب وهم الكثرة الغالبة من إظهار التحنُّن لهم والحدَب عليهم بدعوَى وُجوب مَحْوِ الملكيات العقارية بتاتًا أو وُجوب تقصير مداها إلى حدِّ الكفاف، على النحْو الذي عالج به المنشور توزيع الثروة العقارية بين الأفراد، بزعم أنه علاج إسلاميٌّ.
الإسلام يُبيح الملكية المُطلقة للأفراد
ويُرتِّب عليها حقوقًا
أما الإسلام الحنيف فقد سايَر سُنن الوجود وطبيعة العمران وقرَّر أسمَى المبادئ في نظام الملكية، فأباح الملكية المطلقة للأفراد، ولكنه أوجب بجانب ذلك على الأغنياء في أموالهم حقوقًا يُؤدُّونها للفقراء والمساكين وذوي الحاجة سدًّا لِخَلَّتِهِمْ، ويُنفقون منها في المصالح العامة التي تعود بالخير على المجتمع.
وفي آيات القرآن والأحاديث النبوية مِن الحثِّ على أداء هذه الحقوق والترهيب من الإخلال بها والترغيب في التصدُّق والإنفاق والبِرِّ والمُواساة ما لو اتَّبعه المسلمون لكانوا أسعد الأمم حالًا، وأهنأها بالًا، وأبعدها عمَّا نراه من المآثم والشرور.(1/774)
أوجب الإسلام الزكاة في الأموال تُؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء وهي الركن المالي من دعائم الإسلام. وأمر بالبرِّ والإحسان لذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنْب والصاحب بالجنْب وابن السبيل. قال تعالى: (لنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وضاعف مَثُوبَةَ الصدَقات فقال تعالى: (مَثَلُ الذينَ يُنفقونَ أمْوَالَهمْ في سَبيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سنابِلَ في كُلِّ سُنبلةٍ مِائةُ حَبَّةٍ واللهُ يُضاعفُ لمَنْ يَشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ) وحثَّ على صدقة السِّرِّ فقال: (إنْ تُبْدُو الصدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وإنْ تُخْفوهَا وتُؤْتوهَا الفقراءَ فهوَ خيرٌ لكمْ ويُكفِّرُ عنكمْ مِن سَيئاتِكُمْ واللهُ بمَا تَعملونَ خَبِيرٌ) إلى غير ذلك من الآيات التي عدَلَتِ الأغنياء بالفقراء وأسعدت الفقير بحظٍّ مِن ثمرات ملكية الغنيِّ يَسُدُّ خَلَّتَهُ ويَكفِي حاجته.
وبجانب ذلك حثَّ القرآن في كثير من الآيات على العمل والكسْب ونَهَتِ السُّنَّة عن البطالة وإراقة ماء الوجه بالسؤال والاستجداء، كيْلا يَتَّكِلَ الفقراء على الأغنياء ويعيشوا عليهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَهُمْ. وفي ظلال هذه التعاليم التي يُكمل بعضها بعضًا يعيش العامل والفقير والغنيَّ عيشةً راضية مُطمئنة لا يشوبها كدَرٌ ولا يُنغِّصُها ألم.(1/775)
احترم الإسلام حق الملكية فأباح لكل فرد أن يتملَّك بالأسباب المشروعة ما يشاء من المنقولات والعقارات، وأباح له استثمارها والانتفاع بها في نطاق الحدود التي رسمها، وخوَّله حق الدفاع عنها كالدفاع عن النفس والعِرْض، ولو بقتْل الصائِل عليها، وأوجب عليه صِيانتها ونهَاه عن إضاعتها وصرْفها في غير المشروع مِن وُجوهها، استكمالًا لوسائل العُمران، وفي الحديث: "كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ دمُه ومالُه وعِرْضُه". وفي حديث آخر: "مَن قُتِلَ دونَ مالِه فهُو شَهيدٌ". وقد أضاف القرآن الأموال إلى أصحابها إضافة التملُّك فقال: (وفي أمْوالِهِمْ حَقٌّ للسائلِ والمَحْرُومِ) وقال: (يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكُمْ بيْنَكُمْ بالباطلِ إلَّا أنْ تكونَ تِجارةً عن تَراضٍ مِنْكُمْ ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ إنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا. ومَن يَفعلْ ذلكَ عُدوانًا وظُلمًا فَسَوْفَ نُصلِيهِ نَارًا وكانَ ذلكَ على اللهِ يَسِيرًا).
وشرع الإسلام أسباب ملكية الأعيان والمنافع وطرائق انتقالها من مالك إلى آخر، وأقام للتعامُل بين الناس نُظُمًا وحدودًا تكفُل صيانة حق الملكية وتُمكِّنُ المالك من استيفاء حقِّه والانتفاع بثَمرة ملكه، وتُخوِّل المُستأجر الانتفاع بمِلك غيره، وحرَّم من وسائل التعامُل ما يُفضي إلى التهارُج والتقاتُل، كالرِّبَا في صوره المختلفة والعقود التي فيها جَهالة وغَرَرٌ ومُخاطرة، وحرَّم الغصْب والسَّرِقَة وأكْل أموال الناس بالباطل، وسَنَّ الحدود والعقوبات جزاءً لمَن ينتهك حُرمة الملكية ويتعدَّى حُدودها المشروعة (ومَن يَتَعَدَّ حُدودَ اللهِ فَأُولئكَ همُ الظَّالِمُونَ).(1/776)
بل نهى ـ سبحانه ـ عن أدنى أنواع التعرُّض للأموال، وهو تَمَنِّي زوالها عن الغير فقال: (ولا تَتَمَنَّوا ما فَضَّلَ اللهُ بهِ بعضَكُمْ على بعضٍ للرِّجالِ نَصيبٌ ممَّا اكْتَسَبُوا وللنِّسَاءِ نَصِيبٌ ممَّا اكْتَسَبْنَ واسْأَلُوا اللهَ مِن فضْلِه إنَّ اللهَ كانَ بكُلِّ شيءٍ عليمًا) للإرشاد إلى أن التفاضُل في المال لا يُسوِّغُ العُدوان عليه ولو بالتمنِّي المذموم، فإن ذلك قِسْمَةٌ صادرة من الحكيم الخبير، وعلى العبد أن يَرضَى بما قسَم الله له، ولا يتمنَّى حظَّ المُفضَّل حسدًا وحِقدًا، بل يسأل الله مِن واسع فضْله وجزيل إنعامه، فإنَّ خزائنَ مُلْكِهِ لا تَنْفَدُ (أوَ لمْ يَرَوْا أنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (ولكلٍّ درجاتٌ ممَّا عَمِلُوا ولَيُوَفِّيَهِمْ أَعْمَالَهُمْ وهُمْ لا يُظلَمُونَ).
