رأي الدين
بين السائل والمُجيب
في كل ما يُهِمُّ المسلم المعاصر
جزءان معًا
مقدمة الطبعة الثانية:
مَرَّ الآن قرابة ثَماني سنوات بين ظهور المجموعة الأولى من: هذه الأسئلة والأجوبة.. والطبعة الثانية منها ومن مجموعة مماثلة لها.
وكان هناك رأيان في نشر هذه المجموعة المماثلة:
الرأي الأول: أن تظهر المجموعة الثانية مستقِلّة في جزء ثان؛ لأن الزمن الذي مضى بين المجموعتين كان له أثره في تغيير بعض الظواهر الاجتماعية في مجتمعنا الإسلامي المعاصر0 وهذا التغيير بدوره له انعكاسه على أسئلة السائلين عن رأي الدين0 فلو خرجت المجموعة الثانية في جزء مستقِلٍّ لأشارت في يُسر للباحث الاجتماعي إلى بعض الظواهر التي تعرَّضت للتغيير. وبالأخص التقاليد.. والصلة بين أفراد المجتمع والإسلام، كدين للمجتمع نفسه.
فمن بين أسئلة المجموعة الثانية ـ وقد أضيفت فعلاً إلى المجموعة الأولى، في الكتاب الذي نقدِّم لطبعته الثانية الآن ـ ما ينبِّئ عن بقاء التمسُّك بالتقاليد.. بينما بعض أسئلة أخرى فيها تنمُّ عن بُعد الدين من محيط التفكير للشباب، وعن الخلط بين التقاليد القائمة عليه والتقاليد الأخرى المُستوحاة من المجتمعات غير الإسلامية، وتُرَدِّدها وسائل الإعلام المختلفة في مجتمعاتنا الإسلامية، وخاصة الأجهزة الناقلة للصُّور، وهى أجهزة التلفزيون.
فنجد بعض الأسئلة تحكي منع الوالد لزواج ابنته الصغرى، قبل أن تتزوَّج الكبرى.. وعن اختيار الأهل للزوجة.. أو عن تدخُّلهم في شؤون الزوجية.
والبعض الأخر لم يزل يرى في الزار شأنًا للعلاج، وللجِنِّ أثرًا في سوء العلاقة بين الزوجين أو حسنها، وللمشايخ وفتحهم الكتاب أثرًا في الاطلاع على الغيب ومعرفة مستقبل الإنسان. وهذا وذاك مما يتصل بالعادات والتقاليد التي ترسَّبت في تصور الناس وسلوكهم في المجتمع.(1/1)
كما نجد صنفًا آخر من الأسئلة يخبر عن نسيان الدين وتعاليمه، ويرشد بالأحرى إلى أن تقاليد المجتمعات الأجنبية المستورَدة كادت تغطِّي ما كان للمجتمع من أعراف إسلاميّة
فهذا يسأل عن اتصال الرجل بالمرأة جنسيًّا قبل عقد الزواج، وعلى أساس أنه سيتزوجها فيما بعد.
وذاك يسأل عن إقامة خطيبته معه في المنزل لتدبِّر له شؤونه، إلى أن يَتِمَّ عقد النِّكاح بينهما.
وثالث يسأل عن ترك الوليِّ المسلم ابنتَه المسلمة، تتزوَّج غير مسلم.
ورابع يصلِّي ويصوم ويرى أن تقبيل خطيبته ليس حرامَا، مادام قرأ الأهل الفاتحة.
وخامس يسأل عن مُعاشرته لامرأة أجنبية عنه معاشرة جنسيّة بدون عقد نكاح، ولكن في ظل عهد أعطتْه أنَّها وهبتْ نفسَها له.
وسادسة تسأل عن أنها لا تستغني عن أن تُقبِّل صديقَها في الوقت الذي يمنعها أهلها من الزواج به.
وسابعة لا ترى غَضاضة في مقابلة مَن تُحِبُّه في الأمكنة العامة، مادام اتَّفقا على الزواج بعد الدراسة.
وهكذا.. أنواع متقابلة من الأسئلة تدُلُّ على تقابل أو تناقض في ظواهر المجتمع وعوارضه التي تَحمِل التغيير فيه.
والرأي الثاني: أن تظهر المجموعتان مع بعضهما، كي يُمَكِّن ظهورهما معًا الباحثَ الاجتماعي ـ أيضًا ـ من نظرة أعم وأشمل إلى الأمارات المتفِقة والمختلِفة التي ترسم جميعها الصورة الكاملة للمجتمع.. وكذلك العوامل الاجتماعية العديدة التي وراء هذه الأمارات.. مع استخلاص الاتجاه الذي يتَّجِه إليه المجتمع في حركته.. واقتراح العلاج للمحافظة على ما يجب أن يُحافظ عليه من بين هذه الأمارات، ولتعديل ما يجب أن يعدَّل منها بعوامل التحويل والتعديل الضرورية، إنْ بالتعليم والتوجيه.. أو بالتشريع والإصلاح.
واستَقَرَّ الأمر على الرأي الثاني في إدماج الجزأين ونشرهما في كتاب واحد. تحت العنوان السابق: "رأي الدين بين السائل والمجيب".(1/2)
وقد كان إدماج الجزأين معًا في النشر فرصة أخرى مُواتية ـ أيضًا ـ لتصحيح الأخطاء في الكتابة العربية، والتحريف في الآيات القرآنية التي وردت في الاستشهاد بها، عند الإجابة على بعض الأسئلة فيها، وظهرت في طبع المجموعة الأولى.
نسأل الله أن يُلهِمَنا جميعًا الصواب. إنه وحده القادر على هداية الإنسان.
محمد البهي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم الطبعة الأولى:
إنَّ "رأي الدين: بين السائل والمجيب" الذي بأيدينا.. لا يُقَدِّم للقارئ "فتوى" فقهية في بعض المشاكل اليومية في جانب من جوانب الإنسان، وبالأخص في صِلاته بأسرته وبيئته وآثار الحضارة المادِّيّة التي تنعكس على حياته، بقدر ما يقدِّم معها تحليلاً لوجهة نظر الإسلام في المشكلة التي يَستَفْتِي فيها. وهو تحليل يكشف عن قيمة الرأي الإسلامي، في أنه علاج جذري للمشكلة، وليس لونًا فقط من ألوان المنع والإباحة، والحُرْمة والحِلِّ في السلوك.
وكان يُمكِن أن يكون التحليل فيه كثير من الإسهاب والتفصيل، وبذلك تَتَجَلَّى قيمة الرأي الإسلامي في وُضوح أكثر. ولكن التقليد في "الفتوى" وهو السلوك مسلَك الإيجاز فيها يُؤَثِّر الوُقوف في تحليل ما يُستَفْتَى فيه من مشاكل عند حَدٍّ ما يُبرِز معالمه فقط.
والكتاب من عنوانه: "رأي الدين، بين السائل والمجيب".. يظهر أن ما عرض فيه من أسئلة واستفتاءات كان من إملاء السائلين وحدهم، ولا خِيَار له في اصطفاء بعضها علي الأقل. وهذا يدُلُّ على أنّها تعبِّرُ عن واقع الحياة المعاصرة في مجتمعنا الإسلاميّ، تعبيرًا مُطابقًا لما يجرِي فيه من أحداث، وفي الوقت نفسه يدُلُّ على أنَّ الإسلام في تطبيقه في الحياة الإسلامية المعاصرة يَبْتَعِد كثيرًا عمَّا يجب أن يكون له من مجرَى في واقع هذه الحياة. وهذا معناه: أن عوامل عديدة، أجنبية عن الإسلام، تدخُل الآن في تحديد حياة المسلمين وفي توجيههم كأفراد، وأسرة، ومجتمع.(1/3)
وهذا الجزء: رأي الدين، بين السائل والمجيب، يضمُّ ما يقرب من مائة سؤال. وهى كافية أن تشير في غير خفاء، إلى نَوْعِيَّة المشاكل في المستوى العام بين الأفراد، ونوعية المرض الاجتماعي الذي يكمُن في توجيه المجتمعات الإسلامية، ونوعية النهاية التي سينتهي إليها هذا المرض من التفكُّك، والضعف والهوان، إن تُرِكَ وشأنه يأخذ طريقه الأخير.
وبذلك يُضيف الكتاب إلى جانب الفتوى، والتحليل.. نداءً وإنذارًا في الوقت نفسه، إلى المشتغِلين بالفكر والتوجيه في مجتمعاتنا الإسلامية، كي يتَّقوا الله ويرحموا ضعفاء هذه الأمة ـ وهم كثيرون ـ بالتخفيف من تمجيد الفكر والتوجيه الأجنبي عن دينهم، ومحاولة إقحامه في الحياة الخاصة. قبل حياة المجتمع ككل. والله الموفق .
محمد البهي(1/4)
75ـ التوبة النَّصوح مَدخل لغُفران الله
تَذكر إحدى المواطنات أن زوجها عاشَر امرأة أخرى مُعاشرةً آثمةً فترة من الوقت، وأنها هي كانت لا تمتنع في هذه الفترة عن الاستجابة لزوجها في المعاشرة الزوجية، وقد تاب بعد جُهد منها وصبْر على ابتلاء الله لها، واعتمرَا سويا، وهو الآن مُواظب على أداء الفروض ولكن رغم ذلك لم تُسامحه بعد.. وتسأل:
هل كان يجب أن يُقام عليه حدِّ الزنا.؟
ثم ما معنى قول الله ـ تعالى ـ: (الزانِي لا يَنْكِحُ إلاَّ زَانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا يَنْكِحُها إلَّا زَانٍ أو مُشركٍ وحُرِّمَ ذَلكَ علَى المُؤمنينَ). (النور: 3).
إن أيَّ حدٍّ مِن حُدود الشريعة الإسلامية، كحدِّ الزنا هنا، لا يُقام إلا إذا كان الإمام أو الحاكم في الأمة الإسلامية يحكم بكتاب الله وقرآنه، والمجتمعات الإسلامية المعاصرة في أيِّ مكان يغلب عليها طابع "العلمانية"، أيْ فصْل الدين عن الدولة، وترجمة هذا الفصل: ما لله لله، وما لقيصرَ لقيصرَ، فالحاكم السياسيُّ قد لا يكون مُستوفيًا لشروط الولاية العامة في الإسلام، ونظام الدولة في الحكم قد يختلف اختلافًا كبيرًا في بعض هذه المجتمعات عن مَا يُريده الإسلام في حُكم المؤمنين بعضهم ببعض.
... والذين يَنتسبون إلى الدِّين في هذه المجتمعات المُعاصرة ليست لهم سُلطة يُشاركون بها الدولة في الحكم. إذ إنهم يُختارون لوظائفهم مِن الحاكم السياسي ومِن أجل المصلحة السياسية في نظام الحكم القائم.(2/1)
... ولا يُقام حدُّ الزنا أيضًا إذا لم يكن هناك شهودٌ أربعة على وُقوع الجريمة، وفيما ترويه السائلة في كتابها إلينا لا يتعدَّى شُبهة الظنِّ القويِّ عندها، وإن ادَّعت أن زوجها اعترف لها بالعلاقة الآثمة بينه وبين تلك المرأة الأجنبية فترةً مِن الوقت إذْ يجوز أن يكون ادِّعاؤه: أنه على علاقة غير شرعية مع امرأة أجنبية: سبيلاً يَحمل عن طريقه زوجتَه على أن تتمسك به، وتُلزم نفسها بطاعته إنْ رجع إليها وأصبح لها وحدها. وهذا سبيلٌ معروف لإثارة المرأة. ولكنه غير مَحمود، والمَحمود أن يكون قدوةً حسنة للإنسان الفاضل المهذَّب، وحديث السائلة عن زوجها في ارتكابه جريمة الزنا لا يُعتبر كذلك قذْفًا له، والقذف جريمةٌ بالقول، ومِن الكبائر؛ لأن شرط القذف أن تُعلن الزوجة على الملأ أن زوجها باشرَ جريمة الزنا، فإذا تاب إلى الله قبل أن يُقام عليه الحد سقَط عنه، بالإضافة إلى أن الحاكم لا يُقيم الحدود الإسلامية في كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
وعلى أيَّةِ حال فالسائلة تقول الآن في الحديث عن زوجها في رسالتها: إنه اعتمر معها، وهو دائبٌ على أداء العبادات والحديث عن "العلاقات الآثمة" إذَن يجب أن ينتهي، وأن تعود الزوجة في علاقاتها طبيعيةً مع الزوج، مُتسامحة، ومُحبَّه له، كما كان الوضع بينهما وبالأخصِّ أنها تنتظر منه مولودًا آخر.(2/2)
ومعنى قول الله ـ تعالى ـ في سورة النور: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أوْ مُشركةً). "أن مَن يُمارس الزنا من شأنه أن لا يُفتش عند زواجه عن امرأة صالحة مؤمنة، بل قد تَرُوق له امرأةً كانت أيضًا تُباشر الزنا أو امرأةً مُشركة وهي التي لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فالزاني غير حريصٍ إلَّا على تلبية شهوته من النساء، ولو كانت في جوهرها مَعِيبة لا تصلح للزوجية، والمشاركة في بناء أسرة مؤمنة". ...
(والزَّانِيَةُ لا يَنْكِحَهَا إلَّا زَانٍ أوْ مُشرِكٌ). "فالتي تعوَّدتْ مِنَ النساءِ الزِّنَا قلَّمَا تَستمتع بالعلاقة الزوجية بعد ذلك، فضلاً عن أن تستمتع بالعلاقة الأُسرية، والذي تعوَّد الزنا قلَّما يكون وَفِيًّا لزوجته وأسرته إلاَّ عن عجْزٍ أو فقر، فعجزه أو فقره قد يُظهره بمظهر الوفيِّ. ولكن في واقع الأمر لا وفاءَ له، فالآية تُشير إلى الشأن والاتجاه الخاصّ بالزاني والزانية، فهي جملة خبرية لا تنطوي على النهْي. هي تُشير إلى أن اتجاهها أصبح غير عاديٍّ.. أصبح متأثرًا بالجانب الجسدي والمادي أكثر من الجوانب النفسية والاجتماعية التي يجب أن تُراعَى في العلاقة الزوجية، والكشْف هنا في الآية عن مَصير أمر الزاني والزانية يُقلِّل من الرغبة في الزواج منهما.. وبالتالي يكون عقوبةً أدبيةً لهما، والشافعي وأبو حنيفة يُجَوِّزان: أن يتزوج الرجل بامرأة قد زُنِيَ بها).
... (وحُرِّمَ ذلكَ على المُؤمنينَ). (النور: 3).. "أيْ والصادقون في إيمانهم حَريصون على أن يتَجنَّبوا الزواج بزانية، أو مُشركة، إذْ يكاد يكون الأمر بين المؤمن الصادق من جانب والزانية أو المشركة مِن جانب آخر: على الضدِّ تمامًا، فالزانية لا تأْبَهُ للإيمان وربما تَسخر منه، والمشركة كافرةٌ مُنكرة لله واليوم الآخر".(2/3)
... والسائلة إذ نُحييها على صبْرها واحتمالها في المِحنة المشئومة لها وعلى أسلوبها الهادئ الذي أعادت به الزوج إليها وهو خاشع لله ومُطيع لها.. نُحييها بأن مُعاشرتها لزوجها مُعاشرة زوجية أثناء الشدة أمر مشروع، وبأن طلاء الأظافر بعد الوضوء لا يُنقضه.(2/4)
88 ـ قُيود الاستهلاك في الحياة
ما حُكم الذين يَضيقون بقيود الحياة المدنية أثناء الحرب، مِن حيث أنصبة المواد التموينية، وقيود الإضاءة، وغيرها ممَّا تُنظمه الدولة للناس؟
إن شأن المؤمن هو عدم الإفْراط في الطعام والشراب؛ لأن هدفه ليس حياة الأكْل والشرب وإنما تحقيق المستوى الإنساني الفاضل في ذاته، وفي علاقته بالآخرين، وهذا يتطلب أن يُسيطر على شهواته في الأكل والشرب، وفي كل ما تَشتهيه النفس.
ويُروى أن رجلاً كان يأكل كثيرًا، فأسلم فكان يأكل قليلاً، فذكر ذلك للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال: إن "المؤمن يأكلُ في مِعًي واحدٍ، والكافر يأكل في سبعةِ أمعاء" ويُريد من ذلك أن شأن المؤمن القناعة. أما غير المؤمن ففيه الشرَه، فيأكل كثيرًا.
وجاء قول القرآن الكريم في وصف الكافرين: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ "أي في دنياهم" وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ). "أي في آخرتهم" (محمد: 12) ...
ولذا يَطلب القرآن مِن الناس جميعًا: عدم الإسراف في الاستمتاع بالأكل والشرب وفيما عدا الأكْل والشرب من مُتع الحياة المادية فيقول: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ "أي مكان العبادة" وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 21) ..
فرسالة اللهِ لا تتَّجه إلى الحِرْمان أو إلى التضييق في الاستمتاع بمُتع الحياة، ولكن تتَّجه فقط إلى تحديد هذا الاستمتاع بحيث يَحُول هذا التحديد دون إيذاء المستمتع بما يَستمتع به، وبحيث تَبقى بعد استمتاعه فضلة ينتفع بها الآخرون معه، المَحرومون من هذه المُتَع.(3/1)
وما يُقنَّنُ أثناء القتال ضدَّ أعداء الله اليوم مِن مواد التموين في حياة المدنيين، وما يُفرض مِن قيود على الإضاءة في استعمالاتهم الخاصة.. وغير ذلك ممَّا يُحِسُّ الإنسان في حياته اليومية: أنه شيء غير مألوف: فذلك أقلُّ ما يتحمَّله المُواطن وراء ميدان القتال.
بل على العكس يجب أن يتَّخذ المُؤمن الآن من الحِرمان في شهر رمضان الذي نشَب فيه قتال المؤمنين ضد أعداء الله: فرصة لاستمرار التقرُّب إلى الله في حمْل النفس على الصبر والتوجُّه بالدعاء إلى المولى سبحانه بنفس راضية مُطمئنة وقلب مُؤمن مُخلص في إيمانه بالله في تحقيق النصر الذي وَعَدَ به المؤمنين.
وهو سبحانه لا يَستجيب لدعاء الداعي إلا إذا الْتزم بما أوصَى به الله، وقد أوصى بعدم الإسراف، كما فرَض الحرمان كعبادة في فترة زمنية مُحدَّدة؛ ليكون له أثره في قبول التقنين عند الشدائد والأزمات في أيام أخرى.
ولا أتصوَّرُ الآن في وقتنا الذي نشهد فيه معركة جيشنا البطل في سيناء: أن أحدًا مِن المواطنين يَضيق صدرُه بمِثل هذا التقنين، أو بمثل هذه القيود على السير العادي للحياة اليومية.
فهناك قيادة سياسية مُحَنَّكَةٌ.
وهناك قيادة عسكرية حكيمة.
وهناك إيمان قويٌّ يُعمِّر قلوب جميع المُقاتلين لأعداء الله، بحق الوطن وحق الله وهو ردُّ الظالم الباغي.
وهناك وراء ذلك كله: شعب حُرٌّ كريم، يُؤْثر حريته وكرامته على ترَف الدنيا ومُتعها المادية.(3/2)
109ـ الزوجة إذْ تترك الصلاة تَفقد صلاحيتها كزوجةٍ وأمٍّ
مواطن من إحدى المحافظات: يقصُّ مشكلته على النحو الآتي:
أولاً: أنه مُتزوج من ابنة عمه منذ النصف الثاني من سنة: 1956 وله منها خمسة أولاد ذكور وكلُّهم بالتعليم، وأكبرهم بإحدَى الكليَّات.
ثانيًا: إن الحياة الزوجية في بدايتها كانت سعيدةً وموفَّقة، وبالأخصِّ أن الزوجة كانت تُواظب على أداء الصلاة.
ثالثًا: إن والديه كانَا يعيشان معه ومع زوجته لمدة عشر سنين، ويعترف الزوج بأنه في هذه المدة كان يتَساهل في حقِّ زوجته معه إرضاءً لوالديه، ممَّا جعلها تُهمل حُقوقه الشرعية التي تَزوَّجها من أجلها ـ كما يقول ـ بعد أن انتقلَ مِن بيت العائلةِ إلى منزلٍ خاصٍّ به وبأُسرته.
رابعًا: أنه بعد أن انتقلَ هو وزوجته وأولاده الخمسة إلى مسكنهم الخاص بهم، تغيَّرت العلاقة بينه وبين زوجته:
تركت الصلاة، وأصبحتْ تُصِرُّ على ترْكها، رغم تدخُّل عمُّه وهو أبوها.. ورغم تدخُّل إخْوتها وأقاربها.
تشدَّدتُ في مُضايقتها في المعاشرة الزوجية وهو ـ كما يَذكر ـ بصحة جيدة ويخشى الانحراف، فهو يَتعامل مع نساء كثيرات بحُكم مهنته.
وفكَّر في الزواج بغيرها، ولكنه وجد أنه سيَخسر بالزواج بأخرى؛ لأنه سيَخسر عمَّه، وهو أبوها. وسيَخسر أولاده الصغار، فسوف يُشرَّدون بدون ذنْبٍ لهم، وستَسُوء سُمعتُه بين الناس.
زادت مِن بُخلها بالنسبة لوالديه.
وهو في حَيرة شديدة، ويرجو الرأي في مشكلته.
الزوج السائل أهمل في الأول.. والزوجة أهملت في الثانية.. الزوج أهمل في حقوق زوجته في الفترة التي عاشاها معًا، مع والديه، فهو يَعترف بأن إهمالها لحُقوقه التي تزوَّجها مِن أجلها، بعد الانتقال إلى السكن الجديد: ردُّ فعْلٍ لتَساهله في حقوقها الزوجية، إرضاءً لوالديه.. أيْ: أن إهماله لحُقوقها الزوجية في هذه الفترة كان تحت تأثير والدِيهِ.(4/1)
... كانت زوجته على عهد السُّكْنَى مع والديه مُستضعفة، فعندما طلب منها أن تُؤدي الصلاة أدَّتْها، وعندما طلب منها أن تكون في خدمة والديه لم تُعارض، وعندما أهمل حقَّها كزوجة، بناءً على توجيهِ والديه، صبَرت حتى انتقلت إلى المسكن الجديد وهو مَسكن غير مسكن أسرته ـ أحسَّت بالتحرُّر مِن ضغط والديه عليها وعلى زوجها كما أحسَّت بضعفه وهو في عُزْلة وبعيدٌ عنهما، وعندئذ عبَّرت عن المرارة والأم، والصراع الداخلي في نفسها ضدَّ زوجها بالذات، فالمَفروض في تصورها أن يكون حمايةً لها وسَندًا عندما يَستضعفها أبواه.. وأن يأخذ جانبها دون أن يُغضبهما، ولكنه كان مِطواعًا لهما فيما يُشيران به ضدَّها.
وتَعبيرها عن تحرُّرها في الفترة الثانية ظهَر.
أولاً: في انقطاعها عن أداء الصلاة، وإصرارها على عدم أداءها كلَّما ألحَّ عليها، واستعان بأقاربها من الأب.. إلى الإخوة.
ثانيًا: في بُخلها وتَشدُّدها فيما يُعطى للأبوينِ من مال زوجها، إذْ تُعارِض في كل منفعة تصل إليهما.
ثالثًا: في مُضايقتها له وفي امْتناعها عن أن تَستجيب لدَعوته ورَجائه في مُعاشرتها كزوجةٍ له.
وهذه الأمور الثلاثة تُصوِّر مطلوب الزوج منها، وهي إذَن ترفض كل طلبٍ خاصٍّ له وتَستعين على تنفيذ ما ترفض: بوُجود الأولاد بينهما وباستقلالهما، الآن بسكنٍ خاص والزوج عندئذ هو الطرَف الضعيف أو المُستضعَف، والزوجة بذلك كأنها تَثْأر وتَنتقم منه، لمَا سبَق، ومِن الأسف: أنَّ دخْل أداء الصلاة، أو عدم أداءها مجال الخصومة بين الزوجين، وكان ينبغي أن يظلَّ أمرُ الصلاة خارجها، لأنها لله ـ سبحانه وتعالى ـ ولكن يبدو أن كثرة الطلب على أداءها مِن زوجته، جعل زوجته تربطها بعدم رغبتها في مساعدة والديه.. وكذلك بعدم رغبتها في تلبية ما يرجوه منها خاصًّا بالعلاقة الزوجية مع بعضهما. وبهذا الربْط أصبحت "الصلاة" قضيةً شخصية تتصل بذات الزوج وليست عبادةً للهِ ـ جل شأنه.(4/2)
وموقف الزوجة على هذا النحو حمله على التفكير الآن في طلاقها، ولكنه حلَّل عاقبة الطلاق فوجد أنه هو الذي سيَخسر عمَّه وهو أبوها.. وسيَخسر أولاده؛ لأنهم سيَنشئون في غير وُجود الأب لهم في حياتهم، وفعْلاً الطلاق ليس الحلَّ الأمثلَ لمشكلته وله الآن أن يسلك هذا الطريق الآخر.
... وهو طريق المُصالحة معها واسترجاع الأخطاء التي وقعت منها ووقعت منه كذلك واعتذار كلٌّ منهما للآخر عمَّا وقَع منه من خطأ.
... فإذا هي امتنعت بعد ذلك عن أن تُؤدى الصلاة للمولَى ـ جل جلاله ـ فليس هناك مِن سبيل للخلاص مِن ذنْب امتناعها سوَى تطليقها.
... وإنْ أبتْ بعد المُصالحة كذلك: أن تَستجيبَ له كزوجٍ في علاقته معها، فالسبيل معها هو ما سبق.
... وإنْ جمعت بين الامتناع عن أداء الصلاة.. وعن الاستجابة لدعوته كزوج: فالطلاق البائن هو الحلُّ الأخير، إذْ لا خير في امرأةٍ: لنفسها.. ولزوجها.. ولأولادها لا تُؤدي حقَّ الله في عبادة الصلاة، بل قد تُصبح شَرًّا ومرضًا يُصيب الأسرة كلها بالتفكُّك والدمار. فأيُّ إنسانٍ يَجحَدُ حقَّ الله.. يَجحد قطْعًا حقوق الآخرين معه في الحياة، وأيةُ امرأة لا تخشى الله.. لا تَخشَى زوجها، وأولادها، وذوي رحِمها.(4/3)
29 ـ هل الأفضل أن يقضي الإنسان كلَّ وقته للعبادة، أو أن يستغلَّ الجزء الباقي في البحث عن العلم أو العمل الذي يُناسبه؟
العبادة في الإسلام تمثِّل تجربة رُوحيّة يخرج منها المؤمن ولديه الصلاحية كإنسان يعيش مع الآخرين في سلام وفى تعاون وتوادٍّ.
تستهدف العبادات من الصلاة، والزكاة، والحجّ، والجهاد في سبيل الله تصفية النفس الإنسانية والحيلولة بينها وبين اتباع الشرك والوثنية، وكذلك بينها وبين مباشرة الجرائم الاجتماعية من الفواحش والمنكَرات التي هي الزنا وهتك العِرض، وسرقة الأموال، وقَتْل النفس التي حرَّم الله قتلَها إلا بالحق.
تستهدف هذه العبادات كذلك ـ بجانب الحيلولة دون هذا كله ـ الحَدَّ من أنانية الذات في السلوك والتصرُّفات، وتقوية الإحساس الجماعيّ بالآخرين في المجتمع. حتى يخرج العابد عن طريق عبادته من دائرة الذات في نشاطه وأثر هذا النشاط في الانتفاع بما في هذه الدنيا من مُتع مادِّيّة، إلي دائرة المجتمع أو الأمّة أو الآخرين. فما يُصيبه من أرزاق فهو له وللآخرين، وما يقع من مآسٍ فعليه كما على الآخرين.
فالعبادات مجال تجريبي لتخريج الإنسان الصالح في الحياة الإنسانية. وهو ذلك الإنسان الذي يعيش لنفسه ولغيره معه. وهي مُستَهْدَفَة في الإسلام لهذا الغرض. وهذا يقضي بأن الإنسان الذي يقصر حياته على العبادة وحدها ولا يُباشِر عملاً آخر سواها بَقِيَ في نطاق التجربة ولم يخرج منها لحياة العمل والسعي في الدنيا. ومثل هذا الإنسان لا تُعرف صلاحيته في الإنسانية. أي لا يُعرَف عنه أنه هو ذلك الإنسان الذي يعيش لنفسه ولغيره معه. فهو كالطفل الذي بَقِيَ في طفولته، ولم يُختَبَر بعدُ في الحياة العامة، ليُحكَم على مدى رُشدِه في السلوك والتصرفات.(5/1)
إن السعي في الحياة الدنيا لتحصيل الرِّزق فيها، وإن مباشرة الاستمتاع بمُتعتها المادِّيّة، وإن التفتيش في الأرض وفي جوِّها وسمائها وبِحارِها وجبالها ووِهادها، وإنَّ السير في مسالكها للوُقوف عليها ولتسخيرها.. كل ذلك هو الذي يُبرِز الإنسان العابد ويُحَدِّد مدى تأثُّره بالعبادة كمجال تجربة، ومدى صلاحيته في ارتباطه وعلاقته بالآخرين.
ويُروَى هذا الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أمَا والله. إنِّي لَأَخْشاكُم لله "أكثركم خشيةً له" وأتقاكم له "أي أكثركم طاعة له". ولكن أصوم وأُفطر، وأُصلِّي وأرقُد، وأتزوّج النساء. فمَن رَغِبَ عن سُنِّتِي فليس مِنِّي" (كتاب التاج: ج1 ص41).
ففي قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا النحو من أنه بجانب العبادة يمارس متعة أخرى من مُتَع هذه الحياة الدُّنيا، ما يدُلُّ على أن الأفضل للمؤمن الجمع بين العبادة لله ومباشرة الدنيا بما تتطلَّبه من مُتْعة أو عمل أو بحث وتفتيش. إذ الرسول ـ عليه السلام ـ هنا كما يصلِّي يباشِر راحة البدنَ في النوم، وكما يصوم يُباشِر متعة المَعِدة بالإفطار، ومتعة النساء بالزواج. ومع ذلك فهو المثل الأعلى للإيمان وفي صلته بالله.
إن العبادة طريق يوصِّل إلى الصلاحية والاستقامة في الحياة، والعمل في الحياة والسعي فيها والبحث في جوانبها العديدة هو التطبيق للكشف عن هذه الصلاحية. ولذا كانت الدنيا دار اختبار للآخرة. ولن تكون دار اختبار بالعُزلة عما فيها وعدم ممارستها.(5/2)
90 ـ إنِّي زوجة، وأم لثلاثة أطفال، ويَقْطُن معي في المنزل ابن زوجي الذي يبلغ تسعة عشر عامًا، مع أنِّي ألبس ملابس الموضة، وبنصف كمٍّ. فهل هذا جائز؟
في هذا السؤال نقطتان، تنفصل إحداهما عن الأخرى:
الأولى في علاقة ابن الزوج بزوجة أبيه. وهو في هذه العلاقة يُعْتَبَر مَحرَمًا لها. أي لا يجوز له أن يتزوَّجها بعد أبيه. فهو بمثابة ابن لها. يقول الله تعالى: (ولاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ "أي في زمن الجاهلية" إنَّه "أي زواج الأبناء لزوجات الآباء" كانَ فاحِشةً ومَقْتًا "أي جُرْمًا كبيرًا، وممقوتًا غير مقبول" وساءَ سَبيلاً "أي وكان طريقًا سَيِّئًا في العلاقات") (النساء: 22).
والنقطة الثانية ما يَجُوز لزوجة الأب أن تَكشِف عنه من بدنها في وجوده، وما يجوز له هو أن يرى منها.
وزوجة الأب هنا ـ ككلِّ امرأة ـ مطلوب منها ستر جسمها إلى ظهر قدَميها، عدا الوجه؛ لقوله تعالى في شأن الآداب العامة بين المؤمنين والمؤمنات: (ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: 31).
وزينة المرأة جميع بدنها، وليس الموضع فقط الذي تزينه الآن في عصرنا الحاضر بأدوات الزينة المختلفة. فتطلب الآية عدم إبداء أي جزء من البدن والكشف عنه، وتستثني ما يظهر عادة منه بحكم العمل، والحركة في السير. وما يظهر من البدن بحكم العمل والحركة في السير هو الوجه والقدمان.(6/1)
وما يجوز لابن الزوج أن يراه من زوجة أبيه ـ ككلِّ محرَم لها ـ هو ما يُسمح لها بإبدائه من بدنها، وهو الوجه والقدمان. لما جاء في نفس الآية من قول الله ـ تعالى ـ: (ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولِتِهِنَّ "أي أزواجهن" أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولِتِهِنَّ) (النور: 31). فقد ألحقت هذه الآية أبناء الأزواج بأبناء الزوجات، في جواز الاطِّلاع على ما يَحِلُّ للأم أن تكشف عنه من بدنها لأبنائها.
وإذن ابن الزوج كابن الزوجة نفسها، سواء في جواز رؤية ما يحل للأم أن تبديه من زينتها وبدنِها، لابنها على سبيل الحقيقة.
ومشكلة الزوجة السائلة في هذا السؤال تنتقل الآن من ابن الزوج، والمحارم والأسرة إلى مجال آخر، وهو مجال "الموضة" وارتداء الملابس القصيرة. والسؤال الآن هو: هل تحكُم "الموضة" قواعدَ السلوك والآداب العامة بين المرأة والرجل، وبذلك تدعو إلى تغيير رأي الدين وإخضاع مقاييسه في هذه الآداب العامة، إلى ما تأتي به كل يوم من نماذج في ملابس المرأة، وتغيير وجهها، ورموش عينيها، وصورة شعر الرأس عندها؟
إن الإسلام ـ يوم أن طلب للمرأة في ملبسها، أن تستُرَ بما تلبس أجزاء من بدنها، عدا الوجه والقدمين ـ نظر إلى أنَّ كلَّ بدنها مصدر إغراء للرجل. ولذا عبَّر عن بدنها بزينتها ـ (ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) ـ إشعارًا بما ينطوي عليه من جاذبية الأنوثة، وجمال التركيب.
وموضة الملابس والتجميل للمرأة في عصر الحضارة المادية الآن، يوم أن دفعت المرأة إلى الكشف عن الساقين وما فوق الساقين بكثير أو قليل، وإلى الكشف عن الصدر إلى ما دونه، وعن الرأس وما خلف الرأس إلى منتصف الظهر.. فعلت ذلك لأنها ترى أن موضع الجمال والإغراء فيها قد تقلَّص عندها وأصبح هو ما تشير إليه الأجزاء غير المكشوفة من جسمها، مما هو فوق الركبتين ودون الصدر، وأدنى الظهر.(6/2)
والمرأة المعاصرة لها الخِيَار بأن تأخذ بنظرة الإسلام فترى معه أن بدنها ـ لا فرق فيه بين موضع وآخر ـ يُعَبِّر كله عن جمال الأنوثة، أو تأخذ بنظرة "الموضة" فترى معها أن إغراءَها قد تقلَّص وانحسر، بحيث أصبح لا يتناول بضع أماكن معينة من بدنها، وهي ما تحاول سترها بملابسها القصيرة.
ولكن ليس لها أن تمزج بين النظرتين وتجمع بينهما، ولا أن تُخضع نظرة الإسلام إلى نظرة الموضة، بدعوى التغيير والتطور؛ إذ ليس كل تغيير يحمل في طَيّاته الحرص على كرامة الإنسان، والإبقاء علي سُنّة الطبيعة البشرية وخصائصها. إذ "موضة" الملابس للمرأة يوم أن أمعنَتْ في التغيير فيها بتقصيرها، أرادت أن تعالج ما وصلت إليه المرأة في المجتمع الصناعي المعاصر من ابتذال في نظر الرجل. ولكنّها عالجته بما زاد فيه، وخفَّف من جاذبية المرأة وإغراءَها على العموم.(6/3)
83 ـ سيدة تقول: لي ولدان ربَّيتهما وعلَّمتهما، وأحدهما الآن مدرِّس، والآخر مهندس. وزوَّجتهما لأختين لتنسجم الأسرة. ولكنَّهما ابتعدا عنِّي، وأساءا إليَّ واستمرّا في جفائي، استجابة لكيد نسائهما، وأنا عليهما غضبانة، فما الحكم؟
قبل نقل رأي الإسلام هنا ـ وهو واضح تمام الوضوح في هذه المشكلة ـ يجب أن يتساءل الإنسان: ألم تكن الأم نفسها قد تسبَّبت هي في هذا الحرج لها، وهو الحرج الناشيء ـ كما تقول ـ عن إساءة الولدَين لها، واستمرارهما في جفائها؟
إنّها ربَّما لم تستطع أن تفهم أن الابن بعد زواجه سينقل حتمًا بعضًا من عواطفه التي كانت جميعها متمركزة قبل الزواج حول الأم إلى زوجته ثمَّ إلى مَن ينجب منها. وعدم استطاعتها إدراك ذلك يجعلها تقع في الحرج مع ولدها وزوجته معًا. فقد توجه النقد واللوم ـ وغالبًا يكون من وجهة نظرها الخاصة ـ إلى زوجته إنْ هي تزيَّنت لزوجها، أو قابلته بالحفاوة عند قدومه أو ودَّعته في رجاء وأمل عند مغادرته المنزل. وقد تُسرف في نقدها ولومِها إلى درجة تحمل الزوجة على النظرة إلى الحياة الزوجية نظرة قاتمة أو يائسة.
إذا كانت الأم لم تستطع حتى الآن أن تكيِّف نفسها مع الوضع الجديد: فتتمنَّى لولديها وزوجتيهما السعادة في حياتهما الزوجية، وتأخذ وضعها في الأسرة في الصف الثاني بدلاً من الأول، وتحاول من جانبها أن تُزيل أو تخفِّف أثر سوء التفاهم إن وقع بين ولديها وزوجتيهما بدلاً من أن تَزيده... إذا لم تستطع أن تفعل ذلك حتَّى الآن فالنصح لها أن تقوم به فورًا دون أن تأسف على شئ؛ لأن قانون الحياة يحتِّم على مَن صعد إلى قمة جبل لا بُدَّ أن ينزل يومًا ما إلى الوادي من جديد طوعًا أو كرهًا. وعندئذٍ ستجد الرعاية من ولديها وزوجتيهما مضاعَفة.(7/1)
لكن إذا كان ولداها يعامِلانها هذه المعاملة السيئة التي تذكرها في سؤالها دون أن تكون سببًا في تعقيد الحياة الزوجية عليها ـ وبذلك قد خاب أملها فيهما وفيما ظنت أو اعتقدت أنه سيَزيد من انسجام الأسرة، وهو اختيارها لشقيقتين كزوجتين لهما فإن هذا فقط لا يعبِّر عن نكران الجميل الذي قدَّمته الوالدة لهما. وهو السعي إلى تعليمهما تعليمًا عاليًا بحيث يشغل أحدهما الآن وظيفة مدرِّس والآخر وظيفة مهندس، وكذلك المحاولة إلى الربط بين الاثنين في حياتهما الأسريّة الجديدة بتزويجهما من شقيقتين. وإنّما يعبِّر بالإضافة إلى ذلك عن فقد روح الإنسانية التي طلبها الإسلام في معاملة الوالدين من أبنائهما، والتي يشرحها القرآن الكريم فيما تقصُّه هاتان الآيتان:
(وقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدوا إِلاّ إِيَّاهُ وبالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ للأوّابِينَ غَفُورًا) (الإسراء: 23ـ25).
فجمع القرآن هنا بين أمرين تكاد تكون منزلتهما في الأهميّة في نظرة واحدة بالنسبة للإنسان جمع بين الحكم بعبادة الله وحده، وبالإحسان إلى الوالدين. ذلك الإحسان الذي يتمثَّل في منع الإيذاء النفسي عن قريب أو بعيد، وبالعطف المصحوب بدماثة الخلُق ولين الجانب في المعاملة، وبالدُّعاء مع ذلك إلى الله بأن يَجزِيَهما أحسن الجزاء لقاء ما قاما به في تربية الابن في صِغَره وأوقات ضعفه في نشأته.(7/2)
إن الذي يُعامِل والِدَيْهِ في جفوة وغِلظة أو في نُكران للجميل يترقَّب أن يُعامل في مِثْل هذه المعاملة من أبنائه فيما بعدُ. وعندئذٍ يشقى بهم وبحياته أكثر مما شَقِيَ والده به. لأنَّه سيتذكَّر أنَّه قد أساء معاملة والديه وهو تُساءُ معاملته الآن فجمع في حياته سوءين: (وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40).
84 ـ أمِّي لها ولدان: أنا والأخ الأكبر منِّي. وأخي الأكبر قاطعَها. ورغم إلحاحها في طلب معونته أو رؤيتِه لا يستجيب. وهي مريضة ولا تقوم وتتحرَّك. وأنا أقوم بكل شؤونها، حتى استحمامها. وأطَّلِع بالضرورة على عَوْرَاتها. فهل هذا حرام؟
إن مُقاطعة الابن ـ وبالأخصِّ الابن الأكبر ـ لوالدته في وقت هي في حاجة ماسّة إلى الرعاية بسبب مرَضِها وعدم استطاعتها الحركة.. أمر يُخالِف مُخالَفَة صريحة ما يأمر الله به ـ سبحانه وتعالى ـ من الإحسان للوالدين في آيات عديدة من كتابه الكريم، على نحو قوله في سورة الإسراء:
(وقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدوا إِلاّ إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ للأوّابِينَ غَفُورًا) (الإسراء: 23 ـ 25).(7/3)
فهنا في هذه الآيات الثلاث كان واضحًا ما يجب على الأبناء قبل الوالدين من معاملة. فهي لا تقوم على الرعاية وحدها في شؤون الإنفاق والتكفُّل بالحياة المعيشيّة المادِّيّة. وإنما بالإضافة إلى ذلك رعاية الجانب الإنساني في القول والسلوك نحوهما، بحيث يشعران بمتعة الراحة النفسيّة في كَفالة أبنائهما، وبأنَّهما الآن يقتطفان ثمار جُهدهما فيما مضى في تربية الأولاد وحضانتهم.
وإذ يقول القرآن الكريم في الآية الثالثة: (رَبُكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفوسِكُمْ) فيخبر برقابة الله ـ جَلَّ شأنُه ـ وباطلاعه على ما تضمره نفوس الأبناء وتُخفيه قبل الوالدين.. يقول ذلك لكي يؤكد عناية الله بشأن الوالدين وتحقيق الإحسان في مجال معاملتهما من الأبناء.
وليس هناك أشدُّ جفاءً وغِلْظَة في مُعاملة الوالدين من امتناع الولد الأكبر عن أن يستجيب لنداء والدته ولوضعها الصحي المُتَرَدِّي وتركها وشأنها لأخيه الأصغر، التي تضطرُّه ظروف رعايتها إلى أن يطَّلع على عوراتها عند استحمامها.
وموقف الإسلام من اطِّلاع الابن على عَوْرَة أمِّه هو في الأصل موقف التحريم، وإن كان يجوز له أن يرى منها أكثر من الوجه والكَفَّين. فتحريم الزواج بالأمِّ، كما جاء في قول الله ـ تعالى ـ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) (النساء: 23) جاء تكريمًا للأمهات وسترًا لحرمتِهِنَّ قِبَل أبنائهِنّ. ولا شكَّ أن العورة في مقدِّمة الحرمات بالنسبة للإنسان.
ولكن إذا أصبح الاطِّلاع على عورة الأم من قِبَل الابن ضرورة تستوجبها صحة الأم ذاتها من جانب، وعدم وجود أنثى ولو غير مَحرم تُباشر خدمتها الداخلية من جانب لآخر، فإنَّ الإسلام لا يرى حظْرًا عندئذٍ أن يطَّلع الابن على عورة أمِّه عندما يقوم بغسلها وتنظيفها، وقاية لها من الرائحة الكريهة المنفِّرة أو من بعض الأمراض التي يستتبعها عدم نظافة الجسم كالجرَب أو الحَكّة مثلاً.(7/4)
وهنا تعظُم مقاطعة الابن الأكبر لأمه في غضب الله عليه. فربَّما كان يمكن بالمعاونة مع أخيه الأصغر أن يَحُولا دون اطلاع هذا الأخ على عورة أمِّه، ويحفظا بذلك معا حرمة والدتهما عليها طَوال حياتها.
والسائل ـ وهو الولد الأصغر ـ يطمئن إلى ما يقوم به إزاء أمّه الآن، ويعتقد أن الله سيجنِّبه المكروه مستقبلاً مع أولاده، إنْ وجد له أولادٌ.
98 ـ أنا الابن الوحيد لوالدي، الذي يعمل ويكسِب، والحمد لله. وقد نلتُ بعد مشقّة دبلوم المعلمين، وعُيِّنت مدرِّسًا بمدرسة ابتدائية بإحدى القرى. وعُوِّض أهلي عما رأوه من حرمان. ثم تزوَّجتُ بعد تعييني بثلاث سنوات، مع الاستمرار في الإكرام لأهلي: أزورهم مرة كل أسبوع، وأُرسل إليهم أربعة جنيهات شهريًّا.. وهذه طاقتي.
ولكن أبى وأمي لا يَرْضِيَان بهذا.. ويُسبِّبان المشاكل لي ولامرأتي، مع أنها لي جِدُّ مُطيعة، وأنا بها سعيد. وأنا أبذُل لأهلي ما أستطيع. فماذا أصنع؟
ـ ما يرويه السائل في سؤاله من:
أنه الابن الوحيد الذي يعمل ويكسِب.
وبأنّه يرعى والديه بأربعة جنيات شهرية من مرتبه، وهو مرتب مدرِّس بإحدى المدارس الابتدائية في القرى.. وأن هذا المبلغ هو نهاية طاقته. بعد أن تزوَّج ـ يُقِرُّ بأن نفقة والديه واجبة عليه.. وأنّه يؤدِّيها في حدود إمكانيّاته المُتاحَة. فهو ولد صالح لا يجادِل في الحق.. ومُحسِن لوالديه؛ لأنّه يبذل قُصارى جهده في رعايته لهما. وبذلك يكون قد أطاع الله فيما أوصى به من قوله: (ووَصَّيْنَا الإنسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا) (العنكبوت: 8).
ولكن المشكِل هنا في عدم رضاء والديه بهذا المبلغ.. وفي تحدِّيهما لزوجته؛ لأنَّها دخلت عليهما حياتهما وتشاركهما الآن في مجهود الابن، ويظنّان أنّها بهذه المشارَكة تعتدي عليهما. ولذلك يَتَتَبَّعانها، ويُنفِّران منها زوجها، رغم أنها مُطيعة له، وهو بها سعيد، كما يذكر.(7/5)
والمشكلة بالنسبة لوالِدَي الزوج مع زوجة الابن هي مشكلة الأنانية من جانبهما.. ومشكلة الحقّ من جانب الزوجة.. ومشكلة المتاعب بالنسبة للزوج الابن.
فالوالدان تَغْلِب عليهما الأنانيّة من أجل احتفاظهما بالابن وحدهما.. بعواطفه.. وبماله كله.. وبكل مجهود بشريٍّ له في الحياة.
والزوجة يتملَّكها الحق في أن يكون زوجها متكفِّلًا بنفقتها.. وبوقايتها من الأضرار.. وبأن تكون عواطفه لها ولأولادها منه.
والزوج الابن إن لم يكن ذا إرادة فيَحسِم الأمر، ويقف بجانب زوجته.. ويُعطيها من عواطفه، ومن احترامه ما يُشعرُها بأنها شريكته في قيام الأسرة الجديدة وفي بقائها، على أن لا يَغفُل رعاية والديه، بقَدْر ما يستطيع ـ يَتِيه في المتاعب.. ويضيع في التردُّد بين زوجته من جانب، ووالديه من جانب آخر.
والزوج يجب أن يعلم: أن طاعة الوالدين لا تُلتَزم في كل شيء، وقد نصَّ القرآن على أن عصيان الولد لأبويه أمر واجب، عندما يطلبان منه أن يُشرِك بالله. فيقول: (وإِنْ جَاهَدَاكَ ـ أي عمِلا في إصرار ـ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطْعِهُمَا) (العنكبوت: 8).. والشرك وإن كان رأس المعاصي إلا أن ما عاداه من انحرافات إذا كانت تتضمَّن الاعتداء على حقوق الآخرين فلا ينبغي تنفيذه من قِبَل الابن، إذا أُمِر من والديه بارتكاب ما يُخالِف حق الله.. أو حق الناس. والزوجة عندما يقول الله ـ تعالى ـ في شأن ما يجب أن يعاملها زوجها به: (فإمْساكٌ بِمَعروفٍ أو تَسريحٌ بإحْسانٍ) (البقرة: 229).. لها حق المعاملة الكريمة على زوجها، وليس من المعاملة الكريمة أن يُنَفِّذ انفعالات الوالدين الكريهة قِبَلها. ليس له أن يزعِجها بما يُلاحِظانه عليها، أو بما يَنقُدانها به.. ليس له أن يُرَدِّد على سمعها ما يتقوَّلان به، فضلاً عن أن يسلك مسلكًا عمليًّا يؤذيها، وتتَضَرَّر به.(7/6)
والوالدان يجب أن يعلما أن رعاية الابن لهما ليس معناها التحفُّظ عليه، والتحكُّم في عواطفه، والتصرُّف فيما بيده، يجب أن يعلما بعد أن تزوَّج أن نَماء شخصيته هو في استقلاله عنهما.. وأن هدفه قد تحوَّل بالفعل إلى أسرته الجديدة، وأنهما يُمَثِّلان فقط بقيّةً في محيط وجوده، ولابُدَّ أن تُصَفَّى هذه البقيّةُ اليومَ أو غَدًا، بفعل الزّمن وحدَه، يجب أن يشكُرَا له رعايتَه لهما بقَدْر ما يستطيع، وأن يبارِكَا له حياته المشتركة مع زوجته، وأن يدعُوَا له بالخير في أن يكون خير خلَف لهما، بدلاً من محاولتهما تحطيم مستقبله في أسرته.(7/7)
50 ـ أنا طالب بالمدرسة الثانويّة الصناعية في الصف الثالث، ومقيّد أيضًا بالصف الثالث الثانوي العام، منازِل. ووالدي ميسور الحال. ولي أخٌ راتِبه فوق العشرين جنيهًا. وأبي ممتنع عن الإنفاق عليَّ ولا يوفِّر لي وقت المذاكرة. أليس للأبناء حقوق علي الآباء؟
التحاق السائل بالمدارس الثانوية الصناعية: يدلُّ على أن مستوى نجاحِه في الشهادة الإعدادية كان أدنى من أن يُتيحَ له دخول المدارس الثانويّة. فهو طالب غير متفوِّق. وعدم تفوُّقه قد يعود إلى ضعف استعداده الفطريّ لتحصيل المعرفة. وقد يرجِع إلى صعوبة المرحلة التي يجتازها، وهى مرحلة المُراهَقة في حياته. والشباب الذي يصعب عليه اجتياز هذه المرحلة. يقعون تحت تأثيرات متعدِّدة ومتضارِبة. ولذا ينقصُهم تركيز الفكر.. والسير في خط واحد مستقيم. والنتيجة الحتميّة لذلك التخلُّف عن الأقران.. وعدم استطاعة الدخول في منافسة معهم.. وأخيرًا: قَبولهم للوضع الهيِّن أو المهين في الحياة، أو الهرَب منها.
وتقديم السائل ـ من منازلهم ـ إلى الشهادة الثانوية العامة: محاولة قد تكون لإحياء أمل في نفسه.. أو لتغطية نقص يشعُر به بين مَن كانوا معه في الدراسة الإعدادية من زملائه، وهم الآن في الثانوي، أو في الجامعة. ولكنه لا يعبِّر عن رغبه جدِّيّة تدفعه إلى أن يكون في مستوي الزملاء.
وأخ السائل ـ ومرتّبه فوق العشرين جنيهًا ـ يُقيم في تخرُّجه.. وفي وظيفته: الدليل على أن والدهما: تتوفّر لديه الرغبة في الإنفاق على تعليم أبنائه، والاستمرار في الإنفاق عليهم في مراحله العديدة، مادام هناك أمل في جَدِّهم.. وتفوقهم. وهذا حقُّه.(8/1)
وشكوى السائل ـ إذن ـ من والده، ومن أنه ممتنِع عن الإنفاق عليه في التعليم، وأنه لا يوفِّر له وقت المذاكرة ـ ربَّما أسبابها تعود إليه ذاته، وليست إلى والده. فالوالد مهما اختلفت عواطفه نحو أبنائه فإنه في النهاية يَحرِص عليهم جميعًا ويَضَعُهم مَوضِع الأمل له في حياته، وإن تفاوتوا عنده في نسبة الأمل فيهم. ولهذا لا نجد في القرآن الكريم آيةً واحدة تحثُّ الآباء على العطف على أبنائهم.. بينما نجد فيه الآيات العديدة التي تدعو الأبناء إلى العطف على آبائهم والإحسان إليهم، وبالأخص في حالة الكِبَر. ذلك؛ لأن عطف الآباء على الأبناء أمر فطريّ لا ينازَع. وقد يشكِّل في الأب خطرًا عليه وعلى ابنه معًا، إذا لم يستطع ضبط هذا العطف وأرخى له العِنانَ فيضعُف هو في مواجهة ابنه، في الوقت الذي ربَّما تقوى فيه نوازع الانحراف في هذا الابن. وعندئذ تكون الكارثة: ولَد مُدَلَّل عابث.. ووالد ضعيف يموت تدريجيًّا: من القلق، وخيبة الأمل.
ولو أن والد السائل هنا كان بخيلاً بماله: لَمَا أنفقه على تعليم أخيه المتخرِّج والموظَّف الآن؛ لأن البُخْل عادة لا تتجزّأ.. وفاعليتها مستمِرّة لا تنقطع. وإنّما هو الأمل لدى الوالد. كان هذا الأمل قويًّا بالنسبة لأخ السائل فأنفق عليه في غير شكوى منه.. وهو في نفسه ضعيف بالنسبة للسائل نفسه، فكل إنفاقه عليه.. أو ينفق عليه بقَدْر، وليس كما يرجو السائل، فاشتكى.
وعلى السائل أن يعود إلى نفسه أولاً، ويطرح هذه الأسئلة في صمت:
1 ـ هل هو مستقيم في سلوكه.. ويخشى الله فيما يتصرّف؟
2ـ أم تغلِب عليه بعض النزعات الانحلاليّة: فلا يقدِّر المسؤولية الشخصية.. ولا ينظر إلى غيره من خلال يومه؟
3ـ أم هو مستضعَف لآخرين معه في الدراسة يدفعون به حيث أرادوا؟ وقد يدفعونه في سبيل ابتزاز ما في يد والده إلى خصومته، والإلحاح عليه من أجل الحصول على مال ينفق في عبث الشباب، وليس في سبيل التعليم.(8/2)
إن الأب هنا ـ فيما أحِسُّ ـ مَجنيٌّ عليه. والابن هو الجاني بعبَثِه.. أو بغبائه.. أو برُفقائه.
78 ـ الابن الأكبر يَستعجل أباه في الموافقة على الزواج
أنا مُوَظَّف وعمري ثمانية وعشرون عامًا، وأُعطي أبي كلَّ مرتبي، ونحن ثمانية إخوة وأخوات، خمسة منهم يَستَحِقُّون الزواج، وأنا أكبرهم أُريد أن أتزَوَّج، وأبي لا يُوافق بحُجة عدم وُجود نقود. فما الرأي؟
سِنُّ السائل ـ وهي ثمانية وعشرون عامًا ـ ليست سنًّا كبيرة ولا مُتأخرة في حياة الأجيال اليوم، فهناك عمرٌ مديد إن شاء الله أمامَه.
ورغبتُه في الزواج في هذه السن رغبة طبيعية لإنسان طبيعيٍّ، كما تُعبر هذه الرغبة ذاتها عن حرْصٍ لدَيْه، وهو أنه يُريد أن يسلُك سُلوكًا مُستقيمًا في حياته ويتحمَّل مَسئوليته إزاءَ الأسرة الجديدة ويَجِدُّ في السعْي والعمل كي يَفي بهذه المسئولية.
وهذا اتجاه يجب تشجيعه لدَى الشباب، وقد نصح به الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ شباب المؤمنين بقوله: "يا مَعشر الشباب مَن استطاعَ منكمُ الباءةَ "أي الزواج ونفقات الزوجية.. أي مَن يرى في نفسه أهلِيَّة لمُعاشرة المرأة وقُدرة على الإنفاق عليها" فلْيتزوَّجْ؛ فإنه "أي الزواج" أغضُّ للبصرِ "أي أكثر إغضاءً للنظر؛ وذلك كناية عن قلة التطلُّع إلى النساء والانشغال بهنَّ" وأحْصَنُ للفرْج "أي أكثر حِفظًا لعِفَّةِ الإنسان ووُقوعه في رذيلة الزنا".
ولكن هل وَضْعُ السائل هنا هو ذلك الوَضع؟ وبالأخصِّ قدرته على الإنفاق على الزوجة؟
ربما يظن ويعتقد ـ أن مرتبه في الوظيفة يستطيع أن يُغطي نفقات الزوجية لو خلُص له ولزوجته، أو أنه إذا وَجد زوجةً تُباشر عملاً بالأجر في وظيفة ما فإن أجْرها بالإضافة إلى أجره سيتكفل بسدِّ نفقات الأسرة المُقبلة.
ويسأل السائل الآن: هل سيُحقق الزواج المُرتَقب في حقيقة أمره إن وقع غاية الزوجية؟
هل سيُحقق المودة والتعاون بروح مخلصة تسعى إلى التكامل بين الطرَفين؟(8/3)
أم أنه سيُشغَل نفسيًّا بوضع والديه وإخوته وأخواته إذا ظلَّت حاجتهم إلى جزء مِن مرتبه قائمةً، هل سيَشعر بنَدَم على أن آثَر حاجته ـ وهي ليست ضرورية في الدرجة الأولى ـ على حاجة أهله وهي تمسُّ صميم معيشتهم؟
هل سينعكس وضْعه النفسيُّ القَلِق على علاقته بزوجته فتُصبح العلاقة بينهما قلِقة كذلك؟ وبمُرور الأيام يتَّهم زوجته ـ من غير وجه حق ـ بأنها كانت السبب في خلْق مُشكلة أهله، وهو مُشكل الحاجة المُلحَّة إليه؟
هل ستتعاون الزوجة معه وتُضيف أجْرها إلى أجره إنْ كانت عاملة بروح مُخلصة تنشد التكامُل بينها وبينه؟ أم أنها ستُفكر في مصلحتها الذاتية، وبذلك تُضيف مشكلاً آخر لزوجها، وهو مُشكِل: موازنة النفقة التي قامت أساسًا على رقمٍ معين، هو مجموع أجره بالإضافة إلى أجر زوجته؟
ومن أجل مثل هذه المشاكل يَنصح الحديث السابق عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخره الشباب أيضًا بعدم التسرُّع في الزواج إنِ افتقدَ الشباب أهلية المُعاشرة الزوجية.. أو القدرة على الإنفاق على زوجته فيقول: "ومَن لم يَستطع "أي الزواج" فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاءُ". أي مانع من الاندفاع على طلب المرأة.
وتحديث الصوم في هذا الحديث كعلاج لإضعاف الرغبة في المرأة هو علاج ذاتي يُباشره الإنسان من ذاته، كما يفعل وقت ما يَخشى على نفسه من السمنة وإجهاد القلب عندما يَزيد وزنه.
والسائل الآن بين وَضْعينِ: يختار أيهما أنسب لنفسه، وأحفظ لروابطه.(8/4)
12ـ ذهبتُ إلى أحد السَّاعاتِيّة ليصلِح ساعة لي أعطيتها له من سنة 1968 وللآن لم يقُم بإصلاحها. وكثيرًا ما مررتُ عليه ويَعِد.. وللآن لم يفِ بوَعْده. فما رأي الدين بالنسبة لخُلف الوعد، والحلِف كذبًا؟
خُلف الوعد يُعتَبَر عُرْفًا شائعًا عند أصحاب الحِرَف والمِهَن الصغيرة في مجتمعنا. وذلك يرجع إلى أنهم يُحَدِّدون لتسليم العمل مواعيد قريبة لإغراء زبائنهم أو الخوف عليهم من فقدهم، ثُمَّ لا يستطيعون بعد ذلك أن يَفُوا؛ لتشعُّب نشاطهم. ولو أنَّهم ركَّزوا على هذا النشاط أولاً بأول على العمل الذي يأتيهم لَعَرَفوا مقدار الوقت الذي يحتاجونه للإنجاز، وبالتالي لأمكنَهم أن يَضْبِطوا مواعيدَهم. على أن هناك سببًا آخر لخُلْف المواعيد، وهو عدم حِرص العُمّال المُسْتَأجَرين عند صاحب العمل ـ إمّا انتقامًا أو كيدًا ـ على إدامة العمل، فينقطعون عنه فجأة لفترة أو فتَرات. وبذلك يختَلُّ الأمر ويُضطَرُّ صاحب العمل لأن يخلف وعدَه.
وأَيًّا كان السبب في خُلف الوعد، فإنه لا يُبَرِّر إطلاقًا الحَلِف بالله خداعًا وتضليلاً. فإن صاحب العمل إذ يحلف بالله لبعض زبائنه أنه سيُنجز له العمل في وقت كذا.. أو وقت كذا .. وهو يعتقد أنه غير قادر على أن يفي بما حلف عليه.. فإنه لا شكَّ يخدعه ليسلِّم ما وعد به. وقد نهى القرآن الكريم عن أن نَتَّخِذ الأَيْمان وسائل للخداع والخيانة، فيما يقول سبحانه: (ولاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ "أي خيانة وخداعًا" فتذِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) (النحل: 94) "أي فتسقط القدم وتهوي بعد أن كانت ثابتة. وهذا التعبير كناية عن الانحراف عن الخط المستقيم في المعاملة".. إذ سيتبين بعد حين أن صاحب العمل يسلك طريق الكذب والخداع. وهذا يكفي لإحجام زبائنه عنه، وعدم قَبول غيرهم عليه. وفى ذلك عنَت ومَشَقّة له في عمله.(9/1)
وربما ينقص أصحاب الحِرف والمِهن الصغيرة أن يُدركوا أنَّهم يجب عليهم أن يبسُطوا أيديَهم بعض البَسْط لمَن يعملون معهم في حِرَفهم ومِهنهم. وبذلك يكسِبون معاونتَهم ومساعدتهم، ومشاركتهم في الحرص على إنجاز الأعمال في مواعيدها المحدَّدة. وكذلك يجب على هؤلاء العُمّال أن يجنِّبوا أنفسهم الحقد على مَن يعملون معهم ويستفيدوا من خبرتهم، ويتدرَّبوا على دِقّة العمل والنظام فيما يُنجِزُون لهم من عمل. وبذلك يُضيفون إلى مهارتِهم الحِرَفيَّة نظامًا في العمل يساعد على نجاحهم.(9/2)
58ـ إهمال الابن لأُمِّهِ
سيدة لم تذكر لها مَوطنًا، وتقول في رسالة لها كأُمٍّ أن لها ابْنًا وحِيدًا، كان يَزورها كل يومينِ في الأسبوع، ولكن هذه الأيام لا يَحضر إلى منزل والدته، وتَبيَّن أنه يعيش مع أحد الشيوخ في أحدِ الأحياء، واحتفظ بمَسكنه الذي يتكون من أربعِ غُرف وصالة وإيجاره الشهري خمسة وثلاثون جنيهًا، وهي وحيدة وليس لها غيره. وتسأل:
1ـ ما رأي الدين في إهمال الولدِ لأُمه والإقامة عند هذا الشيخ؟
2ـ هل تترك منزلها وتُقيم في بيت المسنين، حتى يعود لها ويترك الشيخ كذلك؟
3ـ وكيف يكون مُتمسِّكًا بالدين تمسُّكًا قويًّا، وفي نفس الوقت يُهمل أمَّه، وهذا يُخالف الدِّين؟
4ـ إنها لا تشكو من النفقات والحاجة المادية ولكن تشكو مِن الوحدة.
كما يتَّضح من رسالة السائلة:
أنها وحيدةٌ في معيشتها وفي مَسكنها.. وأن ابنها الوحيد يستقلُّ بسكنٍ خاصٍّ غير سكن والدته.. وأن اللهَ أغناها عن الحاجة إلى المال، سواء مِن ابنها أو من غيره. ...
كما يتَّضح أن ابنها مُتدين وشديد التمسُّك بالدين.. وأنه تعرَّف على أحد الشيوخ ووَثق به، بعد أن أنِسَ إليه.. ويعيش في رفقةٍ معه الآن، وسعيد بصُحبته. ومِن ثم ترك مَسكنه الخاص ليعيش معه، فنَسِيَ والدتَه وترَكها في وَحْدتِها، أيَّامًا بعد أيام، وهنا كان تساؤل الأم، أين ابنُها؟..وهل مِن الدين ترْكها وحدها أن يزورها من وقت لآخر؟ وهل مِن الدين أن يُؤْثر رفقة إنسانٍ مُعلِّم له على التردُّد على والدته.
إنها تعيش في بيتها الخاص على أمَل أن يتردَّد عليها ابنها، فإذا انقطع عن زيارتها فأولى لها أن تخرج من هذه الوحدة المُؤلمة، إلى بيت أهلٍ بمَن له نفس ظروفها، لكِبَر السنِّ، أو لعدم وُجود الرحِم والأقرباء كما تتصوَّر.(10/1)
والتديُّن قبل كل شيء توازُن في الواجبات والحقوق. فالذي يُوفِّي ببعض الواجبات دون بعض. وببعض الحقوق دون بعض ويُبالغ في أداء ما يوفِّي به، كما يُبالغ في إهمال ما لا يُؤديه من الواجبات والحقوق: هذا الذي يفعل ذلك يكون غير مُتوازن.. وبالتالي يكون غير مُتديِّن على الوجه المطلوب.
... للأم حقوق.. وللرُّفقة والصحبة حقوق، فإذا بالَغ الولد في أداء حقوق الرفقة للشيخ الذي تعرَّف عليه، بحيث يُهمل في حقوق الأم: يكون تديُّنه مُعطَّلاً في جانبٍ رئيسيٍّ في حياته، وهو جانب الأقربينَ وأولِي الرحِم. ...
... وإهماله في حقوق الأمِّ أشدُّ إثْمًا وعِصيانًا عند اللهِ مِن إهمال الشيخ وصُحبته. فإذا زاد في أداء هذه الصحبة مع التغاضي كليَّةً عمَّا يجب للأم تكون مبالغةً واضحة ويكون تَطرُّفه غير مقبول عند الله.
... والشخص الذي لا يكون مُتوازنًا في تديُّنه.. الشخص الذي يكون مُتطرِّفًا في أداء ما يُؤديه من حقوق وواجبات، وفي إهمال ما يُهمله منها: هو في الغالب ضعيفٌ في إيمانه لا يستطيع تخليص حركته الإرادية مِن تأثير بعض العوامل التي شَغلت حَجْمًا كبيرًا في نفسه، والابن الذي تشكو منه أمه صاحبة هذه الرسالة يقع الآن تحت تأثير التوْجيه الذي يُمارسه شيْخه الحالي معه. ولذا هو مُنصرف كليَّةً إليه. وهذا الانصراف الكليُّ إلى شيخه هو الذي يَحُول بينه وبين زيارة أمِّه. ومع ذلك لا يدلُّ انصرافه على معنى أنه مُقاطع لها.. أو أنه لا يُحبها ولا يَحترمها.. أو أنه لا يرغب في السعْي لخيرها. وهو مُتديِّن ولكن في ذاته ضعيف يَميل به إلى هذا الجانب مِن التديُّن أو إلى ذاك. وإذا مال إلى جانبٍ استغرق فيه. وبهذا الاستغراق ..يبدو عجْزه أو تقصيره في جانب آخر.
... ولأن التديُّن هو التوازن.. ولأنه يقوم على قوة الإيمان التي تُساعد على استقلال إرادة المؤمن عند أداء الحقوق والواجبات، يُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(10/2)
... أن عليًّا وعبد الله بن عمرو ـ وعثمان بن مظعون، جاءوا إلى بيوت زوجات الرسول ـ عليه السلام ـ يسألون عن مستوَى عبادةِ الرسول ـ عليه السلام ـ ومدَى درجتها في الأداء. ثم قال أحدهم: أمَّا أنا فإنِّي أُصلى الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهْر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزلُ النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم: كذا.. وكذا؟ أمَا واللهِ: إنِّي لأخشاكمْ للهِ، وأتقاكمْ له: لكني أصوم وأُفطر، وأُصلى وأرْقدُ، وأتزوَّجُ النساء، فمَن رغَب عَن سُنَّتي فليس منِّي" ..
... والرسول ـ عليه السلام ـ قدوةٌ للمؤمنين. وهو هنا في أدائه للعبادات ـ وهي واجبات على المؤمنين مُتوازن، وليس مُتطرِّفًا في أداء أيٍّ منها، على نحو ما كان عليه هؤلاء الثلاثة في صلاتهم، وصوْمهم، ومُعاشرتهم للنساء.
... والأم السائلة يجب عليها أن تَصبر في وحْدتها، فابنها سيعود إليها ساعةً ما، وسيُؤنسها بزيارته، فتديُّنه دليل على صلاحيته وأهليته لعمل الخير. وأزمتها الآن أزمةُ وقتٍ.. والأزمة استغراق في صُحبة الشيخ ولكنها ستنتهي حتْمًا إن شاء الله.
... أما سُكناها في بيت المسنين فقلَّما يُعوِّضها عن زيارة ولدها لها، بل ربما يزيد في وَحْشة وحْدتها وهُمومها.(10/3)
85 ـ يشتغل أبي بالأعمال الحُرّة ويقتِّر علينا بالمصروف مع أنه موسِر، وأمِّي تحرِّضني على اختلاس النقود منه. فما الحكم؟
من الناس مَن يستهدف المالَ لذاته ويحرِص على جمعه اعتقادًا منه أنه سنَده في الحياة. ويرتَّب على ذلك الشحُّ في إنفاقه، حتى على نفسه وأسرته. وسعادته بالمال عندئذٍ إذ هي في تكاثره ونمائه، ولو بطريق غير إنساني أو غير مشروع.
وهذا الموقف من المال يدلُّ على أنانيّة صاحبه، ويدلُّ كذلك على عدم ثقته بنفسه كإنسان له طاقات تُمَكِّنه من العمل والسعي في الحياة. ومِثْل هذا الإنسان وبالأحرى هو إنسان متواكِل على المال. وماله مع الأسف لا يُسنده عند الشدائد والأزَمات كما يعتقد؛ لأن زيادة الحرص عليه منه تجعله مُتَرَدِّدًا في إنقاذ نفسه من تلك الأزمات والشدائد بدل المال، وبذلك تفوت فرصة الإنقاذ أو تكاد.
ثم موقفه هذا من المال ـ وهو موقف التقتير والشُّحِّ ـ سيُفسد عليه أسرته بعد ذلك، إمّا بتفكُّكها أو بزيادة أمر الحِقْد والضغينة في نفوس أفرادها، وبالأخصِّ الأولاد من بينهم ـ على ربِّ الأسرة مُكتنِز المال. ولا يُستبعد أن تمارِس الجريمة، وربما جريمة قتل الأب نفسه في بداية الطريق إليها.
وهنا يكون المال سبيلاً إلى فساد الأسرة وتفكُّكها على الأقل، وسبيلاً كذلك إلى ضعف صاحبه أو إلى قتله، بدلاً من أن يكون سبيل القوة والنجاح في الحياة إذا أحسن استخدامه ونظر إليه على أنّه وسيلة وليس هدفًا.
وحسن استخدام المال ترشِد إليه مثل هذه الآيات:
1 ـ (ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ "بُخل نفسه" فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ) (الحشر: 9).
2 ـ (ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلولةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء: 29).
فهاتان الآيتان نَهَيَتَا عن الشُّحِّ والبخل والتقتير. كما أرشدت الآية الثانية منهما إلى طريق الوسط والاعتدال في الإنفاق.(11/1)
ثم الأوجه المثمِرة لإنفاقه يشير إليها قوله تعالى: (واعْبُدوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وبِذِي القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِينِ والجَارِ ذِي القُرْبَى والجَارِ الجُنُبِ والصّاحِبِ بِالجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا. الذِينَ يَبْخُلونَ ويَأْمُرونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ ويَكْتُمونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ.) (النساء: 36 ـ 37).
فجعلت الآية صاحب القُربى ـ ويدخل الولد في مفهومه دخولاً أوليًّا ومؤكَّدًا ـ بجانب الوالدين في مطلوب المعاملة الحسنة الكريمة من الآباء. وكشرط لتحقيق المعاملة الحسنة سد حاجاتهم المادِّيّة. ولذا جاء قول الله في التعقيب على هذا المطلوب (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُختالاً فَخورًا. الذِينَ يَبْخَلونَ ويَأمُرونَ النّاسَ بِالبُخْلِ ويَكْتُمونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). مما يبرِز أن البخل في إنفاق المال يبعد المعاملة على أن تكون حسنة، كما يبعد البخيل نفسه عن محبّة الله ورضاه.
أمّا العمل بوصية الوالدة، وهي سرقة مال الأب فهو حَلَّ جريمة بارتكاب جريمة أخرى. وإذا كان بُخل الوالد ربما يكون سببًا في فساد الولد فإن العمل هنا بوصية الوالدة سيكون سببًا على سبيل القطع في الفساد بارتكاب الجرائم. إذ الذي يبدأ بالسرقة في سلوكه لا يعلم متى تنتهي سلسلة الجريمة لديه.
والعمل الأمثل هو محاولة إقناع الوالد بترك الشحّ في الإنفاق إما عن طريق الوالدة أو الأقربين. وإلاّ فقانون الأحوال الشخصية يفصل بالعدل إن رُفِع الأمر إلى القضاء.(11/2)
48 ـ نحن ستُّ بنات وولدان. ووالدنا لا يَعنيه من أمرنا إلا أن نعمل.. ونوفِّر له الراحة، والنقود، والشاي، والدخان. ولم يُتمَّ تعليمَه الثانوي من هذا العدد غيري، وعُيِّنت مدرِّسة بالمدارس الابتدائية. ولنا أختان صغيرتان يعملان في الحقل طَوال اليوم، وفي البيت ساعات من الليل. والمِلْك قليل لا يتجاوز الفدّان. ولو كان الوالد مع صِحّته وقوة بدَنه يعمل لتيسّر الأمر. ولكنه يعتمد كليّة على البنتين في العمل، وعلى مرتّبي القليل في الإنفاق على الجيش الصغير. وإذا حضر بعض الخُطّاب لنا وهم أكْفاءٌ يرُدُّهم بشدة، حتّى عَلِمَ الناس منه هذا. ولو كُنّا ذكورًا لهانَ الأمر، وسَعَيْنا في الأرض. ولكنا نحن بنات والمجتمع الرِّيفي لا يسمح للبنت بأن تترك أهلَها ولا بالفرار ممّا تتلقاه.
ما تنسُبه البنت السائلة إلى أبيها يتلخّص في ثلاث أمور:
الأمر الأول: أنّه يقدِر على العمل ولا يباشِره، ويعتمد على أولاده الصِّغار في الإنفاق.
الأمر الثاني: أنه يستغل ضعف النساء فيُسخِّر بناته في العمل في الحقل.. وفي المنزل، من أجل المعاش والرزق.
الأمر الثالث: أنه يعضُل بناته ويحول دون زواجهن؛ استمرارًا في تسخيرهن لصالح نفسه.
وهذه الأمور الثلاثة، وهى من سمات العهد الجاهلي المادِّيّ، يَنفِر منها الإسلام.. وتنفِر منها المُروءة وكرامة الأب لبناتٍ: بعضهن أو الكثيرات منهنَّ صغيرات.
وفي تقدير هذا الأب أن نسلَ الأولاد يجب أن يكون السبيل إلى العيش وتحصيل الرزق. ولذلك له من البنات سِتٌّ. ولو كان يستطيع أن يزيد لزاد العدد في غير محدوديّة. وهو ينظر إلى بناته على أنهنَّ: كمِلْك يمين له، لم يَستَكْمِلْنَ بعدُ حُرِّيتَهنّ.. ويجب أن تكنَّ في خدمته كسيّد، وليس كأب.(12/1)
ويستغل ضعفَهن كبَنات فيسخِّرهن في العمل ليلاً ونهارًا. وكذلك يفعل الجاهليُّون والمادِّيُّون: يَعْتَدُون على المرأة فيأكلون إرثَها.. ويسلُبون ما في يديها.. وربّما يدفعون بها إلى البِغَاء دفعًا، رغبة في المال. ويُشير القرآن إلى هذه الصور من استغلال المرأة. فيقول: (وتَأْكُلونَ التُّراثَ "أي الإرث" أَكْلاً لَمًّا) "أي تجمعونه وتضمون بعضه إلى بعض، من غير تمييز بين ما يحلُّ منه وما لا يحلُّ.. وبين ما هو للوارث الآكل، والوارث الآخر المُعتَدَى عليه" (الفجر: 19).
كما يقول: (ولاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ "أي إماءَكم وهُنّ من الرَّقيقات" عَلَى البِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحْصُّنًا "أي إن رَغِبْنَ في العِفّة وعدم اقتراف جريمة الزِّنا" لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيَا) "وهو تحصيل المال" (النور: 33).
ويَحُول بينهم وبين الزواج، إن تقدَّم لخطبتهم كفْء من الرجال، حرصًا على استمرار استغلالهن لمصلحته الشخصية. وعلى هذا النحو يفعل الجاهليُّون، والمادِّيُّون. يقول الله تعالى: (وإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ "أي قارَبْنَ على انتهاء عِدّتهن" فلا تَعْضُلوهُنّ "أي فلا تمنعوهن" أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنّ "الجُدد" إذا تراضَوْا بَيْنَهُمْ بالمَعْروفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ "أي يتأثّر بذلك ويُطيعه مَن لم يكن مادِّيًّا" ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وأَطْهَرُ واللهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمونَ) (البقرة: 232).
وكان صَنيع الجاهليّين إذا رأوا مطلَّقة في عِدّتها قد اتَّفقت مع رجل آخر يتزوّجها بعد انتهاء المدة.. سارعوا إلى مراجعتها، منعًا لها من إتمام الزواج الجديد. وقد نهى عن ذلك الإسلام؛ لأن فيه ضَرَرًا يلحق بالمرأة.. وهو ضرر الإمساك وهى كارهة.. وضَرَر تفويت الفرصة الجديدة عليها وهى قريبة منها.(12/2)
فهذا الوالد أناني مُستهتر وغير مسؤول يستحِقُّ ـ في تقديري ـ عقاب الله له فقد خلا من عواطف الأبوّة.. والإنسانية.. والشهامة.. والكرامة.
ولعلّ الله يحدث في أمر هذه البنات المعذّبات ما يُنقِذهنَّ من والد بَقِيَ حتى الآن في حيوانيته. وما ذلك على الله بعزيز.
60 ـ أنا طالب جامعي في السنة الثانية بكلية العلوم بالمنصورة، وعمري أقل من عشرين عامًا. ووالدي متزوِّج بغير أمِّي ويقيم في القاهرة. وله ولدان من زوجته. ولا أحصل منه على أية نفقة. وهو رجل فطري. وقد سبق أن أدخلته مَصَحّة للأمراض العصبية والنفسية. وأريد أن أرفع دعوى نفقة شرعيّة عليه. غير أنِّي أخشى فشل القضية. فما الرأي؟
لا شَكَّ أن الإنفاق على الأولاد واجب شرعًا على الآباء. ويروى في ذلك ما ينقل عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خَيرُ الصدقة ما كان منها عن ظهر غنًى. واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلي. وابدأ بمَن تَعُول "أي بمَن يجب عليك أن تَعُولَهم وتُوَفِّر لهم حاجة الطعام والشراب، والملبس، والمأوى" فقيل: مَن أعْوَل يا رسول الله؟ قال: امرأتكَ.. وجارِيتكَ "أي الرقيقة العاملة في شؤون المنزل" وولدكَ". ومدى النفقة على الأولاد إلى أن يبلُغوا سِنَّ الرشد.(12/3)
والرُّشد هو التمييز والفصل في شؤون الحياة.. أو هو الاستقلال في إبداء الرأي وتحمل المسؤولية. وهو ظاهرة متأخِّرة في الإنسان، عن ظاهرة البُلوغ الجنسي. ويختلف ظهورها باختلاف ظروف النشأة، والخبرة، ومُمَارَسة العمل للإنسان. ولذا ليست للرشد سِنٌّ معيّنة ثابتة. وقد وكَلَت الآية في قوله ـ تعالى ـ: (وابْتَلُوا اليَتامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (النساء: 6) إلى الأوصياء على أموال الضعفاء ـ تحديدَ الرشد لهؤلاء الضعفاء، باختيارهم في التصرُّف في المال، فإن أظهروا حكمة، وحُسْن استقلال، وحسن أداء للمسؤولية فيه.. سُلِّمَتْ إليه أموالهم للعمل فيها، مُسْتَقِلّين بدون وِصايَة. وإلا استمرت الوصاية على أموالهم إلى بُلوغ الرُّشد فيها، مهما تأخَّر الزمن بهم.
والرُّشْد بالنسبة لطالب الجامعة ـ قياسًا على رُشْد اليتيم ـ يكون بإتمامه الدراسة فيها؛ لأنه عندئذٍ يستطيع فقط أن يُمَيِّز في شؤون ما يُوكَل إليه من عمل يعيش منه ويتحمل مسؤوليته، للصالح العام. فمُدَّة الدراسة في الجامِعَة في أيّة كلية بها تكون وَحْدة ثقافية أو عِلْمية توفِّر لمَن أتمَّها أن يكون ذا أهليَّة خاصة للعمل القائم على الخِبْرة فيها. وقبل الحصول على هذه الوحدة الثقافية أو العِلْمِيَّة من الجامعة يكون الطالِب ناقصَ الأهليّة.. وبالتالي ناقص الرشد والخبرة المُمَيَّزة في العمل الذي يُباشِرُه، صاحب الصِّلَة بهذه الوَحْدة. ولذا تُعتَبَر المدة الباقية في دراسة الجامعة جُزْءًا مُكمِلاً لرُشْدِه وأهلِيَّته في العمل الذي سيُوكَل إليه بعد التخرُّج فيها. ومن هنا تجب النفقة على والده إلى أن يُتِمَّ هذه الدراسة.(12/4)
فإذا قيل: إنه يُمكِن أن يُباشِر عمَلاً آخر بمُؤَهِّله الدراسي السابق على الجامعة، دون إلزام الوالد بالإنفاق عليه إلى إتمام دراسته الجامعية.. فهذا القول صحيح من الوجهة النظرية والتطبيقية أيضًا. ولكن لو تَمَّ ذلك سيخلُق في نفس الطالب جوًّا يَزِيد في سُوء العلاقة بينه وبين والده، وبينه كذلك وبين إخوته غير الأشِقّاء. وبذلك تضعُف روابط الأسرة أو تتمزَّق. والمصلحة إذن في إلزام الوالِد بالإنفاق عليه إلى أن يتِمَّ دراسته في الجامعة.
أمّا ما يَحكُم به القضاء لو رُفِع إليه الأمر فهذا أمر يتعلّق بتقدير القاضي لظروفه وظروف والده وأسرته عن كثَب. وربَّما يَخرُج من تقديره برأي آخر غير هذا الرأي. والذي يُفتي السائل في ذلك هم المشتغِلون بالمسائل القضائية والشرعية.(12/5)
63 ـ فرّاش بمدرسة يقول: هل هذا معقول؟ هل هذا صحيح؟.
أبى يُرغمني على التوقيع على إيصال بمبلغ مائتي جنيه، بعد أن طردني من منزلنا، أنا وأولادي. وجعلني أدفع له ثلاثة جنيهات كل شهر. مع العلم بأن راتبي الشهري أحدَ عشرَ جنيهًا. ولي أخوان، راتب كلٍّ منهما يتعدَّى الخامس والعشرين جنيهًا. فهل هذا عدل؟. وهل هذا يُرضي الدِّين؟
الإكراه على أمر ما يُخِلُّ بالالتزام به. فمَن أُكرِهَ على الطلاق مثلاً لا يقع طلاقه بائنًا، أو رجعيًّا. ومَن أُكرِهَ على الكفر وقلبه مطمئِنٌّ بالإيمان لا يعاقَب من الله على إعلانه الكفر: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيْمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيمانِ "فهذا لا يعاقَب" ولَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106).
وعلى هذا النحو مَن يُوَقِّع مُرْغَمًا ومُكْرَهًا على دين لغيره لا يلتزم بالوفاء به. فلو فُرِضَ ـ كما جاء في سؤال السائل ـ أنَّ والده أكرَهَه على الالتزام: بدفع مبلغ مائتي جنيه، فإنّه غير ملزَم أمام الله، وأمام القانون كذلك، إذا ثبت أنّه كان مكرَهًا على ذلك.
وتضرُّر السائل من دفع الجنيهات الثلاثة شهريًّا، كقسط من مبلغ المائتي جنيه لوالده لم يكن الوالد وحده هو مصدر الضَّرَر له. وإنَّما ضعف شخصية السائل لها دخْل كبير فيما يشكو منه الآن. إذ لو لم يكن ضعيف الشخصية لَمَا التزم من أول الأمر بالتوقيع على المبلغ المُشار إليه.. ثُمّ لَمَا التزم ثانيًا بدَفْع الأقساط شهرًا بعد شهر.(13/1)
والدِّين إن تدخَّل هنا فهو لا يتدخل بمنح ضعيف الشخصية قوةً في شخصيته.. وبالتالي يضمن منه عدم الوفاء بما التزم به مُكْرَهًا من قِبَل والده، وإنَّما يُناشِد الوالد فقط الكفَّ عن الاعتداء على ضعيف، إذا لم تكن له حاجة مُلِحّة إلى ماله، ويتَّجه بحاجته إلى ولديه الآخرين، وهما أقدرُ على تيسير هذه الحاجة له.
وليس من السهل تصوّر أنَّ الوالد لثلاثة أولاد، يَعمد إلى الضعيف بينهم فيُرْهِقه بالتزام مالي لا قِبَل له به، بينما الآخران يستطيعان معاونته في يسر، إلا إذا كان الوالد شاذًّا في تصرُّفاته يُسَرُّ من ضرَر غيره، ولو كان ابنًا له.. ويَستَمْتِع بمُمارَسة القسوة على مُتَقَبِّل لها، ويمارِسها في غير شفقة حتى على مَن يجب أن يعطف عليه وهو ابنه.
والسائل بسؤاله هذا يُريد أما أن يُشَهِّر بوالده حتى يَعْفِيَه من أداء ما التزم به في غير إكراه له.. أو يجد له مبرِّرًا أدبِيًّا من الإجابة على سؤاله: في الكَفِّ عن الأداء لوالده.
وأوْلى بالابن أن يكونَ في رعاية والده، ولو بالكلمة الطيِّبة، بعيدًا عن الشِّجار.. والخلاف.. والتشهير. وأولى بالوالد ـ أيضًا ـ أن يُقَدِّر ظروف الضعيف من أولاده في الطاقة علي الإنفاق، فلا يسأله إلا بعد أن يتأكَّد من قدرته، ورغبته الصادقة في المعاوَنة كذلك. فما أكرم الإنسان على نفسه إذا سلك طريق القناعة واقتدى بالله في غناه بنفسه. وأولى بالأخوين: أن يتدخّلا بين والديهم وأخيهم بما يُعيد العلاقة الطبيعية بينهم جميعًا. وهى علاقة العطف من جهة الوالد على جميع أولاده.. وعلاقة الإحسان والرّعاية الطيبة من جانب الأولاد لوالدهم.(13/2)
10ـ سوء مُعاملة الابن لأُمِّه وأَخواته
سيدة بإحدى المحافظات تَذكر قصتها في حزن وألم بسبب موقف ابنها الأكبر منها ومِن أخواته الصغار بعد وفاة والدهم، وتَطلب توجيه النُّصح إليه وإرشاده إلى خير المُعاملة.
أما قصتها فتتلخص في أن زوجها ترك لها عشرةً من الأولاد وفدانينِ بالإيجار، بعد مرضٍ لازَمه أربع سنوات، وتعتقد أنها قامت بواجبه أثناء المرَض، كما قامت بما ينبغي نحو الأولاد في مَعيشتهم وفي تعليم بعضهم، حسَب الإمكانيات المتاحة لها، وعدد الأولاد عشرة.
ولكن الأمر الذي يشقُّ عليها ويُصعب مسالك الحياة في وجهها هو ابنها الأكبر في قسوته عليها وعلى أخواته، وفي عدم إحساسه بالمسئولية فضلاً عن أن يتحمَّل قسْطًا منها، وفي هذه الفترة بالذات التي تكدح فيها أمه في غير حدٍّ حفْظًا لحياته وحياة أخواته معه، وهو طالب الآن بالأزهر، وتتمنَّى أن يكون عَطُوفًا وصاحب حنانٍ عليها وعلى الأولاد حتى يسهل الحياة عليهم على الأقل من الوجهة النفسية.
وأما رجاؤها فهو أن نتولَّى نُصحَه وتوجيهَه نحو ما ينبغي عليه، وبالأخصِّ في هذه المرحلة الشاقَّة التي تمرُّ بها والدته.(14/1)
إن هذا الطالب يعيش في جوٍّ كان ينبغي أن يُنميَ عنده الشعورَ بالمسئولية نحو أمه ونحو أخواته، وأن يزيد في ترابطه وتعاطفه معهم، فالله قد جعل أُسرته في بَسْطة من الأولاد وفي ضِيق من الرزق، كما هيَّأ له أن يكون طالبًا بإحدى كليات الأزهر، مِمَّا يُعينه على فهم ما يجب عليه نحو والدته وأخواته على السواء، ثم أخيرًا هو أكبر أخواته، أي أنه يلِي والده بعد وفاته في مباشرة وحماية أسرته من الأذى والضرر، وفي مشاركتها في دفْع العنَت عنها في مَعيشتها وفي حفظ بقائها. فهذه عوامل ثلاثة مِن شأنها أن تكوِّنَ أو تُنمِّيَ الشعور بالمسئولية، فمَن يرى له إخوةً وأخواتٍ يصلُ عددهم التسع، وهو الأخ الأكبر، بالإضافة لهم، لا يمرُّ عليهم بنَظَره مُرورًا خاطفًا وإنما يتأمَّل في أوضاعهم اليوم وغدًا، يتأمَّل: كيف يَقِيهمُ الجوع والحرْمان والمَرض والجهل، أو كيف يُشارك في وِقايتهم من هذه الأمراض، وهذا يُولِّد الإحساس بالمشاركة في شئونهم. ومَن يدخل كلية من كليات الأزهر إذا أصَمَّ أذُنيه عن سماع ما في كتاب الله وسُنة رسوله ـ عليه السلام ـ خاصًّا بالوالدينِ وذوي الرحِم فإنه لا يحقُّ له أن يَنتسب إلى الأزهر، فالأزهر مَصدر إشعاع ونور يُوضِّح السبيل في علاقات أفراد الأسرة بعضها ببعضٍ، قبل أن يكون للتجارة أو الطب أو العلوم. ...
ومَن يكون أكبر إخوته وأخواته يكون أكبَرهم فعْلاً، ليس بالسِّنِّ فقط وإنما بمُستوى التعاطُف معهم، وهو مُستوًى يلِي مستوى الوالدينِ في الحَدَب والرعاية لهم. ومَن يرى والدته تَكدَح في سبيل لُقْمة العيش لأخوته وأخواته، وفي سبيل توفير وسائل الإقامة له بالقاهرة مدَّة الدراسة بالكلية، وهي الوحيدة، فإنه لا بد أن يقف قليلاً ليُراجع وضعها ووضع أسرته، فإذا لم يستطع المساعدة المادية فلا أقلَّ مِن المساندة النفسية والروحية، وهي مُساندة تتجلَّى فيها عواطف المحبَّة والمشاركة، بدلاً مِن القسوة والإهانة(14/2)
واللامبالاة. ومن الأسف الشديد أن حُبَّ الذات أو الأنانية لدَى الشباب ظاهرةٌ من الظواهر القائمة والسائدة في مجتمعاتنا الإسلامية، الفرد يُفكر في نفسه ويعمل من أجل مصلحته الخاصة، ويسعى ضد غيره إن كانت في عَداوته مَنفعة له، وقلَّما يَنظر إلى غيره نظْرة عطْف ومَعونة ومودَّة. ...
ومِن سيطرة الأنانية على الشابِّ أنه إذا سمِع قول الله تعالى: (ووَصَّيْنَا الإنسانَ بِوَالدَيْهِ إحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووَضَعَتْهُ كُرْهًا) (الأحقاف: 15) لا تتحرك مشاعره، وعلى الأخصِّ نحو والدته، ويظل مُستغلاًّ لعاطفة الأُمومة أو عاطفة الأبوة نحوه؛ يأخذ ولا يُعطي، ويسأل الكثِيرَ وليس أمامه إلا القليل ويغضب، وربما يُسيء في إهانته لوالديه بما يتجاوز البذاءة وسلاطة اللسان. وإذا سمع قول الله تعالى: (وأُولُوا الأرْحامِ بعضُهم أولَى ببعضٍ في كِتابِ اللهِ) (الأنفال: 75) لا يسمعها على أنها نصيحة واجبة الأداء بين ذَوِي القُربَى بعضهم مع بعض، بين الأولاد والأخوات والإخوة، وإنما يسمعها على أنه كلام يُقرأ ويُرتَّل، دون أن يُطبَّق.
والسائلة لها الجزاءُ مِن الله وحده، وهي مُطالَبة بالصبر، فإن مع العُسْر يُسرًا، والله ـ جلَّ جلالُه ـ هو القادر على أن يُحوِّلَ أولادها الآخرين إلى زهور زكيَّة الرائحة تكون ملْءَ سمعها وبصَرها في حياتها الباقية، وهو القادر كذلك على أن يَهديَ الولدَ الأكبر ويدخلَه في طاعته، وعندئذ تَسجد لله شكرًا (الذي جَعَلَ لكمْ مِنَ الشجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يس: 80) فالشيء يتحوَّل إلى ضده بقُدرته وحده سبحانه وتعالى.(14/3)
87 ـ بُخْل الوالد في الأسرة
يسأل مواطن من إحدى المحافظات عن حلٍّ سليم لمُشكلة البخل الذي يلازم طبع والده، رغم أنه ثري؛ فبسبب بُخله يتحمَّل هو وإخوته ووالدتهم قسْوةً في الحياة لا يستطيعون مُواجهتها إلا بالعمل الشاقِّ في تحصيل الرزق عند الآخرين.
وبسبب بُخله يُعاني هذا الولد مِن مشاكل الزوجية مع الزوجات الجُدد غير أم الأولاد، وبسبب بُخله يتدخَّل بعض الناس في البلد ليَحملوا هذا السائل وإخوته على الإساءة لوالدهم، بينما هم يُحافظون على حُرماته في النفس والمال، وبسبب بُخله يرجو السائل أخيرًا وقد ابتدأ مرحلة التعليم الجامعي أن يعرف ما يفعله كي يُواظب على الدراسة ويتفرغ للمذاكرة، دون أن يُكْرَه على ترْكها ومُزاولة العمل عند الغير من أجل لُقمة العيش.
الناس لا يزالون يَختلفون، وسيَستمر اختلافهم، طالما الدنيا تُغريهم بما فيها مِن أموال، وأولاد، ومُتَعٍ مادية، وطالما تختلف استجابتهم لإغرائها، ما بين مُستغرِق فيها، أو واقف بعيدًا عنها، لا يدنو منها إلا بقَدر.
فمِن الناس مَن يستحوذ عليه حبُّ المال فينسى ربه ونفسه وأسرته، سعْيُه كله في الحياة مِن أجل المال: يَجمعه، ويُنميه، ويُجمده، ويَكنزه، ويتَّجه إليه بالعبادة وحده.
ومعنى أن يتَّجه إليه بالعبادة وحده أن يُشفق على نفسه مِن التصرُّف في قليل منه، وسعادته به أن يتراكم، ويزداد يومًا بعد يوم، وليس في إنفاقه أن إنفاق بعضه على نفسه أو على أسرته وأولاده، أو في مصلحة عامة، أو في دفْع حاجة للآخرين.(15/1)
هذا الصنف مِن الناس يُسميهم القرآن الكريم بالبخلاء.. ويترقَّب لهم المشقَّة في حياتهم يدخلون في أزمة، ولا يَنتقلون منها إلا إلى أزمة أخرى فأزمة النفس أولاً بسبب الخشْية على المال: يُسيطر عليها القلَق وتوتر الأعصاب كما يُسيطر عليها التردُّد عندما تَضطره حاجة البدن إلى الإنفاق منه وأزمة العلاقة بينه وبين الآخرين في أسرته من زوجته وأولاده، وبينه وبين الآخرين وراء الأسرة، وهي علاقة يَشوبها من جانبه عدم الاعتماد على مَن عداه، والخوف على ماله ـ وهو مَعبوده ـ منهم، سواء في توقُّع اعتدائه عليه بالسرقة، أو في مُطالبته بالإنفاق عليهم.
أما علاقة الآخرين نحوه مِن ذويه، أو مَن عداهم فهي علاقة يسودها الحقد مِن جانبهم عليه، والتربُّص به وبماله، وازدراؤهم له وإهانتهم إياه بسبب بُخله.
وحياة البخلاء إذنْ هي حياة قلَق نفسيٍّ، وخوف مستمر، وعدم ثقة بالآخرين .. حياة يُحيطهم الناس بالحقد، والكراهية، والمهانة، يتحدث عنهم القرآن في قوله تعالى: (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى). (الليل 8 ـ 11).
أي واستغنى بماله المُدَّخَر عن الناس، كما استغنى به عن ربه .. أما استغناؤه عن الناس: فلأنه لا يرى له حاجة إليهم، طالما ماله أمامه؛ ولذا لا يَستجيب لنِدائهم ولا لضَروراتهم، وأما استغناؤه عن ربه؛ فلأنه يترك هداية الله للإنسان التي تدعوه إلى الإنفاق في سبيل الخير.
وهذا المُستغني ببُخله عن الناس، والله معًا: هو في واقع أمره يُكذب الآثار الطيبة التي تترتب على إنفاق المال في سبيل الله أو سبيل الآخرين مِن أصحاب الحاجة، يكذب بما يتركه إنفاق المال على الأسرة والأولاد في سبيل تنشئتهم وتعليمهم، وسدِّ حاجاتهم دون أن يدفعهم إلى المَشقة والتعنُّت في حياتهم.(15/2)
وهو بهذا البخل سيُدفع دفعًا إلى مُواجهة الأزمات بحيث لا يجد له صاحبًا ولا مُعينًا، بل يجد الناس أعداء له، يحملون له في نفوسهم: الحقد والضغينة والكراهية وحب الموت. وأخيرًا لا يجد في ماله ما يحلُّ له أزمته في دُنياه أو يدفع عنه العذاب في أخراه: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل: 8 ـ 11) ..
والد السائل أحدُ هؤلاء البخلاء أعْماه البخلُ عن أن يرى مستقبل نفسه في حياته وفي آخرته إن آمَنَ بالآخرة .. أعماه البخل عن أن يتذكر مسئوليته نحو زوجته أم أولاده ... ونحو أولاده منها، فترك أمرهم في الحياة إلى الصُّدْفة والصعاب، وهم صغار في حاجة إلى رعاية ورفع المشقَّة في طريقهم، فكانت شكوى الأولاد منه ومن ثرائه على حين أنهم ظلوا أوفياءَ له، كوالدٍ لهم.
إن البخل صار فيه طبْعًا وقلَّمَا يَسمع لكتاب الله لكن نرجو أن يعرف وَعْدَ الله لأولئكم المُتقين الذين طوَّعوا أنفسهم لهداية الله، وامْتثلوا لها فيما يجب عليهم نحو أُسرهم ونحو الآخرين مِن أصحاب الحاجة في مُجتمعاتهم إن كانوا ذَوِي يسار، يقول تعالى في شأنهم: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل 5 ـ 7) ..
ويسأل السائل الآن وهو على عتبة المرحلة الجامعية: ماذا يصنع، وهو لا يستطيع المواظبة على الدراسة، والعمل في الوقت نفسه خارج الجامعة كي يسيرَ سيرًا عاديًّا مع زملائه فيها.
وأمامه الآن طريقانِ:
أولاً: أن يتقدم إلى القضاء يَطلب نفَقةً مِن والده حتى يَفرغ من التعليم الجامعي، بعد أن يعرف هذا الوالد ما يَنتويه إذا هو استمر في منْع المساعدة عنه، فنفقته واجبة عليه ولو تجاوز سنَّ الرشد، طالما هو طالب ولم يَتخرَّج بعدُ.(15/3)
ثانيًا: أن يطلب المساعدة مِن إدارة البِرِّ في وزارة الأوقاف، ويحكي لها ظروفه، فالإسلام يوم أن كان الإيمان به قويًّا خرَج كثيرٌ من المؤمنين عن بعض أموالهم وحبَسوها على الخير العام كالتعليم، والعلاج، ورعاية الشيخوخة، والعجز.. ومِن هذه الأموال المحبوسة تكوَّنت إدارة البرِّ لتحقيق هدف الخيِّرِينَ، ورغم أن العبَث بأموال الخيرين في الأوقاف نال منها كثيرًا، فأظنُّ أنه لم تَزل هناك بقية منها والحمد لله.(15/4)
37 ـ تُقَرِّر بعض الكتب أن العلماء في بعض الدول استطاعوا التحكُّم في الضباب والغُيوم ومثلها، وبالتالي في منع المطر وجعل الجوِّ صحوًا، وذلك بتسليط موجات صوتيّة قوية تحقِّق ما يريدون.
ألا يَتَنافَى هذا مع قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: (واللهُ الذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر: 9).
إن ما ورد في القرآن في هذه الآية قول الله ـ تعالى ـ أيضًا: (اللهُ الذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشَاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفًا (أي قِطَعًا) فَترَى الوَدْقَ (أي المطر) يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِه إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرونَ. وإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسينَ "أي يائسين") (الروم: 48 ـ 49).
ثم في قوله كذلك: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحابًا "أي يسوق" ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ويُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ "من مرتفع" مِنْ جِبالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ ويَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) (النور: 43). إن ما ورد في القرآن من مِثْل هذه الآيات يُمَثِّل ظاهرة طبيعية، أي من ظواهر هذه الطبيعة الأرضية.
فالرياح عامل أساسي في تجميع السحاب والتقاء بعض قِطَعِه مع بعض، وعامل كذلك في دفعه وتحريكه إلى أن يَسقُط على الأرض بفِعْل المُرْتَفَعات أو بفعل الحرارة في الوِهاد والمُنْخَفَضات. وإذ يسقط، يسقط على شكل رذاذ، وهو ما نُسَمِّيه بالمطر، وطبعًا إذا أصاب الأرض طَلَّ ـ وهو الرَّذاذ الخفيف ـ أو أصابَها مطر ازدَهَر ما فيها من أشجار ونبات وازَّيّنت ولَبِست حلّةً خضراء، بعد ما كانتْ جرداءَ أو ميّتة.(16/1)
وهذه الظاهرة وإن كانت طبيعية، أي ترتَبِط مراحلها وحلقاتها بأسباب يُشاهد وجودها في الطبيعة التي نعيش فيها، إلا أن هذا الارتباط وتوالي حلَقاته أو مراحله هو من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وَفْق إرادته وحِكْمته. فإرادة الله في الخلْق والإيجاد هي التي تكون ما يُسَمَّى بالقوانين الطبيعية، كما هي نفسها التي تُؤَصِّل الظاهرة الاجتماعية وما يتعلَّق بالمجتمع البشري في قيامه أو فنائه. ونسبة الظواهر الطبيعية إلى قوانينها لا يمنع مردَّها أخيرًا إلى الإرادة الإلهية في تكوينها.
والعلماء لا يتحكَّمون في الطبيعة، بقَدْر ما يُحاكون ظواهرها بعد أن يدرسوا هذه الظواهر وأسبابها والترابُط بين أجزاء الظاهرة الواحدة. فهم في ظاهرة الغيوم والضباب أو السحاب ـ بعد أن وقفوا على أسباب تجمُّعها أو تفرُّقها، أو بعبارة أخرى بعد أن وقفوا على عوامل سقوط المطر وعدم سقوطه ـ يُمكِنُهم أن يُحدثوا من عوامل التحريك كالموجات الصوتية القويّة ما يفرِّق السحاب أو يُطارده إلى أعلى فلا يُسقِط مطرًا، ويكون الجو عندئذٍ غير مُمطِر، ويمكنهم كذلك أن يُحدثوا من هذه العوامل ما يجمع السحاب بحيث يلتقي بعضه ببعض، في بعض المواقع، ثم يسلِّطوا عليه بعض العوامل الكهربائية فيسقط رذاذًا أو مطرًا في هذه المواقع، ويكون الجو بذلك ممطرًا.
وهذه المحاولات التي يُحاكيها العلماء في شأن المطر مما يسمُّونه "تحكُّمًا" وإن كانت حتى الآن في نطاق ضيِّق إلا أنها ممكِنة، ومباشرة الإنسان إياها لا يتعارَض إطلاقًا مع إرادة الله في كونه؛ لأن الإرادة الإلهية هي تلك القوانين الطبيعية والاجتماعية نفسها. والإنسان ذاته مطالَب بالوقوف عليها وتعلُّمها.(16/2)
وشأن هذه القوانين في وُجوب دراستها والوقوف عليها ومُحاكاتها لخير البشرية، شأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيما يصف به نفسه من صفات لعباده. فالله ـ جَلَّ شأنُه ـ لم يصف ذاته بكل تلك الصفات إلا ليضع أمام الإنسان الذي يُؤمن به ويتجه إليه بعبادته نموذجًا للوقوف عليه ثم محاكاته حتى يتطور وجوده إلى أكمل وإلى ما هو أكثر خيريّة.
فلم يصف نفسه بالعلم، وبالحياة، وبالخالقيّة، وبالغنى مثلاً إلا ليحمل مَن يعبده على أن يتدبر في هذه الصفات ثم يُحاكيها:
فيسعى إلى المعرفة، والمعرفة اليقينية.
ويسعى إلى الحياة، والحياة الخالدة.
ويسعى إلى الفعل، والفعل المبدِع.
ويسعى إلى الغنى، والغنى الذاتي المُمَثَّل في القناعة أولاً... وهكذا
والذين لا يقفون على الطبيعة وعلى القوانين التي تحمل ظواهرها، وكذلك الذين يعبدون الله وهم في غفلة عن محاكاة ما له من صفات، أو في عُزْلة تامة عن إدراك هذه الصفات والتأثُّر بها في حياتهم.. لا يعرفون الله على حقيقته ولا يقتربون إليه في سعيِهم.(16/3)
14 ـ تدخُّل الغريب في شئون الأسرة يُسيء إليه وإلى الأسرة:
مواطِن بإحدى الشركات يسأل: عن التوجيه السليم الذي يُرضي الله ويُرضي الأسرة التي اتصل بها لمُساعدتها فأساء الزوج الفَهم لعلاقته بها، وأخذ يعذِّب زوجته وأخيرًا تزوَّج عليها والزّوجة وأولادها في حاجة إلى مساعدة: أيترك الآن الأسرة مع حاجتها إلى مُساعدته؟ أم يظلُّ معها مع تعذيب الزَّوج لزوجته وأولاده؟
إن السائل أجنبيّ عن هذه الأسرة التي اندمج فيها وسبَّب اندماجه هذه المشكلة هو ليس بقَريب للزوجة ولا للزوج، أي ليس بذي مَحرَم لها وطالما هو أجنبيٌّ عنها فلا يحِلُّ له التردُّد عليها وبالأخصِّ في غَيبة الزوج، كما لا يَحِلُّ له أن يتقدَّم إليها بخدمات يُسيء الزوج فهْمها وتكون محل شُبهة له ولغيره من المُجاورين للأسرة في السكن.
وفي قول الله ـ تعالى ـ: (يَا أيُها الذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسِلِّمُوا عَلَى أَهْلِها ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ). (النور: 27).
ما يُفيد حرمة الدخول في منزل هذه الأسرة لأجنبيٍّ عنها، فضلاً عن حُرمة التدخُّل في شئونِها طالما الزوج لم يأذَن له وعدم إذن الزوج قائم عندما يُسيء فَهْم العلاقة بين الأجنبيّ وأسرته ويضعها موضع الرِّيبة.
وإذْنُ الزوجة لهذا الأجنبيِّ بالدخول في المنزل من وراء الزوج لا يرفع الحُرمة؛ إذ مطلوب من الزوجة أن لا تأذن بدخول المنزل لمَن يكرهه زوجُها كما جاء في الحديث الشريف: "ولا يأذَنّ في بُيُتوكُمْ لمَنْ تَكْرَهونَ" (التاج ج2 ص: 348).(17/1)
فدخول المنزل إذنْ لهذا الأجنبيّ حَرام مِن غير إذن الزوج وحديث كذلك مع الزوجة، واطلاعه على زينتها ـ وزينة المرأة هي بدَنها ـ حرام فالمطلوب مِن الزوجة أن لا تُبدي جُزءًا مِن بدَنها عدَا الوجه والكَفّين إلا لزوجها أو أحد مَحارِمها، كما جاء في الآية الكريمة: (ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيَمْانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الذِينَ لَمْ يَظْهُروا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) (النور: 31).
يجوز أن يكون السّائل صادِقًا فيما يقول: مِن أنّه لا يستهدف مِن خدماته لهذه الأسرة إلا مُساعدتها وأنه لا يقصد إطلاقًا أن يُسيء بها إلى العلاقة بين الزوج وزوجته، وإنَّما قُدومه على هذه القرية ـ في مكانها النائي ـ هيَّأ له الاتصال بهذه الأسرة بدافع المَيْل الاجتماعي في الحياة وحده ولكن المبالغة في الحَدَب عليها حولت نواياه الطيبة إلى مَقاصد سيئة في تصور رب الأسرة.
والتوجيه السليم هو الكفُّ وترك الأسرة وشأنها واتقاء الشُّبهات المُريبة، فضلاً عن اتِّقاء أنواع الحُرمة المختلفة وهي حرمة الدخول بغير إذن الزوج.. وحرمة الحديث مع الزوجة، والاطلاع على بعض زينتها من غير ذي مَحرَم لها وإثارة الفتنة بين الزوج وزوجته والبغضاء بين الأب وأولاده.
إن سبيل الخير إذا صار سبيلاً لهدْم الأسرة أو لإضعافها يُصبح مصدر شَرٍّ يجب تجنُّبه.(17/2)
171 ـ ما حكم الدِّين فيما يفعله بعض الشبان من ارتداء ملابس تشبه ملابس النساء، ومن إطالة شعورهم، وسوالفهم؟
الجواب:
للعُرف دخل في تمييز الرجل عن المرأة، كما للطبيعة دخل كذلك في تمييز أحدهما عن الآخر، وأمارات الذكورة والأنوثة بين النوعين ـ من طبيعتهما ـ واضحة. فصدر المرأة يختلف عن صدر الرجل، وصوتها يختلف عن صوته، ومشيتها تختلف عن مشيته. فمشية المرأة يغلُب عليها التردُّد والانعطافات، بينما مشية الرجل يتحكَّم فيها الاندفاع والإقدام.
والعُرف ـ فيما جرى ويجري عليه ـ سواء في الملبس أو الزينة، أو في الكلام يحاول أنْ، ينمِّي في المرأة خصائص الأنوثة، وفي الرجل خصائص الرجولة، حتى ينكشف الفرق بينهما في جلاء، وبذلك يُقبل أحدهما على الآخر في رغبة اللقاء، إن لم يكن في لهفة فيه.
تلك سُنّة الطبيعة بين المرأة والرجل، وهذا هو العُرف كذلك بينهما، وهدف الطبيعية كهدف العُرف، هو محاولة إبعاد الابتذال بين الرجل والمرأة، وتوطيد علاقة القَبول والمَسرّة بينهما، كي يستمر النوع الإنساني في بقائه، وكي تتغلّب الأسرة أيضًا بالمشاركة بين الرجل والمرأة، على اجتياز الأزمات والعقبات في إنجاب الطفل وحضانته وفي الظروف السيّئة التي قد تمُرُّ بها.
ونظرة الإسلام إلى العَلاقة بين الرجل والمرأة هي نظرة مساوقة لطبيعتهما وما بينهما من اختلاف وفروق. فإذا أحلَّ للمرأة أن تتزيّن في حَلْيِها بالذَّهب، وأن تلبس الحرير وما يشبهه في رِقّتِه، وأن تصبغ شعر رأسِها، وأن لا تُبديَ من جسمها إلا ما يظهر عادة في سيرها أو ما يُعينُها على كشف الطريق وتفادِي أخطاره.. إذا أحلَّ الإسلام ذلك للمرأة ـ دون الرجل ـ فإنه يهدف إلى جعل المرأة مقبولة لدى الرجل وإلى حرصه على اللقاء بها، بما تبدو فيه من رقة وزينة.
والإسلام ـ إذن ـ يحرص على بقاء الفرق بين الأنوثة والذكورة جليًّا وواضحًا.(18/1)
إذ كلَّما كان هذا الفرق واضحًا بينهما كلَّما كانت الألفة والمودة والرغبة في المعاشرة أمرًا مترقّبًا.
فإذا جاء عُرف في عهدٍ ما وحاول أن يُضعف الفرق بين الرجل والمرأة فنصح الرجل أن يكون على غِرار المرأة في التثنِّي في مشيته وحركته، وفي تقليدها في الحديث والعواطف، وفي لبسها وزينها وحليها، وفي التخنُّث والتشبّه بها على العموم.. إذ جاء عُرف في عهد ما وحاول أن يصنع بالرجل ما تصنعه المرأة في نفسها ولإغراء الرجل بها، فإنَّ هذا العُرف يكون محاولة لمسخ رجولة الرجل وتحويله إلى أنثى ذات شارب، يخلو صدرها مما يجعلها ذات عطف وحنان وانفعال. وعندئذٍ لا يكون رجلاً، كما هو ليس بأنثى في حقيقة أمره . ولذا يحرِّم الإسلام أن يتشبه الرجل بالمرأة، والعكس بالعكس. إذ يُروى: "أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لعن المُخَنَّثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء"، و"لعن الرجل أن يَلْبِسَ لِبْسة المرأة، والمرأةَ أن تلبِسَ لِبْسةَ الرجل".
وحركات الشباب في العالم التي تحاول اليوم أن تطيحَ بالأعراف والتقاليد السليمة، وأن تنبِذ القانون والأخلاق والدين. كي تُمارِس الانطلاق في كلِّ ما تأتي به في غير رِقابة من شيء ما، حتى من ضمير.. هذه الحركات لا تعبِّر عن منطق الحياة الإنسانية. إنما هي شذوذ وتعاريج في خطِّ سَيْر الحياة، دفع بها طغيان الحياة المادِّيّة، والصراع فيها، والقلق من الغد، ومخاوف الهلاك السريع من أدوات الدمار العاجل التي أتى بها التقدُّم العلمي في الحضارة الصناعية المعاصرة.(18/2)
59 ـ إني متزوِّج من زوجتين. وعندي من الأولى ولدان موظَّفان بمناصب عالية، ووالدتهما مطلَّقة. وعندي من الثانية: بنين وبنات صغار أقوم بتربيتهم وتعليمهم. وأولاد الأولى ليسوا معي، ويُعاملونني معامله سيئة. وعندي أملاك أريد أن أخصَّ بها أولاد الزوجة الثانية، وأحرِم منها أولاد الأولى. فما الرأي؟
أولاً: أنه يجوز للرجل أن يعطي ماله كلَّه لغير ولده. فقد يُنفق ما زاد عن حاجته له ولأسرته في سبيل الصالح العام: كبِناء مسجد.. أو مدرسة.. أو مستشفى. أو يوقِفه على مصلحة تعود على الأمة بالخير: كقوة جيشِها، أو في سبيل الترابط بينها. فالآية تقول: (ويَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقونَ قُلِ العَفْوَ ) "أي الزّائِدَ عَن الحاجة" (البقرة: 219).. فأفادت أن حدود الإنفاق في سبيل الله هي العفو.. أي ما زاد عن الحاجة.
والإرث في الإسلام استهدف ـ من بين ما استهدف ـ تفتيت الملكية، حتى لا يطغى رأس المال بالتكديس والنَّماء، فإذا خرج عن المال كله صاحبه في سبيل المصلحة العامة، فتصرُّفه عندئذ أكثر قُربى إلى الله. وإذا كان المالك يجوز له شرعًا أن يَحرِم أولاده كلية بالخروج عنه إلى مصلحة عامة.. فإنه بالأولى يجوز له أن يحرِم بعض أولاده منه.(19/1)
وما يُروى عن النعمان بن بشير عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، اشهد أنِّي قد نحلْتُ "أي أعطيت" النعمان: كذا.. كذا.. من مالي، فقال: أكلَّ بَنيك قد نحلتَ مثل هذا؟. قال: لا. قال فأشهِد على هذا غيري. ثم قال: أيسُرُّك أن يكونوا إليك في البِرِّ سواء؟ قال: بلى، قال: فلا، إذن" .. ما يُرْوَى.. وما يُذْكَر في هذا الحديث من امتناع رسول لله عن أن يشهد على عمل يُفرِّق فيه الوالد بين أولاده، مما يدلُّ على عدم موافقته ـ عليه السلام ـ على هذه التفرقة.. لا يدل إلا على: أن المُسْتَحَبَّ والأفضل أن لا يفرِّق الوالد في العطاء بين أولاده، إذا كانت الظروف مُتَساويةً بينهم. ولكن إذا كان هناك مرَض مزمِن لأحدهم، أو كانت له أولاد كثيرة، أو كان عليه دَيْن، أو له فضل على الآخرين.. فلا شيءَ في التفضيل إطلاقًا. وقد قال بذلك الأمام أحمد.
ثانيًا: أن الولدين الموظَّفين الكبيران ـ كما جاء هنا في السؤال ـ قد أخذا الآن حظَّهما من رعاية الوالد، حتى وصلا إلى ما وصلا إليه الآن من مستوى عالٍ في الأجر والوَجاهة، بينما الأولاد الصِّغار من الزوجة الثانية لم يزالوا في حاجة إلى رعاية أبيهم ومساندتهم في تنشئتهم. والعدل بين الأولاد يقضي بأن يميِّز الوالد هؤلاء الصِّغار في العطاء عن الولدين الكبيرين ولو بلغ التميُّز حَدَّ حِرمان هذين الكبيرين.
ثالثًا: أن معاملة هذين الولدين الكبيرين لوالدهما معامله سيئة، على نحو ما ذكر في السؤال. وسوء معاملتهما لأبيهما لا تُنْبِئ عن الوَفاء له، ولا تُعَبِّر عن خير مرتَقب منهما لإخوتهما الصغار، في حال وفاة والدهم. وهنا الأولى أن يميِّز الوالد أبنائه الصغار بالميراث، حتى لا يتعرَّضوا إلى الحاجة إلى أخويهم، في غير أمل فيهم وهما بإساءتهم المعاملة لوالدهما خرجا من دائرة الاعتبار الإنساني.(19/2)
إذ يجب أن تكون عاطفة الأبناء نحو آبائهم هي عاطفة امتنان لهم: (واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 24).وليست علاقة استعلاء عليهم: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَريمًا) (الإسراء: 23). ولكنه المال.. ولكنها المادة.. ولكنها الدنيا هي التي تجعل الإنسان يطغى فينسى الفضل عليه وأصحاب هذا الفضل ولو كانوا الآباء.
74 ـ والدة زوجي تُقيم معي، وإيراده قليل.. وهو يُنفق عليها ويسدِّد كلَّ احتياجاتها، ولها ابن آخر موظَّف ولا يُنفق عليها ومع ذلك خَصَّته بقطعة أرض تملِكها وحرَمَتْ زوجي، فما الرأي؟
إن الابن الذي تسأل زوجته هذا السؤال، وهو يُنفق على والدته ويسدّ حاجتها في المعيشة يفعل ما يفعل؛ لأنّه يقوم بواجبه نحو والدته. وهو واجب لا ينتظر له جزاءً مادِّيًّا من أحد من والديه أو من غيرهما.
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فِلِلْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ واليَتَامَى والمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215).
وجاء في وصف ما وهبَه الله لزكريا من غلام ـ وهو يحيى ـ أنّه كان بارًّا بوالديه: (وبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ولَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (مريم: 14).
وكان مِمّا استَنْطَق به الله عيسى ـ عليه السلام ـ وهو صغير:
قوله: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا. وجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتَ وأَوْصَانِي بالصّلاةِ والزَّكَاةَ مَا دُمْتَ حَيًّا. وبَرًّا بِوَالِدَتِي ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم: 30 ـ 32).
فهو واجب يؤديه نحو مَن عُنِيت به من مراحل حياته المختلفة. والله وحده هو الذي سيَجزيه على ذلك خير الجزاء.(19/3)
أمّا الابنُ الموظَّف الآخر الذي لا يُشارك في الإنفاق على والدته شيئًا فأمره لا ينبغي، أن يؤثّر على الواجب الذي يؤدّيه الابن الأول نحو والدته.. ثمَّ هو متروك له وحده..
ويكفي أن شعورَه بالجانب الإنساني في ذاته ضعيف فيُمسك يده عن والدته وهى في حاجة إلى رعاية أولادها.. ثُمّ ما في يدها يحملها على تركه لها؛ إذ الوالدة لم تقُم بتخصيص قطعة الأرض إلى هذا الولد وهي مختارة وإنَّما هناك شِبه إكراهٍ عليها منه يمارسه، فربّما يكون الابن الأصغر لم يتزوّج بعد.. وربّما دأَب على تهديدها وإرهابها وأصبحت تَخشاه في الوقت الذي تطمئنُّ فيه إلى قلب ابنِها المتزوِّج، والذي يُنفق عليها الآن..
ولو سألت الوالدة عمّا في قرارةِ نفسها وكانت تستطيع الإجابة في صراحة لعرَف أنَّها تدعو إلى الولد المتزوِّج وترضَى عنه بكل جوارحها وهذا وزنه عندها وعند الناس أكثر بكثير من قطعة الأرض التي خصَّت بها صغيرَها المدلَّل الأنانيَّ.
والزوجة السائلة لها أن تُسَرَّ بزوجها فيما يفعله نحو والدته في غير مقابل أمارة الوفاء والمروءة والرجولة.
وهذه صفات تسعد بها المرأة كزوجة في حياتها أكثر مما تسعَد بالمال مع البخل أو عدم المروءة.
81 ـ رجل رُزِقَ بابنتين: تعلَّمتْ واحدة، وحُرِمت الأخرى من العلم بسبب ظروفهما، ووالَى المتعلِّمة بعطفه، وحرم الأخرى لأنَّها لم تشرِّفه و"يئِس منها" فما حكم ذلك في الدين؟
يجوز أن يكون هناك سبب آخر وراء "التعليم" يحمل الوالد على أن يؤثِر بعطفه المتعلِّمة دون الأخرى التي لم يكن لها حظ كاف من المعرفة مثل شقيقتها. يجوز أن يكون هناك اختلاف في السلوك، أو في درجة الإدراك والفَهم، أو في الطبائع والعادات.. أو فيما شاكَلَ ذلك.(19/4)
وهنا يكون الاختلاف في "عطف" الوالد ناشئًا في الحقيقة عمَّا يتمنّاه لأولاده. أي أنّه كان يتمنَّى أن تكون المتخلِّفة في العطف لديه على غِرار الأخرى التي تحوز أكبر قدر من تودُّده. وإلاّ فالاختلاف في مستوى التعليم أو في درجة المعرفة بين الأولاد لا ينبغي أن يحمل الوالد على الاختلاف في توزيع العطف بينهما.
وعلى أيّة حال فالذي يطلبه الإسلام من أي أب هو أن لا يفتتن بأولاده، جميعًا أو ببعض منهم، كما يُفتتن صاحب المال بماله:
(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنةٌ واللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) "التغابن: 15".
وتحذير القرآن هنا للآباء بعدم الافتتان بالأولاد هو لمصلحة الآباء والأولاد معًا. ويصدق الافتتان بإيثار بعض الأولاد على بعض بالمودّة والثناء أو بالرِّعاية والمال، بشكل يحمل من أثره بذلك على التدليل أو الانحراف، ويدفع مَن لم يؤثره على الاعوجاج في السلوك والتهيُّؤ لارتكاب الجريمة، أو على الأقل على التمرُّد على الصلات الأسريّة. وهذا وذاك لا ينبغي أن يتسبّب فيه والد يُكِنُّ في الأصل لأبنائه المحبّة، ويتمنّى لهم الخير ويرجو أن يكون حالهم في الغد أحسن من حاله مادِّيًّا ومعنويًّا، ولا يدَّخر وُسعًا في تيسير أمر الحياة عليهم.
فإيثار البعض على البعض من الأولاد بشكل ملحوظ هو توجيه سيِّئ للأولاد جميعًا وخطر في بناء الأسرة يؤدِّي حتمًا إلى انهيارها. وأول مَن ينهار من أعضائها هو قيمتها، وهو الوالد.
والإسلام لم يطالب الآباء بالعطف على أولادهم؛ لأن ذلك مقرَّر في الطبيعة البشرية بحكم ضرورة الغريزة في حفظ البقاء والامتداد الإنساني. فلا يحتاج الأمر إلى تأكيد أو توجيه. إنما الذي يطالب به الآباء هو عدم الاندفاع في هذا العطف للعواقِب الوخيمة التي تترتب حتمًا على المبالغة في تدليل الأبناء واتّخاذهم أصنامًا يتوجَّهون إليها بالعبادة والقرابين.(19/5)
على أن البنت بحكم تكوينها العاطفي يهُزُّها ويهزُّ كيانها ومستقبلها كما يهزُّ تفكيرها وسلوكها أن ترى الوالد ـ وبالخُصوص الوالد من الأبوين ـ يغمض الطرف عنها، فضلاً عن أن يؤثر أختها بمزيد عطفه ومودّته.
ولعلَّ من حسن توجيه تلك البنت المتخلّفة في التعليم أن يحاول الوالد ضمَّها من جديد إلى عطفه وحنانه، ويتناسى ولو إلى حين سبب تخلُّفها عن شقيقتها: (قَوْلٌ مَعْروفٌ ومَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) "البقرة: 263".
79 ـ القسْوة كطريق إلى جَبْرِ الخاطر
إني أختٌ لشقيقتينِ، الكبرى تزوَّجتْ، وأنا الصغرى عُقد قراني، والوسطى باقية، وأمي مجُاملة لأختي التي لم تتزوَّج وتُعاملني بشدَّة وقسوة وتَحرمني من أي عطفٍ، مُعتقدةً أن في هذا جبْرًا لخاطر أُختي. فما الرأي؟
ليس مِن المعقول أن تُضمر أمٌّ لإحدى بناتها حِقْدًا أو بُغْضًا، مهما قسَت عليها في التعبير أو احتدَّتْ معها في المناقشة، وهدَّدتها بكل إنذار ووَعيد، فطبيعة الأمومة ـ كطبيعة الأبوة ـ تجذب الأم نحو وَلدها ذكرًا أو أنثى، وتدفعها إلى الافتتان به.
ولذا كانت الأولاد عند الله، فتْنة وإغراءً بالنسبة لآبائهم وأمهاتهم كالمال سواء بالنسبة لمَالكه. فالأولاد والأموال مِن نِعَم الله التي يَختبر بها ـ سبحانه ـ مَن منحهم إيَّاها: هل سيَطغى حُبُّ الأولاد على آبائهم، وحب المال على مالكه، بحيث يَصير الأمر مع هذا أو ذاك إلى فساد؟ أم أنه سيكون، بجانب حب الأولاد، وحب المال، مكان لحِكْمة الآباء والأمهات ولحكمة مالك المال في التصرُّف إزاء هذه النعمة مِن الله فتنشأ الأولاد على الاستقامة، ويُنفَق المال فيما ينفع، لا فيما يضر الذات أو الآخرين؟ (واعْلَمُوا أنَّمَا أموالُكم وأولادُكمْ فِتْنَةٌ وأنَّ اللهَ عندَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ) "أي في الآخرة، ولذا يجب تجنُّب الطغيان والعبَث عن طريق الأولاد والأموال في الدنيا" (الأنفال: 28).(19/6)
ولأن كفة الأولاد عند الوالدَيْنِ راجحة في العلاقة بين الأولاد مِن جانب والوالدينِ من جانب آخر ـ أي أن حب الوالدينِ للأولاد أقوى بكثير مِن حب الأولاد للوالدينِ ـ كانت الوَصية الإلهية التي تجب على الوالدينِ بالنسبة لأولادهم هي ما جاءت على لسان لقمان في قول القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).
فتطلب هذه الوصية مِن الوالدينِ أن يُحذروا أولادهم من الشرْك والوثنية .. أي يُحذرونهم من الإلْحاد والمادية. والمادية تتجسَّم في الأنانية وحب الذات، ولكنها لا تطلب مِن الوالدينِ العطف، والرعاية لأولادهم؛ لأن ذلك أمر مكفول لدَيهم بحُكم الأبوة والأمومة.
بينما كانت وصية القرآن التي يتَّجه بها نحو الأولاد بالنسبة لوالديهم: هي وُجوب الرعاية التامة والإحسان إليهما من جانب الأولاد في صوره المختلفة: من المعاملة إلى القول.. إلى الحركة: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). (الإسراء: 23 ـ 24)..
ومضمون الوصيتينِ إذنْ يُعطي عدم التعادل في الحب في علاقة الوالدين بالأولاد وبالتالي يُوضح مدى حب الوالدينِ لأولادهم إلى درجة الافتتان بهم.(19/7)
والبنت الصغرى ـ وهي السائلة في هذا السؤال ـ يبدو أنها تتدلَّل بنفسها وبمَن عقدت عليه قرانها أمام أختها الوُسطى، مما يُثير فيها الإحساس بالنقص وبالتالي يُولد عندها الكآبة والتشاؤم كما يبدو أن أمها نَصحتها مرارًا من غير جدوى بالتحفُّظ ورعاية شعور أختها، وذلك لتُخفِّف مِن المظاهر التي تجرح عواطف أختها، وإذن قسوة الأم على السائلة وعدم التعبير لها عن عاطفة الأمومة أمر تقتضيه مصلحة البنت الوسطى كإنسان له شعوره وأحاسيسه وعواطفه وكِبرياؤه.
والأَوْلَى بالسائلة أن تسلك مع أختها مسلك المُتمنِّي لها... الحريص على مستقبلها، في غير إطراء على نفسها أو على قرينها وعندئذ ستُحسُّ بعاطفة الأم ورعايتها وحَنانها.
46ـ دخول المال في شئون الأسرة
سيدة من إحدى المحافظات تذكر:
أولاً: أنها تزوجت من قريب لها، منذ أربعة وثلاثين عامًا، وأنجبت منه أولادًا كثيرة، وتعيش عيشةً سعيدة راضية.
وثانيًا: أن والدتها تُوفيت منذ عشر سنوات. وكانت منذ زواجها تتردَّد على منزل والديها للقيام بخدمتهما وخدمة أخوتها الثلاثة، وذلك برَغبة من زوجها ورضاه عن هذا التردد، فهو مُتسامح وصاحب قلب واسع، من أجل صِلة الرحم.
ثالثًا: تعلَّم الأخوة الثلاثة وتزوجوا وأسَّسوا أُسرًا خاصة، ولهم أولاد الآن، واستقلُّوا في المعيشة، بعد أن تفرَّق بعضهم من بعض، والأخ الأكبر مدرس أول للغة العربية وأسْكنَ والده معه، وهو يبلغ من العمر الآن: 85 سنةً، وحمله على أن يكتب له جميع ما يملك، دونها ودون أخويه الآخرينِ، وأثَّر هذا العمل من الأخ الأكبر عليها وعلى أخوَيْها فقاطعوه، وقاطعوا بالتالي أبَاهم عنده، ولكن زوج السائلة يَدفعها دائمًا إلى زيارة أبيها وهي لا تَستجيب كراهيةً في أخيها الكبير، ولاسْتغنائها عن أية خِدمات منه كما تقول. وتسأل الآن:
( أ ) أنها تخشى الله مِن سؤالها يوم الجزاء، عن تَقصيرها في صلة والدها؟(19/8)
(ب) وعن أنجح الوسائل التي يُمكن أن تعيد الصلة بين الأخوة كلهم ووالدهم، على نحو ما كان عليه الوضع قبل تنازُل الوالد عن أملاكه لأخيهم الكبير.
يقول الله ـ تعالى ـ: (واعْلَمُوا أَنَّمَا أموالُكُمْ وأولادُكُمْ فِتْنَةٌ وأنَّ اللهَ عندَهُ أجْرٌ عظيمٌ). (الأنفال: 28).. ...
فيُؤكد المولَى ـ جل جلاله ـ أن الأموال والأولاد: مصدر فتْنة، وشِقاق، وخلاف بين الناس. أيْ: من شأن الحرْص على الأموال، والأولاد: ينشأ النزاع، وتنشأ الخصومة بين الزوج وزوجته.. والأخ وأخيه.. وأصحاب الرحم بعضهم وبعض.. والجار القريب والبعيد وجاره. الأموال في أصلها نعمة من الله ـ وكذلك الأولاد ـ ولكن قد تخرج عن نطاق النعمة إذا أسيء استخدامها في تنميتها بالربا مثلاً.. وفي تكديسها بالبخل والشح.. وفي الاستمتاع بها بالترف والعبث. وقدمت الآية الأموال على الأولاد لأن إغراء المال على الإنسان أشد وأقوى، وأكثر شيوعًا. ...
وفتنة المال إذن في أن يسيطر بريقه على صاحبه أو جامعه، فلا يخرجه في زكاة أو في سبيل الله.. ولا ينفقه في مصلحة لنفسه أو لأسرته.. ولا يعطي منه صاحب الحق حقه.. وقد يعتدي بكثرته أو بقوته على الآخرين عداه، مهما كانت درجة صلتهم به.(19/9)
والمشكلة التي تعرضها السيدة السائلة هنا: من أمثلة الفتنة بالمال.. فالأخ الأكبر وقع تحت إغراء ما يملك والده.. وهو حق له ولأخويه، وشقيقتهم السائلة، وانتهز كبر السن لأبيهم، وإقامته لديه منذ وفاة والدتهم وهي زوجته، واستطاع أن يأخذ موافقته على تنازل أبيه له عن جميع ما يملك. ...
... والأخ الأكبر مدرس أول للغة العربية، ولا شك أنه قريب من الدراسات الإسلامية في الجامعة أو في الأزهر. وتجاوز في فتنته بالمال: معرفته بالإسلام. ...
... وهو على علم أكيد بصلته بأخوته، وبما يجب أن تكون عليه هذه الصلة من المحبة والمودة، والترابط الأسري، ولكنه تجاوز ذلك تحت فتنة المال أيضًا، وعمل ما عمل وأحل الكراهية، والجفوة، والخصومة محل المحبة والمودة بين الأخوة وأعضاء الأسرة الواحدة.
وهو مُحِسٌّ مؤكَّدًا بالأثر النفسي السيئ الذي يتملَّك والده الآن بسبب القطيعة بينه وبين بقية أولاده، وهم أشقاء، وكان يتمنَّى أن يكون في حياته وفي مرضه بينهم جميعًا، وليس عند واحد منهم فقط، ولكنه تجاوَز ما يطلبه الإسلام من الولد نحو أبيه وأمه: من الرعاية الكريمة لهما في الأحاسيس النفسية، قبل الحاجات المادية.. تجاوز ذلك تحت تأثير فتْنة المال والوقوع تحت إغرائه. ...
... فمزق الأسرة.. وجعل أفرادها خُصومًا بعضهم لبعض.. وأغضب الوالد وسبَّب له الحزن والهمَّ في أُخريات حياته، وهو الكبر، وهو البديل والعِوَض عن أبيه بين أخواته.(19/10)
والسائلة وأخواها يجب عليهم جميعًا أن يَزورا والدهم من وقت لآخر في منزل أخيهم الأكبر، وإنْ كانوا لا يكنون له محبة أو مودة، ولكن من أجل والدهم يجب أن يتخطَّوا ما هناك من جفوة بينهم وبين أخيهم، ولعل تكرار زيارتهم لأبيهم في منزل الشقيق الأكبر تُخفف من حدَّة الغضب، وتُسهم في العودة تدريجيًّا إلى علاقتهم السابقة. ...
وزوج السيدة السائلة رجل عاقل ووفيٌّ لقرابته وعصبيته، وزوجته إن لم تُطع أمره في صلة والدها بزيارته في منزل شقيقها تكون آثمةً ومقصرة في حق الوالد، والزوج معًا، وهي إذا كانت تخشى الله فأولَى لها أن لا تَخشى إنسانًا ما في أداء ما يأمر به الإسلام من صِلة الأرحام. فقد جاء من صفات أولي الألباب قوله ـ تعالى ـ: (والذينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللهُ بهِ أنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخافُونَ سُوءَ الحِسَابِ). (الرعد:21)..
أمَّا عن أنجح الوسائل التي تعود بها العلاقة في الأسرة إلى طبيعتها قبل افْتتانِ الأخ الأكبر بمال أبيه واستيلائه عليه وحده، فهو إعادة المال إلى الأب، أو تَوْزيعه على أبنائه حسب ما يأمر به الإسلام في توزيع الميراث: للذكَر مثلُ حظِّ الأُنثيينِ، والأخُ الأكبرُ عندئذٍ واحد من ثلاثة إخوة: له ما لأيِّ واحد منهم. وهو إنْ فعل ذلك أرضَى الله.. وأرضَى أباه.. وأرضى إخوته وأعاد رباط الأسرة على أساسِ لُحْمَةِ القُربَى والدم.
... ولكن هل يفعل ذلك؟ إنَّ فِعْله وعدم فعْله يتوقَّف على مدَى تأثُّره بإغراء المال. وإنْ حال إغراء المال دون ذلكَ فربما يَندم يومَ الجزاء، ولسانُ حاله يقول: (ما أغنَى عنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عنِّي سُلْطانِيَه). (الحاقة:28ـ 29).. فلا المال ينفعه.. ولا الجاه ينفعه، كشفيعٍ عند الله فيمَا ارتكبَه مِن أخطاء، دفعتْه نفسُه الأمَّارة بالسوء إلى ارتكابها.
71ـ العدل في تمييز الضعفاء مِن الأولاد(19/11)
يذكر مواطن بإحدى المحافظات أنه له سبعةُ أولاد، ثلاثة منهم يعملون في الزراعة في أرض يملكها… والأربعة الباقون تخرجوا من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، ويشغلون الآن وظائفهم الرسمية.
... والذين يشتغلون بالفِلاحة الآن عملوا ما يجب عليهم نحو رعاية إخوتهم الأربعة منذ الْتحاقهم بكُتَّاب القرية، حتى تَخرُّجهم من الكلية وتسلمهم وظائفهم، ولم يُقصروا في حقهم لحظة من اللحظات في سداد ما يحتاجون إليه.
... أما هؤلاء الأخوة الذين تعلموا في جامعة الأزهر فإنهم بدلاً مِن ردِّ الجميل، ولو بكلمةٍ طيبة لأشقائهم في الزراعة يُسيئون إليهم بالإهانة والشتائم، ثم يقول:
وأنا كوالدٍ للجميع أملك ستةً من الأفدنة وأرى الأولاد الثلاثة الذين يعلمون في الفلاحة في حاجة إلى رعاية خاصَّة، ويسأل هل يجوز له شرعًا أن يُميَّزهم عن الأربعة الباقين؟.
