ولكي تنجح في العودة إلى واقع الحياة يجب أن تكشف عمَّا في نفسها ـ شيئًا فشيئًا ـ إلى والدتها أو إلى والدها. ولكن الأم أفضل في هذه الحالة، وعلى الأم ـ وقد تجمَّعت لدَيها تجاربُ كثيرةٌ ـ أن تُوضح لها حقيقة الآمال التي تُراود ابنتها، وكمية الخيال التي تكون نسيج آمالها؛ إذْ مَن هم في سنِّ المُراهقة من البنات على الأخصِّ، يرون ما يجري في أفلام السينما مثَلاً: أنه حقائق، ويَنظرون إلى المُمثلين على أنهم المَثل والنماذج: في الجمال والرشاقة.. وفي الإنفاق وبسْط اليد... وفي الاستمتاع بالحياة والتمكُّن مِن وسائل المتعة المادية.. وفي يُسر المَعيشة في غير تَعقيد.
بينما قد يكون بعضهم في غاية البُؤس والشقاء لسبب مِن الأسباب في حياته اليومية.
وفي الوقت نفسه عندما تستعد السائلة للنوم تقرأ المُعوذتين، مرة أو أكثر، أي تطلب من الله ـ سبحانه ـ أن يُبعد عنها هواجس النفس الداخلية، والوساوس التي تُظلم عليها حياتها. وهي تلك الوساوس التي تتصل بتَتبُّع الناس لها كما تطلب منه جل جلاله: أن يُبعد عنها مصادر الشر الخارجية، على تعدُّدها وكثْرتها.
والمهم عندما تقرأ المُعوذتين أن تُؤمن إيمانًا عميقًا بنَفْعهما، وأن قراءتهما هي الطريق لوقاية الإنسان من شرور هذه الحياة؛ فالحياة النفسية لأي إنسان يُعَقِّدها الوَهْم، بينما يُجلِّيها الإيمان بالله على وجهٍ أخصَّ، وإذا ما تجلَّى الطريق للإنسان في حياته فإنه لا يخاف شيئا قط، ولا يحزن إطلاقًا على ما فات أو على أمر لم يتحقق بعدُ: (يُثَبِّتُ اللهُ الذينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثابِتِ في الحياةِ الدنيَا وفِي الآخِرَةِ). (إبراهيم: 27) صدق الله العظيم.
هل الشيخ الذي يعمل "عملاً" لامرأة أو لرجل، يَطَّلِعُ على غيْب الله؟(225/4)
أما "شيخ القرية" الذي يعمل "عمَلاً" لامرأة أو لرجل ثم يقع هذا "العمل" في حياة أيِّ منهما فهو لا يَطَّلع على غيْب الله إطلاقًا، فالقرآن الكريم في سورة الجنِّ يُعلق على الكهانة التي كانت شائعةً في مجتمع الجزيرة العربية عندما جاء الإسلام بقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (الجن: 26، 27)....
والرسول الذي يَرتضيه الله إما مِن البشر: كموسى وعيسى، ومحمد، وإما مِن الملائكة: كجبريل ـ عليه السلام.. وبهذا التعليق يُلغي القرآن الكهانة وهي تقوم على ادِّعاء أن الشياطين كانوا يَسترقون السمع في السماء الدنيا عندما يتحدث الله مع الملائكة، ثم يُبلِّغون علْم السماء الذي يستمعونه كما يُدَّعَى، إلى الكهان وهؤلاء الكهان بدَورهم يُبلغونه أتباعهم وبذلك يصل علْم الغيْب إلى هؤلاء الأتباع!!.
ولكي يُؤكد القرآن عدم أهلية الشياطين لنقل علْم الغيب إلى الناس في حياتهم، يقول في سورة الشعراء: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ). "أي بالقرآن وهو مِن علْم الغيب"..
(وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ" أي لا يجوز لهم كذلك الحصول عليه" ..
وَمَا يَسْتَطِيعُونَ "أي وليست أيضًا لهم استطاعة ولا قُدرة على الوصول إليه" إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) "فهم بَعيدون كل البعد عن أن يسمعوا علْم الغيب" .. (الشعراء: 210 ـ 212) ..
و"العمَل" الذي عمِله "الشيخ" في القرية إنْ وقع ـ كما تقول السائلة ـ فوُقوعه عن طريق الصُّدْفة وحدها، ولا دخل لإرادة "الشيخ" فيه، وإلا كان هو ومثله شُركاء لله فيما يقع في الكون.(225/5)
97 ـ السماح بنَشر كتب الإلْحاد
تسأل سيدة بإحدى المحافظات:
أولاً: لماذا يُسمح بنشر كتب الإلْحاد والكُفر في مُواجهة المارِّينَ في مجتمعنا الإسلامي؟
وثانيًا: هل لابد أن يكون إيمان المؤمن عن بحثٍ وتفكير، وليس عن تقليد؟
أما عن السؤال الأول وهو السماح بنَشْر كُتب الإلْحاد والكُفر في مُواجهة الشباب في مجتمعنا الإسلامي، فإن القرآن نفسه يُسجل مُعارضة المعارضين لدعوة الرسول محمد ـ عليه
السلام ـ مع التعاليم التي أوحى بها الله إليه.
أيْ فإن كتاب الله يجمع بين دفَّتيه تعاليمَ السماء من جهة، واتهامات الأعداء لهذه التعاليم، والردَّ عليها من جهة أخرى، فسورة الطور مثَلاً تنفي اتهام هؤلاء الأعداء للرسول ـ عليه السلام ـ بأنه: كاهن ومجنون، وبأنه شاعر يَكذب، ويتقوّل على الله ما لا يقوله، في قوله سبحانه: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور: 30 ـ 34).
ولكي يتَّضح نفْي هذه الاتهامات تناولها القرآن بالعرْض أولاً، وإذن المهم: أن يُسمح في مُجتمعنا الإسلامي بردِّ الإسلام على كُتب الإلْحاد والكفر إذا ما نُشرت وواجهت المارِّينَ في كل مكان؛ إذ قد مرَّ بُمجتمعنا الإسلامي في فترة من الفترات: أن منَعَ نشْر الكتاب الإسلامي في مُواجهة الإلْحاد والشيوعية، بينما أُتِيحت الفرصة لغيره في نشْر الهجوم عليه، وبَثِّ الافتراءات المُضلِّلة ضدَّه.(226/1)
والإسلام لذلك لا يخشى المعارضة؛ لأنه يعلم أنها تقوم على الهوى والمَصلحة الذاتية بينما مبادئه هي مبادئ الطبيعة البشرية الخالصة، تتلاءم مع توجيهها في كل زمان ومكانٍ.(226/2)
77ـ الشعْوذة وشفاء الأمراض:
مرضتْ زوجتي وذهبتُ بها إلى أطباء كثيرين، ولمَّا لم ينفع العلاج دلَّني الناس على شيخ أخبرني بأنه مكتوب لها عمل، وفعْلاً أحضره بعد أن اتفقتُ معه على مبلغ معين وقد شُفيت، ولكن بعد شهور قليلة عاوَدها المرض وذهبتُ إلى شيخ آخر فقال: إنه موجود لها عمل، وتحتاج طبعًا إلى نقود وكرَّرتُ الأمر مع ثالث.. فقال مثل ما قال الأول فماذا أصنع؟
جاء السحر في القرآن الكريم حكايةً عن بعض أهل الكتاب ممَّن لم يؤمنوا بالقرآن وأعرضوا عنه، بينما اتبعوا الشعوذة والخُرافة التي كانت شائعةً على عهد سليمان وفي زمنه، وما جاء في قول الله تعالى:
(وَلَمَّا جَاءَ هُمْ رَسُولٌ من عِندِ اللّهِ "يقصد أهل الكتاب" مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ "وهو القرآن" وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ "أي الناس الأشرار من سحر وخرافة وشعوذة" عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ "أي على عهد سليمان وفي زمنه" وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ "لأنه لم يتبع شيئًا من ذلك" وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْ مَلَكَيْنِ "فتنة للناس" بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ). (البقرة: 101 ـ 102).
وما جاء في هاتين الآيتين يُوضِّح:
أولاً: أن الذي كان يُمارس الشعوذة والخُرافة ـ بعيدًا عن الدين واتِّباع هدايته ـ هم أشرار الخلْق من الناس: (واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ).(227/1)
ثانيًا: أن ما عُرِف عن هاروت وماروت في بابل كان للابتلاء والفتْنة أي كان لاختبار الناس في طاعة الله، ولذا كان يقول هذانِ الملكانِ للناس: (إنَّمَا نحنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).
ثالثًا: أن مُمارَسة الشعوذة والسِّحْر والخُرافة من أشرار الناس ضدَّ غيرهم ممَّن يعيشون معهم لا تضرُّ أحدًا ممَّن وُجِّه إليهم استخدامُها إلا إذا كان ذلك قد صادَف إرادةَ الله وإذنَه: (وما هُم بِضَارِّينَ بهِ مِن أحدٍ إلا بإذنِ اللهِ).
وإذن الاعتقاد الصحيح هو الابتعاد عن السحر والشعوذة، وعدم التأثر بشأنهما في الحياة وترك الفعل فيها إلى الله وحدَه، فما يُصيب الإنسان لا يُصيبه بسحر ساحر ولا بشَعوذة كاهِن وإنما بإرادة الله وإذنه.
وعلى هذا يتجنَّب الإنسان تصديق ما يقال من أن فلانة أو فلانًا عُمِل له عملٌ يحتاج إلى إزالته مِن الطريق.
وما تَصوره السائل خاصًّا بزوجته من أنها تَمرض ثم يَزول مَرضُها بتدخُّل شيخ من الشيوخ في شأنها: يرجع إلى حالة نفسيَّة تَجِدُّ عند الزوجة كلَّما قيل لها: إن فلانًا الشيخ أحضرَ "العمل" وأزالَه مِن طريقها، إذْ عندئذٍ تشعر بالشفاء والراحة النفسية، ثم تعود إليها الكآبَة مِن جديد. أما الأطباء البشريُّونَ فربما عنايتهم بالمريضة قليلة، يُشخِّصون مرضها عن احتمالٍ وليس عن تحليل، أو وسيلة عملية دقيقة أخرى.
وربما الأمر كله لدَيْها يعود إلى توهُّمٍ نفسيٍّ: أن بها مسًّا من الجِنِّ لا يَشفِيه إلا خروج الجنِّ ذاته، ومثل هذه التوهُّمات النفسية لا يَشفيها إلا قوة الإيمان بالله فهو وحده صاحب المَشيئة وصاحب الفعل، وصاحب الصراط المستقيم الذي لا يخفى على أحد في كتاب الله ومَن يَلْتجئ إلى الله بإيمان قويٍّ يَقِيهِ شرور الناس وأفعالهم، كما يَقيه النفس وتَخيُّلاتها، وهي أمور لا تَنقطع إذا أخذت طريقها إلى العُمق في النفوس.(227/2)
4ـ الشك في وُجود الله
مراهق من إحدى المدن يقول إن سِنَّه الآن السادسة عشرة، وهو مُتديِّن، وكان يُسَرُّ كثيرًا بقدوم المناسبات الدينية كشهر رمضان مثلاً، ولكنه ابتدأ منذ مدة لا تزيد عن شهر يَقلق ويشكُّ في وجود الله، كما ابتدأ يبكي كثيرًا، ولم يعُد يستقبل أيةَ مناسبة دينية بفرَح كما كان الأمر من قبل ذلك، ثم يقول: فأنا أفكر كثيرًا في الأشياء التي كانت تُوجد أيام الرسول وأُحاول أن استدل بها على وجود الله، وأنا أظن أن مصدر هذا كله هو الفراغ التام الذي أعيش فيه، فأنا لا أُزاول أيَّ عمل، ولكني مُتحيِّر. ويسأل: فما الحلُّ؟
إن الشاب الآن في مرحلة مُراهقة، ومن صفات هذه المرحلة أن المراهق غير مُستقر على وضْع واحد، وإنما هو يتردَّد بين صفات الطفولة وهي المرحلة السابقة، وصفات الرشْد الإنسانيّ وهي المرحلة التالية. ومعنى أنه يتردَّد بين صفات المرحلتين أن تكون له صفات هذه المرحلة مرة وصفات المرحلة الأُخرى مرة أخرى، فبينما نجده يبكي لأتفه الأسباب والبكاء خاصَّةُ الطفولة، إذا بنا نَجِدُه يَنجُدُ غيرَه من أصحاب الحاجة ويكون صاحب مَروءة، ونَجْدةُ الغير وحُسنُ الصنيع معه من أمارات الإنسان الرشيد. ...
وميْل المراهق للتدخين ـ مثلاً ـ كثيرًا ما يكون تقليدًا منه للإنسان الرشيد، وميل المراهقة إلى تجميل وجهها كثيرًا ما يكون كذلك تقليدًا منها للمرأة الرشيدة.(228/1)
والشاب السائل عندما دخل مرحلة المراهقة ابتدأت نفسه تهتزُّ وابتدأ يعيد تقييم سُلوكه: لماذا هو مُتدين؟ ولماذا يَحرم نفسه من الاختلاط بالشابات؟ لماذا لا يُصادق بعض الفتيات كما يفعل الشبان أو المراهقون الآخرون؟ أذلك حرام؟ ومَن حرَّمه؟ أهو الله تعالى؟ وأين هو؟ وما صفاته؟ وهنا يكون الشك في وُجود الله، وكلَّما ضغطت عليه فترة المراهقة وتيقظت فيه الغريزة الجنسية استرسل في الشك، وربما ينتقل إلى الجانب الآخَر فيُنكِرُ الله كي يُخليَ الطريق أمام غريزته الجنسية ويُحقق شهوته، دون شعور بالمسئولية نحو غيره ونحو نفسه.
وهذه هي طبيعة الإنسان؛ تدفع بالإنسان نحو الشكِّ في الخالق فالإنكار له، بينما دليل وُجوده ـ سبحانه ـ في الإنسان نفسه (مِن أيِّ شيءٍ خَلَقَهُ. مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُم إذَا شاءَ أَنْشَرَهُ) (عبس 18-22) فهو في موقف الإنكار لا يَتبصر بقدرة الله ونِعمه عليه؛ فالله أنشأه من نُطفة مختلطة من الذكورة والأنوثة، وقدَّره فجعل له السمع والبصر والفؤاد، ثم يسَّر له سبيل السلوك والاعتقاد بهداية الله، وبذلك كانت له الرسالة، بجانب ما خلق فيه من عقل وحكمة، ثم قدرةُ الله كما أنشأته تستطيع أن تُميته وأن تُعيده من الموت إلى الحياة، فيُخرجه من القبر تَوًّا إلى الحياة كما كان، ومع دلائل القدرة الإلهية في خلْق الإنسان وتوجيهه وأمانته وإحيائه فإنه قد يَكفر بالله. ...
وبينما دليل وُجوده ـ جلَّ جلالُهُ ـ أيضًا يُحيط بالإنسان مِن نِعم هي له خاصة (فلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِهِ. أنَّا صَبَبْنَا الماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأرضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فيهَا حَبًّا. وعِنَبًا وقَضْبًا. وزَيْتُونًا ونَخْلًا. وحَدَائِقَ غُلْبًا. وفَاكِهَةً وأَبًّا. مَتَاعًا لكمْ ولأَنْعَامِكُمْ) (عبس 24ـ 32) وكذلك لم يستخلص الرؤية الواضحة عندما كفَر(228/2)
بالله وبدعوة الحق، مِمَّا أحاطه الله به من نِعَمٍ، ولو وُضع أمامه الطعام على سبيل المثال الذي يتناوله ونظر فيه لوجَد أنه خلاصة إمكانيات عديدة ونتيجة لمُقدمات يَتْبع بعضها بعضًا، وهي كلها تدل على قدرته سبحانه. فطعام الإنسان، وكذلك طعام الأنعام التي تحيط بالإنسان ويحتاجها في مسكنه ومأكله ومشربه وفي سفره ونقلته ـ كانت نتيجةً لنزول المطر وتفاعل الأرض به في إخراج النبات في صُنوفه المختلفة وأنواعه؛ من حَبٍّ، إلى فاكهة، إلى حدائق بأشجارها الكثيفة، إلى مراعٍ مُتجددة. فما بين يدي الإنسان من ذاته أولاً إلى ما يُحيط به من نِعَم كفيلٌ بأن يحمل الإنسان على الإيمان بالله والإيمان بوجوده وبصفات الكمال المُطلَق له؛ لأنها هي السبيل الذي يَسَّرَهُ الله في شأن الهداية. ولكن (قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه) يغلب عليه هواه وتغلب عليه شهْوته، فيَنسَى الله أو يكفر به، ودلائل الوجود بين يديه؛ إن في ذاته وخلْقه، وإن في النِّعَم التي خُلقت للإنسان ويَلْمسها بالحسِّ في المحيط الذي يعيش فيه.(228/3)
والسائل ـ وهو في سِنِّ المراهقة الآن ـ لكي يَستعيد إيمانَه بالله، ولكي يَثْبُت على الإيمان القوي عليه أن يفتح كتاب الله وقرآنه، فآيات الخلق وآيات الكون كثيرة تُرشده إلى وُجود الله وإلى وحدانيته جلَّ جلالُهُ، وما ذكرناه هنا من آيات تقود الإنسان في يُسْر إلى المراد، ومن أجل ذلك تقول السورة بين يدَي هذه الآيات: (قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه) (عبس:17) أيْ: ما أشدَّه كُفرًا. فهو يُنكر الله وينكر رسالته، ولا يلقى نظرة على ذاته وكيف خُلقت، ولا على البيئة التي يعيش فيها وكيف أُعِدَّت لخدمته، إذ لا يُمكن أن يَمُرَّ بالأطوار التي مَرَّ بها في خلْقه ووُجوده، ولا يُمكن أن يعيش في البيئة التي يعيش فيها والتي أُعدَّت له إلا إذا كان هناك مُدبرٌ للكون كله وخالق لجميع المَوجودات، واحدٌ وَحدةً مطلَقة في صفات الكمال، لا بدَّ أن يكون القادر قدرةً مُطلَقةً هو الذي خلق الإنسان، كما خلقه، والذي أوجد له كذلك البيئةَ والمحيط الذي يعيش فيه الإنسان هو الله سبحانه.
فالدليل الحِسِّيُّ على وجود الله قائم بين يدي الشباب، ومَن يُنكره يُنكِر ما لا يُنكَر ويَكفر بما لا يَكفر به الإنسان الطبيعي. وعلى السائل أن يَحْذر من الوقوع تحت إغراء الهوى والشهْوة في مرحلة المراهقة التي يعيش فيها الآن أكثر مِمَّا هو واقع. ولْيَستغفرِ الله ويسأله التوفيق، ولْيَطرحْ ما يَجول في خاطره؛ فإنه مِن وَسوسة الشيطان داخل نفسه أو خارج ذاته.(228/4)
22 ـ الطَّواف حول قبور الأولياء:
ويسأل مواطن مِن إحدى المحافظات: هل الطواف حول قبور الأنبياء والأولياء وتقبيل قبورِهم، والتلمُّس بهم مكروه أم حرام؟
يذكر القرآن الكريم أن الطواف المباح والمأمور به وحده في الوقت نفسه هو الطواف حول الكعبة كشعيرة مِن شعائر الحَجِّ فيقول الله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ) (الحج 29).
وكان الطواف حول الكعبة مِن شعائر الحجِّ؛ لأنه يذكر بإبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ في إعادة بناء أول بيت وُضِعَ للناس، ورسالتهما كانت الدعوة إلى التوحيد وطرح الشِّرك وجزء رئيسي في رسالة المصطفَى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يدعو إلى الوحدة في الألوهية وإلى نبْذ الوثنيّة وعبادة غير الله ـ تعالى ـ مُتأسِّيًا بإبراهيم عليه السلام: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) (النحل: 123).
فإذا كان المصطفى ـ عليه السلام ـ من نَسْل إبراهيم وإسماعيل فإن رسالته في التوحيد هي رسالتهما، والدَّعوة إلى التوحيد ـ إذن ـ هي الوقوف بالعبادة والاحترام والخشوع والطاعة لله وحده، فليس هناك موجود في الدعوة إلى التوحيد يُشارك الله في العبودية والخلْق والفعل وتدبير أمر العباد، ولو كان هذا الموجود نَبِيًّا.. أو وَلِيًّا.
وهذا عيسى عليه السلام ينفي لربِّه أنْ تكون دعوة الرسالة الإلهية التي أُرْسِل بها غير دعوة التوحيد: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة 117).(229/1)
والرسالة الإلهية عامّة، وليست رسالة الرسول محمد عليه السلام وحدها، تهتَمُّ بدعوة التوحيد لتخليص الإنسان من رِقِّ الشرك بالله، وإفساح الطريق أمامه نحو العمل الجادِّ والسَّعي للخير. فعندما يعتقد الإنسان أَنَّ الله واحد.. وأن الخالق والفاعل في الكون واحد.. وأن المدبِّر وصاحب الأمر واحد.. وأنَّ الذي يُحْيي ويُميت واحد.. لا يعبد إنسانًا حاكمًا أو صاحب قوة ونفوذ، ولا حجرًا ولا شجرًا ولا ماءً ولا نارًا ولا مادةً إطلاقًا، يسير في حياته في انطلاق لا يقيِّد حركته منجِّم، أو كاهِن أو ساحر، أو عرّاف، أو دجّال، ولا يستخير الجِنَّ، والرمل، والودَع، ولا يهتدي إلا بما في كتاب الله مِن عقيدة وشريعة ومنهج للحياة.
لا ينبغي أن يُعظَّم حيٌّ أو ميتٌ إلى درجة العبادة، ولا ينبغي أن يُعتقد في حيٍّ أو ميت أنه صاحب فعالية وتأثير، دون الله.. لا ينبغي أن يُضيف الإنسان إلى شعائر الله ما لم يرِدْ في كتاب الله.
وقد ورد في كتاب الله أن الطَّواف حول الكعبة وحدها وليس حول القبور والقِباب وقد وردَ في كتاب الله أن الرسول مبلِّغ عن ربِّه وأنه القدوة الحسنة للمؤمنين بالله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر 7). وقد ورد في كتاب الله أن المؤمنين: (الذِينَ يُقِيمونَ الصَّلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكَاةَ وهُمْ رَاكِعونَ) (المائدة 55).. (ومَنْ يَتَوَلَّ اللهَ ورَسُولَه والذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبونَ) (المائدة 56). ولكن الشيء الذي لم يَرِدْ في كتاب الله هو أن يُسوَّي الإنسان بالله مهما بلغتْ درجة سُمُوِّ الإنسان وترفُّعه عن الدَّنايا وتمسُّكه بدين الله.(229/2)
المتمسِّك بدين الله مَثَلٌ طَيِّب لغيره، ولكنَّه إنسان في مستوى الإنسانية.. لا يصعد إلى الألوهية.. ومعنى أن يصعد الإنسان إلى الألوهية أن يكون ذا قُدْسيّة وذا جَلال وذا فاعلية وذا عِصمة عن الخطأ.
ولكي يحدِّد رسول الله ما يجب أن يُزار ويُقصَد من المؤمن في حياته يقول: "لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" والقصد إلى هذه المساجد مِن المؤمن هو القصد إلى تذكُّر ما نِيطَ كل منها مِن رسالة؛ فقد ارتبط بالمسجد الحرام تذكُّر مواجهة الشِّرك والمادِّيّة، وارتبط بالمسجد الأقصى تذكُّر أنَّ مِن رسالة القرآن تصحيح أخطاء زعماء الرسالات السابقين، وارتبط بمسجد يثرب تذكُّر بناء المجتمع الإسلاميّ وإتْمامُ حول المسلمين من الجاهليّة أو المادِّيّة إلى الإنسانية أو الرُّوحيّة.(229/3)
وتسأل مهندسة بإحدى المحافظات عن وصية وصَلتْ إليها وفيها أسماء الله الحسنى وتطلُب هذه الوصيّة إلى كلِّ مَن تصل إليه أن يكتب منها ثلاثينَ نسخة بدون توقيع ويُرسلها إلى معارِفه في مدة ثلاثين يومًا ومَن فعَل ذلك جاءَه الخير ومن أهملَه حَلَّتْ به النَّكْبة وتنقل السائلة هذه الوصية عن خادم للحَرَم النبويِّ الشريف يرويها عن الرسول عليه السلام في حديث له معه في المنام؟
ما تذكره السائلة مِن وصية لخادم الحرَم النبويِّ الشريف يمكن أن يُقال في شأنها: إنَّ نشْر أسماء الله الحسنى بين الناس أمر مرغوب فيه ويُثاب عليه الإنسان ولكن لا يصل أمر مَن يُهمِل هذه الوصية إلى حدِّ نزول النَّكبات به.
إذ مَن يُهمِلها لم يَظلم أحدًا، ولم يُسْقِط فرضًا ممَّا كُلِّف به المؤمن بالله، وليس ممّا كُلِّف به المؤمن أن يكتُب ثلاثين نسخة من هذه الوصيّة بدون توقيع ويُوزّعها على معارفه، وأولَى عند الله أن يكون قُدوة حسنة في سلوكه وأعماله.(230/1)
10 ـ عدم الولاء لرقيق الدين:
أنا مسلم وأؤدِّي الفرائض فهل لي أن أصادِق رَقيقَ الدِّين، ومَن لا يؤدِّي فرائض رَبِّه؟ علمًا بأن الرسول يقول: "المرء على دِينِ خليلِه، فلْينظرْ أحدُكم مَن يُخالِل".
في توجيه الإسلام للمؤمنين في ارتباطاتهم مع الآخرين ممَّن ليسوا في مستوى إيمانِهم ينصَح بثلاثة أمور، حسب درجة الارتباط:
أولاً: يَنْصَح المؤمنين بأن لا يُنشِئوا علاقة صداقة ـ وهي ما يسمِّيها بعلاقة الولاء ـ مع الكافرين، وهم الصُّرَحاء في كفرهم، ويرى أن المؤمن الذي يُقْدِم على علاقة الصداقة مع كافر هو بعيد كلّ البعد عن الله: عن دِينه وعن مبادئ ذلك الدِّين في تنظيم حياة المؤمنين كأفراد وكمجتمع يقول تعالى: (لا يَتَّخِذِ المُؤمِنونَ الكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنينَ ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ). (آل عمران: 28).
ثانيًا: يُجيز أو يرخِّص للمؤمنين بأن تكون لهم عَلاقة ارتباط مع الكافرين في إطار الصَّداقة العامّة، إذا كانت ظروف الخَشْية منهم تضطرُّهم إلى صداقتِهم بأن يكون هؤلاء الكافرون في موقع القوة والتربُّص، بينما المؤمنون في موقع الضَّعف سياسيًّا أو عسكريًّا: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً). (آل عمران: 28) أي إلاّ أن تكون الصَّداقة لوقاية أنفسكم منهم عندئذٍ يجوز لكم أيُّها المؤمنون أن تكون لكم بهم عَلاقة ولاء.(231/1)
ثالثًا: إنَّ الإسلام لا يتصوَّر أن يكون هناك مؤمنون بالله، يَجمَعون بين إيمانهم به ومودَّتهم للمُخالفين والمُنحرفين عن هذا الإيمان، مهما كانت هناك من علاقات الدَّم والقَرابة بين الطرفين: (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤمِنونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ ورَسُولَهُ) "أي خالَف الله ورسوله فيما نقل عنهما مِن أوامر ونَواهٍ" ولَوْ كَانَوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). (المجادلة: 22).
ومعنى عدم تصور الإسلام لهذا نهْيُه عن أن يكون هناك توادٌّ من جانب المؤمنين للمُخالفين والمنحرِفين ورقيق الدين ومَن لا يؤدِّي فرائض ربِّه يقع في هذه الدائرة.
والمؤمن ـ إذن ـ ليس لدَيه مانع من جانب الإسلام في أن تكون له علاقة صداقة مع كافر عندما تكون هذه الصداقة الطريق للوقاية من شروره وعدوانه.
وأصلاً هو مَمنوع من مدِّ هذه الصداقة إلى كافر، دون إخوانه المؤمنين كما هو ممنوع من مباشَرة التوادِّ مع مُخالف منحرِف عن دين الله، مهما كانت هناك مِن روابط القَرابة القريبة بينهما.
وهذا التوجيه قُصِدَ به أن يكون المؤمن في حَيْطة وحَذَر، ممّا قد يُدَبَّر له مِن أعدائه، وأعداؤه في واقع الأمر دائمًا هم الكافرون بما يؤمن به، والمنحرِفون عن دين الله واتباع تعاليمه، ولم يقصد به إطلاقًا أن يُعَبَّأ المؤمن به بعَداوة الآخرين أو بتدبير الانتقام منهم لكُفرهم وانحرافهم؛ لأنَّه يطلب منه أن يكون في سلام معهم طالمَا يُسالِمونه: (وإِنْ جَنَحُوا للسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). (الأنفال: 61).(231/2)
85 ـ تحضير الأرواح
موظف بإحدى الشركات يسأل:
أ ـ هل الأحْجبة القرآنية حرام؟ وما موقف الإسلام منها؟
ب ـ هل تحضير الأرواح والجانِّ صحيح كما يَدَّعِي بعض الناس؟
ج ـ هل البشر أربعة أنواع: تُرابي ومائي وهوائي وناري؟
وهل هذا صحيح كما يَدَّعِي حاسبو النجم؟
القرآن كتاب مِن عند الله، أنزله على رسوله المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليُخرج الناس مِن الظلمات إلى النور: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (إبراهيم: 1، 2).
والظلمات التي يَخرُج الناس منها هي ظُلمات المادِّية والجاهلية.. ظلُمات الشرْك والوثَنِية.. والنور الذي سيَخرجون إليه هو نُور صراط الله العزيز الحميد... نور هداية الله في رسالته.
فهدف القرآن هو التنوير، ودعوة الناس إلى التحوُّل مِن اتجاه الأنانية في الحياة.. إلى الإخاء في البشرية... من القبَلية والشعوبية... إلى الروابط الإنسانية: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً "أي عن طريق القبلية" فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم "أي الآن عن طريق ارتباط بعضكم ببعض عن طريق هداية القرآن" بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران: 103).
فمَن يتصل بالقرآن يتصل به كمصدر هداية ومَن يحمل القرآن يحمله على أنه الِمشعل الذي يُنير له طريق السلوك والمُعاملة مع الآخرين، ومَن يتَّخذ القرآن علاجًا وشفاءً، يتَّخذْه علاجًا وشفاءً للحيرة والضلال .. والأوهام والخُرافات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 57).(232/1)
على أنه من جهة أخرى: القرآن إنذار للمُعارضين لرسالة الله، وهم الذين يُؤثِرُون الدنيا وما فيها من فِتَنٍ وإغراء على القيَم الإنسانية في علاقات الناس بعضهم ببعض: (وَوَيْلٌ للْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) ( إبراهيم: 2 ، 3).
وعلْم المعارضين برسالة القرآن، مع إصرارهم على مُعارضته سيَزِيد مِن مُضاعفة العذاب لهم، وبالتالي سيزيد مِن خسارتهم: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ "وهم المُعارضون والمنكرون له" إَلاَّ خَسَارًا) (الإسراء: 82).
فالقرآن كما هو شفاء بهدايته للمؤمنين، فهو مصدر خسارة بإنذاره للمُعارضين.
بعد هذا: ليس مِن أهداف القرآن الوقاية مِن الأمراض الجسمية، نعم هو وقاية من الأمراض الاجتماعية، كجرائم الزنا، والسرقة والقتل؛ لأنه يَنهى عنها ومَن يتَّبعه يتجنَّبها، وكذلك من الأمراض النفسية والعصَبية التي تكون نتيجةَ عدم التوكُّل على الله، حين تهتزُّ النفوس وتضطرب بسببه الأحداث والأزَمات. ولكن أساسًا لا لحَجْب الأمراض التي تُصيب البدَن، مِن عدوَى وخلافها.
والإسلام يرى في اتِّخاذ القرآن "حجابًا" خُروجًا به عن هدفه ويجب أن يُقصَر الانتفاع به على ما فيه مِن هداية الله، وكلَّما الْتزمَ قارئه أو سامعُ تلاوته بما أُعْلِن فيه مِن مبادئ وأحكام، كان أكثر انتفاعًا به، وكان وقايةً له من الأمراض المادية والجاهلية، ومِن أمراض المُجتمعات وأمراض النفس الأمَّارة بالسوء.(232/2)
وجاء القرآن الكريم بمَفهوم "الرُّوح" ويُراد مِن الروح في أغلب ما وَرد فيه جبريل ـ عليه السلام ـ كما جاء في قوله: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ) (النحل: 2).
وقد يُراد بالروح القرآنُ ذاته على نحو ما يُرجِّح السياقُ هنا في قول الله ـ تعالى ـ في سورة الإسراء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) (الإسراء: 82)... إلى أن يقول:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً. وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً. إِلاَّ رَحْمَةً من رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا. قُل لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء 85 ـ 88).
فما قبْل "الروح" هنا وما بعدها كذلك كان الحديث عن القرآن، مما يُرجِّح أنه المقصود من كلمة: "الروح" في: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ).
ووردت فيه أيضًا: "روح الله" بمعنى: لُطْفِه،ِ كما جاء في آخر سورة المُجادلة: (أُولئكَ كَتَبَ في قُلوبِهمُ الإيمانَ وأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). (المجادلة: 22). أي بلُطْف منه.
ولكن الروح بمعنى النفس الإنسانية شاعت بين المسلمين بعد ترجمة الثقافة الإغريقية، وعلى الأخصِّ كما شاع فيه مفهومَا الجوْهر والعرَض وقُصد بالجوهر الرُّوح أو النفس، كما قُصد بالعرَض البدَن أو الجسم.(232/3)
أما أن البشر يتنوَّعُون إلى أربعة أنواع ترابية ومائية وهوائية ونارية، فربما يكون المَقصود مِن هذا التنوع اختلاف الأمْزجة في تركيب الأبدان ممَّا يجعل نُفوسها تختلف في الحركة وفي المُيول وفي التفاؤل والتشاؤم وفي الحمق أو الهوَج وفي التأنِّي أو التروِّي عند إصدار الأحكام... وغير ذلك مِن ألوان السلوك والتصرُّفات في المواقف والمُعامَلاتِ.(232/4)
146ـ تعرُّض الإيمان إلى الاهتزاز
سيدة من إحدى المحافظات تقصُّ حالتها فيما يلي:
هي سيدة في سِنِّ الرابعة والأربعين، ولها ثلاث بناتٍ في الجامعة ووَلدانِ بالثانوي، ولدٌ طبيبٌ وآخرُ مُهندس، وهي ـ كما تَرْوِى ـ تعيش عيشةً كريمةً، أي لا تحتاج إلى مُساعدة مِن أحد، لم تكنْ تُصلي ولا تؤدي العبادات الإسلامية من قبل، ولكن منذ سنوات ـ وأعتقد منذ وفاة زوجها أو طلاقها منه إن كان حَيًّا ـ وُفِّقَتْ والحمد لله إلى الصلاة والصوم في رمضان ويوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، والآن مِن مدة شهر انتابتها حالةٌ طارئة وبَغيضة إلى نفسها وهي عندما تبدأ في الوُضوء تُحِسُّ أن أمرًا خَفِيًّا في القلب، ولا ينطق به اللسان، يَسُبُّ الصلاةَ واللهَ سبحانه وتعالى. وهي قلقة ومُنزعجة إلى حدٍّ كبير مِن هذا الخاطر النفسي.
وتسأل: هل علاجها عند طبيب الأعْصاب أم عند واعظ؟
هل يجوز لها وحالتها على هذا النحو أن تذهب إلى حجِّ بيت الله الحرام وأولادها جميعًا يَرَونَ علاجَها في الزواج؟ وتُريد الرأي لتَسكن إليه.(233/1)
لا شك أن حالة السائلة حالة نفسية، فهي الآن في سِنِّ الرابعة والأربعين وهي أرملة أو مُطلقة وأولادها تِباعًا سيَتركونها عندما يَتزوجون أو يفرُغون من دراساتهم، وسترى نفسها يومًا ما وحيدةً أو مَعزولة في الحياة، يُضاف إلى ذلك أن سنَّ اليأس تَزْحف عليها، وسنُّ اليأس هي السن التي تتصور فيها المرأة أنها الحد الفاصل بين ما مضى من حياة مليئة بالمرَح والنشاط والآمال، وبين آتٍ مُقبل يسعى بها إلى الشيخوخة ثُم إلى انقضاء الحياة. ...
وهي تُحسُّ الآن أن الحياة تمضي عنها، وهي في سن الرابعة والأربعين، وكان يُمكن أن تستمتع فيها بمُتع الحياة، وربما عندها مال وعندها أولاد، ولكن ليس عندها رجلٌ زوجٌ، وما يكون مَفقودًا لدَى الإنسان يتمناه أكثر ويُلحُّ في تَمنِّيه. ...
إنها سترى أولادها في يوم قريب؛ البنت لها زوج، والولد له زوجة، وكل زوج وزوجته يَعيشانِ حياتهما الخاصة بعيدًا عنها، ولهما أسرارهما، سترى الحياة أمامها، ومَن في سنِّها لم يزل يستمتع بحياة كانت تتمنَّى أن تكون مُشاركة فيها.
وهي عندما أقبلت على أن تُؤديَ الصلاة والعبادات الأخرى، بعد أن كانت لا تصلي ولا تصوم، وربما بعد أن كانت تفكر تفكيرًا يقوم على السخرية ممَّن يُؤديها ـ أقبلت عليها علَّها تجد فيها سبيلاً يُنسيها الحياة البشرية ومُتعها، أو يُغنيها عن التفكير فيما يَستمتع به الآخرون على مَقربة منها وليس عندها هي، أو علَّها تُحقق عن طريق العبادة لله هدفًا تُخفيه عن نفسها، فهي تعبد الله عندئذٍ على حرفٍ ولغايةٍ. ...
فلمَّا مرَّت السُّنون على صلاتها وعبادتها، ولم ينتهِ الصراع الداخلي في نفسها ـ وهو صراع مِن أجل ما فاتها وتَعويضه ـ أخذت تَضيق بأداء الصلاة؛ لأن أداءها لم يُفرِّج كُربتها ولم يُحقق لها أملاً حتى الآن.(233/2)
وبدأت مع ذلك تيْأَس، وكلَّما تقدَّم بها السنُّ زاد يأسها، حتى عبّأت نفسها بالكراهية لمَا تفعله، وهو طارئ جديد عليها، وما تفعله هو الوضوء أولاً للصلاة، وتُعبر عن هذه الكراهية بقولها: "ولكن من مدة شهر عندما أبدأ في الوضوء أو الصلاة أجد شيئًا لا يخرج مِن قلبي أو لساني يَسُبُّ في الصلاة وفي الله ـ جل جلاله ـ وأعوذ بالله منه".
ولو أنها كانت تعبد الله لغير مَنفعة منتَظَرة أو تحقيق أمر، كالزواج مثلاً، كانت ترجوه لوجدت أن المُتَع المادية والدنيوية هي مُتَع خادعة، تنقضي لذَّتُها بعد قصير، وربما تنتهي لذَّتُها بما يُسيء إساءة دائمة.
إن الإيمان بالله ـ صِدْقًا وحقًّا ـ يرفع الإنسان مِن طالب للمُتع المادية والدنيوية إلى مُستغنٍ عنها وقانع بما بين يديه، والقناعة هي طريقٌ للاستغناء؛ لأنه طريق ذاتيٌّ يخطه الإنسان بنفسه ويُنفذه بذاته.
والإيمان بالله هو السبيل الأقوى لإنهاء الصراعات الداخلية مِن أجل المُتع الدنيوية، وليس تحصيل هذه المتع هو الطريق لإنهائها، بل كلما حصَّل الإنسان بسعيه هذه المُتع زاد الصراع واشتدَّ في تحصيلها.
والسائلة فيما تسأل هنا عمَّا نرضاه لها من حلٍّ من هذه الحلول الثلاثة، وهي: العلاج النفسي عن طريق الطب، أو الوعْظ، وحج بيت الله الحرام، والزواج، كما يَقترح عليها أبناؤها وبناتها. فما نَرتضيه لها هو أن تَتزوج إن كانت لدَيها إمكانية الزواج؛ أي إن كان لدَيها رجل تَرتضيه ويعرض عليها أن يتزوجها، أما حج بيت الله فسيكون شأنه لدَيها شأن الصلاة والصوم، على معنى أنها إن أدَّتْه ولم يتحقق لها الغرض مِن أدائه ـ وهو غرض دنيويٌّ ـ فسيزداد اليأس في نفسها وتزداد النِّقمة منها على ربِّها.(233/3)
وأما العلاج النفسيّ بالموجات الكهربائية أو بالإيحاء أو بالوَعظ فان يصل إلى العُمق في نفسها، بعد أن ترسَّبت في هذا العمق موجات الندَم على ما فاتها في الحياة منذ وفاة زوجها أو منذ طلاقها منه، وبعد ما ضعُف أمَلُها في الاستمتاع بمُتعها، وقد أصبحت مَسيرتها في الحياة قاب قوسين أو أدنَى مِن "سِنِّ اليأس".(233/4)
23ـ هل سجود الإنسان للإنسان حرام؟. وما رأي الدين في الطائفة المريوتة التي يتزعمها الشيخ أحمد بامبا في السنغال التي تؤيد ذلك؟
سجود الإنسان للإنسان ظاهرة من ظواهر التملُّق، أو أمارة على الجهل. وكذلك سجود الإنسان لغير الله على الإطلاق. فسجود الإنسان قديمًا للحيوان، أو للأنهار، أو للنار، أو للشمس والقمر، أو للأصنام التي لا تسمع ولا تعي ولا تنفع ولا تضرُّ.. يعود إمّا لتوهُّم الحصول على رغبة، أو المساعدة على دفع مَضَرّة، أو لتصور خاطئ وجهل بواقع الأمر.
سجود الإنسان تعبير عن خضوعه، وإقرار منه بأنه أقلُّ شأنًا ووجودًا ممَّن يسجد له.. هو تعبير منه عن استسلامه وعدم تكافؤه. ولذا كان سجود الإنسان ـ في الإسلام ـ لله وحده، ككائنات الكون كلها تعبِّر جميعها بطريق أو بأخرى عن استسلامها وخضوعها لله سبحانه: (أَوَ لَمْ يَرَوْا إلى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشَّمَائِلِ سُجّدًا للهِ وهُمْ داخِرونَ. وللهِ يَسْجُدُ مَا في السَّمواتِ ومَا في الأرْضِ مِنْ دابّةٍ والمَلائكَةُ وهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرونَ) (النحل: 48 ـ 49).
وقد جاء النهي عن السجود للموجودات الطبيعية في قول الله ـ تعالى ـ: (ومِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ والنَّهَارُ والشَّمْسُ والقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولاَ للقَمَرِ واسْجُدوا للهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إيّاه تَعبدونَ) (فصلت: 37). وجاء الأمر بعدم الشرك مع الله إلهًا آخر في العبادة أيًّا كان: صنمًا، أو إنسانًا، أو أيَّ أمر آخر في الواقع أو التصور: (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أعْبُدَ اللهَ ولاَ أُشرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وإلَيْهِ مَآبِ) (الرعد: 36).(234/1)
والسجود لغير الله شرك. والشرك كفر وضلال: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَنْ يُشْرَكُ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ومَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعيدًا) (النساء: 116).
والذي يدعو إلى السجود لغير الله، أو يقبل السجود له كما يسجد لله.. مفتر على الله كذبًا وضالٌّ مُضِلٌّ. والطائفة التي تسجد للإنسان مع الله تأسَّست على غير البِرِّ والتقوى وسلكت سلوك الشيطان. وهو سبيل الغواية والخداع.
والدعوة في الإسلام إلى عبادة الله وحده، والسجود له دون غيره.. هي دعوة لتكريم الإنسان ولإقرار المساواة في الاعتبار البشري بين الناس جميعًا. ولذا كان الشرك والسجود لغير الله امتهان للبشرية، وتمييز لفريق على فريق من غير تفاضل في الخصائص البشرية، كما تُمليها طبيعة الإنسان.(234/2)
128ـ ما الرأي في بعض الناس إذا رزقهم الله ذكورًا فرِحوا وإذا رزقهم إناثًا حزِنوا؟
الجواب:
إنَّ من أماراتِ تخلُّف الإنسان في تصوره للحياة أنْ يرى أنَّ الذكر أفضل من الأنثى بين الأولاد: (وإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وهُوَ كَظِيمٌ) (النحل: 58). فجعل القرآن الكريم ذلك المظهر من الاكتئاب والحزن عندما يبشَّر الوالد بمولود له هو أنثى ـ أمارةً على عدم التحضُّر وعدم الفَهم المستقيم؛ لأن ذاك الذي يفضِّل الذكر على الأنثى في الأولاد هو إنسان يحرص على أنانيته أكثر مِمَّا يحرص على أداء مسؤوليته. فهو يرى في الذكر قوة ينشُدها ليستندَ إليها في حياته، بينما يرى في الأنثى ضعفًا يطلب لها الحماية. مع أن الأمر قد يصير إلى العكس.
وقيمة الإنسان في واقع أمره ليس في أنه ذكر أو أنه أنثى، بل في أنه "إنسان" في تهذيبه وفي سلوكه وحُسْن مُعاملته واستقامة تفكيره. ولعل الأنثى ـ إذا وُجِّهَتْ توجيهًا سليمًا ـ أقربُ إلى ذلك الإنسان المستقيم الناجح من الذكر؛ لأنَّها تجعل بحكم الفطرة استقامة التفكير وحسن السلوك وسيلةً لقَبولها في الأسرة والمجتمع. وهذا القَبول نفسه نوع من الحماية لضعفها أو لما يُظَنُّ أنه ضعف في عضلاتها وفي مِراس هذه العضلات على التحدِّي لمصادمات الحياة.
على أن الإنسان المؤمن يجب أن يؤمن بأن نوع الإنسان في خلقه ـ ذكرًا كان أو أنثى ـ من صُنْع الله وحده، وما يأتي به الله للإنسان خير له في واقع أمره: (للهِ مُلْكُ السَّمواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإِنَاثًا ويَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى: 49ـ 50).(235/1)
فالله عليم بما يُفيد وينفع وبما هو أنسب وأليق، وقدير على خلْق أي نَوْع من الإنسان فاختياره للذَّكَر أو للأنثى ليس عن عجز في الخلْق، بل لحكمة ولمصلحة تتعلق بمَن أنجب الولد.
وتصوُّر أفضلية الذَّكَر على الأنثى لدى بعض الناس أو كثيرًا من الناس في مجتمعاتنا المعاصرة ليس غريبًا؛ لأنَّ أمارات الجاهلية في السلوك والتصوُّر لا ترتبط بالتخلُّف في الصناعة، إنَّما ترتبط قبل بكل شيء بالتخلُّف في الإيمان بالله على وجهه الصحيح. إذ الإيمان بالله هو إيمان بمستوى الإنسانية في ذاتها و "تقويم" سليم لخصائص الإنسانية في التصور والادراك، والاعتقاد والمعاملة والسلوك.
وليس بلازم ـ إذنْ ـ أن يكون التقدُّم في الإيمان والإنسانية مرتبطًا بالتقدُّم في العلم أو الصناعة.(235/2)
1ـ بيت الله هو ما يُعلَنُ فيه ذِكْرُ الله وحده ...
تلميذة في الصف الثاني في المدرسة الثانوية تشكو من عدم قدرتها على الإجابة عند السؤال شفويًّا في الفصل رغم أنها تعرف الإجابة الصحيحة، ولكنها تحُسُّ أن هناك شيئًا يُمسك لسانها ويَمنعها من الكلام، وإذا تكلَّمت يخرج منها الكلام بلَقْلَقة، وهي تُعاني من هذه الحال وتبكي بسَببها وكادت أن تيْأس وتُقدِمَ على الانتحار، وتُحاول الآن أن تشجع نفسها ولكن ـ كما تقول ـ ليست لديها القدرة الكافية. وهناك واحدة أشارت عليها بالذهاب إلى الكنيسة، إذ ربما يكون عليها عفْريت يُطلعه الأستاذ الموجود هناك، وتسأل: ...
هل حرام أن أذهب إلى الكنيسة حتى ولو كان هذا المكان أجد فيه شفائي؟ ...
ثم ما رأْي القرآن الكريم في هذه المشكلة؟ وما الحلُّ الذي أفعله لحل هذه المشكلة؟(236/1)
هذه التلميذة يَغلب عليها الحياء وتُحب أن تظهر دائمًا في صورة كريمة، أو في صورة أنها متفوقة على قريناتها، ومن أجل ذلك تَخشَى أن تُقْدِمَ على الإجابة إذا طرَحت المُدرِّسة أو المدرس سؤالاً على التلميذات في الفصل للإجابة عليه، وخشْيتُها من أن تُخطئ جعلتها تتهيَّب وتتردَّد في أن تُقدم أو لا تقدم، في أن تُجيب أو لا تجيب، وهذا التهيُّب أو التردد في الإقدام والإجابة أصبح عادةً لها، فإذا أقدمت وأجابت بالفعل تَحُول هذه العادة لدَيها دون أن تسترسل في الإجابة، وهنا تكون اللَّقْلَقة التي تحكي عنها، إذْ هذه اللَّقْلقة عنوان التهيُّب النفسي الداخلي والتردد بين الإقدام والإحْجام وسَط بقية التلميذات في الفصل. ولو سألتُ هذه التلميذةَ نفسَها السؤالَ الذي أُلْقِيَ عليها وعلى قَريناتها في الفصل وهي وحدها لأجابَت عليه دون تعثُّر أو لَقْلَقة منها؛ ذلك لأن سبب التهيب والخشية غير قائم الآن، وهو وجود زميلاتها معها ووجود المدرسة أو المدرس بينهنَّ، فعادة التردد أو التهيب يجب أن تَحُلَّ محلَّها عادةُ الإقدام والشجاعة، وهذه العادة الثانية لا تَحُلُّ محل الأولى إلا إذا اقتنعت التلميذة التي تُعاني الآن اللقْلقة بأن الإجابة على السؤال الذي يُطرح في الفصل كما تحتمل الصوابَ تحتمل الخطأَ، فالخطأ في الإجابة ليس عيْبًا، بل ربما يكون هذا الخطأ سببًا في كشْف مشكلة يجب على المدرسة أو المدرس أن يتناولها بوُضوح لجميع التلميذات مرة أخرى. وإذا اقتنعت التلميذة السائلة بأن "الكمال" وإن كان يجب أن يسعى إليه الإنسان، لكن قلَّما يكون كاملًا في كل شيء فإن درجة تهيُّبها ستنخفض، وبالتالي ستتعود الاسترسال شيئًا فشيئًا، إلى أن تزول عنها اللقْلقة التي تُعاني منها. ودور المدرسة أو المدرس في تشجيعها وإضعاف عادة التردد أو التهيب لدَيها دور أصيل، ويكاد يكون هو العامل الإيجابي الوحيد في مثل هذه الحالة.(236/2)
والذهاب إلى الكنيسة مِن أجل الشفاء المَوهوم حرامٌ، فالقرآن يدعو إلى الإيمان بوَحدة الأُلوهية في الله ـ سبحانه وتعالى ـ ومعنى أن الله واحدٌ أنه لا شريك له في هذا الوجود؛ في الفعْل والقدرة والإرادة والخَلْق، إلى غير ذلك من الصفات التي تدلُّ على تَفرُّده في استحقاق العبادة، فإذا اعتقد الإنسان أن هناك عفريتًا يَلْبَس بَدَنَ الإنسان، وأن هناك مكانًا معينًا يُمكن أن يتخلص فيه من هذا العفريت، وأن في هذا المكان شخصًا ما يُخلِّص البدن من العفريت الذي يلْبسه ـ يكون قد اعتقد بشريكٍ للهِ، جلَّت قدرته، له فعْلٌ وله قدرة على التخليص من الآلام والمتاعب التي للآخرين، وهذا دُستور القرآن للبشرية جميعها يُعبِّر عن قول الله تعالى: (يا أهْلَ الكتابِ تَعالَوْا إلى كلمةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وبيْنَكمْ ألَّا نَعْبُدَ إلَّا اللهَ ولا نُشركَ بهِ شَيئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعضًا أرْبَابًا مِن دُونِ اللهِ) (آل عمران:64) وقد آن الأوان أن يطرح الناسُ جميع الاعتقاداتِ التي تجعل لغير الله فعْلاً في هذا الوجود، وأن تتَّجه إليه وحده في السرَّاء والضراء.(236/3)
والحلُّ لمشكلة السائلة أن تكُفَّ أولاً عن الاعتقاد في خُرافة العفاريت، وثانيًا عن الاعتقاد في الشفاء منها بزيارة أماكن العبَادة وعلى أيْدي أُناس مُعيَّنِينَ فيها، وثالثًا أن تعتقد في الله وحده (هو اللهُ الذي لا إلهَ إلا هوَ عالِمُ الغيْبِ والشهادةِ هو الرحمنُ الرحيمُ. هو اللهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هو المَلِكُ القُدُّوسُ السلامُ المُؤمنُ المُهَيْمِنُ العزيزُ الجبَّارُ المُتَكبِّرُ سُبحانَ اللهِ عمَّا يُشركونَ. هو اللهُ الخالقُ البارئُ المُصوِّرُ له الأسماءُ الحُسْنَى يُسبِّحُ لهُ مَا في السمواتِ والأرضِ وهو العزيزُ الحكيمُ) (الحشر 22-24). ...
فإذا طهَّرت نفسَها من الاعتقاد في الخُرافة وآمنَت بالله وحده فعليها بعد ذلك أن تُحلل الأمر في نفسها، فإذا راجعت مُشكلتَها فستجدها تعود إلى "التهيُّب" فلْتَدفَعْ نفسَها إلى الأمام مُعتمدة على الله ثم على حُسن مُراجعتها لدُروسها ومواد الدراسة لديها، ولا تَخشى أن تُخطئ طالمًا الإنسان يكون منه الصواب والخطأ، واللسان لا يَتعثَّر إلا إذا تعثرت النفس في داخلها، والنفس تتعثر بسبب الخوف وحده، والجرأة أو الشجاعة هي القنطرة التي يمرُّ بها الإنسان فوق الخوف مهما كان عميقًا في النفس. وَلْتُفصِحْ عن مشكلتها بجانب ذلك إلى مدرِّستها أو المدرس في فصلها، وترجوه أن يُشجعها على الإجابة مهما تعثرت فيها. والله ولي التوفيق.(236/4)
2ـ التهديد بالرِّدَّة عن الإسلام ...
يكتب مواطنٌ من إحدى القرى أنه سيرتدُّ عن دين الإسلام هو وزوجته وأولاده ويبحثون عن دينٍ آخر إن لم تُحَلُّ مُشكلته مع والده. ...
ومشكلته أن والده ـ كما يقول ـ جبَّار ولا يستطيع أن يُرجعَه عن ظلمه وقسوته الشديدة أحدٌ، فقد تولَّى منْصب "العُمُدية" في القرية، وقسا واشتدَّ وظلم كثيرًا، وبسبب قسوته الشديدة ضرب أحد الأهالي مرة ضرْبًا مُبرِّحًا حتى حمَلته أسرته على الأعناق تَسيل الدماء مِن كل جانب مِن جسمه ولَزِم فِراشَه حتى فارَق الحياة، وذلك بسبب أنه واجه العمدة بقوله: إن الجلسة التي ترأسها لحلِّ مشاكل القرية كلها ظلم. وبسبب قسوته وشدته تقدَّمت إحدى العائلات وكذلك العمدة الحالي للقرية بالشكوى ضده إلى الجهات المسئولة، فعُزل مِن الوظيفة واعْتُقل ابنه الذي يشكو الآن من والده أربع سنوات في المعتقل ولم يخرج منه إلا في عام 1964 ولأن ابنه الذي يشكو هنا لا يُطيعه في تنفيذ ما يأمره به من قتل بعض أُناس مُعينين، غضِب عليه وطرده من المنزل، ويُحرِّضُ على قتله كما يَدَّعي بعضَ إخوة له غير أشقَّاء، وهو يعمل بالأجر ويقوم بالإنفاق على أولاده الستة وزوجته، ويطلب: ...
أولاً: أن يحصل على حقِّه من مال أبيه في الإنفاق على نفسه وأسرته. ...
ثانيًا: أن يُوقَف هذا الأب عن التعدِّي والتحريض على العدوان ومباشرة الظلم.
ثالثًا: ليس أمامه إذا لم يتمَّ هذا وذاك إلا أن يتخلَّى عن الإسلام ويَعتنق دِينًا آخر لا يكون من أقارب هذا الوالد، كما يذكر.(237/1)
حسَبما يبدو من رسالة السائل أنه لا خيرَ للإسلام منه ولا مِن والده، والإسلام لا يَخسر شيئًا إذا ارتد هذا الولد عن دين الله، ولا يَكسِب الدينُ الآخرُ الذي يعتنقه شيئًا إذا انضمَّ إليه،
فالأب وابنه كلاهما مصدر إيذاء وضرر لنفسيهما وللناس الآخرين، وليست لديهما الأهلية لِأَنْ يكون كلٌّ منهما ذا إنسانية في مُعاملاته وفي سلوكه وفي استقامته في تصرُّفاته. ...
الأب تورَّط في الظلم، كما يحكي ولده، ولا يستطيع أن يعدل عن الشر بعد أن تقدَّمت به السن وبعد أن عُزل من وظيفة العُمُدية، فأيُّ خير يُرجَى منه الآن لنفسه وللآخرين فضْلاً عمَّا يُرجَى منه للإسلام! والولد الذي يجعل إيمانه بالله في الميزان، ويُهدد المسلمين بالانتقام من الإسلام بالارتداد عنه إذا لم يتكاتفوا على إنقاذه من ظُلم أبيه ويُعينوه على أن يصل مال الأب إليه يُنفق منه على نفسه وعلى أسرته، أيُّ خير يُنتظر منه للمسلمين أو للإسلام إذا بَقِيَ مُعلِنًا إيمانَه بالإسلام وظلَّ كما هو في صفِّ المسلمين؟
كثير مِن الناس لا يَعرفون أن إيمانهم بالإسلام مصدرُ خير ونفع لهم هم؛ لأن باستقامتهم في السلوك والمعاملة ومع الآخرين يكسبون منهم الرضا والمعاونة والمودة، فوق أنهم يكسبون في ذواتهم الاعتدال والاعتماد على الله، كما يتجنَّبون اقتراف الشرور والمعاصي، فالإيمان بالإسلام مصلحة للمؤمنين أنفسهم وليس فيه ما يَمتنُّون به على الله ـ تعالى ـ ولذا طَلَب مِن الرسول ـ عليه السلام ـ أن يُجيب الأعرابي الذي جاءه يَمْتَنُّ عليه بأن أسلم، بقوله: (يَمُنُّونَ عليكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عليَّ إسْلامَكمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عليكم أنْ هداكم للإيمانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ) (الحجرات:17) فقد كلَّف الرسولَ ـ عليه السلام ـ هنا بأن يُجيب بأنه إذا كان هناك مِنَّةٌ في إيمان المؤمن مِن أحد وعلى أحد فالمِنَّةُ من الله على المؤمن به بسبب أن هداه للإيمان.(237/2)
والسائل هنا بمَسلكه ليس صورة مُشرفة للمؤمن حتى يكون هناك أسَفٌ على خروجه من الإسلام وارتداده إلى الكُفر، إذ الفرق بين وضْعه الحاضر والوضع الآخر المُرتقَب له ليس كثيرًا، ولا ينبغي إطلاقًا أن يُهدِّد مسلمٌ ما بالخروج من صفوف المسلمين مهما وقع في حرَج أو في أزمة؛ لأن تهديده بالخروج من صفوف المسلمين أمارةٌ على إفلاسه في حَلِّ أزمته، وعلى عدم صلاحيته للتصدِّي لمَشاق الحياة. وفريضةُ الصوم يوم أن كُلِّف بها المسلمون قُصِد منها أن يتعلَّموا مِن الحِرْمان ومِن الإمْساك عن جميع ما تشتهيه النفس في أيام رمضان كيف يَصبرون على المَشاقِّ والصعاب التي قد تُصادفهم في حياتهم في غير رمضان وفي غير أيام الصحة والرخاء.
وإذا كان التهديد بالخروج من صفوف المسلمين ليس حلاًّ لمشكلة السائل، فإن دعوته إلى الإيمان الصادق بالله هو الحل الأمثل لمَا يفترضه مِن مشكلة تُواجهه، فالمشكلة ليست في إصلاح حال والده ونقْله من اتِّباع الشيطان إلى حِزْب الله، فالوالد يقع ـ كما يحكي ولده ـ تحت تأثير عادات جاهلية كثيرة أهمها الظلم والاعتداء وتبْيِت الشر والسوء للآخرين، ولكن المشكلة أن الولد يُريد أن يُنفق على نفسه وأسرته مِن مال والده؛ لأن الأجر الذي يحصل عليه من العمل لا يفِي بنَفقاته، وليس هناك ضمان لأنْ يُوافق الوالد ـ طالَمَا العلاقة بينه وبين ابنه على هذا النحو من السوء ـ على أن يتكفَّل بسدِّ حاجتِه في النفقة.(237/3)
وهنا يأتي دور الإيمان الصادق بالله، فالمؤمن الصادق في إيمانه بالله يَعتمد على ذاته ويتوكَّل على الله، فهما أمرانِ ضروريانِ في حياة المؤمن: الاعتماد على الذات والتوكُّل على الله، فالمؤمن الذي يعتمد على ذاته يسعَى سعْيًا جِدِّيًّا للعمل من أجل الرزق، ويجعل العمل صِنْوًا للعبادة؛ يفرُغ من العمل ليسعَى إلى العبادة، ويَفرُغ من العبادة ليسعَى إلى العمل (يا أيُّها الذينَ آمنوا إذا نُودِيَ للصلاةِ مِن يومِ الجُمُعةِ فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوا البَيْعَ ... فإذا قُضيَتِ الصلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) (الجمعة: 9ـ10) وعند مباشرة العمل يتوكَّل على الله ويَستعين به في تيْسير أمره عليه. ولذا تقول الآية السابقة بعد قول الله تعالى (فانْتَشِرُوا في الأرضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) تقول: (واذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أيْ: اذكروا الله في عملكم. فيجب أن يُؤدَّيَ في كَمِّه وفي نوْعه بحيث يستحلُّ الأجر عليه، وعندئذ يتحقق الفلَاح والنجاح في حياة العامل سواء بالنسبة لمَعيشته أو لتربية أولاده؛ لأنه يُنشِّئهم على كسْبٍ حلال.(237/4)
والمُؤمن بالله الصادق في إيمانه لا ينظر إذًا إلى ما في يدِ غيره مِن مال، ولو كان مالَ والده، وإنما يُركز على عمِله هو، وعلى طاعته لله فيما يعمل. والسائل إذا اعتمد على نفسه في العمل وتوكَّل على الله في عمله لا يَشغل نفسه بوالده؛ بإصلاحه أو ببَقائه على انحرافه، لا يسأل إلا عن شيء واحد فقط: كيف يُرْضي ربَّه فيما يعمل؟ كيف يُرضي ربه فيما يعيش هو وأسرته؟ كيف يُرضي ربه فيما يُربِّي أولاده؟ ولْيترُكْ بعد ذلك صلاح والده إلى خالِقه، ولْيترُكْ إخوته غير الأشقاء وزوجة أبيه إلى المولَى ـ جلَّ جلالُه ـ ولْيُجرِّبِ السائل هذا الطريق، وهو طريق الاعتماد على الذات والتوكُّل على الله، فإنه طريق النجاح في اطمئنان النفس وضمان الرزق مِن الله (ومَا مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلاَّ على اللهِ رِزْقُهَا) (هود: 6) أي: إذا دبَّت وتحرَّكت للسعي والعمل في سبيل الرزق.(237/5)
31 ـ ما حكم مَن يعتنق مذهبًا فلسفيًّا أو سياسيًّا، أو اجتماعيًّا ينكر وجود الله؟
1ـ كثيرًا ما ينشأ إنكار وُجود الله عند الإنسان المُنكِر له عن رغبةٍ في التفرُّد بالأمر والاستئثار بجاه الالتفات حوله أو يَصرِف الأنظار إليه.
وبعض زعماء الفكر المادِّي الاجتماعي في القرن التاسع عشر دعا إلى إنكار الله ومحاربة الدين كلية عنادًا للكنيسة وإضعافًا لموقفها من مناصرة بعض الاتجاهات السائدة في نظم الحكم وفي علاقة الأفراد بعضهم ببعض في المجتمع وقتذاك. فقد كانت الكنيسة تؤثِر بعض الطبقات في الحكم وتُبارِك أسلوب الترابط القائم في شؤون الأفراد وصلاتهم. وهي إذ كانت تؤثِر ذلك.. كانت تؤثِره باسم الدين وباسم الله في رسالته على الأرض.
2 ـ وقد ينشأ إنكار وُجود الله عن قُصور في منطق البحث. فتحكيم معيار الحقِّ والمشاهَدة في وصف الموجود بأنه موجود لأنَّ العين أو الأذن تُدركه.. تحكيمٌ لوسيلةٍ في البحثِ لا ترقَى إلى ما لا يُشاهده البصرُ ولا يُدركُه السمع مع أنه موجود كوجود الروح أو وجود الله مثلاً. وهنا يفسِّر هذا المنطق الرُّوح بأنَّها من عوارض أو من ظواهر أمر موجود مُحَسٌّ آخر وهو الجسم، وليس لها وُجود مستقِلٌّ. كما يُفَسِّر الله بأنه الطبيعة المُشاهَدَة ككُلٍّ وليس موجودًا آخر وراءها. وتحكيم معيار الحسِّ والمُشاهَدَة في بحث الوجود قد يَستَصْحِبُه الباحث في سِنِّ الشباب من عهد طفولته ويبقى معه فترة أخرى تَقصُر أو تَطُول حسَب قوة تأثُّره بعهد الطفولة.
3ـ وقد يُساير بعض المنكِرين لله غيرهم في الإنكار تقليدًا لهم ومحاكاة لقولهم دون أن يكون لهم تفكير مستقِلٍّ أو منطق خاص التزموه.
4ـ على أن الإنسان في تبرير تصرُّفاته وسلوكه قد يلجأ إلى إنكار الله هربًا من المواجهة بعدم مشروعيتها وغطرسة وجنوحًا إلى التخفِّي وراء ستار الكبرياء المزيَّف.(238/1)
وليس من البعيد أن كذلك أن يكون إنكاره لله حرفة يَرتَزِق منها أو يتسلط عن طريقها إذا وجدها وسيلة للارتزاق والتسلُّط بحكم المجتمع القائم الذي يعيش فيه وتحت ضغط ظروفه المعينة.
وهذه الأنواع المنكِرة لله في التحليل الأخير لأشخاصها تحاول أن تظهر بمظهر القوة وهى ضعيفة في حقيقة أمرها، وتحتاج إلى ذلك في سبيل أن تُعرَف وفي سبيل أن تستمتع بجاه الشهرة؛ لأن القويَّ في ذاته لا يخشى الإيمان بالله بل على العكس يعتزُّ به لأنه سيزداد بهذا الإيمان قوة. فالإيمان بالله إيمان بالقِيَم والمثل العليا وبالإنسانية في مستواها الرَّفيع.
أما حكم الإسلام لمَن أنكر الله يعد إيمان به فتقصُّه هذه الآية القرآنية:
(وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنوا مِنْكُمْ وعَمِلوا الصّالحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَما استَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهم أَمْنًا يَعبدونَني لا يُشرِكونَ بِي شيئًا ومَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ الفاسِقونَ) (النور: 55).
فوصفته بالفسق وهو الخروج عن الله وعلى رسالته، وقد جاء في النتائج المترتبة على الفسق قول الله ـ تعالى ـ:
(ولاَ تُصَلِّ "والخطاب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه المؤمِنونَ" عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَدًا ولاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِه إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ ومَاتُوا وهُمْ فاسِقونَ. ولاَ تُعْجِبْكَ أَموالُهُمْ وأَولادُهُمْ إِنَّما يُريدُ اللهُ أَنْ يُعذِّبَهم بِها في الدُّنْيا وتَزْهَقَ أَنْفُسُهُم وهُمْ كافِرونَ) (التوبة:84 ـ 85).
وهكذا يوضِّح القرآن الكريم شأن الفريقين: المؤمن والفاسق، مَن يطيع الله ومن يتَّبع هوى نفسه. كما يوضح النهاية لكل منهما، مهما أصيبَ المؤمن في نفسه وماله ومهما ظهر الفاسق وتفوَّق بماله وولده وجاهه.(238/2)
12ـ وسوسة الشيطان
مُواطن بالقاهرة شابٌّ له مِن العمر خمسٌ وثلاثون عامًا، وهو مُتزوِّج وأنجب من زِيجته وَلَدينِ، ويعمل بمِهنة، حُرة ويحمد الله على فضله في الرزق منها. ويروي أنه منذ عام تقريبًا تُوفِّي صديقٌ له، فسار في جنازته إلى أن ودَّعه الوداع الأخير إلى قبره، ولمَّا عاد مِن تشييع الجنازة عاد إلى الله، بعد أن تذكَّر الحساب والموت، وأقبل على عبادة الله وقراءة القرآن، وأحسَّ بحلاوة القرآن والإيمان، ولكن منذ أربعة أشهر ضاقَ صدره بعض الشيء، وأحسَّ أن هناك خاطرًا قوِيًّا يُحاول أن يُبعده عن طريق الله، فكان يقاومه وهو لا يدري أهذه وسوسة من الشيطان أم أنها النفس الخبيثة، واستمر في اتجاهه نحو الله، ولكنه يعيش في صراع مَرير وصل الى درجةً يُرثَى لها؛ مِن تعب الأعصاب والخوف والشكّ في العبادة، ويأتيه شيء في المَنام غريب كان يتعوَّذ منه ولا يستطيع أن يَحكيَه، وسأل كثيرًا مِن زملائه عن هذا الشيء الذي يريد أن يُبعده عن عبادة الله ويخيفه ويثير الشك في نفسه، ولم يصل إلى حلٍّ، ولم يزل يعيش في صراع داخلي، ويطلب النصيحة كي يستطيع مُسايرة الحياة، في غير ضِيق صدْر وفي غير ألم نفسي.(239/1)
إن طاعةَ اللهِ تُلزم المُؤمن به بسُلوك مُعيَّن، هو سلوك المُلتزِم لمَا يَأمُر به الله وينهَى عنه. والالْتزام يحتاج إلى صبر وجهادٍ نفسيٍّ. ومعنى جهاد النفس ضبْطُها في تنفيذ رَغباتها وجعْلُ ما تُحققه من رغبات مُلائمًا لأمْرِ الله ونَهْيه. والنفس البشرية بحسَب استعدادها قد تَميل إلى الاستقامة، وعندئذٍ لا يكون جهادُها شاقًّا. وقد تَميل إلى الفجور والانحراف عن خط الاستقامة وعندئذ يكون جهادها صعْبًا ويَلْقَى صاحبُها عَنَتًا (ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا) أي: فأعدَّها للخروج عن الاستقامة، كما أعدَّها للخشْية مِن الله وتجنب الآثام والمعاصي (قد أفلَحَ مَن زَكَّاها) أي قد نجح في حياته وعند الله مَن عاون نفسه على الاستقامة (وقد خابَ مَن دَسَّاها) (الشمس:7 ـ 10) أي: وقد أخفق في حياته وعند الله مَن تستر على نقائِصها ولم يُوجِّهُها التوجيه السليم. هذا تصوُّر القرآن الكريم للنفس البشرية، وأنها قد تَنْحرف وقد تستقيم.
والسائل عندما عاد مِن جنازة صديقه وزيارته لقبره، واتَّجه إلى الله في عبادته واستمع لآياته في قُرآنه، واستراحت نفسه واطمأنت لمَا كان يسمعه مِن كتاب الله ـ كان واقعًا تحت تأثير العِبرة الوقتيَّة من الموت، ولكن زحمة الحياة البشرية في المجتمع وما فيها من مُغريات كان يشدُّه إليها، وعندئذ ابتدأ الصراع النفسي المرير الذي يتحدث عنه السائل، وهو صراعٌ بين طرفين:
الطرف الأول: الالتزام وحمل النفس على مُساوقتها في السلوك لأوامر اللهِ ونواهيه وجِهادها في ضبطها بعيدًا عن الانحراف.(239/2)
الطرف الثاني: مُغريات الحياة البشرية وضغطها على النفوس لحملها على السير في طريق الشهوات والأهواء بعيدًا عن أوامر الله ونَواهيه. ...
وهذا الصراع يُخلِّف نوعين من النفوس: نوع يُؤْثِرُ الحياة الدنيا ويَطغى بمُغرياتها، ونوع آخر يظلُّ يَخشَى الله ويظل ثابتًا صُلبًا في جهاده النفسي عن الهوى. ويُصور القرآن الكريم هذينِ النوعين في قول الله تعالى: (فأمَّا مَن طغَى. وآثَرَ الحياةَ الدنيا. فإنَّ الجَحيمَ هيَ المَأْوَى. وأمَّا مَن خافَ مَقامَ ربِّهِ ونَهَى النفسَ عَنِ الهوَى. فإنَّ الجنةَ هِيَ المَأْوَى) (النازعات:37ـ 41) وهكذا الصراع النفسي قائم بين النفوس، وهو يَضعُف أو يتلاشَى عندما تُحدِّد النفس طريقها، وعندئذ إمَّا أن تكون نفسًا قوية الإرادة والإيمان بالله، وفي دائرة إرادتها وإيمانها القوى ينتهي الصراع. وإما أن تكون ضعيفة تابعةً لهواها وشهْوتها، وفي دائرة اتباعها للهوى والشهوة تُغلب على أمرها وتَتلاشَى مُقاومتها.(239/3)
والسائل يُقاوم الآن هواه وشهوته في صراعه النفسي، ويَخشَى أن يُغلَب على أمره ويَفلت منه زِمام انقياده ويَنحاز نهائيًّا إلى عبادة غير الله، وتَندثر عنده آثار العِبْرة التي استخلصها من موت صديقه والمشاركة في تشييع جنازته إلى قبره. ...
وعليه الآن أن يستمع إلى نداء القرآن الكريم وتصويره لوَضع مَن اتَّبع هواه في قوله جل شأنه: (واتْلُ عليهم نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشيطانُ فكانَ مِنَ الغَاوِينَ. ولو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عليهِ يَلْهَثْ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلكَ مَثَلُ القومِ الذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ القَصصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 175ـ 176) إن السائل في حاجة إلى صبر وتحمل في مقاومة هواه، فإن صبر وتحمل في ذلك فسيضعف بالتدريج صراعه النفسي، وتبتعد عنه وساوس الشيطان أو وساوس النفس الأمَّارة بالسوء، كما تبتعد عنه الرؤيا المنامية المُزعجة. وعلى الله فليتوكَّل المؤمنون.(239/4)
130ـ الغِلُّ والحقد ما أثرُهما ؟ وكَيْف عالجَهما الإسلام؟
إن الغِلَّ والحقد والحسد وما شابَهها من الصفات السوداء للنفس البشرية هي مصادر الشَّرِّ في المجتمع الإنساني. وهى في الوقت ذاته عوامل هدم وقضاء على الفرد والمجتمع معًا. فالفرد الحَقُود لا يعرف البناء بل طابَعه السلبيَّة ومحاولة تحطيم مَن هو أحسن منه وضعًا أو حالاً بعد أن يحطِّم نفسَه هو. والمجتمع الذي يَشيع فيه خُلق الحِقد لا يعرف الوحدة ولا يصل يومًا ما إلى التماسُك. وكل ما له من عمل هو تبادُل التمزُّق حتى الفناء كمجتمع أو كأمّة.
وقد رأى بعض المذاهب الفلسفيّة المادِّيّة علاجَ الحقد في المجتمع البشريّ بين أفراده بإبراز رُوح الصِّراع وتعميق معالمه وآثاره في النفوس وشحنها بالبغضاء والكراهية ضد بعضها بعضًا. وهو علاج أشبه بعلاج إطفاء النار بزيادة فاعليتها في الحريق وتوسيع رُقعتها في الهدم والإبادة.
ولكنَّ الإسلام استهدف من نظامه ومبادئه جملةً أولاً وبالذات إضعافَ رُوح الحقد، وكراهيةَ الغِلِّ في الإنسان والعمل على مَلْءِ القلوب بالمَحَبَّة ودفع النفوس إلى العمل المُجدِي في الحياة.
وفي سورة الانشراح يُبرِز القرآن الكريم هذا الهدفَ على أنّه المنحة الإلهية إذا تحقَّق في الإنسان فيقول فيها ـ والخطاب موجَّه إلى الرسول الكريم ـ صلّى الله عليه وسلم ـ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فيمتنُّ عليه بشرح الصَّدْر. وقد شرح الله صدره بإزالة الحقد من نفسه وإحلال المحبّة فيها محلَّه، عن طريق الإيمان بالله واتباع الهداية الإلهيّة. وبذلك أصبح للرسول عليه الصلاة والسلام ـ قدوةً وأسوة حسنة للإنسان ومن أجل ذلك أيضًا كان خُلقه العمليّ مُمَثِّلاً لخلق القرآن الكريم في مبادئه وأهدافه.(240/1)
وتحقَّق للرسول الكريم في دنياه بزوال الحقد من نفسه ما يتحقَّق للمؤمنين في آخرتهم من صفاء النفوس بعد زوال غُمّة الغِلِّ والحقد عنها على نحو ما جاء في قول القرآن في وصف نعيم المؤمنين: (ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلينَ) (الحجر: 47).
وبزوال الحقد من النفس تزول همومُها وأحزانها، تلك الهموم والأحزان التي من شأنها أن تُثقل الكاهل وتُنقِض الظَّهر من فرط عِبئِها وثقلها وهذه النتيجة هي التي يُشير إليها قول الله جل شأنه في السورة نفسها: (ووَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ).
كما أن الذي تصفو نفسه ويحب الآخرين معه في أمَّته بدلاً من أن يحقد عليهم يُصبح عالي الهِمّة والشأن في قومه. وذلك ما جاء في خطاب الرسول الكريم من قوله تعالى: (ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح: 2ـ4).
والسبيل إلى إضعاف الحقد في النفس ـ إنْ لم يكن إلى إزالته ـ هو الإيمان بالله الذي له كل شيء والذي يخلق ما لا نعلم والذي يُخرج الحيَّ من الميت ويخرج الميت من الحيِّ، والذي يُولِج الليل في النهار ويُولج النهار في الليل. والذي جعل من العسر يسرًا كمبدأ في الحياة لا يتخلَّف.(240/2)
والحقد في النفس البشريّة وإن كان يُتْرجم أزمة فيها بسبب أو بآخر كالتطلُّع إلى ما في يد الغير مع العجز البدني أو الإراديّ أو الذهني عن اللَّحاق بهذا الآخر.. فالإيمان بأنَّ في طَيّات العُسر وفي وقت المِحْنَة يوجد اليُسْر والفرَج وأنَّ اليُسْر والفرَج يتفجَّر من العسر كما يتفجَّر النهار من الليل.. هذا الإيمان بذلك كَفيل ألاَّ يجعل ضيق النفس بالأمر يتحوَّل إلى حِقد على الغير وإلى تَمَنِّي زوال نعمته وإلى السلوك منه ومن نفسه كذلك مسلك السلبية. وبذلك يصون طاقاتِه من التبديد ثم يوجِّهها إلى ما فيه بناء نفسه وخير غيره. وذلك ما يعنيه قوله تعالى في هذه السورة: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا).
وعلى أيّة حال يجب على الإنسان ـ لكي لا يجعل للحقد مكانًا فيها يسود منه على تصرُّفاته ـ أن يشغل الفراغ لديه بالعمل المُجدي، ما يكاد ينتهي من حلقة فيه إلا ويستأنف الجِدَّ لحلقة أخرى. ويكون في جميع ما يعمل متَّجِهًا إلى الله وحده يستلْهِم منه استمرار الإيمان، والقوة على العمل أو العون على صفاء النفس وهذا معنى قوله جل شأنه: (فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح: 7ـ8).
فبالإيمان الذي يحمل على العمل والاتجاه إلى الله وحده تصفو النفس وتبعُد عنها ظلمة الحقد وسلبيته.(240/3)
39ـ لقد تقدَّمت بنا السِّنُّ ولنا أبناء مُحارِبون يُرابطون الآن على جبهة القتال يدافعون عنّا وعن بلادنا فماذا نصنع لنؤدِّيَ لهم ما علينا ونُشاركهم هذا الشرَف؟
وضْع القتال في الإسلام جاءت به هذه الآيات:
(أُذِنَ للذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقولُوا رَبُّنَا اللهُ. ولَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الذِينَ إِنْ مَكَّنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزّكَاةَ وأَمَرُوا بِالمَعْروفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وللهِ عَاقِبَةُ الأُمورِ) (الحج: 39 ـ 41).
والآيات ـ كما نرى ـ تحدِّد أسباب الإذن بالقتال بوقوع اعتداء على المؤمنين كما تحدِّد غاياته بأنَّها: التمكين من إعلاء كلمة الله والتطبيق لمبادئ دينِه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي سبيل نصر المؤمنين في قتالهم ضِدَّ أعدائهم يطلُب القرآن الكريم الجهاد في سبيل الله، وهو جهاد بالنفس لمَن يقدِر على المشاركة في القتال، وجهاد بالمال لمَن يملِكه ولا يستطيع مباشرة القتال أو يستطيعه على السواء، ومنازل المؤمنين لذلك مختلفة عند الله:
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايةَ الحَاجِّ وعِمارةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَنْ آمَنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وجاهَدَ فِي سَبيل اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) (التوبة: 19).(241/1)
فالذي يُجاهد بنفسه أو ماله أو بهما معًا في سبيل الله أفضل ولا يتساوَى مع مَن يباشر سَقْيَ الحُجّاج في موسم الحجِّ مثلاً أو يقوم بعمارة المسجد الحرام. مع أن كلاًّ من الساقي والمُعمِّر للمسجد الحرام له فضل فقد أعطى كلٌّ منهما من نفسه ولم يأخذ شيئًا مقابل ما أعطى سوى الثواب عند الله. ولكن الجهاد بالنفس في سبيل الله يدلُّ على قوة الإيمان وتمكُّنه من نفوس المجاهدين.
ويقول القرآن أيضًا:
(الذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللهِ بأمْوالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجةً عِنْدَ اللهِ وأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزونَ) (التوبة: 20).
ثم يأبَى القرآن على المسلمين أن يُطلِقوا على مَن يُقتَل في سبيل الله أنه ميّت؛ تكريمًا له وتقديرًا لِمَا يُؤَدِّيه من رسالة. ويُعلِن أنه حي لم يَمُت؛ لأنه في حقيقة أمره باستشهاده في سبيل الله يُسهم في حياة المؤمنين بعده وهو إذن يشاركهم الحياة القائمة.
(ولاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ولَكِنْ لاَ تَشْعرونَ) (البقرة: 154).
فالله ـ جَلَّت قدرتُه ـ خير مجْزٍ عمَّن يقاتل في سبيله. وما على المؤمنين إلا أن يؤدُّوا ما عليهم من جهاد بالنفس والمال لتبقى كلمة الله هي العليا.(241/2)
89 ـ نَصْرُ الله للمُؤمنين
كيف يَنصر الله المؤمنين على أعدائهم؟
إن نَصر الله للمؤمنين مشروط بنصر المؤمنين لله ونصر المؤمنين لله يتحقق:
أولاً: بتدريب النفس على التضحية في سبيل الله وفي سبيل المصلحة العامة وطريق التضحية بالنفس، أو بالمال، أو بهما معًا، هو الْتزام أداء العبادات الثلاث: الصلاة، والصوم، والزكاة. إذْ بالصلاة يُؤْثر المُصلي اللهَ على الدنيا، وبالصوم: يتحمل الصائم الحرمان الذي فرضه هو على نفسه، وبالزكاة يتعلَّم كيف يُعطي المال لغيره وهو حُرٌّ مُختار، وفي غير مقابل.
وإذا كانت الصلاة تُضعف قيمة الدنيا في النفس، والتشبُّث بها: فإن الصوم والزكاة يُضعفان فيها أنانية الذات، وبالتالي يُقوِّيانِ معنى المشاركة والتعاون مع الغير، وإنْ كان في سبيل ذلك الحِرمان مِن المُتَع المادية، وإخراج ما هو عزيز على النفس وهو المال، في سبيل الآخرين دون انتظار لشيء ما.
وثانيًا: بالإعداد المادي القوي وهو إعداد الكمِّ، والنوع، وفنِّ القتال وضُروبه وإعداد الخبْرة، والعلْم، وإعداد الحيْطة والحذَر، وقد جاء هذا الإعداد في قول الله ـ تعالى ـ في سورة الأنفال: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ "أي سخِّروا كل إمكانياتكم في الإعداد وهي إمكانيات اقتصادية وعسكرية وسياسية، وعلْمية، واستخبارية" تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ). "أي بحيث يكون إعدادكم لعدوكم وعدو الله مصدر إرهاب له، فضلاً عن أن يكون في واقع أمره: مصدر إبادة، إذا ما الْتحم القتال (الأنفال: 60) ...(242/1)
وقد جعل الله : الحديد، كمَصدر القوة، مُساوِقًا في القيمة لكتاب الله في هدايته، حين يقول في سورة الحديد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ). "أي باتباع هداية الله، وحسن استخدام الحديد في القوة والمنافع الدنيوية" (الحديد: 25) ..
وثالثًا: بالوُقوف على الخصائص النفسية لطبيعة الأعداء وقد تكفَّل القرآن ـ على سبيل المثال ـ بتسجيل: روح الفردية والأنانية التي تتمكَّن مِن بني إسرائيل، وهي روح لا تُقْدِمُ على القتال إلا في ظلِّ تَفوُّقٍ في الإعداد والتحصُّن، ولا يتجمَّع أفرادها إلا في الظاهر فقط، ولا تقوم الأُلْفَة الصادقة بين بعضهم بعضًا.
وقد سُجِّلَ ذلك في قوله ـ تعالى ـ في سورة الحشر: (لا يُقاتِلونَكمْ جميعًا "أي اليهود مجتمعين" إلا في قُرًى مُحصَّنةٍ أو مِن وراء جُدُرٍ "أي عند التفوق في الإعداد والتفوق في الأمان" بأسُهمْ بيْنهم شديد "أي قوة الخُصومة فيما بينهم بعضهم بعضًا شديدة وعنيفة" تَحسبُهمْ جميعًا وقُلوبُهم شتَّى). "ومن أجل هذه الخُصومة الفردية القوية لا يَجتمع اليهود في واقع الأمر ولا يَتكتَّلون فيما بينهم في ظاهر الحال فقط" (الحشر 14) ..
وهي صفات تدفع المؤمنين إلى ردِّ اعتدائهم في قوة وفي غير خوف، من جانب، وفي الوقت نفسه تجعل هؤلاء اليهود يتهيَّبون القتال إذا علِموا أن مُقاتليهم أكثر منهم عُدَّةً في القتال.
فإذا تجمعت هذه العوامل الثلاثة للمؤمنين كان النصر نتيجةً مُسَلَّمَةً لهم وهنا يكون نصر الله لهم على معنى: أن إرادة الله قد اقْتضتْ أن يَرتبط النصر الحاسم بتكامُل هذه الجوانب الثلاثة في جيش المُحاربين مِن المؤمنين.(242/2)
وفي غزوة بني النضير حول المدينة سلَّم اليهود بعد حِصار المؤمنين لديارهم؛ إذِ اعتقدوا أن الموت لاحقٌ بهم حتْمًا، بسبب الكثرة مِن المؤمنين التي أحكمتْ حِصارَ دِيارهم.
وكان استسلامهم نَصرًا مِن الله للمؤمنين عبَّر عنه في قوله في سورة الحشر أيضًا: (هُوَ الذي أخرَجَ الذينَ كفَروا مِن أهلِ الكتابِ مِن دِيارِهمْ "وهم يهود بني النضير" لأوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أنْ يَخْرُجُوا وظَنُّوا أنَّهُمْ مَانِعَتُهمْ حُصونُهمْ مِنَ اللهِ "عن طريق المؤمنين وإعدادهم المُفاجئ" فأتَاهمُ اللهُ مِن حيثُ لم يَحْتَسبوا "تُشير الآية إلى حِصارهم" وقذَف في قلوبهم الرُّعْب "بسبب هذا الحِصار" يُخرِبونَ "لحصارهم" بُيوتَهمْ بأيدِيهمْ وأيْدِي المُؤمنينَ" "كناية عن الاستسلام والهزيمة" (الحشر: 2)...
فما يُنسب إلى الله هنا يُقصَد به إرادته التي تَتمثَّل في ربْط النصر بالإعداد له حسبما يتجلَّى في كتاب الله.(242/3)
السؤال الثالث: بما أن الأديان الأخرى المُنَزَّلة من عند الله تدعو ـ أيضًا ـ إلى الهداية وعدم فعل الأشياء التي لا يَرضى عنها أيُّ دينٍ، فلماذا يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ أيضًا في كتابه العزيز: (ومَن يَبْتَغِ غيرَ الإسلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ في الآخِرَةِ مِن الخَاسِرِينَ)؟ (آل عمران:85) وهل معنى ذلك أن الديانات الأُخرى نُفِيَت إلى غير رجعة رغم وُجود أناسٍ يَعتنقونها؟
وأصبح مفهومًا الآن أن الإسلام هو رسالة الله ودين الله على الأرض منذ أقدم الرسالات منذ إبراهيم ـ عليه السلام ـ وليس هو القرآن وحده (مَا كانَ إبراهيمُ يهوديًّا ولا نَصرانيًّا ولكنْ كانَ حَنِيفًا مُسلِمًا) (آل عمران:67) كما أصبح مفهومًا كذلك أن القرآن وهو آخر الرسالات السماوية بدِين الله الذي هو الإسلام، كما تقول الآية الكريمة: (اليومَ أكملتُ لكمْ دِينَكمْ وأتْمَمتُ عليكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لكم الإسلامَ دِينًا) (المائدة: 3) ـ أصبح مفهومًا أن للقرآن هيْمنةً وحُجيةً وكلمةً فاصلةً بين ما لله في دين الله الذي هو الإسلام وبين ما تعرَّض له دين الله على مَرِّ الأجيال والعصور من تحريف أو تغيير أو تبديل اقتَضتْه المصلحة الخاصة للزعماء الدينيينَ. ...
فالإسلام دين الله في كل رسالة سماوية. (قالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإِلَهَ آبَائِكَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ إلَهًا واحدًا ونَحْنُ لهُ مُسلمونَ). (البقرة: 133). والقرآن هو كتاب الله الذي يرجع إليه المؤمنون بالإسلام. (ومَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسلامِ دِينًا "لأنه دين الله" فلنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ). (آل عمران: 85). صدق الله العظيم.(243/1)
السؤال الثاني: وبما أن الرسول ـ عليه السلام ـ يقول: "لا رَهْبانيةَ في الإسلام" لماذا خصَّ الإسلام بالذات بعدم الرهبانية مع أنها مَوجودة في الديان الأخرى التي هي أيضًا مُنزَّلة مِن عند الله؟
وعن "الرهبانية" وموقف الإسلام منها، فقد جاء قول الرسول عليه السلام: "لا رهبانية في الإسلام" والرهبانيةُ هي المبالغة في العبادة، والانقطاعُ عن النفس، والمعيشةُ الخشِنة، والبُعدُ عن النساء، ويُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "إنَّ لِبَدَنِكَ عليكَ حَقًّا" كما يُروَى عنه: "مَن لم يتَزَوَّجْ فليسَ مِنِّي" والقرآن الكريم يُشير إلى أن دِينَ الله لا يعرف الرهبانية فضْلاً عن أن يدعوَ إليها، يقول تعالى: (وجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ "أي اتبعوا المسيح عليه السلام" رأفةً ورحمةً ورهبانيةً ابتَدَعُوهَا ما كَتَبْنَاهَا عليهم إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ) "أي لم نفرضها عليهم، وإنما هم الذين اخترعوها وفرضوها على أنفسهم، يرجون من تطبيقها رضاء الله" فمَا رَعَوْهَا حقَّ رِعَايَتِهَا "ولكنّ كثيرًا منهم لم يُؤدِّها حق الأداء، بل أهملوها ولم يَرعَوها" فآتَيْنَا الذينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ وكَثِيرٌ مِنْهمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:27) وكان إهمالها سببًا في خروج كثير منهم عن الخط المستقيم، وهكذا لم يُؤْجَر إلا القليل منهم، وهو الذي بَقِيَ على إيمانه.(244/1)
والإسلام ليس دين القرآن ورسالة الرسول محمد ـ عليه السلام ـ وحده وإنما الإسلام دين الله: (إنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الإسلامُ ومَا اختلَفَ الذينَ أُوتُوا الكتابَ إلَّا مِن بعدِ مَا جاءَهمْ العلْمُ بَغْيًا بينهم) (آل عمران:19) فكل رسالة مِن الله على يد رسولٍ أُرسِلَ بها إلى قومه هي الإسلام، وهي دين الله. والرسالات قبل القرآن تعرَّضت للتغيير والتحريف عن طريق بعض الزعماء، فلمَّا جاء القرآن كان الفيْصَلَ فيما بَقيَ من رسالة الله لقومٍ من الأقوام وما تغيَّر أو طرأ عليها، يُخاطب الله ـ جل جلاله ـ رسولَه الصادقَ الأمينَ: (وأنْزَلْنَا إليكَ الكِتابَ بالحقِّ) "وهو القرآن" مُصدِّقًا لِمَا بيْن يَدَيْهِ مِن الكتابِ "أي من الكتب السماوية السابقة" (ومُهَيْمِنًا عليه) "أيْ صاحب هيْمنةٍ وحُجيَّة على ما هو موجود من الكتب السماوية وقت نزول القرآن، فالقرآن هو القول الفصْل في شأن دينِ الله الذي هو الإسلام" (فاحْكُمْ بيْنَهمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ) "وهو الإسلام" (ولا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ) فيما بُدِّل أو غُيِّر أو حُرِّف من الزعماء (عمَّا جاءَكَ مِنَ الحقِّ) وهو القرآن. (المائدة:48).(244/2)
لماذا أعطى الله سبحانه وتعالى إبليس اللَّعين هذه القدرةَ على إغواء أكبر عدد مِن البشر، بالرغم من رفضه السجود لسيِّدنا آدم؟
ويسأل عن تربية البنات في هذا الزمن، وكيفية ترغيبهن في حبِّ الإسلام وتعاليمه وهل ذلك الأمر يتعلَّق بالوالدَيْنِ فقط، أم أن الأخ لهؤلاء البنات له دور في ذلك؟ هل القُدوة الحسنة تكفي؟ وما موقف الإنسان من الآية الكريمة: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ والحِجارَةُ). (التحريم:6)؟
حكمة الله اقتضتْ، بعد طرد إبليس من الجنة؛ لعدم طاعة الله فيما طلبه منه مِن السجود لآدم، وبعد طرد آدم وحواء منها كذلك لعِصيانهما بالاقتراب من الشجرة المُحرَّمة فيها، ونزول الثلاثة إلى الأرض ـ أنْ تكون الإقامة على الأرض للإنسان من نَسْل آدم وحواء، لاختبار أجياله العديدة إلى يوم البعث، في طاعة الله.
واختبار الإنسان لا يَتِمُّ إلا إذا كان هناك مصدر لإغوائه عن الصِّراط السويِّ وفي الوقت نفسه مصدر آخر لإرشاده وهدايته إلى الطريق المستقيم في السلوك والعقل لدَى الإنسان هو الذي يَفصل في حياة الإنسان بين غوايته وهدايته ومِن هنا كانت مسئوليّة الإنسان.
ومِن أجل ذلك كان إبليس مصدر الغواية وكان الرسول ـ أي رسول ـ مصدر الهداية وقد حذَّر القرآن من غَواية الشيطان، كما حثَّ على اتباع رسالة الرسول فقال في شأن الأولى: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27).(245/1)
وقال في الثانية: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي "وهِيَ رِسالة اللّهِ" فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الأعراف 35 ـ 36).
وإذا كان إبليس فردًا واحدًا؛ لأنه وحده هو الذي شَقَّ عصا الطاعة فله أعوان كثيرون وهؤلاء الأعوان تُسمِّيهم الآية هنا: قَبيل الشيطان، وهم شياطين كذلك أي مصادر شَرٍّ في حياة الإنسان ومن بين مصادر الشَّرِّ في حياة الإنسان نفس الإنسان الأمارة بالسُّوء وهي التي تدفعه إلى اتباع غواية الهوى والشهوة فيه، والإسلام يعتبر مقاومة الهوى والشهوة في النفس الإنسانية جهادًا أكبر كما جاء في الحديث الشريف: "رَجَعْنا من الجهاد الأصغر (وهو الحرب في الميدان) إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النَّفس.." والمَقصود جهاد هواها وشَهْوتِها.
وأما تربية البنات وتوجيهها حسَب التعاليم الإسلامية فدَور الوالدين والإخوة أو بعبارة أخرى ـ دور الأسرة ـ له أهميّة كبيرة؛ لأنه كما يقال: عوامل التربية والتوجيه ثلاثة:
ـ الأسرة
ـ والمدرسة
ـ والبيئة
بحيث يجب أن يكون هناك تنسيق بين العوامل الثلاثة: أي يجب أن يكون هناك اتفاق على الخطوط العامّة للتّوجيه فلا يكون الشارع وما يدور فيه مثلاً ـ وهو جزء من البيئة ـ مختلفًا في الآداب العامة وفي سلوك الناس بعضهم مع بعض عن جوِّ الأسرة في المنزل، ولا جو المدرسة كذلك.
والقدوة الحسنة سواء في المنزل أو المدرسة لها تأثير كبير على حسن التوجيه والتربية.
والمسئولية الأولى تقع على الأسرة فإذا كانت تؤدِّي العبادات الثلاث: الصلاة، والصوم والزكاة فإنَّ أداءَها كَفيل بخلْق الجوِّ الإسلامي الذي ينشأ فيه الولد نشأةً إسلامية.(245/2)
ولكن هل هذه العبادات الثلاث تشغل جزءًا من حياة الأسرة المعاصرة اليوم؟ أكثرُ ما يشغل حياة الأسرة المعاصرة اليوم هو الحديث عن الأزياء وأفلام السينما ونُجومِها، وقصص الحياة فيها.
والمدرسة تأتي مَرتبتها في المسئولية بعد الأسرة، والمفروض أن تكون المُدَرِّسة والمدرِّس من الأمثلة في القدوة الحسنة: في أداء الواجب .. واحترام النظام وخلق روح التضحية والصبر في سبيل المصلحة العامة وهي مصلحة التوجيه السليم للشباب ولكنْ ما أكثر ما يشغل حياة المُدرِّسة والمُدرِّس مما هو بعيد عن التدريس والتوجيه، وله أثر عميق عليهما.
والبيئة وما يجري فيها تعبير عمَّا في المنزل والمدرسة، وفي الوقت نفسه صاحبة ردِّ فعل كبير على النفوس الناشئة سلبًا أو إيجابًا.
وموقف المؤمنين من إنذار الله بالعِقاب للمُخالف لهدايته في الآية الكريمة: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نارًا وَقُودُهَا النّاسُ والحِجارَةُ) (التحريم: 6). هو موقفهم مِن كل إنذار تأتي به آية مِن آيات الله في كتابه وهو وُجوب اتباع رسالة الله؛ لأنَّها الأمان والسبيل إلى رضا الله.(245/3)
12 ـ عدم التضييق على الكافرين في أرزاقهم:
لماذا يُعطي الإسلام الحرِّيّة في قَبول الإيمان؟ ولماذا لا يُضَيِّق على الرافضين للإيمان في أرزاقهم؟
يرى القرآن الكريم أن مهمّة الرسول ـ عليه السلام ـ هي في إعلان الحق وتبليغه فقط وليس مِن وظيفته حمْل الناس على الإيمان بما يبلِّغ به، يقول ـ تعالى: (وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). (الكهف: 29)
لأنّ الإنسان إذا قَبِلَ الإيمان عن مشيئة واختيار كان ملتزمًا من قِبَل نفسه بما آمن به وعندئذٍ لا يحتاج إلى رقابة خارجة عن ذاته في تنفيذ ما آمَن به وهكذا الإنسان المؤمِن له مِن ضميره ما يُراقِب عمله، بحيث يكون هذا العمل وفقًا للإيمان.
ووجود رِقابة ذاتيّة في الإنسان تدُلُّ على احتفاظِه بكرامته البشريّة وهي تلك الكرامة التي تتمثّل في أن الفرد لا يُساق ولا يُدفع من غيره إذ عندما تنعدِم الرِّقابة الذاتية ويحتاج الفرد إلى دافع خارجيٍّ نحو عمل معيّن أو نحو موقف معيّن يكون ضعيف الإرادة على الأقل والإرادة في الإنسان هي الخَصيصة المميِّزة له؛ لأنَّها تنشأ بعد إدراك وترجيح مِن عقل الإنسان نفسه.
كما يرى أن في تضييق الرزق على المُعارِض حملاً له غير مباشِر على إعلان قَبول الإيمان، أو يرى فيه على الأقل تهديدًا لحريّتِه وإرادته التي يتميّز بها الإنسان ويقول الله ـ تعالى ـ في هذا الشأن: (كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) "أي على كافر أو مؤمن" (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وللآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً). (الإسراء 20،21).(246/1)
وهكذا يحرص القرآن على مشيئة الإنسان وحرِّيّته في قَبول الإيمان وفي رفضه على السَّواء؛ لأنَّ هذه المشيئة هي الخاصة المميِّزة لطبيعة الإنسان عن طبيعة أخرى لها الحركة والنُّمو ولو أدخل الإسلام عامل الإكراه كمبدأ في حياة الإنسان ـ وبالأخصِّ في معتقداته ـ لاختلفت هداية الله عن طبيعة الإنسان، وهما أمران مخلوقان لله ومُرادان له، والله سبحانه واحد في ألوهيّته، وهو كذلك واحد في خلْقه لهذا الوجود كله؛ ولذا يستحيل أن يكون هناك تناقض فيما خَلَق، أو تعارُض فيما يُريد.
طبيعة إنسانية تتميِّز بالإرادة والاختيار.. وهداية إلهيّة تبعد الإكراه عن أن يكون طريقًا لها: أمران يمثِّلان إرادة الله في كون ولا رادَّ لمَا يُريد.(246/2)
11ـ لماذا يرفض الإسلام التشاؤم؟
طالبٌ بكلية طبٍّ بشريّ بإحدى المُحافظات يذكر أنه كان دائمًا في خلال سنوات الدراسة السابقة من أوائل المُحافظة، وكان مَحبوبًا من مواطنيه ووسط زملائه. كما يقول إنه كان من مُقوِّمات هذا الحب أنه كان متفوِّقًا في دراسته، وكان يُعاون زملاءه في الشرح والمذاكرة، كما كان يُمارس الرياضة أيضًا مع معارفه، أي أنه كان مرحًا ومتفائلاً في حياته، ولكنه منذ سَنة تقريبًا يُسيطر عليه التشاؤم، بمعني أنه لو ساعَدَ واحدًا من زملائه ثم رَسِبَ بعد ذلك يَعتبر نفسَه السببَ في رُسوبه، ولو انضمَّ إلى فريق في اللعب وهُزم هذا الفريق يَلوم نفسَه بأنه مصدر الهزيمة، وهكذا ومِن أجل ذلك يظن أنه "نحس" ومع أنه يُؤمن بالقضاء والقدر إلا أنه لا يستطيع أن يخرج من دائرة التشاؤم، ويسأل عن رأي الإسلام في التشاؤم وما يجب على المؤمن أن يفعله ليعود إلى الإيمان بالله وحده؟(247/1)
دُعِيَ المجتمع البشري على عهد الرسول ـ عليه السلام ـ إلى الإيمان بالله وحده وتَرْكِ الطِّيَرَةِ أو العِيافة؛ وهو زجْرُ الطير ومُشاورته، فكان الرجل إذا أراد سفرًا أو غيره خرَج إلى طير أو ظِباء، ويُطلق الواحد منها، فإن طار يَمينًا تيمَّن واستبشر، وإن طار شِمالاً تشاءم ورجَع. وذُكرتِ الطِّيَرة عند النبي ـ عليه السلام ـ فقال: "أحْسنُها الفأْلُ ولا تردُّ مُسلمًا" أي عن قصده "فإذا رأى أحدكم ما يَكره فليقل: اللهمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يَدْفع السيئاتِ إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم". فالمسلم يجب أن يتفاءل ولا يَنصرف عن قصده الذي قصَده بسبب تشاؤم من أمرٍ ما، وعليه أن يدعوَ اللهَ لإزالة الشرِّ الذي يُلِمُّ به.
وفي حديث عن عبد الله رضي الله عنه أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: "الطِّيَرة" وهي استخدام الطير في معرفة المستقبل" شرْكٌ" ثلاثًا تَنْفِيرًا ممَّن يَعتقد أنها تُبعد الضرَّ وتجلب النفع "وما منا إلاَّ" أي ما منَّا أحدٌ إلا يَخْطِر ببالِه شيءٌ منها "ولكن الله يُذهبه بالتوكُّل".
وكذلك دُعيَ المجتمع البشري إذ ذاك إلى ترْك استطلاع النجوم في تحديد المستقبل، ويُروَى عنه عليه السلام: "مَن اقتبَسَ عِلْمًا من النجوم" أي بادعاء أنها تُؤثر في الكون كنَجْمِ كذا يَجيئ بالأمطار ونجم كذا يأتي بالريح "اقْتبسَ شُعبَةً مِن السِّحْر، زاد ما زادَ".
وإلى ترْك الهامَة، وهي طائرٌ إذا سقط في مكان تشاءَمَ أهله.
وإلى ترك الغُول، والغُول أحد الغِيلان، وهي نوع من الجن والشياطين ـ كما كان يعتقد الجاهليون قبل الإسلام ـ تظهر للناس بصُور شتَّى تُضلُّهم عن السبيلِ وتُهلكهم.(247/2)
فربطُ مستقبل الإنسان في أفعاله وتصرفاته بحركة نوع من الطير في طيره، أو بحركة بعض النجوم، أو باعتقاد في خُرافة الجن والشياطين، أو بالصدْفة في سقوط طائر مُعين في مكان معين، كل ذلك وأمثاله كان ظاهرة اجتماعية سائدة في مجتمع الجاهلية قبل الإسلام، والحديث الصحيح هنا يَعتبِر الاعتقاد في هذه الظاهرة شِرْكًا "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" ثلاثًا، أي قالها ثلاث مرات. ...
فدعوة القرآن إلى وَحدة الألوهية دعوة إلى الاعتقاد بأن صاحب التصرُّف في الأمر، في دائرة الإنسان وفي الكوْن كله، واحدٌ لا شريك له، وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلا يُشاركه جِنٌّ ولا إِنْس ولا يُشاركه نجم ولا طير فيما يقع للإنسان في مستقبل حياته، وليست هناك صُدْفةٌ ولا حظٌّ وإنما هناك قضاء وقدَر مِن الله جلَّ جلالُه.
هناك الله والإنسان، فالله صاحب الفعل والأمر، ولا رادَّ لِمَا يفعله أو لِمَا يُريده، والإنسان بعمله وبتوكُّله على الله ـ جل شأنه ـ يجتاز الأزمات ويُحصِّل رزقه في الحياة (وآيةٌ لهمُ الأرضُ المَيْتَةُ أحْيَيْنَاها وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فمِنْهُ يَأكلونَ. وجَعَلْنَا فِيهَا جناتٍ مِن نَخِيلٍ وأَعْنابٍ وفَجَّرْنَا فيها مِن العُيونِ. لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ ومَا عَمِلَتْهُ أيْدِيهم أفَلا يَشْكُرُونَ) (يس 33 ـ 35) فهذه الآيات تُضيف عمل الإنسان إلى إرادة الله في حصول الإنسان على رزقه في هذه الحياة الدنيا، وليس معهما شيءٌ آخرُ مِمَّا تُصوره الكِهانة أو الخُرافة في زمن من الأزمنة.(247/3)
وقد ذكَر القرآن الكريم المُعوِّذتينِ، يَستعين الإنسان بقِراءتهما لدفْع القلَق النفسي أو لدفْع مَصادر الشرِّ خارج الإنسان فيمَا يُحيط به في حياته. ...
أما التوكُّل على الله فهو سنَدُ الإنسان المؤمن في المُعاونة على إنجاز ما يَعزم على إنجازه مِن أعمالٍ. والخرافة، والكهانة، والصدْفة والحظُّ، والتنجيم، وضرْب الحصَى لا مكان لها في حياة الإنسان مع الله وإرادة الإنسان نفسه. وعلى السائل أن يَستعين بالمُعوِّذتينِ وبالتوكُّل على الله في إبعاد التشاؤم عن نفسه، ولْيَعُدْ إلى تفاؤله، فالتفاؤل هو ما طلبه الرسول ـ عليه السلام ـ عندما سُئل عن الطِّيَرة، وهي مصدر التشاؤم، إذ قال: "أحسَنُها الفأْلُ".(247/4)
ب ـ لي أمٌّ وإخوة لا يريدون منِّي أن أقف بجانب الحق فإذا أصررْتُ دَعَتْ عليَّ أمي بأن يُصيبَني الله بالمرض وقد أُصِبْتُ الآن بالمرض.
فهل تلك الإصابة قضاء وقدَرًا؟ أم نتيجة لاستجابة الله لدعائها؟
غريبٌ أن تُصِرَّ الأمُّ على أن لا يقف ابنُها بجانب الحقِّ؛ إذ المشاهَد ـ وهو الطبيعيُّ ـ العكس: أنَّها قد تُسَرُّ كثيرًا إذا ثبتَ أن هناك حقًّا قائِمًا وأنَّ ولدها يُسانده، وغريب كذلك أن يُجمع الإخوة على معارضة أخ لهم في مناصرته للحق.. غريب أن لا يقف واحد منهم ولو مرة واحدة معه بجانب الحقِّ المُدَّعَى.
ولذا قد يكون الحق الذي يُؤيده السائل ويشكو مِن مُعارَضة أمّه وإخوته له فيه ليس حقًّا في واقِعه وإنما هو تصوُّر عنده بعيدٌ عن الحقِّ، تحوَّل في تقديره هو إلى ما يسمِّيه حقًّا وأصَرَّ عليه.
والمرض الذي أُصيب به ـ ولم يُحدِّده السائل في سؤاله ـ يجوز أن يكون متّصِلاً بسوء التقدير، وسوء التوهُّم وسوء التخيُّل فهو مرض نفسيٌّ أو عقلي.. وليس لدعاء الوالدة دخْلٌ فيه، وإنَّما يعود إلى الظروف التي نشأ فيها أو إلى الوضع الأخير إلى الله، وإلى قضائه وقدره.
والوالدة مهما غضِبت فلا تتغيّر نفسُها من ابنها إلى حدِّ أن تتمنَّى مرضه.. وبالخصوص إذا كان مرضًا نفسيًّا أو عقليًّا؛ لأنه من الأمراض التي يطول أمرها.
وما ورد في القرآن من قول الله ـ تعالى ـ: (وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر 60) .. يعني به سبحانه أن مَن يتَّجه إليه وحده بعبادته فالله يغفر له أخطاءه الماضية قبل الإيمان، ويُثيبه بثواب المؤمنين فالدعاء هو عبادة الله وحده والاستجابة هو الغفران والثواب بدليل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك في الآية ذاتها: (إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) "أي صاغِرين" (غافر 60) .. فالمُستكبِر عن عبادة الله هو الذي يَكفر به ويُعرض عن رسالته.(248/1)
ويجب على المؤمن بالله أن يُنحِّي في حياته كلَّ تصوُّر يجعل لإنسان ما أو لموجود ما بفعله أو بدعائه تأثيرًا على حياته الصِّحّية أو مرضه، في غِناه أو في جاهه، أو في ضرره أو منفعته فقد كان القرآن حريصًا كل الحرص من أول الأمر على أن يُبطِل الكهانة وتَدخُّلَ الكُهّان في حياة أتباعهم، كما كان شائعًا على عهد ما قبل رسالة المصطفى عليه السلام.
فقد كان الكُهّان يتدخلون بالحِلِّ والحرمة في أموال أتباعهم التي تتمثل آنذاك في الثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية، رغبةً في الحصول على منفعة شخصية منها: (وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) (الأنعام 136).
فجاء تكذيب الله فيما طلبه من الرسول عليه الصلاة والسلام ـ أن يُعلنَه لهم على رءوس الأشهاد: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ). (الأنعام: 150)(248/2)
19ـ عبادة الله على حرْف
آنسةٌ بائسةٌ معذبة بإحدى القرى، تشكو حظَّها السيئ في الحياة، رغم أنها تُصلي وتصوم الفروض والنوافل منذ كان سِنُّها خمسة عشر عامًا، وهي الآن في الثالثة والعشرين.
وتقول: إن حالتها كانت عادية، وكانت سعيدة بما تتقرب به إلى الله مِن عبادات، ولكن ابتدأت تتغيَّر منذ أن تزوَّجت أختٌ لها وهي تَصغُرها بثماني سنوات: "فيئستُ من حياتي ولم أتذوق سوى المُرِّ والهوان، بسبب كلام الناس، فقاطعت الصلاة والصوم لمدة شهر، ولكن سُرعان ما رجعتُ لعقلي وأُؤدي الفرائض كما كنت أفعل" ثم تقدم لخِطبتها شابٌّ، ولم يكن يَعرفها، حتى إذا رآها استقبحَ شكلها ورفَض أن يتزوَّجها. وأعلَنَ "أنها وِحْشَة". وهنا أقسمتْ على المصحف بأن لا تتذوق الطعام والشراب لمدة عشرين يوْمًا حتى تتخلَّص من حياتها. ولكنها أضربت لمدة يومين فقط ولم تستطع أزْيد من ذلك وتسأل عن كفَّارة هذا اليمين. وتعود مرة أخرى وتسأل: لماذا خلَق الله ـ سبحانه ـ أخواتها البنات، وهن ثمانٍ، جميلات وهي قبيحة الشكل؟ مع العلْم بأنهنَّ جميعًا لا يُؤدينَ فريضةَ الصلاة والصوم، وأن أعمارهنَّ تتراوح ما بين اثنتي عشرة وسبعٍ وعشرين، لماذا هي تعِسة؟ ولماذا هنَّ مَحظوظات؟ ما السرُّ في هذا؟(249/1)
السائلة يئست من الحياة مرةً عندما تزوجت أُختها الصغرى، وانقطعت عن الصلاة والصوم، ربما باعتبار أن العبادة لم تُحقق لها هدفها في الحياة. وحاولت مرة أخرى الانتحار بالإضراب عن الطعام والشراب، عندما رُفضت خِطبتها واستُقبح شكلها. وتَنْعى حظَّها في الحياة؛ لأنها لم تكن جميلةً كأخواتها الثماني؛ ولأن عبادتها لله ـ سبحانه ـ لم تكن ذا عوَضٍ لها، فتُبلغها هدفها من الزواج. ...
والزواج في حياة البنت المسلمة في مجتمعاتنا المعاصرة هدف رئيسي لها، تسعى إليه سعيًا مباشرًا أو غير مباشر، فإن مارست التعليم والتحقت بكليات الجامعة، وإن مارست العمل خارج المنزل واختلطت بغير المحارم، فلكي تُحقِّق هدفها الأول من الزواج. البنت المسلمة من تقاليدها أن تُحافظ على عفَّتها، وأن تعتز بأنها عذراء عندما تُزفُّ إلى زوجها. واحتمالها فترة المُراهقة بعيدةً عن العلاقة الجنسية يجعلها مُتطلعة إلى الزواج على أنه هدف أصيل في حياتها، تنسج حوله أمانيها، وتُعظم شأنه، بحيث يُصبح مصدر خيالها الذي رسمه مستقبلها.
وبموقف السائلة من الانقطاع عن العبادة عندما تزوَّجت أختها، ومِن محاولتها الانتحار عندما رُفضت خِطبتها، ومِن تساؤلها عن السرِّ في أن أخواتها مَحظوظات، عداها هي، يُحس القارئ لرسالتها: أنها تعبد الله على حرْفٍ، أي تعبده غير مُتَمَكِّنة من عبادتها، أي تعبده ليس لغاية العبادة في ذاتها، وإنما لترقُّب مَنفعة أو لدفعِ ضررٍ عنها. فهي ربما ترجو مِن عبادتها هنا: أن يُعوِّضها الله بها عن جمال الخِلْقة فيُوفِّقها لزوجٍ يُسعدها كما يوفق أخواتها بسبب جمالهن لأزواج يحملون مسئولياتهنَّ في الحياة.
وقد جاء في كتاب الله فيمَن يعبد الله على حرْفٍ، قوله: (ومِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ(249/2)
على حرفٍ فإنْ أصَابَهُ خيرٌ اطمأنَّ بهِ وإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ "أيْ ما يُفتَن ويُبتلَى به مِن أحداث الحياة" انقلبَ على وجْهِهِ خَسِرَ الدُّنيا والآخِرَةَ "أما أنه خسر الدنيا فلأنه لم يصل إلى المنفعة التي يترقَّبها من عبادته، وأما أنه خسر الآخرة فلأن عبادته لم تكن لله وإنما كانت للشيطان" ذلكَ هوَ الخُسرانُ المُبِينُ). (الحج: 11). ...
فهذه السائلة انقلبت على وجْهها فانقطعت عن الصلاة والصوم، وحاولت الانتحار ـ وهو يأس مِن رحمة الله ـ وتحاول أن تعرف سرَّ الله في أن خلَقها قبيحة الشكل، دون أخواتها. وهو ينطوي على الاعتراض على خلْق الله.
إن العبادة لله يجب أن تكون خالصةً للمولى ـ جلَّ جلالُهُ ـ فهي ليست تجارةً ولا وَسيلة لمَصلحة شخصية، ولا ينبغي أن يَتغنَّى بها الإنسان، ولا يَمُنُّ بها على الله ـ سبحانه ـ فأداؤها إنْ كان لمَصلحة فلمَصلحة مَن يُؤدِّيها. وهو أن يكون صاحب استقامة في سُلوكه، وصاحب مُشارَكة ومَعونة في معاملاته.(249/3)
وعلى أية حال فلا اعتراضَ على قدَر الله، عندما خلَق السائلة ـ كما تقول ـ قبيحةَ الشكل، بينما خلَق أخواتِها الثماني جميلات المنظر. إذْ ربما قُبْح الشكل يتحمَّله مَن خلَقه الله قبيحًا في وجْهه، ولا يتحمَّل مَرَضًا يُعذِّبه ولا يَبرَأ منه إلا بالموت. فلو ابتُليتِ السائلة بمثل هذا المرض لمَا تزوَّجها أحدٌ، ولمَا تمنَّت أن تكون على قيْد الحياة لحْظتينِ معًا. ...
والسائلة لا تدري جانب الخير في قدَر الله لها، وإنما الأيام ستكشفه. وكلَّما صبَرت، وكلَّما استسلمت لقضاء الله كلَّما اطمأنت نفسُها وكلَّما ظهر لها اليُسر بعد العُسر، وكلما انفرجت أزمتها النفسية وحُلَّت عُقدتها في الزواج. والناس ليسوا أصحاب ذوْق واحد ولا تقدير واحد، فبِجانب مَن يَنفر منها لقُبح شكلها كما تدَّعي، هناك مَن يُقبل عليها في راحة نفسية؛ لأنه يقدر فيها شيئًا آخر غير جمال الوجه: يُقدر فيها عُذوبة الصوت، يُقدر فيها الحِكْمة في الرأي، يُقدِّر فيها قِوام البدن، يُقَدِّر فيها جانب العطْف والرحمة، يقدر فيها حنان الأم المُقبلة، يقدر فيها الاستعداد للمُشاركة في الحياة، خيرها وشرها على السواء. ...
وجمال الوجه ليس كل شيء. فقد تكون صاحبة الوجه الجميل من أقبح خلْق الله في مخْبرها، وفي سلوكها، وفي مُعاملتها، وفي نظرتها للحياة. وقد تكون أنانية في طباعها، ومُزعجة في عاداتها، وعندئذ لا تصلُح زوجةً، وعندئذ يتحوَّل جمال الوجه إلى أمر كَرِيهِ المَنظر لمَن يُعاشر صاحبته. ...
والله ـ سبحانه ـ قد أعطى حتْمًا صاحبة الوجه القبيح نِعمةً فأكثر مِن نعمه التي تجذب القبول لها والسعْي للتقرُّب منها. والسائلة عليها أن تُفتِّش في نِعم الله عليها، فستجد جملةً منها تُعوِّض قُبْحَ الشكل وتجعلها مُطمئنة إلى مستقبل سعيد بالزوج، وبالولَد معًا.(249/4)
94 ـ دور مَن لا يستطيع مُباشرة القتال
ما الدور الذي يجب أن يُؤدِّيه مَن لا يَستطيع مُباشرة القتال، ومَن ليس لدَيْه مالٌ في الإسهام في نَصْر المُؤمنين على أعداء الله؟
الجهاد بالمال.. وبالنفس، أو بكِليهما في سبيل الله واجب عَيْنِيٌّ على كل مَن يستطيع بالنفس وبالمال، ومعنى أنه واجب عينيٌّ: أنه يَتعيَّن على القادر على القتال، وعلى المالك أن يُسهم مُباشرة بنفسه، وبماله في نصْر المؤمنين والإسهام بهذا وبذاك هو التعبير عن إيمان المؤمن: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ "وهي النصر في الدنيا على الأعداء.. ورضوان الله لهم في الآخرة" وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التوبة: 88).
ومَن لم يستطع القتال، أو لم يَملك المال مِن المؤمنين تكون مُساهمته في الجهاد:
أولاً: بنُصح القادرينَ مِن المؤمنينَ على أداء واجبهم، نُصْحًا خالِصًا لله ولرسوله.
وثانيًا: بالكفِّ عن سَماع الإشاعات المُغرضة التي يُروِّجها العدو، وتحذير الآخرينَ منها.
وثالثًا: بإيثار المُقاتلين في ميدان القتال بما يُعينهم على استمرار قتال الأعداء حتى لا تكون فتْنةٌ، وتَقبُّلهم الحرمان في سبيل ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ "أي ليست عليهم تَبِعَةٌ ولا مُساءلة" إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ). (التوبة: 91)..
"أي إذا قاموا بواجب النُّصْح في سبيل الله ورسوله، والنُّصْح في سبيل الله هو إبعاد الضرر والأذَى عن طريق المُقاتلين ويتمثَّل ذلك في حَضِّ القادرين على المُشاركة في القتال، وعلى بذْل المال، وإبعاد الشائعات المُغرضة وتَحمُّل الحرمان مِن أمورٍ كانت مُيَسَّرَةً لهم في حياتهم اليومية العادية"...(250/1)
وعلى ذلك فقلوب مَن لا يَستطيعون الجهاد بالنفس، وبالمال، من المؤمنين، يجب أن تُشارك إخوانهم القادرين في ميدان القتال، أو على بذْل العَطاء: بالدعاء لهم بالنصر، وبإعلان فضْلهم على كافَّة إخوانهم الآخرين المُشاركين لهم في الإيمان: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 95).(250/2)
116 ـ ما رأي الدين في الذين يدَّعون الاتصال بالجن، ويُحضِرُونهم في جلسات مُظلِمَة خاصّة، يُخبِرُون بالغَيْب، ويُعالِجُون المرضى. وكثير من الجهات يستمعون إليهم. فما الحكم؟
الجواب:
لا يُشكُّ أن هناك بين الناس قوًى خفيّة تعمل في ظلام المجهول فتسترق السمع.. وتفرِّق بين المرء وأخيه.. والزوج وزوجته.. والولد وأبيه.. وتُوسوس في صدور الناس بما يسيء إليهم وإلى غيرهم، من غير أن تُعرَف، ومن غير أن ينكشف أمرها. وهى جن لأنَّها مستورة ومتخفِّية، وليست معهودة بين الناس. وهي إذ تَسْتَرِق السمع بين الناس تعلم غَيْبَهم.. أي تعلم ما يُقال عن بعضهم بعضًا.
ولكن هذه القُوَى الخَفِيَّة لا تعلم غيب السماء.. لا تعلم غيب الله، ولا ما في علمه. ولذا لا تَعرِف مصائر الناس ولا أقدارهم.. ولا زمن الأحداث الكونية ومكانها.. ولا ما تنتهي إليه المُجتَمَعات في سُقوطها أو قيامها.
وما يتحدث به المُؤَرِّخون.. والاجتماعيُّون.. والسياسيون.. والاقتصاديّون عن أحداث المجتمعات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية.. وما يتحدث به كذلك علماء التحليل النفسي عن مستقبل الأفراد في ضَوْء تاريخ كل فرد في سلوكه وتصرفاته: هذا وذاك من باب الاستنتاج والتخمين. وإن وقع ما يتحدَّثون عنه فهو من باب الصُّدفة، وليس عن علم مؤكَّد.(251/1)
وعلم السماء ـ أو علم الغيب المنسوب إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يعلم به إلا رسول الله ملَكًا كان أو إنسانًا. وعندما يرسل به الرسول ليبلِّغ للناس في رسالة الله يتحفظ تحفُّظًا شديدًا، بحيث يؤمن عدم تسرُّبه لموجود ما، حتَّى يعلم ويعرف بين الناس جميعًا، وبالقرآن انتهت رسالة الله، وأصبح علم الغيب ما يدوِّنه كتاب الله نفسه، وانقطع عن الرسل إنسًا كانوا أو مَلائكة. يقول الله تعالى: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفَهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) (الجن: 26ـ 28).
وقد أوضح القرآن بعد ذلك استحالة أن تعلم الشياطين ـ كما كان يدَّعي الكهّان ـ علمَ الغيب أو علم الله، في سورتين من سوره. في سورة الشعراء في قوله تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ـ ما نزلت الشياطين بالقرآن، وهو من علم الله ـ ومَا يَنْبَغِي لَهُمْ ـ أي ما يُصرَّح ولا يجوز للشياطين أن تنزِل بالقرآن كما كان يدَّعيه الكُهّان، على نحو ما كانوا يدَّعونه بالنسبة لكهانتهم ـ وَمَا يَسْتَطيعونَ ـ أي ولا يقدرون كذلك على أن تكون لهم صلة ما بعلم الغيب ـ إنَّهم عن السمع لَمَعزُولونَ) (الشعراء: 210 ـ 212) فهم معزولون تمامًا عن سماع علم الغيب في أيَّة صورة ما، وفي أي وقت، وفي أي جيل. وفي سورة الصَّافّات أو الملائكة في قوله تعالى: (لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلأِ الأَعْلَى ـ أي لا يمكن أن تُمكَّن الشياطين من الاستماع إلى العالم الأعلى وهو العالَم الإلهي ـ ويُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ) (الصافات: 8) وهذا كناية عن مطاردتهم.. وبالتالي عن عدم تمكُّنهم من التسمُّع.(251/2)
والقرآن بنفيه ما يدَّعيه الكُهّان من صلة الشياطين بعلم الغيب يبدِّد خُرافة كانت شائعة ومُسيطرة على عقول الناس قبل بَعْثَة الرسول ـ عليه السلام ـ وكان الكُهّان يحترفون بهذه الخُرافة، كما يحترف الآن مَن يَدَّعُون الاتصال بالجِنِّ في وقتنا الحاضر، كما جاء في سؤال السائل.
والقرآن إذ يُبَدِّد هذه الخُرافة، ويُعلِن كَذِبها ويُنَفِّر الناس منها في قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وأَكْثَرُهُمْ كَاذِبونَ) (الشعراء: 221-223). أي وأكثر الكُهّان كاذبون، بالإضافة إلي ما يُلقَى إليهم من كذِب. لا ينتظر أن تُمحَى من غير رَجْعة من نفوس الناس واعتقادهم، طالما في المجتمعات البشرية بُسطاءُ، يعيشون على الوهم في التصوُّر، أكثر ممّا يعيشون في واقع الحياة. وتلك سنَّة الطبيعة البشرية يتفرَّق فيها الناس بين مَن يعتَقِد اعتقادًا سليمًا.. ومَن يعتقد بالخُرافة، كما يتفرَّقون بين مؤمن بالله.. وكافر به.(251/3)
92 ـ صِلةُ رمضان بنَصْر المؤمنين
ما صلة رمضان بانتصار المؤمنين على أعداء الله:
في رمضان من السنة الثانية مِن الهجرة انتصرَ المسلمون في غزوة "بَدْرٍ" شمال المدينة، وقد كان المسلمون قلَّة، ولكنها قلة تَفوَّقت على الأعداء الكثيرين بإيمانها.
وفي رمضان مِن السنة الثامنة مِن الهجرة أيضًا انتصر المُسلمون في فتح مكة، وقد كانوا كثْرة إذْ ذاك، ولكن لم تُفارقها قوة الإيمان، ولا رحمة المؤمنين بالله.
وكان نصر المؤمنين في بدر: بدايةَ نصرٍ لهم على أعدائهم الماديين.. كما كان النصر في فتح مكة خاتمةَ نصر لهم على عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبهذا النصر الثاني أُعِيدتِ الكعبة لإمَارة المؤمنين وحدهم، ورجع المُهاجرون إلى أوطانهم وأهلهم، وأمِن المؤمنون على استقرارهم في دِيارهم بمكة وحُرِّمَ دُخولها على غير المؤمنين.
وسوف لا يَلحقهم أذًى أو ضررٌ، يُهاجرون بسببه مرة أخرى، كما هاجروا منها مِن قبلُ إلى المدينة، أو يَثْرب.
ولكن لرمضان صِلة أخرى بانتصار المؤمنين على أعداء الله وهي أن رمضان في صومه يُؤهِّل المؤمن إلى تَحمُّل المَشاقِّ عند القتال.. ويُذكِّره بالله ـ جل شأنه ـ الذي يتقرَّب إليه بالصيام كما يتقرب إليه بالجهاد في سبيله، وهو سبيل ردِّ الظلم والعدوان، لإفساح المجال في حياة الإنسان لعيشةٍ أفضل، وهي عيشة المُطمئن المُكرم، على نحو ما كرَّمه الله في خلْقه.
فالصوم عندما فُرض على المؤمنين لم يُفرض عليهم كعُقوبة؛ لأنه يقوم على الحرمان ممَّا تَشتهيه النفس. وإنما فُرض للتدريب على الصبر، وتحمُّل الشدائد والأزَمات، عندما تُصيب الإنسان في غير رغبة منه في وقت مِن الأوقات.(252/1)
وكما أن الجندي في إجادته لحَمل السلاح، وحُسن استخدامه إيَّاه، في حاجة إلى التدريب، ومُعاودة التدريب المرَّةَ بعد المرة الأخرى في حياته التي يَعيشها، كذلك هو في حاجة ـ وربما في حاجة أشدَّ ـ إلى تدريب الذات على الحِرْمان مِن المُشتَهيات، وتكرار هذا التدريب، حتى يكون أكثرَ استعدادًا في حياته المُقبلة، على تقبُّل الحِرْمان لو فُرض عليه.. وتحمُّل المَشقَّة لو وَاتَتْهُ مُكْرَهًا.
كما فُرض الصوم لتكوين إرادة قوية لدَى الصائم وقُوة إرادة الصائم تبدو في أنه هو الذي يُباشر الصوم، وفي الوقت نفسه يُراقب سَيْرَ الصوم لدَى ذاته. فهو الصائم، وهو الرقيب كذلك على الصوم ونجاح المُقاتل في قتاله لا يتوقف على اشتراكه في القتال مع زملاء له.
وإنما قبل المشاركة في القتال: أن يكون هو المُراقب لأدائه القتال مع المُشاركين له، أي أن يكون الباعث على القتال لدَيه باعثًا ذاتيًّا، يُقبل عليه في عزمٍ وتصميم، وليس مُساقًا أو مُكرهًا على أداء نَصيبه فيه وما تقوم به الذات عن اختيار وتَقبُّل إراديٍّ لابد أن يكون له أثَره الإيجابي في حياة المُباشر له.
فشهر رمضان كان شهرًا مُباركًا على عهد الدعوة الإسلامية: في قيام مُجتمعها.. وفي استرداد مَوْطنها.. وفي تأمينه مِن عدو الله إلى يوم الدين.
وهو بما يقع فيه مِن صيام يَتصل بعَزيمة المُقاتل، وبِدُرْبَتِهِ على احتمال المَشقَّة والصبر على مَكاره القِتال.(252/2)
113ـ الشكُّ والوَسْوسة:
آنسة من إحدى المحافظات، تشكو من مسألتينِ:
المسألة الأولى: أن أختها التي هي أصغر منها خُطبت وستُزفُّ قريبًا إلى زوجها، بينما هي تبلغ من العمر الآن السابعة والعشرين عامًا، وتعمل بمُؤهل جامعي، وليست جميلة، ولكن ليست دميمة أيضًا: ولم تُخطب بعد ولا يُؤلمها ـ كما تدَّعى ـ أنها لم تُخطب حتى الآن؛ لأنها تعتقد أن ذلك قدَر مِن الله، ولكن الذي يُؤلِمُها هو سُوءُ تصوُّر مَن حولهاـ وبالأخصِّ زميلاتها في العمل ـ لوَضعها القائم، وهي شديدة الحَساسية، وتتأثَّر بالجو الذي يُحيط بها، ومِن أجل ذلك تَعزل نفسها عن الأُخريات ولكنها، كما تقول: لا تَستطيع أن تعيش وحْدها وفي عُزلة عن الناس لفترة طويلة.
والمسألة الثانية: أنها تَذكُر: أنها لوَّامة: أي تَلُوم نفسها كثيرًا إذا تصرَّفت تصرُّفًا ما، ولو كان ما فعلتْه هو الخير في ذاته، فهي تُراجع نفسها وتشكُّ فيما فعلتْه، وأصابها مِن أجل ذلك: مرض "الوسوسة" والأمر الذي يُقلقها الآن كما تذكر: أنها لا تُركز وهي تُصلي في جلال الله، وإنما تَعرض في صلاتها لكلِّ ما يدور في حياتها، فصلاتها موضع الْتقاء الأحداث في حياتها، فهي ـ كما تذكر في ختام رسالتهاـ "فأنا موسوسة جِدًّا، حتى في تصرُّفات مَن حولي معي أُحَلِّلها من جميع النواحي، وأنا لا أعرف: أهذا غضبٌ مِن اللهِ عليَّ، أمْ هذا بلاء مِن الله يَمتحنُني به)..(253/1)
هاتانِ المسألتان اللتان تشكو منهما الآنسة السائلة هنا: تَرتبط إحداهما بالأخرى، وكلتاهما ناشئتانِ عن صدْمة أو هزَّة نفسية عندها، إذ لا شكَّ في خطبة شقيقتها التي هي أصغر منها، قبلها: أثَّرت في نفسها تأثيرًا قوِيًّا، فهي ربما كانت تعتقد أن حصولها على مؤهل جامعي.. وأن كسْبها من مُباشرة العمل في الخارج: هذا وذاك: يجعلها مُميزة ومتفوقة في طلب الشبان لها، أكثر من شقيقتها التي خُطبت بالفعل، فكثيرات من المُترددات على الكليات الجامعية يتردَّدْنَ عليها كسبيلٍ إلى التعرُّف على الشباب.. ثم الزواج، وكثيرات مِن المُتخرِّجات اللاتي يلتحقنَ بالعمل الخارجي يَقصدْن مِن الالْتحاق بالعمل جذْب الفِتيانِ إليهنَّ، وإغراؤهم على الزواج بهنَّ، فإذا السائلة تردَّدت على الكلية، ثم حصلت على المُؤهل الجامعي.. ثم حصلت على العمل كذلك بناءً على هذا المؤهل.. ثم تجاوزها الخاطب إلى شقيقتها فإنه عندئذ يحصل لها خيبةُ أملٍ: ثم تزداد خيبة الأمل في تصوُّرها إذا هي تذكرت أنها تبلغ الآن: السابعة والعشرين مِن عمرها، أيْ أنها اقتربت مِن أن تصير: "عانس".(253/2)
هذه الصدمة النفسية جعلتْها تشك في نفسها.. وتُعيد تقييم نفسها، لتَقِف على النقص فيها كشابَّةٍ: أفي بدَنها وفي قامتِه عيْب؟.. أفي وَجْهها ما يَصدُّ النظر إليها.. أفي نُطقها، وفي صَوْتها، وفي أسلوب حديثها ما يُنفِّر المتحدث معها؟.. أفي مِشيتها وحركاتها ما لا يَرضَى عنه المشاهد لها؟.. كل هذا، وغيره، أعادت تقييمه وخرجت بحُكم: هو أنها ليست جميلة، وليست دميمةً أيضًا، وهو حُكم تُرضي به نفسها ولكنها لا تَقنع به؛ لأنها إذا كانت كذلك لأقبل عليها الشاب، فلدَيْها من المُغريات ما يُشجع على خِطبتها، ورغم أنها متوسطة في خلْقها. ...
استمر الشك معها، وحول ذاتها. ورَضيت الآن بالحكم الذي استخلصته من تحليل ذاتها، وانتقلت إلى الأُخريات في مُحيطها في العمل، فهي ترى في نَظرتِهنَّ إليها نوعًا مِن السخرية أو التهكُّم، أو على الأقل نوعًا من عدم الاهتمام بها فتغضُّ نظرها، وتُشيحُ به عنهنَّ، وذلك سبب عُزلتها..وسبب تساؤلها: كيف تعرف مَن حولها وتفهمهم: إنها ليست بحاجة إلى الزواج حتى يأذَن الله! إن السائلة الآن لا تستطيع بعد أن شكَّت في نفسها، وفي مَن حولها أن تُركِّز تفكيرها في الصلاة! إن شكها ملَك عليها جميعَ المنافذ التي تُطل منها على العالَم فأصبحتْ "مُوَسوسة" والوسوسة زيادة الشكِّ، وإعادته المرة بعد الأخرى في الأمر الواحد، وهو مرض إنْ تمكَّن مِن نفس الإنسان أصابَه الهوَس، أو أصابتْه لَوْثَةُ الجُنُونِ.
...
وهي قلِقةٌ مِن أجْل أن صلاتها أصبحتْ رُكوعًا وسُجودًا لا رُوح فيها، ولا تركيز في جلال الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ هي قلِقة بسبب ذلك؛ لأنها تعتقد أنه سيُغضب الله وهنا يكون غضبه في تصورها، سببًا لعدَم حلِّ أزْمتها، وأزمتها في الحقيقة: أنه لم تتزوَّج حتى الآن.. وتخشى أنْ يفوتها الزواج وتَظلَّ عانسًا بقيةَ حياتها.(253/3)
إن السائلة مَعذورة: في أنْ وصلت إلى الشكِّ والوَسْوسة.. وبالتالي إلى نقْص وزْنها مِن كثْرة التفكير.. هي مَعذورة؛ لأن تربية الفتاة في مُجتمعاتنا تَقُودها إلى تحديد الغاية النهائية لأية فتاة: بالزوجية والأمومة.. وهذه الغاية وإنْ كانت طبيعية لكن الأسلوب في إبرازها أمام الفتاة أسلوب فجٍّ.. ومُبكر؛ فهي تُوجَّه منذ الصغَر إلى "الفرْحة الكبرى" فتكون عروسةً يومًا ما، ويجمع لها من لُعَبِ العرائس ما يَخلُقُ عندها وعْيًا قوِيًّا، ورغبة مُلِحَّة في أن تكون زوجةً وأُمًّا يومًا ما، وقريبًا جِدًّا، وهنا يُسيطر عليها خاطرَا الزوجية والأُمومة والمُراهقة، وتُمارس أحلام اليقظة كثيرًا، وتنتظر مِن وقت لآخر: قُدوم الخطيب أوالتعرُّف عليه على الأقلِّ.
... والسائلة إحدى الفتيات التي عاشت طويلاً في فترة أحلام اليقظة، ولو أنها حَقًّا كانت مؤمنةً بالله إيمانًا صادقًا لتركتِ للقدَر مكانًا في حياتها، وتخلَّت مُؤَقَّتًّا عن هذه الأحلام.. وشغلت فراغها بالقراءة المُستمرة، وركَّزت على أن ما في قدَر الله سيأتي حتْمًا: اليوم أو غدًا، فإنْ تأخَّر إلى ما بعد غدٍ كان لمَصلحةٍ حتْمًا تعود عليها، وبذلك تهدأ وتستريح نفسيًّا فما أجمل الاعتماد على الله.
... إن السائلة تُؤذِي نفسها بكثرة الشك والوسوسة، وأولى لها أن تقف وأن تستعيذَ بالله من الشيطان الرجيم، وهو شيطان هواها الذي يتمثَّل في أمانيها وخيالاتها وأحلامها في يقظتها، إذا آمنت صدْقًا وحَقًّا بأن ما يُريده الله لها هو الخير لها في حياتها فلْتَطمئن ولتُقم الصلاة بنفسٍ هادئة راضية، والله يَهديها إلى ما يُنجيها مِن عذاب الشكِّ إلى اليقين.(253/4)
14ـ الطاغوت
عامل بإحدى الوزارات ومُقيم شعائر بأحد المساجد بإحدى المحافظات يسأل:
ما الطاغوت في عصرنا حتى نَكفر به؟
ما الآلهة التي تُعبد من دون الله؟
ما الأرباب؟
ما الوثن أو الصنم؟
الطاغوت
نقرأ قول الله تعالى: (لا إكراهَ في الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فمَن يَكْفُرْ بالطاغُوتِ ويُؤْمِنْ باللهِ فقدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لهَا واللهُ سميعٌ عليمٌ. اللهُ وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ والذينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ أُولئِكَ أصحابُ النَّارِ همْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 256 ـ 257) فالقرآن الكريم يضع هنا "الطاغوت" في مُقابل الله سبحانه. والله ـ جلَّ جلالُهُ ـ مصدر الخير والأمان والحماية والقوة والاستقامة للإنسان المؤمن به. والطاغوت في مُقابِله، إذًا هو مصدر الشر والظلم والاعتداء والشرك بالله، فكلُّ ما يَنطوي على شرٍّ أو ظُلم أو اعتداء طاغوت مِن الطواغيت. فالإنسان الشرير أو الظالِم أو المعتدي "طاغوتٌ". والمذهبُ الهدام المُقوِّض لرسالة الله "طاغوتٌ". والجماعةُ المُخرِّبة التي تُباشر الفحشاء والمنكر وتُزيِّنه للناس "طاغوتٌ". والهوى والركونُ إليه في تفْويت الحق وإبعادِه عن صاحبه "طاغوتٌ". وعبادةُ غير الله من إنسان أو غير إنسان على هذه الأرض "طاغوتٌ". وتأْليهُ الزعماء والحكام في المجتمعات الإنسانية صورة من صور الطاغوت، وهكذا الخروج عن خط الاستقامة الإلهية يدخل في الطاغوت.(254/1)
والإنسان عادةً يَطغَى إذا ظنَّ أنه استغنَى بعَصبيته أو بقُوته المادية أو بماله أو بصِحته وعلمه عن مولاه ـ جلَّ جلالُه ـ فيعبد المال والعصبية ولا يَعبد الله، ومعنى عبادته للمال والعصبية أن يجعل اعتماده على أيٍّ منهما، دون أن يعرف الله ويتوكل عليه، فيَظلم في سبيل المال، ويَعيث في الأرض فسادًا عن طريق العصبية. ...
والإنسان في حياته مُخيَّر بين أن يكون مِن عباد الله مؤمنًا به، وبين أن يكون من أنصار الطاغوت والظلم والفساد والعُدوان، بين أن يكون مِن أولياء الله أو أولياء الشيطان (لا إكْراهَ في الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) ومَن يكون من أولياء الله ـ أي من المؤمنين به ـ يعيش في نور الهداية بعيدًا عن الانحراف في السلوك والاعتقاد. ومَن يكفر بالله ويكون من أولياء الطاغوت ـ أي من أتباع الهوى والشهوات ـ يعيش في ظُلمة الأهواء إن تصرَّف أو اعتقد. (الذينَ آمنوا يُقاتلونَ في سبيلِ اللهِ) (النساء: 76) أي يَسعَونَ ويُجاهدون في تحقيق ما جاءت به رسالة الله (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) أي: يَسعَونَ ويجاهدون في سبيل الظلم والفساد والاعتداء، أي يؤيدون كلَّ مسعًى يوصِّل إلى الباطل ونُصرة الباغي في بغيه وعبثه.
والطاغوت أو الطغيان إذًا مرحلة مُمكنة في حياة كل إنسان، يُمكن أن يصل إليها إذا خدعته قوته في المال والرجال، أو اغْترَّ واعتزَّ بغير الله، أو اعتقد أنه إلهُ الأرض يَستقلُّ وحدَه بالسيادة فيها، على نحو ما تحكي هذه الآية مِن تصوُّر فرعون عن نفسه (وقالَ فرعونُ يا أيُّها المَلأُ ما عَلِمتُ لكم مِن إلهٍ غَيرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هَامَانُ علَى الطِّينِ فاجَعَلْ لي صَرْحًا لعلِّي أَطَّلِعُ إلى إلهِ مُوسَى وإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ) (القصص: 38).(254/2)
الآلِهة والأرباب ...
والآلهة جمع إلهٍ، والأرباب جمع ربٍّ، وهم أولئك الذين يُشرَكُون مع الله في العبادة. وهم الذين يُشرِكهم ضعاف الناس في صفة الأُلوهية مع المولى جلَّ جلالُه. ...
جاءت رسالة الله في كل مرة، ومع كل رسول أُرسِل بالدعوة إلى وحدة الألوهية حتى نُزول القرآن الكريم (قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبرُ شهادةً قُلِ اللهُ شَهيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكمْ وأُوحِيَ إليَّ هذا القرآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بهِ ومَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هوَ إلهٌ واحدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام: 19) فقد كُلِّف الرسول محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بإعلان اعتقاده بوَحدة الأُولهية وببراءته من الشرك، أي كُلِّف بإعلان أن الله واحد، وهو الكامل كمالاً مُطلقًا في الوجود، وينفي أن يكون هناك في الوجود شركاء له.
وقضية التوحيد في الألوهية هي جوهر الرسالة إذًا. والرسول كان لا يُرسَل من قِبَلِ الله في أيِّ جيل وفي أيِّ مجتمع إلا إذا ساد الشركُ بين الزعماء في المجتمع، وهنا يأتي الوحي برسالة الله على الأرض لإعلان دعوة التوحيد. ودين الوحدة في الألوهية هو الإسلام، والذين يُؤمنون بالوحدة هم المسلمون. والإيمان بوَحدة الأُلوهية من شأنه جمعُ الصفوف وجمعُ الكلمة بين المؤمنين، كما من شأنه إضعافُ الصراع النفسي الداخلي في الفرد الواحد بين شهوته وغرائزه من جانبٍ وعقله وحِكْمته مِن جانب آخر. وإذا كانت للإنسانية مَصلحةٌ في الإيمان بوَحدة الألوهية فإن للطواغيت والزعماء الذين يُؤلِّهُهم ضعاف النفوس مِن أقوامهم في كل عهد مصلحةً في الشرك وبقاءِ القداسة التي ترفعهم إلى صفِّ الآلهة.(254/3)
الوثَن والأصنام ...
والوثنية عبادة غير الله والشرك بالله، والأوثان والأصنام رموز أو تماثيلُ تُجسِّد الشركاء لغير الله (إنَّما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أوثَانًا وتَخْلُقُونَ إِفْكًا) (العنكبوت: 17) ويَصِف القرآن الوثنية والأوثان بالرجس والنجَس، ويَنهَى عنها ويُدخلها في محيط القول الزور والكذب المُختلَق (فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج:30) والأوثان والوثنية والشرك والآلهة والأرباب مَفاهيمُ تدلُّ على انحراف البشرية عن المسار الصحيح لها في مجتمع أو في مجتمعات عديدة، فيُؤَلِّهُ الضعفاءُ الأقوياءَ، يَستسلمون لهم ويقبلون الظلم والعدوان منهم، ويُباركون خطواتهم في الانحراف والاعتداء، لا يَستطيعون فَقْدَهم فضلاً عن مقاومتهم.
والإيمان بوَحدة الألوهية رَفْعُ القداسة عن كل موجود عدا الله سبحانه، عدمُ الاستسلام إلا للكامل المُطلَق، مُواجهةُ الطغيان بالقوة أو بالمال أو بالجاه والسلطة، مقاومةُ الاعتداء والظلم في أية صورة مِن الصور. الإيمان بالله وحده هو منطلَق البشرية نحو الحياة الإنسانية الكريمة، والشرك بالله هروب في دُروبٍ خوْفًا من المُواجهة وإعلان الحق وحده.(254/4)
وتسأل مهندسة بإحدى المحافظات عن ظهور المسيخ الدَّجّال.
إن ظهور المسيخ الدَّجّال يرتبط ـ فيما يُحكى ـ بسيادة الفساد والعبَث على الأرض في المجتمع البشري، كما أن ظهور المهدي المنتظر ـ كما يُحكى أيضًا ـ يرتبط بالإصلاح وإشاعة الاستقرار والقيَم الإنسانية فيه.
ومعنى ذلك أنه إذا انتشر الفساد وتحلَّل من القيَم الأخلاقية وانتشر سفْك الدماء وانتهاك الحُرمات بين الناس فذلك أَمارة ظهور المسيخ الدَّجال. ويُصوَّر المسيخ الدَّجّال على أنّه رجل يعمل على الفوضَى والعبَث ويدعو إليها ويظَهر من الشرق، وإذا عادت القِيَم الأخلاقية بين الناس وعاد الأمر والاستقرار في علاقات الناس بعضهم ببعض ورُوعيَت الحرمات، وساد العدل فذلك أمارة ظهور المهديّ، ويُصوَّر المهدي كذلك على أنه رجل أو نبيٌّ من أنبياء الله يدعو إلى الحقِّ وظهور كل منهما يُعتبر من أشراط الساعة.
ويبدو أن المسيخ الدَّجّال رمز لبلوغ تطوُّر المادِّيّة أقصى نهايتها، وكذلك المهديّ رمز لحلول "الرُّوحيّة" الإنسانيّة مَحَلَّ المادِّيّة في المجتمعات الإنسانية وبدلاً منها؛ إذ هذه المجتمعات يدور أمرها بين هذين الوضعين: وضع المجتمع المادِّيّ ووضع المجتمع الإنساني أو الرُّوحي.
فإذا وصلت المادِّيّة في مجتمع بشري إلى طغيانها، فسادت فيه الفوضى وانتهاك الحرمات والعبَث والسعْي إلى القوة المادِّيّة والعصبيّة وإغفال العَلاقات بين الإخوة وأفراد الأسرة الواحدة، عندئذٍ يُنتظر سقوط هذه المادِّيّة بحرب لا تُبْقِي ولا تذَر أو بكوارثَ لا تدَع أثَرًا لعمران على أرض هذا المجتمع كما يَنتظر أن يحلَّ محلَّها ما يسمَّى بالرُّوحية الإنسانية وهي العنوان للوضْع الآخر للمجتمع البشريّ الذي تُروَّج فيه القِيَم الإنسانيّة وتتواجد جنْبًا إلى جنب فيه، مع السعي نحو تحقيق الاستمتاع بمُتَع هذه الحياة ولكن في غير إسراف أو طغيان، ويقود هذه الرُّوحية صاحب دعوة إلى الحق والإصلاح.(255/1)
وإذا جُعل المسيخ الدَّجّال والمهدي المنتظَر من أمارات الساعة، فإن انتقال المجتمع البشري من وضع إلى وضع: من وضع مادِّيّ إلى وضع إنساني.. أو العكس يُعَدُّ أمرًا طبيعيًّا .
أي يُعَدُّ من شئون تطوره فالمجتمع إمَّا أن يسقط إلى أدنى أو يسموَ إلى أعلى، وسقوطه إلى أدنى هو خُلوده إلى الأرض وارتباطه بالمادِّيّة وحدها، وسُموه إلى أعلى هو تفهُّمه للروابط الإنسانية وعيشته فيها: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف 175 ـ 176).(255/2)
السؤال الثاني: بعض المؤمنين يقولون: إن أولياء الله الصالحين يعلمون ويشعرون بالذي سيَحصل من غيْب الأمور. فما رأي الدين في ذلك؟ وإذا كان صحيحًا فأرجو توضيح ذلك من خلال الكتابِ والسُّنة؟
نُسب إلى الكُهَّان في مكة، قبل نزول القرآن، وتكليف الرسول محمد ـ عليه السلام ـ برسالته: أنَّهم يتلَقَّوْن علْم الغيب مُسبَّقًا ـ وهو علْم السماء، أو علْم الله ـ جل جلاله ـ من شياطين الجن. وأن هؤلاء الشياطين مِن الجن لا يؤمنون بالبعث كما لا يُؤمن الكهان أنفسهم وأمثالهم مِن زعماء الوثنية والشرْك: (وأنَّهم "أيْ شياطين الجن" ظَنُّوا كمَا ظَنَنْتُمْ "وهم رجال الإنس من المشركين والكهان" أنْ لنْ يَبْعَثَ اللهُ أحَدًا). (الجن: 7).