أقام الشارع هذه النُّظُم الحكيمة الآخذ بعضها برقاب بعض صِيانةً للمُجتمع مِن الفوضى والفساد ورعايةً لمَصالح العباد، وهو أعلم بها، ولم يَترك الأمْر سُدًى تعبث به الأهواء، ويضلُّ الناس فيه السبيل فأنزل القرآن الكريم هُدًى ونُورًا، وجاءت السُّنة النبوية بيانًا وتنويرًا، وجاء فيهما من التعاليم ما إنْ تَمَسَّكَ به المسلمون كانوا على بيِّنةٍ من دِينهم وعلى هُدًى من أمرهم، وكانت السعادة ملاك أيمانهم، وليس بعد الحق إلا الضلال، فليس لمسلم أن يأخذ بغير هُدى الإسلام فيما شرعه من الأحكام، ولا أن يدعو الناس إلى غير ما دعا إليه من الحق والنور.(1/777)
هذه كلمة الإسلام في احترام حق الملكية الفردية للعقار وصيانته من العدوان وهو حقٌّ تقتضيه سُنة العمران وغريزة الإنسان، غير أن بعض العقول قد غَشِيَتْهَا في هذا العصر غواشٍ من الظلم حجبتْ عنها نور الحق، فارتطمت في عَمْيائها بالصخور وتردَّتْ في المَهاوي، وتَلَقَّفَهَا في إبَّان هذه العِماية وغمْرة هاتيكَ الحيْرة شياطينُ من الإنْس يُوحون إليهم زُخرف القول غُرورًا، ويُمنُّونهم بباطل الأماني وكاذب الأحلام. فذهب دعاةٌ هدَّامون إلى إهدار ملكية العقار الفردية وأقاموا نظامهم الاقتصادي والاجتماعي على هذا المبدأ، وسيعلمون بعد حين أنه غيرُ صالح للبقاء وأنه إن امتد به الزمن حينًا، فسيُقضَى عليه بالفناء.
لا احْتكار للثروة ...
وقال آخرون: إن الإسلام يرفض وُجود طبقةٍ تحتكر الثروة وإنه لحقٌّ لو كان هناك احتكار، ولكنه في الواقع حديث عن وهْم وخيالٍ، فليس هناك طبقة تَحُول بقُوَّتها بين الناس وأسباب الغنَى والثراء وتمنعهم بحَوْلها من التملُّك والشراء، وليس هناك احتكار من أحد للثروة بالمعنى المفهوم من الاحتكار، بل هناك نواميسُ طبيعيةٌ وسُنن اجتماعية قضتْ بتفاوُت الناس في القُوى والمدارك والعمل والإنتاج، فكان منهم طوائف العمال والصُّناع والزرَّاع، وفيهم الجهال والعلماء والأغنياء والأذكياء والكسالَى والمُجِدُّونَ (واللهُ فَضَّلَ بَعضَكُمْ على بعضٍ في الرِّزْقِ) (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ ويَقْدِرُ) ولهذا التَّفاوُتِ آثارُه الطبيعية في الكسْب والتملُّك، كما قضت هذه السُّنن بخضوع التعامُل بين الناس لقاعدة العرْض والطلب والحاجة والاستغناء، ولم يشذّ عنها التعامُل في العقار فلا يزال في ظِلِّهَا حُرًّا في الأسواق، يتبادلُه مِن الأفراد مَن يشاء بالبيع والشراء، لا حظر فيه مِن أحدٍ على أحدٍ.(1/778)
وليس وُجود طبقة عاجزة عن التملُّك بطريق الشراء ممَّا يُسوغ حسبان القادرين عليه مُحتكرين مادام مردُّ الأمر فيه إلى عواملَ أخرى ليس منها حجْر فريق على حرية فريق.
وقد ترك الإسلام الحنيف الناس أحرارًا في التعامُل بالبيع والشراء، ولم يُقيدهم في ذلك إلا بما يكفُل صحة العُقود ويدفع التنازُع والتخاصُم وأكْل الأموال بالباطل، وليس في أحكامه ما يَحُول بين المرء والتملُّك وما يُسَوِّغُ تَسْمِيَةَ المُلَّاكِ مُحْتَكِرِينَ مهما اتَّسعت ثروتهم، بل العمل على هدْم هذه الثروات بزعم أنها ضرْب مِن الاحتكار مما يأْباه الإسلام الذي يُقدِّس حقَّ الملكية ويُحرِّم العدوان عليه.