إذا كان الإسلام يرى عدم التفضيل بين الأولاد في إعطاء المال وتَوزيعه عليهم؛ فلأنه يُؤْثر التماسُك والمحبة بين بعضهم بعضًا، كما أن يكونوا جميعًا سواء في بِرِّ والدهم، ففي حديثٍ عن النعمان بن بشير قول الرسول ـ عليه السلام ـ: (اعْدِلُوا بينَ أبنائِكمْ.. اعْدِلُوا بينَ أبنائِكمْ.. اعْدِلُوا بينَ أبنائِكمْ) … فيُكرر طلب العدل ثلاث مرات ليُؤكد على ضرورةٍ اجتماعية في ترابط الأسرة وقوتها: أن لا يُميِّز الوالد بعض الأولاد على بعض في العطاء والمنحة. ...
... وفي حديث آخر يقول الرسول ـ عليه السلام ـ للنعمان بن بشير هذا سائلاً إيَّاه: ( أيَسُرُّكُمْ أن يَكونوا "أي الأولاد" إليكم في البرِّ سواء؟ قال: بلَى. قال فلا، إذَنْ "أيْ فلا تمييزَ بينهم في العطاء".(19/12)
... وحديث ابن عباس ـ وهو حديث عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اقْسِمُوا المالَ بينَ أهلِ الفرائضِ "أي أصحاب الميراث" على كتابِ اللهِ". "يُشير إلى قوله ـ تعالى ـ: (يُوْصِيْكُمُ اللهُ في أَوْلادِكمْ للذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ). (النساء: 11) .. ...
... فالإسلام ـ على نحو ما تروي الأحاديث هنا.. يُريد أن لا يَنفذ إلى العلاقات بين الأولاد في الأسرة الواحدة ما يُثير حقْد بعضهم على بعض.. وما يجعل بعضهم خَصْمًا لأبيهم يُضمرون له العداوة، والبغضاء، بدلاً مِن الإحسان في القول والعمل. ...
... وهذه هي القاعدة العامة في الإسلام، وتطبيقها واجب إذا كانت هناك مُساواة قائمة بين الأولاد، ليس هناك قويٌّ وضعيف بينهم.. وليس هناك مَن يُعطي مِن نفسه منهم، ومَن يأخذ مِن غيره ولا يُعطي سواه. ...
فهل هنا مساواة بين الأولاد في القوة والضعف؟ ...
... الوالد صاحب السؤال يستشعر: أن أولاده الذكور السبعة ليسوا متساويين، وأن مِن بينهم مَن هو في حاجة خاصة، ولذا يسال عن التمييز في العطاء: أهو حلال أم حرام؟ أربعة مِن السبعة تخرَّجوا في كلية الشريعة والحقوق بجامعة الأزهر، فهؤلاء أقوياء بثقافتهم وبوظائفهم، وإنْ لم يكونوا أقوياء بإيمانهم وبقُدوتهم الطبية في الأسرة. ...
وفضْل الثلاثة الآخرين ـ وهم الفلاحون ـ في وصول أشقائهم إلى المستوى القويِّ واضحٌ، ولكنهم أنفسهم ضعفاء بمُستواهم في الأمية، وبعدم الكفاية في دخولهم المَحدودة من مِهنة الفلاحة في المساحة القليلة التي يمتلكها والدهم. ...
... وإذن هناك فرق بين الأولاد في الحاجة وفي الاكتفاء الذاتِي، ولو أن الذين تخرَّجوا من الأشقاء في كلية الشريعة والحقوق بجامعة الأزهر تأثَّروا بالشريعة التي درسوها في الكلية، وتأثَّروا قبل ذلك بالقرآن والاتصال به في القراءة، والحفظ، والتفقُّه في آياته لكان مَوقفهم مِن أشقائهم الثلاثة الذين يُباشرون(19/13)
مهنة الفلاحة: أن يَدُْعوا والدهم إلى تَمييز هؤلاء الثلاثة بالأرض التي يَملكها والتي يعملون فيها، مُعلنين أن "العدل" الذي يطلبه الإسلام هو في نقْل ملكية الأرض لهم، إذْ بعد نقل الملكية لهم، لم يزل الوضْع الاقتصادي للأشقاء الأربعة المتعلمين مُتميزًا عن وضْع هؤلاء الثلاثة. ...
... الوالد الذي يسأل هنا لم لكن بحاجة إلى أن يسأل هذا السؤال، محافظةً على مستقبل أولاده الثلاثة الذين يعملون في الزراعة، ولو أن أولاده الأربعة الذين تخرَّجوا في كلية الشريعة والحقوق كانوا أوفياءَ له ولأشقائهم الثلاثة… لو أنهم كانوا بارِّينَ به ومحسنين إليه، ومعترفين بجميل هؤلاء عندما كانوا يشقون في الفلاحة ليُوفروا لهم بعض النفَقات على الأقل لتغطية إقامتهم بالقاهرة أثناء الدراسة.
إن عدم تمييز هؤلاء الثلاث الآن بنقل ملكية المساحة التي يَعملون فيها سيُؤدي إلى ما كان يُؤدي إليه التمييز في حال تساويهم في القوة والضعف، فإذا كان التمييز عندئذٍ سيُوغر صدورهم بالحقد ضد بعضهم بعضًا… بحقد مَن لم يتميز منهم على مَن تميَّز مِن بينهم، فإن مَن لم يتميز الآن ـ وهو الفلاحون الثلاثة ـ سيكون حاقدًا على الأشقاء الأربعة المتعلمين؛ لأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لهؤلاء أحسن بكثير مِن وضْعهم كفلاحين. ...
... فالحديث الشريف يطلب عدم التمييز؛ لأن التمييز يُؤدي إلى ضعف الروابط، وربما يؤدي إلى الخُصومة والشحناء.
...
وعدم التمييز الآن يُؤدي إلى نفس النتيجة، وهي ضعف الروابط والخُصومة والشحْناء، وإذ يَتفادَى الحديث ضعف الروابط الأسرية بالعدل في التوزيع بين الأولاد جميعًا للذكَر مثلُ حظِّ الأنثيينِ، فتفادي ضعف الروابط الأسرية الآن ودفع الخصومة والبغضاء من نفوس الأشقاء يكون بسدِّ حاجة الإخوة الذين يعملون في الفِلاحة، حسبما يُريد والدهم من تمييزهم في المِلْك.(19/14)
إن الأخوة الأربعة المتعلمين غيَّروا وضْع المساواة بينهم وبين أخوتهم الثلاثة في الفلاحة، وخلَقوا وضْعًا اقتصاديًّا متميِّزًا لهم، دون هؤلاء الثلاثة، وأصبح هؤلاء الثلاثة في حاجة أكثر إلى الرعاية وبهذه الحاجة يُحِسُّ والدهم ـ وهو والد الجميع ـ إحساسًا قويًّا بها، فإذا قام وميَّزهم في المِلْكية لا يكون ظالمًا للآخرين، وإنما يكون مُسايرًا للعدْل المطلوب بين الجميع.
والإخوة الأربعة المتعلمون لا ينبغي لهم أن يَغضبوا عندما يروا أباهم قد ميَّز إخوتهم الثلاثة بملكية الأرض، وإنما عليهم أن يَحمدوا الله على وضْعهم الحالي الاجتماعي والاقتصادي معًا، فإذا هم غضبوا عندئذٍ تكون أنانيَّتهم صارخةً… وتكون تعاليم الإسلام لم تُؤَثِّر في نفوسهم إطلاقًا.والمؤمَّل فيهم أن تأتي خطوة التمييز لصالح أخوتهم الثلاثة، من جانبهم هم.
والوالد السائل إنْ قام بتمييز أبنائه الثلاثة ـ وهم الفلاحون ـ لا يُغضب الله في قليل أو كثير.. لا يكون ظالمًا لأحد، ومتى انتفَى الظلم يكون العدل بدلاً منه هو القائم في حياة أسرته.(19/15)
57 ـ زوجي ميسور، ولكنه أنانيٌّ ينفِق على نفسه بإسراف، ويقتِّر على زوجته وأولاده. فما الحكم؟
يجعل القرآن الكريم البخل، من صفات الإنسان قبل تهذيبه.. أي من صفات الإنسان الأنانيّ الذي لا يؤمن بالله. فيقول في شأن المادِّيّين الذين لم يؤمنوا بالله: (قُلْ لَوْ أنتُمْ تَمْلِكونَ خَزِائنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذَنْ لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاقِ وكَانَ الإنْسانُ قَتُورًا) (الإسراء:100) أي الإنسان بطبعه: بخيل وضيِّق في الإنفاق. فعدَّ البخل من طابع الإنسان الأنانيّ، وأنَّه يسير معه في مراحل نموه، إذا لم يتهذّب عن طريق الإيمان بالله. ولذا نفى عن المنافقين أنهم لم يؤمنوا حقيقة بالله، عندما لازَمَهم البُخْل في إنفاق أموالهم، في قول الله تعالى: (أَشِحّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسيرًا) (الأحزاب: 19). كما ذكر في صفات عباد الرحمن ـ وهم المؤمنون المُخلِصون ـ أن إنفاقهم وَسَط بين الإسراف والتقتير.. أي فيه اعتدال، إذ يقول الله ـ تعالى ـ: (والذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفوا ولَمْ يَقْتُروا وكَانَ "أي الإنفاق" بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا) "أي معتدلًا: بين الإسراف والتقتير" (الفرقان: 67).
والزوج صاحب اليَسَار إذا كان يُقَتِّر علي زوجته وأولاده.. ويُسرِف على نفسه، فهو حَقًّا أنانيٌّ. وهو بالتالي ليس من عباد الرحمن الذين اتبعوا دين الله في السلوك والمعاملة. وربّما يدخل في عِداد المُنافقين الذين يُعلنون الإيمان، ولا يُسايرونه في التصرفات. هذا من الوجهة النظرية. أما من الوجهة النفسية والاجتماعية.. فإنه يحقِّر نفسه أمام زوجته وأولاده، ويُثير ببخله الحقد والضغائن عليه، وتكون العلاقة بين بعضهم بعضًا علاقة العداوة والبغضاء. وبذلك يحطِّم الأسرة، بعد أن يحطِّم في نظرهم هيبتَه ويُزيل معالم الإنسانية عنه.(20/1)
والأناني الذي يُحِبُّ نفسه، ويفقد حبَّ الآخرين إليه.. لا يُسعد نفسه بحب نفسه. وإنما يضعها بذلك موضع القلق من الآخرين. والإيمان بالله الذي تنصح به دعوة الدين، هو تحوُّل عملي من السلوك الأنانيّ.. إلى السلوك العملي والجماعي.. أي تحول من الوقوف عند الذات وحدها بالحبّ، والطمع.. إلى رعاية الآخرين معه في أسرته، ومجتمعه بنفس المقياس الذي يقيس به الرعاية لنفسه. ... ... ... ... ... ... ...
وهنا يُقال: إن الإيمان بالله هو الرَّكيزة الرئيسية التي ترتكز عليها العلاقات الطيِّبة بين الناس بعضهم بعضًا.. وهو الركيزة الرئيسيّة، أيضًا، التي تكوِّن العادات الإنسانية.. والتي تبعد بالتالي كلَّ صفات الأنانية.
وليس هناك عِوَض في حياة الإنسانية المُعاصِرَة، يَحِلُّ محلَّ الإيمان بالله: في تحويل اللاإنسانية.. إلى إنسانية في الإنسان. وهنا كثُرت مشاكل الإنسان المعاصر، وسيزداد أمرها إلى سوء، إن لم يَعُدِ الأمر إلى الإيمان بالله وحده.
61 ـ أنا زوجة عمري خمس وعشرون سنة، ومن عائلة محترمة، وإخوتي وأخواتي في مراكز مرموقة، وزوجي في الخامسة والثلاثين، ولي منه غلام له عامان. وأخلاقه بعد الزواج على نقيض ما ظهر به أيام الخطبة. وراتِبه أكثر من أربعين جنيهًا، ويقتِّر على البيت، ويبالغ في إهانتي وإسلامي، ولا يرضى أن ألبَس الملابس النظيفة، أو أن أجلس من غير امتهان. وأنا الآن حبيسة هذا الجحيم. فماذا أصنع؟(20/2)
هذه ظاهرة شائعة في مجتمعاتنا الشرقية. وهى ظاهرة أن الرجل في فترة الخِطبة لزوجته يختلف في معاملتها، عنه في الحياة الزوجية. ففي فترة الخطبة يتصنَّع الكرمَ والسَّعةَ في الإنفاق.. كما يتصنع التهذيب في القول. والأناقة في الملبس. ويقصد بتصنُّعه هذا أن يؤثِّر عليها.. إلى عَقْد الزوجية. فإذا تَمَّ العقد بينهما ابتدأ يبدو على طبيعته وحقيقته فيبخَل ويقتِّر.. ويلوم ويؤنِّب.. ويتراخَى في نظافة مَلبسه. وهو إذ يلوم زوجته أو يؤنِّبها فإنه يفعل ذلك معها؛ لأنه بدا منها في نظره بعض الإسراف في الأكل والشرب.. أو اعتمدت في عمل المنزل على "شغّالة" دائمة، أو لبعض الوقت، وهو يريد أن تقوم بنفسها بعمل المنزل ولو على حساب صحّتِها.. أو حساب جمالها وأُنوثتها.. أو على حساب تربية أولادها ورعايتهم، مادام هناك وفْر في قروش الإنفاق المنزلي. وهو ـ أيضًا ـ إذ يتراخى في نظافة بدَنه أو ملابِسه فإنما يحرِص في الاقتصاد في موادّ النظافة، أو في نسيج الملابس، كما يظن ويتوهّم.
وهذه الظاهرة تكون عادةً من أنانيٍّ. والأنانيُّ منافِق.. وجَبان.. لا يستخدم الصراحة في المعاملة؛ لأنَّه غير قوِيٍّ. ولو كانت له شخصية الرَّجُل القويِّ لحَدَّث خطيبته أثناء الخطبة بمشاكل حياته الاقتصادية. إذ ربّما تستجيب له، وتشاركه الحَلَّ لها منذ لحظة التعارف الأولى بينهما.(20/3)
والبخيل ـ لأنّه أناني وضعيف ـ يعتمِد على المال وحده، وينتهِك حُرُماتِ الإنسانية كلَّها ـ وفي مقدِّمتها انتهاك حرُمات نفسه ـ في سبيل زيادة ماله، ولو بملاليم. وعاقبة البخل في حياته سقوط في أزَمات وشدائد لا نهاية لها مع نفسه.. ومع غيره، وبالأخصِّ في أسرته. وقد ذكر الله ـ سبحانه ـ عاقبة البخل في قوله تعالى: (وأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى "أي استغنى بالمال عن الناس، وعن الله" وكَذَّبَ بالحُسْنَى "أي: ولم يُؤْمِن بالسلوك المُهَذَّب والمعاملة الكريمة، والمستوى الإنساني الرفيع في القول والعقل معًا" فسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى "أي وسيندفع حتمًا في دنياه إلى الأزمات والشدائد، ويتردَّى في مأزقها، وقلَّما يخلص منها" وما يُغْني عَنْهُ مالُه إذا تَرَدَّى) "أي في نهاية أمره في جهنم" (الليل: 8 ـ11). فهو شَقِيٌّ في دنياه، وفي آخرته معًا.
وواجب الزوجة التَّعِسة التي ساقَها حظُّها إلى الزواج ببخيل منافِق.. وأنانيّ ضعيف ـ أن تفدي نفسَها برَدِّ مالها من مهر عنده وهو مؤخَّر الصداق، وتطلب الطلاق مباشرة أو عن طريق وليِّ الأمر. وقد أباح الله لها أن تتنازل عن باقي المهر. كما أباح للزوج عندئذٍ أن يأخذ ما تفدي به نفسها من مهرها.. وطلب من المؤمنين ـ في مقدمتهم أولو الأمر ـ أن يحرِصوا على إقامة حدود الله برفع الضَّرر والإضرار في الحياة الزوجية. ويقول الله ـ تعالى ـ: (ولاَ يَحِلُّ لَكُمْ "والخطاب للأزواج" أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا "أي من مهور الزوجات" إِلاّ أَنْ يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ "وحدود الله هي ما ذكرت في قوله في أول الآية: (الطَّلاقُ مَرّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعروفِ أَوْ تَسريحٌ بِإحْسانٍ) فإنْ خِفْتُمْ "أي أيُّها المؤمنون جميعًا وفي مقدّمتكم أولو الأمر فيكم" ألاّ يُقِيمَا "أي الزوجان" حُدودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229).(20/4)
والطلاق هو إذنْ الطّريق الأمثل لفكِّ الزوجة ـ أو الزوج ـ من أسْر التحكُّم والإضرار في المُعاشَرة الزوجية. والإسلام بإقراره مبدأ الطلاق يُساوِق الإنسانية في مستواها الرفيع، ويحرص على أن تبقى للإنسان كرامةُ الإنسان.(20/5)
30 ـ ما أثرُ السُّكوت عن المنكَر؟
إذا كان الإسلام يرى أن للفرد شخصية مستقلّة تتحمل نتائج عملها، كما يذكر القرآن في قوله ـ تعالى ـ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ومَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ للعَبِيدِ) (فصلت: 46). ـ إلا أنه يرى من جهة أخرى أن على المؤمنين جميعًا مسؤولية تضامنيّة جماعيّة إزاء سيادة مبادئه في الأمة وصلاح حالِها واستقامة أمرها. وفي الوقت نفسه يربط وعد الله بنصرهم بتطبيق هذه المبادئ في حياتهم، وبالأخصِّ منها: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نقرأ قول الله تعالى:
(ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز. الذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ وأَمَرُوا بالمَعْروفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الأمورِ) (الحج: 40 ـ 41).
نقرأ هذا فنرى الصلة القويّة بين عهد الله على نفسه بنصر المؤمنين، وبين تنفيذ هؤلاء المؤمنين للمبادئ والواجبات التي تراها رسالة الإسلام ضرورية كوصفهم بالإيمان بالله، ولا شَكَّ أن تنفيذ هذه المبادئ والواجبات ليس مسؤولية شخص أو مسؤولية أشخاص معيّنين بالذات من بينهم، إنما هي مسؤولية المؤمنين جميعًا. ولذا عبَّر القرآن هنا بصيغة الجمع عنهم.
ومن بين هذه المبادئ والواجبات النهي عن المنكَر، والمنكَر كلُّ ما هو مستقبَح أو مؤذٍ في التصرُّفات والسلوك.
ومن الطبيعي أن يَنْهَى كلُّ فرد نفسَه عن اقتراف المنكر وأن يحول بين وقوعه.
ولكن إذا وقع من فرد على آخر أو على آخرين، أو وقع من الشخص نفسه على نفسه... فإن الشعور في الأمة بالمسؤولية الجماعية يقضي أولاً بالحيلولة دون وقوعه مستقبلاً ثم بتلافي أثره عندما يقع.
وهنا نفهم ما يُذكر أنه ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله:(21/1)
"مَن رأى منكم منكَرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان".
وتغيير المنكر باليد هو إزالة له والوقوف دون تَكراره. وذلك يكون أولاً من أصحاب الولاية العامة كرجال النِّيابة في المجتمع المعاصر وكذلك من أصحاب السلطة التنفيذية فيه.
أما تغييره باللسان فبالتنديد به أو بمطالبه ولى الأمر بإزالته وذلك شأن أصحاب القلم في المجتمع أو أعضاء الهيئات الاستشارية فيه.
بينما تغييره بالقلب يكون بعدم الرضاء عنه ومقاطعة مَن يأتي به وعدم التعاون معه.
فإذا لم يقع تغيير المنكَر في الأمة على نحو من هذه الأنحاء تأثَم الأمة جميعها وفي مقدّمة أفرادها أصحاب الولاية العامة وأصحاب الرأي فيها.
ومادام هناك مجتمع وهناك دولة فيه فالأمر يقضي بإزالة المنكَر في الأمة كما ذكرنا وليس بمباشرة الأفراد أنفسهم كل بأسلوبه الخاص. وإلا وقعت الفوضى وربّما جرَّت إلى فتنة تكون آثارها على الأمر شرًّا من بقاء المنكر لفترة ما، حتى تتمَّ إزالته:
(واتَّقُوا فتنةً لا تُصَيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصّةً واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ) (الأنفال: 25).(21/2)
40 ـ يسمع بعض الناس الأخبار أو الشائعات ـ وقد تَمَسُّ الصالح العام ـ فينقلونها ويزيدون عليها ويُشيعونها مُظهرين أنفسَهم بمظهر المتَّصلين بمصادر الأخبار، فما أثر ذلك؟ وما حكم هؤلاء؟
الوحي كان ينزل أولاً بأول بالأخطاء التي كانت تقع من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو من المؤمنين معه ويطلب إلى الرسول أن يُعلنَها ويبلِّغها للناس جميعًا، كما يبلِّغ مبادئ الرسالة الإلهية نفسها، وحُفِظَتْ في القرآن الكريم كجزء من أجزائه لتطَّلِع عليها الأجيال القادمة من المسلمين، لا تشهير بالرسول والمؤمنين بالله ولكن اقتداء بأسلوب الوحي والقرآن في مُعالَجَة مشاكل الأمة الإسلامية.
والأخطاء كثيرة، منها ما يتصل بشأن من شؤون المسلمين، على نحو ما يُذْكَر في أسباب نزول هذه الآيات:
(مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُريدونَ عَرَضَ الدُّنْيَا واللهُ يُريدُ الآخِرةَ واللهُ عَزيزٌ حَكيمٌ. لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال: 67 ـ 68).
فقد كان سبب نزولها أنّه وقع في يد المؤمنين بعد غزوة بدر نَفَرٌ من كُفّار قريش. فرأى عمر أن يقتلهم تخفيفًا لضغط الكُفّار على المؤمنين من جانب وإرهابًا لهم من جانب آخر، مادام المؤمنون قلّةً في عددهم، كما كان عليه وضعهم أيام غزوة بدر.
ورأى أبو بكر ـ ووافَقَه الرسول ـ أن يقبل المؤمنون الفداءَ ويُطلِقون سراحَهم، لحاجة المؤمنين إلى المال في إعداد أنفسهم لدفع ما يُوجَّه إليهم من اعتداء المشركين.
ونزلت هذه الآيات مُنَدِّدة برأي أبي بكر هذا في مُواجَهة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنّه وافَق عليه:(22/1)
(مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ "أي يتثبّت ويقوَى" تُريدونَ عَرَضَ الدُّنْيَا "وهو المال في مقابل إطلاق الأسرى" واللهُ يُريدُ الآخِرةَ واللهُ عَزيزٌ حَكيمٌ. "أي يريد ثواب الآخرة للمؤمنين وليس عرَض الدنيا في سبيل تمكين الدين وسيادة مبادئه" لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ "أي لولا قضاء من الله بالعفوِ ثم بالفعل" لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) "أي لأصابكم فيما ذهبتم إليه من رأي وهو إطلاق سراح المشركين في مقابل الفداء لهم من المال عذاب لا يقلل من شأنه بحال من الأحوال".
ومنها أخطاء في التصرُّف في أسلوب الدعوة كما تحكي هذه الآيات:
(عَبَسَ وتَوَلَّى. أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى. ومَا يُدْريكَ لَعَلَّهُ يَزَكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. ومَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزَكَّى. وأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى. وهُوَ يَخْشَى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس: 1 ـ 10).
فالآيات تأخذ على الرسول ـ عليه السلام ـ موقِفه من عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وهو موقف تقطيب الجَبين عند قدومه إلى مجلسه والإعراض عنه عند سؤال الهداية مع الأمل في انتفاعه بالدَّعوة إلى الإسلام، على حين أنه ـ عليه السلام ـ اهتَمَّ كثيرًا بمَن كان معه في هذا المجلس من كُفّار قريش أملاً في إسلامهم، مع عدم الرجاء في قَبولهم للإسلام. وقد وصف القرآن إعراض النبي عن عبد الله بن أم مكتوم بـ "التلهِّي عنه" ـ "فأنت عنه تلَهَّى" ـ وذلك ينطوي على معنى المؤاخَذة القاسية.
ومن أجل تتبع الوحيُ لمثل هذه الأخطاء وتكليف الرسول بإعلانها وتبليغها للناس كافّة كان عقاب الإسلام على ترويج الشائعات بعد ذلك اللعنة عليهم وقتلهم أينما وجدوا يقول القرآن الكريم:(22/2)
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقونَ والذِينَ فِي قُلوبِهمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُنَكَ فيها إلا قَليلًا. مَلْعونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتيلاً) (الأحزاب: 60 ـ 61).
إذ أن شائعاتهم عندئذٍ هي محضُ اختلاق وأباطيلهم يقصدون بها تقويض دعوة الحقِّ والتشويش على المسلمين في علاقتهم(22/3)
47 ـ ابن يُسيئُه أن يضرِب أبوه أمَّه بعد أن تزوَّج عليها، ويسأل عن مُواجهته.
والدي تزوَّج والدتي منذ خمسة عشر عامًا، ومنذ أن تزوّج عليها وهو دائب الضرب لها كل يوم، مع أن عنده من الأولاد تسعة. فهل أقف في وجهه وأحْمِي أمِّي؟ أو أسكُت على ضربها وإيذائها؟
أباح القرآن الكريم تعدُّد الزوجات، ولكن ليس على حساب شَقاء الأخريات الباقيات، ولا على حساب ظُلْمهن وانتهاك آدميّتهِنّ، بل يُرَدُّ أمر الزواج إلى واحدة فقط، إن خَشِيَ الزوج عدمَ العدل بين الزوجات: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) (النساء: 3) وفرق كبير بن خَشْية عدم العدل، ومُمارَسة الظلم وانتهاك حُرمة البشرية.
وفي الوقت الذي قيّد الإسلام فيه ترخيص تعدُّد الزوجات بالاطمئنان إلى عدل الزوج بينَهُنّ أوصى الزوج بمُعاشَرة الزوجة على العموم بالمعروف: (وعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْروفِ ) (النساء 19).
والمعروف في المعاشَرة هو اتباع ما درَج عليه الناس من حُسن المعاملة وحسن المعاملة يقوم على التهذيب وعلى الرحمة وعلى المودة.. وعلى إبراز الاعتبار البشري للمرأة.
ولكي يحمل القرآن الزوجَ على معاشرة زوجته بالمعروف وإن كان فيها ما يَكرهُه منها إنْ في بدنها، أو في خَلْقها، أو في خُلُقها "خَلْقها الأولى بفتح الخاء، والثانية بضَمِّها" ـ يُحاول أن يضمن ما يكرهه فيها شيئًا يعود عليه بالخير منها فيقول: (فَإِنْ كَرِهْتُموهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء 19).
فقد تكون حكيمةً في تدبير منزلها، وتربية أولادها ومُعالجة مشاكل الحياة المشتركة بينها وبين زوجها، فالحياة الزوجيّة لها جوانبُ عديدة أهمُّها وأبقاها: صلاحيةُ الزوجية للأمومة وصبرها في مواجهة الأزمات، وسَعة صدرها لهموم الزوج ومشاكله الخارجية.(23/1)
وبجانب ما يطلب القرآن مِن مُعاشَرة الزوج بالمعروف لزوجته. وبجانب ما يُرغِّبه في نَفْعٍ مُنتظَر منها قد لا يبدو واضحًا في بادئ الأمر ـ فإنه يُشير عليه قبل طلاقها ومُفارقتها إنْ بدَا منها نُشوز أو شُذوذ في المعاملة أن يوجِّه إليها النُّصْحَ أو يُعبِّر عن غضبه منها بالتغاضي عنها كزوجة، أو يُشعرها بهذا الغضب فيَضربها، لا إيذاءً ولا امتهانًا، بل كما يضرب الأب ابنه: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) (النساء 34).
فإذا لم ينفع هذا السبيل في علاج الأمر بين الزوجين فالطَّريق قبل الأخير هو تحكيم طَرفين من أسرتيهما: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء 35).
فإنْ لم ينجح مَسعَى التحكيم كان الطلاق هو الحَلّ الأخير.. أمّا أن يُمسك الزوج زوجتَه فلا يُطلِّقها للإضرار بها فقد نهى عنه القرآن نهْيًا صريحًا: (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة 231).
والزوج ـ في سؤال السائل ـ لم يَرْعَ العدل بين الزوجة القديمة ـ أمِّ السائل ـ وزوجته الجديدة، ودائم الإضرار بأمِّه لا يُسرِّحها بالمعروف ولا يُعاشِرها بالمعروف فهو جاهليٌّ، لم يتأثّر بدعوة الإسلام، وهي دعوة إنسانية ولا بأس أن يُنَبِّه السائل والده إلى ما يجب عليه في معاملة أمِّه وهي زوجته.(23/2)
وتنبيهه والدَه لا يُخِلُّ بما يطلبه القرآن في موضوع آخر من الإحسان في معاملة الأبناء للآباء في قوله ـ تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء 23، 24).
فمادام الوالدُ لا يعرف معنى الإحسان في معاملة زوجته، فهو لا يشعر بالحِرْمان منه إنْ نبَّهَهُ ولدُه إلى ما يجب عليه نحو أمِّه وأم أولاده.(23/3)
70 ـ استقلال الزوجة بالسكن يُثير للزوج مشكلةً بالنسبة لوالدته
يَسأل أحدُ المواطنين من القاهرة عن حُكم الله:
أولاً: هل يَرُدُّ السائل لأخوَيْهِ، الأكبر والأصغر، مبلغ المائة جنيه الذي أخذَه منهما ليُكمل مهْر عَرُوسه؟
ثانيًا: عن حُكم الإسلام في إقامة زوجته معَه بالقاهرة؛ لأن عمله فيها، بينما والدتُه مُسنَّة وتحتاج إلى خِدمتها بين أخواته بالبلد، أليس سُكنَى زوجته معه بالقاهرة يُعتبَر عقبةً في توصيل الحقوق إلى الوالِدَيْن؟
إن مبلغ المائة جنيه الذي أخذه السائل من أخويه لتَكْمِلَة المهر يُعتبر قرضًا منهما له، يردُّه إليهما في مناسبة تُشبه مُناسبَتَه؛ فالحياة الريفية تُسيطر عليها إلى وقت قريب "روح التعاون" بين الأفراد بحُكم القرابة، أو بحكم الجوار.
"فالنقوط" التي تُجمَع يوم "الصبَحِيَّة" عند توزيع "كعك" العروسة تُعتبَر قروضًا يُساهم بها "الأحباب" في تمكين بيت الزوجية الجديد من إقامة أسرة مستَقِلَّة، ويجب أن تُرَدَّ عند المناسبات المُشابهة وهي صورة من صور التعاون الكريم بين الأفراد، وإنْ لم يُعلَن كل مرة عن الاتفاق بينهم .. ولكنه عُرْفٌ قائم.
و"الصواني" التي تُقدم في "المأْتم" من الجيران والمَعارف صورة أخرى من صوَر التعاوُن، وتُعتَبَر في حقيقتها "قَرْضًا" يُرَدُّ عن المناسبة المُشابِهة بالمُشارَكة في تخفيف متاعب الأسرة التي أُصيبت بوفاة واحد منها.
فالعادة أن يَفِد في المأتم "المُعزون" مِن قرى أخرى، وقد يحلُّ موعد الغداء أو العشاء بالفعل مع وُجودهم في قرية الميت، وهم يُعتبرون ضيوفًا على أهل المتوفَّى فيَتسابق أهالي القرية في تقديم "صواني" الأكْل كلٌّ على قدْر طاقته؛ إسهامًا في تخفيف المتاعب على أسرة المتوفَّي وتكريمًا لهؤلاء الضيوف القادمين.
وعلى أهل الميت بعد ذلك أن يُشاركوا الآخرين عندما تحدث عندهم وفاة، تحقيقًا لروح التعاون بين الأفراد في القرية.(24/1)
ويُشبه رُوح "التعاون" في السرَّاء والضراء على هذا النحو بين أهالي القرية: ما يتَّجه إليه نظام التأمين الآن على الماشية في القرية فما يُدفَع لمَن نفقت ماشيته هو في حقيقته قَرْض مِن بقية المشتَرِكين في هذا التأمين، يُسدَّد لهم تِباعًا عندما تُنفق ماشية أحدهم يومًا ما.
ولا يَعلم اليوم الذي يُسدد فيه القرض إلا الله وحده، كذلك اليوم الذي تُسدَّد فيه "النقوط" أو تُقَدَّم فيه "الصواني" في المأتم لا يَعلمه إلا الله جلَّ جلاله.
والذين يُحرمون التأمين على الماشية لدَى الفلاحين يدفعون بهم إلى الحرَج عندما تَنفُق مَواشيهم، وهي تُمَثِّل جزءًا كبيرًا من رؤوس أموالهم، كما يتجاهلون هذا العُرف الشائع وهو عرف المشاركة في الأفراح والمآتم على السواء أو روح التعاون بينهم.
أما إقامة الزوجة مع زوجها في مكان عمله فهو الأصل المطلوب منها شرعًا؛ لأنها شريكة له في حياته المُقبِلة، وليس من عقوق الولد لأمه أن يتركها عند إخوته في البلد، طالمَا لا يستطيع هو أن يُحضرها معه في مسكن الزوجية بالقاهرة.
فالمكان الأول في حياتِه الآنَ، هو لزوجَتِه، و"الإحسان" المطلوب للوالدينِ في قول الله تعالى مثلاً: (واعْبُدوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئًا وبالوالدينِ إحْسانًا) (النساء: 36) هو إحسان المُعامَلَة.. وإحسان الرعاية.. وإحسان الكفَالة.. ولا يتوافَر هذا النَّوْع من الإحسان على حساب الفصل بينه وبين زوجته فتسكُن هي في البلد مع أمِّه لتَخْدِمَها، ويَسكن هو وحده بالقاهرة لأداء العمل؛ لأن في هذا الفصل إجحافًا بحقوق الزوجة وبحقوق الزوج دون ما يُبَرِّره.
إن السائل شديد الحساسية في علاقته بأمه، وهذا جميل منه والله يَجزيه خير الجزاء، على شفَقَتِه عليها، كما يَجزيه على استعداده الطيب للعمل على راحتها، ولكن جدَّت في حياته زوجتَه الآنَ، وهي إذا كانت لها الأولوية في النفَقة على والِدَيْهِ فلها الأولوية أيضًا في الإقامة معه.(24/2)
فيُروَى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قول الرسول عليه السلام: "تَصَدَّقُوا، قال رجل: عندي دينار قال: تصدَّق به على نفسك...
قال: عندي دينار آخر. قال: تصدَّق به على زوجتك.
قال: عندي دينار آخر. قال: تصدق به على وَلدك.
قال: عندي دينار آخر. قال: تصدق به على خادِمك.
قال: عندي دينار آخر. قال: أنت أبصرُ به".
فهذا الحديث يجعل الزوجة في المرتبة التالية مباشرةً لمرتبة الوجود في حياة الزوج.
ثم كيف يتحقق هدف الزوجية من السُّكْنَى، والاطمئنان، والمودة والرحمة، كما ورد في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم منْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم 21).
... والزوجة تسكن وحدها بعيدة عن زوجها لتقوم بخدمة أمه، وهو يسكن بعيدًا عنها ليؤدي عمله؟!
فما أخذتَه أيها السائل من أخوَيْكَ هو دَيْنٌ عليك .. وليس من حرَج عليك في شريعة الله أن تركت أمك مع إخوتك في البلد، وسكنتَ مع زوجتك وحدَها في القاهرة، فذلك لا يَتعارَض مع الإحسان للوالدينِ.(24/3)
51 ـ نحن أربعة إخوة: الأول والثاني أتَّما تعليمهما الجامعي. وأنا وأختي الصغيرة نعمل مع الوالد في الحقل. ومع إنفاق والدنا على اللّذين تعلَّما فقد ساعدهما على الزواج. ألا يصِحُّ أن يعوِّضنا الوالد بمبلغ يوازي ما أنفقَه على الكَبيرَين؟
يَعتَبِر القرآن الأولاد نعمةً، وفي الوقت نفسه يَعتَبِرُهم فتنةً، أي محنة، وبلاءً، واختبارًا بالنسبة للآباء.
1 ـ فأب الأولاد قد يمنع إنفاق الخير على الآخرين عدا أولاده، حرصًا على هؤلاء الأولاد.
2 ـ وقد يعتزُّ بهم كعَصبية له، ويطغى بهذه العصبية ويعتدي بها على مَن سواه.
3 ـ وقد يمتنع على أن يُسهم في الجهاد بنفسه أو بماله في سبيل الله والمصلحة العامة، بسبب الميل إلى الأولاد والخشية عليهم.
4ـ وقد يميِّز بعضهم على بعض في الأموال، فيوجد بينهم العداوة والبغضاء.
واعتبرهم القرآن فتنةً لآبائهم في قول الله ـ تعالى ـ: (إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتنَةٌ واللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن: 15). أي: لا تُخدَعوا بالأموال والأولاد فتسلُكوا بسببها مسلكًا منحرفًا يقوم على الاعتداء والطُّغيان.. أو على التقصير في شأن ما يجب أن يعمل. فالأموال والأولاد إذا كانت نعمةً عظيمةً في الدنيا، فما عند الله في الآخرة خيرٌ وأعظم منها. ولا ينال إنسان ما عند الله في آخرته حتى يكون مسلكُه إزاءَ نعمة الله في الدنيا مسلكًا مُعتَدِلاً ومستقيمًا، بعيدًا عن الضَّرَرِ والإيذاء.(25/1)
وتمييز الأولاد بعضهم على بعض ـ إذا لم يكن هناك سبب واضح للتمييز كعاهةٍ دائمة لأحدهم ـ يُعتَبَر إذن صورة من صوَر الافتِتان بالأولاد. ولذا يُوصِي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعدل فيما بينهم. إذ يُروَى عن النعمان بن بشير قوله: "أن أباه انطلقَ به وهو يَحمِلُه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله: اشهَدْ أنِّي قد نَحَلْتُ ـ أعطيتُ ـ النعمان: كذا.. كذا.. من مالي. فقال: أكلَّ بَنِيكَ قد نَحَلْتَ مِثْلَ هذا؟. قال: لا، قال: فأشهِد على هذا غيري.. ثم قال: أيسُرُّك أن يكونوا إليك في البِرِّ سواء ـ أي هل تكون فَرِحًا ومسرورًا إذا قاموا جميعًا برعايتك عند الحاجة لا يتخلَّف واحد عن الآخر.. ولا يُقَصِّر واحد من بينهم عن الآخرين؟ ـ قال: بلى. قال: اتَّقوا الله، واعدِلوا في أولادكم".
والوالد في هذا السؤال لم يَقصِد إلى تمييز الولدين الكَبيرين بالتعليم وأن يؤثِرَهما بالوضع الاجتماعي المُمَيَّز الذي حصلا عليه عن الولدين الصغيرين. وكذلك لم يقصد إلى غَبْن هذين الولدَيْن الصغيرين من أولاده، حين استصحبَهما معه للعمل في الحقل والفلاحة، ولكن هي عادة جارية في الريف: يُبقي المالك الصغير بعضًا من أبنائه للعمل في الزراعة؛ محافظةً على التقاليد، ويُرسِل البعض الآخر منهم إلى المدارس للتعليم؛ رغبةً في مُجاراة روح العصر. والصُّدْفة وحدَها هي التي تُفَرِّق بين الأولاد. هذا إلى اتجاه.. وذاك إلى اتجاه آخر.
ومن أجل ذلك: الأب غير آثم هنا في حقِّ الولدين الصغيرين.
ولكن له ـ ربّما يُثاب على ذلك ـ أيضًا ـ من الله ـ سبحانه ـ أن يعوِّض هذين الولدين الصغيرين مما يَملِك من مال وأرض زراعية، بحيث يُزِيل من نَفْسَيْهِمَا كلَّ أثر لحقد على الأخوين الكبيرين، وعليه كذلك.. وبحيث يُشعِرُهما بالمُساواة في الاعتبار لأخويهما الموظَّفين.(25/2)
والأخوان الكبيران، إن كانا عاقلين، وغير أنانيّين سيُساعدان والدهما على تنفيذ ذلك، ويُسَرّان مما يفعل. فالمال عندما يضُمُّ الصفوف ويُصفِّي النفوس، يكون قد استُخدم استخدامًا حسنًا. وعندما يفرِّق.. ويدعو إلى الشَّحْناء، يكون قد استُخدم استخدامًا سيئًا.(25/3)
115ـ الولد يُدمن المخدرات
أخت مسلمة بإحدى المحافظات تبلغ من العمر ستينَ عامًا، وتوفَّى عنها زوجها منذ سنتين، وكان مِن علماء الأزهر ولها ولدانِ، الأكبر منهما غير أمينٍ.. ومُبذر فيما يقع تحت يده من مالٍ.. وفاشل في دراسته الجامعية.. وسيِّئ الخُلُق في مُعاشرته لوالدته وشقيقه.. ويتعاطَى المخدرات، ولم يَبخل عليه والده في حياته طوال إقامته ـ بمحافظة أخرى ـ من غير أسرته وهو يدرس في جامعتها، والأصغر من الولدينِ: طالب جامعي.. ورشيد في تفكيره.. ومُستقيم في سلوكه.. ومُحبٌّ لوالدته وشقيقه.. ويسكن مع والدته في مسكن مَملوك له ولأخيه بمُحافظتهم، وشاركت فيه أمهما بمالٍ خاصٍّ بها.
... ومشكلتها: أن الأخ الأصغر طلب إلي أخيه: أن يبحث عن عمل أو يُباشر إحدى الوظائف التي عُرضت عليه وهي كثيرة؛ إذ ليس من المعقول، وهو في سِنِّ السابعة والعشرين الآن: أن لا يُمارس عملاً شريفًا وأنْذره بعد أن أعطاه مُهلةً، إن لم يُباشر العمل: بأن لا يُشارك في المعيشة معه ومع والدته، وبأن لا يتردد في حرية على المسكن، وأمَر والدته بأن لا تُقدِّم له طعامًا أو مُساعدة ما.
وتقول الوالدة: إنه مَرَّ يومانِ الآن على انتهاء المُهلة التي أُعطيت لولدها الكبير من شقيقه الصغير، وأنها غير مُستريحة نفسيًّا للموقف السلبيِّ تِجاه ولدِها الكبير، وتسأل عن بعض دُور العلاج من الإدْمان على المخدرات، وتطلب الحلَّ الأمثل لهذه المشكلة في إطارها الكليِّ.
الذي يُفهم من رسالة السائلة:
أن أسرتها في حياة الزوج كانت تعيش بإحدى المحافظات، وظلت تُقيم في المسكن المملوك لها، حتى الآن. ويُشارك الولد الأكبر في مِلْكه، إذْ نُقلت ملكيته إليه.. وإلى شقيقه.(26/1)
وأن الولد الأكبر ألْحقه والده في حياته بإحدى كليات الجامعة بمحافظة أخرى، ولم يَبخل عليه بالمال فيما يَطلبه لمُواجهة نفَقات الإقامة والدراسة بهذه المحافظة، ورغم ذلك تعاطَى المُخدرات وفَشِل في الدراسة، وآلَ أمره إلى ذلك الموقف الذي يَقفه منه شقيقه الأصغر.
هذا الولد الأكبر كان يعيش في مراحل التعليم السابقة على مرحلة الدراسة في الجامعة: بين أهله، أيْ بين والديه مع أخيه الأصغر، وعندما أكملَ مرحلة التعليم الثانوي وانتقل إلى المحافظة الأخرى ـ كمدينة كبيرة وبين أعداد من آلاف الطلبة ـ لم يكن مُؤهَّلاً نفسيًّا وعمليًّا للإقامة في هذه المدينة الكبيرة وبين آلاف الطلاب، فهو باعتبار أنه ابنٌ لعالِم من علماء الأزهر كانت تَنشئتُه تنشئةً مُحافظة، وكان اختلاطه بزُملائه في الدراسة بعد الخروج من المدرسة: قليلاً، وأصدقاؤه من أبناء الجيران كانوا أقلَّ إنْ لم يكن له صديقٌ على الإطلاق، وهذه التنشئة المحافظة كانت تكون خيرًا وبركةً عليه، لو ظلَّ يعيش بين أهله ويتردَّد عليهم في الصباح والمساء، بعد أن الْتحق بالجامعة، ولو ظلَّ والده كذلك يُشاركه الرأي في حلِّ ما يُصادفه من عَقبات.
ولكن عندما انتقل إلى المحافظة الأخرى للدراسة في جامعتها، واتصل بالأعداد الكبيرة من الطلاب: في الإقامة.. وفي التردُّد على قاعات الدراسة، ورأى الاختلاط بين الشبان والشابات داخلَ الكليات، وفي شوارع المدينة، وفي المقاهي والنوادي فيها: وذلك كله شيءٌ لم يأْلَفْه مِن قبلُ، وإن كان ربما قد رأى بعضه في محيطٍ ضيِّقٍ، عندما الْتقى وجْهًا لوجه، بهذا الوضع الجديد، ولم يكن قد أُعِدَّ نَفْسِيًّا له من قبل: أُخِذتْ نفسُه بما شاهد وتأثرت به، وأصبح يسعى لأنْ يسمع مِن الزملاء والزميلات، توضيحًا لهذه الظاهرة الجديدة في المجتمع الجديد الذي انتقل إليه، وهو غير مُؤهَّلٍ فيه.(26/2)
سمع .. وسأل.. ورافَق.. وصادق، وكانت له قابليةٌ بما يدور حوله بحيث كان يخضع في الرفقة أو في الصحبة لمَن هو أقوى منه، وتناول المخدرات.. وربما شرب أيضًا الخمور. وفي سبيل استمراره على تناول المخدرات مع بعض الزملاء أو الزميلات: كان مُبذِّرًا للمال..وغير أمينٍ فيما يُعطَى له منه، كأمانة.. أو كرسالة يقوم بتَوصيلها إلى آخرينَ، كما كان فاشلاً في دراسته.. ومُتخلِّفًا في جده ونشاطه، حتى لم يستطع أن يَجْتَازَ الصف الأول في الدراسة، بعد أربع سنوات من القيْد فيه.
أدمن المخدرات. وانتهى به ضعف الإرادة إلى السلبية التامَّة، فإنْ عُرِض عليه عملٌ يُباشره تهرَّب منه، وإنْ طُلب إليه أن يُشارك في حياة الأسرة توارَى واختفى وراء سوء الخلُق، وإنْ طُرِدَ مِن المنزل قبِلَ الطرْد وانزوى بعيدًا عنه لفترةٍ ثم يعود، يسأل ويتذلَّل، إنه مريض فعلاً.. مريض بالإدمان على تعاطي المخدرات.. مريض بالسلبية والهرب من الحياة: تضعف إرادته، وضعُف بدَنُه وقوته المادية.. يعيش في التلاشي والفناء البطيء.
والسيدة السائلة غير مستريحة النفس لولدها الأكبر عندما يُطرد مِن أخيه إلى خارج المنزل.. غير مُستريحة النفس عندما يَطلب منها أن لا تُقدم له ما يأكله أو يلبسه، إنه ابنها على أيَّةِ حال.
... وعلاجه الآن في إدخاله إحدى المَصحَّات الخاصة بالمُدمنين، وربما مُفَتِّش الصحة في المدينة يعرف واحدةً منها أو أكثر.
... والشقيق الأصغر في مُحاولته مع أخيه لا ينتظر النجاح فيها، فهو يتعامل مع هيكل بشريٍّ: لا رُوح فيه.. ولا قوة. إنه ضعيف الإدْراك والوعْي بالحياة معًا، وكلما تقدم بإرساله إلى إحدى المصحات كلَّما كان أفضلَ له وللأسرة كلها.(26/3)
هل يأخذ الشباب عبرةً من هذا الشاب الطالب؟. قد بَهره الاختلاط فمَشى في موكبه ووقع تحت الأقدام، ولم يستطع أن يقوم ليَسير في الحياة وفْق مشيئته، وجذبتْه تياراتها، ويُحاول بعضها أن يَقضي عليه الآن، وهو تيَّار الانحراف عن طريق الإدمان على المُخدرات، ما حياته الآن؟. حياة الذليل.. والضعيف.. والمُستضعَف.. حياة الخائف والهارب من حياة العقلاء(26/4)
3ـ الوَسوسة
أولاً: سيدة بإحدى المحافظات تروي قصة الشك التي تُسيطر على العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها، فتقول إنها تزوجت منذ سبع سنوات من رجل مُحترم ومن أسرة طيبة، وأن هذه الزِّيجة أثمرت ولدينِ الآن، وأنه تزوَّجها تحت تأثير والدته صرْفًا له عن ابنةِ عمِّه التي كان يُحبها كثيرًا، ولشدة تعلُّقه أولَ الأمر بابنةِ عمِّه أرادت أن تُمثل عليه دورًا ربما يُرغِّبُه فيها، فادَّعت أن ابن عمِّها كان يُحبها كذلك، ولكن ظهر لزوجها أن هذا كذِبٌ منها، وعندما دخل بها لم يقتنع أنها كانت بِكْرًا؛لأنها كما تقول قطَّرت نقطتين من الدم فقط، فذهب بها إلى طبيبة أخصائية فطمأنتْه وذكرتْ له أن زوجته من النوع الذي لا يَنزف وأكَّدت له بِكارتها. وعندما أنجبت الطفلة الأولى شكَّ في أنها ابنته، ثم رجع عن هذا الشك حتى إذا أنجبت الطفل الثاني عاد فشكَّ في أنه ابنه، والعلاقة بين الاثنين دائرة بين الشك فترةً ودفْعه فترة أخرى، حتى مرضت الزوجة من كثرة تفكيرها، فهي تقع تحت تأثير طِيبة قلْبه وتُريد أن تقف بجانبه في الأزمات، وتسأل هل تمرُّ هذه الأزمة ويعود إلى الحالة الطبيعية؟ كما تُؤكد أنها مُتديِّنة وتخشَى الله قبل أن تخشى الناس، وأنها لم تعبث في حياتها إطلاقًا كما تعبث بعض الفتيات، وبالأخص في مرحلة المُراهقة، إنها الآن لم تجد سوى الله تتوجَّه إليه ليَهديَه سواء السبيل. وتطلب إرشادها إلى الطريق الصحيح.(27/1)
ثانيًا: طالبٌ بأحد المعاهد يذكر قصة صديق له قد تخلف في الدراسة فلم ينجح في الثانوية بعد رُسوب ثلاث سنوات فيها، كما تخلَّف عن الجماعة التي كانت تُواظب على الصلاة وأداء شعائر العبادة منذ ثلاث سنوات كذلك، وانقطع عن التديُّن. وقصته بعد أن سجلها من إملائه أن والدته أنجبت بنْتًا، فإذا تبرَّزت غسَّلتها في حوض الوضوء أو غسل الوجه واليدين أو في أرض الحمام، وإذا تبوَّلت لم يكن لها مكان للتبوُّل، وإنما كانت تسير في أي اتجاه، وبوْلها يُصاحبها أينما سارت، وأينما وقفت؛ على الأرض على السجاد في أي موضع، وشك في أن المنزل الآن نجِس فانقطع عن العبادة، وزاد في أمْر الشك عنده فأصبح يسمع صوتًا يُناديه إذا تحرك في أي مكان في المسكن: هنا قذارة، هنا نَجاسة. كما أصبح هو وحده دون إخوته الذي يُوسوس له الشيطان بالنجاسة بسبب أخته الصغيرة. وينقل صديقه أنه يسأل: كيف يستطيع التغلُّب على الوسوسة والشيطان؟(27/2)
هناك بعض الطبائع البشرية تُصدق في أمر ما لِمجرد شُبهة، ولا تُحلِّل الأمر في ذاته أو تُحاول أن تقف على الدليل المُبْعِد للشك على الأقل، فزوْج السائلة هنا سارَع وصدَّق أن زوجته لم تكن بكْرًا؛ لأنها لم تنزف ليلة الدُّخلة بها، وكل ما حصل لها أنه قطَّر منها نقطتان من الدم فقط وعندئذ شكَّ في أمانتها واحتفاظها بعِفَّتِهَا قبل الدخول بها. ...
وكذلك طالب الثانوية العامة الذي كان يُرافق مجموعة من زملائه في المواظبة على أداء الصلاة بالمسجد صدَّق في سرعة في نَجاسة المسكن الذي يسكنه هو وأهله؛ لأن أخته الطفلة الصغيرة كانت تتبرز وتتبوَّل في جوانبه، مِمَّا كان يحمل أمه على غسلها في حوض الوضوء أو الحمام. ...
والذي يُسارع بالتصديق في أمر ما بدون دليل واضح لديه عنده الاستعداد النفسي أيضًا لأن يصدق اليوم نقيضَ ما كان يصدق فيه بالأمس. والمثَل على ذلك زوج السيدة السائلة أيضًا، فإنه إن اتهمها بعدم الأمانة وشكَّ في عِفَّتها قبل الدخول بها عاد وصدَّقها في أنها أمِينةٌ على عرضه، بعد أن أعلنت الطبيبة الإخصائية أنها دخلت على زوجها وهي بكْر. وكذلك عندما شكَّ في نزاهتها يوم أن أتت بالطفلة الأولى ثم الطفل الثاني وادَّعى أن كليهما من إخْصاب رجل آخر، وبعد المراجعة والحوار معه نَفَى هذا الاتهام وأقرَّ بنسب الطفلين له.(27/3)
هناك بين الناس إذًا شكَّاكون يتقلَّبون في الشك بين الشيء ونقيضه، أو هناك مَن يُسرع بالتصديق بأمر ما ثم يُسرع بتصديق ضدِّه. هؤلاء الشكَّاكون أو هؤلاء الذين يُسارعون في التصديق هم ضعفاء الإرادة أو مِن ضعاف الشخصية، هم مُهتزُّون في حياتهم ولا يَستطيعون أن يُبرموا أمرًا وأن يُنفذوا ما أبْرموه وارتَضَوه. ...
هم مترددون بين أن يفعلوا وألاّ يفعلوا، وهم إلى السلبية أقرب منهم إلى الإيجابية في حياتهم، هم سَطحيُّون، لا يتعمقون في الأمر ليقفوا على خصائصه، هم سيِّئو الظن بالآخرين، إن كانوا أزواجًا فهم سيئو الظن بزوجاتهم، وإن كانوا زوجاتٍ فهنَّ سيئات الظن بأزواجهنَّ، حتى الأمهات قد يُسِئْنَ الظن بأولادهم، والعكس كذلك. ومن سوء ظنِّهم بالآخرين يَشكُّون في سلامة تصرُّفهم وفي أمانتهم وفي مودتهم وتعاونهم، ولكنهم لا يَلْبثون في شكهم على حال واحدة؛ اليوم يشكون في أمر مُعين وغدًا يشكون في أمر آخر على الضدِّ منه.
وإذا تُرك هؤلاء المُتَشككون وشأنَهم فإنَّ أمْر التشكُّك يزداد لديهم ويتحول إلى ما يُسمى "بالوسوسة" فالوسوسة هي غلَبة التشكك على الإنسان الضعيف في إرادته. وقد تُصبح "مرَضًا" إذا أسلم نفسه لهواجس الهوى وخواطره. و"الموسوس" إنسان ضعيف الإرادة، سريع التصديق في الشيء وضده، سيئ الظن بالآخرين، تكثُر "السلبية" في حياته بقدْر ما تقل الإيجابية فيها، عديم الثقة بنفسه وبالآخرين، مُعذَّب بكثرة الشكوك، يَخاف مِن غَدِه ولا يطمئن إطلاقًا لمَا يأتي به حتى ينتهيَ عن آخر دقيقةٍ فيه، ومُعذَّب برُفْقته وبصُحبته مَن يكون رفيقًا أو صاحبًا له. فزوجة المُوسوس معذَّبة، وأسرة الموسوس كلها أيضًا معذَّبة، حتى أولاده الصغار، ورفقاء الموسوس مُعذَّبون إذا أصروا على رفقته، وقد ينتهي أمر الموسوس إلى عَزْله نفسَه عن الناس، وإلى ظلام التشاؤم في الحياة، وإلى اليأس فالانتحار.(27/4)
وليس هناك علاجٌ للمُتشكك أو المُوسوس إلا أن يعتمد على الله في حياته، إلا أن يَكِلَ أمرَه إليه، إلا أن يَستعين بربِّه خالقِ السماوات والأرض، فهو وحده المُنقِذ له مِن الوسوسة والشكِّ والتشكُّك؛ إذ هو الذي يدعو رسوله ـ عليه السلام ـ إلى أن يعلن الالتجاء إليه عندما تشتدُّ هواجس النفس (قُلْ أَعُوذُ بربِّ الناس. مَلِكِ الناسِ. إلهِ الناسِ. مِن شرِّ الوَسواسِ الخَنَّاسِ. الذِي يُوَسْوِسُ في صُدورِ الناسِ. منَ الجِنَّةِ والناسِ) فيُستعان بالمولى ـ جلَّ جلالُهُ ـ من شر الوسواس، سواء أكان مصدره هوَى النفس في داخلها وهو أمرٌ لا يراه الإنسان، أو كان مصدره من الناس الأشرار أصحاب الوشاية الذين يُحيطون بالضعفاء ويُؤثرون عليهم بالقول والحكاية. ...
ومعنى الاستعانة بالله ـ جلَّ جلالُه ـ في اتِّقاء شر الوَسْوسة أن يعتقد أولاً في قضاء الله وقدره وأن ما يقع للإنسان في هذه الحياة هو خيرٌ أراده الله له. فإذا اعتقد ذلك قَلَّ تشاؤُمه وابتدأ يتفاءل في مستقبل حياته، وإذا قلَّ التشاؤم قل ظلامه على نفسه، وإذا قلَّ الظلام أمام الإنسان انكشف له نور الحياة، فلا يرى فيها عندئذٍ ما يُثير عدم الثقة في نفسه وفي الآخرين، وعندئذٍ يقلُّ شكُّه وتشككه، وكلمَّا كثر اتجاهه إلى الله في الصلاة تضاءل شكُّه في الحياة أو انعدم. ...
وزوج السائلة وصديق الطالب مُطالَب كل منهما بالاستعانة بالله ـ سبحانه ـ على طرد الوسوسة من نفوسهم، بقراءة المعوذتين كثيرًا، فإن كثرة مُراجعتهما تُطمئن النفس على الاعتماد على الله، وهو نِعْم المولى ونعم النصير. ...
وعلى السائلة بشأن زوجها وعلى السائل بشأن صديقه أن يَصبر كل منهما ويتحمَّلاَ ضَعْف الثقة الذاتية وفي الآخرين، التي تتملَّك الآن شخص الزوج وشخص الصديق، ولو كان لَدَينا بعض المُعالجين النفسيين على أساسٍ مِن فهْم كتاب الله لكان الرد على هذين السؤالينِ هو الاتصال بواحد منهما، ولكن من(27/5)
الأسف أن الكثيرين منهم يَتبعون "فرويد" في طريقة علاجه، وهي ما تُسمَّى بالتحليل النفسي على أساس من العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى.(27/6)
26ـ قيل: إن القِمار محرَّم على المسلمين. فما حكم هذا النوع من اليانصيب الذي تُنظِّمه الحكومة باسم: "حظّك ونصيبك" من حكومة نيجريا الغربية، إذ يدفع كل شخص شلنين ونصف وقد يفوز بثلاثين ألف جنيه "30 ألف جنيه"؟
جاء النهي عن "الميسر" أو القِمار، في صحبة النهي عن الخمر، في قول الله ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ "أي الأصنام المنصوبة للعبادة" والأَزْلامُ "وهى الأقداح التي كان يعرَف بها ما قُسِم لهم" رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ. إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ العَداوةَ والبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنْ الصّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهونَ) (المائدة: 90 ـ 91). فوصفت الآية الأولى من هاتين الآيتين الخمرَ والميسر بأنهما نَجَس، والنَّجس يجب الابتعاد عنه، وبأنها من عمل الشيطان، وعمل الشيطان يجب أن لا يستهوي المؤمن بالله، وبالتالي يجب الحذر منه، ثم طلبت صراحة تجنب أي منهما فقالت: (فاجْتنِبوه لعلَّكم تُفلِحون). فالآية شدّدت في النهي عن الخمر والميسر، وأكّدت ثلاث مرات.
وأما الآية الثانية من هاتين الآيتين فزادت تأكيدًا رابعًا في النهي عن الخمر والميسر، فوضحت نتائجها السيئة على المجتمع فذكرت أنهما يسبِّبان العداوة والبغضاء والخصومة بين الأفراد: في الأسرة وفى الجوار، وفى علاقات الأقرَبين والأصدقاء، وفى علاقات الآخرين معهم.. كما وضَّحت أثرَهما في سلوك الفرد، إذ يَحُولان دون ذكر الله، ودون أداء الصلاة والعبادات الأخرى.. يَتْبَع هواه وشيطانه. ومَن يتّبع الهوى لا يستقيم في سلوكه، ولا يؤمن جانبه. وعندئذٍ يصبح عضوًا فاسدًا في مجتمعه.
ومضمون هاتين الآيتين بالنسبة "للميسر" الذي جاء السؤال عنه هنا، أنه:(28/1)
1ـ نجس، ونجاسته هي نجاسة معنوية، والقصد من الوصف بالنجس: التنفير من مباشرته.
2ـ وأنه من عمل الشيطان. وعمل الشيطان هو كل عمل غير مستقيم ولا ينطوي إلا على ضرَر للشخص أو للآخرين.
3 ـ وهو مصدر للفُرقة والعداوة، ودافع إلى الانحراف والفساد. ومن أجل ذلك كله كان حرامًا.
والمَيْسِر هو الحصول على ربح من غير عمل في سبيله. والشائع عند العرب من الميسر هو اللعب بالسهام المرقَّمة. فكانت توضع السهام بعد ترقيمها في جَعبة، وكان بعضها أسود لا يحمل رَقْمًا، بينما يحمل البعض الآخر منها ثمنًا قليلاً، أو كثيرًا. ثم تسحَب الأسهم. فمَن يخرج سهمه أسود لا يعطى شيئًا، ومَن خرج سهمه يحمل رَقْمًا معينًا حصل من الربح بقدر الرقم المكتوب على سهمه. ويُشبه الميسر ورقُ اليانصيب اليوم. والحرمة التي جاءت في شأن الميسر أيام العرب تنسحب كذلك على اليانصيب الذي يتداول اليوم في بلاد المسلمين، نقلاً عن الغربيّين.
إن القرآن يريد للمؤمنين به أن يمارِس خصائصه الإنسانية من العمل والجِدّ فيه في سبيل رزقه ومعاشه.. يُريد له أن يكون مُطمَئِن النفس، وفى علاقة طيّبة مع الآخرين معه. وهنا كان اليانصيب محرّمًا لأنه يدفع إلى التواكل، والحقد، والقلق.(28/2)
54 ـ سيِدة تقول: كنتُ مثالاً للزوجة المخلِصة الشريفة حتى بلغَتْ سِنّ الأربعين فانحرفَتْ بحكم الظروف مع أعزِّ الناس وأحبِّهم عندنا. فكنتُ أعطِف عليه كالأمِّ. بسبب غياب زوجي فترة كبيرة من الشهور، وبسبب الخَلوْة كذلك معَ أمن المكان.. انقلبت هذه العاطفة الشريفة إلى عكسها.
وقد حاولت مِرارًا الامتناع حتى قُدِّر لي، ورجعتُ عن هذا الطريق، وتُبْتُ إلى الله. وأنا الآن أصلِّي وأحضر الدروس. غير أنِّي أشكُّ عندما أنوي الصلاة في أن صلاتي لا فائدة منها. فما الرأي؟
إن دين الله ـ وهو الإسلام ـ يحرص على أن لا يَربِط مستقبل الإنسان بماضيه الكَريهِ، إن أخلص النِّيّة في ابتداء حياة إنسانية جديدة لا تَمُدُّ إلى ذلك الماضي البَغيض بصلة.. يحرِص على أن يبعث فيه رُوح الأمل والتفاؤُل، كي تكون خطُواته إلى الأمام خطوات مأمونة في سبيل حياة أفضل.
فالوَثَنِي المادِّي ـ وهو أشدُّ أنواع الإنسان إنكارًا للرُّوحيّة، ولوجود الله، ولحياة الآخرة ـ إذا اعترف بخطَئِه في اتِّجاهه، وآمَن بالرُّوحية الإنسانية التي تتمثّل في الإيمان بالله وباليوم الآخر.. يغفر الله له ما مضى في سلوكه ومواقفه ويفتح له الباب للدخول إلى حياة جديدة، ويُحيى فيه الأمل القويَّ في قَبول الله له ورضاءه عنه. يقول الله ـ تعالى ـ: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ "أي فمن رجع عن كفره وإنكاره، إذ الكافر ظالم لنفسه" وأَصْلَحَ "أي سار في طريق الصلاح وهو طريق الإيمان بالله واليوم الآخر" فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) "أي فإن الله يغفر له ما مضى من أخطاء الكفر في اتجاهه" (المائدة: 39).(29/1)
والمؤمنون الذين يُخطئون ويَنزَلِقُون إلى مزالِق الجرائم الاجتماعية. ثم يرجعون عن خطأهم وينجُون بأنفسهم مرة أخرى من الوُقوع تحت إغراء هذه الجرائم، مُخلِصين إلى عودتهم في سبيل الله وهو سبيل الإنسانية في تهذيبها وصفائها.. هؤلاء يَعِدُ الله بالتوبة عليهم بالطريق الأولى، فيما يحكيه قول القرآن الكريم: (إِنَّمَا التَّوْبةُ عَلَى اللهِ للذِينَ يَعْمَلونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ "أي لأولئك الحمقى من المؤمنين الذين ينحرفون في سلوكهم فيرتكبون الفاحشة" ثُمَّ يَتوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ "أي ثم يعودون بعد انحرافهم إلى الله وإلى سبيله في وقت يملِكون فيه شأن أنفسهم ويستطيعون أن يمارسوا فيه مشيئتهم وإرادتهم، وهو وقت حياتهم إلى الموت" فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكيمًا) (النساء: 17).
ففي شأن التوبة على هؤلاء المؤمنين ـ وكذلك المؤمنات ـ تُؤَكِّد الآية هنا: الصفح عنهم إنْ رجعوا عن خطأهم في وقت يَملِكون فيه العمل والإرادة: فتقول في أوّلها: (إِنَّما التَّوْبةُ عَلى اللهِ) وهذا وعد أكيد وضمان لا يَقبَل التخلُّف. وتقول مرة أخرى بعد ذلك: (فَأُولَئِكَ يَتوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) فتعقب بتَكرار قَبول التوبة من الله.
وتأكيد القرآن هنا بقَبول الله لتوبة المؤمنين والمؤمنات، ليُطمئِنَهم على مستقبل حياتهم، وأنّها حياة مُشرِقة باسِمَة بالأمل في الله وقَبوله، وأنَّ عليهم فقط الآن أن يسيروا قُدُمًا إلى الأمام، دون وُقوف عند الماضي والنظر إليه.
وهذه الآية بخُصوصها جاءت أثر مباشرة ارتكاب الفاحشة ـ وهى جريمة الزِّنَا ـ من المؤمنين والمؤمنات.(29/2)
والسائلة في تشكُّكها، في أن صلاتها غير مقبولة عند الله بعد أن تابت وأقلعت عن خطأها، يعود إلى عُمق شُعورها وإلى إحساسها بشَناعة الجريمة التي ارتكبَتْها، وليس إلى عدم الثقة فيما وعد الله من قَبُول التوبة من المؤمنين والمؤمنات، إذا كانت التوبة صادقةً. وأمارة الصَّدق في التوبة هو مثل هذا الإحساس بالخطأ، كما تُحِسُّ به السائلة الآن.
وعليها أن تضع الأمل في الله مكان الشَّكِّ في نفسها. فقد قطع ـ سبحانه ـ الوعد على نفسه. إذ قال: (إِنَّما التَّوْبَةُ عَلَى اللهُ) وهو صادق فيما يعد، جلَّت قدرتُه.(29/3)
103ـ بإرادته سلَّم نفسه للإهانة
يذكر مواطن مُقيم بأحد أحياء محافظة القاهرة إنه أُحيل إلى المعاش منذ سبعة أشهر، وأنه يبلغ الخامسة والستين عامًا ـ ومريض بالقلب، وتَنتابه الأزمة في بعض الأوقات.
وتُوفِّيت زوجته منذ أربعة أشهر وله منها ثمانية أولاد: أربعة من الذكور.. وأربع من الإناث. وبعد مُضِيِّ أربعينَ يومًا على وفاة زوجته عرَض عليه أولاده منها: أن يتزوج ولبَّى طلبهم كما يقول: وعندما مضت ثلاثة أشهر على الوفاة دخل بزوجته الجديدة، وهي بِكْر في الثلاثينَ. ولكن بعد ما دخل بها وقفَ منه أولاده موقفًا سيئًا ومُهينًا.. وانقطع بعضهم عن زيارته.. والبعض الآخر يَزوره بعد فترات طويلة المدَى، وهو لا يطلب منهم مالاً ولا شيئًا آخرَ، مع أنهم مُوظَّفون ومتزوجون جميعًا.. ويسأل:
أولاً: عن رأى الإسلام في زواجه؟
ثانيًا: عن رأى الإسلام في الإهانة التي يَلقاها مِن أولاده؟
إنَّ حالة السائل مِن وصْفه إيَّاها في رسالته هنا: تستدعي الرعاية والعناية به مِن غيره، مَن الذي يرعاه؟ أولاده ـ وهم ثمانية لا يستطيعون أو لا يرغبون في مباشرة مهمة الرعاية لوالدهم، بدليل أنهم اتَّفقوا جميعًا فيما بينهم بعد مضي أربعين يومًا على وفاة والدتهم: على أن يَطلبوا إليه أن يتزوَّج، وقد تزوَّج فعلاً.
... وبعد أن تزوج عابوا عليه: أنه تزوَّج بكرًا في الثلاثين مِن عمرها وهو في الخمسة والستين، وكان ينبغي أن يتزوج امرأة في سِنٍّ مُتأخرة قريبة مِن سِنِّه، وتدخَّلوا بنقْدهم في حياته الشخصية.. وأساءوا في النقْد إلى شخصه.
... وربما يُوافقهم فيما أخَذوه على والدهم في هذا الزواج: أناسٌ غيرهم، ولكن إذا كان هناك وفاقٌ بينه وبين زوجته، في مُعاشرة أحدهما للآخر فليس لأجنبيٍّ عنهما ولو كان هذا الأجنبيُّ من أولاده: أن يتدخَّل في العلاقة بينه وبين زوجته.(30/1)
... ربما قبِلتْ زوجته الحالية الزواج منه لمَا تترقبه من فائدة مادية مستقبلاً، وهي الحصول على مَعاشه، فليس هناك واحدٌ مِن أقربائه يستحق المعاش الآن سواها، وبذلك تضمنُ لنَفسها معيشةً فيها رخاءٌ أكثرُ مِن ذي قبلُ، وإذَن ليس الأمر بينه وبين زوجته ما يَستحقُّ التعليقَ عليه من أبنائه أو مِن غيرهم.. وليس هناك ما يغضب زوجته منه.
وأيًّا كانت الدوافع لدَى زوجته على قبول الزواج منه، طالمًا كان هناك وفاق بينهما فالإسلام يُباركه، ولا يتدخل فيه إطلاقًا إلا إذا وقع ضررٌ على واحد منهما أو كليهما، عندئذ قد تكون الفُرقة بينهما ضرورية: إما بتطليقِ الزوج.. أو بإختلاع الزوجة منه.
ويأتي بعد السؤال هنا عن موقف الإسلام مِن الزواج، مَوقفه من الإهانة التي يُوجهها الأولاد إليه، والإسلام ـ وهو الذي يأمر بالإحْسان إلى الوالدينِ ـ يَعتبر قطعًا أن أَيَّة إهانة تُوجَّهُ إلى الوالد مِن أحذ أولاده، أو منهم جميعًا: ضد ما يأمر به من الإحسان إلى الوالدينِ.
فمُقاطعته، وعدم التردُّد عليه للزيارة: ضد الإحسان إليه.
وتوجيه النقد؛ لأنه تزوج بنتًا بكرًا، لم تتجاوز الثلاثين من العمر، ضد الإحسان إليه.
... وإهانته، والاستخفاف به، واستخدام البذاءة في الحديث معه: ضد الإحسان إليه.
... وإرهاقه ـ وهو مريض بالقلب وتنتابه الأزمات ـ بالتفكير في إساءة أولاده إليه في علاقتهم به: ضد الإحسان إليه.
... هو في حاجة إلى الراحة النفسية قبل حاجته إلى الراحة البدنية، ولو كان يعلم مِن قبل: أن الزواج بغير أم الأولاد بعد وفاتها: سببٌ لانتقام الأولاد منه في صورة ما: لمَا أقدم على الزواج.. ولمَا عرَّض نفسه للتجريح والإهانة منهم، فمِن الأصوات التي كانت ترتفع من أولاده ضده، صوت كان يطلب منه ويسأله، لماذا لم تحزن على أمِّنا، ولا تتزوج أبدًا"؟ فهذا الصوت يُحدِّد الدافع في مواجهة والدهم، وهو صوت الانتقام منه، لعدَم الوفاء منه لوالدتهم!(30/2)
إن الوالد يحمل الآن عِبْءَ نفسه في المرض.. ويحمل عبء زوجته فيما يجب عليه كزوجٍ نحوها.. ويحمل عبء الخُصومة النفسية بينه وبين أولاده.. وعبء غضبهم منه.. هل يحتمل هذه الأعباء؟ ولمدة طويلة؟.
إن الواقفينَ الخيِّرينَ مِن المسلمين السابقين، قد حبَسوا من أملاكهم على رعاية أصحاب الشيخوخة في سنواتهم الأخيرة ما يُمكنهم من الحياة في غير أعباء.. وفي غير هموم وأحزان.. ولكن أصحاب الزعامات في المجتمعات الإسلامية بعد استقلالها أساءوا إلى هذه الحُبوس فعرَّضوها للضياع وبَقِيتْ مشاكل الناس من غير حلول. اللهم كُنْ في عوْن هذا السائل هنا، واخترْ له ما يحفظ عليه كرامته الإنسانية.(30/3)
33 ـ سوء السلوك والتصرُّف يُحرج علاقتها بأولى الرحِم:
سيدة بإحدى المحافظات تشرح:
أن علاقتها بجدتها وأخوالها الثلاثة علاقة سيئة، بسبب ماضٍ بغيض لها، وقد رجعت إلى الله، ومع ذلك لم يرجع أقاربها إلى مودتها، رغم أنها وسَّطت بعض وُسَطاء الخير في إزالة سوء التفاهم بينها وبينهم.
وتسأل: هل في استمرار المقاطعة معصية للخالق؟
لا شك أن مسلك السائلة في الماضي ـ وهو مسلك مُشِين ـ قد أغضب أصحاب رَحِمها من الجدة والأخوال، بحيث أنهم كانوا يتأسَّفون على وجودها بدلًا من أن يُسَرُّوا بها بينهم وبالأخص الجدة، وليس من السهل ولا في الوقت القصير: أن يزول الأثر البغيض من نفوسهم الذي خلَّفه طيشُها وحماقتها.
ولكن ليس معنى ذلك أن يُصِرَّ أصحاب رَحِمها على مقاطعتها. فقد يتسبَّب الإصرار في يأسها، وبالتالي قد يدفعها من جديد إلى مغامراتها السابقة، فتسوء سُمعتها، كما يُضارُّون هم أيضًا في وضعهم الاجتماعي بسبب سمعتها السيئة، بل يجب عليهم أن يتقبلوا توبتها ورجوعها إلى الله في سلوكها؛ فليس هناك إنسان لا يُخطئ. والذي يتوب بعد خطأ ارتكبه هو أفضل من ذلك الذي يُخطئ ويُعاند في بقائه على الخطأ.
فاذا عاد أولو رحمها وعدلوا عن مقاطعتها كان من اليسير عليهم أن يُوجِّهوها التوجيه السليم. وكان من السهل عليها كذلك: أن تتقبَّل مشورتهم. ثم في وجودها بين أحضانهم تضمن كفالتهم لحياتها ومستقبلها، و بذلك تسير بخُطًى ثابتة في طريقها وتستطيع أن تدفع عن نفسها الآن ما كان يحملها على الانزلاق فيما مضى.
وهكذا: عدم مقاطعتها من أُولِي رحمها هو الحل الإسلامي الذي يرضى عنه الله؛ اذ كل ما يُقَوِّم المُعْوَجَّ، ويَحُول دون الانحراف ويَزِيد في تماسُك الأسرة يرضى عنه الله ويَجزِي عليه بالحسنى.(31/1)
62 ـ أنا متزوِّج ولي أولاد. وكانت أمي قبل وفاتها قد بلغت الكبرَ، ولم أقُم بواجبي نحوها، ولم أُحسن معاملتها. وقد كان ذلك بسبب حالتي المادّية. وأنا الآن وقد مَنّ الله عليَّ بالخير. فهل أستطيع أن أعمل لها شيئًا بعد وفاتها؟
إن السائل يذكر في سؤاله أنه كان له مبرِّر في التقصير في حقِّ والدته، وهي على قَيْد الحياة. وهو قصور يده، وعدم تمكُّنه ماديًّا من رعايتها، كما ينبغي. واعتذاره الآن بعد وفاتها عن التقصير يُنْبِئ بأنه كان يعتَرِف بفضلها عليه، وكان يتمنّى أن لو كانت له من الإمكانيات ما يحقِّق الواجب عليه نحوها من الرعاية والإكرام. وأعتقد أن اعترافه هذا كافٍ في النَّدَم منه. والأمر متروك لله سبحانه في أن يغفر له تقصيره، إن كان هناك تقصير منه.
أمّا ما ينبغي أن يفعله الآن لها بعد موتها: فإن كان يُريد أن يضيف إلى أعمالها التي باشرتها في حياتها عملاً خَيِّرًا لها، أو يتحمّل عن أخطائها التي ارتكبتها بما يُنفقه على أصحاب الحاجة بعدها، فإنَّ كل إنسان يُكتب له عند الله عمله فقط: (وكُلَّ إنْسانٍ أَلْزَمْناهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ "أي ألزمناه بعمله، فهو مطوَّق به لا ينفكُّ عنه" ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقَاهُ مَنْشورًا. اقْرَأْ كِتَابك كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسيبًا. مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ولاَ تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى "أي ولا تحمل نفس أخطأت خطأ نفس أخرى" وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسولاً) (الإسراء: 13 ـ 15). أي أن كل إنسان مُلْزَم عند الحساب والجزاء، بما كان له هو فقط من عمل: خيرًا.. أو شَرًّا. والمسؤولية الفردية في نظر الإسلام ركن أساسي عند تقييم الإنسان.(32/1)
ولكن يستطيع السائل: أن يُريح ضميرَه الآنَ بأن يَرعَى زوجتَه وأولادَه خيرَ رعاية.. ويَبَرَّ بأقربائه من ذَوِي الحاجة. فوالدته كانت أقصى ما تَتَمَنَّاه لنفسها أن ترى ولدها، وأن ترى أسرته معه في حال ازدهار: في التهذيب، والسلوك الطيّب.. وفي المعيشة.. وفي حِرْص الولد على أداء واجبه في الوظيفة والعمل. ونحو الآخرين في المعاملات معهم. أما صلة الأقرباء بسَدِّ حاجاتهم فهي تُقرِّب نفوسهم إليه، وتجعلهم في بُعد عن الحقد عليه. وهذا جانب آخر يَزِيد من ازدهار وضعه في الحياة.
فإن كان في دائرة إمكانيّاته المادِّيَّة بعد ذلك ما يستطيع أن يُسهِم به في مصلحة عامة في أمته ومجتمعه، فذلك خير له عند الله، وهو لا يَنْشُد من إرضاء والدته الآن بعد وفاتها سوى رضاء الله عنه: (مَنْ ذَا الذي يُقْرِضُ اللهُ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرةً واللهُ يَقْبِضُ ويَبْسُطُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة: 245). فالذي يُنفِق في سبيل الله، وفي سبيل المصلحة العامّة كأنه يُقرض الله قرضًا حسنًا، فيُؤَدِّي له الله أداءً مُزْدَوَجًا، إن في صحته وصحة أسرته وأولاده.. وإن في ستر الله له.. وإن في توفيقه في سبيل هدايته، وبُعده عن الشرور والآثام.. وإن في نماء ثروته ونجاح أولاده.
وإرادة السائل الخيِّرة هي عَوْن له على النجاح في مستقبله. وكثير من الذين ارتكبوا أخطاء في ماضيهم، كانوا بعد توبتهم إلى الله وإيمانهم بطريقه المستقيم: من خيار المؤمنين سلوكًا وتوفيقًا.(32/2)
58ـ طلبتُ من والدي أن يتبرَّع بقِطْعة أرض لبناء مسجد عليها، ولكنه رفض. فقاطعتُ والدي، وامتنعتُ عن معونتي الشهرية التي أقدِّمها له، وهى ثلاث جنيهات ونصف الجنيه. فهل أكون بتلك المقاطعة عاقًّا لوالدي؟
يُروَى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "جعِلتْ لي الأرض مسجدًا".. أي أن كل مكان في هذه الأرض صالح للعبادة عليه، في نظر الإسلام. والإسلام بذلك لا يعقِّد أداء العبادة واتصال الإنسان بالله، بحيث يشترط أن تكون في أبنية خاصة وأمكنة معينة.
كما يُروَى عنه ـ عليه السلام ـ أن الصلاة في جماعة تعدِل خمسًا وعشرين صلاة. فإذا صلاّها في فلاة "أي في الصحراء" فأتَمَّ ركوعها وسجودها، بلغتْ خمسين صلاة". أي أن الصلاة في الصحراء تتميَّز في القَبُول عند الله عن صلاة الجماعة في المسجد. في حين أن صلاة الجماعة في المسجد أفضل من صلاة الفرد في المنزل. وربما كان تميُّز الصلاة في الخلاء الواسع يرجع إلى أن المصلِّي فيه يتفرّغ للاتصال بالله كلية، لا يشغله فيه شاغل إطلاقًا. وهذا التفرُّغ الكامل أقرب إلى روح الصلاة وأقرب إلى تحقيق هدفها من الاتصال بالله.
ولكن ما جاء في هذين الحديثين لا يَحُول دون فضل المسجد، وفضل إقامته، وفضل القائم به عند الله. والذي يُقيم المسجد يُؤْجَر على إقامته إذا كان صاحب مشيئة واختيار تامَّين في إقامته. وكذلك مَن يُشارك في إقامته بالتبرُّع بالأرض الذي يُقام عليها، كما هو الوضع الآن في سؤال السائل.
والوالد هنا لا ينبغي أن يُكرهَ على التبرُّع بأرض يملِكها لإقامة مسجد عليها، من ولده أو ممَّن عداه؛ لأن عمل المُكَره لا يُقبَل، ولو كان ما يُكره عليه هو الإيمان ذاته. فالإسلام يعلِّق أهمية كبيرة على مشيئة الإنسان وعلى مُمارَستِه لهذه المشيئة؛ لأنه يرى أن المؤمن مُلْتَزِم بنفسه، وليس مُلْتَزِمًا من غيره. وهنا كان قوله تعالى: (لاَ إِكْراهَ فِي الدِّينِ).(33/1)
فإذا خاصَم الابن والده، بسبَب عدم مُوافَقَتِه على التبرُّع بالأرض التي أرادَها الابن لإقامة مسجد للعبادة عليها ـ وهو عمل خيِّر ـ كان مُخالِفًا بمُخاصَمَتِه أباه لِمَا ينصح به الله الأبناء بالإحسان إلى الوالدين، وبتجنَّب ما يسيء إلى شعورهما. والإحسان أعمُّ من مساعدتهما بالمال. وقد وضَّحه قول الله ـ تعالى ـ: (وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدوا إِلاّ إِيّاهُ وبِالوَالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحدُهُمَا أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) (الإسراء: 23). فهنا عُنِيَ القرآن بالإحسان في جانب القَوْل، بحيث يجب أن يخلُو تمامًا من التعبير ممّا يُؤذِي إحساسَهما.
والمُخَاصَمة، وقطع المساعَدة عن الوالد، كل منهما ينطَوِي على جَفوةٍ في المُعامَلة، وقسوة في إيذاء الشعور والإحساس.
والمؤمِن بالإسلام لا يُريد الخير بفعل ما يُغضب الله. وإرضاء الوالد هنا سابق عند الله في القَبول من الإكراه على المُساهمة في إقامة المسجد. ويكفي للسائل عند الله أن تكون له نيّة الخير في إقامة المسجد. وإرضاء والديه بعد ذلك بِرٌّ يؤجَر عليه. وعندئذٍ يكون له أجران: أجر النِّيّة على الخير، وأجر البِرّ بمباشرته.(33/2)
44 ـ تلميذ يقول: أحيانًا آخذ من جيب والدي قرشًا أو قرشين من غير علمه. وإنِّي لا أفعل هذا مع غير والدي. فما الحكم؟
إنَّ صِلة القرابة بين التلميذ ووالده هنا لا تبرِّر ما يفعله من أخذه قرشًا أو قرشين من مال الوالد من غير علمه.
وإن ضآلة ما يأخذه ـ أيضًا ـ في كل مرة من قرش أو قرشين في غير علم والده لا يُضفي الحلَّ والمشروعية على تصرُّفه.
وإن كون تصرُّفه هذا لا يتجاوز به والده إلى غيره لا يعفيه من المسؤولية الأدبية والشرعيّة فيما يصنعه.
ففعله هذا في عِداد السَّرقة والاختلاس؛ لأن السرقة أو الاختلاس الاستيلاء على مال الغير خفية، وفي غير إذن منه. وهو يدلُّ هنا ـ في هذه الحالة ـ على جُبن التلميذ أو على ضعف الثقة في والده. ويدلُّ من جانب آخر على أن الوالد في عزلة تامة عن حياة ولده، فقوة الثقة من جانب الابن في أبيه تحمِله ـ أي الابن ـ على أن يُصارِحه بكل احتياجاته، ولا يلبِّي بعضها خفية عنه من ماله، على نحو ما يصنع هذا التلميذ السائل.
واتصال الوالد بولده، ووقوفه على شؤونه، والتعرُّف من وقت لآخر على احتياجاته تجعله نفسه يعرِض عليه من المال ما هو في غنًى عن سرقته واختلاسه منه.
فهذه الظاهرة ـ وهى ظاهرة أخذ المال القليل خفية من الوالد ـ تعبِّر عن شبه "أزمة" في العلاقة بين الوالد وولده. وهى أزمة قد يكون لها أكثر من سبب. وترجِع جميعها إلى التربية وطريقتها.
على أن هذا الفعل من التلميذ إن قصره اليوم على مال والده، قد يصبح أخذه من مال الغير بصفة عامّة من عاداته. وهى عادة لا تقف به عند حَدّ المال. بل تتعداه إلى كل شيء مرغوب فيه يسلك إليه طريق السِّرِّيّة والتخفِّي، والاستيلاء عليه ولو بالغصب والإكراه. وهنا تتكوَّن لديه الجرائم الخُلقيّة، تحمل عليها رغبة الحصول على كل شئ ما، وفي سبيل الاقتناء تُركَب الجريمة المناسبة.(34/1)
إنها على أية حال ـ إن اعتُبِرت عوامل عديدة للتخفيف من أمرها وإبعادها عن الجريمة الواضحة ـ عادةٌ من العادات السيئة التي تجرُّ إلى عادات أخرى أسوأ منها.
والرأي ـ بغضِّ النظر عن حرمة الفعل وعدم شرعيته ـ أن يصارح الولد والده بالأمر، ولا يجبُن ولا يخشى في هذه المصارحة. وعلى الوالد أن يعفوَ عما سلف فلا يؤنِّب ولده، ويرعى شؤونه وتوجيهه في دِقّة وفي متابعة. ويجعل منه صديقًا يستشيره ويُشير عليه، كما يعمل على تقوية الرابطة بينهما، بحيث تترجم عن ثقة تامّة متبادَلة.
وبهذه الثقة وحدَها يتقِّي الوالد كثيرًا من أخطار تَطوُّر المراهَقة في حياة ولده. وبهذه الثقة كذلك يشعر الولد باعتباره الإنساني وبقيمته في الأسرة، وبالتالي يحرص دائمًا على أن يكون موضع هذه الثقة فيحسِّن في سلوكه ويتروَّى في تصرُّفاته، ويجدُّ في عمله الدراسي، أو في عمله الآخر بعد الدراسة وإنهائها.(34/2)
64 ـ رجل اعتاد الاستيلاء على راتب زوجته، قوة واقتدارًا، بدعوى أنّه يستعين به على مصروفات البيت. ثم هو يُغالي في البذَخ والإسراف، اعتمادًا على هذا المرتَّب. فما رأيكم؟
إن الزوجة ـ في نظر الإسلام ـ مُستَقِلّة في مالها.. وفي رأيها.. وفي اعتقادها. ولها شخصيتها الخاصة بها تدخل بها عقد الزواج، كما يدخل الرجل بشخصيته الخاصة هذا العقد أيضًا.
وللزوجات حقوق قبل الأزواج، مثل ما للأزواج حقوق قبلهُنَّ: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْروفِ) (البقرة: 228).
ودرجة الأزواج على الزوجات في الأسرة هي درجة الإنفاق عليها.. ودرجة المواجهة في الحياة، عند تنفيذ ما يستقِرُّ عليه الرأي في شؤون هذه الحياة بين الزوجة والزوج وبقية أعضاء الأسرة. فالشورى مبدأ أساسي في صفات المؤمنين: (وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38). ولا يلغيها أنَّ للرجال درجة علي النساء في الأسرة.(35/1)
ودليلُ أنَّ الزوجة مستقلّة في مالها أن مهرها ـ وهو منحة من زوجها لها ـ إذا دخل في ملكها لا يجوز لزوجها أن يستردَّ منه شيئًا إلا في حالتين: في حاله رضاها هي، كما يقول تعالى: (وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ "أيْ مُهورَهُنَّ" نِحْلةً "أي منحة وعطية" فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) (النساء: 4) أي فإن تنازلت الزوجات عن شيء من مهورهن التي هي منحة من أزواجهن، عن طيب خاطر إلى الأزواج.. فليس هناك حرَج في أن يقبلَه الأزواج. إذ هو حلال لهم الآن.. والحالة الثانية أن تفدي الزوجة نفسَها بمهرها أو ببعض منه للتخلُّص من سوء عشرة زوجها لها عندئذٍ يجوز للزوج أن يأخذه في مقابل فِراقها منه. ويقول في ذلك القرآن الكريم: (ولاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاّ أَنْ يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229) أي ليس هناك حرج على الزوجة في تنازلها عن المهر أو بعضه.. وليس هناك حرج أيضًا على الزوج في قَبول ما تنازلت عنه. إذا تعيَّن ذلك حلاًّ لرفع الضَّرَر عن الزوجة من سوء عشرة زوجها.
وإذا كان وضع المهر بين الزوج والزوجة هو على هذا النحو.. فمال الزوجة الخاصّة بها، كالمرتَّب مثلاً، لا يجوز قطعًا للزوج أن يأخذ منه شيئًا، إلا برضاء الزوجة وطيب نفسِها، وأخذ شيءٍ منه كَرْهًا ـ سواء أكان هذا الإكراه مُقنَّعًا أو مكشوفًا ـ فإنه يُعتبر غصبًا. والغصب حرام على المغتصِب، ويجب عليه ردُّ المغصوب لمَن اغتُصب منه. وعقد الزوجية لا يبرِّر أي ضغط على الزوجة: إن في مالها أو فيما تراه وتعتقده.(35/2)
أمّا الإسراف في الإنفاق فرسالة الإسلام استهدفتْ منعه، دون أن تحرِّم الاستمتاع بمتع هذه الحياة الدنيا. وطلبَت الاستمتاع بها ـ وهى كل ما أنعم الله به على الإنسان من مادِّيّات هذه الحياة ـ ولكن في اعتدال، دون إسراف.. ودون تقتير. يقول الله ـ تعالى ـ في صفات عباد الرحمن: (والذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67) "أي وكان إنفاقهم وسطًا بين الإسراف.. والتقتير، والوسط بينهما هو الاعتدال. وقد أباح الله الاستمتاع بكل مُتَع الحياة، ولكن حرَّم فقط الإسراف فيها في قوله: (وكُلُوا واشْرَبُوا ولاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
والزوج ـ كما جاء في سؤال السائل ـ الذي يُكره زوجته على أخذ مرتَّبها منها، ويسرِف في إنفاقه يَرتَكِب أمرين حرَّمهما الله: يرتكب غَصْب المال، كما يرتكب الإسراف في إنفاقه. ثم يسيء بهذا وذاك: إلى عِشْرة زوجته. وهو من أجل ذلك زوج غير صالح، ولا يُرجَى منه الخير.(35/3)
55 ـ إنسان يُهين أباه ويعتدي عليه باستمرار، ويكتفي بأنَّ أمَّه راضية عنه وتدعو له. فما الرأي؟
مهما أساء الوالد، ومهما أساءت الوالدة إلى أولادها.. فإنه يجب على الولَد أن يعاملهما بإحسان، أي يجب عليه أن يعاملهما برِفق وبحنان وعطف عليهما؛ لأن الوالد أو الوالدة يستحيل على أيٍّ منهما ـ إلا في حاله الجنون أو الشذوذ ـ أن يقسُوَا على الولد قسوة ضارّة. وذلك بحكم عاطفة الأُبُوَّة، وهي أقوى بكثير من عاطفة البنُوَّة نحو الوالدين. ولذا لم يُوصِ القرآن الكريم الأبوين بالمُعاملة الحسَنة إلى الأولاد، وإنَّما كانت وصايتُه إليهما تحذيرهما من الافتتان بأولادهما، على نحو ما يقول الله ـ تعالى ـ: (واعْلُموا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنةٌ وأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال: 28). فقد قرَن الأولاد مع الأموال في التأثُّر بها والطغيان عن طريقها.
بينما ينصح الأولاد بمعاملة أبَوَيْهِم معاملة كريمة إذ يقول: (وقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدوا إِلاّ إِيّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء:23-24) ... فيطلب بوجه عام الإحسان إلى الوالدين. وهو الرِّعاية المهذَّبة. ثُمّ على الخُصوص يطلب عدم إيذاء إحساسهما بالتعبير عن الضَّرر منهما، كما يطلب الطاعة لهما المُنْطَوِيَة على العطف عليهما، والتذكُّر دائمًا بما قدَّماه من رعاية وعناية، يوم أنْ كان الولد صغير السِّنِّ، ضعيف الشأن.(36/1)
لم يُوصِ القرآن الأباء والأمهات بالرعاية الكريمة إلى الأولاد، اعتمادًا على عاطفة الأبوة القويّة عندهم. وخَشِيَ من قوة هذه العاطفة أن بها الآباء والأمهات فيترُكون أولادهم مدلَّلين، أو يستعينون بهم في الشَّرِّ.
وأوصى الأولاد بالمعاملة الكريمة للآباء والأمهات؛ لأنَّ عاطفة البُنُوّة وحدَها عندهم غير كافية على الدفع نحو الرعاية المهذَّبة لهم.
والإنسان الذي يُهين أباه هنا لم تقْوَ لديه عاطفةُ البنُوَّة على تجنيب والده الإهانة، ولم يتبع فيها ما أوصى الله من مُعاملته مُعاملة كريمة. وقد اتَّبع فقط في معاملته: هواه نحو أُمّه. فهو عاصٍ لله في هذه المعاملة.
ولو أراد أن يُوصَف بأنّه إنسان لأدرك أنَّ من إنسانيته أن يعامل أباه معاملة أخرى مهذّبة، مهما كان بينه وبين والدته من خُصومة، أو بينهما من نَفْرة. إن الحياة الآن مُقبلة على الابن، ومولّية عن الأب. والابن لذلك أقوى، والأب لذلك أضعف. ومن الإنسانية أن لا يقوى القويُّ على ضعيف، إن لم يساعده.(36/2)
38 ـ موظَّف مُدمِن على التدخين يُرهِق أباه رغم مسئوليته الكبيرة نحو إخوته
يذكر مواطن بالقاهرة:
أنه على المعاش الآن ويتقاضى من معاشه عشرة جنيهات في الشهر بجانب دخْل صغير من عمل إضافي يُمارسه. وأسرته تتكون من عشرة أشخاص، منهم ثمانية قُصَّر وبينهم فتاة مُقبِلة على الزَّواج، وولد يعمل ويُدَرّس، وعمله يُمكِّنه من الاستمرار في دراسته، وولد آخر يبلغ الخامسة والعشرين من العمر كما يبلغ مرتَّبه الشهري خمسةً وعشرين جنيهًا، يُنفِق منها عشرة جنيهات شهريًّا على التدخين؟
وهذا الأخير يُطالب والده بمُساعدته على الزواج. والوالد يرى في مساعدته على الزواج حرَجًا في الإنفاق على أولاده القُصَّر بعد ذلك، وحرَجًا آخر في تجهيز ابنته، ويسأل: ما حكم الإسلام في ذلك؟
الوالد ـ في هذا السؤال ـ يُفكِّر في أولاده جميعًا ويهتم بهم دون نفسه، فالأمر الذي يشغله هم الأولاد أوَّلاً.
والولد الأكبر ـ وهو الموظّف ـ يُفكِّر في ذاته أوّلاً دون والده وأخواته. والأمر الذي يشغله كيف يُدبِّر مستقبل حياته، ولو بنفقات إضافيّة على حساب مستقبل أخواته الصِّغار وأبيه الضعيف.
والفجوة بين الطرفين في هذه المشكلة فجوة واسعة. والوالد لا يستطيع أن يخطوَ خطوةً ولو صغيرة للقاء ولده الأكبر الطالب مساعدة والده له في الزواج. لأنَّ حرَج الوالد يبتدئ عندما يبتدئ السير نحو هذا اللقاء.(37/1)
وإذن الذي عليه أن يتحرّك خطوات للقاء الوالد هو الولد المُوظّف. وتحركه في السعي ـ ولو مؤقَّتًا ـ نحو اكتفاءٍ ذاتيّ فيُوفِّر أوّلاً: العشرة جنيهات التي يُنفِقها كل شهر من مرتّبه البالغ خمسًة وعشرين جنيهًا وبذلك يحقِّق شيئين: ترك عادة التدخين. وهي عادة سيئة تهدِّد صِحّته. كما تُهدِّد استقلاله. فترك العادات السيئة يجعل استقلال الإنسان عن الخضوع لهذه العادات وعن هواه، حقيقةً واقعة. فلا يعمل تحت تأثيرها، فيتلوّن عمله بمِزاجه، ويتبع إنتاجه كمًّا وكيْفًا لمدَى تأثيرها عليه.
والإنسان المُستقِلّ في حُكمه وتقديره، وفي عمله وإنتاجه هو إنسان صالح للحياة، ومُؤهَّل للقيادة السليمة. وهو يختلف تمامًا عن هذا الولد الموظَّف الذي لا يرى في حياته إلا اتباع عاداته وهواه استجابةً لأنانيته.
وإذا وصل الولد إلى الاكتفاء الذاتي، فقد يرى تأخير الزواج لفترة أخرى إلى حين اكتمال التَّنشِئة لأخواته القُصَّر أو زواج شقيقته. وعندئذٍ يستطيع الوالد أن يُعينه على تحقيق رغبته في الزواج، مما كان يُنفِقه على أبنائه الصِّغار.
وربما يستطيع واحد منهم أو أكثر أن يُشارك في مساعدته بصورة ما، كما هي العادة بين الإخوة في الأُسرة الواحدة.
واكتفاء الولد الموظَّف ذاتيًّا هو أدنى ما يجب منه في هذه الفترة نحو أخواته وأبيه. ثم إن الزواج للشابِّ يُطلَب إذا كانت له إمكانيات الأسرة في الإنفاق على الزوجة وفي معاشرتها. فإذا لم تكن له القدرة على الإنفاق عليها فلْيُمارِسِ الصوم من وقت لآخر. وهو معنى الحديث الشريف: "يا معشرَ الشباب: مَن استطاع منكم الباءةَ "أي مُؤَنُ الزواج من الإنفاق والقدرة على المعاشرة الزوجية" فلْيتزوّجْ. ومَن لم يستطع فعليه بالصوم. فإنّه له وِجاء". "أي وقاية".(37/2)
والشباب قبل الإقدام على الزواج، والنَّسْل، وحَمْل أعباء الأسرة والأولاد مدعوٌّ إلي تنمية ذاته أوّلاً بالاستمرار في التزوّد بالمعرفة إن كان صاحب ثقافة خاصّة، أو بالتدريب إن كان صاحب مهنة أو حِرْفة، أو بالسَّعْي والحركة المدروسة إن كان صاحب تجارة أو صناعة. وبذلك يشغل نفسه فترة أخرى قد تطول قبل أن يختار زوجته وتكوين أسرة له. فإذا سعى الآن للزواج بعد تنمية ذاته فإنه يسعى وهو مطمئِنٌّ.. وهو مستقِلٌّ عن أيّة تبعية أخرى. وسعْيه كذلك إلى الزواج في هذا الوقت سعْيٌ قائم على التروِّي، ليس للانفعال أثَرٌ يذكر فيه.
ولكنَّها العادة هنا في مجتمعاتنا التي لا تَترك للشَّباب فرصةً بعد التخرُّج من الجامعة، أو بعد إنهاء الدراسة في أي مستوى ـ يفكِّر في مراجعة أمر نفسه وموقفه في الحياة مُستقبَلاً. فكما يقدَّم في سهولة له العمل بعد التخرُّج الذي يؤجَر عليه ـ أي نوع من العمل، وأيّ أجر يؤجَر عليه ـ يَنتظر أن تُقدَّم له الزوجة كذلك في سهولة يتكفّل بها والده، كما قد يتكفّل بمُساعدة إضافية تُعينه بالاحتفاظ بأسرته الجديدة.
إن الشباب في مجتمعنا في حاجة ماسّة لدخول مجال "التجربة" في الحياة.. يترك فيها وحده: يختار ميدانَها، ويستخلص منها وحده الطريق إلى مستقبله. أمّا أن يتخرَّج وينتظر من غيره أن يُسنَد إليه العمل، حكومة أو خلافها.. ثم ينتظر من غيره أن يزوِّجه والدًا أو سواه... ثُمَّ يترقَّب من غيره أن يُنفق على أهل بيته ذا قرابة قريبة أو بعيدة.. ثم ينتظر أخيرًا من غيره أن يكون بجانبه: رئيسًا أو صاحب جاهٍ: فذلك يُبقيه دائمًا في مرحلة الطفولة الإنسانية، وقلّما يكون يومًا ما إنسانًا رشيدًا.(37/3)
والأخ السائل: عليه أن يُواجه الآن ابنه الأكبر الذي يريد المساعدة على الزواج: بأن يقول له: عليك أن تسعى بنفسك لتكون رجلاً يَحِلُّ مَشاكِله بطاقته وإرادته وتدبيره هو، بعد أن بلغت، وتخرَّجت. واتركْني لإخوتك فإنَّهم أحوج إليَّ منك.(37/4)
160 ـ ما حكم الذين يُسيئون إلى سُمعة النّاس ويُشيعون السوءَ عنهم؟
الجواب:
يقول الله تعالى: (إِنَّ الذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخِرةِ واللهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. ولَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ وأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (النور: 19 ـ 20). (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبُعوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ ولَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا ولَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 21).
في هاتين الآيتين يحذِّر القرآن الكريم من إشاعة السوء والفاحشة في حقِّ المؤمنين. وهم الذين استقاموا في مسلَكِهم وتجنَّبوا الانحراف في معاملة أنفسهم ومعاملة غيرهم.
ويَصف مَن يُشيع السوء في حقّ هؤلاء بأنّه متّبِع لخطوات الشيطان. ومن شأن الشيطان أن يأمر ويُغرِي أتباعه بالفحشاء والمنكر.
ولم يترُك القرآن هنا التعقيب على مروِّجي السوء والفاحشة بأن لهم عذابًا أليمًا في الدُّنيا والآخرة، وعلى إغراء الشيطان عامة بأنّه لولا وقاية الله منه لم ينجُ أحد من الوقوع فيه، مما يدلُّ على أن ميل الإنسان عادةً من التردِّي أيسر من تطلُّعه إلى السمو والصعود في السلوك والمعاملة.
وتحريم إشاعة السوء والفاحشة في نظر الإسلام ـ إذن ـ لأنّه:(38/1)
أولاً: ينطوي على خُلُقٍ لا ينبغي للإنسان أن يتَّصف به وهو خلق عدم التهذيب بالاعتداء على حُرمة الغير وإنَّما دخل في مجال ما يباشره الشيطان. والشيطان أينما يُذكَر.. يُذكَر على أنه مصدر الانحراف والشراسة، وأنه على النقيض ما ينبغي أن يتوفَّر للإنسان من خلق كريم طبقًا لما ترسُمه رسالة الدِّين في تصرُّف الفرد وفي ترابطه وعلاقته مع غيره. وأمارة الخلق الكريم تجنيب الإيذاء والضرر للإنسان عامّة سواء أكان لنفسه أم لآخرين معه في مجتمعه.
وثانيًا: لأنَّ إيذاء إشاعة السوء والفاحشة بالنِّسبة للمؤمن خاصة ـ وهو ذلك الإنسان المستقيم ـ لا يصوِّر الاعتداء على حرمة الإنسان وخصوصيّاته فحسْب. وإنَّما كذلك ما فيه من فجور الاختلاق والكَذِب عليه يدلُّ على بعد المروج للسُّوء عن الإنسانية بعدًا كليًّا. وهنا كان توعُّد الله له بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. أمّا في الدنيا فلاحتقار الناس له وحذرهم من الاختلاط به ومن مجالستِه. وأمّا في الآخرة فلبُعده عن رضاء الله. وليس هناك ما يؤلِم الإنسان في حياته مِن عَزْله والبعدِ عنه.
والإسلام يستهدف دائمًا أن يكون الإنسان إنسانًا لا يسقُط عن مستوى الإنسان، سواء: في التفكير، أو في السلوك، أو في الاعتقاد. ورسالته هي رسالة أينما كان ويكون في دائرته الخاصة أم في تلك الدائرة العامّة التي تجمع بينه وبين غيره.
وهنا ما يُحرِّمه الإسلام هو ما يستتبع الأذى والضرَر، أو يَشين الإنسان ولا يَليق بصورة خلقه بين المخلوقات.
ومَا يفرضه الإسلام ويوجِبه هو من المقوِّمات الضروريّة لصلاح الفرد وبقائه وصلاح المجتمع الإنسانيّ وتماسُكه. ومن هنا كان الإسلام نظام الحياة للإنسان، بخاصة وعامة.(38/2)
79 ـ طلَّقتُ امرأتي لتركها الصلاة، بعد ما أنجبت منها طفلين. وعندما أذهب لإعطاء أولادي نفقتَهم أجِدُهم في حالة سيئة. فعلى مَن يقع الذنب؟
نعم، إنَّ الصلاة عبادة يهتمُّ بها الإسلام أكبر اهتمام، لا لأنَّها عنوان المسلم، ولكن لأنَّها تصفِّي النفس وتَصلها بالله طَوال الحياة اليوميّة. وعن طريق صفاء النفس والصلة بالله تكون استقامة المصلِّي في سلوكه. وفي علاقته بغيره، وفي أداء واجبه نحو نفسه وأسرته وأمّته.
ولهذه الأهمِّيّة للصلاة يُوَجِّه القرآن الكريم رسول الله ـ عليه السلام ـ النصح بأن يأمر أهله وأمّته بالصلاة وبالمُداومة عليها، كي يُحَقِّق نتائجها في الحياة الدنيا والآخرة على السواء، إذ يقول: (وأمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاةِ واصْطَبِرْ "أي داوم" عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ للتَّقْوَى) (طه: 123).
ويقول في شأن الاستعانة بالصلاة في اجتياز الأزمات النفسية والمادِّيّة أيضًا: (واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإِنَّهَا لَكِبيرَةٌ إِلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ) (البقرة: 45).
إذ أنها الطريق المفتوح إلى الله جلَّت قدرته.
فإذا قدَّر الزوج قيمة الصلاة في حياة زوجته وحياة أسرته في تربية أولاده فإنّما يقدّرهما عن إيمان بأثرها في الاستقامة، وفي الترابط، وفي التوجيه السليم.(39/1)
ولكن لم يكن الطلاق هو الوسيلة الوحيدة، أو المُتعَيّنة، لمباشرة الزوجة أداء الصلاة. وبالأخصِّ بعد ما أنجبتَ منها ولدين. وإنَّما كان يمكن أن يكون الولدان هما الوسيلة في حمل الزوجة على أداء هذه العبادة الأساسيّة. على معنى أنَّه كان يمكن للوالد أن يتَّخذ من المناقشة في حُسْن تربية الولدين إقناع الزوجة بالصلاة وأدائها، لتكون قدوة حسنةً لهما. ولا شكَّ أنه يُهِمُّ الزوجة كأمٍّ أن ترى أولادها على صورة مهذّبة في السلوك، وأن تراهم كذلك يوفِّرون لجِدِّيَّة الحياة في المدرسة وفي المنزل وخارجه معظم نشاطهم العقلي والبدني، فإذا اقتنعت بقيمة الصلاة في حياة الأولاد فإنَّها لا تتردَّد في حَملهم عليها عن طريق العملية التي تأتي هي بها، أكثر من نصحهم ووعظهم.
وذنب النقص في الرعاية للولدين، وحرمانهم الآن من غيبة "وجود" الأب في جوِّ حياتهما، بجانب حنان الأم ـ يعود إلى ترك الصلاة من جانب الزوجة والطلاق من جانب الزوج. وكلا الأمرين يتصل "بالحُمْق" عند كلٍّ منهما. فحماقتهما وتجنُّبهما اختيار السبيل الهادئ المثمِر لحلِّ مشكلتهما هو الذي أدَّى إلى حرمان الولدين من الرعاية الأبوية المشتركة.(39/2)
45ـ رُخصة الزواج بأكثر من واحدة
مواطن من إحدى المحافظات، يقول إنه قد فهم قوله تعالى: (فانْكِحُوا ما طابَ لكمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ) (النساء: 3) بأن الله قد أمر بالزواج، وأقل عددٍ اثنان.. وأن الواحدة هي حالة شاذة، وهي عند الخوف من عدم العدْل!
ثم يُعلن خيبة أمله في الأخوات اللاتي يَرتدين النقاب. إذ بعضهن يُسايِرْنَ العُرف الشائع، وهو اعتبار صاحب المؤهل المتوسط غير كفءٍ لصاحبة المؤهل العالي، ويَتجاوزن ما يُروى من حديث: (إذا جاءكمْ مَن تَرْضَوْنَ دِينَهُ وأَمانَتَهُ فزَوِّجُوهُ، إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرضِ وفسادٍ كَبيرٍ).. ...
ويسأل: أولاً: هل يقف هؤلاء الأخوات في تطبيق الإسلام عند حدِّ الزِّيِّ وغيره من الأمور البسيطة؟ ...
ثانيًا: هل يُمكن أن نطبق جزءًا من تعاليم الإسلام ونترك جزءًا؟ أم أن الإسلام نظام كامل يصلح لحياتنا كلها، مُعاملاتنا.. وزواجنا، وغيرها من شئون الحياة المختلفة؟
السائل يفهم من قول الله ـ تعالى ـ: (فانْكِحُوا ما طابَ لكمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ).. أنَّ الله أمر بالزواج بأكثر من واحدة، فقوله (فانْكِحُوا).. أمر بالزواج مِن: نكَح إذا تزوَّج.. وقوله: (مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ) أي اثنين ، وثلاثة وأربعة، وكأن الآية تقول: فتزوجوا باثنتينِ وثلاثة وأربعة، وتأمر بأن لا يَتزوج المؤمنون أقلَّ من اثنتينِ إلا للضرورة وهي الخوْف مِن عدم العدل بين الاثنين فأكثر. ...
... والسؤال الآن: هل مُخالفة هذا الأمر في نظره يُعدُّ إثْمًا ومعصية عند الله؟؛ لأن المؤمنين مكلفون حسب هذا الفهم من السائل باثنين فأكثر.. وما عدد مَن يستطيع من المؤمنين أن يتزوج اثنتين فأكثر؟ وهل يكون هذا الأمر شريعة لله؟ وهي هُدًى ورحمةٌ بالمؤمنين؟(40/1)
إن السائل جريء في فهمه؛ إذ يتغاضى عن كلام الله فيما قبل هذه الآية. وهو ما يرتبط به الأمر في قوله هنا: (فانْكحوا) فهذا الأمر: (فانْكحوا) مترتب على وضْع خاصٍّ تذكره الآية السابقة، جاء في قوله ـ تعالى ـ: (وآتُوا اليتامَى أمْوالَهمْ ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطيِّبِ ولا تَأْكُلُوا أموالَهمْ إلَى أموالِكمْ إنَّه كانَ حُوبًا كَبيرًا). (النساء: 2).. ...
... فسورة النساء ـ التي جاءت بها هاتانِ الآيتان ـ تُعتبر سورة الحقوق للنساء والضعفاء، وهم اليتامَى أو الصغار الذين توفَّى آباؤهم ووُضعت أموالهم تحت وصاية بعض أقاربهم. ... وهذه الآية السابقة تُناشد الأوصياء على أموال اليتامَى:
أولاً: أن يُسلم هؤلاء الأوصياء اليتامى إذا بلغوا الرُّشد: أموالهم التي تحت أيديهم ولا يُماطلون في تسليمها إيَّاهم انتفاعًا بها: (وآتُوا اليتامَى أمْوالَهمْ).. وجاء توضيح ذلك في السورة نفسها، في آيةٍ أخرى في قول الله ـ تعالى ـ: (وابْتَلُوا اليَتَامَى "أي اختبروا اليتامى في تصرُّفاتهم في أموالهم" حتَّى إذا بلَغُوا النِّكَاحَ "سن الزواج" فإنْ آنَسْتُمْ مِنهمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إليهمْ أمْوَالَهُمْ). (النساء: 6).. ...
وثانيًا: أن لا يُبدلوا ويُغيروا في أموال هؤلاء اليتامى فيأخذون الجيِّد والطيِّب منها، ويضعون بدلاً منه: الرديء والخَبيث (ولا تَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بالطيِّبِ).. ...
وثالثًا: أن لا يأخذوا من أموال اليتامى تحت أيِّ مُبرِّر، ويَضمُّوه إلى أموالهم الخاصة، إذْ إنه أشبَهُ بالسرقة، ويُعدُّ ظلمًا واضحًا لهؤلاء الصغار: (ولا تَأْكُلُوا أموالَهمْ إلى أمْوالِكمْ إنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا). "أيْ ظُلمًا عظيمًا"..(40/2)
جاءت الآية التالية بعدها التي يُفسرها السائل: وتقول: (وإنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لكمْ مِن النساءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ). (النساء: 3).. وهي تُوجِّه الخطاب إلى الأوصياء على أموال اليتامى، فبعض هؤلاء الأوصياء كان يتزوج مِن اليتامى طمعًا في أموالهم التي هي تحت أيديهم، وكان لا يَعدل بينهن؛ لأنهم لم يتزوجوا بهنَّ من أجل صلاحيتهنَّ للزوجية، وإنما من أجل الانتفاع بالمال الذي يملكونه. فلما نزلت الآية: (وإنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتامَى). "أي خَشِيتم أن لا تعدلوا في اليتامى إذا تزوجتم بهنَّ أو إذا باشرتُم الوصاية على أموالهن".. امتنع بعض الأوصياء خَشْيةَ عدم العدل، عن مباشرة الوصاية على أموال اليتامى، وكذلك عن الزواج بهنَّ. ...
... وعندئذ جاء الترخيص بالزواج مِن أكثر من واحدة، وكأنَّ الآية تقول: (وإنْ خِفْتمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليتامى "فامتنعتم عن الزواج بهنَّ والوصاية على أموالهنَّ فخافوا الزِّنا" فانْكِحُوا ما طابَ لكمْ مِن النساءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ).. وهكذا الزواج باثنتينِ فأكثر مَنفذ للعدول عن الزواج باليتيمات.. ومنفذ آخر لعدم الوقوع في الزنا. والتعدُّد بين الزوجات يُعتبر رُخصةً لمَن لا يستطيع البقاء مع واحدة لأمر ما في الحياة الزوجية، والرُّخْصة لا تكون إطلاقًا مصدر ضررٍ لأحد، كرُخصة الإفطار في نهار رمضان للمريض والمسافر. وفرق بين المبدأ والرخصة. والزمخشري في تفسيره: "الكشاف" يقول بهذا الرأي: "كانوا لا يتحرَّجون الزنا، وهم مُتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إنْ خِفتم الجَوْر في حق اليتامى فخَافوا الزنا فانْكحوا ما حلَّ لكمْ مِن النساءِ، ولا تَحُوموا حول المُحرَّماتِ". (تفسير الكشاف ج1 ص: 188).(40/3)
... وهكذا الزواج في الإسلام بأكثر من واحدة ليس مبدأً واجبًا لا يَتخلف عنه المؤمن بل هو رُخصة يُمكن استخدامها لمُقتضٍ لدَى الترخيص.. ويجوز تجاوزها لمَن لا يكون لديْه داعٍ إلى استخدامها.
أما ما يسأل عنه السائل في بقية رسالته عن تطبيق الإسلام ككل فوضْع المجتمع الإسلامي على عهد الرسول عليه السلام لم يتمَّ إلا بفتح مكة، حين أعلن الله قبل ذلك بقوله في سورة المائدة، وهي السورة قبل الأخيرة في تَنزيل الوحي بالقرآن الكريم: (اليومَ أَكْمَلْتُ لكمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عليكمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لكمُ الإسلامَ دِينًا). (المائدة: 3).. أي أن المسلمين استغرق انتقالهم من الوضع السابق على الرسالة ـ وهو وضع الجاهلية ـ إلى الوضع الإسلامي قُرابة الثلاثة والعشرين عامًا. ووضْع مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة: خليط في العادات والتقاليد والسلوك والتصرُّفات، ما بين المادية والإسلامية، ومعنى ذلك: أننا قد نجد بين الأخوات اللاتي يتزيَّنَ بزيِّ الإسلام مَن تكون مُتأثرة بعادات غير إسلامية على نحو ما تطلب في الكفاءة الزوجية من أوضاع وصفات، بحُكم تقاليد المجتمع وبيئاته العديدة، وتحوُّل المجتمع إلى عاداتٍ إسلامية صرْفة يَتطلَّب وقْتًا ومُثابرةً على مُقاومة الدخيل مِن الفكر.
والعادات.. والتوجيه.. والقرآن نفسه يحكي بعد مرور أكثر من خمسة عشر عامًا على نزول الوحي بمكة والمدينة: استبطاء المسلمين ـ إذ ذاك ـ في الانتقال إلى العادات الإسلامية الصِّرْفة عندما يقول في سورة الحديد: (ألمْ يَأْنِ للذينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهمْ لذِكْرِ اللهِ وما نَزَلَ مِنَ الحقِّ ولا يَكُونُوا كالذينَ أُوتُوا الكتابَ مِن قبلُ فطالَ عليهمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلوبُهمْ وكثيرٌ مِنهمْ فَاسِقُونَ). (الحديد: 16). صدق الله العظيم.(40/4)
15 ـ عناية الإسلام بالفرد:
يسأل طالب المرحلة الإعدادية عن مظاهر عناية الإسلام بالفرد من الناحيتينِ الجِسْميّة والعقلية؟
طريق الإسلام في توجيه الإنسان هو طريق التوازن بين الجسم والعقل فلا هو يُقِرُّ الرهبانيّة والامتناع عن الزواج كسبيل لمَنع الزَّلل والخَطأ.. ولا هو يُقرُّ أيضًا الصيام طويل الأجل كما كانت تدعو بعض الاتجاهات الدينيّة الشرقية القديمة.. لا يُقِرُّ هذا وذاك؛ لأنّه يَحرص على سلامة البدن مِن جهة، واستمرار النوع الإنسانيّ مِن جهة أخرى.
وكذلك لا يُقِرُّ الإفراط في المُتعة المادية، محافَظة منه على أن تكون للعقل فعالية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ). (الأعراف: 31) فهو يطلب الاستمتاع بمُتع الحياة المادِّيّة ولكنه ينهى عن الإسراف في الاستمتاع بها حتى لا يُضَارَّ العقل في وظيفته عن طريق الضررِ الذي يُصيب البدن.
وعناية الإسلام بالبدن ـ إذن ـ هي في حِلِّ الزواج والمعاشَرة الجنسية، وفي حِلّ الطعام بما لم يَنْهَ عنه الله، والله سبحانه لم ينْهَ إلا عن الميتة والدَّم المسفوح ولحم الخنزير: (قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (الأنعام: 145).
وعناية الإسلام بالعَقل كما تكون بطلب الاعتدال في الاستمتاع بمتع الحياة المادية تكون بالحرِّيّة التي يُتيحها للإنسان في مُمارسة العقل فالإسلام لا يُكره الإنسان على الإيمان بالله أو البقاء على الكفر وإنَّما يضع أمامه الحقائق غير مغلَّفة.
ووظيفة الرسول هي فقط الكشف عن الحق وإبلاغه للناس: (وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).(41/1)
والحُرِّيّة التي يُتيحها الإسلام للإنسان في ممارَسة العقل كما تتحقّق في عدم إكرامه على الإيمان تتحقق أيضًا بطلبه إبعاد مؤثِّرات البيئة من عادات وتقاليد عن التفكير حتى يتوفّر الجَوُّ الصالح للفكر الحُرِّ والإرادة الإنسانية الحُرّة؛ ولذا يَعيب الإسلام على الذين ينحرفون في تفكيرهم ويكفرون بالله بسبب التقاليد والعادات المسيطرة على بيئتهم: (وإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمونَ شَيْئًا ولاَ يَهْتَدُونَ). (المائدة: 104).
والعبادة من صلاة، وصوم، وزكاة : تُوفر الصلاحية التي يَطلبها البدن ليكون بعيدًا عن الانحراف، والتي يَطلبها العقل ليكون صاحب تفكير سليم.(41/2)
151 ـ كنتُ مريضة ودخلْت المستشفى، وعند خروجي بعد الشفاء أخذت بعض الأشياء الخاصّة بالمستشفى. واليوم أولادي مَرضى، وأنا أشعر بالذَّنب. وأريد إرجاع قيمة هذه الأشياء للمستشفى وأتوب إلى الله عساه يشفي أولادي. فكيف أصنع؟
الجواب:
أولاً: لا صلة بين السَّرقة ووجوب ردِّ المسروق بعَينه أو قيمته من جانب، ومرض الأولاد ورجاء شفائهم من جانب آخر.
فالسَّرقة حكمها في الإسلام معروف. وردُّ المسروق بعَينه أو بقيمته واجب، والتوبة التي تنطوي على الإصلاح وعقد العزم على السلوك السَّوِيّ موضع قَبول من الله تعالى:
(والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 38ـ39).
ويزداد أمر السرقة ظُلمًا للسارق وقُبْحًا لسلوكه إذا كانت السرقة جزاءً لإحسان قدِّم للسارق، على نحو ما قدِّمت الخدمة الطِّبّيّة هنا من المستشفى الذي سَرقَتْ منه السائلة. وهذا من شأنه يدعو السّارق إلى التعجيل بردِّ المسروق إنْ وُجِدَ أو بردِّ قيمته إنْ فُقِدَ.
ويُمكِن رَدّ المسروق عينه أو قيمته عن طريق البريد باسم "فاعل خير" حِفْظًا لماء الوجه من ناحية، وعدم التعرُّض للكذِب والاختلاق عند السؤال حالَ المواجهة منه من ناحية أخرى.(42/1)
أمّا مرض الأولاد فأمر يطَرأ عادة. علاج المرض ليس بقراءة القرآن، ولا بالتوبة عن ذنْب أو عن جُرْم قد ارْتُكِب. فالقرآن شفاء لِمَا في الصدور من الاعتقادات الباطلة وما في العقول من الأوهام والخيالات. وهو طريق الهداية إلى السلوك المستقيم والنفس المطمئنّة: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي للتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ المُؤمِنينَ الذِينَ يَعْمَلونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وأَنَّ الذِينَ لاَ يُؤمِنونَ بالآخِرةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإسراء: 9 ـ10). (ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ورَحْمَةٌ للمُؤمِنينَ ولاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاّ خَسَارًا) (الإسراء: 82).
فشفاء القرآن هو شفاء الهداية والاستقامة للمؤمنين... هو شفاء من تحكُّم الهوى وانحراف الشَّهوات في تصرُّفاتهم. وهو في الوقت ذاته سبب لزيادة خسارة الكافرين الذين ظلموا أنفسَهم بالتحدِّي وعدم الإيمان بالله؛ لأنه أصبح حُجَّة عليهم لا يستطيعون إنكارها، ومع ذلك يواجهونه باستمرار الكُفر والمعارضة.
وعلاج أمراض البدن ـ إذن ـ هي بالوسائل الطِّبِّيّة التي نجحت تجرِبتها في الأمراض المختلِفة.
والسائلة يُمكِن أن تسترشِد برأي المتخصِّصين في الأمراض الجِسمية فيما يُبرئ أمراض أولادِها.
ولكنَّ ردَّها للمسروق وتوبتها إلى الله توبة نصوحًا، وهي التوبة القائمة على الندم على ما مضى والعزم الأكيد على تجنُّبه في المستقبل يرتبط ارتباطًا وثيقا فقط بجريمة السرقة. أي بذنب ارتكبته، فهي مسؤولة عنه مسؤولية شخصية أمام الله وأمام ضميرها.
ولعلَّ مسئوليتها الشخصيّة هذه أمام ضميرها هي التي أوحت إليها بالربط بين ما فعلته مقابل إحسان المستشفَى إليها ومرض أولادها الذي وقع بعد ذلك.
ومسئوليتها الشخصيّة لا يعاقِب الله عليها غيرَها، ولو كان هذا الغير من أبنائها: (ألاَّ تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (النجم: 38).(42/2)
91 ـ إنِّي متزوِّجة من سبع سنوات، ولم أُنجب، رغم المحاولات العلاجية الكثيرة. وزوجي يُحِبُّ الأولاد. وإني أتعذَّب من هذه الحالة، وأعتقد أني لو تركت زوجي أستريح. فهل هذا جائز؟
الجواب:
أتقصد الزوجة أن تترك زوجها بالخُلع مثلاً؟
أم تريد أن تتركه وتترك معه الحياة كذلك بوسيلة من وسائل الانتحار؟
أما عن الخُلع ـ وهو أن تُفدي الزوجة نفسَها بما لا يزيد عن قيمة ما أخذت من مهر، وتتخلَّص كذلك من المعاشرة الكريهة للزوج ـ فهو الوسيلة المشروعة للمرأة، كالطلاق المشروع للرجل، لفضِّ الحياة الزوجية، إن تضرَّرت وكرِهَت معاشرة الزوج. يقول الله تعالى: (ولاَ يَحِلُّ لَكُمْ "أي لا يحل للأزواج" أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229).(43/1)
فالآية تحرِّم أصلاً أن يسترجع الزوج شيئًا من مهر أعطاه لزوجته. إلا في حالة واحدة، وهي خشية الزوجين من عدم إقامة حدود الله بينهما ـ أي خشيتهما من عدم حسن المعاشرة الزوجية بينهما ـ ثم ارتضتْ الزوجة أن تتنازل عن بعض المهر أو كله. عندئذٍ ليست هناك حرمة في قَبول الزوج لما تنازلت عنه الزوجة من مهرها، وليست هناك حرمة كذلك فيما تباشره الزوجة في حق نفسها عن التنازل عن المهر: بعضه، أو كله. وإذا فعلت الزوجة كذلك انفسخ عقد زواجها، دون الحاجة إلى طلاق من الزوج، على ما يُروى في الأحاديث. فيُروى عن الزُّبير ـ رضى الله عنه ـ: أن ثابت بن قيس بن شَمّاس كانت عنده بنت عبد الله ابن أبي بن سلول، وكان أصدَقَها حديقةً "أي أعطاها في مهرها حديقة" فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أي بعد أن اشتكتْ له معاشرتَه" :أتَرُدِّينَ عليه حديقتَه، التي أعطاك؟ قالت: نعم، وزيادة. فقال ـ عليه السلام ـ: أمّا الزيادة فلا، ولكن حديقته؟. قالت: نعم. فأخذها، له "أي فتسلَّمها الرسول ـ عليه السلام ـ منها، ليسلِّمها بالتالي إلى زوجها" وخلَّى سبيلها "أي تركها تعود إلى بيت أهلها، دون حاجة إلى طلاق من زوجها". فلمّا بلغ ذلك ثابت بن قيس "وهو زوجها" قال: قد قبِلتُ قضاء رسول الله، ـ صلي الله عليه وسلم ـ "أي بالتفريق بينهما".(43/2)
وأمّا عن ترك الحياة كليّة بسبب عدم إنجاب الأولاد ـ أو بأيِّ سبب آخر ـ ثم للإحساس بأنَّها معذَّبة، لعدم استطاعتها تحقيق رغبة زوجها في الأولاد.. فهذا يُعدُّ كفرًا بالله، وعدم ثقة في تدبيره، وقضائه وقدره. فالقرآن الكريم يذكر في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ إلي بنيه، قوله لهم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وأَخِيهِ ولاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرونَ) (يوسف: 87). ولا شَكَّ أن الانتحار صورة من صور اليأس، وعدم الأمل في الله جلَّت قدرته.
إن الإسلام لا يريد للإنسان أن يقطع على نفسه سبيل الحياة، بسبب أزمة من الأزمات. إنَّه لا يريد له التشاؤم ولا العيش في ظلام الخوف والقلق، إنه يريد له أن يعيش دائمًا في أمل، وفي أمل في الله وحده، وفيما يقرِّره الله لرسوله الكريم محمد بن عبد الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في قوله: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) "الشرح: 5 ـ 6".. يريد له، كإنسان، أن ينظر إلى الحياة وقت الشدائد بنظرة المتفائل، والواثق بأن الأمر لا يبقى على حاله واحدة، وأنه لا بُدَّ أن يتغير إلى نقيضه يومًا ما.
ثم بعد هذا وذاك الزوج هو المسؤول عن هذا التعذيب، وبيده وحده تفريج الكرب، وحلُّ الأزمة. إنه المسؤول لأنّه ـ فيما يبدو ـ يُكثِر الحديث عن رغبَتِه في الأولاد ويلِحُّ في التأكيد عليها، عِلْمًا بأنَّ زوجتَه لا تُنجِب الأولاد وقد حاولت عن طريق الطِّبِّ مرارًا في أن تُعالِج عُقمها ولم تَنْجَحْ. وأن بيده تفريجَ أزمتها بكلمة واحدة، وأن يقول لها فقط: إنها عنده أثمن من الأولاد وفوق كل مُتعة أخرى عداها. وبذلك يُنقِذ حياتَها، وحياتهما الزوجية معًا.(43/3)
8 ـ الأحلام المُزْعِجة
طالب بإحدى المدارس الإعداديّة يَنسى كثيرًا .. ويحلم أحلامًا مُزعجة، مع أنه يقرأ آياتٍ قرآنية قبل نوْمه.. فماذا يصنع؟
إن وظيفة القرآن الأولى هي هداية الناس إلى الطريق المستقيم في السلوك.. وهي تُجنِّب الناس الانحراف فيما يصدُر عنهم مِن مُعاملات، وأفعال، ومواقف.. هي بِشارة المؤمن الذي يعمل عملاً صالحًا بأن له أجره الحسن في الآخرة وإنذار المُعارِض بأن له جزاءه في جهنم من عذاب أليم:
(إِنَّ هَذَا القُرآنَ يَهْدِي للتِي هِيَ أَقْوَمُ) "أي للطريق التي هي أكثر استقامةً واعتدالاً" (ويُبشِّرُ المؤمنينَ الذِينَ يَعْملونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الذِينَ لاَ يُؤمنونَ بالآخِرةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). (الإسراء 9،10).
وليس من أهداف القرآن أن يُتَّخذ وقايةً من مرض عُضويٍّ، أو علاجًا من خلَل في الأجهزة العُضويّة للبَدَن.. نعم قد تَحدَّثَ كتاب الله، فوصف نفسه بأنه شفاء في قوله ـ تعالى ـ (ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنَ مَا هُوَ شِفَاءٌ) (الإسراء 82).
ولكن شفاء القرآن هو شفاء النُّفوس من الحَيْرة والضَّلال، والقلق والاضطراب الناشئَينِ عن عدم الهداية إلى الصِّراط السَّوِيّ.. هو شفاء الصدور مِن الأحقاد والبُغض للآخرين: (يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدورِ) (يونس: 57). بدليل أن الحديث يستطرد فيقول في سورة الإسراء: (ورَحْمَةٌ للمُؤمِنينَ ولاَ يَزِيدُ الظَّالِمينَ إِلاّ خَسَارًا) (الإسراء 82).(44/1)
فيصف القرآن نفسه كذلك: بأنّه رحمة للمؤمنين بسبب هدايته إيّاهم إلى الطريق الواضح المَعالم في استقامته، وبأنّه يزيد خسارة الظَّالمين ـ وهم المُعارِضون الكافرون ـ لأنَّه يُسجِّل عليهم دعوة الرسول إلى الحقّ، ومُعارِضتْهم إيّاها، رغم أنّها دعوة لصَرْفهم عن ظُلم أنفسِهم بالكفر والمعارَضة واتباعهم لصوت العقل في أنفسهم، وصوت الحقِّ في كتاب الله، حتى لا يُمارسوا الطُّغيان في الدنيا وينالوا العذاب في الآخرة.
فالقرآن بهدايته إلى الطَّريق المستقيم والطريق التي هي أقوم، يشفي النفوس المريضة بالضَّلال، ولكنه لا يشفي الأبدان مِن أمراض جسديّة تُصيبها .. نعم إذا شُفِيَت النفوس المريضة بالضلال فإن شفاءها عن طريق اتباعها لهداية الله سيؤثِّر تأثيرًا إيجابيًّا على أبدانها، في طاقتها على التحمُّل والصبر على المَكارِه وفي مواجهة الأزمات.
والسائل إذ يعرِض في سؤاله هنا: أنه ينسى كثيرًا، وأنه يرى أحلامًا مُزعِجة ربَّما يعود ما به الآن إلى ضعف عامٍّ في صحته، أو إلى مخاوف كانت تُقَصُّ عليه في حكايات فيما مضى فاختزَنَها لفترة، ثمَّ أخذت ترِدُ الآن على خاطره تباعًا، والأجدر بمَن يُعْنَى بصحة هذا الطالب أن يعرِضه على طبيب بشريٍّ أو نفسي لمعالجته ولا يتخلَّى عن عادته في أن يقرأ القرآن كلَّما أُتيحت له فرصة لقراءته ففي قراءته اتصال بذات المولى ـ جلَّ جلاله ـ واعتماد عليه فيما يعرض له من هموم الدنيا وأزماتها وشدائدها ولكن فقط يجب عليه أن يعتقد: أن شفاء القرآن بهدايته هو شفاء للأمراض الاجتماعيّة بين الناس، وشفاء لأمراضهم النفسيّة بسبب الأنانية وطغيان النفوس. وإذن هناك مكان للطبِّ البشريِّ لا يمنع الإسلام مِن مُمارسته ولا مِن أخْذ مشورته.(44/2)
ويسأل سائل قائلاً:
أصابني داء ولم أجد له دواء: يجلس معي الشيطان فيقول لي: أليس الله بقادر على أن يجعل الكافرَ مسلمًا؟ وبذلك لا يكون هناك خلاف وتكون الدُّنيا كلها مسلمة؟
ليس الإنسان في حاجة إلى أن يجلس معه شيطان حتى يَرِدَ هذا السؤال بخاطره، وهو: ألم يكن في قدرة الله ـ تعالى ـ أن يجعل الناس جميعًا مسلمين؟ إذ إنه سؤال مطروح وقد ذكره القرآن نفسه في قول الله تعالى: (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدةً) (هود: 118) .. ثُمَّ ذكر الجواب بقوله: (ولاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفينَ) (هود 118).. أي لا يزال الناس فيما بينهم مختلفين في الكفر والإيمان إلى يوم القيامة.
وسبب بقاء الكفر والإيمان معًا بين الناس إلى يوم البعث، هو أنَّ الدنيا دار اختبار وابتلاء، منذ نزل إليها آدم وحواء حتى اليوم الآخر فخُلِقَت الدنيا للكشف عن اتجاهات الناس في الحياة فيها وخلقُها جاء عقب عصيان آدم وحواء في الجَنّة باقترابهما مِن الشجرة التي طلب الله منهما أن لا يقتربَا منها، ثم عقب عصيان إبليس كذلك مِن الملائكة بعدم سجوده لآدم، امتثالاً لله سبحانه وتعالى.
والوضع كان قبل طرْد إبليس، وآدم وحواء، من الجنة بسبب عصيانهم جميعًا هو:
أولاً: عندما سأل الله إبليس عن امتناعه: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف 12) .. طرده من الجنة: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصّاغِرينَ) (الأعراف 13) .. عندئذ طلبَ إبليس من الله سبحانه وتعالى أن يُرجِئَه في الدنيا ليُمارِس نشاطه الشيطانيّ حتى يوم البعث، واستجاب الله لمَا طلبه: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ). (الأعراف 14 ـ 15).(45/1)
ومعنى إرجاء الله إبليس يُمارس نشاطه إلى يوم الدين: أن الشَّرَّ موجود في هذه الدنيا منذ نشأت، وأنه باقٍ إلى اليوم الموعود، والكفر بين الناس صورة من صور الشَّرِّ التي تَعرِض لهم، ومعنى بقاء الكفر استحالة تحوُّل الناس جميعًا إلى مؤمنين.
ثانيًا: عندما عصى آدم وحواء ربَّهما طردهما كذلك من الجنة ونزلا منها إلى أرض الدنيا وأصبحت بينهما وبين إبليس عداوة فيها إلى يوم البعث: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وفِيهَا تَموتُونَ ومِنْهَا تُخْرَجُونَ) (الأعراف 24 ـ 25). إبليس يُوسوسُ بالشَّرِّ وأكثرُ بَنِي آدم يَستجِيب له.
ثالثًا: لكي يكون الإنسان على بيِّنة من الضَّلال والهِداية.. والكفر والإيمان ولكي لا تكون له حُجّة على الله في معرفة الشَّرِّ والخير كانت رسالة الرسول من وقت لآخر تعرِض للحَقِّ، والخير، والهداية.
ثُمَّ الناس بعد ذلك أحرار في مُمارَسة الشَّرِّ، أو سلوك طريق الخير: "يَا بَنِي آدَم قَدْ أنزَلْنا عَليْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوءاتِكُمْ ورِيشًا" والمراد باللِّباس الذي يوارِي النَّقْص في الإنسان هو رسالة الرسول، وهي في الوقت نفسه زينة الإنسان لو اتَّبع هدايتها؛ لأن اتباعها يبعد عن الانحراف وعندئذٍ يبدو الإنسان وكأنه في زينة. (ولِباسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرونً) (الأعراف : 26) : (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 38 ـ 39).(45/2)
فرسالة الرسول إذا كانت تُرشد إلى الخير والإيمان، فعمل الشيطان ووسوسته توصِّل إلى الشَّر والكفر، والشيطان باقٍ إلى يوم القيامة، ورسالة الله باقية كذلك إلى يوم القيامة والناس هم بنو آدم وُضِعوا في هذه الدنيا لكشف مَن يهتدي منهم ومَن يكفر، كما اختُبر أبوهم آدم وأمهم حواء من قبل ومُتَع الحياة الدنيا هي مادة الاختبار فمَن طغى أو ظلم عن طريقها كان مِن الأشرار الكافرين، ومَن استخدمها في أوجُه الخير كان من الأخيار المؤمنين.