ومعنى هذا الادِّعاء:(/1)
أن هناك من المَخلوقات مَن يَطَّلِعُ على علْم الله، قبل الآخرين منهم، وأن أكثر المخلوقات شَرِّيَّةً وكُفرًا وهم شياطين الجن يَسترقون السمْع مِن السماء عند حديث الله مع الملائكة، ومِن هنا يتسرَّب علْم الله إلى المشركين مِن الكُهَّان. وشياطين الجن مع الكهان يَعلمون ـ إذَنْ ـ مقدمًا: غيب السماء قبل أتباعهم. وأراد القرآن الكريم ـ في ختام سورة الجن ـ أن يُكذب هذا الادِّعاء فيقول ـ جل شأنه ـ: (عالِمُ الغَيْبِ "أي هو الله عالم الغيب" فلا يُظْهِرُ علَى غَيْبِهِ أحَدًا. "أي هو ـ جل جلاله ـ مُحتفظ بعمله وحده فلا يُطلع عليه أحدًا إطلاقًا من الجن والإنس، من المؤمنين، أو المشركين على السواء" إلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُولٍ). "أيْ إلا في حالة واحدة، وهي حالة اختياره رسولاً". (الجن:26ـ27). والرسول على الأرض من الإنس، وليس من الجنِّ أو الملائكة: (وما منَعَ الناسَ أنْ يُؤمِنُوا إذْ جاءَهُمْ الهُدَى إلَّا أنْ قالُوا أبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسٌولًا. قُلْ لوْ كانَ في الأرضِ مَلائكةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عليهمْ مِنَ السماءِ مَلَكًا رَسُولًا). (الإسراء: 94ـ 95). ...
وفي حالة اختيار الله ـ جلَّ جلالُهُ ـ رسولاً من البشر وإطلاعه على علمه عن طريق الوحي فإنه يحتاط معه بحيث لا يتسرَّب منه شيء حتى يُؤدي رسالته بإبلاغها كاملة للناس، (فإنَّه يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أنْ قدْ أَبْلَغُوا رسالاتِ رَبِّهِمْ وأحَاطَ بمَا لَدَيْهِمْ وأَحْصَى كلَّ شيءٍ عَدَدًا). (الجن 27ـ 28). ...
وتكذيب هذا الادِّعاء معناه: أن الله وحده دون كائنٍ مَن كان سِواه هو الذي يحتفظ بعلْم الغيب، وهو الذي يختار مَن يُطلعه عليه، ومَن يختاره يكون من الرسُل أصحاب الرسالة، والرسل أُمناء ومَعصومون لا يُبلِّغون شيئًا مِن هذا العلْم إلا بعد أن يُؤذَن لهم. ... ... ...
وإذَن مَن عَدَا(/2)
الرسل مِن عباد الله وأوليائه ليستْ لدَيْهم أهلية لتلقِّي علْم الله وإشاعته بين الناس، والمُؤمنون جميعًا بعد الرسل سَواسية في عدَم مَعرفَتهم بعلْم الله، والجن شياطينهم والمُؤمنون منهم بَعيدون كل البُعد عن اتِّصالهم بعلْم الغيْب.
وهكذا: الإسلام أن ميَّز بعض المؤمنين عن بعض فبالتقوَى وحْدها وليس بعلْم الغيب: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خلقناكمْ مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عندَ اللهِ أتْقاكمْ إنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ). (الحجرات: 13).(/3)
16ـ إرادة الله ومسئولية الإنسان
سيدة بإحدى المحافظات تطرح خمسة أسئلة وتطلب الإجابة عليها، نذكر الآن ثلاثًا منها:
السؤال الأول: خلَق الله الإنسان وخلق له السبب والمُسبَّب، فلماذا يُحاسبه إذًا في الجنة أو في النار؟ ولماذا جعله الله في كبَدٍ منذ وِلادته وحتى مَماته؟ وفي أيِّ سِنٍّ يبدأ خطاب "تكليف" الله ـ سبحانه ـ للإنسان؟
الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الإنسان على وضعٍ خاصٍّ؛ خلَقَه من بدَن ومن عقْل، خلقه من بدن تتكفَّل به الغرائز وهي مصادر الشهوة والهوى في الإنسان، وخلقه من عقل يتكفل به سمعه وبصره وإدراكه، وجعل بين الطرفينِ في تركيب الإنسان أو في طبيعته صِراعًا خفيًّا، فبينما الغرائز تدفع الإنسان في غير شُعور إذا بالعقل يُحاول وقْف اندفاع الغرائز ويُحاول توجيهها، والإنسان إذًا فيه مصدر الحركة وهو الغرائز، ومصدر القيادة والتوجيه وهو العقل أو الإدراك. وكلَّما كانت الغرائز قوية كانت مهمة العقل أصعب وكان الصراع بين الطرفينِ أشد. ...
وإذا كانت للإنسان قيادة ذاتية مُمثَّلة في العقل، فله إرادة واختيار. والإرادة هي الظاهرة المُميِّزة للإنسان. فالإنسان إذًا هو صاحب مَشيئة واختيار وإرادة، كما هو صاحب حركة ذاتية؛ يسعَى في الأرض، ويتفكَّر في خلْق السماوات والأرض، ويختار السبيل الذي يرضاه (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلامِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كأنَّمَا يَصَّعَّدُ في السماءِ كذلكَ يَجعلُ اللهُ الرِّجْسَ علَى الذينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125) فللهِ إرادةٌ في إيمان المؤمن وفي ضلاله، وللإنسان كذلك اختيارٌ في إيمانه وفي ضلاله. فأمَّا إرادة اللهِ فهي مُساعدة مَن يَهتدي بإرادته على إنجاز هدايته بأن يشرح صدره للإسلام (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلامِ) وأمَّا إرادة الإنسان فهي في إنجازه للهداية(/1)
على ضوء انشراح صدره من الله لها. ...
وأما إرادة الله في ضلال مَن يكفر فهي أن يجعل صدره ضيِّقًا حرَجًا (وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كأنَّمَا يَصَّعَّدُ في السماءِ) وإرادة الكافر لكُفْره تتمثل في أن يَضيق صدره بذكر الله ولا يرى إشعاع هدايته فيَظل في ظلام الضلال والحَيْرة. وحساب الله للإنسان على كُفره أو على هدايته وإيمانه لأنه استجاب باختياره للإيمان، أو لأنه لم يستجب أيضًا باختياره فظل على كفره وضلاله، فهو له إرادة في كِلْتَا الحالتين بجانب إرادة الله جل شأنه.
أما الشقُّ الثاني من السؤال الأول وهو أنه: لماذا جعل الله الإنسان منذ ولادته في كبَدٍ، أي في مشقة وتعبٍ؟
فالمشقة التي يعيش فيها الإنسان منذ ولادته هي مشقة الصراع النفسي الداخلي بين غرائزه كمصدر للهوى والشهوة، وعقله كمصدر للتوجيه حسَب رسالة الله وما جاء فيها، وهذا الصراع هو الذي يُوزِّع الناس إلى طغاة أو إلى وُلاةٍ خاشعين (فأمَّا مَن طغَى. وآثَرَ الحياةَ الدنيا. فإنَّ الجحيمَ هيَ المَأْوَى. وأمَّا مَن خافَ مقامَ ربِّه ونهَى النفسَ عَنِ الهوَى. فإنَّ الجنَّةَ هيَ المأَوَى) (النازعات:37ـ 41) مطلوب من الإنسان حسب رسالة الله أن يُجاهد نفسه، ومعنى جهاد النفس جهاد الهوى والشهوة حتى لا يَطغَى الإنسان عن طريق شهوته وهواه. وهنا الإنسان مِن أجلِ هذا الجهاد في كبَدٍ ومشقة؛ لأنه ليس من السهل أن يتحكَّم في شهوته فيَعفّ عن الزنا والمنكرات، وليس من السهل أن يتحكم في هواه فيتجنَّب قتْل النفس التي حرَّم الله قتلها كما يَتجنب الظلم والاعتداء على الآخرين. والمشقة إذًا التي وُلد فيها الإنسان ويعيش فيها إلى مَماته ليست مشقة السعي في سبيل الرزق، بل هي تلك المشقة النفسية التي يُصارع فيها الإنسان نفسَه الأمَّارة بالسوء، والنفس الأمارة بالسوء هي النفس التي يُسيطر عليها الهوى وتسيطر عليها الشهوة.(/2)
76ـ لم تَزل الخُرافة لها سيْطرتها
يذكر مواطن بالقاهرة:
( أ ) أن زوجته معها جانٌّ مِن الكافرين، ومُلازم لها في جميع الأوقات منذ أربع سنوات الآن.
(ب) فإذا حضَر الزوج ـ إلى المنزل ليَستريح سلَّطت زوجته على جسمه نارًا تشبه تلك النار التي يُخرجها وابور الغاز الذي يُستخدم في اللحام، وطبعًا لا يَستريح.
(ج) وأنه إذا طلب منها شيئًا لا تُلبي طلبه إلا بعد توجُّهها إلى دورة المياه ثم تعود وتنقلب الحالة إلى نِزاع طويل بينهما.
(د ) وإنها تحمل صَلِيبًا من صلبان النصارى، ويخشى أن تكون في حمْلها الصليب قد وقعت تحت تأثير الجيران في المنزل.
(هـ) وأخيرًا يقول: إنه سمع منَّا في الإذاعة: أن الجن يسكن الخرابات والبيوت الخالية، وكذا البيوت المسكونة.
السائل يَقصد بالجان هنا: "العفريت".. ويحكم عليه بأنه كافر، أيْ هو ذكر وليس أنثى، كافر لمَا يصدر عنه في شخص زوجته من أفعال شريرة بالنسبة له، كالنار التي تُسلطها على زوجها عندما يُريد الراحة، كما يَدَّعي، وكالنزاع والخصومة التي تُثيرها معه، بعد أن تعود من دورة المياه، عندما يطلب منها شيئا.
... من الذي قال إن الجن هو "العفريت".. ومن قال: أن العفريت الذكر يسكن المرأة من الإنس، وأن العفريتة الأنثى تسكن الرجل من الأنس، أيضًا؟ وكيف يجتمع الذكر من العفاريت مع الذكر من الإنس في الاتصال ببَدَن امرأةٍ واحدة وجسمها؟.. وكيف تجتمع الأنثى من العفاريت مع الأنثى من الأنس في الاتصال كذلك ببدَن الرجل؟.. والجان مِن النار، والإنسان من التراب، كيف يتَماشيَا معًا في مكان واحد؟.
... هل جاء في رسالة اللهِ وفي قرأنه، وفي تعاليم الإسلام؟ أم أن الذي جاء فعْلاً في وحْي الله في سورة "الجن".. هو نفْي الخُرافة التي كانت سائدةً عند العرب على عهد الرسول ـ عليه السلام ـ وهي خُرافة "الكهانة"؟.(/1)
... فقد كان الكُهَّان ـ وهم الزعماء الدينيون الذي يمارسون زعامتهم في الكعبة وتتَّبعهم قريش وغيرها من القبائل العربية ـ يدَّعون أنهم يَحصلون على "علْم" السماء عندما يتحدث الله مع ملائكته، عن طريق شياطين الجن، على نحو ما تحكيه عنهم هذه الآية الكريمة: (وأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِن الإنْسِ "وهم الكهان" يَعُوذونَ برجالٍ مِنَ الجنِّ "أيْ يَلجأون إلى رجالٍ مِن الجنِّ طالبينَ تزويدهم بعلْم السماء" .. فزَادُوهمْ رَهَقًا). "أي زادوهم إثْمًا وحُمقًا، بدلاً مِن علْم الله). (الجن: 6)..
... فهذه الآية تحكي ادعاء الكهانة بأنهم يعرفون علْم السماء عن طريق الشياطين من الجن، وهو ادعاء باطل لقول الله ـ تعالى ـ في آخر سورة الجن نفسها: (عالِمُ الغَيْبِ "أي هو الله ـ تعالى" فلا يُظْهِرُ علَى غَيْبِهِ أحَدًا "أيْ على علْمه الغيْبي أحدًا" إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ "من ملك كجبريل، أو بشر مِن الرسل الذين أُرسلوا".. فإنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَينِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أنْ قدْ أَبْلَغُوا رِسالَاتِ رَبِّهِمْ "وعند اختيار الرسول تشتد رقابة الله ضد تسرُّب علْمه، حتى يقوم الرسل بإبلاغ رسالة الله إلى الناس، كما أُمروا. وعندئذ ينكشف علْم الله للناس عن طريق التبليغ من الرسول وليس عن طريق شياطين الجن، كما يدعي الكهان".
( الجن 26-28)..
... فعلم الله من الأزل يعلمه الناس فقط عن طريق الرسالة الإلهية، وليس عن طريق الكهان، أو عن مَن يُسمَّونَ بشياطين الجن، والجن في اللغة هو غير المعهود للإنسان هو غير المعروف له، وفي حقيقته قد يكون إنسانًا ولكن هويته غير معروفة لمَن معه يُخفيها على الآخرين، وقد يكون شرِّيرًا، وقد يكون خيِّرًا.
... والقرآن في سورة الصافات في قول الله ـ تعالى ـ:(/2)
(وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ولقدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إنَّهُمْ لمُحْضَرُونَ). (الصافات: 158).. يطلق على الملائكة "جِنَّةٌ" من الجانِّ لعدم ظهورهم، فقد ادَّعى المشركون في مكة: أن الملائكة بناتُ الله وينقل هذا الإدعاء قوله ـ تعالى ـ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَنَاتُ ولَهُمُ الْبَنُونَ). (الصافات: 149).. وبادعائهم أن الملائكة بنات الله جعلوا علاقة نسب بين الله وبينهم، ثم كذلك يُطلق عليهم في الآية نفسها "جِنَّةٌ" عندما يقول: (ولقدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إنَّهُمْ لمُحْضَرُونَ) "أي أن الكفار الذين ادَّعوا هذا الادعاء الباطل لمُحضرون إلى جهنم".. فالذين يعلمون بحضور الكفار إلى جهنم هم خَزنتها، وخَزنتها مِن الملائكة كما جاء في قوله ـ تعالى ـ (ومَا جَعَلْنَا أصحابَ النَّارِ إلَّا مَلائكةً). "المدثر: 31)..
... وكما ورد في سورة التحريم: "يا أيُّها الذينَ آمنوا قُوا أنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا الناسُ والحِجَارَةُ علَيها مَلائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). "التحريم: 6).. وليس الجانُّ إذَن عِفريتًا يسكن الأبدان والأجسام: الذكَر يسكن بدَن الأنثى، والأُنثى تسكن بدَن الرجل.(/3)
وما تفعله زوجة السائل من إشْعال النار، أو مِن النزاع والخُصومة مع زوجها كما يحكي السائل نفسه، قد يكون صادرًا منها عن هوَسٍ وخِفَّةِ عقلٍ، وربما الأمر في بدايته لم يكن على النحو الذي هو عليه الآن، فلمَّا تصورت ـ تحت تأثيرِ مَن يقول لها ـ أن عِفريتًا قد ركِبها، وأن اسمه كذا.. زاد هوَسُها، وأصبحت تُخيف غيرها بدلاً مِن أنْ تَخاف منه، وعلاجها أن لا يُترك لها الحبْل على الغارِب، وإنما يجب أن يقف زوجها في وجْهها مَوْقفًا حازمًا ولو بالإيذاء البدنيِّ، أو يُرسلها إلى مستشفى الأعصاب أو الأمراض العقلية فترة مِن الزمن. ولماذا تحمل الصليب معها؟ هي لا تحمله إلا تحت تأثير جِيرانها، وربما لا تفعل ما تفعله مع الزوج وفي منزلها إلا تحت تأثيرهم أيضًا، وأخيرًا لا أظنُّ أنه سبق لنا أن أذَعْنا أن الجنَّ تسكن الخرابات، والبيوت الخالية، أو المسكونة، إلا نقْلاً عن سائل فقط، لنردَّ عليه.(/4)
7 ـ هل الزواج قضاء وقَدَر؟
طالب بالبكالوريوس بإحدى الكليّات يسأل: هل يخضع زواج شابٍّ بفتاةٍ مَا لقدَر الله أم لإرادة الإنسان واختياره؟ نرجو الإجابة مع تدعيم الرأي مِن كتاب الله.
إن علْم الإنسان بقَدَر الله في أمر ما لا يتمّ إلا بعد وُقوع هذا الأمر. فعِلم الله في الأزل سابق على وُقوعه، وإرادته كذلك سابقةٌ على هذا الوقوع. وهو ـ سبحانه ـ يعلم كل ما يقع في الكون منذ الأزل، ويُريده كذلك، وما يقع في الكون يقع تباعًا ولكنَّ علْم الله به شامل، على معنى أنَّ علمه غير مُتجدِّد هو علم ثابت وكامل ومُحيط.
والإنسان قبل أن يَصُدر منه تصرُّف ما أو فعل ما لا يعلم إرادة الله فيه، وهنا يكون تَصرُّفه أو فِعْله خاضعًا لإرادته ومَشيئته الخاصّة، وهنا يُقال ـ إذا تَمَّ التصرُّف أو الفعل ـ: إن ذاك التصرُّف أو هذا الفعل قد تَمَّ بمَشيئة الإنسان واختياره، وفي الوقت نفسه يُقال كذلك: إن ما تَمَّ ووقع مِن الإنسان مَقدور مِن الله ومُراد له، وإلا لَمَا وقع؛ لأنَّه لا يقع في الكون إلا ما شاء الله وأراده. ونفهم في ضوء هذا التوضيح قول الله تعالى: (وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). (الكهف: 29). فالآية تُصوِّر وظيفة الرسول ـ عليه السلام ـ بأنَّها وظيفة تبليغ فحسْب، وأنَّ ما على الرسول أن يَفعله هو أن يعرِض على الناس ما جاء بالوحي، ولكن ليس مِن وظيفته حمْلُ الناس على الإيمان برِسالته، وإنَّما الإيمان بها أو الكُفر بها مَنُوط بإرادة الإنسان ومَشيئته (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).(/1)
وإيمان الإنسان إذًا وكفرُه خاضعانِ لإرادته ومَشيئتِه، وهو صاحب حُرِّيّة في قَبُول دعوة الحق أو رَفْضها، وهنا كانت مسئولية الإنسان أمام الله، نحو الإيمان ونحو الكفر، وهنا كان استحقاقه نعيمَ الجَنّة أو عذابَ جهنّم. ولكن مع مشيئة الإنسان في موقفه مِن الإيمان والكفر هناك مشيئة لله ـ تعالى ـ في إيمانه وفي كفره، ولكنَّها مشيئة سابقة ومَجهولة للإنسان حين إيمانه أو حين كفره. ومشيئة الله تُعرَف للإنسان بعد وقوع الإيمان أو الكفر منه، عندئذٍ فقط يَعلم الإنسان قَدَرَ الله وما أراده له، وعلى هذا نفهم قول الله تعالى: (ومَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). (الإنسان: 30). أيْ أن ما يُريده الناس ويَختارونه في حياتهم من أفعال وتصرُّفات هو أيضًا مُرادُ الله ووَفْقَ مشيئته ـ جلَّ جلاله ـ هو مقدور له ولكنَّ الإنسان فقط يجهل إرادة الله في الشيء الذي يريد أن يتَّخذ منه موقفًا ولا يعلم بها إلا حين يختار ويُقرِّر.
والإنسان في اختياره وفي مشيئته يتأثَّر بعوامل عديدة؛ يتأثر بشَهوته وهواه، ويتأثَّر بمناخ البيئة التي يعيش فيها، ويتأثَّر بتَجاربه السابقة إن كانت له تجارِب، ويتأثَّر قبل هذا كله بهِداية الله في كتابه إن كان قد وُفِّقَ للإيمان به والعمل بمُقتضى مبادئه، وبما يَنقل عن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ قولاُ وعملاً.(/2)
والسائل هنا ـ بناء على ما تقدَّم ـ له إرادة ومشيئة خاصّة عند اختيار الفتاة التي يتزوّجها، وقَدَرُ الله لا يُلزِمه باتجاه معيّن في اختياره؛ لأنَّ قدَر الله لا يُعرَف له إلا بعد وقوع الأمر المُراد من الإنسان. واختياره للفتاة التي يريد أن يتزوَّجها قد يُوفَّق فيه وقد لا يوفَّق، تبعًا للعوامل التي يتأثَّر هو بها في هذا الاختيار، ولكنْ إذا تُرِك لهِداية اللهِ أن تأخُذ مَجراها في هذا الاختيار فإنّه يجب أن يُؤْثِرَ الفتاة صاحبة الدين؛ إذ يُنقل عن الرسول ـ صلوات الله عليه ـ قوله: "تُنكَح المرأة لأربع: لمالِها ولحسَبها ولجمالها ولدِينِها، فاظفَرْ بذات الدِّين تَرِبت يداك". (التاج :ج 2 ص 314). ومعنى ذلك أن الرجل يُقبل على زواج المرأة وهو متأثِّر بأحد هذه العوامل: المال والحسَب والنَّسَب والجمال والصّلاح والتديُّن، فإذا كان لا بُدَّ من التفضيل بين هذه العوامل فليُقدِّم الدين على جميعِها، فإذا وُجد مع الدين عامل آخر أو أكثر فذلك مِن فضل الله، أيْ أن الحديث لا يمنع أن يكون مع الدين مال، أو جمال، أو شرف ونسَب، ولكنّه يرى أن التديُّن في الزواج والزوجة هو مصدر سعادة الزوجين.
هل الزواج مكتوب في السماء، بمعنى أنه قِسْمة ونَصيب؟ أم أنَّه مرهون بإرادة الزوجين؟
الحديث عن مشيئة الله مُمثَّلةً في القضاء والقدَر، ومشيئة الإنسان ممثّلة في حريته وإرادته غير المُقيَّدة ـ هو حديث عن مشكلة الصلة بين الله والإنسان، هل هي صلة تقوم على الجَبْر والإلْزام من جانب الله للإنسان، أم تقوم على الاختيار من الإنسان فتكون له مشيئة فيما يعمل ويُقدِم عليه من أمر؟(/3)
وخَلْق الله للإنسان رُوعِيَ فيه أن يكون الإنسان ذا مشيئة وإرادة؛ لأنَّه لم يخلقه مِن مادة فقط، هي الطِّين أولاً ثُمَّ الماء المَهين وهي نُطفة الذَّكَر والأنثى ثانيًا، بل زوَّده بالسمع والبصر كمَنفَذ للإدراك الحسِّيّ والعقلي معًا. والإدراك في الإنسان هو مصدر عقله وحِكمته، وإرادته فمرحلة العقل الأولى هي التفكير.. ومرحلته الثانية هي الموازنة بين ما يجب أن يعمل وما يجب أن يُترك، وترجيح ما ينبغي أن يكون، بينما مرحلته الثالثة والأخيرة هي التصميم والعزم على تنفيذ ما ينبغي أن يكون والتصميم أو العزم هو الإرادة والمَشيئة وعندما يقول القرآن الكريم: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) "أيْ مُختلِطة من الذُّكورة والأنوثة" (نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وإِمَّا كَفُورًا). (الإنسان 2،3). فإنّه يصور خلقه، وموقفه من الرسالة الإلهيّة وموقفه منها ـ كما تنطِق الآية هنا ـ هو صاحب المشيئة: إمَّا أن يكون شاكِرًا لله فيؤمن بها أو غير شاكر له فيَكفر بها.
فالإنسان هنا مَخلوق له مشيئة وإرادة فيما أرسل الله إليه من هداية على لسان رسول مِن رُسله. ويَجيء أمر الله للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في سورة الكهف: (وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). (الكهف: 29). مؤكِّدًا مشيئة الإنسان في الهداية والكفر.(/4)
ومشيئة الله في كونه.. وفي خلْقه .. هي مشيئة عامّة، تمثِّلها قوانين ومبادئ تحكم الكون كلَّه وتُنظِّم وُجود المَخلوقات وتنسق بينها، فالله ـ مثلاً ـ أراد أن يكون الإنسان من بين مَخلوقاته ذا عقل وتفكير، والإنسان إذا استخدم عقله عندئذٍ يستخدمه على نمَط ما خلق عليه، وقد خلق العقل على أن تكون الإرادة إحدى مراحل التفكير عن طريقه، فالإرادة إذن التي يُمارسها الإنسان شاءَها الله أولاً في خلقه للإنسان وهي ثانيًا جزء لا يتجزَّأ في تكوين عقل الإنسان ذاته ولا تعارُض إذن بين إرادة الله وإرادة الإنسان فهناك إرادة كلية هي لله وهناك في مُقابل تلك الإرادة الكلية إرادة جزئية هي للإنسان الفرد... وهذه مِن تلك.
وإذا تحدَّث القرآن فأسند في بعض آياته الهداية إلى الله كما جاء في قوله: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص 56). فإنّه يريد بالذات أن يُطمئنَ الرسول ـ عليه السلام ـ بأنه ليس مِن أهداف رسالته حمْل الناس على الهداية، بل عليه البلاغ فقط وعلى كل حال طالمَا كانت مشيئة الإنسان الفرد جزءًا مِن مَشيئة الله الكليّة فالنسبة عندئذٍ إلى الله نسبة صادقة.
وعلى هذا: ما يقع مِن زواج بين اثنينِ يقع أولاً ـ أو ينبغي أن يقع ـ بإرادتهما واختيارهما وإراداتهما معًا مِن إرادة الله وهنا كانت مسئولية الإنسان عمّا يقع منه مِن أخطاء وكان ثوابه على فعل ما طابَق هداية الله في السلوك والاعتقاد.(/5)
121ـ وسوسة الشيطان في توجيه الإنسان:
مدرس بإحدى المحافظات، يحكي:
أن زوجته ذات ليلة ـ وهي حاملٌ في الشهر السابع ـ صرَخت قبل النوم بلحظاتٍ فجأةً، وبكَتْ، فلمَّا سُئلت منه قالت: إنها لا تَستطيع أن تسكن هذه الحجرة، وذكرتْ أن السبب في بُكائها: إنها رأت وهي جالسة معه على السرير، امرأةً أخرى واقفةً أمامها تقول لها: إن ابْنها الذي تحمل فيه سيتربَّى يَتِيمًا.
... وانتقل هو وزوجته للسكْنَى عند والِدَيْهِ، واطمأنَّا معًا نفسيًّا إلى أن ولدت ابنها وعندئذ عاوَدها الخيالُ مرة أخرى، وتنتظر من وقتٍ لآخر: أنَّ زوْجها سيموت وأنَّ ولَدَها سيتربَّى يَتيمًا، وكذلك تَوجَّس الأب ـ وهو الزوج ـ خِيفة مِن قُرْبِ مَنِيَّتِهِ، ويُحِسُّ ـ كما يَذْكُرْ ـ أن قلْبه يَخْفِقُ.
... ويسأل الآن وعمر ابنه شهرانِ: هل سيَموت ويترك ابنَه يتربَّى يتيمًا؟أمْ سيَبقَى على قيْد الحياة ويُرَبِّيه؟
دعا الإسلام إلى الإيمان بوحدة الأُلوهية، وأن الله واحد لا شريكَ له، لكَي يخلُقَ عند المؤمن جَوًّا نفسيًّا يعيش فيه وهو مُطمئنٌ إلى أن الفاعل في الكوْن كلِّه هو الله وحده.
... فهو الذي يَخلُق الإنسان، وهو الذي يُحدِّد كوْن المَخلوق ذَكرًا أو أنثى.. وهو الذي يُحدِّد له رِزْقه في الحياة.. وهو الذي يُقدِّر له أجَله.. وهو الذي يتوفَّاه إنْ حلَّ أجلُ موته، وهو الذي يحفظ له الحياة إنْ كانت له بقية مِن العمر، مهما تكاتَفت عليه عوامل الفَناء.
... وهو القائل: (وما كانَ لنَفْسٍ أنْ تَمُوتَ إلَّا بإذْنِ اللهِ كِتابًا مُؤَجَّلًا).
(آل عمران: 145)..أيْ ليس هناك في الوجود إنسان ما يموت إلا بإرادة الله وحده، وإلا بعد أن يَنتهي أجلُه في علْمه ـ سبحانه وتعالى.(/1)
... والإيمان بوحدة الألوهية يَنفي الشريك إذَن مع الله في الوُجود.. وفي حياة الإنسان على الخصوص، فليس هناك ساحرٌ.. وليس هناك كاهنٌ.. وليس هناك جِنٌّ.. وليس هناك شيطانٌ ماردٌ أو غير ماردٍ: يدخل في حياة الإنسان بفعلٍ ما، هو الله وحده، الفاعل والخالِق.
... وجاءت في القرآن الكريم سورة مُستقلة هي سورة الجن لتُبطل الكِهانة التي كانت شائعةً على عهد رسالة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولتُؤكد أن "علم الغيب" يستقلُّ به الله ـ جل جلاله ـ وحده، لا يعلمه إلا مَن أذِنَ له الرحمن مِن رسولٍ بَشَرٍ، أو مَلَكٍ، فتَختم هذه السورة آياتها بقول المولَى ـ سبحانه ـ: (عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ علَى غَيْبِهِ أحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بينِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ رَصَدًا . لِيَعْلَمَ أنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا). (الجن: 26 ـ 28)..
... فهذه الآيات الثلاث التي تُختِم بها سورة "الجن" آياتُها تُفيد: أن على المؤمن بالله وحده، أن لا يتصوَّر أن هناك أحدًا غير الله يعلمُ الغيْب، وما يَجدُّ في حياة الإنسان غدًا.. وأنَّ على المؤمن بالله وحده مِن أجل ذلك: أن لا يُصدق ما يُقال له عن: عرَّاف.. أو مُنَجِّم.. أو ضارِب الحَصَى.. أو كاتِب الأحْجبة.. أو مِن مُمارسة للشعوذة ولسِحر أو مِن أيِّ دَجَلٍ في صورة ما.
... رسالة القرآن في الدعوة إلى الإيمان بالله وحده تريد أن تُبعد المؤمنين بعدًا تامًّا عن الاعتقاد في الخُرافة.. وأنْ تَجعلَهم يَعيشون فقط في مجال العقل.. ومجال العلْم واليَقين.. ومجال الهداية الإلَهية في كتاب الله الكريم، في السلوك والمعاملة.(/2)
فإذا وَسْوسَ الشيطان لحظةً ما في نفس أيِّ إنسان.. فعليه أن يَستعيذ بالله بقراءة المُعوّذتينِ، ويَكِلُ بعد ذلك أمره إلى الله، فتعود إليه طمأنينة الإيمان بالله وحده.
والزوج السائل الآن يقع تحت تأثير تصوُّر خاطئ.. وهو أن ما أخبرت به المرأة الأجنبية فيما تَخيَّلته مِن رؤيةٍ في اليقظة سيَقع في مراحله التي تَنبَّأت بها، بعد أن جاء المَولود الآن التي كانت حاملاً فيه: ذكَرًا، والمرحلة التالية لها هي أن الزوج، وهو والد الولد سيَموت.. وأن هذا الولد سيُربَّى يَتيمًا مِن غير أبٍ، وهذا التصوُّر الخاطئ هو سبب القلَق والحزن في حياة الزوجينِ معًا.
... واعتقادُهما في هذا التصور الخاطئ ينطوي على الشرْك بالله. وهو أن هناك إنسانًا يعْلَم ما يأتي به الغدُ، وهذا الإنسان هو تلك المرأة الأجنبية.. والعلْم بما يأتي به الغد هنا هو أن الزوج سيموت وأن ابنه سيتربَّى يتيمًا، بينما القرآن يجعل علْم ما يأتي بعد الغدُ لله وحده فيقول: (إنَّ اللهَ عندَهُ عِلْمُ الساعةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأَرْحَامِ ومَا تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدًا ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ). (لقمان: 34)..
فما يأتي به الغد لأيِّ إنسان لا يَعلمه إلا الله وحده.
وليَطمئن السائل وليَعيش في ظلِّ الإيمان بالله وحده، فقد أنْقذ القرآن الكريم البشرية كلها مِن ظلامِ الخُرافات، والأوهام، والدجَل، واللعِب بعُقول الناس وبتحريك نُفوسهم نحو الهواجس والضلال والحَيْرة في حياتهم: (كتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِيُخْرِجَ الناسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ). (إبراهيم: 1)..والتوكُّل على الله هو السبيل إلى عدم تأثُّرهم بغير ما أتي به كتاب الله.(/3)
85 ـ تغيير المَوعد لظرفٍ طارئ خارج عن الإرادة لا يُعَدُّ نفاقًا
يقول مواطن بإحدى القرى أنه يُباشر عمله كترزيٍّ، ويُعطي مواعيدَ لزبائنه، غير أنه قد يقع تغييرٌ في هذه المواعيد، بحكم ظروف طارئة وخارجة عن إرادته، ويسأل:
هل الخُلْف في هذه المواعيد يُعتبر نفاقًا، وبذلك يعدُّ مِن المنافقين؟
الأمر الذي يبدو في كتاب السائل: أنه حريص كل الحرْص على أن يكون قريبًا مِن الله فيما يُؤديه من عمل، سواء في إنجازه، أو في دِقَّته، بحيث لا يكون هناك ضرر لأحد مِن زبائنه الذينَ يتردَّدون عليه، ولذلك يخشى أن يكون في خُلْف المواعيد الناشئة عن غير إرادة له، ما يُساوِق النفاق، وهو أمر مكروه ومَبْغوض عند الله.
... والسائل من القلائل في مجتمعاتنا هنا الذي يُعنَى بالدقة في العمل، وبالأخصِّ في المحافظة على أن تقع المواعيد التي يُحدِّدها، في أوقاتها، فالوقت في مجتمعنا المعاصر ليس ذا أهمية، ولا يُنظر إليه نظرةً جديَة. فالذي يعطي الموعد هنا قد يُعطيه، وهو يعلم أنه لظروف خاصة أو لسبب مُعيَّن، سيُخلفه، ومع ذلك لا يُصارح الطرف الآخر معه بحقيقة الوضْع، والذي يَقبل الموعد ممَّن يُعطيه إيَّاه، قد يقبله كذلك وهو على يقينٍ مِن أنه لا يُحققه مِن جانبه. ورغم ذلك لا يَعتذر على قَبوله في الوقت الذي حُدِّد له، فيكون صادقًا مع نفسه، ومع الطرف الذي يتعامل معه.
... فإعطاء المواعيد المكذوبة، وقبولها: خُلُق شائع في مجتمعنا المعاصر، يعود إلى عدم ضبط النفس، وإلى عدم الرغبة في تنظيم العمل، وهو خلُق سيئٌ يُحسب علينا وضدَّنا دائمًا.. هو خُلق يدلُّ على الاستخفاف بشأن الآخرين ممَّن يُعطِي الموعد، وعلى عدم الجدية في الحياة ممَّن يقول نعم، وهو يعرف مدَى ما يُوعد به.(/1)
... ولا ينجح فردٌ يُخلف في الموعد. ولا ينجح مجتمع يتعاملُ أفراده على أساس الخُلْف في الموعد، والوعْد. وكان يُقال في التعبير عن بعض تقاليدنا التي صاغتْها التعاليم الإسلامية: "وَعْدُ الحُرِّ دَيْنٌ علَيهِ".. والوعْد هو وعْدٌ في الزمن بتحديد الوقت.. ووعْد في العطاء بتوقيته بالحاجة أو بالضرورة، فالحرُّ، وهو لا يُقَيَّد في التصرُّف، ولا فيما يُنسب إليه على العُموم: بوَصِيٍّ أو سيد، أو رئيس، إذا أعطَى وعدًا أو موعدًا فانه يلتزم الْتزامًا أدبيًّا أمام نفسه، والْتزام مسئولية أمام الله، بالوفاء بما وعد، أو تواعَد عليه.
... والسائل إذَا أشار في سؤاله إلى أنه قد يُخلف الموعد أو ما وعَد به لسببٍ خارج عن إرادته، فالسبب قد يكْمُن فيمَن يعمل عنده أو معه من العمل، فالعامل في مجتمعنا ـ حتى ولو كان ذا مهارةٍ فائقة ـ ينشأ على الاستهانة بما يكون لصاحب العمل عنده، وعلى الحساسية الشديدة بما يتَّصل بذاته، ولعل مصدر الاستهانة والحساسية بما يتصل بذاته، عنده وهو: أنه في تنشئته كصبيٍّ في العمل إلى أن أصبح عاملاً: كان يُهانُ، ويُشْتَمُ.
... وقد يُضرب مِن رئيسه في العمل، أو مِن صاحب العمل نفسه، وعن القَسْوة أو المذلة والإهانة له يكون عنده نوع من العناد، وهو العناد الذي يتمثَّل فيه الدفاع عن النفس.
... هذا العناد، أو الحرص على كرامة الذات في مبالغة وغُلُوٍّ، هو الأمر الذي يجعل العامل المصري لا يَحفل بالمواعيد التي يُعطيها رئيسه إلى الزبائن، أو يُعطيها هو نفسه إليهم، واستهتار العامل بالآخرينَ، كسبيلٍ إلى الارتفاع بقدْر نفسه، هو الذي يُخِلُّ بالمواعيد وبسبب عدم انتظام العمل، وعدم الوفاء بالوعْد في وقته، والموعد في دقته.(/2)
والسائل هنا لا يُعتبر مُنافقًا؛ لأن المنافق يغلب عليه طابع الكذب، وكثْرة الحلِف، وعدم الاهتمام بالسلوك الحسن في ذاته، وعدم الإيمان بالله والخشية منه، وجاء كتاب الله في وصْفهم في قوله ـ تعالى ـ: (إذَا جَاءَكَ المُنافقونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لرَسُولُ اللهِ واللهُ يَعلمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللهُ يَشهدُ إنَّ المُنافقِينَ لكَاذبونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً. أي ستارًا وغطاء حتى لا ينكشف أمرُهم. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ. "أي منعوا الناس عن أن يدخلوا في دين الله"، إنَّهُمْ سَاءَ مَا كانُوا يَعْملونَ ذلكَ بأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فطُبِعَ علَى قُلُوبِهِمْ فهُمْ لا يَفْقَهُونَ). (المنافقون:1 ـ 3)..
... فهذه الآيات تصف المنافقين بالكذب في إعلانهم الإيمان بالله، وبرسوله ـ عليه صلوات الله وبركاته ـ كما تصفهم بأنهم يحلفون بالله غير صادقين، مُتخذين من حلِفهم بالله شعارًا يحُول دون كشْف أمرهم على حقيقته.. وبأنهم يحولون دون سلوك الطريق المستقيم... وأخيرًا بأنهم في حقيقة أمرهم كافرون.. وإيمانهم بالله كان إعلانًا منهم فقط، ليَنتفعوا بأموال المسلمين ومُساعداتهم. ...
... ولكن السائل مؤمنٌ بالله، يخشى عذابه، وسؤاله عن خُلْف الموعد قهْرًا عنه ليقف على الطريق المستقيم الذي يُقربه من الله ـ جل شأنه ـ وهو الطريق الذي يبتعد فيه عن أن يُصيب أيَّ أحدٍ بضررٍ أو بأذًى.
... وخُلْفه في المواعيد لا إرادة له فيه؛ إذْ أمره في العمل متعلق بغيره من العمال أو ممَّن يتعامل معهم من التُّجار كصاحب مِهنة، ولكن ننصحه بأن يكون تقديره في تحديد المواعيد أكثرَ دقةٍ مِن ذي قبْلُ، حتى تقلَّ الفجْوةُ الزمنية بين الموعد والوقت الذي يقع فيه فعْلاً، فلا يُسرع في تحديد الموعد، بل يتأنَّى ويُراجع ما لدَيْهِ من أعمال يجب أن تُنْجَزَ قبلَ الوقت الذي يُحدده.(/3)
... ويكفي في صدق هذا السائل: أنه يُعنَى بأمرٍ ليس موْضع عنايةٍ للملايين في مجتمعنا، وهو دقة الموعد. وعدم الخُلْف فيه.(/4)
140 ـ سيدة تقول: أنجبْتُ بنينَ وبناتٍ. والولد يموت، والبنت تعيش، ومعي الآن منهُنَّ ثلاثة وبعض جيراني ومعارفي قالوا: لا تسكتي على هذا. واذهبي إلى شيخ يفتح لك الكتاب ويكتب لك حجابًا. فما الحكم ؟
الجواب:
الأولى أنْ تذهب السائلة إلى طَبيب نسائيٍّ مختَصٍّ، مع طبيب آخر له تخصُّص في تحاليل الدم للزوج والزوجة معًا. فربَّما تكون هناك عناصر وراثية في دم أيٍّ منهما لا تقوَى على الحياة والاستمرار فيها، عندما يولَد الطفل ذكرًا. أي ربَّما يكون هناك ضعف أو مرض وراثي في دم واحد منهما أو في دمهما معًا يَحُول دون أن يعيش الطفل الذكر. وفي الغالب يكون عند الزوج.
أمّا الذَّهاب إلى "شيخ" يفتح الكتاب ويكتب الحجاب، فإلى أي شيخ تريد الزوجة أن تتَّجه؟ إنّه إنسان ما. وإذا كان الرسول محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يمنحه الله هبة فتح الكتاب، ونعمة كتابة الحجاب ـ وهو مَن هو، مكانًا ومنزلةً عند الله ـ فكيف يمنح إنسان بعده من البشر في عصر من العصور هذا الفضل النافذ في نتائجه؟.
إنَّ فتْح الكتاب، وكتابة الحجاب لم يجعل الله سبحانه واحدة منها وسيلة للتقرُّب إليه، حتى يستجيب ـ سبحانه ـ لما يقع عليه النظر صدفة عند فتح الكتاب، أو لما يَطلُب في كتابه الحجاب؟
إنَّ فتح الكتاب، وكتابة الحجاب ترجع في الجماعة الإسلامية إلى الوقت الذي سيطَرَتْ فيه فكرة "الوساطة" بين العبد وربِّه. والوسيط إنسان يَدَّعي له أنّه أرفع شأنًا ومقامًا عند الله، وإنما هو أكثر فسقًا في الخفاء بين الناس. وفكرة الوساطة ليست من مبادئ الإسلام في شيء؛ لأنَّها تفترض حاجزًا بين الله من جانب، والمؤمنين به من جانب آخر. ثُمَّ في الوقت نفسه توحي بمقوِّمات الوثنية والشرك بالله. فالناس جميعًا ـ في نظر الإسلام ـ سواء في الاعتبار البشريِّ، وفي الفرصة التي تُتاح لكلِّ واحد منهم كي يتقرَّب فيها إلى الله بعمله الخالص.(/1)
ومسؤولية العمل في الإسلام هي مسؤولية فرديّة، لا تحمل نفس وازرة أو مخطئة، وِزرَ نفس أخرى ولا خطأها. وكل هذا يحول دون أن يكون مبدأ "الوساطة" مقبولاً من الناحية الإسلامية. وهو مبدأ طارئ على المسلمين، وقصد به تحويل الإسلام في نقائه وصفائه كنظام حياة للإنسانيّة، إلى أن يكون طريقًا للاحتراف بالدين، ووسيلة للكسب الرخيص للعيش في حياة المدَّعَى له، ثُمَّ سبيلاً إلى التواكل، والتراخي في السعي والعمل.
إنَّ كتابة الحجاب ـ وما يُكتَب فيه من دعَوات إلى الله ـ لا تكفي في أن يستجيب الله لمَن يُدَّعى له.. لا تكفي هذه الكتابة إذا كتب الحجاب للسيدة السائلة واتجهت الدعوات في كتابته إلى أن يمنحها الله ولدًا ذكرًا يعيش، كما تعيش أخواته البنات، لا تكفي في أن يستجيب الله لدعاء الكاتب؛ لأن الله يستجيب للداعي إذا تقرَّب إليه بالإيمان والعمل الصالح. وليس من العمل الصالح كتابة الحجاب، وأخذ الأجر عليه. بل كتابة الحجاب عمل ينطوي على خداع وابتذاذ للسَّذاجة لدى بعض الناس، واستعدادهم للتصديق بالخُرافة، تحت تأثير الرغبة الجامحة في تحقيق شيء معين لهم في حياتهم.
إنَّ العمل الصالح في نظر الإسلام هو الحَدُّ من الأنانية ورغبات النفس وشهواتها لصالح الآخرين.. هو التوجُّه إلى الله في العبادة، كي يُعينَ المتوجِّه إليه في الكَفِّ عن الجرائم، وانتهاك الحرمات، ويوفِّقه إلى السبيل السوِيِّ في علاقته بالآخرين معه في الأمة.. هو حُسن المشورة إذا طُلِبَت منه، وأداء الأمانة كاملة غير منقوصة، والوفاء بالعهد على الخير وتقوى الله.
وهل من حُسن المشورة كتابة الحجاب وفتح الكتاب؟ وهل من الكسب الحلال، الذي يبتعد فيه الإنسان عن إيذاء الآخرين، أخذ الأجر على كتابة الحجاب وفتح الكتاب؟(/2)
على السائلة أن تتَّجه إلى الله وحده في الدعاء، دون وسيط بينها وبينه. وعليها كذلك أن تستشير ذوي الاختصاصات من الأطِبّاء. فإن عملهم يمثِّل إرادة الله في كونه.(/3)
19 ـ هل تُطلق كلمة مولانا على غير الله؟
أ ـ أليس يُعتبَر كلمة: "مَوْلانا" على ذات أخرى غير ذات الله جَلَّ جلاله شِرْكًا؟
كلمة: "مولى" وردت في القرآن الكريم بمعنى "ناصر" وهي كما تطلَق على الله في مثل قوله تعالى: (واعتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكَمْ فَنِعْمَ المَوْلَى ونِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج 78)... تُطلَق على غيره أيضًا:
فتطلَق على النار في قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ولاَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وبِئْسَ المَصِيرُ) (الحديد 15).
وتطلَق أيضًا على الوثَن وما يُعبد من غير الله كما جاء في قوله ـ تعالى: (يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ). (الحج 12 ـ 13).
وتطلَق على جبريل وصالح المؤمنين المخلِصين حسبما يقول ـ سبحانه: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم 4).
وتطلَق على السيد بالنسبة لعبده: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ) (النحل : 76).
فكلمة مولى إذن ـ كما رأينا ـ ليست صفة من صفات الله ـ جَلَّ جَلاله ـ يقصد إطلاقها عليه وحده ولذا لو أُطْلِقت على غيره سبحانه لا يُعَدُّ هنا شركًا.(/1)
ج ـ هل زيارة بيوت الله مثل سيدنا الحسين والسيدة زينب حرام؟
أما زيارة أضرِحة الأولياء فالأصل عدم القصد إليها؛ لأنَّه ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يقول: "لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة: المَسجِد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". وهو مسجد الرسول بالمدينة، ومعنى هذا: أن الانتقال والقَصْد فيه لا يكون إلا لواحد من هذه المساجد الثلاثة؛ لأن رسالة الإسلام كما جاء في القرآن الكريم ارتبطت بها فقد ارتبط الوحي المَكِّي أو مقاومة المادِّيّة والشِّرك بالمسجد الحرام بمكة.. وارتبط الوحي المدني أو بناء المجتمع الإسلامي بيثرب بمسجد الرسول عليه السلام.. وارتبط الوحي بتصحيح الرِّسالات السّماوِيّة بالمسجد الأقصى وإسراء الرسول عليه السلام إليه وإمامته فيه للرسل السابقين.(/1)
وثانيًا: هل لابد أن يكون إيمان المؤمن عن بحثٍ وتفكير، وليس عن تقليد؟
وأما قضية الإيمان فلا شك أن إيمان المؤمن عن اعتقاد قائم على البحث والتفكير في هذا الوجود المُشاهَد، أقوى وأفضل مِن الإيمان بالوراثة أو التقليد، وهناك مِعيار يدلُّ على الإيمان في نفس المؤمن جاء به القرآن، وجاءت به السُّنة الصحيحة فالقرآن يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). (الأنفال: 2).
فالمِعيار هنا هو الإحْساس النفسيُّ العميق بجلاله ـ سبحانه ـ عندما يسمع ذكره، وبزيادة الارتباط به عندما تُتلَى آياتُه، ويروى في السُّنة الصحيحة: "لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنَفسه".. أي لا يكون إيمان المرء صادقًا إلا إذا خفَّت أنانيته، وأصبح يُقِرُّ بالوجود المُشترك له ولغيره مِن المؤمنين، ويُحب الخير لهم كما يُحبه لنفسه.
وإذن العِبْرة في النهاية بهذه الظاهرة، عند الحُكم على إيمان المؤمن: أهو قويٌّ أم ضعيفٌ.(/1)
13 ـ عدم خضوع الإسلام للتطوُّر:
هل يخضع الإسلام للتطور؟
الإسلام كدين وكمَنهج للحياة الإنسانية قائِم على مبادئ عامّة لا يخضع للتطور؛ لأنَّ هذه المبادئ من وَحْي الله وعلمه، وعلم الله ثابت لا يتطور ولا يصير مِن وضع إلى وضع آخر كما هو الشأن في علم الإنسان، فالإنسان فقط ـ وليس الله ـ يتدرَّج علمه من حال إلى حال، فعلم الإنسان بالأمس يختلف عن علمه اليوم وكذلك عن علمه بالغد، وما يَعتبره الإنسان من علمه يقينًا اليوم قد يُصبح في الغد القريب أو البعيد ظنًّا أو وَهْمًا.
وإذا كان الله لا يَخضَع علْمُه للزمن والتجرِبة؛ لأنَّه فوق الزمن والوجود المادِّيّ كله، فعلمه علم كاشف على معنى أنه مُطَّلِع على المستقبل كاطلاعه على الماضي والحاضر، وأنَّه لا يَغيب عن علمه مثقال ذَرّة في الأرض ولا في السماء.
وعلم الله في رسالته إلى الإنسان يتَّفِقُ وخصائص طبيعة هذا الإنسان، فدِينه هو منهج وَفْق هذه الخصائص، والإنسان في خصائصه لا يتغيّر إطلاقًا؛ لأنه ثابت في نوعيته، ولا ينتقل إلى نوع آخر مغاير له، فطبيعة الإنسان كما تُشكِّلها حكمة العقل تشارِك هذه الحكمة فيه: غرائز الحيوان ومن أجل ذلك يتذبذب الإنسان بين السُّمُوِّ نحو الحكمة، وبين الدُّنُوِّ نحو مطالب الغريزة ومَطالبها شهوة وهوًى.
والإسلام؛ لأنّه مِن علم الله إذن ـ لا يخضع إلى تطور؛ لأنّه ليس في حاجة إلى تصفيته أو تنقيته من أخطاء وقعتْ فيه بفِعْل الهوى، على نحو ما في علْم الإنسان.(/1)
إنما الذي يتطوّر بالنسبة للإسلام هو إيمان المؤمن به، فالمؤمن يُعلن إيمانه بالإسلام وإعلان إيمانه به هو نقطة البداية ثم يتطور إيمانه من هذه البداية على قدْر تخلُّصه من رواسب الجاهليّة الأولى وهي المادِّيّة وما يقوم عليها من عادات وتقاليدَ، وكلما صَفَّى المؤمن حياته من هذه الرواسب كُلَّما تقدَّم درجة أو درجات في إيمانه وإذ يقول الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ) (الحديد 16). يُشير إلى أن الوصف بالإيمان لا يعني الوصول إلى الكمال فيه، والكمال فيه هو نهاية تطوره وذلك لا يكون إلا عندما يخشع قلبه لذكر الله وما نزل من الحقِّ من آيات إذا تُلِيَتْ عليه أو إذا قرأها وهي حالة خاصة.
ومن أجل تطوير إيمان المؤمنين على عهد الرسول ـ عليه السلام ـ نزل الوحي عليه منجَّمًا في ثلاث وعشرين سنةً، وجاء في السورة قبل الأخيرة في الوحي المدنيّ قوله ـ تعالى ـ: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) "ببلوغ درجةٍ عالية وبَعيدة المدى في الإيمان" (ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا). (المائدة: 2).
وهكذا إيمان المؤمن يتطور.. أمّا الإسلام نفسه فهو في علم الله ثابت لا يتغير.(/2)
49 ـ أنا متزوِّج، ولي ولد في التعليم ويوشِك أن يتخرّج، وحدث بيني وبين زوجتي شِجار بسبب تعليم هذا الابن، فأقسمْتُ يمينًا أنه لن ينفعني، سواء تعلَّم وأتى بمال، أم لم يتعلَّم ولم يأتِ بمال، فما الرأي؟
إن السائل ـ وهو هنا والد لابن قارَب على التخرُّج من الجامعة ـ من جملة كثيرين يستهدفون من تعليم أبنائهم منفعةً مادِّيّة تَعُود عليهم هم، وبالأخص عند الحاجة أو في سِنٍّ متأخِّرة من عمرهم، ولذا حرصهم على تعليم أبنائهم هو حِرص على تحصيل منفعة شخصيّة .. ودفعهم لهؤلاء الأبناء في طريق إتمام دراستهم هو دفع للتعجيل بهذه المنفعة.. وغضبهم من أبنائهم هو بسبب أنهم بتخلُّفهم في النجاح يُرجِئون هذه المنفعة فترة أخرى من الزمن.
ويَرَوْنَ في التعليم من أجل ذلك نوعًا معيّنًا. هو تحصيل المعرفة التي تهيِّئ للنجاح في الامتحانات العامة. أما التربية وتكوين العادات الفاضلة.. أما الثقافة العامة.. أما الدُّرْبة على الصبر والتحمُّل عند الصعوبات.. أما المسؤوليّة الفرديّة والشعور بها.. أما تكوين الضمير الإنساني والإفادة من رقابته الذاتية على التصرفات.. أما الشخصية واستقلالها: فقلَّما يُعنى بها هؤلاء النفعيُّون عن طريق تعليم أبنائهم.
ومن هنا كثيرًا ما يُفْجَعون في هؤلاء الأبناء، فيظهر فيهم العقوق واضحًا بعد تخرُّجهم والتحاقهم ببعض الوظائف العادية، وكثيرًا ـ أيضًا ـ ما يَنزَعِجون من فشَلِهم في الحياة وتهرُّبهم من المسؤوليات بعد أن يتخرَّجوا ويُباشِروا وظائفهم أيضًا.
وقلّة من الآباء هي التي تَحرِص على تربة أولادهم، والتعليم المدرسيّ أو الجامعيّ جزء من هذه التربية. ولذا لا يَستَهدِفون منفعة شخصية من وراء إتمامهم الدراسة الجامعية وشَغلهم بعض الوظائف. ومن هنا يَسْلُكون معهم مسلك الأصدقاء: في نقل تَجاربهم إليهم.. وفي التفاهم معهم على ما ينبغي، وما لا ينبغي من التصرُّفات في كل مرحلة من مراحل تطوُّر الإنسان.(/1)
ولعل أحسن وصية تُعَبِّر عن هذه التربية: ما جاء على لسان لقمان ـ وقد ميّزه الله بالحكمة ـ إلى ابنه. إذ يقول له: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصّلاةَ وأْمُرْ بالمَعروفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمورِ "أي من الأمور الواجب أداؤها.. فدعاه إلى الاتصال بالله.. وإلى استقامة السلوك.. وإلى التحمل عند المصاعب". ولاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنّاسِ "أي لا تنظر إلى الناس بجانب من وجهك كما يفعل المتكبِّرون. بل كن مهَذَّبًا ومتواضِعًا" ولا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا "أي لا يكن سيرك في الطُّرُقات تَسَكُّعًا ومن غير هدف جدِّيٍّ في الحياة" إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخورٍ) "أي أن الله لا يرضَى عن أصحاب الخُيَلاء والمتعاظِمين على غيرهم من الناس، فيدعوه إلى الأسلوب المهذَّب في معاملة الناس.. وإلى أخذ الأمور في الحياة التي يتحرّك في سبيلها الإنسان مأخذ الجدّ". واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ "أي كُنْ عدلًا ومتوازنًا في مشيِك فلا تَدِبّ على الأرض دَبًّا.. ولا تثِب أو تقفِز" واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ "أي وليكنْ صوتُكَ معتدلاً، غير منفِّر لسامعك" إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرْ) وهنا يطلب إليه كذلك أن يبتعد عن الهوج في حركته.. وعما يزعِج الآخرين من نَفرة الصوت في حديثة معهم. (لقمان: 17ـ19).
أما ما أقسم عليه السائل ـ وهو أن ابنه لا ينفعه: تعلَّم، أم لم يتعلَّم ـ فيمينه لغوٌ؛ لأنه لا يعلم المستقبل ولا يقدِر على علمه في لحظته التي أقسم فيها. إذ ربَّما يأتي المستقبل بخلاف ما ظَنَّ وأقسم عليه الآن. واليمين اللغو هي من سقَط الكلام.. أو من الخطأ الذي لا يؤاخَذ عليه.(/2)
وأجدر بالسائل أن يعود إلى الأسلوب الهادئ في معاملة زوجته وولده.. وأن يُبعد الجفوة بينه الآن وبين ولده، ويضع بدلَها: الصداقة والمشورة المُتَبادَلة. فلعلَّ ذلك يُغَيِّر من أمر الابن شيئًا لصالحه، قبل صالح والده.(/3)
17ـ والدتي مُصابة بمرض جلديٍّ في يدها يفرِض عليها العلاج باستمرار. وفي مناقشة عائليّة حول الحالة والعلاج أقسمتْ على المصحَف: بأنّها لن تستعمل العلاجَ. ولكنَّ حالتها زادت سوءًا لعدم العلاج، ولأنَّه ليس أحد معها يساعدها في أعمال البيت. فما الرأي؟
لا شَكَّ أن الوالدة كانت قاصدةً في اليمين عن الامتناع عن العلاج. فيمينها أو قسَمها بالله على المصحف كان موثَّقًا بالقَصْد والنية. ولذا فيَمينُها الآن يمين غير لغوٍ. فإذا حنثَتْ أو أخلَفتْ فيه وعدلَتْ عَمَّا حلَفت عليه وهو عدم الاستمرار في العلاج.. إلى ما عداه، وهو استئناف العلاج فتجب عليها الكَفّارة التي جاءت في ـ قوله تعالى ـ ( فكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (المائدة: 89). أي أن الإنسان الذي أخلف ما أقسم عليه بالله عامدًا ـ مُخَيَّرٌ بين ثلاث حالات: هي إطعام عشرة مساكين.. أو كسوتهم.. أو تحرير رقيق. فإن لم يستطعها فالصوم ثلاثة أيام: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) أي: وحَنَثْتُمْ وأخلفتم فيها (المائدة: 89).(/1)
والحلف هنا على شيء، والعدول عمّا حلفت عليه الوالدة: جائز شرعًا وإن أوجب الكفّارة؛ لأن ما عدلت إليه ـ وهو العلاج ـ خير ممَّا أقسَمتْ عليه، وهو عدم العلاج. وقد جاء في قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إذا حلَف أحدُكم على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها فليكفِّر، وليأتِ الذي هو خير". وقد نهى الله ـ سبحانه ـ أن يكون اليمين بالله على شيء ما عقبةً في سبيل تنفيذ ما هو خير ممّا حلف عليه. فيقول: (ولاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) (البقرة: 224) أي ينهاكم الله على أن يكون الحلف بالله علي شيء ما مانعًا وعائقًا دون تنفيذ الخير وتجنُّب الشرور والإصلاح بين الناس..وبعد ذلك: إنْ كان يمينكم لغوًا غير مقصود فلا حرَج. وإن كان قائمًا على قصد وإرادة فالعدول عمَّا ارتبط به اليمين يُوجِب فقط كفّارة. ومع ذلك فالله يغفر لكم إثم الحلف فيه: (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ "أي يؤاخذكم عن طريق الكفّارة" واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 225) أي والله يغفر المعصية في التخلُّف عن تنفيذ اليمين، وهو حليم يعطيكم فرصة لعمل ما هو خير مما حلفتم عليه.
والكفّارة وإن وجبت على الحلف في اليمين المقصودة المتعمّدة.. فإنَّها تنبِّئ هنا فقط عن مبرِّر للتعاطف والتراحم بين الناس بعضهم مع بعض.. بين ما يستطيع وما لا يستطيع.. بين مَن ليس بذي حاجة وصاحب حاجة في المجتمع. أي أن الكفّارة هنا إن أشعرت بعدم رضاء الله في عدم تنفيذ ما انعقدتْ عليه اليمين بالله.. لكنَّها في الوقت ذاته سبيل إلى البِرِّ بالآخرين والبِرِّ بالآخرين إرادة من إرادات الله في كونه. وهكذا للوالدة أن تستأنف علاجها، وتكفِّر عن يمينها. والله يغفر لها ما أثِمتْ فيه من عدم تنفيذ قسَمِها.(/2)
96 ـ أحد السائلين يقول: عندي ابن في الشهادة الإعدادية، أُنفق عليه في سخاء. ولكنّه تعامل مع بعض التجَّار في البلَد، وصار مَدِينًا لهم بمبلغ ثلاثين جنيهًا، ودفعتْه. ولكنِّي غضبتُ من الولد، وأقسمتُ على المصحَف أن لا أصرِف عليه. غير أنَّه بسبب الامتحان أحضرتُ له مدرِّسين، وأنفقتُ عليه. فما الحكم في اليمين؟
من صيغة السؤال، ومجرى حال الولد فيه، يتضح أن السائل ـ وهو الوالد ـ قد بيَّت العزم، وعقد النية على أن لا يَصرِف على ولده، بعد أن سدَّد عنه ديونه التي استدانها من أحد التجَّار، كوسيلة لتهذيبه، والحيلولة بينه وبين الاستدانة من جديد.
فإذا أقسم على المصحف وحلَف بالله فإنه يكون قد قصد إلى اليمين، وعقد عليه النيّة. وهنا إذا رجع عما حلف عليه ـ كما في حال إنفاق الوالد الآن على الولد، بمناسبة قُرْب الامتحان، بعد أن أقسم أن لا ينفق عليه ـ يكون حانثًا، أي عاصيًا. وعليه تجب كفارة اليمين، وهى كما جاء في قوله تعالى: (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ باللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ـ وهى اليمين التي لا يُقصَد منها مدلولُها ـ ولَكِنْ يُؤاخِذكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ ـ أي بما قصدتم وعزمتم عليه، كما هنا في السؤال ـ فَكفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقبةٍ ـ أي المساعدة على تحرير إنسان هو مسترَقٌّ بصورة ما ـ فمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ ذَلِكَ كَفّارةُ أَيْمانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) (المائدة: 89).(/1)
والآية عقَّبت ـ بعد أن ذكرت كفارة اليمين وصورها هنا ـ بقول الله تعالى: (واحْفَظوا أيْمانَكم).. كي توضِّح أن الذي يَليق بالإنسان وبتهذيبه أن لا يلجأ إلى اليمين. فاللُّجوء إلى اليمين يدلُّ على ضعف مَن يُقسِم. وليست اليمين هي الوسيلة التي تقوِّي شخصية الضعيف. وإنما قبل اليمين يجب على مَن يلجأ إليها ـ قبل أن يباشِرها ـ أن يفكِّر في الأمر ويتروَّى فيه ثُمَّ يتخيّر أنجحَ الطُّرُق لتحقيق ما وصل إليه تفكيره وتروِّيه فيه. فإذا تيقَّن في حاضِره أنه لا يستطيع الوصول إلى ما ينبغي، أو يشُقُّ عليه ذلك، فليأخذ الأمر بالتدريج، ويبتعد كلية عن حرَج اليمين.
وأيضًا إذ تُعَقَّب الآية هنا بقول الله: (واحْفَظوا أيْمانَكم).. تريد كذلك أن يبتعد المؤمنون بالله عن إقحام اسمه ـ جلَّ شأنه ـ فيما لا يملِكون الأمر فيه نهائيًّا، ويعرِّضونه كذلك لما لا يوفِّر له جلاله وعظمته، كما يجب أن يتوفر له.
على أن السائل الذي أقسم على المصحف في هذا السؤال يجوز أن يكون قد استهدف من قسمه تهديد ابنه، حتى لا يفعل مثل ما فعل من الاستدانة. ويجوز أيضًا أن يكون مراده من عدم الإنفاق عليه، ما لا يتصل بضرورات حياته. وعندئذٍ يكون في الحالين غير حانثٍ، بدفع مكافئة المدرِّسين الذين قاموا لمساعدة ابنه.
فاليمين التي يُهَدَّد بها هو لغو؛ لأن التهديد لا ينبغي أن يكون هدفًا للقسَم بالله.
والإنفاق على مساعدة التلميذ، كثيرًا ما يُعتَبَر الآن ضرورة في حياته.(/2)
وأخيرًا إنَّ ما يقوله السائل في سؤاله من أنه أنفق على ولده بسخاء.. يشير إلى أن الولد مدلَّل. وأن الوالد ذو عاطفة حادّة بالنسبة له. والقرآن الكريم عندما يقول: (واعْلَمُوا أَنَّمَا أموالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنةٌ وأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال: 28).. لا يريد فحسْب أن يذكر أنَّ الأموال والأولاد في الدنيا مجال اختيار وتجربة في الحياة لإيمان المؤمن في مواجهة التضحية في سبيل الله بالمال والنفس. وإنّما مع ذلك يشير ـ أيضًا ـ إلى أن افتتان الآباء بالأولاد قد يؤدِّي من جانب آخر إلى فساد الأولاد أنفسهم؛ لأن العاطفة غير المحدودة من الآباء تَحول دون تَنْشِئَة الأولاد تَنشئةً مهذَّبةً مستقيمةً.
ويَحسُن بالسائل في هذا السؤال أخيرًا: أن يُقَيِّد عاطفته نحو ابنه بمصلحة الولد ذاته قبل الاستمتاع ببُنُوَّتِه له. وأن يرى في الدين في عبادته ووصاياه خير طريق لتهذيبه، إنْ أراد له الخير في حياته. فليس هناك بديل عن الدين في حياة الإنسان مهما قيل في جوِّ الحياة المادية وأهدافها.(/3)
163ـ حلَف أعضاء مجلس إدارة الجمعية التعاونيّة الزراعيّة على المصحَف أن ينتخِبوا مِن بينهم رئيسًا، وسكرتيرًا، وأمينًا للصندوق وعضوين.
وعند الانتخاب تغيَّر ما حلَفوا عليه، وانتخبوا أشخاصًا آخرين غير ما حلفوا على انتخابهم. واتَّضح أنَّهم حلفوا يمينًا أخرى على انتخاب الآخرين. فما رأي الدّين؟
الجواب:
إن ظاهرة الالتجاء إلى الحلف بالله، على فعل أمر أو على تركه، من شخص ما، أو جملة من الأشخاص، تدلُّ على الضعف وعدم الثقة بالنفس، في محاولة كسْب الآخر في جانبه، أو في محاولة إقناعه.
ومَن يلجأ إلى الحلف بالله ـ غالبًا ـ صادِقًا أو كاذِبًا، هو إنسان لا يُعتمد عليه. فإن كان صادقًا فهو ضعيف. وإن كان كاذبًا فهو أبعد في الاعتماد عليه كذلك؛ لأنَّه يبرِّر اختلاقَه وكذِبه في الواقع، بسحْب اسم الله فيما يبرِّر به هذا الكذب.
ثُمَّ إنَّ الإنسان الذي يحلف بالله بعد ذلك على فعل أمر أو تركه، مهما كان جادًّا وصادقًا، فإنه لا يضمن الوفاء لما حلف عليه؛ لأنَّه ليس وحده في الوجود، وكذلك ليس له من الطاقات ما يحقِّق الوفاء بما حلَف عليه، تأكيدًا وجزمًا. وعندئذٍ يعرض الله ـ جل شأنه ـ في اليمين لما لا يَليق بجلاله واحترامه، في حال عدم التمكُّن من الوفاء. ولذا ينهَى الله عن اتِّخاذه ـ سبحانه ـ عُرضةً للأيْمان، حتى ولو كان في سبيل الخير والصالح العام، فيما تذكره الآية الكريمة: (ولاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ واللهُ سَمِيعٌ عَليمٌ) (البقرة: 224).
على أنّه ـ في نظر الإسلام ـ إذا لجأ الإنسان إلى الحلف بالله، فعليه:(/1)
أولاً: أن يَفِيَ بما حلف على فعله، أو تركه، كما يفي بالعهد والميثاق. يقول الله تعالى في ذلك: (وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ولاَ تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعلونَ) (النحل: 91).
وثانيًا: أن يبتعد تمامًا عن حَلِّ اليمين، وعن نقضِها، خداعًا، لمصلحة فريق من الناس على حساب مصلحة فريق آخر؛ إذ في ذلك الفساد كله. يقول سبحانه، نهيًا عن ذلك: (ولاَ تَكُونُوا كَالتِي نَقضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ أنْكَاثًا ـ أي حَلاًّ ونَقْضًا لليَمين ـ تتَّخذونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ـ أي خِداعًا وفسادًا فيما بينكم ـ أَنْ تَكونَ أُمّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمّةٍ ـ أي من أجل مصلحة مجموعة منكم في قوتها، على حساب مجموعة أخرى فيكم) (النحل: 92).
فالقرآن إذ يطلب الوفاء باليمين بالله؛ لأنَّ مَن يحلف بالله جعل الله كفيلاً وضامنًا للوفاء لما حلف عليه إذ يطلب الوفاء بذلك، ينهى مشدِّدًا عن النُّكوص في اليمين، وعدم الوفاء بها، لمصلحة فريق على حساب فريق آخر.
وحالُ مَن جاء أمرهم في السؤال من أعضاء مجلس إدارة الجمعية التعاونية الزراعية، هو حال أولئكم الذين أقسموا بالله، ولم يُوفوا لما أقسموا عليه لأحد الطرفين، خداعًا، ولمصلحة فريق على آخر في الأّمة. ومن أجل ذلك سلَكوا سبيل الفساد، بعد أن عرَّضوا الله ـ جل شأنه ـ للإهانة والتحقير. واستهدفوا من هذا الخداع أن يشتروا بأيمانهم ثمنًا قليلاً، ومتعة دنيويّة تافهة، من مال، أو من قضاء مصالح شخصية. وهؤلاء لا خَلاق ولا نَصيب لهم في رضاء الله في الآخرة: (إِنَّ الذِينَ يَشْترونَ بِعَهْدِ اللهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَليلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرةِ) (آل عمران: 77).(/2)
إن هؤلاء أتْجروا بالثقة بالله. فوضعوا الله في أيمانهم تغريرًا وتلبيسًا للباطل لباسَ الحق. ومن يتْجَر بالثقة في الله لا يلقى عذابًا في الآخرة فحسْب. وإنما سيصيبه في دنياه تعريض الله كوسيلة لاقتناص المنفعة الشخصية. وسلوكهم هو سلوك مَن يتقوَّل على الله غير الحق ويشهد الزور.
هؤلاء يُرثَى لوضعهم. فليسوا رجالاً يُعتمد عليهم، ثم يضعون أشرف الوجود وأكمله ـ وهو الله ـ كطريق للرِّبح الدنيء. وتجارتهم هي ـ إذن ـ تجارة خاسرة.(/3)
6 ـ سَبّ الدِّين، والحَلِف بالطَّلاق
سائل يسأل عن رجل شَقَّ جِلْبابه، وسَبَّ دِينَه، وحلَف بالطلاق ألاّ يحضُر زواج ابنه، فهل يحضُر؟ وهل يُكفِّر عمَّا بدَر منه؟
إن الرجل الذي شَقَّ جلبابَه، وسبَّ الدين، وحلَف بالطلاق ألاّ يحضر زواج ابنه ارتكب في هذه الكلمة ما لا يُرْضِي اللهَ والرسولَ، فليس من بين المؤمنين مَن يَلطِم الخدود ويَشُقُّ الجيوب، فذلك من عادات الجاهليِّين التي يُنكرُها الإسلام، فالمؤمن يجب أن يَثِقَ بالله ويعتمد عليه عندما تقع الأحداث وتشتدُّ الأزمات، والثِّقة بالله تدفعه إلى التحكُّم والصبر وتُبعده عن الانفعالات والحمق.
وليس مِن المؤمنين مَن يسُبُّ مسلمًا فضلاً عن أن يسُبَّ دين الله، فيُروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "سِبابُ المسلم فُسوق". وطبعًا سبُّ دين الله أدخَلُ في الفِسْق والخروج عن مِلّة الله، فسَبُّ دين الله تحقير له واستهزاء وسُخرية به، ولا يجتمع بإنسان أن يكون مؤمنًا بالله وبرسالته وفي الوقت نفسه يَحتقر الإيمان وما جاءت به الرسالة. وليس من القَبول كذلك في الإسلام أن يُستخدم الطلاق يَمينًا للتهديد أو لخلافه، نعم وإنْ كان الحلف به لا يقع؛ لأنَّ شرط الطلاق أن يكون مُنجَّزًا؛ أي حالاًّ، وألاّ يكون يَمينًا. ولكن الحلف به يدلُّ على أنَّ مَن يحلف به غير جادٍّ، وأنه يعبث بأمر خطير في شئون الأسرة أَولَى به أن يُصان عن مثل هذا العبث، وأن يوقف به عند الوضع الخاص به، وهو التعبير عن الفرقة المقصودة بين الزوج والزوجة.(/1)
ومن الأسف أنَّ مثل هذه العادات شائعة، وشُيوعها يدلُّ على سوء التوجيه، وأن هناك فراغًا في حياة الناس للتربية الدينيّة. والغريب أنَّ مَن يسُبُّ الدين خاصة يتصوَّر أنه صاحب قوّة، ولذلك في سِبابه للدِّين كأنه يعلن عدم مُبالاته في الاعتداء على دين الله وعلى المؤمنين به جميعًا، وواقع أمره أنه جبان لا يستطيع أن يُعلن تمرُّده على حاكم مِن البشر مهما صغُر في جُرْأته التي تُصاحِب تمرُّدَه على الله سبحانه وعلى حقِّ المؤمنين برسالته. وهو كذلك ضعيف يُريد أن يكون قَوِيًّا، وكاذب يريد أن يبدوَ صادقًا. وهو قبل هذا وذاك لا يُؤتَمن؛ لأنَّ مَن لم يَخْشَ الله وهو لا يراه لا يَخشى الناسَ عندما يختفي عن أعيُنِهم. إن مَن يَسُبُّ دين الله ليس أهلاً لمُصاحبة الناس وثِقتِهم، وليس أهلاً لأن يكون ربَّ أسرة، وليس أمِينًا على عمل الآخرين ولا أمِينًا على نفسه هو.
وإن مَنْ يشُقُّ جلبابه ليس ضيِّق الصدر فحسْب ولكنّه لا يقوى على مواجهة الأحداث ولا على تحمُّل المسئوليّة وأداء أمانتها.
وإنَّ مَن يحلِف بالطلاق ألاّ يحضر زواج ابنه لا يشرِّف ابنه أن يحضر زواجه وخيرٌ له ألاّ يحضر. وإن كان الفقهاء يَرَوْنَ أن الحلف بالطَّلاق لا يقع.
متى يُدرك المسلمون أنَّ لدين الله حُرْمةً، وأنّه فضل مِن عند الله جاء به الرسول الكريم ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ لهداية الناس واستقامتهم، وأنه إذا كان هناك مَن يَمتنُّ على الآخر فالله وحده صاحب المِنّة وليس المؤمنون به: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). (الحجرات:17). يُروَى عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله: "ليس المؤمنُ بالطَّعّانِ ولا باللَّعَّان ولا الفاحِشِ ولا البَذِيءِ".(/2)
36 ـ يقول الله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًا. والجِبالَ أَوْتادًا). وفِي تفسير الآية يتضح: أن الجبال تجعل الأرض ثابتة، مع أن علم الجغرافيا يُقرِّر: أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس. فما الرأي؟.
(أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًا. والجِبالَ أَوتادًا. وخَلَقْنَاكُمْ أَزواجًا. وجَعَلْنَا نَومَكُمْ سُبَاتًا. وجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباسًا. وجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعاشًا. وبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدادًا. وجَعَلْنَا سِراجًا وَهّاجًا. وأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِراتِ مَاءً ثَجّاجًا. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ونَبَاتًا. وجَنَّاتٍ ألْفافًا) (النبأ: 6 ـ 16).
هذا قول الله حقًّا في سورة النبأ. وورد فيه أن الجبال أوتاد الأرض، ليوضِّح أن خلق الله هو خلق مُتَكامل، فيما يُعين الإنسان على الحياة الأرضية في غير اضطراب.
وتفسير "الأوتاد" بما يجعل الأرض ثابتة لا يَعنِي عدم حركتها ودوَرَانِها حول نفسها. وإنما يعني أن الأرض بما فيها من جبال شامخات ـ هي بمثابة الأوتاد ـ تحتفظ بالتوازن في حركتها ودورانِها. ولدِقّة هذا التوازن في حركتها يجعلها كأنه مستقِرّة وثابتة.
ويؤكد هذا "المعنى" قوله تعالى في سورة لقمان:
(خَلَقَ السَّمواتِ بغير عمَدٍ تَرونَها وألقى في الأرْضِ رواسيَ أنْ تَميد بِكُمْ وبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابّةٍ وأَنْزَلْنَا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هَذَا خَلْقُ اللهُ فَأرُونِي مَاذَا خَلَق الذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمونَ فِي ضَلالٍ مُبينٍ) (لقمان: 10 ـ 11).(/1)
فـ"الرواسي" هي الجبال الشاهقات. وتذكر الآية أن الحكمة من وجودها الخشية من أن "تَميد" الأرض، أي تميل وتضطرب. وهي لا تميل وتضطرب إلا إذا اختلَّ توازنها في حركتها ودورانِها. فكلمة "تَميد" ـ وهي الميل والاضطراب ـ لا تُوحي بأنَّ المعنى من "الأوتاد" التي هي بمثابة صفة للجبال في آية "النبأ".. الثّبات، أي الجُمود وعدم الحرَكة، الأمر الذي يُخالف مقرَّرات علم الجغرافيا ـ كما يذكر السائل.
وبمناسبة علم الجغرافيا ومُخالَفة القرآن أو عدم مخالفته لمقرَّراته يجب أن يُعرَف:
أولاً: أن العلم يخضع لمبدأ "التطوُّر". ومعنى التطوُّر في العلم عدَم ثبَات نتائجه على حاله واحدة. فما كان بالأمس يَقِينًا وعامًّا رُبَّما يُصبِح فِي الغَد القريب أو البعيد وهمًا وخُرافة. لسبب بسيط، هو أن الإنسان بخِبْراته يَتأثَّر في أحكامِه ومُلاحَظاته بعوامل عديدة ومختلفة تجعله عُرضة للخطأ والتصويب.
ثانيًا: أن كلام الله ـ وهو المعصوم عن الخطأ ـ يجب أن يكون فوق مقرَّرات العلم اليوم وغدًا. على معنى إذا تَعارَض كتاب الله مع مُقَرَّرات العلم اليوم مثلاً فذلك ما يرجع إلى تفسير خاطئ لكِتاب الله أو إلى نقصٍ في درجة التعيين في مقرَّرات العلم كما هي اليوم.(/2)
35 ـ ما هي النَّفس؟ لأنَّنا نجد لها في القرآن أسماء متعدِّدة: كالنفس المطمئنة، والنفس اللَّوّامة إلى آخره؟
المراد بـ"النفس" في القرآن "الذات" أو "الشخص" أو "الواحد" من الإنسان..
نقرأ قوله تعالى:
(لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَهَا) (البقرة: 233). أي لا تكلّف ذات من الذوات البشرية إلا قدر طاقتِها، أي لا يُكلَّف شخص أو أحد من بني الإنسان إلا قدر طاقته.
وكذلك قوله تعالى:
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) (آل عمران: 30).
وقوله تعالى:
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقةُ المَوْتِ وإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجورَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ) (آل عمران: 85).
وقوله تعالى:
(ومَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف: 53).
أي لا أُبَرِّئ ذاتي أو شخصي أو أنا كواحد من الناس من الأخطاء، فالنفس أو الذات إذا تُركت وشأنها تجنَح إلى السوء، ولا يُبعدها عنه إلا توجيهُ الله وهدايته.
وكذلك قوله تعالى:
(وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى. فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى) (النازعات: 40 ـ 41). أي وأمَّا مَن خَشِيَ الله واتَّقاه ونهَى ذاته وأبعدها عن مُسايرة الهوى فإنَّ الجنة مَصيره ومقرُّه الأخير..
حتّى جاء في مثل قوله تعالى:
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) (النساء: 4). أي فإن تنازلت الزوجات عن بعض من مُهورهِنَّ لأزواجهن تنازلاً ذاتيًّا لم يقعن فيه تحت تأثير عامل آخر غير عامل الذات فكلوه هنيئا مريئًا. أي فاقْبلوه في غير تردُّد.
وفي مثل قوله تعالى:
(واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) (البقرة: 235). أي يعلم ما في ذواتكم أو أشخاصكم أو ما عند آحاد الناس..
وما جاء في وصف "النفس"، بالمطمئنّة في قوله تعالى:(/1)
(يَا أَيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ راضِيةً مَرْضِيّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وادْخُلِي جَنَّتِي..) (الفجر: 27 ـ 30).
أو باللَّوّامة في قوله تعالى:
(لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامةِ. ولاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامةِ) (القيامة: 1 ـ 2).. ما جاء من وصف النفس بهذا أو بذاك فإنه لا يخرج عن تحديد بعض "الذات" أو الأشخاص أو آحاد الناس بصفة أو بأخرى..
فالنفس المطمئنّة هي "الذات" التي تَطمئنُّ إلى رِضَا الله عليها بعملِها الصالح وتجنُّبها مزالقَ الهوى والشهوة في حياتها الدنيوية.. جزاؤها عند الله في الآخرة هو رضاء الله عنها، وجعلها من جملة عباد الله وإسكانها جَنَّتَه..
والنفس اللَّوَّامةُ هي تلك "الذات" التي دَأبَتْ على أن تبتعد عن الطريق غير السوِيّ، وإذا ما تردَّدت لحظة من اللحظات عادت وقرَّعت نفسَها ولامتْها على هذا التردُّد. ووجود مِثْل هذه الذات بين الناس وجود مُؤَكَّد كوُقوع يوم القيامة في الآخرة، ولذا أقْسَم الله بهما هنا، إذ يقسم الله بشيء ما دليل على وجوده وعدم الشَّكِ فيه. على نحو قوله تعالى: (واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. والنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى. ومَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثَى) (الليل: 1 ـ 3). فدنوُّ الليل وظلامه.. وخروج النهار ووضوحه، وتنوُّع الطبيعة البشرية إلى ذكر وأنثى.. من الحقائق البَدَهِيّة التي لا تنكَر. وفائدة القسم بها توضيح أن بدخول القسم وهو ما في قوله هنا:
(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى. وصَدَّقَ بِالحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى. وأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى. وكَذَّبَ بِالحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى. ومَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل: 1 ـ 11). هو على نحو ما أقسم به من البداهة بحيث لا يشكُّ فيها إنسان ما، إلا ذلك الإنسان الذي ينكِر البَدهيّات.(/2)
والمسلمون لم يعرفوا "النفس" على أنّها "جوهر" يَحُلُّ في البدن، وأن البدن من أعراضها إلا بعد أن جاء الفكر الإغريقيّ إلى المسلمين بعد مائة عام على قيام المجتمع الإسلامي تقريبًا. وأُعجِبوا به وحاولوا لذلك الملاءمة بينه وبين المفاهيم والمبادئ الإسلامية..
وإذا أراد القرآن أن يتحدّث عن النفس وعن جزء مُهِمٍّ فيها ـ كذات أو كشخص فإنه يتحدث عن "القلب" مثل:
قوله تعالى: (ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
وقوله جَلَّ شأنه: (ويُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ) (البقرة: 204).
وقوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلوبِ الذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ) (آل عمران: 151).
وقوله تعالى: (لَهُمْ قُلوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْينٌ لاَ يُبْصِرونَ بِهَا) (الأعراف: 179).
وغير ذلك عديد بما جاء في آياته وتستند إليه وظيفة الفَهم أو الهداية مما يجعله الإغريق وظيفة للعقل، وكذلك وظيفة الخوف أو الاطمئنان ممّا ينسُبه هؤلاء إلى ما يسمَّى بالنفس أو الغرائز.(/3)
18 ـ بني إسرائيل بين تفضيل الله وغضبه:
كيف توفِّق في القرآن بين قول الله تعالى في سورة البقرة في شأن اليهود: (يَا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُروا نِعْمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ) (البقرة 47) وقوله في شأنِهم أيضًا في السورة ذاتها: (وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ وبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ). (البقرة 61).
إن ما جاء في القرآن في تفضيل بني إسرائيل إنما هو بتفضيل موسى بالرسالة واصطفائه لها بينهم.
على نحو ما جاء في قول الله تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ). (الأعراف 144 ـ 145)... وقد اختِير موسى إذْ ذاك بالرِّسالة ليُتيحَ له وللبشريّة فرصة الرؤية لنتائج الدعوة إلى هذه الرسالة في قومٍ استُضْعِفوا واستُذَلّوا لحاكِم كان يفرِّق بينهم وبين مَن عداهم في المُعاملة: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص 4).
واستهدفت هذه الرسالة إنقاذ هؤلاء المُستضعَفين ممّا هم فيه من ذِلّة إن هم آمنوا ولم يكفروا بها: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). (القصص 5).(/1)
فتفضيل اليهود إنما هو باختيار الله لموسى رسولاً منهم، ولم يُفَضَّلوا بسبَب عِرْق أو عنصرية.. أو بسبب تمييز بَشريٍّ في خَصائص الإنسانيّة على غيرهم وإنما اختِيروا ليكونوا موضع ابتلاء مِن الله بسبب ظروفهم التي عاشوها قرونًا والمَنطق البشريّ ربما يندفع إلى استنتاج أن اليهود سينجحون في اختبار الله لهم؛ لأنَّهم كانوا أذِلاّء لدى حاكم طاغٍ وقد حرَّرهم الله برسالة موسى من قبضته، ثم تلتها نِعَمٌ كثيرة عليهم منه سبحانه: من الإنجاء من الغرق في البحر عند هرَبهم من فرعون ومَلئِه.. إلى توفير مياه الآبار في محلِّ إقامتهم بعدد عشائرهم لرَيِّهم وسقي مَراعيهم ودوابِّهم، حتى يتجنَّبوا أسباب الاختلاف فيما بينهم في حياتهم.
ولكنَّهم رغم الهدف الذي استهدفته رسالة موسى وهو تحريرهم وإشعارهم بكرامة الإنسان.. ورغم نعم الله العديدة عليهم آثروا البناء تحت تأثير الوثنية المادِّية فأنكروا الله وباشَروا الطغيان عندما يُمكن لهم عن طريق القوة المادِّيّة فقتلوا الأنبياء بغير حقٍّ واعتدَوا على غيرهم، وربَّما على بعضهم بعضًا ثم عندما تذهب القوة المادِّية ويُحِسُّون بالضعف ينزِلون على درجة الذِّلّة والمَسْكنة.(/2)
ويُشير القرآن إلى ما مارسوه مِن طغيان في تاريخ البشرية عند التمكُّن بقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا "أي لتطْغَوا طغيانًا واضحًا" فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا "أي موعد المرّة الأولى منهما" بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً" ويُشير بذلك إلى ما فعله بُختنصَّر والبابليون من هدم هيكل سليمان (الإسراء 4 ، 5) إلى أن يقول: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجوهَكُمْ ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ "ويقصد بالمسجد مكان العبادة وهو هيكل سليمان" كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).. أي وليهلكوا ما استولَوْا عليه ويشير في المرة الثانية إلى ما صنعه الرومان مِن تخريب للأماكن وتشتيت لليهود بعد ذلك في جميع أنحاء العالم. (الإسراء 7).
وعلى أثر هذا الطغيان كان قضاء الله على اليهود بالذِّلّة والمَسكنة وغضب الله إلى يوم البعث، وعبَّر الله عن قضائه هذا في قوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة : 61).
وبقوله كذلك: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم 59).
وهكذا تَحَدَّوْا رسالة الله بينَهم، وعادوا إلى طبيعتهم مِن قَبول الذِّلّة والمسكنة عند الضعف وكأن رسالة موسى لعِزّتهم واستقامتهم عاشت على هامش حياتهم.(/3)
90 ـ العشرونَ مِن المؤمنين يَقتلون مائتينِ؟
وَردَ في القرآن الكريم: أن العشرين من المؤمنين يقتلون مائتينِ، كيف يتم ذلك؟
إن ما يُشير إليه السائل قد جاء في قول الله ـ تعالى ـ في سورة الأنفال: (يا أيها النبيُّ حرِّضِ المؤمنينَ على القتالِ. "أيْ ادْعُ المؤمنينَ إلى قتالِ الأعداء" إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مائتينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مائةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الذِينَ كَفَرُوا "أي ويجب أن لا يتهيَّب المؤمنون قتال أعدائهم؛ لأن هؤلاء الأعداء يَقفون بإدراكهم عند حدِّ مُتع الدنيا المادية، ولا يَرون في الحياة الإنسانية قِيَمًا عُلْيَا يُضحُّون بهذه المُتَعِ في سبيل بَقائها.
فهم حَرِيصُونَ كل الحرص على حياتهم الشخصية، وأموالهم، وأولادهم، يُحافظون عليها قبل الوطن، وقبل الكرامة البشرية، وقبل المعاونة والنجدة لمَن هو في حاجة إلى معاونة مِن الضعفاء؛ ولذا فالمؤمن الصابر يَندفع بإيمانه في قتال أعدائه، لا تَعُوقه نفسٌ يحرص عليها، ولا مالٌ يَفقده أو يَبذله في سبيل الله، ولا ولد أو أهل يتردَّد في شأن القتال مِن أجل رِعايتهم.
ومَن كان شأنه على هذا النحو، إنْ واجَهَ حَريصًا على الحياة، أو على الدنيا على العموم، يتفوَّق عليه في القتال تَفوُّقًا يبعد المُماثلة بينهما بُعْدًا كبيرًا، حتى ليَكون المؤمن وحده عندما يَصبرُ أقدرَ على مُقاتلة عشرة من أعدائه.
وهذا طبعًا عندما تكون عُدَّةُ المؤمن ليست أقلَّ كَمًّا ولا نَوْعًا مِن عُدَّةِ عَدُوِّهِ" بأنَّهُمْ قومٌ لا يَفْقَهُونَ). (الأنفال: 65)..(/1)
"وعدم التوازن في القتال بين المؤمن الصابر الذي تُسيطر عليه روح التضحية وعَدُوِّه عند حَدِّ المَحسوس المادي المُشاهَد، كالأطفال ولا يَستخدمون عقولهم في تقييم الحياة الإنسانية، حتى يَرَوا ويُدركوا: أن العلاقات الإنسانية في الأمَّة أسمَى وفوق المبادلات المادية والفردية.. وأن الوطن الذي يَضُمُّ الجميع أولَى بالمُحافظة عليه مِن منزل الفرد الواحد.. وأن حياة الكلِّ مُقدمة على حياة البعض.
ولأنهم يَقفون بتفكيرهم عند حدِّ المَحسوس لا يَصلون إلى الإيمان بالله وحده الذي تُوحي هدايته في كتابه بالمُحافظة على هذه القيم العليا، والقتال في سبيلها، وردِّ الاعتداء عليها كلَّما تكرَّر العُدوان".
وعدم التوازن في القتال بين المؤمن الصابر، وعدو الله المُحب لذاته والحريص على مُتَعِهِ المادية، بحيث يُمكن للأول القُدرة على أن يَغلِب في القتال عشرةً من أعدائه هو مُعجزة الإيمان، أو هو إرادة الله التي تتمثل في القوانين الاجتماعية، التي تَحكم الطبائع البشرية، فإرادة الله في كوْنه: تَتحقَّق في مبادئَ عامَّةٍ وقوانينَ كلية لا تتخلَّف عنها الطبيعة البشرية بحال.
ومِن هذه المبادئ العامة والقوانين الكُلية: أن روح التضحية في المقاتل عاملٌ حاسم في هزيمة العدو الأنانيِّ، الجبان، المُتردِّد، عند التساوي في عُدَّةِ القتال والإعداد له والمُعادلة التي جاءت في هذه الآية الكريمة: (إِنْ يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ). (الأنفال: 65).(/2)
هي نتيجة لهذا المبدأ العام، وتُصوِّر لذلك إرادة الله، وتعطي الدليل أيضًا على أن الله أيَّد المؤمنين بنَصره؛ لأنه وَفَّقَهُمْ أولاً إلى الإيمان به ومِن ثم كان إيمانهم الطريق إلى روح التضحية: بالنفس والمال ثم إلى النصر على أولئكم الأنانيِّينَ الماديينَ.(/3)
في القرآن الكريم تُوجد آيات تدلُّ على أن العقل يفكر، وكذلك القلب يفكر. فما هذه الآيات؟، وما صلة القلب بالعقل من ناحية التفكير؟
يُحَدِّد القرآن الكريم مكان القلب بأنه في الصدر يقول: (ولكنْ تَعْمَى القُلوبُ التِي في الصُّدُورِ). (الحج: 46). ويُحدد كُنْهَهُ وذاته بأوصافه ووظائفه:
1ـ فيجعله مركز الفهْم والتعقُّل، فيقول: (ولقدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ "أعددنا لجهنم" كثيرًا مِن الجنِّ والإنْسِ لهمْ قُلوبٌ لا يَفقهونَ بها ولهمْ أعْيُنٌ لا يُبصرونَ بهَا ولهمْ آذانٌ لا يَسمعونَ بها أُولئكَ كالأنعامِ بلْ همْ أضلُّ أُولئكَ همُ الغَافلونَ). (الأعراف: 179). فجعل الإنسان يَفْقه ويفهم بقلبه. ويقول أيضًا: (أفلمْ يَسيروا في الأرضِ فتكونُ لهمْ قلوبٌ يَعقلونَ بها أو آذانٌ يَسمعون بها فإنَّها لا تعمَى الأبصارُ ولكنْ تعمَى القلوبُ التي في الصُّدُورِ). (الحج: 46)، فإنه يَنْسبُ إلى القلوب عمل العقل والفكر.
ـ ويجعل مركز المسئولية: فيقول: (ولا تَكْتُمُوا الشهادةَ ومَن يَكْتُمْهَا فإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ واللهُ بمَا تَعملونَ عَليمٌ). (البقرة: 283) وهكذا القلب يأثَم ويَعصي، ويُطيع ويُنفذ.
ـ ويجعله مركز الإيمان والكُفر: فيقول: (مَن كفَر باللهِ مِن بعدِ إيمانِه إلَّا مَن أُكْرِهَ وقلبُهُ مُطمئِنٌّ بالإيمانِ ولكنْ مَن شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ولهمْ عذابٌ عظيمٌ). (النحل: 106). ويقول: (ومَن يُؤمِنْ باللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ واللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ). (التغابن: 11). فالقلب مكان الإيمان والكفْر. كما يقول: (مَا جَعَلَ اللهُ لرجلٍ مِن قَلْبَيْنِ "أحدهما للإيمان، والآخر للكفر" في جَوْفِهِ)، (الأحزاب: 4).(/1)
ـ ويجعله مركز الإحساس، فيقول: (وأَلَّفَ بيْنَ قُلوبهمْ لو أنْفَقْتَ ما فِي الأرضِ جميعًا مَا ألَّفْتَ بيْنَ قُلوبِهِمْ ولكنَّ اللهَ ألَّفَ بيْنَهُمْ إنَّهُ عزيزٌ حَكيمٌ). (الأنفال: 63)، فالترابط بين المؤمنين هو ترابُط الشعور، والإحساس العميق. ويقول (ولوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ). (آل عمران: 159).
ـ ويجعله مركز الوعْي في الإنسان فيقول: (نَزَلَ بهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. علَى قَلْبِكَ لتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ). (الشعراء: 193ـ 195).(/2)
ـ ويجعله مركز الذوْق، فيقول: (وإِذَا ذُكِرَ اللهُ وحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلوبُ الذينَ لا يُؤمنونَ بالآخرةِ وإذا ذُكِرَ الذينَ مِن دُونِهِ إذَا همْ يَسْتَبْشِرُونَ)، (الزمر: 45). فالقلوب كما تَشمئزُّ: تفرح وتستبشر. ... ...
والقلب أخيرًا في نظر القرآن الكريم يُمثِّل بانضمامه إلى السمع، والبصر: الخصائص الإنسانية في الإنسان على معنى أن الإنسان يتميز عن الحيوان بالقلب مع السمع والبصر، والسمع والبصر هما مدْخلَا الإدراك والتعقل. فيقول الله ـ جل شأنه ـ: (أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وأضَلَّهُ اللهُ علَى عِلْمٍ وخَتَمَ علَى سمْعهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ علَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فمَنْ يَهْدِيهِ مِن بعْدِ اللهِ أَفَلا يَتَذَكَّرُونَ). (الجاثية: 23). أي أن مثل هذا الذي اتبع هواه وجعل منه إلهًا يعبده، وأغلق عليه قلبه، وعطَّل عليه سمعه وبصره، يستحيل عليه أن يصِل إلى هداية الله، وليس هناك في الوُجود، عدا الله مَن يُمكِّنه منها؛ لأن منافذ الإنسانية لدَيه سُدَّتْ جَمِيعُها. ... ...
وهكذا: يكاد يكون القلب ـ في تقدير القرآن له ـ أن يَنظر إليه على أنه هو المركز الذي تتفرَّغ منه وتنتهي إليه شرايينُ الإنسانية، وإذا كان القلب في نظر الأطباء هو العضَلة التي تُنظِّم توزيع الدمِ حسب حاجاتِ البدَن، فإنه في نظَر الإسلام هو مصدر التوجيه والقيادة في الإنسان الذي يُضلُّه ويهديه.(/3)
11 ـ سُجود المَلائكة لآدم:
آنسة من إحدى القرى تستفسِر عن معنى قول الله تعالى: (وإِذْ قُلْنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدوا لآدَمَ). (البقرة: 34).
هذه الآية تُفيد أن الله ـ تعالى ـ بعد أن خلق الملائكة أراد أن يَختبرَهم في طاعته فأمرهم بالسجود لآدمَ: (فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى واسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ). (البقرة: 34). وعلَّل إبليس عصيان ربِّه في هذا بما جاء على لسانه في قول الله تعالى: (قَال مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهٌ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). (الأعراف: 12). فتصور إبليس أنَّ الإنسان خُلِقَ فقط من مادّة وهي الطين بينما هو كمَلَك خُلِقَ من مادّة هي النار، والنار لخِفّتها وميلها إلى الارتفاع والصعود أشرف في نظره من الطين الذي ينجذب لثقله إلى الأرض وفرْق بين ما يرتفِع ويسمُو وبين ما يدنو من الأرض ويسقُط عليها، ونَسِيَ إبليس أنَّ الإنسان لم يكن مادة فقط وإنَّما أُضِيف إلى الخلْق مِن طين تصويرُه بالإدراك والعقل كما جاء في قوله الله ـ تعالى ـ: (ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدوا لآدَمَ ). (الأعراف 11) فتتحدَّث الآية هنا عن أمرين في الإنسان: الخلق ثمَّ التصوير ويوضِّح هذا قوله سبحانه في سورة الإنسان: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان 2). فالمادّة المختلِطة من الذُّكورة والأنوثة في أصل الإنسان ـ بعد أن تحوَّل الطين إلى ماء مَهين ـ أُضيف إليها إعداده بالسمع والبصر.(/1)
والإعداد بالسمع والبصر هو إعداد بمدخل العقل والإدراك فيه وجاءت مراحل التحوُّل كله في خلق الإنسان في قوله ـ تعالى: (ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ سُلالةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظامًا فَكَسوْنا العِظامَ لحمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ "أي مزوّد بالعقل والإدراك" فتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخالِقينَ). (المؤمنون 12: 14).
فالإنسان بخَلقه وتصويره كان مخلوقًا مكرَّمًا عند الله وفضَّله على كثير ممَّن خلَق: (ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً). (الإسراء: 70).
وخطأ إبليس ـ إذن ـ أنّه لم يُدرك هذا الجانب في آدم، فعصى ربَّه وغَوى عن هدايته، بامتناعه عن السجود، عندما أُمِر هو والملائكة بالسجود لآدم، وأصبح إبليس بهذا العصيان مَصدرًا للوسوسة والشَّرِّ، كما أُبعِدَ وطُرِدَ من الجنة إلى هذه الأرض.
وكذلك بعد ما خلق آدم وحواء أراد الله اختبارَهما أيضًا في طاعته: (وقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ولاَ تَقْرَبَا هَذَهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ). (البقرة: 35 ـ 36).
وبمُخالَفة آدم وحواء ما أمرهما به الله ـ تعالى ـ دخلا في العصيان، ونالا جزاءَهما بالطَّرد من الجنّة، كما جُوزي إبليس به: (وقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) "وهم إبليس وآدم وحواء" (ولَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة: 36).(/2)
وبنزول الثلاثة إلى الأرض ـ وهم طَرَفان في العداوة: إبليس طرف، وآدم وحواء طرف آخر ـ وُجِدَ الشَّرُّ والخير على هذه الأرض، ووُجد الصراع بينهما، ويستمرُّ هذا الصراع إلى حين وهو يوم تقوم الساعة، وبنو آدم ـ بعد آدم وحواء ـ دخلوا مجال الاختبار والابتلاء في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض والإنسان؛ لأنه مخلوق مركّب، كانت مادّته مصدر غرائزه وشهوته وهواه، وكان عقله مصدر حِكمته، ولكن عندما اتَّضح في اختبار آدم وحواء وهما في الجنّة، أن شهوتهما أو وسوسة الشيطان لهما كانت أقوى من صوت العقل والحكمة عندهما ـ ولذلك كان عصيانهما لربِّهما ـ شاء فضل الله أن يُعين الناس على استخدام العقل والحكمة في مواجهة الشهوة والهوى وفي مواجهة غرائزه التي تمثِّل خلقه من المادة وذلك برسالة الرسل إلى الناس ومعهم كتاب الهداية: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ والذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ). (البقرة 38،39)
وإذا كان اختبار الملائكة في طاعة الله تَمَّ من يوم أن سجدوا جميعًا عدَا إبليس، فإن اختبار بني آدم في طاعته ـ سبحانه ـ مستمِر، ما دامت الأرض هي الأرض والسَّماوات هي السَّماوات مع أن الإنسان قد أُعِدَّ بالعقل، فإن فضل الله عليه قد تعدَّى ذلك إلى إرسال الرسل له، لتكونَ رسالتهم عونًا لعقول البشر على وُضوح الرؤية والتمييز بين الضلال والهداية.
والصِّراع في الإنسان هو صراع بين مادته وغرائزه من جانب، وعقله وحكمته من جانب آخر. أو صراع بين الشَّرِّ والخير فيه والسيد من الناس هو الذي يجعل مِن عقله مِيزانًا لمَا يهوى ويشتهي والمؤمن بالله هو الذي يستعين بهداية الله في كتابه ليكون عقله ذلك الميزان الذي يقيمه من نفسه.(/3)
وما تقضي به حكمة العقل هو ما تُعطيه هداية الله في كتابه، والعكس بالعكس.(/4)
24 ـ الصلاة، وكيف تكون الاستعانة بها كبيرة:
كيف تكون مباشَرة الصلاة كبيرة في قوله تعالى (واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإِنَّهَا لَكِبيرَةٌ إِلاّ عَلَى الخَاشِعينَ)؟ (البقرة: 45)
القرآن الكريم يتَّجه بهذا الطلب إلى زعماء بني إسرائيل الأحبار، فقد كان موقِفهم من القرآن الكريم موقف الكافر والمُعارِض له حرصًا على زعامتهم في قومِهم.
فقد كانتْ هذه الزَّعامة ـ وهي زعامة دينيّة ـ تُدِرُّ عليهم أموالاً، وجاهًا ولو يُؤمنوا برسالة الرسول محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأصبحوا مِن آحاد المؤمنين، بعد أن كانوا مِن الزُّعماء والوجهاء في قومهم، وقد طلب إليهم ـ جَلَّ جلالُه ـ من قبل في هذه الآية أن يؤمنوا بما جاء به القرآن مُصدِّقًا لمَا معهم: (وآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ولاَ تَكُونُوا أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ ولاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً) "وهو ما يُفيدونه من بقائهم زعماءَ في قومهم" (وإيّايَ فاتّقونِ) (البقرة 41) ... كما نَهاهم عن خلْط الحقِّ في رسالة الله كما جاء بها القرآن بباطِل ما يُروِّجونه ضدَّها إبقاءً على زعامتهم: (ولاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بالبَاطِلِ وتَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة 42) .. ثُمَّ طلب إليهم أن يُمارِسوا الإيمان بالقرآن عمليًّا في أن يكونوا مع المؤمنين به في إقامتهم للصلاة وإيتائهم للزّكاة : (وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعينَ) (البقرة 43).
وأنَّبَهم على أنهم يدَّعون اتِّباعهم كزُعماء دِينيِّينَ إلى السلوك مسلَك الخيِّرين، وهم أنفسهم لا يسلُكون نفس المَسلك بإيمانهم بالقرآن: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 44)(/1)
ولكي يَدُلَّهم القرآن على وسيلة نافذة في تَحوُّلهم مِن وَضْعهم القائم وهو وَضْع المُستكبر بسبب الزعامة، ووَضْع المخادِع المروِّج للباطل في صورة الحقِّ، ووضع المنافِق الذي ينصح غيره بما لا يتبعه هو إلى وَضْع المُطيع لله وحده. والمُتَّبِع لدِينه وهو الدين السويِّ والمنهج المستقيم في الحياة .
أمرهم بأن يستعينوا بالصبر وبالصلاة: (واسْتَعينُوا بالصَّبْرِ والصَّلاةِ) .. فالصلاة هي عنوان الطاعة لله وحده، وبالصبر على أدائها يتجاوزون المَشقّة النفسيّة التي سَيشعُرونَ بها عندما يَنتقلون مِن الزعامة إلى أحادٍ بين المؤمنين ثُمَّ أعلن أن هذا التحول من الكفر إلى الإيمان ليس بالأمر اليسير على أصحاب الرِّياسة والزعامة في أقوامهم. فعبَّر عن هذا التحول بالصلاة: (وإِنَّهَا لَكَبيرَةٌ) لأنَّها شعار الإيمان وعنوانه.
ثم استثنى من مَشقّة التحوُّل عن طريق الصلاة أولئكم الضُّعفاء أو المستضعَفين في مجتمعاتهم لأصحاب الرياسة فيها، فقال: (إِلاَّ عَلَى الخاشِعينَ) أي إلا على أولئكم الضعفاء التابعين الذين ليستْ لهم مصلحة في البقاء على الكفر والدنيا لم تَنَلْ من نفوسهم؛ ولذا لا يُنكرون الآخرة إنكارًا قويًّا كما يصنع الكبراء فيهم بل هم قَريبون من الإيمان بها: (الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (البقرة 46).
فالصلاة التي ذُكِرَتْ في الآية هي بمَثابة الشعار للإيمان والآية تُريد أن تقول: إنه يصعُب على الماديِّين ـ وبالأخصِّ الزعماء فيهم ـ أن يتحوَّلوا إلى الإيمان؛ إذْ في تحوُّلهم مشقّة كبيرة على نفوسهم، وبنو إسرائيل ـ وبالأخصِّ الزعماء فيهم ـ قد طغى عليهم اتجاه المادِّية، وإذن انتقالهم إلى الإيمان بالقيَم الإنسانية فيه كَبيرُ عَنَتٍ ومَشَقّة لهم.(/2)
20ـ هل في القرآن الكريم آية كريمة أو آيات كريمات فيها إشارة إلى أن الله فضَّل بني إسرائيل على العالمين؟.وما معنى هذا التفضيل؟ وهل كان موقوتًا بعصر معيّن؟
ورد قول الله ـ تعالى ـ بأنه فضَّل بني إسرائيل على العالمين في عدة آيات: منها آيتان في سورة البقرة، وآية في سورة الأعراف، وأخرى في صورة الجاثية. وورد في سورة الدخان بتعبير آخر. ففي سورة البقرة يقول ـ سبحانه ـ : (يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ. واتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ولاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ولاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ولاَ هُمْ يُنْصَرونَ) (البقرة: 47 ـ 48). ويقول: (يَا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُروا نِعْمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ. واتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ولاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ولاَ تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ولاَ هُمْ يُنْصَرونَ) (البقرة: 122 ـ 123). وفى سورة الأعراف جاء على لسان موسى قول الله ـ تعالى ـ: ( قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إلهًا وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العَالَمِينَ) (الأعراف: 140). وفى سورة الجاثية يقول القرآن الكريم: (ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرائِيلَ الكِتَابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ورَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالَمِينَ. وآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفونَ) (الجاثية: 16 ـ 17). وفى سورة الدخان يقول سبحانه: (ولَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العالَمِينَ) (الدخان: 82).(/1)
ومعنى تفضيل الله لبني إسرائيل على العالمين هو إشارة لهم برسالة الرسول، واختيارهم دون ما سواهم في ذلك الوقت للرسالة، كما ورد ذلك صحيح في سورة الدخان. لقد أرسل من بينهم موسى يدعو إلى خَلاصهم من فرعون وملئه، كما يدعوهم إلى التوحيد وطاعة الله بانتهاج سبيله، وهو سبيل الهدى والاستقامة، وتجنُّب الظلم وعدم الانحراف.
وتَكرار ذكر الله لبني إسرائيل على العالمين هو تكرار لعنة الله عليهم في مواجهة تَكرار عِصيانهم وظلمهم لأنفسهم، وابتعادهم عن طاعة الله. ففي سورة البقرة تذكر خمسة وعشرون آية ـ بعد ذكر آية تفضيلهم واختيارهم للرسالة في ذلك الوقت ـ النِّعَم الأخرى التي أنعمها الله عليهم. وفى مقدِّمة هذه النِّعَم:
1 ـ نجاتهم من ظلم فرعون وآله.
2 ـ ونجاتهم من الغرَق في البحر عندما اجتازوه في عودتهم مارِّينَ بسيناء.
3ـ والعفو عنهم بعد أن ظلموا أنفسَهم بعبادة العجل في سيناء في غَيبة موسى عنهم في لقائه مع رَبّه في الطُّور.
4ـ وتكليف موسى بالرِّسالة لهدايتهم.
5ـ والاستجابة إلى طلب موسى بالغفران لهم، بعد عبادة العجل.
6ـ وتجديد مجتمعهم وبعثه من جديد، بعد عقوبة الله لهم بالزلزال، إثر تحدِّيهم موسى بطلبهم إِيّاه أن يُريَهم الله جَهرةً وعيانًا، وبعد توفير الخيرات والنِّعم لهم.
ولكنهم قابلوا نِعَم الله العديدة بالكفر، والعصيان، والعبث، والفساد، وارتكاب الجرائم الاجتماعية. فآيات البقرة المشار إليها تقصُّ منها أنّهم:
كفروا بالله، فورَ نجاتهم من مِحنة فرعون، ومن الغرق في البحر، وعادوا إلى عبادة الأوثان.
(ب) وكفروا بالله، وعلَّقوا إيمانهم بموسى على أن يرَوا الله مشاهدةً، وذلك بعد ما تاب الله عليهم، استجابة لسؤال موسى في الغفران لهم من عودتهم إلى عبادة الأوثان.(/2)
(ج) وعصَوْا أمر ربِّهم بعد ما أغدقَ عليهم الكثير من نعمه إثر عودتهم من الهجرة، فلم يسجدوا لله شكرًا وطاعة عند دخولهم القرية، واستكبروا وأصرُّوا على استكبارهم.
(د) واستمروا في العبَث والفساد، والشِّقاق، بعد أن استسقى موسى ربَّه وأجابه إلى ما طلب، وانفجر من العيون ما يوازي عدد أسرهم أو قبائلهم الاثنتي عشرة، حتى لا يقع خلاف من أجل السُّقْيا لهم ولأنعامهم، فيما بينهم. ... ... ... ... ...
(د) وتمرَّدوا على نعم الله التي أنعم بها عليهم من طيِّبات ما يؤكَل، وطلبوا ألوانًا أخرى من الطَّعام وهاجروا بسببها إلى مصر، ولَقُوا فيها الهوانَ والمَذَلّة.
(و) ونقضوا العهد بالوفاء إلى الله، الذي قطعوه على أنفسهم، عندما اشتدَّت بهم المحنة في جبل الطور.
(ز) وعصَوا أمر الله في عدم الصيد يوم السبت، ونال مَن عصى منهم بسبب عصيانه غضَب الله وسخطه، وأصبح في المهانة والخِسّة مثلاً يُضرب في أيامهم، ومُسخت كرامتُه الآدميّة، وأضحى مساويًا للقِردة.
(ح) وكثرة جدَلهم لموسى ـ عليه السلام ـ عنادًا وتحدِّيًا فيما أُمروا: من ذبح البقرة، كأمارة على الطاعة لله.
(ط) وارتكابهم الجرائم الاجتماعية في المال بالرِّبا، وفي الأنفس بقتلها بغير حق، وفي العِرض بالاعتداء عليه، وقد حُذِّروا من ارتكابها عدة مرات.(/3)
واستهدفت سورة البقرة من تَعداد النِّعَم على بني إسرائيل ـ ومن بينها تفضيلهم على العالمين، أو إيثارهم بالرسالة الإلهية في ذلك الوقت ـ وكذلك من تَعداد أنواع الكفر والعصيان منهم.. أن تُقنع المؤمنين برسالة الرسول محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنهم لا يطمَعون في هداية بني إسرائيل، وفي إيمانهم برسالته ـ عليه السلام ـ وأن يصبِحوا لهم إخوانًا في الإيمان وفي الهداية. إذ قد جاء عقب هذه الآيات التي عدَّدت النعم، وألوان الكفر لبني إسرائيل، قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعونَ أَنْ يُؤمِنُوا لَكُمْ وقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهُمْ يَعْلَمونَ. وإِذَا لَقُوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا "أي لبعضهم بعضًا" أَتُحَدِّثونَهُمْ "أي أتحدِّثون المؤمنين من أتباع محمد" بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ "أنتم" لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلونَ) (البقرة: 75 ـ 76). فطبيعة بنى إسرائيل ـ كما تشير هاتان الآيتان ـ هي طبيعة المكر، والخداع، والنِّفاق. فهم قد مكروا، وخادعوا الله، ونافقوه عدة مرّات، وأحرَى بِهم أن يخدعوكم أنتم أيُّها المؤمنون ويمكُروا بكم، وينافقوكم فلا تؤمِّلوا في أن يكونوا لكم إخوانًا في دينكم.
وليس معنى تفضيل الله لبني إسرائيل على العالَمين.. هو تفضيلهم في "العِرق" و "الشَّعْب" . فالقرآن الكريم ـ وهو كتاب الله الذي يقصُّ آيات تفضيل الله لبني إسرائيل ـ يقصُّ أيضًا قوله ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
وهذه الآية تؤكِّد:(/4)
أولاً: مساواة البشر جميعًا في الطبيعة والاعتبار، فهم مخلوقون من ذكر وأنثى.
وثانيًا: أن اختلاف البشر إلى شعوب وقبائل ليس اختلافًا يدعو إلى تفضيل شَعْب على شعب ولا قَبيلة على أخرى، وإنما يستهدف فقط التعارف.. لا يستهدف تعاليًا ولا عداء، بل بالأحرى يقصد إلى الجمع والترابط.
وثالثًا: أن مبدأ الأفضليّة بين الناس لا يعود إلى الانتماء إلى جنس، أو عرق، أو شعب، أو قبيلة.. وإنما يعود إلى التقوى.. يعود إلى تجنُّب الأخطاء والانحرافات والجرائم.. يعود إلى التقدم في مستوى الإنسانية والتطور في التمثُّل للقيم العليا التي تُحدِّد إطار هذا المستوى.
وكلام الله في كتابه لا يوافق بعضه بعضًا فقط. وإنما كتاب الله يتَّفق مع خلق الله في الكون وفى طبائعه. إذ الله ربُّ السَّمواتِ والأرض ومبدِع الكون كلِّه. والتضارُب الذي يتصوره إنسان أنه يقع في خلق الله: في كتاب الله.. في الكون مع كتابة.. في جوانبه هو من تفكير الإنسان، وليس من واقع خلق الله، كما أراده الله: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ ولَوْ كَانَ مِنْ عِنْدَ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء: 82).(/5)
وهنا إذا شُرِحَ تفضيل الله لبني إسرائيل على أنّه تفضيل شعب وعِرق.. يكون ذلك تحريفًا واختلافًا في كتاب الله: (كَانَ النّاسُ أُمّةً واحِدةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتقِيمٍ) (البقرة: 213). (ومَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (النحل: 64). فرسالة القرآن لتوضيح الانحرافات وتصحيح ما اختلف فيه أهل الكتاب السابقون.(/6)
وفيما جاء في سورة الجاثية من ذكر تفضيل الله لبني إسرائيل على العالمين.. يعقِّب عليه القرآن: بأنّهم قد حَرَّفوا ما فُضِّلوا به وهو كتاب الله الذي أُنزل على موسى، وحرَّفوه بعد علم وعن قصد. ولذلك سيَنالُهم جزاء ما حرَّفوا. يقول الله ـ تعالى ـ: (ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرائيلَ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوّةَ ورَزقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ "وهذه كلها من نعم الله" وفَضَّلْناهُمْ عَلَى العالَمينَ "أي بسبب ما أوتوا من كتاب وحكم ونُبوّة" وآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمرِ "أي آتيناهم بأماراتٍ واضحة لا تقبل التأويل والتحريف بحال: سواء فيما أُنزل بالتوراة، أو فيما جاء جزاء لهم" فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ "أي فما انشقُّوا على أنفسهم في التفسير والتأويل، وما انحرف منهم مُنحَرِف، وما عصَى مَن عصَى، وما كفَر مَن كفَر إلا وهو على علم تامٍّ بما أَوَّلَ فيه، وانحَرَف عنه، وعصَى فيه، وكفَر به" إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ "أي بين المختلفين والمنشقِّين من المنحرفين والكافرين من بني إسرائيل" يَوْمَ القِيامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفونَ). ثم اتَّجهت السورة إلى الرسول ـ عليه السلام ـ لتحذِّره من السلوك مسلك بني إسرائيل، فتقول: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَريعةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمينَ "الكافرين والمنحرفين" بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ واللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ) (الجاثية: 16ـ19).(/7)
33 ـ ما هي "الدرجة" في قوله تعالى:
(... وبُعولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحًا ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعروفِ وللرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (العلق: 6 ـ 7).
هذه الآية تُعالِج وضعًا في العلاقة الزوجية، وهو الوضع الذي يُطَلِّق فيه الزوج زوجته. هذا الوضع من شأنه أن يكون متوتِّرًا، وأن يكون تَصَرُّف كل من الزوجين فيه تحت التأثُّر بانفعالات خاصَّة، هي انفعالات الغضب أو الرَّغبة في التشَفِّي أو الانتقام، أو الرغبة في التشهير والتنديد بتصرُّفات الطرَف الآخر أثناء العِشْرَة الزوجية.
ذلك هو الوضع النفسي الذي يقوم عليه الإنسان إذا ترك طبيعته لغرائزه تتحكَّم فيها.
والإسلام منهج حياة يُلزم مَن يؤمن به أن يسير وفقًا له في معاملته لنفسه أو في معاملته لغيره، في حال اليُسر والرخاء أو في حال العُسر والشِّدّة... في حال السَّعة أو في حال الضيق.
وهو حريص كل الحِرْص في منهجه هذا على أن يكون الإنسان أكثر ما يكون مهذَّبًا في معاملته لغيره، وقت شِدّة الغير ومِحْنَتِه، بالأخصِّ إذا كانت هناك علاقة بين الاثنين تتَّسم بالسِّرِّيّة وبالحساسية، كما هي بين الزوج وزوجته.
ولا شكَّ أن الزوجة أثناء انقضاء شِدَّتها بعد أن طلِّقت من زوجها في حالة قلق نفسي على مستقبلها ومستقبل ولدها إن كان لها ولد. وفي هذا الوقت بالذات أجاز الإسلام للزوج مُراجعة زوجته وإعادة العلاقة الزوجية بينهما وجعله أحقَّ بذلك من أي رجل آخر يتقدّم لخطبتها. وهذا هو قوله تعالى: (وبُعولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصلاحًا) (البقرة: 228).(/1)
وفي هذه الحالة يقرِّر القرآن من جديد أن تكون الحقوق والواجبات فيما يَضمَن حُسْن المُعامَلة والعِشْرة بينهما مُتَماثِلة، كما هو شأن الزواج وطبيعته، ذلك الذي امتَنَّ به الله على الإنسان في قوله: (ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنوا إِلَيْهَا) (الروم: 21)... فجعل السَّكَن والهدوء والاستقرار في الحياة عدل الزوجية.
ثم جاء بعد تقرير المُماثَلَة بين الزوجين في الحقوق والواجبات من قوله: (وللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرجةٌ)... هو زيادة في حُسْن المُعامَلة طلبها القرآن من الزوج خاصة. فالقرآن لم يكتفِ بالمماثلة بين الزوجة والزوج وأن يكون ما يأتي به الزَّوج في حُسن المعاملة مساويًا تمامًا لما تأتي به الزوجة، بل يُنتَظَر من الزوج أكثر من المُماثَلة فيما يُعطي هو ويقدِّم لزوجته، لا فيما يأخذه منها. وذلك هو "الدَّرجة" في قوله: (وللرِّجال عليهن دَرَجةٌ).
... وآية ذلك أنه:
1ـ يُطلَب من الزوج إذا استقرَّ الأمر على الطلاق أن يكون في طلاقه مُحسِنًا كما كان في عشرته محسنًا ومهذَّبًا:
(الطّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229).
2ـ ويُطلَب من الزوج أن يُعطي زوجته بعد طلاقها ما يسمَّى "مُتْعة" تستعين به في حياتها إلى أن تُنَظِّم وضعها من جديد مما يُشعِرُها بأنّه الآن ـ كما كان قبل الآن ـ إنسان في معاملته ايّاها، يُكرمها ولا يُسيء إليها وإلى سمعتها:
(... ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالمَعْروفِ حَقًّا عَلَى المُحْسنينَ) (البقرة: 236).
فجعل ذلك لِزامًا على الإنسان المُهَذَّب وهو المؤمن على الحقيقة بالإسلام.
3ـ كما يُطلَب في حال طلاق الزوجة قبل الدخول بها أن يَتسامَح الزوج فيما يحقُّ له من استرداد نصف المهر منها ويترك لها المهر كله:(/2)
(.. وأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقْوَى ولاَ تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْملونَ بَصيرٌ) (البقرة: 237).
فآثَر القرآن أن يكون الإعفاء عن نصف المَهْر من جانب الرَّجُل وليس من جانب المرأة.
فالدرجة هنا مرتبة في حسن المعاملة وليس في الغلظة فيها. فخلق المؤمن على الإطلاق هو خلق المُحسِن الذي يُعطِي من نفسه ومُرُوءته وماله أكثر ممّا يأخذ من غيره، والرجل قبل المرأة في ذلك.(/3)
34 ـ ما هو الخوف في قول الله تعالى:
(ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمراتِ وبَشِّرِ الصّابِرينَ. الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ) (البقرة: 155 ـ 156).
الخطاب في هذه الآية مُوَجَّه إلى المؤمنين في قول الله قبلها: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ. ولاَ تَقُولوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ولَكِنْ لاَ تَشْعرونَ) (البقرة: 153 ـ 154).
فطلب إليهم في هذا النداء أمرين:
أولاً: الاستعانة بالصبر والصلاة عند الأزمات والشدائد.
وثانيًا: تقدير الذين يجاهدون في سبيل الله بأن لا يتحدَّثوا عنهم بأنّهم أموات بل يجب اعتبارهم أحياء، وإن لم يروهم رؤية العين؛ لأنهم أحياء بأرواحهم وبذكراهم وبآثارهم الخالدة.
وكان هذا الطلب تمهيدًا لما جاء بعد ذلك من الابتلاء للمؤمنين. وهو ابتلاء فيما يتصل بالنفوس وحياتها، والبطون وحاجتها إلى الغذاء وقُوة الأمة وما يتصل بهذه القوة من أموال وأنفس ومحاصيل.
فقد تتعرّض النفوس إلى الموت، وحتمًا ستتعرض مادامتْ تجاهد في سبيل الله. وقد تتعرَّض البطون إلى الجوع، وحتمًا ستتعرض مادام يتمسّك أصحابها بمبدأ الإيمان بالله.
وقد تتعرّض قوة الأمّة المادِّيّة إلى الضعف والنقص مادام هي أمة تحرِص على القِيَم والمُثُل العليا.
ومن هنا كان تأكيد الابتلاء بهذه الصيغة: (ولَنَبْلُوَنَّكُمْ..) فهي إخبار من الله على سبيل التأكيد الذي لا يتطرَّق إليه شَكٌّ.(/1)
فكلمة "الخوف" هي القتال؛ لأنه قد ذكر قبل هذه الآية في الآية السابقة عليها والتي كانت تمهيدًا لها، وهى: (ولاَ تَقولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) (البقرة: 154). ثم جاء الخوف بمعنى القتال أيضًا في قول الله ـ تعالى ـ في سورة الأحزاب في شأن المنافقين وموقفهم من القتال في سبيل الله:
(فَإذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ "أي رأيتَ المنافقين" ينظرون إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ) (الأحزاب: 19).
أمّا الخوف بمعنى القلق النفسي فهو أمرٌ عادي لا يكون به الابتلاء والاختبار للمؤمنين وتمييزه عن المنافق. على أن تعقيب القرآن بعد ذلك بقوله: (وبَشِّرِ الصّابِرينَ. الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (البقرة: 155 ـ 156). يُشعِر بأن الأمر غير عادي وأنه من المصائب والفواجع. ولا يكون الخوف مصيبة وفاجعة إلا إذا اقترب بالموت، ومجال ذلك هو القتال.(/2)
19 ـ نريد تفسيرًا للآية الكريمة: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)، وهل هي مَكِّيّة أو مدنيّة؟
إن قول الله ـ تعالى ـ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) آية في سورة "الدخان"، و"الدخان" إحدى سور الحواميم السبع، وهي كلها نزلت في الفترة المكِّيّة الأخيرة، أي في الفترة التي سبقت الهجرة إلى المدينة مُباشرة. والسُّور التي نزلت في مكّة تُعنَى في الدرجة الأولى بموضوع الإيمان بوَحْدة الألوهية والشرك فيها.. تُعنَى بموضوع الرُّوحية الإنسانية، والوثنية المادِّيّة.
وسورة الدخان تبتدئ بتوضيح أن القرآن كتاب أُنزل مِن الله في ليلة القدر، رحمةً منه بالناس جميعًا: (حم. والكِتَابِ المُبِينِ "أي القرآن" إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ "وهي ليلة القدر" إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أمرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (الدخان: 1ـ6).
ثم تذكر موقف المادِّيّين المكِّيّين منه ـ وهو موقف الكافر به ـ وما سيُصيبُهم في حياتهم الدنيويّة والأُخرويَّة من جزاء. وهو جزاء ليس وَقْفًا عليهم، وإنما أصاب قبلَهم ـ ويُصيب بعدهم ـ كلَّ مَن كان على شاكِلتهم في الكُفْر والإصرار عليه. والتاريخ خير دليل على الماضي، وفيه إشارة إلى المستقبل.(/1)
والآية التي يُراد تفسيرها هنا، وهي قوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) (الدخان:10).. يُخاطب بها الله ـ سبحانه ـ رسوله محمدًا ـ عليه الصلاة والسلام ـ مبلِّغًا إياه: أنه سيلحق بهؤلاء الأعداء من المكِّيّين في دنياهم من عقاب، ما يجعلهم يُحِسُّون به إحساسًا أليمًا، ويتوسّلون بكل وسيلة إلى رفعه عنهم، وذلك جزاءً على كُفرهم برسالته وعنادِهم في الكفر. والمعنى: انتظر ولا تقلَق من كُفْرهم وعِنادهم، فسيأتي يوم عليهم لا يَرَوْن فيه إلا دخانًا واضِحًا؛ أي إلا جُوعًا وشِدَّة قحط. فالتعبير بالدُّخَان كِنايَة عن الجَدْبِ بسبب الجَفاف وعدم نُزول المطر؛ لأن الأرض إذا ما جَفَّتْ بسبَب انقطاع ماء المطر أو الرَّيِّ عنها تحوَّلت إلى تراب فغُبار يَصعد ويَرْتَفِع مع الهواء، وهنا تكون الرؤية مُتَعَذَّرة. والغُبَار في ارتفاعه مع الهواء يُشبه الدخان المتصاعد في منعه للرؤية.
ويُروَى عن ابن كثير: أن هناك مجاعتين وقعتا في مكّة: إحداهما في السَّنة الثامنة من بعثته ـ عليه السلام ـ أو في السنة الرابعة قبل الهجرة إلى المدينة. والثانية في السنة الثامنة بعد الهجرة. والبخاري يُشير إلى المجاعة الثانية فقط. ويُرْوَى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تُضايق من موقف "مُضَر"، فدعا الله بقول: "اللهمَّ اشدُدْ وطأتَكَ على مُضَرَ، واجعلْها عليهم سنين كسِنيِّ يوسُف".. فأخذتْهم سَنةٌ حتى أكلوا الجِيَف والعِظام، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه، وناشدوه الله والرحِم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم، فإنهم يؤمنون به.. فلمّا كشف عنهم عادوا إلى ممارسة شركهم.(/2)
وجاءت الآية بعدها: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنونَ) (الدخان: 12). أي إِنَّا نؤكِّد لك أننا سنؤمن لو كُشِفَ عنَّا العذاب. جاءت هذه الآية تُشير إلى ما وعَد به أبو سفيان ونفر معه في لقائه ـ عليه السلام ـ من الإيمان، بعد كشف العذاب عنهم.
ولكن ليس من السهل على مَن استغرَق في المادِّيّة والشرك أن يتخلَّص منها ويَنْتَقِل فجأةً إلى الرُّوحِيّة والإيمان بالله وحده. وإنما كثيرًا ما يَغلِب عليه الوضع ويَجذِبه إلى الرسوب فيما استقر فيه وأنِس إليه. وهنا جاء قول الله ـ تعالى ـ بعد الآيتين السابقتين: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (الدخان: 13ـ14). ليُوقِف رسوله الكريم على خصائص هذا الوضع، كي لا يؤمِّل كثيرًا في إيمانهم برسالته. إذ معنى ما جاء هنا في هذه الآية: أن هؤلاء قوم لا يَتَّعِظُون بالعِبَر ولا بالنِّعَم. فأين تكون نعمة كشف العذاب عنهم بسبب الجدْب والقحْط من نعمة الرسالة إليهم التي جاء بها الرسول رحمة لهم ولمَن عداهم؟ وكان موقفهم من هذه الرسالة: أنّهم أعرَضوا عنها واتهموه ـ عليه السلام ـ بأنه تعلَّمها من غلام أعجمي "لثقيف" وبأنه كذلك أصابتْه لُوثة من الجنون. فهذا يدلُّ على أن توسُّلهم يعبِّر فقط عن حال مؤقّت لا يلبث أن يتبدّل من جديد. ولهذا تُشير الآية الأخرى بعد ذلك: ( إِنَّا كَاشِفُو العَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدونَ) (الدخان: 15). أي إذا ما كشف العذاب وأبعد القحط والجوع عنكم لا تَلْبَثون إلا قليلاً.. أي إلا ريثما يكشف عنكم، ثم تعودون إلى ما كنتم عليه.(/3)
وهذه الآيات في الوقت التي تُنْذِر فيه المُعارِضَ لهداية الله وللرُّوحِيّة الإنسانيّة بالجزاء السيِّئ في دنياه وفى آخرته.. توضّح جانبًا نفسيًّا للطبيعة البشريّة يُفيد منه الداعي والقائد على السواء.. كما يفيد منه خَصم الإنسان وعدوه.(/4)
23ـ ردُّ الإمام عند الخطأ أمرٌ يطلبه الإسلام
خادِم أحد مساجد الأوقاف بإحدى المراكز يَروي أن إمام مسجده وهو حاصل على الشهادة العالَية لا يَحفظ القرآن الكريم، ومِن أجل ذلك يَلْحَنُ في قراءة الآية التي يَقرأُها في الصلاة، وهو إمام. فيَضطر خادم المسجد ـ وهو حافظ للقرآن ويُجيد تلاوته ـ إلى مُراجعته. فيَغضب منه، ويكتب تقارير ضده إلى مديرية الأوقاف التابع لها. والآن يسأل خادم المسجد عمَّا يفعله: أيَسكُت عن رد الإمام في الصلاة عندما يُخطئ في قراءة القرآن، وبذلك يرتكب إثْمًا في كتاب الله؟ أم يردُّ الإمام عند الخطأ فيَغضب عليه ويتَحدَّاه؟ وعلى الأقل يطلب نقْله مِن المسجد القريب مِن سَكنه الآن؟
خادِم المسجد حائرٌ الآن، حائرٌ بين رضاء الله، وغضَب الإمام،، وهو إنسان، أو بين رضاء الإمام وغضَب الله ـ جلَّ جلالُهُ ـ فإنْ سكت عن ردِّ الخطأ أو اللحن في كتاب الله: أغْضب الإمام، وأرضَى الله ـ سبحانه ـ وليس لإمام المسجد في حقيقة الأمر: أن يغضب إذا ردَّه خادم المسجد عند خطأه في تلاوة كتاب الله، وإنما عليه أن يَعتبر بذلك فيَعود ويُجيد حفظ القرآن الكريم إجادةً تامة، حتى لا يُخطئ أو يَلْحن فيه، بل عليه أن يَشكر خادم المسجد على يَقَظتِه في ردِّه عليه عند الخطأ؛ لأن ردَّ خادم المسجد أخرجه حينئذٍ كما أخرج الإمام معًا، من الإثْم، لو سكت ولم يرد عليه.(/1)
ومن جهة أخرى فإمام المسجد من علماء الأزهر، وداعيةٌ إلى الله، ولا يَليق بأيِّ واحدٍ مِن علماء الأزهر: أن يُقصِّر في حفظ القرآن الكريم، فجزء أساسي في انتساب العالِم إلى الأزهر هو إجادة تلاوة كتاب الله، وإجادة حِفْظه، والداعي إلى الله لا يَنجح في دعوته إلى كتاب الله ـ وهي رسالة الرسول محمد ـ عليه السلام ـ إلا إذا حفِظ كتاب الله، ونَقل عنه في أحاديثه ما يَحفظه منه، دون مراجعة له. ...
والوعْظ ليس حِرْفةً، والإمامة ليست مِهنةً يُؤْجر عليها الواعظ والإمام. هي رسالةٌ يُؤديها مَن امتلأ قلبُه بالإيمان، وأحبَّ الدعوة إلى دين الله. فالله ـ سبحانه ـ عندما يقول: (ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أمةٌ يَدْعُونَ إلى الخيرِ ويَأمرونَ بالمَعروفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُولئكَ همُ المُفْلِحُونَ). (آل عمران:104) ، لم يَربط "الفَلَاح" في أمة الدعوة بأن تُؤدَّى الدعوة إلى دينِ الله كحِرْفة أو مهنة، ولكن بأن تُؤدِّيها عن إيمان القلب، وحُسن تطبيقٍ لمَبادئها. وليس من حقِّ التطبيق للداعي إلى رسالة الله: أن يكون غير مُجيدٍ لحفظ القرآن وتلاوته، وكل شيء يجوز أن يكون مهنة أو حِرْفة عدَا رسالة الله، وإلا إذا اتَّخذها الإنسان حِرْفة أو مِهْنة أصبحت وسيلةً لغايةٍ أخرى، وليست غايةً في ذاتها.
والإمام الذي يأخذ أجرًا على وظيفة المسجد، والواعظ الذي يأخذ أجرًا على وظيفة الوعْظ: هو في واقع الأمر لا يأخذه على إمامة الصلاة، أو على العِظة التي يُلقيها وإنما الأجر هو مُقابل الانقطاع لخدمة الدعوة. أمَّا الدعوة نفسها فليس لها أجرٌ ماديٌّ إنما أجرها عند الله. وبهذا يأمر القرآن رسولَه أن يُبلغ قول الله ـ تعالى ـ في شأن الدعوة إلى الحق (قُلْ لا أَسألُكمْ عليهِ أجْرًا إنْ هوَ إلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ). (الأنعام: 90)، فليس تبليغ القرآن للناس ممَّا يُؤْجَر عليه منهم.(/2)
والأئِمة والوُعَّاظ إنْ أخذوا أجورًا مُقابل انقطاعهم لخدمة الدعوة فهي أجور تبرَّع بها الواقفون على البرِّ والخير، وليست من الضرائب التي تُجبيها الدولة للمنافع المادية والعامة. والفريقانِ: الأئمة والوعَّاظ مِن جانب، والخيِّرُونَ الذين أوقفوا أموالهم على الدعوة مِن جانب آخر: يَقصدانِ وجه الله. ومن هنا يعيش الإمام والواعظ في رحاب الله، ومن أجل الدعوة إلى رسالته، وكلٌّ منهما إن باشر الإمامة في المسجد أو باشر الوعْظ خارجه أو داخله: فقد نذَر نفسه لله. ...
ومِن واقع وظيفة الإمامة أو الوعْظ: يجب على الإمام والواعظ أن يُتقِن ما لله، أن يُتقن كتابَ الله، وأن يُجيد ما يتصل به، وأن لا يَتحدَّث إلا بما هو واثق في نِسبته إلى المولى ـ جلَّ جلالُهُ ـ أو لرسوله الكريم ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ والله هو الذي سيُوفيهم أجورهم؛ لأنهم عندئذ: هم الأمناء على دينه، وهم الخلفاء لصاحب الدعوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم.
والأئمة الشبان لا يَنقصهم إلا أن يفهموا رسالتهم على حقيقتها، وعندئذ يعيشون فيها، ومِن أجلها. وطالمَا أبعدوا أنفسهم عن أن يَحْترفوا بالدعوة ويَتَّخذوها مهنة فليسوا كغيرهم من أصحاب الحِرَف والمِهن، إنهم من واقع رسالتهم فوق هؤلاء وهؤلاء وسيُحِسُّون بهذا الواقع إنْ هم أدُّوا الرسالة كما ينبغي، والقرآن إنْ أجادوا حفظه وتِلاوته لا يُوقظون به النفوس فحسب وإنما يَجعلونها خاشعةً لذكْر الله ومُطيعةً في سبيله.(/3)
إن الأمة الإسلامية تنتظر الكثير من الأئمة والوُعَّاظ من علماء الأزهر. إن أمامكم تحدِّيات للقرآن لا تنتهي، إن أمامكم انحرافات في سلوك الناس قَذفت بها الحضارة المادية إلى مجتمعات المسلمين وفي نفوس شباب هذه المجتمعات. فلا تَتراجعوا: ادْرُسوا هذه التحديات. وعُودوا إلى كتاب الله تَجدوا صَنْعة الله في إتقانها وفي حُسن مَعالمها تفوق بكثير صنْعة الإنسان. لستمْ في حاجة لكي تنجحوا في رسالتكم إلا أن تجعلوا إيمانًا قويًّا في قلوبكم، وتضعوا كتاب الله في أفواهكم وألْسنتكم. واللهُ يَتولَّانَا جميعًا بالتوْفيقِ.(/4)
8 ـ الصلاة التي لا تَنهَى عن الفحْشاء والمُنكَر
يقول مواطن لم يذكر عنوانًا: يبلغ السنة السادسة عشرة وخمسة أشهر، أي أنه في سِنِّ المراهقة، وأنه يُصلي ويصوم رمضان ويقرأ القرآن، ولا يكذب، ولكن يَعيبه أنه يُباشر جريمة الزنا، رغم أنه يَعرف عُقوبتها، ومع ذلك لا يَستطيع مَنْعَ نفسه من مُباشرة هذه الجريمة.
ويسأل: ماذا يفعل حتى يكون في رضاء الله وطاعته بالاستقامة في السلوك؟
هذا السائل يتعجب من أنه يُؤدي فروض العبادات من صلاة وصوم ويقرأ القرآن، ومع ذلك يُباشر الفاحشة! ولكن يَنبغي أن يكون عَجبه إذا كانت تأديتُه للعبادة صادرةً من قلب يَعمُرُ بجلال المَوْلَى ـ سبحانه وتعالى ـ وبخشوع يمنع مَفاتن الدنيا من أن تَغْزوَ نفسَه إلى حد الاستغراق. إنه في مرحلة المراهقة التي تُسيطر فيها الغريزة الجنسية على غرائز الإنسان. وهذه الغريزة لها قوتها وفاعليتها. ومن جانب آخر أداؤه للعبادة هو أداء بِحُكم العادة، فهو يُؤدي الصلاة لأنه تعوَّد أن يؤديَها، ويصوم رمضان في أسرته لأنه تعود أن يصومه بينها، ويقرأ القرآن لأنه تعود أن يقرأ كذا جزء أو كذا سورة دون أن يتأثَّر نفسيًّا أو روحيًّا بمعنى ما يقرأه. فاتجاهه لله بالعبادة وبقراءة القرآن مُنعزل عن التحكُّم في الغريزة في المرحلة القلِقة من مراحل حياته، وبذلك يُمكن أن يُؤديَ عادة الصوم والصلاة وقراءة القرآن كما يُباشر الفاحشة والمنكَر.(/1)
إنه لكي يكون الإنسان عابدًا لله يجب أن يفكر في الله، والتفكير في الله يستلزم أن يَغُضَّ المفكِّر فيه بَصَرَه عن أن يقع على مُحرَّم فضْلاً عن تركيز النظر فيما تَحرُم رؤيته، فكيف بمُباشرة الفاحشة وكشفِ السِّرِّ عمَّا لا يُباح كشْفه إلا بعهد ومِيثاق مع الله، والله إذ يقول لرسوله الكريم: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إليكَ مِنَ الكتابِ وأَقِمِ الصلاةَ إنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت:45) فيَأمره بإقامة الصلاة ثم يُؤكد له أن الصلاة تُبعد المصلِّيَ عن الفاحشة وهي الزنا، وعن المُنكَر وهو ما يستقبحه الناس مِمَّا عداه، فيأمره ويُؤكد له، وهو على علْم بمَا يأمر وبما يُؤكد وصادق فيما يأمر ويؤكد، مِن أن الصلاة تَنهَى عن الفحشاء والمنكر، فإذا أقام الصلاة وأدَّاها في أوقاتها مَن يُعلن إيمانه بالله ثم وجد أنه لم يَنتهِ عن الفحشاء بأدائه الصلاة، بل هو مستمر في مباشرتها، فليَعلَمْ أن الخطأ ليس في ربط تجنُّب الفاحشة والزنا بأداء الصلاة، وإنما بنوع الصلاة التي تُؤدَّى، فالسائل هنا عندما يُؤدي الصلاة يُؤديها ركوعًا وسجودًا، يؤديها شكْلاً ومَظْهرًا، ولكن لا يُؤديها قُرْبَى إلى الله، فيَستحضر فيها جلال المولَى في النِّيَّة وفي القراءة وفي الركوع وفي السجود، ومِن ثَم تتكون لدَيْه الخشْية من الله، وعن وجود الخشية من الله في نفس المُصلِّي يبتعد عن الزنا والفاحشة والمنكر بقوة الإرادة التي تَحمله على عدم الانحراف في السلوك. ...
والصلاة هي الحِصْنُ الذي يحتمي فيه الإنسان عند مُجاهدة النفس، ومُجاهدة النفس الوقوف في وجه شهواتها وأهوائها، هي الوقوف في الصراع الداخلي في النفس ضد هذه الشهوات والأهواء، إذِ النفس البشرية من خصائصها أنها أمّارةٌ بالسوء تحمل على مسلك السوء واقتراف المَعاصي والفواحش والمُنكرات، وعلى صاحب هذه النفس الأمارة(/2)
بالسوء أن يلجأ إلى هداية الله، يلجأ إلى عبادته ويستمد من هذه العبادات العوْن في الصراع النفسيّ ضد الشهوات والأهواء. ...
كانت الصلاة عبادة مِن العبادات لأن استحضار جلال المَوْلَى فيها يحمي المُصلِّيَ من الوقوع تحت إغراء الشيطان، والصيام عبادة من العبادات لأن أخْذَ الصائم نفسَه بالحرْمان من الشهوات طوال فترة الصيام تدريب له على تحمُّل المشقة والوقوف في وجه الصعاب، وما ابتعاد الإنسان عن فاحشة الزنا إلاَّ حرمانٌ من شهْوة قد يشقُّ الابتعاد عنها.
وما يفعله السائل هنا ـ وما يفعله كل مَن يقع في مرحلة المراهقة تحت تأثير الغريزة الجنسية فيُباشر الزنا أو يُباشر الاستمناء ـ أن يدخل مُجاهدة النفس، وهي محاولة ردِّ النفس إذا حمَلَتْه على السوء وارتكاب الفاحشة، أو كادت تقع تحت الإغراء والمَفاتن التي تُحيط به. ...
ومُجاهدة النفس أن يلتزم بتعاليم الإسلام:
أولاً فيما يتعلق بالمرأة، أن يَبتعد عن الاختلاط بها، وأن يغضَّ النظر فضلاً عن أن يُرسل نظراتٍ فاحصةً عندما تمرُّ به أو عليه، فضلاً عن أنْ يُداعبَها بكلمة أو حركة. مُجاهدة النفس أن يَحُولَ المُجاهد بقوةِ إرادته بينه وبين ما تشتهيه نفسه، إذا كان ما تشتهيه يمثِّل معصية لمَا أمَر به الله أو نهَى عنه. كما يُجاهد الصائم ما تُحاول أن تحمله نفسه عليه مِن الاستمتاع بالأكْل والشرب وغيرهما وقْت الصوم. ...
ومُجاهدة النفس تدريبٌ يَصير إلى عادة، وهي عادة التحكُّم في شهوات النفس وأهوائها، والتدريب في بداية أمره شاقٌّ، ولكن بعد فترة يَصيرُ عادةً، والعادة لا تحتاج إلى شُعور في أداء وَظِيفتها. بل وظيفتها تؤدَّى على نحوٍ آليٍّ، ولكن لكي يكون للإنسان ثواب المجاهدة عند الله يجب أن يكون المُجاهد على ذكرٍ بما يَمنع نفسَه مِن مُباشرته، يجب أن يكون يَقِظًا دائمًا وعلى نِيَّةٍ وقصْد في مُجاهدته مُستمدًّا العونَ مِن الله ـ سبحانه ـ وحده.(/3)
32 ـ ما رأي الدين في المسلمين المكلَّفين بالصلاة الذين لا يؤدّونها إلا في يوم الجمعة فقط أو في شهر رمضان، أو يصلُّون الصبح أحيانًا أو في أيام الامتحانات إذا كانوا من الطُّلاّب؟
القرآن الكريم جعل من أمارات الفلاح للمؤمنين ونجاحهم في التغلب على أهوائهم محافظتهم على الصلوات، وخشوعهم فيها… بالإضافة إلى صفات أخري في مقدمتها أداء عبادة الزكاة:
(قَدْ أَفْلَحَ المُؤمنونَ. الذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعونَ. والذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضونَ. والذِينَ هُمْ للزّكَاةِ فَاعِلونَ. والذِينَ هُمْ لِفُروجِهِمْ حَافِظونَ إِلاّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ. والذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ. والذِينَ هُمْ عَلَى صَلَواتِهِمْ يُحافِظونَ. أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثونَ. الذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ) (المؤمنون: 1 ـ 11).
فابتدأت الآيات في وصف المؤمنين الناجحين بصفة الخشوع في الصلاة، وانتهت بصفة المحافظين على الصلوات كلها... مما يؤكِّد قيمة الصلاة ومنزلتها في حياة الإنسان المؤمن.
فالصلاة تكاد تكون العبادة الأولى في صفاء النفس وتخلِّيها عن التشبُّث بالسَّعْي وراء أهوائها وشهواتها، وهى العامل الذي يَحُدُّ من الأنانية ويساعد على نمو الرُّوح الاجتماعية في الإنسان. لأنَّها خَلوة نفسية يختلي فيها المصلِّي بربِّه، يدعوه فيها العون على سلوك الطريق المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم.
وهذا الصفاء للنفس لا يتحقق إلا بأداء الصلاة على نحو ما كان يؤدّيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أوقاتها وفي مناسباتها.(/1)
وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد وحده، لا لإظهار وَحْدة المسلمين ولا لإحياء الروابط بينهم فقط، وإنما لأنَّ صلاة الجماعة تُهيِّئ الجو النفسي الذي من شأنه أن يساعد على الصفاء وعلى رُوحية المناجاة فيها.
والمسلم الذي يُصلِّي لمناسبة أو لتحقيق هدف هو قصير النظر، وضعيف النفس. أمّا قِصَر نظره فلأنّه يعتقد أنه فورَ أن يؤدِّي الصلاة في المناسبة المعيّنة سوف يتحقق غرضه. والصلاة ـ إذن ـ وسيلة إلهيّة لتحقيق هدف دنيويّ وهذا خطأ فاحش؛ لأن الصلاة عبادة قُصِدَ بها استقامة السلوك. ولا تتحقَّق للمصلِّي هذه الاستقامة إلا إذا داوم عليها في خشوع. وعن طريق استقامة السلوك يتجنَّب المصلِّي على سبيل الحقيقة الفحشاءَ والمنكَر والبغي. وذلك هو النجاح للإنسان.
وأمّا أنه ضعيف النفس فلأنّه يتلمَّس بصلاته في المناسبة المعيّنة العونَ من الله في هذا الوقت بالذات لحاجة إليه. فإذا ما انتهت حاجته عادت نفسه إلى الوضع السابق على الصلاة، وهو ترك الصلاة: (إِنَّ الإنسانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6 ـ 7).
وضعيف النفس هو ضعيف الإيمان، الإيمان بالله، والإيمان بالذات هو أقرب إلى طبيعة النِّفاق.(/2)
9 ـ تأديب المُراهِقين لحمْلِهم على الصلاة:
سيدة تسأل: لها ولدانِ سِنُّ أحدهما اثنتا عشرة سنةً وسِنُّ الآخر خمسة عشر عامًا، وكلاهما لا يؤدِّي الصلاة وقد حاولت نُصْحَهما مِرارًا فلم توفَّق فهل تضربهما حتى يؤدِّيا الصلاة؟
ممَّا يُصَعِّب على السيِّدة السائلة توجيهَها لوَلدَيْها وطلبها المواظَبة على الصلاة منهما ظروف وأحداث مرَّت بالبلد، جعلتْ من "التديُّن" يومًا ما جريمة تُطارَد فعزَفَ كثير من الآباء عن مواصلة الجهد في حمل أبنائهم على أداء العبادات وبالأخصِّ الصلاة والصوم بالإضافة إلى انتشار الدعوة إلى الإلْحاد والتشكيك في القِيَم الأخلاقيّة والدينيّة، في تلك الفترة التي كان التضييق فيها على التديُّن قائمًا، فشغل ذلك الفراغ لدَى الشباب، ووجد مِن بينهم الكثيرين يتَّجهون إلى التحلُّل مِن عادات المجتمع وتقاليده بل ويَسخرون منها.
فالبيئة في المجتمع كاد أن يُصبح غريبًا عليها مُمارَسةُ الشباب لعبادة الصلاة في المسجد، والصوم في شهر رمضان والمدرسة كذلك بعد أن غَيَّرت في النصوص في منهاج اللغة العربية وأغفلتْ كثيرًا من الآيات والأحاديث النبويّة وعوَّضتها بمُقتطفات من مصادر أخرى، أصبحت عنايتُها بالتوجيه الدينيِّ في أدنى مستوى له.
والبيئة والمَدرسة قد تكونانِ من العوامل المساعدة للأسرة في توجيه أبنائها نحو أداء العبادة للهِ ـ جلَّ جلاله ـ إذا حَرَصَتا على المشاركة في هذا التوجيه بقدْر جادٍّ.
أما إذا ابتعدَتا عن هذا التوجيه لسبب أو لآخر فتكونا مِن العوامل المضادّة لاتجاه الأسرة وعندئذٍ يصعُب على الأسرة أن تقوم في نطاقها بالتوجيه الديني بالنسبة لأبنائها.(/1)
ومع ذلك فإصرار الأسرة على توجيه أبنائها نحو أداء العبادة في الإسلام قد يجد في طريقه رغم مُلاءمة البيئة والمدرسة لجوِّ هذه العبادة ويأتي هذا الإصرار مِن اقتناع الأُسرة بأن أداء الصلاة والصوم من قِبَل الأبناء في سِنٍّ مبكِّرة هو السبيل الكفيل بصياغة الأولاد صياغة إنسانيّة مُهذَّبة وبإعدادهم للحياة وما قد يحدث فيها من أزمات ومشاقّ.