الملكية الفردية غير مَحدودة
قالوا إن الإسلام يُوجب أن تكون الملكية الفردية مَحدودة بطاقة الإنسان وما زاد عن طاقته الزراعية يجب أن يُعطَى مِنْحة للمُعدَمينَ بالمجان، ولا يجوز أن يستغل الملاك أرضه بالتأجير بصوره المُختلفة. والعجب أن يشرعوا للناس ما لم يشرعه الله ويُوجبوا عليهم ما لم يُوجبه، فمِن البدهيِّ أن الشريعة الإسلامية لم تُحدد للملكية الفردية حَدًّا لا يتجاوزه المالك، ولم تُوجب عليه أن ينزل عمَّا زاد عن طاقته الزراعية للمُعدمين بالمَجان ولا لغَير المُعْدَمِين بالثَّمن. وقد كان مِن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ مَن يملك الثروات الطائلة كعبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المُبشرين بالجنة وأحد أصحاب الشورى في الخلافة. وكان بجانب هؤلاء الجَمُّ الغفير ممَّن لا يملك شَرْوَى نَقِيرٍ كأهل الصُّفَّةِ وأشباههم، وكان في الأنصار كثير مِن أهل المزارع الواسعة، ولم يُوجبِ الرسول على أحد ممَّن تضمنت ثرواتهم بجُهودهم أن يُوزِّع مازاد عن طاقته الزراعية على المُعدمين لا مِن العقار ولا مِن المنقول.(1/779)
نَعَمْ، آخَى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صدْر الإسلام حين قدِم المدينة بين المهاجرين والأنصار في دار أنَسِ بن مالك، وكانوا تسعينَ رجلًا نِصفهم من المُهاجرين ونِصْفهم من الأنصار. آخى بينهم على المُواساة والبِرِّ والتوارُث بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى أن نزل قوله تعالى: (وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعضُهمْ أولَى ببَعْضٍ في كتابِ اللهِ) فنسَخ التوارُث بعقد الأُخوة وبقِي التوارُث بالقرابة.
أما المُواساة والترافُق بين المؤمنين عامَّة فأمرٌ مندوب إليه مَرغب فيه. وفيما تَلَوْنَا من آيات القرآن من الحثِّ عليه وعلى مَعونة الفقراء والمُحتاجين بلاغ للناس، ولكن هذا شيء ووُجوب التنازُل عن المِلْك شيء آخر، ولا واجب في الدين إلا ما أوجبه الشارع الحكيم. وقد أجازتِ الشريعة لمالك الأرض أن يتصرَّف فيها كيف يشاء؛ فله أن يزرعها كلها أو بعضها بنفسه، وله أن يُؤجرها لغيره بطريق المُزارعة أو بالنقْد بلا تحديد بالطاقة وعيش الكفاف، وله أن يَمنحها أو يمنح منها للغيْر غنيًّا أو فقيرًا.
الاستغلال بطريق المُزارعة(1/780)
فأما الاستغلال بالمزارعة وهي نوع مِن التأجير مشروع، فأصله أن أهل المدينة كانوا أكثر الناس حقولًا ومزارعَ، وكانوا في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستغلون الأرض بطريق المزارعة وتُسمَّى أيضا المُخابرة مُشتقة من الخبير، وهو الفلاح. "وهي عقد بين المالك والعامل على كِراء الأرض ببعض ما يخرج منها" فتارةً كانوا يُحدِّدون نصيب المالك بالشطْر أو الثلث أو الربع، وتارةً يُحددونه بما يَنبت على حافَّة الأنْهُر أو الجداول أو السواقي، أو أن له ثمرةَ قطعةٍ مُعينة من الأرض وللعامل ثمرة قطعة أخرى، ونحو ذلك مما شأنه أن يُفضي إلى التنازُع والتشاحُن وأكْل الأموال بالباطل لمَا فيه من الجهالة والغَرَرِ. وتارة يجمعون بين التَّحْدِيدين. فنهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النوعين الآخرين من الكِراء؛ لمَا فيهما من المُخاطرة المُفضية إلى النزاع. وعن حنظلة بن قيس الأنصاري. قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفِضة فقال: لا بأس به. إنما كان الناس يُؤاجرون على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما على المَاذيانات "لفظة مُعرَّبة معناها حافة النهر ومسايل الماء" وأقبال الجداول "رءوس الأنهُر الصغيرة" وأشياء من الزرع فيَهلك هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، ولم يكن للناس كِراء إلَّا هذا، فلذلك زَجَرَ عنه، فأمَّا شيء معلوم مضمون فلا بأس به. رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي رواية عن رافع، قال حدَّثني عمَّايَ أنهما كانا يَكْتريانِ الأرض على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يَنبت على الأربعاء "جمع ربيعٍ وهو النهر الصغير" وبشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك. رواه البخاري وأحمد والنسائي. وفي رواية عنه: كُنَّا أكثر أهل المدينة مُزدرعًا كنَّا نكري الأرض بالناحية منها تُسَمَّى لسيِّد الأرض فإمَّا يُصاب ذلك وتَسلم الأرض، وإمَّا تُصاب الأرض ويسلم ذلك، فنُهينا(1/781)
فأمَّا الذهب والورِق "الفضة" فلم يَكن يومئذٍ". رواه البخاري.
وفي رواية عنه: كُنَّا أكثر الأنصار حقلًا فكُنَّا نكتري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما خرجت هذه ولم تخرج هذه، فنَهانَا عن ذلك، فأمَّا الورِق فلمْ يَنْهَنَا. أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أُسيد بن ظهير كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر إليه أعطاها بالنصف والثلث والربع، ويشترط ثلاث جداول والقُصَّارة "بضم القاف وهي الحَبُّ في السُّنْبل بعد ما يُداس". وما يسقي الربيع، وكان يعمل فيها عملًا شديدًا ويُصيب منها منفعةً، فأتانا رافع بن خديج فقال: فنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمرٍ كان بكم رافقًا، وطاعةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيرٌ لكم، نهاكم عن الحقْل. "الزرع". رواه أحمد وابن ماجه.