ويستحيل ـ إذن ـ أن لا يكون كفر في هذه الدنيا، وإلاّ لو تحول الناس جميعًا إلى مؤمنين فيها، أو إلى كافرين فيها لانتهتْ مهمة الحياة الدنيا بالنسبة للإنسان؛ لأنَّها لا تكون دار اختبار حينئذٍ فالإيمان والكفر باقيانِ ما بَقِيَت السَّماوات والأرض إلى يوم الدين، وبين الشر والخير صراع ونفس الإنسان إذا انطوت على شهوة الغريزة فإنَّها تَنطوي على حكمة العقل كذلك وبين الغريزة والعقل هو ما بين الشر والخير: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). (المائدة 48).(45/3)
كيف دخل إبليس الجَنّة بعد طرْده منها ليُوسْوس لأبينا آدمَ؟
إبليس هو ذلك المَلَك الذي عصى ربَّه عندما أمر الملائكة جميعًا بأن تسجد لآدم فسجدت إلا هو فأبَى وكانت حُجّتُه أنّه خُلِقَ من نار شأنُها أن تسموَ وترتفع ويعيش في السماء، بينما آدم خُلق من تراب، من طبيعته أن يَميل إلى الدُّنُوِّ والخلود إلى الأرض ولذا كانت السماء مَقَرَّ الملائكة، بينما كانت الأرض سُكْنَى لبَنِي آدم: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ). (الأعراف: 11 ـ 12).(46/1)
وقد طُرِدَ إبليس من الجَنّة بعدما عصى ربّه: (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف: 13). بمعنى أن الجَنّة لم تعُدْ مأواه ولكن طالما مهمتُه أن يُوسوس للإنسان من آدم إلى أبنائه وطالما أرجأ الله عِقابَه على وَسوسته وإفساده إلى يوم البعث: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ). (الأعراف: 14 ـ 17). طالما كان هذا وذاك فالطَّريق مفتوح أمامه إلى كل إنسان أيْنما كان، ووسوسته لآدمَ وحواء ـ وهما في الجنّة ـ لا يُعارِض إذن أمر الله بطَرده منها فهو قَرين الإنسان ومُلازِم له ولذا بعد أن اعترف آدم وحواء بإغواء إبليس لهما وهما في الجنّة جاء أمر الله بطَرد الجميع منها، وتكرَّر بذلك الأمر بطَرد إبليس، الأمر الذي يدلُّ على أنّه يوجد في كل مكان يوجد فيه الإنسان: (قَالاَ "أي آدم وحواء" رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا "والأمر هنا لآدم وحواء وإبليس" بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ). (الأعراف 23 ـ 24).(46/2)
وقد أخذ إبليس بعد أن عصى ربَّه وأغوى آدم وحواء اسم: "الشيطان" ولذا يحذِّر الله أبناء آدم، بعده من غوايته بهذا الاسم: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ). (الأعراف : 27).. والشيطان هنا هو إبليس وقد جعل الشيطان عامة مصدر الشَّرِّ والفساد والعبث، وأطلقت على مصادر الشر العديدة اسم الشياطين.
والشياطين ليسوا أبناء إبليس وإنَّما هم قَبيله وأعوانه: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ للذِينَ لاَ يُؤْمِنونَ) (الأعراف : 27) ... إذ المعروف أنَّ الملائكة لا تَنسِل وإبليس واحد منهم خرج من جماعتهم بعصيانه الله، ولكنه لم يخرج عن طبيعته كملَك، كالإنسان إذا كفَر فإنه لا يخرج بكفره عن طبيعته البشريّة. ومن أعوان الشيطان ـ وهو إبليس ـ هوى النفس وشهْوتها والهوى والشهوة أمران ملازِمان للإنسان والوسواس الخَنّاس الذي يُوسوس في صدور الناس من الجِنّة وهو هوى النفس أو شهوتها وبما أن هوى النفس وشهوتها أمرانِ لا يراهما الإنسان كانَا من الجِنّة، أي من الأمور التي لا تُرى وتشاهَد.
والنفس الأمّارة بالسُّوء هي نفس الإنسان التي تقع تحت تأثير شهوتها وهواها فلا تصُدر إلا عن شَرٍّ وأذًى.
ومن هنا يُمكن فَهْم هذا الحديث المروي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "خرج النبيُّ من عندي فغِرْتُ عليه فجاء فرأى ما أصنعُ فقال: ما لَكِ يا عائشة؟ أغِرْتِ؟ قلتُ ومالي لا يَغَارُ مثلي على مثلك؟ فقال: قد جاءك شيطانُك؟ قلتُ: يا رسول الله أوَ معي شيطان؟ قال: نعمْ. قلتُ: ومع كل إنسان؟ قال: نعم. قلتُ: ومعكَ يا رسول الله قال: نعم ولكنَّ ربِّي أعانني عليه حتَّى أسلمَ". فنفسُه عليه السلام نفس زَكِيّة خضعتْ في طاعة الله ورسالته.(46/3)
38 ـ "الغزو اليهودي ـ مؤيًّدًا من أعداء الإسلام ـ اجتاح بلاد عربية، وعبَث بمقدَّساتِها الدينية. فمَن المُطالَب بإيقافه ورَدْعِه، وصيانة الأماكن المقدَّسة من رِجسه؟
السائل يتحدث عن "إسلام" و "أعداء". هل المسلمون يُؤَثِّرون اليوم أن تكون مجتمعاتهم اليوم مجتمعات إسلاميَّة فيعرفون الإسلام فيطبِّقونه، وأعداء الإسلام فيحذِّرونهم؟
هل المسلمون اليوم بعد استقلالهم السياسي يُقِرُّون التعاون فيما بينهم على أساس من كتاب الله وهَدْي الرسول، عليه السلام؟ أم هم يَنقَسِمون شِيَعًا وأحزابًا في التبعيّة لغيرهم ولو كانوا أعداء الإسلام وخصوم الأماكن المقدَّسة؟
هل المسلمون اليوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وبالتالي يؤمنون بمنزلة الأماكن المقدَّسة في الشعائر الإسلامية؟
هل يرتبط المسلمون اليوم بالاتجاهات الشعوبيّة والطائفية أكثر من ارتباطهم بالوحدة الإسلامية فيما بينهم؟
إنْ كان المسلمون اليوم يودُّون أن يعرِفوا رأي الإسلام "في استرداد البلاد المقدّسة وصيانتها" فهاكُمُ وصْف القرآن للمؤمنين:
(إِنَّما المُؤمِنونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ورُسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجاهدوا بِأمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقونَ) (الحجرات: 15).
والمسجد الأقصى عزيز على المسلمين سواء بسواء كالمسجد الحرام، يجب على المسلمين المحافَظة عليه وصيانته، واسترداده إن اغتصب منهم يومًا ما...
والمؤمنون، ليسوا في حاجة إلى الإذن في سبيل الله والجهاد لصيانة مقدّسات الإسلام:
(لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذِينَ يُؤمِنونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بَأمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ واللهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذِينَ لاَ يُؤمِنونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وارْتَابَتْ قُلوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) (التوبة: 44 ـ 45).(47/1)
وإن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، ومَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة ينكِحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.(47/2)
105 ـ مات أبي وأنا طفل صغير. ولصِغَر سنِّ أمي تزوَّجت بآخَرَ. وضمَّني عمِّي إليه، وعاشت أمي مع زوجها وأنجبت منه أولادًا. ومرَّت السنون، وهي لا تحضر لرؤيتي، ولا أدري لماذا؟ وأنا لا أذهب لرؤيتها وذلك من خمسة وعشرين عامًا. وقد سمعتُ أن هذا بسبب سُوء معاملة عائلة أبي لها. والآنَ ماذا أصنع لأُرْضِيَ الله؟
الجواب:
إن العلاقة بين أي أم وابنها ليست مُتكافِئة. فعاطفة الأم نحو ابنها أقوى من عاطفته هو نحوها. ومحاولة الأم إسعادَ ولدها أكثر وأعمق من محاولة الولد إسعاد أمِّه. وحدَبها على رعايته أوسع من حدَبه هو على رعاية مصلَحِتها. تلك هي الفطرة وتعاقبَت الأجيال. ولعدم التكافؤ في العلاقة بين الأم وولدها لم يوصِ القرآن الكريم الوالدين لمساعدة الأب لابنه والسعي لمصلحته وتوفير الحَنان والعاطفة نحوه. وإنما أوصى الولد بذلك كله. وقد كانت وصية لقمان لابنه تعبيرًا واضحًا عما يُريده الله من الأبناء نحو الأمهات والآباء، فيما يحكِيه الله بقوله: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُه يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. ووَصَّيْنَا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ "أي حملته في بطنها وهى تزداد ضعفًا على ضعف كلَّما تقدم بها الوقت نحو الولادة" وفِصَالُه فِي عَامَيْنِ "أي وبعد ولادته تستمر رعايتها له في إرضاعه وفي مباشرة شئونه مدة عامين آخرين، وهو عاجز فيهما تمام العجز عن عمل يفعله لنفسه، وهو كذلك عرضة للتقلُّب والتغيير فيها؛ الأمر الذي يتطلب السهر واليقظة على مصلحته" أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ) وخلقك ومرورك بمراحل نموك يستدعي أن تشكر الله بالإيمان به، كما تشكر والديك على المشقّة والمعاناة في سبيلك بالتحمُّل لهما والرعاية لمصلحتهما، والتودُّد إليهما والطاعة لما يُشيران به عليك، عدا الشرك بالله" (لقمان: 13ـ14).. فربط طلب الرعاية(48/1)
للوالدين من الابن والتودُّد إليهما بعدم الشرك بالله دليل واضح على أهمية هذه الرعاية في نظر الإسلام؛ إذ سوى الإسلام هنا في القيمة والاعتبار بين عدم الشرك بالله ـ وهو العقيدة الأساسية فيه ـ للرعاية التامّة للوالدين من أبنائهما.
وعن هذا المبدأ يجب على السائل ـ وهو ابن لأم لم يرها منذ خمسة وعشرين عامًا ـ أن يُبادِر إلى زيارة والدَتِه ويتعرَّف على إخوته منها، ويُعيد طريق المودَّة معها. وبالأخص لا ذنب لها ولا له في هذه القطيعة. وهى ستُسَرُّ حتمًا عندما تراه، مهما كان لها من أولاد آخرين. وفي الوقت نفسه ستَغفِر نهائيًّا ما لَقِيَتْه من سوء معاملة سابقة في أسرة والده.
وكلَّما مر يوم ولم يبدأها بعدُ بالزيارة والمودَّة يكون غير شاكر لله ولوالديه على: نعمة الخلْق والوجود إلى هذا العالَم.(48/2)
82 ـ أبي مُسِنٌّ، ويتعاطَى المخدِّرات. وفي بعض الأحيان يطلب مني النقود لمساعدته في شراء هذه الموادِّ. وأنا صاحب أسرة، ويُضايقني هذا الأمر جِدًّا. وإذا رفضت طلبه يغضب عليَّ، وغضب الوالدين من غضب الله. فماذا أصنع؟
يُلاحظ في كثير من الآيات أن القرآن الكريم في وصاياه أو في أوامره أو في نواهيهِ يقرِن الإحسان إلى الوالدين بعبادة الله وحده، فيقول: (وإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. ووَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ) "لقمان: 13-14".
فيقرن توصية الإنسان بوالديه وشكره لهما بطلب عدم الشرك بالله وشكره له على نعمة الإيمان بالله وحده. كما يقرن فيما يأمر به هنا فيما تذكره هاتان الآياتان: (واعْبُدُوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) "النساء: 36".
(وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدوا إِلاّ إِيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) "الإسراء: 23".
يقرن الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادة الله وحدَه مما يدلُّ على العناية الفائقة بحسن معاملة الوالدين وطلبها من أبنائها. وقد يتعرَّض لتفصيل بعض جوانب هذه الرِّعاية على نحو ما تقول الآية: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ للأوّابِينَ غَفُورًا) "الإسراء: 23-25".(49/1)
ولكن طاعة الأولاد للوالدين ـ وليست معاملتهم إيّاهم ـ تقف عندما يأمرانِهم بعبادة غير الله: (وإِنْ جَاهَدَاكَ "في وصية لقمان لابنه حاكيًا عن الله جَلَّ شأنه" عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْروفًا واتَّبَعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) "لقمان: 15".
فهنا في مجال عبادة غير الله وحده يجب على الأولاد عدم طاعة والديهم، ولكن تستمرُّ معاملتهم لهما بالحسنى والمعروف، كما يستمِرون هم في أخذ الطريق السويِّ، وهو عبادة الله وحده.
وتَعاطي والد السائل هنا للمخدِّرات هو مباشرة المنكر، يأثَم بمباشرته ويعصى الله فيما يرضاه لعبادته. يُضاف إلى مباشرة هذا المنكر إرهاق الولد في النَّفقات مما قد يضطرُّه؛ لأن يقتِّر على أسرته الخاصّة به.
والرأي أن مخافة الولد هنا لرغبة والده وتخلفه عن شراء المخدِّرات له لا يستوجب غضب الله. بل على العكس يستوجب رضاه سبحانه وتعالى. هذا شيء، والشيء الآخر أن يستمر في معاملته بالحسنى والمعروف قولاً وفعلاً. ثُمَّ إذا أمكنَ إيداعه في مصحّة يستشفي فيها من عادة تناول المخدِّرات يُحسن إلى نفسه وإلى والده وإلى أسرته ويُرضي الله قطعًا.(49/2)
52 ـ أنا أب لأسرة تتكوّن من خمسة أفراد ودخْلي ثمانية جنيهات فقط، وأولادي بالمدارس، ومرتّبي لا يَكفيني، ووالديَّ على قَيْد الحياة. فكيف أتصرَّف لأُرضيهما بما يستحِقّانه من مرتّبي شرعًا؟
إن قول الله ـ تعالى ـ: (واعْبُدوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إِحسانًا وبِذِي القُرْبَى) (النساء: 36) يجعل الإنفاق على الوالدين إذا كانا بحاجة إلى نفقة، مساويًا على الأقل للإنفاق على الأولاد، فقد صرَّحت الآية بالإحسان إلى الوالدين ووضعَتْ الإحسان إليهما في مَرتبة العبادة لله وحده. والإحسان إليهما يشمل من غير شكٍّ الإنفاق، إن كان وضعهما يتطلَّب ذلك. أما نفقة الأولاد فهي تجب هنا من ضمن ما عبَّرت عنهم الآية "بذي القربى".
والسائل هنا مُطَالَب أمام الله بالإنفاق على الأصل وهما الوالدان، والفرع وهما الأولاد. ومشكلته هذه ـ وهي عدم كفايَة دَخْله للإنفاق على مَن تَجِب عليه نفقتُهم من الوالدين والأولاد ـ تجد حلَّها في التكافُل الاجتماعي في نظام الإسلام. فالسائل بوَضْعِه في الدَّخْل من سَعْيه في سبيل الرِّزق يُعتَبَر "مِسْكِينًا".. أي ينقص دخله ما يَفِي بحاجته، رغم جَدّه في سَعْيِه، ورغم حُسن سلوكه وبُعده عن العبَث والمفاسد. والمِسكين أحد مصارف الزكاة الثمانية، وأحد مصارف الإنفاق وراء الزكاة في سبيل المصلحة العامة. والمسكين له الحقُّ في مال الأثرياء وبيت المال، أو الدولة عليها أداء هذا الحق له، إن لم يباشر الثَّرِيُّ ـ وهو الذي يَفيض دخْله عن حاجته ـ الوفاء بما التزم به، عن طريق إيمانه بالله وبدينه.(50/1)
فالتكافُل الاجتماعي في نظام الإسلام يضمن لأصحاب الدخول القليلة تغطية نفقاتهم، وكذلك مَن تجب عليهم نفقته من الزوجات والأقربين، دون أن يَلُومَهم على عدم كفاية سَعْيهم وعملهم في تغطية حاجاتهم، ودون أن يُؤَنِّبَهم كذلك على كثرة ما رُزِقُوا من أولاد، أو من وجود آبائهم المُعدَمين على قيد الحياة معهم.
ولكن يَحُول دون قيام التكافُل الاجتماعي في النِّظام الإسلامي بمُهَمَّته الآن أن الزكاة لا تنفَّذ، وأن الدخول للأفراد في بعضِ نُظُم الحكم المُعاصِرَة يقرُب بعضها من بعض في سدِّ احتياجات العاملين، فليس فيها فائض كثير يُمكِن أن يُوَجَّه إلى احتياجات الآخرين. وقد يكون من الممكن الآن التوجُّه إلى إدارة البِرِّ في وِزَارة الأوقاف بطلب المُساعَدَة في تغطِية نفقات السائل، فإدارة البِرِّ هذه تُشرِف على حصيلة الأوقاف الزراعية والعَقَارِيّة التي ضُمَّت إلى وزارَتَي الإصلاح الزراعي والحكم المَحَلِّي، وهي أملاك محبوسة على ما يُسَمَّى بالبِرِّ أو الخير العام، من مُلَّاك تمكَّنت من نفوسهم القُرْبى إلى الله ومصلحة إخوانهم في الإيمان بالله. وقد كانت أوقافُهم هذه من ثمرة الإيمان بالله.
وربما تكون هناك مُساعدة كذلك من صندوق ما يسمَّى بالضمان الاجتماعي في وزارة الشؤون الاجتماعية. وهو نِظام مُستَحْدَث في نُظُم الحكم المُعاصِرة، على أثر ثورة الفقراء على الأغنياء في الدوَل الصناعية المتطوّرة.(50/2)
80 ـ كيف أخلِص لوالدي إخلاصًا يحبِّبني ويقرِّبني إلى الله؟ وكيف أكسِب رضاه؟
السبيل إلى محبة الله، والتقرُّب منه، وكسب رضاه في معاملة الوالدين هو أن يتبع الإنسان النصحَ فيما جاء في قوله تعالى: (وقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدوا إِلاّ إيّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ للأوّابِينَ غَفُورًا) (الإسراء: 23-25).
فهنا تعبِّر هذه الآيات عن مبدأ أساسي في معاملة الوالد أو الوالدة، وهو مبدأ الإحسان.
والإحسان مفهوم جاء ذكره في القرآن عندما يقصد إلى المعاملة الإنسانية الكريمة، التي ترتفع فوق تبادُل المنفعة، وفوق العطاء والأخذ، وفوق انتظار الجزاء والثواب، وفوق العدل والتوازن.
والإحسان في معاملة الوالدين مطلوب في كلِّ مرحلة من مراحل حياتهما. وقد شرحته هذه الآيات هنا في مرحلة الشيخوخة والكبر، بما هو أسمى من توفير الغذاء والكساء لهما، وأرفع من الجانب المادِّيّ في جملته.
تعدَّتْ هذا الجانب المادّي إلى المعاملة المهذَّبة التي تنطوي على الإنسانية في مستواها الرفيع، وكلُّ ما ذكرتْه من النهيِ عن زجرهما والضيق بهما في أيّة لحظة من لحظات من لحظات حياتهما، ومن الأمر بالقول المهذَّب في التخاطُب معهما، وبطاعتهما الناشئة عن عطف نحوهما ورحمة بهما، كلُّ ذلك يصور نموذجًا من نماذج الإحسان قبلهما.(51/1)
ثم تعقيب هذه الآيات بأنَّ الله يعلم ما نفوس الأبناء على حقيقته، وأنّه يغفر للصالحين منهم ما كان لهم من جُموح فيما مضى من معاملة أبنائهم، إن عادوا إلى الطريق السَّوِيّ في معاملتهم وهو طريق الإحسان... ليؤكِّد لهم الإسلام مطلوبَه من وجوب الإحسان إلى الوالدين، إحسانًا صادرًا عن محبَّةٍ لهما، وعطف عليهما، واعتراف بفضلهما عليهم في صغرهم وفي سِني حياتهما التي كانوا يحتاجون فيها إلى الرعاية والتوجيه، ليس عن نفاق ورغبة في تفادي النقد لهم من الآخرين، وتجنُّب اللوم من غيرهم، إن بدتْ معاملتهم لآبائهم مكشوفة على حقيقتها.
ومع ما يذكر القرآن هنا من وجوب توفير الأبناء الإحسانَ للوالدين في قولهم، وعملهم ومشاعرهم الداخلية النفسية، وطاعتهم المنبثقة من العطف والحنان عليهما والرحمة بهما... فإن هناك في الوجود ـ في دائرة الطاعة ـ قبل الوالدين مَن هو أعزُّ منهما، ومن تكون طاعته أكثر اتباعًا وأوجب من طاعة الوالدين، وهو الله تعالى، إن تعارَض ما يدعوان إليه مع ما يدعو هو إليه جَلَّ جلاله: (وإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْروفًا) "لقمان: 15".
فهنا إذا حاول الوالدان ـ أحدهما أو كلاهما ـ حملَ الأبناء على الاعتقاد بالشرك بالله ـ فضلاً عن حملهم على الكفر والإلحاد به ـ فلا تجب طاعتهما؛ لأن الاعتقاد بالشِّرك بالله من شأنه أن يوجه الإنسان إلى قبول المهانة والمذلّة، باعتماده على ما يصلح في الوجود للاعتماد والتوكُّل عليه. وبذلك يفقد الإنسان إنسانيته التي كرَّمها الله، وإذا فقد الإنسان ـ كابن ـ إنسانيتَه فلا يكون أهلاً لأنْ يصدُر عنها في معاملته لوالديه معاملة قائمة على الإحسان.(51/2)
وهكذا دعوة الشرك بالله، ومحاولة الوالدين حمل أبنائهما على الاعتقاد به تؤدِّي إلى أن يفقد الأبناء مستوى الإنسانية، في ذواتهم. ومن ثَمَّ لا تكون لهم صلاحية عندئذٍ للقيام بما يجب عليهم نحو والديهم من معاملة كريمة مهذَّبة.
وهكذا الآباء الذين يحملون أبناءَهم على الشِّرك بالله يُسيئون إلى أنفسهم من حيث لا يشعرون وقد أراد الله الإحسان إليهم.
أما حمل الآباء أبناءهم على الكفر بالله أو الإلحاد به فإنَّهم بهذا الحمل يوجِّهونهم في حياتهم توجيهًا مادِّيًّا خالصًا، يستحيل معه أن يعترفوا بما ليس بمادِّي، وبما لا يقوم على تبادل المنفعة المادية. وهذا معناه لا يعترفون بقِيَم ولا بمُثُل عليا في الحياة. ومعاملة الوالدين بالحسنى ـ أي بدون مقابل مادي ـ في مقدمة القِيَم والمثل العليا الإنسانية.
ومن أجل هذا وذاك لا تُقبل طاعة الوالدين ـ في نظر الإسلام ـ من قبَل الآباء، إنْ هم دعَوْهم إلى الشرك بالله أو الكفر والإلحاد به، فكلٌّ من الشرك بالله والكفر به يؤدِّي إلى إنكار المعروف، وإنكار المستوى الإنساني الرفيع، ولا يؤمن إلا بما ينطوي على منفعة مادِّيّة لا ليس غير.
100 ـ والدتي لا ترضى عن راحتي وراحة أم أولادي "زوجتي" وتَجلِب لي المشاكل العائلية، وتُريد طَرْد زوجتي، وهي أم لخمسة أطفال. وأنا مُحافَظ على حقوق والديّ وبِرّهما. وحاولتُ الكثير في إصلاح هذه الحالة ولكنِّي لم أنجح. فأخذتُ زوجتي وأولادي إلى بلد بعيد لترتاح ويرتاح أولادي. فما الرأي؟
الجواب:
الأم الآنَ في موقفها من زوجة السائل أنانية، تريد أن لا تترُك في قلبه وفي حياته فراغًا لامرأة أخرى، ولو كانت الزوجة، ولو كانت أم أولاده، ولو كانت في خدمته ورعاية الأولاد.(51/3)
وهذه الأم الأنانية في معاملتها لزوجة ابنها على هذا النحو يجب أن لا تُطاع من ولدها. ففي وصية لقمان لابنه كما يقصُّها القرآن الكريم في قول الله تعالى: (وإِنْ جَاهَدَاكَ ـ أي الوالدان ـ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعروفًا واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ـ وهى سبيل المؤمنين ـ) (لقمان: 15).. وما يقصُّه القرآن من الشرائع وأخلاق الرسالات السماوية السابقة يُعَدُّ من المنهج الذي يجب أن يسير عليه المؤمنون برسالته.
وفي هذه الوصية يُوصي لقمان ابنه بثلاثة أمور:
أولاً: بأن لا يتبع الوالدين فيما يُخالف رسالة الله، وبالأخصِّ في الشِّرك بالله: (وإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا).
وثانيًا: أن الاختلاف بين الابن والوالدين في الدين ـ ومثله الاختلاف الجذريّ في اتجاه الحياة ـ لا يمنع أن يقوم الابن بما يجب عليه نحو الوالدين من رعاية وإحسان، ومصاحبة بالمعروف (وصَاحِبْهُما في الدُّنيا معروفًا) بل يجب عليه أن يباشر الرعاية المثلى نحوهما، بالرغم من الاختلاف بين الطرفين.
وثالثًا: أنه يجب على الابن ليكون في مأمن من سلوكه وفي اتجاهه في الحياة أن يتبع فقط سبيل المؤمنين بالله وحده (واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ).
والأم هنا ـ في هذا السؤال ـ بتضييقها على زوجة الابن وبإثارتها المشاكل العائليّة في وجه ابنها بسببها.. تُخالف ما ينصح به الإسلام فيما يجب أن يعامِل به الزوج زوجته في حسن خلُق ومودّة ولُطف. فيُروى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قولُها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلُقًا.. وخِياركم ـ أي المُفَضَّلون فيكم ـ خياركم لنسائهم" أي المُحسِنُون إليهم بالمعاشرة الطيبة.(51/4)
فعلى الابن ـ وهو صاحب السؤال ـ أن لا يُطِيع والدته فيما تَحمِل به على زوجته. وليس في عدم طاعته إيّاها في ذلك ما يُخالف نُصْحًا أو أمرًا لله في شأن الوالدين. ومع وُجوب عدم طاعته لوالدته فإنه يجب عليه الاستمرار في رعاية الوالدين. وبذلك يكون مُتَّبِعًا سبيل مَن أناب إلى الله، وتوكَّل واعتمد عليه، وهو المؤمن به في ثقة وفي صدق.
ولذا فالطريق الذي اختاره الزوج بالانتقال بزوجته وأولاده إلى مكان بعيد عن والدته.. هو الطريق الأمثل. ولا يُقَلِّل ابتعاده عنها في المكان أيّ أجر أو ثواب له عند الله في رعاية الوالدين. وبذلك يحفظ المودة في الجانبين: في جانب الزوجة.. وجانب والديه.
44 ـ مكانة الأم في رِعاية أولادها.
مِن مُواطن بإحدى المحافظات يقصُّ أنه كبير إخوته. وأن والده تُوفي منذ عشر سنوات. وإنه في آخر حياته كان يُتاجر في البقالة. في محلٍّ تملكه زوجته وهى والدته ضمْن ممتلكاتٍ أخرى. ولكنه أغلق المحل بعد وفاته. فأراد أن يتملكه هذا الأخ الأكبر عن طريق البيع والشراء من والدته وفعْلًا باعته له بعقد صحيح دون أن يَعلم أحدٌ من إخوته بما تمَّ بيْنه وبين والدته. دفعتْه زوجته وولدٌ له مهندس زراعيٌّ إلى أن يأخذ محلًّا آخر في ظهر هذا المحل من أملاك والدته أيضًا. فلمَّا عرَض عليها الأمر لم تُوافق؛ لأنها لا تودُّ أن تُغضب إخوته فأمسك بيدها وأراد أن يُكرهها على عقد بيع جديدٍ أعدَّه لها فتخلصت بعُنف منه. مع أن سِنَّها فوق السبعين. وقَذفت بنفسها إلى الباب الرئيسي. وكان ذلك في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. وولَّت هاربةً إلى بيت الجيران، وكان مفتوحا، وحالتها في غاية السوء. وفى الصباح شاع الخبر في القرية كلها. وكان ـ كما يقول ـ صدمةً كبيرة لمُعظم أهل القرية؛ إذ إنه معروف عنه الاتصال بدين الله حتى إنه كان يعظ الناس بالقرآن والسُّنة.(51/5)
ويعترف الآن بان أمه لم تبخل عليه في يوم من الأيام وكانت كريمةً معه إلى حد كبير. ولكن الشيطان أعماه ـ كما يقول ـ بواسطة زوجته وابنه المهندس اللذين لا يعرفانِ إلا أطماع الدنيا الرخيصة. ولاشيء غير ذلك .ويسأل:
ما الذي يفعله الآن لإرضاء هذه الأم الصالحة. وحتى يطمئن لمُقابلة الواحد القهار في يوم الهوْل العظيم؟
السائل من غير شك طيب القلب محبٌّ لوالدته.. حريص على إرضائها.. وما فعله معها من مُحاولة إكراهها على التصديق على عقد بيع له تَتنازل فيه عن بعض أملاكها في غيْبة إخوته يَعتبره مِن أطماع الدنيا الرخيصة التي دفعه إليها الشيطانُ، مُمثلًّا في زوجته وابنه المهندس الزراعي، وبهذا الاعتبار يَعتذر عن الإساءة التي وجَّهها لوالدته وهى في سِنٍّ كانت تنتظر فيها منه أن يُحافظ بكل وسيلة على إحساساتها وعدم إيذائها نفسيًّا. إيذاءً مباشرًا أو غير مباشرٍ، وبالأخص أنها كانت على صوابٍ لحظة أن امْتنعت عن التصديق على عقد البيع الجديد فهو ابنٌ لها كبقية إخوته، وكان يكفى في تمييزه عن إخوته أن وافقت له في الخفاء على ملكية المحل الذي كان يُباشر فيه والده تجارةَ البقالة في حياته. ...
وما ناله من سُوء السُّمعة في القرية بسبب هذه الأزمة بنيه وبين والدته يُعتبر عقوبةً كبيرة له على جريمته الشنعاء، فإنسان كان معروفًا بين أهل قريته بالتديُّن ومعرفة دين الله، يُصبح بتصرفه هذا بعيدًا عن رضاء الله، فالقرآن الذي يحفظه وكان يعظُ به أهل القرية؛ إذ يقول في شأن معاملة الوالدين: (وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إيَّاهُ وبالوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أحَدُهُمَا أوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لهمَا أُفٍّ ولَا تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لهُمَا قَوْلاً كرِيمًا. واخْفِضْ لهمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُاَ كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). (الإسراء:23ـ 24).. إذا به(51/6)
يحملها على الخروج من المنزل في ساعة مُتأخرة من الليل هاربةً تبحث عن ملْجأ يَقِيهَا سُوء تَصرُّفاته معها. فهو يقف على الضدِّ تمامًا ممَّا يَطلبه القرآن الكريم. ...
وبالإضافة إلى ما ناله من سُوء السمعة بين أهل القرية، فإن أمره قد انكشف لإخوته في علاقتهم به. ففي نظرهم: أنه استغلَّ أنه أكبرهم وحمَل والدته فيما مضى على أن تُصدِّق على عقد بيْع له بمِلكيَّة المحل الذي كان والدهم يُباشر فيه التجارة. ومثل هذا المحل له وضْعٌ خاصٌّ في نفوسهم، وبانكشاف هذا الجانب في علاقة السائل بإخوته أصبح غير مُؤتَمنٍ.. أصبح غيرَ أمينٍ على مصالحهم المشتركة. وتنتقل عدم الثقة فيه منه إلى زوجته وابنه المهندس الزراعي. وبذلك ينشأ نوع من العَداوة والبغضاء في الأسرة بدلاً من الأمان والاطمئنان والاحترام المتبادل.
والسائل وإنْ كان طيب القلب.. وإنْ كان قد سارع واعتذر عمَّا أصاب أمه منه: فإنه ضعيف الشخصية؛ إذ بدلاً من أن يَنصح زوجته وابنه المهندس الزراعي بالتوقُّف في سبيل المال وجَمعه عند الحدِّ الذي لا يُؤذي الآخرين، ولا يَضرُّ العلاقات الأسرية إذا به يُسارع فيُنفِّذ في غِلْظة وعُنف ما أشارت به الزوجة وما أملاه الولد على أبيه، ويَرتكب ما يَرتكب مِن أخطاء في حقِّ نفسه أولاً بين أهل القرية، وأفراد أسرته.. وفي حق والدته.. وفي حق إخوته.. وفي حق الزوجة والولد وإخوته أنفسهم؛ لأنه خلَّف لهم الآن عدم ثقةٍ به. وضعْفًا في منزلته الاجتماعية، وسيِّئةً لا تُنسَى في أسرته. ...
ما كان أغناه عن تبديد الثقة به، وانخفاض منزلته الاجتماعية بما ارتكبه من سيئات، ولو كان ذا حَزْمٍ وعزْم إزاء الأهواء التي تحدَّث عنها بأن الشيطان قد أعْماه عنها. وهي تلك السيئات التي وقعت بسبب حادثِ أمه.(51/7)
وربما كان هناك جانب من الخير فيما أتَى به السائل هنا في علاقته بوالدته. وهو التنبيه لجميع أفراد الأسرة بعَدم صلاحيته منذ الآن للرِّيادة. ومِن ثَم يجب أن يسألوه أولاً فيما يُريد أن ينصح به، أو يفعله للأسرة ككُلٍّ.. ولا يأخذوا ما يراه بدون مُساءلةٍ له. ...
وكذلك السائل نفسه كزوجٍ وكوالدٍ سيُناقِش مستقبلاً ما تُشير به الزوجة أو يُشير به ولدٌ من الأولاد، أو جميعهم. ومعنى المناقشة: أن سيُفكر فيما يجب أن يوافق عليه وسيبحث السبيل السويَّ إلى تنفيذه. ...
وكذلك زوجة السائل وأولادها سوف يتريَّثون فيما يَعرضونه على والدهم.. سوف تكون هناك رَوِيَّة فيما يطلبون. إنهم سيتعلمون من هذه الأزمة كثيرًا، وستكون لهم: بدايةً وقْفةٌ جديدة في حياتهم نحو ما ينبغي.. وما لا ينبغي. ...
... والسائل الآن عليه أن يَعتذر لوالدته ولإخوته هو وزوجته وولده المهندس.. وأن يتوب إلى الله ـ تعالى ـ فلا يعود إطلاقًا إلى مثل ما فعل.. وأن يطلب منها الصفْح والدعاء له. والأمل أن لا يكون ما وقع لها: سببًا في تردِّي صحتها. ...
... هذا عن الحادث.. أما عن شخصه فهل يستطيع أن يكون صاحب رأيٍ ومشيئة؟ إذا أراد أن يكون ذلك فلْيرفُض عقد البيع السابق ويضع تصرُّفه هذا أمام والدته وأخوته. إنه إن فعل سيقضى على كثير من السيئات التي وقعت، كما يقضى على نزوات زوجته وولده.. إنه إن فعل ذلك سيكون نوعًا من التأديب لهما.
70ـ النشاط الديني قد يكون غير مَرغوب فيه بين الوالد وولده
مهندس بإحدى القرى حاصل على بكالوريوس هندسة، ومدرس بإحدى المدارس الثانوية، ومشكلته بينه وبين أبيه: فهو متديِّن، ويقرأ كثيرًا في الكتب الدينية والقرآن الكريم، ويقوم بالخطابة في مسجد القرية كل ثلاثة أسابيع مرة.. كما يقوم بالأذان فيه، وقد اختارتْه القرية لتكون معه مَفاتيح المسجد.(51/8)
... ووالده لا يرضى عن خطابته في المسجد، ولا عن آذانه للصلاة فيه، ولا عن قراءة القرآن بعد صلاة الفجر، ولا عن أي نشاطٍ دينيٍّ له.. وحُجته في ذلك أن شباب القرية كثيرون، فلماذا يُختار بالذات لهذا النشاط.
... وقد امتد خلاف والده معه: أنه سلبيٌّ عندما طلب مِن والده الموافقة على خِطبة إحدى بنات القرية.. وعلى تأهيل سكَن له مع أنه يُعطيه الراتب كل شهر.
ويطلب أن نُجيبه على ستةِ أسئلة:
أولاً: هل يترك البيت، ويترك أخوته، ويَسكن بعيدًا عنهم؟
ثانيًا: هل يترك الأذان، لكي لا يسمع والده صوته عندما يُؤذن؟
ثالثًا: هل يترك الخطابة يوم الجمعة، وبعض الدروس اليومية؟
رابعًا:هل يترك صلاة الجماعة، ولا يُصلي بالناس إماما ؟
خامسًا: ... هل يترك الخَطيبة التي قد خَطبها رغم أنه قرأ الفاتحة مع أهلها؟
سادسًا: ... هل يمتنع عن الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن الكريم حتى الساعة السابعة صباحًا؟
ثم يختتم رسالته بقوله: ماذا افعل وأنا الآن في حالةٍ صراع مع الزمن وصراع مع الآلام؟(51/9)
مشكلة السيد السائل هي في الواقع مشكلة والده، وهي خوْفه مِن أن تكون مظاهر تديُّن ابنه على نحو ما تصدر عنه الآن، سببًا في إيذائه وضرره مستقبلاً، وبالتالي في تكبُّد والده المَشقة والعنَت ولو لفترة ما في حياته. ...
... فالنشاط الإسلامي في كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة غير مَرغوب فيه بدعوى أنه يصرف الطلاب والطالبات عن الدراسة الجادَّة والهادفة.. أو بدعوى أنه يؤدي إلى التعصُّب والطائفية. ...
... ولأنَّ النشاط الإسلامي على الوجه الذي يُمارسه المهندس السائل في مسجد القرية غير مرغوب فيه، فجهات الأمن المختصة في أيٍّ من مجتمعاتنا المعاصرة تُراقبه عن كثَب حتى إذا ظهر وسيَطر على اتجاهات النشاطات الأخرى للشباب تدخَّلت وأوْقفته بصورة أو بأخرى، وربما دفعت به إلى الخلْف، بحيث لا يُقبل عليه الشباب إلا سِرًّا أو في حذَر شديد، ووالد السائل هنا لا يُحاول منْع ولده من أداء العبادات كما يُؤديها أي شاب آخر. وإنما مُحاولته المنْع: تنصبُّ على الظهور والجهر بالآراء.. بحيث تظهر قيادته لحركة الشباب في التديُّن، فكوْنه يؤم المصلين.. وكوْنه يخطب الجمعة.. وكونه يُلقي المحاضرات عقب أداء الصلاة.. وكونه يؤذن للصلاة.. وكونه يُواظب على قراءة القرآن بعد صلا ة الفجر حتى طلوع الشمس.. كل هذا وأمثاله يُعبِّر عن نشاط دينيٍّ غير عاديٍّ، وفي ظروف تمرُّ بالمجتمعات الإسلامية غير مُواتية في نظر بعض نُظم الحُكم القائمة لنشر النشاط الإسلامي بين الشباب، بحيث يجرُّ الكثير منهم إلى التعصُّب أو إلى الطائفية البغيضة!. ...
وإصرار مُعارضة الوالد لابنه السائل هنا إنما هو للظهور الواضح بالتديُّن: وهذا يدلُّ على حرْصه عليه بعيدًا عن الأذَى والضرر، الذي قد يَلْحقه من تتبُّع الرقابة للنشاط الإسلامي على الخصوص وسَط الشباب في المجتمع. ...
... وكذلك رفض الوالد موافقته على خِطبة ابنه لمَن تقدَّم لخِطبتها: لكي يحمله على(51/10)
أن يكون عاديًّا ـ وليس رائدًا ـ في أدائه للعبادة.. لكي يحمله على أن لا يُلفت نظر القائمين على شئون الرقابة إليه. ...
واحتكاك والد السائل هنا به مِن أجل صورة مِن صور التديُّن: يُعتبر أمرًا عاديًّا يجري بين الآباء والأبناء الشبان من أصحاب المُيول الإسلامية في مجتمعاتنا المُعاصرة، إذْ بعض الآباء قد يمنع أولادهم مِن الذهاب إلى المسجد كليةً لأداء الصلاة فيه، خوفًا من الاتصال ببعض رفقائه، أو خوفًا من التشدُّد في التزام بعض تعاليم الدِّين، على أثَر المناقشات التي قد تقع بين الشباب بعضهم مع بعض يتبادلون فيها الآراء.. والمذاهب، وغالبًا ما تقع هذه المناقشات في المسجد عقِب أداء الصلاة، أيِّ صلاة. ...
وبعض الآباء أيضًا قد يُحرِّم على أولاده حفظ القرآن الكريم، أو قراءته، ولو في المنزل، خوفًا مِن أن يُعرف بانتسابه إلى القرآن بين زملائه ورفقائه في المدرسة أو في الجامعة.
وكثير من الأمهات والآباء يندفع إلى منع البنت مِن أن تَتَزَيَّى بما يُسمَّى بالزيِّ الإسلامي، وتُعرف به بين زميلاتها بحُجة أن ارتداء هذا الزيِّ قد يجرُّ على مَن تتبنَّاه: نُفرة الشباب منها، فيَكسد سوق زواجها، وواقع الأمر خشْيةً عليها مِن أن تتهم بالرِّيادة الإسلامية وهو اتهام قد يُؤدي إلى صعوبات في أسرتها.(51/11)
وإزالة سوء العلاقة بين الوالد وابنه السائل هنا يتوقَّف على فهم السائل لنفسية والده، فوالده لا يَكرهُه، بل على العكس: يُحبه ويَحرص على منفعته ومصلحته، كما يراها والدٌ لابنه، ووالده لا يُريده بعيدًا عن التديُّن وعن الصلة بربه. وهو يُريده أن يكون على صلة حسنَةٍ بربِّه؛ لأن ذلك سيجعله مستقيمًا في سلوكه، ويُؤهله لأن يكون ذا ضميرٍ وخشية مِن الله في أداء واجباته، وهي واجباتٌ نحو الأسرة الخاصة، ونحو المجتمع الذي يَنتسب إليه. ...
وإنما كل ما يُريده الوالد لابنه هو إبعاد "شبهة الريادة" الدينية عنه، والريادة في الدين قد تُصبح شُبهة، وتُصبح تهمةً كذلك، إذا حَلَّ بالتديُّن "أزمة"، وأزمة التديُّن تشتد إذا ما ظهر الاتجاه الإسلاميُّ مسيطرًا على الشباب، وتطرَّفوا فيه عصبية، وتشددوا في الْتزام ما لا يُلتزم من أمور تُنسب إليه.
ومجتمعاتنا المعاصرة تتعرض لأزمة التدين من وقت لآخر، ولذا مَن يعبد ربه يجب أن ينأَى بنفسه عن "التطرف" في الالتزام. ... ...
فيُروى عن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء ثلاثة رهْط إلى بيوت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألون عن عبادة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلمَّا أُخبروا قال أحدهم: أما أنا فإني أصلِّى الليلَ أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر لا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا.. وكذا..؟ أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأُصلى وأرقد وأتزوَّج النساء، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني. ...
... فالرسول ـ عليه السلام ـ لم يَرَ "التطرُّف" و"المبالغة" في التدين سبيلاً إلى إرضاء الله.(51/12)
والسائل لا ينبغي له أن يتْرك أهله وإخوته ويسكن بعيدًا عنهم، وإنما عليه أن يُصبح كأيِّ إنسان آخر في أدائه الصلاة.. عليه أن يُرضي والده ويترك الآن مُؤقتًا مهمة الآذان والإمامة إلى آخرين عدَاه، كسْبًا لثقته، ويوم يكسب ثِقة والده ستتحسن حتْمًا العلاقة بينه وبين أفراد الأسرة جميعًا، وترْك الآذان والإمامة نوع من التَّقِيَّة، والتقية سبيل مؤقت لتجنُّب العنَت والمشقَّة: (لا يَتَّخِذُ المُؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ مِن دُونِ المُؤمنينَ ومَن يَفعلُ ذلك فليسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ إلَّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقَاةً). (آل عمران: 28)..
94 ـ معاونة الأقارب أولِي الرحِم في حدود الاستطاعة البشرية
يقصُّ مواطن يعمل بإحدى الشركات مشكلته فيقول إن له شقيقًا يعمل بإحدى الدول العربية.. وشقيقته تُقيم بالقاهرة.. وأمًّا تُقيم في محافظة بالصعيد.. وهو متزوج ويعول أسرته الخاصة ويعيش معها في القاهرة؛ لأنه يعمل في شركة فيها.
وهو يذهب إلى مقرِّ والدته مِن وقت لآخر ليَزورها. وكذلك يُرسل لها ما يستطيع مِن نقود.. ولكن الوالدة تُريد أن يكون بجوارها في الصعيد.. وترفض أن تَنتقل للسكْنى معه بالقاهرة، وتَعتِب عليه وتقول له: إنها لا ترضى عنه إلا إذا انتقل وأقام معها.
ويسأل: أن نُوجهه إلى حلِّ هذه المشكلة؛ لأنه مؤمن بالله، وحريص على رعاية الوالدينِ.(51/13)
كما تسأل سيدة أخرى من إحدى المحافظات، لها نفس المشكلة مع والِدَيها.. عن حلٍّ يُطمئنها نفسيًّا ويُبعد عنها الحَيْرة التي تعيش فيها، فهي متزوجة.. ولها ثلاثة أولاد.. ترعاهم، وبيتها وأولادها يأخذون نشاطها في العمل اليومي، ولكن الوالدانِ يُوجهان لها اللوْم؛ لأنها لا تقوم بإنجاز حاجتهم المنزلية أثناء غيابهما في العمل الخارجي، وهي مُترددة الآن بين ترْك أولادها الثلاثة والذهاب إلي مباشرة العمل المنزلي في مسكن والديها.. أو رعاية الأولاد وبيت الزوجية.. وعدم إنجاز العمل في مسكن الوالدينِ.
هنا في هاتين المشكلتينِ قدْر مُشترك، وهو أنهما ترتبطان بعلاقة الوالدينِ بأولادهما:
... جانب الوالدينِ يُحدد طلباتٍ.. ويتَّجه بها إلى الأولاد
... وجانب الأولاد يُحْرج في تنفيذ هذه الطلبات؛ لأنه لا يستطيع تنفيذها.
... فوالدة السائل الأول تطلب من ابنها في القاهرة أن ينتقل إليها ويسكن بأسرته معها في إحدى محافظات الصعيد، ولا تكتفي بأن يَتردد عليها مِن آنٍ لآخر.. ولا بما يُرسله مِن نقود، كلَّما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
... والسائل لا يستطيع تنفيذ الرغبة؛ لأنه مرتبط بعمله في القاهرة ومُرتبط أيضًا بأسرته فيها.. ووالدَا البنت السائلة يَطلبانِ منها: أن تقوم بعملهما في المنزل أثناء مباشرتهم العمل في خارجه، بينما السائلة ـ وهي ابنتهما ـ مشغولة بأولادها الثلاثة.. وبيت الزوجية ولا تستطيع أن تُوزع نفسها على المنزلين.. كما لا تستطيع أن تترك أولادها وبيت زوجها، لتتفرَّغ للعمل في منزل والديها.(51/14)
والحقيقة كما تبدو في كتابَي السائلين: أن المشكلة ليست بين الوالدينِ من جهة، والأولاد من جهة أخرى، وإنما هي بين: أنانية الوالدينِ.. وعدم أنانية الأولاد، فتَشَبُّثُ الأم بانتقال الابن إليها ظاهرةٌ من ظواهر الأنانية.. وغضب الوالدينِ من ابنتهما؛ لأنها لا تُباشر عمل منزلهما في غيْبتهما، وتخشى على أولادها وزوجها: ظاهرة من ظواهر الأنانية منهما كذلك.
... والابن الحائر بين واجبه في عمله ورغبة والدته.. والبنت الحائرة بين واجبها نحو أولادها وزوجها ورغبة والديها، وليست حَيْرة أيِّ واحد منهما: ترجع إلى أنانيةٍ لدَيْهِمَا، وإنما تعود حيْرتهما إلى أنهما يُريدانِ أن يكون فعْلاً في خدمة الأبوينِ، ولكن فقط ليس على حساب الواجب عليهما نحو أنفسهما وأسرتيهما.
... أيُّ شيء ينقص الأم التي تعيش في الصعيد إذا كان ابنها يتردَّدُ عليها من وقت لآخر.. وإذا كان يُرسل إليها من النقود ما يَستطيعه؟. أتُريد أن تتدلَّل؟. أتريد أن تتحكَّم لتعرفَ مدَى نُفوذها على ابْنها". أتُريد أن يظلَّ ابنها طفْلاً، ولا يُصبح رجلاً يومًا ما: يُكوِّن أسرةً جديدة.. ويعرف ما يجب عليه في الحياة بعيدًا عنها؟
... والوالدانِ اللذانِ يغضبانِ من ابنتهما المتزوجة: لماذا لا يترك أحدهما العمل الخارجي.. لماذا لا تترك الأم هنا ـ مثَلاً ـ العمل خارج المنزل، وتعود إلى البيت لتقوم بشئونه، وواجب الزوجية فيه، بدَلاً من أن تُعلن غضبها على ابنتها؟ لماذا ـ إنْ هي أصرَّت على العمل الخارجي ـ لا تَستأجر مَن يقوم لها بالعمل المنزلي في مسكنها هي وزوجها؟ كان يُنتظر منها إذا عرَضت ابنتها عليها أن تُباشر العمل في مسكن أبويها أن تُنبهها إلى واجبها الأول، وهو رعاية أولادها الثلاثة وزوجها في بيت الزوجية وأسرتها.. كان يُنتظر أن تَرْفض رفْضًا باتًّا عرض ابنتها عليها، لأن تنفيذه سيكون على حساب المَصلحة الخاصة للأولاد الثلاثة وأبيهم، وهو زوج البنت.(51/15)
... إنها الأنانية.. أنانية الأم.. وأنانية الوالدينِ، هي التي أوجدتْ مشكلة الابن الموظف.. ومشكلة البنت المتزوجة.
وعندما يدعو القرآن الكريم الأولاد إلى الإحْسان للوالدينِ، في قول الله ـ تعالى ـ مثلاً:
(وبالوالدينِ إحْسانًا). (الإسراء: 23).. يُريد أن يُخفِّف من قوة الأنانية التي قد تتمكَّن من الأولاد في مُعاملة والديهم، فإذا كان الأولاد الآن على أُهْبَةِ الاستعداد لتلبية رغبات والديهم فقد استجابوا لدعوة الله لهم: فلا يَنبغي للوالدينِ إزاء هذه الاستجابة أن تتمكَّن منهما الأنانية الآن ويَفرضَا على أولادهم ما يُفوت أداءَهم للواجب عليهم: نحو أنفسهم ونحو أُسرهم.
... والسائل والسائلة هنا يجب أن يَعلم كلٌّ منهما: أن الإحسان.. الذي يدعو الإسلامُ الأولادَ إلى مُباشرته إزاء الوالدينِ.. لا يتضمَّنُ ترْك واجباتِهم نحو الله..ونحو أنفسهم.. ونحو أُسرهم الخاصة.. وما تَطلبه أمُّ السائل.. وما يطلبه الوالدانِ للسائلة هنا: لا يَستقيم مع الإحسان المطلوب في شيء، وكل منهما في حِلٍّ مِن عدم السماع له، فضلاً عن الاستجابة إليه.. والله مُطَّلع على ما في النفوس، وسيجزي كُلًّا منهما بالخير على تَلمسهما إرضاء الوالدينِ.
... وليستمر الآن السائل في اطمئنان: في طريقه الذي يَسلكه مع والدته، ولا يُصغي بجدٍّ إلى ما تَطلبه منه، ولتَستمر السائلة في اطمئنان: في خدمة أولادها وزوجها، فهم أحقُّ برِعايتها لهم، والوالدانِ عندئذ ليست لهما حاجة إلى الرعاية طالما يَقومان بالعمل خارج المنزل. وحاجتهم فقط إلى خادم أو خادمة، تقوم بعمل المنزل، ولدَيهم من الربح على العمل الخارجي ما يُمكنهم من توفير ذلك الخادم أو تلك الخادمة.(51/16)
77ـ إرادة المرأة لا تقوى على جِماح هواها
كتب مواطن من إحدى المحافظات يقصُّ أن والديه قد توفيا، وأنه تسكن معه في المنزل زوجة أبيه، وهي تبلغ من العمر الخامسة والعشرين، وأخ يبلغ من السادسة والعشرين، وهو طالب معه في الجامعة، وأختانِ: إحداهما في الجامعة، والأخرى في الثانوي.
وفي صباح يوم استيقظ في السادسة ليتأهَّب للذهاب إلى الكلية فلم يجد أخاه على سريره في نفس الحجرة التي يَسكناها معًا، وبعد التفتيش عنه شاهده مع زوجة أبيه في حجرتها في وضْع شائنٍ، وهو يسأل عن مَوقفه إزاء هذه الواقعة:
( أ ) هل يترك المنزل النجِس ـ على حدِّ تعبيره ـ وعندئذ ألَا يُعتَبر تركه للمنزل تخلِّيًا عن مسئوليته نحو أُختيه؟
( ب) هل يأخذ الطريق إلى قتْل زوجة أبيه، عِقابًا لها على مُباشرتها الفحشاء مع أخيه في منزل الأسرة، وبذلك يُسيء إلى مستقبل إخوته بالإضافة إلى الفضيحة الخُلقية التي ستصحب هذا العقاب؟
(ج) وما يخشاه أن تتجاوز زوجة أبيه بفِعلها الشائن: القريب إلى الغريب، طالما هي في زهرة عمرها وطالما هي أيضًا فاقدةُ الإحساس بحُرمة الأسرة وبكرامتها؟
إن الحل الأول الذي يَقترحه السائل هنا حلٌّ سلبيٌّ لا يُقدِّم ولا يُؤخر في المشكلة، ومن أجل أنه يُحسُّ بسلبيته يُعلق عليه بأن فيه هروبًا من المسئولية نحو أختيه، وهذا صحيح، هو هروب مِن المسئولية، ولكن ليست مسئوليته نحو أختيه فحسب، بل مسئوليته نحو الأسرة كلها، فزوجة أبيه إن مارست الفاحشة مع أخيه، والسائل مَوجود معها بالمنزل، وفي وضْعٍ يُمكن أن يُراقبَها، كما يراقب أخاه، فهي بدافع الحُمق، وبسيطرة الغَريزة وخُلوِّ المَكان لها، وهي شابَّة مع شاب يُشاركها السنَّ والعمر والشباب، يتوفَّر لها الآن أكثر من ذي قبل الاتصال بعشيقها، وهو ابن زوجها الذي توفَّى عنها.؟(52/1)
... والحلُّ الثاني وهو مُحاولة قتلها ينطوي على انفعال وغضب ممَّا وقع أكثر ممَّا ينطوي على علاج للموقف، ولو كان الأمر في مجتمع تُطبَّق فيه الشريعة سواء في النظر إلى الجرائم الاجتماعية ـ وفي مُقدمتها الزنا، أو في حُدود هذه الجرائم وعقوبتها، لنالت زوجة الأب مِن الخزْيِ في المجتمع أكثر ممَّا ينال بدَنها من الأذى عند إقامة الحد عليها، ولمَا فكَّر السائل في أن يسلك طريق القتل عقوبة لها على ارتكابها الفحشاء، ولكن المسلمون في مجتمعاتهم المعاصرة يَعيشون اليوم بين نقيضينِ، بين الإيمان بالإسلام ومَبادئه من جهة.. وبين التجاوُز عن الإسلام في التطبيق في حياتهم مِن جهة أخرى، فهم يُصدمون مِن وقتٍ لآخر، عندما يُشاهدون مباشرة المنكر أو الفاحشة، ويُحسون بثقلها في عُمق نفوسهم ثم لا يجدون ما يَحول بينها في يومهم، أو غدهم، إنه صراع نفسيٌّ قويٌّ عند مَن يتردد على الإسلام ويُؤمن بمبادئه، ثم يُفاجئه الواقع في حياة الأسرة أو في حياة المجتمع بما يُضادّ الإسلام ويُعلن الاستسلام لمَا يُضاده ويُناقضه.
... إن السائل في قصته التي يرويها عن هذه الواقعة يذكر قوله:(52/2)
" هذا علمًا بأنه في الفترة التالية للواقعة لم أرَ منهما أيَّ حرَجٍ تِجاهي، حيث شاهدتُهم وكأنهم قد فهموا أن رضائي هذا مُوافقة على ما يفعلون". ومعنى ذلك أنه لم يُراجع زوجة أبيه ولا أخاه فيما وقَع بينهما مِن فاحشة، كما يدَّعي، وكان الأجدر به أن يُراجع كلاً منهما على حدَه لمصلحة الأسرة، ويُذكِّرهما بقول الله تعالى: (ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَا قدْ سَلَفَ إنَّهُ كانَ فَاحشةً ومَقْتًا وسَاءَ سَبِيلًا). (النساء: 22).. أيْ يُذكِّرها بأن الإسلام يرى في زواج الابن بامرأة أبيه فاحشةً، وبُغضًا ومُنكرًا وطريقًا سيِّئًا في الحياة، فضْلاً عمَّا يراه مِن زنا الابن بامرأة الأب، فهو جريمة تتعدَّى حُدود الفاحشة والمنكر لنِكاح الجاهلية. وكان يُعرف زواج الابن بامرأة الأب في الجاهلية باسم زواج: "المَقْتِ"، وهو الزواج المَبغوض عند الله والناس، فزوجة الأب بمَثابة الأم لأولاده مِن غيرها، ومَن يَزْنِي من الأولاد بزوجة أبيه، فكأنه يَزني بأمه، فضلاً عن أنه يَنتهك حُرْمة أبيه في قبره، وانتهاك حرمته معناه: عدم تقديره، والاستِخفاف بمَنزلته، ومَن يصنع ذلك يَحتقر نفسه بالذات باحتقار أصْله.
... وبجانب مُراجعة كلٍّ مِن الأخ وزوجة أبيه في هذه الفاحشة فإنه كان يجب على السائل أن يُدبِّر الأمر مع أخيه بالذات في عدم مُعاودته لها مرة أخرى، حفاظًا على كرامة الأسرة وعلى مستقبل الأختينِ معهما، وإنْ كنتُ أشكُّ في أن الأخ يَفِي بوعده لو وَعَد بعدم مُعاودته الفاحشة مع زوجة أبيه، فهي سوف لا تتركه وحده، طالما آثَرتْ مِن أول الأمر طغيان المتعة المادية على الكرامة الإنسانية، وهي كرامتها كأمٍّ، وكزوجة لأبٍ ينتسبون إليه جميعًا.(52/3)
إن القيَم الإسلامية المُعاصرة كقيَم: العِفَّة.. والكرامة.. والأُمومة، وإنَّ حرمة الإنسان في عرْضه.. وفي نسَبه وقرابته، لم يعُد لها وزن في مُواجهة الشهوة والرغبة الجارفة في المتعة المادية، فالابن لا يعرف المَروءة من جانبه، ولا الكرامة، ولا حُرمة العرْض وحُرمة النسب لزوجة أبيه ما أُتيحت له الفرصة لمُعاشرتها معاشرة جنسية. وزوجة أبيه مِن جانبها لا تعرف حُرمة الأمومة لأبناء زوجها، لا كرامتها كزوجةٍ لربِّ الأسرة وكسيدة يُنظر إليها كقِمَّة للأسرة بعد وفاة ربها، إذا ما تحرَّكت عاطفتها نحو شاب مُراهق، ونحو فتًى يلقاها ويُساكنها في غيبة أخوته، وفي حضرة الشيطان يجمع بينهما عندما تعجز عن مُقاومته، إنَّ عدم الاعتداد بالقيَم الإنسانية في علاقات الأفراد في الأسرة والمجتمع معًا، يعود إلى وسائل الإعلام التي تنقل حَركات الموْجة المادية الطاغية التي تُصاحب الآن ما يُسمَّى بالثورة الجنسية، وهي تلك الثورة التي ترى في علاقة المرأة بالرجل: أنها فقط علاقة استمتاع بدنيٍّ مِن الجانبين، على المرأة أن تغري الرجل بمظهرها وزينتها ومشيتها وحديثها، وعلى الرجل أن يَستجيب للإغْراء في أشكاله وصوره المختلفة، أمَّا ما وراء علاقة المتعة المادية أو البدنية: مِن مُشاركة في رسالة الإنسان في الحياة.. أو في المحافظة على البقاء النوعي بالنسْل وتربية الأولاد، أو في بناء الأسرة والمجتمع، فذاك أمرٌ إضافيٌّ، يأتي بعد الاستمتاع والمتعة.
ونرى أن السبيل الذي يُبعد الأخ عن زوجة أبيه، هي السعْي في زواجه فإذا تزوج ابتعد عنها حرْصًا على زوجته، وابتعدت هي عنه كُرهًا لها وحِقْدًا عليه آنئذٍ، وقلَّما تُحاول أن تتصل برجل آخر بعده إلا إذا كان زوجًا، فهي تَخشى عاقبة الأمر في أن تسوء سُمعتها بينما تمضي بها السِّنُّ، ويحول ماضيها دون أن ينظر إليها رجلٌ أيُّ رجل.(52/4)
لماذا خَلق الله إبليس برغم مِن أنَّه يعلم أنه سيُخالِفه ؟
عِلْم الله علمٌ شامل، مِن الأزل.. إلى الأبد.. فوق الزمان. أي لا يخضع لتقسيم: الماضي، والحاضر، والمستقبل. فقبْل خلْق المخلوقات كان سبحانه يعلَم وُجودِها، وما تكون عليه، وما تصير إليه، ويعلم المُطيع منها، ويعلم العاصي، ومع ما يعلمه مِن عصيانها خلْقها لحِكمة يعلمها.
فقد خَلق إبليس كأحد أفراد الملائكة، وكان يعلم أنّه سيكون وحده العاصي عندما اختبر الملائكة في طاعة الله، ليكشف للإنسان عن مصدر الشَّرِّ في حياته، وهو وَسوسة إبليس أو الشيطان. فإبليس الملَك أخذ اسم الشيطان. بعد أن امتنع وحده عن السجود لآدم. ثُمَّ حذَّر الله أبناء آدم من فِتنته بعد أن نجح في إغواء أبويهم في الجَنّة آدم وحواء، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ للذِينَ لاَ يُؤْمِنونَ) (الأعراف: 27) وأصبح الشيطان قَبيلاً، أو مجموعة من غير الملائكة. قد يكون بعضُها مِن الإنس، والبعض الآخر من الجنِّ. كما جاء في قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرَفَ القَوْلِ غُرورًا ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ ومَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام: 112) فطالما أنَّ إبليس هو مصدر الشَّرِّ في حياة الإنسان فسيَعصي اللهَ حتْمًا، وإلا ما كان مصدر الشَّرِّ، وقد خلَقه الله مع علمه ـ جلَّ جلاله ـ بأنَّه سيَعصاهُ لابتلاء الإنسان بشَرِّه. وابتلاء الإنسان لا يَتِمُّ إلا إذا كان هناك أمامه خير، وهناك شرٌّ معًا. فإمَّا أن يطيع الخير في حياته، وإمّا أن يُغرِيَه الشَّرُّ(53/1)
ويستهويه ويسير في طريقه، والذي ينجح من الناس في الاختبار والابتلاء هو الذي يؤثِر الخيرَ ويُعرِض عن الشَّرِّ. فالإنسان الذي يؤمن بالله وهدايته يكون قد اتَّجه إلى الله ونجح في اختبار الله إيّاه. والإنسان الآخر الذي يَكفر بالله وبرسالة رسوله يكون أخفَقَ في الاختبار والابتلاء، أو قد اتَّبع الشيطان، أو آثر الشَّرَّ على الخير.
ولأنَّ هوى النفس جزءٌ منها، ولأنَّ شهوة الإنسان ليستْ خارجة عن نطاق النفس الإنسانيّة فالإنسان الذي يتغلّب هوى النفس عليه، والذي تُسيطر شهوته على سلوكه تكون نفسه أمّارة بالسُّوء. ولا ينجِّي نفسه من غلبة الهوى والشَّهوة عليها اتباع رسالة الله: (ومَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارةٌ بِالسُّوءِ إلاّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف: 53). وهنا الناس صِنْفان: صنف يَطغَى بشهوته وهواه، وصِنف آخر يخشَى ربَّه ويَنهى نفسَه عن الهوى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا. فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى. وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى. فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى) (النازعات: 37 ـ 41). ولأنَّ الشيطان واحد وهو إبليس، ولكنْ له أتباعٌ كثيرون من الإنس والجِنِّ مَعًا يأخذون اسم الشياطين كذلك، أي أتباع ظاهرون وأتباع غير ظاهرين، كان هوى النفس في الإنسان وكانت شهوته في ذاته من أنصار إبليس، تدفع إلى الإغراء والفِتْنة. والوَسواس الخَنّاس الذي يُوسوِس في صدور الناس، إمّا أن يكون هوى النفس وشهوتها وعندئذٍ يكون مَستورًا لا يُرى، فهو من الجِنّة، وإمّا أن يكون معروفًا خارجًا عن الذات نفسها فيكون من الناس. وهذا معنى قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ. الذِي يُوسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ) (الناس: 4 ـ 6). أي من هوى النَّفس أو من أناس آخرين والطَّرفان من أنصار إبليس.(53/2)
وإذا كان الوَسْواس الخَنّاس في صدور الناس قد يكون هوى النفس وشهوتها يكون من الجِنّة أي الموجودات التي لا يراها الناس، فبجانبه في ذات الإنسان ما يُسمَّى بالعقل، الحكمة. والإنسان ذاته عندئذٍ يقع بين هواه وبين عقله وبما أن الهوى يسوق إلى الشَّرِّ وأن العقل يسوق إلى الخير، فالإنسان في اختباره في طاعة الله يقع في الحقيقة بين شَرِّ الهوى وخير العقل في نفسه.
ورسالة الله للإنسان على الأرض تُساعده على أن يتَّبِع عقله دون هواه.. تُساعده على أن يتجنَّب الشَّرَّ ويفعل الخير.. تُساعده على أن يتغلَّب على الوَسواس الخنّاس من الجِنّة والناس، وهنا كانت دعوة الإسلام دعوة إلى العقل والخير معًا ومن أجل ذلك كانت زينة للإنسان بعد أن تكون قد وَقَتْهُ من الأخطاء: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِي سَوْءَاتِكُمْ ورِيشًا ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف: 26).(53/3)
لماذا خُلِقَ إبليس من النار، وكيف يُعذَّب في النار نفسها؟
إبليس كان واحد من الملائكة، وعصى ربَّه. وعالَم الملائكة هو عالم السماء والملائكة خُلِقَت من النار؛ لأن النار تميل إلى الصعود والسُّمو، ولا تنجذب إلى الأرض: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً). (الإسراء: 95) ومعنى الآية أنَّ الملائكة ـ لا يستطيعون أن يعيشوا في الأرض كما يعيش الإنسان. ولذلك لم يُرسِل الله واحدًا منهم إلى البشر على الأرض يعيش معهم. ويدعو إلى رسالة الله. وخلق آدم من تراب؛ لأنَّه من عالم الأرض. والتراب يميل إلى الدُّنُوِّ وينجذب نحو الأرض: (خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخّارِ. وخَلَقَ الجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) (الرحمن:14،15) والجانُّ أطلق على الملك هنا؛ لأن معناه الموجود غير المعهود. وهكذا هناك عالم السماء، وعالم الأرض. وتَسكن الملائكة السماء كما يسكن بنو الإنسان الأرض. وهكذا هناك عالم الغائب وهو عالم الملائكة وعالم الشاهد وهو عالم الإنسان. وهكذا الإيمان بالملائكة كالإيمان بالله واليوم الآخر يمثل جزءًا صحيحًا في الاعتقال الصحيح. على النحو ما يُمَثِّل الجزء الآخر فيه مِن عالم الشاهد الإيمان بكتاب الله وأنبيائه: (ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتَابِ والنَّبِيِّينَ) (البقرة: 177). أمّا عذاب إبليس بنار جهنّم مع أنه خُلِقَ من نار، فلا يُصوِّر تناقضًا؛ لأن في قدرة الله أن يجعل من النار في جهنم عذابًا لمَن خلق أصلاً: من نار، كإبليس. كما كان في قُدرته سبحانَه أن يجعل من النار في جَهَنّم عذابًا لمَنْ خُلِقَ أصْلًا من نارٍ كإبليس. كما كانَ في قدرته أن يُخرج النار عن طبيعتِها من كونها مُحرِقة ويحوِّلها إلى أن تكون بَرْدًا وسلامًا على إبراهيم: (قَالُوا حَرِّقُوهُ(54/1)
وانْصُروا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلينَ. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلَى إبْراهيمَ. وأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ). (الأنبياء:68ـ70)(54/2)
لماذا لم تبدأ سورة التوبة بـ: "بسم الله الرحمان الرحيم"؟
أما عدم ابتداء سورة التوبة بـ: (بسم الله الرحمن الرحيم) كبقية سور القرآن الكريم، فيقول بعض المفسِّرين: إن سورة التوبة كانت إنذارًا للمشرِكين والمنافقين. وهى آخر سورة نزلتْ في الوحي المدنيِّ، ولا يناسِب كونَها إنذارًا أن تكونَ بدايتُها: باسم الله؛ لأنَّ اسم الله معناه: أمان وسلام.
ويرى بعض المفسِّرين رأيًا آخر. وهو أنَّ سورتا الأنفال والتوبة سورة واحدة، نزلَتا في شأن القتال. ويقال كذلك: إن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام اختلفوا. فقال بعضهم الأنفال والتوبة سورة واحدة، وقال بعضُهم هما سورتان، فتُرِكت بينهما فرجة لقول مَن يقول سورتان، وتركتْ: (بسم الله الرحمن الرحيم) لقول مَن قال هما سورة واحدة.
والرأي: يجب التوقُّف عند حدّ ما ورد في ترتيب كتاب الله وما جاء عليه ويُتَّهَمُ بفَهْم ما تضمّنه من مبادئ وأحكام، وبتَطبيق هذه المبادئ والأحكام في حياة المؤمن. فهو المنهج المستقيم للحياة البشريّة على هذه الأرض: (وأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (الأنعام: 135).(55/1)
16 ـ نزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة:
لماذا أُنزل القرآن في ثلاث وعشرين سنةً، ولم ينزلْ دَفعةً واحدة؟
طلب كفّار مكة على وجه التحدِّي من رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن ينزل القرآن عليه مرة واحدة وادَّعَوا أنه لو نزل دفعةً واحدة لآمنوا برسالته ويَحكي القرآن ذلك في قول الله ـ تعالى ـ في سورة الفرقان: (وقَالَ الذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدةً) (الفرقان :32).
وكان ردُّ القرآن عليهم في نفس الآية:
(كَذَلِكَ "أي أنزلناه على نحو ما أنزلناه عليه مجزَّأً" لِنُثبِّتَ به فؤادَكَ "يقصد الرسول عليه السلام" ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً "أي وجزَّأناه أجزاء في النزول". (الفرقان : 32).
فالرَّدُّ يتضمّن أن الهدف من نزول الوحي على فترات، طِوال الثلاث والعشرين سنةً هو تطمين الرسول ـ عليه السلام ـ على دعوته وعلى المؤمنين برسالته في صدق إيمانهم بها؛ إذ دعوة الإسلام هي دعوة لتحويل الإنسان المادِّي أو الأنانيّ.. إلى إنسان يَعِي روابطه مع الآخرين على أساس من القِيَم العليا في حياة الإنسان.. أي على أساس من الأُخوّة والتعاون والمشاركة الوجدانيّة في السَّراء والضَّرّاء ومعاونة القويِّ للضعيف والترابط على أساس هذه القيم وهو ما يُسمِّيه الله في كتابه "بحبل الله" في قوله ـ تعالى ـ: (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولاَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران : 103).
وهذا التحول عملية نفسيَّة تقِف في طريقها عقَبات نفسية كثيرة وأخصُّها العادات والتقاليد المادِّيّة أو الجاهلية السابقة لا يُذلِّلها إلا استمرار الدعوة والانتقال بنفوس المسلمين في تدرُّج من وضع سيِّئٍ إلى وضع أقلَّ سوءًا ثمَّ إلى وضْع حَسَنٍ فأحسنَ، حتى يتِمَّ التحول وهذا التحول إذن يحتاج إلى زمن وإلى تدرُّج في السَّير نحو هدف هذه الرسالة.(56/1)
ونُلاحظ هذا التدرُّج في أسلوب القرآن في الدعوة إذ يُبَغِّض أولاً في عادات المادِّيين كما يُبَغِّض في الرِّبا في قول الله ـ تعالى ـ: (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ واللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ). (البقرة: 276). ثُمَّ ينتهي عن اتّباعها كما يَنهَى عن الرِّبا بعد ذلك في قوله: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ). (البقرة: 278). ثُمَّ يرغِّب في العادات الإنسانية المقابلة، كما يرغِّب في الإنفاق في سبيل الله، بمثل قوله ـ تعالى ـ: (ومَثَلُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ "مطر" فآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإْنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ واللهُ بِمَا تَعْمَلونَ بَصِيرٌ). (البقرة: 265) ثُمَّ أخيرًا يأمر بالعادات المرغوب فيها فهنا مثلاً يُبغض في الرِّبا، ثُمَّ ينهى عنه ثم يُرغِّب في الإنفاق في أوجه الخير ثم يأمر بالزكاة. وبينما فرض الزكاة كان في آخر سورة في الوحي وهي سورة التوبة، أي في السَّنة الثامنة في الهجرة، كان التبغيض في عادات جاهليّة في سوء استغلال المال مبكِّرًا في سورة الفجر، وهي السورة العاشرة في الوحي المكِّي قبل الهجرة، في قوله ـ تعالى ـ: (وتَأْكُلونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا). (الفجر 20:19) فالتحوُّل هنا في الموقف من المال هو من الحرص الشديد على المال في جمعه والشُّحّ به ولو كان عن طريق أكل حقوق الآخرين الضعفاء كالنِّساء والأولاد في مِيراثهم.. إلى إنفاق المال على الآخرين في غير مُقابل مادِّيٍّ مِن أحد، سوى القُرْبَى لله. والتحوُّل هنا هو إذن مِن الضِّدِّ إلى الضِّدِّ تمامًا. وهذا التحول النفسيُّ يحتاج إلى تُؤَدة ووقت، كما يقع في مراحل(56/2)
وتطوّر. ومِن هنا كان الزمن الذي أخذه التحوُّل للمؤمنين على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو زمن الوحيِّ كلّه، وهو ثلاث وعشرون سنة.
وكانت المراحل في الانتقال بأحكامها المختلِفة. وهي مراحل عديدة، اقتضتْ تكوين جيل مؤمن.
وهكذا كانت الحكمة في نزول القرآن معجِزًا أن ينزل الحكم وفقًا للتطوّر النفسيّ في الإيمان في نفوس المؤمنين، حتّى اكتمل هذا التحوّل النفسيّ لهم، واكتمل الدين كله، ويعبِّر عن ذلك قول الله ـ تعالى ـ في سورة المائدة ، وهي السُّورة التي نزلت قبل آخر سورة في القرآن مباشرة: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ "أي بنزول القرآن كلّه" وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي "أي بإتمام تحوُّلكم من وَضْعِكم الجاهليّ إلى وَضْعكم الإنساني" ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا). (المائدة: 2). وقد ظَلَّ القرآن يُخاطب المؤمنين من يوم إعلانهم للإيمان إلى أن انتهى الوحي بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ) لا تَشكيكًا ولا تشكُّكا في إيمانهم، وإنَّما لدفْعهم نحو التحوُّل النهائيّ لرسالة الإيمان: في السلوك والاعتقاد.(56/3)
144 ـ ما حكم الشَّرع في الأسرة التي يُنفِق عائلها عليها من مال حرام أو مختلِط بحرام؟
الجواب:
المال الحرام هو ما كان مِلْكًا للغير ملكية فردية أو ملكية عامة وأُخِذَ بطريق الغَصْب والإكراه، أو بطريق السَّرقة، أو بطريق التحايُل والخِداع كمَن يُؤْجَر على عمل لا يؤدِّيه أو لا يُتقنه، أو بطريق الرِّبا واستغلال حاجة المُحتاج.
وهو حرام؛ لأنّه أخذ بغَيْر وجه حقٍّ. وحُرِمَ منه مستحِقٌّ له، وربَّما تكون حاجته إليه أشدَّ من حاجة السارق أو الغاصب، أو المُتَحايِل على أخذه، أو المرابي المستغِلّ.
والذي يُبيح لنفسه الحصول على مال الغير بدون وجه حق يُبيح لنفسه من غير شكٍّ الإنفاق منه على نفسه وعلى أسرته. وهو لا يبالي بعد ذلك ما سيأتي به الغد القريب أو البعيد من وَيْلاتٍ ونَكَبات لأسرته ولنفسه.
إنّه يشكره في الوقت الحاضر الذي يعيش فيه وينفِق فيه من حرام. ولكنَّه في الواقع يُثْقِل نفسه وأسرته معه. يقول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاّ أَنْ تَكونَ تِجارةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ولاَ تَقْتُلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29).
فنهَى أولاً عن أكل الأموال بالباطل، أي بطريق غير مشروع. ويدخل في هذا النهي كل مال حصَّله صاحبه مُفَوِّتًا حقَّ الآخرين فيه، أو مستغِلاّ لوضعهم وظروفهم.
وأجاز في الوقت نفسه نقلَ المال من يدٍ إلى يدٍ أخرى، إذا كان سبب النقل التجارة القائمة على رضا الطرفين، ثم جعل الحصول على المال بالباطل في منزلة قتل النفس أو سبيلاً إلى قتلِها. ومن هنا وصف الله نفسه بالرحمة بالمؤمنين، عندما ينصحُهم بالابتعاد عن الطريق غير المشروع في تحصيل المال، لما له من خطورة على كِيان الذات نفسها ثم على الأسرة.(57/1)
إنَّ الذي يغتصِب مال الغير لا يأمن من عدم استرداده منه أو من أسرته من جانب هذا الغير، ولو بعد حين في صورة ما. وإن لم يسترد الغير ماله فلربَّما يستعيض عنه بما يسيء إلى الغاصب أو إلى أسرته إساءة يكون بها القضاء عليه، وربما هي معه أيضًا.
والذي يسرق المال لا يضمن أن يكرِّر سرقتَه. وفي مرة من المرَّاتِ ربما يضبط وهو متلبِّس بالسرقة، وعندئذٍ يعطِّل مستقبله وتشوه سمعة أسرته.
ومن يأخذ الأجر ولا يؤدِّي عملاً نظيره، أو يؤدِّيه غير متقِن، ينظر إليه على أنه غير مؤتمَن. وأخسُّ الصفات المذمومة في الإنسان أن يَخُونَ فيما يؤتمَن عليه، ومن هنا كانت الخيانة فيما يُؤْتَمَن عليه الإنسان خَصلة من ثلاث كانت مظاهر النِّفاق، في نظر الإسلام.
والمُرابي والمستغِلّ لحاجات الناس فيما يتقوَّتون به لا يأمن نتيجة حقدهم عليه، وإضمارهم له البغضاء. فإنْ لم يصِبْه منهم أذى مباشر فستُصيب سُمعتَه سوءُ فعله، وسينظر إليه الناس جميعًا على أنه مصَّاص الدماء ومخرِّب البيوت.
والإنسان في حياته يعيش مطمئنًا وهادئًا بحُسن سمعته، أكثر ممّا في يده من مال. أما الحرام من المال فليس في واقع أمره مال يُنتفع به، إنما هو سُحت وسَرطان بطيء ينتهي بالخراب بعد القلق المتزايِد والسُّمعة المَشينة المنكَرة.
ومن يُريد الخير والاطمئنان لنفسه ولأسرته عليه أن يلتزم في معيشته ما أحلَّه له الله من رزق وكسْب، ولو كان قليلاً. (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ واللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة: 276).
83 ـ بين المال الحرام والاستمرار في الدراسة(57/2)
طالب من إحدى المحافظات يبلغ الثمانية عشر عامًا، ويذكر أنه مُتديِّن يُؤدي فروض العبادات، ولا يحب الشر والأذى لأحد، ولكن يعيش الآن مشكلة وهي أنه يُريد أن يتمَّ دراسته، والمال الذي يُنفَق عليه الآن يأتي مِن مصدر حرام.. تأتي به أمه. وهي العائلة له ولأخوته. ولا يستطيع أن يعمل أثناء الدراسة حتى يُمكن أن يُنفق على نفسه، فإما أن يقبل هذا المال الحرام، أو ينقطع عن الدراسة:
ويسأل عن رأْيِ الدين في هذا الموقف.(57/3)
التديُّن لا يتجزأ؛ لأن التدين هو العمل بدين الله، كما جاء في رسالة الرسول محمد ـ عليه السلام ـ ورسالة الرسول تكون من مَبادئها: منهاجًا يسير عليه المؤمن بها في حياته، فإذا كان منهج هذه الرسالة، أن يُؤدي المؤمن بها فروض العبادة من صلاة، وصوْم، وغيرهما، وحبّ للخبر للآخرين، فإن مِن منهجها كذلك أن يتجنَّب المال الحرام والإنْفاق منه، واستخدامه ولو في حلال أو في الضرورات، وجاء النهي عن المال الحرام في قول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا لا تأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بيْنكمْ بالباطلِ إلَّا أنْ تَكونَ تِجارةٌ عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ). (النساء: 29).. فكل ما يُحصِّله الإنسان من الأموال المتداولة بين المؤمنين، من غير عمل مشروع: باطل، وأكْلُه أكْلٌ لأموال المؤمنين بالباطل، فغَصْب المال أكْل للأموال بالباطل.. وسرِقة المال أكْل للأموال بالباطل.. والخداع في البيْع والشراء أكل للأموال بالباطل.. والاحتكار أكْل للأموال بالباطل.. والربا أكْل للأموال بالباطل، والأجْر على قتْل النفس التي حرَّم الله قتْلها أكْلٌ للأموال بالباطل.. وأجْر الزانية أكل للأموال بالباطل.. ولكي يُوضح القرآن الكسْب الحلال، في مقابل أكل الأموال بالباطل، ضرب مالَ التجارة والربْح فيه مثلاً في الآية ذاتها، فالربْح في التجارة هو اقتطاع جزء من الأموال المتداولة بين المؤمنين، ولكن في مُقابل عمَلٍ مشروع، وهو حركة التاجر في المال الذي يُتاجر ويُضارب به، والربح الذي نشأ عن المتاجرة ناتجٌ عن اتفاق الطرفينِ، والعمل المشروع هو العمل الذي لا ينطوي على ضررٍ لأحد، وفيما سبق مِن الأمثلة نجد الغاصب لمال الغير.. والسارق له.. والمخادع في المُعاملة والمُحتكِر للسلع حتى يَبيعها بثمن أعلَى.. والمُرابِي.. كل واحد من هؤلاء وأمثالهم يَضرُّ الآخرين بما صنَع مِن غصْب، وسرقة، وخداع واحتكار، ورِبًا، كما نجد أن أخْذ الأجر على قتْل النفس التي حرَّم(57/4)
الله قتلها لا يَنطوي على ضررٍ للمَقتول فحسب وهو إزهاق روحه، وربما وراءه أسرة كان يتكفَّل برعايتها، فأضرَّها في هذه الرعاية. وإنما يَمتد ضررُ الأجْر على قتْل النفس التي حرَّم اللهُ قتْلها إلى تهديد المجتمع كله بالفناء، وكذلك نجد أن الأجر الذي تأخذه الزانية على تَمكين الآخرين مِن مباشرة جريمة الزنا معها، لا ينطوي على ضررِ تَفَشِّي هذه الجريمة في المجتمع فحسب، وإنما ضرره يتعدَّى هتْك العِرْض وحُرمة الإنسان، إلى اختلاط الأنساب، ونشْر الأمراض الوبائية الخبيثة.
... ومِن مبادئ رسالة الإسلام، دفْع الضرر، قبل جلْب المَنفعة، أو المصلحة الشخصية، أيْ أنه إذا ترتَّب على حصول مَنفعة لفرد ما: ضرَرٌ لفرد آخر، فيُساند الإسلام الفرد الذي سيُضار بإبعاد الضرر عنه، وإنْ أدَّى إبعاده عنه: عدم حصول مَن يترقَّب المنفعة، عليها.
... والإسلام من جهة أخرى، لا يُحلل الوسيلة المُحرَّمة كالزنا ـ مثلاً ـ وقبول الأجر عليه إذا استَخدم أجره في مصلحة طرفٍ آخر، كان يستخدم في الإنفاق عهنا على إتمام الدراسة لطالب، لا يتمكَّن أن يُتمَّها من غير أن يقبله.
فالإسلام ـ كما يُقال ـ لا تُبرِّر الغاية في نظره، الوسيلة للوُصول إلى تَحقيقها، على نحو ما يُذكر هنا من كوْن الزنا وسيلة إلى إتمام الدراسة للطالب، فالمُحرم في نظره مُحرَّم لذاته، ومِن أجل ذلك لا يكون حرامًا اليومَ، وغدًا يكون حلالاً، باختلاف الاعتبار، ويُنقل عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "لَيْتَهَا لَمْ تَزْنِ.. ولمْ تَتَصَدَّقْ".. عندما سُئل عن الأجر التي تُحصله المرأة من مُباشرتها للزنا كعملٍ تُؤجر عليه، ثم تتصدق بالأُجرة على أصحاب الحاجة، وقوله ـ عليه السلام ـ هنا يرفض أن يكون المُنكر أو تكون الفاحشة طريقًا إلى المعروف والعمل الخيِّر.(57/5)
على أن السائل يَنفي أنه يستطيع العمل وقت الدراسة، ولكنه لم يَنْفِ أنه يستطيع القيام به وقت العُطلة، ومِن المُمكن أن يُمارس الطالب في عطلة الدراسة السنوية بعض الأعمال، ويدَّخر أجْرها للإنفاق منه أثناء الدراسة، وأعرف عن قُرب بعض الطلاب في الجامعة كانت حاجتهم إلى المال شديدة، وكانوا لا يَستكبرون إطلاقًا أن يُباشروا أعمال الفلاحة بالأجْر في قُراهم، ومع ذلك كان تقديرهم النهائي في كلية الهندسة تقدير المُمتازين، وعُيِّنُوا بالفعل مُعيدين في الكليات الجامعية، ثم أُرسلوا في بَعثات إلى الخارج، بعد حُصولهم على درجة الماجستير في مصر.
... وهناك شيء آخر.. وهو أن الحصول على الشهادة الثانوية في كثير من البلاد الأجنبية لا يُوصِّل آلِيًّا وفورًا إلى كليات الجامعة، كما هو الحال هنا في مصر؛ لأن الحاصل على الثانوية في البلاد الخارجية يَميل إلى الاعتقاد ـ وهو صحيح إلى حدٍ كبير ـ أن الدراسة الجامعية يَنبغي أن يكون نَفقاتها مِن أجرِ عمِلِهِ هو، وليس من مُساعدات تُقدِّمها أسرته له، والجامعة هناك لا تُقدم مِنَحًا للدراسة فيها، إلا للمَوْهوبينَ فقط ومَن فيهم أملٌ كبير في النجاح في الدراسات الأكاديمية.
... ومِن الأسَف أن شِعار: "التعليم كالماء والهواء".. الذي رُفع في مصر منذ سنة: 1950 قد فُهم خطأً، وبَقِيَ أيضًا خطأً، ولم يُواجَه خطأُه في الفهْم والتطبيق معًا من أصحاب المسئولية بالحزْم في تصحيحه؛ لأنه رفع كشعارٍ سياسيٍّ، وفهم بفهم السياسيين، وطُبِّق تحت تأثير المصلحة السياسية.(57/6)
115 ـ نظرة الإسلام إلى الزنا
بعض الاتجاهات في المُجتمعات المعاصرة لا ترى في الزنا مُبرِّرًا للطلاق أو لأيِّ عقابٍ لمَن يُباشره، بينما الإسلامُ يَرى فيه جريمةً اجتماعيةً؛ ولذا يَطلب في قول الله تعالى: (ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ) (النور: 2) أن يَحضُر بعض المؤمنين تنفيذَ الحدِّ على جريمته. أَلَا تَنطوي نظرةُ الإسلام على عُنْفٍ يميل بها إلى البُعد عن الإنسانية؟
يرى الإسلام في الزنا جريمةً اجتماعية؛ لأنه اعتداءٌ على الأنساب، بعد كوْنه يَنطوي على امتهانِ المرأة والاعتداء فيه على الأنساب يرجع إلى ضياع النَّسَبِ للأولاد الذين هم ثَمرته. فالولد فيه لا يَعرف أباه، وإنْ عرَف أُمَّه، وقد يَجهلها كذلك إنْ هي تَخلَّصت منه بعدَ وِلادته لجهةٍ ترعى الأطفال غيرَ الشرعيين.
وأولاد النسَب غير المعروف يُصاحب نُموَّهم في المجتمع إحساسٌ بالنقْص، ورغبةٌ في الانتقام مِن المجتمع ذاته ومِن أجل ذلك قلَّما يَحملون معهم اتجاهًا إيجابيًّا لصالح المجتمع ولمَحَبَّةِ الآخرين فيه.
أما امتهانُ المرأة؛ فلأنها تتحوَّل عن طريق الزنا إلى سلعة، أو إلى مصدر مُتعةٍ مادية وقْتيةٍ، مَطلوبة للرجل، وعندئذٍ تفقدُ في ذاتها كرامةَ الإنسان ورُوحَه، التي تُسهم في إيجابيات المجتمع وبنائه وتماسُكه.
والمجتمع يُريده الإسلام أن يكون مَوفورَ الكرامة، لا يُحِسُّ بعضُ أفراده بنَقصٍ ذاتيٍّ تِجاهَ البعض الآخر، ولا تَترسَّب في نفوسهم عُقَدُ الحقد والكراهية للآخرين والانتقام منهم.
وإنما جميعًا يجب أن يكونوا كالبنيان المَرصوص لا تَشِذُّ فيه لَبِنَةٌ عن أخرى في صَقْلِها وتَهذيبها.(58/1)
وإذا كان الإسلام ينظر إلى الزنا كجريمةٍ اجتماعية، ويُشَرع له الحدَّ المعروف الذي قد يراه البعض بأنه يَنطوي على غِلْظة، فالإسلام لم يُشرِّع هذا الحدَّ إلا بعد أن رَخَّصَ للإنسان تَعَدُّدَ الزوجات في قول الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ...). (النساء: 3)..
ويقول هنا الزمخشريُّ في تفسيره الكشاف: لمَّا نزل النهي عن أموال اليتامى في الآية السابقة على هذه الآية: (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا). (النساء: 2).
تَحرَّج الناس مِن الولاية على أموال اليتامى، بينما كانوا لا يَتحرَّجونَ عن الزنا فقيل لهم: إنْ خِفْتمُ الجَّوْرَ في حق اليتامى فخافوا الزنا فانْكِحُوا ما طاب لكم مِن السناء مَثنى وثُلاثَ ورُباعَ.
فلكي يَمنع ـ إذن ـ الإسلامُ الزنا؛ لمَا له مِن هذا الخطر على المجتمع، رخَّصَ بتعدُّد الزوجات، والرُّخْصة عادةً لا يُباشرها إلا صاحب حاجة مُلِحَّةٍ، ومِن المبادئ العامَّة في الإسلام أن يُترك تقدير الحاجة إلى الشخص، اعتمادًا على خَشْيته مِن الله كمُؤمن؛ ولأن تعدُّدَ الزوجات رُخصةٌ كبَديلٍ مَشروعٍ عن الزنا قُيِّدَ بالعدْل بين الزوجات في آية الترخيص نفسِها: (فإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً...). (النساء: 3).
وهكذا: إذا باشَرَ المؤمنُ جريمة الزنا كان كمَن سرق مال الغيرِ دون أن تكون له حاجة إلى سَرقته، أما اتجاه بعض المجتمعات المعاصرة إلى إعفاءِ الزنا مِن اعتباره جريمةً فقد يكون لأنَّ الإذْن بالزواج هناك مرهون بواحدة فقط؛ ولأن الفراق بين الزوجينِ إنْ تَمَّ فعلى درجة كبيرة من الصعوبة.(58/2)
والطبيعة البشرية حتْمًا تأخذ طريقها إنِ اضْطُرَّتْ إلى ذلك، وهي التي تُحدِّد البديل عندئذٍ للأمر المَكروه المَحظور.(58/3)
173 ـ ما المقصود بالعلم الذي حثَّ عليه الإسلامُ؟ هل العلم بالفقه والتوحيد مثلاً؟
وإذا كان كذلك فما الرأي في العلوم الأخرى من: تاريخ وقانون وفلسفةٍ.. الخ؟
وهل للدارسين لهذه العلوم المَكانة التي بيَّنتْها أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم؟.
الجواب:
العلم الذي يمتدِحه الإسلام ما يوصِّل إلى الحقّ وهو الله سبحانه وتعالى.. وإلى الصراط السَّويّ في السلوك.. ويُعرَف الحقُّ عن طريق كتاب الله فيما ينطق به.. وعن طريق كونه فيما يعطيه من دلائلَ تدلُّ عليه وحده. ويعرف الصراط السَّويّ في السلوك عن طريق الهداية الإلهيّة التي جاءت بها رسالة القرآن. إذ تضمَّنَت ما ينهى الله عنه أو ما يندِّد به.. وما يأمر به، وما يرغِّب فيه. وما ينهى عنه ويندد به هو ظواهر السلوك الماديّ الذي يقوم على المبادَلة وحدها. وما يأمر به أو يرغِّب فيه هو السلوك الإنساني الذي يقوم على الإعطاء دون الأخذ.
فإذ يقول الله تعالى: (كَلاّ بَلْ لاَ تُكْرِمونَ اليَتِيمَ. ولاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ. وتَأْكُلونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا. وتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر: 17ـ 20). فإنه يصف سلوك الماديّين عن عدم الإعطاء في غير مقابل.
وإذ يقول: (ويُطْعِمونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً ولاَ شُكورًا) (الإنسان: 8 ـ 9). يصف الإنسانيين أو الأبرار.(59/1)
وما جاء في القرآن تعريفًا بالله سبحانه.. أو تحديدًا للصراط المستقيم في السلوك ـ عكف عليه علماء المسلمين واستخلصوه في قواعد وأحكام وأدِلّة ومناهج للدفاع والرّدِّ. وتكوَّنت علوم مما استخلصوه من كتاب الله. وأصبح المسلمون يَعرِفون فيما بينهم علم الفقه، وهو علم الاحكام في العبادات والمعاملات.. وعلم التفسير، وهو علم التوضيح لما في كتاب الله: إن في جانب اللُّغة، أو العقيدة، أو الشريعة.. وعلم الكلام أو التوحيد، وهو علم الرّدِّ للشُّبُهات التي توجَّه من الحاقدين على دين الله، وخاصّة التي قد تتَّصل بذات الله سبحانه.. وعلومًا أخرى كثيرة. فهذه العلوم الشرعيّة والعقائديّة تبصِّر الإنسان المؤمِن بكتاب الله. وعن طريق كتاب الله يزداد إيمانُه، كما يزداد استقامة في سلوكه. وهذه العلوم القرآنيّة هي علوم الدين.
وبجانب كتاب الله للتعرُّف على الحقِّ وهو المولَى سبحانه وتعالى يوجد هذا الكون الذي نعيش فيه، تُوجَد الأرض والبحار والسماء والكواكب وتُوجَد الجبال والسُّهول، وتوجد الأمطار والأنهار والآبار، وتوجد الزراعة والأنعام، كما يوجد الحديد والصناعة منه، ويوجد الإنسان في خلقه وتركيبه.(59/2)
والله إذ يطلب عن طريق الرسول ـ عليه السلام ـ إلى الناس: أن يؤمنوا بما في كتاب الله ـ يطلب إليهم في الوقت نفسه أن ينظروا ـ كجزء منه ـ إلى ما في الكون من نظام.. وتدبير.. ونِعَم لا تُحصَى فمثلاً قوله تعالى: (ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ مِنْ سُلالةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا العِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقينَ) (المؤمنون: 12 ـ 14). ومن النظرة غير المتحيِّزة إلى ما في هذا الكون يصل الإنسان حتمًا إلى الحقِّ جل جلاله في وحدته في الألوهيّة.
والنظرة إلى ما في الكون تتعدَّد وتتشعَّب، حسَب تعدُّد جوانبه. وعن النظرة إلى كل جانب والتجربة فيه إن أمكن ينشأ علم أو جملة من العلوم، تأخذ أسماء معيّنة حسَب هذه النظرة، والبحث، والتجربة. وهكذا: العلوم الطبيعية.. والعلوم الإنسانية وفيها الفلسفة، والقانون، والتاريخ والعلوم الاجتماعية وغيرها ـ علوم تبحث في هذا الكون، وتنتهي في بحثها حتمًا إلى الإيمان بموجود يُحكِم التدبيرَ: خلقَ هذا الكونَ، ويمسك نظامَه. فإذا لم تنتهِ هذه العلوم اليوم.. فستنتهي غدًا، أو بعد غد. ومن أجل ذلك علوم الكون متطوّرة، وقابلة للتغيير؛ لأنّها لم تنتهِ بعد.
وهكذا علوم الكون رافد آخَر يوصِّل إلى الإيمان بالله. وهكذا ما جاء في كتاب الله يوافِق ما جاء في كونه. فإنْ بدا هناك عدم توافق، فذاك يرجع إلى الإنسان الذي لم يرتفع بعدُ إلى رؤية التوافق بين النوعين. إذ كلاهما مخلوق لله سبحانه: هذا كتابه.. وذاك كونه.(59/3)
وتقديرًا لنوعي العلم: علم الدِّين وعلم الكون، يؤثَر عن الرسول ـ عليه السلام ـ قوله في الأول: "مَن يُرِدِ الله به خيرًا يُفقِّهْه في الدِّين".. وقوله في الثاني: "ومَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجَنّة".(59/4)
71 ـ أحبُّ زوجتي وهى تحِبُّني، ولم نُرزق طفلاً مع عدم المانع الطِّبِّي من جهتي.. فما جزاء صبري على هذه الحالة؟
هدف الزواج جملة أمور:
أولاً: الإسهام في استقامة السلوك الفردي.
ثانيًا: الإحساس بالمسؤولية الأُسَريّة ومحاولة القيام بتحمُّلها مما يحفِّز الإنسان أكثر وأكثر على السعيِّ في الحياة وعلى التدبُّر في حَلِّ المشاكل التي تواجهه.
ثالثًا: السُّكْنى والاستقرار وتبادُل الشعور الإنساني بالمودة والعطف.
ورُبّما عن طريق هذا الهدف الثالث يتحقَّق الهدفان الآخران؛ لأنه إذا لم يتحقق الاستقرار لكلٍّ من الزوجين بزواجهما لا يستقيم سلوك أيٍّ منهما مع الجنس الآخر، كما قد لا تتوافر الرغبة القويّة في المحاولة لتحمل المسؤوليّة الأسرية.
ومن أجل عامل الاستقرار والمودّة هذا في حياة الزوجين أفصح الكتاب الكريم عنهما خاصة كهدف للزَّوجين فيما يقوله:
(ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمةً) (الروم: 21)
أمّا الهدف الرابع فهو إنجاب الأطفال. وإنجاب الأطفال يكون هدفًا حقيقيًّا للزواج إذا زاد به استقرار العلاقة بين الزوجين وملأ فراغًا في حياتهما يحمِلانهما على تحمُّل السعي فيها في رغبةٍ وفي محبّةٍ وفي رضًا. وإلاّ فإنجاب الأطفال نفسه قد يخلُق مشاكل لا تُحَدُّ وقد يَهُزُّ حياة الأب أو الأم هَزًّا عنيفًا.
ومن سؤال السائل يتضح أنّ الزواج عنده يحقق أهدافه الثلاثة الأولى ، وهى:(60/1)
المساهمة في استقامة السلوك الفردي، والقيام بالمسؤولية الأسريّة، والاستقرار وتبادل المودّة وأكثر من المودة؛ لأنّ العلاقة بين الزوجين إذا عبّر عنها الزوج بعد سنة أو أكثر من الدخول بالزوجة بـ "الحب".. تكون قد بلغت بينهما مبلغًا كبيرًا في الانسجام والألفة، مما ينتظر منها أن تكون نافذةً في القضاء على مَصاعب الحياة ومشاكلها وبالتالي عاملاً على زيادة الترابط بين الزوجين.
ولا شكَّ أن السائل هنا سعيد في زواجه، رغم عدم وجود أطفال له من زوجته الحاليّة. ويجب أن يكون سعيدًا بزوجته هذه، وأن يَحرِص كلَّ الحِرْص على أن لا يُزعج هذه الزِّيجة بترديد رغبته في إنجاب أطفال أمام زوجته أو بمحاولة الزواج بأخرى معها.
إن مُتَع الحياة الدنيا كثيرة ومظاهر زينتها عديدة. ولكنَّها لا تجتمع كلَّها لواحد من الناس.
فقلَّما يكون المُوسِر صحيحَ البدن، أو قريرَ العين بأولاده، وقلَّما تتوفر لسعيد الحظِّ بأولاده متعة السعة في الإنفاق في حياته.
وقلَّما يُضيف العالِم أو المفكِّر إلى قوة عمله أو تفكيره جاه السلطة أو وجاهة الثروة... وهلمَّ جرّا.
ولعل من الخير أن لا يكون لك ولد. إذ ربَّما يصبح لك مصدر شقاء وتعَب:
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن: 14). والرِّضا بما قسم الله هو خير طريق للإبقاء على الأمل في الحياة.
وإذا كان يُريد أن يَلْبَس رغبة الأبُوَّة في نفسه فيُمكِنُه أن يُشارِك بنفسه أو بماله في مؤسَّسات للطفولة تحتاج إلى عَوْن أمثاله ممَّن لديهم ميل أبويٌّ قويٌّ.(60/2)
94 ـ مواطنة حائرة، تقول: إنني مُتَزوِّجة، وأقيم أنا وزوجي مع حماتي وزوجها، وحماتي تضطهدُني دائما، وتسبُّني من غير سبب، وتتهِمني وأنا بريئة، وزوجي ينصحها، ويحاول إرضاءها. ولمّا لم تنته خاصمْتُها، مع قيامي بشؤون البيت كلها، إلا ما يتعلق بها وبزوجها. فهل هذا حرام؟
عن مشكلة "الحماة" في الأسرة قائمة، وستظل باقية، مادامت الأنانية تُسَيْطِر على أم الزوج، أو أم الزوجة، ومادام الزوج أو الزوجة لا يَستَقِرُّ في نفس كلٍّ منهما معنى قيام الأسرة الجديدة منهما، وما يتطلَّبُه من الحِماية من أجل بقائها مزدهِرةً. ليس فحسْب بالمعاشرة الطيِّبة الكريمة بين الزوجين، وإنَّما ـ أيضًا ـ بالأولاد وما يجب أن يتوفَّر لهما من جوٍّ عائلي سليم، وبعيدًا عن توافِهِ الخلافات الشخصيّة بين أعضاء الأسرة الواحدة.
إنَّ أمّ الزوج هنا ـ وهى الحماة للزوجة ـ يبدو أنها تذهب بعيدًا في هواجسها وظنونها نحو زوجة ابنها. كما يبدو أنها ترى حبَّها لابنها ـ وأنانيتها في هذا الحبِّ ـ لا يتجاوز ذاته إلى امرأته. فالزوجة في تَصَوُّرها في عُزْلة تامَّة عنه، وتكاد تكون أجنبِيّة في المنزل تمامًا. ووظيفتها أنَّها تُؤْمَر فتُطيع، وتشتَم فتَمْتثِل، وتُهان فتسكت.(61/1)
ولو أحسنت الأم صنعًا في حبِّها لابنها، لوفَّرت الاحترام لامرأته، وعاملتْها معاملةً إنسانيّةً كريمةً وأدخلتها في إطار الحبِّ لولدها. ولكن لا يُحسِن صُنْعًا في سلوكه إلا إنسان آمَن بالله، وآمن بالحسنى بين الناس. فالقرآن الكريم يقول في أدب العلاقات بين الأفراد: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12). فهو ينهى عن التصور والظنون التي لا تقوم على واقع من الأمر.. والتي ينسجها الخيال وحده. ينهى عنها كأساس لتكييف العلاقات بين الأفراد، أيًّا كانت أوضاعُهم بين الزوجة وزوجها.. وبين أم الزوج وزوجه.. وبين أم الزوجة وزوجها.. بين أعضاء الأسرة بعضهم مع بعض.. بين الجار وجاره.. بين الصديق وصديقه، وهكذا.
ويصف: أن بعض هذه الظنون تدخل في إطار الإثم والمعصية.. أي تدخل في إطار المحرَّم والكريهِ التي تترتَّب عليه مفاسد. وهى سُوء العلاقات على الأقل بين الأفراد، إن لم تكن الشَّحْناء والبغضاء فيما بينهم.
ومع سوء مسلك الحماة مع زوجة الابن هنا، فإن الزوجة نفسها ما كان ينبغي لها أن تَتَجَنَّبَها وتخاصمها، كما تقول هي في سؤالها. ما كان ينبغي لها ذلك، كطريق لمعالجة الموقف القبيح منها؛ لأن التجنُّب في الحديث أو في مُعاملة لإنسان هو عضو في أسرة معه ومشارك له في السَّكَن، من شأنه أن يَزِيد في توتُّر العلاقات، كما هو الحال هنا بين الحماة وزوجة ابنها. كما من شأنه أن يجعل الجوَّ الأسريَّ عامة جوَّ شقاء، أو جوَّ مرارة في حياة كل فرد في الأسرة.(61/2)
ومن أجل ذلك أُثِرَ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "لا يَحِلُّ لمسلم ـ أي لا ينبغي لمسلم ـ أن يهجُر أخاه، فوق ثلاث ليالٍ، يَلْتَقِيانِ فيُعرض هذا، ويُعرض هذا ـ أي ينصرف كل منهما عن الآخر: لا يحدِّثه، ويُدير له ظهره ـ وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" أي وخير الاثنين المتخاصِمين هو الذي يبدأ الأول بالتحية، إنهاءً الخصومة، واستئنافا للحياة العادية بينهما.
وإذا كانت كل من الحماة والزوجة ملومةً للموقف الذي يُنسَب إلى كل واحدة تِجاه الأخرى، فإن الزوج ملوم قبلها. إذا كان يجب عليه أن يحسم أمر العلاقة بين الاثنين، قبل أن يصل إلى ما وصل إليه الآن. وحسم ذلك بإعلان ثقته بزوجته أولاً. وبذلك يضع حدًّا لظنون الأم واسترسالها في الهواجس النفسية. ثم بتفهيم زوجته أن عليها أن تتحمّل وتصبر، وتقابل ما توجّهه والدته إليها بصدر رحب، وبشيءٍ من التسامح. ثمَّ عليها كذلك أن تتصور البواعث التي تحمل والدته على مهاجمتها. إذ من البواعث الخفيّة في نفسها أن الزوجة هي امرأة أجنبية خطفت منها ابنَها الذي أرضعتْه من ثديها، والذي كان إلى الأمس القريب يتقلَّب بين يديها، وتَحنُو عليه وهو يَحنُو عليها، إنْ وحدهما أو في حضرة الآخرين. فخفَّ هذا الحنوُّ منه عليها الآن وأصبح يقدِّمه ـ سرًّا أو علنًا ـ لهذه الأجنبية الخاطفة. التي هي الزوجة الآن.
كما يجب أن تعلم أن للأم حَقًّا على ابنها ـ ولو كانت في علاقة زوجية برجل آخر غير أبيه ـ وهو حق الاحترام والمعاملة بالحسنى.
وما زال بيد الزوج أن يصنع ذلك الآن لإعادة السلام في علاقات الأسرة. فالتفاهُم واللجوء إلى رسالة الله في ذلك. هو خير ما تُعالَج به قضية، هي نفسيةٌ في جوهرها إلى حدٍّ بعيد.
98ـ أولو الأرحام(61/3)
كتبت مواطنة من إحدى القرى تقول أن زوجها تُوفِّي وترَك لها ثلاثة أولاد صغار، وهي في سِنِّ الثلاثين، وتسكن الآن في مسكن تُجاورها فيه حماتُها وأولادها منها: من الذكور والإناث وترغب هذه الحماة في أن تُساعدها زوجةُ المرحوم ابنها في أعمال المنزل، ولكن الزوجة وهي أم أولادٍ ثلاثة لا تستطيع القيام بخدمة حَماتها وأولادها معًا، ولذا تفضل أن تقوم بخدمة أولادها الثلاثة.
وتسأل: هل عدم مباشرة المساعدة لحماتها في عمل السكن يُعتبر حرامًا؟ علماً بأنها هذه الحماة في حياة ابنها الذي هو زوج السائلة كانت طيِّبة، وكانت تُعاملها مُعاملة كريمة.(61/4)
الوضْع هنا: أن السائلة تقول: إن حماتها في حياة زوجها كانت تُعاملها معاملةً إنسانية كريمة، ومن أجل ذلك تحسُّ بأنها ممتنة لها، وربما يزداد إحساسها بأنه يجب عليها أن تقوم بمساعدتها، ولكنها من جانب آخر عندها أولاد ثلاثة.. وهي مُلتزمةٌ بأن تُؤدي لهم الرعاية الكافية.. ومِن ثَم ليس في استطاعتها البدنية: أن تُساعد حماتها في أعمال مَسكنها، وبالأخصِّ أن لها أولادًا، بنينَ وبنات. ...
والمشكلة هنا ليست مشكلة حلالٍ.. أو حرام.. ولا مشكلة ما يجب.. وما لا يجب.. وإنما تعود إلى "المعروف".. أو إلى "الإحسان".. والإحسان هو أن يؤدي الإنسان: خدمة مالية.. أو غير مالية، إلى إنسان آخر يحتاجها، فإذا أعطى ما عنده المالُ: مالاً لصاحب حاجةٍ كان مُحسنًا إليه.. وإذا أعطى صاحب العلم والمعرفة، مِن علْمه ومعرفته لآخر يحتاج إلى العلم والمعرفة: كان مُحسنًا، وإذا أعطى طبيبٌ مَشورة طبية في غير مُقابل لمَريض في حاجة إلى مَشورته: كان مُحسنًا إليه، وإذا قدم صاحب قوة بدنية لفاقد هذه القوة: خدمةً في منزلة أو في رفْقته في الحج أو العُمرة ـ مثلاً ـ أو في صحبته إلى المسجد للصلاة جماعة فيه: كان محسنًا إليه وهكذا.. ...
والسائلة تكون مُحسنة إلى حماتها لو استطاعت مساعدتها في إنجاز عمل المنزل في مسكنها، ولكنها تقول: إنها لا تستطيع أن تجمع بين خدمة أولادها.. وخدمة حماتها، ثم تضيف في رسالتها: إن حماتها لها أولاد من الذكور والإناث. وكأنها بإضافتها هذه، تقول: لماذا لا يُساعدها أولادها في العمل المنزلي؟.. لماذا تطلب مني أن أساعدها ولا تُكلِّف أولادها: المشاركة في العمل؟.(61/5)
... وبذلك تَعترف ضِمْنًا: أن لدَيْهَا الطاقة على العمل بعض الوقت على الأقل بحيث يُمكنها أن تُساعد حماتها بعض الوقت، في مسكنها الملاصق لها: جنْبًا إلى جنب ولكن تَخَلُّفَهَا عن المساعدة يعود إلى تكليفها هي من حماتها، دون تكليف أولادها. وليكن ما تَظنُّه السائلة، فإنَّ أحدًا لا يُوجب عليها مساعدة حماتها في عمل المنزل ولو كانت قادرة.. ولو لم يكن لها أولاد، ومساعدتها أيًّا كانت تدخل في باب "الإحسان" وليس في باب الواجب، أو الحلال.. أو الحرام..
... والإحسان لا يُشترَط في جواز أدائه استنفاد المُحسَن إليه: كل الوسائل المتاحة له، ومعنى هذا في التطبيق هنا، لا يُشترط مساعدة الزوجة لحماتها السابقة، أنها تطلب إليها المساعدة، مع مشاركة أولادها في العمل المنزلي بالفعل، فالإحسان تَبرُّعٌ بالخير لمَن يقدر عليه، صادَفَ الخير صاحب حاجةٍ شديدة أو غير شديدة على السواء.
... نعم لمَن يحصل على خيرٍ مِن مُحسن إليه، إذا لم يكن صاحب حاجة إلى خيره فإنَّ عليه أن يَنقله إلى مَن هو في حاجة إليه، والأجر عندئذ له، ولمَن أحسن إليه، فالمُحسن له أجرُ إحسانه على أيةِ حالٍ.. والناقل للإحسان إلى صاحب حاجة إليه: له الأجر كذلك؛ لأنه لم يَستأثر به وليس له به حاجة.
لِتَذكرِ السائلة: حُسن معاملة حماتها لها، في حياة زوجها وهو ابنها، وتذكُّرُها لذلك ليس بالحديث والثناء فقط، وإنما يكون بالعمل والمُعاونة بالفعْل، إذا أمكن، وطالمَا هي تستطيع بدنيًّا أن تقوم بمساعدتها فلا يَعُوقها عن الأداء مُطلقًا، أن لا تُكلِّف أولادها ـ قبلها أو معهاـ بالإسهام في عمل المنزل، إذْ ربما ترى أن لهم حاجة إلى استذكار دروسهم.. أو القيام بعمل الواجب المدرسيِّ الذي كُلِّفوا به.(61/6)
... إن الإحسان عملٌ إنساني .. والعمل الإنساني يُؤجْر عليه الإنسان من الله ـ تعالى ـ وليس مِن مَخلوق مهما كان شأنه، إن الذي يُسارع إلى إنقاذ واحد حاصره الخطر، دون أن يَنتظر مُشاركة الآخرين معه في الإنقاذ هو أفضل عند الله من زملائه الذين تقاعدوا عن المعاونة فترةً ثم قاموا يُشاركون في الإنقاذ.
... والسائلة إذا استطاعت بدنيًّا أن تُساعد حماتها فلتفعلْ دون تردُّد، وليُبارك الله لها في أولادها: في تربيتهم.. وفي سلوكهم.. وفي توفيقهم، فما تفعله هو زكاة مُدَّخَرة لهم عند الله.. إنَّ حماتَك قد سبقت بالمعروف إليك، فلا تتردَّدي في ردِّ المعروف لها، فهي من القِلَّة بين الحَمَوات التي تَستحقُّ الشُّكْر والمُعاونة مِن زوجات الأبناء على الأخصِّ.(61/7)
73 ـ ماتتْ أمِّي وتزوج أبي بأخرى، وربَّاني حتَّى تخرَّجت من مدرسة فَنِّيّة متوسطة وراتبي اثنا عشر جنيهًا، أعطيه لوالدي كله، وآخُذ مصاريفي كأي ولد صغير. وبعد خمسة أعوام أفهمته بكلّ لطف أنِّي أُريد أن أتزوّج وأن أُكَوِّن نفسي. فاشتدَّ غضبُه وقال: مَن يربِّي إخوتك؟ وأنا أريد إرضاء أبي مع عدم ضياعي.. فما الحكم؟
هنا قام الأب بواجبه في إعداد ابنه للحياة، حسبما وسِعتْ إمكانياته المادِّيّة هذا الإعداد فتخرَّج الابن من مدرسة فَنِّيّة متوسّطة.
وهنا كذلك كان الابن بارًّا بوالده في الدرجة الأولى وعطوفًا على إخوته في الدرجة الثانية، فكان يعطِّي الأب مرتَّبه كلَّ شهر ولا يأخذ منه، إلا ما هو ضروريٌّ له، كأحد إخوته سواء بسواء، كما يذكر في سؤاله، وفوق ذلك يَدين له بالطاعة ويحافِظ على إحساسه وشعوره كأب له.
والمشكلة هي أن هذا الابن البارَّ يريد الجمع بين أمرين:
1ـ استمرار الإسهام في تربية إخوته وفي إرضاء والده.
2ـ الزواج، أو الادّخار من أجل الزواج مستقبلاً.
والأمران في واقع الأمر غير مُتَكافِئِين، من حيث الضرورة وبالقياس إلى الحاجة الاجتماعية.
فتربية الإخوة إسهامٌ في بناء قوتِهم وفي إعدادهم إعداد طيِّبًا لحياة صالحة. وتركهم من غير مُشارَكة أخيهم الأكبر في الإنفاق عليهم من مُرَتَّبِه بما يؤدِّي إلى إضعافهم أو إلى تخلُّفهم وحِرْمانهم من إمكانيات قد لا تتوفَّر لهم بعد ضيَاع هذه الفرصة منهم. والمؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف. والإسلام لا يُفاخِر بالكثرة العدَديّة إلا إذا صاحبتها قوّة نوعيّة... أيّ قوّة في الإعداد الإنساني وفي مُواجَهة تَحَدِّي مشاكل الحياة، والأخصّ منها مشاكل الأعداء ولا تتم القوة النوعية إلا بحُسْن التوجيه وسلامة الرعاية.(62/1)
أمّا الزواج فليس ضرورة اجتماعيّة تُحَتِّم أن يلهثَ وراءه الإنسان، سعيًا إلى تحقيقه. بل له ظروف يجب أن تهيأ أولاً كما يجب أن تكون قائمةً بالفعل. ومنها القدرة على تَحَمُّل مسؤولية الإنفاق على الأسرة من جانب الزوج. ولا يَكفِي إطلاقًا لكي يكون الزواج ضرورة في حياة الإنسان أن يكون قد وَصَل الشخص إلى البُلوغ الجنسيِّ أو أن يشتهي مُعاشرة المرأة معاشرة جنسيّة.
ولذا يطلب القرآن الكريم من الذين لا يتمكّنون من الإنفاق على الزوجة أن يُرجئوا أمر الزواج حتَّى تَحِين استطاعتهم الماليّة وتُمَكِّنهم من بناء أسرة. يقول الله تعالى:
(ولْيَسْتَعْفِفِ الذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).. (النور: 33).
فمع طلب إرجاء الزواج إلى الميسرة، أمر الإسلام بالتعفُّف والبعد عن السقوط في المعاشَرة الجنسيّة غير الشرعية.
وإذا كان الفقهاء يرَوْن أن الصوم في فترات كَفيل بضبط الغريزة الجنسية لدى البالغ، فإن علماء النفس يرَوْن في شغل الفَراغ بالقراءة أو الدراسة والإعداد الذهنيّ أو بالفنون الجميلة قدرة على صَرْف المُراهقين مؤقَّتًا عن التطلُّع إلى مباشرة الحياة الجنسيّة.
والآن على افتراض أن الاثني عشر جنيهًا مصريًّا ـ التي هي مرتب السائل ـ تكفي لبناء أسرة منه ومن زوجة له.. فإنّ تربية إخوته ومُساعدة والده مُقَدَّمة على أمر الزواج الخاصّ به.
وعلى كل حال إذا لم يكن أنانيًّا فالأولى له الاستمرار في المُساهَمة في تربية إخوته. وإذا كان أنانيًّا ويُغَطِّي أنانيّته ضعف شخصيته فالأولى له أيضًا عدم الزَّواج في الوقت الحاضر إذ من يدخل في زيجة وقد تعوَّد أن يُقاد لا يسعد بالزواج؛ لأنه ينتظر منه الآن أن يقود، وهو لم يتدرّب على القيادة باستقلال الشخصية بعد.(62/2)
ما حكم الدين في أنِّي بعد كل خناقة أو مشادَّةٍ؛ أو إذا كنتُ مُتعَبة من العمل أترك الحُجرة التي بها زوجي وأنتقل إلى حجرة أخرى فيأتي زوجي ويَصِفني بأنِّي جُثّة هامدة؟
ما تُباشره الزوجة مِن ترْك الحجرة التي بها الزوج إلى حجرة أخرى عند المُشادّة بينهما، أو عند تعَبها من العمل يكاد يكون الرأي الراجح، اختصارًا للمُشادّة والنزاع.
وبخصوص ما يقوله الزوج لزوجته عندما يراها مُتعَبة: إنَّه متزوِّج من جُثّة هامدة.. هذا القول هو تنبيه لها ولمَثيلاتها من الزوجات العاملات. إذْ يجب أن لا يكون عمل المرأة خارج المنزل سببًا في إهدار حقوق الزوج عليها، أو في أن تفقِد هي خاصَّتَها كزوجة وكامرأة.
فعمل المرأة خارج المنزل يجب أن لا يُؤدِّي إلى نزاع الزوجين، وإلى عدم استقرار حياتهما، فهدف الزوجية هو السُّكْنَى والاطمئنان والمودَّة والرحمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم 21).
فإذا أدَّى العمل خارج المنزل إلى الخلاف بين الزوجينِ أو إلى فقْد الزوجة أُنُوثتَها، أو إلى فقْد أُمومتها في توجيه أولادها وتربيتهم فيجب أن تنقطَع عن العمل وتتفرَّغ لرسالتها كامرأة.
والنظرة إلى المال وحده في إسعاد الإنسان نظرة ضيقة وخاطئة في كثير من الأحيان، فسعادة الحياة الزوجيّة تشعُّ مِن الروح أكثر ممّا تصدر عن المادّة.(63/1)
161 ـ ما حكم مقابَلة الكَيْد والدَّسِ بمثلِه ممَّن وقَع عليه؟
الجواب:
لا شكَّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان هدفًا رئيسيًّا للكيد والدَّسّ والافتراء من الكافرين والمنافقين على السواء. ومع ذلك نقرأ توجيه الله تعالى في هذا الشأن: (إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا. ودَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإذْنِهِ وسِراجًا مُنيرًا. وبَشِّرِ المُؤْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيرًا. ولاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ والمُنَافِقينَ ودَعْ أَذَاهُمْ وتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) (الأحزاب: 45 ـ 48).
فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنْ يترك أعداءَه من الكافرين والمنافقين على السواء وشأنهم فيما يُسيئون به إليه وفيما يَكيدون به. كما أمره بأن يتوكَّل على الله ويدع له أمر هذا الإيذاء، فهو كَفيل وحده بأن يرُدَّ إليهم أذاهم في نحورهم. ورسول الله من رِبِّه أعزّ مخلوق لديه، وقدرة الله على الجزاء لا تُدانيها قوة في الأرض ولا في السماء.
والقرآن إذ يأمر رسول الله باتّباع هذا السبيل... يأمره لكي يُكَوِّن نهجًا يسير عليه بعده كلُّ مؤمن بالله في أيِّ وقت وفي أي مكان، إنْ وقعت له مثل هذه التي وقعت للرسول الكريم مع أعدائه وقد كانوا قُساة وعُتاةً وفَجَرة.
ثُمَّ من جانب آخر هذا النهج أو هذا الموقف الذي نصح به الله رسوله سيوفِّر للإنسان نشاطه، يصرفه فيما يعود بالخير على النفس والأسرة والأمة، ولا يبدِّده في سلبيّات في مقدِّمتها تحطيم الأعصاب لمن يتعقَّب الكائد بمثل كيده؛ لأنَّه هل سينجح أم سيفشل فيما يُدبِّر من كَيْد؟ وإذا نجح كيده فهل يأمَن أن لا يُتعقَّب هو بكيد جديد؟ وإذا فشل ودبَّر مَكيدة أخرى فهل سينجح فيها كذلك؟
صراع نفسيٌّ، وحقد مرير قد يجُرُّ إلى قتل في النهاية لأحد الطرفين أو لهما معًا.
وإذا انتقلنا ـ لكي نطمئنَّ ـ إلى قول الله تعالى:(64/1)
(وسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ والأرْضُ أُعِدَّتْ للمُتَّقِينَ. الذِينَ يُنْفِقونَ فِي السَّرّاءِ والضَّرَّاءِ والكاظِمينَ الغَيْظَ والعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنينَ) (آل عمران: 133 ـ 134) .
نجد القرآن الكريم يجعل كاظم الغيظ والذي يعفو عن الناس محسنًا مهذَّبًا ومثله مثل الذي ينفِق في السرّاء والضرّاء دون أن يترقّب فائدة شخصيّة له سوى المعاونة على حل الأزمات والصِّعاب لدى أصحاب الحاجة.
وإذن، فضلاً عن أن يوفِّر الإنسان المُعتدَى عليه نشاطَه لأمر إيجابيٍّ، هو صاحب مستوى رفيع في الإنسانيّة، لتجاوزه عن حقارة الدَّسّ ودَناءة الكيد، ثم سيره قُدُمًا إلى الأمام لا يقف لحظة ليرى ذلك الكائد ـ وهو لا يرى لأنّه عادة جبان لا يكشف عن نفسه، ولا يريد أن يعرِفه الناس بصنعة الخَسيس.
كافيه أنَّه يُخفي وجهه من جبنه. وكافيك أنتَ أيُّها المتسامح أنك قد اتبعت سُنّة رسول الله واستعنت بربِّك. إنه نعم المولى ونعم النصير.(64/2)
34ـ إن ما فعله لله. وسيحفظ الله عليه صِحته ويُنبر له طريق عمله.
مواطن من إحدى المحافظات يذكر أن والده تُوفى منذ سبع سنوات، وقد أوصاه بأخوته الصغار رغم أنه يُوجد من هو أكبر سنًّا منه، ومنذ ثلاث سنوات انتهى جميع إخوته من الدراسة والْتحقوا بوظائف عامة. وفي أثناء الدراسة وقبل تخرُّج إخوته كان يُنفق عليهم مُرتَّبه بالكامل وبعد التخرُّج ظل يُنفق المرتب جميعه كذلك، ووالدته هي التي تَحمله أو تطلب منه الإنفاق، بصورة أو بأخرى حتى اضطرَّ إلى أن يَستدينَ، رغم مَنْصبه بين الجميع، على حدِّ قوله. والآن يسأل:
(أ) هل يترك الأسرة ويخرج للسُّكْنَى وحده، رغم أن سِنَّه الآن تبلغ الثانية والأربعين من العمر، ورغم أنه لم يتزوج بعد، وكان السبب في عدم زواجه تحمُّله نفقاتِ إخوته في الدراسة.
(ب) كان قويَّ الإيمان في المدة الأولى، ولكنه ضعُف لدرجة، أنه فكر في الانتحار أكثر من مرة.
(ج) إنه يذهب إلى العمل مبكرًا بعد صلاته الفجر فيجد النَّكَد قبل أن يذهب.. وعندما يعود يَجد النكد مرة أخرى على الباب.
(د) هل يقطع علاقته بوالدته وإخوته كيْ يَستريح لَحَظات في بقية عمره؟(65/1)
إنه يبدو من رسالة السائل: أنه يَغلب عليه "الوفاء" لوالده الذي توفي ولأمه وإخوته: أوصاه والده بإخوته الصغار رغم أنه يُوجَد مَن هو أكبر منه سِنًّا بينهم، فنفَّذ الوصية إلى أن تمكَّن كلُّ واحد منهم: أن يقف وحده على قدميه.. تطلُب منه والدته مالاً لأخيه فلان، ولأخيه فلان، ولكذا.. ولكذا .. فلا يردُّ لها طلبًا. ومن خجَله في وفائه يقترض مع أنه لم يتعوَّد أن يَقترض، ومع أن كرامة الوظيفة قد تَحُول بينه وبين الاقتراض. ...
والسائل ينسُب لأمه: أنها السبب في ارتباكه ماليًّا وعائليًّا؛ لأنها لا تُقدر الأوضاع والظروف التي يعيش ويعيشون جميعًا فيها. ورغم أن أُمه قد تكون سببًا رئيسيًّا فيما صار إليه وضْعه الماليُّ، والاجتماعيُّ، بسوء تصرُّفاتها وتدبيرها، فإن حياءه واستغراقه في الوفاء لأسرته هو السبب في تشاؤُمه وارتباكه.
إن السائل يطرح عدة حُلول لمشكلته: ...
الحل الأول: أن يَترك الأسرة ويَخرج للسُّكْنَى وحده وهل في استطاعته نفسيًّا: أن يترك والدته والتزاماته نحوها؟
ليس من السهل أن يفعل ذلك. ومَن يُنفِّذ هذا الحلَّ في حاجة إلى أنْ يكون صاحب إرادة قوية. ولو كان السائل يملك هذه الإرادة القوية لفرَضها على والدته وأُسرته في تنظيم شُئونه وتجنَّب بذلك: الارتباك في حياته.(65/2)
والحلُّ الثاني: أن يقطع علاقته بوالدته وأسرته، كي يستريح لحظاتٍ في حياته، هل يقطع هذه العلاقة مع بقائه في السكن معها؟ أم أنه يَنتقل إلى مسكن آخر، وعندئذ يَهجرها ولا يتصل بها؟ وكلَا الأمرينِ لا يستطيع أن يُباشره؛ لأنه يفقد الشخصية القوية التي تفرض هذا الحل، أو حلاًّ آخر بديلاً عنه. وعلى أيَّةِ حال لو خَفَّف من ضغط والدته عليه في الإنفاق لا يكون عاقًّا لها؛ لأن: تخفيف الضغط عليه في هذا الجانب سيُحقِّق لهُ مصلحةً. وهي مصلحة "التوازُنِ" توازُنه في تصرُّفاته. ويدخل في هذا التوازن: تجنُّب القروض التي تُرْهقه.. وتخفيف حدة التشاؤم بسبب مَديونياته.. فقد سيطرتْ عليه النظرة التشاؤمية فرأى النكَد عند مغادرته المنزل وعند عوْدته إليه.. كما خفَّ إيمانه، وتسرَّبت إليه فكرة الانتحار.
إنَّ الوقوف في وجْه الإسراف في الإنفاق.. وأمام عدم الإحساس بالمسئولية التي على والدته، نحوه ونحو الأسرة، لا يُعَدُّ إطلاقًا تجافيًا من الولد لأُمه. فهو رغم ذلك لم يزل بارًّا بها ووفيًّا لتحقيق رغباتها كلَّما أمكنه ذلك. والحلُّ الذي يُغيِّر الوضع القائم الآن للسائل في أسرته هو: أن يبحث عن زوجة تُشاركه الحياة المُقبِلة، ويَسكن مُستقلًّا معها، فوجود امرأةٍ أخرى في حياته سيُخفِّف عنده من الالْتزامات نحو والدته وسيَحمِل الوالدة مِن جانب آخر على التنازُل عن كثير من طلباتها نحو ابنها؛ لأن هناك امرأةً أخرى لها حق المشاركة في حياة السائل وربما أقوى مِن حقِّها هي. ...
إن السائل سينتقل بعواطفه رويدًا.. رويدًا: إلى زوجته، وعندئذ لا يكون مُتورِّطًا مع والدته. وبذلك يستطيع أن يفصل فيما تطلب بروح المصلحة الأسرية.. ويُغلب هذه الروح مستقبلاً على العلاقات بينه وبين أفراد الأسرة جميعًا. ...
ولكن لا يكون هذا الحلُّ سليمًا وإيجابيًّا إلا إذا كانت الزوجة صالحة، تعرف حقوقها.. وحقوق الزوج.. وحقوق الأسرة .. وحقوق الله قبل ذلك. لا(65/3)
تكون أنانية فتتمكَّن منه إذا ما أحسَّت بضعف فيه، ومثل السائل في سِنِّة وفي وَضْعه ينبغي أن لا يسعى نحو مال، أو جاهٍ وشرف، أو جمال فيمَن يختارها زوجةً له. يجب عليه أن يستهدف الصلاحية وحدها، "اظْفَرْ بذَاتِ الدِّينِ، تَربَت يَدَاكَ".
107ـ الوفاء في الشدائد
مواطنة من إحدى المحافظات، تقول إنها عاشت مع زوجها حتى خمسة وثلاثين عامًا. وقد كان في السنين الأولى للزواج مريضًا فتحمَّلت هي تربية الأولاد، وتزوَّج بعضهم، وقد مَنَّ الله على الزوج بالصحة وأصبح يكسب بيده على عكْس ما آلت صحتُها إليه مِن المرض والشيخوخة، ولم يُقابل نعمة الله عليه بإبرائه من المرض بالشُّكر فيُؤدي ما يجب عليه مِن صلاة، وصوم، وما يُطلب منه مِن نفقة على زوجته المريضة والطاعنة في السنِّ، بل على العكس يُخاصمها مُدَدًا طويلة قد تصل إلى الشهرينِ.
وتسأل عن حكم الإسلام في هذا الرجل.؟
ما قامت به الزوجة أثناء مرض زوجها من العمل للإنفاق على الأسرة وتربية الأولاد يُعتبر نعمةً كذلك عليه مِن الله، لا تقلُّ عن نعمة شفائه ممَّا أصابه مِن مرض، فلولا حدَبها على العمل ما تكوَّنت أسرة، وربما ما شُفِيَ هو أيضًا من المرض، ثم ما صارت إليه من ضعف في الصحة وكِبَرٍ في السن: نتيجة لعملها المتواصل الذي استُهلكت فيه، ولم تَستمتع في الحياة بسببه، اللهمَّ إلا استمتاعها بأولادها في نُموِّهم وفي نجاحهم وانتقالهم من مرحلة إلى أخرى، حتى بلغوا سنَّ الزواج وكوَّنوا أُسَرًا جديدة.
... وكان مِن المنتظر بعد أن تُربِّي الأولاد.. وبعد أن شُفيَ أبوهم: أن تجدَ منه على الأخصِّ ما يردُّ لها جميل الماضي، وبالكلمة الطيبة قبل لقْمةِ العيش أو كُسْوة البدَن فهي إنسانة تُؤَثِّرُ فيها الحُسنى، قبل أن تكون جِسْمًا يحتاج إلى غذاء وكساء لسَتْرِ عَوْرَتِهَا.(65/4)
... وكان المنتظر مِن الزوج وقد مرِض زمنًا طويلاً، أن يعرف الله، وأن يُحسَّ بوُجوده قريبًا منه، وأن يَهَبَ بقية حياته لشُكره ـ جل جلاله ـ على الشفاء والعودة إلى مُباشرة العمل في صحة وفي وضْع طبيعيٍّ، ولكنه يتجافَى عنه ويُنكره فلا يُصلي، ولا يصوم.. ويَطغى بصحته اليوم وينسى ما كان فيه بالأمس، وذلك شأن الإنسان غير المؤمن: (كَلَّا إنَّ الإنسانَ ليَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى). (العلق: 6ـ 7). فإحساسه بالصحة اليوم يُطغيه ويُوهِمه بأنه ليس في حاجة إلى موجود آخر، ولو كان الله نفسه، ولا يدري أن الإنسان بطبيعته غير ثابتٍ على حالٍ واحدة: يكون اليوم ثَرِيًّا، وغدًا فقيرًا، ويكون اليوم صحيحًا مُعافًى، وغدًا مَريضًا هزِيلاً، ويكون اليوم شابًّا قويًّا.. وغدًا شيخًا ضعيفًا.. فطغيان الإنسان عندما يحس بالاستغناء عن الآخرينَ، ظاهرةٌ تتصل بطبيعته الإنسانية، إذا لم يُهذبْها الإيمان بالله، ولذا يُقسم الله ـ سبحانه ـ بأن الإنسان في خُسْرٍ وضياعٍ إلَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيقول:
(والعَصْرِ إنَّ الإنسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بالحَقِّ وتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ). (العصر).. أيْ أن شأن الطبيعة البشرية تسوق الإنسان إلى الخُسران عن طريق الطغيان بالمال.. أو بالصحة.. أو بالعصبية والأولاد.. أو بالجاهِ والسلطان.. ولكن المؤمن بالله الذي يُقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان هو بمَنجاةٍ مِن هذا الخسران.
... وإذا كان الزوج ـ بعد أن استعاد صحته ـ ولَّى هاربًا من عبادة المولَى ـ سبحانه ـ الذي أنعم عليه بالشفاء، فليس بمُستغرب عليه: أن يهرب من زوجته التي مرِضت وأعجزتْها الشيخوخة عن العمل، وأصبحت لا تُغريه كامرأة يُعاشرها.(65/5)
وعلى أولادها الآن ذكورًا وإناثًا: أن يَرْعَوْهَا وأن يُقدموا لها ما تحتاجه في هذه السنِّ، وبعد كدِّها وعملها في سبيل تنشئتهم، يجب أن يُترجموا وضْعها الحاليَّ إلى دوافعَ تدفعهم إلى الإحسانِ إليها في جميع صور الإحْسان: بالقول.. إلى المودَّة.. إلى العمل، يجب أن يعملوا على أن تَنْسَى والدَهم في حياتها، فمَن نَسِيَ الله لا يُؤمِّلُ فيه الإنسانُ خيرًا، وتَذكُّرها لوالدِهم يُثير في نفسها: الغضَب عليه، وهي في حاجةٍ إلى أن تكون هادئةَ البال، وذلك بترْك أمْره إلى الله.
... وهم إنْ أحْسنوا إليها كانوا بارِّينَ بها، ومُعترِفينَ بجَميلها عليهم، إذْ لولاها ولولا تضحيتها بصحتها وبمُتعها المادية في الحياة لمَا بلَغوا مثلَ ما بلغوا إليه الآن، فكَوَّنُوا أسَرًا جديدةً، وكانت لهم أولاد تَقَرُّ بها أعْيُنُهم.
... وهي وأولادها يجب أن يَسدلوا ستارًا على حياة الزوج والوالد.. وأن يطلبوا مِن الله هدايته فيُؤدي ما يجب عليه نحو مولاه، يجب أن لا يَنتقموا منه، أو يغضبوا عليه، وإنْ كان يجوز لهم أن يغضبوا لوضْعه الذي صار إليه، فهو منهم على أيةِ حال، وهم في وضْعٍ أكثرُ منه حولًا وقوة.
... ورعاية الأولاد للسائلة لا ينقصُ مِن أجْرها عند الله شيئا، لقاء ما صنعت لأسرتها وأولادها، فالله سيَجزيها بالخير، ويُؤجرها على ما قدَّمتْه مِن تضحيات في سبيل الزوج والأولاد معًا.(65/6)
ما حُكم الدين في الرجل الذي هو زوج، ولا يحترم كبير السِّنِّ ولو كان والده أو والد زوجته، ويأخذ مِن الناس أكثر ممَّا يُعطيهم، والذي يتهوّر كثيرًا ويسُبُّ الدِّين وإنْ كان يَستغفر الله بعد ذلك، ويصلِّي ويصوم؟
حكم الإسلام في الزَّوج الذي لا يحترم كبير السنِّ، ولو كان أباه، ويتهوَّر ويسُبُّ الدين وإنْ كان يصوم ويُصلي ويستغفر الله، فإنِّي أدعو الله له في أن يصرف عنه السوء، ويُبعد عنه شيطان الهوى، ويُمكنه مِن أن تكون صلاته وصيامه لله تعالى، وأن تكون توبته توبةً نَصُوحًا لا يعود بعدها أبدًا إلى اتِّباع غَواية الشيطان.(66/1)
رابعًا: ما عدد مرات التوْبة التي يَقبلها الله؟
وأخيرًا ما تسأل عنه الآن الآنسة السائلة عن عدد مرات التوبة التي يَقبلها الله فنحن نُجيبها: بأنه ليس هناك عِدَّةُ أنواع من التوبة، ولا عدة مرات منها، وليس الأمر كما تتصور: من أن الإنسان عندما يرتكب مُحرمًا ثم يتوب عنه فبإعلان التوبة عنه يَزول أثر المُحرَّم عند الله ويُمْحَى هذا المحرم مِن سجلِّ السيئات للتائب.
فإذا ارتكب مُحرمًا آخرَ، وتاب إلى الله ذهب أثره وشُطب من سجل السيئات.. وهكذا.