فالتعوُّد على أداء الصلاة يرفع المُصلِّي من الاستغراق في الشَّهوات والأهواء ليتذكَّر الله خمس مرات في اليوم وبذلك لا تخضع نفسه لشهوة ولا لإغراء بمُتعة مادِّيّة في هذه الحياة فهو يعيش للحقِّ وبجانب الحقِّ ولا يخشى موجودًا إطلاقًا سوى الله وحده وإذا اتَّصل بالآخرين ما دام يعيش للحقِّ وبجانب الحقِّ فإنه يتصل بهم في دائرة الحقوق والواجبات يؤدِّي ما يجب ويأخذ ما يحِقُّ له.
والتعوُّد على أداء الصوم يجعل من الصائم إنسانًا لا يهُزُّه الحرمان عن طريق الشدائد والأزمات التي تواجهه؛ لأنَّه في حياته قد مارَسَ الحِرمان ممّا تشتهيه النفس أو تَهواه بإرادته ومشيئته، ولا يختلف حرمان الشدائد عن حرمان الإرادة في الاحتمال والصبر عليه.
إن الصلاة إذا كانت تَحُدُّ من الإغراء بالدنيا، فإنَّ الصوم يُذيب التدلُّل والمُيوعة ويَصْقُل النفس الإنسانية ويعدها للاحتمال عند المَكارِهِ وذاك ليس بشيء هيِّن في تربية الإنسان.(/2)
ولشأن الصلاة الناشئة يُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نداء مُوَجَّه إلى أولي الأمر: "مُرُوا صبيانَكم بالصلاةِ لسَبْعِ سِنينَ، واضْرِبُوهمْ عليها لعَشْرٍ". أمّا تكليف الشَّباب بها فعند بلوغ الحُلُم، أي أن مسئوليّة الشباب عنها أمام الله تبتدئ مِن البلوغ، بينما مسئولية الآباء في توجيه أبنائهم نحو الصلاة فتكون منذ السابع في سِنِّهم والمراد بأمر الصبيان ـ وكذلك البنات ـ بالصلاة في سِنِّ السابعة توجيههم بأسلوب يَشعُر معه الأولاد بالرغبة المُؤكَّدة مِن قِبَل آبائهم وأمَّهاتهم في أداء الصلاة على أن يكون الآباء والأمهات قُدوة حسنة لهم في الأداء.
ومعنى الضرب كجزاء على التخلُّف عنها في سِنِّ العاشرة هو ترك الأولاد يفهمون أن تخلُّفهم عنها في هذه السِّنِّ يُسبِّب الغضب لآبائهم وأمهاتهم وأنَّهم مِن أجل ذلك يُوشِكون أن يَهُمُّوا بضربهم فالعبادة لله يجب أن تؤدَّى في رِضًى ومحبة، والإكراه عليها لا يُجدي سوى النِّفاق فيها.(/3)
الصلاة فيها فرض وفيها سُنّة لماذا لم تُفرَض كلها كعبادة لله؟
كل العبادات فيها فرض وسُنّة: الصلاة فيها فرض وهو الصلوات الخمس، وسُنّة هي النوافل، والصيام فيه فرض وهو صوم رمضان وسُنّة وهو صوم أيّام فيما عداه على طول السَّنة، والزكاة فيها فرض وهو النِّسَب المحدَّدة من المال كل عام، وسُنّة وهو الإنفاق فيما عدا هذه النِّسَب في سبيل الله، وأداء الحج فرْض لمَن استطاع إليه سبيلاً وأداء العمرة سُنّة لمَن استطاع ذلك أيضًا.
وتشريع العبادة بين فرض وسُنّة من قِبَل الله هو لضمان أداء الواجب كقُربَى إلى الله وللحِرْص في الوقت نفسه على بقاء مشيئة الإنسان فيما يؤدِّيه وراء الواجب، فالإسلام لا يريد أن يفرض على الإنسان أمرًا ما إنَّما يَدَعُه يلتزم عن طريق إيمانِه بما يجب عليه أن يؤدِّيَه.. وهذا هو الفرض.
وحقيقة الفرض إذنْ ليس مدفوعًا إليه المؤمن تحت حمل أو إكراه خارجيٍّ عن ذاته وإنَّما هو أمر نفسي داخلي وبذلك لا يختلف الفرض عن السُّنّة في العبادات إلا مِن حيث المُواظَبة على الأداء أو غير المواظَبة عليه، فالفرض ما واظَب على أدائه المؤمن في العبادات، والسُّنّة ما لم يواظِب على أدائه منها.
والإسلام هو الذي يُحدِّد ما يجب وما لم يجب .. يحدِّد المقدار أو المرّات التي يجب أن يلتزم بها المؤمن أو لا يلتزم بها، وهو إذ يحدِّد يرعى مصلحة الفرد كما يرعى مصلحة الجماعة، والإنسان بإيمانِه يرعى من ذاته هذا المقدار أو تلك المرّات حسبما شُرِعَتْ له من الله ـ سبحانه ـ أو جاءت سُنَّة الرسول ـ عليه السلام ـ بتفصيلها.
ففي العبادات يرى أن أداء المؤمن للصلوات الخمس كل يوم وأداء صوم رمضان كل سنة.. وأداء الزكاة حسبما جاء تفصيلها في السُّنّة كلَّ عام ـ هو أدنى المستوى الضروريّ لتحويل الإنسان من وضْع أنانيّ تغلب فيه الشهوة والهوى إلى وضع يُشارِك فيه الآخرين سرّاءَهم وضرّاءَهم.(/1)
أي أنّه يرى في المواظَبة على أداء العبادات على النَّحْو الضروريّ ما يكفُل للمؤدِّي أن يكون واحدًا من المؤمنين برسالته بعد أن كان من الجاهليِّين أو المادِّيّين أو الوَثَنيّين أو الفرديّين الأنانيّين.
فالعبادة كسبيل إلى التحوّل الفعلي إلى الإيمان بالله وحدَه يُمكن أن يكون أداؤها على النحو الضروري ـ وهو المُحدَّد بالواجب أو الفريضة ـ ذا ثمرة إيجابيّة في حياة الإنسان الذي أعلن إيمانه.
فإذا أراد هذا المؤمن أن يقيَ نفسه نكسةً أو أراد أن يتأكَّد تحوُّله بالفعل إلى مؤمن بالله وبرسوله ـ إنْ أَحَبَّ فللّهِ، وإن كَرِهَ فللّهِ ـ تصبح النوافل في العبادات عنده في مستوى الفروض والواجبات؛ لأنَّ هذه النوافل تُسهم في ذات الهدف كما تُسهم في الفروض والواجبات.
ومِن أجل الاختلاف في مستويات الإيمان كان هناك مؤمن قويٌّ.. وآخر مؤمن ضعيف، فالقويُّ هو ما وصل إلى مستوى التضحية بنفسه وماله في سبيل إيمانِه بعد أن تحوَّل بالفعل من أنانيٍّ إلى سيِّد على نفسه وشهوته وذلك أدنى المستويات في الإيمان.(/2)
18 ـ أيُّ الصدقات يُسْتَحَبُّ إخفاؤُها؟ وأيُّها يستحَبُّ الجهرُ بها؟
لا بُدَّ أن يتوفَّر أولاً في قَبول الصَّدقات عند الله أن يكون إعطاؤها قُرْبَى إلى الله.. وابتغاء وجهه.. وبعيدًا عن المَنِّ بها، والأذى بسببها، أي أن يكون إعطاؤها بعيدًا عن جُرْح إحساس المُعطَى إليه.. وعن الرِّياء بها. وفى ذلك يقول الله ـ تعالى ـ: (ومَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ) (البقرة : 225) أي لا ينبغي أن يكون إنفاقكم وعطاؤكم أيُّها المؤمنون مقصودًا به غير القُربى إلى الله.. وغير طلب رضاه.
وعندئذٍ يستوي عند الله وفى تقديره، وأجره على الصدقة، أن يكون إخراجها سِرًّا.. أو علنًا، يقول الله ـ تعالى ـ: (الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ "أي في ظلام الليل، في غير رؤية من أحد.. أو في وضوح النهار في رؤية في عديد من الناس" سِرًّا وعَلاَنِيةً "أي في خفية.. أو في جهر بها: ليلاً أو نهارًا على السواء" فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ "أي لهم الجزاء على مَن أنفقوا" ولاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 274). أي في دنياهم؛ لأنهم يفعلون الخير لذاته.. ولا يَنقُصون أحدًا من أصحاب الحاجة حقَّه في المال. فهم موضع الرِّضا من الناس. كما أن إعطاءهم المال لوجه الله: دليل على أنَّهم لا يعبدون المال.. وبالتالي لا يحرِصون عليه. فإن خرج من أيديهم بالإعطاء لا يحزنون إطلاقًا على خروجه.. وإن افتقروا لا يحزنون كذلك على ما يُصيبهم من فقر.(/1)
وإذا كان الإخفاء في إخراج الصدقة، والجهر بها سواء عند الله مادام قصد بها وجه الله وحده: فإن إخفاءها مستحَبٌّ في إخراج ما عدا الزكاة وحدها؛ ذلك لأنَّ الإعلان عن إخراج الزكاة قدوة لمن تجب عليهم.. بينما الإخفاء في إخراج ما عدا الزكاة.. أبعد عن الرِّياء أمام الناس.. والأذى لمَن أخذ الصدقة. وربَّما يُستفاد ذلك من قول الله ـ تعالى ـ: (إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فنِعِمَّا هِيَ وإِنْ تُخْفُوهَا وتُؤْتُوهَا الفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة: 271).
والصدقة كما تكون بالمال.. تكون بغيره كذلك. تكون بالعمل.. تكون بمساعدة المضطر.. تكون بالدعوة إلى المعروف.. تكون بالتبغيض في الشَّرّ. يُروى عن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله: "على كل مسلم صدقة، فقالوا: يا نبيّ الله فمَن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه، ويتصدّق ـ أي بما زاد عن حاجته من أجرة على العمل ـ قالوا: فمَن لم يجدْ؟ قال: يُعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فمَن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف، وليُمسك عن الشَّرّ فإنّها له صدقة".(/2)
157ـ يرمي كثير من الحاقدين الإسلام بأنه بتعاليمه يعيش في الماضي دون الحاضر.. وأن الزكاة فيه لم تعُد تنفَق مع كرامة المجتمع المعاصر. ما هو الرأي؟
الجواب:
في التكافل في الإسلام: خير ضمان اجتماعيٍّ:
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ والعَامِلينَ عَلَيْهَا والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفِي الرِّقَابِ والغَارِمينَ) (التوبة: 60).
من بين مصارف الزكاة التي نصَّت عليها هذه الآية:
الفقير. وهو العاجز عن الكسْب بسبَب شيخوخة، أو عاهةٍ تُقعده عن العمل، أو مرض يَحول بينه وبين الكَسْب.
والمِسكين. وهو الذي يبذل قُصارى جُهده في العمل. ولكنَّ دخلَه من عمله لا يغطي نفقته وحده أو مع أسرته.
والرَّقيق. وهو المملوك أو الأسير. وقد يكون أسير حربٍ أو أسير أميّته في مَهارة العمل.. أو أسير استعمارٍ فكريٍّ، أو اقتصادي، أو عسكري.
والغارم. وهو ثلاثة أنواع. نوع تحمل دين في ذِمّته لإصلاح ذات البَين ودفع فتنة الفرقة عن الأمّة.. ونوع أصابت الكوارث الطبيعية ماله فأتتْ عليه.. ونوع افتقر بعد غنًى بشهادة ثلاثة من العُقلاء من قومه.
فالتكافُل في الإسلام ـ عن طريق تحديد مصارِف الزكاة ـ يتضمن أنواعًا جديدة من الضمان الاجتماعي لم توفِّره المجتمعات الحضارية المعاصِرة حتى اليوم. والحديث فيها عن الضمان الاجتماعي هو حديث في الغالب عن ضمان العيش للعاجز عن كسب بسبب الشيخوخة. أو إصابة العمل، أو المرض المقعِد. وهو ما يدخل في نِطاق: "الفقير" في مصارف الزكاة.
أما الضمان الاجتماعي لربِّ الأسرة كثيرة العدد ومحدودة الدخل، بسبب قصور صاحبِها في الطاقة على العمل، أو في مستوى المهارة فيه.. فربَّما يكون بعض المجتمعات الحضاريّة المعاصرة قد ابتدأت فيه الآن. ولكنّه على أيّة حال لم يأخذ صفة الشُّمول.(/1)
والضمان الاجتماعيّ لتحرير رقيق البدن، أو رقيق الفكر، أو أسير الأميّة، أو التابع لولاية الاستعمار.. فهي من خاصة الإسلام. وشأنه في ذلك الضمان الاجتماعي للغارم بأنواعه الثلاثة. فليس في مجتمع حضاريٍّ معاصر حتّى الآن ضمان اجتماعي يُصرَف منه لمَن تحمَّل دَينًا في ذمّته بسبب وحدة الكلمة في الأمة وإزالة أسباب الشِّقاق فيها. أو لمَن اجتاحتْ أمواله الكوارث الطبيعية: ككوارث الزلزال. والسيول والأمطار والفَيَضانات.. والحرائق.. والجفاف.. والآفات الزراعية. أو لمن كان غَنِيًّا ثم افتقر. وكل نوع من أنواع هؤلاء الغارمين لا يُعطَى تعويضًا عن جزء من ماله فقط. وإنما يُعطى كل خسارته من الزكاة، حتى يستطيع أن يستأنف نشاطَه اليومي في مال خاص به.
والحديث المروى عن قبيصة بن مُخارق الهلالي يوضِّح ذلك: فيُروى عنه قوله: "تحمَّلت حَمالةً ـ أي دَينًا في سبيل المصلحة العامّة ـ فأتيْتُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسأله فيها ـ أي اسأله في سداد هذا الدَّين ـ ثم قال: يا قبيصة: إنَّ المسألة ـ أي السؤال ـ لا تحِلُّ إلا لأحد ثلاثةٍ:
رجل تحمَّل حَمالةً فحلَّتْ له المسألة حتى يُصيبها ـ أي حتى يستردّها كلَّها ـ فيُمسك ـ أي عن السؤال.
ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحتْ مالَه ـ أي كارثة قضَتْ على ماله ـ فحلَّت له المسألة حتَّى يُصيب قِوامًا من عيش ـ أي يأخذ من الزكاة حتى يقِف على قَدميه مستقلاًّ ـ أو قال: سدادًا من عيش.
ورجل أصابته فاقةٌ ـ أي فقر وحاجة ـ حتَّى يقول ثلاثة من ذوي الحاجة من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلَّت له المسألة حتَّى يصيبَ قِوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من العيش. فما سواهنَّ من المسألة ـ يا قبيصة ـ فسُحْتٌ ـ أي حرام وباطل ـ يأكلُها صاحبها سُحْتًا".(/2)
نعم بعض هذه الأنواع من التكافُل في الإسلام تغطِّيها اليوم شَرِكاتُ التأمين. كالتأمين ضدَّ الحوادث. ولكِنَّ تكافُل الإسلام لا يلزم المؤمِّن بدَفْعِ أقساط ما أمَّن عليه مقدَّمًا. فضلا عن أن التأمين لم يُعرَف في المجتمعات المعاصرة إلا منذ بداية القرن العشرين.
ومن أجل ذلك كان التكافل في الإسلام خيرَ ضمان اجتماعي.(/3)
24 ـ هل كل سُكّان مكّة يحُجُّون كلّ عام؟ وهل يجب أن نُسمِّيهم حُجّاجًا؟
لا شكَّ أن هناك فرصة سنوية للحَجِّ أمام سكان مكة. فهو في متناول أيديهم وميسّر لهم: فالمسجد الحرام الذي به الطّواف حول الكعبة، وبداخله الآن ممرُّ السعي بين الصفا والمروة.. بين ديارهم ومنازلهم. وعرفات الذي يقف عليه الحُجّاج في التاسع من شهر ذي الحِجّة لا يبعد إلاّ قليلاً خارج مكة. والمفروض بعد ذلك أنه ليس من بينهم مَن لم يؤدّي فريضة الحجّ مرة على الأقل. ولذا ليس من المستبعَد أن نسمِّيهم جميعًا حجاجًا.
أما أنهم يحجُّون كل عام فربَّما لا ينطبق ذلك على واقع أمرهم لعدة أسباب:
أولاً: أنه يجب أن يُفسِح مَن حجَّ منهم مرة أو مرتين على الأكثر الطريقَ للضيوف القادمين من خارج مكة، قاصدين بيت الله الحرام، حتى لا يُضايقهم الزِّحام أو يعوق دون أدائهم لرسوم الفريضة؛ إذ الحجُّ لهم ولغيرهم من المسلمين في جميع أنحاء العالم.
وثانيًا: أن موسم الحجِّ يُعتبر بالنسبة للمكِّيّين على الأخصِّ مصدر منفعة في التجارة: (وأَذِّنْ في النّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ويَذْكُروا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلوماتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمةِ الأنْعامِ فَكُلوا مِنْهَا وأَطْعِموا البائِسَ الفَقيرَ) (الحج: 27 ـ 28). وهذا أمر قد يحمل بعضهم عن التخلُّف عن الحج في سنة أو في سنوات، لمَّا أدى الفريضة مرة واحدة أو مرتين مثلاً. وعندئذٍ لا يقال إن أهل مكة لا يحجُّون كل عام.(/1)
نعم قد يعتمِرون كل عام مرة أو أكثر؛ لأنَّ العمرة ليستْ إلا الطواف حول الكعبة في المسجد الحرام، والسعي بين الصفا والمروة. والمسعى الذي ينتهي إليهما يُلحَق الآن بالحرم المكِّي. والعمرة ليس لها وقت مُعَيَّن على مدار السنة كلّها. إذ الأمر الذي يقيِّد الحجَّ بوقت خاص هو الوقوف بعرفات في التاسع من شهر ذي الحِجّة كل عام. وذلك لا يكون إلا مرة في السنة الواحدة.(/2)
25ـ هل يجوز للزوجة أن تحُجَّ نيابة عن زوجها؟
أولاً: هناك خلاف في الرأي بين جواز الحجِّ عن الغير، بصفة عامة:
(أ) فيُروَى في عدم جوازه حديث سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح: "أنّه لا يحُجّ أحدٌ عن أحد". ونحوه عن مالك والليث.
(ب) ويُروى في جواز الحَجِّ عن الغير عن ابن عباس: "أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أمِّي نذرتْ أن تحُجَّ، فلم تحجَّ حتى ماتت، أفأحُجُّ عنها؟ قال: نعم حجّي عنها. أرأيْتِ لو كان على أمِّك دين أكنتِ قاضيتَه؟ اقضُوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء".
ففي الحديث الأول نظر إلى الحج على أنه عبادة شخصية تؤدَّى من الشخص المكلّف به فقط. وبالتالي لا يجوز أداؤها عن غيره. بينما نظر إليه في الحديث الثاني على أنه كالدَّيْن يجب على الورَثة أداؤه. وبِناءً على هذا الحديث في عمومه يجوز للزوجة أن تحجَّ نيابة عن زوجها.
ثانيًا: أنَّ بعض الفقهاء من الكوفيّين استدلَّ بعموم الحديث الثاني على أنه لا يُشترط فيمن يؤدِّي الحج نيابة عن غيره.. أن يكون قد أداه عن نفسه. بينما جمهور الفقهاء يخصُّون صحة الحَجِّ عن الغير بمَن أدى فريضة الحجّ عن نفسه. وعلى هذا يجوز في سؤال السائل أن تحجَّ الزوجة عن زوجها وإن لم تكن قد حجَّت عن نفسها في رأي الكوفيِّين. ولا يجوز لها في رأي جمهور الفقهاء إلا إذا كانت قد أدَّته بالفعل.(/1)
ثالثًا: أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر وحدها سفرًا بعيدًا. وحُدِّد السفر البعيد في بعض الأحاديث بثلاثة أيام فصاعدًا، على نحو ما جاء في رواية الجماعة: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمِن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا، إلا ومعها أبوها، أو زوجها، أو ابنها، أو أخوها، أو ذو مَحرَم منها" والمَحرم هو مَن حُرِم عليه الزواج منها على التأبيد. وحُدِّد في بعض الأحاديث الأخرى بثلاثة أميال في رواية ابن عباس: "لا تُسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع ذي محرَم ". وهناك حديث آخَر في رواية ابن عباس: أنه سمع الرسول ـ عليه السلام ـ يخطب: "لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرَم، ولا تُسافر المرأة إلا ومعها ذي محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجتْ حاجّةً، وإنّي اكتَتَبْتُ في غزوة كذا، وغزوة كذا ـ أي قُيِّدت وطُلبت في غزوة كذا وغزوة كذا ـ قال: فانطلق فحُجَّ مع امرأتك". فالنهي هنا عن سفر المرأة وحدها نهي عام: قصُر السفر أم طال. وعلى عموم النهي هنا لا يجوز للزوجة ـ في سؤال السائل ـ أن تسافر وحدها للحَجِّ عن زوجها، بل لا بُدَّ أن يكون في صحبتها محرَم لها.(/2)
هل أداء فريضة الحجِّ تُسقِط إثْمَ الصلوات التي لم تؤدَّ قبل أدائه؟
والجواب:
أن إسقاط الآثام والمَعاصي يعود إلى الله سبحانه وحده بالتوبة النَّصوح وأن أداء فريضة من الفرائض لا يكون عِوَضًا ولا بديلاً عن فريضة أخرى.(/1)
182 ـ أمتلِك منزلًا وأؤجِّره مفروشًا إلى بعض الطلبة والموظَّفين. وقد لاحظتُ أن بعض السُّكّان يُحضرون في مساكنهم بعض النساء. فهل الإيجار الذي أتسلّمه منهم حلال أم حرام؟ وخصوصًا أنا أدَّخِر جزءًا منه لأداء فريضة الحج.
الجواب:
إذا كان السائل يعلَم مقدَّمًا عند توقيع عقد الإيجار أن المستأجِر سيستغِلُّ السَّكَن لاستقدام بعض النساء عنده في سكنه، فهو مُعين له على ارتكاب المنكَر. ومال الإيجار الذي يأخذه منه مال حرام، لا يجوز أداء فريضة الحجِّ منه. وإن علِم بعد توقيع العقد أن بعضًا ممّن استأجروا هذه المساكن المفروشة من الطلاب أو الموظَّفين يباشر ارتكاب الموبِقات فيما تخصَّص به من مسكن فإن للسائل عندئذٍ أن يفسخ العقد ويخلِي المسكن من هذا البعض. فإن المساكن المفروشة يجوز إخلاؤها بحكم القانون بناء على طلب المؤجِّر. وما أخذه من إيجار في غَيبة علمه بارتكاب المنكَر لا وِزْرَ فيه عليه ويجوز أداء الحج منه.
ولا يكتفي للسائل ـ وهو صاحب الملك المفروش ـ أن يُنكِر هذا المنكَر بلسانه أو بقلبه، كأن ينبّه على الساكن مثلاً بعدم إحضار أحد من النساء عنده ويحذّره، أو أن يسكت غاضًّا النظر، في غضب نفسيٍّ من هذا التصرُّف؛ لأنه يملِك أن ينكِره بيده فينذِره بالإخلاء: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانِه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وهذا المنكَر الذي يُمارسه بعض الطلَّاب أو الموظَّفين الشباب على نحو ما يذكُر السائل لا ينبغي له أن ينتشر في مجتمعاتنا فيُصبح مرضًا اجتماعيًّا فيها يُهَدِّد كل نشاط جِدِّيٍّ وكلَّ موقف يتطلب التضحية، بخطر "اللامبالاة" وعدم الشعور بالمسؤوليّة أمامه.(/1)
إن مجتمعاتنا مجتمعات ناهضة. أي أنَّها كانت ضعيفة فأخذت تسعى نحو القوة. وهي قوة العزيمة والإرادة، قبل قوة البدن والعضلات والإنتاج. فإذا أصيبَتْ بهذا المرض الوَبائيّ وهو مرض التحلُّل من القِيَم العليا.. مرض انتشار جريمة الفحشاء وتناول المنكر، يكون خروجها من الضعف الماضي أمرًا مشكوكًا فيه، بل ربَّما يزداد ضعفها ووهَنُها.
ومَن يساعد الشباب من الطلاّب أو الموظَّفين على الاستمرار في الضعف لا يجني فحسْب على المجموعة منهم التي تباشِر المنكَر بالطريقة التي يتحدث عنها السائل، وإنَّما يجني على الأمة ككُلٍّ.
والمجتمعات الأخرى التي أصيبتْ بلُوثة هذا المرض الاجتماعي هي مجتمعات أُتخِمتْ من استغلال الشعوب الأخرى ولها رصيد حتى الآن من الغنى المادِّيّ والقوة المادِّيّة، يؤخِّر انهيارها إلى حين. ولذا لا يبدو عليها الضعف، وإن أخذ يَدِبُّ في شرايين الحياة فيها. وهي في طريقها إلى هذا الانهيار؛ لأنّها تؤمن بالمادية وحدها. والمادِّيّة هي شرُّ ما يبتلَى به المجتمع البشرِيّ: (وإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ـ أي مجتمعًا ـ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عليها القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْميرًا) (الإسراء: 16).
وما يتعلَّل به بعض الاجتماعيّين مما يسمَّى "بالكبْت الجنسي بين الشباب" فليس إلا تعلُّقًا بما بَقِيَ مِن تفكير "فرويد" العالم اليهوديّ النمساوِيّ. وهو تفكير لا يردِّده إلا الملتزِمون من الماديّين بتفكير القرن التاسع عشر.
والشباب في مجتمعاتنا أمام مهمّات ورسالات وطنيّة، لا تدَع له وقتًا لمُجاراتِه شبابَ المجتمعات الأخرى في فِسقها ومفاسدها.(/2)
151ـ العاطفة وسيطرتها في الإغراء على المرأة:
هاتانِ مشكلتان لفتاتين في سن واحدة تقريبًا، وإحدى المشكلتينِ تعكس الأثَر الذي يُتخوُّف منه في المشكلة الأخرى.
فتاة من إحدى المحافظات، تقصُّ أنها جامعية، وإنها متدينة، وعلى صلة حبٍّ كبير لله ولرسوله، وإنها لها إخوة وأخوات من الذكور والإناث، ولها زملاء وزميلات في الدراسة وتُعامل الجميع بكل أدب إسلاميٍّ، أي أنها لا تتأثر بعواطف خاصة، عندما ترى ذكورًا أو تتحدث إليهم، ولكن تقول:
"عندما أشاهد أفلام التلفزيون، وما فيها من مشاهد عاطفية مُثيرة، أو أسمع حوار تمثيلٍ عاطفي بين رجل وامرأة، لا أقوَى على مُقاومة الخيال ولا يكون عندي إرادة لعمل أيِّ شيء، وأظل سرحانة لأيَّام مُتلاحقة، لا أستطيع القيام بالصلاة ولا المذاكرة ولا أُفكِّر في ذكْر الله، ويَستولي عليَّ هبوط في الإرادة وخُفوق في عمل أيِّ شيء مُفيد، وبذلك أضيِّع الصلاة وثوابها، وأضيع الوقت، ولا أستطيع المذاكرة،، ممَّا يُصيبني بالإخفاق في مُسايرة الحياة الطبيعية)، وتسأل:
هل قول الله ـ تعالى ـ: (وقُلْ لِلمُؤمناتِ يَغْضُضْنَ مِن أبْصَارِهِنَّ) (النور: 31) ، ينطبق عليَّ هنا، ممَّا يجعلني أُزكِّي نفسي، وأقاطع مشاهدة التليفزيون؟
وفتاة من محافظة أخرى وقد تخرجت من مدرسة التمريض يقول عنها خطيبها ـ في سن الثامنة والعشرين من العمر ـ ومتطوع بالقوات المسلحة:(/1)
وجدتُها على أخلاق عالية، وحسن السير والسلوك، وتوكلتُ على الله وخَطبتُها وقدمت الشبكْة بعد موافقتها، وكانت تُطيعني في كل شيء وكانت لا تصلي وأقنعتها بالصلاة، وبدأت الصلاة فعْلاً والحمد لله، ذلك أثناء وُجودها في السنة النهائية "ولكن فوجئت بعد تخرُّجها، واستلامها العمل بتغييرٍ كبيرٍ جِدًّا، وعُدولها عن الصلاة، وبدأت تلبس لبْسًا غير لائق، ولا تَقتنع بكلامي، وتُعارضني في كل الأحوال، وأصبحتْ تَلُومني بأنها فتاة شابة ويجب أن تعيش مثل باقي الفتيات زميلاتها، وكانت تَنْصَحُني بالتبهرُج في اللبْس مثل باقي الشباب" ولم يُفلح معها الإقناع إطلاقًا، ويقول: إنه حيران من جهتها، ويحتاج إلى فتاة تحفظ شرفَه وكرامته، ويسأل عن حلٍّ لهذه المشكلة وكيف يُواجه آباها عندما تقول له: أترُكها؟ وبماذا يُقنع والديها؟
الفتاة الأولى تصوِّر أثر المشاهد العاطفية في التمثيل والحوار عليها، في إرسال التلفزيون وأن هذه المشاهد تَهزُّها هزًّا عنيفًا بحيث لا تستطيع أن تستأنف حياتها التي اختارتها لنفسها، وهي الحياة التي وهبتها للعلْم والمعرفة، ولعبادة الله، واتباع تعاليم دينه في العمل والسلوك، وإنما تُجمِّدها على الأقل لأيام مُتلاحقة، وفي هذه الأيام المتلاحقة تقاوم هزات هذه المشاهد على نفسها، وتسأل عن تأييد ما تراه علاجًا في المستقبل لحالتها: مِن مقاطعة هذه المشاهد، بالامتناع عن استخدام التلفزيون نهائِيًّا.(/2)
والفتاة الثانية ـ كما يحكي خطيبها عنها ـ تحوَّلت من اتجاه كانت عليه وهي طالبة في مدرسة التمريض، وهو اتجاه الفتاة التي تحرص على الاستقامة في ظل عادات المجتمع الإسلامي وتقاليده، إلى وضع آخر مناقض لما كانت عليه بعد أن تخرَّجت، وأصبحت تعمل واستقلَّت بذلك اقتصاديًّا عن عائلٍ لها: زوج أو غير زوج، والوضْع الجديد الذي تحوَّلت إليه: أن تكون فتاة "حرَّةً"، تعيش كما تعيش زميلاتها، في الملبس، والتزيُّن، والاختلاط، والخروج إلى العمل، وحريتها تعني بالنسبة إليها أن ترفض القيود التي قَبِلَتْها بالأمس، وهي عادات المجتمع، فأصبحت ترَى أن في الصلاة ما يُنفرها من مُباشرتها؛ لأنها لو تُؤدي هذه العبادة لعَزلت نفسها عن زميلاتها، وهي تريد أن تعيش كما يَعِشْنَ، وحريتها تعني بالنسبة لها كذلك: أن تُوجِّه خطيبها إلى مُسايرة الشباب اليوم في الملبس وتَنصحه على حدِّ تعبيره: بالتبهرُج في الملبس، فالماضي يجب أن يَنقطع، والتطلُّع يجب أن يتركز نحو "اليوم ، ونحو الغد".
... وإذا كنت الفتاة الأولى تُقاوم طغيان المادية وموجة المظاهر في الحياة الاجتماعية التي تدفع بها المادية موجةً بعد أخرى، فتطلب عدم استخدام التليفزيون ، فالفتاة الثانية لم تَستطع المقاومة إيَّاها، بل استسلمت لها واستمرأتها، وأصبحت تدعو غيرها ـ وهو خطيبها الذي كان بالأمس صاحب الكلمة عليها ـ إلى أن يكون عصريًّا كشباب الساعة، وتحولها على هذا النحو، بخضوعها إلى المظاهر المادية سيفرق حتمًا اليوم أو غدًا، بينها وبين خطيبها، على كره من إرادتها؛ إذ الفجوة بينهما تزداد اتساعًا بمرور الزمن، وبتأثُّر فتاته، وافتتانها بمظاهر الحياة المعاصرة، وهي مظاهر الصخَب، والألوان الزاهية، والانطلاق في الاستمتاع بمُتعها المغرية، وبحرية الخروج، وبالاستقلال في الاقتصاد والإنْفاق.(/3)
والآية التي تَسأل عنها الفتاة الأولَى عن مدَى تَطبيقها على مشاهد التلفزيون وهي قوله ـ تعالي ـ: (وقُلْ لِلْمُؤمناتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبْصَارِهِنَّ). (النور: 31). فإن الكثير من المشاهد العاطفية التي تُرسل عن طريق التلفزيون يجب على الرجال أن يَغضُّوا مِن أبصارهم عنها لقول الله ـ تعالى ـ: (قُلْ لِلمؤمنينَ يَغُضُّوا مِن أبْصَارِهِمْ). (النور: 31)،كما يجب على النساء أيضًا أن يَغضضنَ مِن أبصارهنَّ عنْها اتِّباعًا أيضًا لقوله ـ سبحانه ـ: (وقُلْ لِلْمُؤمناتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبْصَارِهِنَّ)، لأن غضَّ البصر عن هذه المشاهد العاطفية المُثيرة هو سبيل المؤمن لإزالة المنكر، طالمًا أصحاب الولاية على التلفزيون لا يزيلونه بأيديهم بحُكم ولايتهم ومسئوليتهم عنه، فهذه المشاهد العاطفية منكر لا شك فيه في بلد إسلامي فهي من أسباب الانْحراف، ومِن المصادر الرئيسية لترويج ما يُسمَّى بثورة التحرير للمرأة.
الفتاة الأولَى يجب أن يزداد إيمانها بتقواها، ولا تأسَى على شيء يفوتها ممَّا يُعرض في هذه المشاهد العاطفية، ففوق أنها مشاهد مُلفَّقَة، ومصنوعة ولا تُصور الحياة الإنسانية الكريمة، فالبعد عنها يقي الإنسان مِن تصوُّرات كثير ة تَضُرُّه اليوم وغدًا.
... أما خطيب الفتاة الثانية، فالفتاة ستَتركه لا مَحالة قبل الزواج بها، أو بعده، والعاقل هو مَن يَدْرَأُ الضرر عنه قبل وُقوعه.(/4)
152ـ الحضارة المادية والقيم الإنسانية
تذكر إحدى الآنسات من محافظة القاهرة أنها فتاة في التاسعة عشر من عمرها، وتريد أن تسير في حياتها وسلوكها طبقًا لمَا يأمر به الدِّين، ولكنها تَخشَى أن يَسْخَرَ منها الناس، وبالأخصِّ جِيرانها، فهم على مستوى في المعيشة أعلَى مِن مُستوي أسرتها: في الملبس والأكْل، وقد وهَب اللهُ بناتَهم مَسْحة مِن الجمال، وفي الوقت نفسه كان يرى هؤلاء الجيران ما يَصنعه أبُوها بأمها، فإذا ضحِكت معها لأمر ما حاسبَها حسابًا عسيرًا، وبَصَقَ في وجه والدتها أمام أعيُنهم، ومن أجل ذلك تَشعر بضَآلة نفسها، وأنها أتْعس الناس في هذه الحياة.
ثم تَستطردُ فتقول: "ما رأيت أحدًا فيه عيْب واحدٌ سخِرتُ منه؛ لأنني أعتقد أن النساء أو أن الإنسان ليس كاملاً، ولدَيَّ إحساس بآلام الناس، وأحزنُ لحُزنهم، وأفرح لفرحهم، وليست أنانية: لا أطلب شيئًا من هذه الدنيا، وليست لي أمنيةٌ مثل باقي بنات جنسي؛ لأنني أريد أن أعيش لمَحبة الناس. ولكن الناس في هذه الأيام لا تهتمُّ إلا بالمظاهر والشياكة والمصلحة فقط، لا تحترم مَن عنده أخلاق، بل تَحترم الناس ذات الأخلاق الفاسدة، فلماذا؟ فما ذنبي إنني جئت إلى هذه الحياة لا أعرف الكذِب أو اللَّوَع، أو مخالطة الناس والفُسَح، ومخالطة الشباب، الناس يقولون عني: إنني عبيطة؛ لأنني أتكلم بنِيَّةٍ طيبة، لا يعرفون ما بقلبي، فإني الآن أكره الناس، وأكره نفسي، وأكره الحياة وأقول: لماذا خلقني الله في هذا العصر الذي لا يَرْحم ولا تَرحم الناس بعضها البعض؟
ثم تُوجِّه الرجاء إلى مَن يُجيب على سؤالها بقولها: أستحلفك بالله أن ترشدني عن الطريق إلى الله، والطريق الذي أُحِسُّ رضا الناس، ورضا الله ورضا نفسي، طريق الجنة.(/1)
السائلة هنا تصفُ الجو النفسيَّ والمادي الذي تعيش فيه، وهو جوٌّ يُوحي بالكآبة واليأس مِن الحياة، كما تذكر، فهي لا تملك القدرة على أن تُجاري الأُخريات في سِنِّها: في الملبس والشياكة، والخروج مع الشبان للنُّزهة والفُسَح، كما لا تملك جمال الخِلْقة الذي يُعينها على أن تُلفت نظر الرجال إليها، ولذلك هي حزينة في نفسها، مع أنها لا تُضمر شرًّا للآخرينَ في المجتمع. ...
... وتصف كذلك الجو النفسي والمادي الذي تعيش فيه الأخريات من عمرها وهو جو المظاهر الخادعة، والشياكة في الملابس والتجميل، والمصلحة فقط، واللاأخلاقية في السلوك، هو جو الاختلاط، والعبَث عن طريقه، هو جو الكذِب والخداع، ...
ولاختلاف الجو الذي تعيش فيه والجو الآخر الذي يعِشْنَ فيه الأخريات يَرْمِيهَا بعض الناس بالعبَط؛ لأنها لم تزل تعيش في جوِّها، ولم تَنتقل بعدُ إلى جو الأخريات: جو العبث والإغراء، والكذب، والخداع، والمرح، والضحك. ...
ولأنها لم تعد تحتمل اختلاف الجو كرهت نفسها وكرهت الناس كذلك، وتُسائل نفسها: لماذا خلَقها الله في هذا العصر؟ وهو عصر لا يَرحم مَن يُخالف اتجاهاتِه ولا تَرحم الناس فيه بعضها البعض.
والعصر الذي تَصفه السائلة اليوم بأنه لا يَرحم مَن يُخالف اتجاهاته، هو عصر المادية على القيم الإنسانية التي جاءت رسالة الإسلام لرفْع شأنها بين الناس، طغيان المادية: بالمال، وفي سبيل المال يَستشري الفساد والعبَث والفساد عن طريقه، ولماذا لا تسعى السائلة إلى المال كما تسعى الأُخريات؟؛ لأن المَيْل إلى الاستقامة مُتمكِّنٌ منها.
... فيأْسُها بسبب المال لا تَملكه، ومن العسير عليها أن تُحصِّله، وأبوها يَحْقرها ويَحقر والدتها أمام الجيران المُوسرين، إلى درجة أن يَبصق في وجه أمِّها لو ضحكت لأمرٍ ما، والناس لا يَحترمون ـ كما تقول ـ إلا صاحبات الأخلاق العابثة ويَغُضُّون النظر عن اللاتي لا يعرفن الكذب والخداع.(/2)
... والفجوة الواسعة بين مستوى السائلة ومستوى الأُخريات مِن الجيران يجعلها مُترددة في أن تلتزم السلوك الدينيَّ المُهذب، إذْ تخشى مِنَ الْتزامها إيَّاه زيادة السخرية منهنَّ لها؛ لأن الفجوة عندئذ ستزداد اتساعًا بينها وبينهنَّ.
هي فتاة لها ميل ديني: ترغب في السلوك المهذب، والبعد عن الظاهر الكاذبة والخادعة، ولكنها بسبب عواملَ خارجةٍ عن إرادتها، لا تستطيع أن تَستجيب لهذا الميل عندها كما تُريد، وهذه العوامل الخارجة: ما يحيط بها من جو السخرية منها، ومن هنا تَولَّد الصراع النفسي لدَيها: فهي لا تستطيع أن تكون مثل واحدة منهن ولا تستطيع أيضًا أن تظل بعيدةً عنهن، دون أن ينالها أذًى منهن، ونشأ عن هذا الصراع اتجاهها نحو "اليأس" من الحياة، بدلاً من أن تنشأ عنه لدَيها: روح "المقاومة" ضد المظاهر المادية السائدة، فالصراع بين طرفينِ متناقضينِ أو مُتقابلين، يُمكن في النهاية أن يتَّجه إلى هذا الطرف، أو إلى ذلك الطرف الآخر المقابل له، فإذا اتجه صراع السائلة نحو اليأس من الحياة، فقد اتَّجه إلى الجانب السلبي، وذلك يدل على ضعف المقاومة عندها. ...
والسائلة يجب أن تعرف أنها تعيش الآن بين: الله ، والشيطان، والشيطان له غوايته، وله طُرقه نحو هذه الغواية. ومن هذه الطرق: حمْل الشبان والشابات على المظاهر الخادعة، والسلوك اللاأخلاقي، والوقوع تحت إغراء المال، وأن السائلة إذا قاومت طرق الشيطان بعَزْم أكيد وإرادة قويَّة، فإنها ستَنجح في الوصول إلى هداية الله.
والتمسُّك بهداية الله يزيد مِن مقاومة هوَى الإنسان، ومقاومة شهوته، وهوى أيّ إنسان وشهوته يتمثلان في الوساوس التي تصُول وتَجُول في خاطر الإنسان، وهذه الوساوس هي مِن عمل الشيطان. أو هي الشيطان بنفسه. ...(/3)
... وما كانت عبادة الصوم إلا لإضعاف وساوس الشهوة عند الصائم، وما كانت عبادة الزكاة إلا لإضعاف سلطان المال وإغرائه عند صاحب المال، وما كانت عبادة الصلاة إلا للنَّجاة مِن الوقوع في محيط الشيطان، مِن المصلين.
... يجب على السائلة أن تسلك طريقها الذي اختارتْه في حياتها، وأن لا تعبأ بسُخرية مَن يَسخر منها، فمَن يَخسر مِن الآخرين يفعل ذلك للتدليل على وُجوده وعلى صلاحيته للحياة، وهو أصلاً غير مَوجود وغير صالح للحياة؛ لأن مَن تُسخره رياح الشهوات لا يَعرف مكانه ولا مقامه، في الوجود، وفي الحياة معًا.
... وأول عاملٍ مِن عوامل نجاح الإنسان في حياته هو ثباته، وثباته مَرهون بمدَى صبره على الأذى مِن المُعارضين، وقد عاش رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بمكة وصبَر على إيذاء المعارضين له، والساخرين منه، وهم الزعماء وأرباب السطوة والسيادة فيها، وكان صبره هو السبيل إلى نجاحه ضد أعدائه ، عندما عاد من مَهْجره بالمدينة إلى مكة، لا يُدانيه في السيادة عليها أحدٌ.(/4)
154ـ رُفقاء السوء:
طالب بإحدى المدارس الثانوية يقصُّ قصته مع زميل له في مَقعد الدراسة فيقول:
إنه موفق في دراسته، ولم يتخلَّف فيها مرة واحدة، ولكن في هذا العام جلس بجواره زميل له استضعفه، وانتهز فرصة أنه تَغيَّب بعض الأيام بسبب مرضٍ جسميٍّ ـ كما يُعبر السائل ـ وعندما عاد إلى المدرسة أخذ زميله هذا ينظر إليه نظرات احتقار واتهام، ويسأله أسئلةً يُحاول بها أن يُفقده الثِّقة في نفسه، ويُحدثه كثيرًا عن اللهْو والعبَث، ممَّا أثَّر فعْلاً على توازُنِه، ويسأل:
إنه يُريد أن يَبتعد عنه، ويدفع عن نفسه سُوءَه، ويُعيد إليها الثقة بالله، فهل يُخاصمه، والرسول ـ عليه السلام ـ يَنهى عن الخصام في قوله: (لا يحلُّ لمُسلمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثلاثة أيام)؟ ما هو الحل لهذه المشكلة الصعبة؟
إنَّ رفيق السوء مُهيَّأٌ من الجانب النفسي بعدة صفات: ...
أولاها: أنه صفيقٌ، وبليدُ الحسِّ، فهو يَحتمل ما يُوجَّه إليه مِن إهانة، ويُثابر في سبيل الاستيلاء فريسته. ...
ثانيهما،: أنه مُتخلِّف عن أقرانه فيما يُشاركهم فيه من دراسة أو من عمل، ومن أجل ذلك يُحاول أن يُحطم كل مَن يتفوق عليه، فحِقْده يملك عليه زمام أمره. ...
ثالثهما: أنه يُباشر المُوبقات، ويأتي المُنكَر، في جُرأةٍ وفي غير حياء، كي يُغطِّي بجُرْأته في ارتكاب القبيح والسوء، على فشله وتخلُّفه، ومَن يُباشر الموبقات والمنكر في غير حياء، لا يكون له خُلقٌ فاضل إطلاقًا ولا مبدأٌ إنساني يرتبط به مع غيره، إنه يمثل الشيطان بين رفقائه، يختار الضعيف، فالضعيف بينهم، ويُوسوس له بالسوء: فيَكذب، ويُغري بأكاذيبه، ويَخدع بها، حتى يَزداد الضعيف ضعفًا فإذا أخرج هذا الضعيف عن خطِّ الاستقامة في السلوك، وعن طريق التفوق في دراسته أو في عمله: تحقَّقت غاية رفيق السوء، بأن أصبح وهو في السوء والقُبْح سواء.(/1)
وزميل السائل في المدرسة الثانوية مُؤهَّل بهذه الصفات كلها، فيُوحي له بسبب مرضه وانقطاعه خمسة أيام عن الدراسة: بما يُفهمه أنه غير مؤهل للجلوس الآن مع زملائه في المدرسة، بعد هذا المرض، ويَكذب في نقله عن زملائه: رغبتهم في تجنُّب عشرته. وبذلك يَبتدئ هذا السائل يحسُّ: بأنه معزول وغير مَرغوب فيه، وهذا الإحساس وحده هو إحساس كفيلٌ بأن يَهُزَّهُ ويُقلقه، ويُفقده الثقة في نفسه. ...
ثم يُضيف رفيق السوء إلى اضطراب زميله الضحية: إغْراء على العبَث والفساد، بأحاديثه المَكذوبة التي يَروي بها قصصًا لم تقع، ولكنها من الخيال المَعسول، ونفس الشاب في مرحلة المُراهقة تتأثَّر كثيرًا بالقصص الغرامية، والمُغامرات بين الجنسين.
والتلميذ السائل يتحرَّج مِن مُخاصمة رفيق السوء في جواره في الفصل، اتباعًا لقول الرسول ـ عليه السلام ـ: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)، لكن يجب أن يفهم: أن حديث رسول الله ـ عليه السلام ـ خاصٌّ بمَن هو مسلم، أي بمَن هو يَتَّبع ويُطيع تعاليم الإسلام، وهذا الرفيق السيئ هو مسلم بالاسم أو بالبيئة فقط، ولكنه في حقيقته: شيطان وتلميذ لإبليسٍ، فهو منكر في ذاته، ويجب الابتعاد عنه نفسيًّا، لمَن يريد أن يقي نفسه سوءه وضلاله، والابتعاد النفسيُّ هو عدم الاهتمام به في صورة ما. ...
... فالمسلم لا ينبغي له أن يهجر أخًا مسلمًا: في الإيمان، والسلوك، والالْتزام بأداء الواجبات والمسئوليات، فهل رفيق السوء هذا مسلمًا، بمعنى أن يَسلم الناس مِن إيذاء يده ولسانه؟ أمْ أن إيذاءه للآخرين باليد واللسان قائم بالفعل؟ والسائل واحد مِن الذين يُؤذَونَ بلسانه؟. ...
... والسائل إن استطاع أن يترك الفصل الذي يُزامل فيه رفيق السوء، ويَنتقل إلى فصل آخر لا يراه فيه: يكون قد فعَل الأفضل لنفسه؛ لأنه سيتجنَّبه في المكان وقت الدروس على الأقل في المدرسة، ثم لا يراه بقية اليوم، لوُجوده في منزله.(/2)
... إن رفقاء السوء في المدرسة، وفي العمل، وفي الجوار، وفي المعاملات، ابتلاء مِن الله، وبلاء في الوقت نفسه، ولذا على المُخالط لهم أن يصبر في الوقت الذي يتقي شرَّهم: وليس اتقاء شرهم بالخصام، وإنما بالانصراف النفسي عنهم، والزهد في الجوار والحديث معهم، والصبر المطلوب هو عدم الانفعال بما يصدر عنهم من عبث وترك مجالسهم حتى يخوضوا في حديث آخر، لأنهم طالمًا كانوا رفقاء فمِن الصعب ـ عند اتقاء شرِّهم ـ مقاطعتهم بحيث يُصبحون أعداء سَافرين.
... وعلى السائل أن يَستمر في صِلته بالله، عن طريق أداء العبادات، والْتزام طريق الاستقامة، كما تَرسمه هداية الله، وأن يَتجاهل هذا الرفيق السيئ: أن أشار بحركةٍ ما، أو تفوَّه بكلمة ما، أو استرسل في حديث لغوٍ وليُواظب على دروسه بالمذاكرة والمراجعة، وبذلك يظل متفوقًا عليه وعلى أمثاله، والله يهدي إلى سواء السبيل.(/3)
160ـ انحراف الشباب المسلم والحضارة المستورَدة:
كتب أحد المواطنين، لم يذكر له مَوطنًا، ينفي التبِعة عن شباب اليوم في الانْحراف، ويُحمِّل علماء الأزهر ورجال الدعوة إلى الإسلام، الوِزْر كله في انحراف الشباب.
... فكثير من هؤلاء العلماء وأولئكم ـ كما يقول ـ يتَّجِرُ بالدين.. ويُنافق من أجل الوصول إلى أعلى المَراتب في المَناصب والوظائف.. وكثير منهم يَمتلئ قلبه بالحقد والكراهية والقسْوة، ممَّا يُنفِّر من الإسلام.. وكثير منهم بعيدٌ عن القدوة الحسنة في سُلوكه من الزوجات والبنات في الشوارع والأماكن العامة بدون أن يَتَحَجَبْنَ.
... ثم يقول هناك قُصور في الدعوة، ويسأل: أين يَجد الدين، بعيدًا عن الكذب والنفاق، والخداع؟(/1)
إن انحراف الشباب المسلم اليوم في السلوك لا يعود فقط إلى افتقاده القدوة الحسنة بين الدُّعاة وعلماء الأزهر ـ كما يقول السائل ـ وإنما يرجع قبل ذلك إلى الأوضاع الاجتماعية التي يعيشها المجتمع الإسلامي المعاصر. فهذا المجتمع الإسلامي المعاصر لا يعيش في عُزْلة عن المجتمعات الأخرى والتأثُّر بأوضاعها وظروفها التي تعيش فيها ، فالتقدُّم العلمي والتطور الصناعي يُيَسِّرُ كلٌّ منهما اتصالَ المجتمعات البشرية بعضها ببعض، فليس الراديو وحده.. وليس التلفزيون وحده.. وليست الصحف والدوريات وحدها، وليست الطائرات الأسرع من الصوت وحدها.. بل الأقمار الصناعية التي تُرسل مع ذلك الأحداث في العالم، فوْر وقوعها في أيِّ مكان منه: إلى بقية جهاته. ...
وما يَجري في المجتمعات الأخرى، وتنقله وسائل النقل السريعة ليس ذا طابع إسلاميٍّ، بل ربما يكون على النقيض تمامًا، مما يدعو الإسلام، وهو إذْ يُنقل إلى داخل المجتمع، قد ينقل في غير طواعية واختيار، مِن المشرفين على وسائل الإعلام، وكثير منه يُنقل باختيارهم ورغباتهم. ...
فالأجهزة الحديثة لوسائل الإعلام بنَقْلها ما في المجتمعات الأخرى إلى المجتمع الإسلامي المعاصر: تَضع أمام تقاليد هذا المجتمع: تقاليدَ أخرى لم يكن يَعرفها مِن قبلُ.. تضع أمامه باسم الحضارة: الحفلات الماجِنة.. والسلوك المَعيب.. والاخْتلاط الشائن.. وعاداتٍ أخرى لم يكن يُمارسها إطلاقًا في حياته. ...
وفي هذا الخليط بين الماضي.. والمعاصر، من السلوك والعادات والتقاليد: يعيش الشباب المسلم اليوم، فإذا قُدِّم له الإسلام، وربما يقدم إليه في غير قُدوة حسنة ـ كما يقول السائل ـ يكون اقتناعه به أقلَّ ممَّا تُقدمه أجهزة الإعلام الحديثة؛ لأن ما تُقدمه هذه الأجهزة يُثير الغَرائز، ويُحرك شهوات النفس، أكثر ممَّا يُنير العقل ويُعين على المنطق السليم.(/2)
وتأثير ما يدور في المجتمعات الأخرى على شباب المجتمع الإسلامي المعاصر لا يعود فقط إلى ما يُعرض في حفلاته، وفي عاداته وتقاليده المغايرة، وإنما قبل ذلك يعود إلى "خرافةٍ"، لم تزل مُسيطرةً على المسلمين في مُجتمعاتهم منذ أيام الاستعمار الأوروبي لها، وهذه الخُرافة هي: أن الحضارة الأوروبية هي عنوان التقدُّم في الإنسانية، فما تدفع به هذه الحضارة مِن داخل مجتمعاتها إلى المجتمعات الإسلامية المعاصرة: هو خيرٌ يجب اتباعه، وعدم التخلُّف عن الأخْذ به، ولو كان فِسْقًا أو عبَثًا وانحلالاً، وشباب مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة يعيش في هذه الخرافة ويقبل تقليد ما هو أجنبيٌّ عن مجتمعه، ولذا هو حائر.. ومُضطرب: يقدم رجلاً.. ويُؤخر أخرى، كما يقولون.
ولا شك أن القُدوةَ الحَسنة عند الداعي إلى الإسلام هي عاملٌ ذو أثَرٍ إيجابيٍّ في نقْل الدعوة وفي قَبولها مِن الآخرين، وعندما أثْنَى القرآن على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُثْنِ عليه بالعلْم والمعرفة، وإنما أثنى عليه "بالخُلق العظيم"، فيقول له: (وإنَّكَ لعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ). (القلم: 4). والخُلق هو عادات تتمثل في السلوك والمواقف والتصرفات. وذلك ما يُعبَّر عنه بالقدوة الحسنة، إنْ كان هذا السلوك، والمواقف، والتصرفات لها طابَعُ الحُسن تتميَّز به. ...
ولأن القدوة الحسنة ذات تأثيرٍ قويٍّ في نشْر الدعوة يُوصي الله المؤمنين: الاقتداء برسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تطبيقه لمبادئ الوحْي في حياته وحياة أُمَّتِه فيقول لهم:
(لقدْ كانَ لكمْ في رَسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنةٌ لمَن كانَ يَرْجُو اللهَ واليومَ الآخِرَ وذَكَرَ اللهِ كَثِيرًا). (الأحزاب: 21). وبذلك قامت الدعوة الإسلامية على عهد الرسول ـ صلوات الله عليه ـ على الوحْي.. وعلى حُسن التطبيق لمبادئه.(/3)
والنفاق.. والكذب.. والخداع: صِفات تَلْحَقُ الضعيف في المجتمع، والضعيف هو ضعيف النفس، وضعْفها قد يكون بإغراء الوظيفة.. أو الترَف والوضْع الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان، فهو لا يَخصُّ طائفةً بعَيْنها، وإنما يَلحق نُفوسًا مُعيَّنة. وهي التي لها قابليةٌ للدُّنيا وزِينتها، وعائشة ـ رضي الله عنها ـ عندما تَحكي عن مَعيشة الرسول ـ عليه السلام ـ بقَولها: "لم يَجتمع لنا في يوم واحد: أدَمٌ.. وبُرٍّ". تُخْبِر عن الوضع الاجتماعي الذي كان فيه الرسول ـ صلوات الله عليه ـ وهو وَضْعٌ يَحُول دون أن يقع ـ عليه السلام ـ تحت إغْراء الدنيا، ولذا لم يَضعف ـ عليه السلام ـ لحظةً واحدة في نشْر دعوته.. ولم تَضعف دعوته إطلاقًا لمَأْخذٍ في قدوته الحَسَنة، إنه عاش للرسالة، وللدعوة إليها، ولتطبيق ما جاء فيها.
وأمامك الآن: كتابُ الله لا يَخدعك.. ولا يكذبك.. ولا يُنافقك. تأخذ منه دين الله ورسالته إلى الإنسان.
وهناك عدا ذلك كُتُبٌ مُعاصرة تخدعك كذلك في عَرْض دين الله عليك، وربما لو كَلَّفْتَ نفسك مَشقَّةَ الذهاب إلى "مكتبة وهبة" بشارع الجمهورية لوَجدتَ الكثير منها بعيدة عن الكذب والنفاق.(/4)
123ـ زلَّة البنت في شبابها وتوْبتها إلى الله:
سيدة من إحدى المحافظات: تذكر:
أنها كانت فتاةً صغيرةً تعمل عند أسرة في القاهرة، وأن هذه الأسرة كانت تُعاملها معاملة قاسية، فطلبت مِن والدها أن يبحث لها عن عملٍ في أسرة أخرَى، فرفَض؛ لأنه في حاجة ماسَّة إلى الأُجرة التي تحصل عليها من الأسرة التي تعمل فيها.
... وتحت ضغط القسوة في العاملة تركت المنزل والأسرة معًا، وهامت على وجْهها دون أن تعرف هدفًا لها، إلى أن وصلت إلى حديقة "الأزْبكية"، وهناك الْتقت بمجموعة مِن الفتيات العابِثات، وأغْرَيْنها، على أن تعمل معهنَّ في بيع "اللبِّ" بالنهار.
... وفي مساء اليوم اصطحبْنَها إلى مكان في الجيزة وألقيْنَ بها في يدي مجموعة من الشُّبان المُنحرفين، فأخذها واحد منهم: يُذكر أنه ماسِح أحذية ـ إلى المأذون وعقَد عليها قرانه بشهادة اثْنينِ مِن أفراد هذه المجموعة واحتفظ بوَثيقة الزواج عنده، ثم طلب في الوقت نفسه أن تُباشر العمل في النَّشْل والسرقة، وربما في الاتجار بعِرْضها، وكان يُعذبها ويَشتدُّ عليها في التعذيب إنْ قلَّ إيرادها عن مبلغ مُعيَّنٍ.
... وتحت وطأة التعذيب هربت منه، وهي لم تزل من الوِجْهة الرسمية زوجة له، والْتقت بوالديها مرة أخرى، وقصَّت لهما قصةَ زواجها فلم يُصدِّقها والدها، وزوَّجها مِن ابن عمِّها، ولكن عندما اكتشفَ ابن عمِّها أنها لم تكن بِكْرًا، وعندما أصرَّت على إخْفاء حقيقةِ أمرها عنه، عمَلاً بوَصية والدها، طلَّقها بعد الضرْب والإهانة لهَا.
وبعد الطلاق منه انتقلتْ مع والِدَيْها وإخوتها الصغار إلى بلْدة بعيدة لا يعرفهم فيها أحد، وهناك زوَّجها والدها برجلٍ صالح، كما تذكر هي، فابتدأت حياتها في الاستقرار ورُزقتْ منه بولدٍ له مِن العمر سنةً واحدةً، وعادت إلى الله مُستغْفرةً نادمةً على الماضي.. وتتقرَّب إليه ـ سبحانه ـ بالصلاة والصوم وما يجب عليها مِن فروض العبادة.(/1)
... وهي تسأل الآن عمَّا تصنعه لتُصفِّي حياتها مِن أخطاء الماضي: فهي لم تزلْ من الوِجْهة الرسمية زوْجًا للصِّ ماسِحِ الأحذية، كما تقول: وهي الآن زوجة لرجلٍ آخر وكوَّنت معه أسرة جديدة، ومعنى ذلك أنها زوجةٌ لرجلينِ في وقت واحد.
... وهذا ما يُنكره الإسلام ولا يُقرُّه، وهي مِن أجل ذلك مُهدَّدة بالعُقوبة والسجن. فهل تُكاشف زوجها الحالي بأمْر ماضيها مع ماسح الأحذية؟. إنها تَخشَى أن يذهب استقرارها وتذهب الأسرة كلها مع ذهاب الاستقرار في الزوجية.
... هل تذهب إلى زوجها السابق تسأله الطلاقَ؟ إنها تخشى على نفسها منه وعلى الأقل تخشى أن يُمسك بها ويُعذِّبها، ويدفع بها هذه المرة إلى ما يُسيئ إليها إساءةً تامة، فلا تعود إلى أسرتها.. ولا تعيش عيشةً زوجية عنده تَشعُرُ فيها بآدميتها.
قصة هذه الفتاة هي قصة كثيراتٍ مِن مثيلاتها في مصر:
1ـ فقرٌ وحاجة تدفع الفتاة إلى العمل في منزل أسرة مِن الأُسر في مجتمعنا المعاصر، وبالأخصِّ في منزل أسرة مُسلمة.
2ـ وقسْوة في المُعاملة اللاإنسانية مِن الأسرة المَخدومة للفتاة الصغيرة، الفقيرة.
3ـ وهربٌ مِن منزل الأسرة المَخدومة: بسببِ سُوء المُعاملة: إلى أوكار الشياطينِ مِن الإنْس، وهُم المُنحرفونَ مِن الصِّبْيَةِ والشبان والعابثون بالقيَم، والذين يَعيشون على استضعاف الضعيفات.
4ـ ووُقوع في مُنعطفات اللاأخلاقية، وانزلاق في مَزالق الانحراف والفساد التي تصعب العودة منها.
5ـ ومُحاولة يائسة أو بائسة مِن أولئكنَّ الضعيفات إلى الخروج مِن مَصايد الجريمة، وقلَّما يَنْجُونَ بأنفسهن، أو بقليلٍ مِن الصلاية للحياة الإنسانية العادية مع الآخرين.(/2)
ولو أن الأسرة المصرية كانت تُعنى بمثل هذه الفتاة التي تُشارك في خدمتها.. وتجعلها تلْمسُ حسن مُعاشرتها لها.. وحرصت على نظافتها في ملْبسها، وراحتها في نوْمها، وأطعمتها ممَّا تُطعِم منه نفسَها، وصانتْها مِن أيِّ انحرافٍ يَستهْوِيها.. لو أنها عاملتْها كما يطلب الإسلام لأَسهمتْ في حلِّ هذه المشكلة الاجتماعية والأخلاقية، بنَصيبٍ كبيرٍ. فيُروَى عن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: خدمت رسولَ اللهِ عشْرَ سنينَ، فما قال لي: أفٍّ، ولا: لِمَ صَنَعْتَ؟.. ولا أَلَا تَصْنَعْهُ؟. أيْ لم يُظهر ـ عليه الصلاة والسلام ـ له تَمَلْمُلِهِ ولا غَضِبه مِن شيءٍ ما.. كمَا لم يُعاتبه ويُراجعه ويقول له: لِمَ فَعلْتَ.. أو لِمَ لمْ تفعل.. فأنَسٌ وهو صحابي ـ رضي الله عنه ـ كان مُستأجَرًا في خدمة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أي أن العلاقة بينهما كانت علاقةَ أجرةٍ على مَنْفَعة، ولم تكن علاقة مَملوك لمالك.
... وجاء في الأحاديث الخاصة بمُعاملة الأرِقَّاء، وهم المُمَلَّكُون لأسيادهم قوْلُ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "هم ـ الأرقاء ـ إخوانُكمْ جعلَهم اللهُ تحت أيديكم، فأطعمُوهم ممَّا تأكلون، وألْبِسُوهم ممَّا تَلْبسون.. ولا تُكَلِّفُوهمْ ـ أي بالعمل ـ ما يَغلبهم؛ "أي ما يجعلهم غير قادرين على أدائه" فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ "أي شاركوهم في أدائه".
كما جاء قوله ـ عليه السلام ـ في مُعاملتهم أيضًا: "إخوانُكَ فَضَّلَكَ اللهُ عليهمْ، فمَن لم يُلائمكم فبِيعوه، ولا تُعذِّبوا خلْقَ الله".(/3)
فليس عندئذ في مُجتمعنا المصري أرِقَّاءَ ولا رقيقات، وإنما عندنا مُستأجَرُون ومُستأجَراتٌ على أداء مَنْفعة هي خدمة المنزل، والعلاقة بين الأسرة المَخدومة والفتاة التي تقوم بخدمة المنزل هي علاقة أجْرٍ في مُقابل مَنفعة..هي علاقة أبعد ما تكون عن التعذيب والقسْوة في المُعاملة، وأقرَب ما تكون إلى المودَّة والرحمة، فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو القدوة الحسنة لجميع المسلمين ـ لم يَقُل لأنسٍ ـ رضي الله عنه ـ لحظةً ما وهو يقوم بخدمته: ما يُحسُّ منه أنه غيرُ راضٍ عن خدمته.
فلا الإيذاء بالقول أو باليد.. ولا الصراخ أو السباب في وجْه الفتاة المُستأجَرة في خدمة المنزل.. ولا الإهانة بانْتقاص حقَّها في الراحة والمسكن، والأكْل والشُّرب: يَرْضَى عنه الإسلام فضْلاً عن التعذيب والقَسْوة فيه.
فالمَملوكة التي تُعذَّب مِن سيدتِها يأمرها الإسلام ببَيْعها والتخلُّص مِن علاقتها بها، والمُستأجَرة حُرَّة إنْ أدَّت عملاً أُجِرَتْ عليه، ولها بعد أدائها إيَّاه أن تَترُك المنزل وهي كريمةٌ على نفسها وغيرها.
ولكن مِن الأسَف مُعاملة كثير مِن السيدات المِصريات للفتياتِ في خدمة منازلهنَّ: تُسهم في تضخيم هذه المشكلة.
وما تسأل عنه الآن هذه السيدة التي هداها الله وخلَّصها مِن شُرور الفِتيان العابثينَ في هذا المجتمع: فالقوْل فيه:(/4)
أولاً: إنها لا تَستطيع لقاء زوجها الأول للمَخاوف التي أبدَتْها في تَساؤُلها، وهي مَخاوف قريبة مِن الوُقوع، وفي رأْيِي: أنها في زواجها كانت مُكْرهةً على زواجه، عندما عُقِد قرانه بها، فهل كانت تَستطيع أن تقول: لا؟ ثم إنَّها وهي بِكْر زُوجت من غير وليٍّ لها، أيْ مِن غير وُجود أبيها وكيلاً عنها، فيُروى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قولها: (لا نِكاحَ إلاَّ بوليٍّ، وأيُّما امرأةٍ نُكِحَتْ بغير إذْن وَلِيِّهَا فنِكاحُها باطلٌ.. باطلٌ.. باطلٌ.. فإنْ لم يكن لها وليٌّ فالسلطانُ وليُّ مَن لا ولِيَّ له".. أي لا يَصحُّ العقْد عليها بدُون وليٍّ لها، ووَلِيُّها هو أبُوها هنا، وبالإضافة إلى عدم وُجود أبيها في عقد زوجها فإن الشاهدينِ اللذينِ شهِدَا على قرانها بماسح الأحذية ليسَا من العُدول في شيء، إذْ هما شُركاءُ فِي جرائم السلْب والسرقة والعِرْض.
... ومِن جهة أخرى أن غايةَ الزواج في هذا العقد ليست السُّكْنَى.. والمودة.. والرحمة، على نحو ما يقول الله ـ تعالى ـ: (ومِن آيَاتِهِ أنْ خَلقَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً). (الروم: 21).. بل غايته: مُشاركة الفتاة المُكرهة هنا في ارتكاب جريمةِ المال والعِرْض.
... فالإكراه، وعدم الرضا مُبطلٌ لعقد الزواج، والفتاة مُكرهة وغير راضية. وعدم وُجود وليٍّ للبكْر مُبطلٌ أيضًا لعَقد الزواج، وقد دخلتِ الفتاة عقْد الزوجية بدُون وليٍّ لها.
... وعدم عُدول الشاهدينِ في نظر مَن يَشترط وُجود شاهدينِ في عقد الزواج، مُبطل كذلك لعَقده.(/5)
... وهكذا أمام الله لا يُوجَدُ لهذه السيدة السائلة زواج برجلٍ آخر غير زوجها الحالي، ولكن الأوراق الرسمية هي التي تَشهد بوُجود الزوج الأول، ولذا يُستحسن الاستفسار عن حلٍّ من رجال القانون في الأحوال الشخصية، وهي قد تابت إلى الله فيجب أن تكون توبتُها قد شملت المُعاشرة غير الشرعية للصِّ ماسح الأحذية.
ثانيًا: أمَّا التحدُّث إلى الزوج الحالي عن هذا الماضي الشائن، فلا ضرورةَ له، طالَما اتَّجهت إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالتوبة الخالصة والْتزمت بأداء العبادات واستقامة السلوك والإخلاص في خدمة زوجها الحالي وابنها منه، إلا إذا أحسَّتْ منه أنه يَغفر لها الماضي البغيض إذا حدَّثتْه عنه، وهذا أمر تُقدِّره هي وحدها في علاقتها به.(/6)
96 ـ الزوجة لها حرية التصرُّف في أموالها ولكن بما لا يُسيء إلى زوجها
من القاهرة تكتب إحدى السيدات وتروي مشاكلها الثلاث:
المشكلة الأولى: أنها تملك شيئًا من الثروة الزراعية والحيوانية وتُباشر بعض الأشغال اليدوية، وتكسب منها، وقد حجَّت إلى بيت الله من مالها الخاص، وزوجها موظف في الدرجة الثانية، وله ـ كما تقول ـ ثلاث منازل.. وودائع في البنك.. ومال في التجارة.. ومن البُخل يُمسك يده عن الإنفاق عليها وعلى الأولاد منها فلا يُنفق على كُسوتهم.. ويُقتر في مصروف البيت.
... ورغم ثَرائه فإنه يُريد أن يأخذ ما عندها مِن مال خاصٍّ بها.. وهي تريد ألا تُعطيه شيئًا منه، وتسأل عن رأي الإسلام في موقفها منه.
... والمشكلة الثانية: أن لها بنتًا أنجبتْها من زوج آخر قبل زوجها الحاليِّ، وقد أخذتها في حضانتها وعلَّمتها حتى حصلتْ على دبلوم فوق المتوسط، وهي في العشرينَ من عمرها الآن، وتزوجت، ولكنها من وقت لآخر تطلب أن تزورها أمُّها، فتذهب إليها ومعها بعض الهدايا لها، كعادة الأمهات، عند زيارة بناتهنَّ المتزوجات، فما حكم الشرع في ذلك؟
والمشكلة الثالثة: إنها في فترة الصباح قد تُباشر، من غير علْم زوجها دُروسًا في المنازل وتأخذ أجرًا عليها، كما أنها تكتب ـ كما تذكر ـ فاتحة الكتاب بطريقة معينة تتخللها كلمات، كحِجاب لكلِّ مَن يكون في ضِيقٍ فهل هذا حرام؟(/1)
أما المشكلة الأولى: وهي مشكلة مطالبة الزوج بالحصول على مال زوجته الخاص بها، فغير جائز شرعًا، فالإسلام يمنع الزوج من أخْذ شيءٍ من المهر الذي أعطاه لزوجتهِ، لسبب من الأسباب، فإذا كان المهر وهو مال الزوج أصلاً، لا يجوز له استردادُ شيء منه فبالأولَى لا يجوز له أن يأخذ شيئًا من مال زوجته الخاص بها إلا برِضاها هي. وأخْذه بدون رضاها يكون مِن يأكل أموال الناس بالباطل، وقد نهَى عنه القرآن الكريم في قول الله ـ تعالى ـ: (لا تَأْكُلُوا أمْوالَكُمْ بيْنكمْ بالبَاطِلِ). (النساء: 29) .. كما نهى من قبلُ عن أخْذ الأزواج شيئًا من المهور في قوله ـ جل شأنه ـ: (وإنْ أرَدْتُمْ اسْتَبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا). (النساء: 20).. والنهي عن أخْذ الزوج شيئًا من مال زوجته قائم، سواء أكان الزوج فقيرًا في حاجة إلى المال.. أم مُوسرًا أغناه الله عنه.
... ومع نهْي الزوج ـ ولو كان فقيرًا ـ عن أخذ شيء من مال زوجته، فإنَّ عليه نفقةُ زوجته، وكذا أولاده؛ لأن "قوامة الرجل على المرأة" في الأسرة: في نظر الإسلام قائم على أمرينِ، أحدهما: وُجوب نفَقة الزوجة عليه.. كما يُعرف ذلك من قول الله ـ تعالى ـ: (الرجالُ قَوَّامُونَ على النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ علَى بعضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِن أمْوَالِهِمْ). (النساء: 34).(/2)
والزوج إذا كان مُوسرًا ويُلحُّ في أخْذ مال زوجته، أو بعضٍ منه: يكون جَشِعًا أو جاهليًّا، ممَّن يُحبون المال حُبًّا جَمًّا، كما جاء في وصْفهم قولُ الله ـ تعالى ـ: (ولا تَحَاضُّونَ علَى طَعامِ المِسكينِ وتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمَّا وتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا). (الفجر: 18 ـ 20)..وكما جاء في عاقبة أمرهم قوله ـ سبحانه ـ: (ومَا يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذَا تَرَدَّى). (الليل: 11).. أيْ لا ينفعه ماله إذا هلَك ومات.. أو وقَع في أزمة وفي شدة فلا يُنجيه من الموت.. كما لا يُخلِّصه من الشدائد؛ لأن كثيرًا من الأزمات والشدائد ليست اقتصادية، بل قبل ذلك تكون نفسية، أو عائلية أو اجتماعية.
... والزوج الجشِعُ أو البخيل أو المُلِحُّ في تحصيل مال الغير ولو بالباطل ـ وخصوصًا ـ إذا كان الغير زوجته ـ فاقد المروءة والخصائص الإنسانية؛ إذْ هو أنانيٌّ يحب نفسه فقط.. وبعيد ما يظن أنه يصون الذات ويحفظ عليها وُجودَها في الحياة، والأنانيُّ لا غِنَى فيه للغير، فلْتترقَّب السيدة السائلة وعندها هذه المشكلة، أكثر ممَّا ذكرتْه في رسالتها، وتدعو الله له بأن يُبرئه مِن مرض المال، فهو أخطر مرضٍ يُصيب الإنسان؛ لأن حبَّ المال يَذهب بإنسانية العابد له، ويَجَرِّدُهُ تمامًا من صفاتها الحميدة.
والمشكلة الثانية: وهي زيارتها لابْنتها المُتزوجة التي أنجبتْها مِن زوجٍ سابق على زوجها الحال، وحمْلها أثناء الزيارة بعض الهدايا لها: فذلك أمرٌ مرغوب فيه ويُقرُّه الإسلام تمامًا، وبالأخصِّ أن هذه البنت ليست لها عصبية من الرجال.(/3)
... والهدايا التي تَحملها السائلة ـ وتقول بشأنها: أنها تدفع ثمنها مِن مالها الخاص ـ ليس فيها ما يُحرِّمه الدين، بل على العكس تُدخل السرور على ابنتها، ولكن إذا حملتْها معها من بيت الزوجية، أو أنفقت فيها مِن مَصاريف البيت التي تتسلَّمها مِن زوجها المرة بعد الأخرى، فإن حلَّها يتطلب موافقة الزوج، وبالأخصِّ أنه ليس أبًا لها.
... وأنا لا أدرى: لماذا لا تأخذ السيدة الحاجة السائلة: إذْن زوجها، فإنها في خروجها لزيارة ابنتها لا ترتكب مُنْكَرًا؟ فالزوج وهو أقرب إنسان إلى زوجته، من المصلحة للطرفينِ أن يَعْلم خطوات زوجته، وبالأخصِّ في غيْبته.
والمشكلة الثالثة والأخيرة: هي أن السيدة الحاجة، البائسة، الحائرة، والسائلة الآن. تُباشر من العمل داخل بيت الزوجية، وخارجه في منازل الأُخريات، ممَّا تكسب به مالاً، بالإضافة إلى الرِّيع والعائد مِن الزراعة والحيوان، لها دون أن يعلم زوجها بنوع العمل وبالعمل نفسه.. ودون أن تَستأذنه في ذلك. وهي كزوجة يجب أن تأخذ إذْنه في مباشرة الدروس الخصوصية خارج المنزل .. كما يجب أن تُوقفه على كُنْهِ العمل الذي تُباشره في المنزل وهو عمل "الأحْجبة" من أجل الضيق والكرْب.
فالعمل خارج المنزل ربما يُفوِّتُ الكثير عليها مِن عمل المنزل. فلا تستطيع القيام به. وعندئذ تكون قد أصابت الزوج والأولاد بضرر. وهو ضرَرُ التقصير في مسئوليتها نحوهم. ومِن هنا يجب عليها أن تحصل علي إذْن الزوج. وربما يكون نوع العمل الذي تقوم بتدريسه في الخارج يُؤذى الزوج إيذاءً أدبيًّا. وبالأخصِّ انه هو موظَّف كبير في الدرجة الثانية. ولهذا أيضًا يجب أن يُحاط منها بنوعية العمل، ويأذن فيه.(/4)
أمَّا عمل الأحْجبة لشفاء الصدور فذلك ليس شأنها ولا شأنَ أيِّ إنسان آخر. إن تفريج أزمات النفوس هو لله وحده، وعلى المأزوم أن يدعو ربه، وهو أقربُ إليه مِن حبل الوريد، ولذا لا يَنبغي أنْ تُشرك نفسها مع الله فيما يَخُصُّه وحده. والأولَى لها ـ إذن ـ أن تترك هذا العمل ولا تَشغل نفسها بما يَضرها في علاقتها بالله ـ سبحانه وتعالى.(/5)
120ـ السفور والاختلاط والأثر السيئ في العلاقات:
يروي مواطن من إحدى القرى، قصةً لزميله، ويقول:
إن زميله كان يَثِقُ في صديقٍ له ثِقةً كبيرة، ائْتَمَنَهُ على كل شيء وكان يتوسَّم فيه الشهامة والرجولة حتى تَرَكه يتردَّد عليه في منزله، إلى أن حدَث ذات ليلة: أن الصديق كان موجودًا بمنزل الزميل.. واستيقظ هذا الزميل مِن نوْمه ليرَى صديقه يُداعبُ بدَن شَقيقته، فلمَّا أحسَّ به الصديق قطَع مُداعبته لشَقيقته، وكأنَّ أمرًا ما لم يحدث، وهنا تجنَّب الزميل أن يُثير مع صديقه شغَبًا أو جدَلاً، تَسَتُّرًا على ما حدث، واكتفى بأن أبعده.. وضرب شقيقته ضرْبًا مُبْرِحًا، فهي مَعقودٌ قرانها على شخص آخر.
... ويسأل: هل ينطبق على زميله: بسبب تَسَتُّرِهِ وعدم إثارة الأمر الشائن مع صديقه ـ أنه دَيُّوسٌ، يحرم عليه دخول الجنة، رغم أنه غَيُور على عِرْضه، ولم يَحدث أن فعَل بفتاةٍ أخرى مثل ما فعَله صديقه الخائن مع أخته؟.
كما يسأل سؤالاً آخر:
ما رأي الدين في العادة السريَّة التي تَفشَّتْ بين الشباب هذه الأيام؟ وهل معناها في القرآن: "هو اللواط" وهل هناك أحاديثُ صحيحةٌ بشأنها وما عقاب فاعلها يوم القيامة؟(/1)
ما فعله الزميل مع صديقه مِن مُقاطعته وطرْده مِن المنزل، ومِن عدم إثارته جدلاً معه حوْل الفُحش الذي ادَّعى أنه ارتكبَ مع شَقيقته تَسَتُّرًا على عِرْضها، وبالأخصِّ أنه معقود قرانها على شخص آخر، يُعتبر مَقبولاً وقت الحادث؛ لأن إثارة ضجَّة حول الموضوع كانت ستَنتهي بعُذر ما مِن الصديق: بالإضافة إلى إشاعة الأمر بين الجيران وغيرهم، ممَّا قد يُفسَّر بما يُسيء إساءة بالغةً إلى شقيقته في مُستقبلها وفي علاقتها بزوجها المُقبل. وقد جاء في أدب القرآن، خاصًّا بحادث الإفْك قول الله ـ تعالى ـ: (ولَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلتمْ مَا يكونَ لَنَا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبحانَكَ هذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ). (النور: 16).. فقد روَّج بعض الحاقدينَ مِن اليهود على الرسول محمد ـ عليه السلام ـ وعلى السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأبيها أبي بكر ـ رضوان الله عليه ـ: إشاعةَ سُوءٍ عن عائشة بشخص آخر أثناء تغيُّبها عن القافلة في البحث عمَّا فقد منها، فجاء نُصح القرآن للمؤمنين جميعًا، ما تَضمنتْه الآية السابقة من عدم الخوض في موضوع لم يتأكد ولم تَقُم عليه بيِّنة.
... وكان الأولَى بالمُؤمنين أن يتجنَّبوا الحديث فيه إطلاقًا، وأن يَصفوه مِن أول الأمر بأنه كذِب مَحْضٌ: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتُانٌ عَظِيمٌ)..
... وطبعًا لا يُقاس موضوع شقيقة الصديق في هذا السؤال على موضوع أم المؤمنين عائشة ـرضي الله عنها ـ ولكن فقط ما تُعطيه الآية مِن علاج لإشاعة فُحْشٍ عن مسلمة، ليس هناك دليل قاطع عليه، وهذا العلاج يكون في عدم نَشْره واعتبار ما قِيلَ أمْرًأ غير مُؤكَّد، لم تَقُم عليه بيِّنة وهي شهادة أربعة شهداء: (فإذْ لَمْ يَأْتُوا بالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ "أي المروِّجون لإشاعة السُّوءِ" عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ). (النور: 13)..(/2)
ثم تأتي في آخر آيات الإفْك: النصيحة العامة في قوله ـ تعالى ـ: (إنَّ الذينَ يُحبُّونَ أنْ تَشيعَ الفاحِشةُ في الذينَ آمنُوا لهمْ عَذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة واللهُ يَعلمُ وأنتمْ لا تَعلمونَ). (النور: 19)..وإذَن ينبغي للمؤمن التحفُّظ وعدم ترويجِ أمرٍ سيئ خاصٍّ بامرأة، رغبةً فقط في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وإذًا أيضًا لم يكن الصديق مُذنبًا ولا جبانًا عندما كتَم الأمْر مع شقيقتِه.
ولكن يأتي بعد ذلك مع الصديق أمْرٌ آخر. وهو أن يَعلم عندما حرَّم الإسلام "الاختلاط" لغير المحارم لم يَستثْنِ الأصدقاء، وإنما "الاختلاط" لمآسيه الكثيرة كان بوجه عام مُنكَرًا في العلاقات بين الرجال والنساء، في نظر الإسلام كيف يُبيح الصديق لصديقِه وهو شابٌّ، أن يدخل منزله وأن يرى شَقيقته ويتحدث إليها، وتتحدث إليه عدة مرات، وهي شابَّةٌ أيضًا؟ كيف لا ينتظر مع كثْرة التردُّد وتبادُل الأحاديث: أن لا يحدث ميْلٌ بين الصديق وشقيقته وأن لا تَحدث رغبةٌ في اللقاء المتكرِّر بينهما، رغم أنه مَعقود قرانها على شخص آخر؟ إن عِفَّة الشاب، وكذلك عفَّة الشابة في بُعد كل منهما عن الآخر.. في عدم الاختلاط بين الاثنينِ، ولكن أنْ يُباحَ لهما الاختلاط، ثم يطلب منهما العفَّة وعدم الميْل الغريزي مِن كلٍّ منهما للآخر فذلك هو الأمر الذي قلَّما يقع، وعقد القران على شخص آخر ليس مانعًا مِن وقوع الفاحشة عند الاختلاط.. والزواج بالفعل ليس أيضًا مانِعًا مِن وُقوع الفاحشة عند الاختلاط.
... الاختلاط مركز الجذْب بين الرجل والمرأة، وعلاقة السُّوء بينهما عند الاختلاط مَوقوتة فقط بالظروف التي تُيسِّر لهما الاتصال، كما حصل الآن في سؤال السائل من مَبيت الصديق في منزل صديقه.
... فهل نكون مسلمين لمَصلحتنا، ومَصلحة أُسَرِنا، ومصلحة أولادنا؟ هل نَلتزم بالحلال والحرام في السلوك والمعاملات اتقاءً لكوارث الحياة، التي قد تُصيب المَقاتِل مِنَّا.(/3)
ليس العادة السرية هي اللواط، وما جاء في القرآن من قول الله ـ تعالى ـ: (واللذانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فإنْ تَابَا وأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إنَّ اللهَ كانَ تَوَابًا رَحِيمًا). (النساء: 16).. يراه بعض المُفسرين خاصًّا باللواط، وعُقبوته التعْزير، والتعزير أدنَى من الحد، ويُترك تقديره للحاكم وقد عبرت عنه الآية هنا بالإيذاء فقالت (فآذُوهُمَا) ويُنفَّذ تعزيرُ الحاكم لهما إذا لم يَتوبَا، فإنْ تابَا: سَقَطَ عنهما بتوبتهما التعزير، وهو عقوبة الإِيذاء والتي يُقدِّرُها الحاكم.
أما مباشرة العادة السرية فيَختلف الأطباء في تقدير ضرَرها وعلى مقدار ضرر هذه العادة لصحة المُراهق أو المُراهقة يكون حُكم الله، وهي على أيةِ حالٍ عادة سيئة تشد المُراهق إلى المرأة باستمرار ولو في التخيُّل، وتَحُول بينه وبين التفرُّغ لمَا هو جادٌّ في حياته.
136ـ البنت والاختلاط
إحدى الآنسات ـ فتاةٌ مُحجبةٌ الآن، وتُقيم الشعائر الدينية، وتقرأ القرآن، وتعمل كل شيء، يُرضي الله كما تقول ـ تحكي:
قبل أن تَتَحجَّب تعرَّفت على شاب وأحبَّتْه، ثم قطعت كل صلة به بعد أن لَبِسَتِ الحجاب "ولم أقابله إطلاقًا إلا لِمامًا في الشارع فقط" ومع ذلك لا تُكلمه.
والآن تتملكها الحيرة؛ كلما مرَّ الوقت أحسَّت بأنها في حاجة إليه أكثر، وتسأل نفسها: هل تُكلمه؟ هل تترك الأمر لله يفعل ما يشاء؟
وترجو أن نَدُلَّها على الطريق السليم والمستقيم الذي لا يدفعها إلى أعمال الشيطان. كما ترجو أن نُبصِّرها في شأن التفكير فيه؛ هل هو حرام قطْعًا؟ أم جائز؟ أم ماذا؟
الآنسة السائلة تُمارس شخصيتينِ:
الشخصية الأولى شخصية التي تعرفت على شاب وأحبته، وبَقِيَ حبُّها لها ما بَقِيَ تفكيرها في هذا الحب لا ينقطع.(/4)
والشخصية الثانية شخصية التي تحجَّبت وتدينت، والتي يحملها حجابها على التغاضي عن علاقة الحبِّ بمَن أحبته، وهي لا تستطيع تركها، بل على العكس كلما مرَّ الوقت أحسَّت بأنها في حاجة إليه أكثر.
وهذا الازدواج في الشخصية هو الأمر الذي يجعلها مُتردِّدة أو مُتحيِّرة، فمُقتضى أنها اتَّجهت إلى الله وحده كان يجب ألاّ يَشغَلَها كثيرًا شاغلٌ آخر مِن أمور الدنيا، كتعلقها الآن بشخص عرَفَتْه وأحبَّته، ومقتَضَى أنها أحبت شخصًا وما زال التفكير في حبه يسيطر عليها.
إن تديُّنَها مظهر فقط من مظاهر حياتها، ولم يَنفُذ بعد إلى أعماق نفسها فيُوجِّهَها حيث تكون القربَى من الله.
والازدواج في الشخصية أو في الاتجاه هو الذي يجعل الشخص، ذكَرًا أو أنثى، مُقسَّمًا على نفسه ومُوزَّعًا بحيث لا يكون لدَيه الاطمئنان والاستقرار، ولا يكون لدَيه التروِّي في اختيار ما يجب أن يَسلُكَه في حياته.
وتردُّد السائلة بين حبِّ الله وحب الشخص الذي عرفتْه لا يجعل حبَّها لواحد منهما صادقًا، فحُبها لله يَفرض عليها إن أحبت إنسانًا أن تَسلك الطريق المشروع لحبِّه، وليس هو طريق الوحدة ولا اللقاء المنفرد، ولا الحديث في السرية والخفاء والبعد عن الأهل والمحارم. وحبُّها للإنسان إن ملَك عليها تفكيرَها ـ كما يُفهم مِن رسالة السائلة ـ قد يُجنِّبها رضاء الله في معاملته والسلوك معه، على الأقل في بعض الأحيان.(/5)
وليس معنى تردُّد حبها بين الله والشخص الذي عرَفَتْه أن حبَّها لله يمنع من حبِّها لإنسانٍ ما، ولكن حبَّها للإنسان يجب أن يكون عندئذ لله وفي سبيل الله؛ أي أن يكون الشخص الذي أحبَّتْه يعرف الله ويُؤمن به ويؤدي واجب مسئوليته نحو الله، وأن تَسلك معه في العلاقة بينهما المسلك الذي يُحدده دين الله، لا تتجاوزه إلى ارتكاب المعاصي والآثام، إذ ليس مِن هدف الرسالة الإلهية إطلاقًا أن تمنع صلة الرجل بالمرأة، ولكن فقط أن تكونَ صلةً شرعية يُقرُّها دين الله. والرسالة الإلهية تَمتَنُّ على الإنسان بأن الله خلَق من الإنسان الذكَر والأنثى، واستهدف من هذا التنويع الاطمئنانَ والمودةَ والرحمةَ في الجمع بين النوعين (ومِن آياتِه أن خَلَقَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إليها وجَعَلَ بَيْنَكمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً) (الروم: 21) وإذا كان حبها للشخص الذي تحبه لله وفي سبيل الله، تكون شخصيتُها غيرَ مزدوجة، فحبها للإنسان تابع وقتئذٍ لحبها لله، وشخصيتها شخصية واحدة، لا يُسيطر عليها قلقٌ ولا تناقض. وإذًا الطريقُ السليم والمستقيم في حياتها أن تُغلِّبَ حبَّها لله باتباع أوامره وتجنُّب نواهيه على حبِّ مَن تهواه، وأن تسلك معه المسلك الذي رسَمه دين الله إنْ في الخِطبة، أو في الزواج به، أو في معاشرته، أو إنجاب الأولاد منه.
إن الشيطان يَحُلُّ من نفس الإنسان ويكون له فيها مَنزلة إنْ قَبِلَ الإنسان ما يُوسوس به، ووَسوسة الشيطان لا تَعدو أن تكون تَزْيِينًا لأمر ما، كما يُزين هنا في نفس السائلة مَن سبَق أن عرَفتْه وأحبَّتْه، بحيث يُرِي لها أنه يجمع مَحاسن الدنيا وزينة الحياة كلها، وهي مِن أجل ذلك دائبةُ التفكير فيه وتُشركه مع الله في الحب والتفكير معًا، وربما لو تُعيدُ النظر فيه وفي تصرُّفاته لوجدت أن حُبَّها له ينطوي على غُلُوٍّ وتَطَرُّفٍ.(/6)
وحجاب السائلة الذي ترتديه الآن يجب أن يكون عنوانًا على حبِّ الله وقوة الإيمان به وبما ورد في رسالته، يجب ألاّ يكون مظهرًا فقط للإغْراء، وإلا كان مصدرًا لفِتنة الرجال عند إقبالهم على الزواج مِن مُتحجِّبات. وأهمُّ رُكن مِن أركان الحجاب تجنُّب الخَلْوة بغير مَحرم من الرجال، وعدم اتباع وسوسة الشيطان فيما تهواه النفوس. وعلى مَن يوسوس له الشيطان أن يَستعيذ بالله منه بقراءة سورة "الناس".
145ـ هل للاختلاط نتيجةٌ غير ما وقع
يكتب مواطن من القاهرة أنه مُتزوج منذ ستِّ سنوات وله طفلانِ، وأنه يسكن في منزل والد الزوجة ويعمل بالقاهرة مع أنه مِن الأقاليم، وله ارتباطات مالية كثيرة معه، وزوجته في السكن معه، ووالدها مُتزوجٌ غيرَ والدتها المتوفّاة.
ثم يقول إن زوجته مُشاكسة، وتَختلق المشاكل، وتكاد تُحيله مِن عاقل إلى مجنون، وذلك منذ سنةٍ مضت، ولا يعرف سببًا لذلك، إلا أنه ذات صباح مبكرٍ استيقظ مِن نَوْمه فوَجدها تكتب رسالةً ومُستغرقة في كتابتها، فتَحايل عليها ـ كما يذكر ـ وأخَذ الرسالة فوَجدها لزميلٍ لها في العمل في مكتب الشركة، وهي رسالة حبٍّ وغَرامٍ. ...
واستخلص منها أنها على علاقةٍ غير شريفة مع زميلها، وأنها تُناجيه فيها ألاّ يَهجرها، فضبَط أعصابه، ولم يَفعل شيئًا سوَى أن طلَّقها طلقةً واحدةً، ثُم راجَعها بعد أن استعطفتْه وبعد أن تعهَّدت له بأن تكون أمينةً في حياتها الزوجية معه.
ولكن رغم ذلك استصحبها في الصباح إلى محلِّ عملها في الشركة، وهناك التقَى بزميلها المحبوب وطلَّقها أمامه طلقةً أخرى وترك له حرية مُعاشرتها، فتنكَّر لها الزميل وكذَّبها فيما قالت، وكذَّبَتْه هي بدَوْرِها فيما يدَّعيه، وتَشاحَنَا معًا، وعند ترْكِ زوجِها مكتبَ العمل المشترك استَسمَحَتْه وطلبَت منه أن يَقبَلَها في السكن مع أولادها كخادمةٍ وأن يَستر عليها أمْرَها؛ إذ تخشى من زوجة أبيها إن هي علمت.(/7)
ورجعت إلى البيت وكان يُعاشرها بعد الطلقتينِ معاشرةً زوجية، وحدث ذات يوم بعد ذلك أن قال لها لسبب مِن الأسباب: أنت طالِقٌ ثلاثًا. وبذلك أصبحت بائنةً منه لا تحلُّ لهُ إلا بعد أن تَنكح زوجًا غيره، ومع ذلك ظلَّ تحت إلحاحها وتذللها له يُعاشرها كزوجةٍ، وهو يسأل:
ما رأي الدين في الفترة التي عِشْتها معها بعد هذه الأيمان؟
وما رأي الدين في حياتي معها الآن؟
وهل لو هدأتْ نفسي أمام مُعاملتها الذليلة المُنكسرة يكون لي معها حياة زوجية يرضاها الله؟
ونحن نسأل قبل أن نجيب على أسئلة السائل:
ما سبب التغير في سلوك الزوجة بعد أن أمضت مع زوجها خمس سنوات وأنجبت منه طفلاً وطفلةً؟
سببه ـ كما يقول السائل ـ أنها كانت على علاقة غير شريفة وآثِمة مع زميلٍ لها في مكتب الشركة، غرَّر بها ووعَدها بالزواج إن هي طُلقت مِن زوجها، كي يَستمتع بها ما شاء في وقتها الحاضر، ثم لمْ يَفِ بوَعْده وتشاحنَا في حضْرته، هي عاملة وتَختلط بزملاء لها في العمل في الشركة، بعيدًا عن المنزل وعن مسئولية الزوجية، أليس هذا الجو يُوحي لها ساعةً مَا أن تتجاذَب أطراف الحديث مع زميلٍ قد يُبدي إعجابه بها خداعًا؟ والمرأة مهما كانت صلابتها يَهُزُّها الثناء والإعجاب، ولو بخَطِّها في الكتابة فضلاً عن صوتها في الحديث، فضلاً عن قوام الجسم، وجمال الوجه. ...
إن الخروج إلى العمل كما يُساعد على استقلال المرأة اقتصاديًّا، يُعطيها لونًا من الحرية الشخصية، قد يدفعها إلى تجاوُز المسئولية في العلاقة الزوجية إن كانت زوجةً، وبالأخصِّ إنْ كانت ضعيفة الشخصية كزوجة السائل هنا.(/8)
ولا شك أنَّ ما يَصِفُ به السائلُ هنا زوجتَه مِن المذلَّة والمَهانة والاستجداء في البقاء عنده، وما كانت تَكتبه قبل الآن مِن غَزَلٍ وتلهُّف على لقاء الصديق، وهو زميل العمل معها ـ يجعلها ضعيفةً لا تتحمل أيَّةَ مسئوليةٍ سواء في المنزل أو في المكتب في الشركة، وستظل تَستجدي إن هنا أو هناك، وستظل تُحاول أن ترتبط برجلٍ إن هنا أو هناك، في علاقة مشروعة أو غير مشروعة، ولو قُدِّر لها أن تَستقر في بيتها مع أولادها لكان خيرًا لها مِن حيثُ هي زوجةٌ وأمٌّ.
أما ما يسأله السائل عن رأي الدين في الفترة التي عاشها معها بعد أن طلقها بالثلاث وبعد أن سبق طفلها مرة ثم مرة أخرى، فهو لم يعُدْ زوجًا لها، وهي بائنة منه لا تحلُّ له إلا بعد أن تتزوَّج زوجًا غيره ثم يَعقد عقْدًا جديدًا عليها.
وما يسأله في حياته معها الآن، فليست حياته معها الآن بعد أن بانت منه حياةً شرعية، أما مُستقبلاً لو هدأت نفسه وارتضاها زوجةً مرة أخرى بعد أن تتزوج غيره وتُطلق منه، وبعد أن يعقد عليها عقدًا جديدًا، فلا يعلَم إلا الله مدَى صلاحيتها لأن تكون زوجةً وأُمًّا.
والعمل خارج المنزل في الشركات أو في المصالح الحكومية هو مصدر إغراء للمرأة المعاصرة، ولكنه في الوقت نفسه يَنطوي على خطَر الانحراف والبعد عن مسئولية المنزل، أُمًّا أو زوجة، في صورة ما، وفي النهاية قد يؤدي إلى كارثة كتلك التي يتحدث عنها السائل، وهي كارثة المذَلَّة والمَهانة للمرأة ذاتها.
148ـ المَدخل إلى الحرام
تقول طالبة بإحدى المدارس الثانوية بإحدى المحافظات:
إنها تتكلم مع زملائها في الفصل وفي المدرسة وتُناقشهم في مَوضوعات المنهج الدراسي وتَقْصِر حديثها ومناقشتها على داخل المدرسة، دون أن تَتجاوزه إلى خارجها وتسأل: هل هذا حرام؟(/9)
المدارس المشتركة بين البنينَ والبناتِ في مصر تَبَنَّاهَا بعض وزراء المعارف السابقين الذين تأثَّروا بتفكير "جون ديوي"، أحد الزعماء التربويين في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو يَستهدف من التربية المُختلطة بين الذكور والإناث إزالة ما قد يكون هناك مِن فَجَوات نفسيَّة خلَّفتْها الأعراف والتقاليد، أو صنعتْها البيئات المختلفة التي نشأ فيها التلاميذ والتلميذات، أو أوْجَدتها تعاليمُ الدين.
ويُريد ـ إذَن ـ مِن التربية أن تكون لا دِينية، أن تكون ـ كما يُسمِّيها ـ إنسانية أو علْمانية، فإذا طبقت هذه التربية هنا في مصر، فيجب إبعاد الدين عن مناهجها، فإنْ لم يُبعد رسميًّا فإن سبيل الاختلاط بين الذكور والإناث فيها كفيل بإبعاده، وإبعاد كل تقليد أو عُرف يقوم عليه، فالشباب في سنِّ المراهقة، وهي السنُّ التي يُوجد فيها الطالب أو الطالبة في التعليم الإعدادي والثانوي، يُدفع دفعًا بحُكم الغريزة ـ ذكرًا أو أنثى ـ إلى اللِّقاء والحديث مع الجنس الآخر، فإنْ لم يكن لقاء ولا مُشاركة في الحديث أو في الجلوس، فلا أقلَّ مِن النظرات، والنظرات المُعبِّرة عن الرغْبة والإعْجاب.
... وسنُّ المُراهَقة هي الفترة الحرِجة في حياة الشابُّ الشابَّة على السواء، ويتوقف على السلوك فيها مُستقبل أو واحد مِنهما، ولا يُقال ـ كما يُدعَّى الآن ـ أن تَعوُّد الاختلاط في سنوات الدراسة منذ التعليم الابتدائي ثم في الإعدادي بعده يُضعف مِن القابلية، وتُحدُّ مِن قوة الرغبة بين البنت والولد في التعليم الثانوي ثم في الجامعة بعده، ويَقيسون ذلك على ما يَجري في أوروبا الغربية أو في الولايات المتحدة الأمريكية أو في الاتحاد السوفيتي.(/10)
... ولكن هذا القياس مع الفارق، وهو أن الشباب هناك يُمارس العلاقة الجنسية مُبكرًا، وقد يكون ذلك منذ سن الحادية عشرة، والظروف مُهيَّأة للاستمرار في هذه العلاقة مِن الناحيتينِ: الاجتماعية والاقتصادية هناك؛ ولذا من الظواهر الشائعة في هذه المجتمعات: عدم إقبال الرجل على المرأة بعد سنِّ الأربعين، زوجةً أو غير زوجة، وانتشار الأمراض العصبية، والعلاج النفسي، أو الجنسي، والإدمان على الخمور والمخدرات بين النساء: مَن يعملنَ مِنهن، ومَن هُنَّ مُترفات يُنفقْنَ في بَذَخٍ، ومَصايف البلدان المتخلفة في أفريقيا أو في غيرها، يتردد عليها الآلاف المُؤلفة من النساء العانِسات وغيرهنَّ اللاتي يَعشن في المجتمعات المُتحضِّرة.
... أما الشباب في مصر وفي كثير مِن المجتمعات العربية والإسلامية ، فمع ما يُقال عنه مِن المَيْل إلى الفوضَى واللاأخلاقية فلم يبلغ به الاختلاط إلى المستوي الذي أشرنا إليه هنا، للعامل الاقتصادي من جهة، ولاحترام التقاليد ولو في صورة هزيلة من جهة أخرى، وبمرور الزمن ستَهتز هذه الصورة إلى أن تتلاشَى.
ومِن أجل "فتنة الاختلاط" بين الشباب، ذكَرًا وأنثى، في المدارس المُتخلطة أو المشتركة، لا يَرضَى الإسلام عن هذا النوع مِن المدارس ووُجوده في مصر ليس لحاجةٍ إليه مِن الوِجْهة التعليمية أو الاقتصادية، وإنما هو تقليد لبعض المُجتمعات المُعاصرة في أوروبا وأمريكا، هو تجربة يَتوهَّم مَن أدخلوها: أنها ستُعدل الميزان بين الجنسينِ وتُقوِّي بينهما الأُلْفة وبالأخصِّ بعد الزواج، فيقل الطلاق في الأسرة أو يَنعدم تمامًا.(/11)
إن الأمر الذي يُعدل الميزان بين الجنسينِ هو التربية الإسلامية، قبل الزواج وبعده، فامرأة بالتربية الإسلامية تُعِدُّ نَفْسَهَا للصلاحية كزوجةٍ وأمٍّ، والرجل يُعِدُّ نفسه بهذه التربية ليَحمل مَسئولية الأسرة مِن زوجة وأولاد، وكلاَ النوعينِ يدخل الزواج في أهلية وفي صلاحية، وتقلُّ بذلك الخُصومة بينهما وتحلُّ محلَّها الأُلْفَةُ والانسجام.
... ولكن هذا النوع من المدارس المختلطة فوق أنه يُقدم "الإثارة" للبنت والولد على السواء، فقد يُقدم كذلك، الإغْراء، وينتهي أمره إلى المآسي.
... إن مجتمعنا لم يصل بعد إلى مرحلة الانْحلال، أو إلى مرحلة القابليَّة له. فهو الآن في مرحلة النهضة، ومرحلة النهضة هي مرحلة الجِّدِّ في العمل والالْتزام.
... إن المجتمع الياباني لم يصل إلى نوع المجتمعات القائمة في أوروبا وفي أمريكا فيما يُسمَّى بالانحلال واللاأخلاقية في بعض جوانبه، إلا بعد أن فاق في نهضته الصناعية، والتكنولوجية والعلمية كثيرًا من المجتمعات الغربية، وعندما نهَض، وعندما فاقَ في نهضته هذه المجتمعات كان مجتمعًا له تقاليده الخاصة، ولم يَطرح هذه التقاليد إلا بعد الضغْط عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من أعدائه في الشرق والغرب على السواء.
155ـ من آثار الحضارة المُستورَدة
طالبة في الثانوية العامة بإحدى المحافظات تقول:
لها صديقةٌ معها في الثانوية العامة، من السنة الأولى الإعدادية، وكانت هذه الصديقة تتبادل نظرات الحب والإعجاب مع طالب معها منذ خمس سنوات الآن، أيْ منذ السنة الأولي الإعدادية كذلك، فالمدرسة مشتركة بين البنينَ والبنات.(/12)
وبعد مُضيِّ هذه المدة أراد الطالب أن يخطو خطوة أخرى إلى الأمام في علاقته بهذه الصديقة، فقد قرُب الانتهاء من الدراسة الثانوية، التي كانت تجمع الشمل، فرَجَا الطالبة التي تتحدث الآن في أن تُمكِّن صديقتها مِن مُقابلته، وفعْلاً تَمَّ لقاءٌ أول، ثم ثانٍ بعد الانصراف من المدرسة في كل مرة، في الطريق إلى المنزل. وتَستطرد فتذكر: أنها كانت معها في كل مرة الْتقيَا فيها، وأن الحديث بينهما كان عن المستقبل، وعن دخول الكلية في الجامعة بعد النجاح في الثانوية، وفي المرة الثانية تَعاهدًا على أن لا يَخون أحدهما الآخر، وأن لا يَنسَى بعضهما بعضًا.
... ثم تُعلِّق فتقول: إنها طالبة مسلمة، وأنها ترتدي الزي الإسلامي، كما تُثني على أخلاق الطالب ومستواه في الأسرة، وعلى أخلاق صديقتها وعلى أسرتها المُثقفة.
... وفي نهاية الرسالة: تعترف بأن ضميرها يُعذبها ويُؤلمها، وتسأل عنه رأي الدين في هذا العمل، أيْ فيما فعلتْه من الوساطة بين الشابِّ والشابة، وبالأخصِّ: أنها رفضت طالبًا للشاب في أن يُقابل مَحبوبته الطالبة، حرصًا على مصلحته ومستقبله.
هذه الطالبة المسلمة التي تتزيَّى بالزي الإسلامي في مدرسة مشتركة بإحدى المحافظات: كيف كانت تلتقِي بالطالب المُعجب بصَديقتها وهو شابٌّ أجنبيٌّ عنها؟ وكيف كانت تتحدث إليه؟ وكيف أباحت لنفسها: أن تكون واسطة بين شابٍّ وشابة يُريدان أن تتوثَّق العلاقة بينهما إلى درجة: أن يُعاهد كل منهما الآخر على عدم الخِيانة، وعدم النسيان لأيِّ منهما من الآخر.(/13)
... وهنا يمكن أن تكون الإجابة: هي جوُّ المدرسة المشتركة، فجو المدرسة المشتركة بين البنين والبنات منذ الابتدائي، والإعدادي، والثانوي يُعِدُّ للقاء البنت مع الولد، ويُمكِّن مِن الترابُط بينهما وإنشاء علاقات فوق الإعْجاب، وفوق الزمالة، هي علاقات العهد بعدم الخيانة، وعدم النسيان! هذا الجو لا يُتيح الفرصة للإسلام في أن يَقتحمه ويَفرض رأيه في الحلال، وفي الحرام: في علاقات البنينَ والبنات هناك، في سنِّ المراهقة، والشباب، أي حديث عن الإسلام الآن في هذا الجو: يتناول: تحريم الاختلاط بين الذكور والإناث، وهو أمر قائم بالفعْل، بل وهو سائد في المدرسة؟ لا مكان للإسلام هنا الذي يجيز رؤية الوجه والكفين فقط لغير المحارم مِن الذكور والإناث، فالمدرسة المشتركة إذا قامت خرج الإسلام مِن جوِّها حتْمًا.
إن الحديث بين الشاب الطالب في الثانوية العامة وصديقته المُعجب بها، الذي يتناول مُستقبلهما، وأحسن الكليات الجامعية التي يَرغبان الالْتحاق بها إذا كان حديثًا بَريئًا، كما تقول السائلة، أي شيءٍ تندم عليه الآن، ومن أجل ذلك يُعذِّبها ضميرها ويُؤلمها؟
... هل السائلة عندما رفضت تحديد لقاء ثالثٍ بين زميلتها والشاب الصديق لها، كانت تُحسُّ: أن الوضع بينهما قد دخل مرحلةً أكثر قُرْبًا في العلاقة بينهما؟، ولذا تريد الابتعاد وترفض الوساطة؟
... إن الطالبة السائلة قد عَصَتِ الله فيما باشرته مِن وساطة بين صديقتها الطالبة معها والشاب المشترِك معها في المدرسة، فقد اختلطت هي بأجنبيٍّ عنها: في الحديث وفي الرؤية، ونقلت إلى صديقتها ما يُغريها بلِقاء شابٍّ أجنبيٍّ عنها: تتحدث إليه كما يتحدث إليها، وفي أيِّ موضوع؟ في موضوع الصلة بين شاب وشابة يَعيشان فترة المراهقة سَوِيًّا.(/14)
وقد علَّقنا ـ من قبلُ ـ على هذه المدارس المشتركة، غير مرة، فهي لا تُخرج طلابًا وطالبات: شدَّهم التآلُف والانْسجام، بعضهم إلى بعض، كما يُدَّعَى في أهداف هذه المدارس، وإنما تخرج أعداد كثيرة من الطلاب والطالبات، وَسَّعَتْ مِحَنُ الشباب ومآسيها: الفجوةَ بين بعضهم بعضًا، وألْهبت خيالهم الجنسيَّ: بقدْر ما أضعفت فيهم روح الطموح والاستقلال ووضعتْهم في فترة نفسية قلِقة، يُخشَى عليهم مِن آثارها.
الإسلام ليس لباسًا ولا زِيًّا، الإسلام سلوك ومواقف: سلوك إنسانيٌّ، ومواقف إنسانية، فما يبعد الإنسان عن الضرر المادي، والنفسي، له صلة قوية بالإسلام، وما يُؤذي الإنسان في بدَنه، أو في نفسه، أو في سمعته، أو في مستقبله: بعيد كل البعد عن الإسلام، يُعرف الإنسان في مدَى إيمانه بالله وبرسالة الرسول ـ عليه السلام ـ ، بالسلوك والتصرُّف وحده، فهو خير تعبيرٍ عن الإيمان.
... والإسلام إذْ ينهَى عن الضرر المادي، والنفسي للإنسان، فإنما ينهَى عن الاقتراب من مصادره قبل وُقوعه.
... ليس لدَينا من الأسف: دراساتٍ اجتماعية تُحلِّل نتائج الاختلاط بين الذكور والإناث في الدراسة المشتركة، وآثارها السلبية على نفوس الطلاب والطالبات اللاتي يَتخرجْنَ فيها، والإسلام إذْ يرى فيها مصدرَ ضررٍ على المُرتادين لها، فإنه يُقدِّر الآثار لتجاهُل الاختلاط بين الذكور والإناث، فمبدأ منْع الاختلاط هو الوقاية قبل الوقوع في هواية الانْحراف وكوارث الضلال والحَيْرة.(/15)
108ـ الشذوذ الجنسي وسلبياته
مواطن بإحدى المحافظات يقول إن ابن عمِّه كان في السنة الثالثة في المرحلة الابتدائية وحدث من زملائه أنهم باشروا اللِّواطَ معه. ثم تاب وأصبح الآن في السنة الثالثة من المرحلة الثانوية، وعندما يُفكِّر في الأيام التي مضتْ تتأزَّم نفسه، وما زال زملاؤه يُوجِّهون إليه ألفاظًا قبيحةً وسيئةً بسبب ما حدث لها، ويسأل على لسان ابن عمِّه:
هل يتشاجر ابن العمِّ مع هؤلاء الزملاء؟
وكيف ينسى ما وقع له وهو فعْلٌ مَشينٌ؟
وما جزاؤه عند الله؟
يقع هذا الفعل الشائن بين التلاميذ إذا كانت سِنُّهم في الفصل الواحد مختلفة غير مُتقاربينَ بعضهم مِن بعض، فبعض كبارُ السنِّ منهم عندما يصل إلى مرحلة المراهقة يفتش عن "الضحية" ويُمارس معه هذا المُنكَر، والضحية عادةً يكون ضعيف الشخصية لا يُقاوم الاعتداء عليه، وضعيف الشخصية ليس بلازم أن يكون ضعيف البدَن، بل بالأحرَى يكون ضعيف الإرادة، وضعيف الإرادة، إما أن يكون وراثِيًّا "لا يهشُّ ولا ينشُّ" كما يُقال، وإما بسبب مشاكل الأسرة في المنزل أو بسبب الخصومات المتكرِّرة بين الوالدينِ، أو بسبب دفع الأولاد إلى الانْزواء وعدم المشاركة في الحديث أو النشاط الجاري في داخل البيت، فيَنطوي الولد على نفسه، ويَبتدئ يفكر في هُمومه، فإذا ذهَب إلى المدرسة ذهَب وهو مَسلوب الإرادة والوعْي، ومشلول الحركة فإذا رآه بعض الذئاب مِن رفقائه تجمَّعوا حوله وأرْغموه على قبول الفعْل الشائن معه ولو كرْهًا أول الأمر، فإذا أطاعهم مرَّة استخدموا طاعته كسبيلٍ لتهديدِه في المستقبل، وإذا وقَع الفعل الشائنُ معه في حضور مجموعة من زملائه استغلُّوا وُقوعه في إذْلاله وكسْر مُعارضته، بحيث يُصبح مطيَّةً لأيِّ واحد من المجموعة السيئ.(/1)
وعندئذ يُحسُّ بالضياع وقبول المذلَّة، والضياع الذي به هو ضياع رُجولته في المستقبل.. وضياع كلمته التي يَلتزم بها.. وضيَاع كرامته كإنسان.. وضياع اعتباره البشريِّ كواحد بين التلاميذ، إنه الآن يَنتقل مِن واحد إلى آخر، ووقتُه موزع بين معارفه مِن الرفقاء معه.
وخير طريقة لإنقاذ مثل هذه الضحية هو نقْله من المدرسة ـ وليس من الفصل فيها ـ إلى مدرسة أخرى بعيدة عن مدرسته الأولَى، وحَجْبُه عن رفقاء السوء والمُنكر بعدم السماح له كثيرًا بالخروج من المنزل بعد عودته من المدرسة.. وتوجيهه إلى التحصيل وهو في المنزل، وإلى أداء الصلاة، والصوم عندما يحلُّ شهر رمضان، وإلى إفْهامه أن التوبة مِن ذلك إلى الله ستُعيد إليه كرامته واعتباره البشري، وأن ما وقَع منه سيَغفره له الله.
... وبِجانب هذا كله إرْشاده إلى أن الإنسان المسلم لا يقبل الاعتداء على حُرْمة عرْضه أو ماله، وأن مَن يُقتل في سبيل الدفاع عن العرْض أو المال يقتل وله أجر الشهيد عند الله وهو أجر عظيم، فقد رُوي عنِ الرسول ـ عليه السلام ـ قوله: (مَن قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فهوَ شَهِيدٌ). (كتاب اللؤلؤ والمرجان ص: 85)..
... وليس مِن حُسن التربية: دعوة الأولاد إلى الاستسلام إلى الزملاء وقبول الاعتداء عليه في أية صورة من الصور، والإسلام لا يُشجع على تعلُّم "الرمي"؛ إلا لأنه وسيلة إلى الدفاع عن النفس ودفْع الاعتداء عليها، فعَن عقبة بن عامر، قوله: "سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (وأَعِدُّوا لهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوةٍ). أَلَا إنَّ القوةَ الرَّمْيُ.. أَلَا إنَّ القوةَ الرَّمْيُ.. أَلَا إنَّ القوةَ الرَّمْيُ).. وعنه أيضًا: "كلُّ شيء يَلْهُو به ابنُ آدمَ باطلٌ إلَّا ثلاثًا: رَمْيَةً عَن قَوْسِهِ، وتَأْدِيبِهِ فَرَسَهُ، ومُلَاعَبَتَهُ أهْلَهُ، فإنَّهُنَّ مِنَ الحقِّ)..(/2)
... فتعلُّم الإنسان وهو في طفولته: الرمْي بالقوس، كما كان على عهد الرسول ـ عليه السلام ـ وتعلُّمه اليوم الدفاع عن النفس بالوسائل السائدة الحديثة أمر يُعتبَرُ واجبًا إسلاميًّا، والأسرة والمدرسة كلتاهما شريكتانِ في إعداد الصغار لردِّ الاعتداء على حرية النفس في عِرْضها ومالها، وما لها مِن حُرماتٍ أخرى.
... والإسلام وإنْ كان دين السلام، ولكنَّه يُنفِّر مِن الاستسلام والخُضوع لمذلَّة الاعتداء.
أما أن يَتشاجَر المُعتدَى عليه بالمنكر فيما مضى هنا مع الرفاق الذينَ يُثيرونه ويذكِّرونه بماضيه البغيض معهم فأغلبُ الظنِّ أنه لا يستطيع ذلك، فالسنوات التي مضت حتى الآن ليست كفيلةً بأن تُنسيه ما كان معه منهم حتى يستردَّ إرادته في مُواجهتهم، فهو لم يزل يتذكر، وممَّا يتذكَّرُه: خِزْيُهُ منهم.. وسخريتهم به.. وإذْلالهم له. وهذه معاني نفسية قلَّما تكون عنده شجاعةُ المواجهة لهم.
... وفي رأيي لو استطاع مُواجهتهم لوجَب عليه أن يفعل، إذْ لو أصاب واحدًا منهم بأذًى مرة واحدةً فسوف لا يعودون إلى إذْلاله والسخرية منه مرة أخرى.
... وتوبتُه إلى الله في عزْمٍ وتصميم على أن لا يعود إلى قَبول هذا الفعل الفاحش: ستكون مَقبولة عند الله.
... وعلى الأمهات ـ قبل الآباء ـ أن يُباشرْنَ في حَيْطةٍ توعية أولادهن ضد هذا العمل الشائن، وأن يُوقِظْنَ في الذكور منهم: معنى الرُّجولة فيهم، وهو عدم قبول المَذلَّة في أيِّ وضْعٍ.. والتصدِّي في عُنْفٍ لمَنْ يَعْتَدِي على كرَامَتِهِمْ.(/3)
131ـ المرأة بين الأمومة والزواج
سيدة مِن إحدى المحافظات تقول إنها مُطلَّقة منذ ثماني سنوات، ولم تَبلغ الثلاثين مِن عمرها بعد، وزوجها الذي طُلِّقت منه كان يتعاطَى جميع المحرَّمات والمخدِّرات، وتصفه بأنه شرِّير وفاسق، ولها منه طفلانِ في الإعدادي تقوم على رعايتهما منذ ثلاث عشرة سنة، ويكتفي والدهما بأن يُعطيَها كل شهر عشرة جنيهات نفَقة لهما، حتى الآن.
وتسأل:
(أ) هل لها الحق أن تُطالب أباهما بزيادة النفقة الشهرية؟
(ب) وهل له الحق الآن في أن يأخذ الولدينِ لاستكمال تربيتهما عنده؟
(ج) وهل هي مُخطئة أم مُصيبة إنْ عفَّت عن الزواج حتى الآن؟ مع أن رغبة أهلها رغبةٌ مُلِحَّةٌ في أن تتزوج؛ إذْ إنهم يقولون عنها إنها جميلة وحرام ألاّ تستمتع بحياةٍ زوجية جديدة.(/1)
يأتي السؤال الأخير في المرتبة الأولى عند الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة وهو زواجها أو عدم زواجها. ...
لا أحد يَستطيع أن يُقدِّر وضْع السائلة في حياتها القائمة الآن سوى السائلة نفسها، هي الآن تعمل خارج المنزل كمُشرفة اجتماعية في إحدى دور الحضانة من أجل مساعدة طفليها على تربيتهما، وكانت مِن قَبْلِ الطلاق ربَّة بيتٍ لا تعمل في الخارج، ولكنها اضطُّرَّت إلى العمل خارج المنزل لتُساعد ولَدَيْها. ...
لا شك أنها مُؤرجَّحة بين اتجاهين كل منهما له أثاره الإيجابية والسلبية على حياتها؛ هي كامرأة وفي هذه السِّنِّ بالذات تَميل إلى أن يكون هناك رجلٌ تَستند إليه ويَحميها في مواجهة الأذَى والضرر التي قد تُفاجأ بهما لسببٍ مِن الأسباب، إذْ لا يخلو إنسان ما ـ وبالأخصِّ المرأة ـ مِن مُواجهة صعاب قد يترتب عليها أذًى وضرَرٌ في النفس وفي العلاقة بالآخرين، والزوج يُعتبَر أحسَنَ أنواع الرجال الذين تستند إليهم المرأة في الحياة، فهو في الزيجة المُوفَّقة يكون الصديق والأخ والأب في كثير من الأحيان، والزوج هو وحده الذي يَعرف أسرار المرأة التي تَستند إليه وتحتاج إلى حمايته، وبذلك يتمكَّن أكثر من غيره مِن مُساندتها وحمايتها. ...
وهي كأمٍّ من جهة أخرى تتلهَّف على أن يبقى طفلاها في كنَفها وفي حضانتها وفي رعايتها، وليس هناك ما يُسعدها في حياتها وراء أن ترى هذينِ الطفلين في نموٍّ بدنيٍّ ونفسيٍّ واجتماعيٍّ وتعليميٍّ، وكل ما تُقدمه مِن عمَل لهما أو تنفقه مِن أموال عليهما يُعتبَر تعبيرًا عن سرورها النفسي، وفي هذا الوضع تَنسَى نفسها ومَيْلَها نحو الرجل والاستعانةَ به عندما تَقتضي الأزمات وُجودَ رجل كزوجٍ لها. ...
وهكذا، إمَّا أن تبقَى في إطار الذات فتتَّجه إلى الزواج، أو تنتقلَ إلى إطار الأم فتَستغنيَ عنه، ولو كان استغناؤها بحالةِ تخديرٍ مُؤقَّت. ...
أما الجانب السلبيُّ في الزواج فربما تُصادف أن تتزوج رجلاً(/2)
أنانيًّا يضيق ذَرْعًا بطفليها، وبما تَبذله مِن جُهد ورعاية لهما، ولو لم يكونَا معها في سكَن الزوجية بأن يكونَا عند والدتها ـ مثلاً ـ ومثل هذا الرجل الأنانيِّ لا تتوقع منه إلا المتاعب المتكررة، بحيث إنها تميل إلى عودتها إلى الحال قبل الزواج به، ولا تَستطيع في يُسْرٍ أن تعود إليها. ...
والجانب السلبيُّ في البقاء مع الطفلين مِن غير الزواج أنهما بعد بُلوغهما الرُّشْدَ والتخرُّج في المرحلة الأخيرة من التعليم قد لا تجد منهما الوفاء الذي كانت تنتظره أو الذي كانت تحلُم به يومًا من الأيام؛ ليكونَ عِوَضًا عمَّا بذلَتْه لهما من رعاية بالأمس وهما في حالة الحاجة إليها. وليس تَرَقُّبُ ذلك تشاؤمًا، وإنما المادية الكاسحة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة تضغط على الشباب ضغطًا عنيفًا، بحيث لا يُفكر الشاب إلا في نفسه وفي أسرته الجديدة التي يُكوِّنها، وفي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تُحيط به والتي تُؤثِّر عليه تأثيرًا عَميقًا. ...
هناك إذًا جانب إيجابيٌّ وجانب سلبيٌّ في زواجها وقت حضانتها لطفليها. وهناك أيضًا جانبٌ إيجابيٌّ وآخر سلبيٌّ في عدم زواجها والبقاء مع الطفلينِ إلى أن تَفرُغ مِن تربيتهما. ...
والسائلة وحدها هي التي تختار، والجانب السلبي في هذا الاتجاه أو في ذلك هو احتمالٌ قائم فقط على معنى أنه قد يَتمُّ الزواج وتكون سعيدةً بزوجها وطفليها معًا، وقد لا يتمُّ هذا الزواج ويُقدِّم طفلاها بعد الرُّشد والاستقلال مَثَلًا عظيمًا لوفائهما لوالدتهما، وتَسعد الأمُّ بهما سعادةً تزيد عن معنى "العِوَض" الذي كانت تترقَّبه منهما، يوم أن تفرَّغت لهما وتنازلت عن كل مُتعة لها في حياة المرأة.(/3)
أما السؤال عن المُطالبة بزيادة النفَقة الشهرية مِن والد الطفلينِ فهي مُمكِنة نظرًا لارتفاع التكلُفة في المَعيشة. وهو لا يستطيع ولا يرغب كذلك في ضَمِّ الطفلينِ إليه؛ أمَّا أنه لا يَستطيع فلسُوء سُمعته ومُداومته على الشراب وتناول المُخدرات، وأمَّا أنه لا يرغب في ضمِّهما إليه فلأن بقاءَهما في حضانة أمهما أقلُّ تكلفةً بالنسبة له، وهو إذْ يذكُر لها مِن وقتٍ لآخر أنه يضمُّ الولدينِ إليه فإنه يَذكر ذلك فقط لتَهديدها، وإرغامِها على السكوت، وعدمِ مُطالبته بأيِّ شيءٍ ماديٍّ لحاجتهما إليه، وقبولِها للوضع القائم في العلاقة بينه وبين الطفلينِ.
والشِّرِّير ـ هنا في وصْف السائلة لوالدِ الطفلينِ ـ ليس عنده فُسحة من الوقت، ولا سَعةٌ القلب والنفس، ولا بَسطةٌ في اليد لقَبول هذينِ الطفلينِ ورعايتهما والإشراف على تربيتهما.
وهو بإدمانه على الشراب وتناول المخدرات ليس لدَيه الإرادة الكافية لأن يَعِيَ أحوالَ نفسه وغيره، ولو كان الغير ابنًا له، وإنما هو مُسَاق بحُكم إدمانه إلى مَصيره الأخير، وهو الهاوية والسقوط إلى أسفلِ مُستوًى يصل إليه الإنسان إذا غلبتْه نفسُه الأمَّارة بالسوء.(/4)
137ـ جريمة الاعتداء على العرض
آنسة مُتديِّنة تسأل سؤالاً يُثير في نفسها العذاب والألم من وقت لآخر، وتحكي قصتها:
أنه قد اعْتُديَ على عرْضها في السادسة مِن عمرها مِن شاب كان على دِرايةٍ بما يفعل بها، وهي لا حول لها ولا قوة، وليس هناك أحد يعرف مِن أمر هذا الاعتداء سواها وسوى الشاب الذي اغْتصبها، وهي لم تعُدْ تراه الآن ولا تعرف عنه شيئًا، وقد بلغت السادسة عشرة مِن عمرها، وتركت المنطقة التي وقع فيها الاعتداء.
وتسأل: هل يقع عليها ذنب أم الذنب عليه وحده؟
هل لهذا الاعتداء أثرٌ يَبقَى معها عند تَكْبَرُ؟ وماذا تفعل؟
السائلة كانت طفلةً عندما وقع الاعتداء على عرْضها، فلم تكن قد تجاوزت السادسة، بينما الشاب الذي اقترف هذه الجريمة الآثِمة ضدَّها كان على الأقل في سنِّ المراهقة، والأطفال عادة يَختزنون الحوادث التي تتصل بهم كما يَختزنون الكلمات التي يَسمعونها، وإنْ لم يَستطيعوا وقت اختزالها أن ينطقوا بها، فالحوادث لها شرائطُ في نفوسهم، يتذكرون ما سُجِّلَ عليها ينتقلون إلى مرحلةٍ تاليةٍ من التطور تأتي بعد المرحلة التي كانوا فيها ووقعت فيها الحوادث، فإذا انتقلوا ـ مثلاً ـ إلى مرحلة المراهقة تذكَّروا فيها تذكُّرًا واضحًا ما تَمَّ لهم في مرحلة الطفولة المتأخرة أو الأخرى المبكرة قبلها، وكذلك اللغة نجد كثيرًا من الكلمات ضمَّت ما يُردُّده الطفل في المرحلة السابقة، ونَمَت بهذا الضم ثروتُه اللغوية في مرحلته الحالية، والكلمات التي تظهر الآن تِباعًا في لغة الطفل كانت مُختزَنة عنده مِن سماعها وإنْ لم تكن له قدرة يَستطيع بها أن يَستخدمها فيما مضَى.(/1)
وكثيرٌ من الآباء والأمهات والإخوة والأخوات يَظنون أن الطفل في مرحلة طفولته المبكرة إلى السنة السادسة أو السابعة ـ مثلاً ـ لا يستطيع أن يَعيَ شيئًا إذا وقَع له أو أمامه أمرٌ ما، كما لا يستطيع أن يتذكَّر فيما بعد شيئًا مما جُرِّب معه، وهذا الظن وَهْمٌ خاطئٌ؛ فعدم قدرة الطفل في وقت الحادث أو التجربة أو الحديث أمامه على إعادة ما رأى وما سمع لا يدلُّ إطلاقًا على عدم تذكُّره في المستقبل لمَا شاهده أو لمَا سمعه، وإنما يتميَّز في طفولته بأنه يُشبه جهاز التسجيل، يُسجل ويَرصُد في دقَّة وأمانة ما يَحدث له، فقد يُباشر الوالدانِ في وجود طفلهما الصغير ما يُعتبَر سِرًّا لا يَطَّلِعُ عليه سواهما، وهو في واقع الأمر سرٌّ مرصود، وسيُكشف عنه بعد حين عندما يتذكَّره الطفل ويستطيع تصويره، وكذلك قد يقع بين الإخوة والأخوات ما يُعتقد أنه تمَّ في ظلامٍ تام وأنه بانتهائه سوف يُنْسَى إلى الأبد، وهذا غير صحيح، والصحيح أن كلَّ ما يراه الطفل أو يسمعه أو يُشارك فيه يظل ربما غير مفهوم له لوقت معين، فإذا دخَل المرحلة التالية بدَت عنده القدرةُ على المراجعة في التذكُّر ثم على الإعادة في تصويره والتعبير عنه.(/2)
والسائلة الآن في سِنِّ السادسة عشر، أيْ في سِنِّ المُراهقة، بعد سنِّ الطفولة، وهي تتذكر ما وقع لها من اعتداء على عِرْضها وهي في سن الطفولة المبكرة، أي في سن السادسة، كما تحسُّ بالمرارة النفسية التي تُعبِّر عنها هنا بالعذاب والألم، وكلَّما تذكرتِ الاعتداء تكَرَّر الحسُّ لدَيها بالمرارة والألم وبالأثر الذي تركه بالنسبة لمستقبلها، وهي لم تزل تتصوَّر أن هذا الاعتداء قد نال مِن بدنها ومِن شرَفها، وأنها لهذا التصور قد يكون لَحِقها عيْبٌ بدنيٌّ يجعلها في القيمة أدنى مِن مثيلاتها، ولذا تسأل وتسأل. ...
ولو عرَف المعتدي على عِرْضها أثرَ اعتدائه عليها، وأنها ستظل تذكره وتحسُّ به إحساسًا نفسيًّا غريبًا لأدرك أن نزوة الطيش ـ وهي نزوة عابرة ـ لم تُخلف إلا العار له، والعذاب النفسي لمَخلوقة كانت تتمنَّى ألاّ تفكر في ماضٍ يُقلقها، وأن يكون لها أملٌ في مستقبلٍ تَطمئن إليه. ... ...
وسؤالها: هل هي شريكة في الذنب أمْ لا، سؤال لا يَرِدُ بالنسبة لها؛ لأنها أولاً كانت مُكرَهة على أمرها، والمُكرَهُ غير مسئول عمَّا يُكرَهُ عليه، وإذا كانت غير مُكرَهة وكانت قد أرادت مُشاركة المُعتدي فإرادتها عندئذ غير مُعتبَرة؛ لأنها دون سنِّ التكليف، وتَسَتُّرُها على جريمة المعتدي ضدها وإن كانت تشير إلى رغبةٍ ما مِن جانبها فإن هذه الرغبة عندها نوعٌ من لَعِب الأطفال، لا تُؤخَذ مأخذ الجِدِّ والمساءلة أمام الله سبحانه وتعالى.(/3)
وإذا قصَدت السائلة بسؤالها عمَّا يُخلِّفه هذا الاعتداء مِن أثَر يَبقَى معها عندما تَكبَرُ الأثَرَ الماديَّ، وبالأخصِّ ما يتعلق بغِشاء البكارة فذلك يجب الرجوع فيه إلى طبيب مُختص. ...
أما الأثر النفسيِّ لهذا الاعتداء فهو باقٍ، وسيَظل باقيًا عندها حتى بعد زواجها، فعفافُ أيةِ امرأة هو مركز الشرَف منها والجوهر الذي تَفترق فيه امرأة عن أخرى إذا ما وُضعت في ميزان الكرامة، وعندما يُقال: هذه امرأة لها ماضٍ ناصع البياض. يَعني بهذا القول أنها ارتفعت فوق ما يَشين المرأة ويُسيء إلى سُمعتها.
وما حصل للسائلة وهي طفلة صورة قبيحة من صور تنفيس الشبان في سنِّ المراهقة، والذي يَبتدئ مِن الشبان بمثل هذه الصورة الكريهة يَظلُّ سالكًا طريق الاعتداء، وليس على الأعراض فقط وإنما قد يسلك طريقه على المال والحرمات التي للآخرين مِن الرجال والنساء على السواء. ومِن الأسف أنه ربما يَعلم الآباء والأمهات ببعض جرائم أبنائهم على الأعراض وهم في سنِّ المراهقة فيَكتمونها، وقد يرون فيها "فُحولة" يجعلونها مصدر فخر لهم، ولكنهم إذا لم يُمسكوا زمام أمرهم في التوجيه ويَستعينوا بالإيمان بالله على تجنُّب الانحراف فقد يُصبحون هم يومًا ما موضوعًا لانحرافاتهم واعتداءاتهم.(/4)
4ـ ضبطنا أحد اللصوص يسرِق الخُضَر من زراعتِنا ولم نسلِّمه للشرطة. وجمعنا مجلسًا عرفيًّا حكم عليه بعشرة جنيهات. فهل هذا المبلغ حلال لنا؟
سرقة المال جريمة اجتماعية، أي تتعلق بحَقِّ المجتمع، وإن وقعت على ملكيّة خاصة؛ لأن الإسلام ينظر إلى المال في وظيفته على أن منفعته منفعة عامة، وإن كانت مِلْكِيَّة خاصة. والحَجْر على السفِيه في ماله إنَّما هو لارتباط حق المجتمع، ولذا أضاف الله أموال السفهاء إلى المؤمنين جميعًا في قوله ـ تعالى ـ: (ولاَ تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوالَكُمْ التي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيامًا) (النساء: 5). وكذلك الإنفاق على التابع الرَّقيق في مِلْك سيده ليس من رزق السيد، وإنما هو من ملك الله الذي استخلف عليه السيد ومثله، كما جاء في قول الله ـ تعالى ـ: (واللُه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ فَمَا الذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدونَ) (النحل: 71).
وتُعتَبَر سرقة المال لذلك من المُنكَر الذي يُشَدِّد الله في النهي عنه. كما في قوله: (ويَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْي) (النحل: 90). فالفحشاء هنا أُريدَ بها الزِّنى وانتهاك العِرْض، والمُنكَر أُريدَ به القتل، والسرقة. وكلٌّ من الزنا، والقتل، والسرقة يُعتَبَر في نظر الإسلام جرائم اجتماعية.. أي تُعتبر اعتداءً على حق المجتمع.(/1)
والجرائم الاجتماعية الثلاث لها عقوبات وحدود مُقَرَّرة، جاء بها القرآن الكريم، حتى لا تكون موضِع رأي واجتهاد في مختَلف العصور. وحَدُّ السرقة جاءت به الآية: (والسّارِقُ والسّارِقةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (المائدة: 38). وليس في الإسلام ما يُبيح استبدال "الحدّ" في عقوبة السارق ـ أو في عقوبة أيٍّ من الزنا والقتل ـ بعقوبة مالية. نَعَم: الحد يسقط في شُبْهة الجريمة إلى الزانى، والقاتل، والسارق. ولكنَّها لا تُستَبدل بعِوَض ماليٍّ.
والمجلس العُرْفي ـ الذي جاء في سؤال السائل ـ وحكَم بعشرة جنيهات على السارق.. سلك لنفسه طريقًا في الجزاء غير تلك التي رسمَها القرآن الكريم؛ لأنّه قرَّر ـ فيما يبدوـ عِوَضًا ماليًّا عن المسروق. أي أنه بحكمة استرجع المسروق في صورة نقد، بدل محصول زراعي. وبذلك ترك جريمة السرقة بدون عقاب وجزاء.
فإذا كان هذا هو الوضع فيكون مَن وقعَتْ عليه السرقة بقَبوله العشرة جنيهات قد استرجع المال المسروق منه، إن كان يُساويها. وعندئذٍ: لا غضاضة عليه في قَبول ما حكم به المجلس العرفي؛ لأن المسروق كالمُغْتَصَب يُرَدُّ لصاحبه.
وإن كانت الجنيهات العشرة التي حكم بها المجلس العرفي تتضمن بجانب التعويض عن المسروق: عقوبة للسارق على سرقته.. فيجب رَدُّ ما جعل عقوبة للسارق من هذا المبلغ، وقبول الباقي بعد ذلك؛ لأن عقوبة الجريمة في السرقة هي قطع يد السارق. وهى لا تقبل الاستبدال؛ لأنه أُريدُ بها النَّكالُ والتشهير: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ). وعدم إقامة الحد عليه الآن لا تعود مسؤولية التخلُّف: لا على المجلس العرفي، ولا على المسروق منه، وإنّما على الوِلاية العامة في الأمة؛ لأنّها هي التي تباشر حقَّ المجتمع.(/2)
101 ـ إدمان رب الأسرة على الخمر، وسُوء العلاقة بين أفرادها
تذكر إحدى السيدات من القاهرة أنها كانت يتيمةَ الوالدين ورُبِّيَتْ عند خالتها، ولم تُرسلها إلى مدرسة، وعندما كبُرت زوَّجتْها مِن ابن زوجها، ولها منه الآن أربع بنات وولد.
وتقول إنها فيما مضى قد انحرفت، ولكنها عادت بفضل الله عليها إلى الطريق الصواب.
وأنها تُؤدي الآن ما يَجب عليها مِن فرائضَ نحو الله، وتشكو من أن زوجها كان فيما مضى يتناول الخمر بكمية قليلة، وفي كل يوم.
وساء خُلقه، وأصبح لسانه لا يَنطق إلا بالشتائم والسباب والإهانة البالغة لها ولأولادها، على مَسمعٍ مِن الجيران.
وأنها لا تكاد تُطيقه في المنزل ولا تَوَدُّ أن تراه إطلاقًا، بسبب هذه الشتائم والإهانات المُتكررة والتي لا تَنقطع.
وقد فكَّرت في الطلاق منه ولكنها تُفكر في الأولاد أيضًا بعد طلاقها وهو لا يُقتِّر عليها بالمال، ولكنها تقول: إن المال ليس كل شيء.
وتسأل: ما الحل؟
مشكلة هذه السيدة التي تسأل عنها هنا ـ هي مشكلة إدمان زوجها الخمر، ليست لديها مشكلة بسبب المال؛ إذ يبدو أنها لا تلقى صعوبة في الحصول على المال، وربما عدم وُجود صعوبة في الحصول على المال هو الأمر الذي يُسهل لزوجها الشراب، بجانب العادة التي تأصَّلت فيه، فأصبح مدمنًا عليه.
عندما جاء الإسلام بتحريم الخمر مع لعب القمار في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ منْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 90) ..
لم يكن مُشدِّدًا، ولم يكن كارهًا للإنسان أن يستمر في استمتاعه بالشراب، كما كانت هي العادة، وكما تكون في العهود المادية، وإنما كان مُوضِّحًا للإنسان في حياته طريق الفلاح، وطريق الضياع فطريق الفلاح يقوم على تجنُّب الخمر، قليلها وكثيرها على السواء.(/1)
إذْ هي رجسٌ، أيْ شرٌّ وقُبْحٌ، بالنسبة ?للشارب نفسه وبالنسبة أيضًا لمُعاشرته في أسرته أو في جواره ومعارفه، هي شرٌّ على الشارب؛ لأنها تتمكَّن: إذا أدمنَ عليها، من التأثير على جهازه العصبي وإخراجه من دائرة التوازُن إلى دائرة الخوف والاضطراب.
فشارب الخمر يَخشى ظِلَّهُ، ويُسيطر عليه الخلَل والقلَق والاضطراب ومِن هنا كانت شتائمه وبذاءة لِسانه، وإهانته المُتكررة، التي تَقُصُّها السائلة في سؤالها هنا في رسالتها، لها ولأولادها. المُدمن علىالشراب يرى الحياة كلها مُظلمة ومن أجل ذلك يَتشاءم دائمًا، ولا يعرف الأمل في صَحوته إذا أفاق مِن غَيبته، يسعى إلى أن يَنسى حياته الواقعية ليَعيش بتناوُله الشراب في عالَم الخيال هو مُحطَّم النفس ضعيف الإرادة، فلا يُنجز ما يُفكر فيه ولا يَستمر في الإنجاز إذا ما شرَع فيه.
إن تناوُل الخمر من عمل الشيطان، والشيطان لا يُوحي إلا بالشرِّ؛ لأنه يُسخر هوى الإنسان في غير قيْد أو ضابط.
والإسلام إذْ يُحرِّم الخمر يُعلق أملاً، ليس كبيرًا، على نجاح المُدمن عليها فيقول: (لعلَّكمْ تُفلِحونَ).. لأن العادة على الشراب قد ملَكت على المُدمن كل جوانب نفسه، وأفسدت عليه مركز الرقابة، وهو العَقل، فأصبح مُشوَّشًا، لا يرى رؤيةً واضحة.
هناك الآن مراكزُ طبيعية لعلاج المُدمنين على الشراب بالخصوص وهناك أيضًا بجانب العلاج البدني لهؤلاء علاجٌ نفسيٌّ، وما دام لدَى زوج السائلة مال: يَستطيع أن يزور بعض هذه المراكز العلاجية. أما الوَعْظ فلا يُفيده في هذه المرحلة ربما في مرحلة قادمة بعد أن يعود إليه الوعي ورُشد العقل تدريجيًّا، وبعد أن تَبتعد عنه سلبية الإرادة.(/2)
والطلاق الذي تُفكر فيه السائلة ليس علاجًا للمشكلة، كما ترى هي أيضًا ليس فقط لمستقبل الأولاد وإنما كذلك وفاءً للزوج والولد، فهو الآن مريض بإدمانه على الشراب، إنه هيكل إنسان فقط، يتحرك بالغريزة الآن وقد لا يُمكنه غدًا التحرُّك بها أو بغيرها.
وإحدى الوسائل في مُعالجة المدمنين على الشراب في المراكز الطبية العلاجية هو إكراه المدمن على التقليل بالتدريج مِن تعاطي الخمر .. إلى أن يُمْنَع عنه تمامًا تحت مُراقبةٍ دقيقة وقوية، فهل تستطيع أسرة السائلة أن تفعل ذلك الآن مع ربِّها، وهو الزوج والأب هنا.
إنه قدَر الأسرة .. فلتتحمَّل الأسرة قدَرَها في صبرٍ، وفي دعاء إلى الله ـ تعالى ـ ليُنقذها مِن هذا البلاء.
ولعل الشباب يَسمعون هذه القصة المُؤلِمة المُبْكِيَة لرب أسرة يتسبَّب بإدمانه على الشراب في تعاسةِ نفسه وشقاء أسرته، بدَلاً من السعْي في إسعادها وإسعاد نفسه بالاتِّزان والرشد في التفكير، وبالسلوك السوي والعلاقة المُهذبة في صلته بأولاده.. وأم هؤلاء الأولاد وزوجته كذلك.
إنه الإنسان: يَشقَى إذا ضلَّ، ويَسعد إذا الْتزمَ هدايةَ الله في المعاملة والتوجيه، والسلوك إن اللهَ غنيٌّ عن العالَمين، والناس جميعًا هم في حاجة إليه.. في حاجة إلى هدايته في رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد حرَّم أمَّ الخبائث، وجعَل شارب الخمر كعابدِ الوثَن.(/3)
76 ـ استخدام المُنجِّمين لحلِّ أزْمة زواج البنت
تقدم لخطبتي أحد أقارب والدي وهو كُفْءٌ غير أن أسلوب والدتي والإثقال عليه في طلبات: من مهرٍ وشبكةٍ والمبالغة في ذلك صرَفه عني، وكانت أمي تُريد زواجي مِن ابن أختها غير أني ما مِلْتُ إليه، ثم ذهب هو الآخر ليَخطب غيري. وأمي ـ وهي نادمة ـ لا شُغل لها الآنَ إلا الذهاب إلى المُنجمين، وكُتَّاب الأحجبة، جلْبًا لعريس لي. فما الرأي؟
يتضمن هذا السؤال ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: الغُلوُّ في المهر.
النقطة الثانية: تَحكيم صلة القرابة في اختيار الزوج.
النقطة الثالثة: الاعتقاد في التنجيم، والتمائم والأحْجبة.
والمَهر في نظر الإسلام وإنْ كان أمرًا أساسيًّا في الزواج، يُعطَى مِن الرجل إلى المرأة، ولكن يُعطَى كمِنحة وهدية منه، تعبيرًا عن رغبته في الاقتران بها، وليس كثمن لها، تختلف قيمتُه، تَبعًا لاختلاف منزلة المرأة الاجتماعية، أو تبَعًا لمَا يَترقَّب: مِن منافع مادية منها.
ولذا يكفي في المهر عند الشافعيّ أن يُعلِّم الزوجُ زوجتَه بعض سُور القرآن الكريم. وتعليم القرآن أبعد ما يكون عن مقياس الاقتصاد في مجال الثمن والسلعة.
والغلوُّ في المهر إذنْ خارج عن مُحيط الزواج، كما ينظر إليه الإسلام، تدفع به إلى حياة الناس عواملُ التأثُّر بالقيَم المادِّية، وإخضاع الإنسان في تقديره إلى المستويات المادية وحدها، أو قبل المستويات النفسية والعقلية والسلوكية للرجل والمرأة، ويُروَى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه خطب ذات مرة فقال: "أَلا: لا تُغالوا بصَداق النساء؛ فإنها لو كانت مَكرُمة في الدنيا، أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي، صلى الله عليه وسلم ".(/1)
وتحكُّم الأم في تزويج ابنتها من ابن أختها، الذي لم ترضَ به البنت زوجًا لها قد حمَل الأم على أن تُطارِد رجلاً آخر كُفْئًا رَضِيَتْ به ابنتُها، بسبب أو بآخر: يُعارض ما جاء في إذن المرأة، سواء أكانت بكرًا أم ثيِّبًا، فقد وَرد عن الرسول عليه السلام: "الثيِّب أحقُّ بنفْسها" (أي في الإذن بالزواج. من وَلِيِّها)، والبكر تُستأمر" "أي يُؤخَذ أمرُها وإذنُها"، وإذنُها سكوتها".. والأم .. كامرأة ليست مِن الأولياء حتى يكون لها شأن ما.
ولكنها العادات هي التي تَطغى على صفاء المنهج الذي رضي به الإسلام في العلاقة بين الرجل والمرأة.
وذَهاب الأم إلى المُنَجِّمين، بعد أن فاتت عليها فرصة الرجل الكُفْء الذي رَضِيَت به ابنتُها، وبعد أن لم تَنجح هي في حمْل ابنتها على قَبُول ابن أختها كزوج لها: لا يُفيدها في شيء.
فلا قول المُنجِّمين، ولا خبر العرَّافين يكشف عن غَدِ الناس ومستقبلهم؛ إذْ علم ذلك لله وحده، ويُروى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله: "مفاتيح الغيْب خمسٌ لا يَعلمها إلا اللهُ: لا يعلم ما تَغيض الأرحام إلا الله، ولا يَعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المَطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت إلا الله.. ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله"..(/2)
6ـ ما الرأي في الذين يستخدمون مكبِّرات الصوت بدون ضرورة في مناسبات قراءة القرآن، وقد تكون القراءة في حجرة صغيرة والمستمعون لا يتجاوزون عدد الأفراد، والجيران في كل جانب، ومنهم الطالب الذي يَستَذْكِر دروسه، والمريض الذي يؤذيه الصوت المرتفع. وقد يكون الصوت مع هذا غيرَ جميل؟
لا تتوقف المودّة بين الناس في مجتمع من المجتمعات عن المعاونة المادّيّة ومساعدة كل للآخر. وإنّما قبل ذلك لا تنشأ الروابط الطَّيّبة بين الأفراد إلا في ظِلّ المعاملة الإنسانية الكريمة، التي تستهدف المحافظة على اعتبار الآخرين في بشريّتهم، وعلى ما يَنشُدونه من راحة واطمئنان، وبُعد عن القلق والاضطراب.(/1)
وقد جاء في وصية لقمان لابنه ما من شأنه أن يؤكِّد الروابط الإنسانية بينه وبين غيره، ويدفع عنها كل إيذاء معنويٍّ وجرح للشعور الداخلي في ذات الإنسان. فكان ما أوصاه به في قوله: (ولاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ولاَ تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحًا) أيْ لا تَتَكبّر على الناس، ولا تعجب بنفسك ( إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ واقْصِدْ في مَشْيِكَ واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) (لقمان 18-19) أي واعتدل في سيرك فلا تكن مُهرولاً مُبطئًا في تأنِّيك، واخفِض من صَوْتِك بحيث لا يكون مؤذيًا لسماع غيرك.. فأوصاه بالتواضع، وبعدم الغرور، وبالاعتدال في السير، وبغَضِّ الصوت عند الحديث. وكل ما أوصاه هنا يستهدف: عدم إثارة الضيق أو الأذى والحرج في نفوس الآخرين. ثم وقف قليلاً عندما أوصاه به من غَضِّ الصوت في الحديث، ليُوَضِّح أثر الصوت في إزعاجه للآخرين عندما يرتفع، فقال له: (إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الحَميرِ) (لقمان: 19).. ويُفَسِّر الزمخشري في كتابة الكشّاف هذه الجملة بقوله: "فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم: بالنُّهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة وإن جُعلُوا حميرًا وأصواتهم نهاقًا.. مبالغة شديدة في الذَّمِّ والتهجين، وإفراط في التثبيط من رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه على أنّه من كراهة الله بمكان".
وإذن من الآداب التي تنصح بها رسالة الله: أن لا يرفع المتحدِّث صوته في الحديث أو في الكلام ويحافظ بذلك على شعور الآخرين وأحاسيسهم. ولا تكون قراءة القرآن مبرِّرًا لرفع الصوت وإزعاج الآخرين بالصوت المرتفع؛ لأن طلب خفض الصوت في الحديث أوفى الكلام أمرٌ مُطلَق وعام؛ إذ الأمر يتعلّق فقط بعدم الإزعاج والقلق. ويستوي في حصول الإزعاج والقلق أن يكون المنطوق به في صوت مرتفع، هو: من كلام الله، أو مما سواه.(/2)
والقرآن في آية أخرى جعل الإزعاج عن طريق الصوت أمرًا يمارِسه الشيطان وحدَه، عندما قال له متحديًا إياه: ( واسْتَفْزِزْ "أي أقلِقْ" مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ "أي من الناس" بَصَوْتِكَ) (الإسراء: 64) وأي كائن لا يُزعج بصوته إلا إذا كان مُنَفِّرًا. والارتفاع بالصوت أحد الأسباب الرئيسية في التنفير به.
وما جاء في سؤال السائل هنا من ظروف تؤكِّد أن الإزعاج بالصوت أمر مُحَقَّق. وذلك ليس من آداب القرآن، وإن كان القرآن نفسُه هو المَتلُوّ بالصوت المرتفع.