فهذه الروايات صريحة في أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما نهي عن كِراء الأرض ببعض ما يخرج منها إذا اشتملت على ما يؤدي إلى المُخاطرة والغَرَرِ من مثل هذه الشروط الفاسدة، فأما إذا خلَتْ منها فيَجوز كِرُاؤها به مثل كرائها على النصف أو الربع ممَّا يخرج منها.
وهذا هو الذي فهِمه ابنُ عمر حيث ردَّ على رافع في قوله: نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كِراء المزارع. بقوله: قد علمتُ أنَّا كُنَّا نكْري مَزارِعَنَا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما على الأربعاء وشيءٍ من التِّبْنِ". أخرجه في الصحيح، وحاصل ردِّه، كما ذكره القسطلاني أنه يُنكر على رافع إطلاقه في النهي عن كراء الأرض ويقول إن الذي نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي كانوا يُدخلون فيه الشرط الفاسد وهو أنهم يَشترطون ما على الأربعاء وطائفةً من التبْن، وهو مجهول، وقد يسلم هذا ويُصيب غيره آفةٌ أو بالعكس فتقع المُزارعة، ويبقي الزرَّاع أو رب الأرض بلا شيء. اهـ.(1/782)
وهو ما فهمه أيضًا ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حيث قال كما في الصحيح إنه عليه السلام لم يَنْهَ عنه، أيْ عن كِراء الأرض بشطرٍ ما يَخرج منها ولكن قال: "لأنْ يمنح أحدُكم أخاه خيرٌ له مِن أن يأخذ شيئًا معلومًا" اهـ.
قال الخطابي: وقد عقَل ابن عباس المعنى من الخبر وأن ليس المراد به تحريم المزارعة بشطرِ ما يَخرج من الأرض، وإنما أراد بذلك أن يتمانحوا أراضيهم وأن يَرفق بعضهم ببعض. وقد ذكر رافع في روايةٍ عنه في هذا الباب "باب المزارعة" النوع الذي حرم منه، والعِلَّة التي من أجلها نهى عنها، وذلك قوله: كان الناس يُؤاجرون .. الخ فأفاد أن المنهيَّ عنه هو المَجهول منه دون المعلوم وأنه كان مِن عادتهم أن يشترطوا فيها الشروط الفاسدة، وأن يستثنوا من الزرع لربِّ الأرض ما على السواقي والجداول. والمُزارعة وحُصة الشريط لا يجوز أن تكون مجهولة. وقد يسلم ما على السواقي والجداول ويهلك سائر الزرع فيبقى العامل لا شيء له وهذا خطر. اهـ ملخصًا.
وقال الليث بن سعد: وكان الذي نهي عنه مِن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفَهْم بالحلال والحرام، لم يُجيزوه لمَا فيه من المُخاطرة. اهـ وهو موافق لمَا عليه الجمهور من حمْل النهْي عن كِراء الأرض بما يَخرج منها على الوجه المُفضى إلى الغَرَرِ والجَهالة. قال في الفتح ونيل الأوطار: وعليه تُحمل الأحاديث المُطلقة الواردة في النهْي عن المزارعة والمخابرة كما هو شأن حمْل المُطلق على المُقَيَّد. اهـ وفي منتقى الأخبار: إن حديث حنظلة بن قيس بيانٌ لمَا أُجمل في المُتفق عليه مِن إطلاق النهي عن كِراء الأرض. اهـ.(1/783)
وممَّن حمَل النهي على ذلك، وأجاز كراء الأرض بجُزء مما يخرج منها كالنصف والثلث والربع دون أن يُقارنه شرط مُفسد للعقد ـ الخلفاء الراشدون وابن عمر وابن عباس وابن مسعود وسعد بن مالك وحُذيفة ومُعاذ بن جبل وأسامة وخبَّاب وعمار بن ياسر وهو قول ابن المُسيَّب وطاوس وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والقاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن المنذر وأحمد بن حنبل استنادًا لمَا ثبَت في الصحيح أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامَل يهود خيبر بعد أن ظهر عليهم على أن يَزرعوا له أرضها ولهم نِصف ما تُخرجه من ثمرٍ أو زرع واستمر اليهود على ذلك إلى صدرٍ من خِلافة عمر حتى أجْلاهم عنها إلى تيْماء وأرْيحاء. وعن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهلُ بيتِ هجرةٍ إلا يزرعون على الثلث والربع، وزرَع عمر وعليّ وسعد بن مالك وابن مسعود ومعاذ وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعُروة بن الزبير وكثيرٌ غيرهم.
وقال ابن القيِّم في زاد المعاد: في قصة خيبر دليل على جواز المُساقاة والمُزارعة بجزء من الغَلَّة مِن ثمر أو زرع فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامل أهل خيبر على ذلك واستمر إلى حين وفاته، ولم يُنسخ البَتَّةَ ودرج عليه الخلفاء الراشدون. اهـ.
وجملة القوْل أنه يجوز استغلال الأرض بكِرائها بجزء من الخارج منها على الوجه الذي لا يُفضي إلى المنازعة والتخاصُم، وهو قول الجمهور والقول المُفتَى به عند الحنفية والمختار عند الشافعية كما ذكره النووى، خلافًا لمَا ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي من عدم جواز كِرائها به استنادًا إلى أحاديث النهي المُطلقة وقد علمت أنها مَحمولة على ما فيه شروط مفسدة. على أنه قد رُوي عن زيد بن ثابت أنه قال: "يغفر الله لرافعٍ أنا واللهِ أعلمُ بالحديثِ منه. إنما أتَى النبي ـ عليه السلام ـ رجلانِ مِنَ الأنصار قد اقتتلَا، فقال: إنْ كان هذا شأنكم فلا تَكْرُوا المزارع". اهـ.(1/784)
ومقصوده ـ كما في سبيل السلام ـ أن رافعًا اقتطع الحديث فرَوى النهْي ولم يَرْوِ أوَّله فأخَلَّ بالمقصود. اهـ.