ليس الأمر على هذا النحو وإنما التوبة التي يَقبلها الله هي التوبة النهائية التي لا يَعقُبها ارتكابُ ذنبٍ آخر بعد ذلك فمعنى: "التوبة": الرجوع والعودة إلى الله ومعنى العودة إلى الله اتِّباع سبيله وهو سبيل الهدى ومعنى اتِّباع سبيل الله عدم الانحراف عنه ومعنى عدمِ الانحراف عنه عدمُ ارتكاب ذنوب ومُحرمات أخرى هنا تكون التوبة صادقةً، وهنا يُمكن أن يتحقق وَعْدُ الله بالغفران فليست التوبة اعتذارًا .. وإنما هي تصميم على عدم العودة إلى الآثام والمُحرَّمات.(67/1)
23 ـ عدم الإقبال على الدِّين:
يقول سائل: أجد دائمًا في قلبي ضِيقًا وقسوةً من جهة الدِّين والإيمان.. ما هي الوسائل التي تجعل حبَّ الإيمان يتزيَّن في قلبي وينشرح به صدري؟
إن موقف السائل مِن الدين، وهو موقف صاحب القلب الذي يَضيق به وصاحب القَسوة في الحديث عنه هو موقف صريح ويُشاركه فيه غيره كثيرون اليوم وبالأخَصِّ من الشباب ذكورًا وإناثًا.
وهذا الموقف تُسْهِم فيه عدةُ عوامل:
العامل الأول: عن الدين تحديد للسلوك والاعتقاد ومَن يقع تحت الإغراء في المحيط الذي يعيش فيه بالمؤثِّرات المادِّية وهي كثيرة يضيق بهذا التحديد ويجنح إلى الانطلاق بل وإلى الفوضَى أحيانًا.
العامل الثاني: أن الدين تقويمٌ، أيْ قد يَطلب التغيير لكثير مِن العادات التي اعتادَها الإنسان، قد يطلب من الإنسان أن يتجنَّب عاداتٍ سيئةً تعود بالضَّرَر على الشخص وعلى غيره ويُنشِئ لَدَيْهِ عادات أخرى حسنة تكون لخيره وخير الآخرين معه في مجتمعه، والإنسان إذا كان ضعيف الشخصية قلَّما يترك العادات التي اعتادَها ولو كانت تنطوي على ضرَر مباشر أو غير مباشر.
العامل الثالث: أن كثيرًا من الذين يَضيقون بالدين ذَرْعًا يُسيئون فَهْم مبادئه، إمّا لوجود قدوةٍ سيِّئة لهم في الدين في مُحيطهم، وإمّا لحديث مُغْرِض عنه أو عَرْض مُشوَّهٍ له دون أن يُكلِّفوا أنفسهم مَشقّة البحث في مراجعة كتاب الله.(68/1)
أمّا الوسائل التي تجعل قلب الإنسان يعمُر بالإيمان بالله فبغضِّ النظر عن ذلك أمره يعود لله سبحانه، كما جاء في قوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ. وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (الأنعام 125 ـ 126). بغضِّ النظر عن هذا السبب المُهِمّ فإن الإنسان نفسه لكي ينشرِح صدره للإيمان يجب:
أولاً: أن يَحزم أمر نفسه، ويتخلَّى عن مصادر التأثير التي تبعده عن الدين، شأنه في ذلك شأن شارب الخمر إذا أراد تركَها فإنه يمتنع فورًا عن شُربها، كما يمتنع عن الاتصال بالأصدقاء والزملاء الذين لهم تأثير عليه.
وكون الإنسان يحزم الأمر يحتاج إلى قوة الإرادة؛ إذ هذه وحدها هي التي تنقله من البعد عن الدين إلى مُمارَسة التديُّن.
ثانيًا: أن يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن اتباع الدين هو لمصلحة المتديِّن، وليس لمصلحة أحد سواه على معنى أن اتباع الإنسان للدِّين يَقِيه كثيرًا من الشُّرور والمفاسد التي تحمل عليها النفس الأمارة بالسُّوء.
وهي تلك النفس التي يسود عليها الهوى وتتحكّم فيها الشهوة. وعلى معنى أن اتباع العادات التي جاء بها الدين تخلق من المتديِّن إنسانًا قويًّا لا يَهاب القتال والكِفاح في سبيل القِيَم العُليا ولا يخشى الإرهاب والتعذيب في سبيل الحياة الكريمة ولا يتواكَل أو يتراخى في السعي في دنياه وفي الطريق إلى آخرته.(68/2)
ثالثًا: كمدخل إلى الإيمان بالله يحسُن أن يستمع مَن تصدُّه نفسه عن الاستماع إلى كتاب الله في تلاوة المصحف المُرتَّل، وأن يتأمَّل ما جاء فيه وبالتأكيد سيَجد أن ما جاء في كتاب الله هو للمصلحة العامة وخير الأفراد والبشرية جميعًا، وأن اتباع ما جاء فيه إن لم يُعِنْهُ على الربح المادي فسيُعينه على ربح الكرامة الإنسانيّة والضمير الإنساني والسلوك المهذَّب، والاعتقاد الصحيح في الحياة وما يجب أن يكون عليه المجتمع، أي سيُعينه على أن يفهم مستوى الإنسان المتميِّز في خلقه، والذي سُخِّرت له هذه الأرض وما عليها من قِبَل الله جل جلاله.(68/3)
14ـ توفِّيتْ والدتي وكانت مريضة، ولم تمتَنِع في آخر أيامها عن أن تؤدِّي الصلاة. فهل يُمكِن أن أفعل لها شيئًا يقرِّبها من رحمة الله؟
جاء الإسلام وفَرَّق تفريقًا واضحًا بين مجموعتين في الناس، ليس في أرزاقهم في الدنيا. وإنما في عملهم فيها. فالرزق في الدنيا والتفاضُل فيه بين الناس ليس تعبيرًا عن رضاء الله، ولا عن غضبه عمَّن قدَر عليه أو حرَّمه. وإنما نَوْع العمل في الدنيا هو الذي يميِّز بين الناس، ويجعل بعضَهم أفضل من بعض عند الله وعند الجزاء الأخروي.
فمَن عَمِل من أجل الدنيا وحدَها ـ وهو ذلك المادِّي الذي لا يؤمن بالآخرة ولا يؤمن بالله، ولا يحرِّم ما حرَّم الله ورسوله ـ فلا يُحرَم من رزق الدنيا، بل قَدْ يُعطَاه من الله سبحانه، وقد يكون رِزْقًا كبيرًا. ولكن عملَه في الدنيا غير مقبول عند الله، وجزاؤه في آخرتِه عليه هو جهنم: (مَنْ كَانَ يُريدُ العَاجِلةَ "أي الدنيا وزينتها ومُتعها" عَجَّلْنا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُريدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمومًا مَدْحُورًا) (الإسراء: 18).(69/1)
ومَن عمل من أجل الآخرة فآمَن بالله، وقام بما التزم به من إيمانه: فعبَد الله بالصلاة، والصوم والزكاة، والحَجّ والجهاد في سبيل الله عند الاستطاعة، واتَّبع سبيل هدايتهم في معاملة نفسه وفي علاقته بغيره.. فعملُه مقبول عند الله ومَجزيٌّ عليه جزاءً حسنًا في الآخرة: (ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ "أي عمل في دنياه من أجل الآخرة ولم يقف في حياته عند حَدِّ الدنيا وحدها ومتعها المادية" وسَعَى لَهَا سَعْيَها "بالعمل الصالح وبعبادة الله وأداء ما يجب علية نحوه" وهُوَ مُؤْمِنٌ "إذ العمل الصالح من كافر لا يُقبَل منه وهو كافر" فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ "أي ليست التفرِقة بين الكافر والمؤمن هي بالرِّزق والحرمان منه. فكلٌّ من المؤمن والكافر يستوي في عطاء الله وفضله" ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظورًا "إذ ليس عطاء الله في الدنيا محظور على كافر به" انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ "والآية على ذلك واضحة. فبين الكافر والمؤمن من تفاضل في الأرزاق في الدنيا وقد يكون رزق الكافر المادِّي أكثر رِزق المؤمن بالله المتفاني في عبادته. ولكن ذلك ليس دليلاً على رضاء الله على الكافر وعدم رضاه على المؤمن" ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (الإسراء: 19ـ 21). إذ مقياس الرضاء والغضب هو جزاء الآخرة وحده. وهو جزاء أعظم في درجته وأكبر في فضله.
وهكذا: كل إنسان في تقدير الله له في آخرته مرتبِط بعمله فقط في دنياه. ورحمة الله هي لمَن وسعته رحمته من المؤمنين العابدين المطيعين لأوامره والتاركين لما نهى عنه. ومسؤولية الإنسان أمام الله هي مسؤولية كاملة: لا يدخل في عمل إنسان عمل إنسان آخر. وما يملِكه السائل من عمل لوالدته هو أن يدعوَ لها بالرحمة.(69/2)
104 ـ القرآن غَيْبِيٌّ
يتردد في حديث الجدليينَ: القرآن غيبيٌّ، فهل معنى ذلك أنه ليس مَوضوعيًّا يُقدِّم الهداية للإنسان في كل وقت؟
وَصْفُ القرآن في حديث المادِّيِّينَ بأنه غيْبيٌّ يُشير إلى "الوحْي".. وإلى أن هذا الوحي نزل به المَلَك مِن عند الله، والله والمَلَك كلاهما لا يُرَى ولا يُشاهَد للإنسان فمصدر القرآن غير مَحسوس، وبالتالي لا يخضع للاختبار والتجربة.
أيْ لا يَخضع إلى معرفة: أنه صدْقٌ أو غير صدْقٍ، حسب المقياس التجريبي الماديِّ وطالمَا لا يتمكَّنُ الإنسان مِن اختبار صدْقه ماديًّا، فعلى الأقل يتوقَّف في الإيمان به.
ولكن فات هذا المنطقَ الحسيَّ أو المادي: أن القرآن ككتابٍ يتحدث عن توجيه الإنسان في الحياة، في السلوك الفردي، وفي العلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض، يُمكن أن يُقيَّم موضوعيًّا.
على معنى أن يَنظر فيما جاء فيه مِن توجيه للإنسان ويُفصل فيما إذا كان هذا التوجيه مَوضوعيًّا صالحًا للإنسان حسب طبيعته البشرية وحسب ما يَحكمُها مِن خصائص، في كل جيل، ولكلِّ جنس وشعب.
فهو موضوع للتقييم، ككُل مصدر توجيه، ولا يَحِدُّ مِن قيمته عندئذٍ أنه وَحْيٌ مِن عندِ الله، طالَمَا سَتُترك قضيةُ الوحي جانبًا، إلى ما بعد إتمام تقييم مَوضوعه.(70/1)
توجيه القرآن جاء على أساس أن الطبيعة البشرية ليست طبيعةً مُفردة، أي ليست طبيعةً مادية فقط، فإذا كانت خُلقت مِن تراب، ثم مِن نُطفة من ماء مَهين بعد ذلك تحوَّلت إلى علَقةٍ، فمُضغة، ثم إلى طُفولة، فرُشد، فشَيْخُوخة، فوَفاة، كما جاء في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا...). (الحج: 5) ..
فإن هذه الطبيعة نفسها زُوِّدت بالإدْراك وبالعقل مع ذلك، كما يحكي قول الله ـ تعالى ـ في سورة الإنسان: (إنَّا خَلَقْنَا الإنسانَ مِن نُطفةٍ أَمْشَاجٍ "أي نطفة مادية مختلطة من الذكورة والأنوثة، وهذا هو الجانب المادي" نَبْتَلِيهِ فجَعلناهُ سَميعًا بَصِيرًا). (الإنسان: 2). "أي صاحب إدراك عقليٍّ عن طريق السمع والبصر كأقوَى حاستينِ مِن حواسِّ الإنسان الخمس، وهذا هو الجانب العقلي في الإنسان، وجعل له العقل كي يُختبر به: أيَسِيرُ في حياته وَفْقَ منهج إنساني، أم ينزل دونه فيُساوق الحيوان"؟ ..(70/2)
وكانت دُنيَا الإنسان مِن أبناء آدم على غرار الجنة التي عاش فيها آدم وحواء قبل خُروجهما منها، والتي ستكون نعيمًا للطائعين، هي عالَم مُتَعٍ ماديةٍ مُتنوِّعة، تُرك للإنسان أن يستمتع به: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: 31 ، 32) ..
والتقييد بعدم الإسراف في الاستمتاع بالمُتع المادية في حياة الإنسان هو الموضوع للاخْتبار، هل سيكون الإنسان إنسانيًّا في سُلوكه إنِ الْتزمه، أو غير إنساني في السلوك إنْ تَجاوزه. ورسالة التوجيه في القرآن هي إذن فقط لتوضيح آثار الإسراف، وآثار عدم الإسراف في الاستمتاع بهذه المتع، على الإنسان وعلى البشرية معًا.
والقرآن إذن ليس توجيهَ عُزلة عن الحياة المادية، وليس توجيه انتقاص مِن مادِّيَّاتها طالمَا لا تكون مصدرًا للطغيان، والعبَث، والفساد، الناشئ عن الإسراف ولكنه توجيهٌ لكي يبقى الناس جميعًا في علاقة إنسانية.
فوق هذا التوجيه، فإنَّ القرآن سجَّل أخطاءً سياسيةً، كمسألة الأسرى، وأخطاء الدعوة كالإعراض عن بعض الضعفاء مِن المؤمنين، التي وقعت من الرسول ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ كما سجَّل الشائعاتِ المُغرضةَ والسيئة، التي تتصل بأهل بيته عليه السلام، مما هو معروف في قِصة الإفْكِ.(70/3)
والقرآن لا يُسجل ذلك إلا إذا كان موضوعيًّا، فوق العوامل الشخصية والحزبية. ويكفي في قيمة أي توجيه إنسانيٍّ وفي اعتباره البشري العام لدَى الناس جميعًا: أن يكون فوق العوامل الشخصية والحزبية. أيْ فوق ما يُفرق الناس. وبذلك تكون صلاحيته المَوضوعية صلاحيةً للبشرية من حيث هي بشرية، وليس لشعب، أو طائفة، أو حزب ومجموعة من الناس.(70/4)
102 ـ معنى الرُّوحية
ما معنى الروحية؟ وهل تطلب التقشُّفَ والانصراف عن مُتَعِ الحياة؟
ليست الروحية انصرافًا عن مُتع الحياة، ولا تَقَشُّفًا، أو سلوكَ طريقِ الحِرمان. إن الروحية هي المعاني الإنسانية، أو القيم الإنسانية بين الناس.. هي التعاون، والتعاطف والتآخي، والتوادُّ، هي مساعدة القويِّ للضعيف، والثريِّ لصاحب الحاجة، والعالِم للجاهل، والصحيح للمريض.
هي أداء المسئولية والرعاية: مسئولية الزوج نحو زوجته والأب نحو أولاده، ومسئولية الزوجة نحو زوْجها، والأم نحو أولادِها، والأولاد نحو أبيهم.
ولتحقيق هذه المعاني الإنسانية، أو لتحقيق "الروحية" يُطلب من الإنسان أن لا يَقف عند الجانب المادي فيه وحده، يُطلب منه أن لا يَقف عند حدِّ شهْوته وأهوائه ويُحقق مَطالب الذات وحدها ?يُطلب منه أن لا يكون أنانيّا، يُطلب منه أن يعيش لنفسه ولغيره وألا يستطيع تحقيق هذه المعاني الإنسانية أو الروحية.
أيْ لا يستطيع عندئذٍ أن يُحقق التعاون، والتوادَّ، والتآخي، والتعاطف، ولا أن يُحقق مسئوليته ورعايته نحو زوجه وأولاده وأسرته.
والسبيل إلى الحدِّ من الأنانية، لإبقاء مجالٍ للغير، هو عدم الإسراف في مُتع الحياة المادية، هو عدم الإسراف في حب المال؛ لأن الإسراف في حبِّه يُؤدي إلى تكديسه ومَنْعِ مَنفعته عن الآخرين، كما قد يُؤدي إلى حرمان الآخرين، أو استغلالهم استغلالاً سيئًا.
هو عدم الإسراف في حب الأولاد؛ لأن الإسراف في حبهم قد يكون سببًا في الطغيان بهم، هو عدم الإسراف في الأكْل والشرب، ومُعاشرة النساء.. إلخ.(71/1)
والإسلام جاء ليَطلب الروحية، ويُحقق قيمها ومعانيَها في الإنسان وبين الناس جميعًا؛ وليطلب في سبيل تحقيقها: عدم الإسراف في مُتع الحياة الدنيا، وليس تحريمها: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ). (الأعراف: 31 ـ 32 ).
وهناك اتجاه آخر في حياة الناس، يُؤمن بالذات وحدها، يؤمن بمَصلحتها ومَنفعتها وحدها، ولو على حساب الآخرين: حساب شَقائهم أو حِرمانهم، يُؤمن بأن الذات هي مركز سعْي الإنسان، والهدف في حركته ومن أجل ذلك لا يرى إشراك الآخرينَ فيما للإنسان مِن مُتَع مادية في حياته، ويَقصرها جميعًا على ذاته، وسُلوكه نحو الآخرين هو سلوك المُقتنص للمَنفعة، وليس سلوك المُساعد أو المُتعاون.. هو سلوك الذي يُعبِّدُ طريقه في الحياة على مَصالح الآخرين .. هو سلوك الذي يرى قيمته في تحقيق هدَفه ولو كانت الوسيلة لذلك فِقْدانَ كرامته أو كرامةِ أهله وأسرته.
وهذا الاتجاه الآخر في الحياة يُنكِر على الروحية اعتبارَها؛ لأن الروحية وما تَطلبه من حبِّ الإنسان لغيره كحُبِّه لنفسه تُصوِّر عقبةً في طريق النفعية الأنانية؛ ولهذا كانت الروحية أمرًا مَكروهًا، يجب أن يُحطَّم، أو يُنال منه على الأقلِّ، في سبيل الأنانية.
ومِن هنا كانت خُصومةٌ عنيفة بين هذا الاتجاه الأنانيِّ، وبين الروحية وقد قدم بعض أتباع الروحية ما يُمكن أن يُوجَّه ضدَّها، فقد طالب هذا البعض في سبيل تحقيقها: بالتقشُّف والحِرمان من مُتع هذه الدنيا إلى درجة العُزْلة والرهْبنة، كما أنكر على هذه المُتع المادية قِيَمَهَا، ورأى فيها صُورًا للشرِّ أو الشيطان.(71/2)
فحمَل ذلك وأمثالُه أصحابَ الاتجاه المُضاد للروحية على تَشويهها والنَّيْل منها، ولكن الروحية هي الإنسانية في أجلَى صُورِها.(71/3)
20 ـ موقف المؤمن مِن إزالة المنكر:
طالب بالثانويّة العامّة يسأل عن تفسير قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "مَنْ رأى منكم منكَرًا فليُغيرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وهذا أضعف الإيمان"؟
وهو يسأل هذا السؤال بعد أن رأى منكرًا في عَلاقة شائنة تتكرَّر ثلاث مرات.. ونصح فلم يُجْدِ نُصحَه؟
الحديث الشريف يعبِّر عن ثلاث مراحل.. أو ثلاث خطوات في كيفيّة مقاومة المنكَر، وهو الأمر الذي يترتّب عليه ضرر للمجتمع، وبالأخصِّ الجرائم الاجتماعيّة التي لها حدود مقررّة.. وهي الزِّنا، وسرقة المال، وقتل النفس بغير حقٍّ.
والناس تختلف في تغيير المنكر حسب قُدراتهم فأصحاب الوظائف العامّة الذين يُباشرون المصلحة العامة يستطيعون بأيديهم إزالة المنكَر أو تغييره فإن هم تراخَوْا في ذلك وكتَبوا بإزالته بدلَ التنفيذ بالفعل كانوا مقصِّرين أمام الله في حقِّ أمتهم ومجتمَعهم فهؤلاء يتعيَّن عليهم مباشرة التنفيذ بدون إبطاء ويُؤثَّمون إن هم انتقلوا إلى المرحلة الثانية أو الخطوة الثانية في الحديث هنا عن الجريمة.
ومِن الناس مَن لا يستطيع إزالة المنكَر وتغييره بسُلطة وظيفته وإنما يستطيع أن يكتب بقلمه فيُنبِّه إلى خطر المنكَر وآثاره الضّارّة كما يستطيع أن يعبِّر بلسانه في الندوات والمساجد عن هذا الخطر وماله مِن آثار ضارّةٍ، فإن لم يقُم صاحب القلم أو صاحب اللسان بواجبه في توضيح أثر المنكَر والمُطالبة بإزالته واكتفى بإنكاره قلبيًّا له، يكون قد قصَّر في أداء واجبه.
ومِن الناس مَن لا يستطيع التنفيذ في إلْغاء المنكَر، وإزالته بيده.. كما لا يستطيع توضيح آثاره الضّارّة بقلمه أو بلسانه فليس له إلا أن يُنكِرَه بقلبه على معنى أن يكُفَّ عن مُعاشَرة صاحِبِ المنكَر وعن مُصادقته ومعاونته وأن يُدير له ظهره كلَّما أقبل عليه.(72/1)
وهكذا يُمكن للناس جميعًا أن يتعاوَنوا في إزالة المنكر وتغيير الوضع في المجتمع؛ إذ هم جميعًا ما بين مُنفذ للسلطة ومؤتَمن عليها.. أو صاحب قلَم وبَيان.. أو صاحب قلب عامر بالإيمان بالله.
والتكاتُف على هذا النحو هو الطريق الإيجابيّ في مكافَحة الجريمة في المجتمع والوالدانِ في إزالة المنكر: لهما دور أساسي لا يَقِلُّ عن صاحب السلطة التنفيذيّة. والصحافة في تغيير المنكَر لها أهميتُها ضدّ الجريمة كأصحاب الدعوة إلى دين الله في خُطبهم ووَعْظهم لوجه الله سبحانه، وكلُّهم راعٍ وكلُّهم مسئول عمّا تَجِبُ عليهم رعايتُه.
وما يُشير إليه السائل في آخر سؤاله بأنه يَستنكِر بلسانه منكَرًا رآه قد تكرَّر ثلاث مرات، فنَصح الطَّرَفينِ بالكفِّ عن مباشَرة الجريمة وهدَّدهما فلم يُجْدِ نُصحُه ولا تهديده، يكون قد سلك ما يجب عليه في إزالة المنكر؛ لأنه لا يملِك تنفيذ وقف الجريمة فالمرحلة التي يقع فيها نشاطه في مكافَحة المنكَر حسبما جاء في الحديث الشريف هي مرحلة الاستنكار باللسان أو بالقلم.
ولكنّه لم يَستنفذ بعدُ كلَّ ما يمكن أن يكون في هذه المرحلة من نشاط يمكن أن يَشترِكَ مع صديق له يكون قد شاهَد الجريمة معه كما شاهدها هو: في تقديم النصح معًا لمَن أغواهُما الشيطان مرارًا على ارتكاب المنكَر فإن الاشتراك في تقديم النصح حينئذٍ سينطوي على إنذار يُخيفهما.. فإن لم يَكُفَّا بعد ذلك عليهما أن يُبلغَا أُسرتيهما.
أمَّا أن يُباشِر السائل معهما طريق المقاتَلة فليس ذلك مما يَنصَح به الحديث هنا، فنحن جميعًا نعيش في مجتمع تقوم فيه سلطة تنفيذية وأخرى تشريعيّة وندعو الله أن يوفِّقَنا لتنفيذ حدود الله ضد جرائم المجتمع التي إذا شاعت قَضَتْ عليه تمامًا.(72/2)
وحدود الله بالنسبة للزِّنا، وسرقة المال وقتل النفس التي حرم الله قتلها هي حدود على أساس أن هذه الجرائم ضد المجتمع وليستْ ضد أفراده فقط فالزِّنا سبب في عدة جرائم: في اختلاط الأنساب.. وهتْك الأعراض.. وكثير من الأمراض القاتلة وكاللَّهَب في الانتشار. والسَّرقة اعتداء على منفعة المال، ومنفعة المال ـ ولو في ملكيّة خاصة ـ هي لصاحب المال ولصاحب الحاجة معًا في المجتمع الإسلامي، ومن أجل ذلك يُقتَل مانعو الزَّكاة. وقتل النفس التي حرَّم الله قتلَها هو اعتداء على المجتمع نفسه بمَن قُتِلَ وبتهديد مَن بَقِيَ على قيد الحياة.
وللطابع الاجتماعي لهذه الجرائم يقول الله عند تنفيذ حدِّ الزِّنَا: (ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفةٌ مِنَ المُؤْمِنينَ) (النور: 2)
ويقول في شأن القتل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة 32).
ثُمَّ إن الإسلام ـ في شأن المال ـ يُبيحُ الحَجْرَ على أموال السُّفهاء باعتبار أن هذه الأموال في الواقع أموال الأمة كلِّها: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء 5).
فنسب الأموال الخاصّة بالسُّفهاء إلى المؤمنين جميعًا فقال: (أموالَكم) وأكَّد ذلك بأن جعلَها مصدرًا لمعاش المؤمنين جميعًا فقال: (التي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيامًا).(72/3)
122ـ قدَرُ الله لا بدَّ أن يَنْفُذ:
سيدة من إحدى المحافظات تقول:
إن زوجها تَوفَّى فجأةً.. وأنها لم تُعلم أهله بالوفاة إلا بعد فترة مِن الوقت غيرت فيها ملابسه والفراش الذي مات عليه، إذْ كان جُنبًا، كما تقول: وعندما حضَر أهله اتَّهموها بقَتْله، رغبةً في التخلُّص منه والزواج مِن غيره، فقد كان هو في سنِّ التاسعة والثلاثين، وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها، وهي تُباشر عملها في التدريس، ومِن أسباب الاتِّهام:
أنها لم تُقِمْ سُرادقًا للمُعزِّينَ.
وأنها لم تلْطم الخدود، ولم ترفع الصوت بالنواح والبكاء عليه.
وأنها لم تذهب كذلك إلى المَدفن، أيام الخميس.. وفي شهر رجب.
وهي تقول: أنها تعتقد أن ذلك غير مُجْدٍ. وتُؤْثر التصدُّق عليه وتسأل رأيَ الدين فيما يُعاب عليها هنا مِن الأهْل، وعن حُكم الصدَقة مِن المعاش الذي تَصرِفُه الدولة لها، وهو المعاش الذي ترَكه لأُسرته: زوجته، وولَده منها.
أمَّا أن أهل الزوج اتَّهموا الزوجة السائلة هنا بأنها قتلتْه فربما للظرف الذي مات فيه فجأةً بالذبْحة الصدرية، وللوَضْع الذي وُجد عليه، فهي لم تَقْتله على سبيل الحقيقة، ولكن ربما أغْرَتْه بنفسها بعد العشاء مُباشرة، وهذا أمرٌ لا حُكم عليه لإنسانٍ أجنبيٍّ عن الزوج والزوجة.(73/1)
وأما أنها لم تَسلك في الحزن عليه يوم وَفاته مسلك الكثيرات والكثيرينَ مِن لطْم الخُدود.. وشَقِّ الجيوب.. ورفْع الصوت في البكاء والنِّياحة عليه، فالإسلام يُزكِّي مَسلكها، إذْ قد ورَد عن ابن مسعود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ليس مِنَّا مَن ضَرَب الخُدود .. وشَقَّ الجُيوب.. ودَعَا بدعوةِ الجاهليةِ". (نيل الأوطار: ج4 ص: 110).. ودعوة الجاهلية هي النِّياحة، والوَيْل، والثُّبُور: أي الهلاك والخسران، فمِثل هذه الأمور كتعبيرٍ عن الحُزن على الميت قد تصل بالإنسان إلى الشرْك بالله، فمهما بلَغ الإنسان مِن القيمة في حياة أهله فإنَّه لا يخرج عن كوْنه إنسانًا لا يَفعل لهمْ إلاَّ ما يُريده الله لهم، فتَعظيم فقْده باليد كلَطْم الخدود، وشقِّ الجيوب، وباللسان كالنياحة والوَلْولة، يُسيئ إلى الإيمان بالله وحده، فهو ـ سبحانه ـ الخالِق لا سواه، وهو صاحب المُلك والتدبير في هذه الحياة، ولا ما عداه، وفي حديثٍ عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ماتت زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبكتِ النِّساء، فجعل عمر يَضربهنَّ بسَوْطه، فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده وقال: "مَهْلاً يا عمرُ".. ثم قال: مُوجِّهًا الكلام للنساء: "إيَّاكنَّ ونَعِيقَ الشيطانِ". "وهو النُّواح والصراخ". ثم قال: "ما كانَ مِن العَيْنِ والقَلْبِ فمِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجل ـ ومن الرحمة، وما كان من اليدِ: "كشَقِّ الجيْب واللَّطْمُ" واللسان: "كالصراخ ودعوى الويْل والثُّبُور" فمِنَ الشيطانِ". (نيل الأوطار ج4 ص: 105)..فالرسول ـ عليه السلام ـ ينهى هنا عمَّا كان مِن الشيطان.. في الحزن على الميت، وهو ما يتمثَّل في فعْل اليد مِن اللطْم وشقِّ الجيْب.. ويتمثل في قول اللسان مِن الصُّراخ والعَوِيل والنداء بالهلاك والخُسران. ولكنه لا يَنهى عن البكاء الصامت. وهو ما سمَّاه ببُكاء العين والقلْب.. لأن هذا أمرٌ بشريٌّ لا يستطيع(73/2)
الإنسان ردَّه، ثم في الوقت نفسه تَعاطُف وتراحُم بين الناس بعضهم مع بعض. ...
... فما كان مِن الطبيعة البشرية أمرٌ مشروع، وما كان خارجًا عن حُدودها فهو غير مشروع، وكذلك ما يُعمل للموتَى: إنْ كان أمرًا عادِيًّا طبيعِيًّا كقراءة الفاتحة له، أو زيارة قبْره من وقتٍ لآخر فذلك جائز للرجل والمرأة، وأما إنْ كان أمرًا مُبالغًا فيه، كإقامة سُرادق للمُعزِّين يُستأجر فيه المُقرئون لكتاب الله.. وإعادة ذِكْرَى وفاته يوم الأربعين.. وزيادة قبره في أيام مُعينة أو في شهر معيَّن مِن السنة: فذلك بعيدٌ عن سُنَّةِ الإسلام.
... إن سُنَّةَ الاشتراك في تشييع جنازة الميت: لعِبرةِ الحي بالميت.. وأن زيارة قبره مِن وقتٍ لآخرَ بحيثُ لا تَشغل هذه الزيارة الزائر عن أداء واجبٍ عليه، هي أيضًا لعِبرة الحيِّ بالميت، هي لتذكُّر الإنسان الحيِّ بما انتهَى إليه أجَل الإنسان بالأمس، وهو الموت، ولذَا: عليه أن يَسلُك المَسلك الإنسانيَّ المُهذَّب في حياته، طبقًا لمَا أتَي به الإسلام في تعاليمه، إذِ المَصير واحد، لا مَفَرَّ منه.
... ولكن لم تُقصد سُنَّةُ الإسلام بالنسبة لمَا يُؤدَّى للميت: تقديسُه ولا إعلان تعظيمه ولا تحمُّل وِزْرِ المعاصي عنه.. ولا تجميد الأحياء حوْله.. ولا ربط حركاتهم في الحياة بذِكْراه.
... فأهل الزوج قد يختلفون مع الزوجة السائلة في عواطفها نحوه وهو حيٌّ.. وفي حرْصها أو عدم حرْصها على مصلحته.. وفي رغبتها أو عدم رغبتها في الزواج من غيره.
... ولكنهم لا يَستطيعون بنَقْدِهم الذي يُوجِّهونه إليها: أن يَصِفُوها بالابتعاد عن تعاليم الإسلام: في عدم إقامة السُّرادق للمُعزِّين واستِئْجار القُرَّاء فيه.. وفي عدم الحُزن عليه بلَطْم الخُدود وشقِّ الجُيوب.. وفي الزيارة في أيامٍ مَعلومة لقَبْره.(73/3)
... وما تسأل عنه السائلة هنا مِن جواز الصدَقة مِن الولَد لأبيه المتوفَّى فالمعروف بين جمهور الفقهاء: أن الصدَقة من الولَد تلحقُ بالوالدينِ بعد مَوْتهما، بدون وَصيَّة منهما ويَصل إليهما ثوابهما.
... والمَشهور مِن مذهب الشافعي وجماعة مِن أصحابه: أنه لا يصل إلى الميت ثوابُ قراءة القرآن إذِ القرآنُ كتابُ "هدايةٍ" مِن الله، وهدايته في العمل بمَا جاء فيه، وإذا قُرِئَ فيُقرأ على أحياءٍ يَستمعون له لعلَّهم يُطبِّقون ما أوْحَى به الله لرسوله الكريم وسجَّل فيه.(73/4)
69 ـ ما هي الحُرِّيّة التي تتمتع بها المرأة في العلاقة الزوجية؟
حرية الزوجة فيما تملِك:
يقول الله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) (النساء: 4).
زواج المرأة بالرجل لا يذهب بشخصية المرأة، ولا باستقلالها في عقيدتها إن كانت كتابيّة أي يهوديّة أو نصرانيّة، كما لا يذهب بحريتها في التصرف فيما تملِك، ولا يُضعف من شأن هذه الحرية لديها؛ لأن عقد الزواج ـ كأيّ عقد آخر يجيزه الإسلام ـ هو عقد "مماثلة". أي أن التماثُل يجب أن يكون متحقِّقًا في طرفي العقد. ومن هنا كان للزوجات نفس الحقوق وعليهن نفس الواجبات التي للرجال وعليهم: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعروفِ) (البقرة: 228). ودرجة الرجال على النساء في قول الله تعالى: (وللرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228) هي تفوُّق في المعاملة الكريمة فوق "المماثلة" التي للاثنين، أي زيادة في الرعاية تنمُّ عن إحسان وكرم في سلوك الزوج نحو زوجته.
ومن شأن عقد المماثلة أن لا يفقد أيُّ طرف من طرفيه ما كان له قبل العقد. والإنسان ـ أنثى أو رجل ـ لا يُحجَر عليه في شأن المال إلاّ بسفَهٍ في التصرُّف فيه. وما عدا السَّفهِ فله حرِّيته في استثماره والانتفاع به، على أن يؤدِّيَ حقَّ الغير فيه؛ لأن ملكية المال الخاصّة في الإسلام مشروطة بمنفعته العامة للمالك له، ولمَن تجب له الزكاة والإحسان منه.(74/1)
وقد جاء في شأن المال الذي يدخل في مِلك الزوجات من قِبَل أزواجهن قوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْسًا "أيْ فإن رَضِينَ رضاءً نفسيًّا وتنازَلْنَ إليكُم عن شيءٍ مِمّا أعطيتموهُنَّ منحة، في غير إكراه" فَكُلوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) أي فتقبّلوا ما تنازلنَ عنه في غير إكراه قَبولاً خالصًا لا حرج فيه. فالآية تُبَيِّن أنه بالرغم من أن المهور هدايا من الأزواج لزوجاتهن، فمادام دخلتْ في مِلكهنّ فإنّهن وحدهن يُصبِحْن أحرارًا في التصرُّف فيها، ولا يُكرَهْنَ من قِبَل الأزواج على تصرُّف معيَّن فيها، مع أنها مُهداة منهم أصلاً. وبِناءً على ذلك، لا يجوز للزوج أن يستردَّ من المهر الذي أعطاه لزوجته شيئًا إلا إذا تنازلتْ له عمّا تعطيه إيّاه في رضاء واطمئنان نفسيّ وعدم شعور بالإكراه أو بالضغط عليهما.
وإذا كان الزوج لا يجوز له أن يحمل زوجته على تصرُّف معيّن فيها أعطاه لها.. فإنّه بالأولى لا يجوز له أن يحملها على تصرُّف خاصٍّ فيما تملِكه هي أصلاً.
وإذن حرية تصرُّف الزوجة فيما يدخل تحت يدها من مال وفيما تملِكه.. شيء يُقِرُّه الإسلام منذ البداية، بينما المرأة الغربية تحاول في حركة "التحرير" المستمرّة رفع وصاية الزوج عن مالها. إذ بمجرّد قيام عقد الزوجيّة لا تتصرف الزوجة في مالها الخاص إلا بإذن زوجها. وقد وصلت المرأة الفرنسيّة في الستينيات إلى تقييد وصاية الزوج واستخلاص نوع من حرية المباشَرة في ملكها. وهكذا تعود البشرية اليوم إلى ما ابتدأ به الإسلام من قبل.
والإسلام إذ يُتيح حرِّيّة المرأة في التصرُّف في مالها فإنه لا يقيّده إلا بشيء واحد، وهو أن لا يوجَّه ضد مصلحة الزوج والأسرة؛ لأن مثل هذا التصرف عندئذٍ يكون مقوِّضًا للعلاقة الزوجية.(74/2)
13ـ الخروج عن تقاليد المرأة المسلمة
من إحدى الأخوات في الإيمان بإحدى المحافظات، تتحدث عن ماضيها وحاضرها، ثم تطلب الرأي في بعض مشاكلها، فتقول إنها كانت فتاةً مُتبرجة، بل فاسقة، وكانت تُصلي ولكنها كانت تَنقر الأرض، وكانت حياتها كلها لهوًا، وليس فيها أيُّ التزام، ولا تعرف إلا القليل من أوامر الله، ولا تنفذها.، ولذا تُطلق على نفسها أنها فاسقة. في ذلك الوقت تَعرَّفت على شاب وكانت تخرج معه، وتَعاهد الاثنان على ألاّ يترك أحدهما الآخر أو يتخلَّى عنه مهما حدث، كما تعاهدَا أيضًا على الوفاء والإخلاص وعدم الغدر وقرآ الفاتحة على هذا العهد والتزَمَت به كما التزَم هو به كذلك. واستمر العهد إلى أن هداها الله ـ كما تقول ـ وأغْدَق عليها من رحمته وأراد لها أن تكون من الصالحات، إذ قد عرفت دِينها جيدًا، وبدأت تقرأ القرآن وتستمع إليه بعد أن كانت لا تُريد أن تحمل المُصحف بالمرة. وتحمد الله أن قيَّمت كل ما تفعله واتضح لها أنه كان ضلالاً.
وعندئذ طلبت من الشاب الذي تعرَّفت عليه ألاّ يُحاول مُقابلتها أو التحدث إليها في أي مكان بعد الآن، وحذَّرَته مِن أن يأتيَ إلى الكلية ويلتقِيَ بها، فإنها ستتجاهله، فرحَّب بما تقوله وسُرَّ كثيرًا عندما علِم منها أنها ستَرْتدي الزِّيَّ الإسلامي مُعلقًا على ما ستفعله بقوله: إن هذا الزيَّ له احترامه والتي تَرْتديه لها احترامها. ووافق على ألاّ يُقابلَها مرة أخرى، ولكن طلب منها أن تتذكر العهد الذي بينهما ولا تُخلَّ به حتى يأتيَ ويَطلبَ يدها من أهلها، وذلك عندما يعمل في مِهنته للشهادة التي حصل عليها.(75/1)
ولكن الآن ـ كما تُعبر في رسالتها ـ أصبحت إنسانةً مُلتزمة بتعاليم الله، وتُريد أن تعاشر إنسانًا مُلتزمًا مثلها، بينما هذا الشاب كما تراه غير ملتزم، وأخلاقه تَتنافى مع الدين وتعاليمه، ولذا هي حائرة وتسأل: هل تقبله وتُحاول توجيهه إلى طريق الله أم تَرْفضه ولا تقبله زوجًا لها؟ وتخشى أن تكون عندئذ ناقضةً للعهد وغادرة بما اتفقت معه عليه، كما تخشى أن تُعاقَبَ مِن الله عليه؟ وتقول إنها فعلت الكثير في حياتها وتُريد أن تُكفِّر عن أخطائها الماضية، ولذا لا تريد أن تفعل أيَّ فعل يُغضب الله. فهي بحاجة إلى رضاء الله ورحمته ومغفرته.(75/2)
السائلة تَحكم على الشاب الذي تعرَّفت عليه فيما مضى من حياتها، وتعاهدت معه على ألاّ يترك أحدهما الآخر، وعلى الوفاء والإخلاص وعدم الغدر، تحكم عليه الآن بأن أخلاقه تَتنافى مع الدين وتعاليمه، أي أنه لم يزل في سلوكه وفي علاقته بالآخرين آثِمًا أو عاصيًا وغير مُطيع لله ورسوله؛ فإنَّ أيَّ شخص تتنافى أخلاقه ـ والأخلاق هي السلوك ـ مع الدِّين وتعاليمه يكون حتْمًا مُخالفًا لأوامر الله ونواهيه، كما جاء بها القرآن الكريم أو رَوتْها الأحاديث الصحيحة، ويكفى أن تَصفَ نفسَها بأنها كانت فاسقة لنعرف نحن أن رفيقها في ذلك الوقت كان رفيق سُوء، وأن عهدها معه كان على ضلال ومُحرَّم، والعهد الذي يجب الوفاء به هو عهد الله وليس عهد الشيطان، وعهد الله ما كان في طاعة الله، وما هو في طاعة الله يكون لخير المُتعاهدَين ولخير الآخرين، أي لا ينطوي على حُرْمة أو ظلم أو اعتداء ولا على ما يُغضب الله في شيء ما. وإذ يطلب القرآن الكريم الوفاء بالعهد في قوله تعالى: (وأَوْفُوا بالعَهْدِ إنَّ العهْدَ كانَ مَسْئُولًا) (الإسراء:34) فإنه يطلب العهد المُضاف إلى الله ـ جل شأنه ـ والذي يرضى عنه الله سبحانه، كما جاء في قوله تعالى: (وأَوْفُوا بعهدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ) (النحل:91) أما عهد الشيطان فهو ذلك العهد الذي دخل فيه الهوى وقام على حِلِّ المُحرمات. وعهد السائلة مع رفيق السوء هو من هذا النوع الأخير، كما تَعترف هي بأنها في هذا الوقت كانت فاسقةً وإن أخلاق صديقها تَتنافَى مع تعاليم الدين. ...
وعلى هذا يجب على السائلة ألاّ تُفكر فيما يُسمَّى بالوفاء بالعهد؛ لأنه لغير الله، كما أنها يجب ألاّ تُفكر في أنها تستطيع أن تُوجهه إلى طريق الله إذا هي قبِلَته زوجًا لها يومًا ما، فهو كما يبدو من رسالتها يُغيِّر جلده بسهولة؛ فهو عاش معها في سوء وضلالة، وعندما قالت له إنها عادت إلى الله وتَزيَّت بالزيِّ الإسلاميّ أقرَّها على ما(75/3)
قالته وأعلَن احترامه لها، وهو مُنافق في الأولى والثانية، ويريد مصلحةً خاصة ولا يَهمه الوسيلة التي تُوصله إليها، ومثل هذا الشخص لا يستقيم في إيمانه ولا في توجيهه. ...
وخير ما تفعله السائلة أن تطرح أمر هذا الصديق جانبًا، وأن تَسير في طريقها الجديد، والله ـ جل شأنه ـ سيُعوِّضها خيرًا منه طالَمَا اعتمدت عليه، سبحانه، واستقامت في سلوكها وفي تصرُّفاتها، وسيَرضَى عنها ويَغفر لها ما باشرَته من ذُنوب ومعاصٍ فيما مضَى. ...
إن وقتها سيذهب هباءً إن حاولت علاج هذا الصديق، وإنَّ أعصابها لن تحتمل ما يأتي به مِن صُنوف الإغراء والخداع، وإن الحرَج في علاقتها بالله سيتحوَّل إلى أزمة تُحيل سكونَها الآن إلى قلقٍ واطمئنانَها إلى صراع نفسي يُنهي حياتَها.(75/4)
78 ـ باعت زوجتي ميراثها من أبيها واشترتْ بدلاً منه فدانًا عند أبي من أربعة أعوام، وللآن لم يُعطِها شيئًا من إيراد الفدَّان. وكلّما طالبتُه يغضَب ويدعو عليَّ. فما الحكم؟
أولاً: دعاء الوالد لا يُستجاب؛ لأنَّه مُعتَمِد على حقِّ غيره. مهما كانت صلة القربى بينه وبين غيره هذا.
ثانيًا: لا يحِقُّ له أن يغضب إذا طالبَه الزوج ـ السائل هنا ـ بحق زوجته في الانتفاع بما اشترتْ من أرض؛ لأن الزوجة حرة في مالها ولا يُحِدُّ من حريتها تزوُّجها بابنه.
ثالثًا: يجب على الزوج السائل أن يُراجع نفسه في علاقته مع والده، فربّما يكون الوالد في الحاجة إلى المساعدة مادِّيًّا، وهو يَظُنُّ أو يعتقد أن انتفاعه بأرض الزوجة تحت يده صورة من صوَر المساعدة المادِّيّة من قِبَل ولده، الذي هو زوجها. وعندئذٍ عليه أن يدفع هو ـ وليس والده ـ إيجار الفدان إلى زوجتِه إذ أن المساعدة المادية، كحسن المعاملة الأدبية، من صور الإحسان المطلوبة للوالدين قبل أبنائهم في قوله تعالى: (واعبُدُوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبالوالِدَيْنِ إحسانًا) (النساء: 36).
وعلى أيّة حال، الزوجُ الحسَن المعاشرة والخلُق لا يُحرِج والده أو والدته في علاقة أيٍّ منهما بزوجته، ولا يُعَرِّض بالتالي زوجتَه لأن يَنْظُر إليها على أنَّها سبب في بعض متاعب الأسرة.(76/1)
وربما يريد السائل بسؤاله هذا أن يَحمِل والده على دفع إيجار الفدان له أو لزوجته؛ لأنه واضح أن ليس للوالد حق في حَجْب الإيجار وعدم دَفْعِه. ولكنَّ الوالد لو أُكْرِهَ ـ بهذا الطريق على الدفع ـ فإن المُشكِلَة بينه وبين ولده لا تُحَدُّ، مادام هو في حاجة إلى المساعدة المادِّيّة وابنه لا يتقدم بها إليه. وإذن أَوْلَى بالولد ـ وهو الزوج السائل ـ أن ينظر إلى الموضوع نظرةً هادئةً يتذكَّر فيها مدى طفولته وما عاناه والده في تربيته وإعداده حتى تزوَّج، وربَّما أنجب الآن. وسيجد من اليُسْر بمكان أن يُعيد نظرة الاحترام إلى والده، بعد أن يكون هَيَّأ نفسه للمساعدة المادِّيّة اللازمة في رِقّة وعطف في طلب الدُّعاء منه له ولأسرته وأبنائه.
ثُمَّ عليه في الوقت نفسه أن يُحافِظ على علاقة زوجته بوالديه ويَصُونها من التعرُّض للأزمات بسبب أو بآخر، حتى تكون أسرته بالنسبة لوالديه مصدر هناءَة واطمئنان.
ولا يُمكن للزوج السائل هنا ـ وهو الولد ـ أن يتعلَّل بعدم الاستطاعة بالقيام بالمساعدة المادِّيّة لوالده، بأيّة عِلّة؛ لأن "القناعة" لو طبَّقها الإنسان في حياته لكان ذا ثراء ذاتيٍّ لا ينفَد.
57ـ سوء معاملة الوالد لابنه
حائر من إحدى المحافظات يشكو من أنه في سنة 1976 تزوج من امرأة مطلقة، رأَف بها وراعَى ظروفها، وبعد أن علِم والده بهذا الزواج طرَده من المنزل وسكَن بها في مكانٍ بعيد عن بلدته بحوالي خمسة عشر كيلو مترًا، رغم أنه مُوظف صغير بجوار البلدة.
... وقد اقترح على زوجته أن تبيع المنزل الذي وَرِثته عن أبيها بالقاهرة وتشتري بدلاً منه منزلاً في بلدته. واستجابت لرغبته وباعت ما تملك بألف وخمسمائة جنيه، وأنفق من المبلغ خمسمائة جنيه على شراء أثاث، ومائتي جنيه أخرى نفقات ضرورية لقُصور الأجر الذي يحصل عليه في سدِّ نفقات الزوجية.(76/2)
... وفجأة اتصل به والده ودعاه إلى السُّكْنَى من جديد بمنزل العائلة هو وزوجته إلى أن يُقيم له منزل بالمبلغ الباقي وهو ثمانمائة جنيه، وتَسلم هذا الباقي وأصبح في ذمَّته.
... ثم مرت الأيام ولم يفعل أبوه شيئًا، ولما سأله عن المبلغ أنكره، ورغم أنه رجل يُصلي ويعرف الله: كما يقول ـ وهكذا: أصبحت زوجته لا تملك شيئًا، بعد أن استأمنت زوجها على ثمن المنزل الذي ورِثته عن أبيها، وبعد أن استأمن زوجها والده بدَوره وكلاهما يُصلي!!
... وطُولب الأب مرة أخرى بمالِ الزوجة الذي هو في ذمته فأجاب بأنه أخذه انتقامًا منها؛ لأنها تزوجت بابنه رغم مُعارضته، هو ومع مُماطلته في ردِّ هذا المبلغ إليها لم يزل يُعاملها معاملةً سيئة وهي صابرةٌ ولا تتكلم عن هذا الموضوع إطلاقًا. كما لم يزل يحصل على المرتب الصغير الذي يأخذه ابنه أجرًا على عمله في وظيفته، ولا يترك له منه إلا المَصروف الشخصي وهو قليل.
... ويقول الابن السائل والزوج الحائر: إن هذه المشكلة منذ عام 1976 وهو صابر وتائهٌ وضميره يُؤنبه. وفي سؤاله يقول:
ماذا أفعل بالله عليكم؟ إني لا أستطيع أن أشكو أبي. إني أدعوا الله أن ينتقم من الظالم . ولِي أملٌ أن يُفيدوني في هذه المشكلة.
الأب مُستضعِفٌ ابنه: ...
( أ ) يَطرده من المنزل عندما يَعلم أنه تزوَّج امرأةً لم يُوافق على زواجه منها مُقدَّمًا.
(ب) يدعوه من جديد إلى المنزل فيَستجيب إلى السكني فيه مع زوجنه، رغم موقفه السابق منه ومن زوجته وهو موقف ينمُّ عن عدم احترامه وعدم اعتبار أنه شخص له كرامةٌ ما.
(ج) يطلب منه المبلغ الباقي لدَيه مِن ثمن المنزل الذي كانت تملكه الزوجة بالقاهرة ويُنكر أنه في ذمَّته مرة، ويُماطل في دفْعه مرارًا، لمدة خمس سنوات الآن، ويُبرر موقفه بأنه يُريد أن ينتقم من الزوجة؛ لأنها تزوجت من ابنه بدون موافقته هو "الأب".(76/3)
(د) يحصل على مرتب ابنه ـ وهو ضئيل في ذاته ـ ولا يُعطيه منه إلا المَصروف الشخصيَّ وهو قليل.
(هـ) ومِن ضعف الابن أمام أبيه: أنه لا يُراجعه في شيء، حتى في أجْره من الوظيفة وحتى في المُعاملة السيئة لزوجته التي يُباشرها والده معها، وحتى في مالها الذي هو أمانةٌ عنده.
ولو كان الابن قويًّا لمَا استطاع والده يُعامله هذه المُعاملة المهينة، هو وزوجته.. ولمَا استطاع أن يتحكم في مصيره ومستقبله، على هذا النحو الذي يقع منه الآن. ...
ولو كان قويًّا لمَا حبَس لديه مال الزوجة، وهو أمانة تَسلَّمها عن طريقٍ خادع. وهو الوعد بإقامة منزل لها ولزوجها. ...
وإذا كان الابن يَثِقُ في والده؛ لأنه يصلى فقد اتَّضح الآن، أن صلاته بمَعزل عن سلوكه، والقرآن الكريم إذ يأمر رسول ـ عليه السلام ـ بقوله: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إليكَ مِن الكتابِ وأقمِ الصلاةَ إنَّ الصلاةَ تَنْهَى عنِ الفَحشاءِ والمُنْكَرِ ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ مَا تَصنعونَ). (العنكبوت: 45)..فيأمر بإقامة الصلاة التي يترتَّب على أدائها أداءً سلِيمًا أن يَحُولَ أداؤُها دون الفحشاء والمنكر.. وفي مُقدمة المنكر عدم أداء الأمانة إلى أهلها، يأمره بالصلاة؛ لأنها الدعامة الأولى في الاتصال بالله ـ جل شأنه ـ وعن طريق الاتصال بالمولَى ـ جل شأنه ـ فيها يبتعد المُصلِّي عن كل مُستقْبحٍ مِن الأعمال وعن كل ما يَضرُّ بالآخرين.
... فإذا كان الوالد يُصلي ولا يُؤدي الأمانة لصاحبها فصلاته ركوعٌ وسجود فقط. ولا تَرْقَى إلى مُستوى الاتصال بجلال المولى ـ سبحانه ـ ولذا لا يَنجح المُؤدي لها في تجنُّب الفحشاء والمنكر. وبالتالي ثقةُ الابن في أبيه؛ لأنه يصلي ثقةٌ تقوم على خداعٍ. ...
وهيهات أن يتشجع الابن هنا ويُواجه أباه مواجهةً صريحة وحازمة في طلب ردِّ الأمانة إلى زوجته أو في الامتناع عن تسليم راتبه، وفي البقاء في المنزل مع زوجته رغم الإهانة وسوء مُعاملة الزوجة.(76/4)
... ولا يُبرر موقف السائل من الأمانة التي لدَيه لزوجته: أنه مُستضعَف لوالده.. إذْ عليه التخلُّص من هذا الاستضعاف فيَهجر والده أولاً. فالقرآن لا يرى الاستضعاف مُبرِّرًا على الإطلاق في رفْع الذنب عمَّن استُضعف عندما يرتكب ذنبًا. ويقول الله ـ تعالى ـ: (إنَّ الذينَ تَوفَّاهمُ الملائكةُ ظالمِي أنفسِهمْ قالُوا فِيمَ كُنْتمْ قالوا كُنَّا مُستضعَفِينَ في الأرضِ قالوا ألمْ تَكُنْ أرضُ اللهِ واسعةً فتُهاجروا فيها فأولئكَ مأْواهمْ جهنَّمُ وساءتْ مَصِيرًا). (النساء:97)..
... فالذين لم يُؤمنوا بالله تحت ضغط زُعمائهم وكبار القومِ فيهم لهم نارٌ جهنم عقابًا لهم على عدم إيمانهم.. إذْ كان بإمكانهم أن يُهاجروا بإيمانهم في أرضِ الله الواسعة… وبالهجرة يتجنَّبون الكُفْر والوقوع تحتَ تأثيرِ الزُّعَمَاءِ.
...(76/5)
46 ـ شابٌّ يُعكِّر صَفْو حياته سُلوكُ والده
إني طالب في إحدى الجامعات، وعمري اثنان وعشرون عامًا، ومتديّن، وحياة والدي تُنغِّصني، فهو لا يؤدِّي واجباته الدينية الكاملة، ولا يصلِّي إلا في رمضان بحُجة كثرة العمل، وعندما يثور أو يغضب يسُبُّ الدين، والأدْهى والأمرُّ أنه يشرب الخمر وهو في الثانية والخمسين، وعندما أرى حاله وهو فاقد الوعْي سُكْرًا أغضب وأتحفَّز لزَجره ثم أذكر وصية الله للوالدينِ. فماذا أصنع؟
فيما جاء في سورة العنكبوت في قول الله ـ تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) ( العنكبوت 8).
يأمُر القرآن الكريم الأبناء بأن يُحسنوا إلى الوالدين والإحسان إلى الوالدينِ في الدرجة الأولى: طاعتهما وعدم إيذائهما إيذاءً معنويًّا أو مادِّيًّا في صورة ما، وقد ذُكِرَت معالم الإحسان في قوله ـ جَلّ شأنه ـ في سورة الإسْراء: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء 23 ، 24).
فكان مِن معالم الإحسان تجنُّب الإيذاء مهما كان أمره.. والطاعة لهما شفقةً ورحمة بهما.(77/1)
ولكي لا يفهم الأبناء أنَّ الإحسان إلى الوالدين قد يمتدُّ إلى طاعتهما في دعوتهما لهم بالانصراف إلى الوثنيّة والإلْحاد والسلوك مسلَك العابثين المُفسِدين ـ نَصَّتْ آية العنكبوت على عدم طاعة الوالدينِ، إذا هما قامَا بمُحاولة حمْل الأبناء على الشرْك.. والوثنية في الاعتقاد قَبول التحلُّل والفساد والعبث في السلوك.. قَبول الاعتداء على حُرُمات الآخرين وحقِّهم في الحياة وهي حرمات المال، والعِرْض، والنفس.
وإذا كان الأولاد يجب أن يَقِفوا من آبائهم موقِف المعارَضة وعدم الطاعة في نُصْحهما إيَّاهم بالوثنيَّة والإلْحاد والمادِّية، فإنهم كذلك يجب أن لا يقفوا منهم موقف الرِّضا والاستحسان لمَا يُباشِرانِه من سلوك عابث كعدم أداء الوالد هنا للصلاة وسبِّه الدين عند غضبه.. وشُربه المُسكِر وهو في سن الثانية والخمسين الآن.. وفقْده الوعْي من كثرة الشراب.
وإنَّ واجب الابن هنا نُصْح أبيه، ولكن برِفق وفي غير إيذاء، فإذا صار الوالد إلى الاعتداء عمل الابن على الحيْلولة دون وُقوع الاعتداء من أبيه بصورة أو بأخرى.
وعلى أيّة حال لا يقف الابن من أبيه موقفًا سلبِيًّا، فالحديث القائل: "مَنْ رأى منكم مُنكَرًا فليغيِّره بيده.. فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقَلبه وذلك أضعفُ الإيمان" ـ يَفرض على الابن تغيير المنكر من أبيه، ولكن في غير إيذاء له ولو إيذاء مَعنويًّا ويُغيِّره إما بيده أو بلسانه على الأقل، والحديث هنا عامٌّ يشمل موقف الابن نحو أبيه، كما يشمل موقف الأب نحو ابنه.(77/2)
106ـ مَن هم أولياء الله؟
يعرض عامل نسيج ـ قطاع خاص ـ بإحدى المحافظات ما يأتي:
أولاً: أن زوجته فقدت نظرها منذ ثلاث سنوات، وأن له منها سبع بناتٍ مُتعلمات وولدًا في الصف الثاني في المدرسة التجارية ببلدته.
وثانيًا: أنها بعد أن فقدت بصرها أصبحت تدَّعى أن عليها أولياء مِن عباد الله الصالحين، رغم أنها لا تُؤدي فروض العبادات.
وثالثًا: إنها تركت منزل الزوجية ببلدته، وتُقيم في بيت أبيها بمحافظة أخرى، وترفض العودة إلى أولادها وزوجها، منذ ثلاث سنوات مضت.
ويسأل عن رأي الدين في ذلك. هل الله يُسامح هذه الزوجة في هجر بيت الأولاد ومنزل الزوجية؟
وهناك من البنات مَن تحتاج إلى رعايتها.. وهناك الزوج له عليها حقوق.
يظنُّ السائل أو يعتقد أن زوجته، بعد أن كُفَّ بصرُها، هجرت منزل الزوجية وتركتْه كزوج، وتركت أولادها منه، ولكن هي في واقع أمرها هرَبت منه مُكرهةً، كانت تُبصر فكان زوجها يراها وهي مُبصرة، وكانت بناتها يَروْنها وهي مُبصرة، وتعودت أن ترى.. وتعودت أن تُلاحظ.. وتعودت أن تَستقل في حركتها.. وتعودت أن تفعل ما تريد بنفسها أو أن تأمر بفعل ما تريد.
... أصبحت الآن بعد كفِّ بَصَرِها في حاجة إلى غيرها.. وفي حاجة إلى مَن يُسايرها في حركتها.. أصبحت غير مُستقلة في تقدير الأمور: لا تُلاحظ غيرها، وإنما غيرها هو الذي يُلاحظها.(78/1)
... كانت بالأمس تعرفُ رأي زوجها فيها بالنظرة دون أن يُعبر عنه، وتعرف رأي بناتها عندما يُحدثْنَ بعضهنَّ بعضًا من غير غمْز أو لمْز، أصبحت اليوم في حَيْرة مِن أمرها، هل لم تزل مَقبولة كزوجةٍ عند زوجها؟ هل بناتُها لا يسخرن منها ولا يتغامزْنَ عند الحديث عليها أو معها؟ إنها لم تعدْ تملك أمْرَ نَفْسها.. ولا أمر بيتها.. ولا شأن بناتها. إنها قد عُزلت عن حياة الأسرة، وأصبح دورها فيها سلبيًّا.. ومن أجل ذلك: شأنها شأن مَن كان يملك الكثير فأصبح لا يملك القليل، إنها عاجزة.. بائسة.. وتكاد تكون يائسة. وإذا ادعت أن عليها بعض أولياء الله الصالحين فلكَي تُداري وضْعها الذي وصلت إليه.. فلكي تقول للآخرينَ: إنَّ ما بها من حالٍ قد تغيَّر: يعود إلى هؤلاء الأولياء.. وإنهم العِوَض عمَّا كان لها من بيت، وأولاد، وزوج، إنها تُسلِّي نفسها بقصة الأولياء من عباد الله الصالحين.
هل حاول الزوج السائل أن يُعيد إليها الثقة في نفسها، بعد أن كُفَّ بصرُها؟ هل حدَّثها عمَّا يُكنُّ لها مِنَ احترام ومحبة، وتقديره لها على خدماتها الماضية؟ هل حافظ على إحساسها في مُعاملته إيَّاها؟.. هل قام بخدماتٍ لها بعد أن فقدت بصرها ولم يتعود أن يقوم بها مِن قبلُ؟.. هل كان رقيق المشاعر نحوها وأبدَى لها العواطف ما تتأكَّد منها، أنه لم يزل يتعلق بها ويحرص عليها؟.
... هل أولادها البنات كنَّ حريصات على إحساس والدتهنَّ بعد فقْدها بصرها، أزْيَدُ ممَّا كان من قبلُ؟ هل لم يَجْرَحْنَهَا بنُكتة.. أو ضحكة.. أو همْسة.. أو إشارة عابرة لا تراها؟.
... إن الزوج السائل لو حاول ذلك، ولو حاولت بناتها كذلك أن يحرصن على إحساسها: لمَا خرجتْ من منزل الزوجية، وتركت الزوج يشكو عدم مُعاشرته لها ويطلب حقوقه الزوجية منها.(78/2)
... إن الزوج في سؤاله يرى أنها بسُكناها عند والديها، ارتكبت خطأً يشكُّ في أن الله سيَغفره لها، ولذا يقول في السؤال، هل اللهُ يُسامح هذه الزوجة في هجْر بيت الأولاد ومنزل الزوجية؟
... ألم يكن ما قامت به قبلَ فقْد بصرها لزوجها وأولادها الثماني منه: بكافٍ في التعبير عن قِيمتها كأمٍّ، وزوجة؟
... كان يُظَنُّ أن الزوج يكون حَدِبًا على رعايتها في ذاتها بدلاً من أن يَطلبها لفراش الزوجية، كان يَظنُّ أن الزوج يكون أكثر إنسانية فيُعوضها عن فقْد بصَرها بما لا يَجعلها تُفكر في قدَر الله لها فتهرب إلى حيثُ وُلدتْ ونشأت في منزل والديها.
على السائل أن يتَّجه إلى الله جلَّت قدرته، ويُطيعه فيما أمر به من عدل، وإحسان، فأما العدل فهذه الزوجة التي كُفَّ بصرُها على كِبَرٍ: لها حق في عُنق زوجها، يجب أن يُؤدَّى لها، وهو حق الرعاية لحاجاتها..ومَشاعرها.. وخدماتها.. دون أن تُكلَّف بأداء أمرٍ ما. وأما الإحسان فهو احتضانها بالحُنُوِّ، والمحبة، والتكريم طالما هي على قيْد الحياة.
... على السائل أن يترك الأنانية التي دفعتْه إلى الشكوى مِن زوجته؛ لأنها هجرتْ فراش الزوجية.. وهو له حقوق قبلها، فالمسلم هو الذي يتعامل مع القيم الإنسانية، يتعامل مع العدْل، والإحسان، والرحمة.. والمودة.. والكرامة.. هو الذي لا تتحكم فيه شهوتُه ولا هواهُ.. هو الذي يحسُّ بمسئوليته إزاء الآخرين.. والزوج مسئول عن أهل بيته، وفي مقدمتهم الزوجة.
... فليكنِ السائل وَفِيًّا لزوجته، وليُعلم بناته الوفاء لأمهنَّ، ليكن مُحسنًا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.(78/3)
17 ـ إبليس والشيطان:
نُريد أن نعرف إبليس، هل هو من الجِنّ كما في سورة الكهف؟ أم من الملائكة كما ذكرت البقرة؟ فما هو الصحيح؟
* إبليس من الملائكة، والجِنّ معًا:
* هو من الملائكة في قول رسول الله في سورة الأعراف: (ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للمَلائِكَةِ اسْجُدوا لآدَمَ فَسَجُدوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ) (الأعراف:11) فقد أمرت الملائكة بالسجود لآدمَ، وسجدوا جميعًا عدا إبليس.. فإبليس أمر بالسجود كواحد مِن الملائكة، وهو كواحد منهم امتنع عن السجود.
ويؤكِّد ذلك قول الله ـ تعالى ـ بعد ذلك: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (الأعراف:12) فأمر الله لإبليس للسجود لآدم كان ضمن أمر الله للملائكة في الآية السابقة. ولم يَردْ في القرآن آية ـ إطلاقًا ـ تُشير إلى أمر الله لإبليس بالسجود على انفراد وفي معزل عن الملائكة.
وعصيان إبليس أمْرَ الله بالسجود لآدم لا يُخرجه من عداد الملائكة.
كعصيان الكافر مِن الإنسان، وعدم إيمانه بالله لا يُخرجه من عداد الإنسان.
فالكافر إنسان ولكنّه عاصٍ. كذلك إبليس ملَك ولكنه عاصٍ أيضًا.(79/1)
وهو من الجن أيضًا؛ لأنَّ الجن كما ورد في القرآن أُريدَ به المُستخفِي. أريد به أنه مقابل الإنس.. والإنس هو المعهود والمعروف. وقد أطلق القرآنُ على الملائكة "جِنّة"؛ لأنَّهم لا يُشاهدون في قوله ـ تعالى ـ في سورة الصافات: (وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنّةِ نَسَبًا، ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرونَ) (الصافات:158) فكلمة الجِنّة في الموضعين قصد بها الملائكة. لأن الآية تحكي ما كان يدّعيه مشركو مكّة من أن الملائكة بنات الله. وقد جاء هذا الادِّعاء في الآيات السابقة على هذه الآية في سورة الصّافّات في قوله ـ تعالى ـ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَنَاتُ ولَهُمُ البَنَونَ أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إنَاثًا وهُمْ شَاهِدونَ أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وإِنَّهُم لَكَاذِبونَ. أَصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنِينَ) (الصافات:153 ـ 149) ثُمَّ مِنْ جهة أخرى الملائكة وحدهم هم الذين يعلمون وُرود الكافرين إلى جهنّم؛ لأنهم هم الحُرّاس عليها، على نحو ما تقوله الآية: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نارًا وَقُودُهَا النّاسُ والحِجارَةُ، عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤمَرونَ). (التحريم:6). فالنَّسَب المدَّعَّى بين الله وبين الجِنّة آتٍ من جعْل الملائكة بنات الله في زعم المشركين.
ومعرفة الجَنّة بحضور المشركين إلى جهنّم. يعود إلى الملائكة لأنَّهم هم الحُرّاس عليها.(79/2)
والزمخشريّ في تفسيره ـ الكشّاف ـ يفسِّر قول الله ـ تعالى ـ: (وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنّةِ نَسَبًا) بقوله: "وجَعَلُوا بين الله وبين الجِنة، وأراد الملائكة (نَسَبًا) وهو زعمهم أنَّهم بناتُه. والمعنى جعلوا بما قالوا نِسبةً بين الله وبينهم، وأثبتوا له بذلك جنسيّة جامعة له وللملائكة. فإن قلتَ: لِمَ سُمِّي الملائكة جِنّة؟ قلتُ: قالوا: الجِنْس واحد. ولكن مِن خبُث ومَرَد من الجِنّ وكان شرًّا كله فهو شيطان. ومن طهُر منهم ونسَك وكان خيِّرًا كله فهو ملَك. فذكرهم في هذا الموضع باسم جِنْسهم". (ص: 272ج2 طبع المطبعة الشرقية).
فكلمة الجِنّ اسم جنس، وليس اسم عَلَم. والإنس إذا كان هو المعهود والمعروف فالجِنُّ هو المُستخْفِي وهو المعهود. والملَك مقابل للإنس، ولكنّه ليس مقابل للجِنِّ.(79/3)
28ـ شرعت التوبة إلى الله لغُفران الذنب
سيدة من إحدى المحافظات ـ سنها عشرون عامًا، مُتزوجة ولها الآن طفلة وحيدة، ومات لها ولدانِ؛ أحدهما في سِنِّ الرابعة من عمره والآخر صغير جدًّا، وقد تأثَّرت كثيرًا بوفاة ولدها الكبير، بعد أن تعلَّقت به تعلُّقًا شديدًا، وصحتها الآن سيئة ولا تَستطيع أن تُنجب أطفالاً بسبب كثرة النزيف المُلازم لها. وهي تعترف بأنها أخطأت في حق الله بأن اتَّصلت برجل اتصالاً يُنكره الإسلام وينظر إليه على أنه فاحشةٌ، ولكنها تابت بعد ذلك وتُؤدي فروض العبادات الآن في غير انقطاع. والمشكلة التي تُؤرقها وتعيش بسببها في حال بُؤسٍ وشقاء نفسي هي أنها تعتقد أن الجريمة التي ارتكبتها سيَحُول ارتكابها إيَّاها دون أن تلتقي بولدها المحبوب في الآخرة عندما تموت هي، وبذلك تكون قد خَسِرته في الدنيا والآخرة معًا. وتسأل هل تُقدِم على الانتحار ويكون هذا الانتحار كفيلاً بتكفير ذنْبها وتطهيرها؟ وإلا فما هو الطريق الذي يجعلها لا تَفترق أبدًا عن هذا الابن العزيز في الآخرة؟(80/1)
إن الانتحار ضد الإيمان بالله، فإيمان المؤمن يحمل الأمل في نفسه في الله جلَّتْ قدرته.. يحمل الأمل في رحمته وفي تفريجه الكروب.. والأزمات عند اشتدادها. والذي يُقدم على الانتحار من الشباب، والرجال، والنساء، يتملَّكه اليأس من الحياة.. وتُظلِم الدنيا في وجهه. واليائس لا يكون صاحب أمل.. وبالتالي لا يكون مُؤمنًا بالله. وهذا الانتحار جريمةٌ أخرى تُضاف إلى جرائم الإنسان السابقة.. الذي يُحاول الانتحار. وليست تكفيرًا عن جريمة باشَرَها المنتحر ـ كالفاحشة التي باشرتها السائلة ـ وليس أيضًا تطهيرًا منها. ...
والسائلة عزَّ عليها أن تَفقد ولدها المحبوب عندها إلى غير رجعة.. عزَّ عليها أن لا تراه وقد كان مِلْءَ بَصرها.. وأن لا تسمع صوته في الحديث معها، وقد كان مِلْءَ السمع منها، وصارت تُباشر حلم اليقظة: في أن تراه وأن تَضمه إلى صدرها، كما كانت تفعل في حياته معه، أيْ صارت لها أُمنية في أن تراه وتسمعه، ولكنها ـ كما تُعبر ـ لمَّا باشرت الخطيئة، وهي مَمقوتة عند الله، واعتقدت أن الله سيُعاقبها على هذه الخطيئة بحِرْمانها من أن تلتقي بولدها في الآخرة بعد بعْث الأموات من قُبورهم: ضاقت نفسها.. واشتدَّ حُزنها.. وكثر خوفها، وأثَّر ذلك كله على صحتها وعلى نفسها فاعتلَّ بدَنُها.. وأظلمتْ نفسها من داخلها.. وتصوَّرت ما تصورته.. واعتقدت ما اعتقدته.. وكل يومٍ يزداد اعتلال البدن وتزداد ظلمة النفس، فكان المَيْل إلي اليأس من الحياة.. وكان التفكير في الإقدام على الانتحار.(80/2)
ولكن الله القادر الجبَّار.. هو الله الرحيم بالإنسان، والإسلام لأنه رسالة الله يُقدر الإنسان على أنه غير مَعصوم عن الخطأ ومُباشرة الذنوب. فهذه الطبيعة البشرية التي تَتصارع في داخلها شهوات النفس وأهواؤها.. مع عقل الإنسان وحكمته.. وعن هذا الصراع: يتولَّد الخطأ ويرتكب الإنسان الإثْم، والمعصية، والفاحشة، ما ظهر منها وما بطن. ...
ومن أجل هذه الطبيعة المُزدوجة المُتصارعة في الإنسان التي يترتَّب على ازدواجها: ارتكاب الأخطاء والذنوب.. كانت التوبة إلى الله.. وكان الرجوع إليه عند ارتكاب المعصية ومعنى الرجوع إليه: الرجوع إلى تنفيذ ما أمر به في كتابه وما نهى عنه في هذا الكتاب.. معنى الرجوع إليه: الإصرار على ترْك المنكر أو الفاحشة.. والْتزام العمل بدين الله.. والإيمان به. ...
والتوبة: العودة إلى الإيمان بالله وإلى العمل والسلوك، والتصرُّف طبْقًا لمَا يدعو إليه الإيمان بالله: يَستقبل جلالَ المولى في الصلاة ويدعوه أن يَغفر له ما باشَرَهُ مِن ذَنْبٍ وخطيئة.. وتَعِدُهُ وَعْدًا أكيدًا باتِّباع رسالةِ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا كان المُخطئ مُخلِصًا في التوبة مِن خطئه.. وكانت توبته قريبة من مباشرة الخطأ أو الذنب.. واستمر مُتجنِّبًا الَمعاصي والآثام: فإن الله يَقبل توبته: فهو الرحيم الذي يَقبل التوبة: (والذينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حرَّمَ اللهُ إلَّا بالحقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعلْ ذلكَ يَلْقَ أثَامًا. يُضاعَفْ لهُ العذابُ يومَ القِيامةِ ويَخْلُدْ فيهِ مُهانًا. إلَّا مَن تابَ وآمَنَ وعمِلَ عملًا صَالِحًا فَأُولئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسناتٍ وكانَ اللهُ غَفورًا رَحيمًا. ومَن تَابَ وعمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللهِ مَتَابًا). (الفرقان: 68ـ71). وقد وعَد الله ـ سبحانه ـ هنا بأن يُبدل سيئاتِ المخطئين.. إلى حسنات لهم، إن(80/3)
هم تابوا توبةً مخلصة وعادوا إلى اتباع تعاليم الله في رسالة رسوله الكريم، فهو ـ سبحانه ـ لم يكتفِ بالمغفرة عن الذنوب وإنما أضاف فضْلاً، بعد الغفران. والسائلة الآن عليها أن تَطمئن وتستمر في طاعة الله، وفي أداء واجبها نحو زوجها.. وطفلتها.. وتتوكل على الله في أن يغفر لها ذنْبها ويَجزيها في آخرتها باللقاء مع عزيزها.. وتدَع الهموم والأحزان. فهي من عمل الشيطان عندئذٍ.(80/4)
179 ـ إنِّي متخرِّجة في كلية الفنون التطبيقيّة هذا العامَ، وكلُّ متخرِّجة تبحث عن عمل لها. والاختلاط بين الجنسين سائد في ميادين العمل. فهل العمل حرام؟
وهل ارتكبتُ حرمةً بتعليمي حيث يوجد الاختلاط؟ مع ملاحظة أنِّي متمسِّكة بالملابس الحشمة.
الجواب:
نسأل الآن:
هل معنى "الاختلاط" بين الجنسين وجود الذكور والإناث في محيط عمل عام واحد، كلٌّ يؤدِّي واجبه في رعاية فقط لأداء الواجب والعمل، أم معناه وجود فرصة متاحة في اجتماع خاصٍّ لتبادل النظرات بين الذكور والإناث، وتبادل الحديث وعبارات الإعجاب والثناء، ثم اللقاء والمُداعَبة؟
إنَّ أيَّ عمل يأتي به الإنسان ـ ذكرًا أم أنثي ـ في مجال الواجب العام، أو في مجال الحياة الجادّة، أو في مجال ضرورات كسب العيش في الوظائف الرسميّة، سواء في مواجهة الذُّكور للإناث والإناث للذكور، أو في انفراد كلِّ نوع على حِدةٍ، هو عمل من شأنه أن لا ينطوِيَ على إساءة لأحد. وهو بذلك مشروع.
فالاختلاط هنا في هذا المجال ـ أي تواجد الجنسين على هذا النحو ـ ليس في العادة مصدر عبَث أو إساءة أو فساد. والمشارِك في هذا التواجد من النوعين لا إثم عليه، طالما هو يُمسك عن العبَث والإثارة. والتواجد ـ إذن ـ في ذاته بين الذكر والأنثى في مكان عام لا يُحرَّم شرعًا، إلا إذا أدَّى إلى فساد أو ضرَر لأحد. والمشارك في هذا التواجد من الصنفين لا تثْريب عليه، ما دام لم يُسِئْ بالفعل إلى نفسه أو إلى غيره، أو يُضمِر الإساءة لأحد سواه.(81/1)
ولكنَّ الاختلاط بمعنى الفرصة الخاصة المُتاحة لغير العمل الجِدّيّ، ولهدف الحصول على متعة مؤقّتة عن طريق التحادُث أو تبادل النظرات وعبارات المديح، فإنّه غير مأمون العاقبة. أي أنه قد يكون سبيلاً للأذى لأيٍّ من الجانبين. وقد يكون أذًى أكبر من أن يتحمَّله الفتى أو الفتاة. ولذا فهو مَظِنّةُ الضَّرَر، وما كان مظنون الضَّرَر أوْلَى تجنُّبه. ومباشرته لما ينطوِي عليه من خطر ـ ولو مظنونًا ـ غير مُباح.
والإسلام لا يُساير ما يأتي به الزمن في وقت من الأوقات من اتّجاه يُدَّعَى له أنه "اتِّجاه عصرِيّ" في علاقة الرجل بالمرأة، أو بما تَتَّخذه المرأة من موقف في سلوكها نحو الرجل، يُوصَف مثلاً بأنه موقف تحرُّريّ.. الإسلام لا يساير هذا ولا ذاك؛ لأن ما يراه الإسلام نفسه مُرتَبِط بنظرة مُعَيَّنة، هي المُحافَظة على كرامة المرأة وأمنها، وعلى جِدِّيّة الأمر في علاقة الرجل بها، ومسؤوليّته فيها مسؤوليّة واضحة.
فإذا ارتضَت المرأة لنفسها أن تتنازل عن هذه النظرة في علاقتها بالرجل وتُبيح لها ما حرَّمه الإسلام عليها، فلا تُكيّل الآن للإسلام اللوم، وتُلقي عليه التُّهم جُزافًا. وإنما تأخذ سبيلها التي ارتضتْه، وتترك الإسلام لشأنه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ) (الحجرات: 17).
فإذا شاركَت السائلة الآن من أجل كسْب العيش في مجال عمل عام أو في دراسة مفتوحة من أجل تحصيل التعليم فهي لا ترتكب ذنبًا. وبالأخص أنَّها أبعدت عنها كونَها مصدرًا لإثارة الرجل وإغرائه بمفاتنها؛ لأنَّها ـ كما تذكر ـ ليست متبرِّجة بملابسها ولا بزينتها.(81/2)
والإسلام ينصَح المرأة بالتزيُّن والتجميل لزوجها وداخل بيتها، ولكن ليس للتبرُّج خارج منزلها في الطرق العامة. الإسلام يُتيح للمرأة أن تتعرَّف الحياة وأن تتعلم لتكون كاملة النضج في حكمها وفي أمومتها وفي زيجتِها، ولكن ليس لتُوزِّع نفسها على الآخرين. الإسلام يريد أن تكون لها حُرمة في خصوصيتها، ولا يريد لها أن تكون شائعة عديمة الحُرمة.
وتغير الزمان أو تغيُّر الاتجاهات في حياة الإنسان بعد التأثُّر بعوامل معيّنة لا يحكم على الإسلام. وإنَّما سيظل هو يحكم عليها؛ لأنَّه من الله، وما عاداه فهو من الإنسان المتردِّد والمتقلِّب.(81/3)
وثالثًا: هل يجوز سماعُ القرآنِ في أيِّ مكان بالمَنزل؟
وعن السؤال الثالث، وهو حُكم الإسلام عن المكان الذي يجوز فيه سماع القرآن بالمَنزل، فإن قول الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف 204)..
يُفيد أن الاستماع للقرآن، عندما يُتلى ويُقرأ، يجب أن يُوصِّل إلى تدبُّر مَعناه، والعمل بما جاء فيه، أمَلاً في رضاء الله ورحمته، وهذه الغاية من الاستماع للقرآن لا تتوفر إلا في مكان هادئ بَعيدٍ عمَّا يَشْغَل الذات بأمر نفسها، فلا يجوز الاستماع مثَلاً إلى القرآن عن طريق الراديو في المِرْحاضِ، أو في الحمّام؛ لأن الذات مَشغولة بأمر نفسها في أيٍّ منهما، فضْلاً عن الجو الخاصِّ بهما ممَّا لا يَتناسب قطعًا مع قَداسة كتاب الله.(82/1)
22ـ ما رأي الإسلام في الزنا في ليلة من ليالي رمضان؟ وهل يُغفَر هذا الذنب لو تاب المذنب؟
الزنا ـ في نظر الإسلام ـ جريمة اجتماعية مُنْكَرة. يقول الله ـ تعالى ـ: (ولاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً) (الإسراء: 32) فوصفه القرآن أولاً: بأنه فاحشة، أي أمر تجاوز الحَدَّ في عدم القَبول له، ووصفه ثانيًا: بأنه سبيل سيِّئ في الحياة. وهذا الوصف، وذاك يعبِّران عن خطر ارتكابه على المقترِف له وعلى المجتمع الذي يعيش فيه كذلك؛ لأن ضرره كما يُصيب الزاني والزانية ـ وهو ضرَر معنوي وقد يكون مع ذلك مادِّيًّا أيضًا ـ يُصيب المجتمع فيما قد يأتي منه من نسل يباشِر الإجرام في المجتمع بسبب إحساسه بالنقص في الاعتبار ونَفْرة الآخرين منه. ولهذا كانت العقوبة المقرَّرة للزاني والزانية تنفَّذ على مشهد مجموعة من الناس نيابة عن المجتمع كصاحب حقٍّ اعتُدِيَ عليه: (الزّانِيةُ والزّانِي فاجْلِدوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مائةَ جَلْدةً ولاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤمِنونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذابَهما طائفةٌ مِنَ المُؤمنينَ) (النور: 2).
ويُعَظِّم أمر هذه الجريمة إذا وقعت في رمضان.. شهر الهداية والقرآن: (شَهْرُ رَمضانَ الذِي أُنزلَ فيه القرآنُ هُدًى للنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدَى والفُرقانِ) (البقرة: 185)؛ إذ في مباشرتها انتهاك لحُرْمَته وما يجب له من توقير وإخلاص فيه لله وحده.(83/1)
ولو تاب مرتكب هذه الجريمة الاجتماعية، وأخلص في توبته بالإصرار على عدم العودة لمباشرتها مره أخرى ـ فإن الله قد وعد بأن يغفر له ذنبه، على نحو ما جاء في قوله تعالى ـ: (وسَارِعُوا إلى مَغفِرة مِنْ رَبِّكُمْ وجَنّةٍ عرْضُها السَّمواتِ والأرْضِ أُعِدَّتْ للمُتَّقِينَ. الذِينَ يُنْفِقونَ في السَّرّاء والضَّرّاء والكاظِمينَ الغَيْظَ والعَافينَ عَنِ النّاسِ واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنينَ. والذِينَ إِذَا فَعَلُوا فاحِشةً "أي بارتكاب جريمة الزِّنا" أو ظَلَموا أنفسَهم "أي بارتكاب أيّة معصية أخرى عداه" ذَكَروا اللهَ فاسْتَغْفَروا لِذُنوبِهِمْ ومَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلاّ اللهُ ولَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وهُمْ يَعلَمونَ) (آل عمران: 133 ـ 135) أي لم يصِرّوا على الاستمرار فيما ارتكبوه من معاصٍ ـ علمًا منهم بأنها معاصٍ ـ بل عادوا إلى الله مُخلِصين في طاعته واتباع سبيله وهو سبيل الخير وتجنُّب الانحرافات.. فنَصَّت هذه الآية على أن مرتكب الفاحشة، وهي الزنا، لو استغفر الله وأناب أليه مخلصًا في توبته بالعزم والتصميم على عدم الرجوع إلى مباشرة جريمته.. فإن الله يقبل منه توبته.(83/2)
70 ـ هل للزوجة الموظَّفة حرية التصرُّف في راتبها من غير رجوع إلى رأي الزوج؟
إن عقد الزواج في الإسلام يُتيح فقط الترابُط بين الزوجين في المعاشرة بينهما والمحافظة على النسل الذي يأتي نتيجة هذا العقد. وهدفه لا يتجاوز ما جاءت به الآية الكريمة:
(ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمةً) (الروم: 21).. فقد نصَّت هذه الآية على أن الاطمئنان والمودة والرحمة المتبادلة هي هدف العقد من الزوجية.
ومن أجل ذلك يطلب عقد الزواج أن ينسجمَ كلٌّ من الزوج والزوجة في هذا العقد بحيث يترتَّب عليه هذه الأهداف وهي ـ السُّكْنَى والاطمئنان والمودّة والرحمة المتبادَلة ـ فإنه لا يطلب إطلاقًا إلغاء شخصية كلٍّ من الزوجة في سبيل الزوج وشخصية الزوج في سبيل الزوجة. فاستقلال كلِّ ذات منهما قائم ويجب أن يبقى، ولكنه فحسْب يجب ألا يفوق هذا الاستقلال نموَّ المودة والرحمة والاستقرار.
والزوجة بذلك لا تعيش ضمن نطاق شخصية الزوج. ولهذا بقِيَت لها تصرُّفاتها بعد الزواج، تلك التصرُّفات التي كانت لها قبل قيام عقد الزوجية. ومن هذه التصرفات شؤون المال، سواء كان في صورة مرتّب أو صورة ملك أو في صورة تجارة من بيع وشراء أو في غير ذلك من الصور التي تعبِّر عن ملكية المال واقتنائه. وكذلك بَقِيَ لها استقلالها في شؤون العقيدة فلا تحمل زوجة على الإسلام بسبب عقد زواجها من مسلم إذ أن ذلك سيكون إكراهًا في الدين. وهذا ما يأباه الإسلام إذ يقول القرآن الكريم: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256).
وهذه الخَصيصة ـ وهي المحافَظة على استقلال المرأة ـ تجعل هي وغيرُها من دين الإسلام دينًا لحياة الإنسان يساوِق طبيعته في أيَّ عصر كان.
والحكم الشرعي ـ إذن ـ هو ألاّ سبيل للزوج على مرتّب زوجته. عليه الإنفاق ولها أن تشارك إن أحبَّتْ ولكنها لا تُكرَهُ على ذلك.(84/1)
36ـ احترام الوالد ورعايته
شاب من إحدى المحافظات يذكر هو شاب في معهد متوسط ويُريد أن يكون مؤمنًا، مستقيم السلوك ولكنه يفتقد القُدوة الحسنة في أبيه. فقد أنفق والده جميع ما وَرِثه على النساء في مُعاشرتهنَّ معاشرةً غير شرعية، وأهل القرية يعرفون ذلك. ويُسيء معاملة والدته، ويسلك معها طُرقًا غير شريفة في أكْل مالها بالسُّحْت.. وهي تتَّجرُ في مالها الخاص. ولكن لا يتركها وشأنها. وفوق ذلك فهو يُفْشي الأسرار الزوجية ويتكلم عن النوم في الفراش مع والدته للصغير والكبير. وهو غير أمِينٍ على ابنته. ويُفسر القرآن تفسيرًا خاطئًا فيقول مثلاً في قوله تعالى: (وما الحياةُ الدنيا إلا لَعِبٌ ولَهْوٌ) أنه مطلوب من الناس أن تلهو وتلعب في هذه الدنيا. ويسأل:
1ـ هل لمثل هذا الأب حق في أن نحترمه مثل الآباء الآخرين؟
2ـ وإذا كان له الحق علينا.. فماذا نفعل عندما يريد أن يدخل الدكان ونحن نعرف أنه ربما يَسرق على سهوٍ مِنَّا؟
3ـ هل مِن حقِّه أن يُعاشر والدته ـ أيْ والدة السائل ـ مُعاشرةً زوجية؟(85/1)
هو شاب يُريد أن يكون ناجحًا في دراسته.. ومُستقيمًا في سلوكه.. ومشاركًا للمسئولية في أسرته.. ولكنه لا يستطيع؛ لأن إرادته ليست كافية في إنجاز ما يَستهدفه من حياته في النجاح في الدراسة، والاستقامة في السلوك، والمشاركة في المسئولية الأسرية. ...
فهناك الأب ورب الأسرة يَطغَى بعبثه وفساده، فلا يترك له نافذةً ينفُذ منها إلى ما يريد: يُباشر الفحشاء والمنكر، ويُسرف في مُخالطة النساء وسرقة المال من أهل بيته، لا يُؤتمن على عِرْض، وليست لديه حُرمة لمالٍ خاصٍّ مملوك لزوجته، ولا يُؤتمن على أسرار العلاقة بينه وبين زوجته، فقد عَرَّى نفسه من صفات الرجولة، وكشف علاقته الزوجية بحيث أصبح الآخرون يَعرفون خَفاياها. ...
والسائل ـ وهو ولده ـ يرى في أبيه قدوة سيئة، كما يرى أنه فقد الاحترام منه ومِن أمه وأخته، على السواء. ...
يرتكب فاحشة الزنا.. ويُباشر المنكر مِن سرقة المال.. كما يُباشر الاعتداء بالضرب والإيذاء، إذا لم يُمكَّن من سرقة المال وهو لزوجته. ...
إن المنزل إذا كان مِن العوامل الجوهرية التي تُؤثر على الشاب في تكوينه إيجابًا أو سلْبًا، بجانب الوسط الذي يعيش فيه، والمدرسة التي يتردَّد عليها: فإن الأب في الأسرة والمنزل يكاد يكون صاحب الشأن الأول في التوجِيه، فإن ساء خُلقه ساءت قدوته وساء بالتالي أثره على الأولاد. ... ...
ومن حقِّ الأولاد أن يتردَّدوا في احترام أبيهم إذا ساء سلوكه ونالَهم أذَاهُ، ولكن مع ترددهم في احترامه، فإنه لا ينبغي لهم أن يُظهروا له عدم الاحترام أو عدم الاكتراث بشأنه. بل يجب أن يكون موقفهم منه هو موقف الحريص على مُصاحبته بالمعروف دائمًا، فمهما كانت الإساءة المُوجَّهة منه، فليس هناك جُرْم أكثر من الشرْك بالله، ومع ذلك فكتاب الله يُوصي الأبناء بعدم اتباع الوالدينِ في حمْلهم على الشرك، وفي الوقت نفسه يُوصيهم بعدم التخلِّي عن مُصاحبتهم بالمعروف. فيقول: (وإنْ جَاهداكَ(85/2)
علَى أنْ تُشْرِكَ بِي ما ليسَ لكَ بهِ علْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). (لقمان: 15). ...
إنَّ مثل هذا الأب قد تجرَّد من صفاتٍ طيبة عديدة ـ على الأقلِّ في نظر أولاده ـ قد يكون مريضًا من الوِجْهة النفسيَّة.. قد يظنُّ أنه فقد اعتبار الناس له فتَزداد إساءتُه إلى أسرته تَغطيةً لمَا يُحِسُّ به من نقْص فيما حوله، وهنا ربَّما يُعيدُ احترام أُسرته له: الإحساسَ بالاعتبارِ البشريِّ. وعندئذٍ يعودُ إليه التوازُن في التصرُّف، فيكف عن الفاحشة والسرقة للمال، ويُقْدم على الإسهام والمشاركة في عمل الأسرة وإنماءِ مالِها.(85/3)
إن أيَّ والدٍ يُحسُّ باحتقار أولاده له: يُحسُّ في الوقت نفسه بالضعف والمذلَّة، وإذا أحسَّ بالضعف والمَذلة فلا يُرجى له إلا أن يزداد في إساءته لنفسه ولأسرته، ومن الحِكْمة أن لا يعمل الأولاد على إذْلال والدهم، وأولَى بهم أن يُساعدوه على أن يَستعيد احترامَه بينهم أولاً. فإذا أحسَّ باحترامِهم إيَّاه حرص على أن يظل محترمًا بينهم. وذلك بتَغيير سلوكه وتصرُّفاته إلى النموذج الأحسن، وعندئذ تُحلُّ مشكلته بالتدريج ويُصبح على الأقل عُضوًا نافعًا في الأسرة إنْ لم يكن ربَّها والمُوَجِّه فيها كما كان مِن قبل. ...
وعلى السائل أن يترك طريق المُواجهة لأبيه.. وأن يَبتدئ معه بالمَودَّة القائمة على الاحترام وعلى والدة كذلك أن لا تُقيم العقبات في عودة الحياة الزوجية بينها وبين زوجها. فإن ذلك مِن شأنه أن يُعيده إلى التصرف الطبيعي. ولْتَغفرْ له ما مضى من ارتكابه الفاحشة والمنكر، ولا تُعيد إلى ذاكرته اليوم ما كانَ منه بالأمس. وخيرُ السُّبل أن تكون عاديةً معه كزوجٍ لها وأبٍ لأولادها. ...
والإنسان طالما لا يُصرُّ على الخطأ فقد يعود إلى الصواب لحظةً ما. وعلى أية حالٍ هو والد، والله يهديه إلى سواء السبيل. ولتوضيح الإجابة على أسئلة السائل:
أولاً: إن الأب لم يزل له حقُّ الاحترام من أولاده. ...
ثانيًا: يجب أن لا يُمنع من دخول محلِّ التجارة. وفي أول الأمر تُراقب تصرُّفاته مُراقبةً غير مكشوفة. ...
ثالثًا: من حقِّه أن يُعاشر والدة السائل معاشرة زوجية، فليس ادِّعاء سرَقة المال أو ارتكابه الفاحشة مع أخرى من المَوانع الشرعية في علاقة الزوج بزوجته.(85/4)
83 ـ الوفاة في رجب وشعبان ورمضان، والفوز بالجنَّة؟
هل صحيح أنه إذا تُوفي الشخص في شهر رجب أو شعبان أو رمضان يفوز بالجنة ويُصبح من مَعاتيق الأشهر الثلاثة؟
إن الإسلام في ثوابه وفي عقابه لا يَعرف إلا نوع العمل الذي يُباشره مَن آمَن به، نقرأ قول الله تعالى: (ألاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَن ليْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (النجم: 38 ـ 40).
ففي هذه الآيات يُصرِّح القرآن:
أولاً: بأن خطأ أي إنسان يتحمَّله المُخطئ نفسه، ولا يتحمَّله إطلاقًا غيره.
ثانيًا: بأنه لا يُحسَب للإنسان إلا سعْيُه هو في سبيل العمل الصالح، وأنه يُجزَى الجزاء الأوفَى عليه وحده، دون شيء آخر.
ومعنى ذلك: أن الإسلام لا يُدخِل زمانًا أو مَكانًا في جزاء الإنسان، إذا تُوفِّي في شهر مُعين أو يوم خاصٍّ، أو إذا تُوفِّي في مكان معين أو موضع بالذات. فالأيام كلها سواسية، والأمْكنة كلها واحدة، لا تُغيِّر ممَّا يتأسَّس عليه جزاء الإنسان شيئًا؛ إذْ إن ما يقوم عليه الجزاء هو العمل للإنسان، دون سواه مِن نسَبه، أو مكان وَفاته، أو زمان وِلادَتِهِ.
والقرآن وما فيه من مبادئ يُحدِّد منهج الحياة للمُؤمن به، كي يكون إنسانًا في سلوكه وفي علاقته بالآخرين معه في أسرته وفي مجتمعه، والإنسان في السلوك وفى العلاقة مع الآخرين معه هو الذي يُحب لنفسه، كما يحب لغيره، هو الذي يَكْظِمُ غَيْظَه مِن إساءةِ الآخرينَ، ويَعْفو عنهم، هو المُحسن لغيره، هو الذي لا يُشرِك بالله إِنسانًا، أو مُؤَسَّسةً أو حِزْبًا، أو صنَمًا معه في العِبادَة، هو الذي لا يُباشِر الجرائم الاجتماعية مِن قَتْلٍ للنفس بغير حقٍّ، واعتداء على الأعراض، والأموال، هو الذي لا يُباشر الزور والباطل، ولا يُشارك في لَغْوِ الأحاديث وتفاهات التافهينَ.(86/1)
فجزاء الله للإنسان إذن مُرتبط بما يُقدمه الإنسان لنفسه ولمُجتمعه من أعمال تعود بالخير والرضا النفسيِّ. وشهور: رجب، وشعبان، ورمضان، تتحرك في أيامها على مَدار السنة الشمسية وفُصولها.
قد تكون في الصيف وقد تكون في الخريف أو الشتاء، أو الربيع، ومعنى اعتبارها وإدخالها في تحديد جزاء الإنسان في الآخرة: أن الأيام ذاتها كلَّها لها دَخْل في ذلك. وهذا بَعيد كل البُعْد عن رُوح الإسلام وهدَفه فهو يَعتَبِر العمل الذي يقع في الأيام، وليستِ الأيام التي هي ظرف للعمل.
وما يُروَّج عن الأيام والشهور والأمكنة، وقيمتها في تحديد مستقبل الإنسان يُراد منه تبرير التواكُل وتوهين قيام الإنسان بمَسئوليته، أي يُراد منه النزوع إلى الاتجاه السلْبي في الحياة.(86/2)
181 ـ لي خمسة من الإخوة في مراكز محترَمة، ولي أختان معهم. ووالدتنا شديدة القسوة علينا نحن البناتِ، وبالخصوص أنا. تزوَّجْتُ المرة الأولى، وتسبَّبتْ هي في طلاقي. وتبالِغ في إيذائي وتشويه صورتي عند الناس، رغم أني لا أقصِّر أبدًا في خدمتها وخدمة أبي. ورغم هذا فهي تَسُومني سوء العذاب، تاركة إخوتي الرجال يتمتَّعون بمرتَّباتهم وتحرِمني من مرتَّبي. وأخيرًا تزوَّجت مرة أخرى وبعدْتُ عنها كُلَّ البعد، مقاطعة إيّاها. فهل هذا حرام؟
الجواب:
يبدو أن الوالدة في معاملتها إيّاكِ على هذا النحو ممّا تَصِفِينه "بالقسوة وسوء العذاب" هو تعبير منها عن حرصها الشديد عليك وعلى مصلحتك الخاصة. والتفاتها إليك بالذات يدلُّ على أنّها ترى فيكِ بعض "النَّزَق" أو "الهَوَج" في التصرُّف، مما يسمِّيه بعض الناس "خِفّةً" أو "طيشًا". فهي تريد أن تكون بجانبك حتى تلتزمي طريقًا في الحياة يجعلك زوجة ذات كرامة يحترمها زوجها قبل أن يحترمها الآخرون. وهذا الطريق هو طريق التُّؤدة وعدم التسرُّع في القَبول أو الرفض أو الحكم على الشيء، على العموم.(87/1)
وليس لديها كأمٍّ أيّ باعث آخر يحمِلها في بعض الأحيان على أن تقسوَ عليك سوى الحرص على مصلحتك. وفشل زواجكِ في المرة الأولى لا يعود إلى والدتك وحدها. وإنَّما القسط الوفير في أسبابه يعود عليك بسبب تصرُّفاتك. ليست هناك أم ـ إلا إذا كانت مجنونة أو شديدة الحُمْق ـ تسعى في طلاق ابنتها وهي مستقِرّة وسعيدة في زواجها. وإنّما قد يحصل أن يَمتهِن الزوج عديمُ الضمير زوجتَه بإغلاظ القول لها، أو بإساءة معاملتها، أو بتحديها بعلاقة جديدة مع امرأة أخرى جهارًا، مستغِلاًّ مرتَّبها أو مالها في إنفاقه على شؤون المنزل، ومستغِلاًّ كذلك علاقتها به وارتباطها به ارتباطًا شديدًا بشخصه، رغم ما تلقاه منه من عنَتٍ وسوء معاملة. فهي في هذا الوضع تُنفق على منزله وفي الوقت نفسه تُمتهَن في كرامتها كإنسان وكامرأة وليستْ هذه حياة زوجية. إنما هي حياة الرقيق الأبيض.
فإذا أنت تزوَّجتِ الآن للمرة الثانية فلمصلحتك أنتِ أيضًا أن تكوني على اتصال بأسرتِكِ وبالأخصِّ والدتك. فإنَّ الأم ـ كما يقال ـ سِرُّ ابنتها. أيْ هي الأمينة على سِرِّها. ومهما كانت هناك أسرار بينك وبين زوجك فإنَّ أمَّكِ لها مكان في أسرارك لا يشغله سواها.(87/2)
ومقاطعتكِ إيّاها لا تُجديك نفعًا. ثم هذه المقاطعة من جهة أخرى إجحاف بالرعاية المفروضة للوالدين من أولادها، فإنْ كان قد جاء في القرآن قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولاَ تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 23 ـ 24). فيَنْهَى عن جرح إحساس الوالدين بكلمة: "أفّ" أو بالإغلاظ لهما في القول، ويأمر بالقَول المهذَّب الكريم في مُحادثتهما، وبالطاعة، والدعاء لهما بالرحمة.. إذا كان قد جاء في القرآن هذا فإن مُقاطَعة الوالدين من أعنف ما يُوَجَّه إليهما من لوم معنويّ، وأشد ما يكون في معاملتهما والتنكُّر لفضلهما وجَميلهما.
على السائلة أن تُغَيِّر تصوُّرها عن الماضي في المعاملة، وأن تبتدئ أن تفهم والدتها من زاوية أنها كانت حَدِبةً عليها وراعية لمصلحتها، ولم تضمِر لها إساءة ما. فإذا تغيَّر هذا التصور عادَت المياه إلى مجاريها وكانت الصلة بدل المقاطعة والتودُّد بدل الجفوة.(87/3)
15ـ الكُفر بالله، والتَّرَف في الحياة
مواطن بإحدَى الضواحي يَذكر أنه كان ذات يوم مع صديقٍ له يرى فيه أنه مُثقَّف جدًّا، وهذا الصديق المثقف جدًّا يكفر بالله ويعتقد أن الدنيا خُلقت طبيعيًّا، ودليله على ذلك أن مَن يصلي ويعبد الله لا يكافئه الله إلا بالفقر الدائم، وأن مُعظم الكافرين في ترفٍ وثراء ونعيم وعربدة، ولا يَحمَدون الله ولا يصلون، وعلى الرغم مِن ذلك فهم أغنياء، ولم يُجازهم الله على كُفرهم. وقد حاولتُ إقناع صديقي هذا بوُجود الله وكلَّمته عن خلق الشمس والقمر والليل والنهار، وعن مُعجزات الأنبياء وعن إعجاز القرآن الكريم، ولم أُفْلح ولم أقدر على إقناعه؛ لأني غير مُثقف مثله، ولكنه قال: إنه تعبان جدًّا من هذا الإحساس نحو دِينه. ونفسيَّتُه قلِقةٌ لهذا السبب. ويرجو السائل في ختام كتابه أن نتقدم بإنقاذ هذا الشخص وردِّه إلى دِينه.(88/1)
الشاب الصديق يُقيم تصوره عن الله وعن الإيمان والكُفْر به على افتراض خاطئٍ، وهو أن الإيمان بالله يَستتبعه حتْمًا الثراءُ في الدنيا وإقبالُ زِينتها ومُتَعِها على المؤمن به، بينما الكفر بالله يُؤدي حتْمًا إلى الفقر والمَشقَّة في سبيل العيش لمَن يكفر. وهكذا الدنيا أشبه بمُلك خاصٍّ تُوزَّع مَنافعه على المَحاسيب والأتباع الذين يَتحرَّكون لمَصلحة المالك، ويُحرم من هذه المنافع مَن له صِلة عداءٍ أو مناوأةٍ به. ...
وما هكذا شأن الدنيا في نظر القرآن؛ فالدنيا وُجدت لتَكون مجالاً لاختبار المؤمن بالله في إيمانه، ولاختبار الكافر في كُفره، فالمؤمن يُعطَى من مُتَعِ الدنيا ويُحرَم مِن كثير من هذه المُتع. والكافر يُعطَى من مُتع الدنيا ويُحرَم من كثير أو قليل منها. ...
والمؤمن الذي يُعطَى مِن نعم الله يَختبره المولَى ـ جلَّ جلالُهُ ـ في هذه النعم؛ هل سيتَّجه بهذه النعم نحو ما يُرضي اللهَ فيُنفقَ من المال في سبيل الزكاة والخير العام؟ وفي تَنميته للمال سيَبتعد في هذه التنمية عن الرِّبا وأكل أموال الناس بالباطل وظلم اليتيم والضعيف من الأطفال والنساء! ...
هل سيتَّجه بنعمة الأولاد أن يكونوا قوةً في سبيل الله والإيمان به أم يتجه بهم إلى أن يُصبحوا قوة في الفساد والعبَث في الانحراف؟ ...
هل سيتَّجه بالجاه وبالسُّلطة ـ وهي نِعمة مِن نِعم الله على مَن ولَّاه الحُكمَ والمسئوليةَ العامة ـ إلى صالح المُؤمنين وخير البشر عامَّة، أم أنه سيتَّجه بها لإحقاق الباطل والظلم والعُدوان على الآخرين؟ ...
والمُؤمن بالله الذي يُحْرَم مِن مُتَع هذه الحياة الدنيا سيَختبره الله بهذا الحرْمان؛ هل سيَصبر على الحرمان ويظلُّ على مستوى إيمانه بالله أو يَزيد هذا المستوى عنده أو يقل؟ ...
والكافر الذي يُعطَى مِن نعم الدنيا سيُختبَر في هذه النعم؛ هل سيَتمادى في طغيانه بهذه النعم؟ هل ستدفعه النعم إلى التمادِي في كُفره وفي(88/2)
ضلاله؟ إذِ الكافر أصلاً هو الذي يتَّبِع هواه، ومَن يتَّبِع هواه كان الشيطان قرينه، ومن كان الشيطان قرينه كان الباطل مجال نشاطه. والقرآن الكريم يُقيم الدنيا على نحو ما أجملنا هنا في قوله تعالى: (مَن كانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لمَن نريدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لهُ جهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) (الإسراء: 18) أي يُريد مُتَع هذه الحياة الدنيا. وتُسمى العاجلة؛ لأنها سابقة على الآخرة. أي فالذي يعمل مِن أجل الدنيا وحدها ودون إيمان منه بالله قد يُعطَى مِن مُتَعها، ولكنّ مَصيره أن يُلقَى في جهنم ملعونًا (ومَنْ أرادَ الآخرةَ وسَعَى لها سَعْيَهَا وهو مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء: 19) أي ومَن عمل في دنياه من أجل آخرته، فآمن بالله وعمل برسالته لخيره وخير الآخرين، ولم يركب هواه فضلاً عن أن يَطغَى به، ويَصبر على الحرمان إذا لم تُواتِه الدنيا ـ فإن عمله سيُقابل بالشُّكْر وستكون الجنة مَصيره في الآخرة (كُلًّا نُمِدُّ هؤلاءِ) من الكافرين (وهؤلاءِ) من المؤمنين (من عَطَاءِ رَبِّكَ ومَا كانَ عطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء:20) أي: على أحد بسبب الإيمان أو الكفر (انْظُرْ كيفَ فَضَّلْنَا بعضَهُمْ) وهم الكافرون (على بعضٍ) وهم المؤمنون، فأعطينا الكافرين أكثرَ مِمَّا أعطيناهُ للمؤمنين في الأرزاق (ولَلآخرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تَفْضيلاً) (الإسراء:21) أي: ولكن جزاء الآخرة للمؤمنين يفوق العطاء الدنيويّ للكافرين عدة مرات، وهو في نوعيته لا يَفْضُله جزاءٌ ماديّ آخر.(88/3)
وفي آية قرآنية أخرى يقول الله جل شأنه: (ولولا أن يكونَ الناسُ أُمَّةً واحدةً) أي في الكفر تحت تأثير عطاء الله في الدنيا للكافرين وحدهم (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فِضَّةٍ ومَعارِجَ عليها يَظْهَرُونَ. ولِبُيوتِهِمْ أبوابًا وسُرُرًا عليها يَتَّكِئُونَ. وزُخْرُفًا وإِن كلُّ ذلكَ لمَّا مَتَاعُ الحياةِ الدنيا والآخِرَةُ عندَ ربِّكَ لِلمُتَّقِينَ) (الزخرف: 33ـ 35) فالدنيا دار ابتلاء واختبار للإنسان، بنعيمها وبمُتَعها وبزِينتها، وبالأموال والأولاد، والجاه والسلطة فيها، وليست دارَ جزاءٍ يُعطَى فيها المؤمنون ويُحرَم منها الكافرون. كثيرًا ما يُقَتَّرُ على المؤمن في مَعِيشَتِهِ، وكثيرًا ما يُدَلَّلُ الكافر في حياته بالمال والأولاد، والجاه... الخ.
والإنسان وُضِع في هذه الحياة الدنيا لا لِيُمَتَّعَ بمُتَعها ولكن ليُسجَّلَ تصرُّفه وسلوكه؛ أهو إنسانٌ يُشارك الآخرين معه في مجتمعه معانيَ الإنسانية وقيمها؟ أهو يحب الآخرين ويتعاون معهم ويُساعد صاحب الحاجة على سدِّ حاجته أم هو أنانيٌّ يحب نفسه ولو على حساب غيره؟
وقَويُّ الإيمان بالله هو ذلك الذي لا تُغريه مُتَع هذه الحياة، فالكثير منها والقليل بالنسبة له سواء.
وعديم الإيمان أو ضعيفه هو الذي يَلْهَث وراء هذه المُتَع، وفي سَعْيه للحصول عليها لا يعرف صاحب رحِم له ولا جارًا ولا صديقًا، لا يَعرف إلا نفسه فقط، ومِن هنا يُقدِّر المال ولا يقدر المعانيَ الإنسانية، يقدر الجاه وزُخْرفَ الحياة الدنيا ولا يُقدِّر فعْلَ الخير لمُحتاجٍ أو ضعيف أو عاجز، وربما لو وجَد كافرًا يَستمتع بكثير من مُتَع الدنيا يودُّ أن يكون مثله في كُفره وفي حِيازته للمتع الدنيوية، ورُبما يُعلن كُفره، ولكن قد لا تُواتيه الدنيا. وصديق السائل هنا من هذا النوع. ندعو له بالهِداية.(88/4)
ما حكم الشرع فيما لو أقرضت زوجة أصحاب الحاجة من مال زوجها بدون علمه، ورغم أنها تعرف أنه يُعارض مبدأ الإقراض للمال على العموم؟
الحكم الشرعي فيما تقرضه السائلة من مال زوجها بغير علمه لأصحاب الحاجة، رغم أنها تعرف أنه لا يُوافق على مبدأ الإقراض على العموم هو: أن عملها هذا غير جائز شرعًا لأنه تصرُّف في مال الزوج بغير رضاه، ومع معارضته فلو أنها أخذت مثلًا من ماله في حاجة لها من غير علمه لا يكون حرامًا؛ لأن نفقتها من مال زوجها واجبة. ولكن أن تُقرِض الآخرين من ماله فإنها تُعرِّضه للضياع، كما تتسبَّب في إحراجه في علاقتها به، ومهما كانت حاجة الآخرين إلى المال فإن المحافظة على مال الزوج من مسؤولية زوجته؛ فالزوجة راعية على بيت الزوج وأهله، وهي مسئولة عن رعيتها، ويَزِيد من مخالفتها لحكم الله: أنها تعلم أنه لا يُوافق، لو علم على الإقراض.(89/1)
105ـ تصرُّف الأمِّ في مال ولَدِها
أم لستة أولاد كتبت تقول إن أكبر أولادها حصل بعد تخرجه على عمل، وهي تَحصل على مُرتَّبه كله، بالإضافة إلى المعاش المَوروث عن والده؛ لأن المعاش وحده ليس بكافٍ للإنفاق على الأسرة. وهي إذْ تحصل على مرتبه تحصل عليه برضاه، وتنظر إلى ابنها الأكبر هذا على أنه مكان أبيه المتوفَّى، في المسئولية عن إخوته والأسرة كلها وتسأل عن أمرينِ:
الأمر الأول: هل حصولها على مرتب ابنها حرام؟
الأمر الثاني: هل إذا توفَّر منه شيء يُمكن أن تساعد بما توفر بنتًا لها حصلت على دبلوم ولكن لم تُباشر عملاً فيما بعد؟
نظرة الأم إلى وَلدِها الأكبر باعتبار أنه يحلُّ محلَّ والده في المسئولية الأدبية والاقتصادية عن الأسرة: نظرةٌ سليمة.
وإذا كان هذا الولد يُباشر هذه المسئولية عن رضا واقتناع فهو وفيٌّ لمسئوليته الأسرية؛ لأن نفقة الأقارب تجب على المُوسر بينهم، وأكبر الأبناء هنا بالنسبة لإخوته هو الذي يُمكن أن يُنظر إليه على أنه المُوسر فيهم.
وما يتوفَّر لدَى الأم السائلة من مرتب الابن الأكبر: هو ملْك له، ويجب أن يُستأذن في توجيه بعضه إلى شقيقته، فإنْ أذِن استحلَّت شقيقته ما يُعطى لها من أمها. ...
وهكذا: مُوافقة الابن الأكبر على أن تأخذ أمه مُرتبه كاملاً للإنفاق منه على إخوته: يجعل حصول الأم على هذا المرتب حلالاً، وكذلك إذْنه في توجيه بعض ما توفَّر منه إلى شقيقته: يُجنِّب تصرُّف الأم في مال ولَدها، الانحراف والخطأ.(90/1)
والابن الأكبر يستحقُّ الثناء والشكر. ليس لأنه يؤدى ما يجب عليه شرعًا؛ ولكن لأنه يرضى بأن يُؤْثر أسرته وأخوته على يتصل بخاصة نفسه، فهو لا يَحتجز شيئًا مِن مُرتبه يُدبِّر به أمر نفسه مستقبلاً، كما يُقال: فقد كان يُمكن أن يقتطع منه لنفسه ما تُوفره أمه الآن منه، وتطلب الطريق السويَّ لإنفاقه، فهو إنسان يُضحي برغباته الشخصية في سبيل مَصلحة عامة تعود على أقربائه. ...
والأم تستحق أيضًا الشكر والثناء، فهي لا تريد أن تستغل "طيبة" ابنها ورضاه في تسليمها المرتب كاملاً، إنْ كان صاحب إرادة وشخصية قوية في نفسه.. كما لا تُريد أن تستغل استسلامه لها، إنْ كانت هي ذات تأثير قويٍّ عليه منذ صغره حتى إنه تعوَّد على أن لا يخرج عن طاعتها. ...
ولأنها لا تريد استغلاله على أيِّ نحو: تسأل عن شرع الله فيما يُعطيه ولدها.. وفيما تأخذه منه لبَقية أولادها. ...
ولكن عليها ـ قبل ولَدها وإخوته ـ أن ترعَى مصلحته الخاصة.. وإن توجه بقية أبنائها إلى مشاركتها في بناء مُستقبله، فهو إنْ لم يكن الآن مُتطلِّعًا إلى بناء أسرة خاصة به، فقد يكون الحافرُ لدَيْهِ على بناء هذه الأسرة قويًّا، فما توفره من المرتب يظل له ولشُئونه الخاصة.. وعندما تعمل أختٌ أو يعمل أخٌ له يجب أن يُسْهم في نفقات الأسرة الكبيرة حتى يُحسَّ الابن الأكبر بتضامُن إخوته معه.. وبالتالي يمكن له الآن أن يقتصد من مُرتبه ما يَبني به مستقبل نفسه. ...
وبهذا .. وذاك: تظلّ الأسرة قويةً في تماسُكها وتضامُنها، والفضل في هذا التماسك والتضامن يعود إلى الأم، السائلة هنا، ونحن بدورنا نُحيِّيها ونتمنى للأسرة الترابُط على أساس من الإيمان بالله، وشرْع الله فيما يُحدِّده في السلوك والتصرُّفات.(90/2)
167 ـ هل يجوز للفتاة أن تتمنَّى شخصًا معيّنًا تدعو الله أن يكون من نصيبها؟ وهل يجوز لها أن تُحبّه؟
الجواب:
مِن سِنِّ السابعة عشرة.. إلى سِنِّ الخامسة والعشرين، تكثُر أحلام اليقظة عند الشباب. ويُساعد على كثرة هذه الأحلام لديهنَّ ـ بجانب تطلُّعات الشابّة إلى الزواج في هذه السِّن ـ مشاهدة الأفلام السينمائية، وفيها أبطال السينما في أدوارهم المختلفة، ولهم مظاهر الحياة المترَفة يسكنون في قصور.. ويركَبون السيارات الفخْمة.. ويتنقّلون بين المطاعم الشهيرة.. وأيديهم سخيّة في العطاء.. إلى غير ذلك من المناظر الخادعة. بالإضافة إلى استخدام وسائل التمويه في عَرْض أنفسهم في صور جميلة وأنيقة.
وليس هناك حرج إطلاقًا من أن تعيش الفتاة في حياة الأحلام فترة أو فتَرات. وقد يكون دخولها هذه الحياة هربًا من واقع أليم، وبذلك يكون علاجًا لحالة نفسية مؤقّتة عندها.
ولكن بتحليل تلك الأحلام ينتهي أمرها، إلى أن الاستغراق فيها يُبعد الفتاة عن واقع الحياة، كثيرًا، أو قليلاً، حسب طول المدّة التي تعيش فيها.. وربّما تسبب لها صدمة نفسية عنيفة، عندما ينكشف لها خداع الأحلام والأماني التي تمنَّتْها، والتي نسجت منها خيوط الحياة للأسرة المقبلة لها. فترى أنَّ كل شيء قد أصبح ولا واقع له تلمسُه بيدها.
على أنه من جانب آخر إذا ارتبطت الفتاة ـ في أمانيها وأحلامها ـ بشخص معيَّن، وأحبَّته، وسَعَتْ بالدعوات إلى الله، أو لغيرها للظَّفَر به. ماذا تصنَع لو لم تظفَر به؟ وماذا يكون وضعها أمام نفسها أولاً، إذا سعَت بوسيلة لا توفِّر لها الكرامة؟ وعلى حساب مَن، ومِن حياة مَن، يكون هذا الوقت الذي قد تبدَّد وذهب في غير صالِحها؟ إن ذلك كلَّه من غير شكٍّ. ضدها هي. ومَن يَدريها أنها لو حصلت عليه في النهاية تفاجأ مرة أخرى في حياتها الزوجية: أنه شَرُّ مَن تعاشِره امرأة.(91/1)
والإسلام لا يرى للمرأة أن تسعى وراء الرجل، في الأحلام، أو في اليقظة على حد سواء. ويرى على العكس أن الرجل هو الذي يجب أن يسعى إلى المرأة، ولها الخيار في قَبوله أو في رفضه. وهناك الخطبة.. وهناك المهر كلاهما من الأمارات الدالة على وجوب سعى الرجل إلى المرأة ورغبته فيها. وإذا كان للمرأة الخِيَار في قَبول الرجل، أو في رفضه فهنا شبه ضمان في عدم خداعها؛ لأنَّها ستتبع إحساسها الداخليّ بالكَراهة أو المَحبّة في رفضه أو في قَبوله.. كما ستتبع سبيل التروِّي ومشورة الأهل فيما تقرّره نحوه. وهنا كذلك ضمان أكيد لكرامتها؛ لأنَّها لم تُمتَهنْ بالسعي والجري وراء شخص خُيِّل إليها أنَّها تحبه.. ثم كانت خيبة أملها أنَّها لم تظفر به، أو كانت ذاتها بما أعطته من كرامتها.
أمّا استجابة الله للدَّعوات فذلك مرهون بأنْ تكون الدَّعَوات مُسايرة لما ينصَح به. وقد نصح في علاقة الأسرة المقبلة أن يكون تكوينها على أساس من سعي الرجل نحو المرأة، وليس العكس.
75 ـ فتاة يعيش في حياتها شابٌّ وهو لا يُحسُّ بها
فتاة في الحاديَة والعشرين من عُمرها وطالبة بإحدَى الجامعات تقول إنها تقضي فراغها في مُراجعة موادِّ الدراسة وعبادة الله وحده، وتحكي أن هناك شابًّا مُتخرِّجًا حديثًا، وفي سِنِّها وفي تديُّنها ومُلْتحيًا وهو قَرِيب لها من بعيد ويَشغَل تفكيرَها من وقت لآخر، وتتمنَّى أن يكون زوجَها في المستقبل، رغم أنه لا يعرفها شخصيًّا، وأنها لم تُكلمه أبدًا في حياتها، وقد لفتَ نظرها إليه أن جدها كان يتحدث عنه وتمنَّى أن يكون زوجًا لها، وتسأل: هل التفكير في هذا الشخص يُغضب الله؟ وما هو الحل السليم؟ وكيف أُسيطر على نفسي، ولا أفكر فيه؟
ما رأي السائلة فيما لو رآها هذا الشاب وأعرض عنها؟ أو رأتْه هي وتحدَّثت معه، واتَّضح لها بعد الحديث: أنه لا يملأ فراغ نفسها في حياتها إن هي تزوجتْه؟(91/2)
إن التفكير مرات عديدة مِن السائلة في هذا الشاب هو عمل من الشيطان.. هو عمل الرغبة والهوى وتركيز التفكير في هذا الشاب بالذات، وبناء الأمل في الحياة الزوجية عليه دون شاب آخر، مع أنها لم تُكلمه أبدًا في حياتها: يعود إلى لفْت نظرها إليه مِن جدها وإعلان رغبته أمامها: في أن يكون زوجها في المستقبل ثم فكَّرت فيه وأصبح لديها أشْبه "باعتقاد".
ثم نسَجت حول هذا الاعتقاد خُيوط الأمل وزيَّنت لنفسها صُورته وما تُؤمِّله ثم أصبح أمرًا مُحبَّبًا لنفسها: أن تَستعيد في تخيُّلها هذه الصورة المُحبَّبة إلَيها، وما يَصحبها من أحلام اليقظة. وهي أحلام فتاة ساق القدَر إليها ـ كما تظن ـ ما تتمنَّاه، ثم كوْنه مُلتحيًا وهي مُتديِّنة ـ كما تقول ـ يُعطيها ثقةً كبيرة في أخلاقه وسلوكه .. يُؤَمِّنها على أن يكون لها وحدها ولا يَلتفت إلى امرأة أخرى: يُحسن معاملتها.. يُجَنِّبها الاختلاف في حقوق الزوجة وحقوق الزوج.. يعيش لها ولأولادها منه وتعيش هي له ولأولادها منه.
وذلك مُنتَهى ما تَصبو إليه فتاةٌ تُقبِل على زواج مَن تختار الزواج منه في حياتها.
وبذلك تَضمن بِناء أسرة، ووُجود سندٍ لها تَستَنِد إليه في أزمَاتها ومشاكلها التي تأتي بها الحياة المُعاصرة وما أكثرها وما أشقَّ المُعاناة منها.
هذا إجمالٌ لحديثِ النفس الذي يدور بخاطرها حول الشاب الذي تسأل عنه هنا، وحول التفكير الذي لا يُفارقها، إلا عند عبادة الله، أو عند مراجعة موادِّ الدراسة كذلك، وإنما هو مستمر غير منقطع؛ لأنه حديث له جاذبية وله إغراء تستمتع به النفس ويَستهويها في اليَقظة وفي النوم على السواء.
إنه حديث الشيطان؛ لأن حديث الهوى حديث له إغراء وجاذبيَّة.. وحديث يَحُول بين النفس وواقع الحياة.. حديث يُوصِّل صاحبَه إلى قِمَّة الخيال، ثم فجأةً يُسقطه منها إلى حُفرة عميقة في الواقع. وربما لا يَخرج منها أبدًا إلى مستوى الحياة.(91/3)
والسائلة يُمكنها: أن تُعيد إلى نفسها حياةَ الواقع رويدًا، رويدًا فتذكر أن أمر الزواج مشيئة لإرادتينِ، وليس اختيارَ إرادةٍ واحدة.. هو مشيئة الزوج والزوجة معًا، وإذن لا يتمُّ زواجها بإرادتها وحدها، ولا بإرادته وحده.
ويجب أن تَفتَرِض ـ وهذا أمر محتمل ـ أن يرفض الزواج منها لسبب من الأسباب لو علِم برَغبتها في صورة ما، وحينئذ لو رفَض يكون رفضُه ليس شاقًّا فقط على نفسها، وإنما يكون مأساةً لها، وربما تذهب حياتها ضحية لهذه المأساة.
وإذا كانت مؤمنةً حقًّا بالله فيجب أن تُدخل إرادة الله في واقع حياتها.. يجب أن تعتقد أنه لا يقع في الكون ولا في حياة الأفراد إلا ما يُريده الله، وليس ما يتمنَّاه الفرد، ومعنى هذا الاعتقاد: أنه مهما أمَّل الإنسان في شيء ما، ومهما خطَّط له، ومهما أجاد السعْي إلى تحقيقه، ومهما خطَا خُطُواتٍ تُقربه إلى الهدف، قد يقع ما ليس في الحُسبان ولا في تصوُّر الإنسان ما يَحُول دون تحقيقه، أو يُحَوِّل وُقوعه إلى شِبْهِ مُستحيل.
إن الحياة البشرية مليئة بالمفاجآت وإن حياة الناس في المجتمعات يَكثُر فيها المُتناقِضات وإرادة الأفراد قد يُعارِض بعضُها بعضًا، وكذلك ليس مِن الحِكمة في التفكير: أن يعتقد إنسان ما أو يظن أن ما يُفكر فيه سيقع حتْمًا، والشيطان هو الذي يُوسوِس له ويُزين له الأمرَ ويَحمِله على الانتظار والترقُّب لمَا يقع. ويعيش الذي يتبع هواه أو شيطانه في وَهْمٍ وفي خيال.(91/4)
فالمؤمن بالله يترُك المقادير إليه ـ جل شأنه ـ وما عليه إلا أن يسعى في واقع حياته على النمَط الذي يُرضِي عنه الله، وهو ذلك النمط الذي يُوافق شريعة الله، ما عليه إلا أن يَطمئن إلى أن ما يقع في الحياة ليس شَرًّا، فإذا لم يُصبح هذا الشاب المُلتَحِي زوجًا للفتاة التي تفكر فيه كثيرًا وتتمنَّى أن تكون له زوجة: فيجب أن تعتقد ـ إذا كانت مُؤمنةً حقًّا ـ بأن ما وقع خير لها وله وربما يُعوِّضها الله في واقع الأمر مَن هو خير منه.
وبهذا التفكير الواقعيّ تبتَعِد السائلة عن الاستطراد في الخيال، وتُعفي نفسها من وَسوسة الشيطان وتَهتم بما هو أفْيَد لها في الدراسة وفي العمل بعدها.
وهي تستطيع أن تُعفي نفسها بالتدريج مِن وَسْوسة الشيطان بأن تقرأ المُعوذتين كل مرة، عندما تبدأ تسرح في خيال الأمل والأماني التي تُعلقها على زواج الشاب الذي تمنَّاه لها جدُّ السائلة أمامها.(91/5)
33ـ الطلاق ليس الحلَّ الأول للخلاف بين الزوجين
شاب من إحدى المحافظات يذكر: ...
أنه الآن في السابعة والعشرين من العمر وتزوج بفتاة سنها ثماني عشرة سنة ويعيش معها منذ ثلاث سنوات. ولم يُنجب منها أولادًا. ويَعتبر أن أجملَ أيام حياته هي التي عاشها معها حتى الآن. ولكن نمَا إلى سمْعه: أن سُلوكها كان سيئًا وهي في سِنِّ الخامسة عشرة وعندما سألها لم تُنكر ما سمعه، ثُمَّ بكت كثيرًا. ويسأل الآن: هل يُطلِّقها؟ .. أم يُسامحها؟
ويسأل شاب آخر: بإحدى جامعات الأقاليم: عمره ثلاثة وعشرون عامًا عن مُستقبله مع فتاة خَطبها وهي في سِنِّ الرابعة عشرة، هل يفسخ خِطبتها مع أن كلاً منهما يُحب الآخر؟ أم يستمر فيها؟ فقد سمع عنها ما يُسيء إليها دون أن يرى أمارةً واحدة على صدْق ما سمع. ويرى العكس. وهي إنها مُؤدبة.. ومحافظة على صلاتها. وعندما سألها عما سمع: أنكرتْه ووضعته أمام اختيار جديد. وهو إذا لم يكن يثِق بها فليس هناك إلْزام على أحدٍ منهما في إتمام الزواج.(92/1)
أما الشاب الأول فقد عاش زوجًا مع زوجته الآن ثلاث سنوات، ويجب أن يكون قد عرف اتجاهها في الحياة.. كما يكون قد وقَف على سلوكها. وهو يُثني عليها، ويَعْتَبِر أن الفترة التي قضاها الآن معها هي أجمل الأيام في حياته. وكانت صادقةً معه. لم تُحاول أن تهرب، ولا أن تُبرر: ما وقع في ماضي حياتها وهي لم تكن معه ولم تعرفه، ولم تكن بينهما صِلة على الإطلاق. ...
فما وقع منها مما يُشكِّكه الآن كانت مسئولةً عنه وحدها أمام الله. ولم يُصبه منه أذًى، وهي تابتْ ورجعت إلى الخط المستقيم في السلوك، بدليل أنها بكت، والبكاء هو تعبير عن الندَم، والندم خُطوة أولى في التوبة، والخطوة الثانية: الإصرار على عدم الرجوع إلى الخطأ. وهي لم ترجع إليه. فالزوج يُثني على سلوكها منذ أن تزوَّجها.إن الإنسان عُرْضة لمُباشرة الخطأ والصواب. وليس هناك إنسان معصوم عن الخطأ. ولذا كانت التوبة إلى الله والعزْم على عدم العودة إلى الذنب: باب المغفرة من الله. يقول الله في كتابه: (فمَن تابَ مِن بعْدِ ظُلْمِه وأصْلَحَ فإنَّ اللهَ يَتوبُ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ) (المائدة: 39).. فيَعِدُ اللهُ ـ سبحانه ـ بقَبول توبة العاصي ـ وهو الذي ظلَم نفسه بارتكاب المَعصية ـ إن أصْلح مِن خطَأه، بأنِ اتَّبع هداية الله، واستقام في سلوكه وتصرفاته. والإسلام لا يعرف "عقدة الذنْب".. أيْ: لا يعرف ذنبًا مُتأصِّلاً لا يُمحَى. فطالما الإنسان ليس إلَهًا.. ولا شبيهًا بالإلَهِ، في نظر الإسلام فاحتمالُ ارتكابه للخطأ أمرٌ قائمٌ طول حياته. ولذا هو مأمور بمُجاهدة النفس: بمجاهدة هواها وشهوتها، وحتى يأمن عن طريق هذه المجاهدة النفسية: عدم مباشرة الأخطاء والانحرافات التي يدفع إليها هوَى النفس في الإنسان وشهْوته. والشاب الذي يسأل الآن هل يُطلق زوجته التي ارتَكبتْ بعض الأخطاء قبل الزواج منه وقبل ثلاث سنوات مَضَتْ، إنْ أقْدم على طلاقها، يكون قد ظلَمَها فنظر إليها(92/2)
على أنها فوق مُستوى الإنسان.. لا تُخطئ. ولكن الأمر الذي لا يقبل منها: أن تُخطئ.. وأن تُصرَّ على الخطأ والاستمرار فيه، ولا ترجع إلى خطِّ الاستقامة والصواب.. وتتوب إلى الله توبةً نَصُوحًا. ...
إن زوجة السائل أخطأت مع بداية المرحلة الخطيرة في حياة الإنسان، وهي مرحلة المُراهقة ثم تزوَّجت واستقامت وتابت، وعدم إنكارها لمَا عرَضه عليها زوجها مِن إشاعات وبكاؤها ندَمًا على ما فات: كافٍ في التعبير عن تَوْبتها إلى الله. ويكفي لها من الإنْذار، والتحذير ما تَردَّد الآنَ على مَسمعها من الإشاعات الماضية؛ لأنها ربما كانت لا تتصوَّر أن يصل أمر ماضيها إلى زوجها في حياتها الجديدة التي هي سعيدةٌ بها. والطلاق هو السبيل إلى إبعاد الأضرار عن الزوجينِ في حياتهما المشتركة، وهو مِن رحمة الله مشروع، يُستخدم عندما تدعو إليه الضرورة. وأمر السائل مع زوجته لا عجَلة فيه. فلْيُرجئ الطلاق والتفكير فيه.. وليَنْسَ الماضي. فقد غفَره الله وستره.. وليُرِحْ نفسه من القلق والشك. وزوجته ستأخذ نفسها الآن بالتأكيد بكل ما يُطمئن زوجها، ويُعيد إليه سعادة النفس بمُعاشرتها.(92/3)
أما الشاب الآخر الذي يسأل عن فسْخ خِطبته لفتاة أخرى، روَّج عنها بعض المُتقولين ما لم يلمسه في حياتها.. وما لم يجد أمارةً عليه: فالأولَى به أن يَهدأ. إذ ترويج السوء ـ وبالأخص عن بعض الفتيات ـ عادةٌ قبيحة في مجتمعنا. قد يكون تعبيرًا عن انفعال الكراهية والحقد للربْط الجديد بين الفتى والفتاة. فأدَبُها في السلوك.. ومُحافظتها على الصلاة.. وتحدِّيها للإشاعة بإعلان الإلْزام لأيِّ جانب من الجانبين بإتمام الزواج: كل ذلك يُوضح إن الإشاعة من حاقِد. وطريق الإسلام في الزواج طريق مستقيم لا اعْوجاج فيه: خِطبة يقتنع كل مِن الفتى والفتاة فيها بصلاحية كل منهما للآخر.. وزواج إن تعثَّر فيه الوفاق بين الزوجينِ لمَصلحتها: فمِن اليسير حَلَّهُ. (وإنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ). (النساء:130). والسائل لدَيه من الوقت قبل عقد الزواج ما يَختبر فيه سلوك فتاته، فإنْ ظهر له ما يُريبه منها كان له حق الانْصراف عنها، وهي كذلك إن ظهر لها ما يُشككها في استقامته كان لها أن تتركه، فالإسلام لا يَقبل الخداع إطلاقًا في عقدٍ بين اثنين، ولو كان عقد الزواج.(92/4)
28 ـ هل يستوي أجر العبادة للمقاتل المجاهد، كالصلاة والصيام، كأجرهما من غيره؟
هناك فرق بين الواجبات العَينيّة والشخصية كالصلاة والصوم التي يجب أن يقوم بها كل فرد، والواجبات العامة الأخرى التي ترتبط بالمحافظة على المبادئ والقيم الإسلامية، كالجهاد في سبيل الله بالمال، وهى التي تجب على الأمة جميعها كلها.
ولا يسقط أداء الواجبات العامة الواجبات الشخصية. أي لا يسقط الجهاد فى سبيل الله بالنفس أو بالمال أداء الصلاة والصوم، وإنما الذي يسقط أداه من العبادتين هو العجز البَدَني عن الأداء. وبالتالي أجر العبادات العَينيّة من المجاهد في سبيل الله لا يَزيد على أجرها من غيره. وإنّما الذي يزيد في أجر المجاهد عن غيره عند الله هو جهاده بالنفس أو المال:
(لاَ يَسْتَوِي القَاعِدونَ مِنَ المُؤمِنينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ والمُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدينَ دَرَجَةً وكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وفَضَّلَ اللهُ المُجاهِدينَ عَلَى القَاعِدينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 95).
فهنا يفضَّل المؤمن المجاهد بنفسِه على المؤمن القاعد الذي لم يسعَ للجهاد بنفسه أو ماله؛ لأن دائرة التفضيل بين الاثنين خارجة وراء عبادات الصلاة والصوم والزكاة والحَجّ وعلى هذا النحو قوله ـ تعالى ـ: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايةَ الحَاجِّ وعِمارةَ المَسجِدِ الحَرامِ كَمَنْ آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِر وجاهَدَ في سَبيل اللهِ لاَ يَستوونَ عِنْدَ اللهِ واللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالمينَ. الذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدوا في سَبِيل اللهِ بأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهم أَعْظَمُ دَرَجةً عِنْدَ اللهِ وأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزونَ) (التوبة: 19 ـ 20).(93/1)
وكذلك قوله ـ تعالى ـ: (ومَا لَكُمْ أَلاّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وللهِ مِيراثُ السَّمواتِ والأرضِ. لا يَستوي مِنْكمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى واللهُ بِمَا تَعْملونَ خَبير) (الحديد: 10).
فالتفضيل بين سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام من جانب، والهجرة والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس من جانب آخر أو بين الإنفاق قبل فتح مكة والإنفاق بعده لأن حاجة المسلمين إلى المال قبل الفتح كانت أشدَّ وهم في حاجه ماسّة إلى مساندة مادِّيّة ـ هو تفضيل بين عمَلَيْنِ أو واجبين عامَّين، يعود أثرهما على المجتمع والأمة ومبادئ المجتمع وأهداف الأمة ورسالتها. وهما نَوْعَان أداء الواجبات فيهما لا يرتبط بذوات الأشخاص كأفراد معيّنين وهم ممّن بلغوا سِنَّ التكليف، بل ترتبط بالأمة عامة. بحيث لو أدّاها بعض أفرادها سقط الأداء عن الآخرين فيها.
والفقهاء يعبِّرون عن العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحجِّ بفرض العَيْن، أي التي تُفرض على كل فرد بعينه، والمسؤولية في أدائها مسؤولية شخصية.
ويعبّرون عن الواجبات الأخرى كالجهاد في سبيل الله والإنفاق في سبيل الله بفرض الكفاية، أي التي تفرض على الأمة ككل والمسؤولية في أدائها مسؤولية جماعيّة، بحيث لو أدَّاها البعض سقط وِزْر عدم الأداء عن الباقين.
وخلاصة الجواب على هذا السؤال هو أن المجاهد في سبيل الله يكون بجهاده ـ وليس بصلاته وصومه ـ أفضلَ من غير المجاهد. وهذا معناه أنه لو جاهد، ولم يصَلِّ ولم يصُم مع استطاعته بدنَيًّا الصلاة والصوم يكون مأجورًا بجهاده، وآثِمًا في الوقت نفسه بعدم أداء الصلاة والصوم.(93/2)
والجهاد الذي له هذه الدرجة العظمى عند الله هو الجهاد في سبيل تمكين دين الله وإعلاء كلمته. وهو لا يكون إلا من مؤمِن قويٍّ صادق الإيمان، مخلِص لله ولرسوله؛ لأن إيمانه هذا ينقله إلى أداء الواجبات العامة بجانب قيامه ككُلِّ فرد آخر، بالواجبات الشخصية أو العَينيّة ولذا لا يُتصوّر من مجاهد في سبيل الله أن لا يؤدِّي الصلاة والصوم كما ينبغي، كما لا يُتصوَّر منه إلاّ أن يكون دِرْعًا لحماية الإسلام وكِيَان الأمة الإسلامية. ومن أجل ذلك كانت منزلته عظيمة وكانت عاقبته مأمونة:
(يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجارةٍ تُنجيكُمْ مِنْ عَذاب أَليمٍ. تُؤمنونَ باللهِ ورَسولِه وتُجاهِدونَ في سَبيلِ الله بأمْوالِكُمْ وأَنفُسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعلمونَ) (الصف: 10 ـ 11).(93/3)
64ـ علاقة الزوج بزوجته فوق التهديد بالإساءة إليها
مواطن من أحد المراكز يذكر أنه قبل وفاة والدته تخاصمت زوجته معها، وكانت الزوجة هي المُخطئة في حقِّها فأوصتْه والدته بأن يتزوَّج عليها واحدةً أخرى، وقالت له يَحْرم عليك ثدْيي إذا لم تتزوَّج عليها. وبعد ذلك سافر إلى بعض البلاد العربية، وعندما عاد منها وجد والدته قد انتقلت إلى رحمة الله. وهو الآن لا يُريد الزواج بأخرى؛ لأنه أنجب منها أولادًا ثلاثة، ولكنه يُريد أن يُنفذ وصيَّة والدته، فماذا يفعل؟
إن والدة السائل عندما طلبت منه أن يتزوج بامرأة أخرى على زوجته التي هي في عِصْمته الآن كانت في ثورة غضب عليها؛ لأنها أحسَّت بأنها أُهينت منها وفي وُجود ابنها، وهي كأمٍّ لها في مثل هذا الوضْع كبرياؤُها فإحْساسها بالإهانة إحساسٌ عميقٌ.