وعادة مكبِّرات الصوت في قراءة القرآن في المآتم قد تثير النَّفْرة من الإنصات إلى القرآن الكريم. إما بسبب ارتفاع الصوت، أو بسبب استهلاك الجهاز وعدم إجادته النقل. وقبل تبليغ القرآن إلى الناس عن طريق مكبِّر الصوت، وقبل التقدُّم بقراءته كقُربَى إلى الله.. يجب أن لا يكون في مباشرته ما يصُدُّ عن سبيل الله. وما يؤذي الناس هو صدٌّ عن سبيل الله، بلا ريب.(/3)
148 ـ إنِّي موظَّفة بشركة حكومية أقوم باستلام بريد الشركة. وأحيانًا ما تردُ خطابات عليها طوابعُ البريد غير مختومة. فما الحكم لو استعملتها استعمالاً خاصًّا؟
الجواب:
إنَّ هذه الطوابع تملِكها الدولة وتمثِّل أثمانَها بعضًا من الدخل العام الذي ينفق في مصلحة الجميع. فإذا أُلْصِقَتْ على الخطابات والرسائل البريدية ولم يؤشَر عليه بالاستعمال، بعد وصول تلك الخطابات والرسائل إلى العناوين التي كُتِب عليها، يجب عدم استخدامها مرة أخرى وإلغاؤها بشكل أو بآخَر. إذ قد استُنفِذ منها الآن الغرض الخاصّ بها، وهو أداء الخدمة البريديّة الأولى.
فهي في واقع أمرِها أجر على عمل. والأجر يؤدَّى من طالبي الخدمات عن طريق البريد ـ سواء أكانوا أفرادًا أو مصالح حكومية ـ والعمل تؤدِّيه مصلحة عامّة حكومية، وهى مصلحة البريد.
وإذا قامت المصلحة بأداء خدمة البريد وبَقِيَ طابع البريد مع ذلك صالحًا للاستعمال مرّة أخرى، فإن استعمال فرد آخر أو مصلحة حكوميّة أخرى لهذا الطابع في خدمة بريدية جديدة معناه أن هذا الفرد أو هذه المصلحة الحكومية تسلَّمت أجر الخدمة البريديّة بدون إذنٍ من مصلحة البريد. وبقِيَ لمصلحة البريد آنئذٍ أنَّها أدَّت العمل ولم تتسلَّم الأجر عليه.
وبما أن حصيلة أموال البريد على خدمات المصلحة هي ملك للجميع فقد تُعلَّق بهذه الأموال حقوقُ الأفراد كلهم في الدولة. وعليه فاستخدام طابع البريد من جديد ـ بعد استنفاذ الغرَض الخاص منه وهو الخدمة البريدية الأولى ـ الذي لم يؤشَّر عليه بالاستعمال، من فرد أو مصلحة حكومية أو شِبه حكوميّة هو:
أولاً: بمثابة تسلُّم أجر لشخص على عمل أُدِّيَ من شخص آخر.
وثانيًا: ينطوي على اعتداء على حقوق الآخرين في الأموال العامة. بمنع بعض ما يجب أن يصل إليهم في صورة ما، رعاية اجتماعية أو خدمة عامّة.(/1)
وبذلك يكون أقرب إلى السرقة أو إلى الاختلاس منه إلى أكل أموال الناس بالباطل بصفة عامة. إذ السرقة في واقع أمرها لا تُصيب الملكيّة الخاصّة أو الملكية العامة بقَدْر ما تصيب الوظيفة الاجتماعية للمال وهى المنفعة العامة له.
وحرمة المال الذي يؤكِّد الإسلام صونَها تستهدف الإبقاء على المنفعة للمال. أي تستهدف عدم المَساس به في أي قدْر منه، كي تصل منفعتُه للناس جميعًا، بحيث لا يتخلَّف بعض منهم عن الانتفاع به فيمتلك الحقد نفوسَهم وينتهي أمر المجتمع إلى النزاع والخصومات.
والسبيل السَّوِيّ هو أن السيدة السائلة عليها ـ وعلى مَن يقع في يده بريد لم يختَم الطابع عليه ولو في مصلحة حكومية غير مصلحة البريد ـ أن تؤشِّر على الطابع بما يُفيد الاستعمال وعدم صلاحيته لمرة ثانية في طلب أداء خدمة بريدية. وبذلك تقف من شهوة النفس موقفًا يحول دون أن تستمِرَّ في ما هو أكبر من طابع البريد فتَزِلّ قدمُها ولا تستطيع حينئذٍ إلا الندم.
ومَن يُراعِي الأمانة في كِتْمان، وبينه وبين ذاته فقط، يملك أكبر سبب للنجاح، إِنْ في حياته كفرد، أو كراعٍ في أسرة.(/2)
10ـ أنا أتعامل مع الجمعية الزراعية بالنَّقْد. ولكنَّ الكاتب فيها يحرِّر المبالغ على أنها بالأجل. ويَتَرتَّب على هذا أنِّي أدفع المَبالغ مرَّتين. فما حكم هذا؟
هل يقصد السائل: أن كاتب الجمعية الزراعية يَستَغِلُّ جهل الأعضاء وأُمِّيَّتهم في القراءة والكتابة فيستولي شخصيًّا على ما يدفع نقدًا كأثمان الموادِّ التي يتعاملون فيها مع الجمعية، على أن يُسَجِّل هذه الأثمان بالأجل في الوَثائق المُتَداوَلة تحت يديه، كي يُحَصِّلها لحساب الجمعيّة فيما بعد في مواسم التحصيل مرة أخرى.
إذا كان هذا هو المقصود من السؤال فكاتب الجمعية عندئذٍ قد استولى باطلاً على أموال الناس. وقد قرن القرآن الكريم جريمة أكل أموال الناس بالباطل بجريمة قتل النفس بغير حقٍّ، في قوله ـ تعالى ـ: ( يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ولاَ تَقْتُلوا أَنْفُسَكُمْ) (النساء: 29). فنهى في الآية عن مباشرة الجريمتين وسوَّى في النهي عنهما، ممّا يُشعر بأن آثار الجريمتين في تخريب المجتمع وتدميره هي آثار نافذة ومن شأنها أن لا تُبقيا عليه لو استمرَّتا في الوقوع. فمال الأفراد في ملكيته في نظر الإسلام، هو مال المجتمع في منفعته. فأكل مال فرد بعينه بالباطل هو حرمان لكثيرين غيره من منفعته. ولذا جاء النهي عن أكل الأموال بالباطل في صورة تؤذِن بأن أموال المالكين في الأمة هي في واقع أمرها للأمّة جميعًا فقال: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ). ولم يقل مثلاً ولا تأكلوا أموال المالكين منكم بالباطل. والقتل أمره ظاهر في إفناء المجتمع لو ارتُكب كجريمة، وشاع أمره في علاقات الناس بعضهم مع بعض.(/1)
وتعبير القرآن في النهى عن الاستيلاء على أموال الناس بغير حَقٍّ ـ كما هو الحال في الواقعة التي يرويها السائل ـ بأكل الأموال .. يفيد الصور المُستَتِرَة للاستيلاء على الأموال قبل غيرها ـ يفيد الصور التي لا تدخل في مفهوم السرعة دُخُولاً ظاهرًا.. يفيد الصور التي تقوم على التحايُل والخِداع وقد تُثير جدلاً حولها. فأكل الأموال هو كناية عن الإخفاء في الاستيلاء عليها وكاتب الجمعية التعاونية في صنيعه مع السائل ومع من يُشبهه هو متخفٍّ في استيلائه على الأموال وراء إجراءات إدارية، وراء غفلة من الإشراف الإداري النافذ في تعقيبه.
هذا حكم الله. وحكم الله لا يباشِره تنفيذه إلا مؤمن بالله وبثواب الآخرة وعقابها. ولكن إذا رفع حكم الله في الأمّة وحلَّ محلَّ الله الإنسان في تدبيره وإشرافه، فكلَّما يؤمن بالإنسان المشرف إلا إذا شاهدهَ دائمًا وبيده سوط العقوبة المادِّيّة يهوي به عليه كلَّما رأى منه الانحراف في السلوك، وهنا يجب أن تكون عين الرَّقيب يقِظة، كما يجب أن لا تقصر يده لسبب ما: عن الإمساك بالمجرِم متلبِّسًا بجريمته. وإلاّ فسدت العلاقات بين الناس.(/2)
138ـ استقلال الزوج بزوجته في المعيشة بعيدًا عن أهله
مواطن من إحدى القرى يروي في رسالة له أنه متزوج، ويعيش مع والديه وأخٍ أصغر منه في سنِّ التاسعة عشرة، وأن هذا الأخ الأصغر انتهز فرصة غياب أخيه المتزوج بالليل، ودخل غرفة نومه، وزوجته وحيدة فيها نائمة، وطلب منها أن يُعاشرها فأبَتْ وطردَتْه من الغُرفة، فلمَّا قدِم زوجها أبلغَتْه ما كان مِن أخيه معها في غيبته، فأخبر والديه به، كما أخبرت هي والديها عند لقائها لهما هي وزوجها، أما والدَا الزوج فأقَرَّا أن ذلك قد يحصل من الشباب في مرحلة المراهقة واعتذرَا عنه، وأما والدا الزوجة فأسفَا وغضِبَا في الوقت نفسه، إذْ لم يَسمعا كلمةَ اعتذار واحدة من والدَيِ الزوج عن تصرُّف ابنهما الشاب المراهق مع ابنتهما. وعندما علِم والدَا الزوج بغضب أهل الزوجة وجَّهَا إليها اللوم؛ إذ كان لا ينبغي في نظرهما أن تُخبر والديها، وكان الأَولَى أن يظل هذا الأمر سِرًّا بين العائلة وحدها.
وصاحب الرسالة يسأل الآن:
هل يرتكب ذنْبًا إذا انفصل في عيشةٍ مستقلة عن والديه وأخيه؟
وماذا يفعل مع أخيه الآن بسبب حَماقته وطَيْشه؟
إن مشكلة السائل تتخلص الآن بعد حادث أخيه في:
أولاً: علاقة زوجته بوالديه، وقد ساءت بسبب اختلافٍ حول سرية الحادث الذي وقع.
ثانيًا: الفصل في السكن والمعيشة كحَلٍّ لإرضاء الزوجة وأهلها ومدَى الأثر لذلك على العلاقة بالوالدين.
ثالثًا: تحديد الموقف مع الأخ الصغير، أيُلام ويُؤنَّب فقط، أم يُقاطَع ويُتجنَّب، أم يُسكَت عن الحادث ويُترَك أمره إلى الزمن فيُنسَى؟(/1)
أما علاقة زوجة السائل بوالديه فلا شك أنها قد ساءت، إذ إن الوالدين كانَا يُفضِّلان عدم الكشف عمَّا وقع للزوجة ولو لوالدَيها، ويَزيدها سُوءًا الآن تفكيرُ الزوج في السُّكْنَى بعيدًا عن والديه، إذ في تفكيره هذا يُحقق رغبةً نفسية مُلِحَّة عند زوجته، بينما في الوقت نفسه لا يُجاري رغبةَ والديه، وهي ميْلُها إلى الاحتفاظ به والإقامة معه في عيشة واحدة وسكن واحد. فمنذ أن يَتزوج الابن يَبتدئ الصراع الداخليّ غير المكشوف بين الزوجة من جانب ووالدَي الزوج من جانب آخر، ويظل هذا الصراع قائمًا إلى أن يُفجِّرَه حادثٌ من الحوادث، كذلك الذي وقع من الأخ الصغير هنا في رسالة السائل، كما يظل الابن الزوج مُتأرجحًا بين ميل زوجته فيُرضيها وميل والديه فيُحسن إليهما، فإذا حقَّق ميل أحد الجانبين أغضب الجانب الآخر. ...
وموقف الزوج إذًا حَرِجٌ؛ لأن عليه أن يُحقق حق زوجته فيما يُوفر عليها متاعب النفس بعيدًا عن أهله، وأن يحقق أيضًا في الوقت نفسه حق والديه في رعايتهما، وقد لا تَتحقق رعايتهما إلا بالسُّكنَى والمعيشة معهما، والحل إذًا الذي يَعرضه السائل في رسالته، مِن الفصل في السكن والمعيشة، لا يُوفر له ما هو مطلوب لزوجته وما هو واجب نحو والديه.
وبدلاً مِن هذا الحلِّ يُمكنه أن يَحمل والدَيه بالإقناع على إرضاء زوجته بالاعتذار لها ولأهلها عن الحَماقة التي باشرها أخو الزوج الصغير معها، على وعدٍ منه لزوجته كذلك بأنه سيُنجز لها رغبتها في السكنى بعيدًا عن أبويه وأخيه، إن لم تُحسَّ بالاطمئنان الكافي في الحياة معهم، ويُفهمها أنه يُعطيهم فرصةً أخرى للمعيشة سوِيًّا.(/2)
ويُخشى أن تزداد العلاقة سُوءًا بين الزوجة وأهل الزوج لو انفصَلَت تَوًّا في السكنى بعيدًا عنهم، ويَكثُر عندئذ اللَّغَط، كما تَكثُر الإشاعات المُغرِضة والسيئة من الجانبين، ويُصبح الزوج مُعذَّبًا وفي حيرة، وربما يَنتهي أمره إلى قطيعة مع طرفٍ مِن الطرفينِ، فيَعود باللائمة على الطرف الذي يقف بجانبه ويُحمِّله مسئولية القطيعة لذَوِي الرحِم أو للزوجة.
ووالدَا الزوج يجب أن يقفَا معه في تكاتُف وتَسانُد عند تبصير الأخ الصغير بآثار حَماقته التي نجَم عنها الآن سوءٌ في العلاقة بين الأسرتين؛ أسرة الزوج وأسرة الزوجة، وأن يكون الموقف مُوحَّدًا وهو استنكار ما وقع من هذا الشاب. وعلى عاتق الأبوينِ يقع خطأ هذا الشاب، فرغم أنه يعيش في مرحلة المُراهقة كان يمكن أن يُعوَّدَ على احترام أخيه وزوجته وعلى رعاية حُرمتهما، وبالأخصِّ حُرمة الزوجة، وكان المُنتظَر منه أن يَحفظ غيبة أخيه بدلاً مِن أن يَقتحم الغُرفة على زوجته ليَطلب منها أن تُمتِّعَه بالمعاشرة، كان المُنتظر منه أن يكون أسلوبه مع أخيه أسلوبًا إنسانِيًّا وليس أسلوبًا حَيوانيًّا.
ولذا على الوالدينِ أن يَكُفَّا فورًا عن الدفاع عنه وعمَّا ارتكبه مِن خطأ شنيع، أن يَكُفَّا عن تبرير الخطأ ويَطلُبَا سَوِيًّا منه أن يعتذر لجميع مَن أصابته إساءةٌ في أسرته وأسرة زوجة أخيه.(/3)
إنه مِن السهل في عصرنا الحاضر أن تَتفكَّك الأسرة؛ لأن الأنانية سائدةٌ بين أفرادها، كل فرد فيها يُفكر في نفسه وفي إمتاع ذاته، لا يَعرف خُلُقًا عامًّا، ولا يعرف مبادئ وقِيَمًا تحكم العلاقات والسلوك، فإذا حصل تصدُّعٌ في العلاقات فيها كان من الصعب إعادةُ الوضع إلى ما كان عليه، ولذا ننصح السائل بألاّ يُوسِّعَ فجوة الخلاف في الوقت الذي يترفَّق فيه بالوالدينِ ويُحسن إليهما، ومِن الإحسان إليهما أن يَترك أخاه الصغير لوالدَيهِ وللزمن، فلا يُؤنِّبُه ولا يَلُومُه، إذ تَرْكُه سيُشعره بذنبه أكثَرَ مِن أية وسيلة أخرى. ...
وليس معنى الإحسان إلى الوالدين أن يَقْسُوَ على الزوجة، بل العكس هو المطلوب، يجب أن يُحيطها بحَنانه ورعايته، فهي صاحبة حقٍّ لدَيه في أن يَقِيَها المَكْرُوهَ مِن نفسه ومِن ذوي رحِمه قبل الآخرين.(/4)
49 ـ زوجة الأب تضطهد ابنَه من الأخرى
تُوفِّيَت أمّي وتزوَّج أبي من أخرى، وكنت أعمل في ورشة حِدادة، وكان سِنّي 18 سنة، ثُمَّ فُصِلت منها وحاولت كثيرًا العمل في جهة أخرى فلم أوفِّق إلى الآن. وقالت زوجة الأب لأبي: إمّا أنا أو ابنك في البيت. وطبعًا طُرِدْتُ وهِمْتُ في الفضاء والضياع، والآن وأنا أريد الاستقامة يجب أن أستقر في مأوى وهل للإنسان مأوى غير بيت أبيه؟ فما الرأي؟
كثيرًا ما يُقال عن زوجة الأب أنَّها تظلِم، وكثيرًا ما يُنسَب إليها أنّها مصدر تَشريد لأولاد زوجها من أمٍّ أخرى، حتى عُرِفَ عنها أنها الظالمة قبل أن تُباشر الظلم.. والمُعتدية قبل أن تمارِس الاعتداء.
وسبب اتهامها بالظلم والاعتداء حِرصُها على أن تُحقِّق رغبتها في أن يكون زوجُها لها وحدَها ولأولادها منه، دون أن تكون له رعاية لطرف، ولو كان هذا الطرف أولاده بالذات، ولكن مِن أمٍّ أخرى غير زوجته الحاضرة.
سبب اتهامها هو أنانيتُها. ولكن في بعض الحالات قد تكون مظلومة ومعتدًى عليها.. قد تكون ضحية ما يُشاع عن زوجة الأب على العموم.
فالسائل بما يصف به نفسه هنا في سؤاله، يبدو أنه أثناء إقامته مع زوجة أبيه في سَكن واحد كان شاذًّا في سلوكه ومعاملاته معها، ومع الآخرين، فيحكي هو عن نفسه أنه طُرِدَ من الورشة التي كان يعمل فيها.. وأنه لم يوفَّق إلى عمل بعدُ... وأنّه الآن يريد الاستقامة.. وذلك كله يفيد أنه كان مصدر القَلق في الأسرة وليست زوجة أبيه.
وأن هذه الزوجة عندما وضعتْ زوجها أمام اختيار محَدّد إمّا هي أو الابن في المنزل كانت صادقة وليست مُدَّعِية حتى تحمل زوجها على طَرْد ابنه.
والسائل وهو الابن يبلغ الآن من العمر ثمانية عشر عامًا، فهو مكلَّف ومسئول عن نفسه أولاً وبالذات. ووالده لا يمنعه أحدٌ من أن يُساعِده بشكلٍ ما على اجتياز العَقَبات في طريق حياته.(/1)
ولكن قبل كل شيء يجب على السائل أن يعرِف طريق الاستقامة ويسلُكَه، والاستقامة هي التهذيب في القول والتصرف... والسعي الجِدِّي لتنمية الذات بالمعرفة والمهارة الفنية.. والدأب على العمل.. والصبر على تحمُّل المَشَقّة.. والاعتماد على النفس في كل ذلك، ثم التوكُّل على الله: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلينَ) (آل عمران 159).
يقول ذلك ـ جَلَّ جلاله ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن يوجِب عليه أولاً خطوات يتَّخذها قبل التوكُّل كما جاء في أول الآية نفسها: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159). فأوجب عليه أن يَلِينَ ولا يتشدَّد في الغضب من ذلك الفريق من المؤمنين، الذي خَذله ـ عليه السلام ـ في ساحة القتال يوم "أُحُد" وأن يعفوَ عنه.. ويستغفر الله له.. وأن يشاوره رغم ما وقع منه في شأن الحرب أو في أي شأن آخر.
أما حمل زوجة الأب على قَبوله في السَّكَن معها فليس من صالح الأسرة.. إلا إذا قَبِلَتْ هي عن طيب خاطر، بعد ما بدا لها أنّه تاب عن سلوكه الماضي، واقتنعتْ أنه سيكون عضوًا مثمِرًا في أسرة مكافِحة.
134ـ حَيْرة الأب بين أولاده وزوجته
مواطن من إحدى الضواحي بمحافظة القاهرة يقول إن أباه تزوَّج ثانيةً غيرَ أمه بعد أن طلَّقها، وزوجة الأب هذه تَستهزئ به هي وأُختها، كما يكتب في رسالته، فإنْ تكلَّم ـ مثَلاً ـ قالت له: إن أخلاقَك أخلاق "عربجيٍّ" وقد اشتكَى لوالده مِن سُخرية زوجة أبيه منه، فوعَده بأنه سيأخذ له حَقَّه منها كلَّما جاء إليه وعرَض شكْواه، وفي مرةٍ بعد ما قصَّ عليه ألوانًا مِن ألوان سخريتها منه أجاب الأب في جملة استنكارية: "يعني أضْربها لك؟ مُشْ عِيب؟" ثم بسبب ابنها مِن غير أبيه طرَده مِن المنزل، فقرَّر أن يعيش مع والدته.(/2)
ويسأل عن حكم الإسلام في مُعاملة أبيه له وفي موقف الابن منه.
نحن لا نعرف شيئًا عن علاقة الأب بابنه في ظلِّ الزواج بغير أُمِّه إلا ما يَحكيه الابن مِن سُوء معاملة زوجة أبيه له، وتَرَاخِي الوالد في جعل هذه العلاقة مُحتمَلة بالنسبة للولد على الأخصِّ. لا يُعرف عمر هذا الولد، ولا مَن يتكفَّل بمَعيشته الآن إنْ كان بحاجة إلى مَن يُنفق عليه، ولذا الرأي هنا أن نقف عند المشكلة الاجتماعية التي تتخلَّف عن الزواج بزوجةٍ أخرى ثانية أو ثالثة أو رابعة في مجتمعاتنا الإسلامية، وأثرها على الأسرة في علاقة الوالد بأولاده، وعلاقته كزوجٍ بزوجاته، وعلاقة الأولاد بعضهم ببعض داخل الأسرة وخارجها.
والإسلام عندما رخَّص بتعدُّد الزوجات جعل الترخيص به في نطاق "العدل" بين الزوجات في المُعاملة (فإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) (النساء: 3) حتى لا يكون هناك حِقْدٌ بينهنَّ، وحتى لا يتوزَّع الزوج وهو رب الأسرة على الخُصومات والحزازات النفسية عندهنَّ، وحتى لا يتكوَّن مِن أولادهنَّ من الأب الواحد مجموعات مُتفكِّكة مُتحاقدة أو مُتعادية، وبذلك يَضيع هدَف الأسرة، وهو العصبيَّة.
والأب في زواجه بعد أخرى مُطلَّقة أو مُتوفَّاة يُشبه ـ مِن حيث الجمعُ بين أولاده مِن السابقة واللاحقة في أسرته، إن كان لهما معًا أولادٌ من الزوج نفسه ـ مَن جمَع بين اثنتينِ في زِيجةٍ واحدة، وتتولَّد النتائج السلبية في الأسرة عندما تُنْجب الزوجة اللاحقة أولادًا مِن الزوج بِجانب أولاده مِن السابقة، ومِن هذه النتائج السلبية:
أولاً: الحِقْدُ بين الأولاد بين الفريقينِ؛ فريق السابقة وفريق اللاحِقة.(/3)
ثانيًا: الغيرة والحسَد في نفس اللاحِقة، ويَظهر حَسَدُها في مُعاملة أولاد السابقة مِن الزوج نفسه، وفي إِثارته مِن وقت لآخرَ ضدَّهم، وإذا كانت الزوجة السابقة على قيد الحياة وهي مُطلَّقة فإنَّ غيرتها وحَسَدها ضد اللاحِقة بعدها يظهر في تحريض أبنائها مِن الزوج ضد زوجةِ أبيهم وإخوتهم منه، وهم أولادها.
ثالثًا: ضَعْف الإرادة عند الأب ـ وهو الزوج ـ في مُعاملة أولاده مِن الزوجتينِ، السابقة واللاحقة، فهو لا يَستطيع أن يَحْزم أمره في تسوية أمور الأولاد، بما يُرضيهم جميعًا وبما يُرضي الزوجة القائمة بالفعل، وإنما هو يتأرجحُ بين العواطف المختلفة؛ فهو أبٌ وزوج معًا، ولكلٍّ مِن أولاده جانب في نفسه وزوجته التي تُعاشره بالفعل لها جانبٌ كذلك، ومِن هنا يبدو في تصرُّفَاته التردُّدُ وعدم الحسم. وينشأ عن هذا التأرجح تفكُّك الأسرة وتراخي العلاقات بين أفرادها، والنزوع إلى العداء والخصومة، ومُحاولة تدخُّل الأجنبيِّ عنها في شئونها والتحيُّز لفريق ضد فريق مِن أفرادها. وهذه الظواهر جميعها تُسبب القلق في العلاقات. وقد يُسبِّب القلق توتُّرًا في النفوس يظلُّ قائمًا إلى ما بعد وفاة الأب ورب الأسرة.
و"العدل" الذي أمَرت به الآية الكريمة هنا بين الزوجتينِ ـ عندما يجمع الزوج بينهما في زِيجةٍ واحدة وفي حياة وأسرة واحدة ـ هو "العدل" الذي يجب أن يُطبَّق عندما يتزوج الزوج بأخرى وله أولاد مِن زوجة أخرى سابقة مُتوفَّاة أو مُطلَّقة؛ لأن آثار عدم "العدل" بين الزوجتينِ في الزيجة الواحدة هي آثارُ عدم "العدل" بين أولادٍ لأمٍّ سبَقَتْ، وآخرينَ لأمٍّ قائمة بينهم وكزوجةٍ لرب الأسرة التي تجمع الفريقين.(/4)
وربُّ الأسرة، والأبُ، والزوجُ لزوجةٍ قائمةٍ معه مطلوبٌ منه، بجانب الحرص على "العدل" وتَطبيقه، وبالأخصِّ بين الأولاد ـ أن يكون حاسمًا في الفصل في أمور الأسرة، وألاّ تَغلِبَ عليه العاطفة فيتحيَّزَ لأولاد الزوجة السابقة أو لأولاد الزوجة القائمة. وأمَارة قوة إرادته في الفصل أن يُعَوِّد زوجته القائمة ـ بعد أن يَفهمها ـ على معاملة الأولاد جميعًا مُعاملة مستوية، لا يُحسُّ فيها واحدٌ منهم بغَبْنٍ أو بتحيُّز ضده. نعم، هي لا تستطيع أن تُسوِّيَ بين الأولاد جميعًا في توزيع عاطفتها عليهم، وهي عاطفة الأمومة؛ لأن أولادها منها مُميَّزون مِن غير شكٍّ على أولاد السابقة، ولكن المطلوب ألاّ يَظهرَ تميُّز أولادها في المعاملة التي تقع مع الأولاد جميعًا.
فإذا استقرَّ في نفوس الأولاد أن المعاملة واحدةً، وأن الاعتبار لهم واحترامهم جميعًا واحد، وأن الحديث مع أيِّ واحد منهم هو الحديث في نُصحه وتوجيهه مع كل واحد منهم ـ إذا استقرَّ ذلك في النفوس تولَّد عنه احترامُ الأولاد لزوجة أبيهم ومصدر عاطفة في الأسرة، وكذلك احترامهم جميعًا لأبيهم. ولا شك أن احترام الوالدينِ هو عامل الترابط في الأسرة وعامل الإحساس بالأُخُوّة بين أفرادها.
والرأي الآن أن يُحاول السائل كَشْفَ ما في نفسه لأبيه إزاء زوجته، وأن يحاول الأب التدخُّل لتحقيق عدل الله الذي أمَر به أن يتحقق في الأسرة؛ لتوفير الاحترام والاعتبار والترابط الأخوي بين الأبناء. ولعل الله أن يوفق الجميع.(/5)
7ـ أجْرٌ كامل، وعملٌ أقلُّ في الزمن
مواطنٌ مِن إحدى القرى يَعرض: أنه حاصل على دبلوم الصنائع الثانوية، ومُعيَّن في إحدى الوزارات، وموزع على عملية مياه بالاشتراك مع أربعة آخرين، ومَجموعهم خمسة وُزِّعُوا على العمل في يومينِ، ثلاثة في يوم، واثنان في يوم آخر، وهو ضمْن الثلاثة، وعملية المياه تدور مرتينِ: إحداهما في الصباح والأخرى في المساء. وقد الْتحق بكلية الهندسة في مُحافظته ـ بالإضافة إلى العمل الذي يُباشره ـ بعد أن حصل على الثانوية العامة بجانب دبلوم الصنائع الثانوية، وزميلاه في عملية المياه يعرفان عنه أن يدرس في كلية الهندسة بالصف الثاني، كما يعرفانِ مُسبَّقًا أن كلية الهندسة من الكليات التي ليس بها انتساب، فأرادَا أن يوفرَا له وقت الصباح للكلية بأن يقوما معًا في هذه الفترة الصباحية بعملية المياه المُعيَّنين من أجلها، بينما يقوم هو وحده بالعمل في الفترة المسائية ابتداء من الساعة الرابعة مساءً، وهكذا يتعاون الثلاثة بعضهم بعضًا بالاتفاق فيما بينهم على أداء واجب العمل الرسميّ طوال الوقت المُحدَّد في الصباح والمساء، كما يحرصون على عدم قطْع المياه وعلى استمرارها بكفاءة تامة. ويسأل الآن: هل الأجر الذي يحصل عليه من مُباشرته عمليةَ المياه حرام أم حلالٌ؟ أي هل هو مُلتزم بالعمل طوال اليوم فيجلس مع زميليه من الصباح إلى المساء أم أن اتفاقهم هذا على توزيع العمل بينهم على النحو المشار إليه يُبرِّر أجره عن العمل، مع أنه يقضي فيه الوقت منذ الساعة الرابعة بعد الظهر وليس كل الوقت منذ الصباح؟(/1)
هذا الطالب والمُوظف يُريد أن يحاسب نفسه أمام الله أولاً وأمام ضميره ثانيًا؛ لأن ساعات العمل التي يُؤديها في مباشرة عملية المياه التي يُؤجر عليها أقلّ فيما يبدو عن الساعات التي تُطلب رسميًّا منه ومِن زملائه، فإذا كانت مدة العمل الرسمي في اليوم هي ثماني ساعات، فهو يُباشر عمله لستِّ ساعات أو لخمس ساعات، على أن يقومَ زميلاه نيابةً عنه حسب الاتفاق فيما بينهم بمُاشرة العمل ثلاث ساعات أو ساعتين، وهي المدة التي يُضطَّر أن يقضيَها في كلية الهندسة للدراسة العملية والعلمية. هذا الموظف الطالب يجمع بين أداء عملٍ مُتْقَنًا حتْمًا في إدارة الإسكان بمحافظته وبين الاستزادة في الدراسة والبحث في مواد كلية الهندسة، ومِن شأن هذه الدراسة الإضافية أن تُعطيَه فرصةً أوسع لزيادة الإتقان فيما يُباشره مِن عملٍ في مِرفق المياه بالإسكان، فإذا قلَّ وقت العمل عن المطلوب رسميًّا فقد استفاد العمل ذاته مِن حِرْص هذا الموظف الطالب على أدائه في إتقان، وأمانته في العمل خيرُ ما يُقدمه لوظيفته، وهذه الأمانة جزء من خُلُقه العام. فالذي يسأل مثل سؤاله هنا يَعِي في يقظة تامة ما يجب عليه نحو ربه ونحو الآخرين معه في العمل والمجتمع ونحو العمل نفسه. والموظف الأمين الكُفْء لا يُقاس عمله بالكمِّ وعدد الساعات التي يَقضيها في الجلوس مع زملائه، وإنما يُقاس بالنوعية التي يُباشر بها العمل، يُقاس بمدى أمانته وصبْره وكفاءته ودقَّته، وهذه الصفات تجعل مِن صاحب العمل ـ وهو هنا المصلحة الحكومية ـ رَبَّ عملٍ ناجح، فعمله يُؤدَّى في نجاح وآلات عمله مأمونة التلف والخسارة. ولو أن إدارة المرفق بارَكَت التعاون بين الزملاء الثلاثة وأقرَّت الاتفاق بينهم على توزيع العمل، حتى تُتاح فرصة الدراسة بكلية الهندسة لهذا المُوظف الطالب في غير غفلة من جهة الرقابة الرسمية ـ لأحسَنَتْ صُنعًا للثلاثة مِن الزملاء والآخرين عداهم، ولشجَّعت صاحب الأمانة(/2)
والخُلق الكريم على الاستمرار في أمانته عندما يُؤدي وظيفته. ولكن ما تسميه الأجهزة الحكومية وكذلك القطاع العام "بالروتين" قد يحول دون تمكين رئيس من الرؤساء أن يتَّخذ مثل هذا الموقف في مثل هذه القضية.
إننا لا نُوازن في الجواب على سؤال الطالب هنا بين مُوظَّف يحرص فقط على أداء ساعات العمل الرسمي، دون أن يحرص على نوعية الإنتاج وصيانة ما ائتُمِن عليه مِن مال عامٍّ مُمثَّل في مصنع أو في مرفق من المرافق العامة، وبين مُوظف آخر يحرص على نوعية الإنتاج والمُحافظة على ما ائتمنته المصلحة عليه، على أن ظروفه قد تُكرهه على قبول عرض زميل له بمباشرته العملَ نِيابة عنه لمدة ساعة أو ساعتين إلى أجلٍ معين، وبذلك ينتقص من الوقت الرسمي للعمل المُوكَل إليه ساعة أو ساعتين كل يوم، كل من الموظفَين يأخذ أجرًا واحدًا، هذا يُحافظ على مدة العمل وليس على نوعه، وذاك على نوعه وليس على مدته. إنَّا لا نوازن بين هذين الموظفين؛ لأن نتيجة الموازنة هي أن صاحب النوع في أداء العمل أفضل قطْعًا من صاحب الأداء لساعات العمل دون كمِّه فضْلاً عن نوْعه، ولكن الجواب يَكمن في أن "التعاون" بين هؤلاء الثلاثة معنًى مُتبادَل، وهو معنًى إنسانِي لا يُقاس بوقت أو بأجر، وهو يَرتبط بظروف وأوضاع قد تجعل اليوم صاحب الحاجة بينهم على استعداد في غدٍ أن يَرُدَّ المعروف أو الجميل لمَن أسداه إليه بالأمس، قد تأتي العُطلة الصيفية ويكون هناك وقت لهذا الطالب المُوظف يُمكنه أن يخدم به زميليه ليُوفِّر لهما حاجتهما إلى الزمن، دون أن يُسيئ إلى المصلحة العامة، وهي أداء العمل في إتقان وفي مدة العمل الرسميّ الخاص به.(/3)
وهكذا الأجر الذي يأخذه المُوظف الطالب على عمله في مرفق المياه في إدارة الإسكان المشار إليها، هو أجرٌ حلال له؛ لأن المَصلحة لم يَنَلْهَا ضررٌ إطلاقًا بتخلُّفه ساعة أو ساعتين، فحقُّها مُؤدًّى عن طريق التعاون بينه وبين زميله، والتعاون صوره عديدة وبالأخص في القرى، فـ"النُّقُوط" التي تُعطَى في اليوم التالِي لزَفَّة العريس في الصباحيَّة، والمُشاركةُ التي تُقدَّم من الجيران في أوقات الأكْل للضيوف القادمين للعزَاء من صُور هذا التعاون. ...
زميلاَ الطالب المُوظف يُقدمان خدمةً له لتَمكينه من الدراسة بعض ساعات النهار، وهما مُتعاونان معه، والخدمة التي تُقدَّم منهما استمرار العمل في عملية المياه في الأوقات التي كُلِّف بها الثلاثة كمَجموعة عمل، والزميلان لا يَأخذان أجْرًا عن الساعتينِ الإضافيتينِ لعَملهما الرسميّ، وكأنهما وَهَبَا أجرهما لزميلهما الثالث، وهو الطالب الموظف، فهو حلال، والله وحده هو الذي يَجزيهما خير الجزاء، وهو وحده الذي يُساعد هذا المؤمن الأمين على أن يُحقق هدفه ويُلهمه الصواب دائمًا.(/4)
72 ـ أسرة الزوجة تُقاطعها بسبب الدخول مِن غير زفاف
سيدة مُعذبة بإحدى المحافظات تَقُصَّ قصتَها:
عُقِد قرانها على زوجها وهو شاب مُجنَّد يَصغُرها بسنتينِ، دخل بها على أثر الْتقاء بينهما في إجازته ولم يَتَمَكَّنا في مِن ضبط نفسيهما، وذلك قبل موعد الزفاف المُحَدَّد بين أهلها وأهله، وحملت منه ولم تتحدث عن حمْلها لوالدِتها إلا قبل الزفاف بأُسبوع فغَضِبَت والدتُها واشتدَّ غضبُها إلى درجة كبيرة، وقاطعتْها، وحمَلت والدَها وإخوتَها السبْع على مُقاطعتها.
ولكن أهل الزوج ـ كما تقول ـ كانوا كُرماءَ معها: لم يُوَجِّهوا إليها نقْدًا ولا كلمةً تُقلقها، بل كانوا يُعاملونها مُعاملةً كلها عطف وحنان وفي مُقدمتهم الزوج.
ورغم عطف أهل الزوج عليها فإنها شديدة الحُزْن لمُقاطعة أهلها لها، وهي تَعتَرِف بأنها أخطأت في تلك اللحَظات التي لم تَملك فيها نفسَها مع زوجها، ولكن ترجو الآن أن تعود العلاقة مع أهلها إلى الوضْع الطبيعيّ، فهي سعيدة بزوجها، وبوَلدها مِن هذه الزيجة، وبأهل زوجها كذلك، وتُريد أن تُضيف إلى هذه السعادة سعادة الأهل في عودة العِشْرة معهم، وتسأل عن الحلِّ؟
السائلة أصبحت بعقد الزواج: زوجة لذلك الشاب المُجنَّد الذي يَصغرها بسنتين وأصبحت العلاقة بينهما علاقة زوج بزوجته وليست علاقة أجنبيٍّ بأجنبية عنه، ويجوز للزوج أن يدخل بها في أيِّ وقت بعد عقد قرانه عليها، وبدون حفل زفاف.
والولد الذي يأتي ثمرةً لدخول الزوج بها لأول مرة هو ولدٌ شرعي: في نسَبِه إلى أبيه، وفي ميراثه منه، أو من أمه والأمر الذي تَمَّ بين السائلة وزوجها لا يُغضِب الله في قليل أو في كثير.
ولكن بجانب عقد الزواج في مُحيط الشرعية العامة: هناك الإعْلام عن الزواج نفسه.. هناك التعريف به بين الأهل والأصدقاء والجيران.. هناك "الفرح" أو الزفاف.(/1)
ووَلِيمَةِ الفرح .. أو الزفاف أمر مرغوب فيه، وقبول الدعوة إلى هذه الوليمة ممَّن يُدعَوْن أمر مرغوب فيه كذلك، فالإسلام يرى في العلاقة الزوجية علاقة مسؤولية بين الرجل والمرأة: عن الحقوق المُتبادلة بينهما.. وعن الولد الناتج عنها .. وعن مُستقبله في نَسبه وإرْثه.
وهذه المسؤولية المُتبادَلة بين الزوجين كلما راج وانتشر أمرها بين المَعارِف والأصدقاء ارتفعت فوق العلاقات السرّية بين الرجل والمرأة:
أيُّ رجل.. وأية امرأة.. تلك العلاقات التي قد تُصيب المرأة على الخصوص: في نفسها أو في وَلَدها ممَّن تعرف أباه على وجه التأكيد، أو لا تعرفه على هذا الوجه فلتأكيد العلاقة الزوجية، وتأكيد شرعيتها، ومسؤوليتها وتأكيد مُغايرتها للعلاقات السرية بين الرجل والمرأة: كان ما يُسمى بالفرح.. أو الزفاف.. فزفاف الزوجة إلى زوجها يُقصَد منه فقط تعريف الجِيران والأهل والأصدقاء: أن علاقة فلانة بفلان هي علاقة شرعية قائمة على دين الله وسُنَّة رسوله، وليست علاقة شكٍّ وريبة.. وليست علاقة ظلام وخفاء.. أو علاقة بعيدة عن المسؤولية الشخصية في مُعاشرة المرأة وفي نسَب الأولاد من هذه العلاقة.
والزواج العرفي يُضَعِّفه عدم وُجود شهود فيه.. وعدم الإعلام عنه، أو التعريف به، ولكنه إذا قام على الإيجاب والقَبُول بين رجل رشيد وامرأة رشيدة، فإنه جائز في بعض المذاهب، ولكنه لا يجوز درجة القبول للزواج الذي استوفى أركانه في الشهود والولاية والإعلام.
والمُخالفة التي ارتكبتها السائلة في نظر والدتها هي: أنها لم تتريَّث في الدخول بزَوجها، حتى يتمَّ الزفاف أو الإعلام، فإذا حمَلت بعد الزفاف لا يتقوَّل الناس عليها ما قد يتقوَّلونه عن حَمْلها في فترة لم يَعرف الناس بعد: أنها قد دخلت بالفعل.(/2)
وربما يُثير أعداء الطرَفين أن الحمل وقَعَ قبل عقد القران، وجاء العقد بعد ذلك للتغطِية والتستُّر، وذلك ممَّا يُسيء إلى سُمعَة المرأة وسُمعة أهلِها. ولذلك إذا كانت الزوجة بِكْرًا فإنَّا نرى أن مَن تُسمَّى "بالماشطة" تقوم ـ ولو بأسلوب خاطئ ـ ليلةَ الزفاف بعرْض ما يُؤكد بكارة الزوجة بعد أن تكون بجانب الزوج في بداية الأمر، للتدليل على الطُّهر، وأنها لم تَرتَكِب ما يُشينها حتى زُفَّتْ إلى زوجها.
وطُهر البكر أمر يَعتز به الأهل قبل البَكارَى أنفسهن، والحمد لله: أن عدم المبالاة بهذه العادة لم يبلغ الآن في مجتمعنا ما بلغه في مجتمعات أخرى طغَت فيها المادية، من النظرة إلى البكارة على أنها تخلُّف ورجعية.
ولأجل كل ذلك يجب على والدة السائلة أن تُخفِّف مِن غضبها، وأن تعود إلى حقيقة الواقع، وهو أن ابنتها لم ترتكب جريمةً ولا باطلاً بمُوافقتها على دخول زوجها بها قبل موعد الزفاف المُتفق عليه.
وأن تَماديَها في الغضب سيُسيء إلى نفس ابنتها، كما يُسيء إلى علاقات أخواتها السبع بها، وربما تَفقد باستمرار الغضب هذه البنت الكبرى إلى الأبد، وبذلك تُخلِف مأساةً لولدها الصغير وزوجها معًا، يجب على الأم أن تَمُدَّ يدها لابنتها وأن تسعى إلى رؤية حفيدها في منزل والديه.
فذلك أمر يَجزيها الله عليه خير الجزاء: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن ربِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). ( آل عمران: 133 ، 134)..
فالعفو عند المَقدرة صورة مِن صوَر الإحسان الذي يُحبه الله ويَطلبه مِن عباده.(/3)
81 ـ بين أمَل البنت.. واستقرار أمِّها:
آنسةٌ بالقاهرة تجاوزت سِنَّ الثلاثين، وتسكن مع والدتها التي تبلغ من العمر الحادية والسبعين من العمر في شقة مكونة مِن ثلاث غُرف، ومشكلتها أن إخوتها جميعًا يسكنون في أسرهم، في مساكنَ خاصةٍ بهم، ويتردَّدون فقط على مسكن والدتهم لزيارتها. ... وأن أمها قد وعدتها بأنه إذا تقدم خطيب لزواجها فإنها ستأذن له بالسُّكْنَى معهما في هذا المسكن، إذ إنها فوق حاجتها إلى رعاية ابنتها لها، تُؤيد أن تُسهم في تيسير الأمر لزواج هذه البنت.
... ولكن بعد أن تقدم لها شاب، ونفَّذ كل ما كُلِّف به من المهر والشبكة، رغم أن التكلفة ـ كما تقول ـ كانت مُرهقة في ذاتها، رفضت أمها أن يَسكن معهما، كما وعدت من قبلُ، علمًا بأن عقد الإيجار باسم الأم.
... وترى الآنسة السائلة: أن مشكلة السكن في الوقت الحاضر تكاد تكون العقبة الصعبة التي قلَّما تُزلَّل في طريق الشباب نحو تحقيق أمانيهم في تكوين الأسرة، وترجو أن نُساعدها في إقناع والدتها بالسماح للزوج المُقبل بالسكن معهما.
الآنسة السائلة تخشى أن يَفوتها "القطار" كما يُقال، وهي الآن وإن كانت تسكن مع والدتها التي بلغت من السن الحادية والسبعين، فإنها في غدها قد تكون وحيدة، وحزنها عندئذ سيكون حزنًا مُزدوجًا: أولاً: أنها أخفقت في تحقيق أملها في الزواج.. وثانيًا: ترى أن شريط الحياة يمرُّ أمامها في صخَب، وهرَج، ومرج، وهي معزولة قعيدة المسكن، وينتابُها من الأوهام والوساوس ما لا قِبَلَ لها بتحمُّله، كما ينتابها الشكُّ، ثم اليأس من الحياة.
... فالمرأة في سِنِّ الثلاثين إذا فاتها الرجل في حياتها دخلت مرحلة التلهُّف عليه في غير تُؤَدَةٍ، وفي غير اختيارٍ منها، ثم أخيرًا يُعذبها الشك، وينقلها إلى مرحلة بين الموت والحياة، لا تستمتع بمُتع الدنيا فيها إطلاقًا.(/1)
... فخشية السائلة من عذاب المرحلة القادمة في حياتها إذا لم تتزوج: هي التي تجعلها تُلِحُّ على والدتها في قبول زوجها المقبل: أن يسكن معهما.
ووالدة السائلة تخشى أيضًا أن يتحوَّل الأمر بالنسبة لها، بعد سكن الزوج: إلى عدم الاستقرار وإلى الوحدة التي ستُحتم عليها البقاء في حُجرتها أطول مدة مُمكنة في ليلها ونهارها، على السواء، فالشخص الثالث الذي سيدخل عليهما في المسكن وهو زوج ابنتها، ستكون علاقته بالبنت علاقة زوج بزوجته، وهي علاقة خاصة تَفرض عليهما في كثير في الأحيان: أن تكون لهما أسرار خاصة.. وجلسات خاصة.. وأحاديث خاصة.. ورفقة خاصة.. إلى غير ذلك مما تُؤدي إليه علاقة الزوج بزوجته في حياتهما الزوجية. ...
وبالإضافة إلى هذه العلاقة الخاصة التي ستعزل الأم عن ابنتها، والتي ستجعل من الأم "وحيدة" بقية حياتها، وهي أحوج إلى مَن يكون برفقتها ومُصاحبتها: قد يكون الزوج من أولئكم الذين يُمارسون الإدارة ممارسة لا ترعَى الرحمة والشفقة بحَماته المُسنَّة، أو مِن أولئكم الذين يَعصفون براحة السكْنَى وهدوء العلاقات، لأَوهَى الأسباب، وهنا تحترق الأم: إما على حالها التي صارت إليه. أو على حال ابنتها مع زوجها.. الغضوب أو الأحمق.
والخوف ـ إذن ـ هو العامل الرئيسي لدى الأم، ولدَى ابنتها في هذه المشكلة على السواء، الأم تخاف من العزلة والوحدة، وعدم الاستقرار في السكن، والبنت تخاف الوحدة والعزلة وعدم الاستقرار في الحياة، والسبب في خوف كل منهما واحد وهو الزوج الجديد، فإتمام الزواج مصدر خوف للأم، وعدم إتمامه مصدر خوف للبنت.(/2)
... والأم ـ إذن ـ لا تكره ابنتها، وقد حملتْها وهنًا على وهْن.. لا تكره سعادتها في الزواج، بل بالعكس هي تتمنَّى: أن يكون لها زوج في أقرب فُرصة.. وهي تدعو لها في الصلاة أن تُوفَّق إلى زوج يُنقذها من حياة العناس.. والبنت لا تَبغض أمها ولا تشكو منها عن حقْد أو غِلٍّ. وإنما القلَق النفسيُّ لدَيها هو مصدر شكواها منها.
وربما كان سلوك الخطيب، وكانت تصرُّفاته مصدر الخوف عند الأم على مستقبلها معه مع ابنتها، فالبنت لا يُنتظر منها في هذه السن أن تتريَّث وتتأنَّى في اختيار زوجها؛ إذ تُدفع دفعًا إلى قبول مَن يتقدَّم إليها، بحُكم هذه السِّنِّ، وبالتالي يجب على البنت لإقناع أمها: أن تُلاحظ تصرُّفات خطيبها الآن، وسُلوكه معها أو مع والدتها، وتُرشده إلى الأسلوب الذي ترضَى عنه الوالدة، أو يَجعلها تَميل إلى قبوله معهما في السكَن، والأسلوب الذي تُباركه الوالدة هو أن يكون هادئًا في حديثه ومُقنعًا في مَنطقه، وذا عِفَّة، وقناعة فيما يُشارك فيه الأسرة مِن الأكل والشرب، ولا تُحِسُّ منه إطلاقًا: أنه لا يُقدرها ولا يَحترمها، وأن لا يُكثر مِن الوعود التي قد لا يفي بها ويتجنَّب اللغْو والنُّكْتة في القول، والصراخ عند الانفعال.(/3)
والأم بدَورها يجب أن تدرك أنها ضحَّت بالكثير في حياتها لأجل أولادها: إن في حمْلهم.. أو في إرضاعهم.. أو تربيتهم.. أو في تَدبير المنزل لشئونهم. يجب أن تُدرك أن الواحد والسبعين عامًا التي مضت عليها الآن كانت كلها أعوام تضحية في سبيل الأولاد كلهم، فإذا ما قُدِّر عليها أن تكون ابنتها الأخيرة ـ وهي السائلة هنا ـ لم تزل في حَضانتها فلتُقدم لها الآن من التضحية، بالسماح لزوجها بالسكنى معها في هذه الضائقة في المسكن، ما يُطمئنها على مُستقبلها، والله وحده هو الكفيل بأن يتولَّى الأم والبنت معًا، برِعايته، ويَهدي السبيل للجميع، ويصون حياتهم من القلق بسبب الخوف، فقد امتَنَّ الله على قريش بأن جنَّبها الجُوع والخوف معًا، فيقول: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا البيْتِ، الذِي أَطْعَمَهُمْ مِن جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ". "قريش:3ـ 4".. إنقاذًا لهم من الموت، بسبب الجوع.. أو بسبب الخوف. فإبعاد الخوف عن الإنسان كإبعاد الجوع سواءً بسواء. نعمة كُبرى من الله ـ سبحانه و تعالى ـ لا يُدركها إلا مَن ابتلاهُ الله بهذا أو بذاك.(/4)
159ـ الإجهاض ووسائل منْع الحَمْل
كتب مواطن من إحدى القرى، يقول إن والدته تعمل مُولِّدة "داية" وأنها قد أرشدت فتاةً كانت حاملاً إلى إجهاض نفسها. وفعْلاً تخلَّصت مِن الجنين، وبذلك سَتَرت عليها فضيحتها؛ لأنها حملت مِن شابٍّ بعد أن غرَّر بها ثم تنكَّر لها. ووالدته يُؤنبها ضميرها الآن بسبب موت الجنين، ولكنها حاولت الستْر على الفتاة، وأبعدتها عن اليأس والانتحار، فما هو رأي الدين في مثل هذا الحادث؟ ...
ويسأل سؤالاً آخر عن "الصوفة" التي يَستعملها بعض النساء.. هل استعمالها حرام أم حلال.(/1)
السائل يسأل عن أمرين مختلفين: ...
يسأل أولاً: عن الإجهاض لمولود فيه الحياة، وهي صورة مِن صُور الوَأْدِ الجاهلي، والوأْدُ دفْن الطفل حيًا تحت التراب، وقد كان ذلك شائعًا في الجاهلية وحَرَّمه الإسلام، ويَشيع في كل عهدٍ مَخافةَ العار.. أو الحاجة إلى الإنفاق.. أو الإملاق والفقر.. أي أنه يَشيع في الوقت الذي تسُود فيه الخشْية مِن الفضيحة، أو تشتد الحالة المادية وتَغلب الحاجة إلى الإنفاق، أو يَزداد الفقر ببَقائه حَيًّا، وقد جاء التشنيع والاسْتنكار للوأْد في قول الله ـ تعالى ـ: (وإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). (التكوير: 8ـ 9).. أيْ سُئلت عن دفْنها حيَّةً في التراب، وعن سبب وأْدها، وجعل سؤال المَوْءُودة من أمارات الساعة وقيام القيامة لتَقبيح هذه الجريمة الجاهلية اللاإنسانية. ...
فالإجهاض الذي شاركت فيه ـ أو أوصت به ـ والدةُ السائل: حرام قطْعًا، وهو جريمةُ قتْلٍ لإنسان صغيرٍ حيٍّ بريءٍ، وستُسأل عنه يوم الدين: "يومَ لا تَملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئًا والأمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ). (الانفطار: 19). ...
أمَّا أن والدته شاركتْ أو أوْصَت بالإجهاض لتَستُر على عِرْض بنت غرَّر بها شابٌّ ثم ترَكها وحْدها بعد أن ظهَر أنها حامل منه: فتِلك غايةٌ لا تُبرِّر الوسيلة التي هي قتْلٌ لطفلةٍ أو طفل لا ذَنب له إلا أنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه. ...
وإجهاض المَولود في بطن أمه كان للتستُّر على عِرْض مَن هي حامل به: فهو كذلك في الوقت نفسه إغْراء على ارتكاب الفاحشة، إذْ طالما يُمكن التخلُّص مِن ثمرة الزنا في الخَفاء.. وفي هذا اليُسر ـ فالمُعاشرة غير الشرعية يُمكن التستُّر عليها وإبعاد آثارها الاجتماعية. ...
والإجهاض يُمكن أن يكونَ مَقبولاً شرْعًا، إذا كان لزوجةٍ، وأكَّد الإخْصائيونَ مِن الأطباء: أن حياة الأم في خطَرٍ إذا استمر حمْلها.. وأن مَصدر الإجْهاض هو السبيل إلى إنقاذ حياتها، فالتخلُّص(/2)
من الجنين الآن مصدر حياةِ أمه، والإسلام إذَنْ لا يُعاقب على الإجهاض بشيء. ...
ومثل الإجهاض مِن أجل التستُّر على عِرْض الحامل غير المتزوجة ـ وسائل منْع الحمل الأخرى، عندما تُقدَّم للشابَّات غير المُتزوجات أو عندما يُمَكَّنَّ منها، وإنْ كان فيها الوقاية مِن الحمل تَستُّرًا على الأعراض، فهي في الوقت ذاته تَنطوي على تشجيعٍ غير مُباشر على المُعاشرة غير الشرعية، وعلى شُيوع الفاحشة بين غير المُتزوجين والمتزوجات. ...
وهكذا: التستُّر على العِرْض.. وخشية الفضيحة لا يَصلح مُبرِّرًا للإجهاض، ولا مُبررًا أيضًا لتقديم وسائل منْع الحمل لغير المُتزوجين والمتزوجات، أو لتمكينِهنَّ منها بأيِّ طريقة.
ويسأل ثانيًا: "الصوفة" التي يَستعملها بعض النساء كمانعٍ من الحمْل فمِن حيث قيمتها في منْع الحمل يُوجه السؤال إلى إخصائي من الأطباء، فما يُقال عن وسائل منع الحمل من غير الإخصائيين هو ظنٌّ يقوم على "الاحتمال" والأولَى أن تكون الإجابة عليها ممَّن لهم دِرايةٌ عملية بذلك.
أما عن "حِلِّهَا".. "وحُرمتها" .. فحرام إذا كانت تَمنع الحمْل مُؤَكِّدًا أن يُقدم النُّصح بها، أو يُمكن منها مَن ليس له علاقة زوجية صحيحة، وكذلك مَن له علاقة زوجية صحيحة في غيْبة إذَن الزوج أو في حال عدَم موافقته على منْع الحمل. ...
والخلاصة: ...
أولاً: أن الإجهاض حرامٌ إلا إذا توقفت حياة الزوجة عليه، فهو جائز عندئذ، وليس مِن أسباب حِلِّه: التستُّر على عِرْض الحامل به في سِفاح.(/3)
ثانيًا: أن تقديم وسائل منع الحمل لغير المُتزوجين والمتزوجات.. أو تَمكينِهنَّ منها بصورة ما: حرامٌ كذلك شرْعًا؛ لأنه ينطوي انطواءً غير مباشر على تشجيع الفاحشة وشيوع المُنكر بين غير المُتزوجين والمتزوجات، وإثْمُ ذلك على كل مُشارك في التقديم والتمكين. ...
ثالثًا: أن حِلَّ تقديم وَسيلةٍ مِن وسائل منع الحمل للمتزوجات.. وحلَّ استخدامها منهن: مشروط بموافقة الزوج، فالحياة الزوجية شرِكة بين الاثنين.. وما يأتي ثمرةً لها هما معًا مسئولان عنه، كما هو مشروط أيضًا برضاء الزوجة، وتحمُّل صحتها له، طبقًا لرأي إخصائيين.(/4)
لها الآن أربعة أولاد، وحالتها الصحيحة لا تسمح لها بالحمل ولا بالولادة وقد أَجهضتْ نفسَها خشيةً مِن الخطر عليها عند الولادة... فما حُكم هذا الإجهاض؟
والجواب: أن ما يكون حرامًا قد يُصبح حلالاً إذا توقَّفت عليه صحة الإنسان وحياته يقول أهل الخبرة من المؤمنين فالإسلام لم يَجِئْ عَنَتًا للإنسان وإنَّما ليَهديَه الطريق المُستقيم في السلوك وليُحافِظَ على بدَنه من الفساد وعلى عقله مِن الضلال.(/1)
27ـ كيف يُحتَفَل بذِكْرَى مولِد الرسول، صلى الله عليه وسلم؟
إن المسلمين كأفراد يجب أن يُراجِع كلُّ واحد منهم نفسه بحلول هذه المناسبة الكريمة في كل عام: عمّا حقَّقه في حياته الخاصة من مبادئ الإسلام.
1ـ هل أثمرت عبادتُه لله وحده في توجيه نفسه؟ فأصبح هو وحده وَحْدة لا انقسام فيها بين هوًى وشهوة من جانب وعقل وقلب من جانب آخر. هل تجاوز في سلوكه الآن الصراع الداخلي بين القوة الدافعة إلى التردِّي في مجال الغرائز الحيوانيّة والقوة الأخرى العاملة على تحقيق المستوى الإنساني الفاضل فيه. بتحكيم إيمان قلبه ومنطق عقله؟
إن تقرير الإسلام لوحدة الألوهية في الخالق ودعوته الإنسان إلى عبادته يستهدف حملة على الخروج من مرحلة التمزُّق والانفصالية التي تتشبَّث بها أنانية الذات والتي تصل بالإنسان الفرد ـ إذا لم يخرج منها ـ إلى الطغيان أو الضياع.. الطغيان على النفس ذاتها قبل غيرها، والضياع للنفس أولاً قبل ضياع أي نفس أخرى.
والخروج من مرحله التمزُّق والانفصالية في حياة النفس الفردية لا يتم إطلاقًا إلا بسيادة العقل على شهوة البَدَن. ولن تَتِمَّ السيادة للعقل إلا بإيمان القلب الذي يعزِّز منطِقه ويرجِّح جانبه. وإيمان القلب هو رسالة الإسلام.
2ـ هل يسأل الفرد المسلم نفسَه ـ أيضًاـ في ذكرى مولد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمّا أتتْ به صلاته كل يوم وأتى به صومه لشهر رمضان وأتى به حَجُّه إن أدَّى فريضة الحَجِّ؟
هل صَفَتْ نفسُه وأقرَّت إقرارًا كاملاً بوجود غيره معه وبوجوب مشاركته له في متع الدنيا، فلا تزاحم عليها ولا تخاصُم بشأنها ولا تنابُذ من أجلها وإنَّما هي المودّة والتعاون والإخاء في العيش والحياة؟(/1)
3ـ هل يسأل الفرد المسلم نفسه كذلك في ذكرى مولد الرسول الكريم صلوات الله عليه عن مدى قيامه بمسؤوليته إزاء نفسه وإزاء أسرته وإزاء أمته على نحو ما يُحكى عن رسول الله من قولٍ: "كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته"؟ .
إن الإسلام ينظر إلى الفرد المسلم على أنه ذات لها كِيانها الخاصُّ وليس جزءًا في الكُلِّ. ولذا يحمل من المسؤولية بقدْر ما له من استعداد وقُدرات وتتسع هذه المسؤولية فتتجاوز نفسه إلى غيره في أمته.
ومسؤولية الفرد ليست اعترافًا منه بها لذاته، وإنما هي عمل خالص منه ومستمِرٌّ لوجه الله. ووجه الله هو خير الفرد والأسرة والأمّة.
وبمراجعة الفرد نفسه على النحو من هذا يعرف مكانَه في الحياة الإسلامية ويعرف قُرْبَه أو بُعده من حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعرف بالتالي مدى تقديره لهذه الذكرى الكريم.
وبمساءلة أفراد المسلمين أنفسهم في ذكرى هذه المناسبة الخالدة وبمراجعتهم أسلوب حياتهم في ضوء تأثُّرهم بالمبادئ الإسلامية وترجمتها لهذه المبادئ… تكون الأمة الإسلامية على علم أو شعور بصاحب هذه الذكرى صلوات الله وسلامه عليه. فإذا لم تكن قد أفادت مرة أو مرّات بمرور هذه الذكرى في أسلوب الحياة وفى الترابط والتماسك بين أفرادها… فإن هذا العلم أو الشعور كَفيل ـ إذا تكرر ـ بتوجيه النفوس نحو الرغبة الصادقة في الانتفاع بذكرى مولد الرسول الكريم في حياة الأفراد وحياة الأمة جميعًا فتكون حياة إسلامية أصلية لا إلى اليمين ولا إلى اليسار.
أما الاحتفالات التقليدية فهي ترديد لصور ومظاهر، قلَّما تحمل القلوب والنفوس والعقول إلى النظر في واقع الأمر، وما يجري فيه وصلة ذلك وما تتطلبه رسالة الإسلام وما حقَّقه الرسول الكريم ـ عليه صلوات الله ـ في حياته وحياة أمته مما أوحى إليه الله جلّ جلاله.
وتدل هذه الاحتفالات التقليدية من جانب آخر على مدى الانصراف عن الإسلام، والحنان فقط إلى استعادة ذكرياته التاريخية.(/2)
15ـ مُستَمِعَة تقول: إنَّها تَعرِف أن الرحلات المدرسية نَوْع من الرياضة التي لا يحرِّمها الدين، ولا تمنعها شريعة الإسلام، ولكن ما رأي السادة العلماء في: "الرحلات المشترَكة" سواء أكانت رحلات علمية وترفيهية، مع ما يَحدُث فيها من أمور مُخالِفَة لقواعد الإسلام؟
الرحلات المشتركة ـ وهى الرحلات التي يَختَلِط فيها الذكور بالإناث ـ إن كان المشترِكون فيها من النوعين في سِنِّ الطفولة، أي إلى ما قبل سِنِّ المراهقة.. فلا بأس منها. بل قد تكون مثمِرة إذا ساعدت على تبادل الاحترام بين الجنسين.
أمّا التي يختلط فيها الذكور بالإناث في سِنِّ المُراهقة والشباب.. فهي رحلات لا تساعد على نموِّ التفاهم بين الجنسين ـ كما يقولون ـ إلا في دائرة الرِّباط الجنسيّ، وتكوين العلاقات التي قد تجُرُّ إلى خَيْبة الآمال وفواجِع الآباء والأمهات في أولادهم ذكورًا وإناثًا، وإصابة مستقبل هؤلاء الأولاد بشلل أو بعُقْم، وقد لا يُداوَى إلى آخر حياتهم.(/1)
ونصيحة القرآن الكريم إلى نساء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهى نصيحة موجَّهة إلى كل مؤمِنة بدين الله ـ تُوَضِّح: تجنُّب الاختلاط، كوِقاية من الآثار الضارّة التي قد تترتَّب عليه، فيقول ـ الله تعالى ـ: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ـ أي لكُنَّ القيادة في مجتمع المؤمنات. ولذا يجب أنْ تَكُنَّ القُدوةَ لِغيرِكُنَّ في السلوك والتطبيق ـ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ـ أي إن تَجنَّبْتُنَّ الاختلاط وتمسَّكتنَّ بدين الله في ذلك كان خيرًا لكُنَّ ـ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ "إذ عندئذٍ يُعَدُّ تجنُّب الاختلاط منكُنَّ وقاية لكن من التأثُّر بالقول المعسول والثَّناء الكاذب من كل مريضٍ في نفسه، ممَّن يدفعه الاختلاط بالنِّساء إلى مُفاتَحتِهِنَّ بلغو الغزل، أو بتوجيه الإهانة إنْ أعرضْنَ عَنه" وقُلْنَ "أي في تجنُّب التحادُث مع الأجنبي عنكنَّ" قَوْلاً مَعْروفًا) أي: قولاً مهذَّبًا يَليق بكرامة المرأة ورِقَّتِها. (الأحزاب: 32).. فتجنُّب الاختلاط ـ إذن ـ هو وقاية من آثاره الضّارَّة. وكما يُقال: الوقاية خير من العلاج.(/2)
ولكي يؤكّد القرآن: أن الوقاية من آثار الاختلاط الضارّة خير من العلاج يقول بعد ذلك: (وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ "أي أَقمنَ في بُيوتكن كسبيل للوقاية من آثار الاختلاط وتجنب الحديث المريض إذا لم تكن لكنّ حاجة مُلِحّة إلى الخروج منها" ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33) أي: ولا تقصدنَ من الخروج من المنازل إلى إظهار مفاتنكُنَّ وإغراء الرجال ودفع مَرضى النفوس منهم إلى الحديث معكُنَّ أو الإساءة إليكُنَّ"..وما يُقال عن الحِجَاب في الإسلام هو إذن الوِقاية من آثار الاختلاط الضارَّة. ولكن ليس هو عدم الخروج من المنازل على الإطلاق. والخروج من المنازل أمر مشروع إذا كان لقضاء حاجة أو أداء وظيفة في المجتمع. وهو مُحَرَّم إذا كان خالِصًا للإغراء بالكشف عن مفاتن البدن، ولقصد اجتذاب الرجال ومُغازَلَتِهم. وهذا ما كان في الجاهليَّة، والجاهلية هي الوقت الذي تَسُود فيه الحياة المادِّية بكل معالِم الانحلال والإلحاد، وتَشِحُّ فيه المعاني الإنسانية الكريمة، في أيِّ قرن وزمن.(/3)
71 ـ العادة السرية وقَبُول الله لمَنْ تخلَّى عنها
يذكُر مُواطن من الإسكندرية أنه كان يُؤدِّي الصلاة من صِغَره، ولكنه في مرحلة الدراسة الإعدادية ابتُلِيَ ـ كما يقول ـ بمُمارسة العادة السرية في غير شفَقة على نفسه، وانقطع عن الصلاة. واستمر في مُمارسة العادة البَغِيضة حتى السنة الثانية من مرحلة الثانوي، ووجد أن حالته النفسية يُسيطر عليها الاكتئاب والحُزن والهُموم وسُوء الظن بالناس وأحسَّ أنهم يَحتقرونه ويَسخرون منه فاعتزلهم واستعلَى عليهم. إلى أن بلغ الواحد والعشرين من عمره رجع إلى الصلاة وأداء العبادات، ولكن ما زال الشك يُراود نفسه في أنه مَقبول عند الله، رغم أنه قد يُحسُّ برُوحانية يكون سعيدًا بها بعض الفتَرات.
فماذا يفعل حتى يَطمئن إلى قَبُول الله له؟
الإنسان منذ صِغَره في طفولته يَخضع في تطوُّره وفي اتجاهاته في الحياة إلى ظروف البيئة التي يعيش فيها فقد حُبِّبَت إلى السائل الصلاة ربما عن طريق تردُّده على المسجد، أو عن طريق رُفْقته لزملاء له في السنِّ، أو عن طريق أسرته، وفي أدائه للصلاة كان يُحسُّ بمتعة رُوحية هي متعة تَقرُّبه إلى الله سبحانه وتعالى.
واستمر في مُحافظته على أداء الصلاة إلى سِنِّ المُراهَقة، وهي السن تقريبًا التي يدخل فيها التلميذ مرحلة الدراسة الإعدادية، وهنا تعرَّض للصراع النفسي في داخل ذاته.. هنا في هذه المرحلة ابتدأت تنشط لدَيْه الغريزة الجنسية.
وربما المدرسة التي هو فيها وقت نشاط غريزته كانت مدرسة مُشتركة يختلط فيها البنات مع الصبيان فقدمتْ له عينات من البنات تُغذي وَهْمَهُ عن الجِنْسِ.(/1)
فابتدأ يُمارَس العادة السرية وكل يوم يمر عليه في المدرسة يَزِيد في مُمارسته لهذه العادة حتى أصبحت ممارسته إيَّاها تُسيطر عليه معظم الوقت، كما يقول، وهنا انقطع عن الصلاة، وانتقل من الجانب الروحي، وهو البقاء في دائرة الله ـ عز وجل جلاله ـ إلى الجانب المادي، وهو مُلاحقته البنات في الوهْم والخيال.
وبلغ من شدة طواعِيَّتِه لهذه العادة البغيضة: أن توتَّرت أعصابُه، واهتزَّ اتِّزان النفس عنده، وفَقَدَ القدرة على العودة إلى السلام والاطمئنان النفسيّ. فابتدأت موجة التشاؤم تأخذ مكانها في نفسه، وأحسَّ بالاكتئاب، والحزن، والهُموم، وإساءة الظن بالناس وتصوَّر أنهم يَسخرون منه وأنهم يَحتقرونه، فابتعد عنهم، واستعلى عليهم.
ولأنه كان قد تعوَّد على الصلاة من قبل، وانقطع عنها الآن فترة ـ وهي فترة التبعية للعادة السرية ـ أصبح يتردَّد في نفسه ذِكْرُ الله والخشْية منه.
وهنا ابتدأ يَبغض طواعيته لهذه العادة الذميمة، ويُحاول أن يكفَّ عنها فتجدَّد الصراع النفسي مرة أخرى إلى أن تركها ـ كما يقول ـ في السنة الثانية من المرحلة الثانوية، ولكنه ترَكها وهو مُهلهلٌ لا يقوَى على الحركة، وكما يقول أيضًا: ميت حيٌّ.
وهو إذن الآن بعد أن اعتاد الصلاة انتقل إلى مُمارسة العادة السرية ثم رجع عن هذه العادة إلى الصلاة من جديد وأداء العبادات الأخرى معها، فهل عندئذ الآن في تصوره يكون مقبولاً عند الله؟
ابتدأ يَشُك في قبوله عند المولى ـ جل جلاله ـ ولذا يسأل عن رأي الدين في وَضْعه.
إنه يعيش في لحظات روحية عندما يَنسى فترة العادة السرية، ولكنه يعود إلى الاكتئاب النفسي مرة أخرى عندما يتذكر انحرافه فيما مضى، على أن حالته العصبية لم تعُد إلى الاتزان، كما كانت قبل دخوله مرحلة المُراهقة.
هل نظام المدرسة المشتركة، في التعليم الإعدادي، وفي التعليم الثانوي مسؤول عن شيوع هذه العادة السرية بين الشباب وبالأخصِّ في عواصم المُدن.(/2)
وهل مُمارسة العادة السرية بين الشباب تُوصِّل حتمًا إلى وَضْع الشباب السائل من: الصراع النفسي.. وعدم التوازن.. وتوتر الأعصاب.. والحيرة والشك.. وفُقدان الحيوية والنشاط البدنيّ ولو لفترة ما؟
وما هو علاج الشاب السائل؟ أو ما هو علاج الشك في نفسه، والخوف من عدم قبول الله له؟
نظام المدرسة المشتركة يُدَّعَى له أنه يتكفل بإنشاء علاقة هادئة بين الفتى والفتاة، وعن طريق التعود على اللقاء بينهما في الدرس وفي جو المدرسة يَخِفُّ ضغط الغريزة الجنسية ويُصبح تطورها غير ضارٍّ لمَن هم في سن المراهقة وغير عائق لهم عن الاستمرار في التعليم والإيجابية فيه.
ولكن هذا النظام نفسه عن طريق الاختلاط يُقَدِّم للشابِّ الفتاة التي يتطلَّع إليها في غَدِه ولو في خياله، كما يُقدم للفتاة: الشاب الذي تتوقَّعه يومًا ما، ومعنى ذلك أنه من الميسور في التعليم المشترك أن تكون هناك فرصة لخيال المُراهقين والمُراهَقات في أن يَنسج الواحد منهم صُورًا ويرسم آمالاً، يدور في هذه وفي تلك بنشاط غريزته الجنسية، هذا النشاط الذي قد يدفَعُه إلى مباشرة العادة السرية، عندما يعجَز عن تحقيق بعض آماله في واقع حياته في العلاقة بين الطرفين.
ولذا: هذا النظام المشتَرك مسئول إلى حدٍّ ما عن انحراف الغريزة الجنسية في سن المُراهقة.
أما مُمارسة العادة السرية، فعلى رغم ما يُؤكده بعض الأطباء من أنها ليست ضارَّة بصحة المراهق أو المراهقة، على نحو ما يُردده الكثيرون، فإنها لا شك مصدر لتوتر الأعصاب واضطراب النفس، والضعف البدني، ولو لفترة ما قد تطول وقد تقصُر، وفي ذلك ما يُعَوِّق النمو الطبيعي للمُراهق أو المراهقة ونموَّ مَلَكاته وطاقاته.(/3)
والسائل هنا لولا أنه كان يُؤدي الصلاة بانتظام قبل مباشرته العادة السرية ثم انقطع عنها، ثم عاد إلى أدائها مرة أخرى لَما دخل الشك نفسه، ولَما خشي من عدم قَبُول الله إياه، ويجب أن يَطمِئن إلى قبول عبادته ويرفع الشك من نفسه، بعد أن أصرَّ على مُطاردة هواه في مباشرة هذه العادة السيئة.
فالإصرار منه عزْم أكيد على توبته وإقلاعه عن الخطأ وفقط يجب أن يمرَّ بعض الوقت على إصراره حتى يُحسَّ مِن جديد بعدم الكآبة وبعدم الحزن وتراكم الهموم، كما يجب أن يَستعيذ دائمًا بالله من الشيطان الرجيم.
وهو شيطان نفسه وهواه والمسألة مسألة وقت ومُثابرة على طرْد: (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ) (الناس: 4 ـ 6).
وهو وسواس الغرائز عندما تتسلط على الإنسان.
ما حُكم مُمارسة العادة السرية؟
أمَّا عن الأمر الأول: وهو حُكم الشرع في مُمارسة العادة السرية، فيتوقف هذا الحُكم على ما يراه الأطباء وعلماء النفس في مُمارستها مِن ضررٍ وعلى قدْر الضرر يكون الحُكم بالحُرْمة أو الكراهة في الإقْدام عليها.
ولكن ماذا يُفيد الحُكم بالحُرمة أو بالكراهة، يُقال لمُراهق وقع تحت تأثير ما يراه مِن تبرُّج، وخلاعة، واستخفافٍ بالقيَم الإنسانية في سُلوك الإنسان المُعاصر، إنْ في الشارع، أو على البحر، أو على شاشة التليفزيون، أو فيما تَنقله الإذاعة مِن قِصصٍ وتَمثيليات؟
حُكم الله في مُمارسة العادة السرية ينفع إذا قيل لمَن يُؤمن بالله ويَخشى عِصيانه مِن المُراهقين والمُراهقات؛ ولذا فالأساس الأول لتوجيه الشبان والشابات هو تكوين الخشْية مِن الله في نفوسهم عن طريقٍ سليم، على أن يُنقَّى المُحيط الذي يعيشون فيه مِن مصادر الانْحلال والفَوْضَى.(/4)
ولا يَقِلُّ أثَرًا في حياة الشبان والشابات في الْتزام المَنهج السُّلوكيِّ الصحيح: فَهْمُّهُمْ للحرية الفردية على أنها ليست انْطلاقًا للذات نفسها فمسئولية الفرد تُوجب عليه إذنْ أن يُبعِدَ الضررَ المُؤكَّدَ أو المُحتمَل عن ذاته وإنْ كان يَستمتع بمُقدماته، وعن الشعور بهذه المَسئولية يُمكن أن لا يَلْجَأَ الإنسان للعادة السرية إذا علِم أنها تَنطوي على ضَرَرٍ لِذَاتِهِ.
وبجانب الخشْية مِن الله، وتكوين الشعور بالمَسئولية عن حِفْظِ الذات من تَدميرها كوَسيلتينِ مِن وسائل الوقاية مِن مُمارسة العادة السرية: يَجيء شَغْلُ الفراغ لدَى الشبان والشابَّات. بِمَا يُثْمر في تَطويرهم ويُبعدهم عن الانحراف أو أضرار العادات السيئة.
وشَغْلُ الفراغ يكون مَثلاً: بالرياضة البدنية الجادَّة، وبالقراءة الهادفة في كتب التاريخ وترديد كِتاب الله، وبهواية الرسم والموسيقى، ممَّا مِن شأنه أن يُكوِّنَ البدَنَ، ويُعوِّدَ الفِكْرَ على التنظيم ويُنمِّي في النفس القِيَم والمُثُل الإنسانية ويَخلق فيها مَلَكةَ الذوق والجمال.
117 ـ العادة السرية أيضًا
يسأل طالب بالصف الأول الثانوي بإحدى المدارس عن حُكم الله في العادة السرية ومُباشرتها، وهل تلك المباشرة حرام أم حلال؟
وإذا كانت حرامًا فكيف يَنال الإنسان رضاء الله؟
العادة السرية تنشأ عن الرَّغبة الجنسية وعجْزِ الراغب عن سُلوك الطريق الطبيعي واستخدام اليد في تحقيق تلك الرغبة، والمُباشر لهذه العادة يُرهق نفسه في اسْتحضار صورة الشخص الآخر في خَياله، ويَحرص على بَقائها فيه إلى أن يَفرَغَ مِن رغبته، ولدَيْهِ الحرية في أن يُكرر هذه العادة عدة مرات في اليوم طالمَا يَقدِر على مُمارستها.(/5)
وإذا كانت هذه العادة تَنطوي على إرهاقٍ نفسيٍّ، وتكرارها في حرية يَزيد مِن هذا الإرهاق، فإنها على الأقل غير مَقبولة عند الله؛ إذ هي وإنْ كانت لا تنطوي على اعتداءٍ على حُرمةِ شخصٍ آخرَ، وعلى حق المجتمع كالزنا مثلاً، فإنَّ فيها مسَاسًا بنفس الإنسان الذي يُباشرها، عن طريق التركيز في التخيُّل واستحضارِ صُورِ الآخرينَ استحضارًا ذِهنيًّا، ممَّا قد ينشأ عنه ضَعْفٌ في طاقات الإنسان العَقليَّةِ.
فإذا ضُمَّ إلى هذا السبب سببٌ آخرُ يتأكَّد مِن جانب الإخْصائيين بضرر هذه العادة على الأعصاب أو على بعض أجهزة البدن، فإن مُباشرة العادة السرية عند مَن يتعرَّض لهذا الضرر بأقوال أهل الخبرة مِن المؤمنين، يكون حرامًا؛ لأنه يُوصِّل إلى ضررٍ. وحِلُّ تصرُّفاتِ الإنسان مُرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بعدم جلْب الضرر للذات أو الإضرار بالغير.
وربما يَميل بعض الفقهاء إلى تَسمية العادة السرية "بزنا اليدِ" قصْدًا إلى التنفِير منها وإبعادِ الشباب في سِنِّ المُراهقة عنها.
وخيرٌ للشباب أن يَبتعدَ أو يُبعد نفسه عن أن تُثارَ لدَيْهِ الغريزة الجنسية في هذه المرحلة مِن حياته بتَوجيهه إلى مُمارسة الرياضة البدنية، وترغيبه في صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وفي قراءة كُتب الدِّين والتاريخ.
18ـ مجاهدة النفس واجب أَوْلَى للمؤمن بالله(/6)
طالب جامعي مسلم ـ من إحدى المحافظات ـ يُؤدي الصلاة جماعةً، ويؤدي الفرائض الأخرى، ومُتمسك بالسُّنن، ويدعو إلى الإسلام بين أهله وجيرانه ومعارفه، ولا يُدخن، ولا يَشغل نفسه بسماع الإذاعة ومُشاهدة التليفزيون. ومُشكلته ـ كما يقول ـ: أنه يَسكن في منطقة كثُرت فيها أجهزة التليفزيون ودُور السينما، وله فيها مَتْجر يقف فيه وقت فراغه ويتردَّد عليه كثير من فتياتِ الجيران. وهو يغضُّ بصره عنهن. ولكنه يسمع أحاديثهنَّ ويتناولنَ فيها العلاقة بين الرجل والمرأة بألْفاظ تُحرِّك الشهوة عنده وهو واقف بالمتجر وهنَّ أمام منازلهن. ولذا لا يستطيع أن يَحُول بينهم وبين هذه الأحاديث. وارتكاب الفاحشة في جوِّ هذه المنطقة لا تَحول دُونه صعوبة ـ كما يقول ـ وكأثَرٍ لهذه الأحاديث في جو المنطقة يَدخل الشيطانُ نفسَه ويُحرك شهوته، وخشيةً من الوقوع في الزنا يُباشر "العادة السريَّة" بيده من وقت لآخر. وحاولَ كثيرًا أن يمنع هذه العادة ويتوب إلى الله ولكنه تحت ضغْط هذه الظروف يعود إليها خوْفًا من الزنا، الذي هو أيْسرُ، كما يقول من الحصول على الأكْل والشرب. وهو لا يَستطيع الزواج؛ لأنه فقير، وتكْلفة بيت الزوجية لا يقدر عليه. كما أنه جرَّب الصوم فكان يغلب على أمره بمُباشرة هذه العادة وهو صائم. ويسأل عن حُكم مُباشرة هذه العادة في هذه الظروف التي يصِفها في رسالته؟ وعن العبادات التي يُؤديها وهل تعتبر في حالته هذه تعبيرًا عن نفاق؟ وهو في حَيْرَةٍ من أمره.(/7)
مطلوب من المؤمن أن يُجاهد نفسه، أن يجاهد دون أن تغلب شهوة بطْنِه أو فرْجه عليه. ومجاهدة النفس صراع بين طرَفين: بين الشهوة التي تدفع إليها الغريزة، وبين الهداية التي تدفع إليها رسالة الله. ورسالة الله هنا تدفع إلى عدم الاستسلام إلى إغْراء الشهوة، سواء أكانت شهوة البطن أو شهوة الفرج.
وعبادة الصوْم فُرضت لتُدَرِّب الإنسان الصائم على عدم الاستجابة لإغراء الشهوة أيًّا كان مصدرها. فالصائم في صوْمه يُصارع ضدَّ شهْوته ورغباته: يُمسك عنها، ويَحول دون أن يتحقَّق ميْل النفس إلى ما تَشتهيه.
ومُجاهدة النفس هي الركيزة الأولى في الإيمان والتديُّن، ومَن لم يستطيع مُجاهدة نفسه يظلُّ إيمانه على هامش حياته، كما يكون تديُّنه شكْلاً لا جوْهر له. ...
وكلما كان الجو الذي يعيش فيه المُؤمن مليئًا بالمُغريات، ومُيَسَّرًا للإنسان فيه ارتكاب الفاحشة أو المنكر، كلَّما كان جهاد النفس شاقًّا، وكلما كان ثوابه عند الله أعظم. ...
جهاد النفس لا يعرف التراخي، ولا يعرف الحلَّ الوسط، ولا يعرف التأجيل. فمَن يُرِد ـ مثلاً ـ أن يُجاهد نفسه ضدَّ مُنكر ما، أو ضدَّ فاحشة، فعليه أن يُمسك من فوْره عنها. وأن يعمل على إزالتها لو كانت بين يديه، فمَن تعوَّد التدخين ويُريد أن يجاهد نفسه ضده فعليه في الحال أن يتخلص ممَّا معه بصورة نهائية. ومَن تعوَّد شرب الخمْر وأراد أن ينتهي عن الشراب ويجاهد نفسه ضده، عليه أن يَسكُب على الأرض في غير إرجاء ما يكون لدَيه منه. وهكذا في مباشرة العادة السرية، أو في مباشرة فاحشةَ الزنا يَحزم أمر نفسه بإرادته القوية في الامتناع عن مباشرة أيٍّ منهما، ولو كانت النفس قد تهيَّأت للمُباشرة بالفعل، ولو كانت الظروف قائمةً لتنفيذ المباشرة. ومَن يُرجئ الامتناع والإمساك عن المُنكر أو الفاحشة إلى وقتٍ آخر مُستقبلاً، حتى يُتيح لنفسه استغلال الفرصة العاجلة بين يديه، لا يكون وضْعه وضْع مَن يجاهد نفسه، بل(/8)
يكون وضعه وضع المُؤَرْجَح أو المُتَقَلِّب، والمُتَرَدِّد. مَن يقول إني سأمتنع و سأنتهي مِن هذا المُنكر أو ذاك، أو من هذه الفاحشة أو تلك، غدًا أو بعد غدٍ حتى أكون قد فرغتُ ممَّا لدَيَّ أو حتى أكون قد أعددتُ نفسي وهيَّأتها نحو الحِرْمان والإمساك عن المُنكَر أو الفاحشة، مَن يقول ذلك تنقصه الجدية، وينقصه العزم، وينقصه الإيمان القوي. ومثله مثل مَن يُباشر المنكر ثم يتوب ويستغفر الله، ثم يعود لمباشرته، ثم يتوب ويستغفر الله، وهكذا. ...
جهاد النفس عزْمٌ وتصميم على الإمساك والحِرْمان ممَّا تَشتهيه النفس الأمَّارة بالسوء، والذي يُجاهد نفسه يعلم ما في بيئته مِن مُغريات ومَفاتن، كما يُدرك في نفسه قوة العزم على المقاومة، ثم ينتهي إلى قَبُول التحَدِّي للمُغريات والمفاتن. وإصراره على المقاومة هو عاملُ نجاحه، فإذا كان ارتكاب المنكر أو الفاحشة عادةً له، فستَضعف هذه العادة تدريجيًّا، وتحلُّ بدَلاً منها عادةٌ أخرى بحُكم إصراره، تُساعده على الإمْساك. وهي عادة الحِرْمان والمُقاومة لمَا تشتهيه النفس عن طريق البطن والفرج. ...
وإذن جهاد النفس لا بد أن يُكوِّنَ عاداتٍ لدَى مَن يجاهد نفسه، بدلاً من تلك العادات التي كوَّنتها مُباشرةُ المنكر والفاحشة. فإذا لم يُكوِّن عاداتٍ على الضدِّ من العادات السابقة فهو جهادٌ خادعٌ، إذا لم يمتنع عن الشراب، إذا لم يمتنع عن الوشاية والنَّميمة، إذا لم يمتنع عن الكذِب والضلال، إذا لم يمْتنع عن السرقة، إذا لم يمْتنع عن فاحشة الزنا، إذا لم يَمتنع عن عادة الاستمناء: فما يَدَّعِيهِ مِن جهادٍ للنفس غير صادق. ...
وتكوين العادات الجديدة، وهي التي تأتي نتيجة للإصرار على الحرْمان والإمساك ضد المُوبقات، ستُساعد مَن يُجاهد نفسه على الاستمرار في المُجاهدة: في يُسْرٍ، في غير ضِيق، ستَزيد عنده المُقاومة بحيث يكون أمرها غير شُعوري، بحيث يكون أمرها سهلاً لا يحتاج إلى عناء.(/9)
وهل السائل في هذه الرسالة جاهَد نفسه بحيث كان جهاده صادقًا، الظاهر من مباشرته العادة السرية المرة بعد الأخرى، ثم بعد كل مرة يُعلن توبته، ورغمًا عن إعلان توبته يعود إلى المُمارسة من جديد. الظاهر مِن ذلك أنه لم يُجاهد النفس ضد هواها، ولم يقف في عزْمٍ وتصميم ضد المغريات التي تحيط به كما يقول. وتديُّنه مَظهر لم يصل إلى عُمْق نفسه بعدُ.ونحن لا نقول له: إن ما تُباشره مِن العادة السرية هو حلٌّ مؤقتٌ لأزمتك النفسية ضد الوقوع في ارتكاب فاحشة الزنا الذي هو أمرٌ مَيْسور، كما تقول الرسالة. وإنما نقول له: باشِرْ جهاد النفس. وهو أمر مطلوب ومَفروض على كل مؤمن برسالة الله. ومُباشرته أولاً مقدمة ضرورية لتقييم عمل المؤمن بعد ذلك، وتقييم ما يُقدم عليه في حياته. ...
إن جهاد النفس شاقٌّ. ولكنه السبيل الأول إلى تحويل الإيمان بالله إلى عملٍ صالح. وليست هناك انفصالية بين الإيمان بالله، والعمل الصالح إلا في نفس الضعيف الذي يَنطق بشهادة: أن لا إله إلا الله ـ وأن محمدًا رسول الله، ثم يسير في عمله حسبما تدفعه هواجس النفس وتُملي عليه الأهواء والشهوات.
وربما يرى بعض الفقهاء، أن مباشرة العادة السرية في الظروف التي يذكرها الشاب الجامعي في رسالته لا تدخل في نطاق المحرَّم شرعًا، دفْعًا للوقوع في الزنا، لكن الفتوى بذلك تُدخل التراخي في مُجاهدة النفس، الأمر الذي يَحُول دون أن تتحقَّق هذه المجاهدة يومًا ما وتُؤتي ثَمرها، كما هو مرجوٌّ لها. وبعد ذلك: هل مباشرة العادة السرية تؤثِّر تأثيرًا سلبيًّا على الوظائف العضوية للبدَن؟ الكلمة في ذلك لأصحاب الاختصاص، وهم الأطباء.(/10)
138 ـ هل البَقْشيش الذي يُدفَع للاستحسان عادة حرام؟
إذا كان السبب في العطاء القليل الذي نسمِّيه بالبَقْشيش أو بالإكرامية هو الاستحسان، أي هو التعبير عن رضاء النفس من الخدمة التي تُقَدَّم للإنسان.. فهو في واقع الأمر عطاء في مقابِل.. عطاء مادِّيّ في مقابل معنويّ. ولكنه ليس أجرًا على عمل؛ لأن شرط الأجر على العمل أن يتَّفق عليه.
وعطاء شيء مادّي في مقابل ما يأتي به الآخر مما يسُرُّ النفس ويُريحها أمرٌ مقبول، لا إثم ولا معصية فيه. والعطاء في الوقت نفسه قام على أساس من اختيار المُعطي وعدم الإكراه فيه.
ومثل العطاء للاستحسان العطاء بحكم العادة والعُرف. فالعادة، وخصوصًا التي لا تنطوي على ضَرَر، تُفضّل رعايتها عند التعامل بين أصحاب العُرف الواحد. بل قد تُعتبر شرطًا غير مكتوب لصِحّة المعاملة.
فإذا كان سبب العطاء الاستحسان، والعادة معًا ـ كما جاء في السؤال ـ فليستْ هناك شائبة من حرَج، في مساوقة العادة، وفي التعبير عن رضاء النفس.
ولعل السائل قد يقصد بسؤاله "البَقْشيش" أصلاً ليس جزءًا من الثمن أو الأجر، وأنه من أجل ذلك يُعتَبَر تبرُّعًا، فيه إكراه أو شائبة إكراه، أو هو رِشوة.
وصحيحٌ أنه ليس جزءًا مشروطًا أو مكتوبًا في الثمن أو الأجر كما سبق. ولكن في واقع الأمر قد يكون جزءًا مشروطًا ضِمْنِيًّا في الثمن والأجر، ومقابلة "الاتفاق"، إمّا في اختيار السلعة المُباعَة، أو الخدمة أو العمل المأجور عليه. والإتقان أمر نِسْبِيٌّ في كل شيء حسَب طبيعته، كما أنّه هو ذاته الذي يُثير الاستحسان والرِّضا النفسي، ممّا يحمل الذات على دفع البقشيش.(/1)
فإذا كان دفع البقشيش للرِّياء ـ وليس تعبيرًا عن رضا النفس بما قام به الطَّرَف المُعطي ـ فهو حرام؛ لأن الرياء من شأنه أن يُفسِد العمل الطيب. فقراءة القرآن إذا كانت رياء كانت حرامًا. وإنفاق المال من ذوي اليَسار إذا كان رِياء فهو حرام. والعلم من العالم إذا كان رياء فهو حرام.
والعمل الطيِّب في ذاته يُقبل عند الله ممَّن قامَ به، إذا أخلصَ فيه لله، وقصَد به وجه الله وحده. ولذا فكتمان العمل الطيِّب في مباشرته وأدائه، له فضل مزدَوج وعليه جزاء مضاعَف.
والرِّشوة بعيدة عن "البقشيش" في طبيعتها ودوافعها. فمَن يُعطي البقشيش ليس صاحب "نفوذ" أو "سلطة" يتحكَّم عن طريقها في قضاء المصالح والحاجِيّات. هو في العادة "متواضِع" يريد أن يفعل ما في وُسْعه لراحة الآخرين في خدمتهم. ثُمَّ في الوقت نفسه ليس "متعيَّنًا" أو ليس هو "وحده" الذي يباشِر الخدمة.
ولكن مَن يأخذ الرِّشوة هو يُمليها في واقع الأمر، بحكم سُلطته ونفوذه وتفرُّده في أداء الواجبات والخدمات للآخرين في مُحيطه. وقد يُمليها في عُنْجُهيّة وغَطْرسة، لإحساسه بالتفرُّد في العمل من جانب، وبحاجة صاحب المصلحة في أداء العمل له من جانب آخر.
ومَن يأخذ البقشيش يُعَبِّر عن شكره لما أخذ. لكنْ قلَّما يَشكُر مَن قَبِل الرِّشوة أو فرضَها مَن تقدَّم إليه بها. فكبرياء سلطته ونفوذه يَحُول دون ذلك. وربَّما إحساسه "بالخطف" واستغلال النفوذ يجعله يتستَّر بعدم إعلان الشكر على جريمته.
ومَن يُعطي البقشيش هو راضى النفس. ولكنْ مَن يُعطي الرِّشوة مُكْرَه عليها، وحاقد على مَن طلبها منه في سبيل ضرورة لديه.(/2)
155 ـ التأمين على الماشية معمول به في الريف، ويقضي بأن يدفع صاحب الماشية مبلغًا تقدِّره لجنة رسمية. وإذا حدث أنْ نفَق الحيوان يستدعي صاحبُه الطبيب البيطري ليتأكَّد من موته ثم يُصرَف له ثمن الحيوان كاملاً أو ناقصًا، حسَب تقدير الطبيب فهل هذه حلال؟
الجواب:
يُقال في شأن التأمين عامَّةً سواء أكان تأمين على ماشية، أو على حياة الإنسان، أو على مصنع أو سلع تجارِيّة، أو على مَبانٍ.. أو على غير ذلك.. أنه ينطوي على "غرَر" أي على تقديرات خاطئة من شأنِها أن تلحق أضرارًا بأحد طرفي عقد التأمين أو بكليهما. وإذا انطوى أي عقد بين طرفين على ضرَر واضح مُتَرَقَّب لأحدهما ـ فضلاً عن كليهما ـ فإنَّ العقد يكون باطلاً وحرامًا.
ولكن: هل ينطوي عقد التأمين على غرَر وتقدير خاطئ؟
إن عقد التأمين في واقع أمره هو بين المؤمنين بعضهم مع بعض عن طريق شركة التأمين. فالطرفان في العقد هو المؤمِّن وبقية المؤمِّنين. والشركة هي مفوَّضة ووكيلة عن الطرَفين في تنفيذ التزامات العقد.
وهنا في التأمين على الماشية: الطَّرفان في عقد التأمين هو المؤمِّن على ماشيته من ناحية والمؤمِّنون الآخرون عداه على مواشيهم من ناحية ثانية. والهيئة أو المصلحة التي تباشِر التأمين على مواشي المؤمِّنين جميعًا هي في واقع الأمر مفوَّضة عنهم في تنفيذ عقد التأمين من تحصيل الأقساط، وتقدير قيمه المبالغ التي يطلب التأمين بها، وتقدير التعويضات المستحَقّة عندما تنفق الماشية.. وغير ذلك من التشخيص البيطري وتقدير علف الماشية، بالإضافة إلى استثمار الأموال المُتَحَصَّلة.
والهيئة أو المصلحة التي تباشِر تنفيذ عقد التأمين لها جُعْل خاصٌّ من أرباح الأموال المُستَثْمَرَة، وهي الأقساط التي تجمع من المؤمنين نظير ما تقوم به من إشراف وأداء خدمات.
وبقية أرباح هذه الأموال تغطي منها التعويضات للمؤمِّنين التي يقدِّرها البيطريّون عندما تنفُق الماشية.(/1)
وبتوقيع المؤمِّن على عقد التأمين يوقع في حقيقة الأمر على شيئين:
أولاً: على تفويض المصلحة أو الهيئة أو الشركة التي تباشر التنفيذ، في نظير جزء من الأرباح.
ثانيًا: على الموافَقة على تسديد التعويضات التي تُعطَى وتصرَف للمؤمنين، وهى لا تتجاوز بحال المبلغ المقدَّر في العقد، من حصيلة أرباح الأموال التي يؤمن بها، والتي التزم المؤمِّنون جميعًا بدفعها على أقساط شهرية أو سنويّة أو موسِميّة.
ولا يضارّ أحد من المؤمنين إطلاقًا فيما يتسلَّمه من تأمين لأنّه يتسلَّم بنسبة معيّنة من المبلغ الذي يلتزم بدفعه. والهيئة أو المصلحة أو الشركة ـ وكذا المؤمنون ـ لا يتدخّلون في أعمار المواشي عندما ينتهي أجلُها. فهم قد اتفقوا فحسْب على مبدأ عام في صيغة عامّة: عندما ينفُق الحيوان يُعطَى صاحبُه تعويضًا، ولكنَّهم لم يتعرَّضوا بحال إلى الوقت، ومتى؟
على نحو ما يقضي به العُرف في الأفراد من رَدِّ "النقوط" بحلول الفرح الجديد للجار أو القريب.
فعقد التأمين على الماشية ـ وكذلك كل عقد تأمين ـ ينتفي عنه الغرَر والتقدير الجُزافي إذ فيه جِعالة للمصلحة أو الهيئة أو الشركة، وفيه تعاون بين المُؤَمِّنين عن طريق العقد نفسه وهو تعاون على تحمُّل المصائب والكوارث، كالتعاون في المآتم في الريف. فمما يشارك به الأقارب أو الجيران بما يقدَّم من طعام في أيام الوفاة هو بمثابة القِسط الذي يدفع، على أن يسترَدَّ عند المناسبة المعينة.
والتأمين في أيّة صورة من صورة هو ضرب من التعاون المُثمِر البنَّاء. وليس له صله إطلاقًا بتحديد المستقبل لما يؤمَّن عليه. فهو لا يتدخّل في علم الله بتحديد الآجال أو بإنزال الكوارث. وكل ما ينطوي عليه أنه مشاركة لها أثرها في إسعاف كل من تَحُلُّ به كارثة أو مصيبة، إنْ في نفسه أو في ماله أو في إنتاجه، ومثل هذا العقد يُطلَب ولا يُمنَع.(/2)
156 ـ سيدة تقول: "جمعتْ خادمتنا بعضَ المال من إكراميّات أقاربنا، ووضعته عندي. ثُمَّ في يوم من الأيام كلَّمْتُها ونصحتها بشِدّة، فخرجت ولم تعُد. فهل يجوز التصدُّق بهذا المال. أو هو أمانة لها في عُنُقي؟
الجواب:
السيدة هنا تقف بين تأنيب الضَّمير والخَشْية من الله من جانب، والغضب من تصرُّفات الخادمة ـ الذي قد يصل إلى درجة الكراهية ـ من جانب آخر.
فخروج الخادمة من المنزل وعدم عودتها مرة ثانية، بعد "نُصحها بشدة".. يدلُّ على الأقلِّ على إحساس الخادمة بغضب السيدة عليها واستنكارها لما أتتْ به من تصرُّف.
وسؤال السيدة عن مصير المال الذي جمعتْه الخادِمة من إكراميّات الأقارب: هل هو أمانة يرد لصاحبتِه، أم يعتبر غير مملوك لأحد فيجوز التصدُّق به؟.. هذا السؤال يدلُّ على أن السيدة تقِف الآن بين أمرين: أمام ضميرها وأمام الله، ثم أيضًا تلك النفس الثائرة الغاضبة فيما مضى.
والمال الذي يسأل الآن عن مصيره هو "أمانة" من غير شكٍّ يجب ردّه إلى صاحبته وهى الخادمة؛ لأنّه يوم أن أخذته هبة من الغير دخل في ذِمّتِها، وخرج من ذمم الآخرين. فهو ملكٌ خالص لها.
ويوم أن وضعتْه عند "السيدة" استأمنتْها عليه. أي وضعته عندها بصفة "أمانة"، ولا تبرأ السيِّدة منه إلا بتسليمه إلى صاحبته وإعادته إلى ملكها. ولا يجوز التصدُّق به، طالما يمكن إعادته إلى صاحبته. ولا شَكَّ أن السيِّدة تعرف عنوان أهلها على الأقل، بواسطة أو غير واسطة.
هذا فيما أرى حكم الفقه الإسلامي. ولكنَّ الإسلام ـ أيضًا ـ فيما ينصح به المؤمنين من أخوةٍ صادقة فيما بينهم: لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغَنِيّهم وفقيرهم، وقويّهم وضعيفهم، وخادمهم ومخدومهم، يُوجِب ألا تبقَى فجوة بين اثنين منهم ينفُذ إليها الغضب أو الإيذاء النفسي أو البدنيّ لأحد منهما.(/1)
فإذا وجب على السيدة أن ترُدَّ الأمانة إلى خادمتها السابقة، فعليها كذلك أن تعفوَ عنها في مواجهتها أو تستسمحها إن كانت قد أغلظَتْ لها القول أو تحاملت عليها في نصحها إيّاها بشدة.
وعندئذٍ تكون قد أرضَتْ ضميرها وأرضتْ الله، وتكون أيضًا قد قدَّمت من فعل الخير ما يُحسَب لها في حياتها ولأولادها كذلك. إذ فعل الخير هو العمل الإنساني المهذَّب، وهو وحده الرصيد الذي يقي الإنسان شرور الحياة وأزماتها.
ففي حديث لابن عمر ما معناه: أن ثلاثة أشخاص وقَعوا في مأزق وحرج، فذكروا بعض أعمالهم الخيِّرة ودعوا بها الله، ففرَّج الله عن كل واحد منهم كُربته، وأزال عنه الحرج الذي وقع فيه.
وأحد هؤلاء الثلاثة كان لديه عامل أجير.. فخرج العامل وترك أجره لدى صاحب العمل. فما كان لصاحب العمل إلا أنَّه نمَّى هذا الأجر وأصبح يتمثَّل في عدد من البقر، بعد أن كان يتمثل في عدد من كيلات الأرز. وبعد سنوات عاد العامل ليستوفِيَ أجره فأرشده صاحب العمل إلى البقر ليأخذها. فظَنَّ العامل أنه يستهزئ به. ولكنّه أكَّد له أنَّه لا يستهزئ به فأخذ البقر ورحل.
فلا أقلَّ الآن من أن تُرَدَّ الأمانة، ويصحَّح وضع العَلاقة السابقة.(/2)
152 ـ موظَّف يأخُذ رِشوة ممَّن يتعامَل معهم بحكم وظيفته.. وقد أراد بعض المتعامِلين معه مقاطعتَه في عَلاقتهم به. ولكن قيل لهم: لا تقاطِعوه، فإنَّ الذَّنب عليه وحده، علمًا بأنَّ كلَّ مَن يدفع إليه الرِّشوة يُجبَر عليها بحكم صلة العمل. فما الحكم؟
الجواب:
سؤال السائل هنا يتضمن أمرين:
الأمر الأول: تناول الرِّشوة، وإعطاؤها لموظَّف عام.
الأمر الثاني: موقف المتعامِلين مع الموظف المرتَشِي: هل يقاطِعونه كوسيلة لردِّه عن الرشوة، أم يتركونه وشأنه اعتمادًا على أن تناوله الرِّشوة يقع وزرها عليه وحده؟
أما عن الأمر الأول فالآية صريحة في تحريم الرشوة، سواء في تقديمها أو أخذها.
وهذه الآية هي قوله تعالى: (ولَا تَأْكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلَمونَ) (البقرة: 188).
فهي تحرِّم:
(1) استخدام المال الخاصّ أو المال العام لإفساد الآخرين من أصحاب السلطة.
(2) أو من أجل غُنْم بعض المكاسب المادِّية تحت ظل القانون؛ لأن وظيفة المال وظيفة اجتماعية أي لصالح المجتمع والكلِّ، وليس لإفساده أو إفساد بعض أفراده. ومن هنا أجاز الإسلام سحب الأموال الخاصة التي يستخدمها أربابها ضد مصالح المجتمع، وتحويلها إلى أموال عامة على أن يُعطَى منها أربابُها نفقاتِ معيشتهم، دون أن يُساء إليهم بالقول، فضلاً عن أن يُساء إليهم بالفعل؛ لأنَّ قضيتَهم هي قضية تصرف خطأ في مال منفعته للجميع. وذلك هو ما يقوله الله تعالى: (ولاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوالَكُمُ التِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيامًا. وارْزُقُوهُمْ فِيهَا واكْسُوهُمْ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعروفًا) (النساء: 5).(/1)
فقد نسبت الآية أموال السُّفهاء إلى المؤمنين وعبَّرت عنها بـ"أموالكم" مما يُفيد أن المال في الأمة وإن كانت ملكيّتُه خاصّة فوظيفته عامّة، ومنفعته للجميع، بدليل قول الآية بعد التعبير بـ (أَمْوالكُمُ التِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيامًا) (النساء: 5).. فوصفت الأموال المنسوبة إلى المؤمنين جميعًا ـ وفي حقيقتها هي مِلْك خاصٌّ ـ بأنَّ فيها قِوامَ الجميع ومعاشهم.
والرِّشوة لصاحب السُّلطة في الوظيفة العامة هي إفساد له ـ فالمُعطي لها كالقابِل إيّاها، شارك في الفساد. وفساد الموظَّف في وظيفته العامّة لا يقف عند شخصية، إنما يمسُّ المصلحة العامة كلها، وهي مصلحة الناس جميعًا فإذا أعطيت الرِّشوة بُغية الحصول على بعض المكاسب المادِّيّة في ظل القانون أو باسمه فإنها عندئذٍ تكون قد ارتبطت بكسْب حرام، هو في واقع أمره سرقة مُقنِعَة من الآخرين معه في المجتمع.
وإذن كذلك مَن أعطي الرِّشوة لهذا الغرَض، ومَن قبلها لتحقيق هذا الغرض، يكون قد انحرف في وظيفة المال، مع علمه بهذا الانحراف. (وتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلَمونَ) (البقرة: 188).
أمّا عن الأمر الثاني: وهو موقِف المتعامِلين مع الموظَّف المرتشي ـ وقد اتضح أن الرِّشوة منكَر وحرام فالحديث الشريف القائل: "مَن رأى منكم منكَرًا فلْيُغَيِّرْه بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلْبِه وذلك أضعفُ الإيمان" يحدِّد هذا الموقف. أدنى المواقف التي ذكرها الإنكار بالقَلْب. ومعنى الإنكار بالقلب عدم التودُّد إليه، أو الابتعاد عنه.
ولا يغيِّر المواقف التي حدَّدها هذا الحديث القول بأنَّ الوِزْر على المخطئ وحده، وهو الذي يتحمّل نتيجة خطأه. وهذا لا يؤثّر على علاقة المتعاملين معه.(/2)
نعم.. جريمة الرِّشوة ليستْ جريمة شخصية، وإنَّما هي جريمة اجتماعيّة؛ لأنَّها لا ترتبط بمنفعة المال العامة. ومن شأنها أن تؤثر في توجيه الموظف. وعلى استقامة توجيه المال وتوجيه الموظف في الدولة يتوقف بقاء نظام المجتمع متماسكًا. وإذن الوزر في جريمة الرِّشوة يتعدَّى المُعطي والقابل، إلى المتودِّد للمرتشي نفسه.
هذه هي نظرة الإسلام ـ فيما أرى ـ إلى جرائم المال. ولكنها مشروطة بحُسن توزيع المال في المجتمع، وبحُسن رعاية بيت المال لأفراده.(/3)
97 ـ أنا فتاة عمري ثمانية وعشرون عامًا، مُصابةٌ بعقدة نفسية خوف.. ووهم.. ووسوسة.. ووجع في الرأس.. وعدم زواج. وقيل لي: إن علاج هذه الأحوال هي الزّار. وقد جرَّبت العلاج الرُّوحي وهو يَطُول. وأنا أريد علاجًا سريعًا.
الجواب:
جاء الإسلام ليحدِّد طريق الإنسان في واقع الحياة.. ويدفع عنه طريق الخرافة.. والإيمان بالأوهام. ومن أجل ذلك حرَّم صورًا عديدةً مما كان يدعيه بعض الناس في الجاهلية من معرفة المستقبل، فحرَّم التنجيم.. والكِهانة.. والعِرافة.. وضرْب الحَصا على الرمال.. وحرَّم التشاؤم بحركات الطير.. كما حرَّم الغِيلان ـ أي العفاريت ـ فيُرْوَى مسلم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "لا عدوَى.. ولا غُول.. ولا صفر".. والغُول واحد الغيلان. وكانت العرب تعتقد في نَوْع من الجن والشياطين تظهر للناس بصور شتَّى تُضِلُّهم عن السبيل.. وتهلكهم. والحديث بنهيه عن الغُول والاعتقاد فيه ينفي حقيقته، ويؤكِّد أن لا شيء من ذلك في حياة الإنسان.
ومعنى هذا أن طريق الحياة مفتوح للناس.. وأن لا عقبة فيه سوى ارتكاب الخطيئة.. وأنّه لا شيء يُقَيِّد حركة الإنسان في طريق الحياة، غير نفس الإنسان ذاته.
فإذا آمَن الإنسان بهداية الله ـ وفي مُقَدِّمة هذه الهداية: عدم الإيمان بمؤثِّر خارجي وبفاعل غير الذات في حياة الإنسان، سوى الله وحده ـ استنارَتْ نفسه واندفع بقوة الإيمان إلى العمل الجِدِّي.. والحركة الإيجابية في حياته.. ونَحَّى عنه الوَساوِس، والأوهام، والخُرافات.(/1)
و"الزار" كوسيلة من وسائل العلاج النفسي ـ كما يُدَّعَى ـ يقوم على الاعتقاد في الغيلان ـ أي في العفاريت ـ وعلى اتصالها ببَدَن الإنسان وتقييد حركتِه، ودفعه إلى خطر الأوهام والوسواس. وهو اعتقاد باطل يُحرِّمه الإسلام تمامًا وما يأتي به مَن يُعمل له الزار من الحركات العصَبِيَّة والهستيرية يأتي بها، وهو واقع تحت تخدير الوهم وحده. وكذلك الراحة النفسية التي يتصوَّر أنه يُحِسُّ بها بعد التعَب من هذه الحركات هي راحة يلعب فيها الاعتقاد الباطل دَوْرًا رئيسيًّا.
وقد امتنَّ القرآن الكريم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهدايته إياه إلى الإيمان به وحده. إذ كانت له هذه الهداية سببًا في انشراح صدره وتفاؤله في الحياة، رغم الصعاب والمَشقّات في طريقه فيها. فيقول له: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).. وفي سورة الانشراح هذه أوضح له مبدأ رئيسيًّا في حياة الإنسان وهو أن العُسْر فيها ليس مُنْعَزِلًا عن اليسر. بل في الوقت الذي تشتدُّ فيه الأزمة يكون اليسر والفرج، فيقول سبحانه: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5 ـ 6).
وعلاج صاحبة هذا السؤال: هو في التوكُّل على الله، والثقة فيه وحده، والإيمان بهدايته: (وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولاَ الإيمانُ ولَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52).(/2)
72ـ الزوج غير المُتديِّن وسوء مُعاملته لزوجته
سيدة من القاهرة تحكي أنها مُتزوجة لمَا يقرب من خمسةٍ وعشرينَ عامًا.. وأنها أنجبت ستَ بناتٍ أكبرهنَّ سِنًّا تبلغ العام الواحد والعشرين، وأصغرهن تبلغ السبع سنوات، وتقول: كلهن على دينٍ وخُلقٍ، ومُلتحقات بمَراحل التعليم المختلفة.
... وعندما دخلتْ بزوجها عرفت أن أسرته ليست مُحافظة، وليست أيضًا على خُلق وقد كان هو واحدًا منها، ولكن هداه الله، وهو الآن مُتديِّن لدرجة أنه الْتحَى، ومع ذلك يَسُبُّ الدين، وإذا لم يُعجبه الطعام رمَى به إلى الأرض.
... والحياة الزوجية معه شاقَّة من أول الأمر، ومُتعبة، ولكنها صبرت حتى تقوم برعاية بناتها، خوْفًا مِن أن يُصبحوا مثل أهل والدهم، ومع صبرها تُحِسُّ بالحياة قاسية، فهو دائم الشِّجار معها بسببٍ وبدون سبب، وفي أيِّ وقت، وإنْ كان وسَط الليل، فهو لا يَهمُّه الوقت ولو استيقظ الأولاد في فزَع وفي رُعب، وفي أثناء الشجار يُسيء إليها، وإلى أهلها ويُعلن احتقارها أمام الناس، فإذا حدَث شجار مع الجيران وقف بجانبهم ضدَّها ويُسيء إليها أمامهم.
... وفوق هذا لا يقوم بواجباته كأبٍ، فلا يُحاول مساعدتها في تربية الأولاد، فهي وحدها التي تذهب إلى المدارس وتقوم بحلِّ مَشاكلهم وحدها دون عونٍ منه.. وإذا كلَّمتْه بشأن ذلك سمع منها ولم يُجبها بكلمة، وإذا أخطأت بنت من البنات وذكَرت له خطأها: إما لا يُجيب أو يجيب بكل استهتار فيقول: هذه تربيتك، وهي مثلك، ولا يُعطيها من المال ما يكفي، رغم أنه مُوظَّف وله عمل إضافي.(/1)
... وهذا الموقف منها خلَق بالنسبة لأهله جوًّا مشحونًا بالإهانة والاستهتار بها وبأولادها إلى درجة أن أُخته حاولت الاعتداء عليها بالضرْب، كما اعتدتْ بالفعل على ابنتها الكبرى بالضرب في الشارع وأهانتْها وقذفتْها بأنها وأخواتها أولاد حرامٍ، وعندما حدَث ذلك والزوج لم يُحرك ساكنًا فقدت أعصابها وبالتالي احترامها له ولأهله معًا، فإذا تشاجَر معها وسبَّها وسب أهلها قامت على الفور بسب أهله كذلك. وكانت مِن قبل تخشاه فلا تردُّ عليه.
... وهي تريد أن تعرف: هل ردَّها عليه وسبَّها في أهله؟ وبالأخصِّ أنها لا تَملك أمر نفسها أمام احتقاره لها ولأهلها، وأمام ادِّعائه بأنه لم يُنجب أولادًا، كما قال لها وهو في شِجار معها.
... كما ترجو أن نُحدد لها الحلَّ لمشكلتها. فزوجها يقول لها: لا أُسامحك. وهي تسأل مَن الذي يُسامح الآخر، إذ إنها ترى أن الاعتداء واقع عليها هي.
... وتُغادر رسالتها بالتنويه بأنها تقوم بجميع أعمال المنزل، حتى صيانة الكهرباء والخياطة، لأهله ولأجانبَ عنهم، في سبيل المُساعدة على نفَقات المنزل.
إن السيدة السائلة تشكو مِن عدَّة أمور في علاقتها مع زوجها، تشكو ضمْن ما تشكو:
أولاً: عدم احترام زوجها لها.. تشكو إهانته لها وإهانة أهلها معها بالسبِّ والشتائم عندما يقوم الشجار بينهما، وكثيرًا ما يقع.
ثانيًا: كثرة الشجار معها في العلَن: أمام البنات.. أمام الجيران.. وفي الوقت المتأخر من الليل.
ثالثًا: عدم الاهتمام بالمنزل ونفقاته .. عدم الاشتراك معها في توجيه البنات الست، وفي شئون تعليمِهنَّ في المراحل المختلفة.
رابعًا: تعرُّضها: لإهاناتِ أخواته بالشتائم والاتهامات الباطلة والاعتداء أحيانًا عليها، بعدم الوقوف بجانب الحق معها أو مع الأخريات.
خامسًا: سبُّه للدِّين.. وإلقاءه الطعام على الأرض، إذا لم يُعجبه.(/2)
واحترام الزوجة مِن احترام الزوج نفسه.. ومِن حقوق الزوجة على الرجل: أن يُوفِّر لها زوجُها كرامتها: في نفسه.. وبين أولاده.. وفي أهله.. ومِن حقوق الزوج على زوجته أن تُوفِّر له كرامته واحترامه.. فلا تُعرِّضْه للإهانة، فضلاً عن أن تُباشرها بنفسها معه، فالمرأة والرجل خُلِقَا من طبيعة واحدة، وهي الطبيعة البشرية، ولذا كان اعتبارها البشري مُساويًا أحدهما للآخر.. ولذا كرَّم الله الإنسان فيقول في كتابه المجيد: (ولقدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدمَ وحَمَلْنَاهُمْ في البَرِّ والبَحْرِ ورَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ علَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). (الإسراء: 70).. فإنه يكرم الرجل والمرأة على السواء. ...
والزوج الذي لا يَحفل بكرامة زوجته فيُعرضها للإهانة، وكثْرة الشجار معها في إطار الأسرة، وفي خارج هذا الإطار مثل هذا الزوج لا يحفل بكرامة ذاتِه.
على أن تربية الأولاد ـ والبنات على الخصوص ـ تقضى بعدم وُقوع الشجار للوالدينِ أمامهم؛ لأنهم عندئذ سيتحزَّبون في أنفسهم إمَّا للأب، أو للأم، وفي حال البنات يتحزَّبْنَ للأم، وبذلك تنقسم الأسرة إلى جناحين، بدلاً من أن تبقى وحدة مُتماسكة بالإضافة إلى ما يجدُّ في نفوس الأولاد من كراهة المُثير للشجار من الوالدينِ، وحسب ما تشكو منه السيدة السائلة: أن المُثير للشجار هو الزوج وهو الأب هنا.
وقيام العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة يَنتظر منه الإسلام قيام الاطمئنان، والمودة والرحمة بين الزوجينِ، فالزوج يجب أن يكون مُؤنسًا للزوجة، والزوجة كذلك بالنسبة له، وليس التوحُّش، ولا النُّفْرة، ولا الشجار، والخلاف المُتكرِّر.. يجب أن يكون الزوج مُتودِّدًا لزوجته، ورحيمًا بها، ومعنى قيام المودَّة المتبادلة، وُجود العطف المتبادل، والرعاية المتبادلة، وأما الرحمة المطلوبة في العلاقة الزوجية فتكون أولاً بأداء الحقوق لكل من الزوجينِ.(/3)
إن عدم احترام زوج السائلة لها أدَّى في النهاية إلى عدم احترام الزوجة له، وهي تأسف إذِ اضْطُرَّتْ إلى النزول في مجال الإهانة والسباب والشتائم لتكيل له الكيْلَ بكيلينِ، وتتناول أهله كما يتناول أهلها.. وإذا تغلَّب الانفعال على الزوجين في الشتائم والاتهامات فأيُّ شيء يبقى لهما معًا صاحب قُدسيَّة، في علاقة أحدهما بالآخر؟ أيُّ شيء سيَذكُرانِه معًا، ويُعَدُّ من مَحاسن الحياة المشتركة بينهما؟ لا شيءَ إطلاقًا. ...
... وهي تسأل رأي الإسلام في الإهانة التي تُوجِّهها لزوجها ردًّا على الإهانة المُوجهة منه إليها، فالإسلام إذْ يَدعوها إلى أن تُوفر الاحترام لزوجها، وتَبتعد عن السباب والشتائم، ماذا يكون الوضع لو أجابت بأنها لا تستطيع أن تُسيطر على انفعالاتها بعد ما ترك لشقيقاته الحبل على الغارب في إهانتها.. وفي الاعتداء على البنت الكبيرة، وفي الاتهام بالباطل بأن الأولاد مِن حرام.. وبعد أن يُشارك هو الجيران في إهانتها لو وقَع احتكاكٌ بينها وبينهم؟
... إن الزوج إذ سَبَّ دينه، وأهان نِعمة الله فرمى طعامه على الأرض، بحاجة إلى أن يُراجع علاقته بالله، ويتوب في عزْم مُؤكَّد إلى الله ـ سبحانه وتعالى.
... وإذا راجع علاقته بالله فسيُراجع علاقته بزوجته وبأولاده، ويعود إلى طاعة الله فيما يأمره به وفيما يَنهاه عنه في هذه العلاقة.
... والطلاق ليس حلًّا لمشكلة السائلة، بعد تفاقُمها إلى هذا الحدِّ، فإذا ذهبت الزوجة إلى أهلها ماذا تكون الفائدة التي تعود على بناتها من هذه الفُرْقة.. وماذا يعود على الزوج كذلك مِن فائدةٍ يجنيها بعد خروج الزوجة من مسكن الزوجية؟
لتتقي شقيقاتُ الزوج اللهَ في أسرةِ شقيقهم، في زوجته.. وفي أولاده.
وليَرجع الزوْج إلى الإيمان بالله فهذا أعظم شيء للإنسان في حياته .. وليَخرج من السلبية التي يَعيش فيها، وليتوكَّل على الله وسيَجِدُ الله في عوْنه.(/4)
أما الزوجة فيجب أن تلتزم ما كانت تلتزم به مِن قبل حِيال الزوج، يجب أن تترفَّع عن الإهانة له، بالقول: وبالاتهام، فلَدَيها بناتها سيَتَّخذْنَ منها قدوةً في المستقبل، عندما يُكوِّنونَ أسرًا مُستقلة.(/5)
79ـ عندما تَستضعف الزوجة زوجها
ثلاث مُكاتبات مُتشابهة تكاد تُعبِّر عن مشكلة واحدة للسائلين فيها:
مكاتبة مِن: مواطن من الإسماعيلية يشكو من أن زوجته وهي قريبة له ـ تقسو على والدته في المُعاملة رغم كِبَرِ سِنِّهَا ورغم أنه استخدم معها كما يقول: طريق الذوق.. وطرق الهَجْر في الفراش.. وطريق الضرب.. وكل ذلك لم ينجح معها، ثم يذكر أنه لا تُصلي وتستعلي عليه، على حين أنها مِن أسرة فقيرة، ولم تتعلَّم نهائيًّا، ويسأل عن رأي الدين إذا تزوج عليها، وعن طلاقها إذا طلبت الطلاق.
ومُكاتَبة ثانية من مواطن بدمنهور: يشكو مِن سوء مُعاملة زوجته له، وعدم استجابتها لمَا يطلبه منها كرجلٍ وامرأةٍ، وتسخر منه عندما يقرأ القرآن في المصحف، وتُعلن له: أن "بَخْتها أسود، ونَصيبها زِفْت" ولا تريد أن تعيش مع أهله، ويسأل عن حكم التنزيل في قِوامة الرجل على المرأة، وفي إدْبار الزوجة عن زوجها إذا أقبل عليها.
والمكاتبة الثالثة من مواطن ببني سويف: ويشكو من أنه تحت ضغط زوجته وشقيقتها ترك القرية وفيها والده وانتقل بزوجته للسكْنى في المحافظة، وهو يحسُّ بغضب والديْه عليه؛ إذْ إنه العائل الوحيد لهما، كما يشكو مِن أن زوجته لا تحترم له كلمة، ولا تقوم بعمل شيء في المنزل إلا إذا لفَت نظرها إليه، وتُنغِّص عليه المعيشة وتُنكِّد عليه الحياة، سواء برفْع صوتها أو بمَسلكها وموقفها من والديه، وهو يسأل الآن: ماذا يفعل وهو يحسُّ بغضب والديه، ويعيش مع ذلك في عذاب وجَحيم مع زوجته؟(/1)
مشكلة هؤلاء السائلين أن زوجاتِهم لا يوفرْن لهم الاحترام، ولا يُقبلن عليهم كأزواج يقومون بالمسئولية الزوجية في نظرهن، وعن عدم احترام الزوجة لزوجها لا تهتم في كثير أو في قليل بشئونه الخاصة، ومِن شئونه الخاصة: رعاية والديه، فضلاً عن الإقبال عليه والاستجابة لرغباته العاطفية معها.. فضلاً عن تنسيق المنزل والعمل على راحة السُكْنَى فيه، والسعْي إلى بقاء زوجها معها فيه، وعدم مُغادرته إيَّاه رغبة في اللقاء بأصدقائه في الخارج.
... إن الزوجة التي تَحترم زوجها تحسُّ بما يُرضيه قبل أن يُعبر عنه.. وتعمل على تحقيقه قبل أن يطلب منها.. وتُعلن رضاها عمَّا يباشره من عمل ـ أيِّ عمل ولو كان غير مقبول لدَيها أصْلاً ـ وتودُّ عدم مُفارقته إيَّاها ولو لوَقت قصير، ويُمكن أن يُقال: أن لدَيها حاسَّةً سادسة تكشف بها ما يُرغبه زوجها وما لا يرغب في صمت، ويتجلَّى إخلاص الزوجة عندما تُحِسُّ في قرارة نفسها باحترامه.
... فإذا لم تحترمه تُهمل أمره أو تتراخى في الاستجابة لمَا يطلبه. فإذا زاد عدم احترامها له تَسْخر من قوله ومِن فعله على السواء.. وهنا تَبتدئ الكراهية له أو يَبتدئ في نفسها الاستِخفاف به، وبمُرور الوقت تتحول الكراهية، أو يتحول الاستخفاف به إلا الانتقام منه: أولاً مِن أهله وبالأخصِّ مِن والديه: تُسيء إليهما بالقوْل، وبالإيذاء النفسي بدل الإحسان المأمور به إليهما، وثانيًا بالانتقام منه، بالتنكيد عليه في كل أمرٍ تافهٍ.. وفي إثارته بفعل كل ما يُغضبه، ويُنغِّص عليه الحياة، وهي تعرف على وجه التأكيد: ما يُثيره وما يُغضبه.(/2)
... وكأمارة على الاستخفاف به: أنه لا تنفعل عندما يُهددها بالطلاق أو بالزواج عليها؛ إذْ إنها في عُمق نفسها لا تُبقي عليه، وكأمارة على الاستخفاف به كذلك: أنه إذا أحرَجها باللفظ البذيء وأهانها بالكلمة المُسِفَّة، تَكيل له الإهانة أضعافًا مضاعفة. وإذا اعتدى عليها بالضرب اعتدتْ عليه بالبصْق وبالحذاء.
والزوجة يَقِلُّ احترامها لزوجها أو تَفقده إذا كان بَخيلاً.. أو إذا كان لا يستطيع مُعاشرتها كزوج مع زوجته.. أو إذا كان مُستعليًا ومُستكبرًا عليها في غلْظة.. أو إذا كان غير مُهذَّب في سلوكه وفي مُعاملته لها.. أو إذا كان مُدمنًا للشرب، وواقعًا تحت تأثير العادات المُستقبحة، فيَسوء خُلقه وتضعف أعصابه. وبالجملة إذا خرج عن مستوى الإنسانية الذي يُؤهله لأن يكون رائدًا في أسرته، وصاحب قوامة فيها.
والسائلون الثلاثة هنا يلجأون إلى الإسلام كي يُعيد لهم احترام زوجاتهم إليهم، والإسلام إذ يقول بقوامة الرجل، عندما تَذكر الآية الكريمة: (الرجالُ قَوَّامونَ على النِّساءِ بمَا فَضَّل اللهُ بعضَهُمْ على بعضٍ وبمَا أَنْفَقُوا مِن أمْوَالهمْ). (النساء: 34).. فإنه يُقيِّد هذه القوامة بأمرينِ:
بإنْفاق المال.. وبالأهلية في الصفات الإنسانية التي تعدُّه لها. وفي مُقدمة هذه الصفات ما يُوفِّر الاحترام للزوج مِن زوجته وأهله. وإذا لم يَتوفَّر لهؤلاء الأزواج ـ كما يبدو مِن الشكاوى المرسلة منهم إلينا ـ الاحترامُ مِن زوجاتهم لسبب أو لآخر، فالإسلام لا يُعيد بإبداء رأيه هنا إلى فاقِد الاحترام مِن الآخرين احترامَهم له، وإنما الأمر الذي يُعيد إلى هؤلاء الأزواج الثلاثة احترام زوجاتهم إليهم هو مراجعتهم لعلاقاتهم بينهم وبينهنَّ. ووضعها مِن جديد على الأُسس التي أقام عليها الإسلام صلاحية الرجل للريادة في أسرته، وهي فضْله على الصفات الإنسانية واستطاعته إنْفاق المال.(/3)
... أما الطلاق فقد شُرع في الإسلام لإنهاء الضرر الذي لا يَحتمله الزوج أو الزوجة، أو هما معًا، فالرجل إذا تضرَّر كان له أن يُطلق، والمرأة إذا تضررت كان لها أن تَخْتلِعَ. والضرر الذي لا يُحتمل في المعاشرة الزوجية يُحدده المُتضرِّر من الزوجينِ، وله خطوط عامة في الفقه الإسلامي تُبرز معالِمه.
... وأما الزواج بثانية فقد رخَّص به الإسلام وِقايةً للرجل مِن الوقوع في الزنا.. إذِ الأمر يدور في الحياة الإنسانية بين الترخيص بتعدُّد الزوجة مع المسئولية المُعلنة صراحةً عن الزوجات، وبين منْع التعدُّد وإباحة الزنا مع غير واحدة للرجل، إذا كانت تُسيطر عليه الغريزة الجنسية، بحيث لا يَكتفي بامرأة واحدة في مُعاشرته للمرأة، والإسلام يُؤْثر تعدُّد الزوجات على إباحة الزنا مع زوجة واحدة، كما هو الوضع في المجتمعات الغربية المعاصرة ولم يُرخص الإسلام أيضًا بتعدد الزوجات للعناد أو التحكم.. أو التهديد للزوجة القائمة.
... والنصيحة للسائلينَ إذنْ أن يُراجعوا علاقاتِهم بزوجاتهم أولاً، ويُبعدوا عنها ما يُسيء إليهنَّ، وعلى وجه التأكيد سيَرون من زوجاتهم كل إقبالٍ وكل رغْبة في الإحسان إليهم وإلى آبائهم وأمهاتهم.(/4)
91 ـ زوجة مُتمردة على قضاء الله بسبب زوجها
كتبت إحدى المواطنات تقول إنها تبلغ الآن الخامسة والثلاثين من العمر، ومتزوجة منذ خمسة عشر عامًا ولها أربعة أولاد من هذه الزيجة، ولم تستمتع بالعلاقة الجنسية مع زوجها، منذ أن دخل بها حتى الآن، وتخشى أن تقول له أو لأحد غيره، وقد طلبت بعد سنتينِ من زواجهما أن يَبتعد عنها إلى الأبد، فرفَض، وكثيرًا ما تَرفض الآن طلبه.
ثم تذكر أنها مسلمة ومتديِّنة. وتشك في بعض الأوقات في قبول صلاتها وصيامها عند الله؛ لأنها ليست مستقرة نفسيًّا، ولو كانت من غير زوج كانت نفسها مطمئنة، وكثيرًا ما تكون في حالة غير طبيعية بعد الاستحمام مُباشرة، وتسأل:
ماذا تفعل لتطمئنَ على صلاتها وصيامها؟(/1)
إن السائلة في صراعٍ نفسيٍّ مع "القدَر" بسببِ الزواج مِن زوجها الذي تعيش معه الآن، منذ خمسة عشر عامًا، فهي لم تَسترح إليه منذ البداية، وعلى حدِّ تعبيرها: "لم أرتحْ معه في وقت الجِماع".. وأول صورة ظهرت لهذا الصراع: أن طلبت منه بعد سنتينِ مِن الزواج أن يَبتعد عنها إلى الأبد، وما زالت ترفض طلبه في كثير من الأوقات. ...
ثم ظهر هذا الصراع النفسيُّ الداخليُّ مع "قدَرها" في هذا الزواج في صورة الشكِّ في قَبول عبادتها لله، من صلاةٍ وصيام، فهي تُسائل في نفسها "قدَرها" لماذا يا رب ربطتَ مَصيري في الزواج بهذا الرجل الذي لا أستريح إليه في الجانب الذي تحلم بالاستمتاع به كل فتاةٍ وكل امرأة؟ إنه لم يُضيِّع على شبابي فحسب، إنه أتى مني بأربعة أولاد سأظلُّ في خدمتهم، وفي رعايتهم، وبذلك أظل مُرتبطة بهم إلى ما شاء الله.. إلى ما بعد سِنِّ اليأس وفوات الأوان، دون أن أستمتع بشبابي وبأُنوثتي في علاقة زوجية مَشروعة عند الله؟ ...
هذا التساؤل النفسيُّ " لقدَرها" هو الذي يُوحي لها بالشك: في أن الله لا يَقبل صلاتها، ولا صيامها، في بعض الأوقات، فهو ينطوِي على عدم التسليم والرضاء بقضاء الله وقدَره، ومَشيئته في كوْنه، ولذلك تقول: "لو كنتِ مِن غير زوج كانت نفسي تستقرُّ".. فالزوج مركز تَعاستها وخيْبة أملها في العشرة الزوجية وبالتالي في تردُّدها في قبول قضاء الله، وفي شَكِّها في أن الله لا يقبل لها صلاة ولا صيامًا. ...
وتخرج عن الوضع الطبيعي ـ وهو وضع الاتزان ـ بعد الاستحمام مباشرة أي بعد مُعاشرة زوجها لها، إذ هي عندئذٍ تكون أكثر سخطًا عليه، وعلى قدَرها في زواجه، وفي هذه الفترة بالذات يَقْوَى شكُّها، وربما يَميل بها إلى اليأس مِن الحياة فهي قابَ قوسينِ أو أدْنَى مِن اليأس المَرير، لولا أنها مُتديِّنة وتَعبدُ اللهُ حقًّا. ...
وصِراعها مع "القدَر".. هو صراع نفسيٌّ.. ومستمر.. ويَشتدُّ أمره على النفس(/2)
الإنسانية فيها، عندما تُلزم مِن زوجها بقبول طلبه منها، وتنتهي منه بالاستِحْمام، وما أعلنته لزوجها بعد السنتينِ الأوليينِ مِن الزواج: بالابتعاد عنها إلى الأبد كان إعلانها هذا هو الوسيلة التي تَرْجوها لإنقاذها ممَّا قُدِّر لها في هذا الزواج، لو استجاب زوجها إلى ما طلبتْه منه، إنها عندئذ كانت ستَعيش لأولادها الأربعة وحدهم، وتتغاضَى عن عيب زوجها وربما تنساه. ... ...
لكن أن تظل من وقت لآخر: تحْمل على ما تكرهه فيه، فتذكر "قدَرها" مِن جديد، وما أتى به من إساءة إليها، كما تعتقد، فإنَّ ذلك سيَصل بها إلى الهاوية، إنَّ بزوجها عيْبًا لا شكَّ فيه، ربما يجوز فسْخ عقد الزواج بها، لو تمسَّكت بحقِّها فيه. ...
ولها بسبب ذلك أن تُكاشف زوجها ولا تخشاه، إذْ ربما يستجيب لطلبها المؤقت ويكفُّ عن الحاجة إليها، طالما تَتضرر بعِشْرته والاتصال به، وعندئذ تبقى بينهما مهمة مشتركة، وهي مهمة الأولاد في تربيتهم وتنشئتهم، وعليه بعد المكاشفة أن يتوجه إلى طبيب مختص، فقد يكون الشفاء في مَشورته له، وبذلك يعود وضْعه طبيعيًّا ويستأنفَا الحياة الزوجية معًا.(/3)
أما اطمئنانها على قبول الأداء للعبادة من صلاة وصوم عند الله، فيعود إلى مُحاولتِها تخفيف العبء النفسيِّ عن أعصابها المُتوتِّرة، ولا يكون إلا بالإيمان "بالقدَر" كله.. خيره.. وشرَّه.. على السواء، فالله له نِعَم كثيرة، ولا يُعطيها جميعها لواحد مِن الناس: ذكرًا أو أنثى، وإنما يُعطي بعضها لواحد ويَحرمه من باقيها، فمثَلاً في زواج السائلة ربما كان يُعطيها رجلاً تستمتع به، يَجذبها وتنجذب إليه في عاطفة قوية، ولكن يَحرمها من الأولاد.. أو يحرمها من الصحة.. أو يُضيِّق عليه في المال.. أو يجعل منه زِيرَ نساء: يَميل إلى هذه المرأة الأجنبية عنه في لحظة، ثم يَميل إلى أخرى في لحظة أخرى، على مرأى ومسمعٍ مِن زوجته.. وهكذا، ومِن هنا ما يُقدِّره الله للإنسان، خيرٌ في واقع أمره، وإنْ بدَا أنه شرٌّ. ومِن هنا ينهَى الإسلام عن سبِّ "القدر" ولعْنه، فما يقع في الكون هو مِن الله وبإرادته. ...
فإذا آمَنت "بالقدَر" خيره وشره: استراحت نفسيًّا، وعندئذ إنْ أدَّت فريضة الصلاة أو الصوم، تؤديها وهي هادئة النفس، ومِن ثَم تلقى الله في صلاتها وصيامها وهي راضية مرضية. ...
نعم : إنَّ مِن شأن الطبيعة البشرية، إنْ فات الإنسان شيءٌ من المُتَع المادية في الحياة، أنْ يأسف على ما فاته ويندم، وربما يحزن على ذلك وربما يكون عدم حصوله على هذه المُتعة خيرًا في واقع الأمر، وإنْ لم يَرَهُ.. وإنْ لم يُدركه في حِينه. فالأيام ربما تُريه في المستقبل، كيف أنه كان من الخير لهذا الإنسان: أنْ فاتتْه المُتعة المادية في ذلك الوقت وتجارب الحياة وحدها هي التي تُعلِّم الإنسانَ.(/4)
158 ـ وظيفتي مراجعة عمل غيري من الموظَّفين فإذا أبلغت عن خطأ حدث الضَّرَر لصاحبه، وإذا سكَتُّ عنه لا يُرضي ضميري هذا السُّكوت، فماذا أصنع؟
الجواب:
إن السائلة بمراجعتها عملَ غيرها من الموظَّفين عليها مسؤوليّة أعظم من مسؤولية زملائها وزميلاتها. ليس مسؤوليّة اكتشاف الخطأ فقط. وإنَّما في واقع الأمر مسؤولية القضاء بين طرفين: أحدهما شخص الموظَّف، والطرف الآخر المجتمع وواجبه.
والطَّرفان ليسا في منزلة مُتساوية. بل أحدهما ـ وهو المجتمع وواجباته ـ يفضّل بكثير الطرف الآخر وهو الشَّخص ووظيفته.
والقضاء بين الطَّرفين معناه المحافظة على مصلحة كل منهما. وهذا بدوره يؤدِّي إلى أن التغاضي عن مصلحة أيٍّ منهما يلحق حتمًا الضَّرَر بالطرف الذي يتغاضى عنه. ثم يمكن أن يؤولَ الأمر هنا إلى أن الضَّرَر بسبب التغاضي عن طرف من الطرفين لا ينجو منه الطرف الثاني الذي رُوعيَتْ مصلحتُه وحده.
إن الموظَّف الذي يُهمل في واجب المصلحة العامة ـ وهو واجبه الذي يؤدِّيه ـ يتسبَّب في إلحاق الضَّرَر بهذه المصلحة.. أي يتسبَّب في إلحاق الضَّرَر بعدد لا يحصَى من الناس وهم مَن يعود عليهم أداء الواجب بالمنفعة ويَلحق بهم الأذى والضَّرَر في حالة عدم أدائه.
وإذا عاد الضَّرَر بسبب أداء الواجب العام للآخرين فإنَّهم بدورهم لا يستطيعون، أو هم يُهملون ـ أو يُماطلون على الأقل ـ في أداء ما عليهم من حقوق. وهي تلك الحقوق المقترنة بأداء الواجب لهم. وعندئذٍ يتوقف أداء الحق من قِبل الناس كما توقف من قبل أداء الواجب عند إهماله من الموظَّف.
وهذا الوضع المزدَوج في عدم الأداء يترتَّب عليه تعطيل التبادُل في المنفعة بين الأفراد من بينهم مَن قصَّر في أداء الواجب. والآخرين كذلك الذين لم يستجيبوا إلى أداء الحق عليه، بعد أن أحسُّوا بالإهمال في أداء الواجب نحوهم. والضَّرَر الناتج حينئذٍ يشمل الموظّف المقصِّر والآخرين من الناس الذين أصابهم تقصيره.(/1)
وهنا دور المراجع لعمل غيره من الموظَّفين ـ كما هو وضع السائلة ـ هو في واقع الأمر دور الحَريص على استمرار تبادل المنفعة بين أفراد المجتمع. ولا يمكن استمرار تبادُل المنفعة هذه إلا إذا كان حرص المراجع على ذلك يتبلور في "العدل" وعدم غَبن أحد الطرفين اللذين هما الشَّخص الموظف، والمصلحة العامة للآخرين ـ والعدل هو في تنبيه المخطِئ لخطئِه، سواء عن إهمال أو قصد. وهذا التنبيه له درجات من لَفْت النظر إلى توقيع العقوبة حسبما تكون درجة الخطأ، وآثاره، والبواعث عليه إلى غير ذلك مما تنصُّ عليه لوائح العمل بين الموظَّفين في نظام الإدارة.
إن الإسلام يرى أنَّ كل فرد في قيادة المجتمع، أو في الأسرة أو في الوظيفة العامة راعيًا ذكرًا أو أنثى، وأنَّ كل راعٍ مسؤول عمّا يجب عليه من رعاية لحق نفسه ولحق الآخرين.
والوظائف ـ إذن ـ في درجاتها المختلفة هي مستويات من الرعاية، ومستويات من المسؤولية.
والتقصير في التنبيه إلى الخطأ، كمباشرة الخطأ والإتيان به، هو: إخلال بمستوى الرَّعيّة وإخلال أيضًا بالمسؤوليّة الشخصيّة.
وهنا ـ إذن ـ وراء مصلحة الموظَّف المخطئ، ووراء عدم إرضاء ضمير المراجعة في هذا السؤال ـ إرضاء الله. ولا يَتِمُّ إرضاء الله إلا بالعمل على إحقاق الحق وتنفيذ أداء الواجب. وإحقاق الحق وأداء الواجب أمانة وعهد ومن صفات نجاح المؤمن في حياته وفي قَبوله عند الله ونجاح المؤمنين في مجتمعهم رعاية الأمانة والعهد، كما تقول الآية الكريمة: (والذِينَ هُمْ لأماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ) (المؤمنون: 8).(/2)
88 ـ رجل يقول: تزوَّجت منذ سبع سنوات ولم أُنجب أولادًا، وصبَرْتُ، عازمًا على عدم السعي والبحث عن السبب، متمسِّكا بقول الله تعالى: (للهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِناثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإِنَاثًا ويَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) (الشورى: 49،50) ولكن أقاربي يلِحُّون في العلاج لدى الأطِبّاء. وأنا لست مستريحًا لهذا. فما الرأي؟
إن إرادة الله ـ جلَّت قدرته ـ التي تتمثل في أن يهَب من يشاء الذكور أو الإناث، أو يهَب من يشاء النوعين منهما معًا، أو يكُفَّ عمَّن يشاء، فلا يهبه ولدًا إطلاقًا، ويجعله غير منجِب للأولاد.. هذه الإرادة هي الإرادة التي تتمثّل أيضًا في أن يكون إنجاب الأولاد عامة بمعاونة المختصِّين في الطب.
فالطبيب فيما يفعله، إن قدِّر له النجاح، لا يخلق ولدًا ـ ذكرًا أو أنثي ـ وإنَّما يُعين فقط على إزالة العقبات والموانع العضويّة التي تحول دون إنجاب الولد من اختلاط ما للرجل وما للمرأة: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) أي من أخلاط ممّا للرجل والمرأة معًا (الإنسان: 2).
والطبيب بهذا لا يتدخل في إرادة الله، وإنّما يساعد ـ لا غير ـ على تنفيذ هذه الإرادة لله في خلقه، وفي استمرار نَسْل الإنسان في حياته على الأرض.
ولكن الطبيب الذي يساعد على تنفيذ إرادة الله، هو ذلك الذي يؤمن بالله، وهو الأمين على أسرار الله في خلقه، والحريص على القداسة والطُّهر في علاقة الزوج بزوجته، وعلى أن يكون نسلُهما ناشئًا من علاقة بعضهما ببعض الشرعية، وليس من تدخُّل أجنبي ثالث بينهما، كما هو: شأن التلقيح الصناعي من غير ماء الزوج.(/1)
ولذا يشترط فقهاء المسلمين في الأطِبّاء الذين تُعتمد خبرتُهم بعد أن يجوِّزونها أن يكونوا من المؤمنين بالله، وليسوا من الملحِدين أو الكافرين، وأن يكونوا أمناء ـ ليس في معاملتهم فحسْب، وإنما في خبرتهم مع ذلك ـ ثم أيضًا ممَّن عُرِفُوا كذلك بين الناس بالخبرة والأمانة.
والدين إذا كان يرى أن الكون كلَّه لله، والتدبير والفعل فيه لله، فما لله في هذا الكون من خلق، وتدبير، وفعل، يتمثَّل في قوانين عامّة للمجتمعات في قيامها وسقوطها، وللإنسان في تصرفاته وأفعاله. فالمجتمعات التي تُمعن في الترف والملذّات والمتع المادِّيّة ولا تراقب حق الله فيها، وهو حق الضعفاء والمحرومين في الحياة.. هي مجتمعات قدر لها ـ حسب إرادة الله ـ السقوط اليوم أو غدًا؛ لأنَّ الله في إرادته التي تتمثل في قانون عام هنا، لا يُبقي على مجتمع بشري يَعيث في الأرض فسادًا، بسبب ترفُّه وازدهار حياة كبرائه ورؤسائه، الاقتصاديّة: (وإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيةً "أي مجتمعًا" أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا "أي أمرنا فيها المترفين" فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16).(/2)
وكذلك الإنسان له مشيئة في التصرُّفات في دائرته وفي المحيط الذي يعيش فيه. ولكنّه مرتبط في هذه التصرفات بقانون عام يمثل إرادة الله في حياة الإنسان. هذا القانون هو أن الله لا يُعين أحدًا من الناس على ما يباشره من عمل، ولا ينصره على عدوٍّ نال ـ أو يُنال منه ـ إلا إذا كان هو مستقيمًا فيما يباشره من عمل. واستقامة الإنسان هي في اتباع هداية الله. وهداية الله أن لا يكون الإنسان لنفسه فحسْب، وإنَّما لذاته ولغيره. ومعنى ذلك أن من يتَّبع هداية الله لا يظلم غيره، ولا يعتدَّى عليه، ولا ينتهك حُرُماتِه. وهنا كان الضمان له فيما تقول الآية: (أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ "وهم المتَّبعون لهدايته والمتوكِّلون عليه" لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ "أي لا في الدنيا ولا في الآخرة") (يونس: 62).
وهنا يتَّضح الآن: أن إنجاب الأطفال يخضع لإرادة الله العامة. وفعل الطبيب هو داخل هذه الإرادة العامة. وليس خارجًا عنها، ولا مناوئًا لها.
والرأي ـ إذن ـ أخذ مشورة الطبيب المختصِّ والأمين. وليس هناك أيُّ حرج في هذا؛ لأنه من إرادة الله.(/3)
38ـ بين الأب وصَغيرته
مُعَذَّبة من إحدى المحافظات، عمرها إحدى عشرة سنةً وأربعة أشهر، تذكر قصتها من واقع رسالتها فيما يلي:
"حبَّةُ عيني اليسرى تُؤلمني جدًّا. وأسناني كادت تقع، على أثَر قلمينِ من كفِّ أبي الثقيلة، كادت تُفقدني الوعْي ولا ذنْبَ لي، الذنب كله أن أبي اعتاد يُقبلني منذ الصغر. فهو كل ما يَراني يأخذني في غُرفته، ويقف علي الباب، ويَحملني على أرْجله، ويَحْضُنني.. ويُقَبِّلُني مِن فمي، حتى أنه يأخذ شَفتاي في فمه ويُخرجهما "مُوَرَّمَتَيْنِ".. وأنا أتضايق من هذه العادة حتى ضاقتْ بي الحياة وكرهت نفسي.. وكرهتُ أبي.
"ونَصَحَتْه والدتي وقالت له: إنني كبرتُ. وهذه الأشياء ستجعلها تنْحرف. فلم يستمع إلى نصيحتها. وقالت: إن هذه الأشياء حرامٌ.. مع أن أخي أصغر مني لا يَقْبَلُه.. وهو مواظب على قراءة مجلة "الشبَكة".. و"سمَر" وعنده مجموعة من الصور الخليعة يَحتفظ بها في مكتبه".. ...
ثم تسأل: ما رأي الدِّين في هذا الأب الشاذ؟ ...(/1)
من الشائع لدَى بعض علماء النفس: أن البنت تَميل إلى أبيها أكثر من مَيْلها إلى أمها.. وأن الأب أيضًا يميل إلى ابنته أكثر ممَّا يَميل إلى ابنه. ويُحاولون: أن يجعلوا ذلك قاعدةً أو قانونًا من قوانين علْم النفس.. ويُفسرون، هذه الظاهرة كأثر من آثار الغريزة الجنْسية، فهي تدفع الأب نحو ابْنته.. والبنت نحو أبيها، ولكن ذلك تفسيرٌ مُبالغ فيه. وقد كان شائعًا في وقت من الأوقات. وكان يُروِّجه بعض العلماء اليهود لتوجيه الشباب نحو "الجنس".. والالْتفات إلى علاقة الذكر بالأنثى.
والأولى أن تُعتبر هذه الظاهرة من الأب هنا نحو ابنته الصغيرة: ضرْبًا من "الشذوذ".. كما تحكي السائلة في رسالتها. ومعنى أنها ضرب من الشذوذ: أنها ليست قاعدة، ولا ظاهرة نفسية عامة من الظواهر التي لا تتخلف في حياة الإنسان: أي إنسان. ...
فالأب هنا يحتفظ بمجموعة من الصور الخليعة في مكتبه.. ويُواظب على قراءة "الشبكة" و"سمر".. ويترك "مجلة الدعوة" ـ وهي تأتي إليه بانتظام ـ إلى زوجته؛ لأنها متدينة. فهو يميل إلى الجانب المكشوف..يَميل إلى الخروج بالمداعبة إلى الناحية التي تمسُّ حياء الأنثى. كما يفعل هنا مع ابنته في ارتشاف فمها وأخذ شفتيها داخل فمه يَمصُّهما.. إلى أن يَتورَّمَا، كما تذكر صاحبة الرسالة. ...
فالصور الخليعة.. والمجلات الماجِنة المُثيرة للشباب في سِنِّ المراهقة إثارةً جنسية تُؤثر عليه، بحيث تجعل منه إنسانًا غير عاديٍّ، وهو الإنسان الشاذ، وإذن ما تشكو منه السائلة هو انحراف في طبيعة الأب ربما يَتولد عنه انحراف في خُلق البنت، عندما تدخل مرحلة المراهقة. وهي على عتَبتها الآن. كما قد يتولَّد عنه انحراف في عادات الأب نفسه فتتحول لدَيه عاطفة الأبوة نحو ابنته.. إلى عاطفة "شهوة". تدفعه إلى أن يشتهيها كأنثى.. وهذا التحول فعلاً قد وقع في بعض العلاقات بين الآباء والبنات، وبين الأمهات والبنين في مُجتمعات أخرى.(/2)
والقرآن يجعل الأولادَ مصدر فِتْنةٍ للوالدينِ ويُنبه لذلك، ويُحذِّر من العواقب السيئة إذا تحقَّقت. كما يجعل الأموال كذلك مصدر فِتْنة لمَن يملكونها:(إنَّمَا أمْوالُكمْ وأولادُكم فِتْنَةٌ). (التغابن:15). وفِتْنة الأولاد في الدرجة الأولى: أن يطغى آباؤهم بقُوتهم وعصبيتهم. وقد يَطْغَوْا بالمَيْل نحوهم فيُدلِّلونهم. وبذلك يُسيئون إلى تربيتهم.. أو تتحول عواطف الأبوَّة أو الأمومة إلى عواطف الشهْوة نحوها: فيَعشق الأب ابنته.. وتعشق الأم ابنها. ...
ومِن هنا كان "الاعتدال" في التعبير عن الميْل نحوهم هو الذي يَنصحُ به الإسلام فعَن طريق الاعتدال يتجنَّب الوالدانِ: التطرُّف في محبَّة الأولاد والميْل نحوهم.
وما تَشكو منه السائلة هنا من أبيها يجب أن يتجنَّبه إلى غير رَجْعة له.. يجب أن يَنسلِخ عن هذه العادة كليَّةً مهما كان حُبُّه لها. إنه بما يفعله معها الآن يضع نفسه موضع الاتهام، حتى لقد شاع أمره بين المُقرَّبين منه، عدَا أسرته.. كما يضع نفسه على الطريق الذي ينتهي به حتْمًا إلى تصرُّفٍ غير سليم، نحو نفسه.. ونحو ابنته معًا. ...