استغلال الأرض بالإيجار
ونعني به تأجيرها بالذهب أو الفضة أو بما جرى به التعامُل من النقود والأوراق المالية، ولا شك في جوازه، ويُقاس على ما ذُكر التأجير بغيره من سائر الأشياء المعلومة المُقوّمة، كما في سُبل السلام ونيْل الأوطار، ويدلُّ عليه حديث حنظلة بن قيس السابق. وعن ابن عباس قال: "إن أمثل ما أنتم صانعونَ أن تستأجروا الأرض البيضاء ليس فيها شجر من السَّنة إلى السَّنة". رواه البخاري. وعن سعد بن أبي وقاص: إن أصحاب المزارع في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يُكرون مزارعهم بما يكون على السواقي وما سعد بالماء" ما جاء من الماء من غير طلب" مما حوْل النبت فجاءوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاختصموا في بعض ذلك فنهاهم أن يَكروا بذلك، وقال: "أكْروا بالذهب والفضة". رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وقال ابن المنذر: إن الصحابة أجمعوا على جواز كِرَاء الأرض بالذهب والفضة، ونقل ابن بطَّال اتفاق فقهاء الأمصار عليه، وقد تبيَّن مِن ذلك أنه يجوز استغلال الأرض المملوكة بطريق المزارعة المستوفية شرائط الصحة؛ وهي نوع من التأجير وبطريق التأجير بالنقد وما يُقاس عليه، ولا شك أن في هذا رِفْقًا عظيمًا بالناس. فإن المُلَّاك قد يعجزون عن العمل بأنفسهم فلا يستطيعون الانتفاع بأرضهم إلا بتأجيرها للغير والمُستأجرون قد لا يملكون الأرض مع استطاعة الزراعة، فلا يتيسَّر عيشهم إلا بالاستئجار مِن الملاك فرعايةً للمصلحتين أجازت الشريعة استغلال الأرض بهاتين الطريقتينِ.
وكثيرًا ما كان حظُّ المستأجر أوفرَ من حظ المالك وخاصةً إذا اتَّقَى الله في عمله وعزم على الوفاء بدَيْنه وإعطاء المالك حقَّه فإن الله يُعينه ويُربحه ويُبارك له في رزقه.(1/785)
فالقول بأنه لا استغلال بالإيجار للأرض المملوكة، بل لا تأجير مُطلقًا قول زائف لا يُعَوَّلُ عليه ولا يُلتفت إليه من الوِجْهة الشرعية والعملية.
الحديث الذي رووه ـ رواياته ومعناه
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كانت له أرضٌ فلْيزرعها أو لِيحرثها أخاه، فإن أبي فلْيُمسك أرضه". أخرجه البخاري ومسلم. وأصل هذا الحديث ما رواه جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: كُنَّا نُخابر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنُصيب من القُصْرى "القصرى كبُشرى بقية الحَبِّ في السنبل بعد الدياس" ومن كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فلْيزرعها أو فلْيَحرثها أخاه وإلا فلْيدعها". رواه مسلم وأحمد. وفي رواية عنه: كُنَّا في زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات، فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك فقال: "مَن كانت له أرضٌ فلْيزرعها، فإنْ لم يزرعها فلْيمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فلْيُمسكها". وما رواه رافع بن خديج عن عمِّه ظهير بن رافع قال ظهير: لقد نهانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر كان بنا رافقًا. قلت: ما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو حق. قال: دعاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما تصنعون بمَحاقلكم؟" قلت: نُؤاجرها على الربيع يشترطون لأنفسهم ما يَنبت على النهر وعلى الأوْسُق من التمر والشعير. قال عليه الصلاة والسلام: "لا تفعلوا، ازْرعوها أو امْسكوها" قال رافع: قلتُ: سمعًا وطاعة. رواه مسلم.(1/786)
وهذه الروايات يُفسر بعضُها بعضًا وتدلُّ على أنه ـ عليه السلام ـ لمَّا وجدهم في المدينة يَكرون الأرض بعُقود مزارعة تشتمل على شروط فاسدة نهاهم عنها لإفضائها إلى التنازُع والتقاتُل، كما صرَّح به في حديث سعد بن أبي وقَّاص وحديث زيد بن ثابت وأرشدهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه في استغلال مَزارعهم فقال مرة كما في رواية سعد: اكْروا بالذهب والفضة، وهو جائز بالإجماع؛ لأن الكِراء بهما وبما في معناهما لا مُخاطرة فيه، وقال مرة كما في رواية ابن عباس: لأنْ يمنح أحدكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ عليها أجرًا معلومًا، وفي رواية: مَن كانت له أرض فإنه إنْ يمنحها أخاه خيرٌ له، وهو صريح في عدم إيجاب مَنْح الأرض بدون أجر، وفي جواز أخذ الأجر؛ لأن الخيرية والأولوية ظاهرة في الجواز فيكون المراد مجرد استحباب المنح والترغيب فيه مواساةً ورفقًا، كما صرَّح به ابن عباس، وخيَّرهم مرة ثالثة بين هذا الأمر المستحب، وهو إعطاء الأرض منحة بدون أجر وبين أن يزرعوها بأنفسهم أو يتركوها بدون زرْع، والأمر في الثلاثة للندب لا للوُجوب بقرينة جواز تأجير الأرض بالذهب أو الفضة بالإجماع، وجواز تأجيرها بالنصف أو الثلث أو الربع على طريق المُزارعة، كما فعل الرسول في أرض خيبر مُستمرًّا على ذلك إلى وفاته، وكما فعل أصحابه في حياته وبعد وفاته، كما سبق وقد انعقد الإجماع على عدم وُجود الإعارة بلا فرق بين المزارعة وغيرها، فوَجب حمْل هذا الحديث على الاستحباب والندب، كما أوضحه صاحب مُنتقَى الأخبار.(1/787)
على أن الإمام الصنعاني قال في سُبل السلام بعد رواية حديث النهي عن المزارعة إنه كان في أول الأمر لحاجة الناس وكوْن المهاجرين ليس لهم أرض، فأمر الأنصار بالتكرم والمواساة، ويدل عليه ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: كان لرجال من الأنصار فُضول أرضٍ، وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبي فليمسكها" وهذا كما نُهُوا أول الأمر عن ادخار لحوم الأضاحي ليتصدقوا بها، ثم بعد أن اتسع حال المسلمين زال الاحتياج فأُبيح لهم المُزارعة، وتصرَّف المالك في ملكه بما يشاء من إجارة وغيرها، ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة في عهد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي عهد الخلفاء مِن بعده، ومن البعيد غفْلتُهم عن النهي وترْك إشاعة رافع له في هذه المدة، وذِكْره في آخر خلافة معاوية. اهـ.