... وهي إذ توصي ابنها بأن يتزوج على زوجته الحالية امرأةً أخرى، فإنها في واقع الأمر تطلب عُقوبتها وتُبالغ فيها تنفيسًا عن غضبها.
... فليست هناك وصيَّة. وإنما هناك طلب تنفيذ عقوبة معيَّنة، فهل تعدُّد الزوجات مصدر عُقوبات للمرأة؟ إن تعدُّد الزوجات في نظر القرآن رُخْصة. على معنى أن الإسلام يُرخِّص للرجل بأن يتزوج ثانيةً وثالثةً ورابعةً ويجمع بينهن لضرورة تُجنِّبه ارتكاب الفاحشة وهي الزنا، ففي سبيل الخشْية من الزنا يُحلُّ الله للرجل أن يجمع بين امرأتينِ فأكثر إلى أربع..؛ لأنه يرى أن علاقة الزوجية علاقة علنية: فنسَب الأولاد في ظلِّها، واضحٌ.. ومسئولية الرجل في الإنفاق عليها وفي حمايتها وفي المشاركة معها في بناء الأسرة مسئولية واضحة.. وحقوق المرأة قِبَله واضحة.. بينما علاقة الزنا علاقة سِرِّية.. ومسئولية النسَب للأولاد مسئولية ضائعة.. وكذلك المسئولية نحو المرأة التي شاركت الرجل في ارتكاب الفاحشة غير قائمة.(94/1)
... يقول الله ـ تعالى ـ: (وإنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا في اليَتَامَى "أيْ إنْ خِفْتمْ أن لا تعْدِلوا فيِ أَمْوالِ الْيَتَامَى إنْ تزوجتم بهنَّ وانصرفتم من أجل ذلك عنهنَّ.. وخشيتم الوقوع في الزنا" فانْكِحُوا مَا طَاَبَ لكمْ مِنَ النساءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ). (النساء: 3).. ومع الترخيص بتعدُّد الزوجات على نحو ما جاء هنا في الآية فإنه مَشروط بالعدْل بينهنَّ في المعاملة… وفي الإحساس بالمسئولية نحوهنَّ… وفي الإنفاق والحِماية لهنَّ.. وإنْ لم يستطع الرجل العدل بين مَن يتزوج بهنَّ أو يرغب في الزواج مِنهنَّ فيجب أن لا يزيد عن واحدةٍ… وألا يكون عندئذ ظالمًا وخارجًا عن نطاق الترخيص: (فإنْ خِفْتُمْ ألَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً). (النساء: 3).
... وهكذا: تعدد الزوجات للرجل رُخصة مشروطة، وليس نوعًا مِن العقوبة فيتزوج الرجل ثانيةً ليُعاقب بها زوجته التي هي في عِصْمته.
... وطلَبُ أمِّ السائل منه أن يتزوج بأخرى على أمِّ أولاده، هو نوع من العقوبة لا يُقرُّها الإسلام على توقيعها على الزوجة أم الأولاد.. والسائل قد أحسن لنفسه ولدِينه بأن عزَم على ألاَّ يتزوج بأخرى. فهو يقول في رسالته: "وأنا لا أريد الزواج من واحدة أخرى غير زوجتي" فزواجه بالثانية ارتكاب إثْمٍ ومَعصية لكتاب الله؛ لأنه لو تزوَّج الثانية لا يكون قد استخدم رُخصة تعدُّد الزوجات. وإنما يكون قد أنزل عقوبة بزوجته الأولى، ممَّا يُخالف ما ورد في كتاب الله بشأن تعدُّد الزوجات.(94/2)
وقول الأم لابنها السائل: "يَحرُم عليك ثدْيي" وهو نوع من التهديد لحمْله على الزواج بأخرى، ومثل هذه العبارة وإنْ كانت قد تُثير عاطفة الابن، وربما تجعله مُتحيِّزًا لها وبعيدًا فترة عن زوجته: إلا أن التهديد بها تهديد أجْوف، لا واقع له، فهي لا تستطيع أن تُحرِّم الرضعات التي أرضعتْه إيَّاها في طفولته الأولى، ولذا يجب أن يمر بها السائل غير مُكترث بها. وما يفعله الابن هو أن يدعو الله لأمة أن يَغفر لها أخطاءها، وأن يُظلَّها برحمته.. وأن يعيش في مستقبل أولاده وزوجته، ويسعى في سبيل تماسُك أسرته واستقرارها ويدعو الله لها بالحماية من اتِّباع الهوى والانحراف في عصرنا الماديّ التي تعيشه الإنسانية الآن.(94/3)
أ ـ هل يقبل الله التوبة عن جريمة منكَرة، رغم أن العودة إلى ضلال الشيطان يَتكرَّر؟
ب ـ ما الطريق الذي يَعصم الإنسان مِن الخطأ نِهائيًّا، ومِن تضليل الشيطان؟
الله يَقبل التوبة عن جريمة مِن الجرائم كجريمة السرقة، أو الزِنَا، أو القتل، بمعنى لا يُعذَّب عليها في الآخرة، وإن كان يقام الحَدُّ على مرتكبها في الدنيا بشرط أن يلتزم التائب بالاستقامة في سلوكه، وعدم العودة إلى مباشرة الجريمة ذاتها.. أو مثلها، فالله يقول في كتابه الكريم: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي مِن بعد ظلم نفسه وغيره بمُباشرة الجريمة؛ لأن الجريمة لها طرفانِ: المباشر للجريمة ومَن وقعت عليه، أو قامت بالاشتراك معه (وأَصْلَحَ) أي سوَّى أمر نفسه فاستقام ولم يعد إلى ارتكاب الجريمة (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) (المائدة 39).. فقَبول التوبة إذن بمعنى عدم عقاب الله عليها في الآخرة ـ وهذا لا ينفي إقامة الحدِّ عليها إذا كانت مِن جرائم الحدود ـ مشروط بالإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه مرة أخرى.
ومِن سؤال السائلة يبدو أن الجريمة تتكرَّر، وأن المباشِر للجريمة لا يستطيع دفع إغراء الشيطان فهو ضعيف أمامه والتوبة التي يُعلن عنها هي ترديد القول بالتوبة إلى الله، عقب مباشرة الجريمة في كل مرة وترديد القول بالتوبة لا يُفيد شيئًا، طالمَا لم يصحَب القول كفٌّ بالفعل عن مباشرة الجريمة فالقول دائمًا يجب أن يكون تعبيرًا عن مضمون واقعي في حياة الإنسان. ومضمون التوبة هو الكفُّ عن ارتكاب ما يُحرِّمه الله.(95/1)
ومرتكب الجريمة هنا في سؤال السائلة يجوز أنه قد نشأ في بيئة ريفيّة لها تقاليدها وعاداتها وتمسُّكها بالدين، ولكن يقع الآن تحت تأثير الاتجاه الحاضر في الاختلاط وعدم أخذ الإنسان نفسه فيه بقيود تَحُدُّ من حريته ولذا عندما يُعلن التوبة يكون قد عاد إليه وَعْيُ صلته بالله وعندما يكرِّر ذات الجريمة يكون قد انساق ثانيةً ونَسِيَ نفسه في اتجاه الاختلاط.
وهكذا المرتكِب للجريمة في هذا السؤال بما له من هذا الوضع المتردِّد بين الإحجام والإقدام يُمكن له في يُسرٍ أن يَستند إلى أثر التقاليد وأثر الخشية مِن الله في نفسه ويكفُّ عن ارتكاب الجريمة نِهائيًّا وبالأخصِّ أنَّها جريمة شائنة، وقد تكون لها نتائج شنيعة تُسيء إلى مستقبله في العلاقات مع الآخرين معه في بيئته، كما تسيء إلى صحته قبل آدميته، فالخشية من الله التي تُذكِّره بالتوبة يمكن أن يقف عندها قليلاً كل يوم وبالأخصِّ عند الصلاة فإذا لم يكن يصلِّي فيجب أن يتَّخذ الصلاة مدخلاً إلى الكفِّ عن الخطأ نهائيًّا، ومن تضليل الشيطان كما يقول فإذا أصبحتِ الصلاة أمرًا لا يُترك ضاق نِطاق إغواء الشيطان وتضليله.
أما إذا لم يكن للخشية مِن الله أثَر في نفس مرتكب الجريمة ـ وهذا غير مفروض الآن كما يُوحي السؤال ـ فمِن الصعب رُجوعه عن ارتكاب الجريمة التي يدفع إليها تضليل الشيطان، إلاّ عن طريق صدْمة عنيفة: صدمة مرضٍ قاسٍ، أو أزمة تَمَسُّه، وتَمَسُّ أسرته تدفعه إلى مُراجعة سلوكه ووقوفه في وُضوح على خطأه، وتُعرفه بالله القادر.(95/2)
92 ـ إنِّي زوجة لرجُل ثريٍّ من أربعين عامًا. وقد مرِضتُ، ويحتاج علاجي إلى عشرين جنيهًا شهرِيًّا. فهل يلزم الزوج الإنفاق على علاجي؟
الإنفاق على الزوجة من قِبَل زوجها في المطعم والملبس، واجب عليه شرعًا، بدون خلاف. فقد رُوِيَ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قولُها: "إن هندًا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شَحيح، وليس يُعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال: خُذِي ما يَكفيكِ وولدكَ بالمعروف". فأذِن الرسول ـ عليه السلام ـ لزوجة يشِحُّ ويقتِّر عليها زوجها في الإنفاق عليها وعلى ابنة منها، بأن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي ولدها حسَب العُرف الجاري، دون الحاجة إلى إذنه يدُلُّ دلالة واضحة على حقِّها قبل زوجها في نفقتها ومعيشتها.
وحقها في النفقة على زوجها يدخل في مماثَلة الحقوق والواجبات بين الزوجين، فيما يقول الله تعالي: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْروفِ) (البقرة: 228).
أما ما تسأل عنه السيدة هنا من إنفاق الزوج على علاج زوجته، فإن علاج الزوجة لا يدخل في هذه الحقوق والواجبات المماثلة. على معنى أنه ليس حقًّا للزوجة على زوجتها، وبالتالي ليس واجبًا على الزوج تِجاه زوجته في مقابل حقٍّ له عليها. وبعبارة أوضح لو التجأت الزوجة إلى القضاء في الحكم لها على زوجها بنفقة العلاج، فإنّه لا يستجيب لها في ذلك، كما يستجيب لها في طلبها الحكم بنفقة المأكل، والملبس، والسُّكني.(96/1)
ولكن الآية التي تحدَّثت هنا عن الحقوق والواجبات المتكافئة للزوجين، وهي: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بالمعْروفِ).. ذكرت عقب هذه المماثلة: (وللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجةٌ) (البقرة: 228). ومعنى أنَّ للرجال الأزواج على النساء الزوجات درجة هو أن الأزواج يجب أن لا تبقى معاملتهم لأزواجهن في حدود المماثلة بين الحقوق والواجبات. وإنما يجب أن ترتفع فوق هذه المماثلة، بحيث يكون للرجل فضل وزيادة عن هذه المماثلة في معاملته لزوجته.
ومعنى ذلك ـ أيضًا ـ أن الرجل لا يقف بمعاملته لزوجته في حدود المماثلة. وإنَّما ينبغي أن يكون ذا فضل، هو فضل المحسِن والإنسان الكريم المهذَّب. فالعلاقة بين الزوج وزوجته ليست علاقة مبادَلة حرفيَّة، مِثلاً بمِثله. وإنَّما هي علاقة إنسانية في مستواها الرفيع. يجب أن يتميَّز الرجل فيها ليس بمُمارسة العضلات، أو بممارسة الاستضعاف، أو بالخشونة والغلظة في المعاملة، وإنَّما بالإحسان. وهو التهذيب الإنساني في أرقى مستوى له.
وإذنْ درجة الرجل على المرأة في العلاقة الزوجية، هي منزلة أدبيّة، تستتبع سلوكًا إنسانيًّا كريمًا يفوق ما تستطيعه المرأة.(96/2)
وعن هذه الدرجة والمنزلة الأدبية يجب وجوبًا أدبِيًّا ـ وليس وجوبًا قضائيًّا ـ على الرجل الثريِّ في هذا السؤال أن يتحمَّل نفقة العلاج لزوجته. وعليه أن يذكر مدة الأربعين عامًا التي عاشتْها زوجتُه معه رفيقةً له، تُشاركه سرّاءَه وضَرّاءه فيها. يروي أبو هريرة عن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: "دينارٌ أنفقته في سبيل الله "أي في الخير العام" ودينار أنفقته في رَقبة "أي في تحرير إنسان من رِقٍّ فرديٍّ أو جماعي" ودينار تصدَّقت به على مسكين "أي أعطيته لصاحب حاجة، لا يستطيع جُهده في العمل أن يغطِّيَ احتياجاته أو احتياج أسرته وأولاده" ودينار أنفقته على أهلك "أي على زوجتك" أعظمها أجرًا "أي عند الله" الذي أنفقتَه على أهلِك". وبذلك ما يُنفِقه الزوج على زوجته قُربى مفضَّلة عند الله على صنوف الخير كلها.(96/3)
93 ـ واجب القرية نحو أبنائها المُحاربين
في قريتنا عدد كبير مِن الجنود الذين لهم شرَف الاشتراك في عبور القنال وتحرير الأرض، فما واجب أهل القرية حِيالَهم وحيال أُسَرهم؟
إن القتال ضدَّ الصهيونيينَ في إسرائيل هو في واقع أمره قتالٌ في سبيل الله.. فالصهيونيون يُقاتلون في سبيل الطاغوت، والطاغوت هو الشيطان، أو هو الاعتداء على القيم الإنسانية كلها، وقد أُمِرَ المؤمنون بالله أن يُقاتلوا أولياء الشيطان، كما أَعلنوا: أن كيْدَ الشيطان وعَداوته ضعيفة لا تَقِفُ أمام قتال المؤمنين: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء: 76)..
إن هؤلاء الصهيونيينَ يَشترونَ الحياة الدنيا بالآخرة أي إنهم يَتنكرون للمبادئ الإنسانية في سبيل الدنيا وسبيل التوسُّع في السيطرة، وسبيل تحصيل مادِّيَّاتِ الحياة بأيِّ طريق، وقد فُرض على المؤمنين قتالُ هؤلاء تَخلُّصًا مِن شُرورهم ومَفاسدهم وأطماعهم: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ "يشرون: أي يبيعونَ، وشرَى: باع، يُستعمل أحدهما في مكان الآخر أحيانًا" الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ "أي الذين لا يَتركون الآخرة في سبيل الدنيا، وترْك الآخرة هو كِناية عن ترْك مبادئ الرسالة الإلَهية لحياةٍ إنسانية فاضلة، وهي تلك المبادئ التي تُوصِّل إلى جزاء الآخرة، مع إيثار الطغيان بالقوة المادية على الآخرين الذين لا يَملكونها، وهي قوة المال والعَتاد، والإعداد" وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). "وهو أجر الدنيا بالنصر على هؤلاء الطغاة .. وأجر الآخرة بالجزاء الأوفى من الله" (النساء: 74)..(97/1)
وقد نَوَّهَتِ الآية هنا بأجرِ المُجاهد عند الله وهو أجرٌ لا يُعادله أجرٌ ماديٌّ في الدنيا، ولكن مع ذلك فقد جعل الإسلام للمُقاتلين أربعةَ أخماس الغنائم التي يَغتنموها في الحرب ضد أعداء الله تُوزَّع بينهم؛ لأنهم هم الذين يتحملون العبْء الأكبر في نصر المؤمنين، بدِمائهم، وإيمانهم وشجاعتهم.
ومع جزاء الله في الآخرة للمُقاتلين المُجاهدين في سبيل الله، ومع حقهم في غنائم الحرب، فإنه يُروَى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رواية زيد بن خالد، أنه يقول: "مَن جَهَّزَ غَازِيًا "أي مَن أعَدَّ مُجاهدًا في سبيل الله بوسائل الحرب والقدرة على القتال، وتحمّل نفَقة ذلك" فقد غَزَا "أي فكأنه شارك في الغزو والقتال" ومَن خلَفَه في أهله بخيرٍ "أي قام بما يجب نحو أهل المُجاهد في بلده: من رعاية، وحماية ومُساندة مادية وإنسانية معًا" فقد غَزَا". "أي فكأنه شارك في الغزو والقتال في ميدانه". ونتيجة هذه المشاركة: أن للمُساعد أجرًا عند الله لقاءَ ما يُقدِّم من مُعاونة في تسليح المُقاتل وإعداده بالزاد والملابس التي تَقِيهِ الحرَّ والبرد، وأخطار آلات التدمير، أو لقاء ما يُقدم من رعاية وحماية أدبية ومادية لأهله الذين ترَكهم وراءه.
وهكذا: للمُقاتل لرد العدوان وتحرير الأرض التي تعلو عليها كلمة الله:
1 ـ جزاءٌ عند الله.
2 ـ وجزاء في غنائمِ الحرب.
3 ـ ورعايةٌ لأهله في بلده، مِن أولئكم الذينَ لم يذهبوا إلى الحرب، ويُريدون أن يكون لهم ثواب القتال.
والإسلام إذن يدعو المُواطنين المؤمنين بالله إلى أن يُساندوا أسَرَ المُقاتلين اليوم في ميدان القتال، ويُقدِّموا لهم الرعاية بأموالهم والحماية لهم مِن كل سُوءٍ يُتوقَّع.(97/2)
66ـ جَدٌّ يُنكِرُ حُقوق أولاد ابْنه المُتوفَّى
سيدة أرملة من القاهرة، مُتوفًّى عنها زوجها منذ ستةَ عشرَ عامًا وترَك لها ولدينِ، وبنتينِ، ومحلَّ تجارة، واستطاعت أن تُدير المحلَّ وأن تُتمَّ تعليم الولدينِ تعليمًا متوسطًا وأن تُنفق على البنتينِ في التعليم الآن.
ووالد زوجها ـ وهو خالُها ـ لم يزل على قيد الحياة حتى الآن، والزوج عندما كان موجودًا ساعد بماله والدَه على بناء المَنزل الذي تُقيم الزوجة مع أولادها في حجرتينِ منه، وهو مكون مِن ثلاثة أدوار يَشغلها الوالد وابنٌ آخر له، أخو الزوج المتوفَّى.
... والمشكلة الآن أن الوالد وهو خالُ الأرملة السائلة يُنكر حقَّ ابنه المتوفَّى في المنزل، ويَحرِم الزوجة والأولاد ممَّا ساعد به في إقامة المنزل.. ويُعلنها الخصومة المستمرة وهي تقول: "إنها سيدة مؤمنة بالله وتخاف عذابه، ونفسها غير مُستريحة لهذا الخصام، ولكن كرامتها تَمنعها من مُصالحتهم وفي نفس الوقت متألمة؛ لأن الخصام ضد مبادئ الإسلام وتسأل: "فما هو رأي الدين في هذا؟ وهل عليَّ في ذلك وزْرٌ؟ أرجو الإفادة".
أسرة واحدة، وليست أسرتانِ، وهي أسرة الزوج المتوفَّى: أبوه وزوجته، وشقيقه وأولاده، والأب هو رب الأسرة وفي الوقت نفسه هو خال الزوجة، وشقيقه هو عمُّ الأولاد الصغار، كيف تكون خُصومة تَحرِم الأولاد من رِعاية جَدِّهم ومُساندة عمِّهم، وهم في حاجة إلى هذه الرِّعاية والمساندة ؟ أمِن أجْلِ بعض المال، قيل إنه مال المتوفى شارك به في إقامة المنزل المسكون الآن للأسرة كلها؟ ومال الجد سيصيب من بعده أولاد الابن لو ترَكه ميراثًا؟(98/1)
إن رب الأسرة هنا، هو والد الزوج المتوفى وخال زوجته، مسئوليته أمام الله تعُمُّ الطرف المقابل له في الخصومة هنا، وهو زوجة المتوفى وأولادها، وهي مسئوليةُ حمايةٍ ووِقايةٍ لهم من الأضرار.. ومسئولية رعاية لمستقبلهم. ومن الحماية لهم أن يُجنبهم الخُصومة وآثارها من الحقْد في تنشئتهم، ومِن رعاية المستقبل أن يعترف لهم بالمبلغ الذي شارك به والدهم وهو حيٌّ في إقامة منزل الأسرة.
... إن رب الأسرة هنا، وهو والد، وجَدٌّ، وخالٌ، يقف في وجه زوجة ابنه وبنت شقيقته، وأمِّ أحفاده، وهي امرأة وهو رجل؟ وهو رجل؟ بسبب ماذا؟ بسبب الخلاف على مالٍ قلَّ أو كثُر إن هذه الخصومة في جانبها النفسيِّ في الأسرة الواحدة وفي وشائج الدم القريبة لا يُعادلها إطلاقًا خلاف على مالٍ مهما كثرت قيمته، إنها تَشحن النفوس بالبُغض والكراهية والحقد والسوء، وقلَّما تعود هذه النفوس إلى الصفاء، إلا إذا بَذل رب الأسرة مِن جانبه في الباقي من أيام حياته ما يجب عليه أمام الله، نحو أحفاده وأمِّهم من رعاية وعطفٍ ومعاونة، بدلاً من القطيعة والكراهية من الجانبينِ.(98/2)
إن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو الصديق لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غضب مِن ابن خالته، "مِسْطَحٍ" وكان مُهاجرًا فقيرًا، وشهِد "بدرًا"؛ لأنه خاض مع مَن خاض في قضية: "الإفك".. وحلَف أن لا يُنفق عليه، كما كان يفعل "متأثرًا" بمشاركته الآثمة في الإفْك، فنزلت آية النور، في قول الله ـ تعالى ـ: (ولا يَأْتَلِ "أيْ ولا يحلف" أولُو الفضلِ مِنكمْ والسَّعةِ أنْ يُؤْتُوا أولِي القُرْبَى والمساكينَ والمهاجرينَ في سبيلِ اللهِ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا
"والمعني لا ينبغي أن يحلف أصحاب الفضل والثراء منكم أيها المؤمنون، على عدم الإنفاق ـ لسبب من الأسباب ـ على أصحاب القرابة مِن أولي الرحم، والمساكين، والمهاجرين، في سبيل الله، على نحو ما كل يتمُّ مِن قبل، بل الواجب الصفح عن أخطاء هؤلاء والعفْو عن ذُنوبهم والاستمرار في الإنفاق عليهم" ألَا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لكمْ واللهُ غَفورٌ رَحيمٌ). (النور: 22)..
... فلمَّا نزلت هذه الآية عاد أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إلى الإنفاق، كما كان. بعد أن عفَا وصفَح عن ابن خالَتِه "مِسْطح".
... وما يُطلب في هذه الآية من أصحاب السَّعة والفضل لا يخصُّ أبا بكر وحده.. وإنما يعمُّ جميع المؤمنين ممَّن كان وضْعهم مُشابهًا لوضْعه في علاقاتهم مع أقربائهم.(98/3)
... ورب أسرة السائلة هنا في وضْعه مع زوجة ابنه المتوفَّى وأولادها منه يُشبه ذلك الوضع السابق، فهو أقدر وأكثر سَعة وأبعد مسئوليةً من زوجة ابنه التي هي أضعف منه بكثير، ومن أجل ذلك يجب عليه أن يتَّخذ الخطوة الأولى من جانبه نحو المصالحة مع بنت شقيقته، وبهذا يحفظ عليها حياءها، ولا يتصوَّر أن في هذه الخطوة انتقاصًا من كرامته أو مَهابته أو شرفه، بل ستُحسب له فضلاً عند الله.. وسيكون لها أثر كبير في إزالة ما ترسَّب من بُغْض وكراهية في نفس الطرف الآخر، يُروَى عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: (تَعَلَّمُوا مِن أنْسَابِكُمْ ما تَصِلُونَ بهِ أرْحامَكمْ، فإنَّ صِلَة الرحِم مَحبة في الأهل، مَثْراةٌ في المال، مَنسأة في الأثَر"العُمر"، كما يُروى "لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحِمٍ".(98/4)
58 ـ أبٌ يقسو على ابنه لصالح إخوته مِن أمٍّ أخرى:
افترقت أمي عن أبي من غير طلاق وتركني أبي وإياها وعِشْتُ معها حتى صار عمري خمسة عشر عامًا. ثم ماتت وذهبت للبحث عن أبي فما أن وجدني حتى أخذ مني إقرارًا بأني لا أستحق من مِلكه شيئًا، ثم كتب كل ما يملِك لأولاده الآخرين من أمٍّ أخرى. فهل بعد موته أستحِقُّ شيئًا مِن ميراثه؟
إذا كان الأب قد كتَب كل ما يملِك لأولاده الآخرين من أمٍّ أخرى، فلم يترك شيئًا بعد وفاته تتقاسَمه ورثته فلا السائل ولا إخوته الآخرون من أم أخرى يَرِثون شيئًا عندئذٍ.
والمسألة الآن ليست مسألة المِلك والمال.. ليست مسألة التركة والميراث وإنّما مسألة أُبوَّة الأب لأولاده: كيف لا يسأل أبٌ عن ولده طول هذه المدة التي عاشها السائل مع والدته إلى أن ماتت وهو في سن الخامسة عشرة؟ كيف لا يتعرَّف أحواله في هذه الفترة مهما كان مُبْغضًا لوالدته أو مهما لم يكن على وِفاق معها؟
لم يَرِدْ في القرآن إطلاقًا ما يرغِّب الوالد في أولاده، وما يحمله على رعايتهم والإنفاق عليهم، وكل ما ورد فيه خاصة بالآباء في علاقتهم بأولادهم أن حذَّرهم من الافتنان بهم وبالمبالغة في حبِّهم والعطف عليهم إلى درجة تدفعهم للعبَث والفساد: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال 28).
لم يرد في القرآن هذا الترغيب للآباء نحو أبنائهم اعتمادًا على الميْل الطبيعي والفطري في الإنسان كأب نحو ابنه، فهذا الميل الفطري في أُبوّة الأب قويٌّ بحيث يجب أن يخضع لرقابة ذاتية؛ حتى لا يطغى في الأب فيفسد الابن ويشقى الأب بطغيان هذا الميل فيه.(99/1)
قد يختلف ميل الأبوة في الأب نحو أولاده فهذا الابن مثلاً مُقرَّب إلى نفس أبيه أكثر من ذلك الآخر، ولكن لا يصل اختلاف هذا الميل في الأب إلى درجة نسيان أحد أبنائه أو إهماله وترك أمره وعدم لقائه ثم عند لقائه بعد غيبة طويلة يحمله على أن يكتب تنازُلاً عن حقِّه فيما يملك إمْعانًا في إهماله ونسيانه وإخراجه من دائرة البنوّة له.
والسائل وهو ابن لهذا الأب، ولكن من زوجة سابقة، لا ينبغي أن يُعنَى بالسؤال عن حقِّه في ميراث أبيه بعد وفاته مادامَ أن أباه أخرجه من دائرة أبنائه في العاطفة والرعاية الأبوية، قبل إخراجه من هذه الدائرة فيما يتصل بالملك والإرث.
إن هذا الأب قد تجرَّد تمامًا في علاقته بابنه السائل من كل ما يتصل بالأبوة إلا الجانب العضويّ.. إلا الجانب الحيواني فيه.
أما الجانب الإنساني في أبوة الأب لأبنائه فلم يدَّخر منه شيئًا لهذا الابن. وأولى بالسائل أن يتجه إلى الله سبحانه فهو نِعْمَ المولى ونعم النصير.. وهو الرازق والباسط في العطاء أو المقدِّر فيه.
وإذًا يجب عليه الآن أن يترحَّم على والدته، فيجب عليه أن يأخذ من مأساته مع والده عِبرةً تحمله على الجِدِّ في الحياة والكفاح في السعْي نحو تطورٍ أفضلَ لإمكانياته البشرية.
أما الأب فيجب أن يعلم أن الله قد يُفوِّت عليه هدفه في حمايته لأبنائه الآخرين من زوجته الحاضرة؛ لأنه لم يتَّقِ الله فيما صنعه نحوهم ونحو ابنه الآخر من التفرِّقة على هذا النحو اللاإنسانيّ. إن ما يجب أن يتركه الوالد لأولاده هو رصيد من عمل الخير وتقوى الله قبل رصيد المال والملك.(99/2)
141 ـ لماذا جاء الإسلام بتحديد أنصِبة الوارثين؟ ولماذا يجزِّئ الميراث إلى أجزاء عديدة؟
الجواب:
بالإرث في الإسلام لا تطغَى مشكلة رأس المال، يقول الله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ولِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (النساء: 11).
إن حركة المال ـ في نظر الإسلام ـ تدور بين عاملين: أحدهما يزيد ويُنَمَّى. وهو سعي الإنسان ونشاطه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وابْتُغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) (الجمعة: 10). والعامل الثاني يَحُدُّ من تجمع المال والاستمرار في الزيادة وهو الإنفاق في سبيل المصلحة العامة التي يأخذ شعار سبيل الله. وقد يأتي هذا الإنفاق على كلِّ الزيادة التي هي فوق حاجة المالك: (ويَسْألونَكَ مَاذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ) (البقرة: 219).وإذن بينما الإنسان في سعيه ونشاطه يزيد في ماله، إذا بإرادته في الإنفاق على المصلحة العامّة قد لا توفّر لديه سوى حاجته الخاصة في ماله. والإنسان المسلم في ماله يدور ـ إذن ـ بين المحافَظة على ذاته، وبين تحقيق ميله الاجتماعي. وهو إذ يصعد بماله إلى الذِّروة في الزيادة. فإنّه يعود به حتى الوفاء بالحاجة الخاصة فقط. وهكذا حركة مال المسلم تدور بين عامل يصعد به.. وآخر ينزل به.(100/1)
وهنا عامل آخر وراء ذلك العامل الذي ينزل به. وهو عامل التفتيت والتجزئة لما تبقَّى للمالك من مال، بعد وفاته. وهو عامل الإرث. وآيات الميراث التي تأمر بقسمة المال على ورثة المتوفَّى المالك له ـ كتلك الآية السابقة ـ تنشُد عدم تكديس المال وإبقائه في يد واحدة، حتى لا يصبح عامل خطر على الآخرين، بدل ما هو مصدر منفعة للجميع. إذ نظرة الإسلام التي يوحي بها قوله تعالى: (واللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الذِينَ فُضِّلُوا بَرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) (النحل: 71). تفيد أن المال المملوك لواحد تتعلَّق بمنفعته حقوق لمَن لا يملكون معه في المجتمع.
وخطر المال عند تكديسه قد يتمثَّل في اكتنازه وعدم تداوله. وقد يتمثل في احتكار السِّلع عن طريقه. وقد يتمثّل في التحكُّم به في مجال العمل. أي أنّه قد يصبح مصدر نفوذ واستغلال. أي أنه يتحوّل إلى نظام رأس مالي.
فإذا دخل عامل الإرث على نحو ما جاءت به الشَّريعة الإسلامية، ووزّع المال الوفير الموروث على كثيرين من أصحاب القروض ومَن يتبعهم في الحقوق من أصحاب القَرابة. فإن خطره على المجتمع يزول، أو يضعُف على الأقل. وبذلك يكون الإرث في الإسلام وقاية من الطغيان بالمال. بينما نظام الإرث في مجتمعات الحضارة المعاصرة يساعد على بقاء القُوّة للمال وبالتالي على بقاء خطره في التكديس والتجميع؛ لأن نظام تلك المجتمعات في الإرث ينقل مال المتوفَّى إلى واحد هو الولد الأكبر، أو إلى أقل عدَد ممكن، احتفاظًا للأسرة بجاهِها المُسْتَمَدّ من قوة المال. وبذلك يُبقي على النزعة التي تتخذ من المال سيطرة، ودرعًا في استعراض القوة في حلية المنافسة الأُسرِيّة.(100/2)
ومُفارَقة نظام الإرث في الإسلام، لما هو سائد في المجتمعات الحضارية المعاصرة.. ترجع إلى أن وظيفة المال اجتماعية كما يراها الإسلام، أي أنه في خدمة الحاجة في المجتمع، وليس للقهر والاستيلاء أو الاستذلال للإنسان، فردًا وجماعة.(100/3)
41 ـ الخداع في الزواج يُوجب التفرقة
سيدة من القاهرة تقصُّ أنها من ستة أشهر جاءها رجل وطلبها للزواج، واشترط عليها أن تترك العمل فوافقت والدتُها وأهلها، بعد أن عرفوا أنه كان مسيحيًّا وأشهر إسلامه في 1977 وبدَا من حديثه: "أنه متدين". كما تقول كانت تطلب فيمَن يتزوجها أن يكون مُتديِّنًا. وأقام معها في مسكن أهلها. ...
بعد أن دخل بها وجدت نفسها بعد ستة أشهر في دوَّامة معه. فهو يَحرص على زيارة والدتِه ويَصحب زوجته معه لزيارتها ويُقدِّمها على أنها مسيحية وهي تعرف ذلك، ويُكثر مِن ترتيل الإنجيل أمامها، بينما لا يُبدي اهتمامًا بالصلاة وبفرائض الإسلام. وهي تشكُّ في أن يكون قد أشهر إسلامه لأمرٍ تجهله هي، وليس لذات الإسلام. وهي في حَيْرةٍ من أمرها وتسأل:
أولاً: ما مصير الأولاد وإلى أيِّ دين يكون انتسابهم لو فُرض ورُزقت منه بأولاد، ثم ارتدَّ عن الإسلام وعاد إلى دينه؟
ثانيًا: تُراودها فكرة الانفصال عنه، فهل يلزم حينئذ بتأسيس بيت لها رغم أنه يسكن معها عند أهلها؟
ثالثاً: أن جميع مكاسبها ـ كما تروي ـ يوجهها زوجها في أن تشترى بها هدايَا إلى أهلهِ، فهل الإسلام يُبيح ذلك؟
لماذا لم يسكن زوج السائلة معها عند أهله هو وأسرته، طالمَا يُقدمها لوالدته وأسرته على أنها زوجة مسيحية؟ وطالما هو يكثر من ترتيل الإنجيل ولا يُبدي اهتمامًا بالصلاة وفرائض الإسلام؟. وعندئذ يكون تصرُّفه تصرُّفًا عاديًّا:" زوجة كانت مسلمة فتنصَّرت من أجل حبيبها وزوْج بقيَ فارسًا في المحافظة على دينه.
ألم يكن يُعِدُّ مسكنه معها عند أهل الزوجة استغلالاً لها ولأُسرتها؟ وألم يكن قبول الزوجة على أنها مسيحية عندما يُقدمها لوالدته وأسرته رِضاءً منها بهذا الاستغلال؟. وألم يكن قَبولها كذلك: أن تُنفق ما تحصل عليه مِن مالٍ ورِثته عن أبيها في شراء هدايا لأهل الزوج بناءً على توجيهه، مما يَزيد في قَبولها لاستغلاله لها ولأسرتها؟.(101/1)
السيدة السائلة.. كما يبدو من سؤالها: تعرَّفت على هذا الشاب المسيحي قبل أن تتزوَّجه وقبل أن يتعرف على أهلها. وربما قد تعرَّفت عليه أثناء العمل معه، ويبدو أيضًا أن والد السيدة السائلة مُتوفى أو مسافر في الخارج لمدة طويلة، أو قد انفصل بالطلاق عن والدتها، وهي ظلَّت تسكن معها، إلى أن تعرَّف عليها هذا الشاب الذي أشهر إسلامه، وحتى لا تكون العلاقة بين شابةٍ مسلمة وشاب مسيحي مُحرجةً لهما، إن هما استمرَّا فيها، ولم يُشهر هو إسلامه ـ أشهر هذا الشاب المسيحي إسلامه كسبيلٍ لدفْع الحرَج في علاقتهما معه ثم أخذ منه طريقًا مُيَسَّرًا في استغلالها فقدمته صديقتُه المسلمة ـ وهي السائلة ـ إلى أهلها على أنه مسلم وأخذتْ في تَمسكِّه بالإنجيل دليلًا تلوح به لأهلها على أنه مُتديِّن وركَّزت على رغبتها في اختيار الشخص الصالح المُتدين عندما يتقدم إليها أحد يطلب زواجها. وهذا الشاب متديِّن، فوافقت والدتها على زواجها منه، ورغبةً في "حمايته" من أهله هو ـ كما يُقال عادةً في مثل هذه الحالة ـ قبلت والدتها بأن تَسكن معها وبقية أفراد الأسرة وبالأخصِّ أن لها نصيبًا من الإرْث، وهو ما توجَّه بعضه إلى الهدايا لأهل الزوج، بناءً على طلبه. ...
وهكذا تمت التمثيلية بعد أن أُخرجت إخراجًا مُحكمًا، حسب حاجة الصديق، وهو ذلك الذي أشهر إسلامه. ...
وربما يكون هذا الصديق قد تورَّط مع صديقته المسلمة والزميلة معه في العمل، وربما تكون هي قد تورطت معه أيضًا. فدفعًا لحرج هذا التورط اتَّفقا معًا على أن يُشهر إسلامه أولاً، ثم تُقدمه ثانيًا لأسرتها على أنه الزوج الصالح، وطالما مسكن أسرتها موجود ووالدها متوفى أو مطلق فيُمكنها عندئذ السكن فورًا عقِب عقد الزواج، وبذلك تَختفي آثار التورُّط في علاقة بعضهما بعضًا.(101/2)
زوجة تَقبل أن تقدم إلى الغير على أنها مسيحية وهي غير معروفة في وسطها بأنها مسيحية.. وتقبل أن تَترك العمل والمرأة المعاصرة تعتزُّ بالعمل وإن كان على حساب مستقبلها وحساب أسرتها الخاصة التي شاركت في إقامتها.. وتقبل أن تُدخل على أسرتها وأخواتها أجنبيًّا عنها في عاداتها وفي نظرتها إلى الحياة.. زوجة على هذا النحو ليس لها اختيار فيما تفعل، وفي الوقت نفسه غير خافٍ عليها ما تَسأل عنه الآن. ...
وسؤالها الآن وشكواها من زوجها بعد أن اتَّضح لها: أن خسارة الحياة كلها في جانبها، وبعد أن تيقَّظ فيها ما بقي من كبرياء المسلمة لدَيها: تسأل عن مستقبل الأولاد في الدِّين إنْ هي أنجبت منه.. تسأل عن الأثاث وتأثيث بيت خاصٍّ بها.. وتسأل عن حلِّ أو حُرمة الهدايا التي تُقدمها من مالها الخاص. ...
أما هو فحبْله على غاربه.. لم يُنقل من دين لآخر كما تتوهَّم زوجته.. ولم يَدفع مهْرًا، ولم يبحث عن مأوًى أو عن مصدر يُنفق منه على نفسه وعليها.. وأولاده ـ إن أنجب منها ـ إنْ لم يكونوا مسيحيينَ في عاداتهمْ بحُكم شخصية أبيهم القويَّة بالنسبة لشخصية والدتهم، فلن يكونوا من المسلمين الذين يَعتزُّ بهم الإسلام.
هذه الزوجة المسلمة قد ارتَّدتْ عن إسلامها بزواجها من هذا الشاب الذي أشهر إسلامه خِداعًا وتمويها؛ لأنها تعلم علم اليقين أنه لم يُسلم حقيقةً. وإشهار إسلامه عمليةُ تمويهٍ وخداع لأسرتها وأسرته. شاركت هي فيها.(101/3)
وزواج هذا الشاب ـ بعد كشْف حقيقته ـ من هذه الزوجة المسلمة زواج باطل، فالله ـ تعالى ـ يقول: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذا جاءَكمُ المؤمناتُ مُهاجراتٍ "أي من دار الكفر" فامْتَحِنُوهُنَّ، اللهُ أعلمُ بإِيمَانِهِنَّ فإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمناتٍ فلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكفَّارِ "مشركين أو من أهل كتاب سَبَقَ" لا هُنَّ حِلٌّ لهمْ ولا همْ يَحِلُّونَ لهنَّ). (الممتحنة:10)… فالآية لا تبيح زواج المؤمنة بالإسلام من كافر به سواء أكان وَثَنيًّا مشركًا، أو مَجُوسيًّا، أو يهوديًّا، أو مسيحيًّا: ( لا هُنَّ حِلٌّ لهمْ) "أي الكفار".. كما لا تُبيح زواج الكافر بالإسلام من زوجة مُؤمنة به (ولا هم يَحِلُّونَ لهُنَّ) "ولا الكفار يحل زواجهم بالمؤمنات".. فالزوجة هنا مؤمنة بالإسلام لا يحلُّ زواجها مِن كافرٍ به وهو مَن أشهر إسلامه لغايةٍ أخرى غير الإسلام، ولا يحلُّ زواجه هو من مؤمنة به والزوجة مؤمنة هنا بالإسلام. ...
وهي الآن إذَن مُرتدة عن الإسلام.. وزواجها عند الله باطلٌ.. ولا يشفع لها إطلاقًا كما لا يصحُّ زواجها: إشهار إسلام الزوج؛ لأنه لمنفعة خاصة، وليس للإيمان بالإسلام.. إذ المؤمن بالإسلام يعتقد في عباداته ولا يُهملها، على أنه هنا يُتابع بعد إشهار إسلامه: الحديث عن الإنجيل، مما يدلُّ على ترسُّب الإيمان به في نفسه، وكذلك المؤمن بالإسلام لا يُقدِّم زوجته المسلمة إلى أهله على أنها مسيحية، بل يجب أن يكون قويًّا فيعتز بإيمانه وإيمان زوجته، والمُنافق في إيمانه ليس مؤمنًا على الحقيقة، فقد كشَف القرآن الكريم حقيقة المنافقين في قوله: (ولا تُصَلِّ على أحدٍ مِنهمْ ماتَ أبَدًا ولا تَقُمْ علَى قَبْرِهِ إنَّهمْ كَفَرُوا باللهِ ورَسُولهِ ومَاتُوا وهمْ فاسِقُونَ). (التوبة:84)..والزوج الذي يُشهر إسلامه ويُخفي حقيقته هو منافق: يُعلن الإيمان ويُبطن الكفر به.
… وإذا أنجبت الزوجة أولادًا منه فهم من الوِجْهة(101/4)
الظاهرة يكونون مسلمينَ؛ لأن أباهم وأمهم من عِداد المسلمين. ولكن لا خير فيهم للإسلام، فأُمهم لا يَعنيها الإسلام في قليل أو كثير؛ لأنها على الأقل مُتسترة على نِفاق زوجها في إسلامه، وأبوهم لا يَعنيه الإسلام كذلك؛ لأن عمله هذا ضارٌّ بالإسلام، إذ يُحوِّل البنت المسلمة إلى لُعبة أو إلى مادة للاستمتاع والاستغلال معًا. كما يُحول زواجه منها على هذا النحو إلى نموذج قد يدفع الأُخريات من بنات المسلين الاقتداء به. ...
وأما سؤال السائلة عن الأثاث فلها المهر عند زوجها، بناءً على الشكل الظاهر، أما عند الله فزواجها باطل لم ينعقد من أول الأمر. ومُعاشرتها له معاشرة غير شرعية، فهي تدخل في مجال الزنا، والزانية لا تَستحق مهْرًا في نظر الإسلام.(101/5)
66 ـ استرجاع الزوج لهداياه من زوجة لم يدخل بها
سيدة من إحدى المحافظات تقول:
إنه عُقِدَ قِرانها على شخص أحبّته وأحبها، ولكن تحوَّل الحب بينهما إلى كراهية وعداء، وكلٌّ منهما يريد أن يفارق الآخر، ولم يدخل الزوج بها، ويريد أن يسترجع كل ما قدَّمه لها ـ كشرط لتطليقها ـ من هدايا وخلافها فما حُكم الشرع في ذلك؟
الإجابة:
طالما تحولَّت العلاقة بين الطرفين إلى كراهيةٍ وعداء.. وطالما فكَّر كل منهما في أن يُفارق الآخر.. وطالما لم يدخل بها وزوجها، فللزوجة نصف مهرها إنْ كان الزوج حدَّد لها مهرًا أو نصف مهر المثل إن لم يكن حدَّد لها المهر.
وأمارة إحسان الزوج في معاملته زوجته، عندما يُريد فراقها هنا، قبل أن يدخل بها، أن يتنازل أيضًا عن نصيبه في المهر وهو النصف: (وأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقْوَى) (البقرة: 237). أي وأن يتنازل الأزواج عن نصيبهم في المهور إلى زوجاتهم اللاتي فارقوهن قبل الدخول بهِنَّ أولى وأقرب إلى رضاء الله.
فالواجب على الزوج في حال السائلة هنا أن يأخذ نصف المهر إذا كان قد دفعه وحدَّده، ويترك النصف الآخر لها، أمّا إذا ترك لها نصيبه أيضا فتركه لها قُربى إلى الله ـ تعالى ـ يُثاب عليه عند المولى جلَّ جلاله.
فإذا كان الزوج هنا يطالب باسترجاع الهدايا التي قدَّمها فمعنى ذلك أنه يريد أن يقف بالأمر عند الحد المُقرَّر فقط، ولا يتجاوزه إلى معنى الإحسان أي يريد أن يأخذ حقَّه ولا يترك منه شيئًا.
والزوجة التي لم يدخل بها بعد، وتريد أن تُفارق زوجها عن بُغض وكراهية له لا يليق بها أن تلتمس معروفًا مِمَّن تكرهُه.. لا يَليق بها أن تحرِص على بقاء هداياه عندها التي قدَّمها لها. فعليها أن ترُدَّ له نصف المهر الذي أخذته وترُدَّ له هداياه أيضًا فكل منهما كارِهٌ للآخر.(102/1)
أما تشبُّث الزوجة بإمساك الهدايا لديها، وعدم رَدِّها إلى مَن تكره عشرتَه بعد أن عقد قِرانه عليها فذلك أمر يجعلها متناقِضة مع نفسها: كيف تكرهه ثم تحتفظ منه بما يُذكِّرها به؟
إن الهدايا التي أعطيتْ للزوجة ويُطالب الزوج باستردادها الآن لم تُعْطَ لها تكريمًا، إِنَّما أُعطيت لها إغراءً وتأليفًا لقلْبها واستحواذًا على مشاعرها، فإذا عدلَتْ عن محبته وكَرِهتْه فأولى أن تردَّها إعلانًا لهذه الكراهية ولو لم يُطلب منها.
ومن الأسف الشديد أن العلاقة بين الزوجين اليوم تخضع للأعراض المادِّيّة أكثر ممّا توزَن بالمعاني الإنسانية، فارتباط المرأة بالرجل عن طريق الهدايا المادِّية أقوى من ارتباطها به لمَا فيه من قيَم إنسانية. هل يقوَى ارتباط المرأة بالرجل لصدقه؟ وهل يقوَى ارتباطها به لعِفَّته ووفائه؟
ربما لا تُقيم هذه المعاني إلا عند القليل من النساء، أمّا الكثيرات منهن فيَرينَ أن مثل هذه القيم لا يتداولها الناس وبالتالي ليس لها سوقٌ تروج فيه، أما المال فأوجه الانتفاع به كثيرة والمرأة بما يُعطَى لها من الرجل من مال تستطيع أن تُزيِّن نفسها وأن تظهر بين الزميلات والصَّديقات بما يجعلها مَحَلَّ تقدير واحترام.
أما وفاء الرجل وليس عنده مال فماذا تصنع به المرأة؟ أما صدقه وليس عنده من مال يشتري به الهدايا لها، فماذا يفيدها؟ وتنسى أن الوفاء من الرجل لها تكريس لحُبِّه، وحياته، ونشاطه في الحياة لها. وتنسى أن الصدق من الرجل في قوله وفي عمله التزام منه بالخط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فترى طهارة نفسه من استقامة هذا الخط، وصفاءها فيما لا يحتمل باطنه غير ظاهره.(102/2)
إن الرجل الصادق الوفي يوفِّر لزوجته الاحترام بعد المحبة، والرجل الذي يسود بالهدايا عند المرأة يبيع ويشتري بهداياه فليس لدَيْه احترام لواحدة، كما ليستْ له مَحَبّة الأخرى. والمرأة التي تسعَد بالهدايا المادِّيّة، دون القِيَم الإنسانية، سوف تذهب سعادتها بانقطاع الهدايا عنها، لسبب من الأسباب. أما المعاني الإنسانية فباقية والسعادة بها باقية، والارتباط على أساس منها يقوَى ويشتدُّ كُلَّ يوم.
والسائلة الآن عليها أن ترُدَّ هدايا الرجلِ إليه، وقد طلبها منها.. وقد اشترط ألاّ يُطلِّقها قبل أن تُرَدَّ إليه. فإنه بخيل أو مُعاند. فلا تكوني أنتِ ـ وأنت امرأة ـ مُلِحّة في طلب شيء يُسيء إليك مُستقبلاً.(102/3)
55 ـ زوج يَحول دون إتمام تعليم زوجته ثم يُطلِّقها بعد أن يُنجب منها ليتزوّج بأخرى
تزوَّجني ومنعني أن أُتِمَّ دبلوم المُعلِّمات، بحُجة أنه ليس في حاجة لأن أعمل ثم تركتُ بلدي ـ بالوجه البحري ـ وعشت معه في محافظة ثانية بالوجه القبلي.. وأنجبنا ثلاثة أطفال وكان له أخٌ استُشهد فطلَّقني وتزوَّج امرأة أخيه، وتركني وأولادي فما الرأي؟
السائلة هنا تذكر ثلاثة أمور في سؤالها:
1 ـ تذكر أن زوجها منَعَها من أن تستمرَّ في الدراسة حتى تحصل على دبلوم يُعطيها فرصة إمكان مباشرة العمل بأجر عليه. أي أنه حال بينها وبين إمكانية أن تُساعد نفسَها اقتصادِيًّا عندما تحتاج إلى مساعدة. وأوصلها إلى وضْع أن تَسُدَّ حاجتها من غيرها: من زوج إن كان لها زوج، أو عملٍ هو أدنى في قيمته وفي أجره من العمل الآخر الذي كانت ستُباشِره.
2 ـ وأن زوجها لم يكن وَفِيًّا لها. ففي الوقت الذي ارتضتْ أن تعيش معه، وأن تكون شريكة حياته في أي مكان يعمل فيه، ولذا انتقلت من بلدها، بالوجه البحري، إلى محافظة نائية بالوجه القبلي ـ يتركها بعد أن طلَّقها ويتزوج بغيرها.
3 ـ وأنه يقف موقف اللامبالاة من أولاده الثلاثة منها، تاركًا رعاية أمرهم إلى القدَر.
هذه الأمور الثلاثة دفعتْه إليها رغبته في الزواج بأرملة شقيقه الشهيد، وربَّما هذه الرغبة لم تكن متوفِّرة لدَيْه من قبل استشهاد أخيه وحصول أرملته على: "تعويض" سَخِيٍّ من الدولة.
ومِن أية زاوية من زوايا هذا الوضع الذي تحكيه السائلة، تحاول منها تحليل نفسية الزوج وتوضيح الدوافع عنده إليه، فلا نجد إلا أنه يُغرِيه المال وأن تأثير إغرائه يكاد يصل إلى درجة أن ينسَى تمامًا كل الروابط الإنسانية التي كانت بينه وبين زوجته المُشاركة المسالمة.. وبينه وبين أولاده الثلاثة ومستقبلهم القَلِق.(103/1)
وموقفه الآن من زوجته السائلة هو أكثر من اعتداء وتحطيم لإمكانياتها البشرية ومِن حَجْب لنور الأمل في حياتها المقبلة، وموقفه من أولاده أكثر من إهمال في الرعاية لشأنهم.
وهو إذا لم يكن وفيًّا لزوجته أمِّ أولاده فيُترقّب أيضًا أن يكون غير وفيٍّ مع زوجة أخيه الشهيد.. إذْ بعد أن يتمكّن من المال الذي وصل إليها سيُدير لها ظهره في أيِّ شكل وفي أية صورة.
والرجل إذا كان قليل الوفاء أو عديمَه فلا يُرجى منه الخير لأولاده وأسرته، ولا يُرجَى منه الخير كذلك لنفسه. والإسلام يربط بين نجاح الإنسان في حياته ووقاية نفسه من الشُّحِّ، في قول الله ـ تعالى: (ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ) (الحشر: 9).
والمراد بالنجاح هنا سلوكه المسلك الإنساني الكريم في مُعاملة الآخرين معه والبعد في هذا المسلك عن كل ما يُؤذي ويَضُرُّ الذات أو الآخرين.
والشُّح يُعتَبر أهم ظاهرة في جاهلية الإنسان وبُعده عن الهداية الإلهية وهو نتيجة لحُبِّ المال وجمعه واتخاذ كل سبيل لتحصيله. ومَن في طبيعتهم الشُّحُّ يَشغَلون أنفسَهم بتكثير المال وحده: (أَلْهَاكُمُ التَّكُاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ) (التكاثر 1، 2).
والسائلة وقد ابتُليتْ بمثل هذا الزوج الذي ألهاه حبُّ المال، سيكشف الله عنها البلاء، ويُفرِّج كُرْبتها، إن هي صبَرَتْ وتوكَّلت عليه، وتروَّت في اختيار الطريق لحياتها المُقبلة.(103/2)
63ـ عدم كفاءة الزوج في الدِّين
سيدة من إحدى المحافظات تشكو مِن أنها متزوجة منذ عام تقريبًا مِن شابٍّ سبق له أن تزوج بغيرها وطُلقت زوجته السابقة منه لنفس السبب الذي تشرحه هنا، وقد حُذِّرت من الزواج منه غيره مرة، ولكنها أُكرهت مِن أهلها على الاقْتران به، وعندما خَطبها كانت ترتدي الجلباب وأقرَّها على ارتدائه، ومعنى ذلك أنه رآها تَحتشم في لباسها وأنها مُحجبة، بحيث أنها لا تُرِي للآخرين شيئًا مِن زِينتها. وقد اعتادت ما يُسمَّى بالزِّيِّ الإسلامي منذ ثلاث أعوام قبل خِطبتها، وقد ادَّعى خطيبها هو أيضًا أنه يُصلي ويحفظ القرآن الكريم.
... ولكن بعد شهر واحد من الدخول بها فاجأها "بأنه يلْعن الدِّين" وابتدأ يطلب منها عدم ارتداء ما يُسمَّى بالزيِّ الإسلامي، يطلب منها عدم الاحتشام في الملبس بأن تكشف عن ساقَيْها وبأن تُبدي زينة يديها للآخرين، وهدَّدها بالزواج عليها إذا لم تُنفذ ما يطلبه منها.
... وهي تُصِرُّ على أن تظل في احتشامها.. وأن تظلَّ ـ كذلك ـ امرأةً مسلمة تُرضِي اللهَ أولاً ورسوله، وقد خَيَّرته بين أن يُطلقها أو يتركها تلْبس ما يَستر عليها يديها، بحيث لا تُجْرَح في كرامتها كامرأةٍ مسلمة، ولكنه رفَضَ، وتقول: إنني لا أستطيع أن أبقى على هذه الحال، فأنا لستُ راضية عن نفسي، فزوجها يكره الإسلام ويُحب المُتبرِّجات، والآن ليس أمامها إلا أن تَطلب منه الطلاق أو تَخلع الحجاب.
... وتطلب إرشادها إلى طريق الأمَل الذي أصبح سَرابًا أمام عيْنيها وبعد أن أحسَّت بأن الدنيا أظلمت في وجْهها.(104/1)
هذه المشكلة ـ وهي مشكلة الزيِّ الإسلامي ،ومشكلة التديُّن على العُموم بين الزوجين، أو بين أفراد الأسرة الواحدة ـ مشكلة شاعت كثيرًا والرسائل العديدة التي تصل إلينا من مختلف البلدان: تحمل وِجْهات النظر المختلفة بين الزوجين أو بين الوالد وبعض أولاده، وتطلب الحلَّ بتوضيح رأي الإسلام في سلوك أيٍّ مِن الطرفين المختلفين نحو الآخر.
... وقبل أن نَعرض رأْيَ الإسلام في الخلاف بين الزوج وزوجته هنا، يَحسُن بنا أن نذكر بعض عادات المجتمع الجاهلي الذي جاء على أنقاضه المجتمع الإسلامي بما له من قيَمٍ ومبادئ، والمجتمع الجاهلي ليس مجتمعًا مضَى وولَّى قبل الإسلام فقط. وإنما القرآن يقصد بالمجتمع الجاهلي: المجتمع المادي في كل وقت، سواء ذلك المجتمع الذي سبَق الإسلام.. أم المجتمع الآخر الذي قد يأتي بعد الإسلام، وتغلب عليه ظواهر المادية. وأخصُّها ظواهر تبادُل المنافع المادية.. واختفاء القيَم العُليا في علاقات الأفراد والناس بعضهم ببعض مِن التعاون والتعاطف، والتراحُم.. وسيطرة الأنانية في السلوك حتى بين أعضاء الأسرة الواحدة.. والتهافُت على خِداع الحياة المادية: في الملْبس.. وفي الطعام.. وفي الإقامة والرحلات.. والتطلُّع إلى المال والوقوع تحت إغرائه.. والاعتزاز بالعَصبية الأُسرية أو الحزبية السياسية، أو الشعوبية، أو الطائفية.. وتَدافُع النساء في طريق العرْض على الرجال، وخُضوعهن السريع لبَريق المظاهر المادية كالثروة، والجاه والسُّلْطة التي تَخطِف أبصارَهن.(104/2)
... والمجتمع الإسلامي هو الذي يحكم بما أنزل الله في كتابه.. بينما المجتمع، الجاهلي أو المادي ـ في نظر القرآن ـ هو الذي يحكم بالأهواء: (وأنِ احْكُمْ بيْنهمْ بمَا أنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عن بَعْضِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلَيْكَ فإنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ إنَّمَا يُريدُ اللهُ أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لفَاسِقُونَ أفَحُكْمُ الجاهليةِ "وهو الحكم بالهوَى" يَبْغُونَ ومَن أحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا "أيْ مِن كتابِ اللهِ" لقومٍ يُوقِنُونَ). (المائدة:49ـ 50)..
ومن عادات المرأة في الجاهلية ـ فيما مضى أو فيما هو حاضر، أو آتٍ:
(1) الاختلاط أو السفور، واختلاط المرأة في العمل أو في غيره بغير المَحارم ليس لها مِن شأنه أن يدفعها إلى صُعوبة الاحتفاظ بعِفَّتِها. ...
ولذا يَنصح الإسلام المرأة المسلمة بعدم الاختلاط ويأمرها، كوِقايةٍ لها طالما ليست بحاجة إلى الخروج لقضاء مَصلحة لها، بأن تَستقرَّ في المنزل، فتقول الآية الكريمة: (وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ). (الأحزاب: 33).. أيْ: استقرَّت في منازلكنَّ، فإن كانت لهن حاجة إلى الخروج فينبغي أن لا يَخْرجن مُتبرِّجات.. أي فاتنات أو مُثيرات للفتْنة كما تُضيف الآية السابقة قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَبَرَّجْنَ تَبُرُّجَ الجاهليةِ الأُولَى). (الأحزاب: 33).. أي فإن خرجتُنَّ من منالكنَّ فلا تخرجن منها مُتبرجاتٍ وعارضاتٍ لفِتْنتكنَّ في الطرقات والأماكن العامة.
وليس معنى ذلك، أن الإسلام لا يُقِرُّها على أن تُجمِّل نفسها أو أن تحافظ على قَوامها وزِينتها، هو يأمرها بالزينة لزوْجها.. ويُبيح لها أن يطَّلِع مَحارمها عليها: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لبُعولتِهِنَّ أو آبائِهِنَّ أو آباءِ بُعولتِهِنَّ أو أبْنائِهِنَّ)..الخ (النور: 31).(104/3)
ومن عادات المرأة في الجاهلية أو المجتمع الماديِّ فيما مضى أو فيما هو حاضر أو فيما هو آتٍ: أن تُعنى عنايةً خاصة ـ كمَوضعٍ لإثارة الفتْنة وإشاعة التبرُّج ـ بالكشف عن صدرها إلى محيط الثديين، بحيث تجعل منه مَركزًا لجذْب أنظار الرجل وموْضعًا لإغرائه والإقبال عليها، وتُعرف فتحةُ الصدر في لباس المرأة بالديكولتيه).
... والإسلام من أجل ذلك يأمر المرأة المسلمة على الخصوص أن تغطي صدرها، تجنُّبًا للإثارة، ولشدِّ انتظار الرجل إليها فتقول آية قرآنية كريمة: (ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ علَى جُيُوبِهِنَّ..). (النور: 31).. والخِمار ما تُغطي به المرأة رأسها، والجيْب هو الفتحة في أعلى الثوب يظهر منها بعضُ الصدر. والمعني: وليَسترْنَ النساء المسلمات ما تكشف عنه عادة النساء اللاتي يعشْن في المجتمع المادي أو الجاهلي في أعلَى ثِيابهنَّ من فتحاتٍ تُبدي الصدر وجزء من محيط الثديينِ، وذلك يجعل غطاء الرأس مُتناولاً لأعلَى الصدر كذلك.
... والنهي عن الاختلاط أو السفور.. والنهْي عن تبرُّج المرأة خارج المنزل.. والنهْي عن كشْف الصدر كمَوضعٍ للإثارة والفتْنة، يراه الإسلام سبيلاً لاحْتفاظ المرأة بعِفَّتها ووقايتها من الانزلاق إلى المُنكر.
والآن: الزوج المسلم الذي يحمل زوجته المسلمة على أن تُجاري وضْع المجتمع المادي أو الجاهلي فتكشف عن صدرها ومُحيط ثديْها.. وتَخرج من منزلها "متبرجة فاتنة" وتُبدي زينتها لغير مَحارمها هو زوج يأمرها بما ينهَى عنه القرآن الكريم، أيْ هو زوج يَحملها على عدم الطاعة لكتاب الله.
... فإذا أُضيف إلى ذلك: أنه يَلْعن دين الله فهو خارج عن هذا الدِّين، والسيدة السائلة لها أن تطلب فِراقه وإنهاء عقد الزواج معه، ولا يحلُّ لها أن تُطيعه إطلاقًا فيما يُغضب الله ويَتنافى مع رسالة رسوله ـ عليه السلام.(104/4)
54 ـ الزوج كثير الحَلِف بالطلاق، وسبب لعدم الاستقرار في الأسرة
ما ذنب الزوجة الصالحة التي اعتاد زوجها الحلف بالطلاق، وطلاق يقع وطلاق يُرَدُّ، والأسرة مع ذلك مُضطربة وَجِلةٌ، وما علاج هذا النوع من الأزواج؟
إذا كان الله في كتابه الكريم قد جعل مِن أهداف الزوجية السُّكْنَى والاطمئنان في العلاقة الزوجية، إذ يقول: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (الروم: 21).
فمطلوب مِن الزوج والزوجة معًا السعيُ لتحقيقها في حياتهما وحياة أولادهما عندما تكون لهما أولاد.. مطلوب من الزوج أن يكون صاحب مسئولية صريحة عن الأسرة في اطمئنانها وفي إبعاد عناصر الإزعاج والقلق بقدر ما يُمكن للإنسان.
والطلاق الذي شرعه الله للزوج ليس وسيلة للإرهاب والتخويف، وإنما هو تعبير عن الفرقة عندما تتعين الفُرقة دفعًا لأضرار الحياة الزوجية بينهما، وإن دَلَّ الحلف بالطلاق والإكثار فيه على شيء فإنه يدلُّ على عدم ثقة مَن يحلِف به، بنفسه.
ومَن لا يَثِقُ بنفسه لا يكون مصدر إزعاج للأسرة بكثْرة حلفه فقط وإنما كذلك هو مصدر إزعاج لها، بعدم حسْمه للأمور وتَردُّده فيما يجب عليه الفصل فيه.
وطالما كانت الزوجة صالحة فإنَّ صلاحها كفيل بأن يكون نصيبها في تحقيق السُّكنَى نصيبًا مَوْفورًا والزوجة الصالحة هي التي يُحدِّدها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام بأنها: "التي تَسُرُّه إذا نظر إليها وتُطيعه إذا أمرها ولا تُخالفه في نفسها ولا مالها بما يَكرهُ".
على أن الطلاق إنْ حمل معنى التهديد للآخرين فإنه لا يقع.. إذْ وقوعه مشروط بنِيَّةِ الفُرقة والقصْد إلى إنهاء الحياة الزوجية. ولذا لا يقع طلاق المُكره.. ولا طلاق السَّكران.. لفقدان القَصد منهما إلى إنهاء الحياة الزوجية عندئذٍ.
والزوجة السائلة في هذا السؤال لها أن تَطمئن مادام زوجها يحلف بالطلاق تهديدًا وتخويفًا.(105/1)
ولكن المشكلة هي مشكلة أخلاق الزوج ومشكلة عدم ثقته بنفسه وهي مشكلة كثيرينَ في مجتمعاتنا الشرقية الإسلامية مع أن التوكُّل على الله ـ من بين وصايا الإسلام ـ عاملٌ قويٌّ في إيجاد الثقة بالنفس وعدم الخوف مِن أيِّ موجود سوى الله تعالى.
والتوكل على الله ليس تواكُلاً وليس إغفالاً للطاقة البشرية في الإنسان؛ لأنه يتحقق بأمرين:
الأمر الأول: دراسة الموقف الذي يُتَّخذ، وتحليل عناصره الإيجابية والسلبية وترجيح جانب مُعيَّن فيه بعيد عن السلبية.
الأمر الثاني: مباشرة تنفيذه بعد الاعتماد على الله. فالاعتماد على الله الآن هو التوكُّل عليه ومعنى الاعتماد على الله في التنفيذ تجنُّب الهوى واستبعاد الحمق والجهالة وارتياد خطوات الحِكمة في التنفيذ. فكل ما يتصل بالله حسبما تَنصح به هدايته في كتابه هو بعيد عن الشَّرّ والسوء والضرر.
والتوكُّل على الله لا يَنجح إلا مِن مُؤمن بالله، فالمؤمن بالله وحده هو الذي لا يُلِحُّ في الحصول على الدنيا ومُتَعِها. ومِن ثَمَّ لا يترقَّبُ ضَررًا يُزعزع ثقته بنفسه في كل ما يُقْدِم عليه مِن تصرُّف وعمل.
وهكذا علاج هذا النوع من الأزواج هو الرجوع إلى الله، والإيمان به إيمانًا لا يجعل لشيء سواه منزلةً في قلبه.(105/2)
78ـ عفَّة المرأة في بُعد الرجل عنها
كتب موظف بإحدى المحافظات يقول إنه في الثلاثينَ مِن عُمره، وتزوَّج بفتاةٍ كان يُحبها ويَثق فيها لدرجة كبيرة.. وله منها بنت في الثانية من عمرها، وزوجته حاملٌ الآن، وهي في سِنِّ التاسعة عشرة. ... وقد اشترك مع أحد أصدقائه في بعض المشروعات التجارية، وكان يتردَّد هو وزوجته على منزله مِن وقت لآخر لتبادُل الزيارة معه.. وكان لهذا الشريك أخٌ شابٌّ في الثالثة والعشرين مِن عمره، وهو عزَبٌ، ولم يزل طالبًا ولكنه فاشل في دراسته.
ولاحَظ بعد فترة من الزمن أن زوجته تغيَّرت في علاقتها به، وكانت تغضب منه لأتْفه الأسباب، رغم أن مُعاملته لها كانت حسَنة، فأرجع هذا التغيُّر ظنًا منه إلى علاقة أجنبية بينها وبين هذا الشاب الأعْزب، ولذا امتنع عن زيارة منزل شريكه وحذَّر زوجته كذلك من زيارته مُنفردة في غيبته، ولكنها استمرت في الزيارة، كما استمرت علاقتها بهذا الشاب، وتكررت بحيث كانت تُقابله يوميًّا عدة مرات، سواء في منزله أو في منزل الزوجية، وبسؤاله زوجته اعترفت بأنها تحب هذا الشاب، وأنها تُقابله، وأنكرت أن حبَّها له وصل إلى درجة الإطلاع على جسدها، رغم أنه عرَض عليها أكثر من مرة ولكنها كانت ترفض كما ينقل عنها زوجها.
وأخيرًا تأكد له أمر هذه العلاقة عندما ذهب إلى مكتبه قبل أن يُغادره في اليوم نفسه، في رحلة إلى بلدته إذا جاء هذا الشاب في المكتب وسأله عن سفره اليوم فلمَّا ردَّ عليه بإيجاب كلَّفه ببعض المُشتريات له مِن هناك، وقبل أن يُباشر الزوج رحلته التي اعتزم القيام بها مرَّ على المنزل فوجد الشاب مع زوجته في حجرة الجلوس ولكن في وضْع يُعبر عن العلاقة الغرامية بينهما. ويقول إن رحلته إلى بلدته لم يكن يَعلم بها أحدٌ سوى زوجته. وهنا عزَم على تطليقها، ولكن تدخَّل الوسطاء من الأقارب، ووُجود الطفلة الصغيرة بينه وبين زوجته، حال دون تطليقها، على شرط أن تمتنع عن لقاء هذا الشاب.(106/1)
ثم يُنهي كتابه بقوله:
فالآن بعد أن بعُدت عن المنزل المجاور لهذا الشاب، وبعد هذا الاعتراف، وبعد أن عرَض الشابُّ عليها فعْل المنكر، ورفضت باعترافها، فهل أُصدق ذلك، خاصة بعد مُقابلتهم على انفراد مع بعض؟
فالآن هل أُطلق زوجتي؟ أم أنتقم مِن هذا الشاب؟ أم أتْرك الدنيا ومَن عليها؟
وهل أُنهي الشركة التي بيني وبين أخيه؟ ماذا أفعل؟ إنني في حيْرة مِن أمري وحياتي كلها شَقاء وتَعاسة، وعذاب: مع نفسي، ومع زوجتي؟"
إن السائل في كتابه يذكر أنه "مُتديِّن"، ويشكو من أن زوجته سبَّت له الدين في لحظة من لحظات الشجار بين بَعضهما بعضًا، ومعنى ذلك: أن الزوج له اتجاه في الحياة، وأن الزوجة لها اتَّجاه آخر على الضدِّ منه. ...
... ومِن هنا كان ينبغي في خِطبته قبل الزواج أن يختار المرأة التي تُساند اتجاهه في الحياة، وهو اتجاه التديُّن، فالعادة جرت على أن الرجل في خطبته للمرأة التي ستكون زوجةً له وأمًا لأولاده: يختار ذات الجمال.. أو ذات النسب والجاه.. أو ذات المال والثراء. والإسلام يَنصح بأن يختار الرجل دائمًا ذات الدِّين، قبل الجمال والنسَب والمال؛ لأن ذات الدِّين تُقاوم إغراء الحياة المادية، ومظاهر الحضارة التي ترتكز على ما يُسمى الآن: "بثروة تحرير المرأة"..
...
المرأة المتدينة تعمل بقول الله ـ تعالى ـ في وصيَّته لنساء النبي ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وهي وصيته لجميع المؤمنات: (يا نِساءَ النبيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ فَيَطْمَعُ الذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهليةِ الأُولَى". (الأحزاب: 32ـ 33).. وما يطلبه الله ـ تعالى ـ هنا:
أولاً: أن يذكر المرأة بأنه هناك مِن الرجال مَرضى القلوب في كلِّ عهد، وهم الذين يُحاولون العبَث.(106/2)
... وثانيًا: أن يُحذرها مِن الاختلاط فتلزم منزلها لم تكن لها حاجة إلى الخروج منه، وإذا خرجت لقضاء مصلحة فلا تُلْفت النظر إليها بما تَصنعه في نفسها مِن تبرُّج، ومن التبرج: تحديد الجسم بالملْبس، وصَبْغ الوجه بالألوان.. والمُيوعة في الحركة أو في الحديث، والكشف عمَّا يُثير مِن بدَنها وشعْرها.
... بينما "ثورة التحرير المرأة" تدعو النساء عاريات وكاسيات إلى الاختلاط بالرجال في المنازل، والشواطئ، والنوادي.. وغير ذلك في كلِّ مكانٍ يُمكن فيه الاجتماع. كما تدعو إلى "الحرية" في الخروج مِن المنزل، وإلى اختيار العمل في الخارج، وبإذْن الزوج أو بدون إذنه، على حدٍّ سواء. وليس هناك مِن حرَج في منطق هذه الثورة: أن يكون للمرأة صديقٌ أجنبيٌّ عنها يَزورها في مَنزل الزوجية أو في غيره، وتَزُوره هي في المنزل أو مكان العمل، وعلى الزوج أن لا يغضب، وأن لا يكون ـ كما يُقال ـ غَيُورًا من صديق زوجته إذا زارها في المنزل أو دعاها إلى حفْلة في غيْبته.
... وخطأ السائل مِن البداية إذنْ: في اختيار زوجته، فهي تعيش في مفاهيم ثورة التحرير للمرأة.. وهو يعيش في مفاهيم الدين التي يقضي بعضها ببُعد المرأة ـ زوجة أو غير زوجة ـ عن الاختلاط، والتي تجعل للنساء حُرمات خاصة، احتفاظًا بكرامتهنَّ ووقاية لهنَّ مِن العبَث بها مِن مرضى النفوس.
... "وثورة تحرير المرأة" كما تدعوها إلى السفور، والخروج مِن المنزل دون حاجة إلى إذن الرجل، وإلى الاختلاط تدعوها أيضًا إلى رفْض ما يُسمَّى "بالرجعية الدينية" وهي كل ما يُقيد حريتها فيما تفعله أو تشتهيه، فإذا اشتهت أن يكون لها ولد فليس هناك مانع أن يكون من غير زوجها، إن كان لها زوج، أو مِن رجل ما تختاره إن لم تكن متزوجةً، وليس مِن مانع أيضًا أن تكون لها حرية الانتقال من مسكنٍ مع رجل إلى مسكن آخر مع رجل آخر طالمَا تُشاركه في نفقات السكن.(106/3)
... ولعل ثورةَ تحرير المرأة من أعنف الثورات وأشدها سُخطًا على الدين، وعلى الإسلام بالذات؛ لأن رسالة الإسلام دعوة إلى تحرير إنسانية المرأة وإلى استقلالها فيما يجب أن تكون مستقلة فيه، وإلى صيانة حقوقها قبل الرجل في الأسرة أو في الزوجية، وصيانة حقوق الرجل كذلك قبلها، كما أنها دعوة إلى تحريرها مِن طغيان الشهوة، فلا تَذلُّ لنَزْوَةٍ عابرة، ولا تقع تحت إغراءٍ خادع، ما تشجع ثورة التحرير للمرأة على مُباشرته.
... والإسلام بدعوته إذنْ إلى تحرير إنسانية المرأة، يقفُ وجْهًا لوجهٍ أمام دعوة الثورة لتحرير المرأة: إلى الاستمتاع بما يُسميه: "الحرية" حرية الجنس.. وحرية العلاقة الشخصية.. ففي الإسلام حدود لتأمين المرأة على إنسانيتها.. وفي ثورة التحرير انطلاقٌ لغريزتها.
... والسائل إذا كان مُتديِّنًا حقًّا لا يُقدم على شيء ممَّا يَقترحه من الانتقام الشاب العابث.. أو الانتحار وترْك الدنيا،.. أو قطْع علاقته بالشركة.. أو الاستمرار في الحيْرة، إما أن يَستأنفَا معًا حياة جديدة بعيدة عن العبَث والسير في خطٍّ إسلامي بعيد عن النزوات والشهوات، أو يُفارق كل منهما الآخر، فلم تزل أمامه الحياة مديدة ويُمكن أن يسعد فيها بزوجةٍ أخرى صالحة.
... أما زوجته الحالية فلها بعد ذلك أن تَختار شابًّا فاشلاً في دراسته، عابثًا في سلوكه كمَحبوبها الذي تُصِرُّ على حُبِّه، فكل منهما ألْيَقُ بالآخر إذ هما يَعيشان من منطلقٍ واحد. وهو مُنطق اللَّا أخلاقية أو الوُجودية.(106/4)
44 ـ القسَم بالطّلاق:
شعرتُ بأن الشَّغّالة التي عندي لها تأثير سيِّئ على تحصيل أولادي لدروسهم وقرَّرت إرسالها إلى أهلها، واختلفتْ زوجتي معي مدَّعية أَنَّ تعسُّر الأولاد في الدراسة سببه عدم شِدّتي معهم. فصمَّمْتُ على رأيي. وأقسمتُ بالطّلاق أن لا تعودَ فما رأيكم؟
إنّ النطق بالطّلاق هو تعبير عن العَزم النفسي المُبَيَّت على فُرقة الزوج لزوجته، والطلاق بذلك إنهاء لعقد الزوجية، وعدد مرّاته الثلاث هي مراحل لاختبار العلاقة الزوجية في مدى صلاحيتها للبقاء، رغم التوتُّر في النفوس وتكرار الأزمات. فعندما يقول الله ـ تعالى ـ : (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (البقرة 229). فإنّه يعطي فرصة بعد أخرى لمراجعة أحوال هذه العلاقة، وكشْف مدى ثباتها واهتزازها عند الأحداث.. وهي أحداث الخِلافات والنزاعات التي تنشأ عن المفارَقة في الطبائع. وهي مفارَقة قائمة.
ولكن قد يتغلب عليها بالحِكمة والفَهم الواقعيّ لحياة الإنسان أو بالمراجعة المُستمرّة للوضع الثنائي بين الطّبيعتين وما يتطلّبه من مُرونة وتعاون، بدلاً من التشدُّد والمحافظة على استقلال الذات، وعندما يقول ـ سبحانه ـ في بَقِيّة مراحل الطلاق: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة 229). يُوضِّح، كما أن المرحلة الأخيرة هي فرصة للمراجعة، فرصةٌ كذلك لإنهاء عقد الزوجية؛ لأن الأمر يصل بهذه المراحل الثلاث إلى نقطة قد يبدو فيها للطرفينِ أن التفرِّقة هي السبيل الضروري ولكنه البغيض لكل منهما.
وبذلك يكون الطلاق إجراءً يتَّخذه الزوج للوصول إلى هذه الفرقة، وهو عمل إراديٌّ بحْتٌ، ليس فيه للإكراه، أو الانفعال أو الغفْلة مكان ومن أجل ذلك لا يقع طلاق المُكْرَه، أو السَّكران أو الغضبان.(107/1)
ومجال الطلاق مجال إنسانيٌّ، ولذا مع حِلِّه ومشروعيتِه فإنه أبغضُ الحلال عند الله، ومعنى كون مجاله مجالاً إنسانيًّا أنه مجالُ جِدٍّ، وليس مجالُ عَبَثٍ ولَهْوٍ، وتهديد أي لا ينبغي أن يكون الطلاق عُرضة للحلف به، ولا وسيلة للتهديد عن طريقه.. ولحمْل الآخرين على قَبول أمر ما.
والسائل في سؤاله هنا في قَسَمه بالطلاق إمّا أن يكون قسمه به تعبيرًا عن غَضبه مِن جدَل زوجته معه، وإمّا أن يكون حملاً لها على قَبول رأيه مِن ترحيل الشَّغّالة إلى أهلها وفي كلا الأمرينِ لا مَضمون له يتصل بمعنى الطّلاق الحقيقي وهو التعبير عن الفُرقة المُبَيَّتة أو المُنْتوَية.
وقد يكون القصد مِن القسَم به هنا وضْع حَدٍّ للنقاش فيما كان بينه وبين زوجته في شئون الأولاد، وتفريغ الحياة اليومية بينهما مما يُكدِّرها لفترة أخرى من الوقت، ومع إنسانية هذا الهدف فلا ينبغي مع ذلك استخدام الطلاق في غير مَوْضعه.
والمُثَقّف ـ والمؤمِن كذلك ـ هو الذي يحتفظ للطلاق بحُرمته في الجديَّة، وبصوته عن أن يكون طريقًا لحمل الآخرين على قَبول أمر ما يُراد قَبوله، والمنطق هو الوسيلة الصحيحة والطبيعية للإقناع والاقتناع.
وقسَم السائل ـ إذن ـ بالطّلاق هنا ليس له موضوع، ولذا لا يَحمل أكثرَ من أنّه أداةُ إكراهٍ مُقنع.. ولا تقع به فُرقة في الزوجية، إن عادت الشَّغّالة إلى منزل الشغل.(107/2)
116ـ مُساندة الزوجة لزوجها عند الحاجة
مُسرَّح مِن القوات المسلحة ـ بإحدى المحافظات ـ يبلغ من العمر الرابعة والثلاثين تزوَّج منذ سبع سنواتٍ، وهو يعمل بالقوات المسلحة، وحضر حرب أكتوبر 1973 وبعد أن انتهت الحرب سُرِّح مِن الجيش والْتحق بعملٍ مدنيٍّ منذ عام: 1975، ولكنه فقَد بصره نهائيًّا بسبب مرضٍ أصابه، وقبل أن يفقد بصره كان منظره مَقبولاً.
... وأُحيل إلى المعاش بعد أن فقَدَ بصره، وطلَب مِن زوجته أن يعودَا معًا إلى القرية، فعادَا وسكنَا سوِيًّا في منزل الزوجة، ورغم، منزل أسرته هناك لا يَنْقصه شيءٌ عن منازل المدينة، وله مِن زوجته طفلانِ: ولدٌ.. وبنت.
... ويشكو مِن مُعاملتها بعد كُفَّ بصرُه، فاستولت على مُدخرات وتبلغ سِتمائة جنيه مصري، واشترت بنصف المبلغ حليًا لها، وتحتفظ بالنصف الباقي لديها، وأصبحت تَسير على هواها، كما يقول.
ولمَّا طلب منها أن تَنتقل إلى منزل أسرته، لم تذهب معه وتركتْه يذهب وحده رغم أنه محتاج إليها كزوجة تُدير أموره الخاصة، وتُساعده على أن يتحمل مأساتَه بقية حياته، ويسأل عن رأي الدين والقانون.
لك الله أيها السائل: عرَّضْتَ نفسك للموت في ميدان الحرب من أجل وطنك.. وأُصِبْتَ بفَقد البصر إِثْرَ مرضٍ انتابك بسبب ظروف هذه الحرب.. وتقعد اليوم وحيدًا في غُرفتك، ومَعزولاً عن الناس تُناجي نفسك: أين هي حبيبتك.. أين هي زوجتك وأم أولادك.. أين هي التي كانت تأخذني بين ذراعيها عندما كنت أعود في إجازةٍ قصيرة من القوات المسلحة؟.. أين هي.. أين هي؟.(قُتِلَ الإنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ). (عبس: 17).. أيْ قُتل الإنسان. ما أكثره جُحودًا بالنعمة، فهو يَطغى أن رآه استغني. إن طبيعة الإنسان تَميل إلى نُكران النعمة أكثر من الاعْتراف بها، إلا إذا صدق إيمانها بالله، فهي تفعل الخير وتسعي إليه.(108/1)
... أيْ شيءٍ ينقص الزوج السائل الآن؟ إنه لم يزل رجلاً في سنِّ الشباب، ولكن فقط أصابه الحُزن، بعد أن فقَدَ البصر، إن له معاشًا يُساوي أجر العمل الذي كان يُؤديه ويُنفق منه على نفسه، وزوجته، وأولاده، وإذَن زوجته ليست في حاجة لأنْ تعمل حتى تُطعمه وتُطعم أولاده، وحتى تُجهد نفسها فوق طاقتها: في خدمته وخدمة أولاده.
... إنها تَتنكَّر له اليوم وتُشيح بوَجهها عنه، أَلِأَنَّهُ كُفَّ بصره؟ أليس فِقدانه لبصره بسببٍ كافٍ لأنْ تُقبل عليه، بدلاً مِن أن تُدير عنه ظهرها كإنسان؟. أليست مشاركته للشباب دفاعًا عن الوطن في حرب أكتوبر: 1973 بمُلزمة لها أمام الله، وأمام الناس، وأمام نفسها: برِعايته والاستمرار في الرعاية؟. قُتِل الإنسان ما أكفره، لمَّا يَقْضِ ما أمره، يجنح الإنسان طُغيانًا، ويترك أوامر الله فلا يُطيعها استخفافًا.
... ما الفرق بين الأمس.. واليوم في حياة هذا الشاب الذي أُصيب في سبيل وطنه وأُمته، وكان يُمكن أن يقضي عليه بالأمس؟. إنه ظل إنسانًا: في حديثه.. وفي مُعاشرته.. وفي معاملته لزوجته ولولَدَيْه.. إنه ظل ربَّ أسرةٍ.. وزوجًا.. وأبا لولديه: يُنفق كما كان.. ويَحرص على أسرته كما كان.
... أي شيء يُغيِّر الزوجة في موقفها من زوجها؟ فتَسير في حياتها كما تهوَى! وتَستولي على مُدخراته فتتصرَّف فيها تصرُّفًا أنانِيًّا لمصلحتها الخاصة وحدها؟. كُفَّ بصرُه فأصبح دَمِيمًا لا يرى؟.. كُفَّ بصره فأصبح عاجزًا عن معاشرة زوجته؟. كُفَّ بصره فأصبح غير قادرٍ على الإنفاق عليها؟.. كُفَّ بصره فأصبح عديم الاعتبار كإنسان؟.(108/2)
لك الله أيها الشاب السائل. إسلام المسلمين اليوم أصبح انتسابًا للإسلام، وليس إيمانًا به، إن اليوم جاهليةٌ في مجتمعاتنا الإسلامية، لا يعرف الأخ أخاه وأخته، وإنما يعرف ذاته فقط.. ولا تَعرف الزوجة زوجها، وإنما تعرف مصلحتها وهواها عنده. فإنِ افتقدتِ اليومَ ما كان لدَيه بالأمس تركتْه يسلك سبيل حال نفسه.. ولا يعرف الولدُ والديه إلا إذا كان يأخذ منهما، دون أن يُعطيهما شيئًا. ...
وحلُّ مشكلتك ليس بأمرٍ.. ولا بنَهْيٍ، وليس بقانون.. ولا عُرف، وإنما بقليل من الإنسانية، فهل تُراجع زوجتك نفسها، وتُحسُّ لحظةً ما: بمعنى "الوفاء" لمَا كان بينكما.. وبالمَحبة لولَدَيها على رعايتك أكثر ممَّا مضى.. وتُخفف عنك ألَمَ النفس وحزنها لمَا أصابك؟. إنها إنْ فعلت ذلك تكون قد استجابت لمَا يقضي به الله في معاملة الناس بعضهم لبعض. فمسئولية الزوجة في أهل الزوج وأسرته: هي مسئولية في الدرجة الأولى نحو الزوج نفسه: نحو حُقوقه في المعاشرة.. وفي تدبير أمره.. وفي التخفيف عليه في كَرْبه، وفي مرضه، وفي حُزنه.
لا يقبل إنسانٌ ما ـ كزوجة السائل هنا ـ أن يُقال عنها يومًا ما: إنها لم تُطق زوجها في الحياة معها، بعد أن فقدَ بصره، إنَّ ظروفها في الحياة ستَتغير.. وإنها ستصل إلى الشيخوخة في السنِّ يومًا ما.. وإنها ستَعجز عن أداء بعض الأعمال لنفسها فتذكر الله مِن الآن برعاية زوجها في حاضره، لعلَّ الله يُذكِّرها وهي عاجزة ويُهيِّئ لها مَن يُعنيها.(108/3)
... يجب على زوجة السائل أن تُحسَّ بالفَخار..؛ لأنها زوجة مُقاتل وضَع حياته في ميدان القتال مِن أجْل أمته وسلامتها، ولا تحسُّ بالضعة؛ لأنها زوجة كفيفٍ، كما قد يُقال لها، فأيُّ إنسان لا يَسلم مِن قدَر الله! وما هو مقدور للإنسان لا بدَّ أن يَلقاه. إنَّ زوجة السائل لو وقَع لها ما وقع لزوجها وأعرض عنها هذا الزوج، لسَعت إلى قبْرها بيدها.. ولقَضى عليها تفكيرها في عدم وفاء زوجها لها.. أطيعي الله فيما أمرَ به يَجْزِكِ خير جزاءٍ في دنياك وأخرتك.(108/4)
24ـ الطلاق حلٌّ أخيرٌ لمشكلة أزْمَنَتْ
تقول إحدى السيدات: إنها مُتَزوِّجة منذ عشرين عامًا ولها مِن زوجها ولدٌ وبنت، يتجاوز عمرُهما السابعة عشرة. وقد طلَّقها زوجها مرتينِ رسميًّا، وراجعها إلى عِصْمته في غَيْبةٍ منها، وهو يُدمِن على شُرْب الخمر.. ومُعاشَرة النساء مُعاشرة غير شرعية.. ويُصاحب أصدقاء السُّوء. ومرة استضافَ شابًّا أجنبيًّا عن أسرته في بيته يبلغ من العمر ثمانيةً وعشرين عامًا، وعندما طالت ضِيافته في المنزل وأخذ يَعبث بالضيافة في الانحراف في السلوك نحو الزوجة وابنتها أنْذرته الزوجة بالرحيل إلى مكان آخر. لكن عندما اشتكى الشاب المُستغل للضِّيافة إلى الزوج: ما جاء على لسان زوجته. عاد الزوج إلى المنزل في شدة الغضَب. وسألها عمَّا وقع ولم تُنكر شيئًا منه. وعندئذٍ قال لها أمام ولديه: أنت طالقة. وكانت هذه الطلقة الثالثة. ...
وبعد ذلك عاش في الأسرة؛ لأزمةِ المساكن مُنفصلاً عن زوجته لمدة أسبوع، ثم رأت منه أنه يُصلِّي جميع الأوقات. واقترض منها مبلغًا من المال وحجَّ به إلى بيت الله وأصبح إنسانًا آخر مُهذَّبًا. واعتذر لها عمَّا مضى. وذكر لها: أنه في الطلقة الثالثة كان مُنفعلاً وشديد الغضب وإنه لم يقصد الفُرْقة إطلاقًا، وإنما قصَد التهديد فحسب. والآن تريد السائلة أن تعرف الرأي: هل تُعتبَر بائنةً بهذه الطلقة الثالثة بحيث لا تحلُّ له إلا بمُحلل، تحت ضغط الانفعال والغضب الشديد؟
خمر تَعوَّد زوج السائلة على شُربها.
نساء سعَى الزوج إليهن تحت تأثير الخمر، ليُعاشرهن، معاشرةً آثمة وغير شرعية.. أصدقاء سوء أخذ يلتقي بهم ويجتمع معهم.(109/1)
شاب أجنبيٌّ عن زوجته وابنته التي تبلغ السابعة عشرة مِن عمرها يُدخله الزوج بيته لسبب ما في نفسه، وعندما يُحاول العبَث والإفساد لزوجته وبنته معًا، وعندما تَصُدُّه الزوجة يشتد غضب الزوج على زوجته ويُطلقها الطلقة الثالثة والأخيرة، وبذلك يهدم الأسرة، أو يصل إلى هدْمها بالفعل؛ لأنه ابتدأ في هدمها منذ أن تعوَّد الخوَر. فشُرب الخمر في سؤال السائلة جرَّ إلى الزنا.. وإلى مُعاشرة أصدقاء السوء.. وإلى إقْحام الفساد على أهل بيْته.. ثم أخيرًا إلى خراب الأسرة. ومع ذلك لا تكاد ترى فِيلمًا من الأفلام التي تُعرَض على الشباب يَخلو من "البَار".. ومن الكأس... ومن المُقارَعة به بين شابَّاتٍ وشُبَّان، ومع ذلك عندما يُقال: إن شرب الخمر إثْمٌ حرَّمه الله في الإسلام في قوله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ "أي قذارة" مِن عَمَلِ الشيطانِ فاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفلحونَ. إنَّمَا يُرِيدُ الشيطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوةَ والبَغضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصلاةِ فهَلْ أنتمْ مُنْتَهُونَ). (المائدة:90ـ 91) .. عندما يُقال ذلك يكون الجواب: هذا كلام واعظٍ! .. هذا كلام رجعيٌّ! الأوضاع الاجتماعية قد تغيَّرت، والعالَم قد تطور.. وما يُشبه ذلك. ...
هل تغيُّر الأوضاع الاجتماعية يُخرج الخمر عن خصائصها في أنها تُوقع العداوة والبغضاء؟ هذا زوج السائلة ماذا فعل به إدمانه على الخمر؟ ألم يُفسد العلاقة بين الزوج وزوجته؟ ألم يُؤثِّر على تفكُّك أُسرته؟ ألم يَحمله على المُعاشرة الأثيمة للنساء التي تَنطوي على أخطار وشُرور؟ ألم يَحمله على أن يكون أصدقاؤه من قُرناء السوء؟ ألم يَحمله على اللِّواط بشابٍّ أو لِواط الشاب به، أتى به إلى أهل بيته مُستضيفًا إيَّاهُ. ...
وهل كوْن العالَم يتطوَّر عِلْمِيًّا أو صناعيًّا يستلزم(109/2)
أن يكون شُرب الخمر حلالاً مع ما لها من الآثار المُدمِّرة للإنسان الذي يشرب.. وللإنسان الذي يُعاشره.. وللإنسان الذي في رعايته.. وللإنسان الذي يُصادقه؟ ولو أن الخمر خرجت عن خصائصها المُفسدة والضارة لكان من المقبول: أن يُقال: إن تحريمها قد انتهى فهي لم تعُد كما كانت، على نحو ما تَؤُول إليه في الآخرة، كما جاء في قوله ـ تعالى ـ: (مَثَلُ الجَنَّةِ التِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أنْهَارٌ مِن ماءٍ غيرِ آسِنٍ وأنْهَارٌ مِن لَبَنٍ لم يَتغيَّرْ طعْمُهُ وأنهارٌ مِن خمْرٍ لذَّةٍ للشَّارِبِينَ وأنهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفَّى ولهمْ فيها مِن كلِّ الثَّمَرَاتِ). (محمد: 15). ولكننا لم نَزل بعدُ في الدنيا، ولم ننتقل إلى جنَّة الآخرة.
وما تُريد السائلة معرفته عن رأى الفقهاء في الطلقة الثالثة وقْت الغضب الشديد:
فأولًا: السبب في الطلاق ليس هو إيقاع اللفظ وإنما إيقاعه مِن قاصد يُعْتَدُّ بقصده وزوج السائلة0 يقول ـ كما تروي ـ إنه لم يقصد الطلاق، وإنما قصد به التهديد. والإمام أحمد بن حنبل، والإمام مالك بن أنس يقولانِ بأن اللفظ الصريح في الطلاق يحتاج إلى النِّيَّة. أيْ نِيَّة الفُرْقَةِ وليس لنا أن نُنكر علي الزوج القصد هنا.(109/3)
وثانيًا: هل الغضبان في شدة انفعاله مُستكمل لقواه العقلية؟ فيكون طلاقه طلاقَ عاقلٍ. والعقل شرط لصحة الطلاق، وإلا وقَع طلاق المجنون، إن المنفعل في شدة غضبه يقلُّ وعْيه وتقلُّ يَقظتُه. وفي رأيي: أن شدة الغضب والانفعال النفسي تُخرج الإنسان عن حدِّ الاعتدال والاستقامة.. أي تُخرجه عن الاتزان وترجيح الرأي السليم. والمُطلِّق الذي يقع طلاقه لا يخرج لفظًا من فَمِه هو لفظ طلاق وإنما يُعبر بلفظ الطلاق الذي يخرجه عن نِيَّةِ الفرقة وإرادة فصْل العلاقة بينه وبين زوجته. وهذا ما لم يَتوفر عند زوج السائلة. والمؤمن في الإسلام: لقوله بالنسبة لنفسه، أفضليته على رأي القاضي أو المفتي، فدِينه مُقدَّم على القضاء.
ثالثًا: إذا تذكرت السائلة أن هذا الطلاق الثالث نطَق به زوجها وهي في حال حيضٍ فلا يقع. إذ هو طلاق بِدْعِي أو هو حرام. وعلى أية حالٍ.. يُرجَى أن يَستفيد الزوج من تجربته مستقبلاً فيُعنَى بزوجته ويُنمِّي علاقته الطيبة المُهذبة بهم جميعًا، كما يُرجَى من الولد والبنت أن يَستخلصا التوجيه السليم في حياتهما المديدة. من تجربة الوالد مع والدتهما.(109/4)
53 ـ زوج دأب على تعذيب زوجته وهي لا تحتمل الآن
إني متزوِّجة منذ خمسة عشر عامًا، وأنا أرعى حقوق الله وحقوق زوجي، أنجبت منه ولدينِ: أحدهما في التاسعة، والآخر في السادسة، ومشكلتي أن زوجي منذ أن تزوّجتُ لا يكفُّ عن ضربي وتعذيبي وقد طفَح الكَيْل، وليس في استطاعتي الصبر والعيش معه فهل عليَّ ذنب لو طلبتُ الطلاق منه؟ وهل يُؤثِّر طلاقي منه على الولدينِ؟
يرى الإسلام أنّ هدف الزوجية بين الذكورة والأنوثة هو في إيجاد ترابط قائم على الاطمئنان والمودة في المعاشرة بينهما وكذلك على الرحمة من القويِّ للضعيف منهما، ولم يكن التعذيب ولا الضرب غايةً لحظة من اللحظات في نظر القرآن إلى اقتران الرجل بالمرأة فيقول ـ تعالى ـ في تحديد هدف الزوجية في سورة الروم: (ومِنْ آيَاتِه "أي من دلائل وحدة الألوهية" أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنوا إِلَيْهَا "أي تطمئنوا إليها" وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ) (الروم 21).
ثم إذا أنجب الرجل من زوجته أولادًا، وَجَبَ على الرجل آنئذٍ أن يُضاعف من رعايته لزوجته، وأن يتغاضى على الأخصِّ عن الهفوات الصغيرات التي قد تُباشِرها الزوجة بدون قصْد في أداء واجباتها في الحياة الزوجية؛ إذْ في مضاعفة الرعاية للزوجة عندئذٍ حِرْصٌ على تنشئة الأولاد تنشئةً بعيدة عن الاضطراب والقلق. وفي جوٍّ يسوده الهدوء والمَحَبّة في العلاقات، وتبادل الرأي في التوجيه والبعد بالأولاد عن جو القلق والإثارات والكراهية هو خير ما يُقدِّمه الوالد إلى أولاده في تربيتهم.
فالأكل الكثير قد يُتخِمهم.. والملبس الوفير قد يرفِّههم.. والحيطة الشديدة وفرضها على حركاتهم قد تدفع بهم إلى العزلة وإلى الضعف في جانب ما في حياتهم.(110/1)
وفي الوقت نفسه هذه الرعاية المُضاعفة للزوجة تُساعدها مساعدة نفسية قوية على أداء واجباتها نحو الأولاد، ونحو الزوج، ونحو الأسرة كلها. والأمومة ـ وقد فُرِضَتْ على المرأة بحُكم طبيعتها ـ ليس من السهل مُباشرتها وأداؤها، فهي مهمة شاقّة من الوجهة النفسية والمادية، والأم في حاجةٍ قطْعًا إلى معاونة مِن زوجها على الأخصِّ في الجانب النفسي قبل غيره كي تُؤدي دورها في الأمومة.
كيف تنقل الأم عاطفة الحنان إلى وَلدها أو تُبادل معه هذه العاطفة عند إرضاعه مِن ثَدييها وهي مُرهَقةٌ نفسيًّا، ومُعذَّبة بَدنيًّا من أقرب إنسان لها في الحياة وهو زوجها الذي وقف على كل أسرارها وأصبح يَحتقرها ويُعاملها كأنها حيوان يُدفَع بضَجيج الصوت أو بإلْهاب السياط؟
كيف تُسرِّي الأم عن أولادها بقِصة لعب فيها الخيال البَنّاء دورًا واضحًا فتجمع تفكيرها، وهي مُشتّتة الذهن، تعيش لحظاتها في خوف مما يأتي به زوجها عند قُدومه إلى المنزل من ألوان المكروه والأذى النفسي على الأقل؟ إن القرآن جعل للزوجة إنْ تضرَّرت بالعِشرة الزوجية حق الخُلْع والافتداء فترفع أمرها إلى القاضي مُعلِنة تنازلَها عن الصداق كتعبير عن عدم الرغبة في مُعاشرته، وهذا الحق لها كحقِّ الرجل في الطلاق. فإن ثبت الضَّرَر من جانب الزوج ولم يُطلِّقها بناء على أمر القاضي له، طلَّق عنه القاضي طلقةً تَبين بها بَيْنونة صُغرى لا يَحِلُّ لها أن ترجع إلى زوجها إلا بعَقد جديد ومهر جديد يقول تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِمَا حُدودَ اللهِ "أي الزوجان.. وهي الحقوق والواجبات المتكافئة في الحياة الزوجية" فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). "أي الزوجة من مالها" (البقرة 229)...(110/2)
أما تضرُّر الأولاد بالطلاق فإنه لا يَقِلُّ عن تضرُّرهم بالمُعاشرة الإنسانية التي يرَوْن فيها أمَّهم تُضرَب وتُعذّب وتُؤذَّى كل يوم من أبيهم، بل ربّما ما يعود على تنشئتهم مِن ضَرر في حال المُعاشرة السيئة أعمقُ بكثير مما يعود عليم مِن طلاق أمِّهم وفراق أبيهم لها.(110/3)
56 ـ ثبَت بالتحاليل الطِّبِّيَّة عدم صلاحية زوجي للإنجاب. يُضاف إلى هذا سُوء عِشرتِه، وسوء سلوكه. والمعروف أن ثَمرةَ الزواج الإنجاب. فهل يجوز لي أن أطلبَ الطلاق؟
إن مسألة إنجاب الأولاد، أو عدم إنجابهم.. تتعلّق بقُدْرة الله، وبعلمه: (للهِ مُلْكُ السَّمواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِناثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكورَ. أَوْ يُزوِّجُهُمْ ذُكْرانًا وإِناثًا ويَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَليمٌ قَدِيرٌ) (الشورى: 49 ـ 50). وإذا كانت هذه المسألة تتعلق بقدرة الله وبعلمه.. فلا ينبغي أن تكون سبَبًا للزوجة، أو للزوج: في طلَب الطّلاق، وفَصْم عُرى الزوجيّة بينهما.
وإذا آمَنَ الإنسان بأن الأولاد، أو العُقْم هو من الله.. فيجب أن يَطْمَئِنَّ إلى الوَضْع الذي يعيش فيه. وتغييرُه رَهْنٌ بمشيئة الله وحده.
أمَّا سوء العِشْرة ـ أو سُوء السلوك ـ فهو سبَب رئيسي يُعطي الزوجة الحَقَّ في طلب الطلاق. فعقد الزوجية في الإسلام ليس عقد بيع وشراء تُباع فيه المرأة، ويشتريها الرَّجُل عن طريقه بل هو عقد مُمَاثَلَة: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بالمَعروفِ) (البقرة: 228). أي للنساء في عقد الزواج حقوق مماثلة لحقوق الرجال. وأخَصُّ هذه الحقوق العشرة الإنسانية الكريمة: (فَإمْساكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْريحٌ بِإِحْسانٍ).. أي إما أن تكون معاشرة الأزواج لأزواجهِنَّ ـ عندما يبقُون عليهم في عقد الزواج ـ معاشرة إنسانيّة مهذّبة يقرُّها العُرف الإنساني والاجتماعي.. أولاً بديلاً عن الطلاق.(111/1)
و"الدرجة" التي تسندها الآيةُ إلى الرِّجال في قولها: (وللرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرجةٌ) (البقرة: 228). ليست درجة السيادة.. ولا درجة الامتياز. وإلا كان عقد الزواج عقدًا غير متكافئ ولا متماثلاً. وعدم التكافؤ ـ أو عدم المماثلة ـ يُبطل أي عقد في الإسلام. ولكنَّ المراد بالدرجة درجة الإنسانية في المعاملة.. درجة التفوق والتهذيب في حُسْن العشرة. ومعنى أن يكون للرجال درجة على النساء.. أن الحقوق بين الاثنين إذا كانت مُماثِلَة.. فيُنتَظَر من الرجل مع ذلك أن يكون أسخى في معاملَتِه.. أن يكون مُحسِنًا.. أن لا يكون حرفيًّا.. وإنَّما يُعطي لها أكثر ممّا يأخذ منها.
وسموُّ الإسلام في شئون الأسرة يتجلى: في عقد الزواج.. وفي الطلاق معًا. وتتجلَّى إنسانيته في جعل الطلاق بيد الرجل.. والخُلع بيد المرأة. فلا تُكرَه امرأة مطلقًا على سوء العشرة في العلاقة الزوجية.. كما لا يُكرَهُ رجل على سوء العشرة في هذه العلاقة. وإذا امتنع الرجل الطلاق فللمرأة أن تخلَع نفسَها بالتنازل عن المهر كلِّه.. أو بعضه. فقد جاء في آية الطلاق: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْريحٌ بِإِحْسانٍ).. هذا حقُّ الرَّجُل، ثم قالت: (ولَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُموهُنَّ شَيْئًا إِلاّ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229). فمنعت الأزواج من أن تستردَّ من المهور شيئًا، إلا في حاله واحدة فقط. وهى تضرُّر الزوجة بسوء العشرة الزوجية، وعرضها رد بعض المهر لزوجِها. في هذه الحالة يجوز له أن يقبل، وتُفدِي هي نفسها بذلك وينفسخ العقد بحكم القاضي؛ لأن استمرار الحياة الزوجية، مع سوء العشرة، فيه انتهاك لكرامة الإنسان، واعتداء على ما أراده الله في حياته من تكريم.(111/2)
50 ـ عدم إنجاب الأولاد، وأثره على العلاقة الزوجية:
هل يُبيح عدم إنجاب الأولاد من الزوج أن تَخرج الزَّوجة من طاعة زوجها وتطلُب الطلاق؟
هدف الزوجية، أو هدف الازدواج في الخلْق بين الذكورة والأنوثة في عالم الإنسان ـ أمران:
الأمر الأول: وهو خاصٌّ بنوع الإنسان لا يُشارِكه فيه عالَم الحيوان ولا عالم النبات: قيام الروابط الإنسانية من السُّكْنَى.. والاطمئنان.. والمودّة.. والرحمة.. في العلاقات بين الزوجين.
ومِن أجل تحقيق السُّكْنى والاطمئنان بين الزوجين كان التعاون فيما بينهما ومن أجل بقاء التعاون كانت المودّة من الجانبين، وكانت الرحمة من جانب القويّ للضعيف منهما: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21 ).
وبسبب قيام الروابط الإنسانية بين الزوجين كهدف لخلق الزوجية كان المجتمع خاصًّا بالإنسان دون غيره، ممّا ينمو ويكثر عن طريق الازدواج في خلقه كالنبات والحيوان... وكانت الأسرة نواة هذا المجتمع.
وإذا لم تُراعَ هذه الروابط في قيام المجتمع.. وإذا لم تجد الأسرة الرعاية كنواة له ـ افتقَدَت الزوجية بين الذكورة والأنوثة في نوع الإنسان خاصَّتَها الأولى، ونزل الإنسان عندئذٍ إلى مستوى الحيوان والنبات في الكثرة العدَديّة وحدها دون النوعية.
والأمر الثاني: كهدف للازدواج أو الزوجية بين الذكورة والأنوثة في خلق الإنسان هو التكثُّر والازدياد في الخلق، كمًّا وعددًا.(111/3)
وفي هذا التكثُّر في الكَمِّ والعدَد كفاية من الازدواج بين الذكورة والأنوثة يُشارك الحيوانُ والنباتُ الإنسانَ فيه. يقول تعالى في شأن هذه الغاية في الإنسان والحيوان: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ). أي يُكثِّركم ويَزيد من عددكم (الشورى 11) .
ويقول ـ تعالى ـ في خلق النبات: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِْن نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى) (طه 53، 54).
فإنجاب الأولاد من الزوجية بين الرجل والمرأة ينتمي إلى الهدف الثاني من خلق الإنسان ذَكَرًا أو أُنثى، أَمّا الهدف الأول من الزوجية الذي يُبرِز تميُّز النوع الإنساني عن الحيوان والنبات فهو تحقيق الروابط الإنسانية من السُّكْنى، والمودة، والرحمة بين الزوجين.. هي التعاون.. والتَّحابُّ .. والتوادُّ.. والتراحُم بين القوي والضعيف منها.
والزوجة التي تسعى إلى الخروج عن طاعة زوجها وتدعوه إلى طلاقها بسبب عدم انجابِ الأولاد، تضع الأهمية الأولى في العلاقة الزوجية على كمِّ الأسرة وعدَدها دون أن تضعها على إنسانية الروابط بين الزوجين.
بينما القرآن يرى أن ميزة الإنسان عن الحيوان والنبات في مخلوقات الله هي في الروابط الإنسانية وحدَها. أما الكمُّ والعدد فمُشترَك بين الجميع.
على أنَّ إنجاب الأولاد إذا امتنَّ به الله على الإنسان في قوله ـ تعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل 72).(111/4)
فقد ربط ما يمتَنُّ به على الإنسان بمشيئته وعلمه بمكان الخير ـ سبحانه وتعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى 49 ، 50).
ومِن هنا لا أرى صحة ما تتّجه إليه الزوجة الآن من النَّشاز وطلب الطلاق بسبب عدم إنجاب الأولاد إلاّ إذا كان هذا السبب سِتارًا للقصور لدَى الزواج فلا تشعُر معه الزوجة بالسُّكْنى والمودّة، وعندئذٍ يدفعها إلى القلق وإلى النشاز وطلب الطلاق وعلى الزوج أن يختبر الآن وضعه معها: فإمّا بعد ذلك إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان.
112ـ إنجاب الأولاد
سيدة حائرة من إحدى المحافظات، تقول: إنها متزوجة منذ ثماني سنوات، وهي لا تُنجب أولادًا.. وشديدة الرغبة في الإنجاب؛ لأنها تَحنُّ إلى الأمومة وتربية الأولاد تربية إسلامية سليمة. ... ولكن عدم الإنجاب يَرجع إلى زوجها، وبعض الأطباء يُؤكدون أنه لا يُنجب.. والبعض الآخر يَضع أمامه الأملَ في الإنْجاب إذا عالَج نفسه وهو يرفض الذهاب إلى الأطباء.
والآن تسأل إزاء رغبتها المُلِّحة في إنجاب الأولاد:
هل تطلب الانفصال عن زوجها؟ وعندئذ تكون قد أساءت إليه أو ظلمتْه إذا انفصلت عنه؟. وربما يُعاقبها الله بالزواج من رجل غير صالح.. أو بإنجاب أولاد غير صالحينَ أيضًا؟.
ماذا تفعل؟ فهي في حَيْرة شديدةٍ وتفكير مستمر لا ينقطع.
ماذا يكون مَواقفها مِن زوجها لو أن عدم الإنجاب يرجع إليها وحْدها؟ هل كانت تُوافقه على أن يَنفصل عنها بتَطليقها ليتزوج غيرها.. أو على أن يتزوَّج واحدة أخرى عليها مع بقائها هي على ذِمته، ليُنجب منها الأولاد؟.(111/5)
... أيُّ إحساسٍ نفسيٍّ داخليٍّ يتكون لدَيها إنْ هي سمعت أنه يفكر أو شرع في أو يتزوج أخرى غيرها لغاية الإنجاب. أهو إحساس الأسَف على الفُرقة المقترحة؟ أو الإحساس لتمنِّي: أنه كان باستطاعتِها أن تُنجب نفسها الأولاد حتى تُحقِّق رغبة الزوج.. وحتى تستمر العلاقة بينهما.
... هذا الإحساس النفسي الذي قُدِّر أن يُراودها لو كان سبب عدم الإنجاب يعود إليها، هو نفس إحساس الزوج الآن، فكان يتمنَّى أن يُسعد زوجته بالأولاد، وأن لا يكون السبب في عدم الإنجاب يعود إليه أو إليهما معًا ولكنه المانع الطبيعي، كما يقول بعض الأطباء، وقد يزول في فترة لاحقة، وعلى أية حال: ذاك قدَر الله، فكتابه هو القائل: (للهِ مُلْكُ السماواتِ والأرضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإِنَاثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا إنَّه عليمٌ قَديرٌ). (الشورى:49 ـ 50).. فهو ـ سبحانه ـ المالك للسماوات والأرض.. وهو الخالق لما يشاء ولما يريده في محيط الإنسان، فقد يَهب لمَن يشاء الأزواج: بناتًا فقط.. وقد يهب لهم ذكورًا فقط.. وقد يهب لهم ذكورًا وإناثا، وقد لا يهبهم من النسل لا ذكَرًا، ولا أنثى، وإنما يتركهم في حياتهم بدون إنجاب أولاد، وهو ـ سبحانه ـ يَعلم الخير فيما يريده ويشاؤه، وهو كذلك قادر على كل شيء، فإذا ترك ـ سبحانه ـ أزواجًا بدون إنجاب أصلاً، أو إذا أعطاهم الذكر دون الأنثى أو العكس، أو أعطاهم الذكر والأنثى معًا، فذلك عن إرادةٍ تامة حُرَّة.. وعن قُدرة واستطاعة كاملة في تحديد النوع الذي يَهَبُه.(111/6)
... وقدر الله لا يُعارَض. وإنما يجب التسليم به، والإيمان بأنه يَنطوي على خير الإنسان فعْلاً، فربما هذا الزوج للسائلة الذي حَكَم عليه بعض الأطباء بالعُقم، وحكَم عليه البعض الآخر: بأنه هناك بَصيص من الأمل في إنجابه.. ربما لو أنجب هذا الزوج بعد العلاج كما يَفترض: يأتي الولد شاذًّا في تكوينه.. أو مَريضًا.. أو ضعيفًا، يجعل والديهِ أسرَى طُولَ حياتهما: لشُذوذه، أو مَرضه، أو ضعفه، وكيف تكون حياتهما عندئذ؟ هل يَستمتعانِ بها كأسرة؟.. هل يستمتعانِ بالولد؟ أم أن الولد عندئذٍ يكون مصدر المتاعب لهما التي لا تنتهي؟.. وربما طاقتهما المالية لا تكفي للمتابعة في الإنفاق على صحته.
... ولِمَ لا يجوز أن يأتي هذا الولد مُتخلفًا في طاقاته العقلية.. أو ذا مُيولٍ إجرامية لسببٍ عضويٍّ أو وراثيٍّ.. أعندئذٍ تَسعد الزوجة به؟ وتستطيع أن تُنشئه تنشئةً إسلامية؟
واقع الأمر في علْم الله، وقدرُ الله خيرٌ قطْعًا لو كَشَفَ الإنسانُ المَقْدور، واطَّلع عليه، والإيمان بالقدَر خيْرِه وشَرِّه على السواءِ: واجبٌ.. والتسليم به خير طريقٍ لراحة النفس ودفْع الهموم والأحزان عنها.
على أنه هنا شيء آخر وراء قضاء الله وقدَره.. والتسليم والإيمان به، هنا العلاقة الزوجية، ووفاء كل مِن الزوجينِ للآخر.
... لا يَنْبغي إطلاقًا أن تكون العلاقة الزوجية على حرْفٍ، أيْ: لا يَنْبغي إذا نقَص شيء في هذه العلاقة يومًا ما، أو إذا لم يُؤَدَّ كما كان: أن تَنْفِر الزوجة، أو يَنْفِر الزوج تَوًّا من هذه العلاقة، فمَثلاً ممَّا يَرد إلينا من رسائل:
( أ ) زوْج تَتَغيَّر مُعامَلَتُهُ لزوجته، إلى أقلِّ أو إلى أرْدءَ، عندما فقدت بصرها بعد ثلاثينَ عامًا كزوجة، وأم أولاده، ومدبرة لمنزل الزوجية، وتضطر إلى الانتقال إلى مسكن والدَيها في رعايتهما، بعد هذه المدة الطويلة.(111/7)
(ب) زوجة تَتَنَكَّرُ لزوجها الشاب الذي كان مُقاتلاً بالأمْس، والذي كان العزيز الأول.. والمَحبوب الأول لها. ولم يَتَجَاوز الرابعة والثلاثين بعد أن فاجَأهُ مرضٌ بسبب حرب أكتوبر: 1973 ثم أفْقده بَصره، وهو لم يَزَلْ في رُجولته وقوة شبابه.. ولم يَزَلْ مُحتفظًا بالقُدرة على الإنفاق على الأسرة مِن معاشه.
(ج) زوجة تَتْرُكُ منزل الزوجية وأولادها مِن الزوج؛ لأن الزوج أقْعَدَهُ مرضه مؤقتًا عن مُعاشرتها فهي تَسْتَغِيث بأهلها، وهكذا.
والوفاء في العلاقة الزوجية، وبالأخصِّ بعد مضيِّ سنتينِ على هذه العلاقة، وبعد إطَّلاع كل من الزوجينِ على أسرار الآخر وما له من خُصُوصِيَّاتٍ أمْرٌ يجب على الزوج وعلى الزوجة أن يَضَعاهُ دائمًا مَشْعلاً يَهتديانِ به، عندما تَطرأ أزمةٌ أو شدَّةٌ بينهما، ويجب أن يَعلمَا أيضًا: أن المتعة المادية في الحياة الزوجية ليستْ كلَّ شيء، بل قبْلها تُوجد المتعة النفسيَّة وهي المتعة الإنسانية؛ أي المتعة التي يحسُّ فيها الزوج، وتحسُّ الزوجة بأن كُلًّا منهما قدم للآخر خدمةً إنسانية، لا تُقدر بمال: فبقاء القويِّ بجانب الضعيف خدمةٌ إنسانية.. ومُساندة العاجز خدمة إنسانية.. وتفريج كُربة المهموم خدمة إنسانية.. وتقوية رُوح المهزوم خدمة إنسانية.. والحدب في الرعاية على مَأْزُوم في بداية أزمته خدمة إنسانية.. وهكذا.
... الإسلام لم يجعل هدف الزوجية الاستمتاع المادي وحده، وإنجاب الأولاد منها، وإنما جعل قبل ذلك: الاطمئنان.. والمودة.. والرحمة بين الزوجينِ.. وهي كلها معاني إنسانية تُرشح مَن يُباشرها إلى المستوى الفاضل في الإنسان..
... (وَمنْ آيَاتِهِ أن خَلَقَ لَكُمْ مِن أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بيْنكمْ مَودَّةً ورَحْمةً). (الروم: 21)..فإذا لم تُحقِّق الزوجية هذا الهدَف تظلُّ عندئذٍ في دائرة اجتماع الحيوان بالحيوانِ.(111/8)
60 ـ زوج يشكو مِن ضرْب زوجته لأمِّه
حدث نزاع بين أمي وزوجتي وتعدَّت زوجتي على أمي بالضرب وأحدثت بها إصابات، ولمَّا حضرتُ وعلِمت حلَفتُ بالطلاق بأنها لا تكون لي زوجة. وقد سبق لي مثل هذا معها، ولي منها خمسة أولاد، فما الرأي؟
الحلف على أن زوجته لا تكون له زوجة مستقبلاً إن هي باشرت الفعل الذي أغضبَه هو طلاق مشروط بشرط وفي الوقت نفسه تهديد للزوجة.
والطلاق المشروط لا يقع والطلاق للتهديد لا يقع كذلك؛ لأن شرط وقوع الطلاق أن يكون ناشئًا عن نِيَّةِ الفرقة بين المُطلِّق وزوجته، وليست هنا نيَّة قائمة على الفِراق؛ إذ الطلاق تعبير لا غير عن هذه الفرقة المُنتواة.
يُضاف إلى ذلك أن الزوج هنا حلَف وهو في حال غضب ووقوع الطلاق ـ كما سبق ـ مشروط بالإرادة والمشيئة، والغضبان يَطغى انفعاله على إرادته ومَشيئته.
على أن السؤال هنا يُصرِّح بأن الزوجة قد تعدَّت بالضرب على أم الزوج مما سبَّب لها إصاباتٍ فهل الزوجة عند تعدِّيها فقدتْ كُلَّ اعتبار لحماتها ولزوجها؟ أو أن الزوج ضعيف الشخصية في نظر زوجته ونظر أمّه على السواء؟ وأيّة واحدة منهما لا تُعير موقفه أيّة أهمية، وبقيت بينهما بعد ذلك قُوّة العضلات وسلاطة اللسان عند النزاع واللَّجاجة في الجدل والخصومة؟
أغلب الظنِّ أن الزوج ضعيف الشخصية وضعف شخصيته هو الذي وضع زوجته أمام أمِّه وجهًا لوجه وكل منهما تريده وتحرِص على أن يكون لها وحدها؛ ولذا مجال الخصومة بينهما أوسع مما لو كان الزوج ذا شخصية قوِيّة يُمكنه بها أن يحدِّد لكُلِّ منهما دائرته التي يتحرَّك فيها، وبذلك يكبتُ التناقض بينهما على الأقل.
والرأي أن القدَر هو الذي سيفصل في هذه المشكلة إذ أغلب الظن أن الصراع بينهما سيستمر والضحية فيها هو السائل نفسه وأولاده الخمسة؛ إذ سيظل الجميع في شقاق الزوجة وأمِّه وفي شقاء وعدم استقرار في الحياة الأسرية.(112/1)
117ـ حضر عندنا "شيخ" يحمل أوراقًا وكُتُبًا. قال: إنّه يعرف حساب النَّجم، فقلت له: احسب نجم زوجتي. فحسَبَ، وقال: إنها عتبَة نحس، وبُرجُها زُحل، وتجلب الفقر، والمرض لمَن يأكلون معها، وكان أبى جالسًا يسمع هذا القول، فدبَّ النَّكَد، والخلاف بسبب هذا الرجل. وانتهى الأمر بالطلاق، وتشرَّد الأولاد. فما الرأي؟
إن مقاومة الشرك والوثنية المادية التي جاء بها الوحي المكِّي في القرآن الكريم هي القضاء على الخُرافة في صُوَرها المختلفة.. وفي الوقت نفسه هداية إلى طريق الواقع الصحيح.
والإسلام برسالة القرآن يُريد للمسلم أن لا يُشرِك غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ في علم الغيب.. يُريد له أن يَبتَعِد عن الزَّلَل في سَيْره في الحياة.. وعن الخطأ في التفكير والاعتقاد.. وعن الاعوجاج في السلوك ومعاملة الناس.
ومن الخرافات التي يقاوِمها الإسلام الاعتقاد في علم النجوم وما يتقوَّله المنجِّمون، اعتمادًا على مواقعها كأن يُدَّعَى أنَّ نجم كذا يجيء بالأمطار.. ونجم كذا يأتي بالرِّياح.. ونجم كذا يأتي بالقحط وارتفاع الأسعار.. ونجم كذا يأتي بالوباء.. ونجم كذا يأتي بالحروب.. ونجم كذا يُسعد.. ونجم يُشقي مَن اقترن مولده بموقع معيَّن من مواقعه، وهكذا..(113/1)
وفي هذا يُروَى عن الرسول ـ عليه السلام ـ: "مَن اقتبس علمًا من النجوم اقتبس علمًا من السحر". والسحر مذموم ومنهِيٌّ عنه. فالاعتماد في معرفة الغيب على غير ما لله ـ وما لله هو ما جاء في كتابه ـ يُعتَبَر شركًا في الاعتقاد. والشرك يُبغِضه الإسلام؛ لأنَّه يوصِّل إلى المزالِق في الحياة.. ويُقَيِّد الإنسان في حركاته وتصرُّفاته بما لا ينفع وقد يضرُّ في واقع الأمر. وهو يُرِيد للإنسان أن يكون طريقه في الحياة مفتوحًا يتعرَّف على الوجود والواقع بتجاربه، وإدراكه.. ويَتعامَل مع غيره في ظل هداية الله لا يعتدي، ولا يظلم.. ويَجِدُّ في السعي ولا يَتَوَاكَل.. وينشُد التخلُّق بأخلاق الله وصفاته في عبادته إياه. والله هو العليم.. والحكيم.. والغنيُّ.. والقادر.. والمُبدِع.. والخالق.. إلى آخر ما له من صفات.
وهذا الشيخ الذي يحمل أوراقًا وكتبًا ـ كما جاء في سؤال السائل ـ هو محترِف بعلم الغيب.. ويدعو إلى الشرك بالله. والاحتراف بالاعتقاد هو أخطر شيءٍ على الإنسان، وعلى إنسانيته.. وهو بلاء يُصيب الكثيرين في قسوة وفي غير رحمة. وقد أُصيب به السائل عندما طلَّق زوجته، إذ اعتقد أنَّها مصدر نحس لمَن تُعاشره كما أنبأه المنجِّم. ولا شيء يُقلِق الإنسان أكثر من أن يرى أسرته تفكَّكت، فأُبعدت زوجتُه.. وشرِّدَ أولاده.. وتبدَّد نشاطه.. وكثُرت همومه وأحزانه.
وكسب هذا الشيخ من حديثه عن النجوم ومواقعها وآثارها في سعادة الإنسان وشقائه ليس كسبًا حرامًا فقط، وإنما هو مُضاعِف الحُرمة لكثرة ما ترتَّب عليه من ضرَر لغير واحد.
أمَّا الرأي فالسائل يجِب أن يرجع إلى الله ويتوب إليه، ويسأله أن يغفر له ما ارتكبه من اعتقاد في باطل.. ويُراجع زوجته إن كانت ما تزال في عِدّتها.. أو يعقِد عليها إن كانت بانت بينونة صغرى. والله يُلهمه الصواب، بقَدر ما يُخلص له في التوبة.(113/2)
114 ـ تزوَّجت ابنة عمِّي ولم أُنجب منها. وقد حدث خلاف أصرَّ والدي ووالدتي أن أطلِّق زوجتي، بحُجة أنَّ أهلها عمِلوا لي عملاً لأُعزَل بها وأتركهما ـ أي الوالدين ـ مع أنَّ هذا لم يحدث. ورفضتُ، وغضِب أبي منِّي، ثم رضخْتُ للأمر بعد ذلك، وطلَّقتها وتزوجت بأخرى. وأنا الآن غير مستريح، وحزين. ولا أستطيع الحياة مع غير زوجتي الأولى. فعرَضْتُ على أبي وأمي لأردَّها فرفضا. فما الرأي؟
الأمر في هذا السؤال لا يعود إلى الإسلام فيما يُحِلُّه.. أو يحرِّمه في العقد ثانيةً، على الزوجة المطلَّقة طلاقًا بائنًا بينونة صغرى. وهى تلك المطلَّقة التي افتدت بالتنازُل عن مهرها أو جزء منه وطلِّقت واحدة.. أو تلك الأخرى التي طلِّقت طلاقًا رجعيًّا ثم انتهت عِدّتها دون أن يراجِعَها زوجُها.
فللمُسلم أن يتزوَّج واحدة.. فأكثر.. إلى أربع، إن كان في مقدوره العدل بينهن في الإنفاق، وفي المعاشرة. وإلا وقف الإذن بالزواج له عند حدِّ الواحدة. وذلك هو منطوق الآية في قول الله تعالى: (وإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى "وهنَّ بنات الشُّهداء في الغزوات والحروب" فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَواحِدةٌ) (النساء: 3).
والأمر كذلك ليس أمر الإسلام في عواطف الرجل وتقلُّبها بين الحب والكراهية. فحبُّ الإنسان.. وكراهيته لإنسان آخر ترتبط بظروف وعوامل لا دخل للتشريع الإيماني في إيجادها. وإنَّما هي عوامل البيئة.. وعوامل الوفاق أو النُّفرة بين الأشخاص. وهي تعود أكثر إلى اللاشعوريّة في الإنسان. قبل أن تخضع لمنطقه ومُجريات الأحداث في حياته.(114/1)
والأمر ـ أيضًا ـ ليس أمر الإسلام ـ بعد أن بانت للناس هدايته ـ أن يَبقى فريق من الناس على الاعتقاد في الخُرافة: في العفاريت، وما يُمكن لها أن تأتي به مما يقيِّد الإنسان في حركته.. ويملي عليه صورة كئيبة لحياتِه، أو لعَلاقته بالآخرين.
وإنما هو أمر التربية وتكوين العادات. فالسائل هنا أسعفه النمو البدني إلى البلوغ الجنسي فتزوَّج. ولكن لم تُسعفه التربية فيبلغ رشده النفسي والعقلي.. ويستطيع لذلك أن يفصل في مشاكله، بروح مستوحاة من مصلحة ذاته.. ومنهج السبيل المستقيم في الحياة. وهو سبيل الهداية الإسلامية.
ولو أنه بلغ رشده العقلي لأدرك الحِزْبِيّة البَغيضة الهَوْجاء في مشورة والديه عليه بأن يطلِّق زوجته؛ لأنَّها ابنة عمِّه فقط. إذ الطلاق في الإسلام لرفع الضَّرر في الحياة الزوجية.. أي في الحياة الخاصة والقاصرة على الزوجين وحدهما. وعندما يقول القرآن الكريم: (فَإِمساكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسريحٌ بِإِحْسانٍ) (البقرة: 229).. لا يقوله إلا ليؤكِّد تصفية الحياة الزوجية الإنسانية من شوائب الأضرار والبغضاء والخلافات. وهذا الوضع لم يكن قائمًا يوم أن طلَّق السائل زوجته التي هي ابنة عمِّه.
ولو أن والدَي الزوج أطاعا الله فيما يقوله: (يَا أيُّها الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولاَ تَجَسَّسُوا ولاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات: 12) لَوفَّرا على نفسيهما عصيان الله فيما أشارا به على ولدهما بطلاق ابنة عمِّه من غير ضرَر في علاقتهما به.. ولوفَّرا كذلك على ولدهما الحَيْرَة والقلقَ في حياته الزوجية.. ولأعْطَيا الدليلَ أخيرًا على أن القُرْبى لها حقٌّ وحرمة، يجب أن تُصانَ عن الزَّجِّ بها في الخلافات.. والخلافات الآثِمة.(114/2)
67ـ ترى حركةُ تحرير المرأة في الوقت الحاضر تقييد الطلاق، ما هي أهدافه في الإسلام؟
مُساوقة الطبيعة البشرية في الطلاق:
يقول الله ـ تعالى ـ: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ) (سورة البقرة: 229).
إن عقد الزواج إذ يقوم على الرِّضا والموافقة من جانبي الزوجة والزوج، لا يضمن استمرار رضاهما وموافقتهما طَوال حياتهما، وبالتالي لا يضمن عدم وقوع الضَّرَر في العشرة الزوجية بينهما. فهما ـ قبل كل شيء ـ شخصان وليسا شخصًا واحدًا، هما وحدتان بشريّتان مستقِلّتان، وليسا مركًّبًا من جزأين، يمثِّل كل جزء واحدًا منهما.
وإذا كانا شخصين مستقِلَّين، فإن استقلالهما يعود إلى فروق في طبيعتيهما قد تضيق هذه الفروق، وقد تتضاءل إلى حدٍّ كبير، وهنا يكون الانسجام بين الزوجين، ويكون الوئام في حياتهما الزوجية. ولكن قد تتسع هذه الفروق، وتُحدِث الفَجْوَات ثم الاهتزازات في الرباط الذي بينهما، وهو رِباط الزوجية، وإذا تَعَرَّض رباط الزوجية إلى فَجْوَات في التجانُس وإلى اهتزاز وتخلخل فيه، فإنه لا يعود صالحًا لجمع كل منهما مع الآخر، وتصبح الحياة الزوجية حياة متنافِرة، فيها الشَّدُّ والتراخي، وفيها القطيعة والوصل، ثم تصبح غير قابلة للتغاضي والتراخي، وغير قابلة للوصل إطلاقًا.
وقد أُضفيت على العلاقة الزوجية في بعض الحضارات غير الإسلامية هالةٌ من القداسة، تكريمًا للأسرة، ومَنْعًا لها من التفكُّك وتشريد الأولاد. ثم بناءً على ذلك نظر إلى عقد الزواج على أنّه عقد غير قابل للانفصال النهائيّ، وأنَّه لذلك إذا تأزَّمَت الحياة الزوجية بين الزوجين فإنهما يُعطِيَان فرصة أخرى يَنفصِل فيها كل عن الآخر انفصالاً مؤقَّتًا لمدة من الزمن قد تقصُر وقد تَطُول، وقد تمتد إلى آخر حياة واحد منهما. والموت عندئذٍ هو المُفَرِّق بينهما، وليست الإرادة البشرية.(115/1)
ولكن الحياة البشرية لا تحتمل أزمة من الأزمات القاسية مشدودة ومستمرة إلى نهايتها. ثم من جانب آخر لا تحتمل الطبيعة البشرية للزوجة، ولا كذلك الطبيعية البشرية للزوج إذا انفصلت إحداهما عن الأخرى انفصالاً مؤقًّتًا أن تكون وفيَّةً للصلة الزوجية فيما بينهما، فلا تشتهي المرأة الرجل، ولا يشتهي الرجل المرأة ولا يسعى كل منهما للآخر، تحت تأثير عقد الزواج القائم فقط نظريًّا بينهما. وتصبح هالة القَداسة التي أُضفيت على عقد الزواج مدنَّسة، ببقاء الزوجية قائمة، رغم اشتداد الأزمة بين الزوجين، ورغم اشتداد النَّفْرة والقطيعة في الصلات النفسية بينهما.
وإبعادًا لازدواج الشخصية لدى الزوج ولدى الزوجة في حال الانفصال المؤقَّت بينهما في بعض الحضارات غير الإسلامية، وحلاًّ لأزمة سوء العلاقة بين الزوجين، ورفعًا لضَرر المعاشرة بينهما، وعَوْدًا لإعادة الحياة الإنسانية الطبيعية لكلٍّ منهما، وتمكينًا لهما من ابتداء حياة إنسانية موفَّقة من جديد.. كان الطلاق في الإسلام على نحو ما جاء في قول الله ـ تعالى ـ: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
والطلاق في الإسلام يُمَثِّل الإرادة البشريّة لدى الزوج عندما يتضرَّر بمعاشرة زوجته. وهناك الخُلْع من جانب الزوجة يُمَثِّل إرادتها البشرية في الفُرْقَة تضرُّرًا من معاشرة زوجها. والطلاق أو الخُلْع، بذلك يكون الحل لأزمة العلاقة الزوجية إن تضرَّر بها الاثنان أو واحد منهما.
وهكذا الطلاق يُساوِق الطبيعة الإنسانية وخصائصها. وهو لحلِّ أزمة وشدة، وليس للإرهاب أو التهديد، أو الابتزاز. ولأنه تتأثّر به الأسرة في روابطها كان عند الله أبغضَ الحلال. ومعنى ذلك أنه لا يُستخدم إلا إذا كان لا مفَرَّ لاستخدامه كحل لأزمة الحياة الزوجية.(115/2)
وقد رأى أصحاب الحضارة غير الإسلاميّة منذ زمن بعيد أن الطلاق هو الحلُّ الأخير لمشاكل الزوجية. وأن أكثر نُظُم الغرب تصلُّبًا في أبَدِيّة الزواج أخذ يسير الآن نحو الطلاق؛ لأنّه ظهر أنه المُتَّفِق مع الطبيعة البشرية، بعد تَجارِب المجتمعات الطويلة في حلِّ مشاكل الإنسان.
... ... ...
68 ـ لماذا كان الطلاق بيد الزوج ولم يكن باتفاق الزوجين؟
الطلاق بيد الزوج:
يقول الله ـ تعالى ـ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أنْ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ) (البقرة: 230).
المجتمعات الحضارية غير الإسلامية التي أخذت بمبدأ الطلاق كحلٍّ لأزمة الزوجية جعلته من اختصاص المحاكم، وجعلت من أسبابه سوءَ العِشرة في الحياة الزوجية، وخيانة أحد الزوجين للآخر بمباشرة المعاشرة الجنسية غير المشروعة مع طرف ثالث.
وهذه المجتمعات إذ أخذت بمبدأ الطلاق تقدَّمت خطواتٍ في النظرة إلى طبيعة الزواج كعَقد بين فردين يستحيل انصهار أحدهما في الآخر، مهما توثَّقت العلاقة بينهما. وهى إذ تجعله من اختصاص المحاكم تريد أن تحتفظ للتقاليد السابقة فيها على العمل بتشريع الطلاق: باعتبارها وقيمتها وأثرها على الحياة الإنسانية بين الأفراد فيها، ومن جهة أخرى مادامتْ قيَّدت الطلاق بأسباب معيّنة ومحدودة فالقضاء هو أسلم الاختصاصات في الفصل في أسباب طلب الطلاق والذي يتقدّم به أحد طرفي عقد الزواج أو كلاهما.(115/3)
ولكن المجتمع السويدي تقدَّم خطوة أخرى في تيسير أمر الطلاق، وجعل هذه السنةَ ـ سنة ألف وتسعمائة واثنتين وسبعين 1972ـ موعدًا لتنفيذ الطلاق بين الزوجين من غير الرجوع إلى المحاكم في حاله واحدة، وهى حالة ما إذا اتفق الطرفان: الزوج والزوجة، على الطلاق. وما عليهما إلا أن يذهبا إلى مكتب السِّجلِّ المدني ويوقِّعا فيه على اتفاقهما على الطلاق كما هو الشأن في حالة عقد الزواج.
وتوسيط المحاكم في الفصل في الطلاق لتقييم الأسباب التي قام عليها طلب الطلاق إن كان له جانب إيجابيٌّ، فله جانب سلبيٌّ آخر، وربما يطغى على الجانب الإيجابي له. وهذا الجانب السلبي هو نشر أسرار الأُسر، واتِّخاذ بعضها وسيلة للتهديد أو ابتزاز المال. هذا إلى ما قد ترتكبه الزوجة أو الزوج من جريمة الزِّنا قصدًا، وربما فيما يُشبه العلَن، كي تقدِّم السبب الفاصل في الخلاص من الزوجية.
والمجتمعات الغربية تعتبر المجتمع السويدي مجتمعًا تقدُّميًّا في الحضارة البشرية؛ لأنه أباح منذ هذا العام للزوجين المتفقين على الطلاق أن يسجِّلا اتفاقهما في مكتب السجل المدني، دون الحاجة إلى حكم قضائي فيه.
والمجتمع الإسلاميّ منذ قيامه بالمدينة بعد الهجرة ـ أي منذ ألف وثلاثمائة واثنين وتسعين عامًا ـ جعل الطلاق للرجل، ووَكَلَ إليه وحده تقدير الظروف وتقدير العوامل التي تحمله على مباشرة الطلاق، فقال: (فإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أنْ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ) (البقرة: 230).. فجعل الرجل هو المطلِّق وأعطاه فرصة لمراجعة زوجته، إن كانت في مراجعتها استقام للحياة الزوجية، وتجنّب أسباب الأزمة السابقة على الطلاق.(115/4)
وكما جعل للرجل حقّ الطلاق، جعل للمرأة بسبب سوء العشرة حق الخُلع. وذلك بأن تعرض الأمر على القضاء، بعد أن تتنازل عن الصداق ـ كلاًّ أو بعضًا ـ فيطلِّق القاضي عن الزوج إن لم يستجب هو للطلاق. وفي ذلك يقول الله ـ تعالى ـ: (ولاَ يَحِلُّ لَكُمْ "أيها الأزواج" أَنْ تَأْخُذوا مِمّا آتَيْتُموهُنَّ شَيْئًا إِلاّ أَنْ يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229).