إنه يدَّعي أنه بهذَا الصنيع يُعبِّر عن حُبِّه لابنته. ولكنها هي تأخذ منه سببًا لكراهيته وبُغْضِه. والحب لا يكون من طرفٍ واحد، وإلا كان اغتصابًا، إذا فاز مَن يُحب وحده بمَن يحبها، دون أن تُشاركه عاطفته. ...
إنَّ تخيلاته التي تُداعبه بعد الاطِّلاع على الصور الخليعة وعلى المجلات الماجنة يَحمله على أن يتخذ من ابنته موضوع تجربةٍ لها.. ويَسير بذلك في طريقٍ مُعوجٍّ.
وأولى به إذا كان قد أرسلَ لِحْيته تعبيرًا عن تديُّنه: أن يُواظب على الصلاة.. ويُشعل مجموعة الصور العارية والخليعة لدَيه في النار.. ويكفَّ تمامًا عن إدخال المجلات الماجنة إلى بيْته، فضلاً عن قراءتها. وبذلك يكون قدوة حَسنة لأسرته وأولاده.. ويكون أبًا صاحب توجيه سليمٍ.(/3)
88 ـ أُمٌّ تأكل ما يجب أن تُطعم به أطفالها
مُواطنة بأحد الأحياء بالقاهرة تَستنجد من جارتها في المنزل ـ وهي أم لطفلينِ صغيرينِ، والولد منهما ورضيع، وهي تحكي أن الأم تُعذِّب طفليها بعدم إطعامهم وبضَرْبهم لكي يَناموا، مع أن زوجها مُتَيَسِّرٌ، ويحب أولاده جِدًّا، ولا يعلم ما تفعله الأم مع طفليها ولا يُقصر في علاج الأولاد، إنْ هم كانوا مرضى.
وتقول السائلة هنا إنها تحدثت مع الأم كثيرًا ونصحتها في شأن معاملة طفليها، ولكن بدون جدوى، وتُرسل إليها من وقت لآخر ما تُطعم به الطفلينِ ولكن سرعان ما تَلْتهمه هي، دون ولدَيها، وتسأل الآن:
هل عليها وِزْرٌ أمام الله إنْ هي استمرت في السكوت ولم تُكلِّم زوجها بما يقع مِن أمهما؟
إنها تخشى إنْ هي كلَّمتْه أن يَضربها؛ ولأنها لم تُنجب أطفالاً تَعبت أعصابُها مِن هذه الأم القاسية.
حكمة الله في إعداده لطبيعة الإنسان، إنْ كان الإنسان أبًا أو أمًا، فقد أوْدع في طبيعة كل منهما مِن العطف والحنان على أولادهما، ما قد يتجاوز في بعض الأحيان دائرة المصلحة لهؤلاء الأولاد، فمِن المبالغة في عطف الوالدينِ وحنانهما يَتدلَّل الأولاد.. وتعبَث الأولاد وتَنحرف عن الطريق السويِّ والسلوك المستقيم لأيِّ إنسانٍ يُنتظر له النجاح في الحياة، ومِن المبالغة في عطف الوالدينِ وحنانهما قد يُصاب الأولاد بأمراض الإفْراط في الأكل، أو الإفراط في السهر وعدم النوم، أو الإفراط في علاقات الصحبة مع الآخرين أو الأُخريات في سِنِّ الشباب، والمراهقة، أو الإفراط في الإهمال لأداء ما يجب أداؤه كالإهمال في أداء الصلاة، والصوم، أو الإهمال في مُراجعة الدروس والتردُّد على المدرسة.(/1)
... ومَصائب الأولاد،، وحوادثهم، وتخلُّفهم في السلوك أو الدراسة، يعود في الأكْثر إلى مبالغة آبائهم وأمهاتهم في محبتهم، وفي حنانهم، وعطفهم عليهم، وسُوء معاملة الأولاد لآبائهم وأمهاتهم، بالقوْل أو بالفعل، أو بالحرَكة يرجع كذلك إلى تلك المبالغة في عواطف الآباء والأمهات نحو أولادهم.
... ومن أجل عاطفة الأبوينِ على أولادهما عاطفة قويَّة في وُجودها واستمرارها في طبيعة الإنسان: لم يُوصِ القرآن الوالدينَ بشيء ما في جانب الأولاد، سوَى نُصحهما بعدم الافتتان بهم، فيقول ـ تعالى ـ: (إنَّمَا أموالُكمْ وأولادُكمْ فِتْنَةٌ). (التغابن: 15).. ومعنى الفِتْنَة: الإغْراء: والخداع، فيكون المال سببُ غُرور مالِكِه وخداعه، ويكون الولد سبب غرور الوالدينِ وخداعهما وبالغرور والخداع ينحرف صاحب المال، ووالد الولد فيَستغني صاحب المال بماله عن الآخرين أو يَنحرف عن خطِّ الهداية الإلهية، ويترك الوالد لولده: الحبْل على الغارب، فلا يلتزم بقانون أو خُلق، في السلوك مع مَن معه وفي مُعاملاته لهم.
... فإذا لُوحِظ في وقتٍ ما: أن عاطفة الأم نحو أولادها ضعُفتْ أو انعدمت فذلك يعود إلى شُذوذٍ في طبيعة الأم التي ضعُفت أو انْعدمت عاطفتها نحو أولادها، فجارة السيدة التي تُؤْثر نفسها بأكل طعام طفليها ـ وليس الطعام مِن إعدادها وإنما هو هِبَةٌ من جارتهاـ وتعتدي عليهما بالضرب والإيذاء كي ينامَا، وتُهمل في رعايتهما إهمالاً تامًّا: هي شاذة بين الأمهات، لسببٍ هو سِرٌّ في حياتها.
... كيف تخلَّت هذه الأم عن روح الأُمومة؟.. كيف تخلَّت عن خصائص الأنوثة في المرأة؟.. كيف تخلت عن معنى الزوجية وارتباطها بزوجها؟.. فخصائص الأنوثة في المرأة: الرِّقَّة.. والميْل الإنسانيّ، والتردُّد فيما يُؤلم الغير.. وخصائص الزوجية والارتباط بالرجل، العمل لإرضاء الزوج، والحرص على راحته، وتوفير الاطمئنان له.(/2)
... هذه الأم عدوةٌ لنفسها قبل أن تكون عدوة لزوجها، وقد جاء في قول الله ـ تعالى ـ: (إنَّ مِن أزواجِكُمْ وأَولَادِكُمْ عَدُوًّا لكمْ). (التغابن: 14). فوَضع القرآن أمام الأزواج: احتمالَ أن تكون الزوجة عدوًّا لزوجها، فقد تكون عداوتها في خيانتها له مع غيره ـ وقد تكون في الوِشاية به لأعداء السُّوء أو أعداء الأمة.. وقد تكون في شُذوذها في أمومتها لأطفاله وأولاده، وعداوة الزوجة لزوجها، أو عداوة الزوج لزوجته مِن أشدِّ العداوات وأقْساها على أيٍّ منهما.
... إنَّ هذه الأم، والزوجة في الوقت نفسه، ليست أَمينة على أولادها، وزوجها، إنها فقدت رُوح المسئولية نحو الأولاد، والزوج معًا، والجارة السائلة يجب عليها وُجوبًا شرعيًّا: أن تُبلغ زوج هذه المُعتدية بما تُباشره مِن تعذيب لطفليها وتجويعهما وبالأخصِّ الرضيع منهما، ولا تَخشى إطلاقًا مِن أن يَضربها، فسوف لا تُحسُّ بضربه إيَّاها؛ لأنها لم تُحسّ مِن قبل بآلام طفليها عند تعذيبهما.
... إنها فقد روح الأمومة.. وروح الأُنوثة.. وروح الزوجة، فماذا بقى لها مِن خصائص الإنسانية؟ إنها تلتهم أكْل أبنائها أمام أعْيُنهم وهم جِياعٌ، فما الفارق بينها وبين الحيوان عندما يَنطح ابنه، منْعًا له مِن مشاركته فيما يأكل؟ والتي تَحبس "الهِرَّةَ" دون أن تُطعمها ليست بأَغلظ ولا بأكثر وحشية عند الله، مِن تلك الأم التي ليس لها قلب.. ولا دين.. ولا إنسانية، في مُعاملتها لطفليها، فلْتَنتظر مَصيرها عند الله، وهو نارُ جهنم.(/3)
67ـ الزوج في بُخْله
سيدة من القاهرة تتحدث عن زوجها فتقول إنه رجل طيب الأخلاق والقلب.. لا يَكذب.. ولا يسرق.. ولا يغشُّ.. يخاف الحرام.. يُصلي ويصوم.. وقد وافقني على أن أرتدي الزيَّ الإسلامي حيث أني سيدة متدينة كذلك، ولي منه طفلانِ ونعيش في محبة وسلام.
... الذي أشكوه منه أنه بخيلٌ.. فهو بخيل عليَّ وعلى أطفالي وعلى أقاربه كذلك "فهو يتقاضى راتبًا شهريًا مائة وعشرين جنيهًا، ولكنه لم يدخل يومًا ما على أطفاله بقِطعة شيكولاته، ولا باكو بسكويت.. ولا يشتري لنا فاكهة أكثر من 2 كيلو برتقال، ولا يَشتري لنا الموز على الإطلاق ويشتري في الشهر لنا أربعة كيلو لحمة، ومن الفراخ اثنين: لي، وله، والطفلين. أما بالنسبة للملْبس فهو مقصر كثيرًا. ويدَّخر نقوده في البنك، ثم اشترى قطعةَ أرضٍ، وأنا محتاجة إلى فستان وأولادنا مُحتاجون أشياء كثيرة، ويُقسم أنه يفعل هذا مِن أجلنا وأنه خايف يموت ويتركنا من غير شيء نتَّكلُ عليه بعده" وتسأل: ماذا تفعل؟ إنه طيب وشريف ومتدين ولكنه بخيل وهذا يُعكِّر على حياتي.
... لقد أحضرتُ له سورًا من القرآن الكريم تنهى عن البُخل وأحاديث كذلك، ومرة أخرى أزعل وأغضب وأواجهه بعنف، ومرة أكلمه بوُدٍّ وأقول له: أنا متربية في بيت كله كرَم.
... والشيء هو إني أخاف عليه مِن عذاب يوم القيامة ومِن غضب الله بسبب هذه الصفة، فما رأي الدين؟
أما الزوج ـ كما تقول السيدة زوجته في الرسالة فليس مُقتنعًا بأنه بخيل، ويرى أنها تريد أن تَحمله على الإسراف والتبذير.(/1)
هل للزوج عادات سيئة؟ هل يشرب الخمر؟.. هل يدخن؟.. هل يرتكب فاحشة الزنا ويُنفق على النساء في سَعة بينما يُقتِّر في الإنفاق على أهل بيته؟.. هل يلعب الورق؟.. هل يشارك في سَبَقِ الخيل؟.. إن الرسالة تنطق باستقامته، وبحُسن خلقه، وبطيب قلبه، وبأنه لا يكذب، ولا يسرق .. ولا يغش.. ولو كان بخيلاً لأحبَّ جمع المال، وفي سبيل جمعه يُبيح لنفسه الكذب والسرقة.. والغش..
... إن السيدة السائلة تُنحِّي فضائل زوجها جانبًا.. وهي عديدة ومُشرفة، وتقف عند رغبته في ادِّخار جزء من مرتبه لمستقبل حياتها وحياة طفليها منه.. وتصف رغبته في الادخار بالبُخل.. وربما جدِّيته في الادخار تُفقده المرونة في أبواب الإنفاق.. وتُظهره بخيلاً جامدًا، فهو ثابت فيما يُنفق فيه، ممَّا يُعَدُّ من الأمور الضرورية للمعيشة في الوقت الحاضر، فهو لا يشتري مرة قطعة من الشيكولاتة، ولا كيلو من الموز ـ كما تقول ـ لأن أسعار مثل هذه المأكولات في الوقت الحاضر أصبحت فوق مستوى أصحاب الدخل المحدود بكثير، وكذلك لا يتجاوز عدد أربعة كيلو من اللحْمة ولا عدد الاثنين مِن الفراخ في الشهر للزيادة في أسعارها بما يخرج عن طاقته الشرائية.
... وقد اختلطتُ بأسرٍ لبنانية وسورية وفلسطينية في مصر هنا، وفي لبنان وسوريا فكان ممَّا وقفت عليه من أسرار في هذه الأسر أنها تشتري اللحمة بالأُوقية وليس بالكيلو، كما نفعل نحن هنا في مصر، ومع ذلك تُحسُّ بنعمة الله عليها في المعيشة، ولا تشكو من القُصور في شيء.(/2)
والبخل مفهومٌ يختلف فيه هنا الزوج والزوجة، فلو كان الزوج يُقصر في شأن نظافته ونظافة أولاده أو المسكن الذي يَسكنه يُعدُّ بَخيلاً، ولو أنه يقصر عند مرضه أو مرض زوجته أو أحد أولاده، فلا يَستدعي الطبيب إلى المنزل أو يستشيره في عيادته لعُدَّ حقًّا بخيلاً، ولكن زوجته تعدُّه بخيلاً إذا لم يُنفق في سعة على الهدايا التي يُقدمها إلى أقربائها، ورَدًّا على الهدايا التي يُقدِّمونها لها ولأولادها.. تعدُّه بخيلاً إذا أجابها بأنه لا يودُّ تبادُل الهدايا مع أقربائها أو مع غيرهم.
لو أن الزوجة تعدُّ حسنات الزوج التي ذكرتْها في رسالتها في مُقابل ما تصفه فيها بأنه بخيل، لرجَحت حسناتُه على سيئةٍ له هي البخل، وبُخله أمرٌ مشكوك فيه، يجب أن تَحمد الله على أن وفَّقها لرجل، وزوج، وأبٍ ، ورب أسرة مثل رجلها الذي تخشى عليه من عذاب يوم القيامة، بسبب بُخله، وفيما أعتقد سيَعفو عنه الله.
... وعلى الزوج لكي يتفادى الخلاق مع زوجته حول ما تصفه به من البخل يجب أن تكون لدَيه مُرونة فلا يقف ثابتًا دائمًا حول الرقم الذي يدخره شهريًا بل يُمكن له أن يتحسَّس رغباتِ الزوجة والأولاد فيما يَشتهونه من طعام، أو فيما يرغبون فيه مِن مَلْبوسات ويَستجيب في شهر للبعض.. وفي شهر آخر للبعض الآخر.. وهكذا: تدور حركة الإنفاق، إذْ في النهاية: ما يدخره هو للزوجة والأولاد.. وما يُنفقه زائد عن رقم الادخار المُحدَّد هو كذلك للزوجة والأولاد، ووظيفته معهم أنه يَنقل أجْره من يدٍ إلى يدٍ أخرى.
... وربما يكون من صفات زوج السائلة: أنه لو سُئل عن رغبةٍ خاصة له في الأكْل.. أو في الملْبس: لا يُبدي رغبةً ما في شيء، مُؤثرًا زوجته والأولاد فيما يُنفقه مِن مُرتبه.(/3)
... ويُحمد للسائلة: أنها ذكَرت زوجها بالخير كل الخير، في الوقت الذي وصفتْه فيه بالبخل، وهي مَرجوة كذلك ألا تُضيِّق عليه الخناق بتكرار هذا الاتِّهام، وهي إذا كانت قد نشأت في بيت أهلها في سَعة وكرم ـ كما تقول ـ فالحياة تختلف عُهودها ومراحلها، والأفراد يختلفون في تكْوينهم وعاداتهم.(/4)
95 ـ الصراع الطبقي لحلِّ المَشاكل الاجتماعية
هل يُنكر الإسلام الصراع الطبقي كحلٍّ لبعض المشاكل الاجتماعية؟
الإسلام لا يَعرف قبَلِيَّةً، ولا تَفْرِقَةً عُنصرية أو شعوبية، ولا طبقية ولا طائفية؛ ولذا كانت دعوته هي دعوة التوحيد، أي هي الدعوة إلى الله وحده فوق الوُجود كله وصفاته تعالى هي: "المُثُل العُليا التي يجب على الإنسان المؤمن به أن يسعى في عبادته إيَّاه: أن يُحاكيَها في حياته ويتقرَّب منها بالاقْتداء بها.
والرباط الذي يَربط به بين المؤمنين جميعًا هو رباط الإنسانية في مُستواها الواضح بما يُسميه القرآن الكريم: بحبل الله، كما جاء في قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً "عن طريق الإيمان بالله وحده" فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا). "في الإيمان وفي مستوى الإنسانية واعتبارها". (آل عمران: 103).
والأُخُوَّةُ في الإيمان والإنسانية هي أُخوَّة المحبة المُتبادلة.. وأخوة التعاون والتضامن وإذا فرَّقتِ الخصومة بسببٍ مِن الأسباب بين اثنينِ فيَجب أن يَعُودَا إلى هذه الأُخوة ليُعالجوا منها أسباب الخُصومة والقتال إنْ وقع بينهم يومًا مَا.
والصراع الطبقيُّ هو خُصومة بين مجموعتين في المجتمع تنشأ عن إنكار مجموعة لحقوق مجموعة أخرى في الحياة الإنسانية الكريمة وعن حِقْدِ ثانيتهما لأُولَاهُما بسبب الفجْوة الاقتصادية بينهما، أو بسبب ما يُسمَّى باستغلال أرباب العمل للطبقة العاملة في كدِّها وعمَلِها.(/1)
وكلما تغاضَى أرباب العمل عن أنصاف الطبقة العامِلة، كلَّما زاد حِقْدُ هذه الطبقة عليهم، وكلما مارست من أسباب التقويض والتخريب لمَصالحهم ما يَعود عليهم بالضرر الكبير، وكلما لا ترى إلا التضييق عليهم في الحياة والعمل على تجميدهم إنْ لم يكن على إفنائهم ونهاية الصراع الطبقي إذنْ كحلِّ مشكلة العمال هو إفناء أرباب العمل وتخليص المجتمع منهم.
بينما الإسلام يحلُّ مثل هذه المشكلة بالتذكير بالأُخوَّة بين المؤمنين: (إنَّمَا المُؤمِنونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بينَ أَخَوَيْكُمْ). (الحجرات: 10).
وكذلك بتوفير الاعتبار البشري لكلِّ فرد في المجتمع، ومِن أركان توفير هذا الاعتبار البشري احترام حقِّه في الحياة الإنسانية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ). (الحجرات: 11).
وبالأُخُوَّةِ والمحبة، وليس بالحِقْد .. وبالبناء والتعاون فيه، وليس بالتخريب والتقويض يحلُّ الإسلام مَشاكل مُجتمعه؛ ولذا يُنكر ما يُسمَّى بالصراع الطبقي، لا لأنه يتَّخذ الحقْد طريقًا؛ بل لأنه مع ذلك يرى الغايةَ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ.(/2)
139 ـ واحد يقول: لي إخوة وأخوات. وأنا وإخوتي الذكور نَلقى في البيت كلَّ عناية. أما البنات فلا. فهُنَّ يُسَخَّرْنَ للقيام بكل الأعمال لخدمتنا وخدمة البيت، بعد حضورِهِنَّ من الدراسة، مما يؤثِّر على تعليمهن، ويعرِّضهن لظلام الجَهالة. وأنا تعِس لرؤية هذه الحالة؟ فما الحكم؟
الجواب:
يُمكِن للسائل أن لا يكون تَعِسًا. وذلك بأن يشارك أخواتِه البنات في عمل المنزل، طالما يقصُر الدَّخل للأسرة عن أجر الخدمة المنزليّة، والسائل يكون حَقًّا صاحب عاطفة إنسانية نبيلة، لو وفَّر لأخواته البنات قسطًا من الراحة، كي يستطعن مباشرة استذكار دروسِهن في المنزل، بهذه المُشارَكة في أعماله. فليس من العيب في حكم العادة ولا من النقص في الرجولة أن يشارك الرجل في عصرنا الحاضر ـ وكذلك في كل عصر مضى ـ أمَّه، أو زوجته، أو أخواته، في خدمة المنزل، أو خدمة الأطفال، أو أصحاب الحاجة من المَرْضَى فيه.
ثُمَّ لسْتُ مع السائل في أن البنت ـ أو الولد ـ إذا اشتركتْ في الأعمال المنزلية، سَيَحُول ذلك بينها وبين استذكار الدروس أو عمل الواجب المدرسيّ في المنزل؛ لأن الأعمال المنزلية لأيّة أسرة مهما بلغت فهي محدودة. إذ البيت ليس مطعمًا، ولا فندقًا عامًّا، دائم الحركة وفي حاجة مستمِرّة إلى الخدمة.
على أن التفرُّغ للدراسة في المدرسة ليس هو قصر نشاط الإنسان على اليوم المَدرسيّ، وهو التردُّد على المدرسة، ثم فيما بعدُ عمل الواجب المقرَّر، أو استذكار الدرس في المنزل. وما يتخلَّل الدراسة ـ سواء في المدرسة أو في المنزل ـ هو فراغ، قد يشغل بلهو عابث، أو حديث لَغْو، أو بزيارة غير ضرورية. ولذا يمكن شغل جزء من هذا الفراغ بالمشاركة في العمل المنزلي.(/1)
ومفهوم التفرُّغ للدراسة، على أنّ نشاط الإنسان اليومي تُقصَر إيجابيته على العمل المدرسيّ، ويشغل ما تبقَّى بعمل غير مُثمِر ـ هو من مفاهيم الحياة الخاطئة التي ترسَّبت في عادات الشرقيِّين، منذ أن كان يتردَّد على المدارس من يُسمَّون بأولاد "الذوات" وحدهم. وهم أبناء المُترَفين في الحياة الشرقية. وحياة أسر "الذوات" كانت مليئة بالخدم "والحشم" ـ كما يقولون ـ ولذا لم تكن هناك حاجة لأي عضو في أسرة الذوات إلى العمل بالخارج، فضلاً عن المشارَكة في أعمال المنزل.
ومن التناقض في الحياة الشرقية المعاصرة ـ وفي مصر بالذات ـ أن يبقى مفهوم "العمل" الآن غير واضح، وأن تكون المشاركة في القيام بالخدمة المنزلية "سُخرة" تحرِم البنت أو الولد من التعليم، وتعرِّض مَن يقوم بها إلى ظلام الجَهالة، كما يذكر السائل.
إنَّ الإسلام لا يعرف في الإنسان إلا طاقتَه على السَّعي نحو العمل، ولا يقدِّر لديه ثروة إلا بمقدار ما له من نشاط فيه. وأنه يرى في أداء العبادة لله عاملاً مساعدًا لمَن يعبُد الله، على العمل، وليس عقبه في طريقها. حتى الصوم، الذي هو الحرمان من الأكل والشرب طَوال اليوم، يرى فيه الإسلام حافزًا على الأمانة، والرقابة الذاتية. والعمل في إتقانه وجودته، وفي كثرته في الكَمِّ، في حاجة ماسَّة إلى الأمين صاحب الرِّقابة الذاتية على ما يأتي به من تصرُّف أو فعل أو عمل.(/2)
وقد ربط الله في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ واذْكُروا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ) (الجمعة: 9ـ10). قد ربط في قوله هذا بين العبادة، والعمل من أجل الرزق والمعيشة، ليُوَضِّح أن العبادة تُضيف من صفاء النفس عن طريقها، عاملاً قَوِيًّا، على الدأَب في السَّعْي نحو العمل.
إنَّ السائل عليه أن يتعلم أولاً الجِدِّيّة في الحياة، ويترك الرخاوة في شغل الفراغ لديه. كما يجب أن يكون أكثر تفاؤلاً. فظلام الجَهالة لا يُخَيِّم إلا على الكَسول، المتراخِي، والمترَف اللاهي، وليس على الإنسان المُجِدِّ والمُسْهِم بعمله في خدمة نفسه وخدمة غيره.(/3)
102 ـ توفِّي أخي فحزِنت عليه، ولَبِستُ السواد، وزوجي يُعارض في لبس السواد ويكره تصرفاتي المُنبَعِثة من الحزن، وبسبب هذا حدث الخلاف والشِّقاق حتى كَرِهْتُ الإقامة في بيت الزوجية، بسبب إصراره على خَلْعِي السواد. ولم أقبل هذا؛ وفاءً لأخي. فما الرأي؟
إن السائلة أخت وزوجة. وإذا كان للأخ في حياته، أو عند مماته حقوق.. فالزوج له حقوق طيلةَ الحياة الزوجية. وأداء الزوجة لحقوقها أمر أساسيٌّ في بقاء الحياة الزوجيّة مطمئنة، وقائمة على المودَّة بين الزوجين. ومن المفروغ منه كذلك أن قيام الزوج بواجباته ضروري للحياة الزوجيّة المطمئنة.
والسائلة أصبحت زوجة، بالإضافة إلى أنَّها أخت. ومعنى ذلك: أن علاقتها الزوجيّة لا تُلغي أُخُوَّتَها لأخيها، ولكنها تتقدَّم عليها. وبالتالي رعايتها لمصالح زوجها وحقوقه مُقَدَّمة على رعايتها لمصالح أخيها وحقوقه؛ إذ الرابطة التي بينها وبين أخيها هي رابطة الدم. بينما الرابطة التي بينها وبين زوجها هي رابطة عَقْد له حقوق تُؤْخَذ والتزامات تُؤَدَّى، للمُحافظة عليه.
والسائلة في رعاية حق أخيها بعد وفاته ـ كما وصفت في سؤالها ـ تُبالغ في الحزن عليه.. وتنسى حقَّ زوجها عليها في أن تكون خير زوجة له. وخير النساء هي ما يتحدث عنها الرسول ـ عليه السلام ـ بقوله: "التي تسُرُّ زوجَها إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تُخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره".
السائلة تبالغ في الحزن على أخيها وتخالِف بذلك ما يوصي به الإسلام في هذا الشأن. فالإسلام يريد للحياة البشرية أن لا تتوقف لموت إنسان ما، يريد لها أن تسير إلى الأمام. ومَن مات فهو قد مضى، يُعتبَر بوفاته.. ويُدعَى له من وقت لآخر. أما الشؤم.. أمّا الحزن.. أمّا السواد.. أمّا البكاء فليس من صفات التقدير للميّت. إذ تقديره أن يُتَأَسَّى بصفاته الطيِّبة في حياته.. ويُسْتَغْفَر له اللهُ في أخطائه.(/1)
وقد أوصى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتعجيل بصلاة الجنازة على الميت، في قوله لعليٍّ ـ رضى الله عنه ـ:" ثلاث لا تؤخِّرها: الصلاة إذا أتَتْ، والجنازة إذا حضرت، والأيِّم ـ وهي التي لا زوج لها ـ إذا وجدتْ كُفُؤًا" وأوصى بالتعجيل بصلاة الجنازة حتى لا يُشغَل أهل الميت به طويلاً.. وحتى يتفرَّغوا بذلك إلى عملهم اليومي.
والعادات وحدها هي التي جعلت مراسم عديدة.. وسننًا مختلفة للتعبير عن الوفاء للميت. منها ذكرى الأربعين.. والذكرى السنوية.. ولبس الحِداد مدة من الزمن.. والامتناع عن مناهج الاستمتاع بمباهج الحياة فترة من الزمن.. وما شاكَل ذلك مما يجرُّ أهل الميت إلى الوقوف عنده.. وربما إلى الحياة معه في رؤيا المنام والتعرُّف على رغباته، والاستجابة له في صورة صدقة على أصحاب الحاجة.
والله يقول في كتابه هاديًا ومرشدًا في هذا الشأن، في وصف المؤمنين: (الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ "أي أنه هو الذي يتصرف فيها استسلاما له" وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ) (البقرة: 156). أي في آخرتنا. فالاستسلام لله عند المصائب.. والتغلب على هواجس النفس بعد الاستسلام إلى هواها هو موقف المؤمن بالله.
والسائلة أخيرًا تفرِّط في حق زوجها، ولا ترعى علاقتها معه بإصرارها على لبس السواد والحزن المُبالَغ فيه. وربّما كراهيتها لنصيحة زوجها تجرُّها إلى الزهد فيه فالطلاق. وعندئذٍ تفتِّش على أخيها فلا تجده إلا أنه قد تحوَّل إلى تراب لا تستطيع أن تقبض عليه بيدها.. ولا أن تأنَس بالنظرة إليه.(/2)
159 ـ ما الرأيُ في الموظَّف الذي بيده مصالح الجمهور، ويعوِّقها حسَب هواه ويتحكَّم في أصحابها؟
الجواب:
الموظَّف الذي بيده مصالح الناس هو موظَّف عام، أي أن عمله في وظيفته لمصلحة الناس جميعهم. وهو من أجل ذلك صاحب ولاية عامّة، يجب أن لا يرعى في أدائها إلا الحقَّ والعدل..
وصاحب الولاية العامة أمين عليها، ومسؤوليته فيها مسؤولية شخصية، على معنى أن أيَّ تقصير في توصيل الحق أو المصلحة إلى أصحابها يسأل عنه شخصيًّا، وأنَّ الأضرار التي تقع للناس بسبب سوء تدبير أو إهمال منه تعود عليه أولا: "كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيّتِه"
وهو لهذا إذ يباشِر وظيفته، يباشرها نيابة عن المجتمع أو الدولة، وليست مباشرته إيّاها منبثقة من مصلحة ذاتيّة، أو لغاية شخصيّة. وهى لذلك ـ أيضًا ـ ليست بحال شهوة وهوًى يتصرَّف فيها حسبما يشتهي وطبقًا لِما يرغب. فإذا هو باشر الأمر فيها حسب هواه فجزاؤه في الآخرة أشدُّ من جزائه في الدنيا.
يُروَى عن رسول الله ـ عليه السلام ـ قوله: "يؤتَى بـ"الولاة" يوم القيامة، فيقول الله ـ جلَّ جلاله ـ: أنتم كنتم رُعاة خَليقتي، وخَزَنة مُلكي في أرضي. ثم يقول لأحدهم: "أنت ضربْتَ عبادي فوق الحدِّ الذي أمرْت به. فيقول: لأنَّهم عصَوْك وخالَفوك. فيقول جلَّ جلاله: لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي!!.. ثمَّ يقول للآخر:
لم ضربتَ عبادي أقلَّ من الحدِّ الذي أمرْت به؟.. فيقول: يا ربّ!!: رَحمْتُهم، فيقول تعالى: كيف تكون أرحمَ منِّي؟ خذوا الذي زاد، والذي نقص فاحشوا بهما زوايا جَهنّم".
وهذا الذي زاد، وذلك الذي نقص عن الحدِّ المعيَّن في العقوبة إنّما زاد أو نقص عن "اجتهاد" كما يبدو من صيغة الحديث.(/1)
فكلاهما لم يَقصِد إلا التحكُّم، ولم يتَّبع الهوى. بل كلاهما قصد إلى إرضاء الله بما زاد، أو بما نقص. ومع ذلك كانت جهنَّم هي عقوبتهما معًا، لخروج كل منهما عن الحَدِّ المقرَّر للعقوبة ممّا يدلُّ على أن التزام حدود الوَظِيفة العامة في أدائها أمر لا ينبغي تَجاوُزه بحال فضلاً عن التغيير الجذريّ لطبيعة الوظيفة نفسها.
والذي يتحكَّم طبقًا لهواه في مُباشَرة الوظيفة العامة يقلِب طبيعتها رأسًا على عقب ويجعلها كأنَّها مِلك شخصيٌّ، تعود مصلحته عليه وحده.
على أن الذي يُباشر أمرًا شخصيًّا له، مرتبطًا بطرف آخر، يجب عليه أن يسلُك مسلك المصلحة العامّة في معاملة الطرف الآخر: لا يظلمه، ولا يعتدي عليه في حق له.
والموظَّف الذي يتحكَّم في مصالح الجمهور، ويعوِّقها حسَب هواه ـ كما ذكر السائل ـ يعتدي بتحكُّمه على مصالح الناس، ويُغَيِّر من طبيعة الوظيفة العامة التي يباشرها ويخون الأمانة فيها.
ولكنْ ربَّما كان السائل الذي يصوِّره الموظَّف العام بهذا التصور لحوحًا في طلب له عنده ينطوي على الهوى والغرض الشخصي. وعند رفض الموظَّف العام تحقيق طلبه، تخيَّل أو اعتقد ـ لغلبة الهوى عليه ـ أن الموظَّف يُعوق له مصلحتَه، عن طريق مباشرته الوظيفة العامة.
وليراجع السائل نفسَه أولاً وينصِف الناسَ من هواه قبل أن يطلب النَّصَفة منهم.(/2)
87 ـ بين والد وإخوة ترعاهم وزواجٍ تَنتظره
تكتب آنسة بإحدى المحافظات أنها مدرسة في مدرسة ابتدائية، وأنها ترعَى والدًا لها مُتقدِّمًا في السِّنِّ وإخوةً صغارًا في المدارس الابتدائية والإعدادية، وليس للأسرة دخل تعيش عليه سوى مُرتَّبها هي، وقد تزوَّجت مرة، وتُوفى زوجها قبل أن يدخل عليها، وفي حياة الزوج اتَّفقت معه على أن أي واحد منهما توفى قبل الآخر فلا يتزوج الآخر بعد ذلك.
... وقد وَطَّدَتْ نفسها على أن تعيش في خدمة أسرتها، وخدمة التعليم كمُدرسة وهي مُسْتَريحة من الوِجْهة النفسيَّة، ولكن بعض الناس يَنْصَحُها بالزواج؛ إذْ إن عدم الزواج يُخَالِفُ الطبيعة البشرية.. ومِن أجل ذلك يُحَرِّمُهُ الدين، وتسأل: هل الدين يُحرِّم مَسلكي هذا؟
الزواج في الإسلام ليس فرْضُ عيْنٍ، على معنى أنه ليس كل رجل.. وكل امرأة يجب أن تتزوج.. وإنما هو للقادر عليه: صحةً وإنْفاقًا. إذا كان رجلًا.. وصحة إذا كانت امرأةً.. وغايتُه النسل.. والمُتعة.. والسكَن.. والمودة.. والرحمة.
... والسائلة وَضَعَها القدَر بين مُهمَّتينِ إنسانيتينِ: مهمة رعاية أبيها الكبير وإخوتها الصغار من جهة.. ومهمة الحياة الزوجية إن قدِّر لها أن تتزوج من جهة أخرى، وهي بمُيولها وبما اتَّفقت عليه مع زوجها المتوفَّى، تُؤْثِر الآن: أن تكون بجانب أبيها وإخوتها، على أن تقبل الزواج لو تقدَّم إليها مَن يسعى إلى الزواج منها.
... وترحيبها بأن تكون رعاية أبيها وإخوتها: أمرٌ يُذكر لها بالتقدير، ويُعبر عن بعد نظرها في الحياة، فرعايتهم رعايةٌ لمهمة قائمة بالفعل، وإذا كان لا يُنتظر نفْعٌ شخصيٌّ لها مِن رعاية والدها فاطمئنانها النفسيُّ بأنها أدَّت واجبًا عليها لأعزِّ إنسان لدَيها كفيلٌ بأن يكون جزاءً لها، وإخوتها سيذكرونها بالخير والفضل، وسيَقفون بجانبها عندما تحتاج إليهم، لو أثمرت فيهم رعايتها.(/1)
... أمَّا أن تنتظر زوجًا ـ وربما لا يأتي ـ فقد يَخيب أملُها بعد عِشْرة قصيرة، وعندئذ يُساورها الندم؛ لأنها فقدَتْ شيئًا عندئذ كان في رعايتها وهو أبوها وإخوتها وكان محل أملِها ولم تحصل في مقابل فقْده إلا على الحُزن والندم.
إن المرأة بحُكم أُنوثتها تَميل إلى الأمومة، والأُمومة رعاية مَن يحتاجون إليها سواء أكان لصغير السنِّ أو لكبيره، فإذا وَجدت المرأة موْضعًا لأُمومتها ممَّن ترعاهم تكون قد استجابت لهذا المَيْل ـ وهو ميل الأمومة ـ عندها، وكأنها تكون قد اكتفتْ ذاتيًّا وقتئذٍ، وهذا هو السِرُّ في أن السائلة تحكي عن راحتها النفسية ببقائها في رعاية الأخوة الصغار، والأب الكبير، دون تطلُّع إلى الزواج، فمهمتها فعلاً قائمةٌ، وهي مهمة القيام بدور الأم في الاهتمام بأسرتها.
... والناس الذين يُشيرون على السائلة بالزواج ـ لأن عدم الزواج ضد الطبيعة البشرية، ومِن أجل ذلك يُحرِّمه الدين ـ هم يُشيرون عليها بذلك مِن واقع مُعيَّن، وهو واقع مَصلحتها الشخصية، وهم بهذه المشورة يُؤْثرون أن تكون أنانيَّةً، أيْ تنظر إلى مصلحتها وحدها، ولو كان تحقيق هذه المصلحة على حساب الأسرة المكوَّنة مِن إخوتها الصغار وأبيهم الكبير، كما يتأثَّرون بالعادة في المجتمع، وهي زواج المرأة خيْرٌ مِن وَحْدتها.
... نعم زواج المرأة خير من أن تظل وحيدةً، إذا قَيَّضَ الله لها الرجل الصالح الذي يَقِيهَا التعرُّض للأزمات وتملأ فراغ نشاطها برعاية أفرادها، فتفكيرها ووجدانها معهم.(/2)
... والأمر يدور الآن لدَى السائلة بين مُهمة هي مشغولة بها فعْلاً ـ ومهمة أخرى منتظرة: قد تأتي وقد لا تأتي، وهي حياتها الزوجية، وهي إذا كانت ستَسعد بالزواج لو قُيِّضَ لها، فإنها سعيدةً فعلاً باهتمامها بأسرتها، ومِن ثَم فهي مُستريحة نفسيًّا لوضعها الحالي، ورأيها في البقاء مع أسرتها، وعدم التطلُّع إلى الزواج، على الأقل في وقتها الحاضر: هو رأيٌ سديدٌ يوفر لها رسالة "الأمومة" وهي رسالة المرأة في حياتها، كما يُوفِّر لها البُعد عن المتاعب التي قد تحلُّ: بسبب غيرةَ الرجل الذي أصبح زوجًا لو وُجد، على اهتمامها بشئون إخوتها وأبيها وحده، فالزواج له أثاره في حياة المرأة والرجل، وأخصُّ هذه الآثار: أن كل واحد منهما يُريد قصْر نشاط الآخر عليه وحده، بل ويُريد قصْر عاطفته عليه وحده كذلك، وهذا يُفسر لماذا تكون علاقة الزوجة بحماتها علاقة تقوم على الغيرة، بل وعلى الكراهية أحيانًا في واقع أمرها؟
... ثم مَن يدري؟ فقد تقطع السائلة شوْطًا كبيرًا في رعاية أسرتها يصل بإخوتها إلى مستوى الاستقلال والاعتماد على النفس.. ثم يَرزقها اللهُ بمَن يُسعدها مِن الأزواج بقية حياتها، جزاءَ ما وَهَبَتْ مِن نفْسها وأجْرها لإخْوتها حُبًّا في الله ورضاه، وبذلك تكون جمعتْ بين الحُسنيينِ.(/3)
150ـ ما حكم الموظَّف أو العامل الذي يرى أنه منقوص الحق فيقصِّر في عمله وفي إنتاجه، ويقول متعلِّلاً: على قَدِّ نقودِهم نَعمَل؟
الجواب:
إن "المُقاصّة" في تبرير التساهُل في أداء الواجب ظاهرة المجتمع المعاصر. وهى ظاهرة تَزداد انتشارًا بقَدْر ما تُبرِز المعايير المادِّيّة في العمل، تلك المعايير التي تجعل من أداء الحق والواجب سلعة مادِّيّة تقوم بالكَمِّ والعدَد.
والشِّعار السائد اليوم بين العُمّال والموظَّفين في المجتمعات المعاصرة الذي يجعل العمل على قدْر الأجر هو عكْس لمبدأ هذه المجتمعات نفسها الذي يجعل الأجر على قدر الإنتاج. فطالما أصبحت الشركات أو المصالح الحكومية من وجهة نظرها تقدِّر الأجر على كَمِّيّة العمل فلماذا العامل أو الموظَّف لا ينتفع بهذا الربط بين العمل والإنتاج فيُعطِي من نفسه ومجهودِه ما يتكافَأ في نظره هو مع ما يأخذه من نقود على ذلك في صورة أجر أو مرتَّب؟ وهذا هو منطِقه اليوم .
وانتشار هذه الظاهرة لا يكون خطيرًا على الإنتاج أو الخدمات ككلٍّ فقط، ولكن سيكون خطره أكثر على زيادة تفريغ النفوس في المجتمع من الإيمان بمبدأ "أداء الواجب" سواء من جانب الدولة كيفما كان نظام الحكم فيها، أو من جانب الأفراد العاملين الذين تسند إليهم ما يُسمَّى بأعمال الإنتاج أو الخدمات.
إن الفرد العامل أو الموظَّف الذي يقوم "بالمقاصّة" بين ما يأخذه من أجر وما يؤدِّيه من عمل.. يتحلَّل في الواقع من التزامات المجتمع والدولة، ويُخَفِّف من نفسه وزنَ نظام الحكم الذي يحمله على أن يقوم بعمل انفرادي وهو المقاصّة، دون أن يأخذ في الاعتبار احتياجات المجتمع ومَطالِبه.(/1)
والدولة ـ أو نظام الحكم فيها ـ التي لا تُعين الفردَ، منذ قيامها، على أن ينسى في نفسه الإيمانَ بمبدأ "أداء الواجب" كلٌّ حسَب قدرتِه وما اتَّجه إليه من عمل يُحسنه وذلك بتهيئة الظروف المادِّيّة والمعنوية للقيام بأداء الواجب نفسه تتغاضَى عن أول واجباتها وهو تمكين الأفراد فيها من العمل أو ما يسمَّى بالإنتاج للصالح العام.
ثُمَّ هي ـ أي الدولة ـ إذا تركت للأفراد بسبب إحساسهم بالغَبْن في مجال العمل والأجر، أن يُمارسوا "المقاصَّة" فيقومون بعمل أقلَّ، مع قدرتهم على القيام بما هو أكثر؛ لأنَّ ما يعطَى لهم هو قليل أيضًا.. تجهل ولا تتجاهل ما تلتزم به نحو الأفراد فيها.
والمِعْيار المادِّي وحده في صلة العمل بالأجر ـ وإغفال معنى أداء الواجب ـ سادَ أصلاً في البيئة الصِّناعية طَوال القرن التاسع عشر. ولم يزل يسود ويزداد، كلَّما غلبتْ رُوح الموازنة الكَمِّية والعددية في "تقييم" الإنسان.
والتغيير في نظام الحكم، في البلاد الصناعيّة الذي كان يؤمِّل عن طريقه إبعاد جوِّ اللامبالاة وتحكُّم الفردية وموازينها الشخصية في مجال العمل... ربما يكون قد ساعد على تفشِّي ظاهرة "المقاصّة" بين العمل والأجر، بدلاً من أن يُبعدها نهائيًّا.
والمجتمع المعاصر لم يزل بحاجة إلى تجربة "الرُّوحيّة" في أداء الواجب وإعطاء الحق. إذ كلَّما زادت دِقة المعايير المادية في توجيه المجتمع وتقييم الإنسان كلَّما اشتدت وطأة الانفرادية وكثُرتْ مشاكل الأفراد ومشاكل الدولة كذلك.(/2)
98 ـ شيوع الصور الجِنْسية بين المُراهقين والمُراهقات
يسأل مواطن بإحدى الشركات عن:
أ ـ شيوع تناقُل الصور الجنسية بين المراهقين والمراهقات وأخطارها على مُستقبل الشباب؟
ب ـ ثم عن علاج ذلك في مجتمعنا الإسلامي؟
إن السائل ـ وقد كان من الذين يتناقلون هذه الصور، ويَتأثَّرون بما يُشاهدونه فيها، ويُباشرون عاداتٍ سيئة تحت تأثيرها ـ يَصِفُ خَطرها عليه، وكيف حطَّمت حياته ومستقبله، وتُهدد الآن حياة ثلاثة أبناء له جاء بهم في وقت أزمته وشدَّته الحاضرة، وهو في سن السادسة والثلاثين الآن ويُمارس العادات السيئة تحت تأثير هذه الصور منذ تسعة عشر عامًا، رغم أنه مُتزوج وله هؤلاء الأولاد الثلاثة، وفي وصف هذا الخطر يقول:
"الناس صنفانِ: موتَى في حياتهم، وآخرون ببَطن الأرضِ أحياء.. وفي سنِّ المُراهقة ومنذ تسعة عشر عامًا، كانت الصور الجنسية الحيوانية العَفِنة والتي يتداولها الشباب الآن بصورة شِبْهِ علنية.. كانت وراء فشلِي في الحياة، وكانت الداء القبيح الذي جعل ربيع عمري يَشيب صغيرًا وذَبُلَتْ وُروده.. فأصبحت الحياة كئيبةً مُفعمة بسلسلة من اليأس والضياع، والانطواء، والفقر في رؤية طريق النور"..
ويستمر في وصف اضطراب حياته بسبب إدمان تداوُل هذه الصور الجنسية فيذكر: "اكتفيتُ بالإعدادية لعدم قدرتي على مُواصلة العلم، ويَهْزُل الجسد، ويُصبح ضعيفًا شاحب الوجه، والشعيرات البيضاء ظهرت بوضوح ـ وعمره لم يتجاوز الستة والثلاثين عامًا ـ ومِن أين تأتي البرَكة؟ فقد فشلتُ في مشروعينِ: أحدهما في مجال التصوير.. والآخر في محل للرسم الزيتي والبراويز.(/1)
وهي مِن إحدى هواياتي التي أنعم الله عليَّ بها، وتزداد قائمةُ الديون والأقساط.. وثلاثة أطفال مَحرومون مِن وجبةٍ أقلَّ مِن المتوسط، ويزداد العذاب والضمير يَلهث في اضطراب وإعياء، والندم يُمزق مشاعري، وقلبي يتألم، والداء الخبيث لم يَرحمني.. ويتكرَّر الندم، وآخرها رسالتي لك، فلا تَحتقرني، فقد اضطربتْ نفسي كثيرًا، وها أنا أقاوم الداء" ..
وقد آثرتُ نقل هذا الوصف من رسالة السائل؛ لأني وجدتُ فيه ترجمةً صادقةً لحالة النفس التي تأثَّرت برؤية الصور الجنْسية التي يتبادلها الشباب في سن المُراهقة والتي راجت تِجارتها في الوقت الحاضر، فأوجدت لدَيْهِ عاداتٍ سيئةً، لم يُلغِها زواجه ولا إنجابه الأولاد الثلاثة، وهنا الخطر.
كما وصف صاحب السؤال الآثار السلبية التي يتعرَّض لها المتداول لهذه الصور الجنسية، يَقترح مِن وجهة نظره علاجًا يُخفِّف على الأقل مِن شيوع خَطره فيقول: "أُوصِيك أن تُوصي الآباء.. أن يُتابعوا أبناءهم، ويُعلِّموهم دِينَهم صغارًا حتى يَكونوا في مأمنٍ ممَّا أصابني.. ولا تَعجب فأنا واحدٌ مِن أسرة مسلمة وطيِّبة، ولكنه حدَث!!
وأنا خسرتُ الكثير بسبب هذا الداء الخبيث، ويعلم الله ورسوله: أني أقاوم وسأُقاوم حتى لا أموت ضعيفًا مُستسلمًا لأسلحة الشيطان، وسأبدأ من الصفر بتوجيهكم "هَلَّا فكَّرْتُمْ في برنامج تدعون فيها الشباب الذي تورَّط مع الشيطان ليَكتب لكم.
فما أحوج الضعفاء لكم والشباب المُتسيِّب الذي لا يسمع غير الأغاني.. فإذا كان القرآن صالحًا لكل عصر، فلابد أن تقف البرامج الدينية لتَمشي بنفس القوة التي تزحف بها هذه المَوجات الرهيبة".
وما يَقترحه صاحب السؤال جدير بالاعتبار كذلك.
وإذا كان لنا أن نُعلِّق : فإننا نقف قليلاً عند توصية الآباء بتعليم الدين لأبنائهم وهم صغار، فإن تَعليمهم يكون:(/2)
أولاً: بتعويدهم عاداتٍ حسنةً تتفق مع هداية الله... بتعويدهم الصدق في القول والرواية.. والثقة بالنفس.. وأداء الواجب نحو الوالدينِ وأفراد الأسرة.. ورعاية حقوق الجوار.. وتجنُّب الألفاظ البذيئة في الحديث والرُّفَقاء السوء...
ثانيًا: بالتدريب على الصلاة في سِنٍّ مُبكرة، وبالمُداومة على استصحاب الأبناء إلى المسجد، والمُشاركة في صلاة الجمعة.
ثالثًا: بالتدريب على الصيام حين يَتحمَّلون الصوم.
والتدريب على هاتين العبادتينِ من شأنه أن يدفع الصغار إلى الإحساس باليقظة الذاتية التي تجعل من هذا الإحساس رقيبًا على تصرُّفاتهم، وإنسان خالٍ مِن اليقظة الذاتية هو إنسان ليست له قوة ذاتية للسير في طريق التوجيه السليم.
والقدوة الحسنة لدَى الوالدينِ لها الدور الأول في تكوين العادات الفاضلة.. وتجنُّب ظهور الخلاف والشِّقاق بينهما أمام الأولاد جزء رئيسيٌّ في هذه القدوة.
والله الموفق.(/3)
167ـ العيوب الخَلْقيَّة وعمليات التجْميل
كتبت طالبة بإحدى الكليات المَرموقة ـ كما تقول ـ ولم تتخلَّف حتى الآن، وعمرها تسعة عشر عامًا تذكر قصتها فيما يلي:
أولاً: أنها مِن أسرة متدينة، وهي تعرف الله كل المعرفة، وما يُقلق حياتها: أن أنفها طويل إلى حدٍّ يُلفت النظر، مِن أجل ذلك تشعر بالقلَق، ومِن الشعور ابتدأ مُستواها يضعف في الكلية.
... ويزيد في إحساسها بالقلق أن الأطفال يَعيبون على أنفها لإخوتها الصغار، وهذا يُسبب لها حرَجًا كبيرًا مع أهلها، وتُحاول أن تبدو بينهم غير حزينة، ولكنها من الداخل تحترق.
... وإذا قدِم إنسانٌ ما لخِطبتها فتحسُّ أنه قدم ليَعطف عليها فقط.
وتسأل:
هل إذا أجريتْ لها عملية جراحية للأنف يُعارض إجراؤها شريعةَ الله؟
وإذا لم تُعارض العملية الجراحية شريعة الله هل هي مضمونة؟ وكم تبلغ التكاليف؛ لأنها من أسرة فقيرة بعض الشيء.
الطالبة السائلة تركز كل تفكيرها على ما تُسميه عيْبًا خَلْقيًا فيها، وهو طول أنفها إلى حدٍّ يُلفت النظر، كما تتصور، وأصبحت تُعاني مِن شكلها الذي تصفه بأنه: "قبيح"، وتنسى أن الله الذي خلَقها على هذا النحو أنعم عليها بنعمٍ عديدة. ...
أولاً: أنعم عليها بالصحة، فلم تُصبْ ـ مثلاً والعياذ بالله ـ بشلل الأطفال.. أو بالسرطان، ونحو ذلك من الأمراض التي يَيأس المصاب بها مِن الشفاء منها. ...
وثانيًا: أنعم عليها بنعمة التفوق في الدراسة، والتفوُّق يرفع مِن شأنها، ويزيد مِن قيمتها عند التقدير والاختيار لعملٍ ما. ...
وثالثًا: أنعم عليها بالإيمان وهو في ذاته فضْل يجعل صاحبه مُميَّزًا في سلوكه وفي تصرفاته.. ومأمونًا في عِشْرته وصُحبته، وتلك ميْزة يحتاج إليها الزوج في زوجته ورب العمل في عمله.(/1)
... نعم إن جمال الخَلْق والوجه والبدَن نعمة، ولكن كمْ مِن جميلة الوجه والبدَن وهي مِن الغباء بحيث لا تُميِّز بين خبيث وطيِّب.. ومن بُرودة الطبع بحيث لا تَفترق عن تمثال من المَرْمَرِ صامت لا يَنطق، وجامد لا يتحرك.
... نعم الله ـ جل شأنه ـ عديدة، ولكن لا يَجمعها في إنسان واحد، وإنما يُعطي كل واحد منهما ما يَختبره بها في موقفه منها: أيستخدمها كما يشاء الله؟ أم يَخرج بها عن سُنَّته فيَطغَى أو يَعبث بها؟
... المال نعمة. والولد نعمة. والذكاء نعمة. والجاه نعمة. والسلطان نعمة، والصحة نعمة. والجمال نعمة. والعلْم نعمة. إلى غير ذلك مِن نِعَمِه ـ جلَّت قدرته ـ وهو لا يُعطيها جميعَها لواحد، كما ذكرنا، ويَبتلي بها مَن أعطاه إيَّاها، فإذا أنْفَق المالَ في الطغيان، أو سَخَّر الأولاد في الاعتداء، أو استخدم الذكاء، أو الجاه، أو السلطان، أو الصحة في العدوان على الضعفاء، فإنه عندئذٍ يَخرج بنعمة الله عن غايتها وهدفها، وهدفها أن تكون سبيلاً للنفع الخاص والعام، وإذا سَخَّرتِ المرأة جمالها في الفِتنة والغواية، أو سخَّر العالم علْمه في التدمير والتخريب، يكون كذلك قد خرَج بنعمة الله عن إطارها المشروع، وهو إطار الخير للبشرية.
وإذا كانت السائلة في طول أنفها شَرًّا لها، فهي مُبتلاة أيضًا بهذا الشر، كما يُبتلَى الفقير بفقره، فإنْ صبرت جزاها الله خيْرًا، وإنْ جزعت عذَّبها بالضيق والقلَق، إنها في سؤالها تُصغي كثيرًا لمَا يُقال عن أنْفها وتتأثَّر بما يُقال، وهذا يدل على عدم الصبر منها، وأولَى بها أن تَصبر وترضي بما قسم الله لها من نعم، وهي عديدة، إنَّ الله قد عوَّضها عن طول الأنف، فلماذا لا تُفكر في نعم الله عليها وتنسى طول أنفها؟(/2)
... ثم هل ذوْق الناس جميعًا واحد؟ إنَّ أذواق الناس مُختلفة: فما يراه هذا جمالاً لا يحسُّ غيره معنى الجمال فيه، كمْ مِن امرأة قصيرة بدنية يعتزُّ بها زوجها؛ لأنها وُهبت الصوت الحَسن والذكاء، وحُسن التدبير والتقدير للأشياء، والذكاء والتدبير، وحسن التقدير: صفات نفسية مُقابل نقصٍ ماديٍّ في جمال البدن، وإذن الزوج لا يرى فيها عيْبًا يحول دون تقديره لها واعتزازه بها.
... وتَديُّن السائلة يجب أن يَظهر في ثباتها وعدم اضطرابها لمَا يُقال عنها مِن أن لها أنْفًا طويلًا، واتِّزانها عندئذ سيُقلل مِن هذا النقْص الجمالي، سواء في تصورها أو في تصور الآخرين.
أما العملية التجميلية لتغيير الأنف فهي عملية ترفيهية، وليس هناك ضمان لنجاحها كما ينبغي، ومع ذلك فهي مُرتفعة التكاليف، والإسلام يوافق على إجراء العمليات التي تُعد من الضروريات لسلامة البدن، أما العمليات الترفيهية فهي أشبه بتغييرٍ في صُنْع الله، وتنطوي على عدم الرضا لخَلْقه. ...
... والحلُّ الآن أن تُقلل من أهمية هذا النقْص وتُعنَى بالنعم الأخرى التي وُهبت لها، وبذلك تجتاز هذه الأزمة النفسية، فالمبالغة في شأن هذا النقص الجمالي هي سبب الأزمة. ولتعلْم أنه لا يوجد الإنسان الكامل، فالكمال لله وحده، والعوامل التي تَجذب المرأة نحو الرجل ليست دائمًا هي جمال الوجه.(/3)
162 ـ طالب فرَّجَ كُربة زميلِه بإعطائه إجابة سؤال في الامتحان. ما حكمه؟
الجواب:
ما قدَّمه الطالب لزميله في الامتحان ليس "تفريج كربة".. بل هو مساعدة على "الغشِّ" وإحقاق لغير الحق.
إن الطالب الذي قدم المعاونة ساعد على أن يأخذ إنسانٌ ما لا يستحقُّه. وما أخذه هو حقُّ غيره معه.
فالمفروض في الامتحان أن يكون وسيلة غير متحيِّزة لوضع الحق في نصابِه وتوزيع العدل بين الممتحَنين في غير إغماط لأحد.
فإذا جاء واحد ممَّن يدخلون الامتحان ويعرف أنه لم يعِدّ نفسه الإعداد الكافي لاجتيازه، وإنَّما دخله اعتمادًا على الغشِّ من أحد أو بمساعدة زميله له فإنَّه يريد أن يحصل على جزاء على عمل لم يكن في طاقته أن يأتيَ به. فإذا حصل على الجزاء ـ وهو اجتيازه الامتحان ثم مُباشرته عملاً بِناءً على ذلك ـ يكون قد مُكِّن ممَّا لم يكن ذا أهليَّة له. وهذا فوق إلحاق الضرر بالمصلحة العامة يضر نفسه كذلك. والذي ساعد على إلحاق الضرَر هنا وهناك هو الطالب الذي قدَّم المعاونة في الامتحان لزميله غير الكُفْءِ.
الغشُّ في الامتحان في حقيقة أمره نوع من الخداع. والخادع هو الطالب المعاون، والمخدوع هو الزميل المستنجِد، والمصلحة العامّة معه.
ثم ربما يكون الطالب الذي غشَّش زميلَه من المتفوِّقين وعندئذٍ تُعطَى إجابته لزميله درجة من التفوُّق تَحُول دون شخص آخر من الناجحين معهما والحصول على مكان في الدراسة أو وظيفة في العمل، ويُحرَم بذلك من حقٍّ مشروع له استحَقَّه بجِدّه الخاص، وسلبَه مَن هو دونه في واقع الأمر في الجِدِّ والكفاية.
والرأي هو أن الطالب الذي يذكُر هنا في السؤال أنه فرَّج كربة لزميله في الامتحان قد ارتكب إثمًا واضحًا، وإنْ كان من غير قصد الإثم. وهو إثم الغشِّ والخداع... هو إثم منع صاحب الحقِّ من حقه، وإعطاء مَن لا حقَّ له حقَّ غيره. هو معتدٍ على حقوق الآخرين، ومعتدٍ أيضًا على "أهليّة" زميله المُعان.(/1)
إنَّ هذا العمل أشبهُ بأن يولِّي صاحب نفوذ وسلطة مَن له به صلة، عملاً أو وظيفة ليس أهلاً لها ولا يستطيع أن يباشرها. وأنه بهذه التولية يحرِم الوظيفة من الكُفء الذي يتولاّها للمصلحة العامة، ويعطى مَن لا كفاءة له ـ بسبب الصلة الوثيقة ـ ما هو فوق طاقته. وبهذا يضرُّ المصلحة العامة، كما يضرُّ الشخص القريب.
والإسلام ينهى عن الضَّرَر والضِّرار. أي ينهى عن أن يضر الإنسان نفسه ويُلحق الضرر بغيره.
169ـ الغِشُّ في الامتحانات:
كتب طالب لم يذكر موطنه: يقول:
إنه حاصل على شهادة متوسطة، والْتحق بالقوات المسلحة مُجندًا، وتقدم لامتحان السنة الأولَى الثانوي "منازل"، وكانت هناك مادةٌ لم يَدرسها من قبل بين مواد الامتحان ولم يكن ـ على حدِّ تعبيره ـ يفقه فيها شيئًا فساعده أحد الزملاء أثناء الامتحان بقُصاصة ورقية تحتوي على الإجابة، ونقلها في ورقة الإجابة ممَّا كان سببًا في نجاحه في هذه المادة، وانتقل إلى السنة الثانية.
... ولكنه لإحساسه بالذنب كلما تذكر هذه القصاصة، حمَله على أن يعتمد على نفسه في الامتحانات التالية، حتى وصل إلى التعليم الجامعي.
... ويُقلقه أنه يعتقد أنه يَبني على حرام ومثله كمثل تاجر: رأس ماله من حرام، ولذا يطلب الإفادة برأي الإسلام في ذلك، ويَعِدُ بأنه لا يَجزع ولو كانت الإفادة هي أن يَترك الجامعة، ويعود من أول السلم مرة أخرى؟
قبل توضيح الإجابة على سؤال الطالب هنا نودُّ أن نُعبِّر له عن تقديرنا لضميره الحي وخشيته مِن الله وحده، فمَثله يكون أمينًا في مسئوليته، وفي علاقته الأسرية، وفي سلوكه الشخصي، والأمانة في المسئولية وفي العلاقة الأسرية وفي السلوك الشخصيِّ تنقصُ كثيرًا من شباب اليوم، بينما تحتاج إليها الأمة في بناء مُستقبلها احتياجًا شديدًا. ...
وتصوُّر الوضع هنا لمَا تَمَّ بين الطالب وزميله هو أن:(/2)
الطالب أخذ إجابةَ غيره ونسَبها إلى نفسه، وبذلك يكون أخَذ حقًّا ليس له عن طريق إثباته هذه الإجابة في ورقته الخاصة. وهذا الحق هو نجاحه في المادة التي كان لا يفقه فيها شيئًا كما يحكي.
... وإعطاء زميلٍ له هذه الإجابة عن رضا واختيار لا يُبرِّر مشروعية الحق الذي وَصل إليه، وهو النجاح في المادة: إذِ المدرسة عندما منحتْه حق النجاح كانت واقعةً عندئذ تحت خِداعٍ، باشَره الطالب وزميله معًا، فقد اشتركا في مباشرة الخداع، بعد الاتفاق عليه.
... وهذا إثْمٌ لا شك فيه وضرره على المصلحة العامة واضح، وهو تعرضها الضياع فالامتحان يُقصد به التمييز بين أفراد الطلاب في تحصيل المعرفة: جودةً.. وضعْفًا، وبناء على هذا التمييز يكون توجيههم في دراسة الكليات المُختلفة أو في مباشرة المسئوليات العديدة، وهذا ربما ـ لو شاع هذا العمل الخادع ـ لأخذ الضعيف مكانَ المُتفوق عليه في كلية لا يجدُر به الانتساب إليها، أو باشَرَ عملاً غير مؤهلٍ له، وهذا معناه ظلمٌ شخصي.. وظلم كذلك للمصلحة العامة، ككل.
... وما يَذكره السائل هنا في توضيح سؤاله بقوله: "أعتقد أنني أبني على حرام، كمَثَل تاجرٍ رأسُ ماله من حرام".. ويُقرب تصوُّر هذا العمل الآثِم في واقع أمره.
... وخُطورة الضرَر الناتج عن "الغش" في الامتحانات والتزوير على مثال ما ذكر الطالب السائل في رسالته هذه، يتمثل:
أولاً: في الاعتراف الرسميِّ بأهلية الناجحينَ عن هذا الطريق، وبصلاحيتهم لمباشرة العمل الذي يُسند إلى الناجحين في صدْقٍ فيما امتحنوا فيه مِن موادٍ معينة، تُحدد مستوًى تعليميًّا معينًا، كأساس للصلاحية الخاصة، وهكذا نجد بعض مَن تُناط مسئوليات حسب مستواهم الثقافي والتعليمي. لا يستطيع أداءَها، ومعنى أن هذا البعض ـ من الذين نجحوا غِشًّا وزُورًا ـ لا يستطيع أداء مسئوليته: حرمانُ مَن يتعامل معهم مِن الحصول على حقوقهم المشروعة بسبب عجز أولئكم عن الأداء.(/3)
ثانيًا: تتجلَّى خطورة الضرر أيضًا في حصول هؤلاء الدين نجحوا بالغشِّ على أجور، مُقابل إهمالٍ أو سوء أداء، إذا ما كُلِّفوا بمسئوليات رسمية في وظائفَ معينة، دون أن تكون لهم طاقة على الأداء، ودون أن تكون لدَيهم أمانةٌ فيه، فمَن يَقبل الغشَّ والخداع في اغتصاب حقٍّ ليس له وانتزاع حق ممَّن هو صاحبه، يقبل الاختلاس وأنواع الصور المختلفة في عدم الأمانة في العمل أو التقصير فيها.
والسائل وقد أخذ الطريق الصحيح، وهو الاعتماد على الذات، والتوكُّل على الله فقد عاد وتاب توبة نصوحًا، فكل المراحل التي اجتازها الآن إلى الدراسة الجامعية كان بفضل جُهوده الذاتية وبفَضل استقامته واعتماده على المولَى ـ جل شأنه ـ ومن تاب إلى الله توبة نصوحًا ولم يَعُد إلى مباشرة الإثْم والعصيان، وسلك طريق الطاعة إلى الله ورسوله غفر الله له ما كان مِن ذنبٍ وقع منه (فمَن تابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ "أي لنفسه أو لغيره بارتكابه الإثم والمنكر" وأَصْلَحَ "بأن عاد إلى طريق الله" فإنَّ اللهَ يَتُوبُ عليهِ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ). (المائدة : 39).
114 ـ الغِشُّ في الامتحانات
ما حُكم الغشِّ في الامتحانات؟
مُؤدَّى الغشِّ في الامتحانات أن يَحصل المُغشَّشُ على مستوًى في التقدير أعلَى لا يحصل عليه بجهده الفردي، وبذلك ينال مِن الحق ما ليس له أهلاً. وهذا الحقُّ الذي يناله بغير استحقاقٍ يُساعد في الوقت نفسه على تَفْوِيتِ حقٍّ لشخصٍ آخرَ معه.
وبذلك ينال مَن لا يستحق.. ويُحرَمُ مَن يستحقُّ، والظلم كما يتجسَّد في حرمانِ صاحب الحق مِن حقه، يتمثل أيضًا في إعطاء غير صاحب حقٍّ حقَّ غيره، والغشُّ في الامتحان إذنْ قِوامه الظلم والاعتداء وهو لهذا جريمة اجتماعية يَشترك فيها المُغشَّشُ نفسُه ومَن قام بمُساعدته على الغشِّ مِن زملائه أو مِن المُراقبين عليه في إجراء الامتحان.(/4)
وضحية هذه الجريمة اثنانِ: المُغشَّش ذاته؛ لأن ما يحصل عليه بطريق الغش يظلُّ أمرًا غير ذاتيٍّ له، أي يظل وَهْمًا أو سَرابًا، لا يُفيد منه في واقع أمره شيئًا بل ربما يكون سببًا في ضررٍ له يظهر بالتدريج في حياته المُقبلة.
فمثلاً: ماذا يكون وَضْعُ طالبٍ الْتحَقَ بكلية الطب، بعد أن حصل على مجموع في الثانوية العامَّة لا يَستحقه بجِدِّه، وسَلَبَهُ عن طريق الغشِّ مِن غيره، ممَّن هو صاحب الحق فيه؟ إنه لا يَتخلف في دراسته فحسب بل ستُلازمه خيْبة الأملِ في دراسته العالية بوَجهٍ عامٍّ.
أما الضحية الثانية: فهو ذلك الذي سُلِبَ منه حقُّ التقدير، لو لم ينتقل منه هذا الحق بطريقِ الغشِّ إلى آخرَ معه. وهو ضحيةٌ على معنى: أنه يجب عليه أن يَجتاز بعض الصِّعاب في سبيل تحقيق هدفه، فمثلاً: قد يكون مستواه في التقدير ـ لو لم يقع ظُلمٌ في الامتحانات ـ يُتيح له أن يحصل على مِنْحةٍ دراسية مِن الكلية، يُمكن أن يُساعد بها نفسه، ويُخفِّف مِن أعباء أسرته، ولكن وُقوع الغِشِّ حرَمه من هذه المِنْحة، وجعله يَسير ولو لعامٍ واحد في طريقٍ غير مُعَبَّدٍ تَمامًا، ولو مِن الوِجهة الاقتصادية.
والغشُّ في الامتحانات بما ينتهي إليه مِن نتائجَ هو سلْبٌ لحقٍّ مِن صاحبه، كسَرقة المال مِن مالكه والمُنتفع به، بل هو أدخل في معنى الجريمة؛ لأنه يتعلق بأمرٍ نفسيٍّ، وهو قيَم الأفراد ومستوياتها في الدراسة والتحصيل.
وربما يَمَسُّ هذا التقييمُ الخاطئ ـ بناء على الغش في الامتحانات ـ مستقبلَ المجتمع نفسه في تَوَلِّي مَن لا يَصلح للولاية بذاته؛ لأن المجتمع قد خُدِعَ بما أُعلِنَ له مِن تقديرٍ في مَعاهدِه وكلياته.
وهذه الجريمة: "الغش في الامتحانات" إذا كان لها مِن ضحايَا، وهم المجتمع، والمُغشَّش، ومَن أُخِذَ منه الحقُّ مِن زملائه، فصاحب الجريمة في الدرجة الأُولَى هو مَن تولَّى الغشَّ أو تَستَّر عليه.(/5)
153 ـ عُيِّنت بأحد المطاحن وكنتُ لا أملِك شيئًا على الإطلاق. ثم سنحت لي فرصة لبيع النُّخالة والدقيق في السوق السوداء، حتى كوَّنت ثروة كبيرة. فهل ارتكبتُ جُرمًا بهذا العمل، مع أنِّي أُحسِن كثيرًا وأؤدِّي الفرائض الدينية؟
الجواب:
هناك أمران يُسأَل عنهما السائل يوم القيامة:
الأمر الأول: هو أن الفرصة التي سنحت له للاتِّجار في النُّخالة والدقيق كانت بسبب الوظيفة والعمل في المَطحن.
الأمر الثاني: هو أنه شارك في السوق السوداء وازدهارها في موادَّ تُعتبر ضرورية في معيشة الإنسان.
وكسْب المال عن طريق الوظيفة واستغلالها هو كسب "حرام" غير مشروع. وهو رِشوة، تقديمها ممَّن يملِك المال، وقَبوله ممَّن يُساعده بسبب وظيفته حرام. والقرآن الكريم يقول:
(ولاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلمونَ) (البقرة: 188).
فهو ينظر إلى الأموال التي بأيدي أصحابها على أنَّها أموال المسلمين جميعهم. ولذا تجب المحافظة عليها. ثم العبَث بها لا يُصيب أصحابها فقط وإنَّما يصيب المسلمين جميعًا باعتبارها أن نفعها عائدٌ عليهم. وهنا ينهى عن أكل البعض لها بالباطل ويعتبر إقبال البعض على ذلك عملاً للجميع: (ولاَ تَأْكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ). ثُمَّ خصّص بعض صور الأكل بالباطل ـ بعد النهي العام ـ فذكر استغلال أصحاب المال لسلطة الوظائف العامّة للحصول على أموال الآخرين من غير وجه شرعي لاستخدام نفوذ السلطة القائمة، مع العلم بأن طريق الحصول على المال هو طريق غير مشروع، وذلك فيما أتَتْ به بقية الآية: (وتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكّامِ لِتَأْكُلوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالإثمِ وأَنْتُمْ تَعْلمونَ).(/1)
وإذا كان الخِطاب هنا في النهى موجَّهًا إلى أصحاب الأموال الذين يُدلون بأموالهم إلى الحُكّام، فالنهى يمتدُّ كذلك إلى أصحاب النهي والنفوذ؛ لأنَّهم الطريق إلى تنفيذ الكسْب غير المشروع والحصول بالباطل على أموال الناس.
والمشاركة في السوق السوداء هو مشاركة في معصية.. هو مشاركة في استغلال حاجات الناس وضَروراتهم المعيشيّة ولا تقِلُّ هذه المشاركة عن "الرِّبا" في آثاره ودوافعه.
والتجارة في السوق السوداء ليستْ تجارة عن تراضٍ بين البائع والمشتري ولكنَّها تجارة عن إكراه؛ أُكره فيها صاحبُ الحاجة على القَبول. ويشمله النهيُ الواردة في قوله تعالى: (يَا أَيُّها الذِينَ آمُنوا لاَ تَأكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاّ أَنْ تَكونَ تِجارةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (النساء: 29).
ويَعتَبِر القرآن الكريم أنَّ كسْب المال عن هذا الطريق بالباطل هو في واقع الأمر قتل وضياع لمَن باشر هذا الكسْب. ولذا تُعَقِّب الآية بقول الله جل شأنه: (ولاَ تَقْتُلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحيمًا) (النساء: 29).
أمّا الإحسان الكثير من السائل فهو كصدقة الزانية: "لَيْتَها لَمْ تَزْنِ ولَمْ تَتصَدّق" وأما أداء الفرائض الدينية منه فهو أداء رسْمٍ وشَكل. وإلا فالعبادة من شأنِها أن تنهَى عن الفحشاء والمنكر.(/2)
168ـ العمل في صيانة التليفزيون
كتب مواطن من إحدى المحافظات يذكر أنه حاصل على دبلوم ثانوي صناعي، ويعمل في شركة بمُرتب أربعين جنيهًا، وفكَّر في أن يلتحق بتدريبٍ لصيانة الراديو والتلفزيون، حتى يزيد دخله، ويتلاءم نوعًا ما مع ارتفاع الأسعار. كما يذكر: أنه شاب يُحاسب ضميره قبل أن يُحاسبه ـ الله عز وجل ـ وشاب متديِّن ولكن عقله حدثه: لماذا يصلح التلفزيون، ومعظم برامجه لا تَليق بتعاليم الإسلام؟ وأنا لا أنكر أن التلفزيون يُذيع بعض برامج دينية، ولكنها قليلة، "وفي هذا الصراع مع ضميري وعقلي: لماذا أُصلح هذه الأجهزة وهي تذيع برامج لإثارة الشباب والبنات، وأسأل: هل أمضي وأعمل في صيانة الراديو والتلفزيون؟ أم أترك هذا العمل وأبحث عن عمل آخر؟
هناك أمران يجب الفصل بينهما تمامًا، هناك العلْم.. وهناك تطبيق العلم، فالعلم يَحضُّ الإسلام على السعْي لتَحصيله، ومِن فروعه: العلم الذي تقوم عليه الصناعة وفي سورة الحديد جاء قول الله ـ تعالى ـ: (لقدْ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وأنْزَلْنَا مَعَهمْ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ وأنْزَلْنَا الحديدَ فيهِ بأْسٌ شديدٌ ومَنافِعُ للناسِ ولْيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بالغَيْبِ إنَّ اللهَ قويٌّ عَزيزٌ). (الحديد: 25).
... فالآية تُعِدُّ من نعم الله على البشرية، إرسال الرسل بالهداية الإلهية من وقت لآخر، التي تتمثَّل في رسالة الرسول، أيِّ رسول، ليقومَ على أساسها العدل بين الناس.. (لقدْ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وأنْزَلْنَا مَعَهمْ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ).(/1)
... كما تَعُدُّ مِن نعم الله على البشرية بجانب الرسالة الإلهية: التنبيه إلى "الحديد" ومنزلته في الحياة الإنسانية، سواء في وِقاية الناس ورَدِّ العدوان عنهم، أو في استخدامه في وُجوهٍ شتَّى هي منافع لهم: (وأنْزَلْنَا الحديدَ فيهِ بأْسٌ شديدٌ ومَنافِعُ للناسِ)..
... واستخدام الحديد على الوجه الأمثل يتوقف على العلْم والتقدم فيه؛ إذ كلما تقدم العلم وكلما تطوَّر التطبيق الصناعي على أساس التقدم العملي، كلَّما بانَ للبشرية وُجوه النفع والصلاحية التي يُمكن للناس أن يُفيدوها مِن الحديد.
فالعلْم.. والتقدم فيه.. والتطوير في التطبيق الصناعي على أساسٍ منه: مقدمات ضرورية للكشْف عن نعمة من نعم الله على الإنسان، وهي نعمة المعادن التي هي في جوْف الأرض.
... والمؤمنون بكتاب الله كما هم مُطالبون بتطبيقه في حياتهم، وفي سلوكهم، وفي مواقفهم: مُطالبون بالعلْم في شئون الحياة الدنيا وبتنمية مَلكاتِهم فيه وبحُسن تطبيقِ ما يُحصلونه منه:
فالعمل بالكون إذْ يُوصل في النهاية إلى معرفة الله ـ جل شأنه ـ فإن العلم بالحديد وما على شاكلته من المعادن الأخرى يُوصل إلى الاعتقاد بأن الله قويٌّ عزيز، وإذا كانت القوة مِن صفاته هو يحب أن يكون المؤمنون أقوياء، وإذا كان عزيزَ الجانب لا يُغالَب، فهو يُحب أيضًا أن يكون المؤمنون أعِزَّاء لا يَنال منهم عدوُّهم بحالٍ.
والسائل هنا إذا كان يرى في إرسال التلفزيون سوءًا، فالجهاز نفسه.. ولا صُنْعه ولا المُخترع له ليس المصدر لهذا السوء، وإنما مَن يَستخدمه على الوجه الذي يرى فيه السائل السوء هو المصدر له.(/2)
... والمُخترَعات الحديثة كلها، وكذلك التي تجدُّ يومًا بعد آخر أن صاحب استخدامها شرٌّ، فالشر ليس مِن ذاتها، وإلا كانت دائمًا شريرة، وإنما هو عارضٌ لها بسبب استخدامها "فالذرة" ـ مثلاً ـ يُمكن استخدامها في التخريب والتدمير، ويُمكن كذلك استخدامها في الأهداف السلمية كمُولِّد للطاقة.
والسائل لا يتحرَّج من مُواصلته "التدريب" زيادةً في دقة التطبيق الصناعي وسَعة المَعرفة في شئون التكنولوجيا، وتديُّنه سيجعله أمِينًا على حُسن استخدام ما يتدرَّب عليه وما يُضاف على معرفته مِن جديد كل يوم.
... وهو إذْ يُواصل تدريبه سيؤدي خدمةً ـ لا لنفسه بزيادة دخله فقط ـ وإنما لأفراد مجتمعه معه، وهي خدمة أبعاد الاحْتكار في إصلاح الأجهزة الإليكترونية، وإبعاد الغلُوِّ في أجور إصلاحها، وهنا يكون تديُّنه بجانب دقته في المعرفة والتطبيق مِن نعم الله على هذا المجتمع.
... ونسأل الله أن يُوفِّق كل صاحب مسئولية في أداء أمانته لخير هذا الشعب وأن يتجنَّب في أدائها كل ما يُسئ إلى شبابه في مستقبل حياتهم.(/3)
117ـ الكسب الحلال
مواطن من إحدى المحافظات يذكر أنه يملك شقتينِ على كورنيش أحد الشواطئ: إحداهما يسكنها هو وزوجته وأولاده، والأخرى يُعدُّها مفروشةً ويُؤجرها للمُصطافين في أشْهُر الصيف، حيث تُدِرُّ عليه من المال ما يُساعده على قضاء بعض الضروريات في حياته المعيشية.
... ولكن فوجئ برجل مسلم يُنكر عليه: التأجير للمُصطافين في أشهر الصيف، ويصفه بأنه مُنكَر، فالمُصطافون سُيَّاح.. ويُمارسون المنكر في الشقق المفروشة، والمال العائد من مُنكَرٍ يكون مُنكرًا وحرامًا.
... ويسأل: هل ما يقوله الرجل المسلم هنا سليم؟ والسائل يحرص على أن يعلم: الحلال والحرام.
هل كل المصطافينَ في أشهر الصيف الذين يُقيمون في مساكن مفروشة مؤجرة، يُباشرون المنكر؟. هل هم جميعًا يُباشرون الفسق.. والزنا.. وشُرب الخمر في تلك المساكن التي يَستأجرونها؟. حتى تكون تلك المساكن أمكنةً لمُمارسة المنكر، أو طريقًا لتَمكين المُنكر مِن وُقوعه؟ وعندئذ يكون المُؤجِّر شريكًا للمُستأجر في وقوع المنكر: أحدهما وهو المُؤجِّر يُمكِّن المُستأجِر من المنكر، والمُستأجر يُباشر وقوع هذا المنكر، وبذلك يتمُّ رُكْنَا الجريمة لارتكاب المنكر.
... أم أن من بين المُصطافين: أُسَرًا تستأجر المساكن المفروشة لمدة موقوتة في أشهر الصيف، لاسْتجمام جميع أفرادها؟. والمُؤجِّر ـ عندئذ ـ ليس مكرهًا على تأجير المسكن المفروش لدَيه والمُعدُّ للإيجار في أشهر الصيف، إلى غير هذه الأسر ممَّن يُمارسون المنكر فيها مِن العُزَّاب مَثَلاً؟.(/1)
... إن التعميم فيما يقوله الرجل المسلم هنا مِن أن جميع المساكن المفروشة تُستأجَر لمباشرة المنكر: خطأٌ في القول وفي الفتوى، والأصل أو المبدأ الذي تقوم عليه المعاملات الإسلامية هو: الحلُّ وعدم التحريم حتى يظهر الضرَر، وعندئذٍ تَعرِضُ الحرمة لمَا كان حلالاً مِن قبلُ، فإذا كان هناك عقدٌ بين اثنينِ على بيع شيء وشرائه فالعقد جائز وحلالٌ، فإذا ظهر بعد المُوافقة عليه مِن الطرفين: خداعٌ مِن جانب أيٍّ منهما حرُم العقد وفُسِخ، بعد أن كان حلالاً وتمَّ.
... وتطبيق هذه القاعدة أو هذا الأصل على التأجُّر للشقق المفروشة، أن التأجير حلالٌ ولا ينطوي على التمكِين مِن مُنكر، فإذا ظهر أن المستأجر يُمارس المنكر على وجه التأكيد فيما استأجره كانت مُمارسته للمُنكر فيه إخلالاً بصحة عقد الإيجار، ومِن ثَم يُلغَى هذا العقد ويُفسخ.
ومن أجل ذلك لا تُعمَّم الشُّبْهة ولا يُقال: إن كل المساكن التي تُؤجَّر مَفروشة تُدار للبِغاء، ولاحْتساء الخمر، أو لَعب القُمار ـ كما يقال ـ أيضًا: إن جميع المصطافين في أشهر الصيف سُياح يُمارسون المنكر في الشقق المفروشة المستأجرة.
... والحديث الشريف عندما يقول: "ادْرَأُوا الحُدودَ بالشُّبُهَاتِ".. أي اتْركوا الحدود ـ وهي العقوبات المحدودة لجرائم الزنا، والقتل، والسرقة، وشرب الخمر، إذا لم تكن الجريمة قد وَقعت على سبيل القطْع: يقول ذلك ليُبعد "الظن" في مباشرة الحلال والحرام، أو في القول بهما، والتعميم الذي يقول به الرجل المسلم في سؤال السائل هنا: صورة من صور الظنِّ في مُباشرة الحلال، والحرام.(/2)
تجِبُ الحيطة تمامًا في إعلان الحلال والحرام في مُعاملات الناس، وبالأخصِّ في معاملاتهم المالية، فعلى سبيل المثال: تأجير، واستئجار، الشقق المفروشة في أزمتنا الاقتصادية الراهنة، تمثل حجْمًا ليس هيِّنًا في الاقتصاد المصري ليس بالنسبة للمستأجرين ولكن قبلهم بالنسبة للمُؤجِّرين، فكثير مِن هؤلاء الذين يُؤجِّرون مساكنهم مفروشةً أو يملكون بعض المساكن المفروشة: تتوقف معيشتهم، وحياتهم الاقتصادية طول العام على مقدار الإيجار الذي يُحصلونه مدة الاصطياف، وربما يدفعهم إلى تأجير مساكنهم المفروشة: أنهم يُمارسون الأمانة في حياتهم، ولا يُريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، سواء عن طريق الربا في استثمار ما يملكون من مال.. أو عن طريق قبول الرشْوة فيما يقدمونه من خدمات في مصالحَ حكومية أو في شركات عامة، ويرون أضمن الطرق في البعد عن أكل أموال الناس بالباطل هو ما يَسلكونه من تأجير الشقق المفروشة.
... نعم هناك مساكنُ مفروشة تُستغل لممارسة البِغاء، والفساد.. وتُستغل كمَورد حرام على سبيل القطع في مباشرة المنكرات وانتهاك الحرمات والأعراض وهي معروفة للرجال المُشرفين على "الآداب" قبْلَ غيرهم مِن الجيران أو البوابين، ولكن وُجود مثل هذه المساكن لا يجعل التعميم أمرًا مقبولاً. ومن أجل قبوله يحرم تأجير واستئجار المساكن المفروشة على الإطلاق كما هي الفتوى هنا للرجل المسلم.
... والسائل يُرجَى له الخير من الله، فهو حريص على معرفة الحلال والحرام في مُعاملاته وتأجيره للمَسكن المَفروش حلالٌ، وعليه قبل إتمام عقد الإيجار أن يَطمئن إلى أن المُستأجِر مِن الأسر التي تُريد الاستجمام، وليس من العُزاب أو الأثرياء الذين يَزُورون المَصايف للاستمتاع بالحرام كما يَشتهونه.(/3)
141ـ المرأة العاملة ومصدر الضلال للشباب
مواطن بإحدى المحافظات يُصوِّر انطباعاته عن المرأة العاملة ويرى أنها في كل مكانِ عملٍ تُوجد فيه مصدرًا لضلال الشباب وانحرافهم ويسأل:
هل عمل المرأة في الوظائف العامة بجانب الرجل حلال أم حرام؟
وهل يَصِحُّ اتخاذها زوجةً مسلمة في نظر الشرع الإلهي؟
عمل المرأة خارج المنزل لا يُحِلُّه الإسلام ولا يُحرِّمه في ذاته، وإنما يُحلُّه أو يحرمه بقدر ما له صِلة باختلاط المرأة بغير مَحارمها أو بعدم اختلاطها بأجنبيٍّ عنها. والأمر في نظر الإسلام الذي هو موضوع الحِلِّ والحُرمة هو الاختلاط أو عدم الاختلاط، فإذا كان مِن نتائج عمل المرأة خارج منزلها أو مِن وسائله أن تَختلط بالأجانب عنها في صلة الرحِم فهو حرام؛ لأنها بمُباشرة هذا العمل تتعرَّض لفِتنة الرجال، ويُخشى عليها مِن إغرائهم، فإذا لم تتأثَّر بالإغراء فعْلاً في فترة زمنية معينة فهي مُعرَّضة للتأثر به في فترة أخرى تكون الظروف فيها أدعَى للتأثير. والصلابة في عدم تأثُّر المرأة بالاختلاط بالرجال لا تعود إلى قوة الإرادة لدَيها بقدر ما تعود إلى ضعف الإقبال منهم عليها والتودُّد إليها.
والإسلام لا يَقصُر عمل المرأة ونشاطها على المنزل والأسرة والأولاد ـ وإن كان هو المجال الأساسيُّ لنشاطها ـ وإنما يُجيز لها أن تُباشر عملاً خارج المنزل لا يترتب عليه أن تقع في مصيدة الرجال ولا تَستطيع أن تفلت من شباكهم. فالمدرِّسة في مدرسة البنات مثلاً، والممرِّضة في مستشفى للنساء، والعاملة في محلات الأزياء والحياكة الخاصة بالمرأة أو بالأطفال ـ لا يحرم الإسلام عليها العمل في أي مكان منها؛ لأنه يندر فيه الاختلاط أو ينعدم.(/1)
والعمل الخارجي المشترك في المكاتب أو في المحلات التجارية إذا نَصَح الإسلام المرأة بعدم مُمارسته فلِلأَن مَصير الاشتراك فيه قد يَنتهي إلى نتائج سلبية بالنسبة لعلاقة المرأة بزَوجها إذا كانت مُتزوجة، أو ينتهي إلى القلَق والاضطراب النفسيِّ إذا كانت لم تتزوج بعد.
المرأة قوة في الحياة الاجتماعية لأيِّ مجتمع، والإسلام لا يُصادر نشاط هذه القوة، ولكن فقط يَطلب في توجيهها أن تظل إيجابية ولا يكون لها انعكاس سلبيٌّ على نفسيتها أو نفسية الرجل معها.
وما يُعبر عنه السائل هنا كانطباع خاصٍّ له عن عمل المرأة في مجال مشترك مع الشباب ربما يكون صورةً من صور الانعكاس السلبيِّ على نفسية المشاركين.
أما صلاحية المرأة العاملة لأن تكون زوجةً مسلمة فطالما أن عملها لا يُوصلها إلى الاختلاط بغير المَحارم فالعمل لا يَعيبها كزوجة، وطالما أن عملها خارج المنزل لا يحول بينها وبين أن تكون زوجة، أو أن تكون أُمًّا فلا يُقلِّل كذلك مِن صلاحيتها للزوجية، وطالَما أن رعاية المرأة العاملة لزوجها وأولادها لا تُرهقها، بجانب ما تُؤديه من عمل خارجي تُؤْجَر عليه، فليس هناك شرعًا ما يحول بينها وبين أداء هذا العمل الخارجي في نظر زوجها.
والسؤال بعد ذلك للمرأة العاملة إذا أصبحت زوجةً أو أمَّ ولدٍ:
ألاَ يُؤثِّر الجمع بين العملينِ في المنزل وخارجه على الجانب النفسيّ لها في علاقتها كزوجة بزوجها وكأمٍّ بأولادها؟
هل تستطيع أن تكون على استعدادٍ نفسيٍّ لاستقبال زوجها وأولادها عند عودتها إلى المنزل؟
هل تستطيع أن تكون مُطمئنةَ النفس عند مباشرة عملها الخارجيّ بعد تَرْكِها لزوجها وأولادها في المنزل؟(/2)
إن المرأة العاملة إذا أصبحت زوجةً أو أُمًّا يَغلِب علي استمرارها في العمل الخارجي الجانبُ الماديُّ وحده، وهو الحصول على أجر إضافيٍّ بالنسبة لأجر الزوج في عمله، أما الجانب النفسيُّ للمرأة العاملة إذا أصبحت زوجةً أو أُمًّا فيتحول قطعًا إلى القلق أو إلى ما يُسمَّى بالإرهاق النفسيِّ، وهو إحساس دفين في نفسها يُسبب لها التوتُّر والتبرُّم بأسلوب الحياة، وقلَّما يجعل لها فرصةً للتراخي والاستمتاع بحياة الزوجية أو بحياة الأمومة.
والشك في صلاحية المرأة العاملة للزوجية أو الأمومة يأتي مِن جانب سيطرة القلق النفسيِّ وتَوَتُّر الأعصاب على إحساساتها الداخلية بالحياة.
فزيادة الأجر يُغري المرأة على العمل الخارجيّ، ولكن يُحمِّل طاقاتها البشرية العُضوية والنفسية ما يَجعلها أقرَبَ إلى إنسان عديم الإرادة مُشوَّش الإحساس والاستمتاع، بما مِن شأنه أن يُولِّد عند امرأة أخرى تفرَّغت إلى الأسرة واستقلَّت بعمل واحد المُتعةَ والراحةَ النفسية.
إن المرأة التي تُضيف إلى عملها في المنزل كزوجةٍ وأم ولدٍ عملاً خارجيًّا الاختلاطُ فيه بأجنبيٍّ عنها لا يتدخل فيه الإسلام، ولكنها قد تفتقد صلاحيتها النفسية بعد حين، واستمرارها في الازدواج بعد فقدان الصلاحية النفسية هو أمر آليٌّ أكثر منه إنسانيٌّ إراديّ.
وخلاصة الإجابة حول ما يسأل عنه السائل:
أولاً: إن الإسلام لا يُحرم العمل ولا يُحله، وإنما يحرم اختلاط المرأة بأجنبيٍّ عنها، فإذا أدَّى العمل إلى الاختلاط كانت مُباشرته حرامًا.
وثانيًا: إن عمل المرأة إذا لم يؤدِّ إلى الاختلاط بالأجانب توقَّفت صلاحيتها للزوجية والأمومة على استطاعتها النفسية والبدنية لأداء كلٍّ مِن نوعَيِ العمل، دون أن تفقد التوازن أو دون أن تقع تحت الإرهاق البدنيِّ والنفسي.(/3)
9ـ إنني أعمل في مصلحة حكوميّة وأجري لا يكفي، ويأتيني دخل بدون عَرَق أُنفق منه مع مرتِّبي. وأصلِّي مع هذا وأصوم. فما الحكم؟
إن الدَّخْل بدون عرق الذي ينفق منه السائل مع أجره المحدود الذي لا يكفيه هو من أموال الغير استولى عليها بدون مقابل.. أي استولى عليها بغير حق.
إنَّ صاحب الأجر المحدود الذي لا يكفيه أجره له حق قبل المجتمع في سَدِّ حاجته إذ أنه يُعتبر عندئذٍ مسكينًا. فالمسكين هو مَن لا يُغَطِّي دخلُه من عمله حاجته وحاجة أسرته، بعد أن يستنفذ كل طاقاته في العمل. وهو مصرف من مصارف الزكاة الثمانية. والزكاة فُرِضَتْ على الأموال المستخدمة في التجارة والزراعة والصناعة، وعلى الثروة التي يكشف عنها بعد التنقيب وعلى الأموال المدَّخَرة، أي أن الذين يملكون الأموال في أي جانب من جوانب الاقتصاد القومي عليهم أمام الله إخراج الزكاة تكافُلاً مع الذين لا يملِكونه، أو لا يملكون إلا القليل الذي لا يكفي، أو كانوا يملكونه وفقدوا ملكَهم بسبب خارج عن إرادتهم أو بسبب إنفاقهم إياه فيما يدفع الضَّرَر عن مجتمعهم.(/1)
والولاية العامة في الأمة ـ أو الدولة ـ مطالَبة بتنفيذ الزكاة في تحصيلها عند الامتناع عن إخراجها. فإذا كانت الولاية العامة أو الدولة هي التي تملِك جوانب الاقتصاد القومي العديدة.. فإن واجبَها إزاء أصحاب الحاجة في الأمة مضاعَف يجب عليها إخراج الزكاة، ثم توزيعها حسبما نصَّت الآية الخاصة بها وهي قوله ـ تعالى ـ ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ...) إلخ (التوبة: 60). وبيت المال ـ أو الدولة ـ مسؤول مسؤولية أخيرة عن رعاية: الفقير والمسكين، وعن تحرير الأرِقَّاء أفرادًا ومجموعات في الأمَّة الإسلامية وعن الغارمين الذين نُكِبُوا في أموالهم أو أنفقوها في سبيل الأمة، وعن الدعوة إلى هداية الله، وكذلك عن أصحاب الحاجة المؤقَّتة في أسفارهم. والزكاة في الإسلام هي إذن مصدر التمويل للتكافل الاجتماعي والرعاية الاجتماعية، كما هي مصدر تمويل الدعوة الإسلامية.
وإذا كان لصاحب الأجر المحدود الذي لا يكفيه أجره الحَقُّ، قبل المجتمع والدولة، في تغطية حاجته.. فإنّ حقَّه هذا لا يُبيح له أن يأخذ أموال الناس بغير حقٍّ، خُفْيةً أو علنًا؛ لأن ذلك يعتبر اعتداء على حرمة المال الذي تُعتَبَر منفعته للجميع. إذ لو أُبيح لكل صاحب حاجة أن يغطِّي حاجته بنفسه من طريق الاعتداء على أموال الآخرين أو أموال الدولة ذاتها.. لا تنتهك حرمة المال فقط. وإنما يُسَيْطِر العبَث عليه، وبه، ممّا يُفقده وظيفته الاجتماعية وهى: أنّه قِوام الناس جميعًا. وإنما السبيل إلى ذلك أحد أمرين، إمّا تنمية ذات صاحب الحاجة بالتعاليم أو بكسب المهارة، بحيث تَزِيد قدرته على الكسب للمال ،وإما الالتجاء إلى إدارة رعاية البِرِّ في وزارة الأوقاف الخيرية التي تُعَبِّر عن روح السُّمُوِّ الإنساني وعن قوة الإيمان بالإسلام في نفوس الواقفين الخَيِّرين، جزاهم الله خير الجزاء.(/2)
والصوم والصلاة اللتان يأتي بهما صاحب السؤال قلَّما يكون لهما أثر عند الله؛ لأنه لا أثر لهما في حياة الإنسان نفسه الذي يباشرها.
فمباشرة الصوم أصلاً من شأنِها أن تَحُول دون أن يلجأ صاحب الحاجة لسَدِّ حاجته بنفسه من أموال الغير؛ لأن الصوم في معناه إمساك عن الأذَى والضَّرَر، وكل ما يُسيء إلى الآخرين. وتحديد الصوم لدَى الفُقَهاء بأنه إمساك عن شهوة البطن والفرْج يُعتَبَر مُقَدِّمة فقط، يجب أن تستتبع الإمساك عن الانحرافات المادِّيّة والمعنوية في السلوك الإنساني.
ومباشرة الصلاة من شأنها كذلك أن تُنَمِّي في المصلِّي ضمير الخشية من الله في كلِّ تصرُّف يأتي به هو نحو نفسه أو نحو الآخرين معه في مجتمعه، فإذا اعتدى هذا المصلِّي على أموال الآخرين لا يكون لديه في نفسه معنى الإحساس بالله وبرقابته وخشيته.(/3)
165 ـ إنِّي طالبة بالمدارس الثانوية أردتُ أن أكون محتشِمة في ملابسي وغطاء الرأس، اتباعًا لتعاليم الدين، وعرضتُ الأمر على أمِّي وعارضتْ معارضة شديدة، بحُجّة أن هذا سيُظهرني كبيرة السِّنِّ، ويُثير سخرية الناس ضدي وتمسَّكْت برأيها، وأبي تردَّد في الأمر: مرّة معي ومرة مع أمي. وقال لي: إن بنات رجال الدين لا يَلبَسْنَ كما تُريدين أنتِ. فما الرأي؟
الجواب:
كثرة شيوع الخطأ لا يبرِّر صحته، كما لا يبرِّر اتباعه. فشيوع شرب الخمر في مجتمع لا يدلُّ على أن شربها صواب ويجب اتباعه. بل على العكس، ذيوع شُربِها دليل على وجود مرض اجتماعيٍّ يجب أن يعالَج المجتمع منه. وشيوع "الخَنفسة" بين المراهقين في وقت ما لا يدلُّ إلا على شيوع رُوح "اللامبالاة" وعدم الاكتراث بينهم، أكثر منها دلالة على صحة اتجاههم وصواب مسلكهم.
وعلى هذا النحو: إيثار البنت المراهقة أو المرأة الشابّة للباس يكشف عن ساقَيْها وفخذيها ومواضع الفتنة فيها لا يدلُّ على صحة فَهمها للحياة وأخذها بأسباب التقدُّم فيها. وإنما يدلُّ على تمكُّن "غريزة التقليد" منها. فهي تقلِّد ولو كان فيما تقلِّده ما يحمل على السخرية منها وابتذالها.
والاحتشام في الملبس على العكس لا يعرِّض البنت المراهقة أو المرأة الشابّة للسخرية. بل يوفِّر لها الاحترام، بجانب ما تتمتع به من خَفَر وحياء. وإذا نهى القرآن الكريم عن التبرُّج في قوله: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليّةِ الأولَى) (الأحزاب: 33). فإنّه يُؤثِر للمرأة البُعد عن جوِّ الابتذال. كما يؤثِر لها أن تصونَ كرامتَها كأنثى، لا تعرِض نفسَها على الرجل كما تُعرَض السلعة على المشتري، وإنما تدعوه هو يحرص على طلبها كشيء عزيز ينشده. والتبرُّج هو أن تعرِض المرأة من بدنها ما يغرِي الرجل بها.(/1)
وما يجب أن يفعله الإنسان لا يتوقّف على مجاراة الآخرين له في مباشرته. وإنما يتوقف فقط على الامتناع به. ولو أنَّ كل واحد انتظر في أدائه ما يجب على فعل الآخرين له ما وقع أداء واجب في المجتمع. وإذنْ لا عليكِ ـ أيّتُها السائلة ـ في أن تحتشمي في ملبسكِ مهما تبرَّج غيرك من نظيراتك. بل إصرارك على الاحتشام سيكون عنوانًا على استقلال شخصيتك مما يلفت النظر إليك بالإعجاب، وليس بالسخرية.
أمّا معارضة والدتك لاحتشامك في ملابسك فهي ـ كما تذكرين ـ تخشى أن تَكسُد سوقكِ في الإقبال عليك في سِنٍّ الزواج.. من أن تتهافت عليك العشَرات ممّن لا يعرفون سوى أنانيتهم وأهوائهم.
والمقياس في الدين ـ فيما يجب فعله وفيما لا يجب فعله ـ هو كتاب الله وسنّة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وليس أولئكم الذين يتحدّثون باسمه أو أبناءَهم أو بناتِهم.(/2)
140ـ تبادل الرسائل بين الفتى والفتاة
فتاة في السابعة عشر من عمرها من إحدى المحافظات تذكر في رسالة لها أن هناك شابًّا يُراسلها منذ عام مضى، ولكن لم تكن تقبل رسائله، وكانت تَرُدُّها إليه دون أن تَقرأها، ثم طرَأ لها أن تقرأ بعضها فقرأت خمسًا منها، واتَّضح أن معظم ما جاء بها أحاديث وآراء دينية، تأثَّرت بها في زيادة إيمانها وفي إقبالها على طاعة الله عز وجل.
ولم يطلب هذا الشاب الردَّ على هذه الرسائل، ولكنه يطلب أن تكون هذه الرسائل الوسيلة لمعرفة أسرار كل منهما للآخر، مؤكدًا في إحدى رسائله أنه لن يُقابلها مهما حدَث؛ لأنه يرى أن المقابلات حرام، ويكتفي بأن يُرسل الرسالة وهي تردُّ عليها.
وتَسأل الفتاة: هل قبول هذه الرسائل من هذا الشخص الذي يقول إنه يُحبها، حرام؟ وهل تَستمر في قبولها؟ وهل تردُّ عليه هذه الرسائل وتَتبادلها معه أم لا؟
لكي نَعرف رأي الإسلام في هذه الرسائل، أو في تبادل الرسائل بين رجل وامرأة كل منهما أجنبيٌّ عن الآخر، نَستعرض ما يُبيحه الإسلام في خِطبة الرجل للمرأة في وُجود محرم لها، فإن تجاوَزَ تبادلَ الرسائل إطارَ ما يقع في الخطبة، وكان هذا التجاوز مصدرَ فِتنة بين المُتبادلينَ لها ـ أمكننا أن نحكم بالحُرمة على كل ما يُثير الفتنة، ويُسهِّل وُقوع المنكر، ويُشير إلى عاقبة أمره في تبادل الرسائل.
في تحليل أمر الخطبة
إن الرجل والمرأة وكلاهما أجنبيٌّ عن الآخر، يُباح له أن يَرَى الآخر بما يُمكِّن كُلًّا منهما عن طريق الرؤية الحُكمَ بقَبوله أو برَفْضه، كما يُباح أن يسمع الحديث بما يُمكِّن كُلاًّ منهما عن طريق الاستماع الحُكمَ بقَبوله أو برفضه.
وعند الرؤية لا يُباح للرجل النظرُ إلى المرأة فيما وراء الوجه والكفين، وذلك بحضور مَحرم للمرأة. وعند تبادل الحديث يتمُّ الحديث في إطار المباح، وبما لا يُثير الفِتنة ولا يدفع إلى الإغراء.(/1)
والنظر والحديث من أيٍّ من الرجل والمرأة في ظلِّ رقابة المحرم، فوجود المحرم أشبه بوُجود الحارس أو الرقيب الخارجي، أو أشبه بوُجود الضمان لعدم تجاوز أيٍّ مِنهما ما يُحلُّه الله في هذا اللقاء لهما.
ولقاء الرجل للمرأة يجوز أن يتكرَّر حتى يتكوَّن الرأي المُقنع لقبول أو رفض أيٍّ منها للآخر، ولكن في الحدود والإطار الذي يَحفظ لهما الحِلَّ، ولا يجعلها وسيلةً لمُحرم أو مُنكر.
وإذا عُدنا إلى تحليل الرسائل المتبادَلة بين رجل وامرأة كلٌّ منهما أجنبيٌّ عن الآخر نجد أنه ليس هناك ضمان لكي تظل هذه الرسائل في حُدود الشرعية التي تكْفُلها الخطبة في وُجود مَحرم للمرأة، ومعنى عدم وجود هذا الضمان أنه يجوز إذا ابتدأت هذه الرسائل بأمور بعيدة عن التلاعب بالعواطف والإثارات للغريزة التي تُسيطر على مرحلة الشباب، وهي مرحلة المُراهقة، فإنها بعد عدة مرات قد تَنزلق إلى الجنس في تكوين الأسرة المُقبلة، وفي العلاقة الشخصية بينهما كرجل وامرأة، وعندئذ يكون الاختلاط الذي يُحذِّر منه الإسلام؛ إذ ليس معنى الاختلاط التصاقَ بدَن الرجل ببدَن المرأة، وإنما وُجود جوٍّ يُثير كلاًّ منهما نحو الآخر، ولو كان بالحديث والصوت، أو بالرؤية المتبادلة، أو بالرسالة المكتوبة، أو بالصور المُعبرة.
إن الشاب والشابة في سِنِّ المراهقة تَغلِب العاطفةُ ويَغلِب انفعالُ الحماسِ، ليس على تصرُّف كل منهما فقط بل على تفكير أيٍّ منهما وتصوُّرِه، كذلك العاطفة إذا تغلَّبَت يُفسَح لها الطريق قهْرًا في غير يَقظة بالحلال والحرام.(/2)
فإذا ذكرت السائلة في رسالتها أنها ازدادت إيمانًا وتديُّنًا بقراءة بعض الرسائل التي يُرسلها لها مَن يقول إنه يُحبها، لأنها حافِلة بالآيات والأحاديث الشريفة، فهي لا تَضمن أن تظل رسائله على هذا النحو، كما لا تضمن إذا بادلته الرسائل أن تُقيم في إطار الآيات القرآنية والأحاديث الدينية فيما تكتب، بل ربما تنساق ـ كما ينساق مَن يُحبها ـ إلى الكتابة في الحب والزواج والحنين إلى الأبوة والأمومة، وغير ذلك ممَّا يَشُدُّ الشاب والشابة إلى الانحراف أو على الأقلِّ إلى تجاوز الحلال ممَّا هو مشروع في خِطبة الرجل للمرأة.
وأَوْلَى للسائلة أن تَكُفَّ عن مبادلة الرسائل وألاّ تَستجيبَ لمَا يطلبه من تبادلها، وأن يَسلك كلٌّ منهما في تعرُّف أحدهما على الآخر المسلك الذي يَرسمه الإسلام لتَعرُّف الرجل على المرأة والمرأة على الرجل، وهو مسلك الخِطبة، فهو مسلك مأمون، بعيد عن غِواية الشيطان، ومُوصِّل إلى التقاء الرجل بالمرأة في ظل هداية الله.(/3)
61ـ تحديد النَّسْل بإسقاط الجنينِ
سيدة من إحدى المحافظات تقول إنها زوجةٌ في الثلاثينَ مِن عُمرها وزوجها يبلغ الرابعة والثلاثين وحياتهما المعيشية في يُسْرٍ ورخاء ولهما ابنان. وتشكو من زوجها أنه يَهْوَى الجلوس مع البنات كما يَهوَى توصيلهم إلى منازلهنَّ أو أمكنةِ عملهنَّ، وقد أجهضتْ نفسها مرتينِ قبل سنتينِ، بناءً على مُمارسة زوجها الضغط عليها.
وتمنَّت أن يرزقها الله ببنتٍ لتكونَ أختًا لولديْها فحملت للمرة الثالثة بعدهما، واستمر الحمل حتى الشهر الثاني، ولكن تحت ضغط الزوج كذلك، ورغم مشورة الطبيب الخاص بعدم الإجهاض أسلمت نفسها لإسقاط الجنين، وفعْلاً تمَّ إسقاطه، وله أكثر من شهر.
... ومنذ أن أسقطت جَنينها الثالث أصبحت في احتكاكٍ مُستمر مع زوجها وتعتقد كما تُسجل في رسالتها:
أنها خشيتْ زوجها الآن، ولم تخشَ اللهَ.
وسمعت وَسوسة الشيطان. وفي لحظة ضعفٍ أجهضت نفسها، وتسأل نفسها:
( أ ) هل سيُصيب الله ولديها بشيء لا ترضاه، عقابًا لمَا فعلت من الإجهاض، بعد أن تمنت الحمل الذي أجهضتْه؟
(ب) هل سيظل زوجها على عِصيانه؟
(ج) هل سيَهدم الله بيتها ويقضي على أسرتها؟ . هل.. هل..؟
وهي تسال الآن:
( أ ) ما الذي يُمكن عمله حتى تُكفِّر عن هذه الفَعْلة الشنعاء؟ وتقصد بها الإجهاض.
(ب) كيف تستطيع أن تُرضي ربها؟
وتذكر أنها تُباشر مُراقبة زوجها في مسلكه مع البنات، وتسأل:
هل بمُراقبتها لزوجها تَعصي ربها؟ لأن الآية تنهى عن التجسُّس في قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا اجْتَنِبُوا كَثيرًا مِن الظنِّ إنَّ بعضَ الظنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا). (الحجرات: 12) ..
ولكنها تردُّ على نفسها فتقول: إنها تخشى إنْ تركت رقابةَ زوجها ربما يتمادَى فيما يفعله حسب ظنها فيه، مع أنها لا تعلم شيئًا ممَّا يفعله. وتذكر أنها تتخبَّط بسبب هذا الشأن في مُتناقضات كثيرة:(/1)
مرة تقول: إنها لا تسأله، ولا تُراقبه، وتُفوِّض أمرها إلى الله وتتوكل عليه.
ومرة أخرى تعود وتقول: لا يَنبغي أن أقفَ أمام القطار، وأقول توكلتُ على الله. بل لا بد أن أُفكر أولاً فيما سيحدث مع التوكُّل على الله.
مشكلتان الآن في حياة السائلة:
الأولى: مشكلة الإجهاض للمرة الثالثة.
والمشكلة الثانية: ما تشكوه من سُلوك زوجها خارج المنزل كما تذكر.
ويَغلب الظن أن المشكلة الثانية هي المصدر الرئيسي للقلَق النفسي للزوجة السائلة، فإن الزوجة إذا لم تكن مطمئنة في علاقتها بزوجها يَسُوء ظنُّها فيه، ومِن أسباب اطمئنانها إذا خرج مِن المنزل أن يُعْلمها بالمكان الذي سيذهب إليه.. وبالمدة الزمنية التي يحتاجها لانجاز مُهمته.. وبالأشخاص الذين سيلتقي بهم.. وبالوقت الذي سيعود فيه على وجه التقريب إلى المنزل. إذْ مثل هذه التفصيلات تدفع الشكَّ الذي ينفذُ إلى نفس الزوجة وكلَّ وَسوسةٍ للشيطان، والهوى عندها، والقرآن إذ يجعل "السُّكْنَى" ـ وهي الاطمئنان النفسي ـ الهدف الأول للزوجية بين الذكَر والأُنثى في قوله ـ تعالى ـ: (ومِن آياتِه أنْ خَلَقَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا). (الروم: 21). يُنبِّه إلى ما يَجب أن يحرص عليه الزوجانِ في العلاقة المُقبلة بينهما، بأن يتوخَّيَا أثناء الخِطبة الوقوف على العناصر المُشتركة التي تجعل مِن طبيعتهما طبيعةً واحدة، بحيثُ يكون كلٌّ منهما بعد القِران عاملَ انسجامٍ وأُلْفَةٍ في حياتهما.
وإذا كانت سُنة الرسول عليه السلام تُؤْثر أن يكون اختيار كلٍّ مِن الزوجين للآخر قائمًا على أساس مِنَ التديُّن ـ وليس للجاهِ.. أو النسَب.. أو المال.. أو الجمال؛ فذلك لأن التديُّن ذاته عاملُ تقريبٍ بين الطبيعتين في السلوك، وفي النظرة إلى الحياة، إذ التديُّن يجمع الطرفين: الزوجة والزوج، على صراطٍ واحد اعوجاج فيه.(/2)
والسيدة السائلة تُعاني من سلوك زوجها أكثر ممَّا تُعانيه بالإحساس بالذنب بسبب الإجهاض فسلوك زوجها الذي تتصوَّر أنه غير مستقيم هو السبب في تقديرها الذي حمَلها على الإجهاض رغم إرادتها، ورغم مَشورة طبيبها الخاصِّ بعدم التخلُّص من الجنين. وكذلك هو السبب في أن تُراقب زوجها عن كثَب.. وفي أن تتردَّد في الاستمرار في مُراقبته أو في الكفِّ عنها تاركةً الأمر إلى قضاء الله وقدَره.
وإذا كانت السائلة تُبرز مشكلة الإجهاض على أنها المشكلة التي تُحاصرها في حياتها؛ فذلك لأنها هي التي تُجسم القلق النفسيَّ لدَيها.
وإسقاط الجنينِ صورة من صور تحديد النَّسْل.. والجنين له في بطن أمه مَراحلُ مختلفة، تذكرها الآية القرآنية في قول الله ـ تعالى ـ: (ولقدْ خَلَقْنَا الإنسانَ مِن سُلالةٍ مِن طينٍ ثُمَّ جَعلْناهُ نُطفةً في قَرارٍ مَكِينٍ "وهو الرَّحِم" ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً "أيْ دَمًا جَامِدًا" فخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً "أيْ قطعةً مِن اللحْم بقدْر ما يُمضغ الفم" فَخَلَقْنَا المُضغةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا العِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ "أي ينفخ الروح فيه" فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ). (المؤمنون:12ـ 14). ويأتي الحديث الشريف فيُوضح المدة لكل مِن المرحلتينِ الأُولتين. ويَروي عبد الله بن مسعود في قوله: أن رسول الله ـ عليه السلام ـ قال: "إنَّ أحدَكم يُجمع خلْقه في بطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا ثم يكون علقةً مثلُ ذلك، ثم يكون مُضغةً مثل ذلك، ثم يَبعث اللهُ مَلَكًا فيُؤمر بأربعِ كلمات. ويُقال له: اكتبْ عمَله ورِزْقَه وأجَلَه، وشَقِيٌّ أو سعيدٌ، ثُم يَنفُخُ فيه الرُّوحَ)...
فجنين السيدة السائلة ـ وقد مَضى على حمْلها شهر ونصف، كما تقول ـ لم تتصلْ به الروح بعد، ولذا على العُموم إسقاطه ليس له حُكم القتل لإنسانٍ دبَّت فيه الروح… ويبقى بعد ذلك:(/3)
ـ أن صحة الحامل إذا تعرَّضت لخطر إسقاط الجنين بقوْلِ مسلم ذي خبرة أمينٍ، عندئذٍ يكون إسقاطه حرامًا.
ـ وإذا لم تتعرض صحة الحامل لخطر إسقاط الجنين الذي لم تَدُبّ فيه الروح فاتفاق الزوجينِ على إسقاطه ضرورةٌ لرفْعِ الإثْم بسبب إسقاطه، وشأن إسقاطه شأن العَزْل في مُعاشرة الزوج لزوجته فهو حرامٌ إذا لم تُوافق الزوجة.
ـ وإذا توفَّر أن خشْية الفقر هي السبب الرئيسي لإسقاطه، وإنْ لم تتصل به الروح فتكون حُرْمة إسقاطه لا تقلُّ عن حُرْمة قتْل المَوؤدة بعد وِلادَتها على قيْد الحياة؛ لأن السبب في التخلُّص مِن أيٍّ منهما عندئذ عدم الإيمان بكفالة الله لرِزق الإنسان، التي يُعبِّر عنها قول القرآن الكريم: (نحنُ نَرْزُقُهُمْ وإيَّاكُمْ). (الإسراء: 31)..
ومن رسالة السائلة يتَّضح أن السبب عند الزوج لم يكن خشيةَ الفقر.. فهو مُوسِر وصاحب سَعة.. كما يتضح أن الزوجة لم تكن مُوافقة، وأن طبيبها كذلك لم يكن موافقًا وحُرْمة إسقاط الجنين عندئذ تعود للزوج وحده. والزوجة كانت مُكْرَهة إكراهًا أدَبِيًّا على الأقل، وكما تقول خشِيتْ زوجَها ولم تخشَ الله.
... والله صاحب الرحمةِ الواسعة. والسيدة السائلة تأمل في هذه الرحمة، ولا تترقَّب العقاب لها ولأولادها ولأسرتها طالَمَا تستغفر اللهَ وتَعود إليه طائعةً مؤمنة.
أما الرقابة التي تُباشرها الزوجة السائلة على زوجها فتَتصوَّرها: أنها تَجَسُّس يدخل تحت ما تَنهى عنه هذه الآية الكريمة: (يا أيُّها الذينَ آمنوا اجْتَنِبُوا كَثيرًا مِن الظنِّ إنَّ بعضَ الظنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا). (الحجرات: 12).. وهي وإنْ لم تكن بالمعنى المنهيُّ عنه تمامًا هنا إلا أنها مصدر لاضطرابِ الإنسان ومَدعاة لسُوء الظنِّ والتقدير، فالتجسُّس المقصود في الآية هو البحْث عن العوْرات وأكثر ما يُقال في الشر.(/4)
... والسائلة نفسها تتردد في أمر الرقابة التي تُباشرها على زوجها في حلِّها وحُرْمتها بين أمرين، بين ترْكها والاستمرار في مُمارستها، وأيًّا كان الأمر فسُوء الظنِّ يملأ نفسها… وتفسيرها للظروف والأحداث قد يحملها على الاصطدام مع زوجها.
... وأولَى لها أن تعود إلى نفسها وولَديها، وأن تَشغل بالَها بما يعود عليهما بالخير والنفع، وأن تدعو اللهَ في الوقت نفسه بأن يُوفِّقه إلى هِدايته، وربما إذا رأَى زوجها منها عدم الجدَل معه وعدم الاحْتكاك به يعود إلى نفسه في لحْظة من اللحظات فيُدرك ما لزوجته مِن واجبات في حياته وحياة أولاده وأسرته، والنَّشازُ الذي تتصوره زوجته في سلوكه الخارجي لا يدوم طويلاً وإذا طال فطُوله قد يرجع إلى عِنادها ومُخاصمتها، وليس لرَغبته هو في بقائه خارج الخط المستقيم.
... إن مثل هذه الأزمة في الحياة الزوجية أزمة وقتٍ، تضعُف وتتلاشَى بعد حينٍ إذا لم تُقدم الزوجة لها باستمرارٍ الوقود الذي يُزكِّيها وهو وَقُود المُشاحنة والمَحاجَّة.(/5)
1ـ إني فتاة على وشك الانتهاء من دراستي الجامعية. ولي علاقة تامّة بشابٍّ قريب لي منذ الصِّغَر. وقد فاتحني بحبِّه وعزمه على الزواج منِّي، فقلتُ له: تكلَّمْ مع أبي في هذا. فقال حينما أتخرَّج بعد عام واحد. ثم أحضر مصحفًا وأقسمَ عليه، وحلَفتُ أنا ـ أيضًا ـ على أن نتزوَّج. ثم اجتاز امتحانه بنجاح، وأنا كذلك. وأرسلت أهنِّئه فلم يردَّ عليَّ. ثم علمتُ أنه خطب فتاة أخرى. والذي أسأل عنه هو:
(أ) هل العلاقة التي عِشْنَاها معًا حرام، مع ما حدث فيها من أخطاء طَفيفة؟
(ب) وما السبيل إلى مغفرة الله لها؟
(ج) وما حكم اليمين التي أقسمناها معًا؟
لا أدخل هنا في التعليق على موقف السائلة من حبيبها، حين أجابها بأنه سيذهب إلى والدها بعد عام، عند تخرُّجه من الجامعة ليخطبها منه. وذلك على أثر سؤالها له أن يقابل والدها لخطبتها، إذا كان عازمًا على الزواج بها. فتأجيل الخطبة لمدة عام مع الاستمرار في علاقة الحًبِّ معها، التى تحدث فيها أخطاء طفيفة ـ كما تذكر السائلة ـ طوال هذا العام. هذا التأجيل لا يُثير الرِّيبة فحسب في صدقه في العزم على الزواج بها. وإنَّما يعطي الدليل الأكيد على عزمه على الغدْر بها بعد أن يقضي معها فترات مُمتِعة طول المدة الباقية للامتحان. وقسَمه على المصحف ـ وأغلب الظن أنه لا يعرف الله ـ هو لتأكيد خداعها فى المدة الباقية... لا أدخل في التعليق على ذلك لأنَّ موجة التحرُّر للمرأة في عالمنا المعاصر الآن موجة عابِثَة، تدفع بها إلى الندم أحيانًا، وأحيانًا عديدة في حياتها. وهى لا تعرف الله، ولا دينه إلا في وقت خاب فيه أملها، وتقف فيه وحدها مع تصرفاتها الخاطئة.(/1)
أما كون العلاقة التي عاشتْها مع حبيبها محرَّمة، وإلى أي مدى هي محرَّمة.. فهذا أمر يرجع إلى تقييم "الأخطاء الطفيفة" التي حدثت فيها. ويكفي فقط أنها لم تكن بمَحرم لهذا الحبيب، وكانت لها به علاقة تامة. وتلك علاقة آثمة. ودليل إثمها وحرمتها أنها جرَّتها إلى الندم، وخيبة الأمل. إذ الحلال والحرام في الإسلام ليس لصالح أحد، أو ضد مصلحة أحد، إلا لمَن يُباشره أو لا.
والسبيل إلى مغفرة الله عند ذنب ارتُكب. هو التوبة إليه. ولكن قَبول التوبة منه مشروط بصدق التائب في رُجوعه عن الإثم والخطيئة، وبعزمه الأكيد على عدم فعل الذنب مرة أخرى. فهل تصدُق السائلة لو تابتْ؟
اليمين التي أقسمها الحبيب هنا على الزواج من حبيبته ـ وهى السائلة ـ يمين خادعة، وكاذبة، وآثمة. وقد نهى الله عن الخداع عن طريق اليمين، فقال: (ولاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ) (النحل: 94) أي: لا تجعلوا من الأيمان سُبُلاً ووسائل للخداع. ولا شك أن حلفه على المصحف كان لخداع السائلة وحملها على البقاء في علاقتها به طَوال العام الباقي على الامتحان في الجامعة. وهو بهذه اليمين الخادعة اشترى بها علاقة العام معها. وقد صرَّح كتاب الله في النهي عن ذلك في قوله: ( ولاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) (النحل: 95) وعقابه غضب الله عليه في الآخرة. أما في دنياه فعليه كَفّارة اليمين، إذا أراد أن يكون مسلمًا.
واليمين التي أقسمتها السائلة فعدم برِّها بها لا يَرجِع إليها. وإنما يرجع إلى أمر خارج إرادتها وهو خداع الحبيب لها. ولكن لأنها عرَّضت الله ـ جلَّ شأنه ـ عن قصد إلى ما يتنزَّه عنه، سبحانه. وهو الحلف وعدم الوفاء بعهده.. فعليها كفّارة اليمين. وهى إطعام عشرة مساكين، أو كِسوتهم أو الإسهام في تحرير من فقد حريته لسبب من الأسباب. وعند عدم المقدِرة على أيٍّ من الثلاثة يكون الصوم ثلاثة أيّام.(/2)
109 ـ حبوب منْع الحمْل وتعقيم الزوجة
إني زوجةٌ وعمري ثمانٍ وثلاثونَ سنةً، وعندي ثلاثةُ أطفال، وحبوب منع الحمل تَضُرُّنِي جِدًّا، وتُسبب لي آلامًا كثيرة، وقد اقترح زوجي أخيرًا أن أعملَ عمليةَ تعقيمٍ لضمانِ عدم الإنجاب.
فهل أُقْدِمُ على العملية؟
لعملية التعقيم ـ التي تسأل عنها السائلة هنا ـ جوانبُ عديدةٌ:
الجانب الأول: هو الجانب الطبِّيُّ، أي الجانب الذي يَفصل فيه طبيبٌ يُوثَق فيه: في خِبرته، وفي مَشُورَته.
الجانب الثاني: هو الجانب النفسيُّ، أي هو ذلك الجانب الذي يتَّضح منه أثرُ هذه العملية على نفسيَّة الزوجة؛ إذ إنه سيَدور في خاطرها عدَّةُ تساؤلاتٍ عن مُستقبلها في حالة: ما إذا تُوفِّيَ عنها زوجها، وهي لم تزلْ في سِنِّ إنجاب الأولاد؟.. أو إذا ما تُوفِّيَ أحدُ أطفالها الثلاثة؟ أو ما إذا طُلِّقتْ وتَوفَّر لها زوجٌ آخر؟
الجانب الثالث: هو الجانب الدينيُّ، أي رأي الإسلام بعد ما يَنكشف أثر الجانبينِ السابقينِ، ورأي الإسلام في ذلك مُرتبطٌ ارتباطًا وَثيقًا في الحِلِّ والحُرمة بالنتائج الإيجابية والسلبية لمَا يُقرره الطب في هذه العملية، أو لمَا يَظهر مِن الأثَر النفسيِّ خاصًّا بها.
فإذا قالت الخِبْرةُ الطبية الأمينة بأن لهذه العملية على السائلة آثارًا جانبيةً، تَضرُّها مُستقبلاً، كان رأيُ الإسلام بتحريم إجراء عمليةِ التعقيم لها، وإذا كانت هذه العملية ـ مِن الجانب النفسيِّ ـ ستُحدث اضطرابًا وقَلَقًا في نفسيَّةِ السائلة، فكذلك رأيُ الإسلام لا يَنصحُ عندئذٍ بإجرائها لها.
أما تَضرُّرُ السائلة مِن تناوُل أقراصِ منْعِ الحمْل، فالأقراصُ بعَيْنِهَا يُمكن أن يكون لها بديلٌ غيرُ مُضِرٍّ، ويُمكن عدم تناوُل أقراصٍ مُطلقًا، مع استخدام وسائلَ أخرى، لا يَتعيَّن على الزوجةِ السائلة استخدامُها.(/1)
بل مُباشرةُ بعضها تعود على الزوج وحده والأطباء، أو الخبراء في تنظيم النسْل أدرَى بالوسائل التي هي أقلُّ ضرَرًا مِن غيرها.
على أن عملية التعقيم أصبحتْ ـ فيما أقرأُ ـ أيسرَ للرجل منها للمرأة وعلى صاحب الرغبة مِن الزوجينِ في الوقوفِ بالنسْل عند حدٍّ مُعيَّنٍ أن يتحمَّلَ هو شخصيًّا إجراءَ تَنظيمه، ويضمن مِن جانبه ما يُحقق الهدف.
وأخيرًا فلا نَنسى أن صُنْعَ الإنسان في حياته هو لا يذهب إطلاقًا بإرادة الله في هذه الحياة؛ إذْ إرادةُ الله في النهاية هي التي تُحدِّد ما لكلِّ إنسانٍ مَن طاقاتٍ ومِن أموال وأولاد، والقرآن يَذكر قول الله تعالى في التعبير عن إرادته ـ سبحانه ـ فيما يَتعلَّقُ بالأولاد في سورة الشورى:
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). (الشورى: 49 ـ 50).(/2)
89 ـ تَنكُّر الأبناء لرعاية الآباء
سيدة مُسِنَّة مِن إحدى المُحافظات، تبلغ من العمر الخامسة والستين، وتعرض أمرها، فتذكر:
بأنها تزوجت زوْج شقيقتها بعد وفاتها، وأنجبت منه طفْلاً، بجانب طفلينِ أنجبتهما شقيقتها المُتوفاة، وكان أحد الطفلينِ يبلغ سنةً ونصف سنةٍ، بينما الطفل الثاني لم يبلغ إلَّا أيامًا فقط.
واهتمت برعاية الثلاثة: في تَنشئتهم وتعليمهم حتى تخرجوا من الجامعة وتزوَّجوا، وكَوَّنُوا أُسَرًا مستقلة، وتَرَكُوها وحدها تعيش في منزل والدِهم بعد وفاته وعلى المعاش الذي قُدِّر لها يومئذِ له، وهو معاش ضئيل كانت تدفع نصفه أجرة السكن وصبرت على ضآلته. ولم يتقدم واحد منهم إلى مُساعدتها.
وزِيد معاشها فحمدت الله على هذه الزيادة، وهي تكفي لستْرها الآن، وكانت الزيادة بأثر رجعيٍّ، نشأ عنه مبلغ من المال هو الفرق بين الماضي والحاضر، وهنا فُوجئت بمُشكلة، وهي طلب إحدى زوجات أولادها أن تحصل على هذا المبلغ المُتجمِّد بحُجة أن لأولادها حقًّا فيه بطريق الإرْث.. وأن تكتفي هي بالزيادة منذ الآن، وهي تسأل:
هل يَستحق أولاد زوجها ـ وقد تُوفِّى منذ عشر سنوات ـ في هذا المتجمد من فروق الزيادة في مَعاشها؟
أولاً: إن أولاد زوجها ـ ومن بينهم ابنها ـ لا يَستحقون في معاش أبيهم فضلاً عن أن يَستحقوا في الزيادة التي طرأت على ربْط المعاش لوالدتهم، فهم قد بلغوا سِنَّ الرشد.. وأنْهَوْا تعليمهم العالى، وعُيِّنُوا في وظائف ذات مُرتب جيد، فلم يعودوا بحاجة إلى المعاش مِن الدولة.(/1)
ثانيًا: إن المبلغ المُتجمد الذي تُطالب به إحدى زوجات أبناء زوج السائلة هو مجوع الزيادة عن الأشهر الماضية لمعاش السيدة السائلة نفسها، وهو مِن حقِّها وحدها فلو فرضنا أن ورثة تملكوا عن مُورِّثِهم قطعةً من العقار، ثم باع جميع الورثة أنصبتهم في هذا الميراث، وبقِيَ نصيب واحد منهم لم يَبعه حتى الآن، فهل الزيادة في ثمَن نصيب الوارث الذي لم يبعه ـ تبعًا لارتفاع أثمان العقارات الآن ـ تكون حقًّا له وحده أم للجميع؟. لا شك أنها للوارث وحده الذي لم يَبع نصيبه كما فعل الآخرون. فما تطلبه إحدى زوجات الأولاد لزوج السائلة مِن الحصول على المبلغ المُتجمد الذي يُمثِّل الزيادة في معاشها عن المدة الماضية، هو جشَع ومُعاملة غير كريمة واستغلال لكبَر سِنِّ السائلة.
وكان الأولَى قبل أن تُفكر هذه الزوجة ـ نيابةً عن أولاد الزوج الثلاثة ـ في الاستيلاء على هذا المبلغ من السائلة أن تسأل نفسها، ماذا قدمتْه أو قدَّمه أحد الأبناء إلى هذه السائلة يومَ أن كانت تشكو من ضآلة المعاش، ويوم أن كانت تعيش على الكفاف، بينما الزوجات الثلاث مع أزواجهن كنَّ يعشْنَ في رخاء.. أو على الأقل: كُنَّ في وضْعٍ أحسن منها بكثير؟
... إنه لم يكن هناك وفاء من الأبناء الثلاثة للسيدة السائلة.. إنه لم يكن هناك تجاوب في الإحساس معها، إنَّ كل واحد مِن هؤلاء الأبناء بعد أن تخرَّج في الجامعة ترك منزل الأُبوة وكوَّن أسرة جديدة، واستقلَّ تمامًا، ولم يعُدْ يسأل عن حال هذه السيدة التي بلغت الآن الخامسة والستين، والتي أفنت حياتها في خدمة ابنها من زوجها وخدمة الولدينِ الآخرينِ اللذين أنجبتهما شقيقتُها من هذا الزوج: من الرضاعة في عهد الطفولة، إلى الزواج في عهد الرجولة، ومن الحبْو في الحركة إلى الاستقلال في العمل، ومن الأمية إلى التخرج في الجامعة.(/2)
... هي أمٌّ لواحد من الثلاثة، وهي بمَثابة الأم لأخويه وخالةٌ لهما، أين موقفهم منها الآن، ممَّا يطلبه الإسلام مِن الأبناء نحو آبائهم وأمهاتهم؟. فالقرآن يقول: (وقَضَى رَبُّكَ ألَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وبالوالدينِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عندكَ الكِبَرَ أحَدَهُمَا أوْ كِلَاهُمَا فلا تَقُلْ لهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لهُمَا قوْلاً كَرِيمًا واخْفِضْ لهمَا جُنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). (الإسراء: 23ـ 24)..
... فأينَ الإحسان الذي يأْمُرُ به الله الأولادَ: أن يُقدِّموه إلى آبائهم وأمهاتهم، والإحسان ليس عطاءً ماديًّا، بقَدْر ما هو إحساس إنسانيٌ نحو الآباء والأمهات: إحساس التكريم والاحترام.. إحساس البُعْد عن أيِّ إيذاءٍ معنويٍّ: إحساس الطاعة والرحمة.. إحساس الوفاء وردِّ الجميل.. إحساس الجزاء الطيِّب على ما بَذلوا من أموالهم، ومن جَهْدهم في الرعاية، ومِن حِرْصهم على دفْع الضرَر عنهم ومن عواطفهم نحوهم.
... إن التضييق على السيدة السائلة من زوجات أولادها، وأولادها معهنَّ: لا يَنُمُّ عن إنسانيةٍ وإحسانٍ في مُعاملتها، بل يَنُمُّ عن تَرَبُّصٍ بها، وإساءةٍ مُوجَّهة لها.
... ألم يَكفِهم أنهم ابتعدوا عنها؟.. ألم يكفهم أنهم لم يسألوا عن حاجتها؟.. ألم يكفهم أنهم قَطعوا زيارتها؟.. فإذا جاء لها خيرٌ يُعينها في مَعيشتها كان الانقضاض عليها لاغتصابه من يدها.
... إنها الأنانية وحبُّ الذات.. إنها إيثارُ المال على العطف والرحمة والمودة، لعَن الله الشيطان وهوَى النفس الأمَّارة بالسوء.(/3)
... وأنتِ أيَّتُها السائلة لك الله في وحدتك.. وفي ضعْفك.. ولا يحملنَّك سوء معاملتهم لكِ على الغضب عليهم.. فكنتِ مصدر الخير لهم في الأُولَى.. فكُوني أيضًا مصدر الخير لهم في ختام حياتك، بالعَفْو عنهم وسَعة الصدر لهم، فهم أبناؤُك عن قُرب.. وعن بُعد.(/4)
136 ـ رجل لم يتعلَّم، وعلَّم ابنته، وترك باقيَ أولاده من غير تعليم. والبنت في سِنِّ المُراهَقة، ويحضر قريب لها في سنِّها، فيَبيت معها في حجرة واحدة في منزل أهلها. وينفرد بها أحيانًا بحُجة أنه كأخيها، أو لاحتمال أن يتزوَّجها. فما الحكم؟.
إنَّ الوالد علَّم ابنتَه القراءة والكتابة ولكنه لم يُزِل عنها "أُمِّيّة" الحياة ولا الجهل بالسلوك الإنساني السليم. فبنت في سِنّ المراهَقة ويُباح لها أن تنام منفرِدةً مع مراهق مثلها في حجرة واحدة، وفي منزل الأسرة، أو يُباح لها أن تنفرد به في خَلوة خاصة، بحجة صلة القَرابة أو احتمال الزواج بها.. هذا الوضع أمارةٌ على "حُسن النِّيّة" أو "التدليل" للبنت من جانب الوالد.
وحُسن النِّيّة في هذا المجال، كالتدليل إلى هذا الحَدّ، يُشير من غير شَكٍّ إِلَى "الجهل" بحياة الشباب وخصوصًا في سِنِّ المُراهقة. كما يُشير إلى "الجهل" بالنتائج الوَخيمة التي قد تترتب على "انفراد" كُلٍّ منهما بالآخر في ظلام الليل وفي غرفة مغلَقة. وهى نتائج تمسُّ البنت التي علَّمها أبوها، قبل أن تمسَّ قريبَها أو زوجَها المحتمَل في علم الله يومًا ما.
أمّا حكم الله في هذا الوضع فهو واضح، وهو أنّه حرام على الأب أن يتركَه على نحو ما يسير عليه؛ لأنه مُنكَر قطعًا، وتجب على الوالد هنا إزالته، وإزالته باليد، وليس باللِّسان، فضلاً عن إنكار القلب، على نحو ما جاء في الحديث الشريف: "مَن رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
ولا أعتقد أن الأب يجهل هذا الحكم الشرعي. ولكن أعتقد إمّا أنه ضعيف الشخصية أمام ابنته المتعلِّمة، أو مُفرط في الأمل. وهو أمل زواج ابنته من قريبها المتردِّد عليه والذي يخلو بها وقت النوم أو فيما عِداه.(/1)
والحياة لمَن يعرِفها عن تجربة ـ كي يتقيَ الإنسان صِعابَها ـ في حاجة إلى إرادة قَوِيّة قبل الحاجة إلى المال أو إلى الحب والدلال. إذ الإرادة الحازمة التي يصحبها بصر بالأمور هي أنجح الوسائل في الحماية من الأضرار. والإرادة الحازمة تفرِّق بين "الحب" و "الدَّلع" وبين "ما ينبغي" و "ما لا ينبغي". والبصر بالأمور يُقدِّر أنَّ "الحلال" هو ما ينبغي عمله، وأن "الحرام" هو ما لا ينبغي عمله.
والوالد، لمصلحة ابنته، ومن إتمام تعليمها أيضًا، أنْ يُفهمَها أن سِنَّ المراهَقة هي أخطر مرحلة في تفوق الإنسان من الطفولة إلى الرشد، وأنّه على نوع السلوك فيها يتحدَّد مستقبل الإنسان الناشئ. فالذي يترك لهواه أن يسيطر على اتجاهه سيتردَّى بعد مرحلة المراهقة إلى حياة الضعف والمهانة. أما الذي يُمسك عن شهوته وعن كثير من رغباتِه في هذه المرحلة فيقود نفسه إلى حياة فيها كبرياء القويِّ الكريم على نفسه وعلى الآخرين معه في مجتمعه.
والحلال في الإسلام هو طريق القويِّ الكريم، والحرام هو سبيل الضعيف المُهان.
170 ـ فتى وفتاة اتَّفقا على الزواج بعد إتمام الدراسة، ويتقابلان في مكان عامٍّ، وأهل الطَّرفين غيرُ موافِقين على الزواج إلا بعد الانتهاء من الدراسة. فهل لقاؤهما هذا حلال؟
الجواب:
هل اتّفاق الفتى والفتاة هنا واتفاق الأهل معهما على الزواج بعد الدراسة يعني الاتفاق على الخطبة الآن، مع إرجاء عقد الزواج لوقت آخر، هو الانتهاء من الدراسة؟. إن كان ذلك هو المقصود فلا يحلّ لهما الآن الاختلاء في مكان عام أو خاصٍّ؛ لأن ذلك خارج عن حدود الخطبة، وداخل في نطاق ما يُبيحه الزواج.
وإذا كان اتفاقهما هنا على الزواج ـ والأهل معهما ـ يعني أنه قد صدر الإيجاب والقَبول منهما الآن، مع تأخير الدخول في الزِّيجة إلى إتمام الدراسة. فلقاؤهما مُباح في أي مكان يلتقيان فيه؛ لأنَّهما الآن زوجان شرعًا!.(/2)
وإذا كانت النَّوايا طيِّبة وصادقة بين الفتى والفتاة والأهل، فليس هناك أيّ مانع أو حرَج الآن في عقد الزواج إذا لم يكن قد عُقِدَ؛ لأن عقده يُضفي الشرعيّة على لقائهما في المكان العام، ويُجَنِّبهما حديث الآخرين عنهما. وما يُخشى ـ لو عُقدَ ـ من تكرار اللقاء والحيلولة دون الدراسة الجادّة بسببه، أو التورُّط في حادث يريدان تجنُّبه في الوقت الحاضر.. فإنَّ لقاءَهما الآن في المكان العام قد يجُرُّ إلى لقائهما في مكان خاصٍّ، وربما يجرُّ إلى الجنوح والانزلاق إلى ما يريدان تجنُّبه في كل وقت في حياتهما.
والحجة القائمة الآن ـ إذن ـ مِن أنَّ عقد الزواج سيشغلها عن الدراسة هي حُجّة واهية. لأنَّ المعوِّق عن الدراسة هو التلاقي. والتلاقي واقع بالفعل، وليس هو عقد الزواج.
والسبيل القَويم في حياة الشابِّ والشابّة هو التفرُّغ التامّ للدراسة إن سلكَا طريقها، دون خطبة، أو عقد زواج أو الدخول في زيجة، أو في صحبة وصداقة، أو ما شاكَل ذلك مما يجمع بينهما في حديث الأمومة والطُّفولة ومستقبل الأسرة.
إنَّ جَوَّ المراهَقة ـ وهو جوُّ الشباب ـ ليس جوًّا باردًا. إنّه قد يُلهب بحرارته مستقبل الإنسان فيحوله إلى ركام أو إلى رماد. ومن الخير أن لا يُقدَّم للشّابِّ ما يُشعله نار أخرى، حتى يستطيع السيطرة عليه بعقله وقلبه معًا. وهذا الوضع لا يتمُّ إلا إذا استقلَّ بنفسه وأصبح ذا قدرة على الإنفاق على شريكة معه في حياته أو مشاركتها في الإنفاق سويًّا.(/3)
175 ـ أثناء الألعاب الرياضيّة ترتدي البنات "الشُّورت" وفي هذا كشف لبعض أجسامِهِنّ، فماذا يجِب، هل يَترُكْنَ الرياضة مع ما فيها من فائدة، أو ماذا؟
الجواب:
أيّ نوع من الثياب ترتديه البنت الأندونيسيّة، أو الهندية، أو الباكستانية عند ممارستها الألعاب الرياضية وهي في سن المراهَقة؟ هل ترتدي "الشورت" أم السّروال الطويل؟
وهل يجب أن تمارس البنت في سن المراهقة الألعاب الرياضية "بالشُّورت" على قارعة الطريق العام، أم يمكن أن تكون ممارستها عندئذٍ داخل حديقة المدرسة ذات السور البنائيّ الكثيف المشذب، إن كانت الحديقة على طريق عامٍّ؟
فإن كان التقليد الغربي للبنت المسلمة في سِنِّ المراهقة في ممارسة الرياضة بالشُّورت، أمرًا ضرورِيًّا يدعو إليه النشاط البدني له وتنسيق قَوامِها، أليس من الأجدر قبل ارتداء الشورت وممارسة بعض الألعاب به أن تكون المدرسة لديها بعض العادات في نظام الأكل والشرب والتغذية بصفة عامة، مما لو اتبعتها كان لها قَوام الهيفاء، واستمرَّ لها هذا القَوام مع نشاط البدن بعد المدرسة أيضًا، وهي عاملة أو زوجة، أو أمٌّ إلى آخر سِنِّ حياتها.
إن ابن خلدون في مقدمته يُشير إلى السبب الذي من أجله كان الفرق واضحًا بين الغزال في ضموره، وحسن قَوامه، وسرعة حركته، والماعز في تكرُّشه وعدم إغراء منظره من القَوام وبُطْء حركته ـ مع أنّهما من فصيلة حيوانيّة واحدة ـ ويجعل السبب في نوع الغذاء واختلافه بين الجافّ والرَّطب. وفي كمِّية الماء التي تدخل معدة كلٍّ منها.
وبعد ذلك نفترض:
أنَّ مباشَرة الألعاب الرياضية للبنت في سنِّ المراهَقة في المدرسة أمر ضروريّ.
وأنَّ "الشورت" ضرورة حتميّة كذلك لممارسة هذا النشاط الرياضيّ.
وأن الهواء الطَّلق والعَراء في ممارسة هذا النشاط تتطلّبه الحكمة منه.(/1)
أليس ما يَكشِف عنه "الشورت" التي ترتديه البنت المراهِقة أثناء قيامها بالحركات المختلفة في الهواء الطلق والعراء يذهب بحَيائها وخَفَرها، وينمِّي عندها الإحساس بأنه ليس لبدنها حُرمة. وليس فيه موضع سِرٍّ تحرص عليه؟
وأليْسَ أيضًا ما يَكشف عنه "الشورت" من أسرار البدن عندئذٍ كفيل بأن يجعل البدن كله مبتَذَلاً لدى الشباب والرجل على السواء إنْ تعوَّد على رؤية المكشوف من الجسم، وآثار الإغراء والفتنة أول الأمر؟
أليس حياء المرأة مطلوبًا في حسن معاشرة الرجل لها؟
أليست المرأة هي التي تدفع الثمن عندما تبتذَل من الرجل؟
إنَّ "تبرُّج" الجاهليّة الأولى ليس إلا الكشف عمّا يجب على المرأة أن تستره مما يُعَدُّ سِرًّا خاصًّا بها وحدها، وبها وبرجلها بعد الزواج والدخول بها.
إن الحضارة المادِّيّة المعاصرة دعَت المرأة إلى الكشف عن مواضع الإغراء فيها وإلى تجسُّدها، إمعانًا في تلهُّف الرجل عليها، ولكنَّ ما تكشف عنه حملَه من الإمعان في ابتذالها والانصراف عنها، وأصبحت الزوجيّة مشاركة في نفقات المعيشة أو مشاركة في المسكن والإقامة. أما الحياة خارج المنزل فلكلٍّ سبيله وفقدَت الزوجية بذلك الرُّوح التي تحمل الرجل على طلب المرأة، واحترامها، والغيرة عليها.
ليس كل ما تدعو إليه الحضارة المادِّيّة المعاصرة خيرًا للمرأة وخيرًا للرجل. والإسلام يوم يدعو المرأة إلى الاحتفاظ بخفَرها وحيائها، ويدعو الرجل إلى أن يُكرم المرأة لحظةَ يطلبُها له شريكةً في الحياة الأسريّة، معبِّرًا عن هذا الطلب بما يسمَّى مهرًا.. يوم يجعل من المرأة مطلوبًا للرجل على الدوام، لا تتذلَّل ولا تتَزلَّف له باقتحام بمالٍ يسره ويحيط شخصَه بما تجسِّم به من ثياب مواضع الإغراء فيها أو بما تكشِف عن هذه المواضع.(/2)
إن التربية الحضارية الإنسانية هي التي تأخذ في اعتبارها بُعد المرأة عن أن تصبح سلعة تدلِّل نفسها عليها، وأخيرًا تُسلم فيها بأبخس الثمن، وهو الازدراء والمهانة.
الماضي ليس شرًّا كله، والحاضر ليس خيرًا كله. والإسلام ليس رجعيّة إذ يطلب حياء المرأة والحفاظ عليه، والمدنيّة المعاصرة ليستْ تقدميّةً إذ تدعو إلى ابتذال المرأة وجعلها لعبة يتسلَّى بها الرجال مرة ويُعرضون عنها أخرى.(/3)
162ـ سخرية المرأة مِن زوجها بسبب إدمانه على الشراب
كتبت سيدة من إحدى القرى تقول إن زوجها مُدْمنٌ على الشراب هو وأسرته.. ويُباشر الفحشاء.. ومُهمل لحُقوقها الزوجية، فهو يَسهر بالليل، ويُهمل بالنهار، وتَسخر منه.. وتَشمئز مِن الحياة معه.
وتسأل: هل هذا حرام "وتعني السخرية والاشمئزاز منه" وفيه ما يغضب الله؟
كما تَستفسر عن معنى قول الله ـ تعالى ـ: (الخَبيثاتُ للخَبيثينَ والخَبيثونَ للخَبِيثاتِ والطيباتُ للطيبينَ والطَّيِّبونَ للطيباتِ). (النور: 26).
وتسأل هل هي مثل زوجها في الخُبث، لأنها أصبحت زوجةً له؟(/1)
إن الإدمان على شرب الخمر والمسكر على العموم: يتبعه في غير احتياط وتَوَقٍّ من المنكر: مباشرة الزنا والفاحشة.. كما يَتبعه إهمال الزوج في الحقوق الزوجية الواجبة لزوجته، وعندما يُصبح الزوج مُقترفًا لجريمة الزنا، ومُهملاً في حق زوجته، يكون عندئذ موضع سخرية لها واشمئزاز منها لحياته التي يعيشها. ...
والقرآن إذْ يُحرم الخمر في قول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفلحونَ). (المائدة: 90). ليُؤكد أضرارها في آثارها على المُتناول لها، وعلى أسرته، وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، فقد جعلها هنا رِجْسًا وقَذارةً.. وإنها مِن عمل الشيطان، (رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ).. "وأُوضِّح أنَّ تجبنُّها فيه فلاح ونَجاة لمن يَتجنَّبُها في حياته". (فاجتنبوه). "أي اجتنبوا عمل الشيطان وهو تناول الخمر". (لعلَّكمْ تُفلحونَ).. كما أُوضح شيئًا مِن آثارها السيئة في الأسرة والمجتمع في قول الله بعد ذلك: (إنَّما يُريدُ الشيطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنكمُ العَداوةَ والبَغضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكمْ عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصلاة، فهل أنتمْ مُنْتَهُونَ). (المائدة: 91). وهذه السائلة في رسالتها التي وردت إلينا تُعلن سُخريتها من زوجها، واشمئزازها من المعيشة معه، كما تُعلن احتقارها له بسبب إهماله حقوقها الزوجية، وذلك كله يرجع إلى إدمانه على تناول الخمر، ولا شكَّ أن ذلك صُورة مِن صور العداوة والبغضاء بين الناس بسبب الخمر، وهم هنا الزوجة وزوجها، وأهله الذين يُشاركونه مباشرة المنكر. ...
والقرآن إذنْ بتحريمه الخمر يريد أن تكون العلاقات بين الناس طيِّبة.. وأن يَحتفظ الإنسان بكَرامته وسط أهله ومعارفه.. كما يُحافظ على رُجولته وأدائه حقوق الآخرين عنده.. يُريد الإنسان أن لا يكون مُهانًا في أية صورة مِن صور(/2)
الإهانة. ...
ولكنها الحضارة الأوروبية في مجتمعاتنا المعاصرة هي التي دفعت بشُرب الخمر، ولعِب المَيْسر، حتى كاد يُصبح كلٌّ منهما عادةً مِن العادات الاجتماعية: في منازلنا.. وفي نوادينا.. وفي احتفالاتنا.. وأصبح الغُلُوُّ في ظهور هذه العادة ضرْبًا من ضروب ما يُسمَّى "بالتقدم".. "والمدنية". وهكذا: يعبر بعض الناس عن مهانة الإنسان ومذلَّته عندما يُدمن على الشراب: "بالتقدم". كما يُعبر عن القلَق والضياع عندما يتعوَّد على المَيْسر: "بالمدنية"، ويُغريه لفْظ "التقدم". "والمدنية" .. ولا يُزعجه ما تنطوي عليه حقيقة الإدمان على الخمر، وحقيقة العادة على لعب الميْسر، والشباب المسلم المُعاصر يقع كثيرًا تحت الإغْراء، وقلَّما يبحث عن الحقيقة والجوهر لكثير مِن مظاهر الحياة العصرية.
والسائلة تسأل: هل سُخريتها مِن زوجها واشمئزازها مِن حياته ومعيشته يُغضب الله ـ جل شأنه؟ ...
كيف يَغضب الله مِن إنسان يَعبده، عندما يُنكر على إنسان آخر: مُباشرته للفاحشة والمنكر؟ إنَّ سُخرية السائلة واشمئزازها مِن زوجها ومِن حياته هو تعبير منها عن استنكار مباشرته الفاحشة والمنكر، والله ـ سبحانه ـ عندما ينهَى المؤمنين عن أن يَسخر قومٌ منهم بقوم آخرين منهم كذلك، في قول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قومٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهمْ ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ). (الحجرات: 11). يريد النهْي عن ذلك بين المؤمنين، وهل مِن صفات المؤمنين: الإدمان على شرب الخمر.. واقتراف جريمة الزنا.. وإهمال الحقوق الواجبة للآخرين؟ إن النهْيَ مُنْصَبٌّ على "المؤمنين" في موقف بعضهم مِن بعض، وحتى يكون زوج السائلة مؤمنًا: عندئذ تُصبح له حُرْمة المؤمن فلا يَسخر منه مؤمنٌ آخر، إذِ السخرية منه آنذاك تُغضب المولَى ـ جل جلاله.(/3)
أما الآية التي وردت في رسالة السائلة وهي قول الله ـ تعالى ـ: (الخَبيثاتُ للخَبيثينَ والخَبيثونَ للخَبِيثاتِ والطيباتُ للطيبينَ والطَّيِّبونَ للطيباتِ). (النور: 26). فليس معنى ذلك: أن السائلة بزواجها مِن مُدمنِ الشراب ومقترف الزنا، أصبحت خبيثةً وغير مقبولة عند الله؛ لأنها لم تكن تعرفه على حقيقته، إلا بعد الدخولِ بها والعيش معه بين أهله، وإنما المعنى: ينبغي أن تُوجَّه صفات النقْص في الإنسان ـ كالزنا والإدمان على الشراب مثلاً ـ لمَن يتصف بها فعلاً من الرجال والنساء، دون ذلكم من الأطهار والطيبين والطيبات. ...