وسواء قلنا إن أحاديث النهي عن المزارعة إنما وردتْ في المزارعة الفاسدة أم أن النهي عنها كان عامًّا أول الأمر للحاجة، ثم زال بزوال سببه، فإن الذي استقرَّ عليه الأمر في حُكم الشريعة الإسلامية أن المالك حُرٌّ يتصرف في مِلكه بما يشاء من زرع ومزارعة وتأجير، لا حجْر عليه في شيء من ذلك ولا إيجاب.
ما فعله عمر في سَواد العراق(1/788)
لمَّا فتح المسلمون سواد العراق في خلافة عمر بن الخطاب رأى الفاتحون أن يُقسم بينهم قسمةَ تملُّك كقِسمة الغنائم فأبي عمر عليهم ذلك، وقال كما في كتاب الخراج لأبي يوسف: واللهِ لا يُفتح بعدي بلدٌ، فيكون فيه كبير نيلٍ بل عسى أن يكون كَلًّا على المسلمين، فإذا قسمتُ أرض العراق بعُلوجها وأرض الشام بعُلوجها فما يُسَدُّ به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟ فترك الأرض مملوكة لأهلها يجوز بيْعهم لها وتصرُّفهم فيها، وضرب على رءوسهم الجِزْية وعلى الأرض الخراج؛ ليكون ما يجيء من ذلك سدادًا لحاجة المسلمين عامةً، يُنفَق منه على الجيوش المُقاتِلة وسَدِّ الثغور وبناء القناطر والجسور وأرزاق العمال والمُوظفين وما إلى ذلك ممَّا يتوقف عليه صِيانة البيْضة وبقاء الدولة، وقد أسلم كثير من أهل السواد فوُضعتْ عنهم الجزية، وتداولت الأيدي أرضه وأصبح مِلْكًا للمسلمين، وغيرُهم يتصرَّف كلُّ مالك في ملكه بما يُريد من أنواع التصرُّف، ومِن هؤلاء المُلَّاك التابعون وتابعوهم وأئمة المسلمين والفقهاء والمُحدِّثون ومَن بعدهم على تتابُع القرون إلى وقتنا هذا، فأيُّ صِلة بين هذا وبين ما يدعون إليه مِن قَصْر ملكية الفرد على قدْر عيش الكَفاف ووُجوب تنازُله عمَّا زاد عن ذلك منْحه للمُعدَمين؟
الرأسمالية(1/789)
ولقد أسرف الكاتبون في الطعْن على الرأسمالية مجاراةً لتلك الدعايات الهادمة وصوَّروها للعامة بأبشع الصور، فإن عَنَوا احتكار الملكية بمعناه الحقيقي فنحن أول مَن يُنكره ويَنْعَى عليه، وإنْ أرادوا مجرد الملكية كان طعْنهم مُراغمةً للشرائع ومُكابرةً للعقول، وقد تبيَّن مما أسلفنا أن النظام المالي في الإسلام يحترم حق الملكية، ويُعاقب على العدوان عليه ويُبيح للمالك حق التصرُّف في ملكه بما يشاء من بيع ورهن وإجارة ومُزارعة وإعارة ووقف ونحو ذلك، ولا يُوجب عليه أن يمنح ملْكه لغيره ولا أن يكتفي مِن زراعة أرضه بما يُحصِّل له عيش الكفاف، كما تبيَّن من سياق الحديث الذي استندوا إليه وممَّا ذكره أئمة الحديث في بيانه أنه لا يَمُتُّ بصِلَةٍ إلى ما زعموه، وكذلك فِعْلُ عمر في سواد العراق لا يُؤيد ماذهبوا إليه.
ولسنا نُنكر أن أمر الطبقات الفقيرة في بلادنا يحتاج إلى علاج حاسم ونرى بالإجمال أنه لا علاج له إلا باتِّباع تعاليم الإسلام الحقَّة في النظم المالية والاجتماعية، ولبيان ذلك تفصيلًا مجالٌ آخر والله أعلم.(1/790)
حائر بين حق أهله وحق وطنه عليه
(السؤال) رجل مسلم يعول زوجه وأمه وستة أولاد صغار، وليس له من حطام الدنيا سوى مرتبه الضئيل وعليه بعض ديون، ويريد أن يؤديَ حق وطنه عليه بالاندماج في (كتائب التحرير من الاحتلال الإنجليزى) في الوقت الذي توجب عليه مصلحة أسرته أن يبقى بينهم ليعولهم ولا عائل لهم سواه، لذلك هو حائر في أمره، فماذا يصنع حتى ينال المثوبة من الله تعالى؟ وطلب منا إفادته بما نراه.