وهكذا الإسلام في حسن تقديره للطبيعة البشرية جعل الطلاق كحل لأزمة الزوجية، ومن غير الرجوع إلى أجنبي عن الزواج. وبذلك تبقى أسرار الأسرة بين الزوجين فقط، كما يبقى عامل الطلاق في نفس الزوج وحده. وليس بالبعيد أن تتقدم هذه المجتمعات الحضارية غدًا فتطبِّق نظام الإسلام في الطلاق وفي الأسرة على العموم.(115/5)
29 ـ حقوق الزوجة التي لم يدخل بها زوجها:
يسأل مواطن بالقوات المسلحة عن حُكم الشرع في طلاق زوجة لم يدخل بها: أحلال أم حرام؟ بعد أن أوضحَ أن خلافًا في أسرتي الزوجين يحول دون أن يحقِّق الزواج هدفه مِن السُّكْنَى والمودّة والرحمة.
وهل من حق الزوجة الحصول على مؤخَّر الصّداق.. ونفقة المُتعة.. وهي نفقة عامٍ؟
الطلاق في الإسلام جعل أصلاً لحلِّ مشكلة التضرُّر في المُعاشرة الزوجية، سواء أكان هذا التضرُّر من جانب الزوجين معًا أو من جانب أحدهما ولذا فهو أمر مشروع: (وإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وكَانَ اللهُ واسِعًا حَكِيمًا) (النساء 130).
والسائل في شرحه الأسباب التي من أجلِها عزم على طلاق زوجته غير المدخول بها، لا يترقَّب إطلاقًا أن يكون هناك وِفاقٌ بينه وبين زوجته؛ لأنَّ أسباب الخصومة قائمة الآن فعْلاً بين أسرتيهما وهي خُصومة لا تُتيح الفرصة لعِشرة إنسانيّة كريمة.
والزوجة غير المدخول بها إذا طُلِّقت تستحق نصف المهر كله المقدَّم منه والمؤخَّر إلا إذا تنازَل الزوج عن حقِّه في النصف الآخر أو تنازل ولي أمرها فيُصبح المهر كله لمَن كان التنازل لصالِحه، ويقول كتاب الله في ذلك: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) (البقرة 237).
والمُطلَّقة غير المدخول بها لها عِدّة ولذا ليس لها أجر سَكَن، وليستْ لها كذلك نفقة على سبيل الوجوب وبعض المفسِّرين لقوله تعالى: (ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالمَعْروفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ) (البقرة 241) يرى أنه تُستحَبُّ النفقة لكل مطلَّقة سواء أكان مدخولاً بها أم لا، لعُموم اللفظ في الآية الكريمة.(116/1)
119ـ بين المال في ضياعه.. وتماسُك الأُسرة في بقائها:
كتبت سيدة مِن إحدى القرى تقول إنها متزوجة منذ زمن طويل، وتعيش مع زوجها الذي يعمل في المجلس المحلي بالقرية وإنها لم تُنجب أطفالاً، وحالتها المادية مَيْسورة. وقد ادَّخرت مبلغًا من المال وخصَّصتْه لأداء فريضة الحج، ولكن أولاد أُخت زوجها تَعَدَّوا عليه بالسرقة، وطلبت مُحاكمتهم أمام القضاء. والذي خيَّب أملها هو أن زوجها لم يَشترك معها في الدفاع عن مالها، ومُقاضاة أولاد أختِه بسبب اعتدائهم على مالها بالسرقة، وتَعتبر زوجها من أجل عدم مُشاركتها، قد أخلَّ كزوجٍ بواجباته الشرعيَّة، وهي تسأل بعد أن تَذكر أنها لا تستطيع العيش معه وتودُّ أن تَنفصل عنه: ما رأْي الدين في ذلك؟
زوج السائلة قطْعًا في حرَجٍ، لا يَستطيع أن يكون بجانب زوجته ضد أولاد أُخته، كما لا يستطيع أن يكون مع أولاد أُخته ضد زوجته. ...
فلو شارك زوجته في طلب عقوبة السرقة لأولاد أخته، لأغضب أُخته، وأولادها، ولنقلهم مِن أن يكونوا أعداءً له، ولزوجته معًا، وربما تكون عدواتهم عندئذ لزوجته عداوةً مريرةً، ولو تَغاضَى عن حادث السرقة ولم يُشجع زوجته على مُقاضاتهم، ولم يقف في صورة ما إلى جانبها لأعَدَّت موقفه إهمالاً منه لشئونها الخاصة، وعدم اكتراثٍ لمَا يُصيبها من أذًى، وبالأخصِّ على يدِ أقربائه. ...
والحِكْمة هي فيما سلَكه الزوج مِن موقفٍ شِبْهَ حياديٍّ.. وإنْ كان في نفسه ضد أولاد أخته، ويكون حكيمًا أكثر لو وَعَدَ زوجته بأن يُدبِّر لها المبلغ كله أو بعضه، ويَسدل بذلك سِتارًا على أمرٍ بغيضٍ بين أسرته وأقربائه، هل يفعل ذلك؟. إنَّ فِعْله يتوقف على إمكانياته المادية.
أما أن السائلة لا تُريد العيش مع زوجها، وتسأل عن الطلاق منه: هل هو حلال.. أم حرام؟ بسبب موقفه الذي تَعتبره سلبِيًّا بالنسبة لها: فليست الحياة الزوجية بهذا اليُسر في قبول التفكُّك.(117/1)
... إن الطلاق شُرِعَ في الإسلام لتجنُّب الضرر على أحدِ الزوجينِ أو كليهما معًا، فأيُّ ضررٍ أتى الآن ـ بسبب حادث السرقة ـ مِن الزوجة لزوجته؟ أيُّ ذنبٍ ارتكبه الزوج ضدَّ زوجته باعتداء أولاد أخته على مالها.؟ هل وِزْرُ هؤلاء واعتداؤهم يكون وِزْرًا واعتداء من الزوج عليها.. أو يكون هو صاحب المسئولية؟ إن قرابة الزوج للمُعتدين مِن أولاد أخته، لا تنقل إليه الجريمة.. ولا المسئولية عنها.. ولا اللوْم والعتاب عليها.
... ربما كان يُمكن ـ وكان يُنتظر ـ أن تكون هذه القرابة وِقايةً مِن اعتداء أولاد أخته على مال زوجته. كان يُمكن أن تكون مانعًا وليست بسببٍ مُوجِبٍ للسرقة منها.. ولكن هل كان في إمكان الزوج أن يَجعل مِن أقربائه "حُماةً" لحُرمات أسرته في المَسكن.. وفي المال.. وفي العِرْض.. وفي النفس؟
... إن مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة مُجتمعاتٌ كادت تخلو من القيَم الإسلامية، قلَّما يَعرف الأفراد في هذه المجتمعات: أن للمالِ حُرْمة تحول دون الاعتداء عليه.. وأن للعِرْض حُرمة تمنع الاقتراب منه..بالضرر وبالأذَى، في أية صورة ما.. وأن للنفس حرمة تدعو للمحافظة عليها وصيانتها وإبعاد كل إيذاء لها، إن الأسلوب الماديَّ للتربية المُعاصرة: يُفرِّق ولا يجمع.. لا يُنشد التماسُك بين الأفراد، وإنما يُؤكد الفُرْقة بينها.
... في الأسرة كل عضوٍ مِن أعضائها يَسعى لنفسه، وقلَّما يُشرك في مسعاه الخاص: "مَنفعةَ أخٍ أو أخت له، ربما يَتبادل الأعضاء في الأسرة: المَنفعة بينهم، ولكن لا يُقدمها لغير ذاته، واحد منهم، وهنا زوج السائلة غير مَلوم، وغير مُذنب، وغير مَصدر ضرَرٍ لزوجته حتى تُفكِّر في الطلاق تسعى إليه منه.(117/2)
وزوج السائلة يُعاتَب في شيء واحد فقط، هو أنه ربما قصَّر في توضيح مَوْقفه لزوجته من حادث السرقة، كان يجب أن يُوضح لها، أن لا سُلطان له على أولاد أخته.. وأن الاتِّهام لهم بالسرقة مِن غير دليلٍ قاطع لا ينبغي أن يُوجَّه منه إليهم؛ لأنه عندئذ سيكسب فقط عداوتهم، دون أن يُعاد إليه المال المسروق.
... لو أن زوج السائلة ترَُك زوجته وحدها تقاضي من أجل سرقة مالها، أُناسًا أجانب عنها وعن زوجها، لكان مَلُومًا.. ولكان إهماله خيْبةَ أملٍ لها، كما تقول.
... ولعل السائلة، يُمكن أن تفهم الآن وضْع زوجها بينها وبين أقاربها فتهدأ نفسها وتعود إلى علاقتها الوثيقة به، كما كان الأمر مِن قبلُ، والله يُعوضها خيرًا عمَّا سُرِقَ منها مِن مال، ولكن لا ينبغي أن يكون المال المسروق سببًا في تطليقها مِن زَوجها، كما تُريد.(117/3)
36 ـ أم تدعو ابنها لتطليق زوجته، رغم حُبِّه لها
أحد المواطنين متزوِّج وله أربعة أولاد من زوجته، وتسكُن أمّه معه ومع زوجته والأم تُهدِّده بالخِصام والمُقاطَعة إلى يوم الدين إن لم يطلِّق زوجته؛ إذْ إنَّها لا تحبُّها رغم أنَّها بنت أخيها.
ويسأل الآن وهو في حَيرة مِن أمر نفسه أيُمسك على زوجته؛ لأنه يراها ذات صلاحية كما يراها طَيِّعة، أم يُسرِّحها ويُطلِّقها إرضاء لأمه؟
مثل هذا الزوج السائل كثير في حياتنا الشرقيّة ومُشكلته مُشكلة لا تنتهي ولا يعتقد أنَّها ستَختفي من حياتنا في القريب؛ لأنّنا نتوارثها جيلاً بعد جيل ولا نقف عندها قليلاً ونصل إلى حَلٍّ لها بعد تحليل عناصرها وتوضيح نظرة الإسلام إلى الزوجة والزوجية.. وإلى عَلاقة الولد بأمِّه أو بأبويه معًا هناك إذن نوعانِ من العلاقة ولكُلِّ نوع منهما مسئولية:
نوع العلاقة الزوجية:
ويحكم هذا النوع من العلاقة قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم 21)
فالآية هنا تجعل هدف الزوجية الذي يجب أن يسعى إليه كلٌّ من الزوجين: السُّكْنَى والاطمئنان بينهما ... والمودّة مِن جانب كل واحد للآخر.. والرحمة من القَوِيّ منهما للضعيف بينهما والزوجة لا تَقِلُّ مسئولية عن رعيّتِه، فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل ـ خادمه ـ راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه .. ألا فكلُّكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته". "كتاب التاج: ج3 بالإمارة والقضاء ص: 49".(118/1)
والنوع الآخر من العلاقة عَلاقة الوالد بوالدَيه وبأمِّه ويَحكم هذه العلاقةَ قولُه تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ) (لقمان 14 ، 15).
فالولد مطلوب منه هنا في هذه الدائرة مع الوالدينِ أن يُحسِن إليهما في المعاملة وفي القَوْل وفي المُعاشَرة ولكنَّ طاعتَه لهما محدودة لا تتجاوز الحلال إلى الحرام ولا تتجاوز المباح إلى المعصية، ومعنى ذلك أنّه لا يُطيع أمرهما إذا طلَبَا منه الشِّرْك بالله أو إذا كان يُخرجه عن سبيل مَن أناب إلى الله، والمُنيب إلى الله هو ذلك المؤمن به الذي يسلُك في حياته وفق أوامره ونواهيه.
وأم الزوج هنا إذا كانت تأمره بأن يُطلِّق زوجته، بينما هو يراها طيِّعة وذات أهلية للزوجية وتربية أولاده منها، فإنما تطلب منه أن يُخالف سبيل مَن أناب إلى الله تعالى...
وتطلب منه أن يتجاهل أهداف الزوجية ومسئوليته عن الزوجة: أن يتجاهل السُّكْنَى والاطمئنان والمودّة والرحمة بالزوجة؛ ولذا يُقال: إن طاعة الأبوين لا تُراعَى في ركوب كبيرة ولا تَرْك فريضةٍ على الأعيان، وتلزم طاعتُهما فقط في المُباحات فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله، كما صحَّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(118/2)
والطَّلاق لا ينبغي إلا لسبب شرعيٍّ وليس منه مجرَّد طلب الوالدين. فإنَّهما غالبًا يُكرهان الزوجة من غير شيء والحديث الذي يقول: "الجنةُ تحت أقدام الأمهات" يعني فقط تكريم الله ـ جَلَّ شأنه ـ للأم ولكن لا يعني إطلاقًا أنه يُحلُّ للأم أن تتجاوز الحدود، وتنتهك الحُرُمات، وتأمر بما يُغضب الله، وتُهدد وَلَدَها مِن وقت لآخر بما يَضعه أمام صعوبات في حياته ليس مِن السهل عليه اجتيازها كمُشكلة طلاق الزوجة هنا.
وحُكم الله هنا واضح وهو أن الزوج عليه واجب نحو زوجته أمام الله وليس أمام أُمِّه. والذي سيُحاسبه على مسئوليته هو المولى ـ جلَّ جلاله ـ وليست أمه. فالزوجة الصالحة الطيِّعة نعمة مِن الله، وشُكر الزوج على نعمة الله عليه هنا هو إمساكها والعمل على الإحسان إليها كزوجة وكأمٍّ وكراعية لبَيتِه.
وآنَ الأوان لأمِّه، وللوالدين، وللمُتسلِّطين على رقاب العباد أن يعلموا أن ما جاء في كتاب الله هو وحده هداية للناس جميعًا، وأنه السبيل السَّوِيّ لرضاء الله وأن الأنانية وحبَّ الذات وكراهية الآخرين في طريق الشيطان.
إن للأمِّ أن تلتزم الصَّمْتَ في شأن زوجة الابن وأن لا تتدخَّل إلا بالمعروف وإلا بما يُعيد العَلاقة بين الزوج وزوجته إلى الوضع الطبيعي. آنَ لها أن تَفهم أن مُعاملة ولدِها لها بالحُسنَى أمر مُقرّر شرعًا لا نُكرانَ له في شيء كما أن لها أن تعلم أن المستقبل للزوج وزوجته والأولاد منهما، وأنَّها هي ضيفة عليهما فقط ولذا يجب أن تعرف حدود الضِّيافة وأن تُمارِس النُّصْح لهما في هذه الحُدود.
إن الزوج وَلَدُها لا شكَّ في ذلك، ولكنّه أصبح زوجًا لغيرها، فلْتَسْلُك المسلك معه ومع زوجته الذي يجعلها تُحِسُّ بأنه انتقل إلى غير ذراعيها وأصبحت مسئوليته تتَّجه إلى إنسان آخر هو إنسان المستقبل في حياته.(118/3)
كفى للأمهات أنهنَّ مارَسْنَ الأنانيّة في سنِّ الطفولة لأبنائهنَّ، وفي سِنِّ المُراهقة فليترُكْنَ لهم الاختيار والحرية في صياغة أُسَرهم الجديدة بما يعود عليهم بالخير والمَصلحة. والله وليُّ التوفيق.(118/4)
86 ـ إنِّي متزوّج من ابنة عمِّي ويحدث بيننا بعض المشاكل البسيطة والخلافات العادية. وتَحضُر والدتُها لتأخذَها عندها، مع عدَم رغبة امرأتي في ذلك. ثم تنتهز فرصة غيابي وتأخذها، ويَزِيد الخلاف. فهل أطلِّق امرأتي من أجل تدَخُّل حماتي؟
الطلاق شُرِع في الإسلام لدفع الضَّرر عن أحد من الزوجين أو عن كليهما في المعاشرة الزوجيّة. وهو آخر حلِّ يلجأ إليه الزوج. وليست والدة الزوجة طرفًا في العلاقة الزوجية. بل هي أجنبية عن هذه العلاقة وإن كانت لها صلة رَحِم بابنتِها. وتطليق الزوجة بسبب المضايَقات التي تُسَبِّبها والدتها دون رضاء ابنتها يُعتَبَر اعتداءً عليها. وإذا كان الطلاق المشروع ـ وهو الطلاق لدفع الضرَر ـ أبغض الحلال إلى الله، فإنّه الآن أشد بغضًا وكراهية لله تعالى.
وأمر الطلاق ليس هَيِّنًا إلى حدٍّ أن يجعل حلاًّ لجميع المشاكل والمضايقات التي تعترض الزوج بسبب ما يتصل بعلاقته الزوجيّة. إنَّ فَصْم عُرى الزوجية وهدم كِيان الأسرة ليس السبيل إلى التخلُّص من تدخُّل الحماة بسبب حُمقها في التعبير عن عطفها وحنوها على ابنتها. فهدم كيان الأسرة أكبر بكثير وأعمق أثرًا في حياة اثنين، ارتبطا برِباط الله، وكشف كلٌّ منهما سرَّه للآخر وأملا في حياة سعيدة مشتركة ـ من حمق الحماة وسوء اختيارها ما تعبِّر به عن حبِّها لابنتها.
فمَن يلجأ هنا إلى الطلاق كحلٍّ لمشكلته هذه شأنه شأن ذلك "الدُّبّ" الذي قضى على حياة صديقِه بسبب مطاردته ذبابة تطفَّلت وألقت بنفسها على وجهه.(119/1)
والتعاون بين الزوجة والزوج هنا كفيل بوضع والدتها في الخط المستقيم في معاملتها لها. ويجب أن نعرف هنا في شرقنا الإسلامي: أن الترابط بين أفراد الأسرة الواحدة في قوته، وإن كان له أثر إيجابي في حياة هؤلاء الأفراد، إلا أنّه قد يكون له أثر سلبي كذلك، إذا فهمت العلاقة الأسريّة على غير وجهها الصحيح. فالأم لا تستطيع التفرقة في موقفها من ابنتها أو من ابنها قبل الزواج، وبعده.. لا تستطيع أن تعطي الفرصة لابنتها أو ابنها إذا دخل أيٌّ منهما في علاقة زوجية، للتجربة وحل المشاكل الطارئة في حياتهما الزوجية.
والحياة الزوجية من طبيعتها أن تنشأ فيها خلافات؛ لأن طبيعة الزوج وطبيعة الزوجة كفرد من أفراد الإنسان تختلف ـ قليلاً أو كثيرًا ـ عن طبيعة الآخر. على الأقل في التنشئة والعادات. ومن شأن هذا الاختلاف وُقوع احتكاك أو نزاع في الحياة الزوجية. ولكن هذا الاحتكاك أو هذا النزاع يجب أن لا يؤدِّي إلى الانفصال بينهما، مادام لم يكن عميقًا إلى درجة لا يُرجى معها الوئام يومًا من الأيام. وإلاّ فأي فرد من أفراد الإنسان لا يستطيع أن يعيش مع فرد آخر في المجتمع لحظة أو لحظات؛ لأنّه حتمًا توجد بين طبيعتيهما سبب أو أسباب للخلاف، بحكم الفروق الفردِيّة في الطبائع البشرية.
ليكن الصبر رائد الزوج هنا، ولتكن لباقته في معاملة حماته خير سبيل لإنهاء حَدَبها المتطرِّف على ابنتها، وليقدِّم لها من الاحترام ما يشعرُها بأنّه انضم إلى ابنتها في الحبّ لها، بدلاً من أن يشعرها بأنّه قد انتزعها من حياتها. إن الحماة ليست شرّيرة، ولكنّها فقط قد تُسيء التعبير عن عطفها الإنساني.
ولا تزعج زوجتك بكثرة الحديث عن سوء معاملة والدتها. فهي أمُّها على كل حال. وبذلك تكسب الاثنتين معًا.(119/2)
34ـ أم تسعى لتطليق ابنتها لعقم زوجها
والدة بإحدى المحافظات لبنت متزوجة تقول:
إن ابنتها متزوجة سنة ونصف، لم تنجب ولدًا، وسنُّها الآن أربع وعشرون سنة. وبمراجعة الطيب المختَص، وبعد عمل التحاليل اللازمة لكلٍّ من الزوجين اتضح للطبيب: أن الزوج مُصاب بالعقم. وعندما استقر رأي الطيب على هذا الرأي تفكِّر أم الزوجة في أخذ إقرار على الزوجة بمفارقته ابنتها إذا لم يوجد علاج لعقمه. وتسأل الأم الرأي في جواز ما تفكر فيه شرعًا؟
الزواج له هدفان في نظر القرآن:
الهدف الأول: النسل وإنجاب الأطفال؛ فالله سبحانه يمتنُّ على الإنسان بأن جعل من الطبيعة البشرية الواحدة: ذُكورة وأنوثة، وجعل من هذه المزاوجة بنين وحفَدة، إذ يقول تعالى:
(واللهُ جعلَ لكم من أنفُسِكم أزواجًا وجعلَ لكم من أزواجِكم بنينَ وحفَدةً) (النحل:72).
فالله هنا يتحدث عن نعمتَيْن أنعم بهما على الإنسان، وهما نعمة النسل واستمرار بقاء نوعه، ونعمة التمكُّن من هذا الاستمرار بخلْق فصيلة الأنوثة وفصيلة الذكورة من نفس الطبيعة الواحدة التي لها الخصائص الإنسانية. فالزوجية التي يعتمد عليها الجنس البشري في إنجاب الأولاد وكثرة النسل واستمراره.
وهي الزوجية في الطبيعة البشرية بين الذكورة والأنوثة منهما، وإذا قيل بعد ذلك: أن هناك زوجية أخرى بين طبيعة الإنس وطبيعة الجن، ويجوز أن تكون هناك اقتران بينهما، وبالتالي إنجاب ونسْل منهما، فهذا القول يحتاج إلى مُراجَعة، وعلى كل حالٍ لم يمتَنّ الله على الإنسان إلا بنوعية الذُّكورة والأنوثة من طبيعته هو الخاصّة دون الزوجية من طَبيعتينِ مختلفتين إنسانية وغير إنسانيّة.(120/1)
والهدف الثاني: من أهداف الزوجيّة في نظر القرآن: السُّكْنَى والاستقرار النفسيّ والمودّة، والرَّحمة بين الزوجين والهدف الأول وإن كان يحقِّق للزوجينِ ما يَلحق بهما وما يُعَدُّ استمرارًا لهما من بعدُ وهو الأطفال، فهذا الهدف الثاني يحقِّق ما يتصل بذَاتيهما.. ما يتصل باطمئنانهما وراحتهما مادِّيًّا ونفسيًّا، وما يُحقق بينهما المودة والتعاطف والمُساندة في أزمات الحياة والإنسان إذا توافَرت له هذه المعاني وابتعد عنه القلق والخوف يعيش في كنَف الله ورعايته، كما يعيش سعيدًا في دنياه.
وأم الزوجة ـ وهي السائلة هنا ـ التي تَقصر هدف الزوجية على إنجاب الأطفال وحده تتغاضى عن الهدف الثاني الذي جاء به القرآن والذي ربّما يُعتبرُ أهم هدفَيِ الزواج.
وبعد ذلك: لا بُدَّ أن نُدخِل "إرادة الله" فيما يقع في هذا الكون، فالله مالك السَّمواتِ والأرض ويقول القرآن في هذا الشأن: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). (الشورى 49 ، 50).
فقد لا يكون العُقْم مرَضًا ولكنَّ مشيئة الله تقضي لسبب من الأسباب بتأخير الإنجاب فترة تطول أو تقصُر، وجَعْل عدم الإنجاب شرطًا لمفارَقة الزوج زوجته تدخل في أمر يَخُصُّ الزوجة وزوجها وحدهما.
وغالبًا يكون الهدف مِن جانب الزوجة من الإنجاب هو الاحتفاظ بالزوج في علاقة زوجية والحيْلولة دون الطلاق منه، وربما يكون عدم إنجاب الزوج سببًا كذلك في احتفاظ الزوج بزوجته وحرصه على البقاء معها طالما توفِّر له الاطمئنان في الحياة والمودّة في المعاشَرة بينهما وإن لم يكن لهما ولد.(120/2)
أمّا من الوجهة الفقهية فجَعْلُ عُقم الزوج سببًا من أسباب فسخ عقد الزوجية غَريب عن الفقه الإسلامي، فالذي يُفرِّق بين الزوج وزوجته بعد الدخول بها إمّا طلاق الزَّوج لها وإمّا سبب آخر يُبطل مِن جانبها العَقد كعدم استطاعته على المُعاشَرة أو عدم قُدرتِه على الإنفاق عليها أو ظهور أنه غَرَّر بها وخدَعها ومعنى ذلك أن يبطُل العقد، أي يكون سببًا من جانبها لطلب إبطال العقد فإن رَضِيَتْ بَقِيَ العقد قائمًا.
والأَوْلَى بالسائلة ـ وهي الأمُّ هنا ـ أن تترك ابنتها وزوجها فترة أخرى ولا تُضيِّق عليهما بما يُعقِّد حياتهما والخير للإنسان فيما يختاره الله.(120/3)
20ـ الزوجة مُكلَّفة كالزوج بأداء العبادات وتركها أداء الصلاة كفيل بنَشازها
مواطن بإحدى المحافظات، يعرض قصةَ علاقته مع زوجته، ويستطلع الرأي فيها، فيقول:
تزوجتُ إنسانةً أظهرتْ لي أنها مُتدينة منذ أن تقدَّمت لخِطبتها. وقد سُررت بتديُّنها فعْلًا، وأحسَّتْ هي بهذا السرور في نفسي. وبعد الدخول بها بعدة أشهر اكتشفتُ أنها لا تُصلِّي، وعندئذ تَغيَّر كل شيء في مُعاملتي لها، فنَصحتُها، وضربْتُها، وهجرتُها في الفراش، وأخيرًا عرضتُ شأنها على حَكمينِ مِن أهلي وأهلها. وكل ذلك إنْ نقَل إليها غضبي فلم يُخفف مِن إصرارها على ترْك الصلاة. والآن أنجبتُ منها طفلاً. وأخشى أن أُنجب منها أطفالاً آخرين؛ لأن علاقتي بها غير مُستقرة. ولذلك طال هجْري لها.
( أ ) فهل للهجْر مدة محدودة؟
(ب) وما حكم الإسلام إذا تركتُها في البيت. وهي تاركة للصلاة؟
(ج) وهل إذا طلَّقتها أكونُ آثِمًا؟(121/1)
إن تديُّن الزوجة أمَارة من غير شكٍّ على صلاحيتها كزوجة، وكأُمٍّ مسئولة عن أهل الزوج، وكأمِينةٍ على نفسها، وعلى غَيْبة زوجها، وأداء الصلاة هو عنوان على هذا التديُّن، فهو يُطمئن الزوج، ويُحقق السكن والاستقرار له ولأسرته. ويُمكِّنه عندئذ من الانطلاق في نشاطه دون أن ينظر إلى الوراء، ويُجمده الشك في علاقة زوجته به. ...
والحديث الشريف الذي يُعلن مسئولية الرجل عن أهل بيته، يُضمِّن هذه المسئولية نُصْح الزوج لزوجته: أن تستمر في أداء العبادات وتُحافظ على الصلاة في أوقاتها. والقِوامة التي يأمر بها القرآن ليست فقط قوامة إنفاق عليها، وحماية لها، ورعاية لشئونها، وإنما أيضًا قيادة لها في أداء ما يجب عليها أداؤه مِن عبادات، بقدوته الحسنة، وبالحكمة في نُصحه إيَّاها. ...
وإصرار الزوج على أداء زوجته لعبادة الصلاة ـ كما يُصرح بذلك السائل هنا ـ هو أمر مُطالَب به أمام الله ـ سبحانه وتعالى ـ وله أن يُعتَبَر عدم أداء الزوجة للصلاة، بعد أمره إيَّاها بالأداء: نُشوزًا يُبيح له شرْعًا أن يسلُك سبيلاً من السُّبل التي تُعبر عن غضَبه منها وعدم رِضاه عن العلاقة القائمة بينهما. وفِعْلاً قد سلك السائل جميع السبُل المشروعة: مِن النُّصح، إلى الهجْر، إلى الضرب، إلى التحكيم. ولم يُفلح واحدٌ منها، ولم تُفلح كذلك جميعها في إثْناء الزوجة عن إصرارها على ترْك الصلاة.(121/2)
والسؤال الآن: هل إصرارها على ترك الصلاة يدلُّ منها على إنكارها لها وعدم إيمانها بأدائها؟ أم هذا الإصرار يعود إلى عنادٍ منها، وبالتالي إلى عدم رغْبتها في استمرار الحياة مع زوجها؟ ...
لا أظن أن زوجة السائل لا تُؤمن بالصلاة كعبادةٍ تتقرَّب بها إلى الله، وإنما إصرار على ترْكها للصلاة هو إصرار على عدم الاستجابة لمَطلب الزوج منها. فهي تُعاند الزوج دون أن تسعَى إلى غضب الله. بالاستمرار على ترك الصلاة. ...
وهنا يُمكن أن يُقال: إن الزوج لا يملأ فراغ النفس عند زوجته، ولذا لا تُطيعه فهناك شيء بينهما خابَ أملُها فيه. فقد كانت قبل الدخول به تَستجلب رضاه بإعلانها عن أداء الصلاة. وكان يُسَرُّ منها لذلك. فلمَّا دخلتْ به ودخل بها وانكشفت لها أسرار العلاقة بينهما لم تعُد تحرص على رِضاه. وهنا ظهر عدم رضاها في عِنادها في ترْكها للصلاة. والصلاة إذَن ليست مَقصودة لذاتها وإنما المقصود عدم استجابتها لتحقيق رغباته منها. إنها زوجة لم يمضِ على زواجها بالسائل هنا فترة طويلة، أي إنها لم تزلْ في فترة الذكريات. وهي فترة عزيزة الزوجة بوجه خاصٍّ. فكيف يتكرر نُصحه لها، ويَهجُرها في المُعاشرة إلى أجل غير قريب، ويَضربها وإنْ لم يكن ضربًا مُبرحًا، ولكنه أمرٌ يَنُمُّ عن غضَبِه منها، ثم يُحيل العلاقة بينهما إلى التحكيم ومع ذلك لا تَستجيب لطلبه منها: أداء الصلاة. إن الفجوة فيما يبدو في العلاقة بين الزوجين فجْوة واسعة، لا يُزيلها الهجر مهما طالت مُدته، ولا ترْكها في المنزل وشأنها تُؤدي الصلاة أو لا تُؤديها على سواء، وإنها فجوة الكراهية من جانب الزوجة، والأمر بينهما لا يحتمل سوى الفُرْقة. والفرقة آخر حلٍّ لدفْع الضرر عن المُتضرر من الزوجينِ. كما جاء في قول القرآن الكريم، بعد فشَل التحكيم والصلْح بينهما:
(وإنِ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِن سَعته وكانَ اللهُ واسعًا حَكيمًا). (النساء:130) وقبل الطلاق يجب أن(121/3)
يُراجع الزوج علاقته مع زوجته: أيُّ شيء في هذه العلاقة من جانبه يُغضب زوجته، ويجعلها تُصرُّ على عناده؟ أهو في سُلوكه معها؟ أهو في حديثه ولجاجته في الحديث؟ أهو يتعلَّق بنظافته؟ أهو في عاداته في الأكْل، والشرب والنوم؟، أهو في التعبير عن مَودَّته وحُبِّه لها؟ ...
فإنْ كان هناك ما لا ترضى عنه الزوجة فلْيُحاول أن يُغيِّره، فإن غيَّره ولم تَعُد الزوجة إلى العلاقة الطبيعية معه فالطلاق ضرورة لا مفرَّ منها. وعندئذ لا يكون مُتحملاً إثْمًا عندما يُطلقها.
وهجر الزوج لزوجته في المعاشرة ليس مؤقَّتًا بمدة معلومة. وإنما توْقيته فقط بموقف الزوجة نفسها: (فانْ أَطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عليهنَّ سَبِيلًا). (النساء:34)، فما جاء هنا في الآية الكريمة هو تعقيب على الوسائل الذي يَقترحها القرآن الكريم على الزوج عند خشْيته من نُشوزها. وقد جاءت هذه الوسائل في قول الله ـ تعالى: (واللائِى تَخافُونَ نُشوزهنَّ فعِظوهنَّ واهْجُروهنَّ في المَضاجعِ واضْرِبُوهنَّ) (النساء: 34)، ومعنى هذا التعقيب: أنه إذا عادت العلاقة بين الزوجين إلى طبيعتها فليست هناك حاجة إلى سلوك واحد من هذه السُّبل مع الزوجة، وإنما كل شيء في العلاقة يُرَدُّ إلى المَعروف بينهما.(121/4)
27 ـ خُرافة العرّافين:
ويسأل آخَر من القاهرة :
هل يُطلِّق زوجته الحالية بعد ستِّ سنوات من زواجها أم يحتفظ بها ويتزوَّج بأخرى تُشارِكُها الحياة الزوجية؟ لأنَّ زوجته الحالية تُلِحُّ عليه في عرْض أمره على العرّافين والدَّجّالين كي يعيش الأولاد الذين تُنجِبهم منه بعد أن أنجبتْ ثلاثةً تُوفُّوا جميعًا في الشهر العاشر من حياتِهم؟
إنّ الطلاق ـ في رأيِ الدِّين ـ لم يكن حلاًّ لإبعاد الخرافة عن الزوجة، وإنَّما كان ولم يزل الحَلُّ الضروريّ لسوء العشرة في الحياة الزوجيّة وتضرُّر الزوج أو الزوجة أو هما معًا بالاستمرار في هذه الحياة لعدم التوافُق أو عدم الانسجام بين الاثنين.
والرُّخْصة في الإسلام بالزوجة الثانية كذلك ليست عقوبةً للزوجة الأولى أو السابقة عليها، وإنَّما لضرورةٍ يراها الزوج حمايةً لدِينه أو لأسرته الحاضرة؛ ولذا فالعدل بين الزوجات في حال التعدُّد أساس لا بُدَّ منه لاستمرار الترخيص في الجمْع بينهنَّ: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدةً) (النساء: 3)
ومعنى ذلك أن الزوج مسئول أمام الله ـ قبل أن يكون مسئولاً أمام القضاء أو أمام نفسه ـ عن عدم وقوع ظلم على إحداهنّ كزوجة لها ما للأُخريات وعليها ما عليهنَّ.
وإنَّما سبيل إبعاد الخرافة وعدم وُقوع أي إنسان تحت تأثيرها هو الإقناع ففي هذا الوضع الذي يعيش فيه السائل مع زوجته يُمكن إقناعها بما يقرِّره دين الله من الإيمان بوحدته سبحانه في الألوهية؛ إذِ الإيمان بوحدة الله في الألوهية يمنع التصديق بما يقوله العرّافون والدَّجّالون والسَّحَرة والمُشعوذون وأمثالهم.
فالفعل في الكون عندئذٍ هو لله وحده وليس لموجود آخر عداه مهما اعتقد فيه الناس وما يقع للإنسان في حياته هو بإذن الله وحده لا شريك له.(122/1)
ولا ينسجم إطلاقًا أن تشهد أنه لا إله إلا الله ثُمَّ نستسلم لضلال الدَّجّالين في أية صورة من صور الدجل؛ لأن معنى الاستسلام لدَجَل هؤلاء هو أن نعتقد أن لهم في حياة الناس شأنًا ما إيجابًا أو سلْبًا.
بالإضافة إلى ذلك، كسبيل من سُبل الإقناع أنَّ وفاة الأولاد الثلاثة في الشهر العاشر لكلٍّ منهم ـ كما يتحدث السائل ـ يجوز أن يكون لعامل وراثيٍّ أو لسوء رعايتهم الصحِّيّة في اتباع التغذية والنظام الخاص بالأطفال في السنة الأولى من حياتهم.
وإذا تحدَّثنا عن الإقناع فذلك أبعد ما يكون عن المُشاحَنة والخُصومة في الجدل والتهديد بالطلاق أو بزواج امرأة أخرى عليها، عند الحديث معها في الموضوع وإنَّما طريق الإقناع هو كسْب ثِقة الطَّرَف الآخر قبل الدخول في توضيح الأمر ثُمَّ الاسترسال في هدوء في مراحل التوضيح.
وتكون بداية هذه المراحل بالمُسَلَّمات التي لا تُنكَر من الطرفين، ولنا في طريق القرآن خير شاهد، فمثلاً تبتدئ سورة الليل بقول الله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) (الليل 1 ـ 3).
فتذكر التقابُل بيْن الليل بعدما يُظلِم والنَّهار عندما يتكشَّف ويتَّضح، والتقابل كذلك بين الذُّكورة والأنوثة في خلْق الإنسان. وهذا التقابل لا يشكُّ فيه مجادِل أو مُحاوِر ومن أيِّ طرف فهو من المسلمات قطعًا هذه مرحلة في الإقناع ثم تأتي بعدها: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل 4 ـ 9)(122/2)
وهي مرحلة ما يجب أن يصدِّق به الطَّرَف الآخر ويقتنع به اعتمادًا على ما ذُكر مِن المسلَّمات السابقة فكون الناس صنفينِ مُحسِن وشَحيح... وكون مصير المُحسن هو اليُسر في الحياة... ومصير الشحيح هو العُسر فيها لا يختلف في الوضوح لأي إنسان عن تقابُل الليل في ظلامه، للنهار في ظهوره والذكورة للأنوثة في بني الإنسان.
والمسلِّم للتقابل السابق.. يُسلِّم حتمًا في التقابل الثاني.. والحُجّة عندئذٍ قائمة في غير خُصومة أو مُقاتلة.(122/3)
37 ـ زوج يُسيء معاملة زوجته عن طريق أولاده من غيرها:
تسأل سيدة بإحدى المحافظات:
هل يَحق لها طلبُ الطلاق من زوجها الذي رَضِيَت بالزواج منه، ومع علمها بأنّه له أربعة أطفال من غيرها، بناء على إساءتهم إليها ونظرتهم لها على أنّها البديل عن الخادمة في المنزل، وقد اتَّضح لها أن هذه الإساءة مِن الأولاد ـ كما تذكر السائلة ـ بوَحْيٍ مِن أبيهم؟
وقد كانت ترجو أن إحسانها في تربيتهم سيُقابَل بالشكر على الأقل من الزوج وليس لها مِن الجزاء الحسن إلا ما ينتظرها مِن الله جَلَّ جلاله؟
إن السائلة عندما قبِلتِ الزواج مِن زوجها كانت تعلم المشكلة التي ستُواجهها، وهي ليست مشكلة القيام بشئون الزوج وإنما مشكلة "الملاءمة" بينها وبين أولاده معها ومعه: كيف تحتفظ بمُيوله الطيِّبة نحوها... فلا تتأثر يومًا ما بعَواطفه نحو أولاده...
كيف تبقى زوجةً تُحِسُّ بحُبِّ زوجها وبحب أولاده لها معًا؟ واحتفاظها بعواطف الزوج نحوها كان يقوم في نظرها على أمل: أن الزوج سيُشاركها الرأي في توجيه الأولاد وأنّه من جانبه سيقوم بتنفيذ الرأي نحوهم الذي سيتَّفقَا عليه معًا.
وبذلك تسهل مُهمتها تجاه الأولاد ولكن يبدو أن الزوج دخل في علاقته بأولاده بثقل "العاطفة" الأبوية فتحيّز لهم، وسمع منهم وهم من جانبهم أحسُّوا بالعاطفة المتميّزة من أبيهم نحوهم فتدلَّلوا وافترَوا بالتالي كذبًا على زوجة أبيهم عندما يتحدَّثون معه عن علاقتهم بها كي يَحملوه على المزيد مِن التحيُّز في عواطفه وفي تصرُّفاته.. وبقدر ما يتحيَّز الأب لأولاده بقدر ما يتحيَّز ضد الزوجة حتى تُصبح في نظره ونظر أولاده العَدُوّةَ لهم في الأسرة.(123/1)
وبدلاً من أن يُكاشِف الزوج زوجته بالأمر، في غيبة الأولاد طبعًا وبدلاً من أن يتفاهم معها ويُساندها فيما تحتاج إلى مُساندته، ويُرشدها إلى الخطأ في التوجيه أن اتِّضح لهما معًا أن هناك خَطًّا يُوعِز إلى الأولاد في غيبة زوجته بأن يُواجهوها بالإساءة وبأن يَتحاملوا عليها ويُغلِظوا لها القول في رَدِّهم عليها.
فإذا اشتكت له الزوجة سكت دون أن يَعتذِر عنهم وربَّما ردَّ عليها بما يجعلها تُحِسُّ أنَّها لم تعُد زوجةً لها حقوقها في منزل الزوجية وفي معاشَرة الزوج وعندئذٍ لا تفكِّر إلا في أمر واحد، وهو طلب الطلاق دفعًا للضَّرَر، وهي لا تطلب الطلاق الآن لتُثير رغبته في الاحتفاظ بها ولكن لتتخلَّص ممّا هي فيه مِن وَضْعٍ، فلا هو وَضْعُ الأم، ولا وضع الزوجة مع الزوج، ولا هو وضع المربِّية مع الأولاد.. بل أشبه بوضع المستأجَرة لتدبير المنزل توجد اليوم وتَخرج غدًا.
إن للسائلة أنْ تطلب الطلاق تجنُّبًا للضرر وللحرج الذي هي فيه الآن.. إن لها الحقَّ في أن تختلع، والخُلْع هو الطلاق من الزوج أو من القاضي عنه في مقابل تنازل الزوجة عن المَهر كلِّه أو بعضه.. وقد جاء الإذن بذلك في قوله تعالى:
(وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ "وهو خطاب للأزواج" أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا "أي من المهور" إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة 229).
ويروى في تطبيق ذلك ـ على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما: "أن امرأةَ ثابت بن قيس أتَتِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت يا رسول الله: ما أَعْتِب عليه مِن خُلُق ولا دِينٍ.. ولكن أكرهُ الكُفر في الإسلام.. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتَرُدِّينَ عليه حديقته؟ قالت: نعم؟ قال: "اقْبَلِ الحديقة وطلِّقْها تَطليقةً".(123/2)
فقَيس بن ثابت طلَّق امرأته طلْقة واحدة في مقابل ردِّ الحديقة إليه التي كانت مهرًا لها وهذه الطلقة طلْقة بائنة: أي لا يجوز للزوج أن يُعاشِرها إلا بمَهر وعقْد جديدينِ.
وعِدّة المُختلِعة حَيْضة واحدة أو شهر واحد، وجعلت الطلقة الواحدة هي بائنة حتى لا تجوز مُراجعتُها، فحالَ بينها وبين زوجها طالما كانت كارهةً ومتضرِّرةً بمُعاشرته كما جُعلت عِدَّتها شهرًا واحدًا للتخفيف عليها وتيسير الأمر عليها في زواجها مِن آخر بعد مدّة غير عادية.
ولكن هل مِن السهل على الزوجة أن تأخذ القرار وتطلب التفريق بينها وبين زوجها؟ إن هذا القرار ليس سهلاً عليها، رغم تضرُّرها في بيت الزوجية بسبب إساءة الأولاد لها وسكوت الزوج على الأقل على هذه الإساءة إن لم تكن بتحريضٍ منه. والزوج عليه أن يُراجع نفسه لمَصلحته أوَّلاً كزوج وكوالد ولمَصلحة أولاده كذلك.. والحِكمة تقضي بأن يتدخل في الأمر ليحفظ على الزوجة كرامتَها ويُعيد علاقتها بها على نحو خير مما هو عليه الآن.
إنه إن لم يتدخل هو الخاسر.. والزوجة لها الله.. ونحن ننصح بتدخُّله بالحسنى وباتباع الحِكمة والتريُّث في معالجة شئون أسرته.(123/3)
41 ـ لي قريبة عُقِدَ قِرانها على شخص لا تُحبُّه، خُضوعًا لأبيها، وقد زارهم العريس مرةً فتشاجَر مع زوجته، وقذَفتْ في وجهه صورة، وقالتْ له: لا تحضر عندنا. فأنا لا أريدكَ. فسبَّ لها الدين. فما الرأي في هذا؟ . وهل يُفَرَّق بينهما؛ لأنه سَبَّ الدين لها؟
كون الزوجة لا تُحِبُّ زوجها، وأنّها تَزَوَّجتْه مُكرَهة تحت ضغط أبيها، هذا كافٍ في عدم قيام عقد الزوجية بينها وبين زوجها، وإن سُجِّل هذا الزواج في سجل المأذون. فالزواج عقد ـ ككل العقود ـ يخضع في الإسلام لرضاء الطرفين معًا، رضاءً حُرًّا لا شائبة لإكراه فيه، سواء أكانت المرأة بِكْرًا، أم ثَيِّبًا. إذ يُروَى عن خنساء بنت خِدام الأنصاريّة: أنَّ أباها زوَّجها وهي ثيِّب فكرِهت ذلك، فأتَتْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فردَّ نكاحَها "أي أعلن إلغاء عقد الزواج بها". وليس ذلك لأنَّها ثيِّب. ولكن لأنّها كانت مُكرَهة على الزواج. إذ البكر كالثيِّب في وجوب تعرُّف رأيِها في الزواج. لحديث: "الثيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها ـ أي في مباشرة العقد ـ والبِكر تُستأذَن في نفسها" أي يأخذ إذنها في الزواج وليُّها الذي يباشِر العقد عنها.
وكون الزوجة ـ أيضًا في هذا السؤال ـ ألقتْ بصورة بيدها في وجه زوجها، وهو في منزل أبيها ومنزلها أيضًا، كافٍ في نظر الزوج، في تعرُّفه على مستقبل الحياة الزوجية بينهما. إذ هذا التصرُّف من جانب الزوجة ينطوي على عدم الاحترام وعلى البُغض لزوجها. والزوج العاقل عندما يرى بداية الحياة الزوجية تخرج من نقطة على هذا النحو، فالأولى به أن يدخل هذه الحياة، وبيده الآن فصْم عُرى الزوجية، بالطلاق من جانبه، فهو حقُّه، له حرية ممارسته.(124/1)
أما سَبُّ الدين: فقد باشره الزوج وهو ـ فيما أعتقد ـ في حال غضب وانفعال كما يدل على ذلك مجرى السؤال. وتصرُّفات المؤمن في نظر الإسلام، لا يحاسَب عليها إلا إذا كان كامل المشيئة فيما أتى به، وإلا إذا عقد العزم والنِّيّة على مباشرته. وفي حال الغضب لا يتوفَّر جو المشيئة والحُرِّيّة الكاملة، كما لا يتوفر جو العزم والقصد إلى سبِّ الدين هنا. ومثل حال الغضب حال الإكراه. فمَن أُكرِهَ على الكُفْر لسبب من الأسباب ـ وقلبه مطمئِنٌّ بالإيمان، فلا يحاسَب على ما يُعلنه مِن كفر به، تحت ضغط الإكراه عليه: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ "أي فجزاؤه غضب من الله وله عذاب عظيم" إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ) (النحل: 106) أي فلا يُجازَى على إعلانه بالكفر.
ولذا لا يُفرَّق بين الزوجين في سؤال قريبة الزوجة هنا، بسبب سبِّ زوجها الدين. وعلى أية حال: يجب أن يستغفر الله. إذ أن ذلك معصية، ولو من غير تبييت منه.
هذا من الوجهة الشرعية. ولكن من جهة نفسية أخرى هو أن الرجل الذي يصل به انفعاله إلى سَبِّ الدين والكفر به، وليس لديه من ضميره، ولا من دينه، ولا من شخصيته في تربيته وتوجيهه رقيب، يُراقب انفعالاته وعواطفه، ويتحكَّم فيها، قبل أن تُعَبِّر عن نفسها في تصرُّف يُسيء إليه، أو إلى آخرين معه.. مِثْل هذا الرجل ضعيف الشخصية، وبالتالي لا تؤمن عواقب ضعف شخصيته في المعاشَرة الزوجية، أو في معاملة مَن يَختَلِطون به.
والعوامل الآن متوافرة في عدم الاطمئنان إلى هذه الزِّيجة مستقبلاً، سواء من جانب الزوجة وعواطفها الدَّفينة وتصرُّفاتها المعبِّرة عن هذه العواطف، أو من جهة الزوج وضعف سلطته الذاتية على تصرفاته الخاصة وانفعالاتها حين الإثارة والغضب. والأولى عندئذٍ الطلاق. فإنه الحلُّ لرفع الضَّرَر في المعاشرة الزوجية، إن اتضح عدم جدوى البدء بها، أو عدم الاستمرار في هذه المعاشرة.(124/2)
ووالد الزوجة هو الذي تسبَّب الآن في هذه المشكلة؛ لأنّه أخضع ابنته للدخول في علاقة زوجيّة، هي تنفِر منها وتأباها. وليس هذا هو الإسلام، ولا هو لصالح البنت، وقد تبيّن أنه ليس الآن كذلك في صالح الوالد؛ لأن مِن صالح الوالد أن لا تكون هناك عقبات في طريق زواج ابنته، وإقامتها أسرة جديدة مع مَن تَوَدُّه وتختارُه من الرّجال.
وفي اللحظة التي أخضعها في زواجها إلى إرادته أو إلى رغبته، كان يستهدف مصلحة، ولكن على أية حال ليستْ مصلحة ابنته.
والإسلام في الزواج وفي مباشرة الوليّ لعقده نيابة عن ابنته البكر، ينصح بأن يكون الزواج من جانب: الأنثى والرجل، لخلق كل منهما، ودينه، بعد أن يرتضي كل واحد منهما الآخر في فترة الخِطبة. ولكن ليس لمالٍ، أو جاه وظيفة، أو شرف أسرة.(124/3)
41ـ الزواج إيجاب وقَبُول
تذكُر آنسة بإحدى المحافظات:
أوّلاً: أنه في يوم خِطبتها لخَطيبها لم يحضُر أحد مِن أهله، وحضر إمام المسجد، وفي بعض الأحيان يقوم بأعمال المَأذون الشرعي. وتقول: إنه ألقى كلمةً في هذه المناسبة تُقال عادةً عن عقد القران. وأخَذ خطيبُها من هذه الكلمة أنه أصبح زوجًا لها، وهي تسأل الآن:
أصحيحٌ أنَّها أصبحت زوجةً لخَطيبها، وأصبح هو زوجًا لها، بناء على كلمة إمام المسجد التي ألقاها؟ وهل يجوز لهما معًا أن يكونا في خَلوة وحدهما؟
إن السؤال الأول للسائلة وهو ما يتَّصل بما يقوله خَطيبها إنّه أصبح زوجًا لها بناءً على كلام إمام المسجد الذي يُقال عادة في مناسبات عقد القِران يجب أن تسبِقه إجابة منها ومِن خطيبها على هذا السؤال.
هل كان إيجاب منها وقَبول من خطيبها؟ هل عرَضَتْ عليه بنفسِها أو بوَليِّ أمرها أنّها تزوِّجه نفسَها على صَداقٍ قدْره كذا، وعلى كتاب الله وسُنّة رسوله؟
هل كان هناك مِن خطيبها قَبول لهذا العَرْض أو الإيجاب فرَدَّ بقوله: قَبِلْتُ زواجَكِ.. أو قال لمَن وَكَّلَتْه عنها ـ قَبِلْتُ زواج موكِّلتك، على صَداق قدره كذا وعلى كتاب الله وسُنّة رسوله؟
وهل كان هناك شاهدانِ مِن العُدول؟ وهل كان هناك وليٌّ: أبٌ أو أخ مثلاً لمَن عقد عليها إذا كانت بِكْرًا؟
إن كانت الإجابة على ذلك كله بنعم فالمَخطوبة أصبحتْ زوجة ويَحِلُّ لخَطيبها السابق أن يُعاشِرَها معاشرة الأزواج لزوجاتِهم فضلاً عن أن يخلوَ بها في أي مكان شاء.(125/1)
52ـ في الزواج غير المتكافئ
مواطن من إحدى المحافظات يقول إنه أحب فتاةً وقرأ والدُه الفاتحةَ مع أهلها، وكان يقضى فترة الجيش بعيدًا عن قريته، فلمَّا عاد وجد أباهُ خطَب له بدلاً منها بنتَ ثَرِيٍّ في القرية هو قريب له. ولكنه أعلن له أنه لا يرغبُها ولا يُمكنه مُعاشرتها، فرجاه أن يَقبلها الآن وبعد الدخول بها له ما يشاء من إمساكها أو تطليقها وألحَّ عليه؛ لأنه أعطى كلمةً لوالدها من جهة، ومن جهة أخرى والدها مُوسِرٌ يُمكنه أن يُعاونه ماليًّا إذا احتاج إلى مال، فمرتبه ضئيلٌ لا يكفي احتياجاته الضرورية. ...
ودخل بها وفي ليلةِ الزفاف امتنع عن الاتصال بها، فرجتْه منْعًا للقِيل والقالِ أن يُعاشرها كزوجةٍ فعَاشرها وأنجَبَ منها ثلاثة أولاد، وفي الحمْل بكلِّ ولدٍ كان يُؤدِّي لها حقَّها في المُعاشرة فقط، دون رغبةٍ منه، كما يُكرِّر ذلك في رسالته.
ومضى على زواجه بها عشْر سنينَ الآن وهو مُكره على الإقامة معها، ولم يُسيء إليها إطلاقًا وقد خيَّرها بين أن يُطلقها أو يتزوج عليها بثانية فأجازت له الزواج بأُخرى، فتزوَّج زوجةً صالحةً متدينة، وتشتغل بالتعليم، وأحسَّ معها براحةٍ نفسية وسعادة زوجية، وأعطتْه الفرصة لزيارة زوجته الأولى والإنفاق عليها، كما يشاء حسبما يُمكنه.
ولكنه ترك أولاده مع أمهم عند أبيه، واستقلَّ بالإقامة عند زوجته الجديدة. وهو الآن يحسُّ من جهةٍ بالاطمئنانِ النفسيِّ والسعادة عند زوجته الجديدة: فإنه قلِق من جهة أخرى لبُعد أولاده عنه، ولأنه لا يُقابل زوجته السابقة إلَّا مرة واحدة في الشهر كي يُعطيها نفَقة الأولاد وما تطلبه في حياتها معهم. وهو بذلك يتألَّم؛ لأنه لا يُؤدي حقَّها في المُعاشرة: كما لا تسمع هي لنصيحة أهلها في قبول طلاقها منه.(126/1)
أمر السائل هنا مردود بين وضعينِ: أحدهما مرغوب فيه.. والآخر غير مرغوبٍ فيه أما المرغوب فيه والذي يتمنَّى هو دوامه فهو عِيشته مع زوجته الجديدة فهناك تَوافُق بينهما .. وهناك ميْل من كل واحد للآخر.. وسَعَة صدْرٍ لفَهْم أيٍّ منهما لمشاكل الثاني. ... ...
وأما غير المَرغوب فيه والذي يتمنَّى الخلاص منه فهو القلق بسبب الأولاد لبُعدهم عنه عند أبيه هو، في الإقامة والرعاية.. والقلق أيضًا من عدم أدائه حقَّ زوجته السابقة في المُعاشرة كما يَعتقد، ومِن تمسُّكها بالبقاء معه كزوجةٍ له. ...
وبقاؤه بين الوضعينِ المتناقضينِ حمَله على الاستفسار عن الحلِّ الذي يُرضيه ويرضي الله.(126/2)
والخطأ في مسألة السائل هو إكْراه أبيه له على الزواج من قريبةٍ له، لثروة أبيها، فلم يَخترها؛ لأنها صالحة في ذاتها كزوجة لابنه، ومِن عناصر الصلاحية أنه يَميل إليها ويُحسُّ بالتوافق معها في الحياة المشتركة. ...
والعشر سنوات التي مرَّت على الزواج بها كانت مليئةً بالإرهاق النفسيِّ له ولزوجته، فهو يُريد التخلُّص منها ولا يَستطيع.. وهي تُحسُّ بعدم رغبته فيها وتُصرُّ على البقاء معه. دخَل بها كارهًا.. وأنجَب منها كارهًا.. وترَك الأولاد مُكرهًا.. وتركها هي أيضًا مُكرهاً.. ولم يقبلها كزوجةٍ الآن إلا مُكرهًا.. ...
إنها الدنيا: المال: والجمال، والحسَب، هي التي تُغري على الزواج، ولكنها لا تَصلحُ أن تكون عوَضًا عن الذات، والإسلام إذْ يُحذِّر من الوقوع تحت إغراء الدنيا في اختيار الزوجة، والزوج، معًا: إنما يُنبِّه إلى أنه لا تَصلح أن تكون بديلاً عن صلاحية الزوجة كامرأةٍ في ذاتها، وصلاحيتها في تهذيبها.. وفي إيمانها بالله.. وفي طاعتها لأَوامره ونواهيه: كعلاقتها بزوجها وبالآخرين، ولكنه إغراء الهوى.. وحب المال والثراء.. والتفاخُر بالحسَب. ...
والسائل وإنْ كان يحسُّ بالراحة في مُعاشرته لزوجته الجديدة.. وإنْ كان يُثني عليها في إعطائه الفرصة لزيارة زوجته الأولى وأولاده منها، هل تَقبل الآن أن تكون حاضنةً لهؤلاء الأولاد بدلَ أمهم، وأن تُعاملهم وترعاهم كأنهم أولادها منه؟. هل لا تَضيق ذرْعًا بهم.. هل لا تُوغر صدر أبيهم عليهم، رغبةً في احتفاظها به لها وحدها. ...
هذه الزوجة الجديدة لم تُوضع بعدُ موضع التجربة بالنسبة لأولاده، وربما لو أسند إليها مهمة الأولاد كي يتمكَّن من تطليق الزوجة السابقة، لواجَه ما يُقلقه منها ولنزَل منها مجال النزاع والخصومة. وبذلك يُشكل عليه الوضع في الحياة أكثر: أولاد في حاجة إلى رعاية مُتوفرة..وزوجة تضيق بحياته الزوجية بسبب هؤلاء الأولاد.(126/3)
والحلُّ هو في إبقاء الوضع على ما هو عليه الآن: عدم تطليق الزوجة الأولى، ثم الإكْثار من التردُّد عليها وعلى الأولاد، وترْكها تُقيم عند والده، كما هو الشأن الراهن معها، وفي التردُّد عليها يُشعرها بفَضلها في تربية الأولاد، ويَشكرها على إصرارها البقاء في عِصْمته معهم، رغم أنها تُحسُّ بأنها غير مقبولة لدَيه.. والحل في أن يُعامل الزوجة السابقة :كأمٍّ وحاضنةٍ لأولاده، وكأمينة عليهم. وهي بلا شك خيرٌ من أجنبية عنهم ولو كانت الزوجة الجديدة، وإلْحاحها في البقاء في عِصْمته، وسماحها له بأن يتزوج بأخرى عليها، يُعطي الأمارةَ واضحةً على أنها سوف لا تحقد عليه.. وسوف لا تُنمي في أولادها روح العداء والخصومة لوالدهم، وكذلك لزوجته الجديدة التي عزَلتْه عنهم للإقامة معها. وعليه أن يُبعد من نفسه روح الكراهية لأم أولاده، ويَرضَى بقَدره في وُجوده معها، وبذلك يجمع بين رضاء نفسه ورضاء الله عليه.(126/4)
5- الزوجة تكون حيثُ يسكن زوجها
مُشرف زراعي بإحدى الجمعيات الزراعية بإحدى المحافظات، يتقاضَى راتبًا قدرة تسعَةَ عشرَ جنيهًا وتزوَّج بفتاة نزَح أهلها مِن الريف إلى القاهرة، ولم يتعرف عليها إلا عن طريق أخته في مسكن مجاور لمَسكن والديها في العاصمة، وأنجب منها ولدًا بعد عام من زواجه، ويسكن الآن مع زوجته وولدهما في مسكن بالبلدة التي يعمل فيها كمشرف زراعي، ويعيش في نفس المسكن معه والده ووالدته باعتباره أنه العائل لهما. وحدَث بعد مرور العام الأول أن وقع خلاف بين زوجته وأسرته، فحضرت والدة الزوجة وبعضُ أقاربها معها، وصممَّت على أن تصحب ابنتها معها إلى القاهرة ومعها ولِيدها وجميع ما تملِك مِن مَنقولات، واشترطت لعودتها إلى زوجها أن يجد مَسْكنًا خاصًّا لا تُشاركها فيه أسرته، وبعد أن أوجد السكن الخاص بالبلدة وطلب عودة الزوجة إلى مُعاشرته لم تُوافق أمها على عودتها إلى الريف، ورأت أن يكون السكن بالقاهرة، ثم بعد مُضيِّ ستين يومًا على ترك الزوجة مسكنَ الزوجية بالبلدة رفعت دعوى نفَقة، فعرض الزوج عليها أن يُسلم إليها رُبع مُرتبه شهريًّا دون حاجة إلى الخصومة القضائية، كما أرسل عدة مرات وُسطاءَ كي تعود إليه، ولكن دُون جدوَى. وهو يطلب إرشاده إلى الحل ويَرضَى به مُقدَّمًا.(127/1)
هذه المشكلة تكاد تتكرَّر في مجتمعنا كل يوم، وغالبًا في كل أسرة ناشئة في أول عهدها بالحياة الأُسرية.؛ شاب يتزوج ثم يُنجب ولدًا أو أكثر بعد فترة قصيرة من الزواج، ثم تبدأ الخلافات بين الزوجة وحماتِها، أو بينها وأخت الزوج أو أخواته، ثم تغضب الزوجة وتترك منزل الزوجية إلى مسكن والديها ومعها ولدها أو أولادها، ثم تطلب بعدم السُّكْنَى مع الحماة أو الأقارب لزوجها، واستقلالَها بمَسكن خاص، وقد يكون السكن الجديد في مدينة كُبرى كالقاهرة والإسكندرية بدلاً من القرية في الريف، ثم تتَّجه إلى الخصومة في المحاكم وتغلق مجال المصالحة بين الطرفين، وكثيرًا ما ينتهي الأمر بفشل الزوجية وانهيار الأسرة الجديدة. ...
أين المشاركة في بناء الأسرة الجديدة من قِبَلِ الزوج وأهله ومِن قِبَلِ الزوجة وأهلها؟
أين تحمُّل الزوجة وتحمُّل الزوج في سبيل المحافظة على الولد الذي أنجباه معًا بعيدًا عن هموم الحياة الأسرية؟ ...
أين أثر تعليم المرأة؟
أين أثَر تميُّزها بالثقافة المدرسية والإعلامية إذا كانت لا تستطيع أن تعيش مع زوجها في مكانٍ غير مكان أسرتها؟
ألم يكن الزواج هو الأمل المَنشود لها؟
ألم تكن الأمومة تُمثل هدفًا رئيسيًّا عندها؟ ...
ما مدى تحرُّر المرأة واستقلالها إذا كانت لا تَستطيع أن تُوائم بين وَظيفتها كزوجة والمُحافظة على علاقتها بأهل الزوج؟ ...
إن المشاركة في الأسرة هي في تضييق دائرة مشاكلها وفي حلِّ هذه المشاكل إنْ وقعت.(127/2)
إن أهل الزوجة هنا إذ ينقلون أثاث ابنتهم من القرية إلى القاهرة، وإذ يَصحَبون ابنَها معها للإقامة في مسكنهم هنا، وإذ يُصرّون على إيجاد مسكن مستقل في القاهرة، وإذ يُعجِّلون بالخصومة القضائية ضد الزوج ويَسيرون في طريق "الانفصال" وعدم العودة، وترْك الطفل بعيدًا عن الأب أو بعيدًا عن الأب والأم معًا. إن الانفصال أو الطلاق تَقتضيه الضرورة الاجتماعية، بسبب سُوء المُعاشرة وعدم تحمُّل أيٍّ من الزوجين مَشقَّة العلاقة بينهما، فهل وصَل الأمر هنا بالخلاف بين الزوجة وحماتها في أول سَنة من سِنِيِّ الزواج إلى المشقة والعَنَتِ في معاشرة الزوجة لزوجها، أم أن أهل الزوجة قبِلوا على مَضَضٍ منهم أن تسكن ابنتهم مُؤقَّتًا خارج القاهرة على أن تعود إلى السُّكْنَى بها بعد فترة قصيرة وليَكن الخلاف ـ إن لم يَكُن مُفتعَلاً ـ بين الزوجة وحماتها سببًا كافيًا في نظرهم في عودة البنت إلى الإقامة لقُربٍ من الأهل بالقاهرة؟
إن عادة تجمُّع أفراد الأسرة الواحدة في مسكن واحد، أو في مساكن بقُرب بعضها مِن بعض، ولو على حساب الروابط الاجتماعية، ولو أضرَّت ببعض هؤلاء الأفراد ـ هي عادة غير حضارية، هي عادة بدائية، ولم تَزل مِن الأسف الشديد مُتغلغلة في أعماقِ نُفوسنا إلى اليوم، ولا بأس مِن أن يكون الحرص على تحقيق هذه العادة سببًا في الفرقة بين زوجينِ لم تَدُمْ علاقة الزوجية بينهما أكثر من سَنة واحدة، على نحو ما هو وارد في سؤال السائل هنا.(127/3)
إن مسئولية المرأة بزواجها تَنتقل فورًا من مُحيط أهلها وعائلتها إلى محيط الزوجية والعلاقة التي تنشأ عن الزواج مُستقبَلاً. والزوجة مُطالبة ـ إنْ هي نظرت إلى بيت أسرتها ـ أن تُركِّز الآن نظْرتها في أسرتها الجديدة وما يتفرع عنها. وأم الزوج أو حماة الزوجة عضْوٌ في الأسرة الجديدة، ويجب ألاّ تنظر إليها الزوجة مِن أول الأمر كخَصمٍ لها أو كمصدرٍ لمَتاعبها في صِلتها بزوجها، بل يجب أن تنظر إليها كأمٍّ تُسلِّم بالتدريج ابنَها الذي حملت فيه ووضعتْه، وسهرت معه الليالي، وتحمَّلت في تَنشئته المتاعب والصعاب الكثيرة، لامرأةٍ أجنبية عنها هي زوجته الآن، فعلَى الزوجة أن تعيش في نفس المشاعر والإحساسات التي لدَى الأم، عند مُعاملتها يجب ألاّ تنفعل في موقف معها، يجب ألاّ تُقاطعها لسببٍ من الأسباب، يجب أن تَعرض عليها خدماتها، يجب أن يَطول صبرُها معها، وبذلك تَكسِبها في جانبها كما تَكسِب زوجها نَفْسِيًّا وماديًّا.
والحلُّ الذي نراه ألاّ تتدخل أسرة الزوجة في العلاقة الزوجية مع ابنتها إلى الحدِّ الذي تدخلت فيه أسرة الزوجة للسائل، وأن تترك هذه العلاقة تمرُّ ببعض الصعوبات التي تعترضها، فعَن طريق هذه الصعوبات تتضح الركائز التي تقوم عليها العلاقة مستقبَلاً، وهي عندئذ أقوى مِمَّا كانت، اللهم إلا إذا كانت الزوجية التي تمَّت بين السائل هنا وزوجته مِن النوع الذي استهدف هدفًا جانبيًّا بعيدًا عن خصائص الزوجة الصالحة والزواج الصالح، وهي خصائص التديُّن والاستقامة، فالزواج لجمال المرأة أو لشرفها أو لمالها، أو لجمال الرجل أو لشَرفة أو لماله ينتهي غالبًا بالفشَل.
31ـ الزوجة لا تُضَارُّ بمُعاشرة زوجها(127/4)
مواطن من إحدى المحافظات يحكي أنه متزوج منذ ثلاث سنوات، ويسكن في القاهرة ـ مقرّ عمله ـ في حجرة واحدة وليس له أولاد الآن. تركتْه زوجته لتعيش بمنزل والدها ببلدتها، نظَرًا لضِيق السكن في القاهرة الذي هو مُكوَّن من حجرة واحدة، وهو يُؤمِّل على مدى الأيام أن تتفرج أزمة المساكن ويحصل على مسكن أوسع، وهو يعيش الآن على الأمل. ويَسأل: هل حق الزوجة أن تعيش بعيدًا عن منزل الزوجية.. وتترك زوجها كما هو عليه حاله؟
يشكو السائل من ضِيق مسكنه في القاهرة.. وترْك زوجته له وسُكناها عند والدها في أحد المراكز. وكُلُّنا يعلم الآن أن القاهرة مُكتظة بالملايين من السكان.. وأن ازدحامها بسبب مشاكل عديدة بها: كمشاكل النقل.. وانقطاع المياه.. وطفْح المجاري.. وانقطاع الكهرباء.. الخ فهل حاول السائل أن ينتقل إلى خارج القاهرة .. إلى بلدة زوجته ـ مثلاً ـ ليُباشر عملاً مثل الذي يُباشره في القاهرة الآن، أو عملاً آخر لا يَعجز عن أدائه؟ عندئذ يُمكن أن يبحث عن مسكن أوسع يدعو فيه زوجته للإقامة معه هناك، هل حاول بطريق البدل مع آخر.. أو بطريق إبداء الرغبة لرئيسه في العمل؟(127/5)
أغلب الظن: أنه لم يحاول مثل هذا الحل أو حاول ولم ينجح، ويلجأ الآن إلى رأي الإسلام، علَّه يُكره الزوجة أو يدفعها على أن تسكن معه في القاهرة في حُجرته الضيقة كما يَصفها.. ويقول: إن هذا المكان لم يُناسب لمعيشة الزوجة..والإسلام لا يُكره الزوجة على أن تحتمل من المَشقة في السُّكنى مع الزوج: ما يكون فوق طاقتها. وواضح من ضِيق الحجرة التي هي مسكن الزوجية الآن: إن استمرار المَعيشة فيها لزوجة قدمت من خارج القاهرة، وليس لها أقارب أو معارف فيها يشقُّ نفسيًّا عليها. وبجانب مشقَّة عدم استطاعة التحرك بدَنِيًّا فيها. نعم .. الإسلام يُرحب بقبول الزوجة السكنى مع زوجها في مسكنه الحالي.. وتحمُّلها الضيق والمشقة إلى أن يُفرِّج الله أزمتهما معًا. فإن ذلك منها يدل على زيادة تَمسكها بالعلاقة الزوجية.. وعلى رُوح التضحية في سبيلها. وهذا شيء يُقدَّر لها تمامًا؛ لأنها عندئذ تكون قد تجاوزت ما يحقُّ لها.. إلى ما تؤديه مُتطوِّعة في خدمة زوجها. ولكن مثل هذه التضحية يتوقف على مدى تقديرها للزوج، وتقدير الزوج في نفس زوجته يتوقف على سلوكه هو معها وموقفه منها. ولا يتوقف على وعْظ تسمعه ممَّن يدعوها إلى طاعة الزوج وعدم مفارقته في العُسْر واليُسْر.(127/6)
هناك حقوق للزوجة على الزوج.. وهناك حقوق للزوج على الزوجة. والزوجة لا تُكلَّف بأداء حقوق زوجها إلا إذا قامت بحقوقها: في المعيشة.. وفي المسكن.. وفي الملبس وفي كل ذلك تُقاس على نظيراتها من الزوجات الأُخريات. ووراء هذه الحقوق: الاستعداد النفسي الطيب لدَى الزوجة: في مساعدة الزوج على اجتياز الصعاب التي تواجهها. وهو استعداد يَخْلقه حبُّ الزوجة لزوجها.. واحترامها له، والزوج نفسه: بصفاته.. وبسلوكه.. وبمَواقفه؟ وباحترامه لزوجته، يُنمي عندها هذا الاستعداد الطيب له. ...
والأمر ـ إذَنْ ـ أمر نفسيٌّ. ولا يرجع إلى أحكام الفقه، فالأحكام الفقهية تتأصَّل من قاعدة واحدة في العقود والمعاملات وهي قاعدة: "لا ضَرَر ولا ضِرار" فالعقود والمعاملات جميعها مُباحَة إلا إذا أدَّت إلى ضررٍ يَلحق أحد الطرفين أو كليهما في التعاقد أو في المعاملات عندئذ يَحرُم ما أدَّى إلى الضرر.. ويُفْسخ العقد أو تُفسخ المُعاملة للحيلولة دون الإضرار بأحد. ...
وظاهر مِن وضْع المسكن الذي يسكنه السائل بالقاهرة: أن إلزام الزوجة بالسُّكنى فيه مع زوجها لتقوم على خدمته إلى أن تُحلَّ أزمة السكن، بدلاً من سُكناها عند أسرتها ببلدتها، يُسبب لها ضررًا نفسيًّا على الأقل، ينشأ عن وحدتها أو عُزلتها، وضعْف حركتها. ومِن هنا يتوقف الأمر على اختيارها هي وقَبولها، ووُجودها في مَسكن الأسرة الآن بعد ترْكها هذه الحُجرة الضيِّقة بالقاهرة والتي تُعتبر مَسكن الزوجية: يُعبر عن ضعف للتضحية في سَبيل علاقتها بزوجها. والفقه الإسلامي في هذه الحالة لا يَستطيع أن يُقدم له علاج الأزمة التي هو فيها الآن.. لا يستطيع أن يُحرِّم على الزوجة: ترْكها منزل الزوجية والسكنى بعيدًا عن الزوج لدَى أهلها؛ لأن حقها في المسكن غير متوفر عنده. ...
وعلى الزوج أن يحل أزمته معها. فقد تقبل أن تعيش معه في هذه الحجرة الضيقة إذا أحسَّت بالاستعداد النفسي للتضحية في سبيله. هل(127/7)
قدَّم الزوج من الرصيد في المعاملة ما يجعلها تحسُّ بهذا الاستعداد النفسي؟ وهل يستطيع الآن أن يحملها نفسيًّا على أن تُضحي معه؟
وهناك أمثلة عديدة ترِد إلينا ويَطلب الساعون إلى إرسالها، إسعافهم عن طريق الحلال والحرام، في حلِّها. بينما واقع الحل يكمُن في شخصية "الزوج" أولاً… فالزوج قوى الشخصية ليست له مشاكل عديدة، في علاقته الزوجية..؛ لأن قوة شخصيته تفرض الحلَّ نفسيًّا، قبل أن تفرضه ماديًّا.. والزوج قوى الشخصية هو الذي يحمل زوجته على احترامه.. وعلى الركون إليه والثقة فيه.. وعلى مَحبَّته والتودُّد إليه: بسُلوكه المُهذب، وبكرمه وعدم شُحِّهِ، وبسَعة صدره وتسامُحه، وبفَهْمه لزوجته وإنزالها في قلبه منزلةَ الحريص عليها والمُبقي على راحتها واطمئنانها.(127/8)
55ـ إهمال الزوج لزوجته في المعاشرة
ميكانيكي سيارات يسكن في إحدى الضواحي، يروي أنه يبلغ من العمر واحدًا وثلاثين عامًا، وتزوَّج بفتاة عمرها خمسٌ وعشرون سنة، وأنه بعد الزواج سافر وحده إلى إحدى الدول العربية للعمل فيها لمدة عام. ثم عاد ليجد زوجته غير ما كان يَرتقب منها، وبعد مُضِيِّ خمسَةَ عشر يومًا على وُصوله إلى مصر طلبت منه تجديد الأَثاث وتغييره فاستجاب لرَغبتها.
ومع ذلك ابتدأت تَسخر منه بألفاظ غير مُهذبة، كما أخذت تُعبِّر له عن كراهيتها له وبالأخصِّ وقت المعاشرة الزوجية إنْ أعطته الفرصة وسمحت له بها. وقلَّما كانت تسمح له بها. وأخيرًا صرَّحت له بأنها تُحبُّ رجلاً آخر غيره، رغم مضي خمس سنوات حتى الآن على الزواج بها، وقد أتتْ بولد له، وهي حامل الآن في شهرها الرابع، وكثيرًا ما تَترك منزل الزوجية إلى منزل أُسرتها لتَعيش مع والدها هناك أطول مدة مُمكنة، فإذا عادت إليه تعود لوقتٍ قصير تذهب بعده إلى منزل الأسرة، وهكذا، لا يَعرفها زوجةً، ولا يُمكَّن من رؤية ولده الذي تَصحبه معها.
وقد طلبت منه أن يُطلِّقها ويتنازل لها عن الأثاث ونصف السكن طبقًا للقانون الجديد ـ كما تقول ـ وهو يرفض ما تطلب، وأعلَنها بالطاعة ويرجو الإفادة في شأن هذه الزوجة التي تَعصي زوجها وتعصي كل مَن يدلُّها على الخير.
شكوى هذا السائل الحِرفي ليست الوحيدة في بابها. وإنما هي شكوى كثيرين من الشبان بعد أن يدخلوا بزوجاتهم، وتمرُّ عليهم فترة من الوقت. ...
وربما ترجع مثل هذه الشكوى إلى الخطأ في فهْم العلاقة الزوجية نتيجة للخطأ في النشأة والتربية، فالمرأة تَفهم الزوجية على أنها مرحلة في حياتها تكفل لها المعيشة الرتبية وتحقيق ما تُسميه بأحلامها في المُتعة وطمأنينة النفس، في ظل رجلٍ يُظلها بظلِّه في غير عناءٍ منها.
وقلَّما تنشأ المرأة على المُشاركة في المسئولية وتحمُّل المشقَّة في بعض الأزمات التي قد تعترض سبيلَ الزوجية.(128/1)
فالسائل يُسافر للعمل إلى إحدى الدول العربية وهو يَبغي من وراء سفره وعمله هناك: أن تكون له بعض المدخرات، يُمكن أن يُواجِه بها بعض العقبات التي قد تُصادفه في تكوين أسرته وبالأخصِّ بعد أن يُنجب أولادًا، وهذه الرغبة من الزوج كان يجب أن تُقابَل بحرص الزوجة على بقاء العلاقة الزوجية مع زوجها سليمةً لا يدخلها أجنبيٌّ عنهما.. ونقيةً لا يُعكِّر صَفْوَها اختلاطٌ بالغير.
ولكن يبدو أن الزوجة الشابة انتهزت فرصة غياب زوجها، ويعلم الله أنه كان يتحمل كثيرًا من المتاعب في غُربته.. لتتعرَّفَ على غيره كيْ يُعوضها من المتعة ما فقدتْه في غياب رجلها، وتستمرئ ما تتلقَّاه منه كل شهر للإنفاق على بيت الزوجية. وهكذا.. لم تسأل عن تدبير المال. وإنما سَخَّرت ما يأتيها مِن مالٍ حلالٍ في علاقة غير مشروعة مع غير صاحب المالِ الذي تغرَّب واحتمل المشقة في سبيل إسعاد أسرته: زوجته وولده.
ولذا كانت المفاجأة للزوج عند عودته: مُفاجأة عدم الترحيب به من الزوجة.. وهكذا: مُفاجأة صدِّهِ وعدم الرغبة في مُعاشرته.. مفاجأة إعلان عدم حبها له.. مفاجأة إعلان أنها تحبُّ رجلاً آخر، ولذا تطلب الطلاق منه لتَنتقل إليه. أمَّا ولَدُها منه فلا يَهمها مستقبله، وأما حمْلها بولد آخر في شهره الرابع فمَصيره لا يعلمه إلا الله، وأما السكن الذي تعِب الزوج في تأثيثه فيَجب على الزوج أن يترك لها الأثاث ونصف الحجرات تطبيقًا لقانونٍ ـ كما تقول ـ: استُحدثَ لعلاج المنازعات الزوجية!!.(128/2)
والنزوع إلى الاختلاط في الأسرة المسلمة وبالأخصِّ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ـ نُزوع قويٌّ. وقد زادت من حِدَّته ما يُسمَّى بثورة تحرير المرأة ونتيجة لاندفاع المرأة المسلمة إلى الاختلاط لم يَنكشف لها تأسِّيهِ بعد. وفي الوقت نفسه لم تأخذ العِبْرة مِن آثاره في المُجتمعات التي تُوصف بالمُتطورة. وما يشكو منه السائل هنا.. وما تُواجِه به الزوجة زوجها من عنَتٍ.. وبُغض وكراهية.. وسُخرية واستهتار في معاملته: لا شك أنه أثر للاندفاع في الاختلاط والاتصال برجلٍ آخر يحلُّ محل الزوج المُتغرب المَكدود.
ولو أن أسرة الزوجة لم تُقصِّر في شأنها وأشارت عليها في بداية العلاقة بالأجنبيِّ عنها: بعدم الاستمرار فيها.. وذكَّرتها بطفلها الذي يُجسِّم العلاقة الثنائية بينها وبين زوجها المُغترب.. ولو أنها فعلت ذلك ربما عادت إلى صوت الضمير الذي يُناديها بانتظار الزوج والمحافظة على حُرْمته في المال والعرض. فالإسلام يُثني على المرأة التي تحفظ غيْبة زوجها في شرَفها وعِرْضها.
ولو أن زوجها عندما سافر إلى الخارج أخذها في رفقته وأقام معها المدة التي قضاها هناك، وعادَا سويًّا إلى القاهرة، لشغَلَ فراغها النفسيِّ الذي استغلتْه في غيبته للاتصال برجلٍ آخر. ولكنه القدَر لا مَهرب منه. ولْيُحاول مرةً أخرى مع أهلها ومعها إعادةَ المياهِ إلى مَجاريها، وليكن الطفل بينهما مصدر تقرُّب لكل منهما نحو الآخر. ...
أما الطلاقُ فهو الحلُّ الأخير للأزمة. وليَعتبر السائل أن اللهَ قد ابتلاهُ بهذه الزِّيجة ولذا فعليه أن يصبر، والله سيُجازيه على صبره، بحيث يَطمئن بالُه على نفسه وعلى ولده.(128/3)
76 ـ إني متزوِّج وسعيد بزوجتي. غير أنَّنا نُقيم بمنزل والدها لظروف العمل حين الزواج. وبعد مُضِيِّ سنتين نَتجت عن هذه الإقامة عِدَّة مشاكل من جهة المعيشة. فأخذتُ سكنًا آخر قريبًا من عملي، إلا أن الرجل وأبناءه أصرُّوا على عدَم خروجها من منزلهم وفضَّلوا طلاقها، وتمسَّكتُ برأيي، فماذا أصنع؟
السيدة كريمة هذه الأسرة هي زوجتك بلا شكٍّ، وأنت زوجها بدون منازِع والعلاقة بينكما تحدِّدان أنتما معًا مصيرها. والبنت بعد أن تتزوج ترتبط برِباط ثانوي بأسرتها الأولى، ومنزلها هو منزل الزوجية أي المنزل الذي يسكن فيه الزوج. وعلى هذا النحو يكون الرجل بعد زواجه في علاقته بأسرته الأولى، ومنزله هو الذي يساكِن فيه زوجته، وليس هو منزل أسرته السابقة.
إن الزواج ينشئ أسرة جديدة، ومقرًّا لهذه الأسرة، كما ينشئ علاقة بين الزوجين ترجع علاقة كل منهما بأهله. وتدخُّل الأسرتين: أسرة الزوجة وأسرة الزوج يجب أن يكون لصالح هذه الأسرة الجديدة ولصالح تنمية العلاقة بين الزوجين بحيث يحقِّقان فيما بينهما حياة المودّة والسُّكنى والرحمة. كما هو هدف الزوجية:
(ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَودّةً ورَحَمةً) (الروم: 21).
هذه حقائق يجب أن تكون واضحة في صفة العلاقة الزوجية. ولكن يجب أن يكون واضحًا فيها أيضًا مسلك الزوج نحو زوجته، وهو مسلك مَن يتميّز في المعاملة إيّاها بفضل على معاملتها له.. مسلك الإنسان صاحب الإحسان والتهذيب في القول والتصرف. وهذا ما تريده الآية الكريمة: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعروفِ وللرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجةٌ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 228).(129/1)
فالآية إذ تنشُد المُساواة في الحُقوق والواجبات بين الزوجين تَنْتَظِر من الرجال أن تكون لهم مَيْزَة في مُعاملة أزواجهن فوق هذه المماثلة في الحقوق والواجبات بينهم وبين بعضهم. وهى ميزة تعود إلى التهذيب والتسامُح والحُسْنَى في المُعاملة.
وبعد هذا وذاك فربَّما يعود تشدُّد الأب وأولاده في عدم مغادرتها منزلهم إلى منزل الزوج إلى سوء في معاملة الزوج وقفوا عليه طَوال السنتين اللتين أقام فيهما معهم، معاشِرًا لزوجته في منزلهم.
إذ ليس من الحكمة أن يطلب الأبُ طلاق ابنته من زوجها بعد سنتين في معاشرته الزوجية بسبب استقلاله في السَّكَن وانتقاله إلى مسكن جديد، أو بسبب مشاكل تافهة من المشاكل اليومية.
ولكن ربّما كشفتْ إقامة الزوج في منزل والد الزوجة مدة هاتين السنتين عن "بُخل" الزوج، أو عن انتهازيته واستغلاله لزوجته وأسرتها، أو عن عدم شعوره بالمسؤولية الأسرِيّة؛ الأمر الذي يشير إلى "شقاء" مُتَرَقَّب في حياة ابنتهم لو انتقلت مع زوجها في المسكن الجديد وانفرد بها في حياة واحدة.
والرأي هو إعادة الزوج لتقييم مسلكه، والعزم على تغييره لصالح الأسرة الجديدة، ثم محاولة إقناع أسرة الزوجة في حديث هادئ وعن طريق بعض المعارف الذين يحوزون ثقتَها بتغيير سلوكه وموقفه في الحياة.
103 ـ تزوَّجتْ ابنة عمِّي وأنجبت منها طفلين. وكنت أسكن في منزل أهلي معهم. وحدث خلاف ونزاع ذهبت الزوجة بعده إلى بيت أهلها، ورفعت الأمر إلى القضاء. وأهلي يُصِرُّون على طلاقها.. وأهلها يُصِرّون على عدم إقامتها مع أهلي.. فماذا أصنع؟(129/2)
المشكلة في سؤال السائل هي تدخُّل الأهل من هنا.. وهناك، وهذه مشكلة عميقة الجذور في مجتمعاتنا الشرقية، تترتب عليها آثار ضارّة فيما ينشأ من علاقات أسريّة بين الأولاد. وربّما أكثر الأسباب تأثيرًا في فصْم عُرى الزوجية في مجتمعاتنا اليوم يعود إلى أهل الزوج أو أهل الزوجة.. وليس إلى يُسر الطلاق، كما يُدَّعى في كثير من التقريرات، إذ لم يزل الأهل يُمارسون أنانيتهم فيما يسمَّى بحقِّهم على الأولاد، إنْ في توجيههم بعد الزواج.. أو في حلِّ مشاكلهم مع أزواجهم. ولم يتعوّدوا بعدُ أن يتركوا أبناءهم وبناتهم يحلُّون مشاكلهم الخاصة بالطريقة التي يرونها. وقد يُخطئون مرّات، ولكنهم سيفيدون حتمًا من أخطائهم في مستقبل حياتهم.
والمشكلة التي يَعرِضُها السائل هنا: هي مشكلة أهله.. ومشكلة أهل زوجته. فكلٌّ من الطرفين يُصِرُّ على رأيٍ في العلاقة الزوجية بين الابن والبنت يناقِض الرأي الآخر. وعلاقة الزوجين هي التي تتضرَّر بالتناقض بين الرأيين. وربّما الزوجة هنا لم ترفع الأمر إلى القضاء باختيارها. وربّما الزوج كذلك لا يرى الطلاق من زوجته، الذي يقترحه أهله عليه.
ولولا ضعف شخصية الزوج ما كان لتدخُّل أهله هذا الأثر في العلاقة بينه وبين زوجته. ولولا ـ أيضًا ـ صِلَة القرابة بين أهل الزوج وأهل الزوجة، ما وصل أمر هذه العلاقة بين الزوجين إلى هذا الحدِّ.
ومن الصَّعْب على الزوج أن يستقِلَّ الآن عن أهله في تقدير علاقته بزوجته التي هي ابنة عمه، والتي أنجبَ منها طفلين؛ لأنه تعود أن يسمع لأبيه وأمه. وكان من الخطأ أن نفذ مشورةَ أهله في السُّكْنى بزوجته معهم في مسكن واحد؛ لأنَّ حقد أمه الآن على زوجته سيزداد قوة واتساعًا.. وسترى في كل عمل تباشره هذه الزوجة خطأ.. وستحاول تحصين ابنِها ضد أخطاء هذه الزوجة، بما يجعله على الأقلِّ يحتاط في شأنها وشأن ما تُحدِّثه به عن الصعوبات التي تلقَاها من أمِّه، بدلاً من أن يَزِيد ثقته فيها.(129/3)
ومن الصعب أن تسمع أم الزوج ـ أيضًا ـ أنَّ رعاية الوالدين وطاعتهما التي أوصى بها القرآن الأبناءَ نحو والديهم، في قول الله تعالى: (واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 24) لا تتصل بشؤون الزوجية بين الأبناء. فالآية تُقَيِّد الذُّلِّ هنا وهو بمعنى الطاعة بأنه الصادر من رحمة بالوالدين وشفقة عليهما: (واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمةِ).. ولا شأن للرحمة بالوالدين بالخلافات الزوجية.. وعلاقة الزوج بزوجته من الأبناء.
الأم لا تسمع ذلك ولا تَرضَى به؛ لأنه يَعِزُّ عليها أن تدع ابنها لامرأة أخرى هي زوجته.. وأم طِفليه.. وابنة عمِّه. هي تريد أن تحتفظ به لنفسها.. وتحصل وحدها على منفعته المادِّيّة، أو على الأقلِّ تتصرَّف فيها دون غيرها من نسوة أُخَر، ولو كنَّ بناتِها.
والرأي أن الابن يَعتَمِد على الله ويَترُك مسكن أهلِه ليسكن مع زوجته وولديه في مسكن مُسْتَقِلّ.. ويُخَصِّص عواطفه وخدماته لأسرته الجديدة، على أن لا يَغفل حاجة والديه، وعلى أن يلتزم رعايتها بما يحقِّق الإحسان إليهما. وإذا انتقل إلى مسكن جديد الآن لا يُقال: إنه أطاع عمّه.. والد زوجته. وإنما فقط هو قد سلك الطريق الذي يُجَنِّبه الاحتكاك بالأهل هنا.. وهناك.. ويحفظ السُّكْنَى والمودَّة لعلاقته الزوجية: (ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَودّةً ورحمةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ) (الروم: 21).
106 ـ إنِّي شابٌّ متزوّج ومن المنوفية أعمل مدرِّسًا بمحافظة كفر الشيخ. وبعد الزواج أردتُ أن تُسافر زوجتي معي إلى محلِّ عملي فغضب والدي. وأصَرَّ على بقاء زوجتي في منزل عائلتي الذي يعيش فيه هو وإخوتي. فماذا أصنع؟
الجواب:(129/4)
هل إصرار الوالد هنا على إبقاء زوجة الابن في منزل العائلة يعود إلى الحرص على الاحتفاظ بما يُسْهِم به الزوج من مُرَتَّبه في نفقات الأسرة لقاءَ معيشة زوجته مع أفرادها؟
أم أن إصراره على بقائها بعيدة عن محلِّ عمل الزوج هو للحفاظ على الزوجة نفسها وعدم في مُباشَرة الزوج مسؤوليته نحوها؟
إن كان الأمر يَرتَبِط باستمرار الإسهام في النفقة العائليّة فهذا الصنيع منه طريق خاطئ لحصول الوالد من ابنه المُوَظَّف على مساعدة ماليَّة. والطريق السليم هو أن يُكاشف ابنَه في حاجته في غير تستُّر وراء تصرُّف قد يُسيء إلى علاقتهما ببعضهما أو إلى علاقة الزوج بزوجته، كمنع الزوجة هنا من أن تذهب مع زوجها إلى مكان عمله.
وإن كان الأمر يتعلَّق بعدم ثقة الوالد بمسؤولية ابنه أمام زوجته إذا سكن معها بعيدًا عن أسرة والده.. فلماذا شارَك الأب نفسه في إتمام عقد زواجه على زوجته؟ إذ قَبول الزوجة في منزل أسرة الوالد للزوج دليل على رِضاء هذا الوالد بزواج ابنه منها، وعلى حُسْن ظنِّه به في قيامه بمسؤوليَّة الزوجية.
إن والد الزوج هنا ليس طرَفًا في عقد الزوجيَّة. وليست له ولاية على الزوج طالما دخل ابنُه عقد الزواج وهو في سِنِّ الرُّشْد. وليست له كذلك سلطة شرعيّة في التدخُّل في أمر هو من خاصة الزوجين وحدهما، إذ ليس بحاكم ولا صاحب ولاية عامة. واستمراره في منع الزوجة من أن تعيش مع زوجها في محلّ عمله قد تكون له نتائج سيّئة عديدة: على عمل الزوج نفسه، وعلى نفسيّة الزوجة، وعلى مستقبل العلاقة الأُسريّة بين الزوج من جانب، ووالده وإخوته من جانب آخر.
والزوج في نظر الإسلام له وِلاية على زوجته، وولايته حقٌّ له طالما يقوم بالإنفاق عليها: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (النساء: 34). ومُقْتَضَى حق الزوج هنا أن يُمَكَّن من معاشرة زوجته.(129/5)
والزوجة في نظر الإسلام ـ أيضًا ـ لها حقٌّ على زوجها في معاشرته والسَّكَن معه: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعروفِ) (البقرة: 228). فإمساك الزوجة بعيدًا عن الزوج هو نَوْع من "الفصل" المنهيِّ عنه في قوله تعالى: (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) (البقرة: 232). فقد كان الأمر سائدًا في الجاهلية، وهو عصر المادِّيَّة الجارفة، أن يتَّجِرَ الرجال الأقارب بالنساء في زواجهن فيَحُولون بين الزواج لفائدة مادِّية تعود عليهم من قِبَلهِنّ. ...
والوالد بإمساكه الزوجة عن أن تسافر مع زوجها لفائدة ماليّة تعود عليه من إمساكها ـ أشبه في تَصَرُّفه بتصرُّف المادِّيّين في عهد من عهود المادِّيّة الطاغية التي لا تؤمن بالله واليوم الآخر.. أي لا تؤمن برُوحيّةٍ في حياة الإنسان.
والزوج هنا له ـ إذن ـ الحقُّ كل الحق في اصطحاب زوجته معه وفي الإقامة سويًّا في مكان عمله. وعليه أن يتخيَّر طريقًا هادئًا لإقناع والده بسفر زوجته معه. إذ ربَّما يكون الوالد صاحب نية حسنة ولا يبغي إلا الخير من وراء تصرُّفه هذا.
وبقَدْر لبَاقة السائل في مُعالجة مشكلته المطروحة هنا.. بقَدْر ما يُحافظ على المودَّة والصفاء في علاقته بجميع أفراد الأسرة. ومن بينهم الوالد والزوجة.
108 ـ امرأتي خطبتْها أمِّي ووافقت عليها، ظنًّا منِّي أنَّ هذا يحفظ علاقة الوُدِّ بينهما في المنزل. ولكن الآن أبي وأمي على عكس ما توهَّمت، لا يُطيقانها، وهى لا تسيء إليهما. وحفظًا على رضاهما وراحتي خرجتُ من المنزل وأقمتُ بعيدًا عنهما، وأَصِلُهما. وهما يدعوان لي وحدي بالإنجاب من غيرها ويتمنَّيان زوالَها ولا ذنب لها. فهل أطلِّقها إرضاءً لهما؟(129/6)
إن الطلاق في الإسلام شُرِع لرفع الضَّرر في المعاشَرة الزوجيّة، أي في المعاشرة بين الزوج وزوجته، سواء أكان الضَّرر من الزوجين معًا أو من أحدهما. ولم يكن لإرضاء الوالدين بسبب غضبهما على الزوجة. وقوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (البقرة: 229).. يوضِّح أن سبب الطلاق يعود إلى الزوجين وحدهما. فجعله مرة بعد أخرى، كي يُراجع كل منهما علاقته بالآخر في مدة العِدَّة ويُعيد تقييم الوضع لهذه العلاقة، وطلب بعد هذه المراجعة أن يكون الوضع هو وضع الرِّضا بالمعاشرة بين الطرفين مستقبلاً، أو وَضْع الفُرقة بينهما في إنسانية وتهذيب.
وإذن الطَّلاق ليس وسيلة للانتقام، كما لا يكون وسيلة للإرهاب والتهديد. وإنَّما هو حلٌّ أخير لمشكلة نفسيّة لا يستطيع أي حل آخر أن يكون بديلاً عنه.
وتأزُّم العلاقة بين والديك من جانب وزوجتِك من جانب آخر يعود إلى أنانيّة الوالدين قبل أن يعود إلى موقف معيَّن تتَّخذُه زوجتك حُبًّا لهما. فهي غير مُذنِبة إطلاقًا، كما جاء في كتابك. وأنانية أي إنسان لو تُركتْ وشأنها لا تبني في العلاقة الإنسانية، وإنَّما تهدِم. ولذا يجب الصبر ـ مع اللُّطف واللِّين ـ في معاملة الوالدين، في الوقت الذي تعبِّر فيه لزوجتك عن رضاك عنها والتمسُّك بها. والأيام وحدها كفيلة بحلِّ أزمة العلاقة بين الطرفين، طالما التزمت طريق الحكمة.
أما إنجاب الولد فذلك مرهون بإرادة الله وحده: (للهِ مُلْكُ السَّمَواتِ والأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِناثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإِنَاثًا ويَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى: 49ـ50). فلا يكن عدم إنجابك الولد الآن من زوجتك القائمة معك بسبب يُثير غضبك عليه وتشترك بذلك مع والديك في اضطهادها. فربّما الخير في وضعك القائم الآن.(129/7)
50ـ الزوجة وحماتها في الأسرة
سيدة من إحدى الضواحي تذكر في رسالتها إنها تزوَّجت منذ ثلاث عشرة سنةً، وكان لزوجها ثلاثةُ أولاد من زوجةٍ سابقة، ويبلغ عمر أكبرهم خمسَ سنوات، بينما عمر الأصغر سنتانِ، وقد أنْجبت هي ثلاث أولاد كذلك من هذا الزوج، وأصبحت مع ستةِ أولاد وأبيهم الذي هو زوجها. ...
وتحكي أنها لم تُفرِّق لحظةً ما بين أولادها من الزوج وأولاد الزوج من زوجته السابقة: في المُعاملة والمأْكَل والمَلبس، والرعاية. بل ابن زوجها هو ابنها تمامًا والأولاد جميعًا الآن في سبيل التخرُّج إما من المدارس المهنية الثانوية أو من الكليات الجامعية.
ولكنها تشكو من حَماتها، وهي امرأة مُقعدة وتحتاج إلى خِدمة مستمرة، وقد أحضرها زوج السائلة إلى منزله لتعيش معه فترةً من الوقت. ولهذه الحماة أربعة أولاد غير زوج السائلة. وفي مدة الشهر الذي أقامتْه عند زوجة ابنها كانت سَليطةَ اللسان معها، كما كانت تدعو عليها.. إلى أن مرضت الزوجة. وأمر الطبيب المُعالج أن تُبعد عنها كل ما يُسبب لها توتُّر الأعصاب، وهنا تدخَّل زوجها ونقل أمه إلى منزل أحدِ إخوته. ولكنها استمرت مع ذلك في الدعاء عليها، وتحريض الأولاد عند زيارتهم لها على الخُروج عن طاعتها هكذا تحكي السائلة. ...
... وهي تسأل كيف تتقي شرَّ دعائها؟ هل إذا توفيت هذه الحماة وهي لم تَصفح عنها بعدُ.. تنال هذه الزوجة ضرَر دعائها؟(129/8)
إذا كانت السائلة صادقةً فيما تحيكه عن حُسن معاملتها لأبناء زوجها من زوجته السابقة.. وفي أنها لا تفرق بين ابن لها من الزوج، وأخٍ له من أم أخرى فإنها تكون صادقةً فيما تَصف به حماتها من سَلاطة اللسان. ... ...
والحماة التي طعنتْ في السِّنِّ وأُصيبت بالشلل، لها العُذر إذا كانت ضيِّقةَ الصدر ولكن على أية حال: لا ينبغي أن تَفقد الصبر والتحمُّل في معاملتها لمَن يقمْنَ بخدمتها وعلى رعاية مصلحتها كزوجة ابنها السائلة هنا، وإلا ضاقَ بها ذرعًا كل مَن وَجَبت عليه خِدْمتها لعلاقةِ رحِمٍ معها.
وفي مسألة دعاء الحماة على زوجة ابنها هنا يجب أن تَغفر لها هذه الزوجة ما يصدر من أقوالٍ. ومِن هذه الأقوال: الدعاء عليها، فوضع الزوجة هنا أقوى من وضْع الحماة، وإنْ كان أولادها جميعًا على قيْد الحياة، ويُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "تعلَّموا مِن أنسابكم ما تَصِلون به أرحامَكمْ.. فإن صلةَ الرحِم مَحَبَّةٌ في الأهل، مَثراةٌ في المال، مَنْسأةٌ في الأثَر". "أيْ لها صلة بالزيادة في الثَّراء والغِني.. ولها صلة كذلك بطُول العمر" .. كما يُروى عنه: (ما مِن ذنبٍ أجدر أن يُعجِّلَ اللهُ لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يَدَّخِرُ له في الآخرة: مثل البَغْيِ.. وقطيعةِ الرحِم.. فجعل قطيعةَ الرحِم بمَثابة الظلم والاعتداء على الآخرين، في أن كلًّا منهما أولَى بتعجيل عقوبة الله في الدنيا، بالإضافة إلى ما هو مُنتظر في الآخرة، ولا شكَّ أن صَنيع السائلة هنا هو تجنُّب حماتها وعدم الاتصال بها بدعوى أنها تدعو عليها وتُحرِّض الأولاد ضدَّها.(129/9)
ولو أن السيدة السائلة كانت تسلك مع حماتها مسلك الكاظمينَ الغيظَ والعافين عن الناس لم تكن في عِداد المُحسنين لغيرهم فقط، كما تَنطق الآية الكريمة: (الذينَ يُنفقونَ في السرَّاءِ والضرَّاءِ والكاظمينَ الغيظَ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ). (آل عمران: 134).. وإنَّما كذلك تُحْسِنُ لنفسها فستَجد صدْرًا رحْبًا مِن زوجها.. وستجد الأولاد يَتردَّدونَ في نقْل الكلام السيئ إليها.. وستجد مِن حَماتها بعد مرور فترة من الوقت: ما يجعلها راضيةً عنها؛ لأنها بكَظْم غيْظها تدرأ السيئةَ بالحَسنة، (ويَدْرَأُونَ بالْحَسَنَةِ السَّيِئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقبَي الدَّارِ). (الرعد: 22).. ...
وإذا صبِرت على أذَى حماتها بالدعاء عليها تكون قد عبدتِ الله حقًّا، فيُروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما أحدٌ أصبرُ على أذًى يسمعهُ مِن الله ـ تعالى ـ إنهم يجعلون له نِدًّا، ويَجعلونَ لهُ وَلَدًا، وهو مع ذلك يَرْزقهم ويُعافيهم).. فسبحانه جل جلاله مع سوء موقفهم منه يتفضَّل عليهم بما يمُدُّ لهم من أسباب الحياة؛ لأن صُنع الطيِّب والمعروف على مدَى الزمن يُنتج آثاره الطيبة في علاقة الناس بعضهم ببعض.(129/10)
يجب على السائلةِ أن تكفَّ عن الشكوَى مِن حَماتها.. وأن تبدأ معها صفحةً جديدة، وهي صفحةُ العفْو والتسامُح.. صفحةُ إكرامها وبِرِّهَا ورعايتها. يجب أن لا تُقابِل إساءتها بإساءةٍ منها فقد جرَّبت مقابلة الإساءة بالمثل. وكانت نتيجة التجربة أن مَرضت بأعصابها وحذَّرها الطبي المُعالج من الاسترسال في الوقوع تحت تأثير الانفعالات.. كما غضِب زوجها منها، وإن لم يُعلن لها غضبه صراحةً، فتَحذيره إيَّاها مِن استجابة الله لدعاء أمه عليها: أمارةٌ على عدم رِضاه عن موقفها منها. ...
وإذا كانت تُؤدِّى فرائض العبادة لله.. وإذا كانت ترعَى أولاد زوجها جميعهم بدون تفرقة في الرعاية والمعاملة: فمِن اليسير عليها أن تَكظم غيْظها.. وأن تصبر على أذَاها بالكلمة والقول.. وأن تَفعل الحسَنة بدلَ السيئة.. وسترى أنها خَلَقت جوًّا عائليًّا تعيش فيه هادئةً مطمئنة مع حماتها، وأولادها، وأحفادها.. وستجد أن انفعالاتها النفسية قد ضعُفت أو تلاشت. كما ستجد أن الله سيُكرمها في حياتها المُقبلة وهي في سِنِّ الشيخوخة كما أكرمتْ هي حماتها في شَيْخُوختها وفي عجزها عن أن تفعل لنفسها شيئًا. ...
أما استجابة الله لدعاء حَماتها عليها فطالما وضعت الحَسنة مكان السيئة فالله ـ سبحانه ـ سيغفر لها خطأها وسيَجزيها بالحُسنى.
68ـ الحماة بين البنت وزوجها
مِن طبيب أسنان بإحدى المحافظات يتحدَّث عن قصة زواجه بوحيدةِ والديها، فيقول:
"إنه كان يعرف الأسرة قبل تخرُّجه في طبِّ الأسنان إذ كان يُساعد والدها أثناء الإجازة الصيفية، وقد بدت مِن مُعاملتها له أنها أسرة مِثالية وتزوج بهذه الابنة الوحيدة وأقام في السكن مع والديها، ورغم أن له مَسْكنًا خاصًّا في منزل والده، ولكن حَماته اشترطت أن يُقيم مع ابنتها في مَسكنها واستجاب لذلك.(129/11)
... ولكن بعد مُضي بضعة أشهر على الزواج والمُشاركة في المسكن ابتدأ يُحسُّ بالضيق، والألم، ثم بالعذاب كذلك، وابتدأ يُواجه حماته بعدم تنفيذ رغباتها، وابتدأت حماته تُواجهه بالشتائم والسِّباب، والإهانة، والطرْد مِن المَسكن، ويذكر على سبيل المثال في مُواجهة حماته له: أن طلبت منه أن يقوم بغَسل الملابس وغسل الأطباق، وتَنظيم البيت، والأكثر من ذلك كانت ترفع الشِّبْشب، والحذاء لتَضربه بأيٍّ منهما، كما رفع والدها المكنسة، لضربه بها على مرأَى ومَسمع مِن زوجته، واضطرَّ لمُغادرة المنزل"، وطلب من زوجته أن تُصاحبه للسُّكْنَى في مسكنه المُخصَّص له عند والده فمَنعتها والدتها مِن مُغادرة المنزل واستجابت الزوجة لوالدتها.
... وذهب للمحامي كي يُطلقها، ولكن والده طلب منه التأنِّي، ومُحاولة الرجوع إلى زوجته، وبالأخصِّ أنها حاملٌ الآن، فأطاع مَشورة الأب، ولكن والد الزوجة حضر إلى والده وخيَّره ـ كي يعود إلى زوجته ـ بين ثلاثة أمور:
إما أن يُوفر الزوج شقَّة مفروشة.
أو شقة غير مَفروشة ليست عند أهل الزوج، ولا عند أهل الزوجة.
أو يرجع إلى منزل حماته مرة أخرى.
... وكان ردُّ والد الزوج: أن الزوج حديث التخرُّج وليس لديه من المال ما يغطي السُّكني المطلوبة وبعد فترة قصيرة وُلدت له بنت ولم يعلم بمَولدها إلاَّ من جيران حَماتها.. وأهل الزوجة قد اختاروا لها اسْمًا لم يَستشيروه فيه.
... والطبيب السائل في حيْرة مِن أمره فهو يُرغم من حماته من وقت لآخر على ترْك المسكن الذي تسكنه زوجته، وهو مسكن والديها، وقد ترَكه عدة مرات وعاد أيضًا عدة مرات إلى زوجته فيه.
... فهل يُطلق زوجته إذا رفضت الانتقال إلى مَسكنه في منزل والده ويُنهي هذه العلاقة البائسة؟ مع أنه يُؤمن بأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق. وهو يُريد أن يَبني أسرة مسلمة على المحبَّة والإيمان بالله.. وحماته تريد ـ كما يقول ـ أن تهدم ما يَبنيه. ماذا يفعل؟(129/12)
الطبيب وزوجته مجنيٌّ عليهما معًا مِن والدة الزوجة.
ووالد الزوجة مسلوب الإرادة في هذه العلاقة أمام زوجته.
والزوجة مُستسلِمة لوالدتها ولكنها تُبادِل زوجها المحبة.
والمشكلة هي مشكلة الطبيب مع حماته، ومسئولية سُوء المعاملة معها تقع على الطبيب وحده، وأول عامل في هذه المسئولية: أنه قبِل السكْنَى مع حماته رغم أن له مَسكنًا خاصًّا في منزل والده، نعم هو لم يكن يتنبأ لهذا التحول في سلوك حماته معه وبأنها تُكلفه بالعمل في المنزل، وتُهينه بالشتْم والسبِّ، والعبارات الجارحة، ولكنه كان يتصوَّر على الأقل أنها كأمٍّ تُريد أن تَستأثر بابنتها فتكون لها وحدها وتُمارس نُفوذها عليها دون أن تَسمح لشريكٍ لها ـ وهو هنا زوجها ـ بمنافستها فضلاً عن أن يَستقلَّ بالأمر معها.
... بنت وحيدةٌ ورغم زواجها من الطبيب، لم تزل بالسكنى مع والدتها في مسكن واحد، في حضانتها هي، فهي لم تخرج من عواطف أمِّها إلى عواطف زوجها.. ولم تخرج مِن نُفوذها إلى وِلاية زوجها.. والزوج في نظر أمها يكاد يكون أجنبيًّا عن ابنتها، فإذا أراد الزوج عندئذ أن يُمارس ولايته على الزوجة وهي هنا تسكن مع والدتها، فالأم تتصدَّى له وقد تتصدى له بعُنف إذا رفع صوته أو تشدَّد وألحَّ في مُمارسة ولايته على الزوجة.
وضْع البنت الوحيدة التي تتزوَّج وتظلُّ في السكنَى مع والدتها لم تخرج من دائرة نُفوذ الأم ويجب على الزوج الذي يَقبل البقاء في السكن مع حماته من أجل ابنتها، أن يقبل أيضًا وضْع التابع في المُعاملة، وأن يَستسلم كليةً لمَا تَفرضه أم زوجته، فالبيت بيتها، وليس لابنتها أو لأبيها والبنت ابنتها وتحت طواعيةِ أمرها خالصًا.(129/13)
وزوج البنت يكون عندئذ ناشزًا في نظر أمها إذ طلب لنفسه في البيت الآن الاعْتبار كرجلٍ مُستقل، أو كشريكٍ مُساوٍ لها في التصرُّف وبالأخصِّ مع زوجته، طلَبَ الطبيب هنا من زوجته أن تبيع حُلِيَّها وتسلمه الثمن ليُسافر به إلى بلد من البلدان العربية فأبَت عليها أمها وكان إباؤها نافذًا، طلب مِن زوجته أن تنتقل معه في مسكنه الخاص عند والديه فمَنعتها والدتها فكان موقفها عدم الاستجابة إلى ما طلب زوجها. ... ...
فالحماة تملك التصرُّف وحدها في المسكن وما يدور فيه، ومع مَن يسكن معها، والشاب الجديد، وهو زوج البنت على أحسن الفروض في نظرها هو ضيفٌ، والضيف حسب العُرف لا يُعارض.. ولا يَنقد شيئًا لا سِرًّا ولا جهرًا.(129/14)
والخطأ الآن ليس في أن يُطلِّق السائل زوجته، فهي في الواقع لم ترتكب معه خطأ حتى الآن، وعدم استجابتها لمَا يطلبه منها مُكرهة عليه، فكما سبق أن ذُكر: هي لم تخرج بعد من حضانة والدتها ومِن نفوذها، وهي كذلك لا تستطيع استطاعةً مادية في وضْعها القائم أن تُلبِّي طلب زوجها، عندما يَطلب منها مثلاً الانتقال إلى السكن الخاص له. ...
وتُقدم الدلائل النفسية كما تُوحي بها رسالة الطبيب هنا ـ على أن علاقة الوُدِّ والمحبة قائمةٌ بينه وبين زوجته، وربما هذه العلاقة في قُوتها هي التي مَهَّدت عنده: أن يقبل السكنى مع زوجته عند حماته، فقد ألحَّت عليه هذه الحماة في أن يسكن مع أسرتها كولدٍ لها، وبذلك يُوفر عليها المشقة النفسية في ابتعاد ابنتها الوحيدة عنها في مَسكن آخر فقبِل، رغم وُجود السكن الخاص به. ...
... وأنه رُزق بمولودة له، وليس من السهل عليه أن تنشأ هذه الصغيرة بعيدةً عنه، وليس من السهل عليه أيضًا أن يترك زوجته ـ والعلاقة معها علاقة حبٍّ ومودة ـ مع وَحيدته تحمل هموم تنشئتها في غيْبته. ...
... والطلاق إذَن ليس واردًا كحلٍّ لمشكلة السائل، والحل يُمكن إذا توفَّرت ثقةُ الحماة في زوج ابنتها، وتوفُّر ثقتها فيه لا يتمُّ إلا إذا سلك أسلوبًا هادئًا في مُعاملتها، والْتزم بما تُشير به، على الأقل فترةً من الزمن واعتبر نفسه ضيفًا عليها هذه الفترة، وربما يَظنُّ أنه إذا سلك هذا الأسلوب الهادئ معها يكون قد تنازل عن كثير من حُقوقه كرجل وكزوج، ولكنه الآن هو في أزمة والخروج منها يحتاج إلى الصبر أولاً، ثم عدم الحساسية الحادَّة، التي كانت سببًا في عُنف أزمته بتوتر العلاقة مع حماته. ...
وإذا استطاع في هذه الفترة التي يَعتبر نفسه ضيْفًا على حماته، أن يتعاقد على عمل خارج مصر في أيِّ بلد عربيٍّ ويُسافر مع زوجته إلى هذا البلد يكون قد أحسن صُنعًا لنفسه ولعلاقته مع زوجته، ومع أسرة هذه الزوجة، إذِ المدة التي(129/15)
سيقضيها خارج مصر كفيلة بتوطيد العلاقة مع زوجته أولاً. ووُجود البنت بينهما سيُساعد على نمو هذه العلاقة نُموًّا مزدهرًا. وسيُحسُّ وهو بالخارج أن علاقته الزوجية ابتدأت بسَفره.. وأن المدة التي قضاها مع حماته كانت تجربةً أُكْره على الدخول فيها. ...
... كم من العلاقات الزوجية بين مِصريينَ ازدهرت بعد أن ترك الأزواج والزوجات أهلهم في مصر، واستقرُّوا للعمل فترةً خارجها، إذْ قد توفر الآن للزوجة والأولاد وقت الزوج، كما ابتعد عن الدخول في شُئونهم لسبب مِن الأسباب أهل الزوج أو أهل الزوجة، وحلّ مشاكل الزوجينِ أصبح لهما وحدهما. ...
... والزوجة المِصرية طيِّعة.. والزوج المصري في أغلب حالاته طيِّب القلب.. والذي يفسد العلاقة بينهما هو تدخُّل أهل الزوج أو أهل الزوجة، وسفر الزوجينِ معًا إلى الخارج هو الطريق العملي لقوة الترابُط بين الزوجين في سِنِّ الشباب وفي بداية الزواج، هناك في الخارج يكون التعاطُف بينهما على أشدِّ ما يكون، ولا يُزعجهما أجنبيٌّ عنهما، والعمل في الخارج إذا كان الدافِع عليه في أغلب حالاته هو رفْع الأجور، فإنه في ذاته العلاجُ لتصدُّع العلاقات بين الأزواج والزوجات، والطريق لتَصفية هذه العلاقات من كل الشوائب.
126ـ تدخُّل الأهل في التفريق بين الزوجينِ:
مواطن من إحدى القرى:
يُشير في رسالته إلى عادة شائعة في كثير مِن الأسَر في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، وهي عادة حمْل الرجل على تَطليق زوجته لسببٍ مِن الأسباب، وإغرائه على الزواج بأخرى، دون رعاية لمعنى إنسانيٍّ أو لصِلات أسرية قائمة، ودون اكتراثٍ باعتداء على حُرْمة الإنسان أو حقوقه.(129/16)
... ويذكر أن ابنةَ عمِّه تزوجت بشابٍّ في القرية، ولم يَمْضِ على زواجها به سوَى عامٍ واحد حتى أُصيبتْ بمرضٍ وشُفيتْ منه تمامًا، فما كان مِن أهل زوجة هذا السائل إلا أن عمِلوا على أن يَترك الشابُّ القروي زوجته التي مرضت ويُطلقها ليتزوَّج بعَديلة السائل، وفعْلاً طلَّق الشاب زوجته في حال النَّقاهة، وتزوَّج بعَديلة السائل "أي بأُخْت زوجته".
... والسائل يروي أن هذا العمل اللاإنساني أثارَ حفيظةَ نفسه، كما أثار الأزواج الآخرينَ مِن شقيقات زوجته، ودفَعهم جميعًا إلى التفكير في مُعاملة زوجاتهم بالمثل انتقامًا من تحريض أهليهنَّ على هذا العمل الخالي مِن المسئولية والذي يَنطوي على الأنانية وأصبح حديثَ القرية كذلك، ويَطلب الرأْي فيما عمِل.. وفيما العَزْم على عمله مِن أزواج شقيقاتِ زوجته وهو طلاقهنَّ.
زوجةٌ مضَى على زواجها عام واحد، ثم مرضت وسرعانَ ما شَفِيتْ من مرضها، واستغلَّ أهل زوجة السائل فترة المرض ليَدفعوا بشقيقتها لتحلَّ محل المريضة في الزوجية، دون رعاية لحُرْمة أو حقٍّ إنسانيٍّ للزوجة التي كانت مريضة، وفعْلاً طلَّقها زوجها وتزوَّج بأُخرى.
... وهنا الآن أُكْرِهَ زوجُها إكراهًا مُقَنَّعًا على تطليقها، وليس هناك مِن سبب لتَطليقها إلا أن يتزوج الزوج المُكره مِن الأخرى، والأخرى هي شقيقة زوجة السائل وشقيقة زوجات عدائله. والسائل وعدائله غاضبون بسبب هذا التصرُّف الذي يَعُدُّونَهُ شائنًا ولا إنسانيًّا.(129/17)
السائل قد يكون غضبُه أن المريضة هي ابنةُ عمِّه. ...
وعدائل السائل قد يغضبون مُجاملة للسائل، وقد يكون غضبُهم جميعًا بسبب ما تمَّ تعبيرًا عن اعتداء على ضعيفٍ، وهو تلك الزوجة التي خرَجت مِن مرضها البدنيِّ لتُواجِه مرَضًَا أسوأ منه، وهو مرَضها النفسيُّ بسبب تطليقها وزواج زوجها بأخرى عليها، كانت بالأمس زوجةً، أي كانت صاحبةَ أملٍ في مَن يُساندها فأصبحت الآن بدون رفيق لها، على الأقل في الوقت الحاضر. ...
... ... إن الإسلام إذا كان قد يَنظر إلى الزوج الذي طلَّق زوجته هنا، على أنه مُكرهٌ على الطلاق إكراهًا مُقنَّعًا بسبب وَسوسة أهل الزوجة الجديدة ـ وطلاق المُكره لا يقع ـ فلم تعد الزوجة السابقة وحدها هي صاحبة البيت كما كانت مِن قبل بل البيت شركةٌ بينها وبين الزوجة الجديدة.(129/18)
... الإسلام ينهَى عن أن يَخطب الرجل على خِطبة رجلٍ آخر قبْله، أيْ ينهى عن أن يتقدَّم رجلٌ لخِطبة امرأة يعلم أنها مَخطوبة لغيره؛ لأن ذلك يُؤذي نفسيًّا مَن تقدم مِن قبلُ للخطوبة وبالأولَي ينهى عن أن يتقدم أحدٌ لحمْل الزوج على أن طلَّق زوجته التي في عِصْمته، ليُزوِّجه بواحدة أخرى غيرها، كما هو موضوع الشكوى من السائل، ففي الحديث الشريف يُروى عن ابن عمر: أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَخطب الرجلُ على خِطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يَأذن له الخاطب).. وفي حديثٍ لأبي هريرة أن الرسول ـ عليه السلام ـ نهى أن يخطب الرجل على خِطبة أخيه، أو يَبيع على بيْعه، ولا تَسأل المرأة طلاقَ أُختها ـ أيْ في الدين ـ لتكتفئ ما في صَفْحتها أو إنائها ـ أي لتأخذ ما في يدِها وهو زوجها ـ فإنَّما رِزْقُها على الله".. ...
فمَنْهِيٌّ: أن يخطب الرجل خطيبة رجل سبقَه إلى خِطبتها، ومنهيٌّ: أن يَبتاع رجل ما قد بِيعَ من قبلُ لغيره، فهو يدخل ليُفسد عليه البيع أو يُصعِّد عليه الثمن. ...
ومنهيٌّ: أن تَسأل المرأة طلاقَ زوجةٍ في عِصْمة زوجها لتحلَّ محلَّها، وكأنها تَغتصبه مِنها، وهذا الحديث يُصرِّح بالنهْي عمَّا تَمَّ في تطليق الزوجة المريضة وتزويج المُطلِّق بامرأة أخرى تحت تأثير الإغْراء أو الإكْراه المُقنَّع وهي الحالة التي يسأل عنها السائل.
إن الوضْع الذي يشكو منه السائل هو وضْعُ حُبِّ الذات أو الأنانية، فأهل زوجته يُؤْثرون أنفسهم باختطاف الزوج مِن زوجته، ولو كانت في صحةٍ، لكان هذا العمل شائنًا مع ذلك، فما بالُنا والزوجة تَفتح عينيها على خرابِ بيتها، بعد مرضٍ هدَّدها في حياتها.(129/19)
... إن الإيمان بالله يَحمل المُؤمن على أن يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، ولو أحب المؤمن بالله أخاهُ، كما يحب لنفسه وأحبَّت المؤمنة بالله أختها في الإيمان والدين، كما تحب نفسها لمَا تَساندتْ عوامل الشرِّ في أسرة زوجة السائل على خطْف الرجل مِن زوجته المريضة ولم يمضِ على زواجها به أكثر مِن عام.
... والإيمان بالله هو علاجُ هذه الزوجة التي طُلِّقَتْ، وكانت مريضة، يجب أن تتوكل على الله، وتعتمد عليه في السرَّاء والضراء، إنه سيتكفَّل بها وسيَرزقها بمَن هو أحسن مِن زوجها السابق، في دِينه، وفي ماله، وفي مَروءته ورُجولته، إنها يجب أن تعتقد أن ما وقع ليس شَرًّا، وليس طلاقها مصيبةٌ، كما يظنُّ الكثيرون، ربما يكون لها في واقع الأمر تخليصًا لها مِن شرور كانت في الطريق إليها لو بقيت مع زوجها .
أما المرأة التي اختطفت الرجل وتزوَّجتْه .. فغالب الأحوال أنها لا تَسْعد بالزواج به؛ لأن كلاًّ منهما قد أثِمَ في حق شخص بريء ضعيف. وأمَّا أسرة هذه الزوجة فسوف ينكشف لها سُوء ما فعلت. وعندئذ ستندم علي ما قدَّمت مِن أضرار لإنسانٍ لم يملك الدفاع عن نفسه.
والعدائل الذين يتزوجون من شقيقات التي رضيتْ بالزواج ممَّن خطفتْهُ أسرتُها لها ليسوا بحاجةٍ إلى الانتقام مِن هاتِه الشقيقات؛ لأنهم سيُسيئون إلى مَن لا ذنب لهنَّ ولْيُعاملوا أُولاءِ الشقيقات بالمَعروف، ويُحسنون إليهنَّ، ويتركون الأمر لله، إنه يعلم السرَّ وما يخفَى .. وهو القادر علي كل شيء.(129/20)
87 ـ أقوم لزوجتي وأولادي بكل ما يلزم، ولكن عندما يحدث سوء تفاهم بيني وبين زوجتي تنسى الخير وتذكرني بأشياء تافهة حدثت منذ سنوات، وتثور وتهجرني في الفراش، وتبيت مع أولادها، الأمر الذي يضطرُّني إلى مصالحتها حرصًا على جمع الأسرة وعدم تشتيتها، رغم أنها تكون المخطئة. فما الحكم؟
ربما ما يؤدِّيه الزوج هنا لزوجته وأولاده ـ مما يصفه بكل ما يلزم ـ هو الأكل والشرب والكسوة.. أي هي الجانب الماديّ. وربما هو يُقَيِّم هذا الجانب المادي ويبالغ في قيمته، ويَمُنُّ به في الحديث والمناقشة مع زوجته وأمام أولاده. ويعتقد، بسبب غُلوّه في تقييم هذا الجانب المادي، أن هذا الجانب هو كل شيء في الحياة الزوجية، وأنه يجب على الزوجة من أجل ذلك أن تُسْلِس قِيادَها له، ولو كان في الرأي الذي يراه في الحياة وراء العلاقة معها.
وليس أشدُّ ضررًا على العلاقة بين إنسان وإنسان ـ فضلاً عن العلاقة بين الزوج وزوجته ـ من الحديث عن العطاء أو عن الإنفاق من جانب المعطِي أو المُنفق؛ لأن الحديث عنه ينطوي على إيذاء نفسي. هو إشعار مَن ينتفع بالعطاء أو بالإنفاق بأنه صاحب حاجة إلى مَن يعطيه أو ينفق عليه. وإشعار صاحب الحاجة بحاجته، فيه إذلال ومهانة له. والنفس التي لم تتعود السؤال يَكبُر عليها أن تذلَّ، وأن تُذكَّر بحاجتها، ولو كانت هذه الحاجة من الأب أو الزوج.(130/1)
ومن أجل حرمة العلاقة الإنسانية والحرص على كرامة الإنسان ـ ولو كان صاحب حاجة في واقع الأمر ـ ينهى القرآن الكريم عن "المَنِّ" وما يصحبه من أذى نفسي، في قوله: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ والأَذَى) (البقرة: 264). فجعل المَنَّ مبطِلاً للعطاء في غير مقابل، ومُذهِبًا بكل ما له من قيمة مادِّيّة ولذا يُؤْثِر على العطاء الذي يرافقه المَنُّ والأذى النفسي، قول المعروف واللفظ المهذَّب الذي يَحمِل تكريم الإنسان لإنسانيته، ويحفظ عليه إحساسه الإنساني: (قَوْلٌ مَعْروفٌ ومَغْفِرةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة: 263).
وعلاقة الزوج بزوجته، كما تفرض عليه الإنفاق في غير مَنٍّ وأذى نفسي.. أي كما تفرض على الزوج قيامه بنفقات الأكل والشرب والكسوة لزوجته، ولأولاده الصغار إن كان له أولاد صغار دون الرشد، تفرض عليه قبل ذلك وفي الدرجة الأولى: المعاملة الكريمة المهذبة، وهي المعاملة التي تُبعِد كل أذى نفسي لها.. التي تُبعد ما يُشعِرُها بقيمه أدنى من قيمته، فضلاً عما يُشعِرُها بالمذَلّة والمهانة.
والقرآن إذ يقول: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْروفِ، وللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجةٌ) (البقرة: 228). في شأن المُطَلَّقات اللائى يردُّهنَّ أزواجهن أثناء العدة، فإنه ينبغي أن يذكر الزوج بما يجب عليه في علاقته بزوجته.
وما يجب عليه ليست فقط: المُساواة في الواجب والحقوق ـ وهى واجبات ليست متماثلة في نَوْعِها، وإن تساوتْ في تقابُل بعضها لبعض ـ وإنّما زيادة فيما يجب على الزوج نحو زوجته، وفيما يحقُّ للزوجة على زوجها.(130/2)
هذه الزيادة في واجب الزوج، وهى "الدرجة" التي أشير إليها الآن بقوله: (وللرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجةٌ). هذه الزيادة هي الإحسان والتهذيب في المعاملة للزوجة هي المحافظة على شعورها الإنساني وعلى كرامتها الإنسانية، والحرص على تجنيبها الأذى النفسي في أية صورة من صور الإيذاء النفسي والمعنوي. وفي مقدِّمة تجنيب الإيذاء النفسي عدم المن بالقيام بواجب الأكل والشرب والكسوة.
إن الزوجة لا تهجر زوجها في فراشِه إلا إذا آذاها بعدم نظافة بدنه أو ثيابه، أو بعاداته السيئة المنفِّرة، أو بكثرة مَنِّه عليها بالإنفاق المادِّيّ أو باستعلائه عليها بسبب حاجتها إليها في منزل الزوجية.
إن المرآة أكثر طواعية لمَن يشعرها بذاتيّتها وكرامتها. ولذا قد تكون كثرة الثَّناء عليها سببًا في زَلّتها وخطيئتها.
فليراجع السائل نفسَه وتصرفاته، ثمَّ ليسلكْ ما يطلبه الإسلام من الرجل قِبَل زوجته. وآنئذٍ سيجد السُّكنى والمودّة عندها.(130/3)
132ـ مِن العادات في الزواج ما يَعُوق دون إتمامه
مِن أخت مسلمة موظفة بإحدى الوزارات تَروي أنه عَقد قرانَها أحدُ أقربائها منذ أربع سنوات، ولم يدخل بها حتى الآن، وكلَّما حدَّد أهلها موعدًا لزفافها واجَههم أهل الزوج بادِّعاء أنهم ليسوا على استعداد حتى الآن لاستقبال العَرُوس لابنهم.
كما تروي أن العلاقة بين الأسرتين شِبْهُ مقطوعة، وأنه يكاد يكون من غير المستطاع التفاهم على شيء ما بين أهل الزوجينِ.
وتفكير أسرة العَرُوس في اللجوء إلى القضاء ـ كما تقول الأخت المسلمة ـ يُعارضه في نظر الأسرة:
أولاً: نفقاتُ التقاضي كثيرة، والحاجة إلى المال في تربية الأولاد قائمةٌ.
ثانيًا: تَهديد أسرة الزوج بطلب طاعة الزوجة إذا رُفِع الأمر إلى القضاء، وإلغاء كل الأمَارات التي تدلُّ على الفرَح والزفَّة، وكذلك كل مُعاونة في إعداد مَسكن الزوجية.
وهي تسأل: ماذا تفعل في هذا الموقف وفي وضعها منه؟
عُقد قران السائلة على قريبها وأصبحت بذلك زوجةً له، وإن كان لم يدخل بها بعد، وهناك سُوء تفاهُم بين أسرة الزوج وأسرة الزوجة، إلى حدٍّ يُشبه القطيعة بين الأُسرتينِ، هل سُوء التفاهُم حدَث بعد القران؟ والسائلة لم تُشِرْ في رسالتها إلى وقت حُدوثه، وإن كان يُظَنُّ ظنًّا راجحًا أن حُدوثه كان بعده وإلَّا لَمَا تَمَّ. ...
وعندما تسأل الأخت المسلمة هنا عمَّا يجب أن تفعله الآن، في هذا الجو العائلي المُلبَّد بغُيوم الخُصومة والنزاع، ليس مِن السهل الحصول على سبيلٍ واضح يُحقِّق هدف الزوجية بينها وبين قريبها في وقت قريب، فهنا في أُسَرنا في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة نَخلط بين الأمور ولا نفرق بين قِيَمها.(131/1)
نزاع ينشأ بين الأسرتينِ لسبب من الأسباب ـ كما هنا ـ تكون له آثار سلبية على الزواج بين بنتٍ مِن إحدى الأسرتينِ وشابٍّ مِن الأسرة الأُخرى، دون أن يكون هناك دخل من أيٍّ منهما في هذا النزاع، ولكن العلاقة الزوجية تُصاب بأذًى بسبب هذا النزاع، وتُصبح الزوجة ـ مَثَلاً ـ كالمُعلقة؛ لا هي زوجة مَدْخول بها ولا هي مُطلَّقةٌ حِلٌّ لغيره. وتَستمرئ أُسرة الزوج تأجيل الزفاف، بينما تتضرَّر أسرة الزوجة بهذا التأجيل؛ لأنه دليل على بقاء الأزمة وعدم انفراجها بين الأسرتينِ. ...
ولو لم نَخلط بين قيَمِ الأشياء في حياتنا لتَقدَّمَ والد الزوج وربُّ أسرته في شجاعة إلى والد الزوجة وأتمَّ الزواج، ولا يُعتبر إتمامه للزواج عندئذٍ نتيجةَ ضعف منه، بل على العكس هو نتيجةُ قوة؛ قوة الرجولة والمروءة، والفهم المستقيم للأشياء، والتقرُّب إلى الله بمَا يُرضيه. فالسائلة ـ وربما قرينُها أيضًا ـ يعيش كل منهما في حالة توتُّر للأعْصاب في حال التردُّد بين الأمل في أن تَتِمَّ الفرْحة، وخَيْبة الأمل في ألاّ تتمَّ، ومُضِيُّ أربعِ سنوات على عقد القران دون أن يدخل الزوج بزوجته يُؤسِّس الشك في مستقبل العلاقة الزوجية. ...
وربما لو تَمَّ الزواج وانفرجت عُقدته تَصير الأزمة كلُّها بين الأسرتينِ نحو نهايتها، ويُصبح من السهل أن تتفاهم الأسرتانِ على زوال الأسباب التي أدَّت إليها. ...(131/2)
إن الانفعالاتٍ تتحكَّم في أحاسيسنا وتُسيطر على جانب العقل والحِكمة فينا، وقد تُخرج الإنسان عن دائرة التروِّي والاعتدال، والإسلام ينصحنا بألاّ نَتركَ الانفعالاتِ تَقُودنا في علاقةِ بعضنا ببعض، وتُخضع توجيهَنا في مُعاملاتنا وفي سياستنا للعُنف والغِلْظة والاستكبار الذي قد يُصاحبها، فالقرآن الكريم يَنصح الرسول، عليه السلام، والمؤمنين معه بعد غزوة أُحُد وهزيمة المؤمنين فيها بسبب خذلان بعض المنافقين للرسول، عليه السلام، وأصفيائه من صحابته ـ ينصحه باتِّباع صِفة الرحمة التي هي للمولَى ـ جل جلاله ـ وذلك بعدم التشدُّد في الخصومة، وبالعَفْوِ عن بعض الذي تسبَّب في خذلان المؤمنين في أُحد، ويطلب المغفرة لهم منه سبحانه، وبمُعاودة التشاوُر معهم في شئون الأمة، وفي مقدمة هذه الشئون الحرب والسلام، فيقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ولوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلبِ لاَنْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ فاعْفُ عَنهمْ واسْتَغْفِرْ لهمْ وشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ علَى اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159). ...
وما يَطلبه القرآن من الرسول ـ عليه السلام ـ هنا هو للحفاظ على وحدة الأمة وقوَّتها وارتباط أفرادها بعضهم ببعض، وذلك بإبعاد العداء القائم على الغِلْظة والجفْوة بسبب خطأ وقَع مِن فردٍ أو بِضْعة أفراد. ... ...
إن القرآن يطلب هنا مِن الرسول ـ عليه السلام ـ أن يَفصل بين قيَم الأشياء، فهذا البعض مِن المنافقين في "أُحُد" إن كانت له سلبيةٌ فيما وقع منه فبَقاؤه في مجتمع المؤمنين ـ ولو مُؤقتًا ـ له إيجابية بالنسبة للمؤمنين جميعًا، وهي مَظهر الأمة في الوحدة والتكتُّل وعدم الفُرْقة في نظر الأعداء والخُصوم السافرين، وذلك مِن شأنه أن يُرهبهم. ... ...
وكذلك أُسرتَا الزوج والزوجة إن وَقَعت بينهما أخطاء وحلَّت بينهما أزَمات، فمَا تُنسَب إليه الأخطاء(131/3)
اليوم مِن أفراد الأسرتينِ ربما كان له فضْل بالأمسِ على علاقتهما وعلاقة القُربَى بينهم، ولذا لا ينبغي عند الحُكْم على شيء مَا أو على فردٍ مِن الأفراد أن تُنسَب إليه نَقِيصة ويُجرَّد مِن المَحاسن كلها، بل لا بد أن تُذْكَر بجانب سيئاتِه حسناتُه وإن كانت قليلةً، وذِكْرُ المَحاسن بجانب السيئات هو ما نستفيده هنا مِن الآية القرآنية الكريمة، وهو سبيلٌ إلى تصفية النفوس وعَودة العلاقات الطيبة إلى مَسيرتها الأولَى. ...
إن علاقة القُرْبَى بين الأسرتينِ في رسالة السيدة السائلة أَولَى بأن يُحافَظ عليها، وبأن يَتقدم أصحاب الهدوء والتروِّي في بحْث الأمور إلى مُعالجة ما يَطرأ من نزاعٍ وخُصومة.
والحِكْمة تقضي بألاّ تُعاقَب الزوجة بأن تظلَّ مُعلَّقة والزمنُ يَسير بها إلى جهة غير مَعلومة، وصلاتُ أُولِي الأرحام وذوي القربَى تَفْرض على مَن يخشى الله ويرجو خير الآخرة أن يكون صاحب الفضل في البَدْء في حلِّ الأزمة، وهي أزْمةٌ خَلَّفتْها النفوس الأمَّارة بالسوء، وهي نفوس الشياطينِ الخُبثاء.
135ـ العادات وتَكلفة الإعداد للزواج
مواطن من إحدى القرى يقول إنه تقدَّم لخِطبة فتاة بقريته، ووافق أهلها على شروطه، ووافق هو على شروطهم، وحدَّدوا سَوِيًّا موعدًا لإعلان الخُطوبة وقراءة الفاتحة، وفي الموعد المُحَدَّد تراجع أهل العروس في الاتفاق، وأضافوا أشياء جديدةً وطلبوا الموافقة عليها قبل إشهار الخطوبة، فوافق عليها وتمَّت الخِطبة.
وعندما حُدِّد بعد ذلك موعدٌ لعقد القران تزعزع ـ كما يكتب في رسالته ــ أهل العروس وطلبوا تغيير أشياء مُتَّفقٍ عليها في البداية، وأصرُّوا على تغيير أشياء مُعيَّنة في الجهاز من طرازٍ إلى طراز، رغم أنه هو الذي يتحمل فروق الأسعار، لكنه وافق ليُتمَّ عقد القران، وقد تمَّ والحمد الله.(131/4)
ثم تمَّ تجهيز المُتَّفق عليه، وكُتبت قائمة الجهاز وسُلمت لوالد العروس، وعندما طلب السائل هنا تحديد موعد الزفاف طلب أهل العروس أشياءَ أخرى تَفُوق طاقته، وكما يقول: هي أشياء لم يُتَّفَقْ عليها مِن قبل، وتُعَدُّ مِن الكماليات. وأقسَمَ والد العروس ألاّ تُزَفَّ ابنتُه إلا إذا أتمَّ إعدادُها.
وصاحبُ الرسالة في حيرة، ويرجو توضيح حلٍّ وسَط لهذه المشكلة. كما يرجو معرفة النتائج المتوقعة، مع العلم بأنه مُتمسِّك بالعروس، ولكنه قد تَحمِلُه المشاكلُ التي يُثيرها أهلها على عدم المبالاة وعدم الاهتمام بها.
الإسلام لا يرى في عقد الزواج أنه عقدُ بيعٍ وشراء، لا يرى فيه أنه عقد يقوم على المُساومة، وإنما المجتمع الماديّ ـ أو المجتمع الجاهليّ ـ هو الذي ينظر إليه على أنه مصدر لكسب ماديٍّ، فيُحال مثلاً بين المرأة وبين إتمام زواجها ممَّن خُطبَتْ له حتى تتنازل عن جزء ممَّا لدَيها مِن مال (وإذَا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بيْنَهمْ بالمَعروفِ) (البقرة: 232) فعَضْلُ النساء هو الحَيْلُولة بينهنَّ وبين الزواج بمَن يَرْغَبْنَ، والآية تَنهَى عنه إذا كان هناك اتفاق على الزواج، سواء أكان المَنْعُ من أهل الزوجة لأجل التنازل عن شيء من مِيراثها، أو من الزوج المطلِّق طمَعًا في باقي الصداق عندها.