والآية هنا تُريد أن تؤكد بُعْدَ السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عمَّا جاء في حديث الإفْكِ خاصًّا بها مِن اتِّهامٍ باطلٍ هي بَريئةٌ منْه كل البراءة. ...
والسائلة لها أن تَطلب الطلاق منه للضرَر بمُعاشرته، فليس هناك أكثر إضرارًا بإنسانٍ مَا، إذا كان رفيقه ومُعاشره في الحياة سِكِّيرًا.. ومُقامرًا.. وزَانيًا.. ومُتخلِّفًا في أداء واجباته، وعودته إلى الحياة الطبيعية أملٌ لا يُرجَى تحقيقه إلا في نطاق ضيِّقٍ؛ فهو مَريض بالعادة يَصعب عليه تغييرها.(/4)
ورابعًا: ما رأيُ الدِّينِ في غِناء الأغاني الدينية، مع العلْم بأن الغِناء لا يَسمعه أحدٌ في بعض الأحيان، وقد لا يَسمعه إلا بعض الأخوات؟
وعن السؤال الرابع والأخير عن رأي الإسلام في الغناء بالأُغنية الدينية في مجلس خاصٍّ، أو في وحدة للإنسان المُغَني، فإن بعض العلماء يرى جوازه إذا زاد في محبَّة الله ورسوله، بل ويراه مَطلوبًا أيضًا؛ لأنه عندئذٍ ليس مَلهاةً، تَتلهَّى به النفس، وقد جاء في حديث صحيح أن: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميَه بقَوْسِهِ، وتأديبَه فرَسه، ومُلاعبتَه أهله، فإنهنَّ من الحق".
إذِ التدريب على رمْي القوس يُساعد على دقَّة التصويب في الجهاد في سبيل الله، وكذلك تأديب الفرس على الكَرِّ والفَرِّ، أما مُلاعبة الأهل ـ وهم الزوجة والأولاد ـ فهي مشاركة فيما يُدخل عليهم السرور ويُوطِّد بينهم العلاقات.(/1)
142- صُحبة غير المسلم مُشاركةٌ في التحدِّي للقيَم الإسلامية
عبْدةٌ لله، من إحدى ضواحي القاهرة، وهي طالبة بالمعهد وتلتزم بالزيِّ الإسلامي كما تقول، وتُصادق صاحبةً لها لا تلتزم بهذا الزيِّ، ولكن لحُسن معاملتها أصبحت أختًا لها، وهذه الصاحبة تعرف شابًّا غير مسلم، وتُصادقه وتكاد لا تفارقه، والثلاثة يَسيرون جنبًا إلى جنب في أوقات فراغهم؛ الفتاتانِ المسلمتان والفتَى غير المسلم، وتَعتبره الصاحبة كأخٍ لهما، وقد انضمَّ إلى هاتين الفتاتينِ فتاتانِ أخريانِ مسلمتان من طالبات المعهد تُشاركان في المسيرة وأصبح العدد أربع فتيات مسلمات وفتًى غير مسلم، تربط بعضهم ببعض علاقة الزمالة والصداقة والمشاركة في أحاديث الفراغ.
وقد لُوحظ من بعض المعارف على السائلة ـ وهي متديِّنة كما تذكر ـ أنها تختلط بأجنبيٍّ عنها، ليس من مَحارمها ولا مِن دينها، وطُلب منها أن تُنهيَ هذه العلاقة، ولكنها تقول: إنها لا تستطيع أن تبتعد عن صديقتها التي هي على صلة وثيقة بالفتي غير المسلم؛ لأنها أصبحت كأخت لها.
وتسأل: كيف تجمع بين البقاء على العلاقة مع صديقتها وبين ألا تُغضب الله بالاختلاط مع هذا الفتي غير المسلم؟
السائلة ـ وهي عبدة لله كما تحب أن تَصف نفسها ـ تريد أن تجمع بين متناقضات في حياتها:
أولاً: تقُص السائلة عن نفسها أنها متديِّنة وتَتزيَّى بالزيِّ الإسلامي، أي تتحجب فلا تُرِي زينتها لغير مَحرم لها، وفي الوقت نفسه تَعُدُّ أمرها لرُفقة هذا الفتي غير المسلم مع صديقتها المسلمة التي اتَّخذته أخًا لهما معًا، وإذا نُبِّهت من بعض معارفها بوُجوب ترْك هذه الرفقة اعتذرت بأنها لا تستطيع؛ لأن صديقتها في علاقتها بها أصبحت أختًا لها تحرص عليها كل الحرص، أين تديُّنها؟ أفي الملبس وهي مَسخرةٌ له في لقاء الفتى غير المسلم؟ أم في الاختلاط بمَن ليس مِن دِينها ولا من مَحارمها؟(/1)
وثانيًا: إنها تَثِقُ ثقةً لا نهاية لها في صديقتها التي أصبحت أختًا لها، كما تقول، وفي الوقت نفسه صداقة هذه الصديقة للفتى غير المسلم وهو طبعًا أجنبيٌّ عنها في دينها وفي علاقة الدم واختلاطها يُبعد الثقة بها؛ لأنها غير أمِينة على نفسها، وواقعةٌ تحت إغراءِ أجنبيٍّ عنها، وبالتالي غير أمينةٍ على دينها وعلى مَن تتصل بهم بمَعرفةٍ أو صداقةٍ، وطالما لا تُؤمَنُ فليست موضع ثقة، وهكذا تَثِقُ بمَن لا يُوثق به، وتأتمن مَن لا يُؤتَمنُ على نفسه أولاً.
وثالثًا: تُحاول أن تَجمع بين صداقة هذه الصديقة وفتاها الأجنبيِّ عنهما دِينًا وبين رضاء الله عنهما، وهو أمر مشروط بعدم ارتكاب المعاصي والآثام، بينما هي غارقةٌ في المعصية بالاستمرار في صداقة هذه الصديقة وبالاختلاط مع هذا الفتي غير المسلم وغير المَحرَم بالأَولَى.
هذه الصديقة تُزيِّنُ لنفسها ولصديقاتها مِن الشابَّات المسلمات الاختلاطَ بالشبان غير المسلمين، وتتصوّر أنها ترتفع في العلاقات إلى الدائرة الإنسانية فوق الدين وربما فوق الوطن، وهذا التصوُّر في غاية الخُطورة على البنت المسلمة، يُضعف عندها الإيمان بإسلامها ويُرشِّحها لأن تُقيم علاقاتٍ مع غير المُسلمين، تُصبح فيها مُرتدَّة عن دِين الله، ويُصبح ولدُها ابنًا لغير مسلم.
هذه علمانية في مجال الأسرة وفي مجال العلاقات الاجتماعية.(/2)
وقبل الحرب الأهلية في لبنان شاع هذا التصوُّر عند الشابات المسلمات هناك، وأصبح من الحضارة والمدنية أن تتعرَّف المرأة المُسلمة على غير المسلم وتختلط به في علاقة غير شرعية، وربما تتزوُّجه زواجًا مدنيًّا أو زواجًا علمانيًّا كما يقولون يبقى لها اسم المسلمة وهو غير مسلم في عقيدته في إصرارٍ وفي تحدٍّ. وهذا الاتجاه العلماني في تكوين الأسرة بزوجةِ مَن يُعرف بالطبقة "الأرستقراطية" في مجتمعاتنا المعاصرة إن كانت هناك طبقة مُميَّزة، وهو اتجاه يهُزُّ في نفس البنات المسلمة الاعتزازَ بالإسلام والانتماءَ إليه، ويجعلها تتطلع إلى إنسان تنجذب إليه أو تقع في إغرائه ولو كان غريبًا عن إسلامها، ولو كان حاقدًا على المسلمين ومُتربصًا بهم الدوائر، وربما للتستُّر يُعلِن اسماً إسلاميًّا بجانب اسمه الذي عُرف به.
وربما هذا الاتجاه كما يجعلها تتجاوز الدِّين في علاقتها بالرجل يجعلها كذلك تتجاوز عن الوطن في علاقتها به، فتَختلط أو تتزوج بأجنبيٍّ عنها في الوطن والدين معًا.
هذه الصديقة السائلة إمَّا أن تكون بلْهاء أو خبيثة، إنها تُزيِّن طريق الشيطان، تُزيِّن طريق الضعف والاستسلام الذي سلَكَتْه للأُخريات.
والسائلة لا تُرضي اللهَ بما تتمسك به مِن صداقة الصديقة وإنما تُرضِي الشيطان، وإرضاء الله في شيء واحد، وهو أن تَقطع علاقتها بهذا الفتى غير المسلم وصديقته المسلمة، وهي الآن مُخيَّرة بين إرضاء الله أو إرضاء الشيطان، لكن الجمع بينهما لا يتمُّ أبدًا.(/3)
8 ـ قد اتَّهَمْتُ عندي خادمة بسرقة كبيرة، وتمكَّنْتُ من إيذائها في سمعتها، ومستقبلها، ومهنتها، علاوة على حبسها وتعذيبها، وأنا معتقِد: أنها سارقة!.
وأخيرًا وجدتُ المسروقات متروكةً في مكان، وأنا الذي وضعتُها فيه. فكيف السبيل إلى محو هذه الخطيئة؟.
إنَّ الله ـ سبحانه ـ ضمانًا لحُسْن العلاقات بين المؤمنين، وتريُّثًا من الوقوع في أخطاء في هذه العلاقات ـ يطلب من المؤمنين أن يتجنَّبوا أنواعًا عديدة من الظَّنِّ، فلا يدعوها تتحكّم في نفوسهم، فضلاً عن مجاراتها في التطبيق في السلوك واتخاذ المواقف. وذلك لأنَّ بعضًا منها قد يدخل في حدود الإثم ونطاق المعصية، إن ترتَّب عليه ضرر للغير، يقول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْم ) (الحجرات: 12).
واتهام السائل خادمتَه بالسرقة الكبيرة هو نوع من الظَّنِّ الذي أدَّى إلى الإساءة إليها في مستقبلها وسمعتها، وإلى تعذيبها في بدنها بالضرب والحبس. فهو ظن ينطوي على إثم ومعصية قطعًا. واعترافه بأنه باشر خطيئة يطلب السبيل إلى محوِها هو مقدِّمة نفسية للعودة منه إلى سبيل الله وطلب المغفرة منه. وسبيل الله هنا هو تجنُّب الظُّنون في المستقبل في تحديد علاقة الإنسان بغيره.
والطريق إلى مغفرة هذه الخطيئة عند الله أولاً هو التوبة النَّصوح. وهى التي تنطوي على العزم والتصميم على عدم الرجوع إلى ذات الخطأ في مستقبل الحياة.
والطريق ثانيًا إلى محوها عند الله أيضًا وعند الناس ـ وعند خادمته قبلهم ـ هو إعلان براءَتها أمام مَن شَهَّر بها في مواجهتهم، إعلانًا صريحًا واضحًا، ثم طلب الصفح منها وهم حضور.(/1)
إنَّ الخادمة في موقفها ممّا اتُّهِمت به كانت ضعيفةً، لا تستطيع رَدَّ هذه التهمة بغير الحَلِف بالله، كما لا تستطيع دفع الاعتداء عليها بالضرب والتعذيب، وبالأولى لا تستطيع محو ما يصفه السائل بسُمْعتها من تشويهٍ. ولكنَّ السائل وحده بما رُسِمَ له من طريق هنا يملِك تحويل ضعفِها إلى قوة، كما يملِك تحويل عدم ثقة الناس بها إلى ثقة فيها. والثقة في النفس هي كل ما تملِكه الخادمة في حياة العمل وحياتها الزوجية المُقبلة.. بل هي كل ما يملكه أيُّ إنسان في حياته.
والسائل، باعترافه بخطئِه، فيه الأمل أن يُحيي نفسًا كاد يصبح وجودُها عدمًا. وهى نفس قدَّمت له من الخدمات ما هو في أمسِّ الحاجة إليها. وقد وضع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أصول المعاملة الإنسانية الكريمة بين الخادم ومخدومه، فيما يروى عنه هنا: "إخوانُكم خَوَلُكم "أي خُدّامكم وعَبيدُكم هم إخوان لكم مُتساوون معكم في حقوق الحياة" أطْعموهم مما تُطعمون أنفسَكم، وألبِسُوهم مما تَلبَسون، وإن كلَّفتموهم بأمر لا يستطيعونه فأعينوهم عليه"، وهم مع ذلك لهم نفوس إنسانية كرَّمها الله فيما يقوله بوجه عام في قيمة الإنسان: (ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70).(/2)
180 ـ إنَّني طالبة بكليّة الطبِّ وأؤدي فرائض الله. ولكنِّي ألبس الملابس القصيرة فوق الركبة وليس على رأسي غطاء، وذلك مجاراة "للمودة" في المجتمع. ولكنِّي ألبس جَوْرَبًا ثقيلاً. فهل يُغني عن الملابس الطويلة؟
الجواب:
الجَوْرب الثقيل إن كان محدِّدًا للجسم فهو كاشف عن سماته ومُبرِز لمفاتنه. وهو بذلك لا يُغني عن الملابس التي تستره. والجورب الثقيل هو اليوم مع الملابس القصيرة جِدًّا فوق الركبة هو من "مودة" الأزياء، كالسِّروال الملاصِق للبدن سواء، قُصِد بكلٍّ منهما إبراز ما يُغِري في جسم المرأة، ممّا يُثير الجدل في علاقته بها.
وفرائض الله التي شُرِعَتْ من صلاة، وزكاة، وصوم هي لإعداد الإنسان بحيث لا يقع تحت تأثير الاتجاه المادِّيّ. وهو ذلك الاتجاه الذي يخضع الإنسان لشهوتِه وهواه والمتع المادِّيّة وحدها في الحياة.. هي لتوجيه الفرد بحيث يعيش إنسانًا محتفِظًا بكرامته الإنسانية وبقيمه العليا في الحياة التي تمثِّل الإنسانية خيرَ تمثيل.
وإذا كانت الصلاة هي لتذكير المصلِّي بربِّه في الوجود، كي يَحول تذكُّره للهِ دون الاستغراق في الحياة المادِّيّة، فالصوم هو للإمساك والحرمان مما هو مُتع ومَلَذّات مادّيّة. وليس الصوم هو إمساكًا عن إغراء ما يؤكَل أو يُشرَب فقط. وإنما هو كذلك إمساك عمَّا يغرِي في لغو الحديث أو الخوض في أعراض الناس أو في اتباع أزياء الموضة للمرأة. والزكاة قُصِدَ بها تعلم العطاء للآخرين، والحَدّ من الأنانية في الاقتناء والادِّخار، حتى لا يقع الإنسان تحت إغراء المال وفتنته، فيعبده وينسى نفسه والآخرين معه في أسرته ومجتمعه.
ومن هنا نرى أن أداء فرض العبادة في الإسلام ليس أداء شكل ومظهر. وإنّما هو أداء التزام بسلوك معيّن أو بموقِف معيّن. في الحياة وبتفكير معيّن.(/1)
والمسلم الذي يجمع بين النقيضين في سلوكه: يصلِّي، ثم يقتل، أو يَزني، أو يسرق، ويصوم رمضان ثم يلغو في أعراض الناس بالباطل ويُسيء بالوشاية للآخرين، ويُمعن في انتهاك حُرْمته الإنسانيّة.. فيعرِض نفسه في سوق السلع البشريّة "اللي ما يشتري يتفرج" باسم المودة وأحدث الأزياء، ويُزكِّي ثم يعوِّض زكاته من مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل... هذا المسلم يقِف عند شهادة: لا اله إلا الله، ولم يدخل بعض مجال التطبيق العمليّ بالإيمان بالله ورسالة الإسلام.
الإسلام هو التزام بخط معيَّن في التفكير، وفي السلوك، وفي العمل. هو خط الاستقامة أو خط الإنسانية. والالتزام بهذا الخط لا يفرضه أحد على أحد. وإنما تفرضه مشيئة مَن آمَن باختياره. فلا إكراه في الدين. ولكنْ يوم أن يدخل الإنسان بإرادته يُلزِم نفسه بمبادئه، ويصبح مسؤولاً عن تنفيذها أمام الله وحده. والإنسان يوم يؤمن بالله ويؤدِّي أمانةَ الإيمان يخدم نفسه وليس أحدًا سواه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17).(/2)
7ـ لعن الله الراشيَ والمرتشيَ. ولكن في بعض الجهات إن لم يدفع الإنسان تتعطَّل أوراقه ومصالحه. فما الرأي؟
إنَّ السائل ذاته يعلم جواب سؤاله، وهو: أن الراشي والمرتشي، سواء عليهما لعنة الله. وهذا حقٌّ. إذ يقول الله سبحانه: (ولاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188).. فالآية في توضيح حرمة الرِّشوة صوَّرتها أولاً بأنها أكل لأموال المجتمع بالباطل؛ إذ المال الذي يُعطَى من فرد إلى فرد تتعلّق به منفعة آخرين. فإذا أُعطِيَ أو أُخِذَ بغير وجه مشروع فإن ذلك عندئذٍ يفوِّت على الآخرين حقَّهم في المنفعة به. ثم صوّرت نتائجها بأنها تُوَصِّل إلى ظلم يعود على فريق من الناس، وهم مَن تَخطّاهم الحاكم المرتشي في تحقيق مصلحتهم لحساب الراشي.
ولكن ما يريد أن يعلمه السائل هو: كيف السبيل إلى القضاء على الرِّشوة، إذا كان جو العمل والخدمات موبوءًا بالرِّشوة، لسبب من الأسباب. إذ في مثل هذا الجو قلّما يحصل إنسان ما على إنجاز مصلحة له، دون أن يدفع "إكراميّات" لإنجازها، كما يقول هو في سؤاله.
ومنطق السائل في مُجاراة الوضع الغالب هو منطق المستسلِم الذي يريد أن يساير ما يجري، وإن كان يعتقد بعَدَم شرعيتِه، ويرى الأضرار الناتجة عنه.. هو منطق الأناني الذي يريد أن يُنجز مصلحته، مادام هو يَقدِر على دفع الرِّشوة، وإن أدَّى ذلك إلى إضرار الآخرين وهم الذين لا يستطيعون الدفع، فتتأخّر مصالحهم أو تُهمَل كلية.. هو منطق الذي لا ينجذب إلى المعاني الإنسانية في الحرص على مَن هم معه في مجتمعه، بقَدر ما ينجذب إلى المال وقوته هو منطق الذي لا يُؤمِن بالقِيَم العليا.. لا يؤمن بمبادئ الدين التي تمثل هذه القِيَم.(/1)
إنّ الوضع هو وضع الإيمان بالقيم العليا التي تحقق مصلحة المجتمع. ومن بين هذه القِيَم مقاومة المنكَر في أي صورة له. إنه يطلب من المؤمن أن يقاوم المنكَر باليد أولاً أن استطاع، فإن لم يستطع مقاومته باليد فتأتي المرحلة الثانية في المقاومة وهى إنكاره باللسان.. أي بعدم الرِّضا عنه وعمَّن يُباشره، وبعدم معاشرته. ومن هذه المراحل الثلاث لمقاومة المنكَر: لا يكون هناك مَحَلّ للاستجابة إلى مُجاراته والمُشارَكة فيه، بحيث يَطُول أمَدُه إلى حين.
نعم قد يرى المُقاوِم للمنكَر عنَتًا ومشقَّة وإرهاقًا من مقاومته إياه. ولكن من نتائج الإيمان ومن مظاهره: مُلاقاة العنَت والمشقَّة في ارتياد الطريق السليم. وصبر المؤمن ـ وهو جزء من إيمانه ـ هو الذي يُنجِيه ويُيَسِّر له الأمر في النهاية.
الأمر يدور بين وضعين: إما ترك الفساد يشيع ويسيطر على علاقات الناس بعضهم ببعض، وإمّا مقاومته. وفى سبيل المقاومة تكون صِعاب يتغلَّب عليها بالتحمُّل، وفى مقدِّمة السبل لمقاومة الرشوة ـ وهى مرض اجتماعي خطيرـ إعادة أولي الأمر من وقت لآخر لدراسة مستويات المعيشة والعمل بقَدْر الإمكان على تيسير أمرها، وبخاصة لأصحاب الدخول الضيقة. هذا بجانب الرقابة الحازمة والقدرة الطَّيِّبة في أسلوب الحكم.
146 ـ عند قضاء بعض المصالح من الجَمعيّات وغيرها لا بُدَّ من دفع بعض المبالغ لمَن يقوم بإنجاز العمل المطلوب، فهل هذا جائز؟
الجواب: ...
السائل يقصِد طبعًا ما يُدفع من مبالغ ـ ولو زَهيدة ـ زيادة على ثمَن السلع التي تُباع في الجمعيات العامّة، أو زيادة على الرسوم في المصالح الحكومية لإنجاز الخدمات الفرديّة للجمهور مما يسمَّى بإكرامِيّات.
ففي حال عدم دفع "الإكرامية" في الجمعيات هل يُبخَس المشتري فيما يشتريه: في كيله أو وزنه أو نوعه؟ إن كان الوضع كذلك فدفع الإكرامية وقَبولها حرام.(/2)
أمّا دفعه فلأنّه تحريض على البَخْس في الكيل أو الوزن أو النوع لمَن لا يدفعها.. وأمّا قَبوله فلأنه ينطوي على أخذ زيادة في ثمن السلعة المتَّفَق عليه فهو أكل أموال الناس بالباطل.
فإذا كان دفع الإكرامية أو عدم دفعها سواء في عدم التأثير على الكيل أو الوزن أو النوع في السلعة فذلك أمر يدخل في معنى الإهداء وهذا جائز.
وإذا كان إنجاز الأعمال في المصالح الحكومية يتِمُّ أسرع أو على وجه مَرْضِيٍّ إنْ دُفعت الإكرامية.. ويُماطل في إنجازها أو إذا تَمَّ على وجه غير مَرْضِيّ إن لم تدفع. فالإكرامية هنا في دفعها وقَبولها أكل أموال الناس بالباطل.. إذ المفروض أن مصالح الأفراد في المصالح الحكومية سواء، وإن إنجازَها يجب أن لا يؤثِّر عليها ويلحق بها أذى وضرَر ما.. مادِّيًّا أو أَدبِيًّا..
وعلى كل حال يجِب أن لا تكون حاجات الناس موضع استغلال في البيع والشراء، وفي العقود جميعًا.. وفي إنجازها.. وأساس المعاملة في الإسلام هو أن: "لا ضرَر ولا ضِرار" وما حرم في أنواع المعاملات تحريمه كان قائمًا على دفع الضَّرر والإيذاء..
فالرِّبا مهما قلَّ ترجع حرمتُه إلى استغلال الحاجة.. وتطفيف الكيل أو بخْسه يعود في تحريمه كذلك إلى استغلال الحاجة وأكل أموال الناس بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ، يحرم لأنِّه ينطوي على هذا الاستغلال والبُيوع الفاسدة كلّها تعود في فسادها إلى إلحاق ضرر بأحد طرفي العقد وبهما معًا..
وإنجاز مصالح الأفراد في دواوين الدولة هي أصلها عقود على منافعَ، الدولةُ طرَف والأفراد طرف آخر.. وأيٌّ من الطرفين يُلحق ضررًا بالطرف الآخر عليه وِزْره وحُرْمَته..
ومن هنا كان التهرُّب من دفع الضرائب حرامًا؛ لأنّه يُلحق الأذى بالدولة ويُخِلُّ بالنقد..(/3)
وكانت الرشوة حرامًا؛ لأنَّها تُسَبِّب في أكل فريق من أموال الناس ومصالحهم وكان التقصير في إنجاز المصالح في المكاتب الحكومية حرامًا لأنه يلحق ضررًا بالأفراد الذين لم تُنْجَز مصالحهم..
والحلال بيِّن والحرام بَيِّن. ما يوصِّل المنفعة والخير فهو حلال.. وما يسبِّب أذى أيَّ أذى فهو حرام.(/4)
5ـ أنا مُربّية لطفل في منزل بالزمالك، ومعي عامل بالبيت يقوم بطهي الطعام. وقد كلَّفتني سيدة المنزل برعاية البيت. وأرى هذا الرجل العامل يأخذ كل يوم أشياء من المنزل، وخصوصًا من المأكولات. فهل أبلغ السيدة بالأمر؟ أم يكون هذا حرامًا؛ لأنه قد يقطع عيشه؟
إنَّ السائلة استُؤمنَتْ على رعاية شؤون المنزل من قِبَل سيدته. ومن أهم شؤونه: المحافظة على مالها. ويجب على كلِّ مَن استُؤمِنَ على أمانة أن يُؤَدِّيَها كاملةً غير منقوصة. وألاّ يكون مسؤولًا عن التقصير فيها. يقول الله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذِي اؤتُمِنَ أمانتَه ولْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) (البقرة: 283). وجاء في التحذير والخيانة في أداء الأمانة قول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27).
على أنَّ ما يقوم به الرجل العامل في المنزل ـ في سؤال السائلة ـ هو عمل مُنْكَر إذ أنه سرقه من مال هو وديعة بين يديه. والمُنْكَر إن كانت تَحْرُم مُباشَرتُه فيجب على مَن يَروْنَه مقاومتُه: إما باليد، أو باللسان، أو باستنكار القلب: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
والسائلة تستطيع بلسانِها أن تُزيل هذا المُنكَر، وهو السرقة. إما بنُصح الرجل العامل في المنزل بالكَفِّ عن سرقة مال السيدة، وإمَّا بإبلاغ السيدة الأمر، إن لم يستمع إلى النصح.
وعليه فالسائلة ـ أداءً لواجب الأمانة مرَّة، وأداء كذلك لواجب إزالة المنكر مرة أخرى ـ مطلوب منها شرعًا أن تُخبِرَ رَبَّة البيت بما يفعلُه الرجل من عبَث في مالها. وهى مسؤولة عن التأخير فى إبلاغها أمام الله، مسؤولية مزدَوجة.(/1)
أمّا ما تخشاه من إنهاء صاحبة البيت لعمل هذا العامل في منزلها، فإنها تخشى أمرًا لا يحرِص هو على استمراره، ولا يخشى وُقوعه بالتالي؛ لأن الذي يُبَدِّد في مال غيره ويعبَث فيه خلف ظهره، وقد اؤتُمن عليه، يترقَّب من وقت لآخر، أن ينكشف وضعه، وبذلك ينتهي عمله، هو إنسان لا يعرف الاستقامة ولا النزاهة، ولا يعرف الله كذلك حتى يخشى جزاءه. وجزاء الله للعابث بأمانة غيره في دنياه أنّه لا ينمو حاله إطلاقًا عن طريق العبَث، ولا تُثمر له خلفةٌ تعيش على الحرام. وجزاؤه في الآخرة ما جاء في عموم ـ قوله تعالى ـ: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ولاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَه كَانَ بِكُمْ رَحيمًا. ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) (النساء 29ـ30).
وقد يدخل في اعتبار هذا الرجل العامل بالمنزل: أن الأجر الذي يأجره من سيّدة المنزل غير كافٍ؛ ولذا يُبيح لنفسه السرقة من ماله في سبيل معيشة أولاده وأسرته. وهو عندئذٍ يسلك طريقًا شائكًا وغير مستقيم . وأفْضل الطُّرُق لمعالجة عدم كفاية الأجر هو أن يصارِح السيدة بالواقع وبحاجته إلى زيادة من أجره. وكل صاحب عمل لو وَثِق تمامًا من أمانة العامل عنده وإتقانه للعمل، فإنه لا يَبخَل عليه بالزيادة المطلوبة. وعندئذ يعيش بكرامته وبأمانته في عمله، ويضمن كذلك ستر الله لأسرته. وإلا إذا لم تَستَجِب سيدة المنزل لمطلوبه فليسعَ إلى العمل في مكان آخر. والله لا يترك الأمَناء جياعًا، بحال من الأحوال.(/2)
113 ـ فتاه في الخامسة والعشرين من عمرها تعيش عندنا في أحد الأضرحة. وهى جميلة، ونظيفة، ومُديمة على الصلاة في أوقاتها. وتعيش من فضل الناس وصدقاتهم. هل الأفضل أن تظلَّ درويشة هكذا، أم أن تتزوج وتعيش ستَّ بيت كما يعيش الناس؟
إن رسالة الله الحَقَّة التي تتمثل في الإسلام منذ أن جاء به إبراهيم حتَّى محمد عليهما السلام ـ تقضي بعدم ترك الدنيا من أجل الآخرة.. كما تقضي بعدم ترك الآخرة من أجل الدنيا. والإسلام إذن ليس هو المادية التي تدعو إلى التركيز على الدنيا والمتع المادية فيها وحدها.. وليس هو الرُّوحيّة التي تدعو إلى اعتزال الدنيا من أجل عبادة الله.
رسالة الإسلام تدعو إلى العبادة.. وتدعو في الوقت نفسه إلى العمل في الدنيا في سبيل الرِّزق والمعيشة. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ. فَإِذَا قُضيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِروا فِي الأرْضِ وابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ واذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ) (الجمعة: 9 ـ10).. فالجمعة ـ والاجتماع في صلاتها فَرْض عينٍ وواجب شخصي ـ لم يَرَ الإسلامُ أن يعطِّل اليوم كله في سبيل أدائها. وإنَّما اكتفى بترك العمل فيه، منذ الأذان لها.. إلى أن تنتهي صلاتها. ثم ساعات اليوم قبل ذلك، وبعد ذلك تُكرَّس في سبيل الرِّزق والعمل من أجل تحصيله، ثم بقيّة الصلوات الأخرى.(/1)
وهكذا الإنسان المسلم يجب أن يجمع بين العبادة والعمل، ويأخذ من الدنيا ويسعى للآخرة، إن أخذ من الدنيا فبِقَدْر أن لا يَظلِم نفسه ولا غيره.. وإن سعى للآخرة فبقدر ما يُحسن لنفسه وللآخرين معه في أمّتِه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ للذِينَ آمَنُوا) (الأعراف: 32) "أي هي حلال وغير مُحَرَّمة على المؤمنين". (وكُلُوا واشْرَبُوا ولاَ تُسْرِفُوا) (الأعراف: 31).
ويُروَى عن أنسٍ أن نفَرًا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال بعضُهم: لا أتزوَّج. وقال بعضهم: أصلِّي ولا أنام. وقال بعضهم: أصوم ولا أُفطِر.. فبلغ ذلك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما بالُ قوم قالوا: كذا.. وكذا.. لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأنام، وأتزوَّج النساءَ. فمَن رغِب عن سنَّتي فليس منِّي" (نيل الأوطار: جـ6 ص106).
والسعي في الدنيا يجب أن يكون لصالح العبادة. والعبادة في أدائها يجب أن تُضفِي أثرًا على السعي في الدنيا. أي لا يكون السعي في الدنيا هدفًا مستقِلاًّ، ولا تكون العبادة عُزلة عن العمل فيها: فالذي يَتْجَر بماله ويُسيء إلى الآخرين بتجارته. ومع ذلك يؤدِّي العبادات.. فعبادته عندئذٍ في عُزْلة عن تجارته، ومثله مَن يعمل لغيره، أو يُشاركه الزرع والحرث.
وما ورد في السؤال عن تلك الفتاة يُفيد أنَّها تؤثِر منهجًا غير منهج الإسلام الذي تقرَّرت مبادئه في رسالة الرسول ـ عليه السلام ـ: وحيًا بالقرآن.. وتطبيقًا في عمله.. وتوضيحًا في قوله.(/2)
105ـ صلة الأرحام
مواطنة من إحدى المحافظات تقول لي والدة تعيش مع أخٍ لها في منزله، وتريد أن تزورها من وقت لآخر، ولكن أخوها يمنعها من الزيارة ويُهدِّدها بالأذَى إنْ هي اقتربت مِن المنزل.. وتسأل عن رأي الدين في منعها من زيارة والدتها.؟
يجوز أن يكون هناك سُوء تفاهُم بين الأخت السائلة وأخيها الذي تسكن أمها معه، ويجوز أن يكون الأخ غير راضٍ عن سلوك أُخته، ويجوز أنَّ زوجته لا تريد أن ترى هذه الأخت لسبب من الأسباب، ويجوز أن تكون هناك أسباب أخرى تَحول دون أن يأْذن الأخُ لأخته في زيارة أمها عنده، ولكن الأم هي أم للأخ وأخته، وليست أمًا لواحد منهما، ومِن حقِّ ابنتها أن تراها، كما أنه مِن حقِّ الابن أن يراها كذلك لو كانت تسكن مع ابنتها.
... وإذا كان الأخ لا يُريد أن يأذن لأخته بدخول مسكنه لترى والدتها فيه فعلى الأقل يَتفق مع أخته على أن تراها في منزلٍ قريب لهما معًا، وفي الموعد المُحدَّد ينقل والدته إلى هذا المنزل ويتركها فيه إلى أن تنتهي زيارة ابنتها لها.
... أما منْع زيارة البنت لأمها وهي شقيقته، فهو أمر بعيد عن الإحسان إلى الأم والإحسان مأمور به إلى الوالدينِ من الأولاد؛ لأن الأم ستتأذَّى نفسيًّا بالحيلولة بينها وبين ابنتها، مهما كانت علاقتها بأخيها سيئة، وكذلك بعيدٌ عن المُعاملة الواجبة والكريمة لذِي الرحِم، وهي شقيقته، فهي ابنةٌ لأُمها وأمها والدة لها، وعلاقة القربَى في الدم والرحم قائمة، وتدفع إلى المودة والتوادِّ بين ذوي القُرْبَى.(/1)
على أن شقيق السائلة إذا رأى في موقفه مِن أخته بمَنْعها من أن تلقَى والدتها في منزله، عقوبة لها على خطأٍ ارتكبته في حقِّه أو في حق أسرته الخاصة.. أو ارتكبته في مسلكها الشخصي.. أو في حقِّ والدتها، فليس ما يَفعله هو السبيل الناجح للبُعد عن الخطأ أو لتصحيحه، هي أخته وهي امرأة في نفس الوقت، ولا ينبغي له أن يُعلن عقوبة الخطأ على نحو ما يُعلنه الآن مِن منْعها دخول مسكنه، بل كان ينبغي أن يذهب إليها في منزلها أو يدعوها إلى مُقابلته في مسكن أحد الأقارب لهما ويعرض عليها رأيه فيما أخطأت فيه فإن لم تَستجيب له أنْذرها بخلافه معها، ولكن ليس بحِرْمانها مِن لقاء والدتها، فضلاً عن طرْدها إذا حضرت إليها حيث تُقيم معه.
... وقد امتنع بعض الصحابة ـ عليهم رضوان الله ـ من عطاء المال لبعض أصحاب الحاجة مِن أقاربهم وذوي رحِمهم بسبب اشتراك هؤلاء الأقارب في نقْل أخبار السوء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في حادث الإفْك، فنزل قول الله ـ تعالى ـ: (ولا يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ "أي لا يحلف أصحاب المال والرزق الوفير منكم" أنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى والمَساكينَ والمُهاجرينَ في سبيلِ اللهِ). "على أن لا يعطوا من أموالهم: أصحاب الحاجة من أقاربهم كما كانوا يعطونهم من قبل بسبب مشاركتهم في أذَى عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأذى الرسول ـ عليه السلام ـ وأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ بنقل إشاعة السوء عنها فيما يُسمَّى بحادث الإفك"..(/2)
... ثم يطلب الصفْح والغُفران من هؤلاء المُوسرين، والعودة إلى العطاء من جديد، فيقول: (ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لكمْ واللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ). (النور: 22)..هذا هو طريق الله في معاملة ذوي القربَى، فيجب العفْو والصفْح عنهم.. ثم مع ذلك يجب استئناف العطاء لهم، إنْ كانوا أصحاب حاجة، كما كان الوضْع قبل مُباشرتهم إساءةً ما، لأقاربهم مِن أصحاب اليسار، وتطبيق هذا التوجيه القرآني، مِن أخ السائلة عليها هو:
أولاً: أن يَغفر لها إساءتها، ويصفح عنها، ويُعيد إليها الإحساس بالأُخوة فهي شقيقة وترى فيه سنَدها بعد الله ـ جل شأنه.
وثانيًا: أن يُتيح لها دخول منزله لتزور والدتها، وتزور أهله كذلك، ولْتُكفِّر عن سيئاتها السابقة إنْ كانت لها سيئة معه بهذه الزيارة.
وهو إنْ فعل هذا وذاك كان مِن الذين يُحبون أن يغفر الله لهم أخطاءهم إنْ أخطأوا في حياتهم، ومَن مِنَّا لا يحب أن يغفر الله له خطأه،.. فالإنسان غير مَعصوم وجل جلاله وحده هو الكامل كمالاً مطلقًا.
يجب أن لا تأخذ الحمية الجاهلية القادرينَ مِن ذوي القربى ـ كالأخ هنا بالنسبة لشقيقته ـ ويَمنعها حقًّا مشروعًا أقرَّتْه شريعة الله، بجانب حِرمانها مِن اعتزازها بعصبيته، والاستناد إليه في أزماتها يجب على أخِ السائلة أن يتريَّث ويُعيد تقييم العلاقة بينه وبين شقيقته، وسيَجد أن التسامُح مع ذوي القربَى خيرُ سبيلٍ في حياة الإنسان، وفي علاقته بمَن لا يستطيع تَجنُّبهم مدَى الحياة.
... وربما السائلة هنا تلتمس مِن السماح لها بزيارة والدتها عند أخيها، عودة العلاقة معه إلى طبيعتها ولذا عليها أن تُبدي استعدادها لقبول التوجيه مِن شقيقها إذا كان فيه مَصلحةُ الطرفينِ.(/3)
40ـ زوج يُهمل زوجته وأولاده بسبب زوجة أخرى:
يسأل أحد التُّجّار عما يأتي:
تزوَّج رجل بزوجة ثانية، وترك زوجته الأولى وأولاده الثلاثة منها تعيش مع أبيها في بلد آخر غير بلده، وأهملَها وأولادَها في الإنفاق والرعاية منذ عشرة أشهر حتى الآن. فلمَّا طُولِبَ بالنفقة اشترط أن تنتقل من منزل والدها إلى منزل آخر في البلدة التي يُقيم فيها والتي فيها زوجته الجديدة. ولم يُوافِق والدها على هذا الشرط طالما لا يُعطيها حقَّها كزوجة في المعاشرة الزوجية. فمَن هو المخطئ منهما: زوجها أم أبوها؟
الخلاف بين الزوج ووالد الزوجة هنا يعود إلى اختلاف نظرة كل منهما إلى العلاقة الزوجيّة والمحافَظة على الأسرة. فالزوج يرى طالما يُنفِق على زوجته وأولاده فقد هيّأ للزوجة الجَوَّ السليم في نظره كما هيّأ للأولاد جوًّا صحيحًا لنموهم وتربيتهم الإنسانيّة. فالمال في نظره هو الأساس في بناء الأسرة واستقامة أفرادها، وبُعدهم عن الحقد، وإحساسهم بالراحة في الحياة.
بينما والد الزوجة يرى أن الجَوَّ السليم للزوجة وأولادها معًا في أسرةٍ ما هو جوٌّ نفسي قبل كل شيء. وهذا الجو لا يتحقق إلا بتردُّد الرجل وهو الزوج على زوجته وأولاده وإعطائهم من نفسه ما يُحِسُّون معه بالوقاية والحماية، كما يُشارك زوجته على الأقل في توجيه الأولاد توجيهًا مثمرًا: والزوجة لا تشعر بالأمان أو بالحماية والوقاية إلا إذا كان زوجها واثقًا فيها وهي واثقة فيه. والثقة لا تتكوَّن إلا إذا كان وضع العلاقة الزوجية بينهما وضعًا يُوحي برضاء الزوجة ومَسَرّتها عند اللقاء بزوجها. أمّا المال وإن كان هو عصَب الحياة في الإنفاق على احتياجات الأسرة، إلا أنه لا يُغطِّي مُتطلَّباتها في النواحي العديدة للحياة الزوجية وبالأخصِّ الناحية النفسية.(/1)
وهكذا اختلاف الزوج ووالد الزوجة هو في النظرة إلى العَلاقة الزوجية: هذا يراها في الجَوِّ النفسي للحياة الزوجية، وذلك يراها في جانب مادي وهو القيام بأداء النفقة.
وما يراه والد الزوجة هنا قريب ممّا يجعله الإسلام غاية للزوجية. فالله إذ يقول: (ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدّةً ورَحْمَةً). (الروم:21) فحدَّد هدف الزوجية في السُّكْنَى، أي الاطمئنان النفسي، وفي مودّة كل منهما للآخر، وفي رحمة القويِّ منهما الضعيف فيهما. ولا شكَّ هنا أن الزوجة هي الشخص الضعيف لحاجتِها إلى الزوج في الحماية والرعاية لها ولأولادها.
وقد جاء توضيح حق الزوجة على الزوج فيما يرويه هنا معاوية القشيري: أن رجلاً سأل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن حقِّ المرأة على الزوج فقال: "تُطعمها إذا طَعِمْتَ، وتَكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجهَ، "أي عند التأديب" ولا تُقبِّحْ، "أيْ لا تَقُلْ لها قَبَّحكِ الله" ولا تَهجُر إلا في البيت).(/2)
وإسكان الزوجة وحدها مع أولادها، دون أن يتردَّد عليها الزوج، ولو كانت في البلد الذي كان يسكُنه ـ نوعٌ من الهجر المنهيِّ عنه هنا. فواجب الزوج إذا كان متزوِّجًا بأخرى غير أم أولاده أن يقسم بالعدل بين الاثنتينِ في المَبيت عندهما، وإن كانت مَحبّته لإحداهما قد تكون أكثر من الأخرى. فالزوج يُسأل عن العدل فقط بين الزوجتين فيما يملِك. وأمّا فيما لا يملِك كالمَحَبّة فهو غير مسئول عن"الميْل" فيه. ولكن بحيث لا يبلغ مبالغ الظلم للأخرى؛ إذ الزوجة التي يميل زوجها عنها كل الميل يكون أمرها مُعلَّقًا: لا هي زوجة ولا هي مُطلَّقة. وهذا النوع من العَلاقة يدخل في دائرة العذاب الذي لا تَحتمله امرأةٌ كإنسان له أحاسيس وعواطف، وقبل هذه وتلك لها كرامة واعتبار بشريّ. وهنا جاء النهيُ عن الميل الجارح لكرامة المرأة في قوله تعالى: (فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ) (النساء:129)
ويُؤثِّر القرآن الكريم على هذا الوضع بين الزوجين: الفرقة بينهما، والله وحده عندئذٍ هو الكفيل بتدبير أمرهما: (وإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وكَانَ اللهُ واسِعًا حَكِيمًا) (النساء:130)
إن الإسلام غير مَلوم؛ إذ يُرخِّص بتعدُّد الزوجات؛ لأنّه يريد دفْع المَشَقّة والعنَت على مَن له حاجة من الرِّجال إلى امرأة أخرى، ولكن الملوم هو الإنسان الذي يُمارِس هذه الرخصة ممارَسة تنطوي على ظلمٍ لغيره وهي الزوجة الأخرى.(/3)
آنَ للمسلم أن يعرفَ أن احترام الإسلام للإنسان هو الذي وكَّل أداءَه للأمانة والواجب إلى ضميره وخشيته من الله، وليس إلى هيئة أو رقابة خارجية تُشرِف عليه: (أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ ولاَ يَكُونُوا كَالذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلوبُهُمْ وكَثِيرُ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ). صدق الله العظيم (الحديد: 16)(/4)
80 ـ الزوج يرى في ترقية زوجته إهانةً له
مِن سُوء حظي أن رجلاً خدعنا بمَظهره على أنه موظف، وهو يَكبرني بعشر سنوات، وأنا مدرسة بالمدارس الابتدائية، وظهر أنه عامل بإحدى الوزارات، وحين رُقِّيتُ مُفتشةً في الدرجة السادسة كانت الطامَّة الكبرى لأنه في العاشرة، ويَضيق مِن كل تقدُّم أو تقدير لي ويَكره أبويه لأنهما لم يَعلمانه ولذا قلَب حياتي جحيمًا؛ إهانةً وإساءةً وإضرارًا. فما الخلاص؟
قيمة الرجل كزوج ـ في نظر الإسلام ـ لا ترتبط بنوع العمل والوظيفة .. كما لا ترتبط بالأصل والشرف في الأسرة بل تعود إلى دِينه وخُلقه، والدين والخلُق يَتمثلانِ أكثر في السلوك العملي للشخص، وليس في حديثه أو مظهره الخارجيّ؛ ولهذا يقول ـ تعالى ـ في تفاوت الناس والتفاضل فيما بينهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (وليس أغناكم.. ولا أعلمكم ولا أعلاكم حسَبًا ونسَبًا) إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (الحجرات: 13).
والتقوى هي تجنُّب الانحرافات في السلوك.. وأداء الواجبات للآخرين والمحافظة على حُرماتهم.(/1)
ولأن الأكثرية تُخدع بالغنى والجاه في رابطة الزوجية، يُصرُّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في هذا الشأن، فيُروى عن سهل ـ رضي الله عنه ـ قال: "مرَّ رجلٌ "أي من المُوسِرينَ الأغنياء" على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حرِيٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفَع أن يُشفَّع، وإنْ قال أن يُستَمَع له، ثم سكت.. فمرَّ رجل من فقراء المسلمين. فقال: ما تَقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خطب أن لا يُنكح وإنْ شفع أن لا يُشفع.. وإنْ قال أن لا يُستمع له، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "هذا أي الفقير خيرٌ مِن ملْء الأرض مِن مثل هذا" "أي خير من ذاك المليء، الغني، الموسر".
ثم كان قوله ـ عليه السلام ـ الذي يُعتبر دستورًا ومبدأ واضحًا في اختيار الزوج، وهو ما يروى عنه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ في رواية أبي حاتم المزني: "إذا جاءَكم مَن تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلقه فانْكِحُوهُ أي فاقبَلوا الزواج منه إلَّا تفعلوه تكنْ فِتْنَةٌ في الأرض وفسادٌ". قالوا يا رسول الله وإن كان فيه؟ "أي وإن كان فيه فقر.. أو فيه عَدم نسَب شريف" قال: "إذا جاءكم من ترضَونَ دِينه وخُلقه فانْكِحُوه" ثلاث مرات.
وهكذا ليست الوظيفة.. ولا نوع العمل.. ولا النسَب والحسَب.. ولا المال والجاه.. هو المُرجِّح في اختيار الزوج.. وإنما خُلقه.. ومَروءته.. واستقامته وشُعوره بالمسئولية.. وفي بقية الصفات التي جعل منه إنسانًا ذا دِين.
والسائلة إنْ كانت قد خُدعت بمَظهر زوجها على أنه موظف، وليس بعامل في الدرجة العاشرة، فإنها لم تُخدَع في سُلوكه كرجل وإنسان، وكانت عندئذٍ لدَيها فُرصة لعدم إتمام عقد الزواج.
وإذا فسرتْ عدم ارتياحه عندما ترقَّت هي إلى درجة مالية أعلى: على أنه حقد عليها.. أو فسَّرتْ عدم رضاه عن والديه؛ لأنه لم يتعلم بسببهما: على أنه كراهية لهما، فقد يكون واقع الأمر غير ذلك.(/2)
فربما هي تُثيره مِن وقت لآخر بما تُكرره مِن أنها أحسن منه مُستوى في التعليم، وأرقى منه درجةً مالية في نظام الوظائف الحكومية، والزوج لا يحب أن تَنتقصه زوجته؛ ولذا هو يُنكِّد عليها حياتها كما تذكر.
ولو فَهمت الزوجةُ أن الحياة الزوجية هي تعاوُن ومودَّة ورحمة، من القويِّ للضعيف، والقوي هنا هو الزوجة، وأن احترامها للزوج كاحترام الزوج لها عامل أساسي في تحقيق الهدوء والسُّكنَى في العلاقة الزوجية ـ لمَا أقدمت على إثارته وتصغيره شأنه المرة بعد الأخرى. فهل تَراجُع نفسها مرة أخرى قبل أن تكرُّر الشكوى منه.(/3)
110ـ الأخ يُؤْثر خطيبته بالهدايا على شَقيقته
فتاة في العشرين مِن عمرها ـ من إحدى المحافظات ـ وهي شقيقة لاثنينِ آخرين، وهي ـ كما تذكر ـ مُتديِّنة: تُصلي.. وتقرأ القرآن.. وتعمل بسُنة الرسول ـ عليه السلام ـ وتقصُّ مشكلتها فيما يلي: إن لها أخًا يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، وقد خطب فتاةً في سِنِّهَا، ولكن لم يعقد قرانه عليها بعد، ومع ذلك فهو يُرسل إليها هدايا كثيرة، ممَّا يُكلِّفه مبالغَ جمَّة، على حينِ لو طلبت هي أن يشترى لها شيئًا، أو لأيِّ أختٍ لها، لم يَستجب لطلَبِها، فهو يُقتِّر على أخواته، بينما هو كريم بالنسبة للخَطيبة وأقربائها.
... وتُكمل ما ترويه: بأن آباها شيخ كبير، ولا يملك من المال ما يُربي به صغاره، فضلاً عن سدِّ حاجات بناته الثلاث.
... ثم تخلُص في رسالتها: إلى أن شقيقها هذا استأمنها وأودعَ عندها بعض مُدخراته فامتدَّت يدها إلى هذه المدخرات وأخذتْ منها مبلغًا صغيرًا مِن غير قصد ـ كما تقول ـ وعندما سألت والدتها عن حلِّ ما أخذتْه في الخفاء من مدخرات شقيقها: أجابتها بأن ما أخذتْه حلالٌ؛ لأنه يُعطي الغرباء، وهي الخطيبة وأهلها ولا يُعطي الأقارب وهنَّ شقيقته وأمهم، ثم تسأل: هل المبلغ حلال… أم حرام؟
طالما هناك أبٌ موجود فنفقات بناته الثلاث عليه، إلا إذا أعْسَرَ وضاقت يده عن الإنفاق فنفقته هو عندئذ على ابنه القادر.. وكذلك نفقة بناته الثلاث.
... ولكن يبدو من سؤال السائلة: أن الأمر لا يتعلَّق بالأكل، والملبس، والمسكن وإنما يتعلَّق بما وراء ذلك ممَّا يرغب الإنسان في اقتنائه ـ لا لسدِّ حاجةٍ ـ بل لحُسن مظهر أو زينة يتزيَّن بها؛ لأن السائلة تشكو مِن شقيقها أنه لا يُهديها، ولا يُهدي واحدةً مِن أُختيها، كما يَصنع مع خطيبته أو أقاربها.(/1)
... والشكوى إذَن: أنه يُقتر على أخواته الثلاث.. ويَبسط يده بالنسبة لخطيبته وأقاربها، والتقتير من جانب.. بينما بسْط اليد من جانب آخر، هو في الهدايا وليس في النفقة.
... ومن أجل أن الشقيق يُفرق في الهدايا بين خطيبته.. وشقيقاته الثلاث، فقد خانت شقيقته الأمانة التي أوْدعها عندها، وهي ماله المُدَّخر.
فأخذت منه مبلغًا صغيرًا، كما تقول، لتحقِّق به بعض رغباتها كفتاةٍ في مقتبل عمرها، تريد أن تظهر وأن تتزيَّن ككثير مِن نظيراتها.
... وتسأل: هل المبلغ الصغير الذي أخذته من المال المُودَع مِن أخيها لدَيْها: يُعَدُّ أخْذه حرامًا.. أم حلالاً؟.. وبالأخصِّ بعد أن سألت والدتها وكانت إجابتها: أنه حلال؛ لأن شقيقها لا يعدل بين أخواته من جانب.. وخطيبته من جانب آخر.
السائلة أخذت المال مِن وديعةِ أخيها انتقامًا، وليس لدافع الحاجة وبأخْذها هذا القليل منه تُعتبر خائنة، والخيانة صورة من صور سَرقة المال. وإنْ كان لا يقام عليها حدٌّ، لمَا ورد في حديث صحيح: "أنه لا قطْعَ بِسَرِقَةِ مالٍ مِن بينهما قرابَة". ولمَّا ورَد في حديثٍ آخر: "ليسَ على الخائنِ قَطْعٌ). والخائن مَن يأخذ المال ممَّن أُؤتِمَنَ عليه كوَدِيعةٍ، أو عارية، فعدم قطْع يدها كسارقة بإقرارها: يرجعُ أولاً إلى القرابة بينها وبين أخيها.. وثانيًا إلى أن المال المسروق كان وديعةً عندها، فهو غير مُحرَّزٍ بالنسبة لها.
... وسقوط حدِّ السرقة عنها لا يُعفيها مِن إِثْم السرقة، ولا مِن عقاب الله عليه في الآخرة إنْ شاء. ويَجب عليها ردُّ ما أخذتْه.. والتوبَة إلى الله تلتزم فيها التصميم على عدم مباشرة الإثْم مرة أخرى. فالدافع على الأخْذ من مال الأمانة عند السائلة واضح.. وحُكم الله في حُرمته كذلك واضح.. وما يجب أن يعمل الآن إزاء ما أخذ مِن المال أما ردَّه.. أو سؤال الأخ أن يَجعله هبةً لها.(/2)
ولكن حتى لو نفَّذت السائلة ما يجب أن يُعمل هنا فالصراع في نفسها باقٍ، وقد لا يَخْمُدُ، وهو صراع عن انفعالِ العواطف، وليس عن مَنطق أو واقع، فغَيْرة السائلة مِن خطيبة أخيها لم تَدَعْها تفكر في هدوء لتصلَ إلى أن صُنْع شقيقها مع خطيبته أمْر عاديٌّ ومقبول، وعندئذ لا تلجأ إلى الحقد عليه.. ثم الانتقام منه بخيانته في ما لدَيها من أمانة له، فالمال من كسْبه، وليس من حقٍّ لها.. والخطيبة زوجته المُقبلة. ...
وانضمام أمها لها لا يعني أن أخذ المال على النحو الذي باشرتْه السائلة له ما يبرره شرعًا، وإنما مُؤازرة الأم لابنتها هنا هي مُؤازرة عاطفية أيضًا، ولو كانت الأم مُتأنِّيةً لأشارت على ابنتها بعكس ما أشارت به، ولكن الأم باشرتْ دور "الحماة" قبل أن تُصبح حماةً بالفعل، وبالأخصِّ إذا كان الموقف بين ابنتها.. وخطيبة ابنها أو زوجته.
والأمر الذي يجب أن يُدركه شقيق السائلة قبل فوات الأوان: هو أن يُراعي عواطف شقيقاته ورغباتهنَّ بقدْر ما يُمكنه، ولا يُطلب منه أن يُسوِّى بينهنَّ.. وخطيبته في الهدايا.. أو في المُداعبة عند اللقاء. وإنما المطلوب أن يَترك لديهنَّ الإحساس: بأنه لم يزل على صلةٍ وثيقةٍ بهنَّ، وأن دخول خطيبته مجال أسرته ليس على حساب علاقته بهنَّ وبوالدتهنَّ.. وأنه لم يزل الأخ الذي يحمل نيابةً عن والده: رسالة الحماية لهنَّ مِن الأضرار.. والرعاية لهنَّ في المستقبل.
... إنه إنِ استطاع أن يُكسبهن على هذا النحو: فهو يعِدُّ لخطيبته وله ولها معًا في أسرته: جَوًّا من القبول.. والمعاونة. وهو في حاجةٍ إلى هذا الجو حتى يُمكن أن يوفق بين أسرته الجديدة وأسرته الأخرى التي نشأ فيها.(/3)
143ـ زيارة القبور والزيُّ الإسلامي
مواطنة من القاهرة تكتب في رسالتها عدة اقتراحات وتسأل عدة أسئلة:
أما الاقتراحات فتقول بخصوص النساء في مصر وزِيِّهنَّ: ...
أولاً: ماذا لو عمَّمنا ارتداء العباءة السوداء للفتيات والسيدات كما هو مُتَّبَعٌ بالمملكة العربية السعودية، وأن البنت عند بُلوغها تتحجَّب، وأن تَتَستَّر النساء في جمهورية مصر العربية بالرداء الطويل كما أوصتنا الأحكام الإسلامية، وإن ارتداء العَباءة خيرُ وسيلةٍ لستْرِ عورات النساء، وأنتم معي بلا شك في هذا، حتى نُجنِّب بُيوتنا مشاكلَ نحن في غِنًى عنها، ونُجنِّب شبابنا بعضًا مِن مشاكله. ...
ثانيًا: لماذا تُترك مُذيعات التليفزيون بهذا الحدِّ من التبهرُج؟ لماذا لا تَرتَدي المُذيعات زِيًّا مُحترمًا ولا داعيَ لهذه المَساحيق والشعور المُستعارَة؟ ...
ثالثًا: لماذا أفلام العُنف والجنس لشبابنا الذين لا يَجِدون ثَمَن الشبكة، وبالتالي المسكن الذي يَستطيعون أن يتزوجَ فيه الواحد منهم، ويَقِي نفسه مِن تلك الأفلام؟ إلى متى سنظلُّ في هذا العبَث مِن الأفلام الأجنبية؟ ...
رابعًا: يجب أن يكون لإذاعة القرآن وللأزهر دور كبير في الرجوع بالناسِ إلى الدين في بلادنا، ارْحَموا شبابنا وارحموا بيوتنا، فهذه الشوارع التي تَزْخَر بالبنات بالجينز والمكياجات والبنطلونات والملابس الضيقة العارية، أين الإسلام في دولة العلم والإيمان؟
عَباءة وغطاء للشعر، أليس مَظهرُه أحسَنَ بكثير مِن تلك الشعور العالية العارية؟ أرجو ألاّ تَسخروا بما أقوله، وكفانَا ما يُقال عنَّا في الخارج وأنتم تعلمونه جيدًا.
وأما أسئلتها فهي تطرح ما يأتي:(/1)
أولاً: تُوفِّيَت لي أختٌ في عمر الزهور والشباب، وأخي الذي يكبرها بعام لا يعترف بزيارة القبور، على الرغم مِن أني أحضرتُ له كتبًا وقرأت عليه أحاديث، ومع ذلك لا يعترف ويقول: "ده كلام فاضي" فأرجو توجيه كلمةٍ للشباب في هذا الشأن، ولْتَكُنْ مكرَّرة في الإذاعة.
ثانيًا: هل بَوْلُ الصغير يُنجس أمه؟ وماذا أفعل؟ هل كل وقت صلاة أغير ملابسي أم ماذا؟
ثالثًا: كنت أعمل ولمدة قصيرة والحمد لله، وبعد ذلك تزوَّجت وسافرت إلى إحدى الدول العربية، عملتُ في مدرسة بناتٍ، ويا ليت مدارسنا تكون بهذا الشكل، الكلُّ جنسٌ واحد، لا يُوجد أيُّ رجل أو شاب بالمدرسة، وعُدت إلى بلدي وليس لي الرغبة في أن أعمل في مدرسة نِصفها رجال وأن أخرج والكلُّ ينظر لي وأترك أولادي، وزوجي يقول "مُستقبلك" فهل عدم مُوافقتي على العمل يُغضب الله؟
رابعًا: أليس مِن حقِّ الزوجة أن تدَّخِرَ أموالها باسمها؟ وهل في هذا إحراج للرجل وإهدار لكرامته؟ وهل مِن حقِّه أن تُشاركه في كل شيء في منزل الزوجية وأن تُنفق على نفسها مِن كدِّها؟
ثم تختمُ رسالتها بقولها: لا تخافوا مِن شيء أو مِن إنسان ما فأرزاقنا على الله، قولوا الحقَّ كما تعودنا منكم أن نسمع كلمةَ الحق.
سبق لنَا أن تناولنا زِيَّ المرأة عند تفسير قول الله تعالي: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33) وما يجب على المرأة شرعًا أن تصنعه في ملْبسها وزِينتها حتى لا تكون مصدر فِتْنَةٍ وإثارة للرجال.
واقتراحات السيدة السائلة صورة مِن الصور التي تحول بها المرأة دون الإغراء والافتتان.
أما ما تسأل عنه مِن جواز زيارة القبور أو عدم جوازه فبعض الفقهاء يرى أن زيارة القبور للرجال والنساء العَجائز مَندوبة، بشرط ألاّ تُخشَى منهنَّ الفتنة، وألاّ تُؤديَ زيارتُهنَّ إلى الندْب أو النياحة، وإلا كانت مُحرَّمة.(/2)
أما النساء اللاتي يُخشَى منهنَّ الفِتْنة ويترتَّب على خُروجهنَّ لزيارة القبور مفاسدُ فخروجُهنَّ للزيارة حرام باتِّفاق الحنفية والمالكية.
والحنابلة والشافعية قالوا: يُكره خُروج النساء مطلقًا لزيارة القبور، سواء كنَّ عجائزَ أو شوابَّ إذا عُلم أن خُروجهنَّ يُؤدي إلى فِتنة أو نوع سلوك محرم وإلا كانت الزيارة مُحرمة.
وعلى كل حالٍ ينبغي أن تكون الزيارة مُطابقةً لأحكام الشريعة:
فلا طوافَ حول القبر.
ولا تَقبيلَ لحجرٍ ولا عَتَبة ولا خشَب.
وألاّ يَطلب الزائر مِن المَزور في قبْره شيئًا. إلى غير ذلك ممَّا يدلُّ على أن له فاعليةً، وإلا انطوَى هذا الطلب على الشرْك بالله تعالى.
وإذا كان المقصود مِن زيارة القبور هو استخلاص العِبْرَة مِن الموتَى في قبورهم الآن وقد كانوا بين الأحياء بالأمس فلا يُبرز استخلاص العِبرة مَفسدة تترتَّب على الزيارة كإثارة فتنة الجنس بالنساء أو ارتكاب مُحرم يُؤدي إلى شرْك بالله، وربما كان قول الحنابلة والشافعية بكراهة زيارة النساء على الإطلاق للقبور أقرب في الحيطة مِن وقوع المفاسد في السلوك أو في الاعتقاد.(/3)
وما تسأل عنه من بَوْلِ الصبيِّ وهل هو نجَس تَجِبُ إزالته عند الصلاة، فالمالكية يَعُدُّون ما يُصيب ثوبَ المُرضِعة أو بدَنَها مِن بَوْل الصبي مَعْفُوًّا عنه إذا اجتهَدَتْ في التحرُّز عنه حال نُزوله، ولو لم يكن وَلِيدَها، ومع ذلك يَرَونَ أنه من المَندوب أن تُعِدَّ ثوبًا للصلاة. ...
أما الشافعية فيَرَونَ أن بَوْلَ الصبيِّ من النجاسة المُخفَّفة إذا لم يبلغ الحولينِ ولم يَتَغذَّ إلا باللبَن بسائر أنواعه، ومنه الجُبْنُ والقشدة والزُّبْد، سواء أكان لبَنَ آدميٍّ أو غيره، والنجاسة المُخففة تُطهَّر برَشِّ الماء على مَحلِّها، بحيث يعمُّ النجاسة وإن لم يَسِلِ الماءُ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "يُغْسَل مِن بوْل الجارية" البنت "ويُرَشُّ مِن بول الغُلام" فإذا زاد الصبيُّ على الحولينِ "السنتينِ" وجب غسل بوله ولو لم يتناول طعامًا غير اللبن، كما يجب غسل بوله إذا غُذِّي بغير اللبن ولو مرة واحدة. ...
وما عدا البول فإنه من الفَضلات النجسة التي يجب غسلها.
وتسأل عن العمل كمُدرسة في مدرسة مُشتركة نِصفها رجال، وإن خرجت نظر إليها الكلُّ، وتترك أولادها بدون رعاية، فهل عدم مُوافقتها على العمل يُغضب الله؟
وهي إذًا تَستهدف مِن تَرْكِ العمل في المدرسة المشتركة أمرينِ:
أولاً: عدمَ الاختلاط بغير المَحارم.
ثانيًا: رعايةَ أولادها.
وهي عندئذ إن آثَرَتْ تَرْكَ العمل في سبيل تحقيق هذينِ الهدفينِ تُرضي الله ولا تُغضبه، فوظيفة الأمومة ليست في العمل خارج المنزل ولا في أخْذ الأجر عليه، وإنما في تنشئة جيلٍ يؤمن بالله ويُطيعه فيما جاءت به رسالته، ويُؤدي واجب نحو نفسه ونحو أسرته ونحو مجتمعه وأمَّته، وهذه التنشئة لا تتوافر إلا بالتفرُّغ للإشراف والرعاية.(/4)
والمرأة المسلمة هي التي تَتجنَّب الاختلاط بغير المحارم. ولا شك أن المدرسة المشتركة بين البنينَ والبنات وبين المدرسين والمدرسات هي ساحة للاختلاط، ومِن غايتها الرئيسية دَفْعُ الجنسينِ إلى الاختلاط ذُكورًا وإناثًا، بدعوى حُسْن التفاهُم وتوطيد العلاقات ودفع الوَحْشة والغُرْبة.
فعدم العمل في جو مُختلط هو صورة من صور طاعة الإنسان لله، وبالتالي تَرْكُه لا يُغضب الله بحالٍ من الأحوال.
وعندما تسأل عن حق الزوجة شرْعًا في أن تدخِّر أموالها باسْمها، وعمَّا إذا كان يُحرج الرجل أو يَهدر كرامته، فإنها تَمَسُّ قضيةً تُسبِّب إشكالات عديدة بين الأزواج والزوجات، وهذه القضية هي قضية أجر المرأة على عملها في الخارج، أو قضية مالها المَملوك لها على العموم؛ في تجارة أو في إِرث أو في عقار وخلاف ذلك، فطالَمَا الزوجة بيدها مالٌ قد يتطلَّع إليه بعض الأزواج في غالب الأحيان، إن لم يَستولِ عليه كلَّه، فإنه يطلب من الزوجة أن تُسهم ولو بجزء قليل منه في مصالح البيت ونفقاته المشتركة، وكثيرًا ما تمتنع الزوجة عن الاستجابة لزوجها، وهنا يجدُّ الخلاف بينهما، وقد يُؤدِّي الخلاف إلى نُفْرة في علاقتهما.(/5)
والإسلام لا ينظر إلى الزوجة إطلاقًا على أنها مصدر يجب أن يُشارك في نفقات منزل الزوجية، فضلاً عن أن تَستقلَّ به؛ إذْ عندما جعل ريادة الأسرة وقيادة الزوجية في يد الرجل فيقول: (الرجالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّساءِ) (النساء: 34) جعَل ذلك بسبب ما أوجبه على الرجل وحده من الإنفاق على الأسرة، مضافًا إلى ما يتميَّز به من قوة الإرادة وعدم التردُّد في مُواجهة التحديات والأزمات، فيقول مكمِّلاً للآية السابقة: (بمَا فضَّلَ اللهُ بعضَهمْ على بَعضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِن أمْوَالِهمْ) (النساء: 34) فالإنفاق على الأسرة واجب الزوج ولو كانت الزوجة ذاتَ يَسارٍ، وحقها في النفقة على زوجها لا يُسقطه غناها، وعلى ذلك فحقُّ الزوجة في ادِّخار مالها الخاص واضحٌ. والزوج المسلم لا يُحرجه ولا يَهدر كرامته أن تَدَّخِر زوجته مالها؛ لأنها لم تَسلُبه حقًّا ولم تَعْتدِ على حقٍّ مُقرر شرعًا له، ومَن يشعر بحرجٍ مِن الأزواج بسبب ادِّخار زوجاتهم لمالهنَّ الخاصِّ بهنَّ فإنهم يشعرون في واقع الأمر بخَيْبة أملٍ لدَيهم؛ إذْ ربما كان مال الزوجة هو العامل الدافع على الزواج منها.
والزوج ليس له حقٌّ شرعًا في أن يطلب مِن زوجته أن تُشاركه نفَقات المنزل، ولكن إذا تقدمت الزوجة بحريتها بنوعٍ مِن المساعدة من مالها الخاص وحسبما تَقدر فإنَّ ذلك يُقبل منها كهدية غير مشروطة، على معنى: يَجوز لها ألاّ تُكررها وإذا تكرَّرت ففي أوقات مُختلفة.(/6)
ونظرة الإسلام إلى تكليف الزوج وحده بالإنفاق وعدم مُطالبة الزوجة بالمشاركة وإن كانت ذات يَسارٍ هي للحفاظ على كيان الأسرة، وعلى بقاء القيادة فيها واحدة، وعلى إبعاد الخلاف والنزاع بشأن ما يُسهم به كلٌّ مِن الزوجينِ عندما يطلب مِن الزوجة أن تُشارك. وتجربة العصر الحاضر في حَمْلِ الزوجة على المشاركة في نفقات الأسرة إن كان لها مَوْرِدٌ اقتصاديٌّ تُوضح مدَى التعاسة التي تُسيطر على العلاقة الزوجية بسببِ إرغامها على هذه المُشارَكةِ.(/7)
86 ـ الأزمات النفسية بين الشباب
شابَّانِ متقاربانِ في السِّنِّ، أحدهما في سنِّ العشرين.. والثاني في سنِّ الثامنة عشرة، وكلاهما يقع تحت أزمة نفسيَّة عنيفة، تعود إلى الصلة بأحد الوالدين، ومن فرْط عُنْفِ أزمتها يقترحانِ كحلٍّ لها: إمَّا مباشرة القتْل.. أو الهرب مِن الحياة والانتحار.
الشاب الذي هو في سِنِّ العشرين: نشأت أزمته النفسية من أنه قد شاهد والدته في وضْعٍ مُسْتهجَن مع رجلٍ غير والده، عندما دخل المنزل دون أن يُحسَّ به أحد، وكانت سِنُّة إذْ ذاك تِسْعُ سِنينَ، ولم يُحِطْ طَبْعًا في ذلك الوقت بما أحيط به، بعد أن دخل مرحلة المُراهقة ووقف على أمر العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. فهو يقول: عندما كبِرتُ تذكرت هذا المَنظر، وعرفت ماذا يعني، وما كان بينهما، وأخَذ من نفسي مأْخَذًا قويًّا بحيث أنِّي فكَّرتُ في قتْل والدتي، أو قتْلها مع هذا الرجل الذي كان يُخالطها، وخشيت فقط أن يُسبِّب ذلك صدمةً في نفس والدي.. وحتى الآن فإنَّ سُمعة والدتي سيئة، وأُحِسُّ إذا مشيتُ بين الناس: أن الناس يَعرفونها ويعرفون قِصَّتها، ولذلك أمْشِي وأنا مُنحني الرأس، ومنذ خمس سنوات تشاجرت مع واحدة من الجيران فكان من هذه الواحدة أن قالت لها: "لسْتِ مكسوفة: يا بتاعت فلان".. فما رأي الدين؟.
والشاب الآخر الذي هو في سن الثامنة عشرة، طالب بالثانوية العامة: ساءت علاقته بوالده. ويَدَّعِي أن والده بَخيل يُقتِّر عليه في ملابسه وفيما يحتاجه من ضرورات الحياة، وأخَذ يسرق منه المال، وظلَّ يسرق طيلةَ خمس سنوات، حتى كشَفه والده وغضَب منه، وطرَده من المنزل: المرة بعد الأخرى.
... ويُبرِّر سرقته بأن ما يأخذه من المال يُنفقه في شيء له فائدة، ويقول: "كم مسكينٍ أطعمتُه، وكم فقيرٍ عاونتُه؟ وكم محتاجٍ أعطيتُه؟ وكم مِن مُستدينٍ داينتُه؟ ثم يسأل:(/1)
(1) هل السرقة من الأب حرام إذا كانت في أمور نافعة؟ ورغم أنه يَحرمُني من حقِّي الذي ينبغي عليه أن يُعطيه لي؟
(2) وماذا أفعل لأستعيد ثقتَه بي، ولأُزيل الخلاف الدائم بيني وبينه؟
(3) وهل هذا يُعتبر عُقوقًا للوالد؟
الشاب الأول الذي رأى أمه مع رجل أجنبيٍّ في فراش أبيه، ولم يتجاوز التاسعة من عمره إذْ ذاك: اختزَن هذا المنظر في نفسه، كما يختزن الألْفاظ والكلمات التي يَسمعها من الآخرين، حتى يأتي الوقت الذي يعِي فيه ما شاهده أو ما سمعه، وهذه سُنَّة الإنسان في طفولته، ثم في نُموه بعد ذلك في مرحلة المراهقة أو التي بعدها، فاختزان الأحداث والمشاهد، والألْفاظ والكلمات في سِنِّ مبكرة عند الإنسان، مَيْزَةٌ يتميَّز بها في بناء اللغة.. وفي تكوين المَعلومات، والطفل في مرحلة الطفولة وإنْ لم يُدرك في اللحظة التي يُشاهد فيها ما يقع.. وإنْ لم يفهم كذلك كل ما يسمعه مِن غيره.. فإنه يُسجل ما يراه وما يسمعه بدقة. ويَضُمُّه إلى رصيدٍ عنده ينتفع به عندما يتمكَّن مِن استيعابه وفهْمه فحياة الطفولة هي شريط للأحداث يَستعرضه الإنسان بعد ما يتجاوز عهد الطفولة إلى عهد الإدراك والفهْم، والأحداث التي تهزُّ نفسَه في مرحلة الطفولة تظلُّ واضحةً في تسجيلها على هذا الشريط، ولذا مِن الخطأ أن يظن الإنسان الكبير: أن الطفل في مُشاهدته لبعض الأحداث، أو في سماعه لبعض الكلمات في حديث ما: أنه لم يُدرك شيئًا.. وأنه سيَنْساها بسرعةٍ.. نعم هو قد لا يَفهمها، وقد ينساها.. ولكنها مُسجلة لدَيه وسيستعرضها لحظةً ما، فيما بعد، كما كانت وانتهت.(/2)
... فهذا الشاب يَحكي عن صدْقٍ وواقعٍ لمَا شاهده. وانفعاله الآن بما شاهده في سن التاسعة، نتيجةُ تَذكُّره له.. وأزمته ليست أزمةً أخلاقية بقدْر ما هي أزمة نفسية، فوَفاؤه لأبيه جعل خِيانة أمه مع رجل غريب عنه فوق طاقة تحمُّله، وهو الآن ليس مرتبطًا نفسيًّا مع أمه، وإنما هو كارهٌ لها، بدليل أنه فكَّر في أن يَقتلها، انتقامًا لشرَف أبيه ووفاءً له.
ولكن مع صدق هذا الشاب فيما يَرويه، وفيما تنفعل به نفسه من خِيانة أمه، فإن قتْلها وحدها.. أو قتلها مع الرجل الذي وجَده معها في منزل أبيه: ليس حلًّا كما يقترح، وإنما فيه الضياع لنفسه، والتشهير أكثر بأسرته فضلاً عمَّا قد يُصيب والده عن صدْمة، ربما لا يَحتملها. والأمر الآن قد انتهَى، وذكرياته هي الباقية فإنْ كانت والدته لم تزل تُمارس الخيانة الزوجية ـ كما يظن السائل ـ أو لم تزل تضع نفسها موضع الشُّبْهة، فالسائل وقد بلغ الآن العشرين من عُمره عليه أن يُراجعها في هدوء، ويُذكِّرُها بإساءتها له، ولوالده ولأُسرته، ولا بأس أن يُواجهها بالتهديد بأنه يَنقل ما يُسيء سمعتَها إلى والده، فإنْ امتثلت وتابتْ إلى الله توبةً قاطعة فلا حرَج مِن ترْكها لغُفران الله لها، ولعلَّ الله يَهديها ويَغفر لها.
... والسائل نفسه لكي يُقِلَّ أو يُضعفَ انْفعاله بتلك الذكري السيئة، عليه أن يَترك جزاءَ ما فعلتْ أمه إلى الله وحده، وليكنْ على يقينٍ بأن الله إذا أمهل فإنه لا يُهمل أبدًا: الجزاء على اقتراف الفاحشة، وبذلك يَنصرف إلى شئون نفسه، وليَتَّخِذَ من هذه الواقعة عِبْرَةً يعتبر بها في حياته، إنْ هو شارَكَ زوجةً له: الحياة المقبلة، وليس هناك أشدّ تأثيرًا من "الاختلاط".. على علاقة الرجل بالمرأة.(/3)
أما الشاب الثاني فيجب أن يعرف: أن إنفاق ما يَسرقه من مال أبيه طوال خمس سنوات، على الفقراء، وأصحاب الحاجة ـ كما يذكر ـ لا يُبرِّر إطلاقًا جريمة السرقةِ في ذاتها، فالإسلام لا يُضفي على الوسيلة طابعَ الغايةِ، على معنى أن الغاية إنْ كانت حلالاً، فحلُّها لا ينتقل إلى الوسيلة إنْ كانت هي في ذاتها مُحرَّمة.. وغير مشروعة.
... وسرقة السائل مِن مال أبيه هي سرقة.. هي جريمة من الجرائم التي يَعتبرها الإسلام جرائم اجتماعية.. وكوْن المال هو مال والده لا يَغفر له، ولا يُحوِّل الجريمة عند الله إلى أمر مَقبول غير مُنكر من الله ـ جل شأنه.
... هناك في نظر الفقهاء استثناء من جريمة السرقة، وهو استثناء الزوجة إذا أخذتْ مِن مالِ زوجها في غيبته للإنفاق منه على نفسها، أو على الأسرة معها كذلك، ويُعلِّلون ذلك بأن إنفاق الزوجة واجبٌ شرْعًا، فإذا قتَّر الزوج فللزوجة أن تأخذ ما يَكفيها عُرْفًا من مالِ زوجها مِن ورائه.
... والولد وإنْ كانت تجب نفقته على أبيه لكن صلة الأبوة لا تجعل الأب يُقتِّر على ولده إلا في حالة الشحِّ الشديد، وهو أمر نادر قليل الوقوع، ولذَا أخْذ الولد: المال مِن وراء والده يُعتبر سرقةً وجريمة.. بخلاف أمر الزوجة، كما سبَق.
... وإدِّعاء السائل أن والده يَحرمه من حقِّه هو إدعاء يُحيط به الشك، فالمفهوم من رسالة هذا السائل: أن به حُمقًا، وهو طائشٌ في تصرُّفاته.. ودليل ذلك أنه يَسرق مالَ أبيه ليَتصدَّق به على أصحاب الحاجة كما يزعُم.. والعاقل يترك صاحب المال ـ وهو الوالد هنا ـ يتصرَّف في ماله، كما يشاء فإن كانت للولد رغْبة فليُبدها لوالده، دون أن يأخذ لنفسه الحقَّ فيما لا يملك.(/4)
وليست هناك وَسيلة لإصلاح ما بين السائل ووالده إلا أن يُواجهه بالاعتذار عمَّا فعَل، ويَعِدُهُ بعدم العودة إلى انتهاك حُرمة والده في أيِّ جانبٍ منها، وله أن يُوسط بعض مَن له حَظْوَة عند والده مِن الأقرباء وغيرهم ذوي السُّمعة الحسنة الطيبة في البلد، وقبل هذا وذاك يعود إلى الله بالتوْبة، وبأداء الواجبات عليه التي يَطلبها الإسلام بين المؤمنين به، كما يُغيِّر مِن سلوكه ومُعاملاته بحيث يَستعيد ثِقَة والدِه به، فالثِّقَةُ هي كل شيءٍ في العلاقة بينهما.
... وأما العقوق في تصرُّف السائل نحو والده فهو واضح، إذْ بدل الإحسان في المعاملة ـ وهي الرعاية الكريمة لوالده ـ يَسرق ماله، ويدفعه إلى الغضب والقطيعة له، وليس هناك أشدُّ على النفس مِن أن يُقاطع الوالد ولدَه، لخَيْبَةِ أمله فيه.. ولسُوء تصرُّفه.(/5)
111 ـ إنِّي معيدة بإحدى الكليات أفكِّر جِدِّيًّا في أن ألبس زيًّا دينيًّا "شرعيًّا" وقد فصلت بِذلة لذلك ساترةً للبدن. ولكن ما يُحيِّرني هو غطاء الرأس. فهل يجوز أن أصنع بونيه؟ أم لا بد من وضع الإيشارب مع ملاحظة أن المظهر العام له أثر كبير في أن أكون قدوة للتلميذات. فما الرأي؟
أحد أمرين: إمّا أنْ تلبَس المرأة ما تستُر به زينتها ـ وزينة المرأة بدنها وشعر رأسها ـ أو تكشف عن زينتها أي من بدنها وشعر رأسها ما تدفع إليه خطوط الموضة الجديدة كلَّ عام. فإذا هي لبِست ما يستر بدنَها وشعر رأسها فقد أخذت بنظرة الإسلام إليها، واحتفظت ببدنها كله على أنّه: زينتها. كما جاء في قوله تعالى: (ولا يُبدِينَ زينتَهنَّ إلا ما ظَهَرَ مِنْها) "أي إلا ما تكشف من البدن: ضرورة العمل أو الحركة. وهو القدمان والوجه".. وكما جاء في قوله: (ولاَ يَضْرِبْنَ بِأرْجُلِهِنَّ "أي يأتين بحركات معينة" لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينتِهِنَّ) "أي من أبدانهن" (النور: 31).
والإسلام في نظرته إلى المرأة على أنها زينة كلها.. لا يريد أن يجزِّئها إلى مواضعَ مواضعَ: موضع منها زينة وفتنةٌ، وموضع آخر منها مبتذَل، وليس فيه أي إغراء. فما تستره من جسمها عندئذ هو موضع الزينة.. وما تكشف عنه هو مكان الابتذال منها.
فإن رَضِيَتْ أن تأخذ بنظرة في الحياة غير نظرة الإسلام.. فلترضَ بتقسيم بدنها إلى مواضع. وما تراه منه مبتذلاً وليس زينة لها.. فلتكشف عنه، حسبما تهوى.
والإسلام في تحديد نظرته إلى الإنسان.. نظر إليه على أنه الموجود المكرَّم بين موجودات هذه الأرض.. وأنه الموجود المميز فيها. وعندما نظر إلى المرأة نظر إليها بأنها مميَّزة عن الرجل بأنوثتها.. وبعواطفها.. وبتركيب جسمها. ولذا كانت مطلوبة من الرجل: يُعرض عليها الرجل، ولا تُعرض هي عليه.(/1)
فإن هي كشفتْ عن بدنها ـ أي عن زينتها ـ كانت عارضة نفسها عليه. وبذلك تُخِلُّ بنظرة الإسلام إليها. ومَن يؤمن بالإسلام، ويوافق على نظرته إلى الرجل والمرأة.. فلا ضَيْرَ عليه عند اتِّباع تعاليمه: من أن آخرين لا يُسايرونه فيما يَتَّبِع. وإذا سلكت اليوم بعض المجموعات المهووسة من الشبّان والشابات مسلَكًا يدعو إلى السخرية والرثاء معًا إنْ في مظهرهم.. أو في سُكناهم وإقامتهم.. أو في تصرُّفاتهم الشاذّة، ومع ذلك لا تُعِير نقد الآخرين لهم اهتمامًا.. فكيف يُعير المؤمن بالإسلام نقدَ الآخرين له، إذا حافَظ على كرامته، وفقًا لتعاليمه. إن الأمر لا يتبع الشجاعة.. وإنَّما يتبع درجة الإيمان.(/2)
153- الزيُّ الإسلاميُّ والسُّفور
كتبت آنسة من القاهرة، تذكر أنها كانت تعمل مضيفةً بإحدى الفنادق الكبرى، ولكنها استقالت، وبعد شهرينِ مِن تركها العمل ارتدت الزيَّ الإسلامي وتحجَّبت، وتقول: "إن ذلك تمَّ عن اقتناع تامٍّ، وبدون إرغام أحد لها عليه، بل حدث العكس ـ هكذا تقول ـ لقد سَخِروا منها جميعًا، وتعلَّلوا بأسبابٍ جاهلية، وهي أنها لن تستطيع الزواج، وأنها ما زالت صغيرةً، ولكنها لم تكترث ولم تُبالِ بهم وبأقوالهم هذه، وهي الآن قاربت العام على ارتدائها هذا اللباس الإسلاميّ" ولها مشكلة الآن، وهي أن ما كانت تَدَّخِرُهُ نَفَدَ، وهي تحتاج الآن إلى مالٍ تُسهم به في بناء مستقبلها مع مَن يتقدَّم لزواجها، ورغم أن والديها مِن الأثرياء، فإنها تُؤْثِر أن تُساعد نفسها بذاتها دون أن تكون عالةً على غيرها، وقد أشار عليها بعض صديقاتها بالعودة إلى عملها الأول، وهذا مُمكن أنت تَستأنفه، ولكن طبعًا مشروط بالسُّفور وعدم الحِجاب، ويُبررن ما يُشِرْنَ به لإقناعها بمَشورتهن أن الله ربَّ قلوب، وليس رب مَظاهر، وأن الدِّين يُسْرٌ لا عُسْرَ، ولكنها تخشى عذاب الله وغضبه، فهذا الزيُّ ـ كما تقول ـ "شرْع الله، والله قد أمر به".(/1)
السائلة تضع نفسها الآن في التمييز بين الاحتفاظ بما تُسميه الزيَّ الإسلاميَّ ـ وهو ذلك الزي الذي لا يُظهر منها إلا الوجه والكفين، كما لا يُجسِّم بدَنها ويُبرز منه مَفاتِنَه ـ وبين السعْي إلى المال وادِّخاره للمستقبل، عن طريق العمل خارج المنزل، في خدمة النُّزلاء بالفندق. ...
وهي تذكر أيضًا مِن قبل: أنها لبست هذا الزيَّ بعد استقالتها من العمل بالفندق، عن اقتناع تامٍّ به، دون أن يُكرهها أو لزمها أحد به، وأن والديها مِن الأثرياء جدًّا. ...
كيف كانت مقتنعة بارتداء هذا الزي… ثم تحاول أن تقنع نفسها بمشورة بعض صديقاته بالعودة إلى العمل في الفندق، والرجوع إلى السُّفور وعدم التحجُّب؟ ...
وكيف يكون أبواها من الأثرياء ـ وهي إذَنْ ليست في حاجة إلى المال ـ وفي الوقت نفسه تخرج إلى العمل في خدمة النزلاء في فندق مِن الفنادق الكبيرة لجمع المال وادخاره للمستقبل؟ ...
وكيف تَخشى عذابَ الله وغضبه، إنْ هي أقدمت على السفور وترْك الحجاب، دون أن يكون هناك مِن ضرورات الحياة ما يدفعها إلى الإحساس بالخشْية مِن عذاب الله وغضبه؟ وإلى قبول المُبرِّرات مِن أن الله ربَّ القلوب، وليس رب المظاهر، ومِن أن الدِّين يُسْرٌ، لا عُسرٌ، ومن أن العودة إلى العمل في الفندق لا يَنطوي على خطأ يخرج به عن الشريعة الإسلامية؟
إن تحجُّب المرأة في الإسلام يَعني عدم اختلاطها بالأجانب عنها مِن الرجال، كما يعني أنها إذا خرجت مِن منزلها تخرج غير مُتبرجة، تَلْفِتُ بتَبرُّجها أبصار الرجال إليها، ومِن تبرُّج المرأة إظهار مَفاتن البدن عن طريف تحديد اللباس له، أو عن طريق الكشْف عما يجب ستْره منه، وما يجب ستره هو ما عدا الوجه والكفينِ.(/2)
... وسُفور المرأة يعني اختلاطها بالأجانب عنها مِن الرجال: في الحديث والنظرات والحركات، يعني أنه ليس هناك حرَجٌ عليها في اشتراك المرأة في الحديث، أو في الحوار، أو في المناقشة مع الرجل غير ذي مَحرم لها، وأنه ليس هناك في أن تُبادل المرأة النظرات مع غير المحارم لها مِن الرجال، وأنه ليس هناك حرَج في الذهاب والإياب أمام هؤلاء الرجال أو بينهم.
... إذا كانت السائلة مُقتنعة بحجاب المرأة أو بتحجُّبها، كيف تُبيح لنفسها الاختلاط بغير المحارم لها مِن الرجال من أجل المال، عند قبول العمل كمُضيفة في أحد الفنادق؟ ما هو عمل المضيفة هناك في الفندق؟ أليس هو تقديم الخدمات للنُّزلاء؟. وأليس تقديم الخدمات لمَن في الفندق في صالته أو في غرفه، يَنطوي على الاختلاط؟ ففي سبيل المال وفي السعْي إلى جمعه وادِّخاره مِن غير ضرورة إليه، تعود إلى السفور والاختلاط بالأجانب عنها؟ إن الغاية هنا، وهو الحصول على المال وادخاره ومِن غير ضرورة إليه، لا تُبرِّر الوسيلة وهي الاختلاط بالرجال غير المحارم، فالغاية إذا كانت مباحةً هنا فالاختلاط في سبيلها غير مباحٍ.
... وفي التبرير يقول بعض صديقاتها، أن الله رب القلوب، وليس رب المظاهر، هذا صحيح ولكن السفور أو الحجاب ليس مَظهرًا مِن المظاهر أنه فعْل وعمل من أعمال الإنسان، يُثاب عليه أو يُعاقب عليه، فالسفور طريق لمَا يُعاقِب الله عليه، إذْ هو طريق إلى الغِواية، والإثارة، والمَهانة، والحجاب طريق يُثيب الله عليه؛ لأنه طريق إلى تكريم المرأة وإبعادها عن أن تكون مصدر فِتْنةٍ للرجال.(/3)
... كما يَقلْن أيضًا: أن الدين يُسرٌ، لا عسرٌ، وهذا صحيح كذلك، ولكن معناه: أن الدين لا يطلب مِن الإنسان: ما يَضره في صحته، أو في نفسه، أو في عقله. فما يأمر به الإنسان قد يتخلَّى الإنسان عن بعضه لفترة من الفترات، أو لسبب من الأسباب، إذا كانت هناك ضرورة إلى ذلك، والرُّخْصة في الإسلام مبدأ من مبادئه، فالدين لا يتشدد في التنفيذ حتى إذا كان فيه هلاك المُنفِّذ، ولكن الخروج من الاستقامة إلى الانحراف ليس خروجًا من العسر إلى اليسر، فلا الاستقامة عُسرًا، ولا الانحراف يُسْرًا، وإنما الاستقامة ـ كتحجُّب المرأة هنا ـ ضرورة اجتماعية لصالح المجتمع نفسه، وهو صيانته من الأمراض الاجتماعية التي يُسببها الاختلاط، على نحو ما هو شائع في المجتمعات المعاصرة، والسفور بالتالي ليس يُسرًا للمرأة، وإنما هو طريق سهل فعْلاً للمرأة، ولكن إلى التردِّي في الانحراف والعبَث والمآسي.
وكما يقلن كذلك في مَشورتهن لها: إن العمل في الفندق لا يخرج عن خط الشريعة الإسلامية، ويجب أن يعرفن: أن العمل إذا جرَّ إلى فساد، كما يجر هنا إلى الاختلاط، فإنه يأخذ حكم ما يجر إليه، وإذا كان اختلاط المرأة بالرجل الأجنبي عنها لا يقول به الإسلام ولا يقبله، فالوسيلة التي توصل إليه لا يقبلها كذلك.
إن العمل الصالح، والخيِّر، والمستقيم لا يقبله الله إلا إذا كان صادرًا مِن مؤمن بالإسلام. وأمَارة المؤمن ثَباته عند إيمانه، وعند ما يأتي مِن نتائج هذا الإيمان في أعمال الإنسان، والتحجُّب للمرأة بمعني عدم الاختلاط بغير مَحرم لها، وبمعنى عدم الإثارة للرجال عن طريق المَلبس، أو الحركة، أو التبرُّج، نوع من الوقاية للمجتمع من الأضرار النفسية والعصبية، والاجتماعية التي يخلفها الاختلاط، وهو أيضًا عامل من عوامل دفْع المجتمع إلى العمل الجاد في الحياة، وإلى التفكير السليم في أداء الواجب.(/4)
... ليس لله مصلحة في أن تتفسخ المرأة عن طريق الاختلاط أو ما يسمى بالسفور، وليس له مصلحة كذلك في أن تستقيم المرأة وتتقِّي العبَث، عن طريق التحجُّب أو عن عدم السفور، وإنما المصلحة هي للمرأة وللرجل معها، ثم للمجتمع بعدهما.
... إن الدعوة إلى سفور المرأة هي جزء رئيسيٍّ في "ثورة تحريرها" إذ هو المفتاح إلى الخروج إلى العمل في الدواوين الحكومية أو في مكاتب الشركات، وإلى الاستقلال الاقتصادي للمرأة عن طريق عملها الخارجي، وبالتالي إلى تفكُّك الأسرة وإضعاف العلاقات الأسرية والزوجية، وإلى شيوع الروابط الجنسية في غير ضابط إلا ضابط الاستمتاع وتحصيل المتعة الوقْتية فيما بين الرجل والمرأة.
ولا نقتنع ونحن نُجيبُ على سؤال السائلة هنا بأنها كانت مُقتنعة بالزيِّ الإسلامي، عندما لبستْه، فمَن يقتنع بأمر جوهريٍّ في حياته لا يَهتزُّ إيمانه به، عندما تُحرِّكه الرياح العاصفة لتَخلع جُذوره مِن النفوس، وهي رياح السخرية والتهكُّم والنقد المستمر، ولا عندما تحاول المُغريات المال، أو إعجاب الرجال وثناؤهم.
... والأمر واضح لدَيها الآن، فطاعة الله في أن تُبعد المرأة نفسها عن مَزالق التردِّي والانحراف، بالاختلاط، وطاعة الشيطان في أن تدَع نفسها لإغرائه وخِداعه، وعندئذ لا تسأل: أين هي اليوم، ولا أين ستكون غدًا، طالَما يَستهويها: المال، واتَّباعَ مودة الأزياء والتجميل، والتقلُّب بين يدي الرجال.(/5)
107 ـ الزواج واختلاف العادات في الشعوب
إني مُسلمة وغير مِصرية، أُقِيمُ مع أهلي بمصر، خَطبَني شابٌّ مصري، كُفْءٌ مُستقيم، وأبي لا يُوافق؛ لأنه ليس مِن جِنْسي، وحينما أنَاقشه يقول: لا كلام للبنت في الزواج. فما الرأْي؟
الإسلام لا يعرف بين الناس جميعًا حِجابًا مِن الشعوبية أو القومية أو القبَلية أو الأسرة. الإسلام يَعرف فقط خصائص الإنسانية في الإنسان كمُميز لإنسان عن آخر وجاء القرآن الكريم لهداية الناس وتوجيههم نحو هذه الخصائص والوقوف عندها والتمييز بين شخص وآخر على أساسٍ منها.
ويُعبر القرآن عن هذه الخصائص بكلمة واحدة هي كلمة التقوى في قول الله تعالى: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خَلقناكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا "أي لم نجعلكم أقوامًا مختلفةً وأصحابَ ألسنةٍ وألوانٍ مُتغايرة ليُنكر بعضُكم بعضًا وإنما ليُقبل بعضكم على بعض بالتعارُف والتوادِّ والتعاون" إنَّ أكرَمَكُمْ عندَ اللهِ أتقاكمْ). (الحجرات: 12).
وفي شرح صاحب التقوى جاء قول الله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا "أيْ في إيمانهم" وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). (البقرة: 177).(/1)
فجعل من صفات المُتَّقِي: الإيمانَ وحُبَّ إعطاء المال للضعفاء وأصحاب الحاجة، والمُداومة على الصلاة، وإخراج الزكاة في مَصارفها، والوفاءَ بالعهد.. والصبر وقتَ الأزمات والشدائد. وهي صفاتٌ تُبعد عن الإنسان الأنانية وحُبَّ الذات، وتُشير إلى الوفاء وقوة الاحتمال والشعور بالمسئولية.
أما رأْي البنت فيمَن تتزوَّجُه فالسُّنة الصحيحة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تطلب لوَلِيِّ أمْرِها إذا كانت بِكْرًا أن يأخذ رأيها، وسُكوتها عندما تُستأذن هو تَعبير منها عن هذا الرأي.
ودخول وَليِّ البنت في عقد زواجها إنما هو لمُساندتها في الاختيار الصحيح للزوج حسب تقديره فهو عادة أَوْلَى الناس بمَصلحتها والحرْص عليها.
ووَليُّ أمر السائلة هنا أن انتقصَ المصريَّ، ولم يَرَهُ كُفْئًا لابنته؛ لأنه مصريٌّ، فهو عنصريٌّ، وبالتالي يَلْتبس عليه رأي الإسلام بما تراه الشعوبية.
إن رسالة الإسلام رسالة إنسانية، وليست عربيةً ولا أعجمية، هي تَستهدف: أن تُوجِّهَ الإنسان إلى الخصائص الإنسانية وحدها: (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا "أي بهدايته في كتابه، وهي للإنسانية وحدها" ولا تَفَرَّقُوا "لتعودوا كمَا كنتم وكما تَعودتُم: قبليِّينَ، أو شعوبيينَ، أو أُسْرِيِّينَ، أو قوميين" واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكمْ "أي بهداية القرآن لكم نحو التوجيه الإنساني العام" إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً "عن طريق التمسُّك بالقبلية والأسرية من قبلُ" فأَلَّفَ بينَ قُلوبِكُمْ "أي الآن بالإيمان بالله وبهدايته" فأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا). "وهي نعمة الهداية أو التوجيه نحو الصفات الإنسانية في الإنسان وحدها". (آل عمران: 103)..
ووَلِيُّ الأمر الآن مُخيَّرٌ أن يكون مُسلمًا... أو يبقى شعوبيًّا عنصريًّا..(/2)
106 ـ المرأة العاملة والزواج
مُشكلتي هي مشكلة كل الشُّبَّانِ، وهي الزواج والأُسرة، فقد عُيِّنْتُ في الحكومة بأجرٍ ليس مِن الهيِّن توفيرُ مهرٍ منه، ثم لو أمكنَ، ما السبيل لنفقات أسرة اللهمَّ إلا التزوُّج بمُوظفة؟ في هذه الحالة يعيش الزوج طول حياته مُرْهَفَ الحِسِّ مُقيَّدَ القدرات، ويكون البيت مُجرَّدًا مِن معاني السكن والاستقرار وتربية الأولاد. فهل عندكم حَلٌّ مَقبول ومَعقول؟
السائل في سؤاله يُثير ثلاث مشاكل:
أ ـ مشكلة الدخول المَحدودة للأفراد.
ب ـ مُشكلة المهر.
ج ـ مشكلة الزوجة عندما تعمل خارج المنزل.
صاحب الدخل المحدود في نظر الإسلام هو ذلك الذي يبذل طاقته في العمل وفي السعْي من أجل الرزق، ومع ذلك لسبب مِن الأسباب خارج عن إرادته هو كنَقص ذَكائه.. أو عدم توافر إمكانية عملٍ آخر له في مُجتمعه ينقص دَخْله عن نَفَقاته.
وهذا يُعرف بالمسكين. فالمسكين ليس عاجزًا عن العمل، وليس مُتواكِلاً؟على الآخرينَ ولا راغبًا في البِطالة، وإنما إنسان لدَيهِ طاقة على العمل، قد تكون هذه الطاقة مَحدودة بصفات ذاتية لا إرادية.
ومِن أجل ذلك يكون دخْله مِن عمله لا يَكفيه في الإنفاق على نفسه وأسرته، ومثل هذه الطاقة المَحدودة بصفات ذاتية: تُساوي الطاقة المُقيَّدة بإرادة خارجة عن الذات فدَخْلها عندئذٍ يَقْصُر عن أن يفي بحاجة الشخص أو هو والأسرة معه.
وللمساكين مَصْرِفٌ مِن مَصارف الزكاة الثمانية يتكفَّل بيتُ المال ـ وهو الدولة في
حاضرنا ـ بتَغطية حاجاتهم في المَعيشة.
والزكاة ليست ضريبةً، وإنما هي عبادة وقُرْبَى إلى الله، تُقدَّر على ما يَملكه المسلم بنِسَبٍ مُختلفة تصل أقصى نسبةٍ منها إلى عشرين في المائة 20% وهي تلك النسبة التي تجب على مال الرِّكاز، والركاز هو الثروة المَعدنية تحت الأرض كالبترول والمناجم والمعادن كلها.(/1)
والمهر في الإسلام ليس ثمنًا ولا مُقابِلاً لمُتعة وَقْتِيَّةٍ، إنما هو مِنْحةٌ وعطاء خالص من الرجل يُعبِّر به عن رغبته الأكيدة في الزواج بمَن يُريد أن يقترن بها، فهو أقرب إلى الرمز منه إلى المال المُقْتَنَى، أو الشيء المادي صاحب القيمة المُتعارَفة بين الناس.
والشافعي يُجوِّز الزواج على أن يُعلِّم الرجل المرأة بعض القرآن وهو يَستند في هذا الجواز إلى حديث صحيح.
أما عمل الزوجة خارج منزل الزوجية فلا يُخفِّف مِن مَسئولية الزوج عن الإنفاق عليها فالزوج مسئول عن نَفقة الزوجة وإنْ كانت غنيَّةً.. وإنْ كانت تعمل بأجرٍ مُجْزٍ، وعمَلها عندئذٍ هو على حساب زوجها وأسرتها.
وعلى أية حال .. لا تُسْأل الزوجة ـ في نظر الإسلام ـ عن أية مشاركة في نفقات الأسرة، بل ما تُنفقه هي على ملابسها وزينتها مسئول عنه الزوج، وإنْ كانت هي مِن صاحبات المَلايين. لأن مسئولية الزوج عن النَّفَقة رُكنٌ أساسيٌّ في قيادته للأسرة وتوجيهه إلى ما يَصون كيانها ويُديم الاستقرار فيها... (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ...). (النساء: 34).
والإسلام بعد ذلك ليس مسئولاً عن الغُلُوِّ في المُهور، ولا مسئولاً عن عدم الاستقرار في بيت الزوجية عندما تَخرج الزوجة للعمل، ولا مسئولاً عن عدم تغطية الدخول المَحدودة لنفقات الأسرة؛ لأنه لم يُسأل الرأي في مُجتمعاتنا الحاضرة.(/2)
123 ـ أنا طالب جامعي متديِّن لي أخت في سِنِّ المراهَقة، وطالبة في مدرسة متوسِّطة، استطاع فتى في مِثْل سِنّها أن يخدعها ويوهِمها بحبِّه، ووصل إلينا الخبر، فاتَّخذْنا ضدها إجراءات شديدة من توبيخ، وضرب وإهانة من ناحية، وإرشاد من ناحية أخرى.
ومنعناها من الخروج إلا للمدرسة، ثم علمنا أخيرًا أنه يذهب لمقابلتها عند مدرستها، ووصل الخبر إلى أهله وذاع، فقرَّرتُ أن أمنعها من المدرسة، وبذلك يضيع مستقبلها في التعليم. فما الرأي؟
الجواب:
هل يضمن السائل أنه لا يتصل الشابُّ بأخته في المنزل، أو في الطريق منه وإليه عند قضاء حاجتها من خارجه؟
هل يضمن أنه لا يُكاتبها مباشرة على المنزل، أو على عنوان آخر لإحدى صديقاتِها؟
وهل يضمن أنَّه لا يتواعد معها عن طريق طرف ثالث مقرَّب إليه أو إليها؟
إنَّ ذلك كله وغيره من وسائل الاتصال واللَّعب معها ممكِن أن يقع؛ ذلك لأن اتجاه الحياة في مجتمعاتنا اليوم ـ وفي المجتمعات المعاصرة جميعًا ـ يدعو إلى صلات الجنس في غير قيود وفي غير رعاية للتقاليد، وربَّما في غير مسؤولية شخصية عمَّا تأتي به هذه الصلات، ممّا كان يُعتبر فيما قبل فضيحة أو معرَّة، أي يعتبر أمرًا خارجًا عن إلْف المجتمع وعاداته.
وهذا ليس معناه أنَّ ما يدعو إليه اتجاه الحياة المعاصرة سليمٌ من الوجهة الخلقية والاجتماعية، يجب اتباعه. ولكنَّ معناه أن المجتمعات المعاصرة لسبب أو لآخر تُعنَى بنظام الحكم السياسي، أكثر من عنايتها بالسلوك الأخلاقي والإنساني المهذَّب في صلات الأفراد بعضهم ببعض. وربَّما ينطوي نظام الحكم السياسي نفسه ـ بغية صَرْف النقد عنه ـ على تشجيع الانطلاق في جانب الجنس، أكثر من الحرية في أي جانب آخر من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.(/1)
ووسائل اتصال المجتمعات في عالم اليوم بعضها ببعض أصبحت عديدة وميسَّرة. فما يحدث في شمال هذه المجتمعات يجِد صداه في الجنوب منها، عن طريق الإذاعة والصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. وأقمار الاتصال اللاسلكية أضحت عاملاً مُهِمًّا وسريعًا في ربط القارات بعضها ببعض. والتقدُّم العلمي والتكنولوجي سيَزيد من قوة تأثير هذه الاتصالات.
إن الأسرة اليوم لم تعُد تستطيع وحدها في مجتمعنا المعاصر أن تتغلب على ما في البيئة من عوامل الاستفزاز والتحريك للصلات الجنسية. والمدرسة بدورها لم تعُد هي أيضًا بقادرة على التغيير الجذري، إن هي تعرَّضت للجانب السلوكي. فضلاً عن أنَّها هي أصبحت واقعة بالفعل تحت تأثير التَيّار الحديث.
ماذا تفعل الأسرة، أو المَدرسة، في مواجهة ما تقدِّمه المجلات الأسبوعية من أحاديث عن علاقات الجنس أو ما يقدِّمه التلفزيون على فترات قريبة من أفلام، ومسرحيات وتمثيليات تعرِض العلاقات الجنسية بين تلميذات المدارس أو طالبات الجامعات مع زملاء لهنَّ في المدرسة أو الجامعة، على أنها من الأمور المسلَّم بها والمتعارَف عليه اليوم، وعلى أن ما يُضادُّها في تقاليد المجتمع يعود إلى الرجعيّة التي انتهى أمرها ـ أو يجب أن تنتهي ـ بالتقدُّم الحضاري المعاصر؟
ثُمَّ كيف تسمع البنت في سِنِّ المراهقة إلى نصح الداعي إلى السلوك الخلقي المهذَّب باسم الدين، وهي ترى صورة رجل الدين يُتَفَكَّهُ بها من وقت إلى آخر، كما يُتَفَكَّه معها بنطق اللغة العربية الفصحى فيما تقدِّمه المسرحيات والأفلام المنقولة على شاشة التلفزيون.(/2)
فمرة يظهر الدين في صورة مأذون الناحية وهو صاحب لحية طويلة، وعمامة كبيرة، ولسان يتشدَّق بألفاظ عربية غريبة، وصاحب حركات وعادات يبدو فيها النشاذُ، وأخرى يظهر بعمامته، وجُبّته، وقُفطانه، في صورة إنسان متحلِّل من محرَّمات الدين فيعاقِر الخمر، ويزاول الرَّقص وهو في نشوته حتى يسقط على الأرض، أو في صورة إنسان متمرِّد في حركات هزلية في الإقدام على ارتكاب المحرمات.
ولكن مع صعوبة الوضع للأسرة التي تُعنى بالتربية الإسلامية.. فإنَّه يمكنُها أن تحُدَّ من تأثير هذا الاتجاه بالتعاون مع بعض المدارس التي تهتمُّ بالتوجيه الخلقي.
على أن الوضع الخاص الذي جاء في السؤال فإنَّه يمكن لأخيها ـ لا عن طريق التهديد، ولا عن طريق الوعظ ـ ولكن بالتحليل لمشكلتها أن يقنعها بالنتائج التي يُعطيها هذا التحليل. إذ الشابُّ المراهق الذي يبادِلُها الحبَّ اليوم وفي مثل سنِّها سيظل إلى سنوات عديدة تزيد على العشر غير قادر على الزواج بها، والزواج هو الذي تنشُده هي الآن من العلاقة القائمة بينهما في الوقت الحاضر. وذلك إلى أن يتخرَّج من التعليم الجامعي، إن قُيِّض له ـ وهو أمر محفوف بالشكِّ القوِيِّ في مثله ـ دخول الجامعة. فإذا لم يدخل الجامعة، وهو على هذا النحو من مغامراته الحاليّة، فإنه يشُقُّ عليه أن يكسب مهارة في عمل ما. وعندئذٍ سيبقى في معيشته إمّا عالة على أسرته، أو متعطِّلاً مشرَّدًا أو يكسب أجر عامل عادِيٍّ، لا لضعفه البدني وإنّما لاهتزاز نفسه. وعدم مرانها على المشقّة والصِّعاب في كسب لُقمة العيش منذ نشأته في المنزل ثُمَّ في المدرسة.(/3)
وأيَّة بنت في سن المراهقة تنتظر الزواج من مراهق مثلها، بعد عشر سنوات فأكثر من بَدء العلاقة الغرامية، ووضع مستقبله لا يُبشِّر بأنه سيحمل مسؤولية الأسرة والأولاد، إمّا بسبب ضعف دخله، أو ضعف نفسه ـ تكون من البَلَهِ بحيث لا يندم المسؤول عنها على انقطاعها عن التعليم وعدم مواصلتها الدِّراسة؛ إذ التعليم يعطي ثمرته في حالة واحدة، وهو أن يكون هناك لدى الراغب في التعليم ميل إلى الكفاح في الحياة من أجل الوجود الشخصي، وإنما تعرف التقليدَ فقط، ولو في اللَّعب بالنار التي تحرِقها.(/4)
149 ـ طُلِّقَتْ أمِّي من أبي وأنا صغيرة، وتزوَّجت برجل آخر وعِشْتُ معها، فذُقت العذابَ. وعلَّماني الرقص في الرابعة عشرة من عمري، واشتغلتُ به مدة أحدَ عشرَ عامًا، ذُقت فيها المرَّ أيضًا. وأخيرًا كرِهْت الرقصَ وتركته، وتُبت عن كل المعاصي، راجية الله أن يغفِر لي.
وتزوَّجت من رجل صالح، دخْله عشرون جنيهًا فقط في الشهر، رغم أن كان دخلي عشرة جنيهات في اليوم الواحد. وكنتُ أساعد أختي الفقيرة وأولادَها. والآن لا أستطيع مساعدتَها.
ثُمَّ أنا الآن أكرهُ كل شيء في منزلي، من أثاث، ومَتاع؛ لأنِّي اشتريته من مال حرام. فكيف أتصرَّف؟ وما رأي الدين؟
الجواب: ...
إن السائلة ـ كما يؤخَذ من كتابها ـ قد تابت توبة نصوحًا، ورجعت إلى الخط المستقيم في الحياة تشعُر الآن أنَّ الحياة في علاقة زوجيّة مع رجل مستقيم، وإنْ كان دخله قليلاً، وأقلّ بكثير مما كانت تكسِبه يوميًّا من عملها السابق، أفضل بمراحل من ذلك النوع من الحياة الذي كرهته وتركته، بعد أن عرَفت جوهرَه من البؤس والمرارة، رغم بريقه الخادِع.
وهى الآن مع زوجها المستقيم تشعُر بشيء آخر ينغِّص عليها حياتها ويذكِّرها دوامًا بماضيها وهو أثاث المنزل وأمتِعته، وقد اشترته من ذلك المال الحرام.
وهي تسأل: كيف تتصرف الآن: هل تبيع الأثاث والمتاع الحاليّ لارتباط الذكريات الكريهة بهما ـ وتشتري بالثمن المتحصَّل من البيع أثاثًا ومتاعًا غيرهما؟ وهل يكون المال ـ الذي هو الآن حصيلة البيع ـ حرامًا في نظر الإسلام؛ لأنَّه في أصله كَسْب حرام؟ (/1)
إنه مال حرام قطعًا في أصله، وعندما يتحوَّل كذلك مرة أخرى في صورة جديدة من الأثاث والمتاع. وإنَّه مع ذلك ـ أيضًا ـ ستظَلُّ الذكريات الكريهة مرتبِطة به، وإن تجدَّد. وفي الوقت نفسه ليس من الهَيِّن على النفس التنازُل عنه للغير في غير مقابل، تخلُّصًا من الإثم المرتبِط به.
لكنَّ النفس التي تابت عن الرَّذيلة، واحتقرَت زيْف المُتعة المادية، وارتفعت فوق إغراء المال المتدفِّق، وتعيش الآن في حياة بسيطة غير معقَّدة وهى سعيدة بصلاح زوجها ومُكتفية بهذا القليل من المال في دخله.. هي نفس أعادتْ الثِّقة والكرامة والسيادة الإنسانية إليها. وهى نفس كبيرة الآن، تستطيع التخلُّص من آثار الماضي كلِّه، دون ندم عليها، ودون انتظار لقيمتِها المادِّيّة.
والفقه الإسلامي ينصَح بالتخلُّص من هذا المال الحرام بدون مقابل إذ الحديث الشريف: "لَعَنَ اللهُ اليَهودَ لمّا حَرَّم عليهم شحوم الأنعام باعوها وأكلوا ثمنَها".. يمنع مقابلًا فيما حُرِّم، أو فيما أصله حرام.
ولكنَّ الإسلام في الوقت نفسه لا يدفعها إلى العنَت والمشقّة ولا إلى الحرج والضَّرَر بوجوب التخلُّص الفوريّ من هذا المال الحرام، والخروج من إثمه. فالله يقول: (يُرِيُد اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) (البقرة: 185). كما يقول أيضًا: (ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78). ويقول الرسول الكريم: "لا ضرَر ولا ضِرار" .
ومن هذه النصوص القرآنية والنبويّة يُستفاد عدم الإلزام الفوريّ في التخلُّص من المال الحرام، كما هو حال السيدة السائلة. فماذا تصنع في سكَنِها مع زوجها، والدَّخل قليل كما ذكرت، إن هي أُلزِمَتْ فوريًّا عن طريق الدين بالتخلُّص من أثاث المنزل ومتاعه؟ إنَّها حتمًا ستواجه حياة شاقّة وقاسية لا يحتملها إطلاقًا إنسانٌ اعتاد سكَن المدينة، وهو مضطرٌّ إلى سُكناها حاليًا.
والرأي:(/2)
التخلُّص من المال الذي جاء عن طريق محرَّمة. وتُبيِّت النية والعزم على ذلك. وبالتدريج ـ كلَّما واتت الظروف ـ بالتبرُّع ببعضه. حتى يتِمَّ التخلُّص منه في غير مشقّة. والله أعلم.(/3)
143 ـ أنا طالبة بكلية الطبِّ والدراسة فيها باللغة الإنجليزية، ومدتها طويلة تُنسينا اللغة العربية الصحيحةَ. فماذا أصنع لأتعلَّم قراءة القرآن الكريم، وليس لديَّ إمكانية إحضار مدرِّس عربيّ؟
الجواب: ...
إنه يبدو للطالبة السائلة أن التدريب في دراسة كلية الطب على استخدام اللغة الإنجليزية في النطق بها، والاستماع إليها في المحاضرات، وتدوين المعلومات بها.. من شأنه أن يُنسِي الطالب أو الطالبة اللغة الوطنية الأولى، وهى هنا اللغة العربية الصحيحة. ولكنَّ هذا تصوُّر فحسْب. وفي واقع الأمر لا يَنسَى الطالب أو الطالبة لغتَه الوطنية بمجرَّد تدريبه على استعمال لغة أجنبية فترة ما، ولو طالت مدة هذا التمرين. إذ اللغة الأولى هي مختزَنة الآن، وسهولة استخدام اللغة الثانية ـ بسبب التدريب ـ فقط لفترة عابرة، لا يلبث بعدها أن يعود استخدام اللغة الوطنيّة إلى يسره، كما كان عندما تواتي الفرصة لاستخدامها من جديد.(/1)
والقُصور في اللغة العربيّة الصحيحة لا يرجع إلى التدريب على استخدام اللغة الإنجليزية في مدة دراسة الطِّب بالكلية أو في الدراسات المماثِلة. بل يعود إلى شُيوع استعمال اللغة العاميّة في الحديث هنا. وهناك فرق ـ قد يكون كبيرًا جِدّا ـ بين اللهجة العاميّة واللغة الفصحى، وبالأخصّ بين لهجة القاهرة ولغة المصحَف الشريف. كما أن هذا القصور نفسه في اللغة العربية الصحيحة يعود كذلك إلى خِفّة وزن هذه اللغة في نفوس المواطنين. تحت التأثُّر بالثقافة الأجنبية والحضارة الدخيلة، منذ عهد الاحتلال. والحركات الوطنيّة لم تضع هذه اللغة الفصحى في موضع الاعتبار إلا في زيادة دروسها في جدول الدراسة للمتعلِّمين. ولكن في الحديث أو في الحوار لم تزَلْ بعيده عن أن تكون اللغة المشتركة. بل في بعض التمثيليّات والمسرحيات أو في بعض الأفلام العربيّة قد يكون النطق بالعربيّة الفصحى للدُّعابة والترويح عن المشاهدين. ولزيادة الدُّعابة والترويح يكون الناطق بها مرتديًا زيَّ المشايخ الذين عرف عنهم حفظ القرآن الكريم. والإتيان باللغة الفصحَى للدُّعابة والترويح لا يُعطيها الاعتبار الأول كما ينبغي.(/2)
والسائلة الطالبة يُمكِن لها أن تستهدي وِزارة الأوقاف مصحفًا مرتَّلاً بجَهازه الخاصّ به، إذا أرادتْ أن تتعلَّم لغة القرآن الكريم، وتتعوَّد على نُطْق الكلمات المكتوبة فيه. إذ القارئ المسجَّل لقراءتِه في هذا المصحف من أشهر القرّاء ومن أجودِهم ترتيلاً لكلماته. فنطقه بعيد عن الخطأ، وتلاوته سَليمة من الوجهة الشرعية. وتعلُّم اللغة هو مُحاكاة، قبل أن تكون قواعد. أما الوقوف على قواعد اللغة العربية فيُمكِن عن طريق استرجاع الكتب المدرسية ومعاودة قراءتها. والأمر عندئذٍ لا يحتاج إلى مدرِّسٍ خاصٍّ؛ لأن الإنسان في الجامعة بعد ما يترك وراءه فترات الدراسة السابقة، إذا أراد أن يستذكر دروس أيّة مادة من مواد الدراسة السابقة، فإنَّ إرادته هذه تسهِّل له السبيل لفَهْم ما بدا فيما مضى أمرًا شاقًّا وصعبًا، وتُمكِّنه من استساغة ما كان منفِّرًا له من قبل.(/3)
132ـ الشباب بين اللحْيَة وتتبُّع رقابة أمْن الدولة
مِن طالب بإحدى المدارس الثانوية بإحدى المحافظات يطرح السؤال التالي:
أنه أقسم يَمينًا على المُصحف الشريف بأنه سوف يُطلق لحْيته تنفيذًا لأمر الرسول، فكيف يَبَرُّ يَمينه مع أنه تقوم بعض الصُّعوبات في طريق التنفيذ؟ وأخَصُّها مُعارضة والديه بحُجَّة:
أولاً: أن الفتياتِ لا تُقبل على الزواج منه؛ لأن اللحية سوف تُغيِّر مظهره.
وثانيًا: أن هناك بعض الناس يُطلقون اللحْية ويَتوارَونَ وراءها ويفعلون أشياء مُخِلَّة بنظام الدولة، وهذا مِن شأنه أن يُعرِّض كثيرًا مِن أصحاب اللِّحَى للقبْض عليهم.(/1)
إن هناك صِفاتٍ يدعو الإسلام إلى توافرها في الإنسان المؤمن به، وإذا وُجدت في مؤمن ما اعتبرها عُنوانًا على انتمائه إلى الله حَقًّا، وجاءت هذه الصفات في قول القرآن الكريم في سورة الفرقان: (وعِبادُ الرحمنِ الذينَ يَمشُونَ على الأرضِ هَوْنًا) أي الذين يتواضَعُون في مشيتهم، ليس بهم صلَف ولا كبرياء (وإذا خاطبَهمُ الجاهلونَ قالُوا سلامًا) أي إذا احتكَّ بهم الحَمْقَى مِن الناس في الكلام لا يُعيرون لكلامهم أهمية وانصرفوا عنهم في هدوء (والذينَ يَبِيتونَ لرَبِّهم سُجَّدًا وقِيامًا) أي والذين يذكرون الله في لياليهم بالصلاة والدعاء، كما يذكرونه في نهارهم بالعمل وأداء الصلاة في أوقاتها (والذينَ يقولونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عنَّا عذابَ جهنمَ إنَّ عذابَها كانَ غرامًا) أي الذين يَخشَونَ اللهَ ويَخشَونَ عذابَه في الآخرة فيسلكون سبيل الطاعة له، وبالتزامهم الطاعةَ لله يَدْعُونه ـ سبحانه ـ أن يُجنِّبهم نارَ جهنم (إنها ساءتْ مُستقَرًّا ومُقَامًا) (والذينَ إذا أنْفَقُوا لم يُسْرِفُوا ولم يَقْتُروا وكانَ بين ذلك قَوامًا) أي والذينَ اعتدلوا في إنفاقهم المال، فلم يَكونوا بُخَلاء ولا مُبذِّرينَ، وإنما كانوا وَسَطًا، وليسوا إلى التقتير ولا إلى الإسْراف (والذينَ لا يَدْعُونَ معَ اللهِ إلهًا آخرَ) أي والذين يؤمنون بالله وحده، فلا يُشركون معه ـ جل جلاله ـ أحَدًا؛ إنسانًا أو غير إنسانٍ، فالله وحده هو الكامل المَعبود وهو الخالق، وهو الفاعل صاحب الأثَر في الوُجود كله، وليس هناك إنْسٌ أو جِنٌّ أو صنَمٌ أو وَثَنٌ نِدًّا له أو ابْنًا أو شريكًا له في أيَّةِ صورة (ولا يَقْتلونَ النفسَ التِي حرَّمَ اللهُ إلَّا بالحقِّ ولا يَزْنُون) أي والذين يجتنبون الكبائر، فيجتنبون قتل النفس التي حرَّم الله إلا إذا كان ذلك قصاصًا، ويجتنبون الزنا وهَتْكَ الأعراض (ومَن يَفعَلْ ذلكَ يَلْقَ أثَامًا. يُضَاعَفْ لهُ العذابُ يومَ القِيامةِ(/2)
ويَخْلُدْ فيهِ مُهَانًا. إلَّا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فأُولئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكانَ اللهُ غَفورًا رَحِيمًا. ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فإنَّه يَتُوبُ إلَى اللهِ مَتَابًا. والذينَ لا يَشهدونَ الزُّورَ وإذا مَرُّوا باللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) أي والذين يجتنبون الزور والكذب في القول والشهادة لمصلحة أحدٍ أو ضد أحد، وإذا مرُّوا بسَخافات وتَفاهات يُباشرها بعض الناس تجاوزوها ولا يشتركون فيها، وبذلك يَحتفظون بكَرامتهم (والذينَ إذا ذُكِّرُوا بآياتِ ربِّهم لم يَخِرُّوا علَيها صُمًّا وعُمْيانًا) أي والذين إذا ذُكِّروا بالقرآن لم يُغفلوه كأنهم صُمٌّ لم يَسمعوا وعُمْيٌ لم يُبْصروا، وإنَّما يَتيقَّظون لمَا ذُكِرَ لهم منه ويَثبُتون على طاعتِهم لمَا جاء فيه (الفرقان: 63ـ 73) وهذه الآيات تَذكُر مِن صفات المؤمن بالله الآن ما يُعَدُّ مُميِّزًا له حَقًّا عن غيره ممَّن لم يدخلوا دائرةَ الإيمان، فتذكر:
التواضُع.
والبُعد عن المُشاركة في حَماقة الآخرينَ.
واستمرار الاتِّصال بالله في الليل والنهار على السواء، بالدعاء وبالصلاة.
والخشْية مِن عذاب الله في الآخرة.
والاعتدال في إنفاق المال.
وتجنُّب الشرك بالله في أية صُورة مِن صوره.
وعدم مُباشرة الكبائر مِن قتْلٍ وزِنًا، ومَا شابهَه.
وعدم مُباشرة الزور والكذِب في الشهادة والقول والرواية على العموم.
والحرص على العمل بما جاء في القرآن.
والسائل إذا عرَف أن قِوام التديُّن في نظر القرآن الكريم هو مُحاولة اكتساب الصفات التي تجعله مِن عباد الرحمن، والتي هي في واقع الأمر مُميِّزة له كمُؤمن بالله وحده، إذا عرَف ذلك فإنه لا يَتشدَّد في مُخالفة والدَيه بأن يَحرص على أن يكون مُلْتَحِيًا.(/3)
نعم، اللحية سُنةٌ مُؤكَّدة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي حديث ابن عمر رضي الله عنه: "خَالِفُوا المُشركين؛ وَفِّرُوا اللِّحَى وأحْفُوا الشوارِبَ" (كتاب التاج 3 / 177) ولكن طاعة الوالدينِ أمرٌ مطلوب مِن الأبناء إلا في حالةٍ واحدة، وهي الشرك بالله. ...
وطاعة الوالدينِ هنا ليست للأسباب التي ذكَرها السائل في رسالته، وهي أن كثيرًا مِن الذين يُطلقون لِحاهم مِن الفَوضويِّينَ والشيوعيين، وأنَّ ذلك يجعل صاحب اللحية عُرْضةً لتتبُّع المباحث في الدولة، وليس أيضًا لانصراف الفتيات عن الشبان عند الخِطبة؛ إذْ كثير من الشبان أصحاب اللحى في غاية الاستقامة في السلوك والمعاملة، وفي غاية الجدِّ في الدراسة وأداء الواجبات، وفي مُقدمة العاملينَ المُخلصين لله ولأوطانهم، وفي الصف الأول في رَكْبِ المُتخرِّجين في الجامعات، وكذلك هناك العدد الوفير من الفتيات يَرغَبنَ في الزواج مِن الشبان المُتديِّنينَ ويعُدُّون مِن أمَارة تديُّنه أنه صاحب لحية، فوق أن اللحية ظاهرة من ظواهر الرُّجولة، وفي حديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ قال: "عشرٌ مِن الفِطْرة" أي مِن الخِلْقَةِ والدِّينِ "قصُّ الشاربِ، وإعْفاء اللحية.." إلى آخر الأمور العشرة التي جاء بها الحديث الشريف.(/4)
وللسائل أن يرجع عن يَمينه ويتحلَّل منها بالكفَّارة إلى ما هو خير منها ولا إثمَ عليه عندئذٍ، فيُروَى عن الرسول ـ عليه السلام ـ قوله: "وإنِّي واللهِ، إن شاء الله، لا أحلفُ على يمينٍ فأرَى خيْرًا منها إلا أتيتُ الذي هو خيرٌ وتَحَلَّلْتُها" أي بالكفَّارة (اللؤلؤ والمرجان ص 408) وقد جاءت الكفَّارة لليمين في قول الله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ ولكنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ) أي بما قصدتم (الأيمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عشَرةِ مَساكينَ مِن أوْسَطِ ما تُطعِمونَ أهليكمْ أو كِسوتُهم) طاقية، منديل، عِمامة (أو تحريرُ رَقَبَةٍ فمَن لم يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ ذلكَ كفَّارةُ أيمانِكمْ إذا حلَفْتُمْ واحْفَظُوا أيْمَانَكمْ) أي إلا إذا كان في الحِنْث خَيْرٌ "المائدة: 89".
وبالانتقال ممَّا حلَف عليه الإنسان إلى ما هو خير منه تَسقط المَعصية، وبأداء الكفَّارة وأدناها الصومُ ثلاثة أيام يُجْبَرُ الأمر ويُسوَّى. ...
وعلى الطالب إذا أراد القُرْبَى إلى الله أن يُرضيَ الوالدينِ، وأن يَجِدَّ في دراسته ويتفوَّق فيها، وأن يُنمِّيَ خشيته مِن الله في هذه المرحلة ـ وهي مرحلة المُراهقة ـ حتى ينجح في حياته لخير نفسِه وأُسرته وأمَّته.(/5)
82 ـ منْع ذوِي القُرْبَى أو إغْضاب أُسرته
يتحدث مواطن من إحدى المحافظات عن أن له أقاربَ من أقرب الناس إليه، ويترددون كثيرًا على منزل أسرته، وبسبب تردُّدهم يفقد الهدوء والراحة، ويُؤثِّر على عدم استمراره على مذاكرته، كما يُسبب تردُّدهم أمورًا أخرى لا مكان لها في رسالته، فيَضطر إلى فعْل أشياء ضدَّهم تُثير غضب أسرته.
... ويسأل عن موقف الدِّين مِن هذا، أيْ من تردُّد الأقارب.. والفعل السيئ الذي يُباشره ويُغضب الأسر
من العادات الشائعة في المجتمع المصري تلك العادات التي يذكرها السائل هنا، وهي تردُّد الأقارب والأصدقاء، والمَعارف على منازل أقربائهم، وأصدقائهم، ومَعارفهم للزيارة فجأة وبدون الوقوف على وضْعها فيها: ... ...
أهم مَوجودون بالمنزل وقت الزيارة؟ وعلي استعداد نفسيٍّ وماديٍّ لقبول زيارتهم؟ أليس لديهم عمل يَشغلهم عن لقاء الزائرين؟ والضرورة العاجلة تدعو إلى إنجازه؟ أليست لدَيْهم واجبات تُؤدَّي خارج المنزل وقت زيارة أقاربهم، أو أصدقائهم، أو مَعارفهم المفاجئة؟ ...
وقد تسبَّب هذه العادة حرَجًا لطرَفٍ مِن الطرفينِ، أو لهما مَعًا، وقد تسبَّب كذلك ضرَرًا ماديًّا أو أدَبِيًّا لمَن يُزار في بيْته فجأة، وقد يكون ردُّ الفعل على الزيارة من الأسرة التي تُزارسيئًا أو غير لائق بالقادمينَ للزيارة مِن الأقارب، والأصدقاء والمعارف، والسائل هنا يَذكر أثر هذه العادة على نفسه، وعلى عمِله، فهو لا يستمتع بهدوء واستقرار ولا يَستطيع إنجاز عمله المطلوب منه، وهو مُراجعة دروسه، كما يذكر ردَّ الفعل للزيارة المتكررة والمفاجئة. وهو يتمثَّل في مباشرة أمور منه ـ تتصل بالزائرين طبْعًا ـ تُغضب أسرته، إذ إنها ترى فيها ما يُحرج الضيف، أو يُحرجهم في العلاقات معهم.(/1)
ومن آداب القرآن التي يُوصِي بها المؤمنين في سُلوكهم: أن يَستأذِنَ الزائرون أولاً عند الزيارة لمنازل الآخرين، قبل أن يَدخلوها، وهي منازل الأقرباء والأصدقاء والمعارف، ومعنى الاستئذان أن يَطلبوا الوُقوف على وضْع الآخرين في منازلهم، وهل هو وضْع يسمح بالزيارة أم لا؟ وهل لا يكون هناك حرَج إذا قام الزائرون بزيارة مُفاجئة؟ وهل لا يترتَّب على عدم الاستئذان في الزيارة ارتكاب مُحرَّم في بيت مَن يُزار دون سابقِ علْمه؟ فيقع اختلاط يجرُّ إلى علاقة آثمة بين رجل أجنبيٍّ وامرأة أجنبية عنه، يقول القرآن الكريم: (يا أيُّها الذين آمنوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غيرَ بُيوتِكُمْ حتَّى تَسْتَأْنِسُوا. أيْ حتَّى تَستأْذِنوا فيُؤْذَن لكم" وتُسَلِّمُوا علَى أَهْلِهَا. وعندما يُؤذن لكم في الدخول حَيُّوا الموجودين فيها بإلْقاء السلام عليهم" ذلكمْ خيرٌ لكمْ لعلَّكمْ تَذكَّرُونَ). وهذا الاستئذان في دخول بيوت غير بيوتكم، وإلْقاء السلام على مَن فيها، خير لكم من التهجُّم عليها بغير إذْن، ومن الدخول بغْتة وفجْأة، ويُرجَى منكم أن تتذكروا دائمًا: أن الاستئذان خيرٌ من المباغتة" فإنْ لمْ تَجِدُوا فِيهَا أحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حتَّى يُؤْذَنَ لكمْ "أيْ: وعندما لا تجدوا فيها أحدًا يُعطيكم الإذْن فالنهْيُ عن دخولها مُستمر.. إلى أن يُؤذَن لكم ممَّن له الإذْن، وهو رب الأسرة، ومعنى ذلك: أن غير المَحارم لا يجوز للزوجة أن تأذن لهم في الدخول، إذا كان زوجها غائبًا. "وإذَا قِيلَ لكمُ ارْجِعُوا فارْجِعُوا هُوَ أزْكَى لكمْ" "أي فإذا استأذنتم في الدخول ولم يُؤذن لكم وطُلب إليكمُ الرجوعَ فينبغي الاستجابة لمَا طُلب منكم، وهو أن تَرجعوا ولا تَدخلوا. إذِ الرجوع عندئذ طريق الطهر والصفاء والبعد عن الشبهات في العلاقات بين بعضكم بعضً. واللهُ بمَا تَعْلَمُونَ عَلِيمٌ). (النور:27ـ 28). ...
ووُجوب الاستئذان في زيارة الآخرين في منازلهم(/2)
يرفع الحرَج عن هؤلاء الآخرين، في بيوتهم بالزيارة المفاجئة.. كما يحول دون تكون العلاقات الآثمة التي قد تنشأ في غيبة رب الأسرة عن منزله.
... وزيارة الأقارب التي يتحدَّث عنها السائل ليس الحرَج فيها أنها مُفاجئة وعلى غير مِيعادٍ فقط، وإنما الحرَج يشتد فيها؛ لأنها تتكرَّر، وتكرارها أخرج السائل وهو من الأسرة التي تُزار، عن دائرة اللِّياقة والمعاملة الحسنة لأرقابه، فبالإضافة إلى ضياع هدوئه واستقراره عند مُراجعة دروسه، وفوَات الوقت عليه بدون فائدة له، فإن تكرارها قد يُكلِّف أسرته في سبيل إكرام الأقارب، ما لا تَحتمله إلا بمَشقة.
ومن الأسف الشديد: أن الحساسية شديدةٌ عند أصحاب هذه العادة ـ وهي عادة الزيارة للآخرين مِن غير علْم سابق ـ إذا لفَت نظرهم أحدٌ إلى أن الإسلام ينهَى عن اتباع هذه العادة السيئة، ويطلب مِنَ المؤمنين جميعًا أن يكونوا إنسانيين في علاقة بعضهم ببعض، فلا يُقْدم أحدهم على إيذاء الآخر بحمْله على قَبول ما يكرهُه. فالإنسان له حُرمات عديدة، وحُرْمة المسكن لا تقلُّ عن حرمة النفس، والمال، والعرض بين حُرماته، إنَّ المسكن جُعل للسكن والهدوء، واقتحامه بدون إذْن ورضا من الساكن يُخرج السكن عن غايته، ويجعله كالشارع الذي يقع عليه، أو أقلُّ حرمةً منه. ... ...
ولكن بلادة الإحساس بالإنسانية، وطغيان الأنانية في الإنسان هي التي تجعله يتجاوز الذوْق، ويرتكب أقبح العادات وأبغضها إلى النفوس الكريمة.(/3)
وردُّ الفعل الذي يُباشره السائل إزاء تكرار الزيارة المفاجئة من أقاربه، وتغضب له أسرته، ينبغي أن يكفَّ السائل عنه؛ لأنه إذ يتضرر من عادة سيئة لغيره، فلا يصحُّ أن يُسيء هو في التصرُّف مع الأقرباء وإن كانت إساءته ردَّ فعْلٍ لسوء قبله، فالمبدأ الأصيل في القرآن: أن بُغْض أيِّ إنسان لسببٍ من الأسباب لا يجب أن يحمله على الاعتداء عليه، أو على عدم العدْل معه: (ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ علَى ألَّا تَعْدِلُوا). (المائدة: 8).. "أيْ لا يحملكم بُغْضُ فريقٍ مِن الناس على عدم العدل بينهم والقياس على ذلك: يجب أن لا يحمل بُغضُ نفرٍ مِن الناس على الإساءة إليهم في صورة ما.(/4)
125ـ مرحلة المُراهقة مليئة بصُور الخداع في الآمال:
طالب في الثانوية العامة، بإحدى المحافظات، يَروي مشكلته، وهي تتخلَّص:
أولاً: تعرَّف على زميلٍ له بالمدرسة وأُعجب بخُلقه، وتوطَّدتِ العلاقة بينهما، وكان يذهب إلى منزله، وهناك رأى في يوم من الأيام شقيقةَ صديقه ومالَ إليها، ثم ازداد هذا المَيْلُ عندما عرَف عنها: أنها متديِّنة وإنها تعمل على عدم الاختلاط بغير المَحارم.
ولأنه ارتبط نفْسِيًّا بصديقه وشقيقته أيضًا فإنه يُؤْثِر أن يتقدم لخِطبتها حتى تكون زوجته في المستقبل، بعد أن يُتمَّ دراسته العالية، ويرى أن التقدُّم لخِطْبتها هو السبيل الوحيد المُمكن الآن؛ لأن تقاليدنا ـ كما يقول ـ لا تَسمح بـ: "الصداقة" كعلاقة بين الاثنينِ.
وهو يسأل: ماذا أفعل، لا أستطيع أن أتقدم إليها وأنا طالب، فلا أستطيع أن أقول لها، ولا أستطيع أن أقول لأَخيها؛ إذْ هو لا يَظنُّ أنَّني أحبُّ أُخته، ولن يتقبَّلها بسهولة، إنني في حَيْرةٍ من أمري ووقفت الآن دون حَلٍّ.
طالب في المرحلة الثانوية لم يُتمَّ تعليمه بعدُ.. ويريد بعد الحصول على الثانوية العامة قيْدَ اسمه في إحدى الكليات الجامعية. ومنذ الآن يُريد أن يرتبط بفتاةٍ يتزوجها بعد التخرُّج مِن الجامعة. وهي أيضًا طالبة في الصف الأول من المرحلة الثانوية، ويُريد أن يرتبط عن طريق خِطبتها، ولكنه لا يعرف ماذا يفعل؟.
قصةٌ مِن القصص اليومية المتكررة بين الشبان والشابات منذ ابتداء فتْرة المُراهقة، الشاب يُعجب بشابَّةٍ لسُلوكها أو لجمالها، وشابَّةٌ تُعجب بشابٍّ لسُلوكه أو لخِفَّة رُوحه، ويُريد كل منهما أن "يَحجز" الآخر للتزوُّج منه بعد التخرُّج، إمَّا عن طريق الخِطْبة.. أو طريق الصداقة إنْ أمكن.(/1)
... والسؤال الآن لهؤلاء الشبانِ والشابات في مرحلة التعليم الثانويّ، الوَلِهِينَ، والعاشقين.. والمُحبِّينَ. هل يُمكن أن يُوزَّعَ النشاطُ الفكري ممَّن يَعشق ويحب في مرحلة الدراسة، على تَحصيل المعارف المُتنوعة، وفي الوقت نفسه، على العلاقة الخاصة بين الاثنين؟.
تحصيل المعارف في المدرسة أمر مطلوب للنجاح في الدراسة، والتفوق في التحصيل أمر مطلوب للتميُّز بين الناجحين الذين يرغبون بعد التخرُّج في مراكز وظيفيةٍ مَرْمُوقة.
... وتذكُّر الخطيبة أو الصديقة أمرٌ مطلوب كذلك حتى لا تُنسَى، والاهتمام بها في الاتصال يومِيًّا أو أسبوعيًّا أو بين لحظة وأخرى أمر يدفع إليه الإعْجاب، والحِرْص على الاحتفاظ بها إلى وقت الزواج.
... هل يُمكن توزيع النشاط الفكري للمُعجبين والمعجبات بين الدراسة مِن جهة، والمَحبوبة أو الحبيب من جهة أخرى؟ هل تتَّسِعُ النفس البشرية للأمْرينِ؟ قد يُجيب الشاب.. وقد تُجيب الشابة، بنَعَمْ، ولكنها "نعم" تُعبِّر عن خِداعٍ، وليس عن واقع.
... إن فترة المُراهقة ـ وتقع في الدراسة الثانوية ـ مِن أقوى الفترات في حياة الإنسان تأْثيرًا على توجيهه، فإنِ استطاعتِ "الغريزة الجنسية" ـ وهي صاحبة السيادة في هذا الوقت ـ أن تَدفع بالفتى أو بالفتاة إلى الجانب الآخر فقلَّما تكون هناك فضْلة في النشاط الفكري للفتَى أو للفتاة يُوجَّه إلى تحصيل المعرفة في الدراسة. على معنى أن الشاب الذي يُشغل بفتاة والشابة التي تُشغل بفتًى، قلَّما يكون لدَى أيٍّ منهما تفكيرٌ دراسيٌّ مُنظم يُساعد على النجاح في الدراسة فضلاً عن التفوق والتميُّز فيها.(/2)
فالطالب في فترة المُراهقة يجب أن يُوجِّه تفكيره في تحصيل المعرفة، وفي عبادة الله كذلك، ليُبعد عن نفسه غِواية الشيطان بالجنس الآخر، وعبادة الله عندئذ تُساعده على تركيز الفكر في التحصيل والتفوق فيه، وكذلك يَجب على الطالبة في هذه الفترة أن تَصنع ما يَصنعه الشاب الذي يُريد النجاح والتفوُّق فيه.
... والآباء الذين يُوجِّهون أبناءهم في المرحلة الثانوية إلى المعارف المدرسية ويَصحبونهم معهم كل أسبوع لأداء فريضة الجُمعة، يُحسنون صُنْعًا إلى أبنائهم، وكذلك الأمهات اللاتي يُبعدْن "الدردشة" أمام الفتي المراهق أو الفتاة المراهقة، عن زواج بنت الجيران، أو عن زواج ابن أخٍ، أو بنت أختٍ، يُحْسِنَّ صُنْعًا أيضًا في المحافظة على تركيز النشاط الفكري لأولادهم في فترة المُراهقة للدرْس والتعليم.
إن الطالب الذي يسأل هذا السؤال في هذه الرسالة يَخلق لنفسه مشكلة ثم يسأل عن حلِّها، إنه يتوهَّم.. ثم يُؤمِّل.. ثم يُحاول تحقيق الأمل المَوهوم، إذا كان مُخلصًا لله في تديُّنه وعبادته يجب أن يُبعد عن تَوهُّمه غواية الشيطان ويستقر في خط الدراسة ليَنجح ويتفوق في نجاحه، وعندئذ يجد دائرةً أوسع يختار منها زوجته التي يَعتقد أنها تتَّفق معه، وأنها تُشاركه الحياة المُؤملة.
... يُخشَى عليه الآن من الفشَل في الدراسة لو استمر يُفكر في الحل الذي "يحجز" به الزوجة المُقبلة، ويُخشى عليه كذلك مِن أن تُرفض رغبته من جانب صديقه، وعندئذ تحدث القطيعة بينهما بجانب عدم تحقيق الرغبة التي يَسعى إليها.(/3)
... إنَّ القرآن يَصْدق الإنسانَ حَقًّا عندما يضعُ أمامه الحقيقة واضحةً، وهي أنه يَستحيل على الإنسان أن يجمع في نفسه بين مُتناقضينِ، كالإيمان بشيء والكُفْر به في وقت واحد؛ إذ يقول: (مَا جعَلَ اللهُ لرجلٍ مِن قلْبينِ فِي جَوْفِه) (الأحزاب: 4)..فهنا في سؤال الشاب يَستحيل أن يَستوعب جوْفُه في وقت واحد: التفكير الصافي في سبيل تحصيل المعرفة.. والانقياد للغريزة في سبيلِ احتجاز الفتاةِ التي يُريدها.
إن قوةَ الغريزة ستَجعل تفكيره مُشَوَّشًا؛ فلا يُحصل من المعرفة المدرسية إلا ما هو مشوش كذلك، كي يَنصرف في سبيل دفْع الغريزة إلى ما تَشتهيه النفس.
... ثم أخيرًا: الإيمان بالله يَفرض الإيمان "بالقدَر" والقدَر سِرٌّ لا يعلمه إلا هو وحده، وخيرُه مَوكولٌ إليه ـ سبحانه.(/4)
48ـ وضْع الزوجة في الأسرة:
سيدة من إحدى المحافظات تقدم رسالتين:
الرسالة الأولى: وتُلخص ما ورد فيها من: "امرأة مظلومة".. وتقول على لسانها: إن المرأة مظلومة منذ آدم.
فقد خلَقها الله بعد آدم..
ولم يُعلِّمْها الأسماء الحسنى..
ولم يأمر إبليس بأن يَسجد لها..
وقد عصتْ ربها وهي لا تعلم أنها قد عصتْه..
وأنها قطعةُ أثاث عندما تُقدم تُباع.. وليْتها تُباع لبائع الروبابيكيا كالأثاث القديم.. وأنها تُنْهَرُ من أبيها وزوجها.. ولا تُقدر خدماتها، ولو اختارت زوجها لا تعرف شيئًا عن بيتها ولا تستطيع الكلام.. ...
... وهي عبدةٌ في بيت أبيها.. وفي بيت زوجها: وفي بيت أبيها تُباع لمَن يدفع أكثر. وإذا قالت لا أريد إلا رجلاً، يُقال لها قدَّرك بالمال، ومِن الأسف الرجل يَشتريني بماله؛ لأني جسدٌ، ولذةٌ لشهوته ليس أكثر.. ومن الأفضل أن يبحث عن بائعةِ هوًى، لا أن يتزوج ويأخذ منها ما يُريد، وأيضًا بالثمن. ...
... وفي النهاية تحكي أن الكاتبة للرسالة تُهدد بالانتحار.. إنْ لم يُوضَّح لها رأْي الإسلام.
الرسالة الأولى هنا تشير إلى مجموعتين من النقائص ـ كما يُدَّعَى ـ أُكرهت المرأة اليوم أو فيما مضى على أن تُعاني منها:
المجموعة الأولى: في عدم المساواة بينها وبين الرجل في الخلْق.. وفي التكليف من الله.. وفي الاعتبار البشري:
1ـ فقد خُلقت بعد آدم وليست معه.
2ـ ولم تُعلَّم الأسماءَ كما علَّم الله آدم.
3ـ ولم تركم بأمر الله للملائكة أن تَسجد لها، كما كُرِّم آدم مِن ربِّه بأمر الملائكة بالسجود له.
ولم تُكلَّف مُباشرة بالطاعة لله كما كلِّف آدم، عندما طُلِب منه الامتناع عن أن يَقترب من شجرةٍ مُعينة في الجنة.(/1)
أما ادِّعاء أنها خُلقت بعد آدم ـ وهذا نقصٌ بالنسبة لها ـ كما تذكر الرسالة.. فظاهر الآية في سورة النساء، وهو قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الناسُ اتَّقُوا ربَّكمْ الذي خلَقَكمْ مِن نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ مِنها زوجَها). "أي الذكر والأنثى" (النساء: 1).. إن الذكر والأنثى خُلقَا من طبيعة واحدة، وهي الطبيعة البشرية على معني أن الطبيعة التي خُلق منها الرجل هي ذات الطبيعة التي خُلقت منها الأُنثى، وقد خُلقَا معًا دون قبْليَّة ولا بَعديَّة لأحدهما. وما يُقال: مِن أن حواء خُلقت من ضِلْع آدم، ومِن أجل ذلك تأخَّر خلْقها عن خلْق آدم: فهو رواية عن التوراة، مَنقولة في بعض التفاسير للقرآن الكريم، أيْ أن القرآن لم يَرْوِهَا.
وعندما علَّم الله ـ جل جلاله ـ آدم: الأسماء، علَّمه إيَّاها باعتباره إنسانًا، وليس باعتباره ذكَرًا، والإنسان يَشمل المرأة والرجل على السواء.. وكذلك عندما أمرَ الملائكة بالسجود له أمرَهم باعتبار أنه إنسانٌ يُمثل طبيعة الإنسان، وهي طبيعةٌ تتميَّز عن طبيعة الملائكة بأنها مُركَّبة من مادة هي التراب.. ومِن سمْعٍ وبصرٍ وإدراكٍ، بينما طبيعة المَلَك لا تركيب فيها، بل هي جوْهرٌ فردٌ.
وعندما طُلب مِن آدمَ عدم الاقتراب من شجرةٍ مُعيَّنة في الجنة: طُلب ذلك أيضًا من حوَّاء في نفس الوقت، ووُجِّه إليهما مباشرةً النهْيُ عن ذلك في قول الله ـ تعالى ـ: (ولا تَقْرَبَا هذهِ الشجرةَ فتَكُونَا مِن الظَّالِمِينَ). (البقرة: 35، والأعراف: 19).. فالنهْيُ للاثنينِ هنا. ...
وهكذا: لم تكن حواء في تمثليها للمرأة في منزلة تلِي منزلةَ الرجل. فكما هي أنثى.. هي إنسان تُمثل الطبيعة البشرية في خصائصها مِن التفكير.. والوِجدان.. والإرادة.. والناس جميعًا ليسوا مُتساوينَ في مستوى هذه الخصائص. ولكنهم يشتركون فيها على أية حال.(/2)
والمجموعة الثانية مِن النقائص التي تذكرها الرسالة والتي تُكرَهُ المرأة على المعاناة منها، كما تدَّعي هذه الرسالة الأولى: ترتبط بالعادات، والتقاليد، أكثر مِن أنها تعود إلى صُنْع الله مع المرأة.
1ـ فالمرأة قطعة أثاث عندما تقدم تُباع.. أيْ عندما يتقدم أحدٌ لخطبتها.. وليس لها اختيار في زوجها.
2ـ وإنها عبْدةٌ في بيت أبيها.. وزوجها: ففي بيت أبيها تُباع لمَن يدفع أكثر.. وفي بيت زوجها لا تَعرف شيئًا عن بيتها.. ولا تَستطيع الكلام.. وإنها ليست أكثر من جسد ولذة وشهوة للرجل. وكان الأفضل له أن يبحث عن بائعةِ هوًى.. لا أن يتزوج، ويأخذ منها ما يريد، وأيًا بالثمن.
... فالرسالة تَعيب عادة: المَهر.. وتعيب: خِطبة الرجل للمرأة.. وتعيب: عدم مُشاركة المرأة بالرأْي في شئون الأسرة.. وتعيب ما يَنتهي إليه أمر الزوجة في الحياة الزوجية، مِن أنها فقط جسد، ولذة، وشهوة للرجل، وهنا يُمكن أن نوضح لها رأي الإسلام في هذه النقاط.(/3)
فالمهر في الإسلام جاء فيه قول الله ـ تعالى ـ: (وآتُوا النساءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً). (النساء:4).. "أيْ: أعطوا النساء مُهورهن هديةً منكم. والخِطاب للرجال عندما يتقدمون للزواج". فالمهر ليس ثمنًا للمرأة. وإنما هو تعبيرٌ من الرجل على رغبته في المرأة التي يُريدها زوجةً له. والمرأة عندئذ ليست سلعة يَزداد ثمنها وينخفض. وقد أجاز الرسول ـ عليه السلام ـ زواجَ صحابيٍّ من امرأة على أن يُحفظها بعض آياتٍ من القرآن الكريم، وكان تحفيظها لبعض هذه الآيات هو مهْرها، وهذا يدلُّ على أن المهر ليس ثمنًا على الإطلاق، ولكن بعض المُتربصين بالمسلمين وبكِتابهم سواء: يُحاولون أن يشرحوا المهر على أنه ثمن لمُعاشرة المرأة كزوجة. وتأتي عادة المغالاة والمساومة في المَهر على العموم ـ وهي عادة غير إسلامية ـ دليلاً على أن المهر أشبهُ بثمن السلعة، فالمهرُ تعبيرٌ عن أن المرأة مَطلوبة للرجل وليست طالبةً له، وهذا يُوفر لها حياءها فلا تطلب الرجل صراحةً. إذْ في الواقع كل من المرأة والرجل يطلب الآخر.(/4)
أما خِطبة الرجل للمرأة وطلَب يدِها من أهلها ـ كما يُقال ـ فهو تكريم للمرأة إذ الرجل يسعَى إليها ويُعلن بخِطبته إيَّاها صراحةً: مَسئوليته عنها وعن أسرته المستقبلية أمام الأهل والأقارب. فلم يَلتقِ بها في الشارع.. أو في مكان العمل.. أو في مكان عامٍّ.. أو في مَرْقصٍ أو نادٍ. ولم يُخْفِ مسئوليته عنها، ويُبقيها أمرًا خاصًّا يتصرف فيه كما يهوى. ...
والخِطبة لا تمنع إبداء الرأي من المرأة فيمَن أتى لخطبتها. بل على العكس: هي فُرصة شرعية للمرأة كي تُكوِّنَ الرأيَ فيمَن يتقدم لها، بعد أن تراه، وتسمع منه وتتحدث إليه، ويتحدث إليها: مرةً ومرة. وعقد الزواج لا يتمُّ إطلاقًا إذا باشرَهُ الولي نيابةً عن الزوجة.. أو باشرته الزوجة نفسها، إلا برضاء الزوجة بِكْرًا أو ثَيِّبًا، على السواء. والفرق بين البكر والثيب هو فقط في التعبير على الرضاء. فالثيب لا بد أن تُلعن صراحةً.. بينما البكْر يُكتفى بسكوتها إذا سُئلت عن رأيها. إذْ لم يزل حياؤُها غالبًا عليها. ...