(الجواب) ورد إليَّ هذا السؤال في عبارة مؤثرة تفيض غيرة وإخلاصًا، ورغبة في خير الوطن والأهل جميعًا، وفي المثوبة من الله تعالى على عمل صالح، فحمدتُ الله تعالى إذ كان بين الفقراء البائسين الذين حُرِموا متاع الدنيا، وزخرف الحياة، وثقلت كواهلهم بأعباء العيش، من لم يُلهِهِ شأنه الخاص عن واجبه العام، ولم يُنسه أهله وصغاره وما هو فيه من ضيق وعسرٍ محنةَ وطنه وبلاءَ مواطنيه، فقد علم بقلبه الواعي وضميره الحي أن الوطن ينادي أبناءه في هذه المحنة القاسية أن يَهُبُّوا للذود عنه والدفاع عن حرماته وطرد الأعداء من ساحاته ومناصرة أولئك الأبطال البواسل في منطقة الاسماعيلية والقنال التي نُكبت بفظائع القرصان السفَّاكين، حتى إذا علم الأعداء أن لإخواننا مددًا وعونًا بالأنفس والأموال سُقِطَ في أيديهم وكفوا عن عدوانهم، وارتحلوا مدحورين عن ديارنا وأوطاننا، إذ لا قدرة لهم مهما كانت قوتهم على الاستمرار في هذه القرصنة والعدوان المسلَّح، مادام أبناء الوطن كتلة واحدة في الجهاد والكفاح.
وعَلِمَ السائل الغيور أن في التقاعس عن أداء هذا الواجب المقدَّس مع القدرة عليه إخلالاً بحق الوطن وفي أدائه إضاعة لحق بنيه، فأخذ يوازن بين هذا الحق وبين أسرته عليه، فترجح مرة كفة هذا وأخرى كفة ذاك، فلم يجد بدًّا من الاستفسار عما يفعله ويزيل حيرته.(1/791)
ونحن نبشِّره بأن ما انتواه في قلبه، وما حرص عليه من أداء حق وطنه عمل مشكور جليل، له عند الله ثواب جزيل، وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وإنه في ظروفه القاسية التي شرحها يؤدي واجبًا دينيًّا لأسرته وصغاره من أهم الواجبات، إذ قد استرعاه الله إياهم وأقامه عائلاً لهم، ولم يصل الجهاد الآن إلى الحد الذي يكون فيه فرضًا عينيًّا على مثله، ومن الميسور له وهو يؤدي واجب أسرته التي لا عائل لها سواه والتي لم تضع الحكومة نظامًا يكفل لها في غيبته الحياة، أن ينهض بعبء غير قليل من الجهاد الوطني، دون أن يندمج في الكتائب التي تؤدي الآن واجبات من أهم الواجبات للبلاد، ومجال الجهاد متسع فسيح ومنه العمل في العاصمة، لتنفيذ مقاطعة بضائع الإنجليز والدعاية ضدهم بالقلم واللسان، ومراقبة من يعاونهم بما فيه تمكين لهم، والسعي لمد المجاهدين الأبطال بما يلزم لهم من قوة وعتاد حتى يواصلوا فرض الجهاد. كل ذلك من الواجبات الوطنية التي دعا إليها الشارع الحكيم، والواجبات موزَّعة بين الأفراد على حسب ظروفهم وقدرتهم في نطاق أهليتهم، ولكل فرد ولكل طائفة ميدان جهاد.
لذلك أشير عليك بأن تبقى بجانب أسرتك الآن تؤدي الحقين وتنهض بالعبئين، إلى أن يأتيَ الوقت الذي لا مندوحة فيه عن الجهاد بالأنفس في الميدان، فعند ذلك تلبي داعي الوطن، والله تعالى سيحقق بأبطالنا المجاهدين وبأمثالك الغيورين وبتوفيقه وعونه نصرًا مؤزَّرًا وفوزًا باهرًا على الظالمين.(1/792)
ما هو حكم الإسلام على المسيحية وعلى السيد المسيح كنبي؟
يُوجب الإسلام على المسلمين أن يؤمنوا بأن المسيح ابن مريم ـ عليه السلام ـ عبد الله ورسوله، آتاه الله الكتاب والحكمة والنُّبوَّة وأمره بالدعوة إلى توحيد الله ـ تعالى ـ في العبادة، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يلد ولم يُولد ولم يكنْ له كُفْوًا أحدٌ، وهي دعوة جميع الرسل، ودعوة الإسلام التي يُنادى بها، ويُنكَر ما خالفها.(1/793)
لا يجوز شرب الدخان في المساجد
وحال قراءة القرآن
"السؤال": هل يجوز شرب الدخان في المساجد؟ وحال تلاوة القرآن؟
"الجواب": لا يجوز شُربه في المساجد لكراهة رائحته، ويدلُّ عليه ما رواه البخاري في صحيحه في باب: "ما جاء في أكْل الثوم النيِّئ والبصل والكُرَّاث" عن عمر بن الخطاب أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في غزوة خيبر: "من أكل مِن هذه الشجرة "يعنى الثّوم" فلا يَقْرَبَنَّ مسجدَنا". وفي رواية: "فلا يقربنَّ المساجد". وعن جابر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن أكل مِن هذه الشجرة، يُريد الثوم، فلا يَغشانا في مساجدنا". وقال عبد الملك بن جريح : ما يعني إلَّا نَتَنَهُ؛ أيْ: رائحته الكريهة، ويُلحق به كل ماله رائحة كريهة.