والمجتمعات الإسلامية المعاصرة أقرب إلى طابع المجتمعات المادية أو الجاهلية، وفي الوقت نفسه بعيدة عن طابع المجتمع الإسلاميّ، فالطابع الماديّ للمجتمعات المعاصرة يُعطي الفرصة لوَلِيِّ أمر الزوجة في المساومة على تأثيث مسكن الزوجية من جانب الزوج، وعلى المهر ومقداره، وعلى الرجوع عن اتفاق سبَقَ مع الزوج المُرتَقَب أو الزوج الذي تَمَّ عقد قرانه ولم يدخل بزوجته، على نحو ما يشكو منه صاحب الرسالة هنا.(131/5)
والإسلام ليس مسئولاً عن هذا التحوُّل في المجتمعات الإسلامية المعاصرة إلى الظواهر المادية في حياة المسلمين التي كادت تسُدُّ عليهم نوافذ الروحية والقيَم الإنسانية في علاقة بعضهم ببعض.
الإسلام يرى في الزواج حلاًّ لمشكلتينِ؛ مشكلة نفسية وأخرى اجتماعية.
المشكلة النفسية
أما المشكلة النفسية فحلُّها عن طريق الزواج، فقد جاء قول الله تعالى: (ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَ لكمْ مِن أنْفُسِكمْ أزواجًا لتَسْكُنُوا إلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكمْ مَوَدَّةً ورَحْمةً إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21) فالله ـ سبحانه ـ يَمْتَنُّ على الإنسان بأن خلَق مِن نوْعه زوْجًا؛ ذكَرًا وأُنثى، وأنه استهدف من الزوجية بين الرجل والمرأة:
أولاً: اطمئنانَ كل منهما للآخر، وإسهامَ كلٍّ في خلْق الجو الذي تهدأ فيه النفس الإنسانية.
ثانيًا: المودةَ فيما بين الزوجينِ. والمودةُ أمر آخر بعد الهدوء والاطمئنان، وهي أقرب إلى التعاطُف.
ثالثًا: الرحمةَ بينهما. فالقويُّ منهما يرحم الضعيف منهما، والرحمة عطف ومعاونة.
وهكذا اجتماع الرجل بالمرأة في علاقة زوجية يُقصَد منه إبعاد النفس عن القلق وإيجاد جوٍّ للراحة والتراحُم والتسامح. يُقصد منه إبعاد النفس عن العُزلة والاكتئاب في الحياة.
وبهذا الزواج لا تكون للنفس مشكلة تُسيطر عليها، وإنما طريق الحياة المستقرَّة مفتوح لكل من الزوجين؛ الذكر والأنثى.
المشكلة الاجتماعية(131/6)
وأما المشكلة الاجتماعية فهي حِفْظ بقاء النوع الإنساني باستمرار النسل، وجاء ذلك في قول الله تعالى: (واللهُ جَعَلَ لكمْ مِن أنْفُسِكمْ أزواجًا وجَعَلَ لكمْ مِن أزواجِكمْ بَنِينَ وحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل: 72) فالله يَمتَنُّ على الإنسان هنا كذلك بجَعْل الزوجية من الذكورة والأنوثة مصدرًا لامتداد النوع الإنسانيّ واستمراره، وذلك بنَسْلِ البَنِينَ والحَفَدة، بنسل الأولاد والأجيال القادمة، إلى ما شاء الله، وفي الوقت الذي يَمتَنُّ عليه بحفظ البقاء النوعيّ باستمرار النسْل يَمتَنُّ عليه بشيء آخر وهو توافر الرزق من الطيبات حتى لا يقلق الإنسان من أجل مَعيشته لنفسه ولمَن يأتي بعده من أبنائه وأحفاده وأجيال البشرية جيلًا بعد جيل.
وبهدوء النفس عن طريق الزواج يُمكن أن يُشارك الإنسان في بناء حضارته وأجياله.
وبحفظ البقاء النوعيِّ للإنسان باستمرار النسْل يُمكن للإنسان أن يظل صاحب السيادة على هذه الأرض وأن ما عداه عليها مُسخَّر له.
وبضمان الله للإنسان رِزْقَه من طيبات هذه الحياة الدنيا يُبعد عنه القلَق النفسيَّ، كما يُبعد عنه النظرة المتشائمة في الحياة، التي تُوحي بها المادية، والتي تُوصِّل أخيرًا إلى وَأْدِ الأولاد وقد دبَّت فيهم الحياة.
وعندما يُقرِّر الإسلام للزوجة مهْرًا لا يُريده ثمنًا لها، فالقرآن إذ يقول: (وآتُوا النساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) أي مِنْحة وعَطيَّة (النساء:4) يأمر بأن يكون المهر بعيدًا كل البعد عن أن يُشْبِهَ ثَمَنَ السلعة في شيء ما، وإنما المهر عنوان من الرجل على رغبته في الزواج ممَّن دفعه لها، وعندئذ تكون المرأة مطلوبة وليست طالبة للرجل، وبالمَهر إذًا يتوافر لها حياؤُها وكِبرياؤها كأُنثى.(131/7)
والرسول ـ عليه السلام ـ إذْ يُجيز زواجَ امرأةٍ لرجلٍ سأله الزواج بها على أن يُحفِّظَها بعضَ آيات من القرآن الكريم كمهرٍ لها، فإنَّ إجازته لهذا الزواج أبعد ما يكون عن الماديات، والمهر أبعد ما يكون عن السلعة.
فإذًا السائل في رسالته الآن يشكو مِن صِهره ووالد زوجته أنه يريد أن يُحمِّله ما لا يُطيق في سبيل إتمام الزواج بابنته، فإنَّ طابع الحياة المادية في مجتمعاتنا المعاصرة هو المسئول عن المشكلة الوقتية، وسيكون هذا الطابع المادي هو المسئول بعد الزواج عن مشاكل عديدة تتفرَّع عن هذه المشكلة.
هل الزوج ستَسكُنُ نفسُه وتهدأ عندما يتذكر ما عاناه مِن مشقة بسبب تشدُّد صهره ووالد زوجته؟
هل ستكون هناك مودةٌ في أسرة الزوجية والصِّهْرُ عضو بارز فيها.
هل سيُحسُّ أيٌّ منهم بالرحمة والعطف على الآخرين، فكما يَقولون إن المادة إذا دخلت باب الأسرة خرجت الرحمة وخرج العطف من نافذةٍ أخرى.
ونحن في ردِّنا على السائل نأسف لأن المسلمين في مجتمعاتنا المعاصرة يُغلِّبون العاداتِ والأعرافَ المادية ويَنسَونَ الإسلامَ ورسالتَه في حياتهم.(131/8)
53ـ إباء الزوجة وامتناعها عن زوجها
عامل بإحدى الشركات بإحدى القرى يشكو من زوجته ـ وهي تعمل موظفة بالقرية ذاتها ـ لا تُمكنه مِن مُعاشرتها، كما يُعاشر الزوج زوجته، عندما يطلب منها، بدعوى أنها خارجة للعمل. وهي الآن حاملٌ في الشهر الرابع، ولها منه ولد في السنة الثالثة، ويسأل.
(أ) هل يَضربها؟
(ب) هل يطلب منها ترْك العمل في الخارج؟
(ج) هل يتزوج بثانيةٍ عليها؟
هل لو ضربها واستجابت لمَا يَطلب منها: يُمكن أن يستمتع بها في المعاشرة؟ أم أن الأمر عندئذٍ لا يعدو أن يكون أمر إكراهٍ وقهر لمَن تنطوي نفسها على البَغضاء؟ ...
وهل لو طلب منها أن تَترك العمل في الوزارة وتتفرغ للمنزل تستطيع أن تكون عند طلبه؟ أم أن الاستجابة لترْك العمل لا تتمُّ إلا إذا كان كل منهما في غنًى عن الأجر الذي تحصل عليه.. أو إلا إذا كانت قد تعبتْ من أداء العمل الخارجي مع القيام بواجبات المنزل؟. إذِ المرأة في مجتمعاتنا المعاصرة تفخر بأن لها وظيفة يُمكن أن تستقلَّ بها اقتصاديًّا عن الزوج. ومن أجل ذلك لا تتنازل عن الوظيفة في سهولة. بل ربما كانت الوظيفةُ هي العامل المُرجح في اختيارها للزواج.. والعامل المُبقي لها في العلاقة الزوجية. ...
وهل إذا تزوَّج بثانية يُمكن أن يعيش معها في اطمئنانٍ نفسي.. وفي مودة.. وفي رحمة، كما هو المستهدف من الزواج؟. أم أن الحياة الزوجية ستتحول إلى عذاب، وعندئذ يَعزِف عن المعاشرة لأيٍّ من الاثنتينِ؟.(132/1)
الزوج العاقل لا يُهدِّد.. ولا يُمنِّي كثيرًا، هل يرجع السائل هنا إلى نفسه ويسألها: ...
هل يُحاول أن يتفهَّمها وهي حامل الآن؟. إنَّ بعض الحوامل مِن النساء قد يَنصرفن تمامًا عن رغبة مُعاشرة أزواجهن، إما لمدة الحمل كلها أو لكثير من أيامها، وذلك إما لعاملٍ وظيفيٍّ عضوي.. أو لعامل نفسيٍّ.. وليس لكراهية في الزوج، أو لعدم الرغبة في الاتصال به. ...
هل يُحاول أن يساعدها في شئون المنزل.. وفي رعاية ابنها منه؟ وبذلك تجد مَن يقف بجانبها في أوقات أزماتها وشدائدها. إنها تأتي مِن العمل الخارجي إلى المنزل وهي مَكدودة أو مُستهلَكة. فاستئنافها للعمل المنزلي فيه مشقَّة بدنية ونفسية عليها. فإذا وجدت مَن يُساعدها، وبالأخصِّ زوجها، أقدمت على العمل في نشاط ورغبة.. وأقدمت أيضًا على زوجها وهي مُمتنَّة له، مُدركة لجميله. ...
هل قبل أن يَطلبها للخضوع إلى رغبته في المعاشرة: يُحاول أن يُداعبها، ويُثني عليها، ويُقدِّر مشاركتها له في الحياة الأُسرية والزوجية، إن المرأة يَسرُّها أن تسمع الاعتراف بفضلها من زوجها، وتستمتع بسماعه أكثر من الاستمتاع بالأكْل والشرب. كما يَجذبها إلى الزوج إقباله عليها في مرَحٍ، وتودُّده لها في غير اصطناع وتكلُّفٍ.
... هل حاول أن يختار الوقت المناسب لمعاشرة زوجته؟ إنه لا يكفي أن تكون رغبته نحوها قائمةً في نفسه وفي تصوُّره في وقت ما. إنه يجب عليه أن يتحسَّس ميْلها نحوه. وأن يَخلق الجو النفسيَّ للقاء بينهما.(132/2)
إن كثيرًا من الأزواج يَشكون من رفْض زوجاتهم لرغباتهم في المعاشرة في بعض الأوقات، ولا يُفتشون في أنفسهم عن سبب الرفْض: هل هم على مستوى من النظافة يجعلهم أقلَّ قَبولاً لدَى المرأة؟ هل هم يُمارسون عاداتٍ تُؤذي نظر المرأة أو إحساسها؟ هل يُباشرون الغلْظة أو العنجهية فيما يَطلبون؟ هل تَختلط رائحةُ أفواههم مِن الشراب برائحة أجسادهم الكريهة من العرَق، عندما يَستاءون من رفْض زوجاتهم لمَا يَطلبون؟ ... ...
الإسلام يُحيِّي في الزوجة: طاعتها لزوجها إنْ أمَرها.. ويُحيي فيها الاحتفاظ بمنظرها الذي يَسرُّه إنْ رآه منها.. كما يَنصحها بأن تتزيَّن لزوجها لتظلَّ مقبولة لدَيه. وفي الوقت نفسه يطلب من الزوج أن يبتعد عن كل ما يُنفِّر زوجته منه.. وأن يعمل على كل ما يُهيئ لها جوَّ الاستقرار النفسيِّ، وجو المودة، والرحمة، وجو المودة لا يَطلب فقط: التهذيب في القول.. والنظافة في البدَن.. والابتعاد عن الغلْظة والجفْوة والعنجهية في السلوك.. وإنما يطلب كذلك: اللُّطف في المداعبة، والمشاركة فيما يُدخل السرور على الزوجة، وقد كان الرسول ـ عليه السلام ـ قُدوةً حسنةً فيمَن يُحسن إلى الزوجة، ويجعلها تَهَشُّ للقائه والحديثِ معه ...
الإسلام يقدم الحل لمَن يشكو مِن زوجته عدم طاعتها: في أن يعرف أولاً: نفسه ويعرف طبائعه وعاداتِه.. ويُهذب منها: ما تَقبله زوجته الآن على كُره منها، لا يكون.. الزوج شحيحًا ولا بخيلاً.. لا يكون الزوج غليظًا ولا مُستعليًا.. يتجنَّب الشراب، وإنْ أمكن التدخين كذلك.. يتجنَّب الوُعود الخادعة أو المكذوبة.. يعمل على أن تُحِسَّ زوجته بوُجودها معه في حياةٍ واحدة. يُشاركها الرأْي.. ويُبادلها التعاطُف والمودة.. يَبتعد عمَّا يُثير شكَّها في سلوكها.(132/3)
... إنْ فعل ذلك فسيجدُ زوجةً تعيش له وفي طاعته وحده، بعد طاعة الله.. وكلما رأى خُروجًا عن خطِّ الإطاعة فليَعُد إلى نفسه ليَعرف مكان الخطأ، قبل أن يُوجه إلى زوجته اللوْم والعتاب، أو الشتائم والسِّباب.(132/4)
11ـ أختي في المرحلة الإعدادية وسنُّها أربعة عشر عامًا خطبها رجل عمره فوق الثلاثين وأبي وافَق. ولكنها كارهة. فهي لا تريد الزواج، وتريد التعليم. فما الرأي؟
الخِطبة تعتبر مقدِّمة لعَقد الزواج، ولكن ليستْ هي العقد نفسه. وظاهر الأحاديث الصحيحة أن البِكر البالغ إذا زُوِّجت بغير إذنها لم يصح عقد الزواج عليها، وإنْ باشره وليُّها. فيُروَى عن ابن عباس: "أنَّ جارية ـ أي بنتًا ـ بكرًا أتتْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرتْ أن أباها زوَّجها وهى كارهة، فخيَّرها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي ترك لها خيار الاستمرار في الزوجية أو فسخ عقدها".
والإسلام ـ وهو دين الحياة الإنسانية ـ ينظر إلى الزواج على أنَّه تراضٍ واتفاق في قيامه، وفى استمراره على السواء. ورِضَا الطرفين عنصر أساسيٌّ في كل خطوة في الحياة الزوجيّة، ففي بَدْئِها: الإيجاب والقَبول، وإن وقع ضرر في أثنائها وتعيَّنت الفُرقة بين الزوجين كحَلٍّ لِرفع هذا الضَّرَر، فالطلاق من جانب الرجُل والخُلع من جانب المرأة يعبِّر عن هذه الفُرقة. والمرأة كالرجل سواءٌ في الاعتداد برأيها: ( فَإمْساكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229).(133/1)
ووليُّها في عقد الزواج هو مفوَّض فقط عنها ومعبِّر عن رأيها في إتمامه. وليس طرفًا ثالثًا غير الزوج والزوجة. بدليل أن المرأة إذا كانت ثَيِّبًا يفضل أن تباشر عقد الزواج بنفسها. واعتبار الوليِّ في مباشرة عقد زواج البِكر؛ نظرًا لحيائها فقط عند الحديث عن الحياة الزوجية. لذا اعتُبر سكوتُها عند استئذان وليِّها إيّاها في الزواج إذنًا ورضى منها. يروى عن ابن عباس أيضًا: "الثَّيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذَن في نفسها، وإذنها صِماتُها" "أي صمتُها وسكوتُها".. فهنا يؤثِر الحديث للمرأة التي قد يكون سبق لها الزواج أن تباشِر بنفسها العقد في زواج جديد، دون وليِّ أمرها، وهذا دليل على الاعتداد برأي المرأة في الزواج كالرجل سواء بسواء. أمّا في جانب البكر فاستئذانها هو طلب رأيِها، ولا يُخِلُّ برأيها أن يباشر وليُّ أمرها العقدَ نيابة عنها.
واعتداد الإسلام برأي المرأة والرجل في عقد الزواج وفي إدامته ثم تيسيره أمر الفرقة ـ عند الضرورة ـ بالطَّلاق أو بالخُلع لا يحقِّق المساواة فقط بين الجنسين. وإنما يدعو لممارسة كل من الرجل والمرأة حريته ومشيئته في الحياة الزَّوجيّة، في غير إكراه، أو إذلال، أو تعقيد، أو التواء.
22ـ رسالتانِ من طالبتين؛ إحداهما في الصف الثانوي بإحدى المحافظات والثانية في الشهادة الإعدادية تَشكوانِ مِن وَضْعٍ واحد، وهو أن كلتاهما خُطبت لقريبٍ لها يَكبرُها بسنوات عديدة، ولا تُحبُّه، وأن كلتاهما أيضًا حاولت عدة مرات أن ترد خَطيبها وتُفهمه: أنها لا تُحبه، ومع ذلك يُصرُّ الخطيب على الزواج منها رغم أنها كارهة له، وإزاء إصرار كل منهما على الزواج مِن قريبته، رغم كُرهها له، فإن الفتاة هنا وهناك تُحاول الانتحار. ولم تَشفع المحاولات التي تتَّجه بها أيَّةُ منهما إلى الأقارب لتخليصهما من الكَرْب والهموم التي ستقع فيها، وتسأل كلتاهما: عن الحل الذي يُبعدها عن الهاوية؟(133/2)
إن المشكلة عند الطالبتينِ السائلتين هنا، ليست مشكلة الرأي في الفقه الإسلامي، فالفقه صريح في أن البكر لا يُعقد عليها إلا إذا أُخِذ إذْنها وأَذِنتْ، ويكفى في إذْنها: أن تَسكت عندما تُسأل. وبعض الفقهاء يُوجِب على وَلِيِّها في العقد: أن يُنبِّهَها ثلاث مرات بقوله: إنْ رضيتي فاسكُتي، وإنْ كرهتي فانْطقي. وعندئذ إذا استُؤذِنَتْ وسكتتْ يتأكَّد أن سُكوتها مُوافقةٌ منها على العقد. ويُروَى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: "أن جاريةً بكْرًا أتتْ رسول الله فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكاد يكون الاتفاق على: ...
(1) أن الثيِّب لا بد أن تُصَرِّح برضاها عند عقد الزواج. ...
(2) وأن البكْر لو زُوِّجَت بغير إذْنها لا يَصحُّ عقد زواجها. ...
وما يقوله الفقه الإسلامي هنا يُمثل منطق الطبيعة الإنسانية. ومنطق هذه الطبيعة يُؤْثر: أن يكون الإنسان مُلتزمًا، وليس مُلزَمًا، أن يكون مختارًا، وليس مُكرهًا، فالإيمان لا يُكرَه الإنسان عليه، والعقد في المُعاملات، وفي الزواج كذلك: لا يكره عليه أيٌّ مِن الطرفين؛ لأن الإكراه يكون عقبةً في التنفيذ في أُولَى مَراحله، وهي عقبة نفسية تَسْتَتْبِع بعدها عقباتٍ أخرى ماديةً. إن الإسلام يُقدر المشيئة في الإنسان: يُقدرها في قيمة ما يقوم عليها، ويقدرها في إنجاز ما ترتبط به. فالمرأة إذا أبدتْ رأيها فيمَن سيكون زوجًا لها: تدخل الحياة الزوجية معه وهي مُقبلة عليه، وعلى استعداد نفسي لأن تُزيل جميع الحواجز من طريقه وتُهيئ الأسباب لنجاحه، أمَّا إذا أُكرهت على زوج معين فقد تُحاول أن تصطنع من العقبات ما يجعله مجالاً للخصومة، والكراهية، والنُّفْرة. وبدلاً مِن أن يكون سبيلاً للسُّكْنَى والمودَّة والرحمة: يُصبح طريقًا إلى العداء. وبذلك يُشكِّل مصدرًا للهموم والأحزان، بالإضافة إلى ما تدفع به الحياة ذاتها بسبب الأثَرة والأنانية: مِن قلَقٍ(133/3)
للنفوس، وظلم لغير الجانبينِ. والمشكلة هي مشكلة أُسرية أو اجتماعية في الدرجة الأولى، الوالدانِ يتصوَّران: أن لهم الحق المُطلق في اختيار الزوج لابنتهما، ولو وقع على غير رغبةٍ منها. والأقارب يرون: أن لهم الأفْضلية ـ على الأجانب ـ في الزواج مِن قريباتهم، ولا يتَحسَّسون نوع العلاقات بينهم وبينهن.
قد يكون لدَى الوالدينِ سبب لاختيار واحد معين لابنتهما؛ لأنهما يَرَيانِ مصلحتها فيمَن وقع عليه اختيارهما، ولكن هل عَرَضَا عليها أمره؟ هل حاولَا إقناعها ـ وليس إكْراهها ـ بمَن اختاراهُ لها؟ ...
قد تكون الابنة غير ناضجة، أو مُندفعة: فيمن تختاره. وهنا يجب أن يقف الوالدان معها بالإقناع والحُجَّة، وليس بالإكراه والإلْزام. والأقارب قد يطرحون شِباكهم على قريباتهم، دون تعرُّف لمُيولهن، ثم يُصرُّون على مَن وقع في شباكهم، وإنْ كانوا أكبر منهنَّ سِنًّا، وإنْ كُنَّ غير راغبات فيهم. ويَعْتَبِرُون أنفسهم: أنهم أولى بهنَّ من الغريب. وهذا مَنطق السِّلَع التي يَتَّجِر بها الناس، وليس منطق الزواج، وإقامة الأسرة، ومستقبل الأولاد، وقد يكون السبب في إصرار الأقارب على الزواج من قريباتهم، والحيلولة بين الغُرَباء وإنْ كانوا أكثر صلاحيةً منهم: هو أنَّ القريبات يكنَّ قد وَرِثْنَ من المال ما يُغري أقاربهم: على الاحتفاظ بهن والتشبُّث بزواجهن، فيَتقدم القريب يُعلن رغبته، ثم إصراره على الزواج بصاحبة الميراث، ولو كان قليل الصلاحية للزواج بها: كأن يكون الفارق في السنِّ بين الاثنينِ كبيرًا، أو يكون مُتزوِّجًا بواحدة أخرى أو بأكثر، أو تكون له أولاد كثيرون، مما يجعل قريبته لو تزوَّج بها، لا تستمتع بمعنى الزواج. فهي تعيش في متاهات، تحاول بعد دخولها به أن تجد السبيل بعد فترة قصيرة إلى الخروج منها. ووضْع السائلتينِ هو هذا الوضع. ويزيد الأمر صعوبةً فيه: أنهما يَتيمتانِ، واللذانِ يَتقدمان مِن الأقرباء كانَا من الأوصياء(133/4)
عليهما. وقد نصَح الله الأوصياء بالابتعاد عن الزواج باليتيمات إنْ كان الزواج بهنَّ يُخشى منه ضياع أموالهن، فيقول الله ـ تعالى ـ: (وإنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طابَ لكمْ مِنَ النِّساءِ). (النساء::3). "أيْ إن خشيتم أيها الأوصياء: أن لا تُحافظوا على أموال اليتامى وعلى أن لا تُباشروها بالعدل، إن أنتم تزوجتم بهنَّ فاعْدلوا عن الزواج بهن، إلى غيرهن ممَّن تَشاءون. والقصد من العُدول عن الزواج بهن هو عدم الطمع في أموالهن والحَيْلولة بينهم وبين أكل هذه الأموال بالباطل. كما جاء النهي عن ذلك في الآية السابقة على هذه الآية قوله ـ تعالى ـ: (ولا تَأْكُلُوا أموالَهمْ إلى أمْوالِكمْ إنهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا). (النساء:2)
فدِين الله يُساند هاتينِ السائلتينِ في رفْضهما الزواج مِن أقربائِهما: ...
أولاً: أنه لا إكراهَ للمرأة على قَبول زوج مُعيَّنٍ: سواء أكانت بكْرًا، أم ثَيِّبًا. ...
ثانيًا: إن الإسلام يَنهَى عن أن يكون الزواج سبيلًا إلى ضيَاع مال اليتيمِ وأكْله بالباطل. ...
والسائلتانِ بعد ذلك إنْ وقع اختيارهما على زوجٍ فليكنْ صاحبَ دِينٍ، فهو أبقَى للزوجية وأقرب إلى رعاية الله في مُعاشرة الزوجة.(133/5)
45 ـ هل يستقِلُّ الإنسان برأيه في اختيار زوجته أم لا بُدَّ من طاعة الوالدين؟
إن مَن يبلغ سِنَّ الرُّشد ـ ويكون رشيدًا ـ لا ولاية عليه من أحد في الزواج، ولا في غيره من التصرُّفات الأخرى. إذ هو الآن يحمل مسؤولية كاملة في عمله وسلوكه. وبناء على ذلك له أن يختار الزوجة ويعقِد عليها كطَرف مباشر، مادام يتحمّل مسؤوليته في نفقاتها وفي إنجاب الأطفال منها.
وعقد الزواج ـ في الإسلام ـ يخضع لشروط الصِّحّة والفساد، التي يخضع لها كل عقد بين طرفين. فهو عقد صحيح مادام انتفى عنه الضَّرَر والإضرار، وهو عقد باطل، إن كان هناك ما يدعو إلى البُطْلان: كالإكراه والتدليس، والمرَض الذي لا يبرأ.
وإذا تَمَّ العقد صحيحًا، ثم طرأ على الحياة الزوجية ما يجعلها حياة ضَرَر وإضرار فللزَّوج إن تضرَّر الطلاق، وللمرأة إن تضرَّرَتْ الخُلْع. وبالطلاق أو بالخُلع يوضَع حَدٌّ للتضرُّر بالمعاشرة الزوجية، وينتهي العقد بين الزوجين.
وهكذا الرَّجُل الرشيد له اختياره الكامل في عقد الزواج أو فَضِّه وإنهائه، دون ولاية أبويّةٍ أو رسميّةٍ عليه.
ولكن جرى العُرف ـ وأصبح تقليدًا من التقاليد ـ أن يتدخل الوالدان في زواج ابنهما، لا اعتبار بأنَّ ذلك رأي الدين، وإنَّما حرصًا على مصلحته الشخصية ومصلحة أسرته معه. إذ قد يتأثَّر اختيار ابنهما الشابّ لزوجته بدافع العاطفة والغَريزة الجنسيّة وحدَها، دون نظر إلى الصفات التي تجعل من العلاقة الزوجية علاقةً مستمِرّةً بين الطرَفَيْنِ. وهي صفات ذاتية أكثر منها عَرَضَيَّة. والغريزة الجنسيّة يَفْتُر دافعُها على مَمَرِّ الأيام في رِباط الزوج بزوجته. ومن أجل ذلك لا ينبغي أن تقوم عليها زيجة، يوَدُّ لها النجاح والاستقرار.(134/1)
نعَمْ اختيار الوالدين قد يَدخُل فيه كذلك عنصر غريب عن الصلاحية الزوجيَّة، كعنصر القرابة لأحد الوالِدَيْن، أو عنصر الجاهِ، أو المصلَحة المادِّيَّة، مما يُبعِد العلاقة بين الزوجين عن وضع السُّكْنَى والاستقرار. والزواج عِنْدئذٍ يكون مفروضًا لهدف آخر غير هدف الزوجية الصالحة.
ومن أجل اعتبار هذا العنصر الغريب في ربط الزوجية عند اختيار الوالدين كان !
ولكن إذا استهدف الوالدان صلاحية الزوجيّة في ذاتها عند مشاركتهما الابن في زواجه، فإنَّ إسهامهما يكون مثمرًا من غير شَكٍّ لصالح الابن وصالح الزوجية معًا.
وإذن هنا المبدأ الإسلامي. وهو مبدأ الاختيار عند عقد الزوجيّة أو إنهائها. فالرجل له مشيئته في ذلك دون ولاية أجنبيّة عليه، وعليه مسؤوليته بقَدْر ما له من مشيئة.
وهنا ـ أيضًاـ التقاليد، وهى تقاليد مُشارَكة الأسرة في زواج الابن. وهى شيء آخر وراء المبدأ الإسلامي ولا تَحكُمه، وليست لها صلاحيته في تغييره.
والرأي هو أن يكون اختيار الابن والوالدين معه لزوجته قائمًا على مبدأ الصلاحية الذاتيّة للزوجة، وليس على أساس مِن ميل شَهويٍّ مُؤَقَّت لدى الابن، أو على أساس بعيد من تلك الصلاحية الذاتية، من جاه لوالد الزوجة، أو ثَراء له أو لمنفعة مادِّيّة تعود عليها. إذ أن الاختيار على أي واحد منها يكون سببًا للشَّقاء في الحياة الزوجية، وعاملاً من العوامل التي تدفع إلى الشِّقاقِ فالفُرقة عن طريق الطلاق أو الخُلْع.(134/2)
74 ـ إمساك الزوج لزوجته دون أن يُريدها زوجةً له
يسأل طالب بإحدى كليات جامعة الأزهر عن حكم الإسلام في شاب عقد قرانه على فتاة، وقبل أن يدخل بها وقع خلاف بين الأسرتينِ، وترتَّب عليه أن تزوَّج الشاب فتاةً أخرى عليها، ولم تزل الفتاة الأولى في عِصْمته ولم تُطلَّق منه حتى الآن منذ خمس سنوات وقضيتها تُنظَر أمام المَحكمة منذ هذا الوقت؟
أولاً: في أوضاعنا الاجتماعية ـ وليست هي كلها الأوضاع التي يُوصي بها الإسلام ـ تنعكس الخلاقات بين أهل الزوجينِ على العِلاقة الزوجية التي قامت أو تقوم بين رجل من هذه الأسرة وامرأة مِن تلك.
وقد يشتدُّ الخلاف إِثْر هذا الانعكاس على العلاقة الزوجية، فيَحمِل الأهل الزوجَ أو الزوجةَ على سُوء المعاملة للطرَف الآخر، وقد ينتهي الأمر بالفُرقة بينهما، ولكن بعد أن يُذيق كل طرف الطرف الآخر ألوانًا من الألم النفسيّ والماديّ: أشهرًا أو سنواتٍ.
وتدخُّل الأهل في العلاقة الزوجية قد يكون لسبب تافهٍ ولكن حَمِيَّة الجاهلية الأولى ـ وهي الحمق والانفعال السريع في التصرُّفات ـ هي التي تُحَوِّل هذه العلاقة إلى جحيم. وقد تكون هذه العلاقة مِن أحسن العلاقات من قبل.. والقرآن الكريم إذْ يُحدد هدف الزوجية: بالاطمئنان النفسيّ في العلاقة بين الاثنين معًا، وبمَودة أحد الطرفينِ، وبرحمة القويِّ منهما للضعيف بينهما، يريد أن يجعل بناء الأسرة قويًّا ويُبعده عن كل تخريب أو ضعف له.
يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم من أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
ولا شك أن تَدَخُّل الأهل مصدر للتخريب وإضعاف لبناء الأسرة الجديدة، التي نشأت أو تنشأ عن علاقة زوجية بين واحد من هذه الأسرة، وواحدة من تلك.(135/1)
والفقه الإسلامي إذْ يُجيز في "الخِطبة" رؤية الرجل ـ وهو أجنبيٌّ الآن ـ لمَن يريد أن يَتزوَّجها، كما يُبيح له التحدُّث إليها، في غير خَلوة بينهما، إنما يُرغِّب في أن تُتاح فرصةٌ لهما لتعرُّف كلٍّ منهما على الآخر، وتكوين انطباع بالقبول أو بعَدمه لدَى كل واحدٍ منهما.
والخِطبة إذن مرحلة تمهيدية لقيام علاقة زوجية سليمة، بعيدة عن عوامل الإكراه والضغط.
وفي حالة الطالبة السائلة هنا: الزوج يُسيء لمَن عقد قرانه عليها ولم يدخل بها؛ إذْ يمسكها حتى الآن طيلةَ خمس سنوات، ولا يريد أن يُسرِّحها لعل الله يَرزقها بمَن هو خير منه، رغم أن الله يقول: (وإنْ يَتفرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِن سَعَتِهِ وكانَ اللهُ واسعًا حَكيمًا). (النساء: 130).
وإمساكها على هذا النحو عَضْلٌ لها، ويَشيع العَضْل في العُهود الجاهلية أو المادية.. أيْ في العهود التي تنخَفِض فيها القيَم الإنسانية بسبب طغيان المادية في علاقات الإنسان بالإنسان.
ويَنهَى القرآن عن أن يكون العَضْل ـ وهو إمساك الزوج زوجته بقصد الإضرار بها ـ أسلوبًا من أساليب مُعاملتها فيقول الله ـ جل شأنه ـ فيمَن يُطَلَّقْنَ طلاقًا رَجْعِيًّا: (ولا تُمْسِكُوهُنَّ (والخطاب للأزواج فلا يمسكوهن عند آخر العدَّة وقبل أن تَنتهي) ضِرارًا لتَعْتَدُوا ومَن يفعلْ ذلكَ فقد ظَلَمَ نَفْسَهُ). (البقرة: 231).
فالزوج عندئذ لا يُريدها كزوجة، ولا يُريد لها أيضًا أن تتزوج غيره وهذا منتهى الأنانية، والأنانية دائمًا شرٌّ على الآخرين؛ ولذا كان عَضْل الزوجة وعدم تطليقها رغبةً في إلْحاق الضرر بها مُحرَّمًا شرعًا؛ لأنه تعسُّف وتحكُّم في مستقبل إنسان آخر.(135/2)
والقضاء وإنْ فصَلَ هنا بين الزوج وزوجته، ولو مُبكرًا في تطليقها لا يُصلح العلاقة الثنائية بينهما، ولا يُعيدها إلى الوضع الطبيعي بين إنسان وآخر، وإنما الحل الذي يراه الإسلام للزوجة التي لم يدخل زوجها بها هو الحل الأمثل كما جاء في قول الله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ (أي الأزواج) أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ (وهم الأولياء) وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237).
فالإسلام يطلب من الزوج إذا لم يُرِد الدخول بمَن عقد قرانه عليها: أن يُعطيها نِصْف المهر، الذي كان مُتَّفَقًا عليه بين الاثنين، ولأحد الطرفينِ أن يتنازل عن النصف الذي قدر له من المهر إلى الطرف الآخر. ولكن الأفضل أن يكون التنازُل من جانب الزوج؛ لأنه أمارة على إحسانه عند المُفارَقة.. هذا الإحسان الذي يُطلب في قول الله تعالى: (أو تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ). (البقرة: 229).. فالعفو من الزوج عن نصيبه المُقدَّر في المهر عند مُفارقته الزوجة قبل الدخول بها، إلى الزوجة صورة من صوَر الإحسان المطلوب في الطلاق.
والمطلوب الآن مِن الزوج الذي عقد قرانه على امرأة ولم يدخل بها، كما جاء في سؤال السائل: أن يُسارع إلى تطليقها ويُعطيها حقها في المهر، ويتمنَّى لها كذلك السعادة في مُستقبلها وبذلك يُؤدي ما يأمره الإسلام به.
أما إصراره على عدم تَطليقها، وبذلك يَعضُلها للإضرار بها، فسينال عقابه عليه من الله سبحانه وتعالى: إما في الدنيا أو في الآخرة.(135/3)
121 ـ خطبني شابٌّ أحبُّه، ووافَق أهلي ودفع المهر، ولكنَّ أمي أنكرت المهر؛ لأنَّها تريد زواجي من ابن عمِّي الذي لا أريده، فما حكم الإسلام؟
(1) الزواج في الإسلام ليس تجارةً، وعقده ليس عقد صفقة من الصفقات تخضع للمُزايدة. والمهر فيه ليس إلا عنوانًا ظاهرًا على الرغبة النفسية من جانب الرجل. ولم يكن ثمنًا كما يحاول بعض المشتغلين بالفقه أو بعض الغُرباء عن الإسلام أن يصوِّروه.
وعندما يذكر القرآن الكريم في قوله تعالى:(وإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وإثْمًا مُبِينًا. وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا) (النساء:20ـ21).
ثم تشير الآية الثانية منها وهى: (وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) إلى ما قد يُفهَم منه أن القرآن ينكِر على الأزواج استرداد المهر من زوجاتِهم عند مفارقتهن بسبب حصولهم بالفعل على المقابل بعد الدخول بهِنَّ.. فإن هذه الآية لم تَقصِد إطلاقًا أن عدم المُطالَبة بردِّ المهر هو بسبب الدخول بالزوجة. وإنما تَقصِد فقط إلى توبيخ مَن تُسَوِّل له نفسه المُطالَبَة بردِّ المهر في هذه الحالة، وإلى أن ذلك لا يَلِيق بما يجب أن يكون عليه الزوج من مستوى إنساني فاضل في معاملة زوجته عند مُفارَقَتِها. وهذا المستوى الإنساني الفاضل المطلوب من الزوج هو ما ورد في آية أخرى في قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (البقرة: 229).
إذ الإحسان هو حُسْن المعاملة والتهذيب في السلوك. وليس في المعاملة الحسنة والسلوك الإنساني الكريم أن تَشِحَّ نفس الزوج فيُطالب زوجتَه بالمهر، وقد أفضى كلٌّ منهما إلى الآخر ووقف على سرِّه وأسرَّ نفسه يومًا ما.(136/1)
ويدلُّ على أن المهر في الإسلام ليس ثمنًا، وإنما هو بالأحرى تعبير عن رغبة الزوج في الزواج بمَن يَرْتَضِيها زوجةً له ـ أنَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ زوَّج بعض صحابته كما جاء في رواية سهل بن سعد ـ من امرأة على صداق هو تعليمها بعض سور القرآن الكريم.
(2) أمّا اختيار المرأة للرجل ورأيها فيه فله اعتباره في صحة العقد نفسه والفرق فيه بين الثيِّب والبكر هو في مباشرة العقد مع الرجل: "الثيِّب أحق بنفسها. والبِكْر تُستأذَن في نفسها، وإذنها صِماتُها" (أي سكوتها) كما يُروَى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رواية ابن عباس. ومَعْنَى ذلك أنَّ البِكر البالِغَة إذا زُوِّجَتْ بغير إذنها لم يصح العقد. وقد ثبت في رواية أخرى لابن عبّاس أن جارية بكرًا أتتْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت أنَّ أباها زوَّجها وهى كارهة فخيَّرها النبيَّ، صلى الله عليه وسلم. كما ثبت أنَّ خنساء بنت خدام زوَّجها أبوها وهى ثيِّب فكرِهت ذلك فأتتْ رسول الله فردَّ زواجها وفسَخَ عقدَه.(136/2)
73 ـ الإكراه على الزواج
يذكر مواطن بإحدى المحافظات أنه خطب فتاةً تبلغ من العمر سبعةَ عشرَ عامًا، وأنه لم يَتِمَّ عقد قرانه عليها إذْ إن إحساسها نحوه قد تغيَّر تغيُّرًا ملحوظًا، فانقلب أمرها معه إلى نوع من الكراهية، ويريد أهلها ـ وأبوها بالذات ـ أن يُزوجها له وهو يسأل الآن: هل يكون الزوج صحيحًا أم لا، باعتبار أن الفتاة وافقت تحت تأثير أهلها، وهل يكون من مصلحته أن يتزوجها أم يتركها ويَبتعد عنها؟
شُرعت "الخِطبة" في الإسلام لاختبار الإحساس النفسيّ لكل من الفتى والفتاة، وأُبيح للرجل في حضرة مَحرَم لها ـ أن يَنظُر إلى وجه المرأة وكفَّيها، أكثر مِن مرَّة، كما أُبيح للمرأة أن تنظر من الرجل ذلك أيضًا.
وأُبِيح للاثنينِ معًا: أن يشتركَا في حديث معًا حتى يستطيع كل واحد منهما أن يُكوِّن في نفسه: الإحساس بالقَبول أو بعدمه، فرؤية الوجه والكفين مِن كلٍّ منهما.. وسماع صوت كل منهما في حديثه.. والوُقوف على منطق كلٍّ منهما أثناء الحديث: مما يدفَع إلى القَبُول أو الرفض لأيٍّ منهما.
فكم من امرأة جميلة الوجه، وكم مِن رجل حسَن القَوام، فإذا تحدَّث أحدُهما أمام الآخر عفَا عنه. إما بسبب الصوت، أو بسبب تفاهةَ المنطق، أو بسبب إخراج الكلِمات في الحديث.
وإذن لا يُقدِم الفتَى على خِطبة الفتاة إلا بعد أن يُحسَّ في نفسه: أنه ليس فيها ما يُنفَّر منه على الأقل، وكذلك الفتاة لو سُئلت بين أهلها عن مدَى قَبُولها لمَن يودُّ أن يخطبها فلابد أن تُحِسَّ في نفسها أيضًا: ما يجعله مقبولاً عندها.
ولكن كثيرًا ما يكون قَبُول الفتى لخطبة الفتاة، أو قبول الفتاة لخطبة الفتى، ليس تعبيرًا عن الإحساس النفسيّ الداخليّ بالقَبُول، وإنما يكون لإغراءٍ وَقْتِيٍّ في الفتى أو الفتاة أو لرغبة تَحرِص عليها الفتاة بين زَمِيلاتها.(137/1)
وهي أنها قد خُطِبَت قبل زميلاتها، حتى إذا مرَّ بعض الوقت على ذلك يبتدئ ينكشف لها سوء مَن اختارتْه أو أن فلانًا غيره كان أفضل منه وعندئذ تهتز صورة الخطيب في نفسها، ثم تُحاول أن تتخلص منه: إما بإبداء عدم الرغبة فيه في صورة ما، أمامه أو مِن خلْفه، ولكن على أن يصل إليه ما تُبديه.. أو بإعلان عدم قَبولها له صراحةَ.
والفتاة التي هي دون العشرين تُؤْثِر غالبًا أبطال السينما ومَن على شاكلتهم، أي تُؤثر الشكل والمظهر على الجوهر والمَخبَر وتنتقل بالحديث مِن بطل إلى آخر في الاختيار، ولو قُيِّضَ لها أن تقتنع: أن قيمة الفتى في رُجولته، وليس في شكله ومظهره لأقبلت على صاحب الرجولة وحدَه، ثم تَزِيدها الأيام اقتناعًا بأنه خير مَن يُمثل صاحب المسئولية في الأسرة.
وللرجولة معانٍ وصفات، أخصُّها تَحمُّله للمسئولية الأسرية، وعدم الأنانية في سلوكه وتضحيته بما يملِك مِن قُدُرات وطاقات في سبيل استقرار زوجته وأولاده.
والذي يعرف دِينه، ويَقتدي بسُنة الرسول ـ عليه السلام ـ في السلوك والعمل، يفهم أن الدين منهج إنسانيّ في الحياة: فيه رجولة المُضحي وإنسانية غير الأنانيّ، إذ إن شرَّ ما يُبعد الرجل عن صلاحيته للحياة الأسرية هو أنانيته: لا يرى في الحياة العائلية إلا نفسَه ويَطغى بأنانيته على زوجته وأولاده من بعدُ.
وخطيبة السائل هنا: التي تُبغضه أو تكرَهه، أو على الأقل لا تَميل إليه لسبب من الأسباب ـ بعد أن كانت بينهما محبة ـ لا ينبغي للسائل أن يُقبل على عقد قرانه بها، مهما وافَق أهلها وأهله، ومهما دفعها والدُها إلى القَبُول لزواجه .. إذ هي لو قَبِلت، تَقبَل وفي نفسها إحساس عدائيّ له، يُحرّكها ضدَّه من أول لحظة في لقائه كزوج لها.(137/2)
وهنا يفقد الزواج غايتَه من السُّكْنَى، والمودة، والرحمة، وهي غاية يُحددها القرآن الكريم في قوله الله تعالى: (ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم من أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21).
فلم تكن الزوجية بين الذكورة والأنوثة لإثارة الشحْناء والبغضاء بين الرجل والمرأة، وإنما يجب أن تكون للاستقرار والتعاطف والتراحم، وتلك معانٍ إنسانية كريمة.
وعلى السائل إذا اختار غيرها أن يقصد إلى ذات المرأة في خُلقها وعِفَّتِهَا وصلاحيتها للزوجية والأمومة، وليس إلى درجة وظيفتها المالية في العمل أو إلى ما يُقال عن حسَبها ونسَبها، أو إلى ما يَظهر من جمالها، فذلك كله قد يكون مصدر غُرور لها، يَحُول دون أداء الرسالة الزوجية، يجب أن يُحِسَّ إحساسًا قويًّا في نفسه بأنها تَقبله زوجًا، كما يَقبلها هو زوجةً له.
40ـ ولاية الأب في زواج ابنته لا تُلغي وُجوب موافقتها على الزواج
آنسة من إحدى المحافظات تشكو موقف أبيها منها وتذكر قصتها فيما يلي:
هي مُدَرِّسة في المرحلة الابتدائية، وتَقدم لها خطيب هي لا تُحبه ولا ترضاه؛ لأنها ترى أن زوجها المُقبِل يجب أن يكون مُؤمنًا بالله مُحبًّا له، يُواجه الباطل في قوة وعنفٍ. وأن يكون شجاعًا ذا شخصية. وهذا الذي تقدَّم لخِطبتها لم تتوفر فيه جميع الصفات المطلوبة.(137/3)
ولكن والدها يُوافق على خِطبتها له، ويُمارس الضغط عليها في صور عديدة، منها الإهانات والشتائم والسِّباب. ومع ذلك أرسلت إلى هذا الذي تقدَّم لها شخصًا يَثنيه عن عزْمه ويُبلغه رفْضها له وعدم رغبتها في قَبُوله زوجًا لها. ولم تَنجح معه الوساطة بل زادتْه إصرارًا، وكلَّما زاد إصراره كلَّما زادت كراهيتها له. وبلغ من ضغط والدها عليها أن أرْغمها على أن تُرافقه في شراء الشبكة، ولم تجد أمامها سوى أن تذهب إلى الشخص بنفسها وتُصرِّح له أنها لا تستطيع أن تُعاشره بحال. وفي مُواجهة والدها وهذا الخطيب تعتقد أنها ستَصير إلى أحد وضعين: إما وضْع الخائنة لزوجها.. أو الكافرة بربها. وترجو توجيه النُّصح لكل من أبيها ومَن يريد خِطْبتها وإبداء الرأي في حلِّ المشكلة لها ولمَن على غِرارها.
مشكلة السائلة ليست جديدة، بل هي مُعادة وتنُمُّ عن عادة متأصلة في نفوس الأسرة المصرية. وهي عادة فرْض الأب إرادته وعدم اهتمامه بما تُبديه ابنته من رغْبة خاصة ضد ما يُريده هو. ...
ولكن الأمر الذي لا يقع كثيرًا، هو أن يُصرَّ الخطيب على الزواج بمَن هي لا ترضاه زوجًا لها، وتُعلن في وجهه صراحةً عدم رضاها به. ...(137/4)
الزواج قبل كل شيء توافُقٌ نفسيٌّ، وميْل من الجانبين كل منهما للآخر، وقد شُرعت الخطبة في الإسلام لغرَض التحسُّس لهذا الميْل عند الرجل والمرأة على السواء، قبل إتمام عقد الزواج. فإذا رأت السائلة هنا أن هذا الرجل الذي تقدم للبناء بها ليس على المستوى المطلوب في صفات الإيمان بالله والشجاعة في مُواجهة الباطل، وليست له الشخصية التي تَحميها في شئون حياتها فهو لا يكون لها زوجًا سعيدًا، ولا تَسعد هي بالزواج منه؛ لأنه سوف لا يملأ فراغ نفسها وحياتها بحال. ومَن لا يملأ الفراغ في حياة المرأة لا تكون له طاعةٌ نفسية عليها، ولا تنعقد بينهما مَحبة أو مودَّة، بل إذا كرهت على مُعاشرته تحاول أن تَسخر منه. كما تُحاول أن تُبعده عن خُصوصيات نفسها، وهنا يكون الزواج مصدر خُصومة، بعد أن يكون مصدر قلَق وعدم اطمئنان للطرفينِ.(137/5)
الرجل يجب أن يعتقد أن المرأة التي يتزوجها ليست سِلعةً تُطلب من مالكها، وهو أبوها أو أخوها، ليست كُتلة مادية لا حياة ولا روح فيها، إنها إنسان له الحِسُّ والشعور، وله الذوْق والتميُّز، وله الإرادة في القبول وفي الرفْض، وولاية الأب على البنت البِكْر هي ولاية ثِقة ومساندة. فليست ولايته عليها تعطيلاً لإرادتها واختيارها. فيُروى عن ابن عباس قوله: عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الثَّيِّبُ أحقُّ بنفسها من وَلِيِّهَا، والبكْر تُستأذن في نفسها وإذْنها صماتها". "أيْ: سُكوتها".. فرأي البنت البكر في زوجها المقبل قائم. وعلى الأب أو الوليِّ أن يعرف رأيها. وفقط لا يُشترط أن تُعبر عنه صراحةً لحيائها، فإذا عبَّرت عنه صراحة كما هو الوضع عهنا في سؤال السائلة، فيجب الأخذ به، وعلى الولي، وهو الأب هنا، أن لا يعدل عنه. وإذن الأب عليه أن يعمل برأي ابنته في رفْض مَن تقدَّم لخطبتها وارتضاه هو أولاً، والخطيب الذي صارحته السائلة بأنها لا تراه كُفْؤًا لها؛ لأنه ليس الرجل الذي يملأ فراغ نفسها وحياتها، عليه أن يرحل من مجالها وربما يُعوضه الله خيرًا منها.(137/6)
الرجل في الأسرة إن كان أبًا أو أخًا يجب أن يعرف وَظيفته كوليٍّ للبنات أو الأخوات، وهي وظيفة المُعاونة في الإرشاد والتبصير. وليست وظيفته التحكم: إنه قطعًا يحب ابنته أو أخته، ويودُّ لها مستقبلاً سعيدًا هادئًا في أسرة جديدة تُشارك في إقامتها وفي إنمائها. فلْيتحسَّس رغبات مَن كان وليًّا لها، وليَختبر هذه الرغبات، وليَتَّجه في دراستها إلى مُشاركتها في تحقيق ما هو جِدِّيٌّ ونافع لها، ولْيَترك لُعبة الشدِّ وحرْب الأعصاب؛ إذ قد تَجُرُّهُ إلى خطأٍ جسيم لا يستطيع تَلافِيهِ، إما في مستقبل ابنته أو أخته، أو في علاقته بها.
والإسلام لا يقبل علاقة الإنسان بالله الذي يؤمن عن كره أو إكراه على الإيمان به، ولا يعتدُّ بأداء العبادة إذا لم يَنوها ويُريدها العابد، لا يَقبل عملاً من غير قصْد إلى أدائه ولو كان إنفاق المال في سبيله؛ ذلك لأنه يريد للإنسان أن يظل صاحب إرادة واختيار. وولاية الأب أو الأخ لها إذا كانت بنْتًا بِكْرًا هي مُسانَدةٌ لها في الرأي، وليست حجْرًا عليه. والأمر الذي يطلب المساندة لها في الرأي. وهو ما عليه خصائص الطبيعة للمرأة. وهي خصائص العاطفة التي تتميَّز بعِظم كميَّتها، وبقوة تأثيرها على ما تُبديه من رأيٍ. وفي تمييز الخالق ـ سبحانه ـ للأنثى عن الرجل في العاطفة ما يَحمي أمومة المرأة، وقيادة الرجل. وهما أمرانِ ضروريانِ لتكوين الأسرة وبقاء النوع البشري.
والد السائلة وخَطيبها مَدعُوَّانِ إلى تطبيق الإسلام في حياتهما وفي علاقتهما بالآخرين. وتطبيق الإسلام هنا هو تجنُّب إكراهها على القبول، والسائلة سيَقيها الله العبَث والفساد طالَما تتوجَّه إليه بإيمانِ القلب وصفاء النفس، والرغبة الصادقة في أن لا تخون مَن يتزوجها.. وأن لا تَنحرف عن الصراط السويِّ. وهو صراط العزيز الحميد.(137/7)
75 ـ لي أخ يُحِبُّ زوجته جدًّا، وهي في غاية الكمال. ولكنّه لم يُنجب منها. وتعرَّف على فتاه جميلة وحميدة الأخلاق، فهل الرغبة في الإنجاب تُبيح الزواج الثاني؟.
إن الزواج بثانية أو ثالثه في نظر الإسلام رخصة. على معنى أنّه يجوز للزوج أن يجمع بين اثنين أو ثلاث أو أربع في حياة زوجيّة واحدة. وإباحة ذلك يستهدف بها الإسلام تحمل المسؤولية الزوجيّة في تمكُّن وصراحة ونتائج هذه المسؤولية من الأولاد وحقوق المرأة، كما يستهدف القضاء على الطفولة غير الشرعية، ومنع الأمراض السِّرّيّة، والتقليل بقدر ما يمكن من مباشرة جريمة الزنا، وهى جريمة اجتماعية رغم أن مباشرتها فردية.
وإباحة الزواج بأكثر من واحدة لا تَعنِي ـ إذن ـ الحمل على تَعَدُّد الزوجات ـ اثنتين فأكثر ـ فضلاً عن أن تعني وُجوب الجمع بأكثر من واحدة في زيجة واحدة.
وهذه الإباحة، مهما كانت الدافع إلى مُباشرتها: أهو الرغبة في إنجاب الأولاد، أو الشَّبَق والرغبة الجِنسيّة، أو اعتلال صحة الزوجة الأولى مع الرغبة في الاحتفاظ بها لسببٍ ما ـ مقيَّدة أمام الله وأمام ضمير الزوج باستطاعته "العدلَ" بين الزوجتين أو الزوجات.
و"العدل" هنا ليس قِسمة عدديّة ولا توزيعًا مادِّيًّا بين الزوجتين فأكثر وإنَّما هو أولاً وبالذات يعود إلى أحاسيس الزوج وعواطفه قِبَل مَن يجمع بينهن في حياة زوجية واحدة. فإنْ خَشِيَ عدم العدل بين الزوجة الأولي ومَن يرغب في أن يتزوّج بها معها يجب الوقوف عند حد الزوجة الواحدة: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) (النساء: 3). وله بعد ذلك أن يُطلِّق مَن يرغَب في الزواج عليها ويتزوّج بالأخرى. ولكنّه عندئذٍ إذا كان طلاقه كحلٍّ ووسيلة فحسْب فيتزوّج بمن يريد ـ ولم يكن بتضرُّر بالمعاشرة الزوجية ـ يكون قد أتى بما يُغضِب الله، ويَنطَبِق على تصرُّفه ما يُروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنَّ أبغضَ الحلال عند الله الطَّلاق".(138/1)
والمسألة في نظر الإسلام هي مسألة "إنسانية": في الزواج بواحدة، أو في تعدُّد الزوجات، أو في الطلاق. والمعاشرة الزوجية ـ إذن ـ هي معاشرة إنسانية يتمثّل فيها التهذيب والبعد عن الإيذاء والإضرار. والطلاق كذلك عمل إنساني، يُلجأ إليه كحلٍّ لإبعاد الضرر عن طرَف أو عن الطرفين في علاقة قامت بينهما، تستهدف المودَّة والسُّكْنى والاطمئنان والرحمة في حياتهما معًا.
وعلى ذلك مَن يُشعِر بأنّه سيَبْتَعِد عن "الرُّوح الإنسانية" في مُعامَلَة إحدى زوجتيه أو زوجاته فلا يجوز له أن يجمع بين زوجتين فأكثر، سواءً أكان الدافع على الزواج بالأخرى هو إنجاب الأولاد أو ما هو أكثر ضرورةً في حياته من إنجاب الأولاد.
والزوج وحده هو مقياس شعوره وتقديره في ذلك. والله بعد ذلك عليم بما تُخفِي الصدور، ويَجزِي المُحسِنَ بإحسانه والمُسيء على إساءته. والأمر ـ إذن ـ ليس أمر فتوى بالحِلِّ أو المنع.(138/2)
48 ـ الزوجة الثانية
ماتت زوجتي منذ ثلاث سنوات بعد مرض دام ثمانية أعوام، وتركتْ ولدَيْنِ وثلاث بنات في سن الزواج. فهل يجوز لي وأنا رجل متديِّن وقد أشرفْتُ على الخمسين من عمري أن أتزوجَ؟ أم أن الزواج فيه أذى لأولادي يُحِّرمه الله؟
السؤال الذي يجب أن يوجَّه إلى السائل أوّلاً هو:
هل يخشى الفتْنة على نفسه من العزوبة؟ أي هل يخشى على نفسه من مباشَرة علاقة آثمة مع المرأة إنْ هو لم يتزوّج؟
فإن خَشِيَ الفتنة على نفسه من العزوبة، أي لم يأمَن بقاءه وحيدًا من غير وقوع في معصية مع امرأة فالزواج له ضرورة دينية للحيلولة بينَه وبين ارتكاب جريمة الزِّنا إن كان يستطيع الإنفاق عليها ومُعاشَرتها.
فإن استطاع تجنُّب فتنة العزوبة بشغل نفسه بمصالح أولاده.. أو بالصوم بعض الوقت فالزواج ليس ضرورة له من الوجهة الدينية؛ إذ هدف الزواج أمران: النسل، والوِقاية من الوقوع في معصية الزنا. والسائل الآن لديه أولاد، وفي الوقت نفسه بعيد عن التفكير في علاقة له مع امرأة أجنبية عنه.
ومادامَ أن السائل متديِّن وقد أشرف على سِنِّ الخمسين ـ كما يقول ـ فالمرأة في حياته كزوجة لم تَعُدْ تَشْغَل حيِّزًا كبيرًا منها، بل على العكس ابتداء يدخل مرحلة يرجو أن يودِّعها من حياته كلها، إن كان قد احتفظ بها حتى الآن على قيد الحياة وفي علاقة زوجية.
والأَوْلى للسائل ـ في سِنّه هذه ـ وفي وضعه هذا أن يُعنى بأولاده.. وأن يوفِّر لهم جميعًا الرعاية الأبوية والإنسانية كلها، وأن لا يُشركَ معهم أحدًا يُنازعه هذه الرعاية، كزوجة يُقامِر بإدخالها في حياتهم، في الوقت الذي قد لا يستطيع مَن في سِنّه أن يَحُدَّ من أنانيتِها، ولا أن يحتفظ لأولاده بالعواطف التي قد تُعوِّضهم بعضًا من عواطف الأمومة، وقد تركتْ لهم في حياتهم فراغًا كبيرًا قَلَّما يُشْغَل بغير حنانِها.(139/1)
والدين يرعى مصلحة الإنسان أينما توجَد، ومصلحة الإنسان هي في تجنيبه الأضرارَ والأخطارَ، فإن كان في زواجه إبعاد له عن خطأ المعصية أشار عليه الإسلام بالزواج، إن كان في استطاعته.
وإن كانت مصلحته في الكَفِّ عن هذا الزواج، لتوفير الرعاية للأولاد، ولتجنيبه أخطار حياة زوجية جديدة ليس هو مؤهّلاً بحكم السِّنِّ ووضع أسرته، أشار عليه بعدم الزواج.
84ـ الزواج بثانيةٍ تقديرٌ شخصيٌّ
مواطن من إحدى المحافظات يذكر أنه مُتزوج منذ اثنين وثلاثين عامًا، ويشكو زوجته من أنها لا تَستجيب لرغبته إذا طلبها، وتَلْفِتُ نظرَه إلى عدم الاهتمام بهذا الجانب من حياتهما؛ إذ إن زمنه فيها قد انتهى، ولكنه يُعلِّل طلبَه بأنها تعلم أنه قد أُجريتْ له عدم عمليات بسَبب عدم اتصاله الجنسيِّ، ويسأل: هل يَتركها ويتزوج واحدة أخرى؟
نعم قد تأتي فترة على الزوجة في حياتها لا تُقبل على المعاشرة الجنسية فإذا بلغت سِنَّ اليأس أو تجاوزتِ الخمسينَ من عُمرها، أو استُهلكت في عمل المنزل وتربية الأولاد ورعايتهم، أو كانت تُباشر عملاً خارجيًّا تُساعد أسرتها من أجْره، فإنها تحمد الله إذا أقبل الليل، وآوتْ إلى فِراشها وسكنت إلى الهدوء وحْدها.(139/2)
... والحياة الزوجية يجب أن يكون معروفًا منذ بدايتها للزوجين: أنها تستهدف الطمأنينة، والمَودَّة، والرحمة، قبل المعاشرة الجنسية.. يجب أن يُمارس الزوجان تحقيق السكنَى والطمأنينة بينهما بحُسْنِ التفاهم والتشاور في أحداث الأسرة ومشاكلها واختيار العلاج الناجح لحلِّها.. يجب أن يَسعيَا لتحقيق المودة بينهما بالمُعاملة الكريمة، والاحترام المُتبادل، والتسامُح وعدم الوقوف عند الأمور التافِهة.. يجب أن يكون الجو بينهما هو جوُّ الرحمة والعطف والمُعاونة: جيد الصحة منهما يخدم المريض، والقويُّ فيهما يُساعد الضعيف، ولا غَضاضة إطلاقًا أن يُساعد الزوج زوجته في إنجاز عمل المنزل إنْ كان لدَيه وقتٌ. ولا غضاضة أيضًا أن تُساعد الزوجة زوجها على إنجاز العمل المُكلَّف به إنِ استطاعت أن تُساعده وكان لدَيها فراغٌ مِن الزمن بجانب الخبرة في العمل.
... وبهذه البداية المُشتركة في الحياة الزوجية لا تكون المُعاشرة الجنسية وحْدها هي الهدف للزوجية، إذْ قد تَبرز خطوط مشتركة أخرى يَميلان إلى التعاون فيها ويأخذ هذا التعاون قدْرًا كبيرًا مِن نشاطهما ووقتهما، وإذا لم تُصبح هذه المعاشرة هي الهدف، فكلَّما تَقدَّم السِّنُّ بهما، كلما ضعُف أمرُها في واقع حياتهما، وعندئذ لا يكون هناك إلْحاح مِن أيٍّ منهما على الآخر، من أجل تحقيق رغْبة لا يَستجيبُ لها الطرف الثاني، في غير رغْبة.(139/3)
... والفراغ في الحياة وعدم تنظيمه في إنجاز ما يعود على الزوج أو الزوجة مِن مصلحة: هو الأمر الذي يُوحي للزوجينِ بالملَل، أو يُوحي لهما أو لأحدهما بشغله بالعلاقة الجنسية بينهما، فلو شَغل أيٌّ منهما فراغه بمُمارسة نوع من الرياضة البدنية.. أو بتعلُّم بعض اللغات الأجنبية.. أو شَغلت الزوجة نفسها بتعلُّم التفصيل والحياكة، أو شَغل الزوج نفسه بقيادة السيارات، أو بالرسم، أو بالقراءة، أو ببحث بعض الاتجاهات السائدة في الحياة المعاصرة.. لو شَغل أيٌّ منهما نفسه بأيِّ لون من هذه الألوان في وقت الفراغ، لا يُحسُّ بضغط الغريزة الجنسية عليه ويَغلب عند اللقاء بينهما: أسلوب الواقع، وليس أسلوب الشهوة.
والزوج الذي يشكو هنا مِن عدم استجابة زوجته لرغبته الجنسية، بعد اثنين وثلاثين عامًا من الزواج، هو رجلٌ شغل حياته وفراغه فيها بالمرأة: في النظر إليها في الشارع أو في النادي.. وفي الحديث معها، أو عنها مع ثالث أو ثالثة.. وفي سماع القصص والخيالات التي تُنقل إليه عن طريق المُشافهة أو القراءة.. وفي المناقشة والحوار مع الآخرين. ...
والأولَى بالسائل والشاكي في الوقت نفسه أن لا يقترح الحلَّ في ترْكه زوجته الحالية والزواج بأُخرى. بل يجب عليه أن يُراجع نفسه، بعد هذه السنوات العديدة مِن حياته الزوجية، ويُقنعها بأن السِّنَّ التي يعيش فيها الآن هي سِنُّ الشيخوخة.. والأفضل لمن يعيش في هذه السنِّ أن يُساير اتجاه الطبيعة البشرية. واتجاه الطبيعة في سنِّ الشيخوخة يختلف اختلافًا كبيرًا وواسعًا عن اتجاهها في سِنِّ الشباب، بالنسبة لعلاقة الرجل بالمرأة ومُعاشرتها معاشرةً جنسية.(139/4)
... ولعل مِن نِعمةِ الله على السائل هنا: أن زوجته ترفض الاستجابة لإلْحاحه في الاتصال بها، فهي بهذا الرفْض تُوفِّر له عدم الدخول في مشاكل صحية عديدة، وفي مُقدمتها أمراض المَسالك البولية.. وعلاجه ممَّا يُشير إليه في رسالته ويحمله على إجراء عمليات بِسَبب عدم تَمكُّنه من المعاشرة الزوجية: ألَا يُفكر في هذا الجانب على أنه أمرٌ حيويٌّ ويكفُّ تمامًا عنه، فكثيرًا ممَّن تُوفِّيت زوجاتهم عنهم، وقد دخلوا سِنَّ الشيخوخة، يَرفضون الزواج مرة ثانية.. وليس ذلك وفاءً فحسب لزوجاتهم السابقات، وإنما أيضًا حفاظًا على حياتهم ووِقاية لهم مِن مشاكلَ يدفع بها الزواجُ الجديد في هذه السِّنِّ، وهي مشاكل صحية، قبل أن تكون مشاكل اجتماعية ونفسية واقتصادية.
إن الاستمتاع بالعلاقة الجنسية في الحياة الزوجية، لا يقوم على الإكْراه أو الاغتصاب، أو الإلْزام: إن له جوًّا نفسيًّا خاصًّا تَخلقه الزوجة والزوج معًا بتبادلهما الرضا والمَحبة، والذكريات الطيبة، والتمنيَّات في الصُّحْبة معًان إلى آخر نفس في الحياة، إن مُتعة هذه العلاقة ليس في مُباشرتها، بقدْر ما هي في مُقدماتها.
... ونحن لا نستطيع أن نقول للشاكي الباكي هنا: إن الإسلام يُوجب على الزوجة في حالته الآن أن تَستجيب لرغبته؛ لأنها بعد الاثنين والثلاثين عامًا من معاشرةٍ زوجية لا تُعتبر ناشذةً في نظر الإسلام؛ إذ هي لظروف خاصة الآن، تُقدرها هي وحدها، قد لا تستطيع من الوِجهة العضوية، ولا مِن الوجهة النفسية: أن تُحقِّق رغبتَه.
وعليه الآن أن يتَّجه إلى الله بالصلاة إنْ حزَبه الأمر واشتدَّ عليه، ويترك وَساوس الشيطان، أنْ زَيَّنَ له ممارسة العلاقة الجنسية، ووَضع في تصوره: أنه إنْ لم يُمارسها يُصاب بأذًى وضرَر.(139/5)
101ـ الزواج العُرْفي
كتبت مواطنة قصتها كما يلي: هي مُتديِّنة عُقِد قرانها عُرْفِيًّا بدون مأذون لأسباب عائلية ـ كما تقول ـ ولم تدخل بمَن عُقد قرانه عليها، وطلبت الطلاق منه فقال لها: أنت طالقٌ، ومرَّ عامٌ على هذا الطلاق.
ثم تزوجت زواجًا عُرْفِيًّا كذلك برجل آخر وتمَّت المعاشرة الزوجية، وهي تسأل: هل لا بدَّ مِن وُجود شاهدينِ عند الطلاق؟ وبناءً على ذلك يكون الزواج الثاني غير شرعيٍّ؟ وتكون المُعاشرة الجنسية بين الاثنين، زنًا؟ علْمًا بأن هذا الزوج الثاني لا يأتي إلى المنزل إلا لهذا الطلب، أي للمُعاشرة، ولا يتكلَّف مصاريف هذا المنزل لزواجه مِن أخرى.
إن السائلة فتاة متدينة، كما تذكر، وهل من التديُّن أن تُخفي زواجها مرتينِ فلا يعلم به أحدٌ، أو لا يعلم به إلا قِلَّةٌ؟ إنها تزوجت مرةً بدون مأذون لأسباب عائلية كما تدَّعى، ولم يُعجبها الزوج فطلبت منه الطلاق فقال لها: أنت طالقٌ، في غيْبة الشهود، وبذلك تكون قد تزوجت مُتخفِّية.. وطُلقت مُتخفِّية عن الناس كذلك.
... ثم تزوجت للمرة الثانية مُتخفية أيضًا: أي تزوجت زواجًا عُرْفِيًّا كذلك، وتزوجت برجلٍ هو متزوج بأُخرى. وهذا أدْعَى للتخفِّي، ولا يَزورها إلا في ظلام الليل لقضاء رغبته معها، ولا يتكفَّل لها بشيء، ممَّا يتكفل به الرجل شرْعًا لزوجته من نفقة المسكن.. والمأكل.. والملبس.. وبالتالي لا يُعلن عن مسئوليته عنها.
... والسؤال الآن: هل كان هناك شهود عند عقد الزواج العُرْفيِّ الأول، والثاني؟ لم يَتضح جواب هذا السؤال من رسالة السائلة، والذي ذُكِر في هذه الرسالة فقط أن الطلاق ممَّن عَقدت قرانها عليه أولاً كان في غيبة الشهود. وهنا كان تساؤلها: هل عقد الزواج الثاني وقع صحيحًا أم فاسدًا؟. وإذا كان فاسدًا تكون المعاشرة الجنسية بينها وبين الزوج الثاني: زنًا؟.(140/1)
الإسلام ينصح دائمًا بإشهار عقد الزواج وإعلانه حتى تتَّضحَ مَعالمه وتتميز عن "الخِدَانِ" والمعاشرة السريَّة بين الرجل والمرأة.
... ومما يُنصح به في إعلان الزواج: جملةُ أمور:
الأمر الأول: وُجودُ شاهديْ عدْلٍ يَشهدانِ بوُقوع الإيجابِ.. والقبول.. بين المرأة والرجل.
الأمر الثاني:: وُجود وليٍّ مِن عصيبةِ الزوجة، ضمانًا لجديَّة العقْد وصلاحية الاختيار وفي هذينِ الأمرين يُروَى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قولُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا نِكاحَ إلا بوليٍّ.. وشاهديْ عدْلٍ)..
الأمر الثالث: الوَليمة التي تُقام احتفالاً بالزواج وإعلانًا للجيران والمعارف في أوسع دائرة مُمكنة: بوُقوعه. وفي الأمر الثالث يُروَى عن أنسٍ ـ رضي الله عنه ـ عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. (أن الرسول لقِيَ عبد الرحمن بن عوف فسأله ما هذا؟ قال تزوجتُ امرأةً على وزن نواةٍ من ذهب، قال: بارك الله لك.. أوْلِمْ، ولو بشاةٍ)..
... وبما ينصح به الإسلام هنا مِن إشهار الزواج والإعلان عنه: تَبتعد السرية، والتستر والتخفِّي في إقامة العلاقة بين الرجل والمرأة.. وفي إنجاب الأولاد وتكوين الأسرة مستقبلاً.. وفي مسئولية الزوج عن شئون الزوجية وشئون الأسرة منذ إقامتها.
... وبعض الفقهاء يُجيز عقد الزواج بغير وليٍّ للزوجة وبغير شاهدينِ كالعقد العُرفيِّ هنا، ولكن هذا الرأي ضد رأي الكثرة من الفقهاء.. وضد الهدف الحقيقي من الزواج، وهو إعلان العلاقة بين الرجل والمرأة إعلانًا صريحًا وواضحًا، وقائمًا على المسئولية.
... ولْنَفرضِ الأخْذَ بصحة عقد الزواج العُرفيِّ بين السائلة وزوجها الأول فطلاقه لها بقوله: أنت طالق، يقع صحيحًا ولا يحتاج في صحة وُقوعه إلى شُهود. وطالما مرت سنةٌ على وقوعه ـ وهو طلاقٌ رجعيٌّ ـ يُصبح طلاقًا بائنًا ونِهائِيًّا لا رجعةَ فيه، بانتهاء عِدَّتِهَا، وهي ثلاثة أشهر أو ثلاثة حيْضات.(140/2)
... وإذا كان الطلاق وقع صحيحًا، فعقد الزواج الثاني العُرفيُّ صحيحٌ على افتراض أنه جائز عند بعض الفقهاء، رغم أنه لا يُوجد وليٌّ للزوجة، ولا شاهدانِ فيه، وعليه تكون مُعاشرة الرجلِ الثاني للسائلة مُعاشرة شرعية، وإن تركَّز قصْده عليها عندما يحضر لها مُتخفِّيًا من زوجته الأخرى ومُتهرِّبًا من المسئولية الزوجية في الإنفاق على الزوجة.
ولا أدري ما إذا كانت الاعتبارات التي تحمل الزوجة على التخفِّي في الزواج مرتينِ: أقوَى لدَيها مِن المأمور به صراحةً في إعلان الزوجية وإشهارها؟ ما يَطلبه اللهُ مِن عباده، هو لصالِحهم، فإذا كان يطلب العَلانية في الزواج فلصالح الرجال والنساء عندما يتزوج بعضهم بعضًا.. ولصالح المجتمع الذي يعيشون فيه.(140/3)
... وإذا كان لا يَرضَى عن التخفِّي والتهرُّب مِن العلانية في عقد الزواج؛ فلأنه يُريد أن يُجنِّب أصحاب السرية في الزواج: الشائعات السيئة.. وتهرُّب الأزواج من مسئولياتهم نحو زوجاتهم وأولادهم، ألم يَصل إلى مسمع السائلة: ما يقوله الناس من الجيران والمعارف عنها مِن سُوءٍ، بعد انصراف زوجها العُرْفِيُّ مُتسلِّلاً من منزلها في البكور وقد قذَف بنفسه فيه تحت جُنْحِ الظلام؟ ألم يصل إلى سمعها أيضًا مشاكل هذا الزواج مِن إنكار الحقوق الزوجية.. وإنكار الولَد منها عند المواجهة؟. إن الزواج العُرفِيَّ ـ في نظري ـ لا يُحقق الغاية التي يُشير غليها قول الله ـ تعالى ـ: (ومِن آياتِهِ أنْ خلَقَ لكمْ مِن أنْفُسكمْ أزواجًا لتَسْكُنُوا إليها وجَعَلَ بينكمْ مَوَدَّةً ورَحمة). (الروم: 21).. فالقرآن الكريم يُحدد أهدافًا ثلاثة للزواج، كما تَرسم حُدوده ومَعالمه سُنَّةُ الرسول ـ عليه السلام ـ: الاطمئنان بين الزوجينِ.. والمودة.. ورحمةُ كلٍّ منهما لآخر، وما أبعد الزواج العرفي عن اطمئنان النفوس واستقرارها.. وما أقربه إلى زواج المُتعة الذي كان شائعًا في الجاهلية وحرَّمة الإسلام إلى الأبد في حَجة الوداع.(140/4)
100 ـ الزواج بالمُواهَبة
إحدى السيدات تقصُّ ما يلي:
أن أخاها أحبَّ فتاةً، وتعاهدَا معًا على الزواج فقال لها بالمواهبة: أنت زوجتي على سُنة الله ورسوله، وقالت هي كذلك على أن يكون كل شيء بينهما مُباحًا، عدا ما يكون بين الزوجة وزوجها وحَلَفَا على ذلك وتسأل هل هذا حرام أم حلال؟ وهل كان الزواج بالمواهبة على عهد الرسول؟ وهل لم يزل للآن؟
كثُر السؤال عن "المُواهبة" في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة كأن يقول الرجل: بالمواهبة أنت زوجتي على سُنة الله ورسوله، وتقول هي كذلك: بالمواهبة أنت زوجي على سُنة الله ورسوله!
ويَستخلص كثيرون مِن زواج المواهبة على هذا النحو أن كل شيء جائز بين الرجل والمرأة بعد ذلك، ما عدا ما يكون بين الرجل والمرأة منذ الدخول بها وزفافها: فرؤية ما زاد عن الوجه والكفين مِن أيٍّ منهما للآخر جائز! والمُداعبة جائزة! والمُلاعبة جائزة كذلك!.. وغير ذلك، ما عدا الاتصال الجنسيَّ المألوف.
وإذن "المواهبة" في مفهوم الكثيرين تكون هناك ثلاث مراحل في علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل.
أولاها: الخِطبة وهي مرحلة لا تمتدُّ فيها صلة الاثنينِ بعضهما ببعض إلا في نطاقٍ ضيِّق وهو نطاق الرؤية المَحدودة، والحديث معًا، في وُجود بعض مَحارم المرأة.
وثانيتهما: مِن وجهة نظر مَن يقولون: "بالمواهبة أو بالموهبة" .. تجاوز حُدود الخطبة بكثير إلى ما يُشبه الزواج إلى حدٍّ كبير، وإنْ لم يكن الزواج نفسه.
وثالثها: الزواج المعروف شرعًا وهو العقد الذي يُعطي للرجل والمرأة حقَّ اطِّلاع كل منهما على سِرِّ الآخر فليس بينهما محرم، إلا فيما يُوصل إلى ضررٍ لأحدهما.(141/1)
جاء الإسلام بالخِطبة وجاء الإسلام بالزواج المعروف، ووقع في تاريخ الجماعة الإسلامية: أن عمر ـ رضي الله عنه ـ عرَض ابنته حَفْصة على كلٍّ مِن عثمان وأبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ ثم خطبها رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما يُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: أن امرأةً جاءتْه، وعرَضت نفسها عليه فخفَضَ فيها النظر، ورفَعه.
ولكن المواهبة، أو الزواج بالموهبة، أمر جديد طارئ على الإسلام وبِدْعَةٌ ابتدَعها "هوى" الإنسان المُعاصر، كي يستمتع كلٌّ مِن الرجل والمرأة بالآخر على نِطاق أوسعَ مِن الخِطبة وأقل قليلاً من الزواج، دون رقابة مِن ضمير أو إيمان صحيح بالإسلام ودون مسئولية عليه، وربما ابتدع الرجل الزواج بالموهبة، وأشاعه خِداعًا للمرأة وتَلْبِيسًا عليها، وتيسيرًا للاستمتاع بها في غير حرَج.
إن الأصل في الهِبَة أن يتمحَّض بها طلبُ الثواب في الآخرة، وتُطلق الهبة بالمعنى الأخصِّ على ما لا يُقصد له بدَلٌ، فهي تمليك بلا عِوَضٍ.
والمواهبة: أن يهب إنسانٌ إنسانًا آخرَ شيئًا، في مُقابل أن هذا الآخر يَهب الأولَ شيئًا كذلك فهي مُبادلة الهِبَة.
أما أن يهب الإنسان نفسَه لإنسان مقابل أن يهب هذا الإنسان نفسه أيضًا للواهب الأول: فذلك أمر جديد على معنى: الهبة، والمُواهبة، فموضوع الهبة التبرُّع دائمًا، أي أن يتبرَّع الإنسان بشيء لإنسان آخر، يُدخل به السرور على نفسه.
وإذن الزواج بالموهبة ـ كما يُقال ـ ليس له كيانٌ شرعيٌّ؛ لأن الزواج عقد قائم على مَهر، وإيجاب وقبول، وولاية مِن عصبية للزوجة، وشهود والمرأة إذا وَهبتْ نفسها للرجل تَخلَّتْ عن المهر وحقها فيه؛ لأنها تبرَّعت بذاتها عندئذ، والزواج بدون مهر غير جائز، يقول القرآن الكريم في سورة النساء: (وآتُوا النِّساءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً). (النساء: 4).
ثم كوْن الإنسان يتبرَّع بذاته إهدارٌ لآدميته وإنسانيته، كأنه عَدِمَ القيمة البشرية.(141/2)
إن عَلاقة الرجل بالمرأة عن طريق: "المواهبة" علاقة آثِمة، والمواهبة إذن تُحَلِّلُ حرامًا مَبغوضًا عند الله، والمرأة بعد المواهبة لم تزل أجنبية عن الرجل، والرجل بعد المواهبة ليس مُحرَّمًا لمَن وَهبت نفسها له.
ولم تكن هذه المواهبة على عهد الرسول ـ عليه السلام ـ في المجتمع الإسلامي، فقد تخلَّص هذا المجتمع مِن جميع أنواع الأنْكِحة في الجاهلية، واستبقى منها عَقدًا واحدًا هو عقد الزواج المألوف ومُقدمته هي الخطبة المعروفة، ويجوز لوليِّ المرأة أن يَعرض على رجلٍ يرى فيه الصلاحية: أن يُزوجه ابنته أو أُخته، ولكن أن تقول المرأة لرجل: زوَّجْتُك نفسي بالموهبة، ويقول الرجل لها: زوجتك نفسي بالمواهبة، ثم يُعاشر أحدُهما الآخر عيشةً تقترب كثيرًا من مُعاشرة المرأة للرجل في عقد زواج شرعيٍّ صحيح، فهذا باطلٌ، ويراه الإسلام مَعصية.(141/3)
53 ـ زَوَّجت شقيقتي لرجل علِمت أخيرًا أنّه غير متديّن. وأختي ـ والحمد لله ـ تصوم وتصلِّي. وتُنْجِب له الأولاد، ولا يُنفِق عليهم. فأنا المُرَبِّي والمنفِق. ومنذ سبعة أعوام وهي تُقيم عندي بأولادها. وإذا طلبها فلإنجاب الأولاد فقط، وعليَّ الإنفاق. وبذلك اعتديْتُ على نفقة أولادي وواجباتي لهم. فما الحكم؟
التديُّن في الزوج هو الضمان لوفائه بما يلتزم قبل زوجته؛ لأن التديُّن هو الإيمان بالحقوق والواجبات والتعهُّد أمام الله بأدائها. فرقابة الضمير، والخشية من الله كَفِيلان بعدم الإخلال بحقوق الزوجية، ومن بينها الإنفاق عليها في الأكل، والملبس، والسُّكنى.
ولكن التفتيش اليوم في الرجل عن دينِه وفي المرأة عن دينها أصبح في حياتنا المعاصرة أمرًا عديم الأهمِّيّة في الرِّباط بين الزوجين. لا لأن التديُّن أصبح قليل الجدوى في الوفاء بالالتزامات، بل لأن الدوافع الأخرى من جاهٍ، وعصبية، ونفوذ في الحياة الاجتماعية، وثروة، طغَتْ عليه بين عوامل الترغيب في الزواج. ولذا ـ لأنَّ العوامل الأخرى عدا التديُّنَ أمور عَرَضية توجد اليوم، ولا توجد غدًا ـ كان الاحتكاك في الحياة الزوجية كثيرًا، وكان الفشل فيها شائع الوقوع.
وشكوى السائل من عدم إنفاق الزوج على شقيقته ـ وهى زوجة له ـ هي إحدى نتائج عدم التديُّن عند الزوج. إذ لو كان متدينًا لَمَا استمرَّ أن يتصل بزوجته في الجانب الجنسي فقط، ثم ينقطع عنها في بقية الجوانب الأخرى في الحياة الزوجية. وهى جوانب رعاية الأطفال، والإنفاق عليهم وعلى والدتهم، وهى زوجته، وتكوين أسرة مترابطة في ظِلّ الوالدين معًا. أنه أناني باختياره الجانب الجنسي وحده، من جوانب الحياة الزوجيّة والأسريّة. وأنانِيٌّ كذلك بعدم إنفاقه على زوجته وأولاده، وأنانيٌّ أخيرًا بتركيزه نظرتَه في الحياة علي ذاته وحدها. والأناني غير مُتَديّن حتمًا، وغير صالح بالتالي لأنْ يكون زوجًا وربّ أسرة على المدى الطويل.(142/1)
إن النفقة على الزوجة والأولاد واجبة قَطْعًا في نظَر الإسلام على الزوج والوالد. فنفقة الزوجة على الزوج يقول الله ـ تعالى ـ في شأنها: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (النساء: 34) فجعل إنفاق الأزواج علي الزوجات عاملاً في إسناد القَوامة والتوجيه في الأسرة إلى الأزواج. ونفقة الأولاد على الآباء تأتي ضمن ذوي القُربى في قوله: (واعْبُدُوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسانًا وبِذِي القُرْبَى) (النساء: 36).. فأمر بالإنفاق على الأقرباء ـ وفي مقدمتهم الأولاد ـ بجانب المعاملة الحسنة للوالدين، وعبادة الله وحده.
والسائل فيما يسأل عنه من حكم في مشكلته يعرِف جَيِّدًا أن الزَّوج يعلم يقينًا أن نفقة زوجته وأولاده واجبة عليه، ويُلزَم بها فقهًا وقضاءً. ولكن المشكلة الحقيقية: كيف يدفع بالأنانيّ ليخرج من أنانيته؟. وهل تستغني الزوجة مع ذلك عن زوجها، والأولاد عن أبيهم؟. وإلي أي مدًى يستطيع الأخ الشقيق أن ينفق على أسرة شقيقته، وينسى بعض واجباته نحو أسرته الخاصة؟
يُمكِن للشَّقيق أن يرفع أمر شقيقته إلى القضاء من أجل النفقة، ولكن هل حكم القضاء علاج لهذه المشكلة؟
إن العلاج يُمكن في تحويل النفس الشِّريرة ـ وهى النفس الأمّارة بالسوء.. النفس الأنانيّة ـ إلى نفس خيِّرة. ومن الأسف أن عامل التحويل الوحيد في التوجيه، وهو الإيمان بالله.. ضعيف الآن وسَط الموجة المادِّيّة العاتية، التي تجتاح شعوب العالم في وقتنا الحاضر.
90ـ زوجة تَضيق ببُخل زوجها
سيدة من إحدى المحافظات تحكي أنها متزوجة منذ سبعةَ عشرَ عامًا. وهي تبلغ الثالثة والثلاثين مِن عمرها وزوجها يَكبرها بسبع عشرة سنةً، وهي مُتدينة وحجَّت إلى بيت الله الحرام.. وتشكو:
من بُخل زوجها بُخلاً شديدًا، مع أنه مُتيسِّر الحال، فهو يمتلك سبعة عشر فدانًا.(142/2)
كما تشكو مِن كذبه في جميع ما يقوله ومِن إهانته لها ومِن عدم اهتمامه بمَظهره وبنَظافة بيته مع أنها مِن عائلة كريمة وأن أولادها مُتفوقون.
وقد سألت بعض الفقهاء في بُخله وتقتيره في الإنفاق على أسرته فأفْتوها بأن تأخذ من ماله بالمَعروف، وفعلت ذلك، ولكنه بدأ يُلاحظ، ومنَع النقود من حفْظها بالمنزل، وهي لا تَستطيع الآن مواجهة النفقات.. وإذا سألته عن شيء لها أو للأولاد، أو للمنزل يَسُبُّهَا ويُخاصمها، ويَهجرها في الفراش وقد يَطُول الخصام بينهما إلى الشهرين.
وفي أول الأمر عندما كان يُهينُها كانت لا تردُّ عليه إهانته، ولكنها اليوم تردُّ بعضها عليه، وتسأل عن رأي الإسلام في هذا الزوج المُتعب للغاية؟
تصف زوجها بالبُخل.. وبالكذب.. وبالغِلْظة في القول.. وبالإهمال في مظهره وفي بيته.. وبعُنفه في الخصام.. وهذه صفات ترجع جميعها إلى "البُخْل" فالبخيل يحرص على المال، وفي خِدمته، إنْ سُئل عن قرضٍ، أو نفقة، أو إحسان، منه، كذَب في تبرير موقفه، وهو موقف المُعتذر عن عدم وُجود مالٍ لدَيه، فإنْ ألَحَّ عليه سائل في ماله أغلظ له القول، سَبًّا وإهانة، وقد يُهمل في مَظهره وفي بيته عمْدًا، كي يُدلِّل على أنه لا يملك مالاً لدَيه، أمَّا عُنفه في الخصام فلأنه يرى في المال قوة، ومصدر غنًى له، واستغناء عن الناس، فلا يَعْنيه من فلان أو فلان إذا خاصمه.(142/3)
وسورة الليل في القرآن الكريم جاءت لِتُؤكد: أن أصناف الناس في موقفهم من المال صنفانِ. ...
صنْف يَبخل بالمال. وهذا الصنف يَستغني بالمال، ويرى غناه عن كل شيء في الوجود، في المال وحده، والمال في نظره عِوَضٌ عن الأسرة والأولاد.. والزوجة.. وعوض عن الأقارب، والعصبية والجيران.. وعوض عن الإحسان والعمل الصالح: (وأمَّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنَى، وكَذَّبَ بالحُسْنَى). (الليل: 8 ـ 9) .. "أي بالعمل النافع".. وهو يكذب بآثار العمل الطيب على نفسه وعلى الآخرين، بسبب اعتماده على المال واستغنائه به عن كل شيء عدَاهُ في مُحيطه. وهذا الصنف البخيل من الناس سيَنتهي أمره ومَوقفه من المال إلى نهايتينِ:
النهاية الأولَى: وُقوعه في الأزمات، فحِرْصُه الشديد على المال سيَدفع به إلى تَوتُّر في العلاقات في أُسرته، وأهله، وأقاربه، والآخرينَ ممَّن يَتعاملون معه، على نحو ما تَصِفُه السائلة في علاقتها مع زوجها، وهي علاقة تُشقي كُلًّا من الزوجة والزوج معًا.
النهاية الثانية: أنه يَخيب أمله في ماله إذا وقَع في أزمة وشدة، فلا يُنقذه المال منها بحالٍ، ويُشير إلى النهاية الأولى قوله ـ تعالى ـ في سورة "الليل" (فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى). (الليل: 10).. أي سندفع به إلى الشدائد، فالعُسرى هي الشدة والأزمة، بينما يُشير إلى النهاية الثانية في السورة قول المولَى ـ جل جلاله ـ: (وما يُغني عنه مالُه إذا تردَّى). (الليل: 11).. أي إذا سقط في أزمة أو في قبْره بعد موته، فالمال ليس بديلاً إطلاقًا عن العلاقات الطيبة بين الناس بعضهم ببعض، والعلاقات الطيبة بين الناس هي مفتاح الأزمات، ومَفْرجة الكُروب والشدائد، فالمريض لا يُسعف في مَرِضِه بماله وحده وإنما بقُلوب الناس حوله أوَّلاً.(142/4)
والسائلة ربما يوم أنْ وافقت على الزواج مِن هذا الغنيِّ، وافقت عليه بسبب فَدادِينهِ من الأرض، وأعْماها عن الجوانب الأخرى فيه: يَسارُه وغِناه، فلم تُدرك مدى إنسانيته في المعاملة، فكان ما كان مما تشكو منه الآن، والإسلام إذْ يُرشد المؤمنين به: رجالاً ونساء: أن يختار الرجل في زوجته: الأهلية للأسرة والزوجية قبل المال، والجاه، والجمال.. وأن تختار المرأة في زوجها: الصلاحية لتحمُّل المسئولية في قيادة الأسرة والإنفاق عليها، قبل المال، والجاه.. والشرف. إنَّما يُرشدهم إلى خير طريقٍ يُجنِّبهم: توتُّر الأعصاب.. والمُشادة.. ويُؤمنهم على الاستقرار، والطمأنينة، والمودَّة في حياتهم الأُسرية الجديدة، وصلاحية المرأة للزوجية وأهلية الرجل للقيادة، تكْمُن في التديُّن والأخذ بالإسلام في مبادئه وفي رقابة الإنسان على نفسه في كل عملٍ يُؤدِّيه. ...
الإسلام لا يطلب مِن أحدٍ إذا آمَن به: أن يُصوِّت لزعامته، أو أن يُشارك في إقامة مُلكٍ له، أو أن يُسهم في إتاوة تجمع له، إنه لا يطلب سوى أن يكون المؤمن به: مُستريح النفس والخاطر.. مُستقرًا في علاقته مع الآخرين.. بعيدًا عما يؤذيه في صحته وماله.. وحُرماته، فمَن شاء فلْيُؤمن ومَن شاء فلْيَكفر.(142/5)
وعلى السائلة أن تَصبر فهذا قدَرها، وهي لم تَزل بعدُ في سن الشباب: في سن الثلاثة والثلاثين، وخيرُ طريق لها الآن: أن تُفكر في أولادها، وفي تفوقهم وفي استقامتهم، فهم أشبه بالزهور التي يُسَرُّ بها الناظر إليها.. وأن تتجاهلَ زوجها في إهماله لمَظهره أو لبيته، ولا أتصوَّرُ أن تَسعد زوجةٌ بزوجها إنْ عاشرها وهي كارهة لمَسلكه وتقتير يده، ورسالتها رسالةٌ شاقَّة إنْ هي حاولت أن تُوفِّق بين ما في يدها مِن نقود، وما يحتاجه البيت مِن نفقات، ولكن كما ذكرنا هو القدر.. وسترى بعد فترة مِن الزمن إنْ شاء الله، الخير الكثير في أولادها وستكون نَشْوتها بتفوقِّهم في الحياة نشوةً تفوق كل مستوًى عرفتْه من قبلُ.(142/6)
62 ـ زوج يجمع بين الأم وابنتها من غيره:
تزوَّج رجل مسلم امرأةً مطلّقة، ولها ابنة من رجل آخر ربّاها، ثُمَّ تزوَّجها وأصبحت هي وأمُّها على ذِمّة الرجل فما حكم الإسلام في هذا؟
الآية القرآنية التي تقول : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) (النساء 23).
هذه الآية صريحة في فقرتها الأخيرة بحُرمة الزواج من رَبيبة الزوج إن كان قد دخل الزوج بأمِّها؛ ورَبيبة الزوج هي ابنة زوجته من أبٍ آخر رُبِّيَت في بيته هو في رُفقة أمِّها عنده.
هذا حكم الإسلام ولا أخال الزوج الذي جمع بين الأم وابنتها في زيجته يجَهل هذا؛ إذْ ذلك أمر واضح قلَّما يحتاج إلى مراجعة.
ولكن الجاهلية أو المادِّية تُعمي الناس عن تقدير الروابط الإنسانية، وتحمِلهم على تجاهلها كسْبًا لمتعة وقتية؛ إذ كيف يتجاهل الزوج إحساس زوجته أمًّا أو بنتًا لها، بالنسبة للأخرى عند مُعاشَرة أية منهما معاشرة جنسية؟ أي إحساس يُخالِط الزوجة منهما آنئذٍ؟ إنه يُجرِّدهما معًا من الإنسانية بعد أن تجرَّد هو منها قبلهما بزواجه منهما معًا كيف يحول عاطفة الأمومة نحو ابنتِها إلى إحساس بالكُره والغيرة منها؟
كيف يُحول عاطفة البنت نحو أمِّها إلى إحساس بالبُغض وربما إلى سعي إلى الانتقام من أمها؟ إذْ كان الأولى بأمِّها أن تتركها تستمع بشبابها، كما تتصور هي الآن، فهي أصغر سِنًّا وقد دخلت حياة الرجل منذ قريب.(143/1)
إن المجتمع الإسلامي اليوم طغتْ عليه الموجة المادِّيّة المعاصرة وهي تلك الموجة التي تُنْكِر كل القِيَم الإنسانيّة من المَحَبّة والمودة والمعاونة والصفاء والمشاركة في السَّرّاء والضَّراء، وإذا ازداد طغيان تلك الموجة المادِّيّة فإنها تدفع إلى استجابة كل وسيلة في سبيل المُتعة والمنفعة الخاصة تَستبيح الاغْتصاب.. وجمع المرأة بين زوجين في وقت واحد... وجمع الرجل بين الأم وابنتها، أو الأخت وأختها في زِيجة واحدة.
وهكذا كما تدفع إلى السلْب وصُنوف الباطل والعبث مادام من وراء ذلك مصلحة أو متعة وقتيّة.
والإسلام بالنسبة للمسلمين الحاضرين ـ عند طغيان هذه الموجة ـ ليس دِينًا يُتَّبَع ومَنهجًا يُطبَّق في سلوك المسلمين وعلاقات بعضهم ببعض، وإنّما هو مصدر يتعرّف منه ما كان عليه أسلافهم.. وقلَّما يعتزُّون بهم.
الحيوانية بكل ما لها مِن أبعاد أصبحت أهمَّ ظاهرة لحضارة الموجة المادِّية المعاصرة. وكلَّما طغت المادِّيّة كلما انحسر الإسلام من مجالات الحياة العامة والخاصة على السواء.(143/2)
30ـ إدمان الزوج على الشراب المُسكر يدعو إلى التفرقة بين الزوجين
تكتب إحدى السيدات إنها تعيش مع زوجها وأبيه، ويبلغ الأب الآن الثامنة والسبعين من عمره. وأن زوجها وأباهُ مُدمنان على الخمر والسكر منذ ثلاثين عامًا. وأنها لم تُفلح معهما في إقناعهما بالكفِّ عن الشراب والرجوع إلى الله، ولا في مُباشرتهما الصلاة والصوم، ولا في احترامهما أيام رمضان والامتناع عن السكر فيها. بينما هي مداومة على الصلاة والصوم منذ ثمانية وعشرين عامًا الآن، وهي لا تشكو التقتير في نفقة المنزل، بل المنزل ـ كما تقول ـ مفتوح للجميع، ومشكلتها أنها كرِهت الإقامة في المنزل مع الزوج وأبيه، وإنها من أجل ذلك تودُّ أن تفرَّ منه وتتركه، ولكن لها أولاد لم يُتموا مراحل التعليم بعد، وإنها لا تستطيع الصبر على هذا الحال، كما لا تستطيع ترك الأولاد في هذا الجو الفاسد وهي تذكر لوالدها قوله: لا تَأْكِلِي في الطبق الذي يأكل فيه زوجك السكير. وهي لا تُريد أن تُغضب الله وتسأل: هل ترك الأكْل مع زوجها ـ وهو على هذا النحو ـ حرام؟
المشكلة بالنسبة للسائلة ليست في الأكْل أو في عدم الأكل مع زوجها المدمن على السكر في طبق واحد، كما كان يَنصحها والدها قبل وفاته. فهي تكاد تكون معزولة عن الزوج وأبيه.. معزولة عنهما نفسيًّا.. ومعزولة عنهما عضويًّا واجتماعيًّا، فهي لا تستطيع أن تقترب من زوجها؛ لأنها تخشى من سكره وعربدته، وتتجنب رائحته الكريهة، وهو لا يستطيع أن يقترب منها؛ لأنه يعيش في عالَم الخيال والأوهام، وليس في عالَم الحقيقة والواقع، إنه في واقع أمره ليس زوجًا لها الآن. على معنى: أنه فقَدَ الأهليَّة كزوجٍ .. وكرجل.. ليست لديه الصلاحية لأن يعاشرها كزوج.. وهي كامرأة.. وليست لديه الصلاحية لأنْ يشرف على الأسرة كرجلٍ أُعطيَ خصائص القيادة والريادة فيها من الطبيعة ومِن الله.(144/1)
وزوجها حيٌّ بالحركة المُعْوجَّة.. وميت بفكرة وطاقاته البشرية.. ومن هنا لا يُقتِّر في الإنفاق على البيت؛ لأنه طالمًا عنده مال لا يعِي ما يُنفق.. وما يَدَّخِر. وخيرٌ لها كزوجة أن لا يكون على قيد الحياة والحركة ـ فهو مصدر عذاب لها.
ولكن المشكلة هي الأولاد. إنهم صغار.. إنهم يُنشَّئون الآن.. إنهم يَفتحون عيونهم في البيت على كل شيء.. وغريزة "التقليد" لدَيهم في هذه السن قويَّة: تُمارِس نشاطها وتلتقط ما يَدور حولهم، والقُدوة لها تأثيرها عليهم، فإن كانت حسنةً قلَّدوها بالسلوك الحسن، وإن كانت سيئةً قلَّدوها في السوء، إنْ لم يَعصمهم الله عن مباشرة السوء. ...
وهذا أبوهم يُدمن على الشراب، وفي نهار رمضان، ولا يصوم.. ولا يصلي.. إنه بعيد عن الله، وقريب مِن الشيطان، وهذا جَدَّهم يُساوق أباهم في الإدمان على السكر والشراب، وفي الأيام التي كرَّمها الله. إنهما معًا يُكوِّنانِ "نَموذجًا" سيِّئًا: يتضاعف فيه السوء والنجس: (إنَّما الخمرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمِلِ الشيطانِ فاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفلحونَ). (المائدة: 90). ...
هل لا يرى الأولاد هذا النموذج من السوء كل يوم عدة مرات؟ وإنهم إنْ لم يستطيعوا التقليد الآن، فإنهم بحُكم صغرهم في السن: يختزنون صور ما يرونه كل يوم ثم فيما بعد يَستطيعون مُحاكاتها، إن هُيِّئت لهم الظروف: فدخلوا سِنَّ المراهقة، وابتدؤوا يُحاكون الرجال في التدخين.. وفي السعي لاجتذاب قلب الفتيات.. وفي غير ذلك ممَّا يُعبِّر عن رجولة الشباب ووُصولهم إلى مرحلة الراشدين. ...
السائلة تتردد بين أمرين: إما أن تترك المنزل بسبب الزوج ووالده، وإما أن تبقى وتصبر حتى يتم الأولاد مراحلهم الدراسية. ولكن كان لا بد: أن تذكُر حالة ثالثة وهي أن تذهب بزوجها وبأبيه إلى مُستشفى المُدمنين على الشراب والسكر وعلى تعاطي المخدرات. وليس من أجل شفائهما.. ولكن أولاً: من أجل(144/2)
الوقاية منهما، وبعَزلهما عن الأولاد، وطمْس هذا النموذج السيئ الذي تتكرر رؤيته في اليوم عدة مرات في المنزل. ...
إن بقاءها مع الأولاد وهي تُعاشر زوجها، وهم يُعاشرون أباهم وجدهم، لا يُجدي شيئا في الحيلولة دون تأثير الأولاد بأبيهم وبجدِّهم. ولو فُرض وقد نجحت أمهم في إبعادهم نفسيًّا عن أبيهم وجدهم: بالتبغيض في سلوكهما المُشين.. وبالتحذير منهما: وبعدم الاستجابة لمَا يتحدثانِ به.. وبعدم الاختلاط بهما.. لو فُرض وقد نجحت أمهم في ذلك فسيُضار الأولاد من جانب آخر.. وهو أنهم سيَحكمون عليه: بأنه لا يستحقُّ الاحترام والتقدير من الآخرين.. وبمرور الزمن سيُحسون "بالنقص" في نُفوسهم هم، وهو إنهم ليسوا جديرونَ بالحياة الكريمة، وليسوا أهلاً لأنْ يحترمهم الآخرون ويقدرونهم؛ لأنهم جاءوا من صلب أب عديم الاحترام، وفاقد القيمة الإنسانية. ...
إن الإسلام إذْ يُحَرِّم الخمر لا يريد بتحريمه: المَشقَّة على المؤمنين به في استمتاعهم بالشراب والتلذُّذ به. ولا يُريد أن يفرض عليهم قوته ومَنعته. بل يريد شيئًا واحدًا، يُريد لهم كرامة الإنسان.. يُريد أن يُبعدهم عن مذلَّة التبعية للشهوات. هل يعي الشباب ذلك؟ هل يقف المجتمع في وجْه المُستورد من العادات والتقاليد ما قيمة هذا الزوج الآن بعد إدمانه على الخمر؟ ما قيمة أبيه أيضًا بعد إذْ أصبح في نهاية شيخوخته وهو مستسلم للسكر؟ إنهما يعيشانِ في هذَيانٍ وفي ضَباب الخيال.(144/3)
93 ـ ليس مِن حقوق الزوج سوء مُعاملة الزوجة إذا كانت وفيَّةً له ولأولاده.
كتبت سيدة من إحدى المحافظات تقول إنها مسلمة متديِّنة، تعرف ما يجب عليها نحو زوجها وأولادها.. ونحو ربِّها في طاعته. وإنها عاونتِ الأولاد حتى الانتهاء من التعليم الجامعي، فكانت لهم الأم.. والمدرسة.. والخادمة.. وزوجها يَكْبرُها بخمسٍ وعشرين سنةً، وهي الآن في سنِّ الأربعين، وقد عاشت معه تحترم شعوره، كما تقول في رسالتها: "عِشْتُ معه هذه السنين الطويلة: سيدةَ بيت، أَصونُ الأمانة، وكل أقاربي يَشهدونَ عندما يمرض أكون له المُمرِّضة.. والأم.. وأحترمه بكل معاني الكلمة".
... ومشكلتها أن زوجها لا يُبادلها نفس الشعور: إذا مرِضت بخِل عليها بالنقود ولا ترى منه أيَّةَ عاطفةٍ.. ولا كلمةَ حنانٍ.. ولا أيَّ اهتمام.. ويُشجع الأولاد على عدم احترامها بسُلوكه هو معها.. ثم بعدم استنكاره سُخْفهم وشتائمهم لها.
... وتختم رسالتها فتقول: إنها في حَيْرة: هل تُعامل زوجها مثل ما يُعاملها، إنها لا تريد ذلك؛ لأنها تعتقد: أن رضاء الزوج مِن رضاء الرب، فماذا تفعل لكي لا تُغضبِ الله؟
حقًّا هي مشكلة للمرأة التي هي: زوجة.. وأم: إنها لا تجد الاحترام لها مِن زوجها.. ولا مِن أولادها.
... وستزداد هذه المشكلة تعقيدًا لها، إذا كانت هي تقوم بما يجب عليها نحو الزوج مِن احترام ورعاية لصحته وشئونه في المنزل.. ونحو الأولاد في تنشئتهم، وفي رعايتهم، وفي تربيتهم.
... إذا لم تَجِدِ الزوجة الاحترام مِن زوجها.. والعطف والحنان منه في مرَضها وأزْمتها.. والعناية بها أثناء قيامها بما يجب عليها.. والتعبير عن الشكر والرضاء عنها من وقت لآخر، فأيُّ شيء يُمكن أن يُقدمه الزوج بديلاً عن ذلك؟ أيُقدِّم لها الأكل والشرب واللباس؟ إنها إنسان له عواطف قبل أن تكون له معدة.. وله نفس وشعور، قبل أن يكون بدَنًا: له رجلانِ ويَدانِ.(145/1)
... وإذا لم تجد الأم مِن أولادها الاحترام وحُسْن الرعاية والتهذيب في مُعاملتها والسلوك معها: أيُّ شيء يمكن أن يُقدمه الأولاد لأمهم في حياتها جزاء ما تحملته من العناء والمَشقَّة في الحمْل بهم.. والدأَب على تربيتهم.. والحنان والعطف في حضانتها إيَّاهمْ؟ والله إذْ يقول: (ووَصَّيْنَا الإنسانَ بوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًأ على وَهْنٍ وفِصالُهُ في عامينِ أنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إليَّ المَصِيرُ). (لقمان: 14).. يُوضح للأولاد: صورة من صور المشقة التي تُعانيها الأم في الحمْل بأبنائها، وفي حضانتهم: وإعدادهم للحياة. ويطلب إليهم أن يَتوجَّهوا بالشكر إلى الله على أن هيَّأ لهم حنان الأم فصانَهم وهم في طفولتهم الأولَى.. كما يتوجهوا كذلك بالشكر إلى أمهاتهم. وأدنَى صورة مِن صور الشكْر للأمهات: احترام الأبناء لهنَّ.. وتكريمهنَّ.. وليس مِن صور الشكر إطلاقًا: الاستخفاف بهنَّ.. والتندُّر بحركاتهنَّ أو بأقوالهنَّ.. وإيذاؤهنَّ بالصُّراخ والمُواجهة الكريهة.. وما شابَهَ ذلك.
إن السيدة السائلة إذا لاقتْ ما تشكو منه مِن زوجها وأولادها فلاشك: أن تَحزن.. وأن يَضيق صدْرها في الحياة، فقد خابَ أملُها في الأسرة.. وأصبحتْ معزولةً عن العواطف التي كان يجب أن تُحيط بها مِن كل جانب. فالسخرية والاستهتار يُحيط بها الآن مِن كل جانب.
... وإذا كان زوجها هو القدوة لأولاده في الإساءة إليها فما قدمتْه طوال هذه المدة من الرفاهية لهذه الأسرة يُشبه نبات الأرض بعد أن أصبح هشيمًا تَذْرُوهُ الرياح.(145/2)
إن الزوج وهو رب الأسرة هنا يجب أن يُغيِّر موقفه إزاء زوجته وأولاده.. يجب أن يتذكَّر ما مضَى من علاقات طيِّبة بينه وبين زوجته.. وكيف قامت بالواجب نحوه خير قيام.. يجب أن يقف في وجْه الإساءة التي يُوجِّهُها أولاده إلى أمهم، فهي إساءة ستنعكس على تربيتهم وعلى موقفهم هم مِن أبيهم عندما يضعف.. أو عندما يكون وَحيدًا بعد وفاة والدتهم، إنَّ مباشرة الابن الإساءة وتشجيع الأولاد على مباشرة الإساءة.. أو السخرية والاستخفاف بالآخرين لا يَضرُّ إلا الأولاد أولاً. إنه يُسيء إلى تربيتهم بالذات، لتشجيعهم على الإتيان بالفاحشة والمُنكر: يُصيبهم هم بالضرر، قبل أن يُصيب غيرهم.
... لِيُحْسِنِ الزوج إلى زوجته بالإقبال عليها وإظهار المودَّة لها والتعبير عن رضاهُ عنها، ولْيُحسن إلى أولادهما بمَنعهم منْعًا تامًّا من مباشرةً الإساءة بالقول.. أو بالحركة.. أو بالفعل إلى الآخرين، فذاك مِن حُسن التربية لهم.
... أما الزوجة التي ضحَّت بصحتها.. وبشبابها.. وبراحتها..وصبرت وتحمَّلت الأذى النفسي: فعليها أن تصبر اليوم كذلك، كما صبرت بالأمس ولْتُسامح زوجها.. وتدعو لأولادها بالهداية. والله سيَجزيها خير الجزاء، إنْ في دُنياها أو في آخرتها. ولعلَّه ـ سبحانه ـ يغير من هذا الوضْع الذي يَضيق به صدْرها الآن، وليَحلَّ اليُسر بدلاً من العُسر والشدة.(145/3)
54ـ زوج يُبغض زوجته ويُسيءُ إليها في العِشْرة الزوجية
سيدة من إحدى المحافظات تشكو من زوجها، بعد زواج استمر الآن أكثر من عشرين عامًا، تشكو منه:
أنه يستولي على مُرتبها بالكامل، ولا يُعطيها منه مَصروفًا خاصًّا ليوْمها.
وأنه يُهينها بألفاظٍ جارحة أمام الأولاد، ويضربها، كما يُظهر لها عدم احترامه إيَّاها بحركات غير لائقة.
وأنه يَخونها مع غيرها ويُحب مجالسة النساء والبنات.
وكلما حدَثتْ مشادةٌ بينهما يروي لها أنها مُطلقة من عشر سنوات ومُحرَّمة عليه. ويقول لها: أنت هنا خادمة للأولاد وتدفعي مع ذلك مُرتبك.
ولا يَرضى عن صلاتها وصيامها، ولا عن حِجابها، ويُريدها عاريةً كاسية.
وهو يهجرها اليوم في الفِراش منذ سنتينِ، رغم أنها تحاول إرضاءه بجميع الطرق: بلبس الملابس العُريانة ـ كما تقول ـ.. وبوضْع المساحيق واستخدام أدوات التجميل.. ومع ذلك هو مُعْرِض عنها. ...
وتسأل: ما هو رأي الدين في هذا الزوج؟ وهي تُريد إرضاءه خشيةً مِن غضب الله، ولكن أسلوبه في الحياة معها يجعلها مُتباعدة عنه خوْفًا مِن أن يجتمع بها ويكون: "علاقتها به عندئذ غير مشروعة"..
السائلة تريد الوقوف على رأي الدين في هذا الزوج، أيُّ شيء بقي في العلاقة الزوجية بينهما:
.. هو مُنصرف عنها وهاجِرٌ لها منذ سنتينِ.
.. وهي تُحاول إغراءه بكل السُّبل، بالملبس والتجميل، وهو مستمر في إعراضه عنها.
.. هو مُستهين بها ومُحتقر لها ومُندِّد بكلِّ تصرُّفاتها.. هو يضربها أمام أولادها ويُذلها أمام معارفِه من النساء والبنات كما تقول.
.. هي تُسلم له المرتب وترضى أن يكون وضْعها في المنزل والأسرة وضع الخادمة، منذ سنوات.
.. هو يُعلن أنها مطلَّقةٌ منذ عشر سنوات ومحرَّمة عليه.
.. وهي تسأل هنا عمَّا يُرضيه؛ لأنها تخشى الله في جانبه!! هي تسعى إليه وتقول: هل لو اجتمعتُ معه يكون حرامًا بعد ما قاله؟..(146/1)
.. هو لا يرضى منها الصلاة والصوم.. لا يَرضى منها أن تعبد الله.. ويُريد منها خلع الحجاب وعمل ما كانت عليه من قبلُ.. كما تحكي.
.. هي تُريد إرضاءه حتى لو عذَّبها أو خانها!!
السائلة مِن رسالتها تريد زوجها، وفي الوقت نفسه لا تُريده، وأمارة أنها تريده: أنها تدفع له مرتبها.. وأنها ترضى بإهانته لها وبسُخريته من تصرفاتها.. وأنها تغفر له خيانته وعبَثه مع النساء والبنات. وفي الوقت نفسه لا تريده: عندما تشعر بأنه إنسان له كرامته، وله حُرماته: في المال، والنفس، والعرض. ...
وزوج السائلة يقف تمامًا على خواصِّ نفسها، ويستغل ضعفها في تعلُّقها به. فوُجودها في منزل الزوجية ليس رغبةً منها في رعاية الأولاد. وإنما رغبة في البقاء في ظلِّه، وقبولها الإهانة مرة بعد الأخرى على طول الزمن حِرْص منها على أن تكون معه. ... ...(146/2)
وهذا الوضع النفسيِّ بين الزوجين لا يُرجى له التغيير، الزوج مُستضعِفٌ زوجته، ومُستمرئ ضعفها في خدمة المنزل وفي تَسلُّم مُرتبها آخر كل شهر، دون أن يدفع لها مليمًا واحدًا، كما تذكر، والزوجة ضعيفة بالفعل بحيث تقبل الإهانة تِلْوَ الإهانة.. وتقبل أن يُذلها بالبُعد عنها وهجْرها، وهي تُلِحُّ في التقرُّب منه وفي إغرائه بها، وضعْفها نفسيٌّ حبَس إرادتها عن مقاومته، والرجوع إلى ذاتها من الضياع الذي هي فيه الآن. ... ...
... إذا كان الزوج يذكر لها أنها مُطلَّقة منذ عشر سنين.. وأن مُعاشرتها كزوجة تَحرُم عليه الآن: فأيُّ أمرٍ تخشى الله فيه بالبقاء معه في عيشة واحدة، وفي علاقةٍ زوجية غير قائمة فعلاً. ...
... والضعف النفسي قد يمتد إلى ضعف عقليٍّ في التصرُّف والسلوك والمواقف. وربما يكون ضعف الزوجة نفسيًّا ـ وهو الضعف الناشئ عن تعلقها بالزوج رغم عوامل التنفير في عشْرته والحياة قريبًا منه ـ قد امتدَّ إلى ضعف عقليٍّ وإراديٍّ معًا، بحيث إذا دُعيت إلى ترك الزوج والانتقال من منزل الزوجية إلى منزل أسرتها وأهلها: لا تَستجيب إلى ما دُعيت إليه.
الإسلام علاجٌ لمَن يتقبَّل هدايته، وقبول هداية الله يُؤسَّس على الإيمان بالله… والإيمان بالله إرادة بشرية، فهل لم يزل عند السائلة بقية مِن إرادة.(146/3)
52 ـ رغبة الزوجة في الاستقلال عن أم الزوج:
أقيم أنا وزوجتي مع أمِّي وأخواتي البنات الصغيرات في بيت واحد ووالدي متوفّى وأمِّي لها معاشٌ، وليست في حاجة إلى شيء منا، اللَّهم إلا حُسن المعاشَرة.
وقد حدث خلاف بين زوجتي وأمّي؛ لأن الزوجة تريد أن تفصِل سكَن الأم عن مسكَنِنا. مع أن الأم تعيش هي وأخواتي معيشةً مستقلّة تمامًا عنا، ولا تحتاج إلا إلى الرعاية الأدبية فقط فما الرأي؟
لكي تدوم المودّة بين الأم والأخوات من جهة، والزوجة من جهة أخرى يُفضّل الأخذ برأي الزوجة، وهو هنا الفصل في الإقامة والسَّكَن على نحو الاستقلال في المعيشة لأنَّ هذا الفَصْل أبعد عن الاحتكاك أو اللَّجاجة في الكلام.
والفصل في السَّكَن ليس معناه أن تتجنَّب الزوجة الأم والأخوات، وتقطع معهم حبْل المودَّة والمجاملة، وإنما هو بالأحرى أدعى إلى التقارُب من قبل الزوجة على الخُصوص نحو الأم والأخوات؛ إذ في مجاملة الزوجة وفي مودَّتها لأمِّ الزوج نوعٌ من رعاية الزوج الابن نفسِه لأمِّه.
فإن لجأت الزوجة بعد الفصل في السَّكَن إلى البعد عن الأم، وتجنَّبت السؤال عنها أو مودّتها أَحْرَجتْ زوجها في علاقته بأمه؛ لأن الأم عندئذٍ سوف لا تكون راضية من الوجهة النفسية عن معاملة ابنها لها مهما قدَّم لها من فروض الرعاية؛ إذ تُعْتبر علاقة زوجة ابنِها بها جزءٌ لا يتَجزَّأ من علاقة الابن ذاته.
ولذا يجب أن يكون مفهومًا لدى الزوجة أن الأم في حضانة ابنها في طفولته وفي تنشئته والعناية به في سِنِّ المراهقة وما بعدها إلى وقت زواجه، تنظر إليه على أنّه لها وليس لغيرها في عواطفه.. وفي ثمرة سعْيه في الحياة.(147/1)
والفترة التي يبحث فيها الابن عن زوجة له هي فترة قَلق وفترة هواجِسَ نفسيةٍ بالنسبة للأم؛ لأنَّها عندئذٍ تعيش في مجهول وأمامها في مستقبل حياتها علامة استفهام كبرى: أيكون زواجه نهاية أملِها فيه؟ أم أنه سيُوفَّق في زواجه إلى بنت الحلال التي تُشعرُها بأمومتها لها ولزوجها على السّواء؟ ولا يَقِلُّ قلقها النفسي في تلك الفترة عن قلقها على حياتها في فترة اليأس.
فهما فترتان في حياة المرأة قد يدفع القلق فيهما إلى بعض الأمراض العصبيّة بعد أن يدفع إلى التشاؤم في النظرة إلى الحياة.
وزوجة الابن العاقلة هي التي تحتفظ بزوجها في وضع متَّزِن هادئ وهو وضع الرِّضا النفسي عن العلاقة بين زوجته وأمه. وبالتالي مع إخوته وأخواته، والزوج بحِكمته كذلك يستطيع أن يهيِّئ لها الجَوَّ الذي يُساعدها على أداء رسالتها في هذا الجانب.
ومن أمارات الجَوِّ الصالح لذلك أن يبتعد من أول الأمر بزوجته عن السُّكْنَى مع أسرته وأن يتردّد من وقت لآخر لزيارة الأسرة؛ إذ عندئذٍ تكون إقامتها معها إقامة مؤقّتة لا تدعو إلى الجدل، فضلاً عن المُخاصَمة.
والسائل الآن عليه أن يتخيّر الوسيلة التي يحافِظ بها على إحساس والدته وأخواته بحيث يُشعِرُهم بأنه لا ينتصر لزوجته، إذا ما شرع في الفصل في المسكن والنُّقلة ـ إذا أمكن ـ بدعوى القرب من مكان العمل، أو لأيِّ سبب آخر هي خير طريق لذلك.(147/2)
46 ـ سائل سعودي يقول: امرأتي آمُرها بالصلاة فلا تفعل، ولا تُطيعني أبدًا ودائمًا في نِزاع، وفرَّقَتْ بتصرُّفاتها بيني وبين أهلي، ولم ينفع فيها علاج فما المَخْرَج؟
فيما يَحكيه السائل عن زوجته يُصوّر أنّها:
1ـ تعصي الله بتَرْكِها العبادة الرئيسية فيه، وهى عبادة الصلاة.
2ـ وتعصي زوجها فلا تُطيعه.
3ـ وفي نزاع مستمِرٍّ معه، وبتصرُّفاتها فرَّقت بينه وبين أهله.
4ـ وأخيرًا لم ينفع معها علاج مما جاء في قول الله ـ تعالى ـ: (واللاّتِي تَخَافُونَ نُشوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُروهُنَّ فِي المَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا. وإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إنْ يُريدَا إصلاحًا يُوفّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَليمًا خَبيرًا) (النساء: 34ـ35).
لم يبقَ من علاج أخير لها إلا علاج الطَّلاق، على نحو ما ورد في قول الله ـ تعالى ـ: (الطّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْريحٌ بِإِحْسانٍ) (البقرة: 229).
وهو على مرحلتين ينتهي بعدهما إلى فُرقة كاملة، أو ما يسمَّى بالبينونة الكبرى. وفي كل مرحلة فرصة للمراجعة سواء من قِبل الزوجة أو من قِبل الزوج، وللرجوع أيضًا. أي لرجوع الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته. فإذا لم تنجَح فرصة الطلاق الأول، ولم تنجَح كذلك فرصة الطلاق الثاني فالأمر يدور بين أمرين بعد ذلك: إمّا البقاء في العلاقة الزوجيّة على أمل في التوافُق والانسجام بين الزوجين، وإما الفُرقة النهائيّة، وفي كلتا الحالتين يجب أن تكون المعاملة معاملة إنسانية كريمة: (فَإِمْساكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْريحٌ بِإِحْسانٍ).(148/1)
والإسلام يَستَهْدِف أمرًا واحدًا ـ في بقاء الزوجية أو في إنهائها عن طريق الطّلاق أو الخُلع ـ وهو تجنُّب الضَّرر لأحد الزوجين أو لكليهما. ولذا لا يرى في الزواج عقدًا أبديًّا خالدًا، كما لا يرى في الطلاق طريقًا سهلاً محبًّبًا. فإذ يرى في الزواج أملاً في التعاون والمودّة والسُّكنى، يرى في الطّلاق وسيلةً لوقْف الضَّرَر والإيذاء.
وإذن الإسلام لا يُعَقِّد الحياة الزوجيّة، وإنّما الذي يعقِّدها هو الإنسان المسلم الذي يستهدف من الزواج هدفًا آخر غير الهدف الأصيل له، فهدفه الأصيل السُّكْنى والاستقرار والتعاون على الحياة ومُمارَسة المسؤولية في بِناء الأسرة الجديدة. ولكن المسلم قد يخرج به عن هذا الهدف فيقصد به إلى المُتعة العابرة أو إلى المال أو الجاهِ والشَّرَف.
ولذا لا ينبغي له أن يَلُوم الإسلام إذا شَقِيَ في حياته الزوجيّة، وغلب عليها طابع النزاع وانتهى أمرها إلى الفُرْقة. ولو اختار الرجل المرأة لذاتها وصفات الزوجية والأمومة فيها، ولو اختارت المرأة الرجل لذاته ومُروءته ورُجولته وإرادته وإنسانيته لَكان هناك أمل قويٌّ في طول العشرة وحُسن الصُّحْبة. وذلك ما ينصح به الإسلام عند الخطبة: "إنَّ الدنيا كلَّها مَتاع وخيرُ متاع الدنيا المرأة الصالحة" (حديث شريف).(148/2)
100ـ إنها الجاهلية
يروى مواطن من إحدى القرى أنه شاب من أهل القرية وخطَب إحدى بناتها وطالت فترة خطوبتهما لمدة سنتينِ ونصف، ثم عقَد عليها وأصبحت في بيته تعيش معه. وفي أثناء فترة الخُطوبة حدَث ما يَقصه هنا بقوله: (في خلال هذه الفترة احتَكَّت أمُّ البنت بي، ودخلتُ بها أكثر من مرة.. مِرارًا لا تُعَدُّ، ودخلت بالبنت أكثر من مرة، وبعد هذه الفترة التَّعِسَة كُتِبَ كتابي على البنت على سُنة الله ورسوله، وتزوجتها وأصبحت في بيتي، فهل هذا الزواج حلالٌ.. أم حرام)؟
الشاب السائل: يعترف بأنه اتَّصل بالأم جنسيًّا غير مرة.. واتصل بابنتها أيضًا جنسيًّا غير مرة. وذلك قبل أن يتزوج البنت، فهو قد زنا بهما، واطَّلع على عوْرة كل منهما.
... والفقهاء يَختلفون في صحة زواج هذا الشاب بالبنت، بعد أن اتصل بها وبأُمِّها جنسيًّا قبل الزواج واطلع على عورتها، فبعضهم يقول: إنه يجوز له: أن يتزوج بنت الأم بعد أن يُقام عليه حدُّ الزنا، ويُروَى عن الرسول ـ عليه السلام ـ قوله: "أنه سُئل عن رجل زنا بامرأة فأراد أن يتزوجها.. أو ابنتها فقال: لا يُحرِّم الحرامُ: الحلالَ".(149/1)
... والبعض الآخر منهم يقول بتحريم زواج هذا الشابِّ مِن البنت، بعد أن كانت له علاقة جنسية معها ومع أمها قبل الزواج، ويُنسب إلى الأوزاعيِّ من أئمة العلماء قوله: "إذا دخل بالأمِّ ـ عن طريق عقد الزواج ـ فعرَّاها ولمَسها بيده، وأغلق الباب وأرخَى الستار، فلا يحلُّ له نِكاح ابنتها".. وإذا كان الدخول بالأم عن طريق عقد الزواج يُحرِّم ابنتها، فإنه لا يقلُّ عنه في التحريم إذا كان عن طريق الزنا، والحديث الشريف يقول: "لا يَنظرُ اللهُ إلى رجلٍ نظر إلى فرْج امرأةٍ وابنتها، ولم يفصل بين الحلالِ والحرام".. فالدخول عامٌّ عن طريق الزنا.. أو الزواج.. فإذا كان المولَى ـ جل جلاله ـ لا ينظر إلى رجل ـ من غَضَبه عليه ـ نظر إلى فرْج المرأة وابنتها: في الحلال أو في الحرام، فهو لا يُبارك زواج الشاب هنا بالبنت التي عقد عليها بعد سنتينِ ونصف مِن الخطوبة، وبعد أن أذَلَّ فيها الأم.. وأهانَ البنت في علاقةٍ غير شريفة طوال هذه المدة.
وإذن زواج الشاب القرويِّ الذي كتَب ما كتب في جُرأة في رسالته عن الأم. وابنتها: إنْ لم يكن فاسدًا ولم يقع صحيحًا، فهو بعيدٌ على الأقل عن رضاء الله ولا أدري: ما هي أمارة عدم الرضا لله ـ جل شأنه ـ عن هذا الزواج: أهي عدم الوفاق بين الزوجينِ في حياتهما الزوجية؟.. أهي الجفْوة النفسية في مُعاملة أحدهما للآخر؟.. أهي عدم إقبال الزوج على زوجته، بسبب امْتهانه إيَّاها، واحتقاره لها بعد أن أذلَّ نفسها ورأت مَهانة أمها من أجلِ نَزْوة عابرة؟. أهي الأولاد التي تأتي من زواجهما: يُقدمون للوالدينِ: الإساءة بدلَ الإحسان.. والكراهية بدل المحبة.. والغِلْظة بدل الرحمة؟.. إنَّ علْم ذلك عند الله!!!(149/2)
إن الثلاثة الذين تَجمع بينهم هذه المأساة سخِروا من القيَم الإنسانية في علاقة بعضهم ببعض: فأمُّ البنت تجاوزت عن أن خطيب ابنتها هو بمثابة ابن لها، وخطيب البنت تجاوز عن أن أم البنت بمَثابة أمٍّ له، والبنت تجاوزت عن أن أمها هي أم لها على سبيل الحقيقة، وقبلوا الدنيَّة وتنازلوا عن المستوى الإنساني الكريم، وسقطوا في مجال الحيوانية ليُشبعوا شهواتِهم، ثم ماذا بعد ذلك.. بعد سقوطهم وإشباع شهواتهم؟ تيقَّظ الشاب القروي ليسأل الآن عن صحة عقد الزواج بالبنت وما كان مِن قبْل يسأل عن الحلال والحرام، وهو مُستغرق في علاقته البهيمية مع البنت.. وأمها.
... تيقَّظ ليسأل الآن، وتيقُّظه أمارةٌ على مَلَلٍ في نفسه من مُعاشرته الزوجية بعد أن هدأ الوضع الطائش أثناء الخِطبة لزوجته، وأمَارة كذلك على حيْرته إزاء ما تَطلبه منه حماته أو إزاء ما تُشعره به مِن رغبة في استمرار العلاقة القديمة معه على نحوِ ما كانت عليه هذه العلاقة من قبْلُ، أثناء السنتينِ ونصف السنة.. أثناء تلك الفترة التي عاثَ فيها الشابُّ فسادًا مع الأم وابنتها، والتي يَصفها بأنها كانت تعسة.
... إن الزواج بالبنت لم يُصبح حَلًّا لمشكلة الشاب القروي.. لم يُصبحْ عاملاً في الاستقرار مع البنت، ولم يُصبح عاملاً أيضًا في الخلاص مِن رَغباتِ الأمِّ التي كانت تتَّجه بها إليه، بل ربما أصبح هذا الزواج عاملاً في تورُّط الشاب وتعقيد مُشكلته مع الاثنينِ، فقد يتحرَّج الآن في استمرار علاقته بأم البنت، بينما لا يُحسُّ بأن الزواج بالبنت قد أعطاه شيئًا جديدًا، لا يَرضى به عن وضْع العلاقة السابقة معها أثناء خِطبتها.
... إن الأم ما زالت تَميل نفسيًّا إلى زوج ابنتها، وتتعلَّق به، وميْلها إليه: عبء عليه الآن، والبنت بعد الزواج أصبحت ترى أن لها وحْدها الحق في الاحتفاظ بهذا الشاب، ورفْض أيَّةِ مشاركة بأية صورة لغيرها فيه، ولو كان هذا الغير هو أُمُّها.(149/3)
... إن زواج البنت بالشاب خَلَق في نفس الأم: الغيرة مِن ابنتها.. كما خلَق في نفس البنت الغيرة من أمِّها.. وأصبحت الأم والبنت كضُرَّتينِ تربطهما برجلٍ واحد علاقةُ قران بهما معًا، وكما أوجد في نفس الشاب الحَيْرة والقلَق على مستقبل علاقته بهما.
... ذهبتِ الآن حرية الشاب القروي التي كان يَستخدمها يمينًا.. وشمالاً، مع الأم.. والبنت.. كما ذهبت العلاقة الوُديَّة التي كانت قائمة بين الأم وابنتها، رغم أن الشاب كان يُعاشرهما معًا، وحلَّتِ الخُصومة.. وحلَّتِ الشحناء.. وحلَّ التفكُّك.. وحل البُغْض والكراهية.. وحلَّ الحرجُ في العلاقات بين الثلاث، الزوج لم يستطع أن يكون حُرًّا.. والأم والبنت لم تَستطع كلٌّ منهما أن تكون على وئامٍ نفسيٍّ داخلي مع الأُخرى، ومِن هنا يُمكن أن يُقال: أن هذا الزواج لم يُبارك فيه الله.
والزوج السائل: إنْ أخذ بحلِّ زواجه من البنت بعد الزنا بها وبأمها، كما يقول بعض الفقهاء: فإن لعْنة الفَحْشاء والمُنكر إزاءهما تُطارده إلى مَوْته.. وتُؤذيه وتُؤَزِّمُهُ في حياته فلا يجد لأزماته حَلًّا.. وتُؤرقه وتقلقه فلا يكون زواجه بها سَكَنًا ولا مودَّة ولا رحمة.(149/4)
107 ـ إنّي من عائلة كانت لها ثروة وجاه، ولكنَّها الآن ضعيفة مادِّيًّا وأعمل الآن ممرِّضة في إحدى الوَحَدات الرِّيفيَّة. وقد تقدَّم لي شابٌّ مُدَرِّس بإحدى البلاد المُجاوِرَة، حَسَن الأخلاق مُتَديِّن، ويَعرِف أسرتَنا وأريد الزواج منه وأبي يرفُض لأنّه من أسرة رقيقة الحال فلا حسَبَ ولا نسَبَ له. وأبي يُريد زواجي من رجل مُسِنٍّ غنيٍّ. فما الرأي؟
لبعض الفقهاء كلام فيما يسمَّى "بالكفاءة" في الزواج، فقالوا مثلاً: إنَّ غير العربيِّ المسلم غير كفُؤٍ للعربية المسلمة، وأن العربي من غير قبيلة قريش ليس كُفُؤًا لعربية قريشيّة. وكذلك قالوا: إن مَن صنعَتُه كذا أو كذا ليس كُفُؤًا لبنت رجل تعلُو صنعته عن صنعته.. حتى وصل ببعضهم الأمر إلى أن قال: إن بنت مَن هو على مذهب الشافعيِّ ليستْ كُفُؤًا لمَن هو ابن مَن على مذهب أبى حنيفة.
والشافعي ـ مُجاراةً لبعض الفُقَهاء في التوسُّع للكفاءة الزوجية وتصنيف أنواعها ـ يرى مع ذلك أن زواج غير الأكْفاء ليس حرامًا ولا يريد به الزواج، فإن رضي به الأولياء صح العقد وكانوا عندئذٍ في نظره تاركين حقَّهم فيما يُسَمَّى بالكفاءة. وإذا لم تعلم الزوجة أو أُكرِهت على غير كُفُؤ بها فلها فسخ الزواج إن شاءت؛ لما يُرْوَى من حديث: "أنَّ فتاة جاءت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أبي قد زوَّجني ابن أخيه ليرفع بي خَسيستَه فجعل لها الأمر: إمَّا أن تفسخ العقد أو تُجيزه. فقالت: قد أجزتُ ما صنع أبي. ولكن أردت أن يعلم النساء أنَّ الآباء ليس لهم من الأمر شيء".(150/1)
ولكن فيما يُوحِي به القرآن الكريم يُفهَم أن الكفاءة في الزواج التي يطلبها الإسلام ليست كفاءة نسَب، أو صنعة، أو مال.. أو ما شابَهَ ذلك مما يَطرأُ على الإنسان وليس مُقَوِّمًا أصيلاً في سلوكه وإنسانيته. إن كتاب الله يقول: (ولاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ ولَأَمَةٌ مُؤمِنةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ولَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ولاَ تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا ولَعَبْدٌ مُؤمِنٌّ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ولَوْ أَعْجَبَكُمْ) (البقرة: 221). ومُؤَدَّى ما يقوله: أنَّ الوثنيَّ المشرك وهو المادي الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ليس كُفُؤًا لمسلمة، وأن الوَثَنِيّة المُشرِكة وهى المادِّيّة التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ليست كُفُؤًا لمسلم. ولكن ليس هناك تكافؤ ولا تعادُل في المستوى وفي شرف الإنسانية الذي من شأنه أن يربط بين زوجين.. ليس هناك تكافؤ بين مَن يَدين بالوثنية المادِّيّة ومَن يؤمن بالله وحدَه. وهذا ما يَحرِص الإسلام على عدم وُقوعه في رباط الزوجية.
وإسلام الرجل والمرأة ـ إذنْ ـ يجعلهما في مستوى واحد ويُعادِل بينهما، ويكون كل منهما كُفُؤًا للآخر في عقد الزوجية.. والكفاءة المطلوبة في الزواج هي كفاءة الدِّين.
وقد أوصى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأن الزواج فقال: "إذا جاءَكم مَن ترضَوْن دينه وخُلُقَه فأنكِحوه، أي: زوِّجوه".
ووقع على عهده ـ عليه الصلاة والسلام ـ صُوَر عديدة من الزواج ليس فيها تعادل ولا كفاءة على نحو ما استنبط الفُقَهاء المتأخِّرون، من صنوفه الكفاءة الزوجيّة الكثيرة.
1 ـ فقد كان مولى بن بياضة ـ وهو يسار ـ عبدًا رقيقًا وكان يتَّخذ الحِجامة صنعة له، ولم تكن بالصنعة الشريفة عند العرب إذْ ذاك، ومع ذلك أوصى الرسول بني بياضة بأن يزوِّجوه منهم إذا طلب، أو يتزوَّجوا منه إذا أرادوا.(150/2)
2 ـ وكذلك أوصى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : بأن تتزوَّج فاطمة بنت قيس القرشيّة أسامة بن زيد وقد كان مولى له.
3 ـ كما يُرْوَى أن أخت عبد الرحمن بن عوف ـ وهي قرشيّة ـ كانت متزوِّجة بلال بن رباح بعد أن أُعتِق.
والسائلة لها الحقُّ أن تتزوج مَن تؤثِره بسبب دينه، وإن لم يكن ذا حسَب ونسَب كما في عُرف التقاليد التي كثيرًا ما نُسايرُها، دون نظر إلى ما يَستهدِف الدِّين لصالح الترابُط بين المؤمنين.
ويسأل مدرس بإحدى المحافظات عن حُكم الله في طلاق زوجةٍ لم يَدخل بها تَعجَّل في اختيارها فعَقد عليها، ثم اتَّضح له أنها ليست كُفْئًا له، ويَخشَى أن تُسيطر النُّفْرَةُ على حياتهما الزوجية لو دَخل بها.
يُفهَم مِن رسالة السائل ـ كما يُعبر هو ـ أنه مُتردِّد في الاختيار، والمُتردِّد تَجذبه عادةً عِدَّةُ عواملَ في اختياره، فإذا رَكَنَ إلى عاملٍ مِن هذه العوامل اليومَ في الاختيار، فإنه في غَدِهِ ينجذبُ إلى عاملٍ آخرَ، ليُحاول التغيير ويَنصرفَ عمَّا صَمَّمَ عليه بالأمسِ. وهكذا لا يَتروَّى في بَحْثه ولا يَتعمَّق في استخلاص النتائج.
وفي الوقت ذاتِه يَشعر المُتردِّد بضَعفٍ في نفسه ورُبما يُسيطر عليه مُركَّبُ النقص بالنسبة لغيره ومَن يُسيطر عليه مُركَّب النقص يَرضَى مِن الآخرين بالأقلِّ منهم أوَّلَ الأمر، فإذا حصَلَ عليه سعَى إلى تغييره إلى ما هو أفضل منه.
ولذا ليس هناك عند السائل ضمانٌ لو طلَّقَ الزوجة، التي عَقَدَ عليها، ولم يدخل بها الآن ـ أن يَختار شريكةَ حياته اختيارًا يُوفِّر له الطمأنينة معها في مُستقبل الحياة الزوجية.
أما حُكم الشرْع في تطليق زوجةٍ لم يَدخل بها زوجها لكراهيته لها في نفسه فجائزٌ ولا حرَج فيه؛ لأن تَطليقها عندئذٍ لا يُمثل اعتداءً عليها، ولا ينطوي على قصْد الإضرارِ بها: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ...). (النساء: 130).(150/3)
بل ربما يكون في الطلاق خيرٌ للزوجة ببُعدها عن تَردُّده؛ إذْ تردُّدُ الزوج في الحياة الزوجية يُفقده القيادة في الأسرة التي تَسندها إليه هذه الآية الكريمة: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ...) (النساء: 34).
ففَضلُ الرجال على النساء هنا هو فَضلُ الإرادة ومُواجهة المَسئولية في عزْمٍ وتَصميم. ويوم أن تَكْتَشِفَ الزوجة في زوجها ضَعفَ الإرادة والتردُّد، تَكتشف بالأحرَى تَعاستَها في حياتها الزوجية.