فإذا أُكرهت المرأة على الزواج من رجلٍ مُعيَّن لا ترضاه عن طريق الأب أو الوالدينِ معًا فذلك لا يعود إلى الإسلام.. وإنما يرجع إلى بعض التقاليد التي يُمارسها الآباء في صِلتهم بأولادهم وبالأخصِّ بالبنات: فيُروى عن خَنْساء بنت خدامٍ الأنصارية: أن أباها زوَّجها وهي ثيِّبٌ فكرِهت ذلك فأتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فردَّ نكاحَها "أي أبطله"، كما يُروى: أن جارية بكْرًا جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت: أن أباها زوَّجها وهي كارهة فخيَّرها النبيُّ "أي بين بقاء الزواج أو فسْخه وإلغائه".(/5)
ومسئولية الزوجة في نظر الإسلام عن أسرتها: زوجها وأولادهما: مسئولية واضحة، كمسئولية الزوج ذاته عن الأسرة في حمايتها من الأضرار والإنْفاق عليها. وإذا طلب القرآن من المؤمنين بوجهٍ عامٍّ أداءَ الأماناتِ وهي المسئوليات، في قوله ـ تعالى ـ: (إنَّ اللهَ يَأمرُكمْ أنْ تُؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها). (النساء: 58).. فالمرأة في وِلايتها داخلةٌ فيمَن يُطلب منهم أداء الأمانة. وأمانتها هي في أهل الزوج، والزوج نفسه. وإذا وَصف القرآن المؤمنينَ بأنَّهم أهل شُورَى فيما بينهم في قوله ـ تعالى ـ: (وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنهمْ). (الشورى: 38)..فالمرأة كذلك داخلة في هذا العُموم لها حقُّ الشورى وإبداء الرأي وخِطاب القرآن إذ كان للرجال فليس معنى ذلك: الوُقوف بالأمْر عند حدِّ الرجال وحْدهم، وإنما ذلك هو أسلوب القرآن جرَى عليه في كثيرٍ مِن الأحْكام، وفي كثيرٍ من آياته. ...
وإذا كان الباقي للمرأة في الأسرة الآن هو أن تكون مصدرَ مُتعةٍ جسدية للرجل: أفضلُ منها له: المُتعةُ عند بائعةِ الهوَى، كما تقول صاحبة الرسالة: فليس الإسلام هو الذي جرَّد المرأة كزوجةٍ من كل خصائص الإنسانية، وأبقَى لها فقط: أن تُمتع الرجل كزوجٍ بجَسدها، بل الإسلام ينظر إليها كمَصدر استقرارٍ نفسيٍّ، وكمصدر مودةٍ، وكمصدر رحمةٍ، فيقول القرآن الكريم: (ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَ لكمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إليها وجَعَلَ بينكمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يَتَفَكَّرُونَ). (الروم: 21)..والاستقرار، والمودة والرحمة من الصفات الإنسانية الفاضلة التي إذا توفَّرت كانت سعادةُ الإنسان قائمةً.
إن الطابع الماديَّ للحياة المعاصرة هو الذي يجعل النظرة إلى المرأة نظرةً مادية، في طلَبها.. وفي مُعاشرتها.. وفي التعامُل معها.(/6)
99 ـ أنا فتاة صغرى أخوات ثلاث، موظَّفةٌ، وخطبَني أحد زملائي. ولكن أبي رفض الخطبة، محتجًّا بأن الكبرى أَوْلَى بالزواج من الصغرى. وقد انصرف ذلك الخطيب المرفوض وتزوَّج، وأنا لا أزال على حالي. فما الرأي؟
ما باشَره الوالد من رفض خطبة ابنته الصغرى حتى تتزوَّج الكبرى من بناته أولاً يعود إلى عادة تقوم على معنى نفسي، أكثر من أن تَرجِع إلى رأي فقهيٍّ في الإسلام.
وهذا المعنى النفسي هو الحيلولة دون أن تُصدَم البنت الكبرى بصدمة نفسيّة، عندما ترى أختها الصغرى قد تزوَّجت قبلها. إذ أنها عندئذٍ تذهب إلى مدى بعيد في الظنُّون والأوهام بشأن قيمتها الذاتية بشأن ما هي عليه من جمال.. وما لها من أسلوب في الحديث والتفكير.. وما لها من مسلك في المعاملة.. وما تُجيده، وما لا تجيده في ضروب الحياة. وتبخس نفسها عند مراجعة قيمتها. وبُخسها لقيمتها الذاتية قد يؤدِّي إلى تشاؤمها.. وإلى سلبيتها. وآنئذٍ لا ترى في الحياة إلا ظُلْمة، فتنزوِي إلى رُكن فيها. وربّما يكون ركنًا غيرَ أمين على حياتها.
وهذا المعنى الذي يرعاه الأب عندما يرفض خطبة صغرى بناته قبل كبراهُنَّ هو معنى عاطفيّ. ولكنه ليس أمرًا واقعيًّا. مادام كان الرجل كُفُؤًا في ذاته فلا يكون رفضه من أب البنات بسبب أن الكبرى لم تتزوج بعد. والفقه الإسلامي ـ في بعض مذاهبه ـ يعطي للبنت الصغرى إذا بلغت سِنَّ الرشد الحق عندئذٍ أن تلتجئ إلى الحاكم ليكون وليَّها في الزواج. لما يُروَى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن الرسول ـ عليه الصّلاة والسلام ـ في حديث لها عن الموالي أو الأولياء في الزواج ـ قولُها: "فإن تشاجَروا ـ أي تنازع الأولياء، أو امتنعوا عن تزويج الكُفُؤ ـ فالسلطان وليُّ مَن لا وليَّ له" .(/1)
ولكن ليس من المصلحة الأُسريّة أن تستخدم البنت التي رفض أبوها أن يزوِّجها من رجل كُفُؤ تقدَّم لها بسبب أختها الكبرى ـ هذا الحقَّ وتخرُج عن ولاية أبيها؛ لأنَّها ستجد نفسها وحيدةً في الصراع في الحياة. علمًا بأن أباها لم يكن سيِّئ النية بالنسبة لها يوم أن رفض تزويجها ممَّن تقدَّم لها. وإنما أراد فقط أن يُبقِيَ على العلاقة بينها وبين أخواتها صافيةً وخاليةً من شوائب الحِقْد.
وأخيرًا يجب على كل إنسان أن يؤمن بقضاء الله، وبأن ما وقع هو خير للإنسان، إذ ربَّما يكون هناك مستقبلاً ما هو أحسنُ مما مضى.. فلا تذهب نفس الصغيرة ـ السائلة ـ حَسَراتٍ على فواتِ زواجها من زميل لها في الوظيفة؛ إذ ربَّما تكون زمالته له في العمل، فيما لو تَمَّ زواجه منها عامل نَكَدٍ. وربما هذا النكد يقضى على مستقبل الزوجيّة بينهما في القريب أو الأجل البعيد.
أما الوالد فعليه أن يُعالج شؤون بناته بالإقناع.. وبعدم تضييع حقٍّ لصاحبته من بينهن. فإذا راعى كبرى بناته هنا.. فإنه أغضب الصغرى من بينهِنَّ بمسلكِه. ولكن إذا كانت هذه الصغرى قد اقتنعت بمسلك الأب قبل أن يُعلِنَه.. فإن نفوسهنَّ جميعًا ستبقى على صفائها.. وفي إيجابيتها في الحياة.(/2)
ما رأي الإسلام في زوجة تريد أن ترتدى الزي الإسلامي وزوجها يعارضها في ذلك معارضةً تامة، كما أنه لا يؤدي الصلاة؟
أما شأن الزوج الذي يمنع زوجته من ارتداء الزي الإسلامي، وأنا أفهم أن الزي الإسلامي هو كل زي لا يكشِف عن بدن المرأة ولا يُجَسِّم بعض هذا البدن، ولا يجعله مثيرًا للفتنه وملفتًا لنظر الرجل ـ شأن هذا الزوج شأنُ كثير من الأزواج في مجتمعاتنا الإسلامية، فالكثير من هؤلاء الأزواج في المجتمعات الإسلامية المعاصرة قد يتباهَى بالخروج مع زوجته إلى الشارع أو الذهاب معها إلى المجتمعات العامة، وهي مُتَبَرِّجة تلفِت الأنظار بتبرجها، وبالأخص اذا كانت ذات قَوام جميل. ذلك لأن المجتمعات الإسلامية المعاصرة مجتمعات تطغى فيها المادية، وتنحسر عنها القيَم الإنسانية، فالزوج الآن قد لا يريد أن تقوم زوجته بعفَّتها وحُسْن مسلكها، وقيامها بدَوْر الأمومة الصالحة والزوجة الحميدة، وبإسهامها في اطمئنان الحياة الزوجية واستقرارها وفي المودة في العلاقات بين أفراد الأسرة، وإنما يُرضِيه من زوجته أن تُثِير فتنة الرجال بزينتها وملبسها إذ هنا يتأكد أنه قد تزوج بامرأة كان يمكن أن يتخاطفها الرجال دونه. فهو إذن مادى تُرضيه المظاهر المادية. وقلما تُؤثِّر في نفسه المعاني الإنسانية التي هي أبقى وأبلغ تأثيرًا في حياة الإنسان. والحديث القائل: "تُنكَح المرأة: لمالها، ولحسبها، ولجمالها (أي أن الشأن في إقبال الرجل على الزواج من المرأة هو الجانب المادي لها، وهو جانب المال عندها أو الجاه، أو الجمال فيها) فاظفر بذات الدِّين (أي فَتِّش عن صاحبة الخلُق والدِّين، وهي التي تُمثِّل القيم الإنسانية في سلوكها وموقفها، وفي نظراتها إلى الحياة) تَرِبتْ يداك".(/1)
فان لم يظفر الإنسان بزوجة صالحة تُمَثِّل القيم الإنسانية أولًا فالمصير: أن يشقى في حياته الزوجية بسبب أو بآخر، كما يشقى الفقير الذي لا تملك يداه شيئًا".. هذا الحديث يُصوِّر الاتِّجاه المادي يومَ يغلب على الإنسان في اختيار زوجته.
وتتأكد مادية الاتجاه عند أمثال هؤلاء الأزواج الذين لا يَرضَوْن لنسائهم أن يلبسْنَ ما يستُر عورة المرأة ـ وعورتها هو بدنها كله ـ إنهم لا يؤدون الصلاة فضلاً عن أية عبادة أخرى كالصوم، والزكاة، إن أمثال هؤلاء الأزواج يريدون أن يشاركهم الآخرون من الرجال والشبَّان: الإعجاب بزوجاتهم عندما يخرُجْن متبرجات.
وعندما يدركون أن الزوجة فقط: تتزيَّن له وحده.. ويُعجَب بها دون مشاركة أحد سواه..عندئذ يسعدون بزوجاتهم اذ طلَبْنَ أن يلبسن ما يستُر عوراتهن ولا يُتِحْنَ الفرصة لتجسيم أبدانهن، كما تطلب الجارة هنا.
99ـ ليس للاختلاط بين الأجانب مكان في الإسلام
كتبت إحدى السيدات:
إنها متزوجة منذ تِسع سنوات.. وإنها على خلافٍ شديد مع زوجها؛ لأنها تريد أن تتزيَّى بزِيٍّ يَكْسُو بدَنَها وهو يُريد أن تكون عاريةً كاسيةً..فإذا خرجت لبِست البنطلون تحت الفستان، وإذا بَقيت في المنزل تكون مُحتشمة؛ لأنها تعيش مع أمه وإخوته الشباب، وتتأسف على شابٍّ كان يُحبها ويحترمها ولم ترَهُ منذ أن تزوجت بزوجها الحالي.. وتسأل: هل "الملاية" اللَّفِّ من ضمن الحِشْمَة؟.
لم أفهم: لماذا يُصِرُّ زوجها على أن تكون عارية: تكشف عن ساقيها.. وعن ذراعيها وظهرها.. وصدرها.. وشعرها.. الخ. أمام غير المحارم إذا خرجت.. وأمام إخوته الشباب إذا قعدت في المنزل ولم تخرج.
... ألمْ يَكْفِهِ أنه يُمكنه أن يستمتع بزوجته وهو في خَلْوةٍ معها: كيف شاء .. ومتى شاء..؟. أيَظُنُّ ـ أو يعتقد ـ أن الزوجة إذا كشفت عن بدَنها في الشارع أو في المنزل: تكون مَوْضع فخْر له، ويُباهي بها أقرانه وزملاءه؟(/2)
... أيظن ـ أو يعتقد ـ أن زوجته تفقد الكثير من جاذبيتها وأُنوثتها له، إنْ هي تحشَّمت في الملبس ووقت نفسها من إثارة الفتْنة الجنسية للمحارم وغيرهم على السواء؟.
... كم مِن المآسي تقع بين شُبَّانٍ وزوجات إخوتهم وهم معًا في مسكن واحد، وفي معيشة واحدة؟.
لا يَكفي هنا أن نقول للسائلة: إنها على حق فيما تُعامل به نفسها في الملبس.. وأن زوجها ليس على حق في خلافه معها من أجل الحشْمة والتحشُّم، فالأصل في الإسلام: الوقاية مِن الوُقوع في الأضرار، فهو إذْ يأمر باستقرار المرأة في بيتها لا يبغي سوى وِقايتها مِن الوقوع في الفتْنة.. ومِن تَعرُّضها لإيذاء أصحاب البذاءة في القول. وإذْ يأمر بعدم تبرُّجها إنْ هي خرجت من المنزل لإنهاء حاجة لها فللْغاية نفسها.
... ولكن الوضْع بين الزوجينِ هنا هو أن الزوج قد يكون مُستغرقًا في تأثُّره بالحضارة المادية المستوردة: حضارة العُرْي في الملبس.. حضارة الرقْص واللهْو والعبَث في الحفلات خارج المنزل أو في داخله.. حضارة البار والشراب.. حضارة المُرافَقة والمُصادفة.. حضارة الرحلات المختلطة والدراسة المشتركة.
... إذا كانت تلبس ما يُنفِّره منها، وما يُبغضه فيها أو يُقلِّل من إقباله عليها فليُرشدها إلى ما يُريده منها في الملبس والزينة.. ولتَحرص الزوجة على أداء ما يطلب منها زوجها فالإسلام يَحرص على دوام العشْرة بين الزوجينِ.. فكثير من الزوجات يُهملْن أنفسهن: في الملبس.. أو النظافة، إنْ هُنَّ أقمْنَ في المنازل: تظل الواحدة يومَها من الصباح إلى المساء بلباس البيت وقد يكون غير نظيف.. تتحرك به في المطبخ.. وعند مباشرة العمل المنزلي في الغسيل والتنظيف، كما تظل منكوشة الشعر وغير مُرتَّبة ولا مُنَسَّقَة في الصورة التي هي عليها، يفعلْن ذلك عن كسَلٍ أو عن استهتار في علاقتهنَّ بأزواجهن.(/3)
وربما يكون خلاف الزوج مع السائلة هنا هو خلاف الزوج الحريص على زوجته التي يُريد لها: أن تبقى دائمًا مقبولة عنده.. وهي لا تتجاوب معه، وتهرب من المسئولية بدعوى: أنها تُحافظ على الحشْمة وتلبس ما يَستر كل بدنها، وهو ما يطلبه الإسلام في اللباس، لكن الإسلام عندما يطلب من المرأة التي تَستر بدَنها، عدَا الوجه والكفين، يطلب منها أيضًا أن تتزيَّن لزوجها، ولذا إذا أقدم زوجها بعد غيبةٍ طويلة فيَطلب منه أن لا يدخل عليها ليلًا فجأةً، وأن يُعْلمها بمَقدمه قبل أن يراها لتُعِدَّ نفسها للقائه، وهي في وضْعٍ يستريح إليه ويَنجذب نحوه.
... وسؤال السائلة عن "الملاية اللف".. هل هي مِن الحشمة أو لا: يُوحي بأنها تميل إلى الكسل، فالملاية اللفِّ يُمكن لأية امرأة أن تُجسد بها بدَنها، وعندئذ تكون مُحدِّدة لمَعالم الجسم، فهي ليست على الإطلاق عديمةَ الإثارة، ولكن مِن جانب آخر هي سهلة ارتدائها وخلْعها، والكسول مِن النساء ربما يُفضلها من أجل ذلك.
... والسائلة الآن إنْ كانت تُخفى كسلها في تحقيق رغبة زوجها: بما يُسمَّى بالحشمة واللباس الإسلامي: فهي الخاسرة أخيرًا؛ لأن زوجها سيُهملها ويزهد فيها، وقلَّما يتذكر منظرها في لباس البيت مُقبلة مدبرة كلَّما ينصرف عنها.
... وإنْ كانت تُريد أن تستر بدنها بما تَلبسه في المنزل أو في خارجه، دون أن تُنفِّر زوجها منها بل وفي حِرْص منها على أن يُقبل عليها ويَنجذب نحوها: فليس هناك ما يُعاب عليها.
... هما أمرانِ مُختلفان، تُحافظ عليهما المرأة: أن لا تَظهر في فِتنة وإثارة لغير زوجها.. وأن تتزيَّن لزوجها.. وتحرص على أن يظل مُقبلاً عليها: يتذكَّرها أن غاب عنها.. ويَهَشُّ في وجْهها إنْ سكن إليها، والزوجة العاقلة أو الصالحة هي الزوجة التي تَجذب إليها زوجها بالصفات الطيِّبة في سلوكها وتصرفاتها.. وبمَنظرها الذي يُوحي بانطباع الرضا في نفس زوجها.(/4)
118ـ الزوج لا يرضى عن تحجُّب زوجته
كتبت إحدى السيدات تذكر أنها سيدة في الأربعين مِن عمرها، وتعيش مع زوجها وابنتينِ لها، وهما في المرحلة الابتدائية، وحياة الأسرة من الناحية المادية حياة اطمئنانٍ وأمان. وزوجها من الصعيد وتاجر، وكان مُدمنا على الشراب. ولكن منذ سنتين تابَ الله عليه، وهو يُخرج الزكاة ولكن لا يُصلي.
أما هي فمُتحجبة.. وتصلي.. وزادت في التحجُّب بعد أن أوصت زوجها بالصلاة فرفَض، ولكنها لاحظت أنه ابتعد عنها، فلمَّا سألتْه يومًا ـ مُتجرأةً كما تقول ـ: عن سبب ابتعاده عنها أجابها: "أصلكِ بقيتِي دمك تَقيلٌ، منذ أن تحجَّبتِ وعملتِ شيخة، كل ما أشوفك إمَّا صايمة.. وإمَّا بتصلي" وقد تألمتْ لهذه الإجابة. وعزَلت نفسها مع البنتينِ في حجرة مستقلة بالمَسكن، وأصبحت لا تراه، كما أصبح لا يراها، وتمرُّ على عدم الرؤية شهور عديدة، وإذا الْتقيَا أشعرها بأنه لم يعُد يرغب فيها، والآن تُريد أن تَعرف:
(أ) هل تخلع الحجاب، وتعود إلى عمل الماكياج، وترجع للسهرات معه لتُعجبه؟ لكن عندئذ كما تقول: أُغْضبُ ربي وخالقي، وهذا أصعب جِدًّا على نفسي؟
(ب) أمْ أستمر فيما أنا عليه عسى الله أن يَهديه يوْمًا مَا، ويعرف أنه ظلَمني وأنتظر أن يشرح الله صدره بالإيمان، ويعود لي؟ أو أن يَزهد نهائِيًّا فيَّ فيُطلقني ويتركني لحالِ سبيلي؟
ثم تَختتم رسالتها بقولها: لم يعد أمامي إلا حلٌّ من الحلول الثلاثة، وأرجو أن تُفيدني بما لا يُغضب الله ـ عز وجل.
هذه السيدة السائلة حريصة كل الحرص: أن لا تُغضب الله في موقفها من زوجها، وهذا أساس جيِّد لحلِّ مَشاكلها.(/5)
... إن زوجها رجلٌ طبيعيٌّ، أيْ لا يَصِحُّ أن يُوصف بأنه شاذٌّ، يبغض التديُّن مِن زوجته؛ لأنه إذا انقطع عن الإدْمان على الشراب.. وكان يُخرج الزكاة قبلاً فهو في طريقه إلى التقرُّب مِن الله، وربما يرجع عدم أدائه للصلاة إلى العِناد منه.. الذي نشأ عنده كردِّ فعْلٍ لموقف زوجته نحوه، فهي على ما يبدو لا تُكرِّر على مسمعه النُّصح بأداء الصلاة في غير انفعال، أو في غير تهديد له ممَّا يُصيبه من الله، جزاء عدم أدائه إيَّاها وإنما في نُصحها له قد تنفعل وتَغضب، وفي تكرارها النصح تلحُّ عليه، بحيث يُصرُّ هو على الرفض، عِنادًا واحتجاجًا على أسلوب نُصحها ومُعاملتها له.
... وهذا شيء، وشيء آخر بالإضافة إليه: أنها في نظِره تكون قد أهملت نفسها كامرأة وكزوجة، وأنها تظنُّ أن تحجبها يُبيح لها أن لا تهتمَّ بزوجها، فهو قطعةٌ من الدنيا، والدنيا في نظرها لا قيمةَ لها، طالما تُرضي الله: بتَحجُّبها، وبصلاتها وبصَومها.
... وإهمالها في نفسها بأن تظل على صورةٍ واحدة في البيت في الملبس.. والشكل.. طول النهار. وربما طول الليل كذلك، وبأن تترك لبدَنها الحرية في زيادة وزْنها فيَثقل، وتقلّ حركتها.
ونسيت السيدة السائلة: أنه بجانب تقرُّبها إلى الله بالصلاة، والصوم، وبحِشْمتها في الملبس: هناك جانب آخر في حياتها يَجب أن تتقرَّب بالاهتمام به إلى الله ـ جل جلاله ـ وهو جانب الزوج. يجب أن تظل ذات جاذبية له.. يجب أن تعمل على أن يزيد مَيْلُه إليها كأُنثَى.. يجب أن تُزيِّن نفسها له.. وليس تزيُّنها بعمل الماكياج.. وإنما بالمحافظة على قَوامها، وخِفَّة حركاتها، وبالاستجابة اللطيفة لندائهِ أو بنظافتها ونظافة بيتها، وبتنسيق ملْبسها وشَعْرها.
... ولذا يطلبُ مِن الزوج إذا حضَر مِن سفره فجأة: أن لا يَدخل على زوجته فورًا قبل أن يُعلمها بمَقدمه، حتى تَستعد للقائه، وهي على الصورة التي يجب أن يَلقاها عليها.(/6)
... مطلوب من الزوج أن يُبعد عن نفسه ما يُنفر زوجتَه منه من عادات أو تقاليد لا تحب الزوجة أن تُعاشره عليها، ومطلوب من الزوجة أن تُعِدَّ نفسها لأن تكون محبوبةَ زوجها، وليس في الأيام الأولَى فقط من الزواج، وإنما على مدَى أيام الحياة بينهما، ولا تظن الزوجة أن "المكياج" هو السبيل إلى جذْب زوجها نحوها، وإنما النظافة: نظافة البدَن.. نظافة الأَسنان.. ونظافة اللسان.. ونظافة الثياب.. ونظافة الأسلوب في المعاملة، وكل ذلك في مَقدور الزوجة إذا أرادت أن تكون زوجةً يَرضَى عنها زوجها وربُّها.
إن السيدة السائلة بأسلوبها في التحجُّب وبإمعانها فيه وهي بالمنزل تُساكن زوجها: قد أبعدت زوْجَها عن أداء الصلاة، كما تُؤديها هي، فالمسلم الذي يُخرج الزكاة ـ والمال أشدُّ ما يحرص عليه الإنسان ـ من السهل عليه بعد ذلك: أن يُباشر الصلاة، ثم أبعدتْه أيضًا عن نفسها كامرأةٍ وزوجة، فالزوج عندما يُجيب على سؤال خاصٍّ لها بقوله: "أنت بقيتي دمك تقيل" .. لا يقول ذلك إلا وقد بلغت النُّفْرَةُ منها في نفسه مبلغًا كبيرًا، وهي نُفرة لم تتكون في يوم وليلة، وإنما تكوَّنت على أيام وشهور.
وعلى السائلة الآن أن تُعيد صورتها المقبولة لدَى زوجها، إليه مرة أخرى، وليس بعدم الحِشْمة.. وليس بصُنع المكياج. وإنما بعدم المبالغة في تديُّنها، إن زوجها له حقٌّ عليها، فإذا هي حالت دون حقِّه بما يُنفره منها أغضبتِ الله. ولا تَستطيع صلاتها ولا يَستطيع صومها أن يَشفع لها عند الله في ذلك، مهما طالت مُواظبتها على أداء العبادة.
والزوجة لها حق على زوجها، فإذا حال دونه بعملِ ما يُنفِّرها منه أغضب الله ـ جل جلاله ـ مهما كان مُحسنًا في جوانبَ أخرى في العلاقة بينه وبينها.(/7)
فقد علِم الرسول ـ عليه السلام ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه يصوم النهار.. ويقوم الليل للصلاة فطلبه، فجاء إليه فقال له: "يا عبد الله! ألم أُخبَر: أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: فلا تفعل. (وأَفْطِرْ.. وقُمْ "بالليل" .. ونَمْ. فإنَّ لجسدك عليك حَقًّا.. وإن لزوجك عليك حَقًّا.. وإن لزَوْرِكِ "لضُيوفك" عليك حَقًّا". (اللؤلؤ والمرجان: ص: 258).
.. فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ينهَى هنا أحد الصحابة ـ ونهْيُه نهيٌ لجميع المسلمين عن أن يُبالغ في الصلاة والصيام، وبحيث يَستغرق أداؤها الليل والنهار معًا، ويترك بذلك حُقوقًا لآخرين، وفي مقدمة أصحاب الحقوق: الزوجة.. والزوج.
... وهذا ما فعلتْه السائلة المُتدينة هنا بالنسبة لزوجها.
ربما يختلط على السائلة هنا معنى الحجاب بمعنى ترْك الزينة ولو للزوج، ولكن الحِجاب المقصود في الإسلام: عدم اختلاط المرأة بغير المَحرم لها، والحجاب سبيلٌ مِن سُبل الوقاية للمرأة مِن فضول الرجل، وأهم السُّبل الأُخْرى تديُّنها، وما يتكون لدَيها مِن الخشْية مِن الله.
... والسائلة متديِّنة والحمد الله والتديُّن يحثُّ الزوجة على أن تزيِّن نفسها لزوجها، وأن تُبعد من طريق حياته كل ما يَكرهه، وزوجها والحمد لله لا يكره التديُّن مِن زوجته كما قد تتوهَّم، ولكنه يكره فقط المبالغة فيه، التي أدَّت إلى أن تُهمل نفسها حتى أصبحَ دمها تقيلاً عليه ـ كما يقول ـ فعُودي إلى زوجك بطبيعة الزوجة الأُنثى، وليكنْ تَديُّنك مُرَغِّبًا له فيكِ، وليس مُنفِّرًا منك، فالتديُّن هو سبيلٌ لدوام العِشْرة الطيبة، بجانب خصائص المرأة التي لم تُحولها الحياة إلى شِبْهِ رجل.(/8)
3ـ زوجة يُغْوِيها الشيطانُ
مواطن من إحدى المحافظات يسأل عمّا عساه أن يعمله هو الآن مع "مُنكَر" يتكرَّر على مرأى منه من وقت لآخر، بعد إن نَبَّه إليه تَنبيهًا غير مُباشر مَن يَخصُّهم الأمر.
فزوجة زميل له يعمل في بلد آخر، وهي تسكن مع ابنتها في بلد السائل ويُشاغِلها كما يُشاغِل ابنتها التي تتجاوز السادسة عشرة من عمرها شابٌّ من غير مِلّتها، على مرأًى من السائل، أثناء غياب الزوج في العمل بما يُعَدُّ "مُنكَرًا"، وكان السائل يظنُّ أنه عندما يُنَبِّه الزوجَ إلى ما تُباشره زوجتُه وابنتُها مع هذا الشابِّ الأجنبي عنهما أن الأمر سينتهي أو يختفي على الأقل عن نظره ويشكر له تنبيهه إيّاه ولكن عاداه وتجنَّبه.
والسائل عندما يسأل عمّا يجب عليه أن يعمله في مُواجهة هذا العبث المتكرِّر يسأل في الواقع عن رأي الدين في موقفه بعد أن نَبَّهَ وحذَّر منه.
إنَّ الزوجة راعية لبيت زوجها ومسئولة عنه وعن أولاده منها أو من غيرها، فحديث عبد الله ابن عمر في روايته عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: "كلُّكم راعٍ فمسئول عن رعيَّته، فالأمير الذي على الناس "وهو الحاكم" راعٍ وهو مسئول عنهم، والرجل راعٍ عن أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعيةٌ على بيت بَعْلِها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد "وهو الخادم" راعٍ على مال سيِّده وهو مسئول عنه، ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئول عن رعيّتِه".
ومسئوليّة الزوجة مسئوليّة مُضاعَفة:
مسئوليّتها عن نفسها في غَيبة زوجها بأن تَحفظ له عِرْضَه وسُمعته وغيبته كأنَّه موجود معها. ومسئوليتها عن الأولاد في تَنشئتهم وتربيتهم تربية سليمة.
ومسئوليتها عن المال في استقامة إنفاقه.(/1)
فإذا عَرَّضتْ سُمْعتَها للقِيلِ والقالِ بالاشتراك مثلاً في عبَث مع شابٍّ على غير دِينها، وإذا هي تغاضَتْ عمّا يَقترفه هذا الشابُّ أيضا مع ابنة زوجها في غَيبة أبيها، فإنَّها عندئذٍ تكون قد خانت الأمانة التي كُلِّفَتْ بها في عموم قوله تعالى: (إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الأمانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء:58). والتي أداؤها ينطوي على مسئوليّتِه عنها أمام الله تعالى.
إن السائل قد أدَّى واجبه فعلاً بتَنبيهِ الزوج والزوجة إلى ما يقع من الزوجة والشاب الذي هو جارٌ لها. وما فعله هو بهذا التنبيه هو ما يستطيعه، فليس بقادر على أن يُزيله كمنكَر بيده؛ لأنَّه ليستْ له ولاية تنفيذيّة في هذا الشأن، ولذا حاول أن يُزيله بالقول واللسان فلم يَنجَح مع الأسف في إزالته.
إن التيار المادِّيّ في الحياة المعاصرة يَطغَى في عُنفٍ على القِيَم الإنسانيّة الآن في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فلا الزوجة تعرِف حقَّ الزوج عليها، وإن عرَفته فقد لا تُعيره اهتمامًا. ولا الزوج يعرف حقَّ زوجته عليه، وإن عرَفه فقد لا يأْبَهُ به طالما تَجاهُلُه يحقِّق نفعًا شخصيًّا له. ولا الجارُ يعرف حقَّ الجوار فضلاً عن أن يرعاه. ولا الأولاد يعرِفون حقَّ آبائِهم وأمّهاتهم، وإن طُلِبَ منهم أداء هذا الحَقِّ ماطَلوا فيه أو تهرَّبوا منه.
إنَّ "الأنانيّة" هي هدف كلِّ فرد في حياته اليوم. وإن الاستمتاع بالمُتَع المادية هي الغاية التي يسعى إليها الإنسان في كلِّ مكان ولو على حساب الروابط الطبيعيّة بين الناس، ولو على العلاقة الزوجية أو الأُسَرية، ولو على حساب ما يجب على كل فرد أداؤه للآخَر.
فالمرأة والرجل والولد يُعْنَى اليوم في الدرجة الأولى بالحصول على المتعة الشَّخصية في أيِّ جانب مِن جوانب حياته، دون رعاية لمَا قد يترتب على الحصول على هذه المُتعة من سوء السُّمعة أو الإساءة لمَن هم في علاقة غير وَقْتيّة معه.(/2)
فلو عرَف الشابُّ الجارُ هنا حقَّ الزوج الغائب في المحافَظة على أسرته، وهو جارٌ له، لَمَا تطلَّع إلى إغراء زوجته وابنته بشَبابه أو بماله، ولو عرَفت الزوجة أن متعة البدن أو البطن أو الزِّينة الخارجيّة لا تُساوي شيئًا بجانب مُتعة الوفاء لحُرمة الزَّوج ولكرامة الإنسانيّة التي يجب أن تكون لها سُنّة وطبيعة في حياتها، لصَدمتْ جارها الشابَّ بما يُفهمه رداءةَ سُلوكه وبما يُخجله أمام ضميره إن تيقّظ هذا الضمير يومًا ما.
يجب أيُّها السائل أن تعرف أن الزوج في هذه المشكلة عاجز في مواجهة زوجته، فهو مَكْدود في عمله ومُستغرِق في هموم يومِه، ولكنَّ هذا لا يُعْفيه من مُراجعة زوجتِه في هذا "المنكَر" بأسلوب هادئ لعلَّها تعود إلى منطق الإنسان الطبيعيّ وسلوكه، فتَحفَظَ عليه في حضوره وغيْبته على السواء.
كما يجب أن تكون صادقًا فيما تَروي، فحقُّ الله قائم ضدّك لو كان الأمر في واقعه أن تتَّهم بريئًا في عِرْضه، وتُحاول تحطيم العلاقة بين الزوجين وأن تَزيد عليها مشقّة الحياة، فالله ـ سبحانه ـ هو المُتطلِّع على باطن الأمور، والله وحده هو الذي يهدي إلى سواء السبيل.(/3)
172 ـ أنا فتاة عمري ثمانية عشر عامًا، وطالبة بمدرسة المُعلِّمات. وقد عاهدت اللهَ أن لا أحبَّ أحدًا من الشباب. ولكن علمتُ من إحدى رَفيقاتي أنَّ قريبًا لها يُحبُّني بإخلاص، وقد أرسل إليَّ خطابًا بذلك، فمال قلبي إليه، وكِدْتُ أبادله الحبَّ الشريف. فهل هذا حرام؟
الجواب:
وَعْد السائلة بأنَّها لا تحبُّ أحدًا من الشباب هو في الغالب نتيجة لأزمة نفسية، عقِب خيبة أمل. وقد يكون هذا الوعد ـ أيضًا ـ تعبيرًا عن صراع داخلي في عَلاقتها بزميلاتها. وبذلك هو وعد غير علمي وغير واقعي، لعب فيه التصوُّر والوَهْمُ دورًا كبيرًا.. أي هو وعد لا طاقة لها على تحقيقه. بدليل أنّه عندما اتصل بها أحد الشبّان بطريق المكاتَبة مال قلبُها إليه، كما تذكُر في سؤالها.
أمّا ما تسأل عنه الطالبة هنا من الحُرمة. فإن كانت تريد أن تذكر أنَّها حنثَتْ في عهدها لله ويَمينها به، بعد ما مال قلبها إلى الشاب المراسِل.. فعهدها ويمينها في الأصل كان على ما لا تستطيعه. فهو كاليَمين المعلَّق على أمر غير مقدور. ولذلك لا ينعقد من البداية.
وإن كانت تريد حُرمة مبادَلة الميل القلبيّ لمن بدأها بإثارة العواطف، وربما نافقها في حديث عنها.. فالأمر عندئذٍ يتعلَّق بوضعها وبوضعه: هل يستطيعان الزواج قبل أن يحمل ما يُسمَّى بالحب وزرَ العلاقة بينهما؟ هل يستطيع حبيبُها الشابُّ الآن أو في المستقبل القَريب أن يتحمّل مسؤوليّة الأسرة الجديدة منه وممَّن يسمِّيها حبيبتَه؟ أم أن الأمر لا يتجاوز دور المُراهقين في رسم صورة لعِشْق لا يَعرِف طريقَه إلى الواقع؟
إنَّ مُبادَلة الميل القلبيّ لا يستطيع أحدٌ أن يحكم عليه بالحُرمة إلاّ إذا أصبحَ طريقًا لعبَث تتحطّم معه كرامة الشابّة وأنوثتها أيضًا، قبل كَرامة الشابّ ومسؤوليته، ومستقبله.(/1)
ولكنَّ النصح للسائلة أن تفرُغ أولاً من رسالتها في التعليم، ولا تعرِّض حياتها لهِزّة قد لا تحتملها، قبل أن تباشِر مسؤوليتها كمُربية، أو زوجة، وأم، ورفيقتها التي تتحدث عنها والتي هي واسطة الحبّ الجديد، هي شَيطانتها، في قصد أو في غير قصد. فلتوفِّر الوقتَ والجُهد الآن إلى الدراسة. ولها بعد ذلك في حياتها امتداد زمنيٌّ واسع تستطيع فيه أن تكون زوجة سعيدة مع من تريده وتميل إليه. فالشباب كثير والحمد لله، والتكاثُر البشريُّ في تزايد.(/2)
95 ـ التديُّن يجعل الحبَّ لله وحده
يذكر أحد الشبان أنه شابٌّ مُتديِّن وتعرَّف على "أخت في الله" ـ كما يقول ـ وهي مُتزوجة ولها مِن زوجها أولاد، وأخَذ يُعلِّمها الدينَ وأصوله، ويعتبر جلساته معها جلسات ذكْرٍ، لم يتدخل الشيطان فيها، وتعلَّقت به وأحبَّتْه، وأصبحت تغير عليه، وظهرت غيْرتها عندما وصلها الخبر بأنه سيَتزوج مِن امرأة أخرى.
ومشكلته أن هذه الزوجة، التي هي أختٌ في الله ـ كما يقول ـ لا تُريد أن تترك زوجها وأولادها منه لتتزوجه هو، كما لا تُريد أن تتركه هو يتزوج من غيرها.
ويسأل هذا الشاب: أنه لا يستطيع أن يُقدم على الزواج خشيةَ أن تَقتل نفسها أو تتوتَّر أعصابها.. وعندئذ يكون قد تَسبَّب في الإساءة إليها.. كما لا يستطيع أن يترك الزواج؛ لأنه يُريد أن يُتمَّ دِينه، ويرجو أن يكون الحلُّ الذي تعرضه مُقْنِعًا.
وهذا الشاب المتديِّن ـ كما يقول ـ تعرَّف على "أخت في الله"، وهي متزوجة ولها أولاد مِن زوجها: كيف تعرَّف عليها؟.. وكيف كان يُجالسها؟.. وكيف لم يَدخل الشيطان بينهما مرةً واحدة في خلْوتِهما؟.. وكيف تعلَّقت به وأحبَّتْه، وارتبطت به إلى درجة أنها تَغار عليه الآن، وهو يخشى عليها أن تُسيء إلى نفسها لو فارقها"؟
... أين التديُّن في هذا كله؟. وهل يرى التديُّن في إرسال اللحْية، أو في حفْظ بعض المعارف الدينية، أو حفظ بعض السور أو الآيات القرآنية؟. وهل يرى "الأُخوَّة في الله" ـ كما يَنعت الزوجة التي تعرَّف عليها هنا فيما حكَى، بأنها "أخت في الله": ـ مشاركةَ الشابِّ والشابَّة، وهما أجنبيَّان عن بعضهما، لا تربطهما رابطةٌ سوى القراءة المشتركة والمعارف الدينية المشتركة؟.(/1)
... ... إن التديُّن هو سلوك للإنسان، وفْق تعاليم الإسلام، هل الإسلام يُوافق على الاختلاط بين الرجل الأجنبيِّ والمرأة الأجنبية عنه، كما اختلط هو بـ: "أخته في الله"؟ لماذا كانت دعوة القرآن إلى نساء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: إلى الإقامة في المنزل كسبيلٍ لوقاية أنفسهنَّ من الاختلاط وإثارة المؤذية أو المُخرِّبة للعلاقات الإنسانية الكريمة. فيقول الله ـ تعالى ـ: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ). (الأحزاب: 33). فهو لا يُريد حبْسهنَّ أو حبْس المرأة في المنزل، كما يُدَّعَى، وإنما يريد أن يُجنِّب المرأة، "الاختلاط"، الذي ينطوي على ضررٍ بالفعل، أو على ضرر مُتوقَّع؛ ولأنه لا يريد حبس المرأة في المنزل كما يُدَّعَى: يُبيح لها الخروج منه كما تشاء، ولكن على شرط أن يكون خُروجها بعيدًا عن الفِتْنة وإثارة الرجال.. بعيدًا عن دعوة الرجال وإغرائهم بها، وهذا هي معنى قوله: (ولا تَبَرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهليةِ الأُولَى). (الأحزاب: 33). أيْ إذا خرجتنَّ فلا تخرجْنَ على حالٍ من التبرُّجِ، تثيرُ الرجال، ويدفعهم إلى الإراء بالمرأة. وما يَطلبه القرآن بالنسبة لنساء النبي ـ عليه السلام ـ هو مطلوب من كل امرأةٍ مُؤمنة تؤمن بالله وبرسالته.
... أين مُجالسة الشاب المتديِّن "للأخت في الله" والزوجة لرجلٍ آخر.. وأم الأولاد منه: مِن أمْر الله ـ تعالى ـ للمؤمنين في قوله: (قُلْ للمُؤمنينَ يَغُضُّوا مِن أبْصَارِهِمْ). (النور: 30)..ومِن أمره للمؤمنات في قوله: (وقُلْ للمُؤمناتِ يَغْضُضْنَ مِن أبْصارِهِنَّ). (النور: 31).. أكان يغضُّ بَصَرَه عندما كان يتحدث إليها؟ وأكانت تغضُّ بصرها عندما كانت تتحدث إليه؟. وإلَّا كيف تعلَّقت به وأصبحت تغار عليه)؟(/2)
... إن السائل يقول في رسالته المرسلة إلينا: إنه يخشى عليها لو تزوج من امرأة أخرى: أن تتوتَّر أعصابها، أو تُنهي حياتها بنفسها: فهل تَحوُّل أمرِها ـ لو تركها ـ إلى إنهاء حياتها أو إلى توتُّر أعصابها: يتمُّ لو كانت تغضُّ بصرها عندما تراه.. وكان هو أيضًا يغض بصره عندما يراها؟.
... والآن: هل معرفة الدين التي حصلت عليها من الشاب المتديِّن، ولم تحصل عليها من قَبْلُ من جانب زوجها، تُساوي عند الله، وعند نفسها، وعند هذا الشاب، ارتباكها.. واضطرابها.. وقلَقها الذي وصلتْ إليه في حاضرها، بعد أن علِمت بأنه سيكون في علاقة زوجية مع غيرها؟. أليس اضطرابها الآن تَخْريبًا للأسرة التي كوَّنتها مع زوجها؟ أليس دخول هذا الشاب في حياتها: مصدر لتَعاستها وتعاسة زوجها وأولادها؟
... إن الشاب الذي يسأل الحلَّ لهذه المشكلة بعد أن أوجدها وركَّبها، ربما يَعتقد خطأً: أنه قد أحسن إلى إيمانه فعلَّم زوجةً لرجل آخر، الدينَ، وربما يتقرب بعمله هذا إلى الله!! ولكنَّه إنْ اعتقد ذلك يكون قد ضلَّ الطريق، فما يُبيحه الله هو بداية الطريق المستقيم، وما يُحرِّمه هو بداية الطريق المُعْوَج والخاطئ، والله قد حرَّم الاختلاط، والاختلاط هو مجالسة الرجل للمرأة التي هي أجنبية عنه، أيْ ليست مَحرمًا له.. والحديث معها.. ومُبادلة النظرات بينهما، والنِّكات، والضحِك معها، والاختلاط هو أن يرى الرجل الأجنبيُّ مِن المرأة التي ليست مَحرمًا له، ما لا يجوز أن يراه منها، وما يجوز له أن يراه منها هو الوجه والكفَّان، فرؤية شعْرها.. وما فوق قدميها مِن ساقيها.. وذِراعيها أمرٌ لا يُبيحه الإسلام لرجلٍ أجنبيٍّ من امرأة أجنبية.(/3)
وهكذا: العمل الذي باشره السائل مع هذه الزوجة الأجنبية عنه ـ ولو كان تعليمها دينها ـ هو عملٌ ينطوي على الإثْم والمَعصية، والغاية لا تُبرِّر الوسيلة في نظر الإسلام، وما يُنسب إلى الرسول ـ عليه السلام ـ من قوله: "ليْتَهَا لم تَزْنِ ولم تَتَصَدَّقْ). يُعتبر قاعدةً في أن الوسيلة لو كانت حرامًا فسَتظلُّ حرامًا، وإنْ كانت نتيجتُها أمرًا حلالاً.
... والحل في يد هذا الشاب المتديِّن، وهو أن يكفَّ تمامًا عن الالْتقاء بها، وعلى الزوجة أن تُفكر في أولادها وفي أسرتها، وفي زوجها، وتَنسى هذا الشاب، ولتَعُدْ إلى الدين، فما فعلتْه حتى الآن مع هذا الشاب هو من عمل الشيطان قطْعًا، ولتستعذْ بالله من الشيطان الرجيم.(/4)
176 ـ ما رأي الدين في الملابس التي ينبغي للمرأة العاملة أو الطالبة أن ترتديَها، ولا تعوِّقها عن العمل، ولا عن الحياة في هذا العصر؟
الجواب:
طابع الحياة بالنسبة للمرأة في هذا العصر لا يتغيّر عن سنة إلى أخرى فحسْب، بل من فصل إلى آخر من فصول السنة الواحدة.
والتغيير فيما يتصل بملابس المرأة يعود إلى فلسفة مدى الإغراء والتأثير على الرجل، عن طريق ما تتزيَّن به المرأة، فقد يكون الطابع هو من الملابس أو من الشعر القصير، أو القصير جِدًّا، أو الطويل منها. وقد يكون الألوان الباهتة أو الزاهية فيما تحمل به وجهَها. وقد يكون الرُّموش الصناعية أو إزالة الحواجب وتخليط بديلٍ عنها في أشكال عديدة في الاستدارة وقد يكون بجراحة التجميل في الوجه أو الصدر أو في مواضع أخرى من البدن. وهكذا... وهكذا مما يتصل بقوة "إغراء" المرأة للرجل و "انجذاب" الرجل إلى المرأة.
والعامل المسيطِر على ما يطلب الآن للمرأة في الحياة السياسية والاجتماعية من حرّيّة تكاد تكون مطلَقة، أو ما تطلب هي لنفسها من تحرُّر كامل غير مشروط أو مقيد هو أن تفعل بنفسها ما تشاء، أو ما يشاء لها الرجل الذي يملِّي عليها خطوط الإغراء باسم "المودة" فتتبعها اتباعًا لا انفكاك فيه، بدَت مع هذه المودة منسجِمة وجذّابة، أو متنافرة وممسوخة.
والطالبة في الجامعة، والعاملة في المصنع، والموظَّفة في المكتب في الحياة المعاصرة لا تُعفي نفسَها إطلاقًا من طريق انتسابها للجامعة أو عملها في المصنع أو المكتب من محاولة التأثير على الرجل وإغرائه في صورة ما، وبأيّ مدًى في التأثير والإغراء.
وإذن هي في حركتها لا تبتعد عن عوامل الحياة المعاصرة التي تكيِّف الجو للمرأة، في صلتها بالرجل، وبجَذب انتباهه وشدّ بصره إليها.
والدين في نظرته إلى صلة المرأة بالرجل يزدوج الأمر عنده:(/1)
(1) ينظر إلى المرأة كزوجة فيطلب إليها أن تتزيّن ولكن لزوجها وحده: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعولَتِهِنَّ) (النور: 31). لأن القضية لديه هي قضية الانسجام بين الزوجين، والمحافَظة على الرغبة المُتَبادَلة بينهما، كذكر وأنثي.
ويَعْنيه ـ إذن ـ في الدرجة الأولى أن تكون المرأة كزوجة موضع إغراءٍ لزوجها، ولكنْ له دون غيره.
وهنا الزوجة التي تهمِل في تزيين نفسِها، أو في تزيين بيتِها، أو في تزيين أولادها لا تلقَى تأييد من الإسلام، فضلاً عن الترحيب منه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ للذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ) (الأعراف: 32).
ونظافة البدن والثياب ـ كنظافة البيت والأولاد ـ عنصر أساسيٌّ في التزيُّن. وكذلك عدم مسْخ مخلوقات الله بالتبديل والتغيير عنصر أساسي فيه أيضًا.
والإسلام إذ ينصح بتزيين المرأة لزوجها يُعطي أهمية كبيرة أيضًا بعد ذلك لجانب السلوك والتهذيب لديها. وأبرز مقوِّم لهذا الجانب السلوكيّ هو حرصها على أداء واجبها كزوجة وكأمٍّ، مما يجعل انتباهها حتمًا يتركَّز للزوجية والأمومة معًا، دون رغبة جانبية في محاولة لجذب أنظار الآخرين، عدا زوجها، إلى فتنتها وإغرائها كامرأة وأنثى.
(2) وينظر الإسلام مرة أخرى إلى المرأة كعضو في مجتمع بشرِيّ، يُراد له أن يكون مجتمعًا سليمًا، وأن تكون هي مشاركة في سلامته وقوة بنائه مشاركة إيجابية وذات أثر فعّال، على نحو مشاركة الرجل أو أكثر. وفي الوقت نفسه يريد لها ألاّ تلهوَ بنفسها وتستخفّ بقيمتها، فتتخذ من ذاتها سلعة للعَرْض والإغراء، يحرِّكها ريح الهوى من أيّ جانب يأتي، ويخدعها الثناء الكاذب من عابر سبيل أو شاخِص متربِّص.(/2)
ولضمان مشاركتها الإيجابية والبنّاءة في قوة المجتمع وسلامته يطلب الإسلام إليها أن لا تقصِدَ إلى الوقوف بنظرها عند الرجال الأجانب عنها إذا مرَّت بهم، أو كانت لها حاجة إليهم تدفعُها الضرورة إلى قضائها منهم. على نحو ما يطلب من الرجل إزاء النِّساء الأجنبيّات عنه.
وهذا ما يذكُره أمر القرآن في قوله تعالى: (قُلْ للمُؤمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصارِهِمْ) (النور: 30). وفي قوله: (وقُلْ للمُؤمناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) (النور: 31). وغضُّ البصر تعبير مهذَّب عن أخذ النفس بعيدًا عن الاسترسال أو الإلحاح في تركيز البصر على الطرف الآخر لإشباع شهوة أو لإثارة ميل غير عاديّ عنده.
وإذا طلب القرآن في آداب المجتمع الإسلاميّ "غضَّ البصر" من جانب الرجل وجانب المرأة على السواء على معنى عدم الإلحاح في تركيز النظر على الطرف الآخر لإشباع شهوة أو لإثارة مَيْل غير عاديّ لديه ـ محافظة على إيجابيّة المشاركة في بنائه وفي قوِّته فإن الإسلام لا يرضَى إطلاقًا عن أن تقصِد المرأة فيما تفعله في ملابسها، وفيما تسمِّيه بتجميل الوجه والشعر، بُغية إثارة الرجل الأجنبي عنها ومن غير محارِمها أو شدّ بصره إلى مواضع الفتنة والإغراء فيها؛ لأن ما تفعله عندئذٍ هو "التبرُّج" الذي نهى عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (ولا تبرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهليّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33).
والجاهلية الأولى ليست زمنًا معيَّنًا في تاريخ المجتمع البشريّ. وإنما هي سمات المرحلة السابقة على حضارة المجتمع في أيّ وقت وفي أيّ قرن.
وحضارة المجتمع الإنساني لا تُقاس بالتقدُّم الآلي والميكانيكيّ والعلميّ وحده. وإنّما أساس مقياسه هو التقدُّم في مستوى الإنسانية في السلوك والتهذيب والمعاملة والتعاون والتوادِّ في عَلاقات الأفراد بعضِهم مع بعض.(/3)
وما يراه الإسلام من رأي في "تزيُّن" المرأة و "تبرُّجها" ـ إذ يُحِلُّ لها الأول بالنسبة لزوجِها ويحرِّم عليها الآخر بالنسبة لغير محارمها ـ هو من سمات الحضارة الإنسانية، وليس من سمات الجاهليّة السابقة عليها.
ومادام الحياة المعاصرة تُعنَى بعوامل الإغراء الجنسي أكثر من عنايتها بالسمو الإنساني، فهي لا تخلو من سمات الجاهليّة والبُعد عن المستوى الحضاريّ. الإنساني في أخصّ معانيه. ويَبقَى للإسلام بعد ذلك رأيُه الحضارِي. وللحياة المعاصرة سمة التخلُّف في المستوى الإنساني في هذا الجانب.(/4)
102ـ فلتُراقب الله فيما تفعل
آنسة من إحدى المحافظات تقول إنها حائرة بين أن تظهر بالزيِّ الإسلامي كاملاً، بما فيه غطاء الرأس، وتُغضب بذلك والدتها، أو أن تَكشف عن شَعرها وتُرضى والدتها، بينما تخرج عن التمسُّك بتعاليم الإسلام؟ وقد تقدَّم لخِطبتها شابٌّ لم يَرَهَا بعدُ، وهو يَعلم بتَحجُّبها.
المجتمع المصري في مُقدمة المجتمعات الإسلامية المعاصرة يجمع بين عدة مُتناقضات في اللباس.. وفي العادات والسلوك.. فلباس الرجل يَختلف بعضه عن بعض: بين اللباس القروي.. واللباس الأجنبي. وعادات الناس تختلف في الأكل والشرب: بين الأكل بالأصابع واستعمال البديل عنها ممَّا يُصنع من المعادن.. وبين شرب الماء.. أو شرب الكحول والخمور.
... والمرأة المصرية في لِباسها مُردَّدة بين القصير جِدًّا.. والطويل جدًّا، في الثياب التي ترتديها.. وبين الكاشف عن مواضع عديدة من بدَنها.. والساتر لجميع البدَن.. ومُرددة بين شعر الرأس المكشوف.. والمُغطَّى.. وبين الشعر القصير الذي يُعرِّي عُنقها.. والمُرسل الذي يَستر خلْف العُنق.. ومُرددة كذلك بين الحجاب، وهو عدم الاختلاط بالرجال: في الشارع، أو في المدرسة، أو في الاجتماعات العامة، وبين السفور، وهو الاختلاط: في العمل وفي الكلية، وفي كل مكان يُوجد فيه الرجل، في المواصلات العامة، وفي الأندية، والشواطئ.. وغير ذلك.
ومن أسباب هذه المُتناقضات في المظاهر والعادات، التأثُّر بالحضارة المادية الغربية واقْتباس الكثير منها في اللباس والشراب، وغيرهما، بجانب الإبقاء على بعض العادات المتوارثة في مُجتمعاتنا الإسلامية، فهناك ازدواج وبقدْر ما يكون للطارئ من الحضارة المادية الغربية مِن أثر إغراء: بقدْر ما يَعتري القديم في الموروث من ضعْف.(/1)
... والمتناقضات تعدَّت المظاهر إلى الجوهر والموضوع.. تعدَّتْها إلى الحلال، والحرام.. وإلى ما ينبغي وما لا ينبغي.. وقد يكاد يكون ما لا ينبغي هو المقبول والشائع أو على الأقل غير مُنكر وغير مُستهجن، فالسفور والاختلاط.. والرقْص وملامسة الأبدان، واتِّخاذ الأخْدان.. وتناول الخمور والكحول.. والعلاقات المُريبة بين النساء والرجال: ممَّا ينبغي، وممَّا هو مُستورد وطارئ على ما في المجتمعات الإسلامية مِن عادات، ومع ذلك لا يُستهجَن، بل ربما الكثير من الشباب يرى فيه حضارةً يُقبل عليها، ويَزدري الرأي الذي يُحرِّمها.
... والسائلة هنا واحدة من كثيراتٍ يَعشْنَ بين هذه المُتناقضات، ووالدتها واحدة أخرى تعيش بينها، ولكن تَختلف عنها في النظْرة إلى هذه المُتناقضات، تبَعًا لردِّ الفعل في نفسها، فالأمُّ إذ ترى أن كشْف شعر الرأس ربما يكشف عن محاسن البنت، وبالتالي يَجذب الشابَّ الخاطب إليها، إذَا بالبنت وهي مُتأثِّرة برأي الإسلام في أن المرأة لا تكشف لأجنبيٍّ عنها سوَى الوجه والكفين: تلتزم هذا الرأي، وتعتقد أن الْتزامها به لا يُفوِّت عليها الفُرصة في الحياة، إذا أراد الله أن يُساعدها فيها، فالبنت تُؤمن بالقضاء والقدر.. وأن ما يكون مِن نَصيبها لا يتخلَّف بل لا بد أن يُواتيها، وعليها فقط أن تلتزم طاعة الله فيما أمرَ به ونهَى عنه، كما تؤمن أن الشاب الجاد في الحياة لا يَردُّه عن خِطبة امرأةٍ ولا عن زواجها: تديُّنها واتباعها لتعاليم الإسلام. بل على العكس: تديُّن الفتاة هو مصدر صلاحيتها وأهليَّتها لأنْ تَكون زوجة، ولأنْ تُكَوِّنَ أسرةً قوية في بُنيانها، وفي توجيهها، وأقلُّ ما ينتج عن تديُّنها. احتفاظها بعِفَّتِهَا.. ووفاؤها.. وأمانتها.. وقيامها بحقوق الزوج وتربية الأولاد وتنشئتهم.(/2)
تَمسُّك البنت بأن لا تكشف عن بدنها لأجنبيٍّ عنها إلا الوجه والكفين، هو تمسُّك بالخط الذي يَقيها: الانحراف والزلَّات، إذا سارت عليه.. والذي يُمكنها من أداء المسئولية التي تُناط بها كزوجة، وأمٍّ. وهي المسئولية التي تُناط بها، في أهل الزوج، وجاء بها الحديث الشريف في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ "والزوجة مسئولة وراعية في أهل زوجها".
... أما الأم فإذا كانت تعتقد في الحجاب: أنه وِقاية للبنت فعْلاً ـ ولا يُقصد بالحجاب الشكل، وإنما يقصد به المعنى الشامل وهو تجنُّب ما قد يَميل بالفتاة إلى الإثْم والمعصية ـ ولكنه ربما يحول دون أن يُرغب فيها الكثير من الشاب المعاصر الذي يكون قد تأثَّر باغراءات الحضارة المادية المعاصرة مِن بَريق ولمَعانٍ. والأم ـ كأمٍّ ـ تهتم بزواج ابنتها عندما تدخل مرحلة المُراهقة.. ويصبح زواجها عندها هدفًا رئيسيًّا لها.
والسائلة الآن طالما تؤمن بالقضاء والقدر، لا تخشى في حياتهما إلا الله وحده، وما يقضي به ـ سبحانه ـ سيكون خيرًا لها؛ لأن مَن يُقبل عليها الآن في وضْعها الحاضر ليس مطلقَ خاطبٍ أو شابٍّ.. وإنما هو واحدٌ مِن الجادِّينَ الذين يضعون أنفسهم في خدمة أُسرهم: زوجاتهم وأولادهم.. والذين يُفرِّقون بين المظهر، والجوهر.. والذين لا تُغْرِيهم المظاهر، بقدْر ما يدفعهم الواقع إلى تحقيق هدفهم من الزواج.
... ولعل تحجُّب السائلة يدفع عنها شياطين المُجون والعبَث الذين يُسيئون إلى الفتيات بشُرورهم وبادِّعاءاتهم الباطلة، وعندئذ يكون الزيُّ الإسلاميُّ لها: وقايةً وحماية.(/3)
101 ـ تزوَّجت وعُقد قِراني، ونُصَّ في العقد على الصداق الشرعيّ فقط. وجهَّز الزوج ثلاث غُرف، وأنا قمتُ بالباقي. وعند الدخول طلب أهلي منه التوقيع على قائمة الجهاز، فامتنع بحُجّة أن هذا عدم ثقة به. فما هو الواجب الآن؟
من غير شكٍّ أنه لُوحِظ في مهر الزوجة هنا ما سيقوم به الزوج من تجهيز الغُرَف الثلاث. وصداق الزوجة في واقع الأمر هو ما سُجِّلَ في وثيقة الزواج الرسمية على أنه الصداق الشرعي.. مُضافًا إليه ما دفعه الزوج في تجهيز الغُرَف الثلاث. فذلك كله حقُّها ودخل فيما تملك بعقد الزواج.
وعقد الزواج في الحقيقة هو الإيجاب والقَبول بين الزوج وزوجته.. هو التراضي بين الطرفين. أما تسجيل الزواج في وثيقة حكومية فهذا أمر وراء عقد الزواج قُصد به إشهار الزواج رسميًّا فقط، كإشهار أي عقد من عقود المعاملات المدنيّة. والعبرة ـ إذن ـ في المهر بما تراضَى عليه الطرَفان. والوثيقة الحكومية قد يكون ما جاء فيها تعبيرًا صحيحًا عن هذا المهر، وقد لا تكون لسبب، أو لآخر.
أمّا قائمة الجهاز، وتوقيع الزوج على أنه مِلك للزوجة وحدها، فهذا من مستحدَثات الحياة العصرية التي تنطوي على الشكوك وعدم تبادل الثقة، كما تنطوي على كثير من الحِيَل والخداع. فأهل الزوجة يدخلون في الحياة الزوجية لابنتهم على أنَّها تجربة عنصر الأمن فيها لا يُلغِي الترقُّب والانتظار لِمَا يقع من أحداث قد تعصف بها.(/1)
والزوج ـ وربَّما أهله معه ـ يدخل الحياة الزوجية مترقِّبًا أنه ربَّما يفقد حريتَه، أو ربما يكون موضع استغلال سيِّئ لأهل الزوجة.. وما شاكَل ذلك من ظنون. وهنا يأتي دور ما يسمَّى "بالاحتياط" : أهل الزوجة يحتاطون لمستقبل ابنتهم ـ كما يذكرون ـ فيُغالون في الصداق، ويطلبون التوقيع على قائمة الجهاز. والزوج يحتاج فيطلب في الوثيقة الرسميّة للزواج أن لا يذكر الصَّداق كاملاً، لا هربًا من رسوم التوثيق، وإنَّما تقليلاً لمؤخَّر الصَّداق، ثم يُماطل في التوقيع على قائمة الجهاز، عندما يُطلَب منه.
والرأيُ أنه يجب على الزوج أن يُوَقِّع على قائمة الجهاز؛ لأنه مُكمِّل للصداق في واقع الأمر. ثم من جهة ثانية يُظهر حُسنَ نيته إزاء العلاقة الزوجية الجديدة. بهذا وذاك دون الوسواس التي ستُراود الزوجة وأهلها عند امتناعه عن التوقيع على القائمة المذكورة، كما يَحُول دون تتبُّع تصرُّفاته مع الزوجة بالشك والرِّيبة. وإذا كان الزوج عاقلاً وحريصًا حقًّا على مصلحته الخاصة قبل حرصه على مصلحة الزوجة لا يُرجِئ التوقيع لحظة واحدة، ويضع حجر الثقة في طريق العلاقة الجديدة والسعيدة إن شاء الله.(/2)
86 ـ تجارة الحشيش ـ والاطلاع على الغيْب
تسأل آنسةٌ بكلية الهندسة بإحدى الجامعات الإقليمية:
أولاً: ما حُكم تجارة الحشيش؟ وما مصير المال العائد مِن تِجارته؟
وهل يجوز تنبيه الجهة المُختصة التي تُطارد هذه التجارة والمُتَّجرينَ فيها؟
لي جار اغتنى غِنًى فاحشًا منها؟
تجارة الحشيش حرام؛ لأنها تجارة في أمر يُفسد على الناس صحتهم ويَذهب بأموالهم، ويُثير البغضاء في أُسَرهم، ويُفرق بين الزوج وزوجته.
فتناول الحشيش لا يُضعف البدَن فحسْب، بل يُضعف مع ذلك العقل، والإرادة معًا، والإنسان إذا ضعُف بدَنه وضعف عقله، وضعفت إرادته أصبح هيكلاً لإنسان يُعتبر في عداد الناس شَكْلاً، ولكن هو عِبْءٌ على أسرته، ومصدر قلَق لها.
ومُتناول الحشيش إذَا أدمنَ على تناوُله يُسلم نفسه للموت البطيء، بعد أن يُخلِّف وراءَه المآسي، ويترك بين أهله الضياع.
والمال العائد مِن تجارة الحشيش مالٌ حرام، ومصيره إلى الهلاك مهما كثُر، وهو غير مَقبول عند الله، كالربا سواءً بسواء؛ إذْ كِلَا النوعين قائم على استغلال حاجة الضعيف، والضعيف هو المُقترض في حالة الربا، وهو المُدمن بحُكم العادة على تناوله، في حالة الحشيش.
وتنبيه الجهة القائمة على مُكافحة الحشيش، لتاجر معين من تُجاره: واجبٌ شرعًا؛ لأنه منكر وقد ورد في حديثٍ صحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن رأى مِنكمْ مُنكَرًا فلْيُزله بيده، فإنْ لم يستطع فبِلسانه، فإن لم يستطع فبِقلبه وهذا أضعف الإيمان.
والسائلة هنا لا تَستطيع أن تُزيل هذا المُنكر بيدها، ولكنها تستطيع أن تُزيله عن طريق إبلاغ الجهة المسئولة وإبلاغ الجهة المسئولة يُعفيها من إثْم التستُّر على هذا المُنكر عند الله، وإن تهاونت الجهة المُختصة لسبب من الأسباب بعد ذلك في إزالته.(/1)
ما هو حكم الدين في العلاقة بين الزوجين إذا كانت الزوجة تعمل خارج المنزل وتتقاضَى مُرتَّبًا قد يكون أعلى من مرتَّب الزوج وتصرف على البيت أكثر ممّا يصرف، وتتعب في العمل خارج المنزل وفي العمل بالمنزل وفي تربية الطفل أكثر منه، ثُمَّ تُمنع من إبداء الرأي ولو كان حقًّا، وتُضرَب ضربًا قد يكون مُبَرِّحًا لإبدائها الرأي، وبدعوى أن ذلك هو ما تريده الآية الكريمة: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (النساء 34).. علمًا بأن الزوجة لا تستطيع ترك العمل لأن مرتَّب الزوج وحده لا يكفي؟.
بالنسبة لحكم الإسلام في العلاقة بين الزوجينِ أنه يُرسي هذه العلاقة على التوازُن بينهما فكتاب الله يقول في ذلك: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة 228). فللزَّوجات حقوق على الأزواج وعليهِنَّ واجبات لهم، وللأزواج حقوق على الزوجات وعليهم حقوق لهُنَّ.
ومِن أخصِّ ما يجب على الأزواج... نفقات السُّكْنى والمعيشة في الحياة الزوجيّة، وليس على الزوجة شيء في ذلك مهما كان ثراؤها أو مهما كان أجرها على العمل، ومن أخصِّ ما يجب على الزوجات الإعداد والتهيئة للحياة الزوجيّة في المنزل وبعض المذاهب الفقهية كالشافعي يرى أنه على الزوج إخدام زوجته إذا كانت مثلُها ممَّن تُخْدَم.
ودرجة الرِّجال التي لهم على الزوجات وذكرتْها الآية هنا هي الدرجة من الفضل التي يجب أن تتوفر لديهم، بعد المُماثَلة في الحقوق والواجبات على معنى أنَّه يجب أن يتميَّز الرجال في مُعاملتهم لزوجاتهم بفَضْلٍ لا يدخل في الموازَنة بين الفريقينِ وبالأخصِّ عند الطلاق؛ لأنَّهم أقدر وأولى بأن تكون لهم عندئذٍ مُروءة وإنسانيّة .(/1)
فمثلاً عند طلاق الزوجة غير المدخول بها للزوج أصلاً استرداد نصف المهر ولكن الألْيقَ به كرجُل أن يتنازَل عن هذا النصف لزوجته المُطلَّقة كذلك وقد جاء في قوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة237). والفضل هنا هو في تنازُل الأزواج عن نصف المهر المحدَّد وليس في تنازل أولياء الزوجات عنه.
وعدم سماح الزَّوج لزوجته في إبداء الرأي في حياتهما الزوجيّة وفي توجيه الأولاد وتربيتهم أمرٌ يخالِف عموم ما جاء به قول الله تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى 28) فجعلت الآية هنا الشورى في وَضْع الإيمان بالله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والشورى أعمُّ مِن أن تكون بين الحاكم والمَحكومين، أو بين أفراد الأسرة الواحدة، وبالأخصِّ بين الزوج وزوجته، أو بين الجار وجارِه، أو بين مجتمَع من المؤمنين ومجتمع آخر.. ثُمَّ هناك الحديث الصحيح عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ جاء فيه: "والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عن رعيِّته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم". (كتاب التاج ص: 49 ج3). فكيف تكون مسئولة عن بيت الزوجيّة وولد الزوج... ولا يسمع رأيها فيما هي مسئولة عنه؟.(/2)
وبخصوص ضرب الزوجة ـ والضرب لا يكون إلا لتأديب يتصل باستقرار الحياة الزوجية سُئِلَ الرسول ـ عليه السلام ـ من أحد الصَّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهو معاوية القُشيريّ: ما حقُّ زوجة أحدِنا عليه؟ قال: تُطعِمها إذا طَعِمْتَ وتكسوها إذا اكتسَيْتَ، ولا تضرِبِ الوجهَ، ولا تُقَبِّح "أي لا تَقُل قبيحًا" ولا تهجُر إلا في البيت" "أي إذا هجرْتَها للتأديب فلا يكون هجرها بتركها وحدها في البيت" "التاج ص: 50 ج2". وإذن الضرب ليس للإساءة ولا للتشويه.. وإنَّما هو تعبير عن عدم الرِّضا عن تصرُّف أو أمرٍ ما منها.(/3)
147 ـ ما رأي الدين في الموظَّف الذي يُهمل مصالح الجمهور كسلاً؟
الجواب:
إن العمل الذي يتولاه أي موظَّف في الجهاز الحكوميّ أو المؤسسات أو الشركات العامة هو ولاية عامة. أي ليس عملًا شخصيًّا يعود نفعه أو ضرره على القائم به وحده. وإنما هو يرتبط بمصالح الآخرين معه في المجتمع وبمصلحته هو كذلك. والأجر الذي يتقاضاه على العمل ليس هو أجرًا على عمل الوظيفة فقط، وإنما هو أجر من كافة أصحاب المصالح في المجتمع.
وصاحب الولاية العامة ـ أو صاحب الوظيفة العامة في الدولة ـ هو موظَّف يُؤْجَر من الجميع على عمله. ولكلّ واحد بالتالي حقٌّ فيما يقوم به من عمل. وينتهي تحليل وضع صاحب الولاية العامة إلى أنّه موظَّف بعَقد مع كل فرد من أصحاب المصلحة في وظيفته. ومَن يوليه العملَ ويُسند إليه الوظيفة يوليه نيابة عن الآخرين، أي عن أصحاب المصلحة. فالتعاقُد بينه وبين الوليّ العام تعاقد مباشر وبينه وأصحاب المصلحة تعاقُد غير مباشر.
ومَن يُهمِل ـ إذن ـ من أصحاب الوظائف العامة، أو الولايات العامة، في حق صاحب مصلحة في عمله ووظيفته من أفراد المجتمع، يكون قد أخلَّ بالعقد غير المباشر، بينه وصاحب المصلحة في عمله، ويكون في وضع من يأخذ أجرًا ولا يُعطِي عملاً مقابل ما يأخذ. وهذا أكل الأموال بالباطل، المنهِيّ عنه في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ) (النساء: 29).
والذي يُبيح لنفسه الإهمال، بسبب الكسَل، في مصالح الناس ـ وهو في وظيفة عامة ـ يُبيح لنفسه ـ إذن ـ أن يأكل أموال الناس بالباطل. وجزاؤه كما وعد القرآن الكريم في آية أخرى بعد النهي السابق في قول الله تعالى: (ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوانًا وظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) (النساء: 30).(/1)
وهو بأكله المال بالباطل أي بأخذه الأجر في مقابل الإهمال في العمل. قد اعتدى على حقّ مَن أهمل في مصلحته، وظلَمه في الوقت نفسه. فالاعتداء على الحقِّ ليس إلا إنكارًا وعدم تسليمه. وهنا الحق ظل محبوسًا عن صاحبه بسبب الكسَل في أداء الوظيفة. والظلم ليس إلا تعطيلَ صاحب الحق ـ وقد تشتَدُّ حالته إليه ـ عن أن يصل إليه حَقِّه وقت الشدة أو وقت الحاجة إليه. ومَن لا يؤدِّي مصالح الناس كسلاً وإهمالاً قد عوَّقهم عن وصول حقوقهم إليهم في وقت يكونون فيه في أمسِّ الحاجة إليها.
والنار التي سيُصْلِي بها اللهُ المعتدِيَ والظالمَ في أكله أموالَ الناس بالباطل قد تقع في الدنيا، بجانب عقاب الآخرة. فالذي يستمِرُّ في الإهمال في أداء وظيفته العامة وأكل أموال الناس بالباطل، يستمرِئ في واقع الأمر الحصولَ على المال من أيِّ طريق، إلا طريق العمل والجِدِّ فيه وتحمُّل المشقّة في تحصيله. فهو يستمرئ السرقة، والغَصْب، والخِداع، والتدليس، والغِشَّ، ونحوَها، ويربط حياته ومعيشتَه ـ إذن ـ بما يُلحق الضَّرَر للآخرين، ومن يتسبَّب في إضرار الناس ويُلحق الخسائر بأقواتِهم وأرزاقهم وأموالهم لا يُنْجَى إطلاقًا ـ ولو بعد أمَدٍ طويل ـ من أن يُصيبَه أذَى مَن يتضرَّرون به في نفسه أو في أسرته وأولاده من بعده. وهو أذى نار الحقد والضغينة والكراهية والاشمئزاز.
فضلاً عن أن سُمْعَته السيِّئة وفقده كرامة الإنسان العامل المُجِدّ، ستتحول إلى نار تحرِق ما يجمع من أموال أو يترك من أولاد؛ لأن بُغض الناس له سيكون عقبة في طريق الانتفاع بما يترك من مال، وفي طريق انتفاع الأولاد في الحياة في مجتمعهم.
وليس أفضل من أن يكون الإنسان صاحب عدْل يُعطِي لغيره كما يأخذ منه. فإنْ زاد وأعطى أكثرَ مما يأخذ فهو المُحسِن. بينما يبقى الذي يأخذ ولا يُعطي، في دائرة المسيء دومًا.(/2)
105 ـ الدِّين وعقار تطويل العُمر
قرأنا أن علماء إحدى الجامعات الأمريكية يَعملون على إنتاج عقار يُطيل عمر الإنسان إلى مائتي سنةٍ. فما رأي الدين؟
ليس مِن العلماء ـ ولا مِن أيٍّ مِن الناس ـ مَن يَدَّعِي بأن فُلانًا سيموت عند سنٍّ مُعينة، أو أن أجَلَه سينتهي في يوم كذا، وفي الدقيقة كذا، وإنما أجَلُ الإنسان معلوم لله وحده، وإذا حلَّ انتهى ولا يُؤخَّر إطلاقًا: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح: 4) (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا "وهذا هو التطور الطبيعي والعادي للإنسان" وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ "أي من قبل أن يكون طفلاً، أو من قبل أن يبلغ أشُدَّه، أو من قبلِ أن يصل إلى الشيخوخة" وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى "لا تَتجاوَزُونَهُ إطلاقًا" وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (غافر: 67).
فأجَل الإنسان سِرٌّ مِن أسرار الله وحده، لم يُحاول الإنسان ولا يستطيع أن يُحاول معرفته وتَحديده.
أمَّا تقدُّم العلْم من أجل صحة الإنسان، أو من أجل وِقايته من الأمراض فذاك أمر بَشريٌّ لا يتجاوز دائرة المُحاولة والتجريب، وقد يَستفيد بعض الناس في صحتهم مِن أمر هذه التجارب.
وقد لا يَستفيد البعض الآخر منها، واستفادة بعض الناس منها لا يُقال عنها: إنها أطالت أعمارهم، أو أنها حالت دون انتهاء الأجل، وكل ما يُقال في شأنها: إنها وَقَتْهُمْ مِن بعض الأمراض، أو خفَّفت عنهم أضرارَها فقط.
وإذا كان الإنسان لا يعلم أجَلَ الإنسان، ومتى ينتهي، فإنه لا يعلم بالضرورة أن التقدم العلمي يُضيف إلى عمره زيادةً، ما كان يَبلغها لو لم ينتفع بمُنجزاته وتجاربه.(/1)
وكما أوضح القرآن الكريم السير العادي لحياة الإنسان مِن أنه يكون: نُطْفةً فعَلَقَة، ثم يُولد طفلاً، ثُم يبلغ وَضْعه المتكامل، ثم يَصير إلى الشيخوخة.. فالفناء، فإن العالِم في تقديره لهذه المراحل قد يضع استخدام تجاربه في الوقاية مِن الأمراض التي هي بحُكم عدم اليَقظة أو بحُكم عدم التمكُّن ـ لسبب مِن الأسباب ـ مِن اتِّقائها، قد تُصيب الإنسان، ويترقب لفترة الشيخوخة أن تكون في هذا الإنسان ـ الذي هو تحت الرعاية الصحية ـ أطول عندئذٍ، وبهذا يَتصوَّر أن عمره قد زاد لو لم يكن تحت هذه الرعاية.
ولكن هل هناك ضمان لطول فترة الشيخوخة عند مَن يُعْنَى بوِقايته من أمراض هذه المرحلة؟ ربما تتوفر لدَيه الصحة الجيدة، ثم ينتهي أجله حسبما هو مُقَرَّرٌ في علْم الله.
فرْقٌ بين استمتاع الإنسان بصحة جيدة أو بصحة أفضلَ، إن عُنِيَ بالوقاية وانتفع بالتجارب العِلْمية في المحافظة على صحته، وبين إطالة عمره عن طريق الوِقاية والمُحافظة على الصحة، لا أحد يَدري متى ينتهي عمر الإنسان؟
ولكن كثيرينَ يعرفون: متى تكون صحة الإنسان أفضلَ في أية فترة مِن فترات تَطَوُّرِهِ.(/2)
103 ـ صلة الحضارة الإنسانية بالدِّين
إلى أيِّ مدًى تَرتبط الحضارة الإنسانية بالدِّين؟
حضارة الإنسان في تاريخ البشرية تُعبر عن إسهامه:
1 ـ في تقدُّم التفكير.
2 ـ وفي تقدم الوجدان.
3 وفي تقدم العمل الإرادي.
والتقدم في التفكير هو التقدم في ضوابط العلاقات البشرية بين الأفراد في مجتمع أو بين المجتمعات بعضها ببعض، أو في تَقنينها، بما يضمن لها استهداف التعاون وإبعاد الخُصومات والشَّحْناء والقانون والفلسفة والاجتماع مِن جوانب هذا التفكير.
والتقدُّم في التفكير أيضًا هو التقدُّم في حُسن استغلال الثروات الزراعية، والحيوانية والمَعدنية، وحُسن السُّكنَى والإيواء ويُسْرِ النقل بين الأمْكنة المختلفة، ويدخل في حُسن استغلال الثروات تَصنيعُها، والإفادةُ منه في تكثير الكمِّ، أو جودة النوع والهندسة بفُروعها المختلفة: النظرية والتطبيقية، والاقتصاد، والتنظيم، تُعَدُّ مِن فروع هذا التفكير.
والعلوم جميعها تُعبِّر عن التفكير الحضاري للبشرية.
والتقدم في الوجدان هو التقدم في تنمية العواطف البشرية بما يَجعل أوَاصِرَ القُربَى بين الأفراد في الإنسانية هدفًا يحرص عليه كل فرد في نظرته للآخر والأخلاق والأدب يُصورانِ جانبينِ رئيسيينِ مِن جوانب هذا التقدم الوِجداني الحضاري.
والتقدُّم في العمل الإرادي يكون بالحِفاظ على حصيلة التفكير والوجدان الحضاريينِ في تاريخ البشرية والإفادة منها في مُراجعة القائم وتهذيبه لمَصلحة البشرية عامَّةً، والحرب قد تتعيَّن وسيلةً مِن وسائل المُحافظة على هذا التراث الحضاري، وتغيير نظام الحُكم في المجتمع، قد يكون كذلك إحدى وسائل هذه المُحافظة.
فالحضارة الإنسانية إذن عملٌ إنسانيٌّ يستهدف تحقيق المستوى الإنساني والاعتبار الإنساني في الحياة والمَعيشة بين الأفراد وبين الشعوب على اختلافٍ بينها في العنصر أو اللغة.(/1)
والإسلام بعَقيدته في وحدة الألوهية.. وبمَبادئه في التشريع وضبْط العلاقات بين الأفراد.. وبوَصاياه في إنماء التعاطُف والتآخي بين الأفراد.. وبدَفْعِهِ على صيانة القيَم الإنسانية التي تُكوِّن المستوى الرفيع للإنسانية، ولو عن طريق القتال.. وبحَمله على السعْي في سبيل الرزق وجعْله في مستوى العبادة عند الله لا يستهدف فقط تحقيق المستوى الإنساني والاعتبار الإنساني في الحياة والمعيشة.
وإنما يستهدف تحقيق هذا المستوى على أساس أن الذي رسم مَعالمه موجودٌ أحَدٌ، فوق الخطأ والنقص والتأثُّر بأيِّ عامل، وهو الله جلَّ جلاله.
وعبادة الله يَبتدئ منها المؤمن به في إسهامه بما يعود على البشرية من خير، وبما يُجنِّبها صُعوبات الانحراف والعبَث والفساد أو الوقوع في سلوك دون المستوى الإنساني.
إن العلوم التي يأتي بها التفكير الحضاري لكي تُؤدي إلى تحقيق المستوى الإنساني في الحياة والمعيشة في حاجة إلى الإيمان بالله، الذي هو أساس الدِّين؛ لأن التقدم العلمي أو التقدم الحضاري قد يَستهدف الجانب المادي دون الجانب الإنساني.
وعندئذٍ لا يُستبعَد أن يُوجَّه ضد الإنسانية، وليس في سبيل تحقيق مُستواها.
والدين إذن مصدر رئيسي للحضارة الإنسانية والتقدم الفكري، والوجداني والإرادي للإنسان، يُسهم قطعًا في إظهار مَعالمها ولكن الأمان من سُقوطه فقط إذا ابتدأ مِن الإيمان بالله.(/2)
110 ـ التقدُّميَّةُ الماركسيةُ وتقدُّم العلم والصناعة
هل التقدمية التي تدعو إليها بعض النُّظم المُعاصرة هي تقدمية العلْم والصناعة؟
التقدمية التي تدعو إليها بعض النُّظم المُعاصرة هي إغْفال التراث الدينيِّ والفكري والثقافي للشعوب والمُجتمعات، أو مَحْوها تمامًا بعد ذلك نحو زعامة الفكر الماركسي والأخْذ بمَبادئه وحده، وتصف بالرجعية التمسُّكَ بالقيم الدينية وبالعادات والتقاليد.
وقِوامُ التقدمية الماركسية إذًا هو الانفكاكُ عن الماضي في علاقات الأسرة والأقارب والجوار، والتحرك في السلوك بعيدًا عن الأخلاق السائدة للمجتمع وعن مبادئها في ترابُطِ الناس بعضهم ببعض.
ثم النظر بعَيْنِ الاعتبار إلى الصراع الطبقي كمبدأ اجتماعي حَتْمِيٍّ، وإلى أن الغاية تُبرِّرُ الوسيلةَ كمبدأٍ أخلاقيٍّ، وإلى أن الدِّينَ مُخدِّرٌ للشعوب كمبدأٍ عَقيديٍّ.
وتقدمية العلم هي تقدمية البحث التجريبي في مجالات الطبيعة والاختبارات المادية، بينما تقدمية الصناعة هي تطور التطبيق الصناعي لنتائج البحوث التجريبية الطبيعية والمادية والبحث العلمي والتطبيق الصناعي لنتائجه، كلما كانت حركتُهما مستمرةً، كلما دلَّ ذلك على سَيْرِهِمَا في طريق التقدُّم.
وتُفيد البشرية مِن التقدُّم العلمي وا لصناعي إن اتَّجهَ به القائمونَ عليه إلىخير الناس؛ لتخفيف المرض، والحِرمان، والجهل بين الشعوب بينما التقدمية في النظام الماركسيِّ لا يُفيد فيها إلا أربابُ النظام وحدهم على حين تَخسر البشرية حضارتها الإنسانية بمِقدارِ ما تكسب هذه التقدمية من أعدادٍ وبُلدانٍ.(/1)
والإسلام يدعو إلى العلْم وإلى الصناعة، عندما يُقدِّرُ القرآنُ قيمةَ الحديد وأثَرَهُ في حياة الإنسان، بالتعبير عنه في قول الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (الحديد: 25)..
وفي وَصْفِ الله لذاته في آخر الآية بأنه: قويٌّ عزيز ما يُفيد أنه ـ سبحانه ـ يُقدِّرُ القوة والعِزَّةَ، والمَنَعَةَ، ويدفع إليها الإنسان في حياته كي يعيش حُرًّا بإيمانه، مُحافظًا على كرامته كإنسانٍ، ويرى أن القوة المادية هي في الحديد بجانب مَنافعه الأخرى في حياة الإنسان، ولا يستطيع الإنسان أن يَستخلص فائدةَ الحديد، ولا أن يكون قويًّا به إلا بالعلْم المُتطوِّر المُتقدِّم.
أما القوة المعنوية، فيراها في هداية الله، وقد جاء التعبير عنها في أول الآية نفسها في قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (الحديد: 25).(/2)
147ـ موقف الإسلام من الطبقيَّة والإقطاع
يسأل مواطن مِن إحدى القرى، وطالبٌ بآداب إحدى الجامعات، عن موقف الإسلام الصريح
أولاً: تجاه الطبقية.
ثانيًا: الإقطاع.
الطبقيَّة مُصطلح ماركسيٌّ أو شيوعيّ، ويُقصد بالطبقية أن المجتمع ينقسم إلى طبقتينِ:
طبقة الأغنياء، وهم السادة والمُستَغِلُّون للعمال، فهؤلاء العمال أصحاب حِرَفٍ ومَهارات مختلفة في الصناعة، ويَقومون بالصَّنْعة ولا يُعطَونَ من الأجور عليها ما يُناسب صنعتَهم، بدليل أن مَصنوعاتهم عندما تُباع يتوفر بعد التكلفة وأجور الصَّنْعة ما يُرَدُّ إلى هؤلاء الأغنياء، مِن غير أن يُباشروا عملاً، سوى أنهم مَوَّلُوا الصناعة وأعطَوا الأجورَ غيرَ المُناسبة للعمال.
والطبقة الثانية هي طبقة الفقراء التي لا تَملك المال وتملك الحِرْفة، وهي لا تأخذ على عملها إلا الأجر القليل، فهي طبقة مُستغلَّة ومَكدودة، وأوضاعها الاجتماعية غير إنسانية، سواء في السكن، أو في الرعاية الصحية، أو في تعليم أبنائهم.
ولذا تُوجب الشيوعية ما تُسميه بالصراع الطبقي على الفقراء لتَسلُّم زمام السُّلطة في المجتمع، ووضْع رءوس الأموال لدَى الأفراد في صندوق الدولة عن طريق التأميم.
أما الإقطاع فهو أيضًا مصطلح تَستعمله الشيوعية كثيرًا، والإقطاع الذي تتحدث عنه الشيوعية وتستخدمه في لُغتها كثيرًا نوع من المِلْكية الزراعية كان يوجد في أوروبا، وهو أن بعض الأفراد مِن النبلاء أو مِن غيرهم كانوا يَملكون أراضيَ زراعيةً شاسعة تَنتشر قُرًى عديدةٌ فوقها، ويعمل فيها العبيد الذين كانوا يُجلَبون قهْرًا مِن أفريقيا وغيرها عن طريق الخطْف والقرْصنة، وليس عن طريق الأسْر في الحروب، وكانت هذه الأرض إذا بِيعت تُباع بما عليها مِن القُرى، وبمَن يعملون فيها مِن العَبيد.(/1)
وكانت معاملة العبيد مُعاملة شائنةً للإنسانية وتاريخ البشرية، فهم فوق كونهم سلعة تُباع وتُشترَى، كانوا يعيشون عيشةً دون الحيوان والكلاب في سُكْناهم وفي مَلْبسهم وفي تَقَوُّتِهِمْ، ويجب عليهم مِن وجهة نظر الماركسية الصراع الطبقي كذلك ضدَّ أصحاب الأملاك الزراعية الواسعة، فإنْ لم يُوجد لدَى هؤلاء اليوم عبيد فيُوجد فلاحون يَنتقل إليهم وُجوبُ الصراع ضد أغنيائهم مِن أصحاب الأملاك. ...
وبهذا تَبدو الشيوعية مَنْهجًا صالحًا للحياة، يُخدَع به كثيرٌ مِن الشباب والعمال والفلاحين.
إنَّ ذلك كان فلسفةَ القرن التاسع عشر، ولم يزل فلسفة كثير مِن المجتمعات المُتخلفة أو النامية اليوم، والسؤال الآن: هل صلُح حال العمال والفلاحين والفقراء على العموم في المجتمعات التي أَخذت بالنظام الماركسي؟ أم زاد أمرهم سوءًا فعانَوْا في سبيل الحصول على لُقمة العيش وغُرفة السكن، وحُرموا من حرياتهم الفردية، وشَقَّ عليهم الحصولُ على كثيرٍ مِن الخدمات الاجتماعية في أسفارهم وإقامتهم واتِّصال بعضهم ببعض، وعُلِّق أمر القانون المكتوب، وفُتحت المُعتقلات ومُعسكرات العمل ومستشفيات المجانين، وأصبحت الملايين الكادحة مُستغَلَّة لعصاباتٍ تُثْرِي مِن دمائهم دون جهد أو عمل ما، إلا الانتماء إلى الحزب أو السير في ركاب النفاق؟
إن العمل منذ النصف الثاني من القرن العشرين لم يبقَ يَدَويًّا ولم يَحتج إلى كادحينَ، إنه تحوَّل إلى عملٍ آليٍّ، ويحتاج إلى خبراء في الآلية، ويَستندون في خدماتهم إلى العقل والتثقيف والتدريب الفنيِّ الواسع، وليس إلى العضلات ومَجهود التجمعات الجماهيرية.
وإنَّ التقدم في التطبيق الصناعي جعَلَ فِلاحة الأراضي الزراعية في غِنًى تامٍّ عن العبيد وأمثال العبيد، وأعطى القليل مِن الأفراد إمكانية الآلاف المؤلفة من الفلاحين الذين كانوا يُستخدَمون في الزراعة وتربية المواشي وما يتصل بأمر الزراعة على العموم.(/2)
إن العمل اليدويَّ لم يزل في كثير من المجتمعات التي لم تتطور بعد، ولكنه كاد ينقرض في المجتمعات التي أخذت بالآلية، والآليةُ هي مستقبل البشرية، وهي مصدر رخاء واسع للمَلايين.
إن فلسفة ماركس في الطبقية والإقطاع والصراع الطبقيّ مُدبِرة ومُولِّية، وهي تحاول أن تظلَّ صاحبة حركة في سيرها، ولكن ضغط الفقر والإذلال والحرمان والاستضعاف في مجتمعاتها سيُقعدها تمامًا عن أية حركة في المستقبل، ولو كانت هذه الحركة تُحسَب بخُطَا النملة.
أما الإسلام فهو لا يُعادي المال ولا جمع المال إطلاقًا، ولكن يجعل فقط وظيفته وظيفةً اجتماعية، وهي الاشتراك في منفعته وإن كانت ملكيته ملكية خاصة، وإذ يقول: (واللهُ فَضَّلَ بعضَكم علَى بعضٍ فِي الرِّزْقِ) أي جعل الناس مُختلفين فيما لدَيهم من أموال، فيهم الغنيُّ كثيرًا، وفيهم الفقير الذي لا يملك شيئا (فَمَا الذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ علَى مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ فهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) أي الأسياد الذين يَملكون والعبيد الذين لا يُملَكون سواءٌ في الانتفاع بالمال هنا. وليس للمالكين فضل في ذلك، وإنما حقُّ مَن لا يملك كحقِّ مَن يملك في الانتفاع بالمال، سواءٌ (النحل: 71) إذ يقول الله ذلك ويُسوِّي في حق المنفعة بين المالك للمال وغير المالك له، فإنه لا يُقيم حاجزًا دون نماء المال بسَعْي صاحبه، ولا يُبقِي على حِرمانِ مَن لا يملك، وهو ينظر إلى المال يَسيل مِن يَدِ مَن يملكه، ولذا لا يوجد حقد في نظر الإسلام ممَّن لا يملكون على مَن يملكون. وبالتالي لا يُوجد صراع طبقي ولا سعْيٌ لقلْب نظام الحكم مِن أجْل التسلُّط باسم "العُمّالية" وتأميم الأموال الخاصة باسم العدالة الاجتماعية.(/3)
نعم، الإسلام يرى في النظام الطبيعي للمجتمع البشري أن يكون هناك غنيٌّ بماله وآخر غنيٌّ بحِرْفته ومِهنته، وكل مِن النوعين في حاجة إلى الآخر. هذا الغنيُّ بماله يدفع مِن ماله الأجر لصاحب المِهنة والحِرْفة إذا عمِل له عملاً. وهذا الغنيُّ بحرفته يقوم بالعمل لغيره بالأجر عليه. والمجتمع الإسلامي إذًا ليس مجتمع مُلاك ولا مجتمع عُمال خالصًا، ليس مجتمعًا رأسماليًّا، ولا مجتمعًا اشتراكيًّا ماركسيًّا، يقول الله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ)
يريد الاختيار إلى الرسالة (نحنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ في الحَياةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بعضَهمْ فوقَ بعضٍ دَرَجَاتٍ) في الرزق والمال (لِيَتَّخِذَ بَعضُهمْ بَعضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف:32) أي ليَأجُرَ بعضُهم بعضًا للعمل، والاختلاف بين الناس؛ هذا يملك وذاك لا يملك، ليس للصراع والفتنة، وإنما ليستقيم أمر المجتمع في حاجة كل فردٍ للآخر. فلو كان المجتمع كله مثلاً ذكورًا أو كله إناثًا لَمَا استقام إطلاقًا ولذا خُلق الذكَر وخُلقت الأنثى، وهما معًا يختلف أحدهما عن الآخر، ولكنه ليس الاختلاف للصراع بينهما، وإنما للسكنى والاطمئنان والمودة والرحمة، كذلك الشأن في الاختلاف في ملكية المال والعمل.
وبجانب حماية الإسلام للوضع الطبيعيّ للمجتمع فإنه يحمي الفقير بفرض عبادة الزكاة، ويَحمي مالك المال مِن طغيانه بالإرث وتَفتيت الملكية، فالذي يُخرج الزكاة هو سيِّدٌ على ماله وليس عبدًا له، والذي تَؤُول ملكية ماله إلى عَدِيدينَ مِن وَرَثته لا يجد في المال قوةً يَعتزُّ بها، وإنما يرى أنه مُستخلَفٌ عليه لوقت ما، ثم يخرج مِن يده إلى آخرينَ.(/4)
الإسلام فيه الضمانُ للعدالة الاجتماعية، والحماية مِن الطغيان بالمال، والمؤمن أخو المؤمنِ في الاعتبار والكرامة، وكتاب الله يقول: (يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَومٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ولا نِساءٌ مِن نساءٍ عَسَى أن يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) (الحجرات: 11).(/5)
112 ـ موقف الإسلام مِن المال
هل الإسلام رأسماليٌّ أم اشتراكيٌّ ماركسيٌّ؟ وإذا لم يكن واحدًا منهما فما موقفه مِن المال؟
الرأسمالية تقوم على المِلْكية الخاصة، والمَنفعة الخاصة للمال، فللفرد في المجتمع أن يَملك ما يشاء وأن يكون له وحده مَنفعة ما يَملك.. لا يُشاركه غيره في مَنفعته.
ونظام الحُكم القائم على حرية رأس المال، يَترقَّبُ أن تكون هناك في المجتمع فجْوةٌ واسعةٌ في الدخول، وفي توزيع الثروة القومية، يترقَّب أن تكون هنا مجموعةٌ ـ وهي قليلة العدد ـ مِن الأفراد في المجتمع تتمتَّع بثروةٍ كبيرة، بينما هناك الأكثرية الغالبة تَعيش على الكَفاف.
وهنا يَتولَّدُ الحقُّ بين القِلَّةِ والكثرة، أو بين أصحاب الثرْوة الطائلة وأصحاب الحاجة أو الدخل المَحدود، وعن الحِقْد يكون التباغُض والتخاصُم.
والاشتراكية الماركسية تقوم على إلْغاء المِلْكية الخاصة، وبالتالي على إلْغاء المَنفعة الخاصة للمال، فالمال يَملكه المجتمع ككُلّ، ومَنفعتُه تعود على الجميع.
والاشتراكية الماركسية تفترض فيمَن يُباشر المالَ العامَ في تنميته واستثماره أن يُباشر برُوح المالك له، أي يُباشره برُوح الحِرْص والمُحافظة عليه، فضْلاً عن روح الترفُّع والبُعد عن الإساءة إليه بصورةٍ ما.
ولكن هذا الافتراض يُواجهه واقعَ التطبيق، وهو واقعٌ يُحدِّده التواكُل من جانب، والانتهازية مِن جانبٍ آخرَ بدافعِ الأنانية، ومُؤدَّى التواكُل والانتهازية هو الضياع للمال العام، بالإضافة إلى تجميد الطاقات الفردية والحَيْلولة بينها وبين أنْ تُزاوِلَ نشاطَها في تكثير المال أو في استخدامه في خِدْماتٍ عامَّةٍ.
والإسلام ليس رأسماليًّا .. ولا اشتراكيًّا ماركسيًّا، أي لا يقوم على الملْكية الخاصة والمنفعة الخاصة للمال، ولا على إلْغاء الملكية الخاصة وتجميد طاقات الأفراد.
وإنما هو ينظر إلى المال:
أولاً: على أنه مِلْكٌ لله، والإنسان مُستخلَفٌ عليه.(/1)
ثانيًا: على أن المالك للمال إذا دخل المالُ في مِلْكيته الخاصة، فإنَّ منفعتَه ليست للمالك وحده، وإنما له ولغيره مِن أصحاب الحاجة في المجتمع، والإنسان المالك يتصرَّفُ في مِلْكِهِ، طِبقًا لروح الاستخلاف عليه.
وبناء على ذلك يرى الملكية الخاصة، مع المَنفعة العامة للمال ويَتفادى بذلك سلبيةَ الرأسمالية وسلبيةَ الاشتراكية الماركسية.
يدعو الفرد إلى السعْي لتحصيل الرزق، ولا يتوقف عن هذا السعي إلا لأداء العبادة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). (الجمعة 9، 10).
ويُوجِّه الفرد إلى أن منفعة المال للمالك له ولغير المالك له على السواء: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) (النحل: 71)..(/2)
35ـ للأم حقٌّ على ابنها وعلى امرأته
سيدة بإحدى المحافظات تذكر أنها بلغتِ السبعين من عمرها. وأنها متعلمة ومثقفة، وقامت بتربية أولادها أحسن تربية وحصلوا على الدرجات الجامعية وتزوجوا جميعًا عدَا الأصغر منهم. وتُوُفِّي والدهم. وأخيرًا اختار الابن الأصغر زوجته بمعرفته هو فباركت له أمه.. ووفَّرت عليه المتاعب فقبلته هو وزوجته في السكن معها الذي تَسكنه منذ سِنين. وأمَّلت الخيرَ وتمنَّت: أن ترى أولادهما. ولكن ما أن وطِئتِ الزوجة بقَدمها المسكن حتى علا شجارها كل يوم مع زوجها بسبب أمه. وبعد أسبوع مِن قُدومها تركت الأم السكن وذهبت لتُقيم مع ابنتها الوُسطى، وكانت تدفع لها نفقة المَعيشة معها، حتى لا يحس زوجهاـ وهو رجل محترم كما تقول ـ بمُضايقةٍ منها، ولكن مع كوْنها كانت تدفع نفقةَ معيشتها كانت تشعر بأنها لاجِئةٌ بائسة. ولم يَسْعَد ابنها، وبعد أن تركت أمه المنزل، بالحياة مع زوجته فشجارهما لا ينقطع.. وصوتها يرتفع بالسبِّ والشتائم، وأخيرًا بعد ست سنوات من الزواج تركت السكن. وأخذتْ عفْشها معها ونسيت أنها كانت متزوجة. واقترح عليَّ حينئذ أولادي أن أعود إلى المسكن فعُدت، ثم أراد ابني أن يدعو زوجته إلى المنزل ثانيةً فقَبِلت على شرط أن أُغادره، ولست على استعداد الآن في سِنِّي وفي صحتي أن أسكن في الشارع. أو عند إحدى بناتي أو عند واحد مِن أولادي وابني الذي يُساكنني يهددني الآن بأنه ـ إذا لم أترك السكن ـ فسيُسافر إلى الخارج، ويترك عمله الذي يُمارسه الآن أكثر مِن خمسة عشر عامًا. وتسأل ماذا تَصنع؟(/1)
إن البنت ـ أيَّ بنتٍ ـ إذا تزوجت تُريد أن تستقل بالزوج، عن أهله، وأهلها معًا.. تريد أن تُحِسُّ أنها وحدها معه، دون شريكٍ معها، ولو كان هذا الشريك أُمَّ الزوج أو أمها هي. ومِن أول الأمر تُريد أن تسكن وحدها في سكن خاصٍّ بها.
فزوجة الابن الأصغر للسائلة هنا لا تَكره أمه لسببٍ خاصٍّ فيها.. ولا تودُّ أن تسكن معها لسوء عِشرة منها. وإنما هي الروح العامة التي تتملَّك كل بنت تدخل في علاقة زوجية جديدة. ولكن بعض الزوجات الجُدُد بشيءٍ مِن تفهُّم وضْع الزوج في علاقته بأمه تستطيع أن تتحمَّل مُؤقتًا: معاشرتها لحَماتها. خُصوصًا إذا كانت الحماة في سِنٍّ متقدمة على نحو سِنِّ السائلة الآن. وبذلك تُرضِي زوجها أولاً، قبل أن ترضي حماتها. فالزوج يكون مُمتنًّا لزوجته إذا وَسِعَتْ بعض أقاربه ـ وبالأخص أمه ـ في الإقامة عندها، أو إذا استضافتْه فترة من الزمن. وكلَّما أحسَّت الرضا والثناء مِن زوجها على ما تُقدمه لأقاربه، كلَّما تحمَّلت وصبرت وكلما كانت نفسيتها هادئة ومستقرة. والبعض الآخر من الزوجات الجُدد يدخل الحياة الزوجية في شيء من العصبية وفي كثير من الأنانية وحُب الذات، فتُطارد "الشريك" في حياتها مع زوجها، وقد تستخدم القسْوة في مُطاردته. فتُغْلِق التفاهم بينها وبين زوجها، أو بينها وبين أي قريبٍ له يسكن معهما، أو يُحاول الإقامة معهما ولو لفترة قصيرة، ويبدو أن زوجة الابن الأصغر للسيدة السائلة هنا: من النوع العصبي المُتشبِّث بحُبِّ الذات الذي لا يُحاول فهْم الأوضاع فهْمًا هادئًا وإيجابيًّا. بدليل أنها بعد أن خرَجت حماتها للسُّكنَى عند ابنتها الوسطى لمدة ست سنوات مُتَتالِيَة، لم تنقطع هذه الزوجة عن الشِّجار أو الصُّراخ. والشتائم، كل يوم في مواجهة زوجها، والغالِب بسبب حماتها، فالزوج إذا ذكَر أمه بالخير، أو عاتب زوجته على صَنيعها نحو أمه وسُكناها خارج مسكنها الذي اعتادت أن تَسكن فيه وكانت تُريد أن تقضي(/2)
فيه بقيَّة عمرها: ثارت وصرخت لتُلزمه نفسيًّا بعدم التفكير في استقدامها إلى السكن بعد أن هَجرته.
ولا ينفع هنا: أنَّ أحدًا يُذَكِّر زوجة الابن الأصغر للسيدة السائلة، بما قدمتْه لها ولزوجها من المنافع المادية، عندما قبِلتْها ورحبتْ بها كزوجة لابنها في مسكنها الخاص. لأن الوضع بين زوجة الابن وحماتها لا تَحكمه المجاملات. وإنما تُسيطر عليه غريزة حُب البقاء أو غريزة الذات والأنانية، من جانب الزوجة، وقد يكون كذلك أيضًا من جانب حماتها. إذ الوضع بين الاثنتين لا يُصبح عاديًّا إلا إذا استسلمت إحداهما بسبب الضعف ـ مثلاً ـ للأخْرى.(/3)
ثم بعد ذلك: المشكلة في رسالة ليستْ في واقع الأمر بينها وبين زوجة ابنها، وإنما هي مشكلة الأسرة كلها.. مشكلة الأولاد الذكور.. ومشكلة البنات المتزوجات.. ومشكلة أزواجهن أيضًا.. إذْ هذه السيدة لها فضل على الجميع، وهي في حاجة الآن إلى العناية. ومع الدعاء لها بطول العمر، فما لها في هذه الحياة: أقل بكثير مما مضَى من أجَلها، وقد يكون من حُلول هذه المشكلة: أن تسكن ضيفةً عند كل واحد مِن أولادها، وأزواج بناتها فترة من الزمن. أو أن يتفق الجميع على أن تكون عند واحد معين، لا يُلزَم بها بِناءً على اقتراح أحد وإنما بدعوة منه صادرة عن طواعية، وعن قُرْبَى لله ـ تعالى. ...
والعناية بهذه السيدة السائلة في سِنِّها الحالي وفي أزمتها النفسية القائمة ولا شك أن مَن يُباشرها يتقرب إلى الله بالخير الذي لا يُجازى عليه إلا هو ـ جل جلاله. وجزاء الله قد يكون في هذه الدنيا في أولاد مَن اختارها في أسرته إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا. ...
وتهديد الابن الأصغر بترْك العمل في مصر، والهجرة إلى خارجها، يُنبئ عن الأسَى والحزن في أعماق نفسه.. وفي الوقت نفسه يدلُّ على عدم استطاعته حَلِّ المشكلة التي واجهتْه منذ أن دخل بزوجته، وهنا يجب وُجوبًا مُضاعفًا أن تتقدم بقية أفراد الأسرة للتَّخفيف من مَآسيهِ وأحزانه بسبب والدتْهم جميعًا.(/4)
43ـ الأب والقدوة السيئة
سيدة من إحدى المحافظات تحكي وضْعًا لأسرتها يُقلقها ويجعلها غير مستريحة الضمير في حياتها الأسرية:
تقول: إنها متزوجة.. ومُتدينة.. وتعرف فرائض الإسلام وأركانه وأنجبت ثلاثةَ أولاد. أكبرهم في سن السابعة عشرة.. والأصغر في سن الثانية عشرة، ولا يُطيعون والدتهم فيما توجههم إليه. ولا يُؤدون الصلاة، وعندما تضرب الواحد منهم بسبب ترك الصلاة يُثير والدهم مشاكل في وجْه أمهم. وربُّ الأسرة وأب الأولاد ـ كما تقول ـ لا يُؤدي هو الصلاة في أوقاتها.. ويدخِّن الحشيش، وإذا نصحتْه بترْكه الحشيش واجَهها بما لا تَرضاه.. وتضطرُّ إلى أن تذهب إلى منزل أهلها.
وهناك في منزل أهلها يَلومونها على نُصحها لزوجها بترْك الحشيش ويَطلبون منها أن ترضى بالحياة معه، على نحو ما هو عليه. وأخيرًا تسأل: ماذا تفعل لكي تعيش مُرْتاحة الضمير؟(/1)
أسرة السائلة أسرة مُتنافرة فالزوجة والأم تُؤمن بالله تُؤدي فرائض العبادات وبالأخصِّ الصلاة في أوقاتها، وهي حدِبةٌ على تَنشئة أولادها الثلاثة على الإيمان والطاعة لله ـ جل جلاله ـ وترجو من وراء ذلك استقامتَهم في السلوك، وجِدَّهم في مراحل الدراسة المختلفة. ...
والزوج والأب لا يلتزم بمواعيد الصلاة.. ويدخِّن.. ويتناول الحشيش.. ويقف في وجه زوجته إن أنَّبتْ أو ضَربت الأولاد على ترْكهم الصلاة. ...
وجُذور هذا التنافُر قوية، فليس من السهل حمْل الزوجة أو الزوج على الوفاق بينهما. وكلما كان الوفاق بين الاثنينِ بعيدًا عن التحقُّق، كلما كان انعكاسه على توجيه الأولاد وتربيتهم ضارًّا، فليست أمامهم قُدوة حسنة يقتدون بها ويتَّبِعونها. والمَرئِيُّ أمامهم في حياة والديهم هو مُواجهة كل منهما للآخر، فضْلاً عن السلوك السيئِ لرب الأسرة بسبب تعاطي الحشيش، وسيُصبح ذات يوم ضعيف الإرادة بسبب تعاطي هذا المخدر. وعندئذ لا يستطيع توجيه نفسه ولا توجيه أولاده. بل ربما يكون جُموح بعض الأولاد في المستقبل القريب عاملاً في زيادة متاعب الأسرة وتفرُّقها. ...
وضع الزوجة وضع حرِج، فهي بين أولادها ضعيفة.. وأمام زوجها ضعيفة.. وإذا رجعت إلى أهلها نصحوها بالاسْتكانة والتسليم لواقع زوجها وواقع الأولاد. وسيَستسلم الزوج للضعف عمَّا قريب بسبب الإدمان على الحشيش. وعندئذ تخلو الأسرة من التوجيه السليم في وقت يدخل فيه الأولاد الثلاثة سِنَّ المراهقة.. ومرحلة المراهقة مرحلة خطيرةٌ في حياة الشباب.(/2)
ولو أن أهل الزوجة وقفوا بجانبها، وشجَّعوها على موقفها من نُصْح الأولاد ونُصح أبيهم.. وشاركوها في النصيحة واللقاء بالزوجة وبالأولاد، مرة ومرة. لقوي شأنها وأخذت مكان الريادة والقيادة في الأسرة، بدلاً من الأب الصائر إلى الإدمان والاستسلام لإثارة السيئة. وأخصُّ هذه الآثار عدم القدرة على اتخاذ القرار في شأنٍ من الشئون. ...
وأمل إنقاذ هذه الأسرة من التفكك والضياع هو في تدخل أهل الزوجة.. وفي طرح السلبية التي ينصحون بها ابنتهم كلما ذهبت إليهم. ... ...
وعلى السائلة أن تُدرك تمامًا الوضع الذي هي فيه.. كما تُدرك أن المصدر القوى لأملها في إبعاد أولادها عن نوازِع الأهواء هو الاستعانة بأهلها. ومن أجل ذلك يجب أن تسأل الأهل وتُقنعهم بوُجوب تدخُّلهم بجانبها في علاج مُشكلة الأسرة الخاصة بها. ومع كون هذه المشكلة حسَّاسة ولكن مصير الأسرة يتوقف على اتجاه رِيحها يَمينًا أو شمالاً. ...
وعلى أهل الزوجة أن يُدركوا كذلك أن ما يُوصون به ابنتهم من الرضا بواقع حياة زوجها وأولادها هو دفْع الأسرة كلها إلى الهلاك، وليس إلى النجاة. ...(/3)
والزوجة في تشدُّدها في أن يُؤدي الأولاد عبادة الصلاة، وكذلك فرائض العبادات وفي تشددها في أن يُقلع الزوج عن تناول الحشيش: تسلُك الطريق السويَّ لاستقامة أفراد الأسرة، ويجب أن يقوى إيمانها أمام نُصح أهلها لها بالاستكانة والتسليم.. يجب أن لا تخضع للحلول السلبية. وتتغلب بقوة إيمانها على اتجاه أهلها وتَحْملهم على أن يرفعوا راية النجاة معها. ...
وأداء العبادات لله ـ جل جلاله ـ ليس تبرُّعًا يمتنُّ به الإنسان على الله، وإنما هو أداءٌ واجب لمصلحة الإنسان نفسه. وكثير من الآباء ـ على عكس الأمهات ـ يَستخفُّ بهذا الواجب، أو لا يَضعه الوضع السليم في حياة الشباب، ويَترك الحبل على الغارب، حتى يرى أثَر الاستخفاف به في سلوك الشباب.. وهو أثَرٌ لا يُسعد الأباء بأبنائهم. ...
والذي يجب أن تفعله السائلة الآن: ...
أولاً: أن تظلَّ في موقفها من النُّصح والتوجيه سواء لزوجها أو لأولادها. ...
ثانيًا: أن تَستعين بأهلها ـ بعد أن تُحولهم عن الموقف السلبيِّ ـ في إقناع الأولاد بأداء الصلاة وبقية العبادات.. وفي الضغط على الزوج لمصلحته ومصلحة الأسرة في ترْك الحشيش وبقية أنواع المُخدرات. ...
ثالثًا: أن تتوكَّل على الله وتستعينُ به في أداء رسالتها، فرِسالَتُها شاقَّة.. ولكن أجْرَها عند الله عظيمٌ.(/4)
129ـ تعرَّفْتُ على فتاة في العشرين من عمرها وأحببتها حبًّا شريفًا، ولكنَّ الشيطان رافقَنا. وسِرْنا معه إلى نهاية طريقه. ووقَعْنا في مأساة. وهى تنتظر وليدًا بعد أشهر قليلة. ورغم حبِّي لها فإنِّي مُرتَبِط مع ابنة عمٍّ لي عقدتُ معها خطبتي. فماذا أصنع؟
الجواب:
علامَ يسأل السائلُ هنا؟
أيسأل عن جريمة الزِّنا التي ارتكبها مع فتاة صغيرة غَرَّر بها؟
أم يسأل عن مستقبل الطِّفل غير الشرعي وهو الوليد المنتظَر بعد أشهر قليلة؟
أم يسأل عن مصير خطبته مع ابنة عمِّه التي ارتبط بها من قليل؟
أم يسأل عن زواجه بمَن غَرَّر بها، تستُّرًا على جريمته التي ارتكبها معها، مع ابنة عمِّه، تنفيذًا لما ارتبط به في أسرته، ويجمع بذلك بين الاثنين؟
أما جريمة الزِّنا ـ وهى جريمة اجتماعيّة أي تُصيب المجتمع كله في نظر الإسلام ـ فعقوبتها كما جاء في قوله تعالى: (الزَّانِيةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنينَ) (النور: 2).
أمَّا الوليد المنتظَر فهو من سِفاح، وليس من نِكاح. ولا يثبُت بالزِّنا نسَب، ولا إرث.
والخِطبة لابنة العمِّ أو لغيرها لا يثبُت بها زواج. إنما هي مقدِّمة لعقد زواج يقوم على الإيجاب والقَبول. ويجوز أن تنتهيَ إلى غير الزواج. والشأن هنا في الارتباط بخطبة ابنة العمِّ وتنفيذ هذا الارتباط يعود إلى الظروف الخاصة بالأسرة. وهو أمر يقدِّره السائل وتقدِّره أسرته معه أولاً وبالذات.
والجمع بين زوجتين في حياة زوجيّة واحدة، جوازُه يعود إلى الاستطاعة المادِّيّة في الإنفاق، وكذلك إلى استطاعة تحقيق "العدل" فيما بينهما. وهو عدل العواطف والإحساس قبل عدل القِسمة والتوزيع.(/1)
وبعد، فالشابُّ الذي يرتبط بخطبة ابنة عمِّه، ثم يتعرَّف على فتاة في سِنِّ العشرين فيخدَعُها ويُغرِّر بها ويضع مستقبلها كامرأة في الميزان، أليس هو شابًّا مستخِفًّا بالقِيَم الإنسانية، أو شابًّا أهوجَ وأحمق في تصرُّفاته، أو هو عديم الشعور بالمسؤولية الفرديّة.
إنّه في وصفه لا يخرُج عن واحدة من هذه الصِّفات على الأقل، إنْ لم يكن ممثلاً لها كلّها. والشيطان لم يجد إليه سبيلاً إلاّ بعد أن استخفَّ به، ولمس هوجَه، وتحقَّق من فقدان الشعور بالمسؤوليّة لديه.
إنَّ شيطان نفسه ليس بعيدًا عن الاستخفاف بالقِيَم، والحُمْق والهوَج في التصرُّف، وانعدام الشعور بالمسؤولية. إن هذه الصفات هي آثار الشيطان أو هي الشيطان على الحقيقة. (ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هُوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ) (القصص: 50).(/2)
99 ـ الإغراءات وأثَرُها على السلوك
فتاة من القاهرة تحكي أن عمرها الآن سبعةَ عشرَ عامًا، وأنها وقعت تحت تأثير الإغراءات المادية في الملبس والمَظهر، فاختلست من محلٍّ مُتواضع لأبيها هو عماد نشاطه في التجارة، ثمانية جنيهات، كي تَشتري بهذا المبلغ ما يجعلها ذات مَظهر حسنٍ بين صَديقاتها، كما تقول:
وبعد أن اختلست المبلغ تيقَّظ ضميرها فأنَّبها كثيرًا، ثم ساءت حالتها النفسية مِن كثرة ما تُفكر فيه مِن غضب الله عليها.
وتَقترح أن ترد المبلغ بعد أن تدخر الأربعة جنيهات التي أنفقتها منه.
وتسأل: هل سيُحاسبها الله على ما فعلت؟ وهل ما فعلتْه يُعَدُّ سرقةً؟
إن ما فعلتْه هذه الشابة في مُقتبل عمرها يُعدُّ من الظواهر السائدة الآن في مُجتمعاتنا الإسلامية المُعاصرة، بعد أن كادت المادية تَطغَى على اتجاه الحياة فيها، فالشابة ـ وكذلك الشاب ـ تقع تحت إغراء المَفاتن المادية، وتُحاول أن تُقلد صديقاتها أو زميلاتها في العمل أو في الدراسة: في الملبس وفي المظهر، رغم أنه ليس بيدها ما تُحقق به رغبتها، فتَعمد حينئذٍ إلى ما عَمدت إليه هذه السائلة هنا.. تَعمد إلى الاختلاس مِن مال أبيها أو أمها أو أخيها، وقد يكون المال رقيقًا، وقد يكون حال الأسرة في حاجة ماسَّة إلى القليل منه.
وقد تَنزلق في سبيل التقليد وتَحقيق رغباتها في المَظهر إلى ما تُسيء إليها وأسرتها معًا، ولكنه عامل التقليد وعامل الخُضوع إلى الإغراء بالمَظاهر الخادعة والبرَّاقة في حياة الناس اليوم.
وربما هذه الشابَّة السائلة من القليلات اللاتي لهنَّ ضمير يتيقظ ويُؤنب على الزَّلَّة قبل فوات الأوان، ومثل هذا الضمير يَحول دون استمرار مباشرة الخطأ، ويضع حدًّا فاصلاً بين خطأٍ ارتُكب فيما مضى، وعُدول عنه إلى ما يُرضي اللهَ في المستقبل.(/1)
ولذا فهي تذكر أنه ساءت حالتها النفسية لِمَا أوقعت فيه نفسَها مِن حرَج بين ما يُغضب الله والأهل مِن جانب وما يُلبِّي رغبتها في التقليد لزميلاتها على حساب أخلاقها ومُستقبلها مِن جانب آخر.
وإذْ تقترح أن ترد باقي المبلغ الذي اختلسته بالإضافة إلى الجزء الذي أنفقته بعد أن تدخره، فإن اقتراحها هذا يُؤكد براءتها النفسية وصدْقها مع نفسها وأسرتها وفي الوقت نفسه يُعبِّر عن تديُّنها ورُجوعها إلى الله.
أما أن الله سيُحاسبها على ما فعلت فالرأي أنها كانت مُندفعة تحت تأثير الاتجاه المادي في حياتنا الآن، فالشيطان كان وراء ما فعلتْ وليس شيطان الإنسان سِوى هواه ومال أبيها في المَحلِّ الذي يتَّجر فيه لم يكن في "حِرْزٍ" بالنسبة لها، كما يشترط الفقهاء في معنى السرقة، بل كان في مُتناول يَدِها وإخوتها.
فهو ما لا احتياط في حفظه، وإنما هو سائب بالنسبة للأسرة ويَرجع الأمر في حِفظه إلى الأمانة المتوفرة في كل فرد من أفرادها وهذه التي وقعت تحت تأثير الإغراء والتقليد وأخذت مِن مال أبيها ما أخذت.. هي أمينة في ذاتها، ولكنها كما ذكرت "اندفعت" وإنْ كان اندفاعها استمر عدَّة مرات في فترة طويلة.
ولكن ندَمها وتأْنيب ضميرها، وخوْفها من الله.. وإصرارها على ردِّ الجزء الباقي معها يَشفع لها خطأها عند الله، وعند الأسرة كذلك.
وحل مشكلتها: أن تُكاشف أباها وأسرتها بما فعلتْه، وأن تَعتذر عما وقعت فيه من خطأ، وأن ترد المبلغ الباقي معها وعلى الوالد أن يقبل اعتذارها، وأن يَعْفُوَ عنها، وأن يردَّ لها اعتبارها في الأسرة كعُضوٍ فيها.(/2)
وبذلك تكسب هُدوءها النفسي واطمئنانها، كما تتعلم مِن أن الوقوع تحت إغراء المَظاهر الخادعة قد يُؤدي إلى الانحراف عن السبيل السويِّ.. وقد يُؤدي إلى الضياع ويتعلم الوالد: أن يتحسَّس رغبات أولاده وبناته وأن يَستجيب لبَعضها في حدود إمكانياته المالية، ويُقنع مَن لا يستطيع الاستجابة لرغبته منهم بمنطق الواقع، ومشاركته في المسئولية والمشاركة في المسئولية هي أن يكشف لأولاده مدَى إمكانياته ويجعلهم أصحاب الرأي معه.
وهذه الطريقة تجعل من الأولاد فعْلاً حُرَّاسًا على مصلحة الأسرة ككل، كما تجعلهم يَزهَدون في كثير مِن مُتطلباتهم ويَعيشون عيشةً واقعية في دائرة إمكانياتهم، وهي الإمكانيات التي لدَى ذَوِيهِم وأهلهم.
إن الحياة المادية التي يَعيشها العالم اليوم تَهُزُّ الإنسان في خُلُقه. وقد تهزُّه في إيمانه، وحيرة الشباب الآن أنه لا يستطيع أن يُوائم بين ما يُطلب له في توجيهه توجيهًا سليمًا، وما يَضغط عليه في مُحيطه من مُغريات هذه الحياة المادية.
والواجب من جانب الأمهات والآباء أن يقفوا بجانب أبنائهم من الشباب والشابَّات ولا يتركوا لهم حَيْرتهم تصل بهم إلى اليأس، أو تدفعهم إلى الانزلاق، فإذا ما شرَح الآباء والأمهات للشباب والشابات: أن الإمكانيات المتاحة لهم لا تُساعد إلا على تربيتهم وإعدادهم للكفاح في أول درجة من درجات سُلَّم هذه الحياة وعليهم هم وَحدهم أن يَستقلُّوا لِيَحصلوا على إمكانيات جديدة وقد تكون وَفيرةً لَدَيْهم.(/3)
وعندئذ يكون الفضل في الحياة التي يتطلعون إليها: لهم وحدهم دون آبائهم وأمهاتهم، على أن الإمكانيات الجديدة لا تَصلح في ذاتها بغير إيمان بالله وبغير سلوك في طريقه فالإمكانيات المادية بغير قيم إنسانية ورُوحية لا تتحرك عندما يُطلب منها الحركة، وستظل بغير إرشاد وتوجيه حتى يدفعها الإيمان... إذا ما شرح الآباء والأمهات للشباب والشابات الحياة على هذا النحو أمكن لهم أن يُدركوا المشاكل، وإدراك أيِّ مُشكل والوقوف على مُحيطه مرحلةٌ من مراحل حَلِّهِ.(/4)
49ـ الزوج وماضي زوجته
السيدة السابقة، تُقدم أيضًا الرسالة الثانية التي وصَلتها ـ برُفقة الرسالة الأولى قبلها ـ مِن فتاة تُمارس "العادة السرية" في سِنٍّ مبكرة، وتطلب حُكم الإسلام في مُمارسة هذه العادة.. كما تطلب تنوير الفتيات، بوَجْه خاصٍّ في شأن "الحيض" وفي دلالة غِشاء "البكَارة" على احتفاظ البنت بشرفها فهي تقول: ...
إن الفتاة التي أرسلت إليها الرسالة الثانية عندما بلغت سِنَّ التاسعة أخذت تُمارس العادة السرية في صورٍ شتَّى "مع أخواتها البنات.. ومع أخيها الصغير وهو نائم.. ومع ابن الجيران وهو أصغر منها بتِسع سنين عندما بلغت الحادية عشرة.. ومع عروسة لها" واستمرت في مُمارسة هذه العادة إلى أن بلغت السادسة عشرة من عمرها، فساء أمرها مع الغريزة الجنسية/ وهي تُوشك الآن أن تتزوَّج رجلاً أحبَّتْه وقدَّرته، وتسأل السيدةُ صاحبةُ الرسالة على لسان هذه الفتاة:
هل عمليات الجراحة التي يقوم به بعض الأطباء رأفةً بحال تلك الفتيات اللاتي يَفتقدْنَ البكارة عن طريقها: حلالٌ أم حرام؟
هل هذه الفتاة تُصرِّح خطيبها بما لها من ماضٍ لا ترضَى عنه؟
هل العادة السرية لِواط؟
هل الحيْض مانع مِن اتِّصال المرأة بالرجل؟
ما مدلول غشاء "البكارة" بالنسبة لشرَف البنت؟
الفتاة التي تحكي عنها هنا صاحبة الرسالة وتقول عنها: إنها عملت ما عملت، وباشرت ما باشرت، مُنفردة أو مع غيرها تحت تأثير الجهل بوظائف أعضاء الجسم وبالأخص ما يتصل منها بالذكورة والأنوثة، والأسئلة التي جاءت في الرسالة تقصد بها صاحبتها ـ كما تقول أيضًا ـ تنوير الفتيات بشأن أنفسهن الخاصِّ بهنَّ حتى يُسايرن تعاليم الإسلام وتقاليد المجتمع الصحيحة.(/1)
والعمليات الجراحية التي يقوم بها بعض الأطباء، رأفةً بحال تلك الفتيات ويفتقدنَ عن طريقها البِكارة، وهي عملياتُ إسقاط الجنين في حمْلٍ به: إنْ كانت لدفْع خطرٍ يُحيط بصحَّة الحامل ولم تَدُبُّ في الجنينِ الحياةُ بعدُ فهي جائزة ومشروعة، وإنْ كانت بعد أن دبَّتْ فيه الحياة فهي قتْلٌ للجنين، وهو حرامٌ، وإن كانت لإنقاذ سُمعة الفتاة والتستر على عرْضها فقط، فهي مُشاركة في تسير ارتكاب الفاحشة، وذلك أمرٌ مُنكر لا يُقرُّه الإسلام.
وتصريح الفتاة لخَطيبها في المستقبل لا أدري إنْ كان يُسيء إليها في تصوره وفي نظرته إلى ماضيها أم لا؟ ولكن الأمر الذي يجب أن يتمَّ هو أن تعود إلى الله وحده وتتوب إليه توبةً نصوحة. فإن القرآن الكريم لم يجعل لأحدٍ سبيلاً على أحد في غُفران الذنوب، سوى الله ـ جلَّت قدرته ـ يقول الله ـ جل شأنه ـ: (وإذا جاءكَ الذينَ يُؤمنونَ بآياتِنا فقُلْ سلامٌ عليكمْ كتَبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أنه من عمل منكم سوءًا بجهالةٍ ثُمَّ تابَ من بعده وأصلح فإنه غفورٌ رحيمٌ). (الأنعام :54).. كما يقول: (فمَن تابَ مِن بعدِ ظُلْمهِ وأصلَحَ فإنَّ اللهَ يتوبُ عليهِ). (المائدة: 39).. فالله هنا يكفل غُفران الذنب لمَن عمِله بجهالةٍ ثم عاد إلى الله تائبًا مستغفرًا إيَّاه.. وكذلك يَغفره لمن ظلَم نفسه بارتكاب السوء أو الفاحشة ثم اسْتقام أمْره بعد ذلك تائبًا إلى الله.(/2)
والعادة السرية هي طريقٌ غير مشروعه يسلكه الشابُّ أو الشابة في سِنِّ المراهقة للتنفيس عن الغريزة الجنسية. وهي بين الفتيات أشبَهُ بالسُّحاق بين النساء. ويرى بعض المُفسرين في قول الله ـ تعالى ـ: (واللاتِي يآتينَ الفاحشةَ مِن نِسائكمْ "جاء في شأن السحاق" فاسْتَشهدُوا عليهنَّ أربعةً مِنكمْ فإنْ شَهِدُوا فأَمْسِكُوهُنَّ في البُيوتِ حتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الموتُ أو يَجعلُ اللهُ لهنَّ سَبِيلًا). "بالزواج مثلاً" (النساء:15).. كما يرى عُقوبته في حبْس مَن تُباشره طُول حياتها في المنزل إلا أن يشاء الله فيَتوفَّاها الموت.. أو تتزوَّج. ...
... والذينَ يُؤيدون ما يُسمَّى "بثورة الجنس" من الكُتَّابِ يُبررون المسلك غير الطبيعي في التنفيس عن الغريزة الجنسية، سواء بالسُّحاق بين النساء، أو باللِّواط بين الرجال أو بالعادة السرية. ولكن الإسلام لا يَرى طريقًا مَشروعًا وطبيعيًّا إلا صلة الرجل بالمرأة في علاقةٍ زوجية. ومهما قيل من الإنسان في تبرير السُّحاق.. واللواط.. والعادة السرية بين الجنسينِ، فإنه لا يُزيل الكراهة، والبُغْض، والوِزر فيها، عندما سمَّاها الإسلام فاحشةً ونبَّه إلى ترْكها وتَجنُّبِها. فالله وحده يعلم مَضارَّها اجتماعيًّا، ونفسيًّا وصحيًّا على الإنسان. ولن يبلغ الإنسان منزلةً في العلم والإحاطة مثل ما لله ـ سبحانه وتعالى.(/3)
أما الحيْض وأثاره.. فقد جاء في قوله ـ تعالى ـ: (ويَسألُونكَ عنِ المَحيضِ قُلْ هو أذًى فاعْتزلُوا النساءَ في المَحيضِ ولا تَقْرَبُوهنَّ حتَّى يَطْهُرْنَ فإنْ تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ مِن حيثُ أمَرَكُمُ اللهُ إنَّ اللهَ يُحبُّ التَّوَّابِينَ ويُحبُّ المُتطهِّرينَ نِساؤُكمْ حَرْثٌ لكمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنَّي شِئْتُمْ). (البقرة: 222ـ 223) .. ...
والأمر باعتزال النساء في المَحيض دليل على ضرَر الحيْض على الرجل والمرأة معًا، والتعبير في الآية(بالحرْث) (تحديدٌ للمكانِ المباح .. والمكان الآخر غير المباح، حتى لا يَضِلُّ مسلمٌ في موْجة الانحراف التي تدعو للشذوذ والاعْوجاج.
وغشاء البِكارة هو مِن صُنْع الخالِق ـ سبحانه وتعالى ـ للتمييز بين البكْر والثيِّب، وتعمل الإباحية، والمادية، وثورة الجنْس جاهدةً على التقليل من شأن الاحتفاظ بالبِكارة، إذْ تدعو إلى التجربة الجنسية قبل الزواج؛ لأن فُحولة الرجل كما يُدَّعَى: هي العاصم مُستقبلاً من فشَل الزواج.. وأين أخلاق الرجل؟.. وأين حُسن تهذيبه ومُعاملته؟.. وأين طاقاته على السعْي في سبيل العيش؟.. وأين قدراته على الحفاظ والحماية للأسرة؟ وأين رجولته ومَروءته؟.. كل ذلك وما أشبهه تدفع به المادية خلْف "الجنْس" الذي تقتحم به مجال الشباب في سِنِّ المُراهقة، بمثل هذا الادِّعاء.(/4)
149ـ من صور الحضارة المستوردة:
حضر إلى منزلي ذات مساءٍ زوج هو أبٌ يتجاوز سِنُّه الخمسين من العمر، يسألني رأي الإسلام فيما قصَّه عليَّ، وقد قصَّ أنه تأكَّد لدَيه أن زوجته لها علاقة جنسية غير شرعيَّة بابنٍ لهما، وإنها بعد أن انتقلت في المنزل فترةً من الزمن إلى غُرفة ابنها تنام معه في فراشٍ واحد، تركت المنزل هاجرةً زوجها مع ابنها الحبيب، وشاركت ابنتها المُتزوجة مَسكنها الخاص بها.
ويَسأل مُواطن مِن إحدى القرى عن رأي الإسلام فيمَا رآه ابنه مِن أن خطيب أُخته مُتلبِّسًا بفعل شائنٍ مع أمه في الممرِّ المُوصِّل إلى دورة المياه، ويَصِفُ أن هذا الذي وقَع بين خطيب ابنته وزوجته سبَّبَ له بجانب الفضيحة في القرية كلها مَشاكلَ هي نكَبات له.
ويذكر مُواطن آخر أن إحدى قريباته مِن السيدات تبيع جِسْمَها بالثمن للعرَب، مع أنها ثَرِيَّة جِدًّا جدًّا، ومتعلمة، ولكنها تحب المال كثيرًا هي وأمها، وقد عمل المستحيل ـ كما يَروي ـ بالقوة والهدوء، ولم يَنجح معها، وهو يسأل الآن:
هل يُبلغ شرطة الآداب؟ ولكنه يتردَّد في هذا الإجراء، خشْيةً على زوجته وأولاده.
... ويسأل تلميذانِ بالصف الثاني بإحدى المدارس الثانوية عن حكم الإسلام في زوج يدفع زوجته إلى المعاشرة غير الشرعية مع رجال أجانب، قصْدًا إلى الربْح الماديِّ، ويُساعدها على مباشرة اقتراف جريمة الزنا ويُتيح لها كل الفرص لمُباشرتها.
أربعة أسئلة:
( أ ) هذه أم زوجة تَنتهك حُرمة الأُمومة، والزوجية لتَستمتع بشباب ابنها.
(ب) وهذا رجل ينتهك حُرمة حماته وأم زوجته مستقبلاً، والحماة تنتهك حرمة زوجها وتذهب بشرَف ابنتها وكرامتها ومُستقبلها.
(ج) وهذه سيدة ثرية ومتعلمة ـ كما يقال ـ يَطغَى عليها حب المال وجمعه فتطغى به على كل القيم الإنسانية: على العِفَّة، على الكرامة الإنسانية، على الاستقامة والشرف، على حُسن السُّمعة في المحيط الذي تعيش فيه وفي الأسرة التي تَنتسب إليها.(/1)
( د ) وهذا زوجٌ يُهيئُ الفرصة لزوجته لتُعاشر الرجال غيره مُعاشرةً جنسية، وتجمع له المال، وفي سبيل جمعها للمال، يَهدر كرامتها كإنسان، ويَبيع منها ما لا تستمتع به، وما قد يُعرِّضها لأمراضٍ خبيثة قلَّما تنجو منها.
وهذه الأسئلة الأربعة تُعبِّر عن عدة ظواهر في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة وهي ظاهرة: دينية، واجتماعية، ونفسية.
... هذه الأسئلة تعبر أولاً عن ظاهر ضعف التديُّن، وضعف سلطان الدين على النفوس، فليس هنا وزن ولا قيمة ولا حُرمة لأمومة الأم عندما تُغري الأم ابنها وتُعاشره مُعاشرةً جنسية للاستمتاع بشبابه، وفي غير خَفاء وليس هناك وزْن ولا قيمة ولا حرمة لبنوة الابن لأمه، عندما تحمله غريزته الجنسية على أن يعاشرها في فِراشه، كما كان أبوه يُعاشرها، وليس هناك وزن لبنوة الابن لأبيه، عندما يصدمه في زوجته، وهي أمه فيخلعها منه، ويَنتقل بها إلى فراشه في مسكن آخر، هو مسكن أخته وزوجها.
... والإسلام في تحريم الزواج بالأم، فضْلاً عن الزنا بالأم: (حُرِّمَتْ عليكمْ أُمَّهَاتُكُمْ). (النساء: 23)، وفي تحريم الزواج بزوجة الأب، وطبعًا لغير ابنها من أبنائه هو فضلاً عن الزنا بها يقول: (ولا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كانَ فَاحِشَةً ومَقْتًا وسَاءَ سَبِيلًا). (النساء: 22)،
... ويتحول الوضع في المجتمع في وقتنا الحاضر فيسعى الابن إلى أن تكون أمه عَشيقتُه، وتسعى الأم إلى أن تكون عشيقة ابنها، في مُواجهة زوجها ووالده، وبِعلْم إخوته وأولادها الآخرينَ.(/2)
هذه الأسئلة تعبر مرة ثانية عن تفكُّك الأسرة في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، فلم يعُدْ النَّسَبُ، ولا المصاهرة برباطٍ فيها، أيُّ رباط في الأسرة يبقى بعد أن تُسلم أم الزوجة المُقبلة نفسها لخطيب ابنتها في الممر الموصل إلى دورة المياه؟ أيُّ تصوُّر يتولد عند ابنها مِن وضْعها الشائن بعد أن كشَف عنه وأبلغ به والده وأقاربه في الأسرة؟ ألِهذه الأم، والزوجة، بعد أن أضحت عشيقةَ خطيبِ ابنتها : بقيَّة مِن حُرمة، وكرامة وشرَف في نفس عشيقها، وفي نفس ابنها، وفي نفس ابنتها، وفي نفس زوجها ورب الأسرة؟
... إن أمًّا وزوجة تفعل الفاحشة والمنكر مع ابنها الذي ولَدَتْهُ وأرْضَعتْه ، وإنَّ أُمًّا وزوجة تفعل الفاحشة مع خطيب ابنتها ـ وهي ستكون بمَثابة أمِّه وفي منزلتها ـ ماذا تفعل إذَن الأُخت مع أخيها، أو مع أختها الأخرى؟(/3)
وهذه الأسئلة تُعبِّر مرةً ثالثة عن المادية، أيْ طغيان المُتَع المادية، المتَع البدنية، والجسدية، والشهوية، كما تُعبر عن المادية في المال وهي طغيان الشَّرِه في السعْي إليه وجمعه. ... ...
أليس هنا في سبيل المُتعة البدنية تهجر الزوجة زوجها، وتسعى إلى أن تعيش في حضن ابنها، وفي فراشه؟ أو تسعى إلى أن تستمتع بخطيب ابنتها قبل أن تستمتع البنت به، وتعتدي بذلك على حق الزوج القائم، والزوج المُقبل؟ وتفسد كذلك حياة الابن، وحياة البنت، كما تفسد الأسرة كلها؟ ...
... وأليس في سبيل جمع المال تَخرج المرأة الثرية، والمتعلمة، كما تخرج الزوجة بحَمْل زوجها إيَّاها على الخروج، للقاء مَن لا تُحبه وإنِ اصطنعت له الحب، وتُعطيه مِن نفسها وأسرارها ما شاء، مُقابل أن تُعطَى منه المال الذي تَشترطه؟
إن التي تبيع بدنها مقابل المال لا تستمتع بالبدَن، ولا تستمتع بالمال، كما لا تستمتع بمستوى الإنسان في إنسانيته، إنها مُهانة ذليلة مِن نفسها ومِن الآخرين، لا تَستمتع بالبدَن لأن الأمر لدَيها، أصبح عادةً، وعادةً كريهة في كثير من الأحوال، أما المال فإنها إنْ نظرت إليه تذكرت "السلعة" التي تَعرضها على مَن يحتقرها وإنْ قبَّلها عندما يُبادلها البيع والشراء.
... ومن أجل دفْع المذلة والهوان، ومِن أجل احتفاظ الإنسان بكرامته، واحتفاظ المرأة بحُريتها، حرَّم الإسلام الفواحش، وفي مُقدمتها: الزنا، ومِن أجل المتعة لذات المتعة أباح الإسلام الاستمتاع بالطيبات، ونهى فقط عن الإسراف في الاستمتاع بها:
( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عندَ كلِّ مَسجدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المسرفين). (الأعراف: 31)، رسالة الإسلام تَحرص على أن يظل الإنسان في مُستواه الإنساني: لا يَسقط عنه بالمَذلة والمَهانة، ولذا يُطارد "المادية" أو الطغيان بالمتعة والمال:(/4)
(واتْلُ عليهمْ نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا "والآيات هي هداية الله" فانْسَلَخَ مِنْهَا "أيْ بعُدَ عنها" فاتْبَعَهُ الشيطانُ فكانَ مِنَ الغَاوِينَ "أيْ المنحرفين عن هداية الله" ولوْ شِئْنَا لرَفَعْنَاهُ بِهَا "أي لعلَونا به في مستوى الإنسانية" ولكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرضِ "نزَل إلى الدنيا والفواحش" واتَّبَعَ هَوَاهُ "في الاستمتاع بالمتع المادية وفي جمع المال، وعصبية الأولاد" فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلْبِ إنْ تَحْمِلْ عليهِ يَلْهَثُ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَثُ). "فهو يلهث في كلتَا الحالتينِ أيْ هو تَعِبٌ دائمًا سواء في حال اليُسر أو حال العُسر؛ لأنه لم يَتَّبع الطريق السويَّ). ( الأعراف: 175-176).
... ونحن في إجابتنا على الأسئلة الأربعة نَستنكر باسم الإسلام ما آل إليه طغيان المادية في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، وندعو إلى هداية الدين، فإنها وحدها هي التي تَفصل بين طريق الحيوان وطريق الإنسان.
... أما الفقه الإسلامي فيَرى إنْ كانت تُطبّق الشريعة الإسلامية: قتْل مَن عاشَرَ أمَّه مُعاشرةً جنسية، استنادًا إلى حديث شريف: "ومَن وقَعَ على ذاتِ مَحرمٍ فَاقْتُلُوهُ". ويُعتبر مَن عداه زُناةً، يُقام عليهم الحدُّ، كما نُذكِّر بقول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّ مِن أزواجِكمْ وأولادِكمْ عَدُوًّا لكمْ فَاحْذَرُوهُمْ). (التغابن: 14)، إذْ هنا كانت الزوجة عدوة لزوجها، والزوج عدوًّا لزوجته، وكان الولد نسَبًا عدُوًّا لأبيه، والولد مُصاهرة عدوًّا، أيضًا لأبيه في المُصاهرة.
158ـ مشكلة "ما يطلبه المُستمعون"(/5)
من إحدى الأخوات في الإيمان تقول إنها في إجازةٍ الآن مِن العمل لرعاية صغيرها، وإنها لاحظت عند سماع الإذاعة أن ثلاث أُغنيات جاءت على فترات في أسبوع واحد في برنامج "ما يطلبه المستمعون" وذكرت مذيعة البرنامج أن هذه الأغنيات الثلاث بناءً على طلب والد السائلة وزميل لها في العمل. ...
وكلمات هذه الأغنيات: "إنني أتعذَّب في حبه، وكنت أتمناه هو، وكنت بَدَاري في قلبي طول الفترة السابقة حتى أثَّر ذلك على صحتي ومرضت الآن لذلك السبب" وجاءت هذه الأغنيات على فترات، ويوم الجمعة بالذات حتى يسمعها الزميل في المكتب؛ لأنها تعرف عادته.
وتقصد السائلة أن ذِكْر اسم والدها على لسان مذيعة البرنامج هو ذِكْر غير مباشر لاسمها هي، وكأن هذه الأغنيات الثلاث تَعبير عن علاقة الحب المُدَّعَى بينها وبين زميلها في المكتب الذي ذكر اسمَه كذلك مُقترنًا باسم والدها.
... ثم تستطرد السائلة فتقول: إنها متأكدة أن الذي فعل ذلك واتصل ببرنامج "ما يطلبه المستمعون" لإذاعة هذه الأغنيات هو زميل ثانٍ لها في العمل يُريد الكيْد، واللبْس في علاقتها مع الزميل الأول.
... وتذكر أنه مِن المؤسف أن الزميل الأول ظنَّ أن هذا الطلب صحيح منِّي وأني قصدت أن أُناجيه عن طريق هذه الأغنيات، فطلب هو بدوره مِن البرنامج باسمه أغنيات أخرى تعبر عن مدَى مَعزَّته لِي، وعن تمنياته لسعادتي ما دام هذا نَصيب، وليس بيده شيء، وما زال يطلب أغاني من هذا اللون.
... وهي مُتزوجة وتذكر أنها كانت لا تتمنَّى زوجًا غير زوجها الحالي، وأن هذا الصنيع قبيح في موضوعه وفي أسلوبه وترجو أن يُذيع المُجيب رأيه في هذا الموضوع حتى يتحقَّق زميل السائلة في العمل أنها لم تكن طرَفًا في هذا اللبس لحظةً ما، وأن ما ظنه غير صحيح، وترجو أن يكون توضيح الأمر: حَدًّا لهذه المأساة التي تنال منها كل لحظة تسمع فيها هذه الأغنيات.(/6)
يُفهم من رسالة السائلة: أن هناك إنسانًا ما يحقد عليها، وربما على صلتها البريئة ـ كما تذكر السائلة ـ بزميلها في العمل، وانتهزَ فرصة قيامها بأجازة طويلة لرعاية صغيرها، وتآمر عليها ليُسيء في الدرجة الأولى إلى علاقتها بزوجها.
... فاتصل في الإذاعة ببرنامج "ما يطلبه المستمعون" وطلب الأغنيات التي تُعبر عن عواطف الحبيبة إلى محبوبها وعن خيْبة أملها في الوصول إليه، وذكَر اسم والدها ـ وهو الاسم غير الصريح لها ـ على أن يوجه الأغنية إلى زميلها الذي ذكَر اسمه أيضًا. وطبعًا عندما يسمع الزميل مثل هذه الأغنية يظنُّ أنها بناء على طلبها، وهي في إجازة بعيدة عنه الآن، وبناءً على هذا الظنِّ يُجيبها عن طريق الإذاعة أيضًا بطلب أغنية في برنامج "ما يطلبه المستمعون" أيضًا تُعبر عن التقدير والحب، وتَسند عدم اللقاء بينهما إلى القدَر والنصيب، ولذا يتمنَّى لها السعادة في وضْعها الحاضر.
... ولولا ذكر اسم والدها بين الأسماء في برنامج ما يطلبه المستمعون لمَا كُشف الأمر في صلتها بزميلها ولبقِي في دائرة الاحتمال وحده.
والشخص الذي دبَّر هذا اللبْس في علاقة السائلة بزميلها في العمل، وبزوجها إن عرف عنه شيئًا: لا يستحق الاحترام، فهو يَشِي بين الناس بما يُسيئ، وبما يجعل بعضهم كارهًا للآخر. وهو وإنْ كان يُلام على ذلك فبرنامج "ما يطلبه المستمعون" يُلام أكثر، وأكثر:
( أ ) فأية فائدة تعود على المستمعين ككلٍّ، مِن ذكر هذه الأسماء العديدة التي تُسرع مذيعة البرنامج في سرْدها في لغْو وثرثرة.
(ب) أهي شَغْلُ فراغٍ لدَى المستمعين لا يَستطيع جهاز الإذاعة، أو التلفزيون أن يملأه بما يُفيد ويُثمر؟.
(ج) أم أن ذكر الأسماء هو تشجيع للطلب من المستمعين وبالتالي على عمل البرنامج؟(/7)
( د) وما معنى أن تذكر المذيعة: أن فلانًا يطلب أغنية معينة ويُوجهها إلى فلان أو فلانة؟ وقد رأينا الآن أن هذا أمرٌ قد ينطوي على الكيْد والإساءة إلى مَن ليست لهم صلة بالأغنية المطلوبة.
إنه من الأسف الشديد: أن يكون ذكْر الأسماء في برنامج: "يَطلبه المستمعون" مَضيعةً للوقت، واستهانةً بالمستمعين أو المشاهدين، وتحريضًا للشباب على طلب ما لا يصحُّ أن يُسمع وما لا ينبغي أن يُشاهد،وتوجيهًا رخيصًا لهم، وليس ذلك إسهامٌ الإذاعة والتلفزيون في توجيه الشباب توجيهًا جِدِّيًّا، والإذاعة والتلفزيون عن طريق برنامج: "ما يطلبه المستمعون" على هذا النحو بريدٌ "حاكٍ" للعواطف المتبادلة بين أفراد مُعينين، وفي الوقت نفسه قد يكون مصدرًا للوِشاية، ولسُوء الظن على الأقل إذا استغله مَن لا ضمير له للكيْد أو الانتقام، كما نرى الآن فيما تحكيه السائلة.
على أنه هناك تساؤل وراء ذلك يُوضع أمام السائلة، أليست هناك صِلة نفسيَّة ـ أية صلة ـ لم يُكشف عنها مِن قبلُ بين السائلة، وذلك الزميل التي تقول عنه، إنني كنت أحترمُه، وأُعزُّه في الله، ولا غرَض مِن وراء مَعزَّتي له" ، وهو الزميل الذي ردَّ على أغنيةٍ بأغنية أخرى يُسلم فيها الأمر للقدَر؟
يبدو أن هناك أمرًا ما يَنُمُّ عن هذه الصلة الخفية ويَعرفها الزميل الثاني الذي تدخَّل بالإساءة بينهما، عن طريق تبادُل الأغاني في برنامج "ما يطلبه المستمعون"، وإلا كيف يجرؤ هذا الإنسان على التدخُّل في العلاقة بين الاثنين، إذا لم يكن يعرف: أنه ستكون هناك استجابة من زميلها المحترم، واستجابةً فورية؟(/8)
... إنَّ حديث السيدة السائلة عن زميلها كما تحدثت عنه: مِن احترامه، ومَعزَّته،الخ ثم حديثها في آخر الرسالة عن زوجها بأنها كانت لا تَتمنَّى غيره زوجًا لها، ربما يَفهم منها القارئ للرسالة: أنها تَدفع بهما شُبهةً ما في علاقتها بهما، وهذه أمارةٌ تجعلنا نُوجِّهُ النُّصح لها بالحذَر إذا ما اضطرها العمل خارج المنزل إلى الاختلاط بالأجانب، كما هو حالها الآن، فالإسلام إذْ يُحرِّم السفور والاختلاط بغير المَحارم: يُحرُّمه وِقايةً للمرأة من الزلَل والانزلاق؛ إذ مهما كانت إرادة المرأة صُلبة، ومهما كان عزْمها قويًّا على المحافظة على كرامتها: فإنها قوة العاطفة لدَيها، بالإغراء أو بالثناء تُيَسِّر منفذًا إلي قلبها، فيَلِينُ الصُّلْب. وتضعف القوة، ويَتراجعُ المَنطقُ.
161ـ أثَر الحضارة الغربية في مفاهيم الأسرة المسلمة:
كتبت مواطنة من محافظة القاهرة تقول إنها الآن طالبة في المرحلة الثانوية التجارية، ومنذ فترة لا تزيد على سِتِّ سنواتٍ تعرَّفتْ على شابٍّ على خُلُقٍ.. وأنه يُواظب على أداء الصلاة في أوقاتها.. واتَّفقت معه على أن تتزوَّجه، بعد انتهاء كلٍّ منهما من المرحلة الدراسية، وقد انتهى هو مِن الدراسة ويُؤدي خدمة الجيش، وتسأل:
ـ هل هذا حرام؟ وما حُكم الإسلام في هذا الموقف؟
ـ كما تسأل عن معنى "الجنةُ تحتَ أقدامِ الأُمهاتِ". رغم أن كثير مِن الأمهات ـ كما تقول ـ يُفرِّطْنَ في حق الله ـ تعالى ـ مثل الصلاة، ويرتكبْن كثيرًا مِن المَعاصي، فهل مثلهنَّ يَدخلْنَ الجنة؟ ثم تختم رسالتها بأنها مُحجبة.
الأخت السائلة والمتحجبة الآن تعرَّفت على شاب منذ سنوات، واتفقت معه على الزواج بعد انتهاء كلٍّ منهما مِن المرحلة التي هو فيها.(/9)
أولاً: كيف تعرَّفت به؟ وكيف كانت تلتقي به في هذه الفترة الطويلة؟ أكان عند تعرُّفهما، ثم عند كل لقاء بينهما طوال الست سنوات ذو مَحرم لها؟ أبَاشرت بنفسها الخِطبة، واتفقت معه على الزواج؟
والجواب على هذه الأسئلة كلها، كما يُستفاد من رسالتها: أنها تعرفت عليه والْتقت به، وتلتقي به طوال هذه المدة مِن غير ذي مَحرم لها، وهذا النحو مِن السلوك يُحرمه الإسلام، فقد جاء في حديث صحيح قول الرسول ـ عليه السلام ـ "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا ومَعهما ذُو مَحْرَمٍ). فاختلاط الرجال غير المحارم بالنساء ـ وهو ما يُسمَّى بالسفور ـ يرى فيه الإسلام مَصدرًا للعبَث بين الطرفينِ، ولذا عمل المرأة خارج المنزل لا ضرر فيه إلا إذا انطوي على الاختلاط بغير ذي مَحرم.