ثم رأيت في الدُّرِّ وحاشيته قُبيل كتاب الصيد عن الطحاوي ما نصُّه: "ويُؤخذ من إلحاق الدخان بالثوم والبصل كراهتُه تحريمًا في المسجد للنهْي الوارد في الثوم والبصل، وهو مُلحق بهما، والظاهر كراهة تَعاطِيه حال القراءة. "أيْ: قراءة القرآن" لمَا فيه مِن الإخلال بتعظيم كتاب الله تعالى". اهـ. أي سواء كانت في المسجد أو غيره.
وقد أخلَّ كثيرٌ من الناس بهذا الحكم الآن، فلم يُبالوا بشُرب الدخان أثناء قراءة القرآن، وذلك بلا ريب سُوء أدبٍ وقُبحُ صنيع، والواجب زَجرهم عنه وامتناع القُرَّاء عن القراءة حتى يكفَّ السامعون عن شُربه، ويَتهيَّئوا لسماع القرآن بأدبٍ وإقبالٍ وإمعان. والله أعلم.(1/794)
حُكم مُعاشرة المُرابينَ
"السؤال": رجل يُقيم مع والديه، ويدفع لهما يوميًّا مبلغًا من المال نظير مأكله ومشربه، ثم علِم أخيرًا أنهما يتعاملانِ بالربا، فهل يستمر معهما أو يتركهما؟
"الجواب": يجب على السائل أن ينصحَ والديه برِفْقٍ ويُذَكِّرْهُمَا بقولٍ ليِّنٍ بحُكم الله ـ تعالى ـ في الربا وأنه آذَن المُرابين بحرب من الله ورسوله، وبالمَحْقِ والسحق إن لم يتوبوا إلى الله ـ تعالى ـ منه فإنِ انْتَهَيَا فخيْرًا أسداه إليهما، وإنْ أصَرَّا على هذا المُحرم فالخير للسائل في أن لا يُؤاكلهما ولا يُشاربهما مادام المال مخلوطًا خلْطًا لا يُمكن تمييزه حتى لا ينبت لحمه من حرام، ولا يَرِينُ على قلبه ما كسباه من مُحرَّم.
وليس معنى ترْكه المُؤاكلة والمشاربة أن يُقاطعهما فيما وراء ذلك، بلْ عليه مع ذلك أن يصلهما ويَبَرَّهُما ويُؤدي حقهما ويَخدمهما ما وجد إلى ذلك سبيلًا، ويُطيعهما فيما لا مَعصية فيه: (عَسَى اللهُ أنْ يأتيَ بالفَتْحِ أو أمْرٍ مِن عندهِ فَيُصبِحُوا على ما أَسَرُّوا فِي أنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). والله أعلم بالصواب.
...(1/795)
النفوس التي حرَّم الله قتْلها
"السؤال": ما المراد بكلمة: "بالحقِّ" في قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حرَّمَ اللهُ إلَّا بالحَقِّ). وهل مِن الحق أن يَقتل الإنسان آخر يُحاربه في رِزْقِهِ؟
"الجواب": حرَّم الله ـ تعالى ـ قتل المؤمن والمعاهد بقوله: (ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إلَّا بالحَقِّ). وأباح القتل بحق كما في القتل قِصاصًا، وقتْل الزاني المُحْصن، وقتْل المُرْتد عن الإسلام، "ففي الأول": لاعتداء القاتل على النفس المحرمة فيقتصُّ منه عقوبةً له وردْعًا لغيره، وإصلاحًا للمُجتمع، كما يُشير إليه قوله ـ تعالى ـ: (ولكمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ). "وفي الثاني": لاعتداء الزاني على العِرْض والنسب، فكان القتل لحمايتهما من الانتهاك. "وفي الثالث": لاعتداء القاتل على حق الله ـ تعالى ـ إذ من حقه على عبْده أن يُخلص له الدِّين، وأن لا يُشرك به شيئًا في الأُلوهية والربوبية، وأن لا يخلع رِبْقَةَ العُبودية، فإذا خلعها خرج عمَّا وجب عليه ولم يَبْقَ لدَمِهِ حُرمة.
وأما قتل الإنسان منافسه في طلب الرزق أو مُغالبته عليه أو مضارَّته فيه فحرام قطعًا. إذا هو قتْل بغير حقٍّ مشروع يدخل في عُموم قوله ـ تعالى ـ: (ومَن يَقْتُلْ مُؤمنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالدًا فِيهَا وغَضِبَ اللهُ عليهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لهُ عَذَابًا عَظِيمًا). والله أعلم.(1/796)
جواز نقْل الدم للعلاج
"السؤال": هل يجوز شرعًا الانتفاع بدم الإنسان بنقْله من الصحيح إلى المريض لإنقاذ حياته.
"الجواب": الدم المَسفوح وإنْ كان مُحرَّمًا شرعا بنصِّ القرآن إلا أن الضرورة المُلجئة إلى التداوي به تُبيح الانتفاع به في العلاج ونقْله من شخص لآخر متى قرَّر ذلك طبيب مسلم مُتديِّن حاذق.
وقد ذهب جمع من الفقهاء إلى جواز التداوي بالمُحرَّم والنجس إذا لم يكن هناك ما يسدُّ مَسَدَّهُ من الأدوية المُباحة الطاهرة، فإذا رأى الطبيب المسلم الحاذق أن إنقاذ حياة المريض مُتوقِّف على نقل دمٍ إليه من آخرَ، جاز التداوي به شرعًا والضرورات تُبيح المَحظورات. (وما جَعَلَ عليكمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ).
ويجب في هذه الحالة أن يُراعَى عدم إلْحاق الضرر بالمأخوذ منه الدم صحيًّا، وأن يكون التداوي بنقل الدم في حُدود الضرورة وبقَدْرِها فقط، والله أعلم.(1/797)