والأخت السائلة وهي محجبة الآن ـ كما تقول ـ لم تكن مُتحجبة لحظة من اللحظات التي الْتقت وتلتقي فيها بخَطيبها، طالما كانت تُبيح لنفسها الاختلاط بأجنبيٍّ عنها، فهذا الخاطب لم يَزل أجنبيًّا بالنسبة لها، مهما اتَّفقَا على الزواج، ومهما طالت فترة الخُطوبة بينهما، وهي سافرة وليست مُتحجبة، إذِ الحجاب مقابل السفور في المعنى، والسُّفور هو اختلاط المرأة بغير ذي مَحرم: في العمل.. في الحديث.. في النوادي.. الخ.(/10)
وثانيًا: كيف تصف خطيبها بأنه شابٌّ على خُلق.. ويواظب على أداء الصلاة في أوقاتها وهو يَلتقي بها على انْفراد، وربما هو الذي يدفعها إلى اللقاء؟ إن المواظبة على أداء الصلاة في أوقاتها ـ لو كانت صلاةً لله حقًّا ـ لحالت دون وُقوع المُنكر مِن المُواظب عليها، واختلاط الرجل بأجنبية عنه مِن غير ذي مَحرم: مُنكر قطْعًا، وغايةُ الصلاة: أن تنهَى عن الفحشاء والمنكر معًا.. إذا تحقَّق فيها خُشوع الإنسان للمولَى ـ جل جلاله. ...
والشاب صاحب الخُلق الطيب ـ إذا كان صاحب خُلق طيِّب حقًّا ـ لا يتقدم لخِطبة فتاة إلا وهي بين أهلها وأُسرتها، ولا يَنفرد بها ويُوقعها تحت الإغْراء، والآمال التي قد تكون كاذبةً. ... الشاب المتديِّن حقًّا.. والفتاة المتحجبة على أساس إسلامي مقياس صلاحيتهما في نظر الإسلام: اتباعٌ لتعاليمه.. وليس انصرافهما عن هذه التعاليم، واتباع عادات غير إسلامية، على نحو ما سارَا هما عليه هنا في تعرُّف ببعضهما ببعض، وفي اتفاقهما على الزواج فيما بينهما خاصة، وفي اللقاءات المُتكرِّرة وهما أجنبيانِ عن بعضهما، وأن ما اتَّبعاه ظاهرة من ظواهر المادية الطاغية في حياة الإنسان المعاصر، فالفتاة في الغرب أو في الشرق قد تتعرف على الشاب: في مَصنع.. أو في مكتب.. أو في مَرْقص.. أو في الشارع، ومتى بلغت السادسةَ عشر مِن عمرها قد تختار السُّكْنَى معه في حجرته التي يَسكن فيها، أو في حُجرتها التي تَستأجرها، لفترة تطول وتقصر، وقد يَتَّفقَا على الخطوبة فيما بينهما، كما قد يتفقا على الزواج، وفي حالات كثيرة ينفصل أحدهما عن الآخر لسببٍ من الأسباب، وبعد الانفصال قد يَبتدئ كلٌّ منهما الدورة مِن جديد مع شخص أو أشخاص عديدينَ، وربما تنتهي حياتها مُتنقلة وغير مُستقرة في أسرة خاصة. ...
والفتاة هناك في تعرُّفها بالشباب.. وفي لقاءاتها المتكررة لهم: تَخْسر الكثير مِن كرامتها، وحيائها، وكِبريائها، وتَخسر أكثر مِن ذلك(/11)
كله، إذا شاركت في السكنَى والإنْفاق.
و "الجنة تحت أقدام الأمهات": ليست آية من القرآن الكريم كما تقول الأخت المتحجبة، ولم يصح كذلك أنه حديث.. وربما هو قول مأثور يَستهدف الحقَّ على تكريم الأمهات مِن أبنائهنَّ، ولو كُنَّ غير مُؤمنات، ومن الأحاديث الصحيحة في الحثِّ على تكريم الأمهات ورعايتهم، والإحسان إليهنَّ بالقول.. والعمل.. والعاطفة، ما يُروى عن أبي هريرة من قول الرسول ـ عليه السلام ـ : "قال رجل يا رسول الله: مَن أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك.. ثم أمك.. ثم أمك.. ثم أبوك.. ثم أدْناك فأدناكَ) .. فابتدأ بالأم.. وكرَّر الأمر بشأنها ثلاث مرات، مما يدلُّ على العناية بها والاعتراف بالدور الرئيسي الذي تقوم به في الأسرة: إنْ في تكوينها، وتربيتها، وتطويرها، والأم تستحق ذلك، وإن لم تكن مؤمنة، فما جاء في وصية لُقمان لابنه في القرآن الكريم: "ووَصَّيْنَا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أمُّهُ وَهْنًا علَى وَهْنٍ وفِصَالُهُ في عامَيْنِ أنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إليَّ المَصِيرُ).(لقمان: 14). من العناية بالأم خاصة، عن طريق إبراز دورها في الأولاد: عامٌّ لجميع الأمهات، وإنْ لم يَكُنَّ مؤمنات.
... والأبناء مُطالبون فقط بشيء واحد: أن لا يُطيعوا الوالدينِ فيما يُوجهانهم إليه مِن شِرْكٍ وكُفْرٍ بالله: (وإنْ جَاهَدَاكَ علَى أنْ تُشْرِكَ بِي مَا ليسَ لكَ بهِ عِلْمٌ فلَا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا في الدُّنيَا مَعْروفًا). (لقمان: 15).. ورغم الأمر في الآية بعدم الطاعة لهما في حال طلب الشِّرْك منه، فإن الآية ذاتها تطلب مُصاحبتهما بالمعروف طوال حياتهما في الدنيا، ومعنى مصاحبتهما بالمعروف تقديم كل عوْنٍ وكلِّ رِعاية لهما.(/12)
142 ـ ما نصيحتكم للشباب المسلم؟.
الجواب:
لا أريد أن أقول للشباب افعلوا ما تشاءُون. ولكم رأيكم. ولكم حُرِّيتكم في عدم طاعتكم للجيل السابق. فأنتم تُنسَبون إلى جيل آخر، وستحملون مسؤولية المجتمع في غدِكم.. وعلى هذا النحو من النصائح؛ لأني لو قلت لهم ذلك لَكُنْتُ مُغَرِّرًا بهم.. وخادعًا إيّاهم ـ أو متملِّقا لهم.. أو حريصًا على تحمُّسهم لرأيي.
إنّ الشباب في دَوْر التكوين، وفي دور التجربة. وهى تجربة الحياة ذاتها.. تجربة تحمُّل المسؤولية في الغد.. تجربة مواجَهة الأزمات والمشاكل. ولو فعل ما يشاء الآن لاصطدم بوضع الحياة بعد الآن؛ لأن حركة الحياة في المجتمع لا يحرِّكها واحد؛ ولأن مجال العمل فيه لكل قادر على العمل من أفراده. وإذن مشيئة الفرد وحده قد تتعطل بمشيئة الآخرين. وهنا يكون مَن تعود على أن يفعل ما يشاء.. غير قادر على أن يفعل شيئًا إزاء اصطدامه بمشيئة الآخرين.
ومَن يرفض الطاعة رفضًا مُطلَقًا لنصيحة المتقدِّمين عليه في الجيل: قد يرفض رأيًا منهم على تجربه واعية، ربَّما لا يمُرُّ بها. ولكنه إذا تعوَّد على النظر فيها، ربما يُدرك الخطأ والصواب في حياته.. وربَّما يتجنَّب بالتالي ضرَر الخطأ، ويحصل على نفع الصواب. وبذلك ينشأ على النظر في الأمور، كما ينشأ من قبل على التمهُّل في تنفيذ ما يريد. والأمر الأول من شأنه أن يُبعده عن الحمق في الحكم. بينما الأمر الثاني من شأنه أن يُبعده عن الاصطدام بالآخرين معه.
وتعوُّد النظر في الأمور، والتمهُّل في تنفيذ ما يريد الإنسان، هما خير ما يجب أن يخرج بهما الشباب من تجربة الحياة.(/1)
ولذا أُوصيه ـ لكي يخرج بهذين الجانبين من تجربة حياته ـ بأداء الصلاة والصيام. وأدائهما في إمكان كل شاب. إذ أداء الصلاة سيُصفِّي نفسه من الحقد، أو يُضعفه فيها على الأقل. وبعدم تحكُّم الحقد في نفس الإنسان يتعلَّم النظر في الأمور نظرة خالية من الدوافع اللاشعوريّة التي يرسِّبها عادة في أعماق النفس الغُرور، والحقد على الآخرين. وذلك بالإضافة إلى سَعة نفسه في قَبول الآخرين معه في المجتمع، واستقامته في السلوك.
أما الصوم فيتعلّم منه الصبر والتحمُّل.. والعزم والإرادة القويّة. فإذا انتفع بالصوم على هذا.. تعلَّم التريُّثَ والتمهُّل في تنفيذ ما يريد، أو في مواجهته للأزمات والمشاكل.
إن حياة الشاب في شبابه، تقوم على الأمل أكثر ممَّا تقوم على الواقع. وفيها مُتعة الخيال والتصور، أكثر من مرارة الخيال والواقع. ومرَح الشباب هو مرَح أمل وخيال. وله من عدم شعوره بالمسؤولية، ومن تبعيَّته لغيره في الكَفالة ما يساعده على استغراقه في مرح شبابه.
ولذا إذا لم يتعلَّم عن طريق الصلاة النَّظرَ في الأمور بعين خالية من غرور الأنانية.. كما يتعلَّم من الصوم الصبر والإرادة القَوِيّة فإنه سينتقل فجأة في تطور حياته من خيال الأمل السارِّ.. إلى حقيقة الواقع المَريرِ، إمّا باللامُبالاة والاستخفاف فيتعرَّض لارتكاب الجرائم.. وإمّا بأخذ حياة نفسه بيده.. وكلاهما بعيد عن إنسانية الإنسان.(/2)
177 ـ إنني طالبة بإحدى الجامعات وأريد ارتداء الزيّ الإسلامي الذي يسترُ جميع البدن. ولكن والدي يمنعني، ويقول: إنَّ الملابس الطويلة تدلُّ على التأخُّر. فما الرأي؟
الجواب:
إنَّكِ مؤمنة بالله ـ طبعًا ـ وبمبادئ دينه. ومن أهم هذه المبادئ احترام المرأة نفسها وعدم تعريض بدنها بالكشف عن مفاتنه للنظرة الجارحة أو للهمسة الساخرة، أو الدخول في منافسة لا تكسب منها مَن تنجح، وتذِلُّ فيها مَن تُخفق.
ولا عليك إطلاقًا إذا تمسَّكتِ بما تؤمني به، وإنْ خالفْتِ ما يسمَّى "بالمودة" وأعتقد أن الوالد إذ يقول لك في هذا المجال: إن الملابس الطويلة تدلُّ على التأخُّر، يعني فقط عدم تعرُّضك لسخرية بعض الزميلات أو الزملاء. ولكن الإنسان الذي يسخر من شابّةٍ تحافظ على حيائها وخَفَر أنوثتها، وعدم تعرُّضها للسقوط في متاهة "المودة" وأخيرًا على تحقيق هدفها من الجامعة وهو الدراسة والتحصيل، وليس العرض لأزياء "المانيكان" وتوزيع الإغراء. هذا الإنسان لا يُبالَى بنظرته في الحياة؛ لأنه يقف بهذه النظرة عند السطح والتافه الذي لا يُجدِي.
إن الإنسان بإيمانه بالمبادئ الإنسانية الكريمة ـ وهي مبادئ الإسلام ـ وبتطبيق هذه المبادئ في حياته يُعلِي من شأن نفسه أمام الآخرين الذين يسقُطون في "دنيا المُتَع"؛ لأنه يحافظ على كرامة نفسه. وكرامة الإنسان ـ أي إنسان ـ لا تُوهَب له من غيره، وإنما تُستخلص بذاته. وليس من السهل استخلاصها إلا لصاحب عزم وإيمان بالله.
وقد كان على مشهدٍ منِّي في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر سنة 1931 في مدينة برلين بألمانيا منظر "لثلاثة طلاّب مصريّين سكَنوا ثلاثتهم في "بنسيون" إثْرَ قدومِهم من القاهرة للدراسة، كانت تملِكه سيدة ألمانيّة أقامت بحلوان هنا ما يزيد على العشرين عامًا، وتعرِف العادات المصرِيّة.(/1)
كان أحد الثلاثة المصريّين متخرِّجًا في الأزهر، وكان الاثنان الآخران ممَّن حصلوا على درجة الهندسة. وسبقاه الاثنان في القدوم إلى برلين والنزول في هذا "المنزل" بمدة أسبوع. وشارك كلٌّ منهما بقيّةَ النُّزَلاء من الألمان فيما يقدَّم لهم من طعام لحم الخنزير وشراب البيرة. وكان كلٌّ منهما يرى في هذه المشاركة "تجديدًا" وتقدُّمًا. وكان كلٌّ منهما كذلك سعيد بهذه المشاركة.
فلمّا حضر ثالثهم ـ وهو الأزهريّ ـ ونزل معهم ذكر لصاحبة "النُّزُل" أنه لا يأكل لحم الخنزير ولا يتناول مشروبًا رُوحيًّا وأنه يرجو أن يقدَّم له من الطعام ما يخلو مما حرَّمه الإسلام. واستجابت صاحبة المنزل، وكانت تتكلَّم العربية في صورة تُفهم.
وكان النزلاء في النزُل جميعًا يجتمعون على مائدة العشاء، وكان واضحًا أن الطعام الذي يقدَّم للطالب الأزهري يختلف في نوعه وطهْيِه عمَا يقدَّم للآخرين كلِّهم.
وفي مساء اليوم الثالث من قدوم هذا الطالب سأل أحد الطالِبَين المصريّيَن الآخرين صاحبة "النُّزُل" في صوت ينطوي على الاحتجاج: لماذا ينفرد هذا الزميل الجديد بطعام فوق مستوى الطعام الذي يُعرَض، ولا يقدَّم لهما كذلك، مع أنَّهما من مصر؟
وكان جواب السيدة: صاحبة البنسيون ينطوي أيضًا على مفاجأة لهما، إذ قالت: إن هذا زميلكم الجديد احتفظ بكرامة نفسه لأنَّه تمسَّك بعادات بلده وتقاليدها في الطعام فكان واجبًا عليَّ أن أُكرمَه. أما أنتما فقد حاولتُما أن تكونا كبقية الألمان هنا، وبذلك اندمجتُما فيهم وضاعت شخصيّتكما، فلا ميزة لكما عندي.
إنَّها سنّة الطبيعة البشريّة أن يُحْتَرَم صاحب المبدأ ويوقَّر لمبدئه، وأن الذي لا يملِك المبدأ يتزلَّف لمَن يملِكه ليحفَظ به توازن نفسه، ويكمل به نقص عدم الثَّبات على المبدأ. فسيرى على بركة الله فيما تؤمنين به والله لا يُشقيكِ بما تلبَسين من زِيٍّ يحفظ عليك مفاتن بدنِك. وإنَّما سيكرمك على الآخرين.(/2)
154ـ هل التأمين على الحياة حلال؟
الجواب:
(1) الذين يتحدَّثون عن التأمين في حِلِّه أو في حرمته يختلَّفون في تصوره وفي هدفه. فأولئكم الذين يرَوْن حرمته يتصوَّرون عقده بين المؤمّن وشركة التأمين على أنَّه عقد ينطوي على غَرَر وجَهالة. أي أنه ينطوي على احتمال ضرَر على الأقل بأحد طرفي العقد.
ولنأخذ مثلاً عقد التأمين على الحياة لمدة عشرين عامًا. فإن المؤمّن إنْ مات قبل العشرين عامًا لحق ضرَر بالشركة فيما تدفعه لوَرَثة المؤمن من كامل المبلغ المتَّفق عليه، رغم أن الأقساط لم تُستوفَ كلُّها بعد. أو إنْ عاش المدة كلها لحق الضرر آنئذٍ بالمؤمن لأنَّه لا يأخذ جميع ما دفعه من أقساط في المدة التي اتفق عليها، بل تدفع له الشركة أقلَّ ممّا دفع هو على أية حال.
ولنأخذ مثلاً آخر كذلك وهو التأمين على السيارة ضد الحوادث أو التأمين على المنزل ضد الحريق. ومثل هذا العقد يتجدَّد سنويًّا بين المؤمن والشركة. ومؤدَّى هذا العقد أن قسط التأمين الذي دفعه المؤمن للشركة عن المبلغ المقدَّم ثمنًا لسيارته ينتهي كله لصالح الشركة بإنهاء السَّنة التي دفع عنها القسط إذا لم تقع حوادث للسيارة أو إذا لم يقع حريق للمنزل في تلك السنة. وهنا تكون منفعة عقد التأمين في ظاهر الأمر للشركة دون أن تفعل شيئًا، بينما لحق غَبْن بالمؤمن لأنه لم ينَلْ شيئًا مقابل ما دفع من قسط. وهنا يكون عقد التأمين قد جَرَّ في النهاية غُنْمًا لطرف وغرمًا لطرف آخر، وإنْ لم يعرف على وجه التحديد في بداية العقد أي طرف من الطرفين هو صاحب الغُنم وأي طرف آخر عليه الغرم.
ولأنَّ عقد التأمين على هذا النحو لا يتبيّن فيه في بداية قيامه أي من الطرفين هو الغانم وأي منهما هو الغارم.. كان منطوِيًا على ما يُسمَّى من عُرف الفقهاء بالغَرر وهو الجَهالة أو عدم التحديد. والعقد الصحيح بين الطرفين في الإسلام هو ما كان واضح المعالم وجَنَّب الضررَ لأحدهما أو لكليهما.(/1)
(2) أما الذين يَرَوْنَ في عقد التأمين أنه تعاون على دفع الكوارث ومواجهة سريعة للنَّكباتِ التي يخبِّئها القدَر.. فهم لا يجعلونه قائم بين الشركة والمؤمَّن فقط. وإنَّما هو في واقع أمره بين المؤمنين أنفسهم بعضهم بعضًا عن طريق الشركة التي هي وسيط في تنفيذ الالتزامات المترتِّبة عليه لجميع المؤمنين وفي الوقت نفسه ناحية خيره في شؤون المال واستثماره.
فعقد التأمين على الحياة اتَّفق فيه أي مؤمِّن ضمنًا مع المؤمَّنين الآخرين على الإسهام في تخفيف الكارثة التي تُصيب أسرة أي من المؤمَّنين بوفاته وهو ربُّها وعائلها في حدود المبلغ الذي ارتضى دفع أقساطه في المدة المعيّنة. فما يُدْفَع للمؤمَّن عند وفاته هو جزء من أرباح الأقساط التي تجمَّعت لدى الشركة نيابةً عنهم إما في أملاك عَقارية أو في مشروعات صناعية في غالب الأحوال. وهذا الجزء متَّفق عليه ضمنًا بين المُؤَمَّنين. وقيام الشركة بدفعه هو قيام الوسيط صاحب الخِبْرة الخاصّة في شؤون المال.
فشركة التأمين في واقع الأمر ليس لها مال خاصٌّ. إنَّما ما لديها من أموال هي ملك للمؤمنين. وعقدها مع المؤمَّنين هو عقد جِعالة. أي أنه عقد تفويض للشركة من المؤمِّنين جميعهم في استثمار أموالهم مع الوفاء بما يَلْتَزِمُونه قبل بعضهم بعضًا خصمًا من أرباح هذه الأموال، على أن يكون للشركة وموظَّفيها وأصحاب الخبرة ممَّن تستعين بهم أيضًا جزءا من هذه الأرباح.
وإذن ما يدفع لورثة المتوفَّى في عقد التأمين على الحياة، وما يدفع لصاحب السيارة عند إصابة سيارته بأضرار في حادث أو لصاحب المنزل عند إصابة منزله بضرَر الحريق ـ لا يعدو أن يكون تنفيذًا لاتفاق بين المؤمنين على التعاون على دفع الضرر عند وقوعه لأي منهم. وفي مقابل دفع الضَّرَر على أي واحد منهم يقبل المؤمِّن بالتالي التنازل عن جزء مما دفعه من أقساط أو عن القسط كله.(/2)
وعقد التأمين في النهاية عقد على التعاون ثُمَّ في الوقت نفسه عقد جِعالة: تعاون بين المؤمِّنين، وجِعالة بين الشركة من جهة وجميع المؤمنين من جهة أخرى، وبذلك يصبح العقد مقبولاً؛ لأنه لا يجرُّ إلى ضرَر لأيٍّ من الأطراف المتعاقدة.
فإذا أضيف إلى ذلك أن أموال التأمين دعامة قوية في الاقتصاد القومي في خلْق فرص العمل في الصناعة وفي الخدمات العامة كالإسكان مثلاً... تعسَّر على الفَهم أن يكون عقده حرامًا.(/3)
178 ـ فتاة تقول: عمري عشرون عامًا، ونشأت في بيت متديِّن وحفظت القرآن، وكان أبي يريد لي: أن أكون مثالاً للفتاة المتديِّنة والقدوة: ولم أجرِّب الحبَّ، ولم أرضَ عنه. غير أن زميلات لي حاولْنَ إقناعي بالحبِّ، وقُلْن لي: أنتِ شيخة، ودائمًا معقِّدة للأمور. فما الحكم؟
الجواب:
إن التيّارات الجارفة التي ترِدُ عبر الصور التلفزيونيّة، أو المجلات المصوَّرة، من المجتمعات التي تقدَّمت في الصناعة والتكنولوجيا المعاصرة، وتنقل صورة للحياة الفَوْضويّة في هذه المجتمعات، وما تعبِّر به عن حرية المرأة ومدى تقدُّم حركة تحريرها.. إنَّ هذه التيّارات لم تترك مجتمعًا في العالم إلا واقتحمَتْ عليه بصر الأفراد فيه بالقراءة، وسمعهم عن طريق رواية الخبر وإشاعته.
وكل مجتمع من المجتمعات المعاصرة اليوم مليءٌ بالمتناقِضات والأضداد، ومزدحِم بالصور التي تحاول أنْ تَطغَى على ما للمجتمع من تقاليد. بل تحاول أن تصوِّر هذه التقاليد بالتي عفا عليها الزمن، وانتهى اعتبارها، كما انتهى اعتبار الدِّين في حياة اليوم، قبل حياة الغد. والصراع العالميُّ بين الأيديولوجيّات المختلفة والمتناقِضة شَدَّ أنظار رجال السياسة وقادة المجتمعات إليه، وشغل من نشاطهم ما يجعلهم غير قادرين على عمل شيءٍ ما، للمحافظة على تقاليد المجتمع ودينه، ولغته، وعاداته. وتلك هي التي تكوِّن عناصر الشخصيّة المستقلة لأيِّ مجتمع بشريٍّ في الحياة الإنسانية العالمية.
فزميلاتُك اللائي يَنصحْنَكِ بالحبِّ، وبتجربته، تأثَّرْنَ في هذه النصيحة بما يقرأْنَ في روايات الحبِّ، أو بما يَرَوْنه في المَجَلاّت المصوّرة، أو يشاهِدونه على شاشة التلفزيون، أو ما يسمَعْنه من أخبار من هنا ومن هناك، عن مدى حريّة المرأة، وعن الحب والتجربة قبل الزواج.. إلى غير ذلك من موضوعات الجنس.(/1)
ولكن في واقع الأمر ما تأتي به حياة المجتمعات الصناعية إلى مجتمعاتنا في الشرق الإسلاميّ ليس كلُّه نماذج يُقتدَى بها، وإنما مُعظَم ما يأتي من هناك في ما يتصل بالمرأة وعلاقتها بالرجل، إنْ عبَّر عن الازدهار الاقتصاديّ، أو التفكُّك في الرَّوابط والملَل من الحياة، فإنّه يعبِّر عن محاولة التخلُّص من تقاليد الأسرة في الزواج هنا.
فالتجربة الجنسيّة قبل الزواج، في فترة ما قبل الخطبة أو في فترة ما بعدها، إلى ليلة الزفاف.. تعبِّر عن الخوف من رباط الزوجيّة، الذي لا ينفصم أبدًا، وإذا انفصم بتدخُّل القضاء فلأسبابٍ يَشُقُّ توفيرُها، وقد يتَّخذ الزِّنا على مشهد من الشهود سببًا للطلاق. ولكن في حياتنا الإسلامية لا يشُقُّ الطلاق على الرجل، ولا يَشُقُّ الخُلْع عن المرأة، إنْ تضرَّر أحدهما، دون الآخر بالمباشرة الزوجية.
والزواج الجماعيّ وتبادُل الزوجات المعاشَرة الجنسية المستمرة غير المشروعة في سِرِّيّة أو في علم للطَّرفين.. وما شاكَل ذلك، كل هذا يعبِّر عن التخلُّص من الزواج بواحدة يَشُقُّ تطليقها، أو يستحيل الانفصام عنها. ولكنَّ الإسلام في مجتمعاتنا الإسلامية إذ يُجيز الزواج بأكثر من واحدة ـ ولكنَّه لا يوجبه ولا يفرضه ـ بشروط خاصة، لا يجعل الرجل المتزوِّج في حاجة إلى الأخذ بفكرة الزواج الجماعي. أو بتبنِّي تبادل الزوجات، أو يُحْمَل على الإقدام على المعاشرة الجنسية المستمرة غير المشروعة.
وإذن المرأة المسلمة، والرجل المسلم، كلٌّ منهما ليس في حاجة إلى حب، بالمعنى المستورَد من المجتمعات الصناعية. وبالتالي ليس في حاجة إلى اللهوِ والعبث بالآخر، مما يُفسد على كُلٍّ منهما حياته المقبِلة، لو دخل في زواج شرعيّ.(/2)
إنَّ حياة المجتمعات الصناعية المعاصرة حياة انطلاق، بعد ترَف في المعيشة والمُتعة، على حساب ما حصَّلته واغتصبتْه ـ في كره أو في رضى صورِيٍّ ـ من المجتمعات النامية، من مصادر الثروة القوميّة والبشريّة لديها.
أمّا مجتمعاتنا الناهضة فهي الآن في مرحلة بعيدة عن الترف، وفساد المترَفين. إنها مرحلة بناء، وكَدٍّ في العمل وجُهد في السعي في الحياة.
والأفضل للسائلة أن تبقَى على احتياطها فيما يسمَّى بالحب، وتقف بنفسها عند الكرامة الإنسانية وعفاف المرأة، وحيائها. فهذه هي مصدر قيمتها في الحياة. وهذا هو ما يريد الإيمان بالإسلام أن يقدِّمه للمرأة.(/3)
9ـ التطرُّف في فهْم الدين
أخوانِ شقيقان يسألان عن وضْع قائم لهما، ويُريد شقيقهما الأكبر أن يحْمِل كُلًّا منهما على ترْك وضْعه الحاليِّ. الشقيق الأكبر مُهاجر إلى إحدى الدول العربية، ويحمل بكالوريوس الزراعة من إحدى الجامعات عام 1977 ويعمل مدرسًا في مدرسة ابتدائية هناك. والشقيق الأوسط يحمل دبلوم الصنائع سنة 1978 ويدرس في كلية لم يُحدد نوعها. والشقيق الأصغر يدرس بالصف الأول في كلية التجارة بإحدى الجامعات. الشقيق الأكبر مُلْتَحٍ، ونَصَح زوجته بالكفِّ عن العمل، وهي حاصلة على بكالوريوس علوم، قسم الرياضة، جامعة القاهرة، وتركت العمل تحقيقًا لنَصيحته، وينصح الآن شقيقَيه الأوسط والأصغر بترك الدراسة الجامعية، يَنصح الأصغر بترك الدراسة في الصف الأول بكلية التجارة؛ لأن التعلُّم فيها والعمل بعد التخرُّج منها حرام. وكلٌّ مِن الشقيقين يسأل: هل يستجيب كل منهما لرأي أخيهما الأكبر ويتركان الدراسة في الكلية للحُرمة التي يَدِّعِيها؟(/1)
الشقيق الأكبر ينصح زوجته بالكفِّ عن العمل خارج المنزل؛ لأنه يرى فيه اختلاطًا بغير المَحارم، أو لأنه يرى أنها لا تستطيع أداء واجب الأمومة وواجب الزوجية مع أداء العمل الخارجيّ في الوقت نفسه، والاختلاط بغير المحارم حرام، وأداء واجب الأُمومة وواجب الزوجية مُقدَّم على أداء العمل الخارجيّ البعيد عن الاختلاط، فالزوج في جانب الحق هنا، وعمل الزوجة في الخارج شأن مِن شئون الزوجينِ وحدهما، هما اللذان يَفصلانِ فيه. ...
وأمَّا نُصْحُه للشقيق الأصغر في الصف الأول في كلية التجارة بترْك الدراسة في الكلية فربما لأنه يتصوَّر أن فائدة الرِّبوية تدرس في الكلية من جانب، وأن المُتخرجين فيها يُمارسون أعمال الحساب في البنوك التي تُقرِض بالربا، والدراسةُ في كلية التجارة إذًا والعملُ بعد التخرُّج فيها يُساعد على رواج الربا أو على الأقل على وُجوده في المجتمع المسلم. ...
لم يَنقل الشقيق الأصغر شيئًا من هذا التصوُّر عن شقيقه الأكبر المُلتحي، وكل ما يَرويه في رسالته عنه أنه يُحرِّم التعليم في كلية التجارة، وليس هناك تصوُّرٌ لتحريم التعليم في هذه الكلية، وتحريمُ عملِ المُتخرج فيها بعد التخرُّج لا صلةَ للكلية برأس المال وما يتعلق بتنميته وإدارته.(/2)
ورأس المال الحرام قائم على الفائدة الربوية على القروض التي تمنحها البنوك للمشروعات الصناعية والتجارية والزراعية، فهل الأخ الأكبر يَقيس ـ مثلاً ـ تعلُّم الطالب أساليب المُحاسبة وإدارة الأعمال في كلية التجارة، ثم مُزاولة العمل التجاري والمالي في البنوك والشركات على الساقِي الذي يُقدم الخمر لشاربها؟ وساقي الخمر وشاربها كلاهما مَلعون عند الله! ولكن هناك فرْق بين الوضعينِ، وهو أن ساقيَ الخمر مشترك في مباشرة جريمتها وهي تناولها، والمُحاسِب لا دخل له في جريمة الربا إذا قام بالأعمال الحسابية لبنك بالربا ـ مثلاً ـ فجريمة الربا تقع من صاحب المال المُقْرِض بالفائدة المُحدَّدة لصاحب حاجة إلى القرض، فهي تقع وإنْ لم يُساعد على ضبطها بالكتابة والحساب أحدٌ غير المُقرِض ذاته، جريمةُ الربا جريمةُ استغلال حاجة الغير إلى القرْض، ولا دخلَ لمَن يتعلَّم الحساب أو يُباشر المُحاسبة في هذا الاستغلال. ...
فمواد الدراسة في كلية التجارة تُعين المتخرج فيها على إدارة الأعمال والقيام بالمحاسبة في البنوك والشركات والأعمال الخاصة، وليس مِن الضروري أن يُباشر كل مُتخرِّج رَصْدَ الفائدة الربوية في محاسبةٍ ما. والعامل الرئيسي في إنقاص المُعاملات الربوية هو إيمان أصاحب رءوس الأموال بإخراج زكاة المال ثم الابتعاد عن استغلال الضعفاء وأصحاب الحاجة، فإذا نَمَتْ روح التعاطُف بين الناس ضعُف روح الاستغلال، وبالتالي ضعف التعامل بالفائدة الربوية. ... ...
ولو فُرض أن كليات التجارة أغلقت جميعها لم يكن نتيجة إغلاقها وقْف التعامل الربا، وإنما أُولَى النتائج لذلك خسارة كبيرة في ضبط الأعمال التجارية والمالية والمحاصيل الزراعية.
ومُباشرة ضبْط الفائدة الربوية في أعمال البنوك والمصارف والأعمال الخاصة لا يُمكن أن ندَّعِيَ أنها حرام؛ لأنها أولاً لا تُقدم ولا تُؤخر في إضعاف روح الاستغلال عند المُقرِضين بالفائدة. وقيام البنوك(/3)
الإسلامية في الوقت الحاضر لا يعود إلى قلَّة المُقلِّين من المتخرجين في الكليات التجارية على مُباشرة المحاسبة في أرباح القروض في البنوك، بل بالأحرى يعود إلى قوة الروح الإسلامية التي راجت بين الاقتصاديين وأصحاب الأموال من الأفراد، وهي قيام "اقتصادٍ" إسلاميٍّ على أساسٍ مِن تحريم الفائدة في الأموال المُتداوَلة عن طريق القروض، ومِن تشجيعٍ لروح "المُشاركة" في المشروعات الصناعية والتجارية والعَقارية وغير ذلك مِن فرص التنمية العديدة. ...
ومَطلوب مِن المسلم أن يعرف، وأكثر سور القرآن الكريم من الوحْي المكيِّ الذي يَعرض "للمادية" أو "الجاهلية" ومظاهرها وآثارها في تخريب القيم الإنسانية، وكما يُقال: مَعرفة الكفْر ليست بكُفر. ...
والشقيق الأكبر المُلتحي ينبغي له أن يُراجع الأمر مرة ثانية، وسيتَّضح له أن الدراسة في كلية التجارة ليست حرامًا. وإنْ كان يُنفق من مرتبه على شقيقه في هذه الكلية فله جزاءٌ عليه مِن الله؛ لأنه لا يخرج عن معنى "البِرِّ" بأشقائه في التمكين من الدراسة في هذه الكلية.(/4)
2 ـ هل الصُّهيونيّة مذهب ديني؟
هل الصهيونيّة مذهب دينيٌّ يَلتمس التأييدَ له من كتاب الله السابق وهو التوراة؟ وما موقف المؤمنين بالله مما جاء في القرآن من أصحاب هذا المذهب؟
الصُّهيونيّة نزعة مادِّيّة لا إنسانية ولاأخلاقيّة، تقوم على حِلِّ سفْك الدماء وإخراج المؤمنين من ديارهم لإيمانهم بالله ربِّهم، في سبيل إنشاء ما يسمَّى بالوطن القوميّ في فلسطين لمئات الألوف من اليهود الذين استوطنوا منذ مئات السنين بلادًا أخرى، وأصبحوا في عداد أهلِها، وربَّما من أصحاب الكلمة بينهم. وقد شرَّدوا من سكان فلسطين المؤمنين بربِّهم أعدادًا ربَّما تتجاوز الآن أعدادًا تفوق مَن دخلوا من اليهود، كما مارسوا الإذلال للآخَرين الذين لم يَبرحوا ديارهم بعدُ.
وهذا الاتجاه اللاإنسانيّ للصهيونيّة؛ إذ يجمع اليهود في فلسطين على حساب أرواح الآخرين وحياتهم وإنسانيتهم، يَدَّعي أنه يقوم على الإيمان بالتوراة ككتاب للهِ دعاهم يومًا ما إلى الهجرة من مصر فرارًا من احتقار أهلها لهم، ومن تعذيب ملوكها لأبنائهم إلى أرض الله المبارَكة وهي أرض فلسطين.
ولكن، هل هؤلاء الصهيونيُّون يؤمنون بدين الله حقًّا أم هم يؤمنون به في سبيل الدنيا؟(/1)
إنَّهم لا يؤمنون برسالة الله؛ لأنَّ رسالة الله في أيِّ كتاب نزل على رسول الله هي رسالة الإنسانيّة في مُستواها الفاضل، إنَّهم يؤمنون فقط بالاعتداء وبالظلم في سبيل تحصيل منافعهم. كان ذلك من ماضيهم وهو في حاضِرهم اليوم. هم يمارسون الظُّلم والاعتداء كطبيعة من طبائِعهم التي لا تختلف باختلاف الزمن. وقد مارسوا ذلك بعضهم ضد بعض عندما لم يجدوا أحدًا غيرهم يُمارسون عليه العدوان بسفك الدِّماء وإخراجه من الديار. ويسجِّل القرآن الكريم عليهم هذا الطبع في قول الله تعالى، والخطاب لليهود: (وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ولاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتلونَ أَنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) أي تُغالبونهم (بالإثْمِ والعُدْوانِ) أي في إجرام وفي رعاية الحُرُمات (البقرة:84) إلى أن يقول: (أُولَئِكَ الذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بالآخِرَةِ) أي آثَرُوا الدنيا وماديَّاتها على ثواب الآخرة: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ ولاَ هُمْ يُنْصَرُونَ). اليوم وغدًا. (البقرة:86) وهكذا حُكم الله عليهم بالعذاب وبعدم النصر إلى يوم البعث، وإن بدا أنّهم انتصروا يومًا ما أو أنهم يتمتّعون لحظةً من اللحظات بما يسلُكون إلى تحصيله طريق الظلم والعدوان، فالهزيمة لاحقة حتْمًا لنصرهم.(/2)
وقد رَسم القرآن الكريم للمؤمنين به وَضْعَ هؤلاء اليهود المادِّيِّين؛ ليكون المؤمنون على علم فيما يتَّبِعونه إزاءهم، في قول الله تعالي: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذًى). وضرر الأذى هو ضرر التهديد بالعدوان. أي هو ضررٌ نفسيٌّ، ومعنى ذلك أنَّ ضرر هؤلاء المادِّيين اليهود بالنسبة للمؤمنين سيظل بدون واقع: (وإِنْ يُقَاتِلوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبارَ) أيْ يفِرُّوا من ميدان القتال: (ثُمَّ لا يُنْصَرونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلّةُ أيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ). أيْ إلاّ إذا عادوا للإيمان بالله (وباءُوا بغَضَبٍ من الله وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرونَ بِآياتِ اللهِ ويَقْتُلونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدونَ). (آل عمران:111 ـ 112). فجعل القرآن من طبائِعهم الجُبن في القتال، وجعل من شأنهم أنّهم أهل ذِلّة، وجعل من قضاء الله عليهم أنَّهم مغضوب عليهم من رحمة الله، كما جعل أنّ سبب ذلك كلّه يعود إلي مَيْلِهم في طبائِعهم إلى الاعتداء وارتكاب الجرائم المنكَرة.
وفي ضوء تحديد هذا الوضع مِن كتاب الله يُمكن للمؤمنين به أن يحدِّدوا موقفهم منهم في لقائِهم في ميدان القتال أو في تعاملهم معهم وقت السِّلْمِ.(/3)
104 ـ لمَّا كان ستر الرأس للمرأة فإني أضع "إيشارب" على رأسي. ولكن هل وضع "الباروكة" على الرأس بدلاً من الإيشارب كغطاء يُؤَدِّي نفس الغرض جائز؟
هل السيّدة السائلة تُحِب أن يعرف الناس عنها، وبالأخص معارفها أنها تضع على رأسها "باروكة"؟. أم أنها تحاول بقَدْر الإمكان أن يظن الآخرون أو يعتقدوا أن ما تَحمِلُه على رأسها من شعر هو طبيعيٌّ لها؟
أغلب الظن أن اعتزازها بجمال نفسها وفخرها بشعر رأسها بعد وَضْع الباروكة عليه يتوقَّف على اعتقاد الآخرين فيها أنها لا تتزيَّن بشعر أجنبية عنها، وأنَّ ما تَحمِله على رأسها هو شعر لها من طبيعتها الخاصة. وإذن هي تُحاول الخِداع، كما تحاول الاعتزاز بما ليس لها. وهذا يختلف تمامًا عن وضع "الإيشارب" على شعر الرأس سُترةً له؛ إذ الكل يعرف أنَّ الإيشارب ساتر عارض كأيّة قطعة أخرى من الملابس على جسمها.
والإسلام يُنَفِّر تمامًا من الخداع وإيهام الناس ما ليس حقيقةً أنه حقيقة. ولذا يحرِّم على المرأة أن تتزيَّن بشعر غيرها. وقد كان هناك عُرف على عهد الإسلام في أول أمره أن تصل المرأة بشعرها القصير شعرًا آخر لغيرها حتى يبدوَ طويلاً. وبذلك تدفع عن نفسها مذلّة الشعر القصير في ذلك الوقت. فكان ما يُروَى في حديث مسلم: "نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أن تصل المرأة بشعرها شيئًا ـ أي شيء، شعرًا لغيرها أو شعرًا صناعيًّا مثلاً ـ وكان كذلك ما يروى عن معاوية: أنه خطب على منبر المدينة ـ وبيده قصة شعر، أي بعض خصال من الشعر ـ وقال: أين علماؤُكم وأنتم تصِلون الشعر ـ أي تَرَوْن نسائكم يصلن شعورَهن بشعر آخر، كما كان العُرْف ـ فإن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ نهى عنه، وسمَّاه زورًا؛ لأنه تضليل بإيهام الواصلة أنه شعرها وليس كذلك. ثم ذكر، وكان هذا سبب من أسباب هلاك بنى إسرائيل.(/1)
وتحريم لبس: "الباروكة" ـ إذن ـ لأنّه خداع، وليس لأنّه سبب من أسباب الزينة للمرأة. وإلا فالإسلام يُبيح للمرأة أن تُزيِّن شعر رأسها بالصِّبغة ـ غير اللون الأسود لمن تقدَّمت في السن ـ وتُزَيِّن أظافرها. فيُروى عن عائشة، أنَّها قالت: "أومأتْ امرأة من وراء ستر ـ بيدها كتاب ـ إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقبض يده ـ أي فمسك يد هذا الذي أومأ وأشار بيده ـ فقال: ما أدري: أيدَ رجل، أم يد امرأة. فقال: ـ عليه السلام ـ لو كنتِ امرأةً لغيَّرتِ أظفاركِ بالحِنَّاء".. قال لها الرسول ذلك، حاثًّا إيّاها على أن تحفظ أنوثتها من أن تتحوَّل إلى شبَهٍ بالرجل.
والإسلام إذ يحثُّ المرأة على الاحتفاظ بأنوثتها، يحث ـ أيضًا ـ الرجلَ على الاحتفاظ برُجولته. ليس لأنَّ هذا وذاك هو الوضع الطبيعي لكلٍّ من الأنثى والذكر. ولكن ليبقى كذلك التآلف والانسجام بين الطرَفين. وهو يذهب حتمًا بينهما إذا تحوَّل أي طرَف إلى الطرف الآخر إذا تحوّلت المرأة إلى رجل، أو تحوَّل الرجل إلى امرأة.(/2)
26ـ عقوق الولد لوالديه عملٌ من أعمال الشيطان
يَحكِي مواطن من إحدى المحافظات: أنه قام بتربية أكبر أولاده حتى تخرَّج، وتوظَّف بعد تخرُّجه.. وما إن استلم وظيفته حتى سأله أن يُعينه في زواجه من إحدى الفتيات. فلمَّا رفض المساعدة بسبب ضِيق ذات اليد، أخذ ابنه وحده الطريق إلى إتمام زواجه بها. وفي حفْلة القِرَان دعا إليها والديهِ، بطريق البريد.. فامْتَنَعَا ولم يذهبا.. ويسأل الوالد الآن: ألا يُعتَبَر هذا الشاب عاقًّا لوالديه؟ تَمشيًّا مع قول الله ـ تعالى ـ: (وإنْ جَاهَدَاكَ علَى أنْ تُشْركَ بِي مَا ليسَ لكَ بهِ علْمٌ فلَا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا في الدُّنيا مَعْرُوفًا واتَّبِعْ سَبيلَ مَن أَنَابَ إِلَيَّ). (لقمان: 15).(/1)
السائل في واقع الأمر يَعتب على ولده: أنه لم يُكافئه في المعاملة بما ينبغي أن يُكافأ به كوالد، وكرَاعٍ له، منذ صِغَره.. إلى أن أصبح موظفًا مستقلًّا بنفسه وبأسرته. ... ...
فلحظة القران وزواج ابنه هي أسعد اللحظات في حياته وحياة والدته.. ويفوق الإحساس فيها بالسعادة الإحساس الذي تملَّكَهما عندما علما بنجاحه وتخرجه.. وكذلك عندما عَلِما بتوظُّفه. ...
عندما يطلب الوالد أن يُستشار في مسألة زواج ولده ـ وولده الأكبر بالذات ـ وعندما يطلب الوالد أن يكون حاضرًا عقد زواج ابنه.. وعندما يطلب أن يسعى ولدُه إليه في محل إقامته حينما يدعوه ويدعو والدته إلى حفل عقد القران، إنما يطلب ذلك اعتزازًا وفخْرًا به.. يطلبه ليشهَد بنفسه نجاحه في التربية والرعاية، وهو نجاح يتجسَّم الآن في تكوين أسرة جديدة، هي امتداد لأسرته الخاصة.
فإذا حُرِم الأب ـ وحُرمت معه الأم ـ عقوبةً له على عدم إمكان مساعدته، كما طلب مِن أن تُتاح له فرصة الاعتزاز، وفرصة الحضور والمشاهدة لثَمرة ما غرَسه بنفسه ونمَّاه بماله وعنايته: يكون حرمانه الآن من هذه لفرصة بعيدًا عمَّا يوصي به الله في مُعاملة الوالدين، يقول ـ سبحانه ـ: (وصَاحِبْهُمَا في الدُّنيا مَعْرُوفًا).. فالمعروف الذي يجب أن يُقدم من الولد إلى أبويه ـ وهو المعروف في الصُّحبة والرفْقة ـ معروف متصل غير منقطع. وهو معروف في السلوك. والتصرُّف مع والديه، ومعروف في الموقف الذي يتخذه الابن حيالهما. والمعروف ما كان عليه الناس في عُرفهم وما جرت عليه المعاملة الكريمة بينهم. وليس من المعروف ولا مِن المعاملة الكريمة: أن تُرسَل بطاقة الدعوة بالبريد إلى الوالدين، مِن ولد ليس له فضْل على أيِّ واحد منهما حتى الآن، ولهما هما كل الفضل عليه حتى هذه اللحظة التي اقترن فيها بزوجته وليس من المعروف والمُعاملة الكريمة أن يتمَّ عقد زواجه في غَيْبة والديه، فيُحسُّ الحاضرين أن منزلتهما عنده لا(/2)
تتجاوز منزلة أيِّ مَدعوٍّ عاديٍّ: إنْ جاءَا فأهْلاً وسهلاً، وإنْ لم يَجِيئَا "فيَا دار ما دخلك شرٌّ".. كما يقولون.
وهذا الموقف من الابن الأكبر تجاه والده يَنُمُّ من جانب آخر عن عدم وَفائه، كما يَنُمُّ عن أنه مَنْفَعِيٌّ، فطالما يستطيع الآنَ بمُرَتَّبه الشهري في وظيفته أن يستقلَّ في المعيشة عن أبيه، فلا حرَج عليه إذا أدار له ظهره، أو تغاضَى عنه فلا يَحفِل بوجوده أو بعدم وجوده، وعدم الوفاء ليس طريقَ مَن أناب إلى الله، وأطاع ما يأمر به أو يَنْهَى عنه، وقد طلب ـ جل شأنه ـِ من المؤمنين بالله أن يتَّبعوا سبيل مَن أناب إلى الله وتوكَّل عليه: (واتَّبِعْ سَبِيلَ مَن أنابَ إليَّ).. ليعُد هذا الابن إلى طريق الإحسان إلى الوالدينِ. إنه في حاجة إلى عطفهما قبل أن يحتاجَا هما إلى عطفه، والعطف هو الرِّقَّة والحنان في العلاقة بينه وبينهما. إن علاقته الزوجية وبأهلها لم تزل في بدايتها. ويوم أن يقع فيها احتكاك ـ وهذا أمر محتمل ـ فإنه لا يجد مَن يكون بجانبه بالرأي ويَتعاطف معه كإنسانٍ في شدته سِوى أبويْه. ... ...
فإن عاد الآن بالإحسان إليهما وبالاعتذار لهما فإنه سيجد رصِيدًا من المَحبة والتعاطف لديْهما يَستند إليه في حياته، وقريبًا منه وفي مُتَناوَل يده. إن حياة الإنسان ليست اقتصادًا فقط، ولا استقلالاً في نفقات المعيشة، ولا مُعادلةً تقوم على مُوازَنة الدخْل والإنفاق. إنها قبل كل شيء إحْساس بمَحبة الآخرين القريبِين حوله ومُساندَتهم له في الأزَمات بالكلمة، وإحساس المُشارَكة، وأداء ما يجب أداؤه نحو معاونته وإنقاذه، والوالدانِ هما أقرب الناس له، وهما أكثر عطْفًا عليه، وسندًا له في غير مقابل وفي غير انتظار لمقابل. ...
والوالد إذْ يغضب الآن لا يَغضب؛ لأنه قد يَفوته شيءٌ مِن ابنه كان ينتظره منه. إنه لا يَنتظر منه سوى أن يسمع الخير عنه، ويسمع النجاح والتوفيق له في وظيفته وأُسرته الخاصة. ...
إذا لم(/3)
يَعُد الولد إلى والديه ويَعتذر لهما عن سوء مُعاملته لهما، ويسترضيهما فربما يكون عقابه من الله أن يُنجب هو أولادًا يُعاملونه أسوأ مما يُعامل هو والده. وعندئذٍ يعيش في صراعٍ: أحدُ طرفيه.. لأولاده.. والطرف الآخر سوء سلوكهم ومُعاملتهم له.. وهو صراع يُبكي النفس، ولا يَنتهي إلا بفَناء مَن يحملها بين جنبيه. والوالد السائل يجب أن يظل واسع الصدْر، وأن يكون مُتسامحًا فللشباب هفوات. وقد يدفعهم الحمق إلى الغرور والاستكبار. ولكن الحياة كفيلة بأن تقدم لهم دروس الحقيقة والواقع.(/4)
174 ـ هل التمدُّن عقبة في سبيل الدِّين؟ أو الدين عقبة في سبيل التمدُّن؟
الجواب:
إذا قُصِدَ بالتمدُّن التهذيب والسموِّ في السلوك الإنساني. والارتفاع عن الأنانية الطاغية في المعاملة فالدين مصدر هذا التمدُّن. تقرأ قول الله تعالى على سبيل المثال: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ولاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ولاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولاَ تَنَابَزُوا بِالألْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسوقُ بَعْدَ الإيمانِ ومَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ. يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولاَ تَجَسَّسُوا ولاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 11 ـ 13).
فهذه الآيات تنادِي بتأكيد الاعتبار الإنساني لكلِّ فرد، وبعدم انتهاك حرمته في حضوره أو في غيبته على السواء وبمساواة الجميع في خصائص الطبيعة البشرية، وبجعل التفاضل بين الأفراد فقط في مستوى التهذيب والسلوك القويم والإخاء والمَحبّة، الذي يُعبّر عنه هنا بـ"التقوى".
وكثيرٌ من مثل هذه الآيات يوضِّح مدى السلوك الحسن الكريم ومدى التصرُّف القائم على الاعتداء وطغيان الأنانيّة وانتهاك حُرُمات الآخرين.(/1)
وإذا قُصِد بالتمدِّن الصناعة والتطور الحضاريّ المادِيّ والتقدم التكنيكي فالدين كذلك يحثُّ عليه ويدفع إليه. نقرأ قول القرآن الكريم: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقومَ النَّاسُ بِالقسِطِ وأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَديدٌ ومَنَافِعُ للنّاسِ ولِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه ورُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 25).
فسوَّى القرآن في هذه الآية بين كمال الله والحديد وأثرهما في حياة الناس.
فإن كانت الهداية والعدل من نتائج الإيمان بكتاب الله فهناك المنافع من استخدام الحديد تنتهي جميعُها إلى القوة والعِزّة في الحياة.
والحديد ـ وما يُشبهه من معادن ـ مصدر الصناعة وموضع التطبيق العلميّ الهندسي وبناء على ذلك إذا أغفل الإنسان كتاب الله أو أغفل الصناعة في حياته فقد أضعف نفسه وأضعف أمّته وإذا أغفلَهما معًا فتلك هي الكارثة التي لا يستطيع التغلُّب عليها.
وإن قُصِد بالتمدُّن الانحلال في الأخلاق والسلوك أو الرّفاهية على حساب الآخرين أو التسلُّط وانتهاك الحرُمات الشخصية للآخرين... أو ما شاكَل ذلك مما يؤذي الإنسان ويحطُّ من شأن الكرامة البشرية فالدين عندئذٍ عقبة في سبيل التمدُّن، والتمدُّن أيضًا عقبة في سبيل الدين.
(وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ولاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49).
(أَفَحُكْمَ الجَاهِليّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنونَ) (المائدة: 50).(/2)
97 ـ مصلحة الأم في الزواج ومصلحة الأولاد في تربيتهم، وليس هناك تناقُض بين المصلحتينِ.
كتب مُقاتل مُجنَّد يقول إن له أُختًا مِن غير زواجٍ الآن منذ ثلاث سنوات، ولها أربعة أولاد، وهي تُريد أن تتزوج على أن يُقيم زوجها معها في منزل الأولاد، ولكن الأولاد لا يُوافقون على الزواج. ويسأل:
هل الأفضل أن أُساعدها على مصلحة الأولاد، أمْ أساعدها على الزواج وترْك الأولاد؟ ويرجو الإيضاح بما هو أفضل.
المفهوم من الرسالة: أن الأولاد لا يُوافقون على مبدأ زواج أمهم برجل آخر، بعد أبيهم، وتأتي عدم رغبتهم في سُكناه في منزلهم في مرتبة تالية. ...
والمفهوم أيضًا من هذه الرسالة، أن الأم لها رغبة في الزواج مرة ثانية، بعد أن مضى على عدم زواجها ثلاث سنينَ، فهي لها مَصلحة خاصة في الزواج، وهذه المصلحة على الأقل، أن تتجنَّب الانْحراف في السلوك في مُعاشرةٍ غير زوجية مع هذا الرجل.. أو مع غيره؛ إذْ إنها لا تشكو مِن ضيق الإنْفاق حتى تحتاج زوجًا آخر يتكفَّل بالإنفاق عليها ويُساعدها بذلك على تربية أولادها الأربعة.
هنا الآن مَصلحتانِ مُتضاربتانِ: مصلحة الأم في حِماية نفسها من الانزلاق والوقوع فيما لا يَرضاه الله.. ومصلحة الأولاد في إقامة أمهم معهم إلى أن يتركوها، كبارًا وهي ضعيفة وهم أقوياء. ...
والسؤال الآن: هل سيُضحي الأولاد ـ بعد أن يَبلغوا سِنَّ الزواج ـ بتحقيق رغبتهم في الزواج ويَظلُّون معها في عيشة واحدة، يقومون بخدمتها في شيْخُوختها، كما تقوم هي بخدمتهم الآن في طفولتهم أو في شبابهم؟. وهل ستتنازل البنت عن خطيبٍ تقدَّم لها في سِنِّ رشدها ونال مِن قَلْبِها استِحْسَانًا؟.
وهل سيتنازل الولد في سنِّ رُشده أيضًا عن فتاته التي أعجبتْه وأصبح بها وبالزواج منها؟.(/1)
أليس إنجاب الأم لأربعة أطفال وتَسخير نفسها لخدمتهم حتى بلغوا الآن من الوعْي ما يجعلهم يُنكرون على أمهم حقَّ الزواج ثانيةً، وهي في آخر شبابها، أليس ذلك بكافٍ من تضحية قدَّمتها الأم لهؤلاء الأولاد، وهم لم يُقدموا أيَّ شيء لها حتى الآن بديلاً عمَّا استمتعوا به من رِعاية فيها صحتها.. ومتعتها في الحياة؟
... إن إسلام يُلزم الأم بإرضاع ولَدها حولينِ كاملينِ، فقد جاء في قول الله تعالى: (والوَالداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةِ). (البقرة: 233).. يقول ذلك للأمهات اللاتي طُلِّقْنَ مِن أزواجهنَّ وأولادهن لم يزالوا بعدُ في سِنِّ الطفولة المبكرة، ومع ذلك إذا أردْنَ الأمهات أجْرًا على الرضاعة فيُوجب الإسلام على آباء الأولاد: أن يُعطوا أجرًا لأمهاتهم، فيقول ـ جل شأنه ـ: (وعلَى المَولودِ لهُ رِزْقُهُنَّ وكُسْوَتُهُنَّ بالمَعروفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارُّ والدةٌ بِوَلَدِهَا ولا مَوْلُودٌ لهُ بِوَلَدِهِ). (البقرة: 233)..
... ومعنى إلْزام الأم في فترة الرَّضاعة بإرْضاع طفلها لمدة عامينِ كاملينِ من حياته، أنها لا تلتزم بعد العامينِ بمباشرة أيِّ أمرٍ يتصل بالرعاية نحو أبنائها، وما تُقدمه مِن صُنوف الرعاية بعد السنتينِ فهو لها عند الله.. أيْ ما تُقدمه بعد ذلك يُعتبر تبرُّعًا وإحْسانًا منها.(/2)
وإذا كان هذا هو موقف الإسلام في الأم، بعد أن تركها زوجها بالطلاق.. أو بالوفاة.. فلم يَجعلها الإسلام رقيقةَ الأولاد مدَى حياتها، وإنما ألْزمها فقط بالمشاركة في الرعاية لهم إلى أن يتجاوز الأولاد الفترة الحرِجة مِن حياتهم، وهي الفترة الأولى في طفولتهم، وقد حدَّدها بسنتينِ: فليس لأيِّ إنسان ـ ولو كان الابن ـ أن يُلزمها بالبقاء معه طوال حياتها حتى يَكبُر هو، ويَستقلَّ، ويُكوِّن أسرةً جديدة، ثم يَتركها في شيْخوختها وفي ضعْفها وحدها، أو يَصحبها معه، فتَعيش تحت رحمة الانفعالات المختلفة التي قد تتملَّك زوجتَه، مِن حينٍ إلى آخر. ...
... والأولاد بعدم مُوافقتهم على زواج أمِّهم يُسايرون "الأنانية" منهم، والأنانية هي مصدر الشرور والأهواء، وليس لهم حقٌّ من قِبَلِ الإسلام.. ولا مِن قبَل مصالح الآخرين، أن يَمنعوها مِن الزواج، ولو كانوا غير أنانيِّينَ لباركوا زواج أمهم، ولأَوسعوا منزلهم بعد أن أوسعوا صدورهم، لقبول زوج أمهم في السُّكْنَى معهم، في هذا الوقت الذي تتحكَّم فيه أزمة المساكن.
... أيُّ وضعٍ يكون مقبولاً لدَيْهم: بقاء أمهم من غير زوج، مع احتمال أن تَسُوءَ سُمْعتها.. أم زواجها على سُنَّة الله ورسوله وعلى علْمٍ مِن الأقارب والجيران.. وعلى مسئولية مِن جانب زوجها أمام الله والقانون؟.. يوم تسوء سُمعتُها ماذا يكون حلَّهم لمشكلتها؟ قتْلها.. أم ضرْبها وإهانتها، وإذْلالها؟.(/3)
... منطق الحِكْمة والشرْع يُعطيها الحقَّ كلَّ الحقِّ في الزواج، ومنْعها من ممارسة هذا الحق يُعتبَر "عَضْلاً" لها، وقد نهَى الله عن العضْل في قوله ـ تعالى ـ: (وإذَا طَلَّقْتُمُ النساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ "انتهت عدتهن" فلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعروفِ "أي فلا تمنعوهن أن يُباشرْنَ الزواج مع مَنِ ارْتَضَيْنَ الزواج به" ذلكَ يُوعَظُ بهِ مَن كانَ مِنْكمْ يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ ذَلكمْ أزْكَى لكمْ وأطْهرُ واللهُ يَعلمُ وأنتمْ لا تَعلمونَ). (البقرة: 232).. وهذا ما يُقرره الله ـ سبحانه ـ هنا يَتبعه أولئكم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر.. أي الذين ليسوا كافرينَ ولا مُشركين.. كما أنه في واقع أمره، تزكيةٌ وطُهْرٌ، ونقاء لعلاقة بعضكم ببعض؛ لأنه يُبعدها عن السوء ومَظنَّة المُنكر.. والذي يُوجِّهُكم في هذا : هو المولَى ـ جل شأنه ـ وهو يعلم مَصالحكم أكثر ممَّا تعلمون أنتم بها.
... والسائل الآن قد سمِع ما جاء به القرآن الكريم في موضوع سُؤاله، ومُهمته أن يُحاول إقناع الأولاد.. ويُرشدهم إلى الطريق السويِّ.. وهو طريق الله في حَلِّ مشكلتهم مع والدتهم.. ويُوضح لهم حقَّ أُمِّهم عليهم، وهو الإحسان إليها.. والإحسان إليها هنا يكون بمُوافقتهم على زواجها، فبالزواج تُحقق هي مصلحة لها ومصلحة لهم كذلك.(/4)
113 ـ المادية والإسلام
نسمع الحديث كثيرًا عن المادية وأنها ضدُّ الرُّوحية، فهل مِن أجل ذلك تتعارَض مع الإسلام؟
المادية هي اتِّجاه في الحياة يُؤمن بالدنيا وَحدها ويُنكر الآخرة.. ولا يُحرِّم ما حرَّم الله ورسوله، والمادي هو ذلك الإنسان الذي يستحلُّ لنفسه في الحياة سَفْكَ الدماء في سبيل تحقيق هدَفه، ويَرى على وجه العُموم أن الغاية تُبرِّرُ الوسيلة.
والمادية هي صِنْوُ الجاهلية التي وردت في القرآن وجاء في وَصْفِ الجاهليينَ قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر: 17 ـ 20).
فالقرآن الكريم يصفُ هنا الجاهليين بالأنانية، أي بالتفكير في الذات وحدها، ولو كان على حساب الآخرينَ، فيَصفهم بعدم العطف على اليتيم.. وبعدم مُعاونة صاحب الحاجة وهو المِسكين.. وبمَنْعِ الضعفاء وهم النِّساءِ والصغار، مِن حصولهم على حقِّهم في الميراث وبحُبِّهم الشديد للمال وافتتانهم بجَمعه فهم يَعيشون للذات وحدها.
كما يَصفهم بأن غايتهم في الدنيا هي الاستمتاع بالمُتع المادية وحدها في غير حَيْطَةٍ فيقول: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد: 12).
ولحِرْصهم على الدنيا وحدها يَحرصون على تشويه رسالة الله ويَصدُّونَ الآخرين عن اتباعها.
(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ). (إبراهيم: 3).(/1)
أما الروحية فهي القيم الإنسانية التي تقوم عليها الروابط بين الأفراد في الأسرة وفي المجتمع على السواء هي روابط المحبة، والمودة، والتعاون، والمشاركة.. والاعتراف بالمساواة في الاعتبار البشري، ورعاية أصحاب الحاجة.. إلى غير ذلك مِن المعاني التي تُصور المستوى الإنساني في العلاقات بين الناس بعضهم ببعض.
والمادية.. والروحية: اتجاهانِ مُتقابلانِ، أحدهما وهو المادية لا إنساني.. والآخر هو الروحية: إنساني.
ورسالة الإسلام تقوم على التبغيض في المادية، وإنكار اتجاهها في حياة الناس بينما تحرص كل الحرص على الترغيب في الروحية، وفي خلْق جوٍّ إنسانيٍّ يعيش فيه الناس بعضهم مع بعض. وإذ يقول الله تعالى: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). (إبراهيم: 1).
فإنه يقصد بالنور وبصراط العزيز الحميد المستوى الإنساني في العلاقات بين الناس بينما يقصد بالظلمات طريق الجاهلية أو المادية.(/2)
111 ـ العداوة بين الدِّين والماركسية
تَنشط في الأيام الأخيرة بعض الجماعات لإقناع الناس بأن الماركسية لا تُعادي الدِّين، فهل هذا صحيح؟
المنهج المرسوم للدعوة الماركسية هو ما يُسمَّى بالمرحلية، أي تَسلُكُ طريقها إلى الدعوة مرحلةً بعد أخرى، فهي تَضعُ يدها في يدِ عدوِّها اللَّدُودِ، إذا اقتضَى صالحُ الدعوةِ التعاوُنَ معه فترةً مِن الوقت، في الحرب أو في السلام على حدٍّ سواء.
وما وقع في الحرب العالمية الثانية، وما يقع الآن في مجالِ ما يُسمَّى بسياسة الوفاق يُعطي الشاهدَ على هذه المرحلية.
ومِن أُسُسِها النظرية والتطبيقية نداؤُها بالعلمانية، أيْ نداؤها بفَصْلِ الدِّين عن الدولة، وهذا قدْرٌ مُشترَكٌ بينها وبين عدوها الرأسمالية، ولكنها تسير خطوةً أبعدَ في هذا الفصل مِن الرأسمالية.
وهو إعلانها ما يُسمَّى بـ "الإلْحاد العلمي"، والإلْحاد العلمي هو الاتِّجاه بكلِّ الوسائل المُمكنة لاستئصال جُذور العقيدة الدينية في المجتمع الماركسي: في دائرة الشباب، وفي دائرة التعليم، وفي دائرة الثقافة ووسائل الإعلام وفي دائرة العادات والتقاليد.
ولكي لا تَغضبَ الكثرةُ المُتديِّنةُ إنْ وُجدتْ في مُجتمع، فرَضتْ نفسَها عليه: لا تُواجِهُ الدين بالنقْد المباشر ولا بالكبْتِ لِمَا لا يَضُرُّ نَشْرُهُ مِن تعاليمه كإحياء بعض كُتب التراث، بل تترك ذلك لمَرحلةٍ أخرى قادمة، تأتي بعد مرحلة نقْد رجال الدين والتشهير بهم، وتَلْفِيقِ القِصص والتُّهَم التي تُنْسَبُ إلى بَعضهم، والسخرية مِن أحاديثهم وتصرُّفاتهم بحيث تنعكس آثار ذلك كله على الدِّين ذاته انعكاسًا سلْبيًّا غيرَ مُباشِر.
و"الاشتراكية العلمية" تعبيرٌ يُقصَدُ منه إبعاد الدِّين كليَّةً عن مجال أيِّ نشاط مِن أنشطة المُجتمع، وليس إبعاده في رِفقٍ، بل تُسَلِّطُ عليه حديث "الرجعيَّة" في غير انقطاع وبأسلوبِ التَّهَكُّمِ والسخرية.(/1)
والماركسيون إذا ادَّعَوْا في بعض المجتمعات أن الماركسية لا تُعادي الدين أو إذا باشروا هم أنفسهم بعض عباداتِ الدين كالصلاة والصوم والحج. أو إذا استمعوا للقرآن الكريم، أو طلبوا الاستماع إليه: فإن ذلك شعارٌ يُخفون خَلفه الوجه الحقيقيَّ للماركسية في صِلتها بالدِّين.
طريقانِ مُتباينانِ تمامًا: طريق الدِّين، وهو طريق القِيَمِ الإنسانية في العلاقات. وطريق المادية، وهو أساس الماركسية، يُنكر الأخوةَ الإنسانية والعلاقاتِ الأُسْريَّة، كما يُنكر اللهَ وجزاءَه في الدنيا والآخرة.(/2)
145 ـ عندي ميراث من مال أهلي يكفيني، وأجنح إلى الراحة. فهل يجب عليَّ العمل؟
الجواب:
عمل الإنسان هو وظيفة عقله وبدنه. فإن لم يباشر الإنسان العمل حالَ دون وظيفته في الحياة.
فعقل الإنسان لا بُدَّ أن يفكر. ومن الجِناية أن لا يأخذ تفكيره خطًّا سليمًا في الحياة له ولغيره، بدلاً من أن يتغلَّب عليه الهوى ويجرَّه إلى التفكير فيما يضُرُّه وحده، أو مع غيره. ولا يتغلَّب الهوى على تفكير الإنسان إلا إذا استسَلم ومالَ إلى عدم العمل الجِدِّي في الحياة.
وبدن الإنسان لا بُدَّ أن يتحرَّك. ومن الخير أن يتحرَّك في اتجاه مثمِر، بدلاً من أن تدورَ حركته في دائرة الشَّهوة للنفس، وفي تلبية مُتعتِها ولذَّتِها.
وإذا كان العمل وظيفة الإنسان: وظيفة عقلة وبدنه، فإنَّه لا يسبِّب تعبًا له، بل على العكس: كثيرًا ما يجد الإنسان راحته في العمل.
فصاحب العمل العقلي يسأم الحياة ويمَلُّ القعودَ، دون قراءة أو كتابة، وصاحب العمل البدنيّ يُخَيِّم عليه الضِّيق، ويتملَّكه الإحساس بالضَّجَر وبعدم الرِّضا، إن هو لم يتحرَّك في سبيل العمل وينشَط لإنجازه.
نعم.. إنَّ العمل في الحياة هو السبيل لتحصيل الرِّزْق، والتمكُّن من العيش، ولكِنّه هو نفسه هدف كذلك. على معنى: إذا كان لدى الإنسان من الثروة ما يستطيع معه أن يعيش، دون الحاجة إلى كسْب القوتِ ومطالب الحياة اليومية ـ كما في حال السائل ـ فإنَّه بالرغم من ذلك لا يقدِّر قيمة نفسه كإنسان، ولا يَفهم وظيفته الحقيقية في الحياة، إذا كفَّ عن العمل بحُجّة عدم الحاجة في حياته اليومية إلى مال؛ لأنه لا يحقِّق عندئذٍ هدف وجوده.
للإنسان هدف في حياته الإنسانية، وليس هو العيش لذات العيش، وليس هو كذلك المحافظة على البقاء الفرديَّ. إنَّ هدف الإنسان في الحياة هو الكِفاح والمقاوَمة، الكفاح في سبيل رسالة الحقِّ، والمقاومة ضِدّ ما يُضعِف الحقَّ ويقوِّي الباطل ضده.(/1)
ورسالة الحق هي رسالة الخير، هي رسالة التعاون المثمِر في الحياة، هي رسالة المَحبّة بين الناس ، وأداء هذه الرسالة هو تحقيق هدف حياة الإنسان، وليس هو تحصيل المُتَع الدنيوية لذاتها.
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف: 7).
فالقرآن الكريم لا يرى ـ إذن ـ مُتَع الحياة التي نعيشها هدفًا وغاية في ذاتها ـ وإنَّما يراها وسيلة لهدف، ويرى أنَّ من خلالها والمرور بها يكون قُرْب الإنسان أو بُعْده من تحقيق الهدف الإنساني، وهو حُسن العمل. والعمل الحسَن ما كان خيره للناس جميعًا، أو ما حال دون أضرار تمسُّ الناس كلَّهم أو بعضَهم.
فإذا وقف الإنسان عند مُتع الحياة الدنيا وجعلها هدفًا أخيرًا ـ على نحو ما يتصوَّره السائل هنا ـ فهو لم يحقِّق الهدف الحقيقي لإنسانيته، وإنْ تجاوز هذه المتع واتَّخذها وسيلة لعمل، هو في آثاره الطيبة أكثر تسوُّلا للآخرين في أمّتِه كان قريبًا أو محقِّقًا بالفعل لهدف إنسانيته. وهذا المعنى هو ما يُشير إليه قول الله تعالى: (المَالُ والبَنونَ زِينةُ الحَياةِ الدُّنْيَا والبَاقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف: 46).
فالباقيات الصالحات هي الأعمال الخَيِّرةُ التي تُسهم في صالح الناس وصالح الأمة ولا يقتصر أثرها على الفرد المباشِر لها.
والسائل هنا بوقوفه بالعمل الإنساني عند حَدِّ "ذاته" لا يؤدِّي رسالته كإنسان وهو "أناني" إذ يفكِّر أنه طالما كان عنده من المال ما يكفي حاجتَه اليومية فلا حاجة له إلى العمل.
ويجب أن يعلم:
أولاً: أنَّ العمل في ذاته وظيفة الإنسان. وكل صاحب وظيفة في هذا الوجود لا بُدَّ أن يباشر وظيفته، وإلاَّ حُكِم عليه بالفناء، وهو حَيٌّ يُرْزَق.(/2)
ثانيًا: أن عمل الإنسان ليس للذات وحدها. وإنَّما للذات وغيرها من أفراد المجتمع. فإذا لم يعمل يكون مُقَصِّرًا في حق الآخرين ـ قبل حقِّ نفسه ـ وفي حقِّ نفسِه قبل حقِّ الآخرين.
اللَّهم إلا إذا كان عدم الميل إلى العمل عند السائل نتيجة "مرض" أو اختلال في وظائف أعضائه وهنا تكون مشكلته عند الطبيب البشري، وليس لدى "رأي الدين".(/3)
زوجة تشكو من أبيها الغنيِّ
إني متزوِّجة من ابن عمي، وأبي غَنِيّ ميسور وزوجي موظَّف بالحكومة وعندنا أولاد وحينما وقعتُ في ضائقة مالية طلبتُ من أبي أن يُقرِضَني بعض المال فوافق، ثم عاد فرَفض.. فما الرأي في هذا الوالد الجشِع؟
إن السائلة في الوقت الذي تصِف أباها فيه بأنه جشِع تُقِرُّ ضِمْنًا بأن أباها هذا كان على حقٍّ عندما امتنع أخيرًا عن أن يُقْرِضها المبلغ المطلوب.
أبوها رجل ميسور.. وهي ابنته وزوجة لابن عمِّها لماذا لم تكن هي قد اتفقت مع ابن عمِّها زوجها على أن لهما حاجة إلى مبلغ معيّن ـ وهما في الواقع لم تكن لهما حاجة إليه ـ وعلى أن تطلُب هي من أبيها هذا المبلغ في صورة قرْض؟ والدافع الحقيقي إلى هذا الاتفاق هو حرصهما معًا على الاستفادة من ثراء أبيها في حياته بسبب أو بآخر.
وأبوها عندما وافق أولاً على أن يُقرضهما المبلغ المطلوب استجاب لطلبهما لأول وهلة، محسنًا الظَّنَّ بهما، ثم عندما اتضح له بعد ذلك أن ليست لهما حاجة في واقع الأمر رفض أن يُقرضَهما المبلغ، ووصْف ابنته له بأنه جشِع عندئذٍ تعبير منها عن غضبها النفسي؛ لأنه كشف بالرفض سِرَّ الاتفاق للتآمُر على أبيها.
والملوم ـ إذن ـ ليس الوالد.. وإنَّما الأنانية والرغبة المُلِحّة للحصول على المادة التي دفعت السائلة وزوجها للتآمر على أبيها.
وهذا الأسلوب في المعاملة أسلوب سيِّء في ذاته. وبالأخص بين الأقرباء.. والجشِع في الثلاثة الأب والابنة وزوجها وليس الأب وإنَّما الابنة أو الزوج أو كلاهما.
ويجب أن تعرف السائلة أنَّها بانتقالها إلى ولاية زوجها تَفقد مسئولية الإنفاق عليها من أبيها، وماله هو مال أجنبيٌّ بالنسبة لها، إلى أن تحلَّ لحظة وفاتِه. وعندئذٍ يتعلق حقها بما يتركه لورثته إن ترك لهم شيئًا ترتبط به حُقوقهم.(/1)
وليس هكذا أسلوب الإحسان الذي يأمر به القرآن في معاملة الأبناء لوالديهم؛ إذْ يقول: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء 23 ـ 24).
فهل وَصْفُ الأب بأنه جشِع قول كريم؟ وهل محاولة الابتزاز هذه تدخل في مفهوم الرحمة؟
وفي تقديري لو أن زوج السائلة كان يعرف معنى المروءة، ويشعر بالمسئولية الزوجية ويعتز بكرامته الإنسانية لمَا ترك زوجته تؤلِّف هذا الفصل الخاص بقرض المال من أبيها فضلاً عن أن يحملها عليه، فالزوجة في النهاية امرأة تتجاذبها عواطف عديدة، أدناها عاطفتها نحو أبيها إذا كانت في ولاية رجل آخر.
ومن أجل عاطفة البنوّة نحو الآباء والأمهات قرَن القرآن طلب الإحسان من الأبناء نحو أبويهم بعبادة الله وحده في قوله ـ تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). (الإسراء: 23).(/2)
59 ـ ولد طلّق زوجته يطلب النفقة من أمّه
إني أم لأربعة أولاد: ثلاثة ذكور وبنت، والكلّ يعمل، والكلُّ يُسهم في مصالح البيت ونفقاته إلا واحدًا منهم كان متزوِّجًا وطلَّق امرأته فهل على الأم أن تُنفِق عليه؟
يبدو أن الابن الذي طلّق زوجته ولا يُشارك الآن في نفقات المنزل أسوةً بإخوته أنانيٌّ في تفكيره، وفي تصرُّفه.. ويبدو كذلك أن هذه الأنانية كانت السبب في الفُرقة بينه وبين زوجته السابقة؛ إذ الأنانية ـ وهي الحرص على الذات وحدها في المتعة، وفي السعي في هذه الحياة، بدون الاهتمام بموجود آخر عدا الذات ـ هي مصدر الشَّرِّ للإنسان أو هي شيطانه الذي يُوسوس له بالشُّحِّ أو على الأقل بالبخل في سبيل الآخرين.
وبغَضِّ النظر عن أن هذا الابن يجب أن يُسهم مع الآخرين من إخوته في نفقات أمّه تطبيقًا لمَا يأمر به القرآن في قول الله ـ تعالى: (وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء 23).
فإنه كشريك في السُّكْنَى وفي المعيشة معهم يجب أن يدفع نصيبه كنصيب أيِّ واحد من الآخرين، فامتناعه الآن عن المشاركة يجعل الباعث على تصرفه غير إنساني وذلك مما يُسيء إليه هو وليس لأمِّه.
وكان المنتظَر ـ وقد سبق له أن تزوَّج بعد أن بلغ رُشده ـ أن يكون قُدوةً في بِرِّ والدته، فلا يُسهم فحسب في الإنفاق عليها وإنما يُعلِن استعداده لقيامه بسداد كل ما تحتاج إليه في معيشتها، وهنا يكسب مودّة والدته وإخوته قبل أن يكسِب احترامهم إيَّاه، والجزاء الأوفَى الذي يلقاه الإنسان عند مباشرته العمل الخير والصالح هو احترام الناس له وتودُّدهم إليه.
ولكن يشاء الله أن تبقى بعض النفوس البشرية بعيدة عن مُباشرة الخير ولو للأقربين؛ إذِ النفوس من حيث فِطرتها وخلقها مُهيَّأة إمّا للمعصية والشر أو للطاعة وعمل الخير، والإنسان هو الذي يُوجِّه ذاتَه إمّا لهذا الاتجاه أو ذاك:(/1)
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا "أي نمَّى نفسَه وطهَّرها بعمل الخير" وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا). "أي أخفى نفسه بالمعاصي والآثام". (الشمس 9، 10)(/2)
129ـ الزوجانِ وعدم إنْجاب الأولاد
مِن سيدة مُعذَّبة بإحدى القرى تَعرض مأساتها على النحو التالي:
أولاً: إنها تزوَّجتْ شابًّا تاجرًا في سَعة من العيش، وأنجبتْ منه أكثر مِن خمسة أولاد، وفي كل مرة أتت فيها بمَولود كانت تُضطَّر إلى إجراء عملية جراحية لإنْقاذ الجنين، وتُوُفُّوا جميعًا في أعمار تتراوح بين السنة والخمسة عشر، وقد أثَّرت وفاة البنت الأخيرة ـ عندما بلغت الخامسة عشر مِن العمر ـ في نفسها وفي نفس زوجها تأثيرًا كبيرًا، وبالأخصِّ أنها عرفت مِن الأطباء الذين يُعالجونها أنهم يكادون يُجمعون على أنها لم تعُدْ قادرة على الحمْل مرة أخرى.
ثانيًا: إنها بوَفاة أولادها أصبحت وحيدةً مع زوجها في الحياة، وأصبحت الحياة كئيبةً وحزينة بالنسبة لهما وفي نظرتهما إليها رغم ما هما فيه مِن سَعة الرِّزْق، ولم يعُد لها أملٌ في أن تُنجب مِن زوجها ولَدًا آخر. وإزاء عدم استطاعتها الحمْلَ وإنجابَ الولَد الآن فإنها تقترح على زوجها للخروج مِن حياة الحزن والكآبة التي يَعيشان فيها أن يَتزوج بواحدةٍ أخرى، لعلَّه يُنجب منها ولدًا أو أولادًا يَرِثون ما هما فيه مِن رزق واسع في التجارة. وهي إذْ تَقترح أن يتزوج زوجها واحدة ثانية معها تقترح ذلك برضاء نفسيٍّ وإخلاص تامٍّ، ولكنَّ زوجها يتخوَّف مِن أن الجمع بينها وبين زوجةٍ ثانية ربما يُؤدي إلى عدم الاستقرار في الأسرة.
وتسأل في النهاية: ما الحلُّ لإزالة الوحدة والوحْشة مِن حياتهما؟ وما السبيل للحيلولة دون أن يَرِثَنَا غيرُنا إذا ظل وضْعنا على ما هو عليه مِن غير ولد؟
ومشكلة السائلة كما تصفها تتلَّخص:
(أ) في حياة الوَحْدة والحزن والكآبة بسبب وفاة الأولاد، وبالأخصِّ البنت الأخيرة.
(ب) وفي القلَق على مصير المال الخاصِّ بهما بعدهما؛ لأنه لا يوجد مِن أولادهما مَن يرثه، فينتقل إلى الأقارب.(/1)
والسؤال الذي يُوجَّه الآن إلى السائلة: هل سيَذهب الحزن أو يَخف وهل ستذهب الكآبة إذا نفَّذ الزوج اقتراحها فتزوَّج بأُخرى غيرها وشاركتْها حياةَ الزوجية؟ ...
هل ستَستقر أمور الأسرة ويَسُود الاطمئنان الحياةَ العائلية إذا دخلت عليها امرأةٌ أجنبية وأنجبت ولدًا لزوجها وعاش هذا الولَد يحمل اسم الزوج ورب الأسرة؟ ...
سوف تُحسُّ الزوجة السائلة الآن بإحساس الغيرة إنِ ابتعد عنها زوجها ليُعاشر امرأةً أخرى في منزل الزوجية، وسوف تَزداد غيرتها إنْ أدخل زوجها هذه الزوجة الجديدة مجال العاطفة عنده.
وعلى العكس سيُحسُّ الزوج الحزين الآن بإحساس الرضا والاطمئنان مع الزوجة الجديدة، وسيُبادلها عاطفةً بعاطفة، وسيَستمع لشكواها مِن غيرة زوجته الأولَى، فالكآبة والحزن بَقِيَا للسائلة صاحبة الاقتراح هنا وحدها دون زوجها.
والزوجة الجديدة ألاّ تَخلُق مشاكلَ في حياة زوجها بسبب زوجته الأولى؟ ألَا تحاول أن تُظهرها أمامه بمَظهر العاجزة على الأقل للمُشاركة في حياة زوجية هادئة؟
فإذا أتت الزوجة الجديدة بولدٍ، هل تُسَرُّ الزوجة الأولى بولادته؟ هل تَرضَى نَفْسِيًّا مُستقبَلاً عن أن يرث الولد تركةَ أبيه في تِجارته الواسعة والناجحة؟ ألاَ تتحوَّل غيرتها من الزوجة الجديدة إلى حقْد عليها؟ ألا يكون هذا الحقْد الدفين مصدر قلَق وعدم استقرار للثلاثة؛ الزوجة السائلة والزوجة الجديدة وزوجهما معًا؟
إن الزوجة السائلة والحزينة والمُعذَّبة بحزنها، كما تقول، عندما تُعبر عن اقتراحها بزوجة ثانية لزوجها تعيش في وهْم، وعلى أملٍ بعيد قد لا يتحقق، وهي تريد فقط أن تُقنع زوجها بأن مَصلحته فوق مَصلحتها، وأنها تحرص على صحته وماله معًا، وأنه طالما تَحققت مَصلحته تكون سعيدةً في ظل ما يتحقق منها. ...
وتنسى ذاتها، تنسى أنها إنسانة وإنها امرأة، وتنسى أن ما كانت تتمنَّاه في حياتها مع زوجها قد ولَّى ولن يعود مرة أخرى.(/2)
تنسى أنها امرأة يُثير انفعالها أن ترى ما كانت تستمتع به وحدها ـ وهو زوجها ـ قد أصبح شركةً بينها وبين غيرها، والشريك الجديد هو المُميَّز عنده بحُكم جِدَّتِهِ. ... ...
تنسى أنها امرأة ويُثير حقدها أن مال الزوج ـ وقد كان له بريقه وله إغراؤه وتأثيره عليها ـ ينتقل برِضاها أو عن كُره منها إلى الولد من الزوجة الثانية. ...
أين استقرار الأسرة بالزوجة الجديدة، كما تَقترح السائلة؟ ...
الزوج قلِق؛ لأنه لا يستطيع الحصول على رضا الزوجتينِ معًا في وقت واحد. ...
والمرأة الأولى قلقة؛ لأن كل شيء كان بالأمس بين يديها ينتقل اليوم إلى يد غيرها، فالرجل ينتقل إلى غيرها، والمال ينتقل إلى غيرها كذلك. ...
والمرأة الثانية قلِقة؛ لأنها حريصة على أن تُمسك كل ما يصل إليها حتى لا يعود إلى مالكته بالأمس القريب.(/3)
إن ما ألمَّ بالسيدة السائلة وبزوجها، مِن وفاة أولادهما جميعًا، هو مِن فعل القدر ولا دخل لإرادة أيٍّ منهما فيه. ...
فهل جرَّبت السائلة أن تتوكل على الله وتترك للمولَى ـ جل جلاله ـ شأن ما نزل بها وبزوجها؟ يجب ألاّ تَخدع نفسها وتَخدع زوجها بما يدور في تصوُّرها مِن أوهام ومِن آمال كاذبة على نحو ما تقترح، وأن تعيش في واقع حياتها. ...
إنَّ نعم الله كثيرة، وقلَّما تجتمع لواحد مِن الناس، والله الذي يُعطي هو الذي يَحرم، وعطاؤه خيرٌ، وحِرمانه ليس بشرٍّ على الأقل. ...
فإذا لم تعتمد على الله وتتوكل عليه فإنها ستعيش في قلَق نفسيٍّ يزداد وربما في سخطٍ على الناس جميعًا وعلى الحياة، وبذلك يشتدُ حزنها وتزداد كآبتُها (للهِ مُلْكُ السمواتِ والأرضِ يَخْلُقُ ما يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا ويَهَبُ لمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ. أوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإِنَاثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَليمٌ قَديرٌ) (الشورى: 49 ـ 50). ...
لِنَفرضْ أنها كانت عقيمًا، لِنَفرضْ أن هذا الثراء الكبير الذي تعيش فيه لم يكن قائمًا، هل كانت تقترح على زوجها أن يتزوج بثانية عندئذ؟ هل كانت ستندم على أن زوجها لم يكن بالرجل الثريِّ؟
يجب أن ترضى بما قسم الله لنفسها ولزوجها، والعِوَض عند الله على ما فاتها مِن نعم الحياة، ولا يعلم أمرَ هذا العِوَض إلا هو جل جلاله.(/4)
47ـ مروءة الفتى في أسرته
طالب بالثانوي العام، من إحدى المحافظات، وسِنُّه ثمانية وعشرون عامًا، وقصته أن والدته البالغة سِنَّ الأربعين تعمل لحاجة الإنفاق عليه وعلى أخواتِه البنات الخمْس.. وأن أختًا له أصغر منه سِنًّا تعمل كذلك للغرض ذاته، رغم أن طاقة كل منهما على العمل ضعيفة.
ويسأل الآن: هل يَترك التعليم مُؤَقَّتًا ليُباشر السعْي إلى الرزق، والعمل لسدِّ حاجة الأسرة، بدلاً من أمه وأخته، إذْ أنه غير راضٍ عن أن تُنفق عليه أمُّه وأُخته.
يبدو أن سِنَّ الوالدة قُرابة الخمسين، إذا كان سِنُّه الآن الثمانية والعشرين. وإذا كان عمر السائل ثمانيةً وعشرينَ عامًا ولم يزل طالبًا في الثانوي فليس من العجب أن يُحسَّ بالمسئولية الشخصية عن كفالة نفسه بنفسه.. وأن يُظهر عدم رضاه عن عمل والدته وأخته في سبيلِ تغطية حاجته وحاجة أخواته البنات، وبالأخصِّ أن احتمالهما للعمل فيه مشقَّة. ...
والأمر الذي يسأل عنه السائل هنا هو: ...
هل ينقطع عن مُتابعة الدراسة فترةً من الزمن ليُحصل رزْقه ورزق والدته وأَخواته؟ ثم إذا استقرَّ له أمرُ المعيشة فيما بعد عاد إلى الدراسة ومُتابعتها في صورةٍ ما؟
والطالب السائل الآن ينمُّ سؤاله عن استعداد للتضحية. وعلى الأقل يُشير سؤاله إلى أنه غير أنانيٍّ وغير انتهازيٍّ، إذْ كان يُمكن له أن يستغلَّ عاطفةَ والدته نحوه ويَستمر في الدراسة، بينما هي تَستمر في العمل المُرهق، وهي لا تُطيقه كثيرًا، ولكن يُراوده القلق النفسيُّ بسبب مشقَّة العمل على والدته وأخته الصغيرة، وبسبب هذا القلق الذي يُراوده ويريد أن ينقطع عن الدراسة مُؤَّقتًا، على أن يَستأنفها فيما بعد أن أُتيحت له فُرصةٌ أكثر يُسْرًا. ...
والإنسان الذي ليس أنانيٍّ، وليس انتهازيًا: يُرجَى منه الخير، ويُبشِّر مستقبله باليُسر له ولأسرته.(/1)
ونجاح أيّ طالبٍ في دراسته لا يتوقف على المتابعة التقليدية لمراحل التعليم. بل يجوز لطالبٍ ما أن يَترك التعليم المدرسيَّ بعد الإعدادية أو بعد الثانوية، ويدخل مدرسة الحياة ويُباشر فيها عملاً لا يتصل فيها بكتابٍ مدرسيٍّ أو جامعيٍّ، وإنْ كان على صلةٍ بكتاب الحياة اليومية، يتعلم منه عن طريق التجربة التي تُصقَلُ لدَيه يومًا بعد يوم. ...
فإذا استقرتْ أحواله المعيشية والأُسرية عاد إلى دراسة الكتاب المدرسي أو الجامعي، وفي عودته إلى الدراسة المدرسية أو الجامعية يَسعين فيها بتجربة الحياة العملية التي باشرَها فترةً من الزمن، وعلى قدْر تجربته العملية يكون تفوُّقه دراسة الكتاب النظري.. ويكون تميُّزُه على أقرانه الذين واصلوا مراحلَ التعليم من قبلُ، أو أولئكم الذينَ شاركوه في صفوف الدراسة بعد العودة إلى التخرج في المرحلة الأخيرة. ...
... ويكثر المتفوقون بين الطلاب الذين انقطعوا عن الدراسة التقليدية ثم عادوا إليها بعد فترة من الزمن، وذلك بسبب النُّضوج الذهنيِّ عند عوْدتهم.. وكذلك بسبب التجارب التي أفادُوها من مُباشرة العمل في حياتهم، وبين الانقطاع عن الدراسة والعودة إليها. ...
وكثيرٌ مِن الطلاب في البلاد الأوربية والأمريكية بعد تخرجهم في المرحلة الثانوية لا يُواصلون الدراسة في الجامعات وإنما يأخذون فترة من الوقت يُعدُّون فيها أنفسهم للدراسة في الجامعة، وإعداد أنفسهم للدراسة الجامعية يَعنى أمرين:
الأمر الأول: ادِّخار مبلغ من المال عن طريق العمل في الحياة الخارجية، يُغطي نفقات التعليم في الجامعة وهي نفقات مُرتفعة. فالقليل من طلاب الجامعات الأوربية والأمريكية هو الذي يَدرس عن نفَقة أسرته أو على مِنْحة دراسية.
الأمر الثاني: تحصيلُ خبرةٍ عملية في الحياة اليومية. وبالأخصِّ في المجالات التي ستكون فيها الدراسة الجامعية فيما بعد. ...(/2)
وهنا لدَينا في مصر أفذاذٌ من العلماء والمُفكرين لم تُعِنْهم ظروفهم على مواصلة التعليم في مراحله العديدة، واضطروا إلى الانقطاع عن التعليم العالي، وفي بعض الأحيان إتمام التعليم الثانوي، وقتًا غير قصير وعندما استأنفوا الدراسة استأنفوها بقوة وعزْم وتصميم، وكان لهم التفوق ليس في النجاح في صفوف الدراسة فقط، بل مع ذلك في حياة الوظيفة أو في أداء الرسالة التي كُلِّفوا بها.
ونحن نُشجع الطالب السائل على ترْك الدراسة في الوقت الحاضر، ولفترة من الزمن يُساعد فيها والدته وأخواته البنات بالعمل في الحياة العامة. وطالمَا لدَيْه الاعتزاز بالنفس والرغبة في مُساعدة نفسه وأولِي رحِمِه فالنجاح مكفولٌ له.: الآن.. وبعد الآن، عند عودته إلى الدراسة مرة أخرى. ...
والتاريخ يُعطي كثيرًا من أمثلة العظماء الذين لم تكن حياتهم حياةً رتيبة ولم يتخرجوا من صُفوف مدرسية مُتلاحقة.(/3)
144ـ الزوجانِ معًا أقْدَرُ على حلِّ مُشكلتِهما
مواطنة من القاهرة تحكي مشكلتها وحَيْرتها بين اتجاهينِ يَصعب الجمع بينهما في حياتها، رغم أن كل اتجاهٍ يحرص عليه الإنسان العاديُّ لمَا لهُ مِن مَزايا.
فقد وَهَبَها الله التفوُّق في الدراسة في كلية الطب، حتى إذا ما تخرجت عُيِّنَتْ "مُعيدةً" فيها، وعليها أن تحصل على الماجستير ثم الدكتوراه، وقد حصلت الآن بالفعل على درجة الماجستير، وهي تقوم الآن بالتدريس للطلبة وتتعامل ـ كما تقول ـ مع زملاء ورؤساء.
وقد أنعم الله عليها كذلك بزوجٍ شابٍّ مُتدين، وحجَّ إلى بيت الله، وبطفل صغير عمره سنتانِ، وهي نفسها مُتدينة وترتدي الزيَّ الإسلامي منذ أن عُيِّنتْ في الكلية، وتأسف لأنها لم تَرْتَدِهِ مِن قبلُ.
أما في الجانب الآخر وهو الذي يُسبب لها المشكلة فهو أن عملها في إحدى المُحافظات، بينما عمل زوجها في محافظة ثانية، وحضانة طفلها عند والدتها في محافظةٍ ثالثة.
ويُراودها التفكير كثيرًا:
هل تتفرغ لشُئون زوجها، وطفلها، ومنزلها، ولنفسها أيضًا؟ فهذه الشئون تُؤدَّى الآن بصورة لا تُوطِّد العلاقة بين الزوجين، ولا تُعطي العناية الكافية بالطفل الصغير، وبالأخصِّ أنها لم تُنجب غيره، وتأخذ حُبوب منْع الحمْل؛ كي لا ترهق نفسها بطفل آخر وهي تُباشر العمل الخارجي.
هي تريد أن تترك هذا العمل الخارجي مع أهميته للمجتمع المسلم، ولكن زوجها ووالدها يرفضانِ تَرْكَها العمل، وهي تسأل عن رأي الإسلام في حل المشكلة، كما تسأل عن معنى قول الله ـ تعالى ـ في سورة الأحزاب مُخاطبًا نساء النبي عليه السلام: (وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهلِيَةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33).(/1)
ربما مِن السهل على السيدة الطبيبة السائلة مِن الوِجْهة النفسية أن تترك العمل الذي تُزاوله الآن في كلية الطب لتَتفرَّغ إلى زوجها وطفلها ومَنزلها وحياتها الخاصة، أيْ لتتفرغ إلى ما هو أهمُّ لدَيْها في نظرها.
فالخمس سنوات الأولَى في الحياة الزوجية هي الأساس الذي يقوم عليه نجاح الزوجية أو عدم نَجاحها مُستقبلاً، فالمُفارقات في العادات والرغبات إذا لم تَضعف بين الزوجينِ في هذه الفترة الزمنية كانت الزوجية مُهدَّدة بالنزاع والخِصام والفُرْقة، والأمر الذي يُضعف شأن المفارقات في العادات والرغبات بين الزوجينِ يعود إلى الزوجة أكثر ممَّا يعود إلى الرجل، فالزوج إنْ عاد مِن العمل إلى زوجته ووجدها ذات جاذبيةٍ وإغراء؛ بنظافة ملابسها وبنشاطها وحَيويَّتها، أقبل عليها في عاطفةٍ قوية، وعندئذ تكون استجابته سريعةً لتوجيهها، سواء في استبدال مَلابسه، أو في طريقة تناولِ أكله، أو في نظافته، أو التعبير عن رغباته، أو في تكوين العادات الجديدة التي يتَّصف بها الإنسان المُهذَّب. ...(/2)
أما الأمر الذي يُقوِّي المفارقات بين الزوجينِ في فترة الخمس سنوات الأولى فيرجع إلى إهمال الزوجة نفسَها في المَلْبَس وهي في المنزل، وفي إعداد الأكل، وفي ترتيب المنزل وتَنسيقه، وإهمالها أيضًا لأُنوثتها فتظلّ مثَلاً بجِلباب النوم أو البيجامَا مُهوَّشةَ الشعر، وربما لم يَظفر وجهها بالنظافة منذ الليل الماضي، وقد تكون عاملةً تأتي من العمل الخارجي مَكْدودةً مهمومة بسببٍ أو بآخر، يُنسيها أنها زوجةٌ وأنثى، فتُفرط في التدخين وتتناول القهوة، في لحظةٍ يَنتظر زوجها منها أن تُعدَّ الطعام لهما معًا، فإن سألَها غَضبَتْ وتوتَّرت أعصابها واحتَجَّتْ بتعبها في العمل، وربما تُقدِّم مِن الطعام ما هو مُعلَّب أو جاهر الإعداد في الخارج، ويتكرر ذلك، وكلَّما تكرَّر أسِفَ الزوج في نفسه على الزواج، وهنا تَبدأ عوامل الفُرقة بين الزوجينِ تَقْوَى، ولا يُرجئها إلا طفلٌ يربط بينهما، وعلى أيَّةِ حالٍ فمثل هذا الزواج غير ناجح، ومثل هذا الطفل الذي هو ثمرته غير سعيد.(/3)
والطفل لا يُعوِّض حضانةَ الأم له في الطفولة المبكرة أيُّ نوعٍ آخرَ من الحضانة، حتى ولو كانت حضانة جَدَّتِه، وهي أمُّ أمِّه، فالحضانة ليست رعايةً للطفل في تناول الأكل وفي النظافة البدنية، وفي الحِرْص على سلامته في السير أو في الحركة على العموم، وإنما هي نَقْلٌ لحنان الأم إليه سواء في إرضاعه مِن ثَدييها، أو في التقاء عينيه بعَينها، أو في مُداعبته وتَنشيطه، والأم وحدها ـ وليس غيرها؛ مِن أمِّها، فضلاً عن مُدرسة الحضانة ـ هي التي تَقْدِر وتصبر وتتحمَّل عملية نقل الحنان الإنساني الخالص إلى طفلها في فترة الحضانة. ...
ثم بعد فترة الحضانة الأمُّ وحدها هي التي يُمكن أن تُعِدَّ طفلها للمدرسة وللشارع، كما تُعدُّه للبيت، فالمدرسة فيها التعليم وبجانب التعليم تُوجد العادات الاجتماعية التي تربط بين تلاميذ المدرسة من جهة والمُعلمين فيها من جهة أخرى، فللمعلِّمين احترامهم وللتلاميذ زَمالتهم وأُخوَّتهم، والشارع له تَقاليد في المحافظة على نظافته، وفي عدم البصق أو التبوُّل فيه، وفي طريقة السَّيْر على أرصفته ومُراعاة قواعد المرور على أرضه، أما البيت فلا سبيل للطفل أن يتمسك بعاداته إلا عن طريق القُدوة الحسنة، والقدوة الحسنة تكون من الأم والأب معًا، فهو لا يُباشر الصراخ والبكاء إذا امتنع والداه منْعًا عن الجدَل والمُشاحنة والمقاتلة أمامه تمامًا، وهكذا.
أمَّا أهميةُ الحياة الخاصة بالنسبة للزوج فتَرجع إلى مُحافظتها على أُنُوثتها، ليست في "صَنْعة الزِّينة" التي تُباشرها المرأة وإنما في حديثها وفي عواطفها، يجب أن تظلَّ صاحبة الصوت الرقيق، وصاحبة العواطف التي تجعل منها أُمًّا وزوجةً بحَنانها وتَسامُحها، يجب ألاّ تَنتقل إلى خُشونة الرجل وغِلْظته وغُروره.(/4)
الوِفاق مع الزوج، والحنان على الطفل، والبقاء في دائرة الأُنوثة للمرأة هي التي تُرجِّح للسيدة الطبيبة السائلة أن تَترك العمل الخارجي. ...
ورفْضُ زوجها وأبيها لتركها العملَ له اعتباره كذلك، فهي من القليلات المُتفوقات في دراسة الطب، والتي تَسير الآن في طريق "الأستاذية" وعندما تُصبح أستاذةً ستُضيف إلى الخبيرات في شئون طب النساء خَبيرة مؤمنة متديِّنة، وما أحْوَجَ المجتمعاتِ الإسلاميةَ المُعاصرةَ إلى مِثْلها، فإيمانها وتديُّنها سيَزيد في خُبرتها، وخير ما في الخبرة "الأمانةُ" وهي ولا شك أمينةٌ ومُؤْتَمَنة معًا، وهذه الميزة للسائلة هي التي تَحمل مَن يَسمع أنها ستترك العمل على أن يُبديَ الأسفَ لحِرْمان المجتمع المسلم مِن مَثيلاتها.
ورأينا أنه يُمكن للسيدة الطبيبة السائلة أن تترك العمل الآن في الكلية فترةً مِن الزمن تُعنَى فيها بزوجها ورعايتها لطفلها وتَكسب فيها الزوج والطفل معًا، وترْكها العمل الخارجي في هذه الفترة لا يَحُول بينها وبين الاستمرار في الدراسة والإعداد لدرجة الدكتوراه في المنزل وقت الفراغ لها. حتى إذا أحسَّت بعد ذلك أن لدَيها فراغًا فَلْتُباشرِ العمل عن طريق الندب أو التعيين لبعض الوقت، وبذلك تجمع بين الحُسنَيَينِ؛ مساعدة الأسرة الخاصَّة والأسرة الكبيرة، وهي المجتمع المسلم.(/5)
أما تفسير قول الله تعالى: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33) فيَحسُنُ أن يَسبقه تفسيرُ قول الله تعالى: (وقُلْ لِلْمُؤمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبْصَارِهِنَّ) وغَضُّ البصر مِن المرأة عدم النظر إلى الرجل، والقرآن لا يَطلب ذلك منها هنا إلا إذا كانت مارَّةً خارج المنزل؛ إذْ لا معنى أن يَطلب منها عدم النظر إلى الرجل الأجنبيِّ عنها وهي جالسةٌ في بيتها (ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) أيْ يَكُنَّ عَفِيفاتٍ (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي لا يُظهرن شيئًا مِن أبدانهنَّ للناس إلا ما ظهر منها بالطبع، وهو الوجه والكفَّان، فحركتها وتَعاملها يَقتضيانِ الكشف عنهما، وبدَن المرأة كله هو زينتها بدليل قوله بعد ذلك: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ علَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعولَتِهِنَّ) أي لا يجوز لهنَّ أن يُظهرن شيئًا مِن أبدانهنَّ إلا لأزواجهنَّ، وتعبير الآية عن بدَن المرأة بزِينتها ليُعلن القرآن أن أيَّ جُزء مِن جسمها هو موضعٌ لإثارة الرجل وفِتنته، ولذا يجب سَتْرَهُ (النور: 31) فالآية تُفيد جواز خروج المرأة مِن بيتها لحاجةٍ لها، بشرط أن تَغُضَّ البصر ولا تَنظُرَ إلى الرجال يَمينًا ويَسارًا ومِن فَوقُ ومِن تحتُ في مُرورها خارج المنزل. ...
فإذا جاءت آية الأحزاب تقول لنساء النبي، وهو قول يتَّجه إلى كل مُؤمنة بعدهنَّ: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) فهي لا تَطلب عدم جواز خروج المرأة وبقاءها حَبيسةَ المنزل، وإنما تطلب باستقرارهنَّ في البيوت إذا لم تكنْ لهنَّ حاجةٌ في الخروجِ الوقايةَ مِن التعرُّض لوَقاحة بعض المَارِّينَ، كما تُشير آية سابقة عليها: (يا نِسَاءَ النبيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ(/6)
فَيَطْمَعَ الذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزان: 32) والذي في قلبه مرَض هو مَن يقع تحت تأثير شَهْوته، ومَن يقع تحت تأثير شهوته مَوجود في كل وقت وفي كل مُجتمع، وقوله: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) معناه: إن خرجتُنَّ مِن البيوت لحاجةٍ فلا تُلفِتْنَ أنظار الرجال بالملابس الفاقعة أو بصَبغ الوُجوه بألوان مُتعدّدة أو نحو ذلك، فإنَّ مَن شأنه أن يُثير الرجال فيَطمَعَ الذي في قلبه مرضٌ.
وخروج المرأة إلى العمل إذًا إذَا لم تُصاحبه فِتْنَةٌ وإثارة منها للرجال لا تَحرمه الآية هنا، كما أن طلَب استقرار المرأة في المنزل وسيلةٌ مِن وسائل وِقايتها مِن العَرض لحُمق بعض الرجال وإيذائهم بالقول النابي أو بالحركة ممَّا تُواجهه مِن مَرْضَى النفوس وحَمْقَى السلوك.(/7)
6ـ عبادة الله ونِعَمُ الحياة الدنيا
مواطن من إحدى القرى يقصُّ في رسالة له، إنه شاب ناشئ في عبادة الله وطاعته، مُتمسِّك بسُنَّة رسولنا الكريم، وفُوجئ بأنه يحسُّ في نفسه كراهية الدنيا، ويتَّجه بتفكيره إلى الموت والحياة الآخرة، ولا يُريد من الدنيا أيَّ متعةٍ فيها، ويَذكر أن هذا الإحساس تملَّكه منذ شهرٍ تقريبًا، ولم يطلب توضيحًا لشيء أو رأيًا في هذا التغيير الفجائي.
هل هذا الشاب عكَف فترة من الزمن قبل ظهور هذا الإحساس عنده على قراءة بعض الكتب التي تُبغِّض الإنسان في الحياة الدنيا وتدعو الناس إلى الانصراف عنها؟ وهي كتب الغُلاة من المتصوفة.
هل هذا الإحساس الأخير الذي فُوجئ به هذا الشاب في حياته من طلب الموت والإسراع إلى الحياة الأخروية يَعود إلى موجة نفسية عنده من التشاؤم، فكَرِهَ الأحياء معه في المجتمع وتطلَّع إلى الأموات في قبورهم وفي مصيرهم في الآخرة؟(/1)
هذا الشاب قطْعًا لم يقف على رسالة الإسلام بشأن الإنسان كما تَحكيها آيات القرآن الكريم؛ إذ إن هناك ثلاثَ مراحل في حياة الإنسان وثلاثة مواقف من الإنسان نفسه تجاه المُتَع المادية تُصورها رسالة الله في القرآن: ...
أولاً: هناك حياة الجنة التي عاش فيها آدم وحواء فترة من الزمن قبل خروجهما منها عقابًا لهما على مَعصيتها. ...
وثانيًا: هناك الحياة الدنيا التي انتقل إليها آدم وحواء ثم نَشأ فيها بنو آدم وحواء، ويَعيشون فيها لفترة مِن الزمن قبل القبْر وقبل البعث منه إلى الحياة الآخرة. ...
وثالثًا: هناك الحياة الآخرة، وفيها الجنة التي أُعِدَّت للمُتقين، والنار التي تفتح أبوابها للكافرين وتقول: هل مِن مزيد؟ ...
وفي هذه المراحل الثلاث، أو في هذه الأنواع الثلاثة مِن حياة الإنسان لم يُحرِّم الإسلام على الإنسان إطلاقًا الاستمتاع بمُتَع الجنة على عهد آدم فيها، ولا بمتع الحياة الدنيا التي يعيش فيها، الآن ولا بمُتع الحياة الأخروية التي وُعد بها المتقون، وهي كلها مُتعٌ مادية، ولم يطلب منه إلا أمرًا واحدًا عندما كان آدم وحواء بالجنة قبل وسوسة إبليس لهما، وهو أن يمتنعَا عن الاقتراب من ثمار شجرةٍ مُعينة، وذلك في قول الله تعالى: (ويا آدمُ اسكُنْ أنتَ وزَوْجُكَ الجنةَ فكُلَا مِن حيثُ شِئْتُمَا ولا تَقْرَبَا هذهِ الشجرةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأعراف:19) وكان الأمر بالامتناع عن الاقتراب مِن الشجرة المُعيَّنة يُصوِّر طاعة آدم وحواء لأمر ربهما، بينما الأكْل مِن ثِمارها كان يُمثل عِصْيانهما لأمر الله جلَّ جلالُه، فآدم وحواء وُضِعَا هنا في الجنة مَوضع التجربة والاختيار وتُرك لهما استقلالُهما بالعقل، هل العقل الآن الذي تَمَيَّزَ به الإنسان عن المَلَكِ سيضمن لهما البقاء في طاعة الله باتِّباع أوَامِره واجتناب نواهيه، أم أنه سيَعجز عن مُقاومة الشهْوة والهوَى التي تُدْفَع الغريزة عن طريقهما؟ وقد(/2)
عجَزَا فعْلاً عن أن يَضمَنَ لهما الصراط السويَّ فاتَّجَهَا إلى الله طالبينِ المغفرة بعد خطيئتها وداعينَ إيَّاه (قالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسَنَا وإنْ لمْ تَغفِرْ لنَا وتَرْحَمْنَا لنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) (الأعراف:23) وكان جزاءً الله لهما هو أن أخرجهما من الجنة مع إبليس للإقامة على الأرض حتى يحلَّ وقت البعث من القبور (قالَ اهْبِطُوا بعضُكُمْ لبَعضٍ عَدُوٌّ) فالإنسان مُمثَّلاً في آدم وحواء عدوٌ للشيطان، والشيطان مُمثَّلاً في إبليس عدو للإنسان (ولكمْ في الأرضِ مُسْتَقَرٌّ ومتاعٌ إلى حِينٍ. قالَ فيها تَحْيَوْنَ وفيهَا تَمُوتُونَ ومنها تُخْرَجُونَ) (الأعراف24-25) وطالمَا قد عجَز العقل البشري عن أن يَضمن للإنسان في شخْصِ آدم وحواء دوامَ الطاعة لله. تفضَّل على الإنسان برسالة الرُّسل إلى الأجيال المُتعاقبة من البشر من أولاد آدم وحواء (يا بَنِي آدَمَ قدْ أَنْزَلْنَا عليكم لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكمْ ورِيشًا ولِبَاسُ التَّقْوَى ذلكَ خيرٌ ذلكَ مِن آياتِ اللهِ لعلَّهمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف: 26) واللباس الذي أنزله الله ستْرًا وغطاءً لنقْص الإنسان وعجْزه هو لباس الرسالة الإلهية وهِدايتها.(/3)
والدنيا وهي المرحلة الثانية في حياة الإنسان خُلقت ولَها مُتَعُها المادية وزِينتها، ولها بَرِيقُها وإغراؤها للإنسان (زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ والقَناطيرِ المقنطَرةِ مِنَ الذهبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسوَّمَةِ والأنْعامِ والحرْثِ ذلكَ متاعُ الحياةِ الدنيا واللهُ عندَهُ حُسْنُ المَآبِ) (آل عمران:14) وهي خُلِقتْ على هذا النحو لتكون دار الاختبار والابتلاء لطاعة الإنسان لله طبْقًا لمَا جاء في رسالة الله من أوامر ونواهٍ. وأوامرُ الرسالة الإلهية ونواهيها منذ بداية الرسالات حتى القرآن الكريم لا تُحرم على الإنسان في الحياة الدنيا الاستمتاعَ بمُتَع الحياة الدنيوية المادية، ولذا جاء فيها استنكار مَن يُنكر حِلَّ الاستمتاع بها استنكارَ تحريمِ مَن يُحرِّمها، جاء في قول القرآن الكريم: (قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التِي أَخْرَجَ لعِبادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ للذينَ آمَنُوا في الحياةِ الدُّنْيَا خالصةً يومَ القيامةِ كذلكَ نُفصِّلُ الآياتِ لقومٍ يَعْلمونَ) (الأعراف: 32) أي حلّ لهم. أي وحِلُّهَا لهم في الآخرة قاصرٌ عليهم وحْدهم. والاستمتاع بالمُتع المادية من زِينة الحياة الدنيا وبِطَيباتها من الرزق أمرٌ مُباح، وجاء تأكيد إباحته بطلب الاستمتاع بها في قول الله تعالى: (يا بَنِي آدمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عندَ كُلِّ مَسجدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا) (الأعراف:31) فتَلفت نظر الناس إليها للاستمتاع بها.(/4)
ولكن بجانب إباحة الاستمتاع بمُتع الحياة الدنيوية المادية تطلب عدم التجاوُز في الاستمتاع بها، تطلب عدم الإسراف فيها، فتَذكر الآية بعد الإباحة قوله تعالى: (ولا تُسْرِفُوا إنَّه لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) وتُقيِّد الاستمتاع بعدم الإسراف، حرْصًا على مصلحة الإنسان في نفسه وفي علاقته بالآخرين في مُجتمعه. وهكذا الهروب من الدنيا ليس مطلوبًا في رسالة القرآن الكريم، وتحريم الاستمتاع بمُتعها ليس واردًا كذلك فيها، بل مع حلِّ الاستمتاع بها السعْيُ في سبيل الرزق، وذلك بتحصيل هذه المُتَع (فإذا قُضِيَتِ الصلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) (الجمعة:10) بالوقوف بين يدي الله جلَّ جلالُهُ. وتكليف القرآن للإنسان في عدم الإسراف في الاستمتاع بها وليس في عدم تناولها والفِرار منها.
والآخرة، وهي المرحلة الأخيرة والباقية في حياة الإنسان، فيها نعيمُ الجنة وفيها عذاب النار، وتَصف بعض آيات القرآن الكريم نعيم الجنة في الآخرة في قوله جلَّ جلالُه: (إنَّ المُتقِينَ في جنَّاتٍ ونعيمٍ. فاكهِينَ بمَا آتَاهمْ رَبُّهُمْ ووَقَاهُمْ ربُّهمْ عذابَ الجَحِيمِ. كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بمَا كُنتمْ تَعملونَ. مُتَّكِئِينَ علَى سُرُرٍ مَصْفُوفةٍ وزَوَّجْنَاهُمْ بحُورٍ عِينٍ. والذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بإيمانٍ ألْحَقْنَا بهمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ومَا أَلَتْنَاهُمْ مِن عمَلِهِمْ مِن شيءٍ كُلُّ امرئٍ بمَا كَسَبَ رَهِينٌ. وأَمْدَدْنَاهُمْ بفاكهةٍ ولحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. يَتَنازَعُونَ فيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فيهَا ولا تَأْثِيمٌ. ويَطُوفُ عليهمْ غِلْمانٌ لهمْ كأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (الطور:17ـ 24).(/5)
والاستمتاع بالمُتع المادية إذْ قُيِّدَ على عهد آدم في الجنة بعدم الاقتراب من شجرة معينة، وقيد في الدنيا بعدم الإسراف فيه، فإنه في نعيم الآخرة مُطْلق من كل قيْد؛ لأن الاختبار في طاعة الله قد تمَّ.
وعلى أية حالٍ فالحديث عن الفرار من الدنيا، والتشاؤم فيها، وطلَب الموت واللحاق بسرعة إلى مَن في القبور ـ نزْعة غير إسلامية. ومَن يعبد الله يجب أن يُراجع كتابه ليَعرف منهج السلوك في حياة الإنسان، فالإنسان كما يُصلي ويصوم ويُزكي هو يأكل ويشرب ويتزوج النساء، يسعى في سبيل الرزق وتحصيل المال. حياةُ المسلم حياة إيجابية؛ يُواجه المشاكل والأزمات بالصبر والإيمان ولا يَفِرُّ منها، ولذَا مَن يُنهي حياته هرَبًا من المُواجهة للتحدِّيات لا يكون إنهاءُ حياته مُعَبِّرًا عن بقية إيمانٍ بالله في نفسه، ومَن يَنتحِرْ فقد يئِس مِن رحمة الله.
والسائل عليه أن يَستعين بقراءة المُعوِّذتينِ، فإن ما يُلِمُّ بهِ الآن وَسْوَسة مِن وَساوس الشيطان. يجب عليه أن يتوكَّل على الله في كل ما يفعل، وأن يُؤَمِّلَ في الله خيرًا دائمًا اليوم وغدًا.
156ـ التديُّن والسُّفور
كتبت مواطنة من إحدى المحافظات تقول إنها طالبة في المرحلة الثانوية وتعرَّفت بشاب في سِنِّها، ونشأت بينهما علاقة طيبة طاهرة من الحب، لم يتمكَّن منها الشيطان، وإنما العقل والثبات، وهي علاقة الكِتابة المتبادلة، لم تعرف الخروج والسير معًا، وأُختها الكبرى هي الوحيدة مِن أسرتها التي تعلم بهذه العلاقة.
والآن تسأل: هل هذه العلاقة تُعتبر حرامًا؟ وهل الحب الطاهر حرام؟ والسائلة متديِّنة بمعنى الكلمة.(/6)
تتحدث السائلة وهي طالبة بمرحلة الدراسة الثانوية عن "حب طاهر". ما الحب الطاهر؟ حبُّ المولي ـ جل جلاله؟ ، حبُّ كماله المُطلق؟، ليس هناك حبٌّ طاهرٌ إلا ما كان موضوعًا عن النقائص، مُنزَّهًا عن الأهواء والشهوات، فهل نوع الحب الذي بين الطالبة والطالب في سنِّ المُراهقة هو من نوع الحب الإلهي؟، أم هو نوع مِن حبِّ الإنسان للإنسان؟ والإنسان هوًى وشهوةً: يأكل ليعيش، ويتزوَّج ليعيش بنوعه، كما يعيش بشخصه.
... والأمر الذي يحدد نوع الحب هو موضوع الحب ذاته، فطالما موضوعه الإنسان، فهو حب الميل، والرغبة، والهوى، والشهوة، والعواطف، وإذا كان الشيطان لم يدخله الآن بعد، فهو على أية حال مجال الشيطان ووَسوسته قد يدخله غدًا أو بعد غد، قد يدخله تَوًّا، وقد يدخله بعد فترة، وإذا كان الحب الآن قاصرًا على الرسائل المتبادلة، فقد تتجسَّم هذه الرسائل، لتُعبر عنه: في اختلاطٍ، وفي نظراتٍ، وفي عواطف.
... الإنسان يحب الإنسان: لماذا؟ ماذا يحب فيه: صوته، حديثه، شكله ووَسامته، خياله وأمانيه، ما يَملك مِن مالٍ أو حسبٍ وجاهٍ،
... الإنسان يحب الإنسان: أيَظلُّ المحب بعيدًا عن الحبيب أو يسعى إلى القُرب منه؟، أيُشيح عنه بالنظرات، أم يَرْصُده بها في حركاته في المكان، ويَستعيد صورته في الخيال، عندما يَعجز عن رصْدها في أيِّ مكان وزمان.
... اليوم حب عفيف، وغدًا حبٌّ أعمى، أليس ذلك حب الإنسان للإنسان؟
... اليوم حب على البعد، وغدًا حب على القرب، أليس ذلك من طبيعة الإنسان.
اليوم حب شريف، وغدًا حبُّ شهوةٍ وهوًى، أليس الإنسان بين يومه وغده يجمع بين المتناقضينِ؟
أيْ بُنيتِي! أنت شابة في مُقتبل العمر، أنت في مرحلة المراهقة الآن، وفيها مِن المتناقضات الكثير: تُريدين أن تكوني مُتدينة وتريدين أن تكوني حضاريةً متمدينة.
... تريدين أن تكوني ذات حَظوة في أسرة، وتريدين أيضًا أن تكوني ذات شأن في وظيفة ما.(/7)
تُريدينَ أن تكوني فوق أخطاء الإنسان، ولكن الطبيعة البشرية والأقدار قد تَضعُك موضع الاختبار والابتلاء، في الأخطاء والأزمات.
... ليس هناك حبٌّ طاهر في الوجود الإنساني، إلا بقدْر ما يَرْسمه الخيال أو الوهم، هناك عند الإنسان شهوة، وهناك عنده هوًى، يدفعه نحو الشهوة، هناك ميْل الإنسان نحو الإنسان، ولكنه مؤقت يَتغير من وقت لآخر، في درجته ومُستواه، وقد يتحوَّل إلى "نُفْرة" ، وسُخط ، وكراهية،
... طريق "الحب" طويل ولا يُوصل إلا إلى ما يُقلق النفس.
أنت الآن في مرحلة الثانوية، احْرصي بإرادة نافذة على اجتيازها، ضَعِي ما تسمية بالحب الطاهر تحت قدميك الآن، فهو مِن عمَل الشيطان قطعًا، فمِن وسوسة الشيطان: إنه يُحسِّن الخطوة الأولى، حتى إذا استغرق فيها الإنسان: حسَّن له الخطوة الثانية. وهكذا كشارب الخمر: يظنُّ أو يعتقد أن الكأس الأولى لا تُسكره، وإذا أسْكرته لا تُحَوِّل الشارب إلى مُدْمنٍ على الشراب، حتى إذا توالى الشراب أصبح مُعتادًا عليه، وأصبح عديم الإرادة، لا يقوى على السيطرة على نفسه، وعندئذ يفقد نفسه كإنسان.
إن الشيطان "يزين" للإنسان، ويغريه بالتدريج، والإنسان لا يُحسُّ باتباع خطواته حتى يقع فيها، وإذا وقع فيها قلَّما يخرج منها نظيفًا كما كان، وطاهرًا كما كان، وما كان مِن عمل الشيطان فحرام على الإنسان أن يُطيعه. لا تُصدقي يا بُنيتي وهْمك وخيالك: بأن حبك للشاب زميلك هو حب طاهر، يقف عند تبادل الرسائل، فذلك من إغراء الشيطان لك وله.(/8)
... وقد حذَّر الله بني آدم جميعًا من الشيطان واتباعه فيقول القرآن الكريم: (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطانُ كمَا أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هوَ وقَبِيلُهُ مِن حيثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعلنَا الشياطينَ أولياءَ للذينَ لا يُؤمِنونَ). (الأعراف: 27). فما فعله الشيطان مع آدم وحواء، هو تَعْريتهما والكشْف عن النقص فيهما، وكذلك يفعل بأبنائهما في جميع الأجيال البشرية: يُغري، ويَخْدع في إغرائه حتى يصل بالإغْراء والخداع إلى الكشْف عن النقْص في الإنسان، وعندئذ لا يجدُ ساتِرًا يَستر نقْصه، والشيطان مع الإنسان، وفي نفس الإنسان: في شهْوته وهواه.
... إن علاقة السائلة بالشاب زميلها هي علاقة آثِمة، مهما تصوَّرت: أنها بريئة وشريفة، وطاهرة، فما يجري بينهما الآن هو مُقدمة حتمية لمَا يكشف سوءهما ونقصهما فيما بعد للناس إن استمرَّا فيها.
163ـ الشباب اليوم.. والحياة في مرحلة المُراهقة:
شاب حائر مِن إحدى المحافظات:
... طالبٌ بالأزهر، وعلى وشك أن يلتحق بالجامعة، ويحفظ القرآن حفْظًا جَيِّدًا، ويُطيع الله ـ عز وجل ـ ويُؤذن في مسجد القرية.. ويُصلح بين الناس ابتغاء وجه الله.(/9)
... دخل سِنَّ المُراهقة، وبدخوله هذه المرحلة في حياته أخَذ يفكر في أمور الدين تفكيرًا عَميقًا: مرة يُخطئ.. ومرة يُصيب.. وأصبح كما يقول: يصول ويجول في هذا الفِكْر.. إلى أن وَجَد نفسه في قلَقٍ، واضطراب، وخوْف مِن الحياة).. ثم يَستطردُ فيقول: ...
"ووسط كل هذا تدخَّل الشيطان على فكري: يُؤيد في نفسي الفكر الخَبيث، والذي يُبعدني عن الإيمان بالله، فتحوَّلتُ بيني وبين نفسي، مِن شخص راسخ الإيمان.. إلى شخص مُتزعزع ضعيف الإيمان". ...
... 0 وهذا المرض يزيد في قلبي يومًا بعد يوم، منذ أربع سنين.. وأحيانًا يتجلَّى الله عليَّ بنوره، وأكون في نورٍ وصفاء حتى أتذوَّق حلاوة الإيمان.. ولكن سرعانَ ما يعود المرضُ بوَسوسة الشيطان، وأنا مع ذلك أجاهدُ نفسي كثيرًا، مُستعينًا بالله، ومُستعيذًا به من الشيطانِ".
... "ورغم كل هذا ـ كما يستمر الشاب الحائر في القول ـ فأنا لم انقطع عن الآذان بالمسجد في القرية.. ولم يُغيِّر هذا المرض من سلوكي الطيب بين الناس.. ولم يُثبط عزيمتي نحو الدعوة إلى الله ما استطعت إلى ذلك سبيلا".
... "ولكن هذا المرض غيَّرَني مِن الداخل إن لم يكن كُلِّيًّا فالغالب، حتى أمات في نفسي الجانب الرُّوحي، وجعلني أعيش في ضَنْكٍ وحزن دائم"..
... ويسأل:
أولاً: كيف التخلُّص من هذا المرَض الألِيم؟
ثانيًا: هل يُرجَى مِن شخص سكَن قلبه هذا المرض الخبيث: أن يتخلَّص مِن هذا الكابوس، ويَتذوَّق مِن جديد حلاوةَ الإيمان؟
ثالثًا: إنه يُحسُّ بتغير الناس مِن حوله، هل إحْساسه بكراهيتهمْ إيَّاه: نتيجة هذا المرض أمْ هو وهْم خاطئ منه؟
رابعًا: ما داء الحسَد؟(/10)
الشاب الحائر يبدو أنه في إيمانه بالله وبالقيم الإنسانية التي جاءت بها رسالة الهُدَى كان مُنصرفًا وغير عابئٍ بمُتع الدنيا وزينتها إطلاقا، وكان يخشى أن ينظر إلى مُتعة مادية في المال أو في المرأة، أو في الجاه.. أو في الأكْل والشُّرب وما تَشتهيه النفس بإلْحاح، فضْلاً عن أن يسعَى إلى الاستمتاع بها، كان يعيش في عُزلةٍ نفسيةٍ وفِكريَّة عمَّا يجري في حياة المجتمع الذي نشأ ويُوجد فيه الآن، كان لا يَرتبط في نفسه بشيء آخر ماديٍّ وراء إيمانه بالقيم العُليا، وكان لا يَرتبط في تصوُّره للحياة إلا بما يؤمن به مِن قِيَمٍ عُليا إنسانية فقط، وبسبب هذه العُزلة النفسية كان يعيش في وئامٍ مع ما يُؤمن به، يَتصور السُّمُوَّ كل السمو في قيم الروحية فيَصعد إليها بالإيمان ويَبتعد عن واقع الحياة تَمامًا، وبِصُعوده إلى مجال القيم الروحية العليا يبتعد عن واقع الحياة، وهو واقع يمرُّ به، ولكن لا يَلتفت هو إليه، وعلى أيةِ حال إنْ لم يكن هناك وِئامٌ قائم بين ما يَتصوَّرُه في إيمانه وبين السلوك في الحياة التي يَعيشها، فليس هناك اصْطدام على الأقل بين الطرفين: الإيمان بالقيم الروحية العليا في نفسه كطَرف.. والحياة التي يَعيشها في تصوره وفي عُزلته عن الواقع تحت قدميه.(/11)
وعندما دخل مرحلة المراهقة تَيقَّظ في نفسه الميْل إلى الواقع المادي في الحياة، بحُكم ضغط الغريزة الجنسية التي تُميِّز هذه المرحلة عن بقية المراحل في تطور الإنسان ويَسود فيها، وانْجذب إليه جذْبًا عَنِيفًا ورأى ما فيه مِن إغراءات، وزينة للحياة الدنيا،: رأى المال.. والمرأة.. والترَف في الاستمتاع.. والجاه.. ومِن قبلُ كان يتجاوزها ببَصره. ...
وهنا كان التصادُم في النفس.. وكان الصراع الداخلي.. كان التقلُّب والتردُّد بين الروحية والمادية، أو بين أقصى اليمين.. وأقصى اليسار.. أو بين سُموِّ القيم العليا في التصور، ودُنُوّ المتع المادية في واقع الحياة.. وكان الضعف في البقاء في طرَفٍ من الطرفين وربما يطول هذا الصراع وربما يقصر.. وربما يشتدُّ ويقوَى.. وربما يتراخَى أو يتلاشَى بتغلُّب أحدِ طرفَيِ المعادلة النفسية. ...
ودخل الشاب الحائر مَرحلة المُراهقة فرأى الواقع في الحياة بما يُغريه ويَخدعه، ويَشدُّه وينزعه ممَّا كان فيه، وما كان فيه كان تصوُّرًا فقط رسَمه له الإيمان بالله وبالقيَم العُليا، وَجَد نفسه أمام تناقُضٍ، لا يُمكن لمثله أن يَرفعه بِيُسْر في حياته، حتى يكون هناك انْسجام فيها، وابتدأ يتأرجح في تقديره، وما كان يَرفضه بالأمس مِن الإقبال على حُبِّ الشهوات أصبح يدفع إلى السعْي نحوه دفْعًا، ابتدأ يَشكُّ في القيم الروحية التي جاء بها الإيمان بالله عندما يشتدُّ الضغط عليه نحو الشهوات التي جُبِلتِ النفوس بحُكم غرائزها على أن تقع في شِباكها: (زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ ذلكَ مَتَاعُ الحياةِ الدُّنيَا). (آل عمران: 14). ومعنى أن هذه الشهوات زُينت للناس: أنها مصدرُ خِداع لهم، ويُعبر السائل عن تأرجحه في التقدير والتردُّد بين الطرفين، فيقول في رسالته: "فتحولتُ(/12)
بيني وبين نفسي مِن شخص راسخ الإيمان .. إلى شخص مُتزعزع ضعيف الإيمان، وهذا المرض يزيدُ في قلبي يومًا بعد يوم، منذ أربع سنين.. وأحيانًا يتجلَّى الله علي بنُوره، وأكون في نور وصفاء، حتى أتذوَّق حلاوةَ الإيمان.. ولكن سرعانَ ما يعود إليَّ المرض بوَسوسة الشيطان، وأنا مع ذلك أُجاهد نفسي كثيرًا مُستعينًا بالله ومُستعيذًا به من الشيطان". ...
والشاب الحائر ـ هنا ـ بدخوله مرحلة المراهقة: انتقل من قويٍّ في إيمانه.. إلى ضعيف في هذا الإيمان. وضعفه هو في شكُّه في القيم الروحية الإيمانية، ويُسمى هذا الشك مرَضًا ووسوسة الشيطان، وما هو إلا أثَرُ الغريزة الجنسية عليه في هذه المرحلة، كما يُسمِّي العودة إلى الإيمان بالصفاء والنور، وما هي إلا الابتعاد عن واقع الحياة والمُكث في فترة من الوقت في التفكير والتصوُّر البحْت، وجهاد النفس الذي يتحدَّث عنه هنا هو مُحاولته حمْل النفس على تجنُّب "الواقع للحياة".. والبقاء في "التصور" وحده.
وما وقع لهذا الشاب الحائر يقع لشُبان كثيرين، حيارَى أيضًا ويَختلفون فيما بينهم في مدة الصراع النفسي أو في فترة جهاد النفس، كما يقول صاحب الرسالة هنا:
( أ ) فيبدأون حياتهم بالإيمان بالله وبالقيم العليا.. ويُصعدون هذا الإيمان في قوته، حتى يعيشوا في "التصور" وحده لهذه القيم، وبقدْر بُعدهم عن "واقع" الحياة بقدْر غُلُوِّهم في حياة القيم الروحية والتعايش معها.(/13)
(ب) ثم يُحملون في مرحلة المراهقة التالية على النظر إلى "واقع" الحياة والتعامل مع هذا الواقع، وبقدْر تأثُّرِهم بماديات الحياة وزينتها بقدر شكِّهم في الإيمان وقيمته، ففي هذه المرحلة يُفكر الشاب في المرأة، على الأخصِّ.. وكيف يَحصل عليها؟ فإذا قيل له مثَلاً: إن الخَلْوة بالمرأة في غير عقد شرعيٍّ حرام، عندئذ يتدخل الشك في نفسه مِن قيمة المبادئ التي يكلفه الإسلام باتباعها، وقد يَسترسل في الشك في قيمة هذه المبادئ فيُنكر الله والإيمان به، وهنا يُقبل على مُتع الحياة المادية في غير احتياط، وقد يتوقف في الشكِّ عند حدِّ التساؤل فقط، وهنا تمتدُّ فترة الصراع النفسيِّ بين القيم الروحية.. وواقع الحياة المادية.. ويُلازم القلَق النفسيَّ فترة الصراع الداخليِّ.
وعلاج هذا التناقُض في نفوس الشباب يجب البدْء به قبل الدخول في مرحلة المراهقة، وذلك بالتركيز على "الاعتدال" الذي يطلبه الإسلام من المؤمن برسالته، وهو الاعتدال في الاستمتاع بالمُتع المادية، يجب أن يفهم الشاب ـ مثَلاً ـ بأن قول الله ـ تعالى ـ في الآية السابقة:
(زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ). (آل عمران: 14). ليس دعوةً إلى الانصراف عن هذه الشهوات، ولكنه إخبارٌ فقط بأنها متاع الحياة الدنيا، كما تُعقِّب نفس الآية بقولها: (ذلكَ متاعُ الحياةِ الدُّنْيَا).. والغرَض مِن هذا الإخبار هو لَفْتُ النظر إلى أن هناك نوْعًا آخر من المتاع هو أبقَى وأحسن، وهو متاع الآخرة لمَن سلك في حياته الدنيوية مسلك عدم الإسراف في الاستمتاع بالمُتع الدنيوية، على نحو ما يطلب القرآن الكريم في قول الله تعالى: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحبُّ المُسرفِينَ). (الأعراف: 31).(/14)
... والنوع الآخر مِن المتاع في الآخرة الذي يُعَدُّ جزاءً لمَن لم يُسرف في الاستمتاع بالمتاع الدنيوي هو ما تناوله قوله ـ جل شأنه ـ: (واللهُ عندَهُ حُسْنُ المآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بخَيرٍ مِن ذلكمْ للذينَ اتَّقَوْا عندَ رَبِّهِمْ "وهم الذين لم يسرفوا في الاستمتاع بمتع الدنيا" جناتٌ تجري مِن تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فِيهَا وأزواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضوانٌ مِن اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعِبادِ الذينَ يَقولونَ رَبَّنَا إنَّنَا آمَنَّا فاغْفِرْ لنَا ذُنُوبَنَا وقِنَا عَذابَ النَّارِ والصَّابِرِينَ والصادقينَ والقانِتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأَسْحَارِ). (آل عمران: 14ـ 17).
... فالإسلام يُبيح إذنْ الاستمتاع بالمُتع المادية في الحياة الدنيا، وإباحة الاستمتاع هذه تَنسجمُ مع الإيمان بالقيم الروحية، طالمَا لا تتحوَّل هذه الإباحة إلى إسراف، وبناء على ذلك يُؤمن الإنسان بالله، ومع ذلك يَسعَى في الدنيا للحصول على مُتعها، وفي مقدمة هذه المُتَع: الاستمتاع بالمرأة كزوجة، وليس هناك تناقُض بأن يعيش الإنسان في واقع البشرية مُؤْمنًا بالله وبالقيم الروحية.
... وإذنْ التناقض عند الشاب الحائر ـ وأمثاله ـ خَلَقَهُ التطرُّف والغُلُوُّ في فهْم الإيمان وفي تطبيقه، ويجب على الشاب أن يَعرف: أن القرآن منهجٌ للحياة الإنسانية يُطبَّق في واقع الإنسان ولا يعيش المؤمن به في برجٍ عاجيٍّ بَعيدٍ عن الواقع.
164ـ مرحلة المراهقة ونتائجها:(/15)
كتب طالب بجامعة الأزهر يقول إنه قدِم من الصعيد إلى القاهرة ليُتمَّ دراسته في الكلية بالأزهر، ولم يجد سوى بيت عمِّه فنزل للإقامة فيه. وفي البيت رأى ابنةَ عمِّه، وأخذ يَستذكر الدروس معها، وارتبط نفسيًّا وفكريًّا، وأهمل ما عداها حتى الصلاة لم يُحسن أداءها. وكرِه نفسَه ـ كما يذكر ـ لأنه ترك منهج الله، والْتفت إلى فتاةٍ وحاول أنْ: يسترجع حُبَّ ربه، ويَنسَى تلك الفتاة "الشيطانة" ولكن كل طريق سلكه لإعادة وضْعه الأول قبل الإقامة في منزل عمِّه فشَل في إبعاد اسمها وشبَحها مِن عقله.
ويسأل: هل هناك علاج يَنقله مِن طغيان الشيطان.. إلى عبادة الله وحده؟ علْماً بأنه يَميل إلى منهج التصوُّف في الحياة ويتمنَّى أن يكون يومًا مَا واحدًا منهم.
هذا الطالب الأزهري لم يزل يعيش الآن في مرحلة المُراهقة وهو يقيم في بيت عمِّه بالقاهرة.
وقد بدأت صلته بالله عندما أخذ في سنٍّ مبكرة في حفظ القرآن الكريم، واشترك مع بعض من زملائه في المعهد الابتدائي والثانوي في أداء عبادة الصلاة والصوم وساعده الجو الاجتماعي في الصعيد على أداء العبادة لله في غير عنَت ولا مَشقَّة، حتى بعد أن دخل مرحلة المراهقة هناك وهو لم يزل في التعليم الأزهري الثانوي. ...
فكان أداؤه للصلاة.. وأداؤه للصوم في رمضان.. وحدَبه على تطبيق القيم والمبادئ الإسلامية الأخرى في سلوكه لا يقف في طريق هذا الأداء عقبةً في تحولُ دونه، ولا يُوجد عاملٌ آخر يَصرفُه أو يُضعف إنْجذابه نحو أداء الواجب أيِّ واجبٍ من الواجبات الدينية، فلم تكن هناك مُغرَيات دنيوية تُحوِّل انتباه الشاب في مرحلة المراهقة، نحوها وتكون بالفعل مصدر "فتنة" له.(/16)
عندما كان بالصعيد رغم دخوله مرحلة المراهقة ـ لم يجد تناقُضًا في تصوُّره، ولا في واقع حياته بين تعاليم الدين النظرية.. وسلوكه العملي، فسلوكه آنئذٍ كان وفقًا لتعاليم الدين، على الأقلِّ حسبما يتصوَّرها، ولذا لم يحسَّ يومًا من الأيام هناك أنه أغضب الله في شيء ما. ... ... ولكن الإحساس بغضب الله عليه لم يظهر في نفسه إلا بعد أن قدِم إلى القاهرة.. وأقام في مسكنٍ مع عمِّه، واختلط بابنته، واشترك معها في استذكار الدروس، وهنا كانت اليقظة القوية لغريزة حبِّ البقاء النوعيِّ. ...
وطبعًا كانت موجودة من قبلُ والطالب لم يزل في الصعيد، ولكنها كانت نائمةً أو كانت عواملُ إثارتها لدَيه ضعيفة، فلمَّا اختلط بابنة عمِّه، كان الاختلاط هوة الجو الذي تشتدُّ وتقوَى فيه هذه الغريزة على أية غريزة أخرى لدَى الشباب وعلى تفكيره، وكلما زاد الاختلاط كلما زاد تيقُّظها وانتباهها، وهنا اختلَّ الوضع السابق، وهو وضع السلوك الإنساني العملي في ملاءمته للتصور الروحي أو الإيماني لدَى الشاب، وابتدأ الوضع السابق يتخَلْخل..وابتدأ الطالب يفقد الاتصال بالله في الصلاة.. وابتدأ الفشل في كل طريقٍ يُحاول به الاحتفاظ بإحساسه القرب من الله.(/17)
وفي هذا الوقت الذي فقد فيه ـ أو يفقد فيه ـ الاتصال بالله، يتصل بواقع الحياة، وأهم شيء في واقع الحياة الآن هو ابنةُ عمِّه، فهي الشيطان في طغيانه وفي تسلُّطه عليه، كما ينعتها في رسالته، والاختلاط بابنة عمِّه هو مصدر الأزمة النفسية الحالية، وهو يعلم أن هذا الاختلاط غير مقبول عند الله؛ لأنه اختلاط بغير ذي مَحرم وفي عدم حضور واحد مِن محارم الفتاة، فلا الإسلام يُجوِّز له هذا الاختلاط.. ولا الغريزة الجنسية في مرحلة المراهقة، التي هو فيها الآن تُعفيه مِن ضغطها ومن دفعها إيَّاه نحو الاختلاط بها، فهو مَشدود نحو الفتاة رغم أنفه، وإرادته وإيمانه بالقيم الدينية لا يقويانِ على الحيلولة نحوها. ...
وفي أزمته إذْ يفكر: يفكر لماذا كان الاختلاط بها غير مقبول عند الله؟ومَن حَرَّمه؟ وما دليل تحريمه؟ وربما يذهب في تفكيره إلى الشك في قيمة الإيمان نفسه؛ لأن الإيمان يحول بينه وبين ضرورةٍ في حياة الإنسان! وهي الاختلاط بالمرأة ولكن الإيمان لا يمنع في ذاته الاختلاط بالمرأة، ولكنه فقط يرسم طريقًا لهذا الاختلاط، يحول دون أن تَحِلَّ بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة كارثة مِن الكوارث الاجتماعية أو الجنسية، وهو طريق الزواج والعقد الشرعي بينهما.(/18)
وهكذا: شُغلت نفس الطالب الأزهري بالفتاة حتى لم يَعُد فيها مكان لذكر الله.. أو لاستذكار دروسه، واستولي واقع حياته في القاهرة على إرادته، فلم تبقَ له حرية في اختيار التصرُّف وتحديد السلوك الذي يجب اتباعه. ... ...
ولو أن الطالب عرف من أول الأمر أن "التطرف" في تطبيق مبادئ الإسلام لا يترتب عليه إلا تطرُّف آخر في الجانب المقابل للإيمان، وهو جانب الحياة الدنيا والاستمتاع بمُتعها، لمَّا تطرَّف في التصور والتطبيق كما كان يفعل في الصعيد، فواقع الحياة الذي يعيش فيه هذا الطالب الأزهري الآن يمثل تطرُّفًا في موقفه وسلوكه، بعيدًا عن الإيمان وتطبيق مبادئه. ...
والإسلام عندما قيَّم الحياة الدنيا ومُتعها المادية لم يُقيمها ليَخلُص من هذا التقييم إلى طلَب حِرمان الإنسان الذي يؤمن بالله مِن مُتعها.. وإنما فقط ليَحول بينه وبين الإسراف في الاستمتاع بمُتعها: فعندما يقول القرآن الكريم منذ أول أجيال البشرية: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كلِّ مَسجدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ). (الأعراف: 31). ليُوضح أن الدنيا لا ينبغي أن يهرب المؤمن مِن مُتعها، وإنما فحسب لا يُسرف في الاستمتاع بها، وهنا تطلب مثل هذه الآية الاعتدال وعدم التطرُّف، ومِن التطرُّف هجْرها وترْكها كليةً.. أو الإقبال عليها في شرَهٍ ونَهَمٍ حتَّى يُصبحَ مُسْرِفًا في استخدامها. ...
ولو أن هذا الطالب واجَهَ مُتَعَ الحياة الدنيا في اعتدالٍ فكان لا يرى الشيطان مُجسَّمًا في المرأة، وبالتالي كان لا يتخيَّلها إلا شرًّا خالصًا.. لو كان موقفه هذا الموقف لمَا بلغ افتتانُه بابنة عمه هذه الدرجة التي جعلتْه ينسى الله، ويذكرها هي.(/19)
... والسبيل إلى علاج وضْعه الحالي: إمَّا أن يتزوج ابنةَ عمِّه.. أو يترك المنزل ليَعيش مع الطلاب في إحدى المدن الجامعية، وعندئذ يجب أن يُجاهد نفسه، ومُجاهدة النفس هي رياضة يعتمد فيها على الإيمان وضبط النفس والتوكُّل على الله فيما يَصرف عنه السوء وانفراج أزمته، وكلما مرَّت عليه الأيام في المُجاهدة كلما خفَّتْ أزمته؟
165ـ الامتحانات وآثارها السلبية
طالب بإحدى الكليات العملية في السنة الثانية، وقد رسب فيها سنتينِ يشكو أنه منذ الصغر كان يرى في المنام أحلامًا تُزعجه "وهي أحلام خاصة بالامتحانات".
فكان يري مرة أنه رسب في الامتحان.
وأخرى أنه حدَث ما يُبكيه أمام ورقة الأسئلة.
وثالثة: أنه تأخَّر عن اللجنة "لجنة الامتحانات".. وهكذا..
ورغم هذه الأحلام المزعجة كان ينجح كل سنة حتى الْتحق بالكلية، فابتدأ يتعثَّر في سير الدراسة، مرة يرسب.. ومرة ينجح.. ورُؤيا المنام بالنجاح أو بالرسوب لا تُفارقه.
... ومِن خوفه من الامتحانات اتَّجه إلى تلاوة القرآن وأهمل استذكار الدروس، ومع تلاوة القرآن ابتعد عن الله، وانقطع عن أداء الصلاة وعن ذكر الله، ولكنه لم يَتجاوز ذلك إلى مباشرة الفَحْشاء.
وفي بُعده عن الله عَرَضت له ظواهر نفسية جسيمة ـ كما يصفها ـ منها:
عدم الثقة بالنفس.
2- وتكرار الرسوب في الامتحانات.
3- والعيش في فراغ..
وظل مُبتعدًا عن الله، كما ظلَّ الشيطان يُوسوس له بشُبَهٍ تَحُول بينه وبين أداء الصلاة، ويُسمي هذه الفترة بفتْرة الجاهلية.. وخلَّفت في نفسه:
( أ ) التشاؤم إلى أبعد مدَى…
(ب) كثرة الأحلام المُزعجة.. وإهمال استذكار الدروس والكسَل.. وعدم الثقة بالنفس.
(ج) ويرجو أن نُركز في رَدِّنا على رسالته على الرؤيا المنامية.(/20)
الحالة النفسية للطالب صاحب الرسالة: أنه يَرْهب الامتحانات منذ صِغره والْتحاقه بأُولى مراحل التعليم.. وقد تضخَّمت الرهْبة منه، وتكوَّن في نفسه إحساسٌ قويٌّ بالخوف منه، على مدى السنين ومواسم الامتحانات حتى أصبح شبَحه يتمثل له أثناء نوْمه فيَرْهبه، ويتصوره:
1ـ أنَّه رسَب فيها مرة.. أو أنه حدث له ما يُبكي منها بشأن ورقة الإجابة.. أو أنه تأخَّر في الحضور أمام لجنة الامتحانات.. وغير ذلك مما يتصوره في حديث النفس أثناء نومه، عندما تجول الامتحانات بخاطره، وقلَّما تُفارقه.
واهتزت نفسه واضطربت، فإذا صادف: أنه رأي في منامه أنه قد رسب في الامتحانات، وجاءت نتيجتها بالرسوب في بعض المواد فيها على أثَر الرؤيا المنامية، عندئذٍ يزداد اهتزاز نفسه، ويزداد اضطرابها.
... ومِن اهتزاز نفسه في فترات متلاحقة يفقد الثقة في نفسه، فيُهمل في استذكار دروسه، ويتراخى في مطلوب الامتحانات، ويلْجأ إلى بعض الوسائل الأخرى لِيتَّخذَ منها سبيلاً إلى اجتياز الامتحانات كتلاوة القرآن الكريم..
... والقرآن الكريم إذْ يتلوه قارئ، حسبما جاء فيه، إنما يتلوه ليتخذَ منه الهداية في السلوك، والعمل معًا، وعندئذٍ يقي نفسه بهدايته مِن الخطأ والانحراف، والقرآن عندئذٍ وِقاية عن طريق الإرشاد إلى العمل السوي، وليس عن طريق حمْله كتميمة يتحفَّظ بها ضدَّ الشرِّ.
... وعدم الثقة بالنفس، كما يترتب عنه التراخي والانصراف عن العمل الجِدِّيِّ، يترتب عليه أيضًا: التشاؤم، والتشاؤم إذا تمكَّن من نفس الإنسان جعل أمامه جميع الطرق والمنافذ في الحياة مُغلقةً، وجعل له النهار ظلامًا، فلا يرى في حياته إلا السواد الحالك مَملوءًا بالأشباح ومصادر الشر، وكلما قوي التشاؤم عند إنسان ما، كلَّما اشتدت سلبيته، واشتد جُموده في الحركة.(/21)
... والتشاؤم ليس مِن الإسلام في شيء فالإنسان المؤمن إذا رأى ما يَكرهه قال: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئاتِ إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك". ويتوكل عليه ـ جل جلاله ـ ومقدمة التوكل على الله أن يستنفذ المؤمن كل ضروب التفكير في الأمر الذي يُقدم عليه، ويُصمِّم على تنفيذ ما يراه الأفضل والأرجح في تنفيذه، وعندئذٍ يتوكَّل على الله ويدعوه لمُساندته.
... والسائل يُخطئ هنا في أمرين لا يُقرهما الإسلام: يُخطئ في اتخاذ تلاوة القرآن كوسيلةٍ لإنقاذه مِن مشكلة الامتحانات، والمُنقذ له منها هو العمل في السبيل المرسوم لاجتيازها، وهو الاستذكار ومراجعة موادها حسب الطاقة البشرية، ويُخطئ في التشاؤم وترْك أمره يشتد بقبضته عليه حتى لا يرى بصيصًا مِن نور حياته، وهنا يَنسَى الله والاعتماد عليه، ويترك الشيطان يدخل بوَساوسه إلى أعماق نفسِه، فيُثير فيها من الشُّبَهِ ما يحول بينه وبين أداء الصلاة.. وربما يحول بينه وبين الإيمان الصحيح بالله.
وصاحب الرسالة هنا فقَد الثقة بنفسه.. وضعُف في مُواجهة مشكلته الخاصة وهي مشكلة الرهبة من الامتحانات.. وتشاءم بحيث أصبح لا أمل له في النجاح في صفوف الدراسة.. وبعُد عن الله في أداء العبادات وفي الاعتماد والتوكل عليه، وبذلك يكاد يكون قد دخل مجهوده دائرة "الصفر" في مجهود الإنسان البشريِّ.
بالَغَ في الخوف من الامتحانات، وتطرَّف في مُبالغته وتقديره لها، فأصابت هذه المبالغة حياتَه بالركود، والتشاؤم، والسلبية التامة، وفِقدان الثقة بالنفس.
... وليس هناك مِن علاجٍ له ولأمثاله سوَى أن يقف بالتحليل على عناصر هذه المشكلة وحلِّها.
أولاً: أن يُتابع الدروس والمحاضرات في الكلية أو في مرحلة الدراسة التي هو بها ـ أولاً بأولٍ أثناء الدراسة.. وأن يُراجع ما لم يَفهمه منها في كُتب المراجعة، بعد الانتهاء مِن سَماعها في المدرسة أو الكلية.(/22)
ثانيًا: أن يتبع طريقة التلْخيص للنقاط الرئيسية التي تتكون منها المادة، على هامش كتابها الذي بيده، حتى يُمكن مراجعتها قبل أداء الامتحان فيها ، وفي دقائقَ مَعدودةٍ.
ثالثًا: أن يدخل الامتحان وهو مُعتمد على الله وحده، وعندما يتسلَّم ورقة الأسئلة يقرأ الأسئلة جميعها مرة.. ومرة، ثم يبدأ الإجابة عن السؤال الذي يراه سهلاً ثم السؤال الآخر الذي يراه تاليًا له في السهولة.
... والامتحانات تتحوَّل إلى شَبَحٍ رهيب إذا جُعلت كل شيء في حياة الطالب.. وبالأسلوب المُنطوي على التهديد والوعيد. وآن الأوان لأنْ تأخذ وضْعًا غير واضح العلانية في حياة الطالب، ولولا أنه ليس هناك ضمان في حيدة: "أعمال السنة".. لكانت مراقبة الطالب وتتبُّع عمله أثناء الدراسة هو الأسلوب الأول لتمييز الطلاب بعضهم عن بعض.
... ولا تنسى أخيرًا الاعتماد على الله، فهو دافع نحو السعْي والعمل.. وفي الوقت نفسه هو عاصِم مِن هِزَّاتِ النفس بسبب الخوف.(/23)