42ـ مدَى الولاية في زواج البنت
فتاة من إحدى المحافظات تقصُّ أنها في مرحلة الدراسة الجامعية وستتخرج بإذن الله بعد سنة دراسية أخرى. وتقدم لخِطبتها شاب متدين وملتزم في سلوكه بتعاليم الإسلام. ويحمل مؤهلاً متوسطًا، وهي راضيةٌ به لأنها أيضًا مُلتزمة بتطبيق تعاليم الله في سلوكها وفي حياتها على العموم، وعندما تقدَّم خطيبها إلى وليِّ أمرها ـ وهو أخوها ـ رفضه بحجة أنه يحمل مؤهلاً متوسطًا في الوقت الذي تكون أخته قد تخرجت من الجامعة وتحمل مُؤهلاً عاليًا وليس هناك تعادُل بين المؤهلين. ولكن الفتاة صاحبة هذه الرسالة تردُّ على هذه الحُجة بما ترويه من حديثِ: "إذا آتاكم مَن تَرضونَ دِينه وخُلقه فأنْكحوه، إلَّا تفعلوه تكن فتْنةٌ في الأرض وفساد كبير".
وتسأل الآن الرأي لتوضيح مَوقفها من أخيها: هل تتمسك برأيها أم تُوافق على ما يقوله وليُّ أمرها وهو أخوها؟(150/4)
المانع في نظر وليِّ الأمر للسائلة هنا ـ وهو أخوها ـ من الموافقة على زواجها بمَن ترضاه هي زوجًا لها: أنه لا يَراه كُفْؤا لها. لحُصوله على درجة متوسطة في التعليم، بينما هي ستَتخرج من الجامعة وتحمل مُؤهَّلا عاليًا. ودخل بذلك مستوى الشهادات التعليمية مجال الكفاءة في العلاقة الزوجية في تقدير كثير من الناس في مجتمعنا المعاصر. ...
ومِن قبل كان يرى جمهور الفقهاء من المسلمين أن الكفاءة في العلاقة الزوجية فضلاً عن اعتبارها في الدِّين ومساواة الزوجينِ في الإسلام، يجب أن يكون هناك تكافؤ بينهما: ...
أولاً: في السلامة من عيوب النكاح التي تُوجب فسْخ عقد الزواج. ...
وثانيًا: في الحرية وعدم الاسْترقاق. ...
وثالثًا: في النسَب. ...
ورابعُا: في المهنة والحرْفة كما يقولون.. ويمثلون لعدم التكافؤ في المهنة والحرفة بأن الكنَّاس ليس كُفؤا لبنت الخيَّاط.. وأن الخياط ليس كفؤا لبت التاجر.. وأن التاجر ليس كُفؤا لبنت العالم. ...
وأبو حنيفة يضم إلى التكافؤ في هذه الجوانب الأربعة جانبًا آخر: وهو اليَسار والمال..
والشافعي إذ يرى أن عدم التكافؤ في السلامة من عيوب النكاح.. وفي الحرية وعدم الاسترقاق.. وفي المهنة والحرفة.. وفي اليسار والغني: لا يردُّ به عق الزواج.. ولا يُلغي العقد إطلاقًا إذا وقع بين غير مُتكافئينِ في واحد من هذه الأمور. ولكن يَعتبره فقط تقصيرًا في حقِّ المرأة. والأولياء إذا رضوا بعد الكفء في جانب من هذه الجوانب صحَّ العقد، وحقَّ لهم ترْكه، وإذا لم تعلم الزوجة أو أكرهت فلها فسْخ العقد إن شاءت.(150/5)
وفي نظر الشافعي إذن: أن اختيار عدم الكفْء حسب المعايير السابقة يُعتبر فقط تقصيرٌ في حق الزوجة وليس حرامًا ما يُردُّ به الزواج، وبسبب هذا التقصير: لها الحق في فسْخ عقد الزواج إن اتَّضح لها عدم كفاءة الزوج بعد العقد عليه، وأبدت رغبتها في عدم قبوله زوجًا لها. والمسألة عندئذٍ تعود إلى المرأة نفسها. فإن رضِيت من أول الأمر رجلاً ليس كُفْؤا لها في المنسب.. أو في المهنة أو في الحرفة.. أو في اليسار والغِنَى: فلا ينبغي أن يَرُدَّه وليُّها سواءً أكان أباها أو أخاها. والعقد عليه إن أذنت عقد صحيح، ولا تعقيب عليه إطلاقًا.
ومستوى الشهادات التعليمية إذا كان في نظر بعض الناس مطلوبٌ كسبيل إلى التكافؤ بين الزوجين: فحُكمه كحكم أيِّ واحد من الأمور السابقة التي جعلت الكفاءة فيها مطلوبة، حتى لا يكون وليُّ الأمر مُقصرًا في حق ابنته أو أُخته، ومعنى ذلك: إن الزوجة المتخرجة من الجامعة إذا رضِيت أن تتزوج صاحب درجة تعليمية من النوع المتوسط فزواجها لا يُرد ولا يُعقَّب عليه، وعلى هذا فعلَى وليِّ أمر السائلة أن يستجيب إلى ما رضِيتْه أخته ويُوافق عليه.(150/6)
ويجب أن نعرف عن الإسلام أنه دين المساواة في الاعتبار البشري بين الناس جميعًا، وأقوى نداء أعلنَ فيه القرآن الكريم هذه المساواة جاء في قول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الناسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِن نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَهَا "ذكر وأنثى" وبَثَّ مِنهما رِجالاً كثيرًا ونِساءً). ( النساء: 1).. ...
كما يجب أن نعرف أنه يُلغي التفرقة العنصرية.. والشعوبية.. والقبلية.. ويرتفع بالترابط بين الناس على أساسٍ من هداية الله وحده.. إذ يقول: (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جميعًا ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عليكمْ إذْ كُنتمْ أعداءً "بسبب القبلية في التميز بينكم" فألَّفَ بينَ قُلوبِكمْ "عن طريق الإيمان بالله وحده" فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا). (آل عمران:103)..
وبالإضافة إلى ذلك يجب أن نذكر أنه يميزُ المؤمنَ عن المؤمنِ بالتقوى والخشية من الله والعمل الصالح، يقول ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللهَ عليمٌ خَبيرٌ). (الحجرات:13).. ...
فإذا كان يُسوِّي في الاعتبار الإنساني بين الناس جميعًا ولا يُميز إنسانًا عن إنسان إلا بالتقوى والعمل الصالح والسلوك الطيب والاستقامة وعدم الانحراف والطغيان: فمَا يُوضع من فُروق بين الأفراد ليس إذَن من صُنع الله، وإنما هو من صُنع البشر، والكفاءة في الدين هي وحدها التي يَجب اعتبارها، فالمُؤمن كُفْءٌ للمُؤمنة فإن اختلف الإيمان انعدمتِ الكفاءةُ.
أما ما وراء ذلك فهو من الأعراف والعادات التي تطرأ على المجتمع، أو تكون مُترسبة فيه من أجيالٍ سابقة.(150/7)
وأخو السائلة مُطالبٌ اليومَ بالمُوافقة على زواج شقيقته ممَّن ارْتضتْه زوجًا لها. ويجب عليه أن يُنحِّي جانبًا الفرق في الدرجات العلمية بين الزوجينِ. فاختلاف مستوى الشهادات لا يحول دون انسجامِ الأسرة وتساوي الشهادات ليس عاملاً في قوة تماسُكها وترابطها.
56ـ تنازل المرأة عن الكفاءة الزوجية
آنسة لم تُشر إلى موطن معين وهي تروي عن نفسها أنها فتاة في السابعة عشرة من عمرها. وإنها تعرفت على شابٍّ يحترف حِرْفة الخياطة. ويتميَّز بأخلاقه الحميدة والكريمة. وهي حاصلة على دبلوم تجارة.. والدها متوفّى وتزوجت والدتُها غير أبيها ولم تزل بعد في سِنِّ الرابعة.
تقدم الشاب لخِطبتها وطلب يدها من جَدِّها لأبيها الذي تعيش معه ومع جَدتها لأبيها كذلك، وقد رفَض الجَدُّ بحُجة أنه حِرَفِيّ، بينما تحمل هي مؤهلاً متوسطًا وهو دبلوم التجارة، والحرفيُّ ليس له مستقبل ولا يُشرف أسرتها أن ينضم إليها ليكون واحدًا مِن أفرادها.
رغم أن الفتاة مُقتنعة به جِدًّا وتجد فيه من الشهامة أكثر من أولئكم الذين يجلسون على المكاتب يقرءون الجرائد، وترى أنه إذا كان اليوم عاملاً صغيرًا فغَدًا قد يصبح صاحب ورشة كبيرة بإذن الله، وبالحب سويًّا سيكون النجاح حليفهما، هكذا تقول، وتسأل عن رأي الإسلام:
( أ ) هل تتزوجه وتسعد بالحياة الهنيئة معه وبالتفاهم والصدق؟ أم تبتعدُ وتُرضي أهلها؟
(ب) وهل حقًّا لا يليقُ بها وهي تحمل مؤهلاً متوسطًا أن تتزوج صانعًا؟ وماذا في ذلك؟
وهي تريد أن لا تُقدم على شيء تندمُ على وقوعه بعد، ومُردَّدة الآن بين خشْيتها مِن ترْكه وعندئذٍ لا تجد عوَضًا عنه، وبين خشْيتها مِنَ الله إن هي أغضبت أهلها. وترجو السائلة توجيه كلمة إلى جَدِّها!!
تتحدث السائلة هنا عن أمرين: ...
الأمر الأول الكفاءة بين الزوجينِ. ... ...
الأمر الثاني: الحب كرِباط بينها وبين مَن يطلب يدها كزوجةٍ له.(150/8)
الشائع اليوم: أن الحرفيَّ أو مَن لا يحمل دبلومًا أو درجةً جامعية ليس كُفْؤا لمَن تجمل أيًّا منها. ...
فإذا كانت البنت تحمل دبلومًا في التجارة وتقدم لها صانع أو صاحب حرفة.. ولا يحمل نفس المؤهل فهو في نظر أسرتها ـ وفي نظر كثيرين ـ غير كُفءٍ لزواجها، ومعنى أنه ليس كفؤًا إذا عقد وليها قرانها عليه واعترضت هي فإن الزواج به يُردُّ ويفسخ العقد. ...
وتحديد الكفاءة في الفقه الإسلامي استقرَّ رأيُ كثيرٍ مِن الفقهاء على أنها الكفاءة في الدِّين أي يكون الزوج مسلمًا إذا كانت مسلمة، وقد يُضاف إلى الدين كرُكن أساسيٍّ في معنى الكفاءة الزوجية: النسَب والصِّناعة، على معنى أن يكون بين الزوجين تكافؤٌ وتناظُر في الدين، وفي النسب.. وفي الصناعة والحِرْفة. وما يُقال عن الكفاءة بعد الدين من : نسَب، وصناعة، وثرَاء.. الخ.. مَرهون برأي المرأة التي ستتزوج. فإذا رضيتْ بمَن هو أدنَى منها نسَبًا، أو حِرْفة أو مالاً وثراء جاز العقد من غير أن يكون هناك تكافؤٌ بينهما. ويُروى عن بُريدة قوله: (جاءتْ فتاةٌ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أبي زوَّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيستَه (أي ما به مِن نقْصٍ في نسَبه) قال: فجعل الأمر إليها: (أي خيَّرها في أن تَفسَخ عقد الزواج به؛ لأنه غير كُفْؤٍ لها) فقالت: قد أجزتُ ما صنع أبي ولكن أردت أن أُعلم النساء: أنه ليس إلى الأباء مِن الأمر شيءٌ)..
وكانت أُخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلالٍ الحبشيِّ، وهكذا.. الكفاءة فيما وراء الإسلام الذي يجب أن يكون الرجل مؤمنًا به إذا أراد الاقتران بمسلمة، يقصد بها: أن لا تُكره المرأة على قبول من هو أدْنَى مستوى منها، سواء في النسب، أو الثراء، أو الحرفة والمهنة، ولكن إذا قبلتْ هي أن تتزوج بمن هو أدْنى منها مستوًى في أيِّ أمر ممَّا ذُكر فالرأيُ رأيُها، إذْ لا غَضاضةَ ولا حُرمة في أن تختار المرأة مَن ليس كفؤًا لها، وذلك هو رأي الشافعي.(150/9)
والسائلة هنا إذا وافقت على أن تتزوج مِن صانع وهي تحمل المؤهل المتوسط في التجارة، وخالفت بذلك رأْي ولي أمرها، فعلَى الوليِّ أن يُتمَّ عقد قرانها بمَن ارتضتْه. إذ هو أمينٌ عليها، ويوم أن يشترط شُروطًا معينة باسم الكفاءة الزوجية، إنما يَصنع ذلك محافظةً عليها وعلى إحساسها، حتى لا تتصوَّر: أنه يكون قد ظلمها وأكرهها على أمرٍ لا تُريده.
والأمر الثاني الذي تتحدث عنه السائلة هنا هو "الحب" والحب بين الرجل والمرأة: إعْجاب كل منهما بالآخر وانْسجامهما معًا في كثير من مجالات الحياة أو مجالات السلوك. وهو مُقابل للكراهية. وهي النُّفْرة وعدم الانسجام بين كلٍّ منهما.
فهل السائلة استخلصت مِن صفات الرجل الذي يتقدَّم لها الآن أنه الحبيب الذي تستمر معه العلاقة في وِفاقٍ وانسجامٍ، مع ما قد يَطرأ من أزمات أُسَرية بينهما؟ أم أن "الحب" الذي تتحدث عنه الآن نزْوة عابرة ورغبة جامِحة في لقاء كل منهما بالآخر، تَفْتُرُ بعد حين؟ وربما تتحوَّل إلى نُفرة ثُم إلى فُرْقة؟
الشباب في مجتمعاتنا يتحدث عن الحب. وما يتحدث عنه الشباب هنا يتحدث عن ميْلٍ نفسيٍّ تحت إغراء جنسيٍّ يدفع كُلًّا منهما نحو لقاء الآخر، فإذا تكرَّر اللقاء انطفأت جذْوة الحب، وربما يَنصرف كلٌّ منهما إلى حال سبيله. وما هذا هو الحب الذي يُؤسِّس علاقة زوجية ترتفع فوق المشاكل والخلافات وفوق الشدائد التي قد تطرأ على حياة الزوجينِ. ...
والسائلة الآن هي الشخص الوحيد الذي يُقدِّر مدَى الصلة الإنسانية بينها وبين خطيبها، بعد أن اتَّضح أن الإسلام، بما يَقوله الفقهاء عن الكفاءة الزوجية، لا يقف في طريق إتمام العقد عليه.
62ـ تَضرُّر الزوجة بعدم كفاءة الزوج في الدين(150/10)
سيدة لم تذكر لها موطنًا، وتقول في رسالتها أنها مُتدينة، وكانت تُؤمِّل أن تَتفقه في الدين لتكون داعيةً إلى رسالة القرآن التي جاء بها محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعتقد أنها لو وُفِّقت في الزواج برجلٍ يحفظ القرآن ويفهم دِينه، ربما تصل عن طريقه إلى مُستوى من التفقُّه يُؤهلها إلى الدعوة. وما إن تقدم لها شابٌّ صاحب لِحْية يعمل بإحدى الشركات حتى استجابت لخِطبته رغم مُعارضة أسرتها في الزواج منه، ولكن أغْرتها اللحْية وأمَارة الصلاة على جَبينه كما تقول. وبعد شهرينِ من الخِطبة دخلت به، واكتشفت أنه لا يعرف القراءة والكتابة، فضْلاً عن أن يكون مُتفقهًا في الدين، كما تَنْشد. ولمَّا سألته عن مؤهله الدراسي أجاب بأنه لا يحمل مؤهلًا دراسيًّا بينما هي حاصلة على مؤهل متوسط، وهنا خاب أملُها في الزواج منه، وهو زيادة مُستواها في التفقه وحفْظ القرآن الكريم.
وكان وقع هذه المفاجأة شديدًا على نفسها فحزِنت حُزنًا شديدًا.. وتحولت ثِقتها فيه إلى "لا شيء" كما تحول أملها في الحياة إلى عدَم. وترى أنها خسِرت كثيرًا بهذا الزواج". "فلم تقدر أن تُواصل بنفسها إلى ما تمنَّتْه من التفقُّه في الدِّين" ولو أنها لم تتزوج لأَتمت على الأقلِّ حفْظ القرآن كله.
وهي في حيْرة وندمٍ، وتسأل ماذا تفعل؟
السيدة السائلة ركَّزت هدفها في الحياة على أن تصل إلى مستوى في التديُّن والتفقه يؤهلها إلى أن تكون داعيةً إلى الله تعالى. وأخذت فعْلاً في حفظ القرآن الكريم وفي المُواظبة على أداء فروض العبادات قبل أن يتقدم لخِطبتها واحد من الشبان، بستِ سنوات.(150/11)
وهدفها الذي حدَّدته على هذا النحو، رسم لها الطريق في المستقبل فتبنَّت في نفسها: أنها تُؤْثر مِن بين مَن يتقدم لخِطبتها الشاب الصالح المتديِّن، وإذا كانت له لحْية يكون أفضل مِن غيره عندها، وإذا أُضيفت إلى اللحْية أمَارةٌ أخرى كأثر السجود الذي يبدو في جبهة المصلى، يزداد في نظرها قيمة من حيث صلاحيته للزواج.
... وهي إذًا لا تطلب مالاً وثراء.. ولا نسَبًا وحسَبًا فيمَن يتقدم إليها، كما تطلب الكثيرات مِن زميلاتها في السِّنِّ وفي مستوى الثقافة، وإنما الذي يَشغل نفسها: الشاب المُتديِّن، ولذَا عندما تقدم لها زوجها الحالي في الصورة التي رسمتْها لنفسها لم تراجع أمره ولم تسأل عن نشأته وتطوره، بل اندفعت إلى قَبوله والتصميم على الزواج منه اندفاعًا سدَّ عليها منافذ التريُّث وأبعد عنها مَشورة الأسرة وولي أمرها بالخصوص. شأنها شأن الأخْرى التي تحلم بشابٍّ وسيمٍ في مَطْلعه.. وترى في مظْهره.. وتُقبل عليه الدنيا فيما يبدو له مِن تصرُّفات. حتى إذا ما تقدَّم إليها مِن يُشبه الصورة التي تَحلم بها اندفعت لقبول خِطبته والإصرار على الزواج منه، وإنْ كان هناك في مَسلكه ما قد يدل على أنه ليس فتَى الأحلام التي تُراودها صورته.
وزوج السيدة السائلة لم يَخدعها ولم يُغرر بها حتى يُقال إن عقد الزواج غير صحيح لقيامه على التلْبيس والخداع مِن جانب الزوج. فهي لم تسأله عندما تقدم لخطبتها عن مستواه في التثقيف، وعن وظيفته في الشركة كما سألتْه بعد الدخول به عن مدَى حفظه للقرآن ومدى دخله من الوظيفة، وذُهلت عندما اعترف لها بأُمِّيته في الدِّين، وبضآلة دخْله المَحدود مِنَ العمل، ولو أنها سألتْه عند الخطبة ولم يُجبها بواقع الأمر كما أجاب به بعد الدخول: عندئذ يكون قد غرَّر بها.. ويكون عقد الزواج قد قام على خداعٍ وتلْبيسٍ.(150/12)
الزوجة لم تعُد تقبل زوجها وسقطت مَنزلته مِن نفسها، وترى أنه غيرُ جدير وغير كفءٍ لها، وعدم كفاءته لها في مستواه الديني والثقافي معًا، ولها الحق في أن تعتقد أنها خسرت كثيرًا بهذا الزواج، وإذا استمر تضرُّرها بِعِشْرته وأرادت أن تُفارقه فلها أن تخْلع نفسها بأن تَطلب من القاضي تَطليقها نيابةً عن الزوج، بعد أن تَتنازل عن بقية المهر له وعن نفَقة العدَّة التي تُقرَّر عادةً للمُطلقة.
والخُلع إجراءٌ شرعيٌّ في الفقه الإسلامي، وتُباشره المرأة إذا تضرَّرت هي وحدها بعِشْرة زوجها، وهو في جانب الزوج يُساوق الطلاق في يد الرجل الزوج، وجاء فيه قول الله ـ تعالى ـ: (ولا يَحِلُّ لكمْ "أيْ: أيُّها الأزواج" أن تأخذوا ممَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئًا "أيْ مِنَ المَهْر" إلَّا أنْ يَخافَا ألَّا يُقيمَا حُدودَ اللهِ "أيْ بسبب التضرُّر في العِشْرة الزوجية" فإنْ خِفْتُمْ ألَّا يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فلا جُناحَ عليهمَا فيمَا افتدتْ بِهِ "فلا جُناح ولا وِزْرَ على الزوجة في أن تطلب خلاصها مِن ضرر المُعاشرة بأن تُقدِّم للزوج ما تَفدي به نفسها وحُريتها.. كذلك لا جُناح ولا وزْر على الزوج في أن يقبل ما تَفدى به الزوجة نفسها عندئذ" تلكَ حُدودُ اللهِ فلا تَعْتَدُوهَا ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فأُولئكَ هُمُ الظالِمُونَ). البقرة: 229)..
وحِلُّ استرداد المهر من جانب الزوج يدور في هذا الإطار وحده، وهو إطار دفْع الضرر عن الزوجة بمُعاشرتها لزوجها.(150/13)
وهكذا: إذا كان الإسلام أعطى رُخصةَ الطلاق للرجل في حال تضرُّره بعِشرة الزوجة أو في حال تضرُّرهما معًا، فإنه أذِن للمرأة بالخُلع إن تضررت وحدها بالمعاشرة.. كما أذِن للزوج والزوجة معًا في أن يُفوِّض الزوج زوجته في طلاق نفسها منه في أيِّ وقت تشاء، وتفويض الزوج زوجته في الطلاق يُسمَّى "العصمة" بيد الزوجة، وجاء ذلك في تكليف الله لرسوله الكريم بأن يُخيِّر أمهات المؤمنين زوجاته ـ عليه الصلاة والسلام ـ: بين البقاء في عِصْمته ـ عليه السلام ـ مع تحمُّل أعباء الحياة ومشقَّتها التي كان يعيشها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين الطلاق منه والاستمتاع بما في الحياة الدنيوية مِن مُتَعٍ مادية وراء حياته التي كان يعيشها ـ أفضلُ الصلاة والسلام عليه ـ جاء ذلك في قول الله ـ تعالى ـ: ( يَا أيُّها النبيُّ قلْ لأزواجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدُّنيا وزِينَتَهَا "أيْ تُردن الاستمتاع بمُتَعِ الحياة الدنيا المادية وزِينتها المُغرية" فتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا وإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ ورَسُولَهُ والدارَ الآخرةَ "أيْ تُرِدْنَ المُعاونةَ في الرسالة وإنجاح الدعوة إليها، وتحمُّل مشاقَّ الحياة الدنيوية في سبيلها، انتظارًا للنعيم في الآخرة" فإنَّ اللهَ أعَدَّ للمُحسناتِ مِنْكُنَّ أجْرًا عَظِيمًا). الأحزاب: 28ـ 29)..والآيتانِ يطلب الرسول ـ عليه السلام ـ فيهما تخْيير نسائه بين البقاء معه وتحمُّلِ شَظَفِ العيش مع وعْد الله بنعيم الآخرة لمَن تبقى معه.. وبين الخروج مِن عِصْمته طلَبًا لمُتع الدنيا، والتزيُّن بزِينتها.
... والمرأة في الإسلام لها أكثر من طريق للتخلص من الضرر، ولعل المرأة المسلمة تَعِي دِينها أولاً قبل التحدُّث عن "تحرير المرأة" وطلب تقليد المرأة الأوربية في مظاهر التحرير، وهي مَظاهر تُبعِدُ المرأةَ عن أُنُوثتها وعن إحساسها بأنها زوجةٌ وأمٌّ.(150/14)
69ـ الكفاءة بين الزوجينِ ومستوى التعليم
مُواطنة بإحدَى المحافظات تحكي أنها طالبة في المعهد العالي للتمريض في السنة النهائية "بكالوريوس" وعمرها اثنان وعشرون عامًا، وهي مُتدينة، وكانت تتمنَّى أن ترتبط في حياتها الزوجية بإنسان مُتدين وحاصل على شهادة عالية، ومُثقَّف:
ولكن فجأة ظهَر لها ابن عمِّها وعمره ثلاثةٌ وعشرونَ عامًا، وحاصل على دبلوم تجارة وموظف بإحدى الهيئات الحكومية، ومُستواه الديني والثقافي متوسط، وليس بالدرجة التي كانت تتمنَّاها.
ونتيجةً لزياراته المتكررة لعمِّه وأسرته في المنزل صارَحها بحُبِّه الشديد لها منذ سنينِ، وطلب منها أن تقف بجانبه عندما يطلب يدها من عمِّه، ولكنه لم يتقدم حتى الآن بناءً على رغْبتها في الإرجاء حتى تنتهي هي من الدراسة وتحصل على البكالوريوس.
ومُشكلتها التي تخشاها هو فارق الشهادات. فهو حاصل على دبلوم التجارة المتوسطة، بينما هي ستحصل على بكالوريوس التمريض العالي ـ ومع وجود هذا الفارق رغم اعترافها بأنها تُبادله الحب، ورغم اعترافها كذلك بأنها وهو متفقانِ في آراء وأشياء كثيرة تهمُّ كل اثنينِ في طريقهما للزواج الصالح، ورغم أنها سعيدة ـ كما تقول ـ بهذا الحب.. رغم هذا وذاك فإنها تتوجَّس خِيفةً من أن فارِق المستوى في الشهادتينِ ربما يتغلب على الحب بينهما، وعلى اتفاقهما في كثيرٍ من الآراء، وعندئذ يفقد احترامها له، ويقع الخلاف بينهما.
كما أنها قلِقة على مستقبل الأولاد منها للقَرابة، وعلى العلاقة الأُسرية وهي علاقةُ أقرباء قبل أن تكون علاقة مُصاهرة، ويُزعجها أنه هو لا يعرف على وجه التقريب مدَى حُبِّها له، فهو مُعذَّب وفي حَيرة: أتُبادله الحبَّ حقيقةً؟ أم أنها تُجامله فقط؛ لأنه ابن عمها؟
وهي تسأل:
( أ ) هل تسرَّعت في الحب؟ أي هل تسرعت في قبوله والميْل إليه؟(150/15)
(ب) هل يرى الإسلام أن تَرفض هذا الحب، وتنتظر الإنسان المناسب الذي تحلم به، وهو صاحب المستوى العلمي؟ أم أنها تُوافق وتتوكل على الله؟
(ج) هل الحب هو الشيء الوحيد المهم؟.. أم أن الشهادة وفارق التعليم يُمكن أن يَقضي على الحب والتفاهُم؟
أولاً: نحن مِن جانبنَا نسأل السائلة: هل الفارق بين مستوى دبلوم التجارة المتوسطة، وبكالوريوس التمريض العالي هو فارق ثقافيٌّ أم فارق مهنيّ وعمليّ؟ أغلب الظنِّ أنه فارقٌ مهني وعملي في مجالينِ مُختلفينِ، لا يتصل أحدهما بالآخر، وعندئذ لا يُقال: إن أحد المستويينِ أرفع مِن الآخر، وأن صاحب المستوي الرفيع منهما يتميَّز عن صاحب المستوي الآخر في الفكر والثقافة والنظرة العامة للحياة، ومِن هنا تكون الهُوَّةُ بين الزوجينِ. ...
على أنه إذا كانت الدراسة العُليا والحصول على شهادة عالية مَيْزَةً في ذاتها يُدِلُّ بها صاحبها على الآخر صاحب الدراسة المتوسطة، فيُمكن لصاحب هذه الدراسة المتوسطة أن يلتحق بعد التخرج من الدراسة المتوسطة بمعهد عالٍ أو بكلية جامعية للحصول على الشهادة العالية من هذه أو ذاك. وبذلك لا تكون هناك رواسب نفسية تُثير في نفس الفاضل منهما مرارةَ الإحساس "بالتضحية" لمصلحة الأقل منهما.(150/16)
والسائلة بسُؤالها عن الكفاءة الزوجية في مستوى المعرفة والثقافة إنَّما تُعبر عمَّا يدور في نفوس كثيرات من فتيات الجامعات في الوقت الحاضر والكفاءة هي المُماثلة، وهي المطلوبة في جانب المرأة، على معنى أن وليَّ المرأة إذا تولَّى زواجها يجب أن يكون مِن كُفْءٍ لها، أي مُماثل لها، وإلا إذا تضررت لم يُنفذ عقد الزواج بها، فإذا هي تنازلت عن الكفاءة فيمَن يتزوَّجها ورضيت به ـ كما هو الوضع القائم في رسالة السائلة هنا ـ كان عقد الزواج بها صحيحًا. ...
أما الرجل فله الحقُّ ـ ولا تعقيبَ عليه ـ في أن يتزوج بمَن يشاء، ولو كانت أدنى منه كفاءة؛ لأنه لا يُعاب بذلك بخلاف المرأة، والمسألة تكاد تكون مسألة تأثُّر بالأعراف والتقاليد، ولذا الكفاءة في فقه المالكية هي المماثلة في أمرينِ: ...
أحدهما: التدين بأن يكون مسلمًا غير فاسق. ...
ثانيهما: السلامة من العُيوب التي توجب للمرأة الخيار في الزواج: كالبرص، والجنون، والجُزام، وهذا الثاني حق المرأة وليس الوليِّ، ومعنى ذلك أن الولي يلتزم بسلامة الزوج مِن هذه الأمراض عند تزويج مَن له ولايةٌ عليها، أمَّا هي فلها الخيار في أن تقبل أو ترفض مَن يكون مريضًا بواحدٍ مِن هذه الأمراض. ...
... وما هو مُدوَّن في فقه المالكية عن الكفاءة الزوجية يُعبِّر عن البساطة التي يُريدها الإسلام في التعامُل والتعاقد، بينما ما زاد ـ مثلاً ـ على ذلك في فقه الشافعية أو الحنفية عن الكفاءة في الزواج يُشير إلى التأثُّر بالعُرف والتقاليد في المجتمعات الإسلامية المختلفة. ... ...
... فالشافعية يرون زيادةً على ما تقدم الكفاءة في النسَب، والحِرْفة، بينما الأحناف يزيدون الكفاءة في المال، فالزوج الكُفْء في المال هو الذي يستطيع أن يحفظ كرامة المرأة وكرامة أسرتها، ويَمنعها من التبذُّل والتعرُّض لما لا يَليق بها.(150/17)
والسائلة بعد أن قبِلت ابن عمِّها رجلاً لها، وبعد أن أعلنت أنها تُبادِله الحب، وأنها تتفق معه في كثير من شئون الحياة، فلتتوكَّل على الله وتُتمَّ الزواج به، ولتكنْ دافعةً له على إتمام الدراسة العالية، ومُشاركةً له في نموِّ ثقافتهما معًا، ولا تظن إطلاقًا أنها أصبحت أفضلَ منه بحصولها على بكالوريوس التمريض من المعهد العالي، ففضل المعرفة يعود في النهاية إلى حِكْمة التدْبير في الحياة، والتأنِّي في تقييم الأمور، وأداء الواجبات قبل المُطالبة بالحقوق.
والزواج بالأقارب ليس بلازمٍ أن يُؤدِّي إلى ضعف الأولاد.. ولا إلى الشحْناء والبغضاء بين الأقربينَ. فطالما كانت سلامة الزوجين مِن أمراض الوراثة قائمةٌ، فلا خوف مِن تعرُّض أولادهما لمرضٍ معين، والفحْص الطبيِّ أصبح اليوم سهلاً وشاملاً، ويمكن عن طريقه التنبُّؤ بما يُواجه أولادهما مستقبلاً.
... وإذا كانت العلاقة بين بعض الأقارب ذُكورًا وإناثًا قد تُشبه علاقة الأخوة في بعض الحالات، وعندئذ يكون ميل بعضهم إلى بعض في حالة الزواج ضعيفًا: فليس ذلك هو الشائع في الأقارب الآن، إذ التربية المعاصرة للشبان والشابات خفَّفت من مستوى الحياء بين الذكر والأنثى، وأصبح الارتباط بينهما في القبول والإيجاب يتجاوَز عتبة القرابة في الأسرة والدراسة المشتركة عن طريق الاختلاط في فصول المدرسة وفي الجوار وفي الجلوس فيها.
... والصلة بين أسرة الزوج وأسرة الزوجة في حُسنها في سُوئها مُستقبلاً: يتوقف على شخصية الزوجينِ في مدى تفاهُمِهما ومدى انسجامهما وتوافق نظرتهما إلى الحياة، أكثر مِن صلة القرابة، أو صلة الجوار، أو أية صلة أخرى، ومعنى ذلك أن صلة القرابة بين الزوجينِ لا تُولِّد الشحناء والبغضاء بين أسرتيهما، إلا إذا كان هناك سوء تفاهم وعدم انسجام في صفات الزوجين يتحول إلى فجْوة بينهما.. ثم إلى عداءٍ فقطيعة.(150/18)
... والزواج الناجح هو ذلك الترابُط على أساس ذاتيٍّ، أيْ: على أساس أن التوافق في اتجاه الذاتينِ للزوجة والزوج يكاد يكون تامًّا، وأن العزم لدَى كل منهما في البقاء معًا لا يضعف بمرور الأيام، أو بعد وقوع الأحداث في حياتهما.. هو قبول الرجل للمرأة لدِينها وخُلقها.. وليس لمالها، أو لجمالها، أو لنسَبها.(150/19)
93 ـ هل المُبالَغة في المهر مطلوبة شرعًا؟ لأن عندنا يُبالغ الآباء في مهور بناتِهِنّ. فلا يقل المهر عن خُمسمائة جنيه يأخذه والد البنت لنفسه. وعلى الزوج مصاريف العُرس من ذبائح وغيرها. فهل هذا جائز؟
الصَّداق ـ أو المهر ـ في الإسلام ليس ثمَنًا تُشترى به المرأة. فالمرأة لها كرامتها، ولها حُرّيّتها، كالرجل سواء بسواء، ثمَّ لها استقلالها في التصرُّف في مالها، وفي عقيدتها بعد الزواج، على نحو ما كان لها قبله. والزواج لا يقيِّد مشيئتَها إلا في حدود العلاقة الزوجيّة. وهي علاقة متكافئة في الحقوق والواجبات: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعروفِ) (البقرة: 228).
وإنما المهر تعبير من الرجل عن رغبته في الزواج بالمرأة، أي هو تعبير عن طلبها، وعن سعيه في سبيل الارتباط بها كزوجة.
وطلب المهر، كتعبير من جانب الرجل عن رغبته في الزواج ـ مع أن الرغبة في الزواج قدر مشترَك بين الرجل والمرأة ـ للمحافظة على حياء المرأة وكرامتها في أنوثتها، وتوفير الإحساس لديها بأنّها مطلوبة، وليست طالبة؛ إذ طبيعة المرأة أن تتمنّع وهي راغبة، وتتأخَّر إلى الوراء وهي تريد أن تُقبل نحو الأمام. والرجل يُغريه منها ذلك ويَجذبه نحوها.(151/1)
ولو حُملت على أن تكشف حقيقة رغبتها في عَلاقتها بالرجل فتدفع هي إليه المهر مثلاً ـ دونه ـ وتُعَبِّر بذلك صراحةً عن طلبها إياه، لأصبحت مُبْتَذَلة في نظره، ولخفَّ وزنها في نفسه، وربما يَنصَرِف عنها في سِنٍّ مُبَكِّرة من حياتها. وكثرة إلحاح المرأة في الحضارة المعاصرة، في عِرْض نفسها على الرجل ـ باسم حرية المرأة، أو بأي اسم آخر ـ كان من الأسباب الرئيسية في قلة رغبة الرجل في المجتمعات الحضارية المعاصرة منذ الأربعين تقريبًا، في الاتصال بالمرأة، وميله إلى مباشرة اللِّواط، ثم انصراف المرأة بدورها إلى الاتصال بالمرأة مثلها، كذلك. ولقوة هذا الميل الانحرافي في العلاقة الجنسية بين النوعين ـ في ظل ما يسمَّى بالحضارة اليوم ـ أصبحت الاستجابة الآن إلى هذا الميل أمرًا مشروعًا في مجتمعات هذه الحضارة.
وإذا كانت نظرة الإسلام إلى المهر على أنّه تعبير فقط من جانب الرجل عن طلب المرأة في علاقة زوجية ـ وليس ثمنًا لسلعة ـ فإنه يكفي من قيمة المهر حينئذٍ ما يدلُّ فحسب على أنَّ الرجل ساعٍ لطلبها. ويُروَى في هذا الشأن عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قال: "إنَّ أعظم النِّكاح ـ أي الزواج ـ بركةً أيسرُه مَؤُونة". وفي رواية أخرى عنها: "أخفُّ النِّساء صداقًا ـ أي مهرًا ـ أعظمُهنَّ بركةً". وعن عقبة بن عامر أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: "خير الصداق أيسره".
فالرسول ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فيما يُروَى عنه هنا يدعو إلى التخفيف من المهر ومن مؤونة الزواج عامة. وهو إذ يدعو إلى هذا التخفيف لا يُرِيد أن يُثقل على الراغبين في الزواج، مادام أن الهدف من المهر كتعبير عن الرغبة في الزواج، يتحقَّق بالأقل منه.(151/2)
ولكن تطبيق النظرة الإسلاميّة إلى المهر، على مَمَرِّ الزمن على المجتمعات الإسلامية، وبسبب ما وُجِدَ فيها سابقًا على الإسلام من عادات وتقاليد، حوَّل المهر إلى ثمَن، والمرأة إلى سلعة. وأصبحت تُقيم المرأة بشرفها، ونسبها، ووضعها الاجتماعي. ثم إن سوء استغلال الطلاق من قِبَل الزوج في فصْم عُرى الزوجية دفعَ أولياء المرأة إلى المبالغة في المهر كوسيلة لحمل الزوج على التفكير مرّات قبل تطليق زوجته. ومن هنا جاءت المُغالاة في المهور. وتبِع المُغالاة في المهور حبُّ الظهور في الأفراح، والخضوع لتقليد الأُسر بعضها بعضًا.
وهكذا لم تبقَ نظرة الإسلام السليمة إلى المهر على سلامتها ووضوحها في الهدف. وشهوتها التقاليد، والميل إلى الظهور، والتسرُّع في مباشرة الطلاق. واتباع ما جاء في الحديث الشريف سابقًا: "خيرُ الصداقِ أيسَرُه" ـ اتباعٌ للإسلام. وما عدا ذلك ليس من الإسلام. ولكن جوازه أو حُرمته يَتْبَع ما فيه من ضرَر لأحد الطرَفَيْن في عقد الزوجية.(151/3)
51 ـ تدخُّل أبي الزوجة في عَلاقتِها بزَوجها
إنِّي مدرِّس، وتزوَّجت مُدرِّسة، ووالدها مُدرِّس أيضًا. وأنجبت منها ولدًا وبنتًا. ولكن والد الزوجة يضع أمامنا العَقَبات ويُثير أسباب النِّزاع ليأخذ نصف مرتّبها لنفسه ولمّا لم أوافِق حضر إلى منزلي وأخذ ابنته. وزوجتي تريد الصُّلحَ، وتقول: أَرْضِ أبي. فما الحكم؟ وماذا أصنع؟
إن الزوج إذْ يطلب من زوجته جزءًا من مالها أو من أجرِها يكون متجاوزًا لحدود الله، يقول ـ تعالى: (ولاَ يَحِلُّ لَكُمْ "أي أيها الأزواج" أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُموهُنَّ شَيْئًا "أي من المهور التي أعْطِيَتْ لزوجاتكم" إلاّ أَنْ يَخَافَا "أي الزوجان معًا" ألاّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ) أي في العلاقة الزوجية وحدود الله هنا هي المُعاشرة بالمعروف). (البقرة: 229).
تَنهَى الآية عن أن يَسترجع الزوج من المهر الذي أعطاه هو لزوجته، رغم أن المهر مِنْحة منه وعطاء خالص مِن جانبه وبالأولَى لا يجوز للزوج أن يأخذ من مال الزوجة الذي هو مِلْك لها أصلاً بالوراثة، أو التجارة أو الذي هو أجر لها على عمل تؤدِّيه له أو للغير وتَستثني الآية من عدم جواز استرجاع شيء من المهر الفِدْية التي تَفدي الزوجة بها نفسَها خُروجًا من سُوء عشرة زوجها لها.
وهذا ما أكملته الآية في قول الله ـ تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ ألّا يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة 229).
أما المال الخاص للزوجة فليس هناك استثناء إطلاقًا من عدم جواز أخذ الزوج إلا برضاء الزوجة وبرغبة حرّة منها في مساعدة الأسرة.(152/1)
والإسلام يحتكم في الإرادة الحُرّة إلى الخشية مِن الله وحده، وإلى تقوى الله. ومعنى ذلك عندما يُقال إن الزوجة أَخرجتْ من مالها أو من أجرها بعضًا منه لمساعدة الحياة الزوجية، إخراجًا وبناء على مشيئة خالصة ـ يجب أن لا يكونَ هناك إكراه من الزوج على الإطلاق، إكراهًا مباشرًا أو غير مباشر كي تتحقق حرية الإرادة والمشيئة لدَى الزوجة.
والسائل هنا في سؤاله يرى أن له حقًّا في مال زوجته وفي أجرها على التدريس، وهذا شأن من شئون العهد الجاهليّ أو المادّي. وبناء على افتراض أن له الحقَّ فيما تملِك زوجته يُخاصم أباها، ثم يحتكم إلى رأي الإسلام في إرجاع زوجته بعد أن تتمكّن منه الحَيْرة عندما تقول له زوجته: ارْضِ أبي!!
إن زوجته لم تقل له ما قالته إلاّ لأنّها في وضْع حَرِج، وهو وضع المُتردِّد بين الطرفين، أي بين زوجها وأبيها. ولو أنّها كانت تملِك الفصل في القول لأجابته بأن الزوج لا شأن له بمال الزوجة، إلا ممّا تتنازل هي عنه طوعًا واختيارًا، وأن عليه وحدَه الإنفاقَ على الحياة الزوجية بينهما: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، أي أصحاب قيادة في الحياة الزوجية. (النساء 34).
فتكفُّل الزوج وحده بالإنفاق سبب مِن أسباب استحقاقه القيادة في الحياة الزوجية.
وإذا كان الزوج قد تزوّج زوجته المُدرِّسة على شرط أن تَشترك معه في نفقات بيت الزوجة مِن أجرها في التدريس فالشَّرط باطل، وإنْ أصرَّ على تنفيذه كان إصراره سببًا فيُفسخ عقد الزوجية بينهما.
الإسلام حدَّد شخصية المرأة في استقلالها بمالها.. وبعقيدتها إن كانت من أهل الكتاب.. وبمُماثَلة ما لَها من حقوق وما عليها من واجبات، لِمَا للرّجل من حقوق ولِمَا عليه من واجبات: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْروفِ) (البقرة 228).(152/2)
والإسلام في ذلك ينشُد المستوى الإنسانيَّ وحدَه فيما يأمر به أو ينهى عنه. والإنسان بتصرُّفاته هو وحده الذي ينزل عن هذا المستوى درجة أو درجات.
فلْيَقُمِ السائل بمسئوليتِه الزوجية.. وليؤدِّ واجب الإنفاق دون أن يسأل زوجته أو يُخاصِم أباها من أجل أجرها على التدريس، فالمسئولية الزوجية يتعلَّم منها الإنسان الكرامة... وإرادة الحياة.(152/3)
21ـ هل يصحُّ للوالد المسلم أن يَترُك ابنتَه تتزوَّج رجلاً غير مسلم؟
لا يجوز للمسلمة أن تتزوَّج غير مسلم؛ لأنه ليس بينهما تكافؤ، ويُخشَى منه كرجل عليها كامرأة. فغير المسلم لا يَعتَرِف بدين المسلمة ولا بالكِتاب الذي أُنزل على رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو القرآن، بينما المسلمة تعترف بجميع الكتب والرسل السابقين على رسالته ـ عليه السلام ـ وهنا كان عدم التكافُؤ بين الاثنين: إنسان مُسالِم وإنسان آخر مُهاجم. أما أنه يخشى منه كرجل عليها كامرأة فَلِلْفَرق الواضح بين الطَّبيعتين في القوّة والضعف، وفى التأثير والتأثُّر. ولذا إذا تزوَّجت مسلمة بغير مسلم قلَّما تحتفظ بإيمانها ودينها في العلاقة الزوجية بينه وبينها.
ولكن المسلم الذي يتزوج كتابِيّة غير مسلمة لأنه يعترف بالكتاب الذي أُنزل على الرسول الذي تؤمن به.. يترك لها حرية ممارَسة العبادة الخاصة بها ولا يُخرِجها في دينها بحال. إذ موقف المسالم، وليس موقف المهاجم أو الرافض، فيما يتعلق باعتقادها.
وعدم جواز أن تتزوّج المرأة المسلمة رجل غير مسلم يستند إلى قول الله ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنوهُنَّ "أي اختبروهنّ في إيمانهنّ" اللهُ أَعْلَمُ بإيمانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتموهُنَّ مُؤمِناتٍ فَلاَ تَرْجِعوهُنَّ إلى الكُفّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ولاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (الممتحنة: 10).(153/1)
والكافر هو كل مَن لم يؤمن بالقرآن: من المادِّيِّين الملحِدين أو من أهل الكتاب الذين يفرِّقون بين الرسل وبين الكتب المنزَّلة فيؤمن بالبعض ويكفُر بالعض الآخر يقول الله ـ تعالى ـ: (إِنَّ الذِينَ كَفَروا بالذِّكْرِ "وهو القرآن" لَمَّا جَاءَهُمْ وإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 41 ـ 42). ويقول: (إِنَّ الذِينَ يَكْفُرونَ بِاللهِ ورُسُلِهِ ويُريدونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ ورُسُلِهِ ويَقولونَ نُؤمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُريدونَ أَنْ يَتَّخِذوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرونَ حَقًّا) (النساء: 150 ـ 151).
وإذا كانت آية الممتحنة السابقة تمنع زواج المسلمة بغير المسلم بصفة عامة.. فإن قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة: (ولاَ تُنْكِحُوا المُشْركِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا) (البقرة: 221) ينصُّ صراحة وبصفة خاصَّة على عدم زواج المسلمة بالمشرك أو المادِّي الملحِد.
أمّا الوالد أو وليُّ أمر المرأة فله الحقُّ ـ بمساعدة الوليِّ العام وهو الحاكم في الدولة المسلمة ـ في منع ابنته من الزواج بغير مسلم لِفَقْد شرط الكفاءة بين الزوجين عندئذٍ؛ إذ اعتبار الكفاءة في الدين متَّفق عليه بين الفقهاء جميعًا. ويستندون في ذلك إلى قول الله ـ تعالى ـ: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). ومن هنا كان قولُهم: لا تَحِلُّ المسلمة للكافر، لعدم التكافُؤ بين الطَّرفين.(153/2)
118 ـ خطبني أحد الأشخاص، وقرأ الفاتحة بحضور العديد من أهلي، وتمَّت الخطبة، وهو مسلم ويصلِّي وطيِّب جدًّا. ولكنَّه يُحاول تقبيلي ويقول: إنه ليس حرامًا؛ لأنَّ الأهل جميعًا قرؤُوا الفاتحة معه. وهذا دليل على المُوافَقة على الزواج. فما رأي الدين في هذا ؟ وهل يجوز أن أتزيَّن له؟.
الخطبة ليست هي عقد النكاح. فالخطبة تُبيح فقط أن ينظر الرجل إلى المرأة.. وتنظر المرأة إلى الرجل بما يُتيح لكلٍّ منهما الفرصة للتعرُّف على الآخر، وبما يوحي بالقَبول أو بعدم القَبول لدى كلٍّ منهما. فللرجل أن ينظر إلى وجه المرأة ويَدَيْها، ويتحدَّث معها بحضور مَحرَم لها. وللمرأة أن تفعل نفس الشيء بالنسبة للرجل، وبحضور محرَم لها كذلك. ويُروى في هذا حديث المغيرة ـ رضى الله عنه ـ: أنَّه خطب امرأة، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "انظر إليها؛ فإنَّه أحرى أن يُؤدَم بينَكما" أي فإنَّ نظَر كلٍّ من الرجل والمرأة إلى الآخر، إذا أدَّى إلى القَبول، كانت العلاقة بينهما أكثر دوامًا.
أمّا عقد النكاح ـ وهو عقد الزواج ـ فإنّه يُتيح للزوجة أن تُبدِي زينتها لزوجها. وزينتها جميع بدنها. يقول تعالى: (ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاّ لِبُعولَتِهِنَّ) (النور: 31). "أي لِأزواجهن".
وإذن فالخِطبة لا تُتيح للرجل أن يرى أكثر من وجهها ويديها، فضلاً عن أنها لا تُبيح له أن يقبِّلها، لكن له أن يراها أكثر من مرة، وفقط في حضرة محرَم لها. والحكمة في ذلك أن الخِطبة لا ينبغي أن تنتهي إلى ندم.. أو إلى ما يُسيء إلى المرأة إن لم تنتهِ إلى الزواج وإلى سعادة فيه.(154/1)
والتقليد غير الإسلامي في المجتمع المادِّي يضع المرأة موضع التجربة وهى إمّا أن تُقبَل أو تُرْفَض بعد اختيارها، وذلك لا يرى هذا التقبيل غَضاضة أن يقبِّلها خطيبُها. أو يسلك معها مسلكًا وراء ذلك، طالما ينظر إليها على أنها موضوع للاختبار.. كما يرى هذا التقليد أن الزوجية تمُرُّ بمرحلتين إحداهما مرحلة ما يسمَّى "بتجربة الزواج" .
وما تذكره السائلة بعد ذلك من جواز التزيُّن، للخطيب.. أو عدم جوازه فإنْ كان المقصود من التزيُّن هو الإعداد للقائه، وهى حسَنَة الملبس والمنظر، لتسرَّه برؤيته إيّاها فليس في ذلك ما يمنع. وإن كانت تقصد بالتزيُّن إثارته، وتحريك انفعالاته، أو خلق جو لإلهاب أحاسيسه نحو المرأة فذلك غير جائز شرعًا؛ لأن القرآن عندما حرَّم على النساء أن لا يضرِبْن بأرجلِهنَّ ليبدين ما خَفِي من أبدانهِنَّ في قوله تعالى: (ولاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (النور: 31).. قصد إلى منع إثارة الفتنة، ودون الحيلولة دون إغراء الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية عنه. والمرأة في فترة خطوبتها لم تزل أجنبيّة عن خطيبها. وعقد الزواج وحده هو الذي يجعلها حليلةً، أو غير أجنبيّة عن زوجها.
والإسلام في نظرته إلى الخطبة.. وفي نظرته الأخرى إلى عقد النِّكاح، وما يترتَّب على كل منهما يُريد أن يُؤَمِّن المرأة من الانحدار إلى المسالك الوعْرة في حياتها.. وفي الوقت نفسه يريد أن يرتفع بها فوق السلعة فلا تكون موضع تجربة. وإنَّما مظهرها يدُلُّ على مَخبَرها. فهي إنسان له كرامته وله شخصيته. ويسُرُّ الرجل أن يكون زوجًا لمَن له هذه الكرامة، وقد تجنَّبت مَذلَّة التجربة. ويسرُّ المرأة أن يكون زوجها ممَّن احتفظوا بأنفسهم، بعيدًا عن الدخول في مغامرات تدفع إليها شهوة الحيوان، دون منطق الإنسان.
108 ـ حدود الخِطبة في العلاقة بين الرجل والمرأة(154/2)
تَمَّتْ خِطبتي لسيدة بمُوافقتها ومُوافقة الأهل، هل مِن الجائز أن نتبادَل القُبلات مع أن عَقْدَ القران اتُّفِقَ على أن يكون عند الدخول، كما هي العادة؟
وما الحُكم؟
الخطبة في الإسلام تُبيح النظر والمُحادثة بين الطرفين، ولكنها لا تُبيح القُبلة أو المُعانقة مَثَلاً؛ لأن هدفها أن تُتيح الفرصة للرجل والمرأة معًا في أن يَتعرف كل منهما على الآخر، يتعرف على مَلامحه وشكله.. وعلى صوته.. وعلى مَنطقه في حديثه.. وعلى اتجاهه في الحياة: أهو إنسانيٌّ في تكفيره ومُعاملته أم شحيح بَخيل ماديٌّ في تَصرُّفاته.
ووقت الخِطبة يُعَدُّ وَقْتًا لتكوينِ كلِّ طرَفٍ حُكمَه ورأيه في الطرف الآخر، مِن حيثُ قبول عِشرته، أو عدم قبولها.. مِن حيث تلاؤُم الطباع أو عدم تَلاؤُمها.
ومِن النظر، ومن الحديث، يستطيع الرجل وتستطيع المرأة أن تُدرك نوع الإحساس الداخلي، ونوع العاطفة التي تَدفع إلى اللقاء بالطرَف الآخر، أو ترفض اللقاء به، وهذا قدْرٌ كافٍ في إتمام عقد الزواج، أو العُدول عن عَقده كليَّةً.
وإذا ظهرتْ بعد ذلك ـ أي بعد أن يتمَّ عقد الزواج ـ عيوبٌ أو نقائصُ لم تَكشف عنها رؤيةُ كل طرف للآخر أثناء الخطبة، أو مُحادثةُ أيِّهما للثاني، وتَضرَّرَ بها أحدُهما، فللمُتضرِّرِ منهما حقُّ فسْخِ عقد الزوجية.
وفسْخُ العَقْدِ شيءٌ يختلف عن طلاق الزواج... أو اختلاع الزوجة وافتداؤُها.
فعدمُ اللياقة البدنيَّة أو الطبيَّة في المُعاشرة الزوجية والتدليسُ والخداع فيما أُعطي مِن معلومات عن الزوجة أو الزوج، وكان مِن شأنه أن يُلحِقَ ضررًا بأيِّهما: من الأسباب التي يقوم عليها حقُّ الفسْخِ لعقد الزوجية.
فعَقد الزوجية كأيِّ عقدٍ آخرَ بين طرفينِ يجب أن يَبعُدَ عنه احتمالُ الضرَر والخداع عند قيامه، فإنْ جَدَّ الضررُ بعد قيامه فللزوج أن يُطَلِّقَ، وللزوجة أن تَفتدي بمَا لا يَزيد عن صَداقها.(154/3)
ورأي الإسلام في الخِطبة وما تُبيحه للرجل والمرأة مُرتبط برأيه في عقد الزوجية في قيامه واستمراره، ورأيه ـ لذلك ـ كلٌّ لا يَتجزَّأ.
والعُرْفُ الذي يُبيح للرجل أن يُقبِّلَ خطيبته أثناء الخطبة وقبل عقد الزواج أو يُبيح له منها أكثر مِن ذلك، هو عُرفٌ يقوم على؟نظرةٍ أخرى إلى الزواج، وهي أن عَقدَه عقدٌ أبدي لا طلاقَ فيه.
قد يقع في العلاقة بين الزوجينِ انفصالٌ بَدَنِيٌّ، ولكن الموت وحده، الذي يُفرق بينهما. نعم قد تَطوَّر هذا العقد الآنفي المُجتمعات، التي تأخذ به وأصبح يجوز الفُرقة فيه بالطلاق، ولكنَّ تَكلِفةَ أجرِ الطلاق وارتباطه برأيِ القاضي يجعل منه هدَفًا ليس مِن السهل تَحقيقه.
وعدم سهولة تحقيقه هو الذي يدفع إلى تكوين العُرف بمُمارسة الرجل مع خطيبته أثناء الخِطبة ما لا يُبيحه الإسلام فيها. يُضاف إلى ذلك جوُّ الحياة المادية القائم الآن. وهو جوٌّ يَميل إلى التحلُّل مِن القيود وإشباع الغرائز والسعْي إلى تحقيق المَصالح الذاتية وَحْدَها.
والإسلام برأيه السابق يَتمسَّكُ بالمستوى الإنساني في صِلات الناس بعضهم ببعض، وبالأخصِّ بين الرجل والمرأة، ويُبيح المتعة المادية بينهما إنِ ارتبطتْ هذه المُتعة بالمسئولية عن عَواقبها ونتائجها، مسئوليةً صريحةً ومعروفةً للآخرينَ.(154/4)
2ـ خطبتُ لابني إحدى الفتيات، وألبسها الخطيب الشبكة، وقرأنا الفاتحة، واتفقنا مع وليّها على المهر. ثم جاء آخر وخطبها لنفسه، مع علمه بأنَّها مخطوبة. ولحالته الاجتماعية والمالية قَبِلوه وعقدوا العقد معه. فما حكم هذا؟
خطبة الرجُل على خطبة رجل سابق عليه حرام، لما في ذلك من الإيذاء للرجل السابق. وقد نهى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن خطبة امرأة هي مخطوبة لغيره، فيما يروى عن ابن عمر في قوله ـ صلى الله علية وسلم ـ : "لاَ يخطُب الرجل على خِطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قَبل، أو يأذن له" (التاج: ج2 : ص 318). والحُرْمة مشروطة بعلم الخاطب الجديد، مع عدم إذن الخاطب السابق له، ومع عدم تركه الخطبة كذلك.(155/1)
وهذا الوضع قام في سؤال السائل بالنسبة لابنه، مع الخاطب الجديد. وإذا كان ظاهر الحديث أن الحرمة واقعة على الخاطب الجديد وحده، لكن فيما أرى هي واقعة كذلك على أهل المخطوبة معه؛ لأن الإيذاء المعنوي على الأقل ـ وهو متوافر هنا بسبب الفرق بين الخاطب القديم والخاطب الجديد في المركز الاجتماعي والمالي ـ هذا الإيذاء الذي من شأنه أن يلحَق الخاطب السابق لا يَتِم إلا بموافقة وليِّ أمر المخطوبة على التنازُل عنه، وعلى قَبُوله الجديد بدلًا منه وهذا العمل يُشبه عملية "الخطف". فأهل المخطوبة يُغريهم الوضع الاجتماعي والمالي للرجل الثاني فيحرصون على خطفه وتسريح الأول. ولو بدا لهم أثناء الخطبة مَن هو أحسن في الوضع من الثاني، لآثروه بالخِطبة وسرَّحوا الثاني كذلك.. وهكذا. وهم ـ إذن ـ يزوِّجون ابنتهم لوضع الرجل، وليس لذاته. وقلّما يدوم زواج لُوحِظ فيه أمر عارض للزوج من مال، أو وظيفة، يُوجَد اليوم وقد لا يُوجَد غدًا. أما الخاطب الجديد فربّما أغراه من مخطوبته أنَّها على مَسْحة من الجمال فخطَبها، وحمل أهلَها بذلك على ترك الخاطب الأول. وهو ـ إذن ـ بمنزلة الخاطف لها. وقلَّما يكون سعيدًا بهذا الزواج لو تَمَّ، عندما يتقلَّص جمال زوجته وتتقدَّم بها السِّنُّ. أو يُضعفها الحمل المتكرِّر والعناية بالولد منه.
إن الزواج يجب أن يكون لذات الرجل، ولذات المرأة.. لما في أيٍّ منهما من خلُق كريم، واستقامة وحِرْص على بناء الأسرة. وليس لمال، أو جاه، أو جمال؛ لأن ذلك أمر لا يطول مداه. ولو أن الخطبة في سؤال السائل كانت قد تمَّت لذات كل من الرجل والمرأة، لما انفصلت خطبتهما؛ لأن ما بالذات باقٍ لا يقبل المساومة.(155/2)
ولكنها الحياة المادِّية.. ولكنه عدم التوكُّل على الله.. ولكنه عدم الثقة بالنفس.. كل ذلك هو السبب في المساومة على المرأة عند زواجها في عصرنا الحاضر، وهو السبب في فشل الزوجية منها الآن. والطلاق في الإسلام ليس مذنبًا في تفكُّك كثير من الأسر المسلمة، بقدر عدم الإيمان بالله وبدينه، والارتماء في أحضان الوثنيّة المادِّية التي هي طابع الوقت الذي نعيش الآن.(155/3)
133ـ ما رأي الدين في أسرة تأتي إليها خطيبة ابنِها دون علم أهلها، وتمكُث مع خطيبها ساعات طويلة في خَلوة وأمُّ الشاب تعلم هذا ولا تُنكره، مع أنَّها تصلِّي وتصوم، معتذِرة بأن ابنها رشيد في السابعة والعشرين من عمره. فما الحكم؟
الجواب:
ما يُشَوِّش على المسلمين في دينهم هو تلك الأعراف الوافدة إلى مجتمعات المسلمين من غيرهم. فالمجتمعات الأخرى التي لا ترى الطلاق كحَلٍّ للعَلاقات الزوجية، وإن كانت ترى انفصالاً بَدَنِيًّا فيها، أو تنتهي إليه في إجراءات معقَّدة وعن طريق القضاء، خلقتْ من الأعراف والتقاليد ما يُبيح للمرأة والرجل أكثر من نظر كل واحد منهما للأخر قبل الخطبة فالزواج. حتى أنَّ بعضًا من الاجتماعيّين هناك في عصرنا الحاضر يدعو إلى "زواج التجرِبة" قبل الزواج الرسميّ، وبعضًا آخر منهم يطلب إلغاء الزواج الرسمي كلية، والاكتفاء بالمعاشرة الجنسية بين الاثنين في حرية، في قيامها وفصمها. وهذه الحرية في قيام العلاقة الجنسية وفي فصمها هي التعبير عن القَبول والإيجاب، أو التعبير عن الرضاء في الانفصال، وإن كان تعبيرًا في صيغة غير محدودة.
وهذه الأعراف والتقاليد الوافدة تصل إلى مجتمعاتنا الإسلامية في سرعة، بالوسائل العديدة بالنشر والإرسال، التي تتسم بالتقدُّم التكنولوجي. وشبابنا في هذه المجتمعات لم يزَل يتأثَّر بالمجتمعات الأخرى، تحت خداع "الحضارة" و "التقدُّم". وهو لا يفرق في الحضارة والتقدم بين ذلك النوع الذي تدفع به الآلة والآليّة، والنوع الآخر الذي يتصل بالإنسان ومستوى الإنسانية، فكل تقدُّم لإنتاج الآلة والآلية يعتبره تقدُّمًا في مستوى الإنسان والإنسانية. على معنى أن المجتمع الحضاري الآلي هو مجتمع حضاريّ إنسانيّ أيضًا. فالآلة وإنتاجها يمهِّد لقَبول سلوك الإنسان في مجتمع الآلة، على أنه سلوك إنساني في مستوى عال، كذلك الإنتاج الآليّ في مستواه الإنتاجيّ الرفيع.(156/1)
والإسلام في يُسر عقد الزواج وفي حَلِّه. وفي تعظيم مسؤولية الأسرة في الأولاد وإنجابها، وفي تشدُّده لصيانة المجتمع من الجرائم الاجتماعية. وبالأخَصّ جريمة الزِّنا ـ يُبيح فقط للرجل والمرأة قبل الخطبة من النظر أيهما للآخر. "إذا خطَب أحدُكم المرأة واستطاع أن ينظرَ إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعلْ". في رواية جابر، رضي الله عنه.
ولكنه لم يُبِح "الخَلوة" لما قد يترتَّب عليها من آثار. يأتي بها طيش الشباب ونزَقه. وهى آثار تُسيء ولا تَسُرّ، وربَّما للمرأة قبل الرجل.
فالشابُّ المسلم ليس بحاجة أن يقلِّد شباب المجتمعات الأخرى وبالأخصِّ إذا عَلِمَ الآن أن بعض هذه المجتمعات الأخرى ـ كالمجتمع السويدي ـ يسعى إلى أن يقلِّد الإسلام في مبدأ الطلاق من غير طريق القضاء، وبرضاء الزوجين فقط، حتى يخفِّف من نتائج التعقيد في الزواج والطلاق، وهى تلك النتائج التي تتمثل في النسبة العالية الآن من الطفولة غير الشرعيّة وفي الموجة العارمة من الانحلال، التي أصابت المرأة في كرامتها وفي حيائِها وجعلتها تعرِض نفسَها عرضًا مبتذلاً باسم الحرِّيّة والتحرير.
ولا شَكَّ أخيرًا أَنَّ "الخَلْوةَ" التي يُشير إليها السائل هي أمر منكَر. وسكوت الوالدة عنها لا يكفي في إنكارها إيّاها. كما يُعتَبَر عدم وفاء لأهل الخطيبة من جهة أخرى.
لماذا لا يُسارع الخَطيب في جعل هذه الخَلوة أمرًا مشروعًا بالعقد على خطيبته؟ ثُمَّ هما في حريّة تامّة، وفي صراحة واضحة، في علاقة إحداهما بالآخر فلا يحتاجان إلى عُزلة وخَلوة يتخفَّيان فيها عن أعين الناس.
إن الدين يُسر وليس عسرًا، وإن الذي يُعَقِّده هو الإنسان نفسه.
والإسلام يُريد للمسلم أن يكون على وعيٍ في مسؤوليته بالأسرة. لا يخادع ولا يتستَّر فيها، كما يتستّر السارق أو الجبان في تصرفاته.(156/2)
32 ـ الزوجة الثانية بعد وفاة أم الأولاد:
يقول مواطن بإحدى المحافظات:
زوجته توفِّيت منذ تسع سنين، وأنجب منها ثلاث بناتٍ وولدًا، أمَّا البنت الكُبرى فتزوَّجت وأنجبت، والصغرى طالبة بإحدى الكليات، والوسطى في المنزل تدير شئونه، وأما الولد فهو مهندسٌ زراعيّ.
وعملاً بمشورة ابنته الكبرى تزوج امرأة أخيه بعد وفاته، وحَمِد الله على زواجه منها ولكن تمَّ زواجه في غيبة ولده المهندس الزراعي، فلمَّا عاد وعلِم غضب وحمل أباه على تطليقها فطلَّقها.
واقترح عليه الأولاد أن يتزوج من قريبةٍ لوالدتهم وهي ريفية فتزوج، ثم ضاق بها ذرعًا وعادت إلى أهلها، وعاد هو إلى الزواج مرة ثانية بمُطلقته، فقاطعه الأولاد بعد أن ثاروا عليه، وهو يسأل أفتوني في أمري.
والسائل إذ يستفتي يطلب الرأي: كيف يجمع بين إمساكه زوجته التي كان قد طلَّقها وعودة أولاده إليه وإنهاء مُقاطعتهم إياه.
الأولاد يحرصون على أن يكون بيتهم ـ وهو بيت والدهم ـ مسكونًا بذات قرابة قريبة لوالدتهم تكون بديلاً وعوضًا عنها ويرجعون إليها في شئونهم الخاصة، كما كانوا يرجعون إلى والدتهم فيها على عهد حياتها.
ووالدهم يحرص على أن تكون الزوجة التي يُقيم معها ذات صلاحية يُحسُّ معها أنها تُبادله الاطمئنان والمودة والعطف، وكلٌّ من الطرَفين ينظر إلى الوضع الجديد من زاوية خاصة، وهي زاوية المصلحة الشخصية
والإحساس الشخصي. ليس بين الزاويتين التقاء، طالما الإحساس الشخصي هو المتحكِّم في إلقاء النظرة.
والسؤال الآن: هل سيضارُّ الطرَفان، أو يضار أحدهما أكثر، بالوضع الجديد؟
الابنة الكبرى ـ وهي متزوجة ولها أولاد ـ ستَشغل نفسها بزوجها وأولادها، وبالتالي سيكون اهتمامها ببيت أبيها قليلًا، وبالفعل عندما أشارت عليه فيما مضى بأن يتزوج امرأة عمها التي طلَّقها أبوها وأعادها ثانيةً إلى عصمته، كانت تفكر في بيتها الخاص أكثر من تفكيرها في منزل الأسرة.(157/1)
والولد المهندس الزراعي سيشغل نفسه في الوقت الحاضر بالبحث عن زوجة أو عن مصلحة خاصة في وظيفته، ولا يَعنِيه من أمر والده إلا بمقدار ما ينجز مصلحة له، تعوَّد أن ينجزها معه، وفي هذه الحالة ـ وهي حالة المقاطعة ـ لا يقصر والده في شيء يريده.
والشقيقتان: طالبة الكلية، والقائمة بشئون المنزل يمكن لزوجة أبيها أن تكون على وِفاق معهما، وبالأخص أنها تعلم أن زوجها حَدِب على صلته بأولاده جميعهم وبالأخص هاتان الشقيقتان. فهي من جانبها تبذُل كل ما في وُسعها لجذبهما نحوها.
وبمرور الأيام ستتراخَى القطيعة، ولكن الوالد سيظل يُحِسُّ بها؛ لأن العلاقة بين الوالد وأولاده ليست متكافئة عادةً. فهي أقوى من جانبه. ولذا لم يوصِ القرآن الآباءَ بالإحسان إلى الأولاد، اعتمادًا على الإحساس الطبيعى المتوافر عندهم نحو أولادهم، وإنما حذَّرهم من بعضهم وأوصاهم بعد الافتتان بالبعض الآخر.
فيقول: (يا أيُّها الذين آمنوا إنَّ من أزواجِكُمْ وأولادِكم عدُوًّا لكم فاحذَرُوهم، وإنْ تَعفُوا وتَصفَحُوا وتَغفِروا فإن الله غفورٌ رحيمٌ. إنما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ والله عنده أجر عظيم".
(التغابن: 14:15) مما يدل على أن علاقة الأولاد لا ترقى في مستواها وقوتها إلى علاقة آبائهم بهم.
ومن هنا على الوالد أن يتقدَّم خطوةً أو خطُوات في سبيل التفاهم مع أولادهم لإنهاء مقاطعتهم من جانب، والاحتفاظ بزوجته التي يُؤثرها من جانب آخر. والتوفيق بين الأمرين ليس عسيرًا
فالبنت الكبرى تستطيع أن تكون بمثابة الأم لشقيقتيها في الوقوف على أسرارهما وإعطاء المشورة لهما، والابن المهندس يستطيع أن يكون رفيقًا لوالده وصاحب رأى عنده.(157/2)
وبذلك تجتمع الأسرة من جديد. والزوجة المفضَّلة عند الوالد الآن ستُبارك حسن العلاقة بين الجميع؛ لأنها ليست ذات شوكة، وتريد أن تحتفظ فقط بأبيهم كزوج بعد ما مات زوجها، وهو أخوه، وبعد أن عادت ثانيةً إلى عصمته، وعرفت مدى تأثير الأولاد عليه.
ورأينا إذن: أن السعى إلى التوفيق يجب أن يكون من جانب الوالد أولًا. وعلى الأولاد أن يُدركوا أنهم أقوى من أبيهم في الاستغناء عنه، وأنه هو بحاجة إليهم: هو بحاجة إلى أن يتقوَّى بهم، ويعتزُّ بهم، ويستند اليهم في ختام حياته.(157/3)
77 ـ ابني طالب بالجامعة، وعمره الآن ثلاث وعشرون سنة، وقد شاغلتْه فتاة مجاورة لنا، حتى تكرَّر رُسوبُه. وقد تقدَّم لي والدها طالبًا إعلان خِطْبَتَهِما فرفضتُ بحجة أن ابني لا يزال طالبًا ومشغولاً بدراسته. فخرج الوالد الجارُ من عندي ليعقِد القِران بدون موافقتي، وكتب على الولد إيصال أمانة بمائَتَيْ جنيه، وحرَّضه على عِصْيَان أبيه. فما الرأي؟
إنَّ ما أقدمَ عليه الجار ـ وهو والد الفتاة التي شاغلَت الشاب وتسبَّبتْ في رُسوبه ـ يُعتَبَر عملية تغرير بشابٍّ لم يزل في دَوْر تكوينه بعد، كما يُعتَبَر مأساة بالنسبة لأسرته وخيبة أمل مع ذلك لوالده بوجه خاص.
فحمل الشاب، الذي لم يتخرَّج بعدُ ولم يُنْهِ دراسته العالية، على أن يباشِر مسؤولية الزوجية ومسؤوليّة أسرة جديدة من غير إعداد لهذه المسؤولية، زُجَّ به في مجال لا يستطيع الحركة فيه من غير خطَر يتهدَّده سواء: سواء في النفقة على نفسه أو عليه وزوجته وولده في المستقبل القريب، أو في استكمال الدراسة والتفرغ لها.
وإن كان والد الزوجة سيُنفق الآن عليه وعلى زوجه بقَبوله في أسرته مؤقَّتًا فإن ذلك سيولِّد في نفس هذا الشاب الطالب الشعورَ بالحاجة إلى الغير وعدم التدرُّب على مباشرة مسؤوليته، وهذا نقص من غير شكٍّ في إعداد الطالب.
على أنّه ليس هناك ضمان لهذا الطالب الذي رسَب عدة مرات بسبب انشغاله بفَتاته أن يجتاز المرحلة الأخيرة في الدراسة. ولو فُرِضَ أنّه اجتازها فسيظلُّ إلى حين بعد تخرُّجه ومباشرته وظيفة ما في كنَف والد زوجته، حتى يستطيع الاستقلال في المعيشة الزوجية.(158/1)
وفي هذه الفترة كلِّها سيظل يجول بخاطره إحساس غامض نحو أسرته: والده ووالدته وأخواته. وسيزداد هذا الإحساس النفسي الغامض كلَّما مَرَّ الوقت على زواجه وفتَر انفعاله العاطفي نحو زوجته. وهو إحساس يقوم على عدم الوفاء لأسرته من جانب وعلى إلقاء اللوم في ذلك على والد الزوجة من جانب آخر، بحمله على الانفصال من والده. ولا تعلم عاقبة هذا الإحساس المظلم في نفس هذا الشاب. ولكن ظواهره على الأقل ستبدو في كآبته وتشاؤمه مرة، وفي ميله إلى الانتقام في صورة ما مرة أخرى، وفي احتكاكه في العلاقة الزوجية مرة ثالثة.
إنه شاب قد تجمَّد تطوره الداخلي باغتصابه وإغلاق مسالك التطور عليه في زيجة سريعة ومبكِّرة، إنه شاب قد وقف دون مسؤوليته كرجل في الحياة، وقُطِعَت عليه علاقته بأسرته الأولى، وقُيِّدت حركته بتصرف إنسان غريب عنه، وهو والد زوجته.
وكثيرًا ما تكون خاتمة هذه العملية في التغرير بعيدة عن الاستقرار، أو بعيدة عن النتائج المقدَّرة أصلاً من جانب أهل الزوجة، وهو سعادة البنت وسعادة أهلها.
أما والده فستكون خيبة الأمل له كبيرة. وبالأخصِّ إذا كان الشاب هو الوحيد أو أكبر أولاده في الأسرة. فالعادة أنَّ مثل هذا الولد بعد اللحظات التي تمرُّ على ولده في حياته الدراسية إلى أن يتخرَّج ويَلْتَحِق بعمل ما. وعندئذٍ تكون فرصتُه الكبرى أن يُشارِك في تأهيله وتكوين أسرة جديدة له، تكون خَلَفًا له ولأسرته من بعدُ. فإذ يجد هذا الأمل ينهار دفعة واحدة وبتصرف أجنبيٍّ عنه في مُستَقْبَل ابنه بغير رضاه، فإن وَقْع ذلك نفسيًّا عليه ليس بالأمر الهَيِّن. وربَّما يُصاب بسبب ذلك بعلّة تقضي عليه. وإنْ لم يُصَب بمثل هذه العِلّة فالقلق يسيطر على حياته والتشاؤم يملِك عليه أمر نفسه، وينعكس ذلك كله على أسرته وأفرادها.(158/2)
والرأي أن هذا العمل ـ وإنْ كان في أغلب الأحيان سيعود بالضرر على الجار ـ فهو مصدر ضرر قطعًا على الطالب الشاب ووالده وأسرته. وقد نهى الإسلام عن الضِّرار والضرر، أي عن إلحاق الأذى المعنوي أو المادِّيّ بالذات أو بذات أخرى.
59ـ ولاية الأب في زواج الابن:
مواطن، من القاهرة، يقول إنه كان جاهلاً لدِينه فهداه الله واستقام في سلوكه، بسبب رجل تعرَّف عليه وعلَّمه دين الله. وهذا الرجل له بنت وعلى قدْر من الجمال، وعلوم الدين. وحفْظ القرآن الكريم، وهي مُحجَّبة ولكنها فقيرة، فخَطبها ورفَض أبوه خِطبتها لفقرها، بينما وافق والدها وأعلنَ مساعدته على إتمام الزواج منها.
ويري السائل: أن جميع الصفات التي يَطلبها في زوجة له، مُتوفرة فيها ويسأل:
( أ ) هل يكون قد عصَى والده، إنْ هو تزوج بها بغير رِضًا منه؟
(ب) هل يُباحُ له أن يطلب المهر من أبيه، كما فعل إخوة له مِن قبل:؟
(ج) وما الحكم الشرعي لو أعطاه والده المهر من مال يُودعه والده في البنك بفائدة ولا يُخرج عنه الزكاة؟
مِن الأفضل أن يَحصل السائل على مُوافقة والده للزواج ممَّن اختارها ليس لأن موافقة الوالد على الزواج منها شرط أساسيٌّ في صحة عقد القران بها ولكن فقط تجنُّبًا لغَضبه وحرْصًا على الاحتفاظ برضاه تكريمًا له، فموقف الوالد أو وليُّ الأمر يختلف في عقد القران بابنته عنه في عقد بابنه، فإذا أُوجب في بعض المذاهب الفقهية وُجود الوليِّ في عقد نكاح البكْر، فإنه بالنسبة للولد على أية حال اكتفاءٌ ذاتي بوُجوده.. كطرف في العقد.(158/3)
والمهر في الإسلام تعبير في رغبة الرجل في المرأة.. وعن أنه طالبٌ لها وهي مطلوبةٌ له. وما يُقال عنه "أنَّه ثمنٌ لمُعاشرة المرأة فالآية القرآنية التي تقول: (وآتُوا النِّساءَ صَدُقَاتِهِنَّ "أي مهورهن" نِحْلَةً). "أيْ عطية وهدية" (النساء:4)..هذه الآية تُصرِّح بأن المهر عطاءٌ مِن الرجل للمرأة كهديةٍ لها. ولذا لا يَسترِدُّ الرجل منه شيئًا إلا عن طيبِ خاطرٍ منها: (فإنْ طِبْنَ لكمْ عَن شيءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا). (النساء: 4).. ...
... والمُغرضون ضد الإسلام يُصوِّرون المرأة المسلمة على أنها سِلعةٌ، كما يصورون المهر بأنه ثمن، وهكذا: المرأة تُباع وتُشترَى، ومهرها هو قيمتها كسلعة، يكون كثيرًا، كما يكون قليلاً، حسب منزلة أسرتها، وحسب جاهها وثرائها. وهذا التصوير أصبح مِن الآسف تقليدًا في أُسَرنا المسلمة وأصبح المهر مِن أجل ذلك عائقًا لكثير مِن الزيجات.
... ويُروى أنه جاء رجلٌ من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطلب الزواج بامرأةٍ كانت عند، فسأله ـ عليه السلام ـ عمَّا معه فلمَّا لم يجد لديه شيئًا سأله ثانية عمَّا معه من القرآن قال: معي سورة كذا وسورة كذا ـ عدَّدها ـ. قال: "أتَقْرَأُهُنَّ عن ظهْر قلب"؟ قال: نعم، قال: "اذهب فقد زوَّجْتُكَهَا بما معك من القرآن".. فأجاز الرسول ـ عليه السلام ـ أن يكون مهر المرأة تعليمها بعضًا من كتاب الله، ممَّا يدل على أنه ليس ثمنًا لبِضْع المرأة.(158/4)
... ونظرة الإسلام إلى المهر تسمو فوق الماديَّات. فالمعروف في الدراسات النفسية: إن المرأة حرْصها على طلب الرجل ربما يكون أكثر من حرْص الرجل على طلب المرأة، فالمرأة في تكوينها لدَيها غريزة "الأمومة" وهي الغريزة التي تُوجهها نحو اللقاء بالرجل. فإذا طلبت المرأة الرجلَ طلبًا صريحًا سقَط حياؤها وجُرحت أنوثتها. فكان المهر من جانب الرجلِ كإعلانٍ على أنه الطالب للمرأة، وبذلك يَحفظ لها حياؤُها، ويُوفِّر لها كرامتها كأُنثى وتَقترن بزوجها وقد استقرَّ في نفسها، أنه هو الذي سعَى إليها وطلب يدها ولا تُحِسُّ بإحساس النقْص وهو الحاجة إلى الرجل. ...
... والسائل إذا كان لا يملك وخَطيبته لا تملك أيضًا، وكلاهما متديِّنٌ فالأولَى لهما، أن يَكتفيَا ذاتيًّا ويتَّخذَا من "المهر" سبيلًا إلى الرغبة المُتبادلة فيما بينهما، وليكن المهر أي شيء ولو كان قليلًا.
وطلَبُ السائل مِن أبيه، أن يدفع له المهر، ربما يُحرَجُ فيه؛ لأن الوالد ليس مكلفًا بالنسبة لأولاده، أن يدفع مُهورَهم، وإن سبق له أن دفَع لبعضهم.
والودائع التي يُشارك بها البنك في مشروعات استثمارية وتُحقِّق أرباحًا تدخل في صميم المضاربة الإسلامية. والمضاربة بالمال نظير جُعْلٍ مُعيَّن، يُقرُّها الإسلام. والمُضاربة تقوم على وُجود خبرة في تحريك رؤوس الأموال، وهي متوفرة في البنك، كما تقوم على وُجود مالٍ لا يستطيع أصحابه النزول به في سوق الاستثمارات. وهو المُمثَّل في الودائع.
والمال إذا كان في التجارة .. أو في المُضاربة.. أو في الحساب الجاري.. وبلغ نِصاب الزكاة، وحال عليه الحول، أيْ مضى عليه عام، فالزكاة واجبةُ الأداء.(158/5)
166 ـ إنِّي مدرِّسة أحببتُ زميلاً مدرِّسًا معي حبًّا شديدًا. وسعينا للزواج وتلاقَينا كثيرًا. وذهب يخطِبني من أهلي فرفضوا مرارًا رغم كل إلحاح منه. فماذا أصنع؟ وقد كان يقبِّلني عند اللقاء حتى صارت القُبلة ضرورةً لا غنى لي عنها. وكيف أتزوّج مع هذا غيره؟ وكيف يزول ذنب القبلة واللقاء؟
الجواب:
إن السائلة قد تورَّطت الآن مع زميلها المدرِّس في علاقة حب ولقاء، وتريد أن تتزوّجه إما لتلبية نداء الحب أو لقاء على ظل شرعي على هذه العلاقة. والعقَبة في طريق الزواج هو أهلها أو كما يُقال وليّ أمرها.
فهل برفض أهلها أو وليّ أمرها يُمكن مع ذلك أن يتمَّ زواجها شرعًا بنفسها ممَّن تحبُّه؟
وهل لو أمكن أن يتمَّ زواجها شرعًا مع رفض وليِّ أمرها تكون مستقِرّة في حياتِها النفسية والزوجيّة؟
أمّا عن السؤال الأول فيجِب في عقد الزواج أمران ضروريّان. الأمر الأول ـ إذن ـ المرأة. لما جاء في الحديث: "لا تُنكح الأيِّم حتَّى تُسْتَأْمَرَ ـ أي لا تزوَّج الثيب حتى يؤخَذ أمرها وإذنها ـ ولا تُنكَح البِكْر حتى تُستأذن. قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت". الأمر الثاني وجود شاهدَي عدْل. لحديث جاء في ذلك: "البَغايا اللائي يُنكِحْنَ أنفسَهنّ ـ أي يزوِّجْنَ أنفسهن ـ بغير بَيّنة" ـ أي بغير من يشهد على الزواج ـ . ولذا يُعتبر الزواج باطلاً من غير شاهدَي عدل.
وأما وجود ولي الأمر في عقد الزواج فأغلب الفقهاء يروْنه ضرورة في صحة العقد. لما ورد في حديث: "لا تزوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوِّج المرأةُ نفسَها". ولقوله تعالى: (وأَنْكِحوا الأيَامَى مِنْكُمْ) (النور: 32). أي زوِّجوا الثَّيّبات من بينكم. فأضاف تزويجَهنَّ إلى الرجال. ولكن الحنفية لا يشترطون وجود الوليّ مطلقًا في عقد الزواج، ارتكانًا على حديث. "الثيِّب أحق بنفسها.(159/1)
والواقع أن وجود: الوليّ أو الأهل.. والشاهدين في عقد الزواج، مع وجود إذنْ المرأة وأمرها في الزواج.. يُعتَبَر تعبيرًا واضحًا عن القيمة الاجتماعية لهذا العقد. وإشهار الزوجية عندئذٍ يكون إشهارًا كافيًا.
وأمّا عن السؤال الثاني وهو صحة عقد زواج السائلة مع مَن تُحبّه من زملائها المدرِّسين، من غير رضاء أهلها أو ولي أمرها ـ بناء على الأخذ برأي الحنفية ـ فإنّها إن أنشأت بهذا العقد علاقة قانونية وعاطفية مع إنسان جديد من الأسرة وهو زوجها.. إلا أنّها ستفقد علاقتها بأسرتِها ولو إلى حين، وفي هذا الوقت الذي تكون علاقتها بأسرتها ضعيفة وغير مُرضية تُشعر بالقلق النفسيّ بسبب ضعفها. ولا تسُدّ مسدَّها أيّة علاقة أخرى جديدة، مهما كانت في بدايتها قويّة.
والأولى للسائلة أن تحاول بلَباقة إقناع أهلها بزواجها من زميلها المدرِّس.. أو تحاول هي أن تقيم في هدوء: الأسباب التي يذكرونها لعدم موافقتهم منه، لعلها تقتنع نفسيًّا بصحتها. وعلى أية حال لا تترك للتورُّط في علاقتها مع زميلها أن يأخذ طريقه، فيحجب رؤية الواقع؛ لأنَّها هي التي ستخسَر فيما بعد، لو انكشف هذا الواقع على حقيقته.
69 ـ عدم مُجامَلة أسرة الخطيب أدَّت إلى فسْخ الخطوبة
تقُصُّ إحدى الآنسات بالقاهرة قصة لها فيما يلي:
إنها كانت مخطوبة لرجل يُبادلها العواطف الطيبة، وتوثَّقت العلاقة بينهما في براءة خالصة، وحدَّدَا بالفعل موعد الزفاف، وفجأةً تُوفِّي أخوها، ولم تقم أسرة الخطيب بمُجاملة أسرتها كما ينبغي ـ كما تقول ـ فانقلبت عاطفة أمها إلى كراهية شديدة لخَطيبها، وأصرَّت على إلْغاء الخطوبة وردِّ الشبكة وحمَلت الوالد على ما أصرَّت عليه، وتمَّ بالفعل فسْخ الخِطبة، وأثَّر هذا الموقف من أمها وأبيها معها في أعماق نفسها بحيث تغلَّبت عليها الحيرة الآن.
وتسأل:
1 ـ هل تُتِمُّ الزواج الآن مع خَطيبها في غَيْبة رضا أهلها؟ وهل يُبارك الله مثل هذا الزواج؟(159/2)
2 ـ أم تُنهي حياتها بنفسها، رغم أنها مُتعلمة ومُتدينة؟
عن الشق الأول من السؤال، وهو إتمام الزواج في غيْبة أهلها فإن مذهب أبي حنيفة لا يَعتبر الوليَّ في عقد الزواج، أبًا أو أخًا أو خلافهما: ركنًا رئيسيًّا، ويستند إلى حديث عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يُروَى عنه بقوله: "الثيب أحقُّ بنفسِها مِن وَليِّها".. فالحديث يشير إلى اكتفاء الثيب بذاتها في عقد قرانها مع خطيبها، ويقيس أبو حنيفة "البكر" على الثيب في الاكتفاء بذاتها هنا في عقد القران.
ولكن جمهور الفقهاء يشترط وجود الولي، وهو الأب أو الأخ ونحوهما لحديث آخر يُروَى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو قوله: "لا نكاح إلا بوليٍّ".. أي لا يَتمُّ عقد القران إلا بوجود وليٍّ، فجمهور الفقهاء يرى وُجود الوليِّ شرط لصحة عقد النكاح بينما أبو حنيفة يراه أمرًا مرغوبًا فيه فقط وليس شرطًا لصحته.
هذا من الوجهة الفقهية، وإذن يُمكن للسائلة من الوجهة الشرعية البحْتة: أن تُتِمَّ بنفسها عقْدَ قرانها على مَن اختارتْه واطمأنَّت إليه، ولكن الأمر هنا لا يتوقف على الإذن الشرعي؛ لأنها تذكُر في هذا الشق من السؤال: سؤالاً مُصاحبًا له وهو قولها: وهل يُبارك الله في الزواج؟
فهي تَعتقد أن رِضاء الأبوين على إتمام زواجها أمر ضروري، وهو كذلك من الزاوية الاجتماعية أو الزاوية النفسية.
فمن الناحية الاجتماعيَّة سينظر أقاربُها وجيرانُها وصديقاتُها وزميلاتُها إلى: أن عدم توافر رضاء الوالدين في عقد زواجها ربما يعود إلى سبب مَشِين أو بَغِيض يتصل بها، وهذا الاستنتاج سيُسيء إلى سُمعتها وإلى العلاقة التي كانت قائمة من قبلُ بينها وبين خطيبها، وربما ـ هكذا قد يظنون ـ يكون الدافع إلى إتمام الزواج من غير رضا أهلها هو الإسراع في إخفاء أمر لا تُحب أن يعرفه الناس عنها وهذا يُضاعف من شأن سُوء السُّمعة.(159/3)
ومن الناحية النفسية عدم توافُر رضاء الوالدينِ على إتمام زواجها سيُسبب لها القلق وعدم الاطمئنان حالاً، ومُستقبلاً، فالمرأة إذا ما تزوَّجت وانتقلت إلى بيت الزوجية تعود فتذكر أهلها كسَندٍ أو كعَصبية لها تَرجِع إليهم في أزَمَاتها.
والإنسان في حياتِه مُعَرَّض إلى الأزَمَات بسبب أو بآخر فإذا ما شعرتْ بفراغ وتلَفَّتتْ حولها فلم تجد أعز الناس لدَيْها، وهم الأهل ـ انتابَها الخوف من المستقبل، مهما كانت ثقتها في زوجها ومهما كان وَفاؤه معها.
وليست مباركةُ الله لزواجها التي تسأل عنها إلا هذا الجو النفسي والاجتماعي الذي يخلو من المُنَغِّصَات والإشاعات السيئة، والقلَق، والخوف من المستقبل، ومن المُمكِن إذن أن يُقال لها: إن تمام الزواج في غيبة رضاء والِدَيْها لا تَحِلُّ فيه بركة الله، على معنى أنه لا تتوافر فيه دواعي الاطمئنان النفسي، ولا الأمل القوي في المستقبل.
وعن الشق الثاني من السؤال، وهو إنهاء حياتها بنفسها فإن إنهاء حياة أي إنسان بنفسه لا يُنهى مشكلته، وإنما هو إجراء يُعبر عن إفلاسه وعدم صلاحيته للبقاء وعن ضعفه في مُواجَهة الأزَمات وإنَّ صاحِبَ هذه الصفات ـ عدم الصلاحية للبقاء والضعف في مواجهة الأزمات ـ مُعَرَّض كل يوم وكل لحظة لأن يُنهيَ حياتَه بنفسه؛ لأن المشاكل لا تنقطِع وعدم احتمالها قائم بالفعل.
وما تَذكُره السائلة من أنها مُتعلِّمة كان أولَى بها أن يُعينَها تعليمُها على التفكير فيما تَعتَزِم عليه من الانتحار؛ فالسلبية لا تنفع، وأثرها ضارٌّ بالنفس التي تُهدِّد به لو بَقِيَت على قيد الحياة ولم تُنَفِّذ ما عزمت عليه.(159/4)
نعم: إن في الحياة المادية التي يتهافت عليها الناس اليوم في مجتمعاتنا ما يُؤذي وما تَضيق به الصدور، والناس لكي يَنجوا بأعصابهم فيها، في حاجة إلى الإيمان بالله؛ فالإيمان بالله هو مصدر الأمل لدَى الإنسان، وبالتالي ضد اليأس من رحمة الله وقد أوحى الله إلى رسوله الكريم قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5، 6) ...
ليُؤكد له: أن شأن الحياة لا يستقر على أمر واحد وإنما حياة الناس تتحرك بين طرفين متقابلينِ: بين العُسر واليُسر، بين الصحة والمرض، بين الغِنَى والفقر، بين الحياة والموت، بين القوة والضعف، بين الشدة والرخاء، بين الانقباض والانبساط ... وهكذا.
والمؤمن بالله يُؤمن بهذا القانون في الحياة فإذا كان في حال عُسر في هذه الساعة فيَنتظر اليُسر قريبًا؛ لأن اليُسْر موجود بالفعل وقت العُسْر، وهو يَنبَثِق عنه كما يَنبَثِق ضَوْء النهار من ظلام الليل وأمر التغيير لحَظات: من الضد.. إلى الضد.
والحياة الإنسانية تَخضَع لهذا القانون ولا تَحِيد عنه والإيمان بالله هو الذي يُبعد اليأس عن النفس، ويُقرِّب لها الأمل في التغيير، ويَحمِلها على الصبر لحَظات، ولهذا لا تَعرِض للمؤمنين بالله فكرة "الانتحار" كما لا يُصيبهم توتُّر الأعصاب ولا يَطحَنُهم القلَق والخوف.
والحياة المعاصرة هي حياة التوتر والقلق والخوف، ومرض الحضارة القائمة هو مرض التوتر والقلق والخوف، والسبب في انتشاره هو انتشار الإلْحاد وعدم الإيمان بالله، وانتشار الطُّغْيان بالقوة المادية والاعتماد على المال وحدَه كسَنَد للحياة.
معنى التوكُّل على الله أن الإنسان لو فشل في مسعاه إلى حلِّ المُشكِل فإنه لا يَحزَن؛ إذ ربما يُريد الله له أمرًا آخر خيرًا منه فيَسعَى من جدِيد، وربما يُوَفَّق في سَعْيه الجديد إلى ما لم يُوفَّق إليه من قبلُ.(159/5)
التوكل على الله ركيزة يَعتَمِد عليها الإنسان، إذا طلب الاستعانة عند الحاجة وهو القوة التي تدفع الاضطراب عن النفس والتشويش والخلْط عن الفكر.
وما نُوصِي به الآنسة السائلة هو أن تُحاول الرُّجوع إلى والدَيْها وتَستَرْضِيهِما، وإذا لم يتم زواجها بمَن تحرص على زواجه الآن، فربما يُهيئ الله لها خيرًا منه، وبالتجربة ما يُريده الله ـ وهو ما يقع ـ أفضل في الواقع مما فات وانتهى.
80ـ انفعال البنت، وحرص الوالد في ولايته عليها
مواطنة من إحدى المحافظات تبلغ من العمر الرابعة والعشرين، وهي حاصلة على دبلومٍ عالٍ تجاري، وتحب شابًّا في الثانية والثلاثين، وهو تاجر جُلود ومتزوج زوجتينِ، ولكنه غير موفَّق في زواجه منهما، كما تروي، ومشكلتها أن أباها لا يُوافق على زواجها منه، وأنها أقسمت إذا لم تتزوج منه لا تتزوج من غيره طول حياتها، وتسأل:
كيف السبيل إلى إقناع والدها؟
وهل يجوز لها أن تتزوجه مِن غير موافقة أبيها؟
وهل يَحرم عليها أن تبقَى بدون زواج طول حياتها، إذا لم تتزوجه؟(159/6)
يجب على السائلة قبل كل شيء أن تعرف الأسباب التي تَحمل والدها على عدم الموافقة على زواجها من الشاب الذي تُحبه، فما يُسمى "بالحبِّ" قد لا يكفي في الموافقة على عقد الزواج مِن رجل عنده زوجتانِ أُخريانِ، إذِ الحبُّ عاطفة وميْل للمرأة نحو الرجل، وللرجل نحو المرأة، وقد يكون في بداية اللقاء بينهما قوِيًّا، ثم يضعف بالتدريج، وعندما يضعف لا يصلح أن يكون الرباط بين الرجل والمرأة. الشاب الذي تُحبُّه السائلة إذا سُئل: ألم يكن يحب المرأة الأولى التي تزوَّجها؟ وألم يكن يحب المرأة الثانية التي تزوجها بعدها فأصبحت زوجته الثانية؟.. إذا سُئل عن ذلك فإنه حتْمًا سيُجيب: أنه أحب الواحدة بعد الأخرى، والآن تحكي عنه السائلة أنه غير مُوفِّق في زواجه معهما، وهذا دليل كافٍ على أن الحب وحده، أو العاطفة وحدها لا تُغني عن عناصر أخرى يجب أن تُشارك في قيام الزوجية وتَماسُكها.
... إن الشاب الذي بلغ الثانية والثلاثين من العمر، ويعيش مع زوجتينِ، لدَيه من "التجارب" قطْعًا في جوانبَ عديدة من الحياة، ما يُؤثِّر بها على السائلة، بحيث تُقسم بالله: أنها إنْ لم تتزوجه لا تتزوج أحدًا سواه بعده، طوال حياتها، ثم يُضاف إلى تجاربه: أنه تاجر، ليس مَحدود الدخل، ولا جامد الحركة، فيستطيع في يُسْرٍ أن يُنفق في سَعة، وأن يتحرَّك إلى غير جهة. وهذا الوضْع له إغراؤه على المرأة وجاذبيته في رفقته، وربما لدَى الوالد من الأسباب ما يرى منها عدم الجِدِّيَّة في زواج هذا الشاب بابنته، فزواجه منها قد يكون للاستمتاع بها فترةً من الزمن ثم يعود بعدها يبحث مِن جديد عن الزوجة الرابعة، وأحْرص الناس على سعادة البنت هو أبوها، نعم قد تكون أمها أكثر حرْصًا من الأب على هذه السعادة لابنتها ولكن عواطف المرأة ـ وهي كثيرة وقوية ـ قد تدخل في الحُكم على "السعادة".. ومن أجل ذلك لا يُمثل حُكمها: الواقعَ أو المستقبل المُرْتَقب.(159/7)
على السائلة أن تُراجع آباها في الأمر إذنْ في غير ثورة عاطفية وربما تُقنعه باتجاهها أو يُقنعها هو برأيه، وعندئذ يَتَّفِقَا على حلٍّ مشترك، تُكوِّن فيه مع أبيها جبهةً واحدة، ويكون لها سندًا في حياتها المُقبلة، والمُراجعة هي خير سبيل للإقناع والاقتناع. ...
... أما أن تتزوج السائلة حبيبها من غير موافقة أبيها فرأيُ الكثير من فقهاء الإسلام: أن زواج البكْر بغير وليِّها ـ وهو هنا الأب ـ وبغير شاهديْ عدلٍ باطلٌ، اعتمادًا على أخْذهم بصحة الحديث الشريف القائل: "لا نِكاحَ ـ أي لا زواج ـ إلَّا بوليٍّ وشاهديْ عدلٍ".. وهكذا رأي الأب ضروريٌّ سواءً في الحكم وتقييم الزواج من هذا المحبوب، أو في إتمام عقد الزواج نفسه، عند الاتفاق.
واليمين الذي أقسمتْه على أن لا تتزوج غيره في حياتها إذا لم تتزوجه هو، فهناك حديث شريف يقول: "وإذا حَلَفْتَ على يمينٍ فرأيتَ غيْرَه خيرًا منه فكفِّر عن يَمينكَ، وأْتِ بالذي هو خيْرٌ". "كتاب اللؤلؤ والمرجان ص: 424". وطبعًا إذا لم تتزوج هذا المحبوب لأمرٍ ما، ثم لاح لها زواج آخر في حياتها فمِن الخير، أن تُكفر عن يمينها السابق وتتزوَّج هذا الذي ظهر لها، فإرادة الله هي التي تفصل فيما يقع في حياة الإنسان، وفي هذا الكون كله، والله لا يُريد بالإنسان شرًّا أبدًا.
... وكفَّارة اليمين جاءت في قول لله ـ تعالى ـ: (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ باللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ ولكنْ يُؤاخذُكمْ بمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ فكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عشَرَةِ مَساكينَ مِن أَوْسَطِ ما تُطْعِمونَ أهْلِيكُمْ أو كِسْوَتُهُمْ أو تَحريرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فصِيامُ ثَلاثةِ أيَّامٍ ذلكَ كَفَّارةُ أيْمَانِكمْ إذا حَلَفْتُمْ). (المائدة: 89).
... وبالعُدول عن اليمين السابقة لا يَحرم على السائلة الزواج مُستقبلاً.(159/8)
166ـ الزواج بالأجنبيِّ في الدِّين، والعُرف، والوطن، وأسلوب الحياة: كتب مواطن، لم يذكر موطنًا له ويروي في رسالته:
أن طالبًا أجنبيًّا لا يَدين بالإسلام، وقدم القاهرة ليدرسَ القرآن والسنة وبعضًا مِن الكتب الدينية، واقتنع بأن الإسلام هو دين الله الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلْفه فأشهر إسلامه، وأحسَّ أن حياته ابتدأت من جديد ـ كما يقول، وأمضى في هذه الدراسة مدة عامينِ.
... ولصاحب الرسالة ابنةٌ تعمل في إحدى السفارات الأجنبية التي كان يتردَّد عليها هذا الطالب، وهي تبلغ من العمر أربعةً وعشرين سنةً، وفي الفترة التي كان يتردد فيها هذا الطالب على سفارته تعلَّق بابنة صاحب الرسالة وتعلقت هي به، ويريد الزواج منها، وهي أيضًا تُصرُّ على أن تكون زوجةً له، فهو في نظرها: يُؤدي جميع الفرائض ولا تجد فيه ما يُشينه، وتقول حتى لو أجمع الجميع "أفراد أسرتها" على رفْضه فموقفها منه لا يَتغير وستتزوجه، ويسأل:
كيف يتمُّ الزواج؟
وهل إذا لم يحضر والدها عقد قرانها يكون العقد باطلاً؟
ليس لنا هنا كأفراد للأمة الإسلامية أن نُفتش في ضمائر الذين يُعلنون إيمانهم برسالة الرسول ـ عليه السلام ـ هل هم جَادُّون في إيمانهم أم لا، فقد نهَى القرآن الكريم في قول الله ـ تعالى ـ: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ في سبيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلِيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياةِ الدنيَا). (النساء: 94).
وغاية النهْي عن ذلك هو قبول الإسلام ممَّن يُعلن الإسلام، وهذا الأجنبي ـ كما جاء في رسالة السائل ـ قد أشهر إسلامه، وبذلك يُصبح واحدًا من عداد المسلمين، وهو كُفْءٌ من حيث إسلامه للزواج مِن مسلمة، سواءً أكانت هذه التي تُصرُّ على زواجه أمْ غيرها.(159/9)
ولكن هناك أمرانِ وراء ذلك: أمرٌ فِقْهيٌّ.. وآخر اجتماعيٌّ: ...
أما الفقهي فهو حضور ولِّيِّها ـ والدها أو مَن هو بعده أقرب في عصبيتها ـ عقْد قرانِها وَكيلاً عنها، فيُروى في حديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "لا نِكاحَ إلا بِوَلِيٍّ". أي لا صحةَ لعقْد قران إلا بوُجود وَليٍّ للمرأة، فإذا لم يوجد لها وليٌّ فالحاكم هو وليُّها، ويكاد هذا الرأي الفقهي يكون رأيَ جمهور الفقهاء، كما يرُوى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا تُزوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تُزوِّج المرأةُ نفسَها".
ووجود الوليِّ في عقد القران لا يمنع اختيار المرأة لمَن يعقد عليها قرانه. فالمرأة يُؤخذ رأيها. فإذا كانت ثَيِّبًا وجب أن تُعلن رأيها صراحة، وإن كانت بِكْرًا فيُكتفَى لحيائها بسكوتها، والوليُّ تَلزمه إجازة عقد الزواج إن كان الزوج كُفْؤًا للزوجة، وبهذا لا يكون تصرُّف الولي مطلقًا حسْب هواهُ.
والأمر الآخر الاجتماعيُّ فهو اختلاف العادات والتقاليد في بلَدٍ كمصر.. وبلد آخر كالولايات المتحدة الأمريكية، وهي وطنُ المُرشح للزواج هنا، إن المرأة المصرية التي تعيش مع زوجٍ مصري لها في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية، تُحافظ بقدْر ما يُمكن على بعض العادات والتقاليد الشرقية في حياتها وحياة أسرتها، وزوجها شريكٌ لها فيما تُحافظ عليه مِن عادات بلده وتقاليده، وهذا ممَّا يُسهل لزوجة المصرية تَقبُّل الحياة الأمريكية هناك، مع ما قد يكون بين العادات هنا وهناك من اختلاف واضح، فهل يُمكن للمرأة المصرية أن تعيش مع زوج أمريكي أجنبيٍّ في نشأته وفي مفاهيم الحياة، بحيث لا تُضارُّ نفسيًّا، أيْ بحيث لا يكون لدَيها صراعٌ داخليٌّ بين الجديد وما تعوَّدت عليه من قبلُ؟(159/10)
... فاختلاف العادات والتقاليد ليس في الطعام والشراب، ولكن في المُعاشرة وفي الصحبة والرفاق، ولا أعتقد أن إيمان الأجنبيِّ هنا بالإسلام كفيلٌ بتحويل مَشاعره وأحاسيسه بحيث تكون مُتلائمة مع أحاسيس زوجته المصرية ومشاعرها، أو قريبة منها.
... وعلى أية حالٍ نرجو أن لا تكون ابنة السائل واقعة في إصرارها على الزواج ممَّن أُعجبت به، تحت بَريق الحضارة المادية التي تُزيِّن لها ولغيرها ممَّن هُنَّ في سِنِّها حياةَ التقدم الصناعية، ذلك التقدم الذي قلَّما يُساوقه تقدم في الإنسانية في مَعانيها وقيَمها(159/11)
127ـ خطب لي أهلي فتاة وتَمَّ عقد القِران ولم أرَها إلا ليلة الزفاف. وقد فوجئت أنَّها تكبُرني بعامين وقد صارحْتُ أهلي برغبتي في طلاقها فغضِبوا وصرَّحت لها بشعوري نحوها فازداد عطفها عليَّ مع ملاحظة أنِّي في خارج البيت أكون أسعد من كوني داخِلَه . فماذا أصنع وما الحكم؟
أولاً: كِبَر سِنِّ المرأة في الزواج عن الرجل ليس عائقًا في استدامة العشرة في عقد الزوجية وعلى العكس قد يكون كِبَر سِنِّ المرأة سببًا في رغبتها في البقاء وحرصها على الزوج وعلى مصالحه الخاصة. وفعلاً يُصرِّح السائل بأنه عندما ذكر لها السبب الذي يدعو إلى الطلاق وهو كِبَر سنِّها ازدادت عطفًا عليه وتعلُّقًا به.
وثانيًا: أنَّ الحُبَّ والكراهية قد يرجع أمر كلٍّ منهما إلى التصرُّف النفسي وليس إلى حقيقة قائمة لا تتغير. وعلاقة الزوج بالزوجة ليست علاقة تنفيس جنسي. وإنَّما بالأحرى هي علاقة توادّ وتعاون في الحياة وفي شأن بناء الأسرة وبالأخص في تربية الأولاد وتنشئتهم.
وعلى أساس من هذا المبدأ، وهو مبدأ أن الحبَّ والكراهية يرجع إلى التصوُّر النفسيّ أكثر مِمّا يرجع إلى حقيقة ثابتة لا تتغير ـ يجوز أن يتغير هذا التصور ويجوز أيضًا أن ينطويَ هذا الوضع على خير ومصلحة للطرفين: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19).
وثالثًا: أنَّ هناك طفلةً وُجِدت بين الزوجة والزوج، وهذه وحدها تكفي لتجذِب انتباه أبيها إلى رعايتها وتوجيهها توْجِيهًا حسَنًا. فهي عامل من عوامل المُحافظة على بقاء عقد الزوجية وعلى بقائها في حضانة أمِّها ورعاية أبيها.(160/1)
وفي رأيي أنَّ على السائل أن يُحاول مراجعة نفسه في صلته بزوجته وعليه أن ينظر إلى طفلته نظرة الأب إلى ابنته. ثم بعد ذلك إذا وجد أنَّ استمرار الحياة الزوجيّة أمر مُبغض إلى نفسه وأنَّه سيأتي بضَرَر عليه وعلى أسرته المكوَّنة من طفلة وأمِّها فأمامه الطلاق، والطلاق عندئذٍ آخر حلٍّ يلجأ إليه الزوج إنقاذًا لحياته ولحياة أسرته على السَّواء.
والرأي له، والإسلام لا يُجبِر على جمع يترتب عليه الضرر لأحد الأطراف أو لجميعهم.(160/2)
42 ـ أنا فتاه في الثامنة عشرة من عمري وسأُتمُّ تعليمي بعد سنتين. أحبَّني شابٌّ متزوِّج وله ثلاثة أطفال ويريد الزواج منِّي وأنا أعارِضه؛ لأني أرى أن هذا حرام. ولكنّه اعترف لي بأنه يكرهُ زوجته. فما الحكم؟
هل ترى السائلة هنا أن إقدامها على الزواج بمَن يطلب زواجها ـ وهو متزوِّج وله ثلاثة أطفال ـ حرامٌ بسبب وجود الأطفال ونقص الرِّعاية المترقَّبة لهم؟ أم ترى أن الزواج به حرام؛ بسبب زوجته الموجودة فعلاً وهي أم الأولاد، وما قد يترتّب لها من ضرَر؟
فإن كانت تعتقد أن السبب هو الأول أو هو الثاني أو هما معًا فيجب عليها أن تَحُول دون الضَّرَر الذي سيلحق الأولاد وأمهم. فالمعاملة في الإسلام ـ وفي مقدِّمتها الزواج ـ قائمةٌ على دفع الضَّرَر والحرج ومبدأ: "لا ضَرَر ولا ضِرارَ". هو المبدأ العام في تحديد العلاقة بين الأفراد، كما يرى الإسلام.
وإذا تعيَّن أن منع "الضرَر" الذي سيلحق الأولاد أو أمَّهم، أو هم جميعًا برفض الزواج فيحرُم على السائلة أن تُقدِم على زواج مَن يرغب في زواجها وهو بوضْعِه القائم. وحُبُّه له قد يكون حُبَّ شباب ينتهي بعد فترة، وتأتي بعدها "الصحوة" وهي مليئة بالمشاكل العديدة، ومنها مشكلة الانقطاع عن إتمام التعليم.
أما إذا رأتْ أنه باستطاعتها أن تحول دون هذا الضَّرَر للأولاد وللأم معًا بترويض نفسها وزوجها على حنان الإنسانية والعطف وعلى المشاركة في حياة زوجية كريمة، بعيدة عن الأَثَرة والأنانيّة، وعلى قيامها بواجبها نحو نفسها في إتمام التعليم ونحوه أسرتها الجديدة بالمعاونة المطلوبة.. عندئذٍ لا يترتَّب على زواجها بمَن يُحِبُّها أذى لإنسان آخر، وزواجها به مقبول عند الله.(161/1)
والعبرة في "الحِلِّ" و "الحُرمة" ليستْ بالفتوى ولا بالقضاء. وإنما يرجع الأمر إلى معنى "التديُّن" و "الخشية من الله" أو إلى الضمير الإنساني في الإنسان. ورسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما يقول ـ فيما يُروى عنه: ـ "إنَّما أنا بشر. وأنكم تختصِمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجّتِه من بعض فأقضي له على ما نحو ما أسمع. فمَن قضَيْتُ له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".. يريد أن يُوجِّه به أنظار المؤمنين إلى أن العبرة فيما يحِلُّ للإنسان وفيما يحرُم عليه ليس بقضاء القاضي أو بفتوى المفتي. وإنّما أولاً بالعودة إلى السائلين عن الحكم أنفسهم وبمراجعتهم ضمائرهم.
وهذا دليل على أمرين:
الأمر الأول: على أهمّيّة وجود "التديُّن" في ذات الإنسان. والتديُّن معنى نفسيٌّ يُسائل الإنسان ويراقِب سلوكَه وتفكيره مراقبه ذاتيّة.
الأمر الثاني: على ثقة الإسلام في الإنسان الفرد، وتركه لإيمانه وضميره، قبل حكم القضاء ورأي أصحاب الفتوى.
والسائلة الآنَ عليها أن تُراجِعَ نفسَها مرة أخرى. ولعلَّها تنصح مَن يحبُّها أن يقف قليلاً عند قول الله ـ تعالى ـ: (وعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعروفِ فَإنْ كَرِهْتُموهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19).
134 ـ عمري تسعة عشر عامًا ووالدتي هي التي تتولَّى أموري وإخوتي بعد وفاة والدي. خطبني شابٌّ مجنَّد الآن، وفيه كل المميِّزات الطيِّبة ووافقنا عليه. ثم بعد ذلك تقدَّم لي رجل آخر متزوِّج وله ثلاثة أولاد. وفي الحال وافقت أمّي عليه، وأنا لم أوافق. فهل في سبيل طاعة أمِّي أقبل الزواج من هذا الرجل وأحرم أطفالَه الأبرياء من أبيهم؟
الجواب:(161/2)
من حيث وضع الأم في شؤون الزواج للبنت من الوجه الفِقهيّة فإنّه تستحب مشورتها فحسْب تطييبًا لخاطرها. ولكن ليس لها ولاية في زواجها، لحديث ابن ماجة: "لا تزوِّج المرأةُ المرأة". إذ الولي الشرعي في الزواج هو الأب وإن علا، والابن وإن نزل.
ومن حيث موافقة البنت البِكْر ورضاها بمَن تتزوَّجه فهو شرط أساسيٌّ للحديث الشريف: "الثَّيِّب أحَقُّ بنفسِها، والبِكْر تُسْتَأمَرُ ـ أي تُستأذن ـ وإذنها سكوتها".
وفي رواية لأبي داود وأحمد أن "جارية بكرًا ـ أي بنتًا لم يسبق لها زواج ـ جاءت إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت أنَّ أباها زوَّجها وهى كارهة، فخيَّرها النبيُّ، صلي الله عليه وسلَّم" أي بين بقاء عقد الزواج أو فسخه.
والفقه الحنفي لا يشترط الولي إطلاقًا بل للمرأة، ولو بكرًا، أن توكِّل غَيرَ وليِّها، ولها أن تزوِّج نفسها.
وبِناءً على ذلك فالشابة السائلة من حقِّها ألاَّ تطيعَ والدتها فيما وافقت عليه من زواجها بأب الأولاد الثلاثة وليست هناك معصية في مخالفتها. ولها الحقُّ الكامل في اختيار من تتزوَّجه مستقبلاً.
ولكنَّ الخلاف بين البنت وأمِّها ـ فيما يبدو ـ ليس من الوجهة الفقهيّة في الجواز أو عدم الجواز، وليست في الوجهة الدينيّة في المعصية والطاعة. وإنما هو خلاف يرتبط أكثر بمصير الزوجية من الوجهة الاقتصادية.
فالأم ترى ضمان مستقبل ابنتها في الزواج يرتبط بالوضع المالي لأب الأطفال الثلاثة. فوضعه في نظرها وضع مأمون، رغم أن أولاده الثلاثة يشكِّلون مشكلاً في المستقبل لابنتها، ليس بينها وبينهم فحسْب، وإنما أيضًا بين البنت وزوجها.(161/3)
والبنت تنظر إلى الشابِّ المجنَّد من زاوية أنّه يقارِبها في السِّنِّ، وأنه ليست له مشكلة كتلك التي للرجل الآخر، وتتغاضى عن الوضع المالي الذي له. وهو وضع لا يسمح ـ على الأقل في السنوات الأولى من الزواج ـ بالإنفاق على أسرة مستقِرّة، إلا إذا كان هناك مورد آخر من عملها مستقبلاً، أو من مساعدة عائليّة له.
والتوفيق بين زاويتي النظر ليس سهلاً. فيصعُب الجمع بين شخص منهما بين شاب المجنّد وخُلُوّه من المشاكل الأسرية من جانب، والقدرة الاقتصادية على الإنفاق لدي أب الأطفال الثلاثة وفارِق السِّنّ ومشكلة الأولاد عنده من جانب آخر.
والرأي هو أن ترجِئ السائلةُ ـ ولم يتجاوَز عمرها الآن التاسعة عشرة ـ زواجها لفترة أخرى حتى ينتهيَ المجنَّد من خدمته، وتُباشِر الآن عملًا أو دراسة تُفيد منها في حياتها المُقبلة. وعلى الأم أن تخفِّف قليلاً من عاطفة الحنوِّ على ابنتها، حتى لا تدفعها إلى ما يعقد عليها الحياة وليس لها من التجارب ما تواجه به مشاكِلَها.(161/4)
125ـ إنَّني شابّة متعلِّمة أعمل بالتدريس وقد وضعت التقاليد عندنا ابنَ عمِّي في طريقي ووافق الأب على خطبته لي ولم يكن لي أيُّ رأي أو مَشورة رغم أنّه أُمِّيّ وسيِّئ المعاملة ومُنَفِّر ولا تميل نفسي له. فما الحكم؟
... الجواب:
هذا السؤال ينطوي على جانبين:
... ـ الجانب الأول أنَّها خطبت على غير رغبة منها.
... ـ الجانب الثاني أنه سيِّئ المعاملة ومنفِّر ولا تميل نفسها له.
... وكِلا الجانبين كَفيل بفَصْم عُرى عقد الزواج إن وجد فضلاً عن الخطبة.
... فيَروِي أحمد وأبو داود وابن ماجة والدارقطني عن ابن عباس:
... "أنَّ جارية بِكرًا أتتْ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت أن أباها زوَّجها وهى كارهة فخيَّرها النبي، عليه الصلاة والسلام" أي أنَّه خيَّرها بين الفرقة والاستمرار في عقد الزواج.
... وعلَّق صاحب نيل الأوطار بقوله:
... "وظاهرة أحاديث الباب ـ باب إذن المرأة في الزواج ـ أن البكر البالغة إذا زُوِّجت بغير إذنها لم يصح العقد". وأما الثيِّب فلا بُدَّ من رضاها من غير فرق بين أن يكون الذي زوَّجها الأب أو غيره.
... وبناءً على ذلك فصاحبة السؤال غير ملتزِمة بالخطبة التي تمَّت أما الجانب الثاني، وهو جانب أنه أمِّي وسيِّئ المعاملة ومنفِّر ولا تميل نفسها إليه ـ فهو جانب يحمل على الفُرقة بين الزوجة وزوجها إن كان هناك عقد زواج أصلاً. وبالأولى لا يدفع إلى الزواج. فعقد الزواج شُرِعَ عندما تكون هناك مقدِّمات تدعو إلى السُّكْنى والمودة والرحمة بين الزوجين.
... وما ذكرته السائلة هنا يكون مقدِّمة ـ على الأقل من جانبها ـ تحول دون السُّكنى والاستقرار فضلاً عن المودة والرحمة المُتَبادَلَة.
... وبناءً على ذلك فالسائلة ـ ومَن على شاكلتها ـ لا يلتزمْنَ بالدخول في عقد زواج مع مثل هذا الرجل.(162/1)
5 ـ زواج المسلم بفتاة مسيحيّة
شابٌّ مسلم يريد أن يتزوّج بفتاة مسيحيّة، على استعداد لتُعلِنَ إسلامها رغم مُعارَضة أهلها في الزواج منه. وهو يقول إنَّ أهلي كذلك لا يوافِقون على الزواج منها لمَا يترتَّب عليه مِن مشاكل هم في غنًى عنها، فهل يُقْدِم على الزواج مع ذلك أم يَكُفُّ عنه؟
الإسلام لا يَغلِق الباب بين المؤمنين برسالة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من جانب وأهل الكتاب السابقين مِن اليهود والنصارَى من جانب آخر، كما يُغلِقه بين المؤمنين والمُشركين، وهم الجاهليُّون أو المادِّيُّون في الحياة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فالإسلام أَحَلَّ طعامَ أهل الكتاب للمؤمنين، جاء ذلك في قوله تعالى: (وطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة:5). كما أحلَّ طعام المؤمنين لأهل الكتاب فيما جاء في قوله: (وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).
والإسلام أباح زواج المؤمنين بالعَفيفات من الذين أوتوا الكِتاب من قبلنا أُسوةً بزواج هؤلاء المؤمنين بالعَفيفات من المؤمنات، فقد جاء قول الله تعالى: (والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الذِينَ أُوتوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُموهُنَّ أُجورَهُنَّ) (المائدة:5). أي أحلَّ لكم الزواج من العَفيفات مِن المُؤمنات والعفيفات من أهل الكتاب السابقات إذا دفعتُم إليهنَّ جميعًا مُهورهنَّ.
بينما لم يُبِحْ زواج المؤمنين بالإسلام من المشرِكات، أي المُلْحِدات الكافرات بالله ورسوله، إلا إذا تحوَّلن عن شِرْكِهن إلى الإيمان بالله وحده (ولاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ولَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ولَوْ أَعْجَبَتْكُمْ). "البقرة:122"(163/1)
والفرق: أنَّ عداوة المشركين والمشركات للمؤمنين عداوة أصيلة، والفجوة بين الطَّرَفينِ فجْوة كبيرة لا تَضيق أبدًا: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ واللهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ والمَغْفِرةِ بِإذْنِهِ). (البقرة:221) بينما أهل الكتاب يشتركون مع المؤمنين في الإيمان بالله واليوم الآخر، وبالأخصِّ النصارى، فهُم أقربُ الفئات كلِّها مودّة للمؤمنين: (ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للذِينَ آمَنُوا الذِينَ قَالُوا إِنَّا نصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْبَانًا وأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرونَ. وإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. ومَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ ومَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ ونَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْري مْنْ تَحْتِها الأنْهارُ خَالِدينَ فِيهَا وذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنينَ). (المائدة:82 ـ 85) والسائل هنا، كي يتزوّج بفتاة مسيحيّة لا يتوقّف حِلُّ الزواج منها على أن تُعلن إسلامها، بل إعلان إسلامها كشرط للزواج لا يَرضَى عنه الله؛ لأنَّها شِبْه مُكرَهةٍ عليه حينئذٍ، والإيمان بالله مقبول عنده ـ جَلَّ جلاله ـ إذا توافرت فيه المشيئة التامّة، وتوافر فيه الوعي الإنساني غير المشوب بشائبة الذُّهول وعدم القدرة على التركيز.
والمشكل ـ كما يراه السائل ـ في عدم مُوافقة أهل الزوجة، وفي رأيي أن الزّواج يجب أن يكون طريقًا للقرْبَى وليس للخصومة وجلب النزاع أو إثارة القلَق النفسيّ.
يجب على السائل أن يُراجع نفسه قبل الإقدام على إتمام الزواج: هل يستطيع هو ومن يتزوّجها أن يعيش في عُزلة عن أهلها؟ وهل هي ستكون سعيدة بزواجها مع ذلك؟(163/2)
الزواج مسئولية أسرة، ومسئولية الحفاظ على العلاقات الإنسانية فيها وفي محيطها. الزواج أمانة، ولا بُدَّ أنْ تكون الأمانة عند مَن يُؤتَمن عليها.(163/3)
42 ـ زواج المُتْعَةِ
يسأل أحد الموظفين عن زواج "المتعة":
1 ـ هل لمُدّة محدودة؟
2 ـ ما مصير الطِّفل الناتج عن هذه الزِّيجة؟
3 ـ هل يَتِمُّ هذا الزواج بلفظ: "الهِبة"؟
في العهد الجاهلي، وهو العهد السابق على الإسلام كانت هناك عدة أنواع معروفة مِن العَلاقات بين الرجل والمرأة وكانت تمارَس في غير حرَج:
1 ـ كان هناك الزواج الذي يُقِرُّه الإسلام الآن وهو الزواج القائم على الإيجاب من المرأة أو وَليّ أمرها.. وعلى القَبول من الرجل أو وليّ أمره مع وُجود شاهدين. وبعد خِطبة رأى فيها الرجل من المرأة ما جعله يُقبل على زواجها، ورأتْ فيها المرأة من الرجل ما جعلها تُقبل على زواجه.
2 ـ وكان هناك ما يُسمَّى بنِكاح "الشِّغار" وهو أن يُزوج الرجل ابنته، أو أخته لرجل آخر على أن يزوِّج هذا ابنته أو أخته كذلك لذلك الرجل الأول دون أن يكون هناك صَداق أو مهر للمرأة هنا أو هناك.
وقد رفضه الإسلام؛ لأنَّه يرى فيه أنَّه حَوّل المرأة الإنسان إلى أن تكون بمَثابة المَهْر لامرأة أخرى. وهذا خفْضٌ لمستوى الإنسانية في المرأة.
3 ـ وكان هناك ما يسمَّى بزواج "المتعة" أي بزواج لا يُقْصد منه سوى استمتاع الرجل فترة من الزمن بالمرأة دون قصْد آخر إلى النسل أو الاطمئنان والمودّة بين الطرفين.
وهو زواج مُؤقَّت بمدة معلومة والأجل شرط فيه كاليوم والسنة والشهر وكذلك المهر، ويُقدَّر بالتراضي فإذا انتهى الأجل المحدَّد وقعت الفرقة بين الاثنينِ دون طلاق.
وأهل السُّنّة يرَوْن بُطلانَ هذا العقد؛ لأنّه قائم على التوقيت، والتوقيت خلاف مُقتضَى عقد الزواج، وهو دوام الزوجيّة والدليل على بُطلانه ما صَحَّ عندهم من حديث يُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "يَا أَيُّها النَّاسُ إِنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لكم في الاستمتاع من النساء وإنَّ الله حرَّم ذلك إلى يوم القيامة".(164/1)
فالإذْن بزواج المتعة كان لضرورة الحروب التي كان يُباشِرها المؤمنون، وهم بعيدون عن أهلهم ومنازلهم. وتحريمه كان لمَا سيترتّب عليه من الفساد والخروج عن الزواج الصحيح وإقامة الأسرة المُتماسِكة التي تُحقِّق السكنَى والاطمئنان، والمودة، والرحمة بين أفرادها.
ولذا جاء القرآن الكريم بوَصف المؤمنين في قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون 5 ـ 7)... أي المُعتدون.
فالقرآن هنا يَقصر الحلَّ في معاشَرة النساء على الزوجات. وهن اللاتي قامت بينهُنَّ وأزواجِهن علاقةٌ "شرعيّة" كما أقرَّها الإسلام في العَقْد المعروف.
أمّا الشيعة فلا ترى بُطلانًا لعقد المتعة وهو صحيح عندهم بشرط:
أ ـ أن ينعقد بلفظ: زوَّجتك ـ أنكحتك ـ متعتك. وليس بلفظ وهبتك.
ب ـ وأن تكون الزوجة مسلمة، أو كتابيّة.
ج ـ وأن يُذكَر المهر في العَقْد.
د ـ وأن يكون الأجل مُحدًّدًا ومعروفًا.
هـ ـ ولا يَثبت ميراث بين الزوجين في عقد المُتعة أمّا بالنسبة للولد فإنّه يرِثُهما ويَرِثانِه.
و ـ ولا يصحُّ تجديد العقد قبل انقضاء أجله.
ز ـ ولا يقع طلاق بالمُتعة عندهم. وانتهاء الأجل هو المُفرِّق بين الزوجينِ.
زواج المُتعة إذن كان مِن أنواع الزواج التي راجت ـ وتَروج ـ في العهد الجاهلي أو العهد المادِّيّ، بجانب أنواع أخرى كلُّها تتَّجه إلى الاستخفاف بالمرأة ومنزلتها.(164/2)
فزواج المتعة كما شرَحْنا هنا ليس له من هدف سوى استمتاع الرجل بالمرأة فترة مِن الزمن طال الزمن أو قصُر. فإذا انتهى الأجل أصبحت غير مشغولة بالرجل الذي كان معها. ولرجل آخر. ولآخر بعده ولثالث بعدهما أن يستمتع كل منهم بها فترة مِن الزمن طالت أو قصرت... وهكذا المرأة في زواج المتعة يتداولها الرجال للاستمتاع وليس لشيء آخر وراءه.
وزواج الشِّغار أيضًا هو نوع كان شائعًا ويَشيع، في الجاهلية المادِّية وهو جعل المرأة مهرًا لامرأة أخرى. على معنى: تُزوَّج من رجل على أن يعطي هذا الرجل ابنتَه أو أخته لمَن يتزوَّج هو ابنته أو أخته. فزواج الشِّغار مبادَلة يخلو تمامًا من تكريم المرأة واحترامها.
وهناك في الجاهلية أنواع أخرى تَدفع بها المادِّيّة عندما تَطغى وتُسيطر وفيها تجد المرأة نفسها بين رجال لا يَرون فيها أدنَى مستوى الإنسانية.
والإسلام بما أنه يُحافظ على الاعتبار الإنساني في المرأة والرجل على السواء أبطل جميع أنواع الزواج ـ ومن بينها زواج المتعة التي كانت سائدةً في الجاهلية ـ وأبقى على النوع الذي ارتضاه.
وهو أن يكون الزواج لبناء الأسرة ولمَودّة الطرفين، ورحمة كل منهما للآخَر وليس للاستمتاع المادِّيّ والجنسيّ فحسْب ولا لأيّة فائدة مادِّية يُمكن للرجل أن يَحصُل عليها مِن المرأة بما يُسمَّى الزواج.
والسائل يجب أن يعرف الآن أن زواج المتعة.. وزواج الهبَة.. وأي زواج آخر غير المَعروف في كتاب الله وسُنّة رسوله، هو عقد باطل ظاهره أنه زواج.. وباطنه تَحلُّل وعبَث وفجور.(164/3)
60ـ الزوجة وسوء العشرة من الزوج وأهله:
سيدة لم تُشر إلى موطنها، تذكر أنها متزوجة منذ اثنينِ وعشرين سنةً، وكان عمرها إذْ ذاك خمسةَ عشر عامًا، ولم تتزوج عن رغبةٍ منها، بل إرادةُ والديها هي التي حملت على عقد الزواج بينها وبين زوجها.
وبعد أن دخلت به عَرفت أنه لا يُصلي.. وأنه يَسُبُّ الدين.. وأنه أنانيٌّ كثير الحلِف بالله وبالطلاق كذبًا.. وأنه لا يتعفَّف عن النظر إلى النساء نظرةً مُنكَرة.. وأنه لا يحترمها كزوجةٍ ولا يرعى مَصلحتها، حتى إذا مَرِضتْ أنكر عليها المرض، وتمنَّى لها الموت العاجل.
... وقد أنجبت منه سبعةَ أولادٍ: ثلاثَ بناتٍ، وأربعةَ ذكورٍ، أكبرهم بلَغ مِن العمر عشرون عامًا.
... وبدلاً من أن تكون العلاقة الزوجية مصدرًا لقوة الترابُط عن طريق المصاهرة أصبحت علاقة أُسرتها بأُسرة زوجها في غاية السوء والقطيعة وذلك منذ الدخول بها.
... وقد تحيَّزت إلى أهل زوجها الآن قُرابة عشرين عامًا، وبَاشرت كل سبيل لإرضائِهم وأبعدتْ عنه كلَّ تأثيرٍ لوالديها ضد زوجها أو ضدَّ أهله، وقبلت هذا الموقف حتى تتمكَّن مِن مُباشرة التربية والتوجيه لأولادها السبعة.
...
... ورغم موقفها مِن أهلها فإن زوجها شديدَ الكراهية لهمْ ولا يُطيق أن يراهمْ عنده في منزل الزوجية لزيارتها. إذْ عندما يأتي واحد منهم إلى منزله يأمرها بالخروج من المَسكن ولقائه في الشارع، ويَنهال عليها بالسِّباب والشتائم وأمام سكان المنزل، وفي شتائمه يُقذع ويَبتذَّل في صورة تنُمُّ عن البُغْض الشديد لها ولأهلها.(165/1)
... وتسأل سؤالينِ: أولهما: أنها منذ سنةٍ ابتدأت تُعامل حماتها مُعاملة تنطوي على الإهمال وعدم الاهتمام بشأنها، وليس كما كان الموضوع قبل ذلك إعلانًا عن احتجاجها ضدَّ أهل الزوج، فهل هذه المعاملة يُحرِّمها الإسلام؟ أي هل يحرم الإسلام أن ينتقص مِن اهتمامها بوالدة الزوج سيدة كبيرة السِّنِّ، وربما لا دخل لها في مُقاطعة الأسرتينِ بعضهما لبعض؟؛ وإنما لأنها ضعيفة لكبر سنِّها ولا تستطيع مُواجهتها في إهمالها.
وثانيهما: ماذا تصنع؟ هل تترك لزوجها المنزل كما تترك له الأولاد وتمشي لحال سبيلها عند أهلها؟(165/2)
الزوجة السائلة هنا مُتدينة، ومن أجل ذلك تُنكر على زوجها عدم تديُّنه.. عدم أداءه العبادات.. وعدم تهذيبه في المعاملة.. وعدم احترامه لزوجته.. وعدم رعايته شأنها إذا ما مرِضت.. تَعيب عليه كثرة الحلِف بالطلاق وبالله كذبًا وباطلاً.. تعيب عليه تبجُّحه في نظْرته إلى النساء. ...
... والفجوة إذن بين الزوجينِ واسعة.. والزواج لا يستطيع التقريب بينهما فلا يستطيع أن يُحوِّل الزوج إلى إنسان مُهذَّب مُتديِّن، مؤمن بالله يرعَى مسئوليته أمام زوجته وأولاده أهله، كما لا يستطيع أن يُبعد الزوجة عن تديُّنها، ويُحيلها إلى إنسانٍ يسعد بقَطيعة الأهل وعُقوق الوالدينِ التي أجبرتْ عليها وبالكراهية لهما، التي يُعبِّر عنها الزوج في سِبابه وشتائمه البذيئة لهما أمامها، فارتباط الزوجة بالإيمان بالله يَزيد في احترامها لوالديها وفي الرغبة في الإحسانِ لهما، ومَن يَزيد في احترامه وإحسانه للوالدينِ يتأذَّى نفسيًّا عند سماعه لإهانةٍ تُوَجَّهُ إليهما.
... وإذَنْ مصير مثل هذا الزواج إلى "العدَم" وهو معدوم هنا بالفعل بين الزوجين منذ ظهور القطيعة والبغضاء بين أهليهما، ورِباطُه واهٍ.. وضعفُ الزوجة واستكانتها بسبب الأولاد من جانب، وأمَلها في إصلاح الحال من جانب آخر هو الأمر الذي أطال في مدة هذه الزيجة وأبقَى على شبَحها حتى الآن.. حتى يَئستِ الزوجة فتسأل هنا عن تسريحِ نفسها وترْك الأولاد ومَنزل الزوجية، للإقامة عند أهلها.(165/3)
حِكْمة الله في الزواج: أن جعَله الله مَصدرًا لاطمئنانِ كلِّ مَن الزوجينِ بسبب وُجودهما معًا.. ومَصدرًا لمودتهما بعضها لبعض.. ومصدرًا لرحمة القويِّ للضعيف منهما، ويقول الله في ذلك: (ومِن آياتِه أنْ خلَقَ لكمْ مِن أنفسكُمْ أزواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وجَعَلَ بيْنكمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً إنَّ في ذلكمْ لآياتٌ لقومٍ يَتَفَكَّرُونَ). (الروم: 21). أيْ ولكن هذه الحكمة لا تظهر إلا لأُولئكمْ الذينَ يتفكَّرون في خلْق الإنسان ويَستخلصون مِن خلْقِ اللهِ لنوعَيِ الإنسان من الذكورة والأُنوثة دليلاً على وُجوده ووحدته في الأُلوهية وفضله على البشر. ومَن لا يعرف الله ومَن لا يأخذ نفسه بدِين الله يقف في إدراك قيمة زواج الذكر بالأنثى عند حدِّ المتعة الجنسية أو عند حدِّ النَّسْل والولد. كما يقف في فهْم قيمة الأكل والشرب عند حدِّ الاستمتاع بما يأكل ويشرب فقط. فإذا انتهى مِن أيةِ متعة منهما لم يهتم قليلاً أو كثيرًا بالمصدر الذي استمتع به.. لم يهتم بالمرأة التي عاشَرها، ولا بمَن أعدَّ له الطعام والشراب الذي تناوَله.
وأغلب الظنِّ إذا ما تركتِ الزوجة منزل الزوجية، وتركت أولادها لأبيهم، وأقامت عند أهلها: لا يُغيِّر مِن وضْع العلاقة بينها وبين زوْجها.. ولا مِن وضْع الأولاد عند أبيهم، شيئًا، فالزوج باقٍ على كراهيته لأهلها.. وباقٍ على عدم احترامِه لها.. وباقٍ على إهمال شأنها، والأولاد لا يتأثَّرون كثيرًا ببقائهم عند أبيهم في حال عدم وُجود والدتهم بينهم. فهم سبعة أولاد. ومنهم مَن بلَغ سِنَّ العشرين، بالإضافة إلى أن علاقة أبيهم بأُمِّهم ـ وهي على نحْو ما رأينا من السوء لمدة تزيد على العشرين عامًا ـ لا تُتيح لوالدتهم أن تفعل لهم مِن الرعاية ما تريده هي لهم. إذْ يبدو أن له السيطرة في المنزل وفي التوجيه، والأم إذا كانت مُهمَلة مِن أبيهم فإرادتُها مَشلولةٌ حتى مع الأولاد.(165/4)
أمَّا إهمال الزوجة السائلة هنا لحمايتها في السِّنِّ الأخيرة معها فلا يُبرره أن صبر الزوجة على السكوت عن كراهية الزوج لأهلها كادَ أو ينفد. وهي من أجل ذلك ترفع احتجاجها وتُعلن في صورة إهمالٍ لشئون أُمِّ الزوج، وهي حماتُها.
... إن الزوجة في السنين الماضية كانت لا تُقصر في حقِّ حَماتها، إمَّا بسبب تديُّنها وإمَّا على أملٍ أن تُساعد رعايتها لأم الزوج: على تراخي التوتُّر بين الأسرتين، وعودة العلاقة الزوجية إلى طبيعتها، وإذا كان الأمل قد ضعُف في ذلك فلا ينبغي أن يضعف تديُّنها فلا يدفعها إلى عدم رِعاية إنسانٍ ضعيف في حاجة إلى الغير في رعايته.. وهو حماتها.
... وطالما الزوجة السائلة في بيت زوجها فلا تُقصِّر في حق الرعاية لحماتها ولتكن آخر صورةٍ لرعاتها كأول صورة لها منذ أن اختلطت بها.
أما ترك المنزل.. وترك الأولاد فليس هناك مِنَ الأسباب الاجتماعية .. ولا مِن الإسلامية، ما يدعو إلى ابتذال نفسها عند زوجها، وأولَى أن تسأله الطلاق أولاً.. فهو امتحانٌ عمليٌّ لإرادته في تحديد العلاقة بينها وبين زوجها، وقد شُرِع الخُلع في الإسلام لمثل وَضْع السيدة السائلة، فهي مُتضررة ولا تستطيع أن تُغيِّر شيئًا مَا في العلاقة التي بينها وبين زوجها.(165/5)
157ـ آثار الحضارة المُستورَدة
كتب طالب بإحدى الكليات العملية في السنة النهائية، يقول إنه نشأت بينه وبين زميلة له علاقة حبٍّ طاهر، وعَقد قرانه عليها أمام بعض الزملاء، وشهد اثنانِ منهم على القران، ثم قابَل والدها بعد ذلك، واتَّفق معه على أنه سيُقدم الشبكة بعد التخرُّج ويعقد القران عليها، ووافق الوالد على ذلك.
ويَسأل: هل هذا الزواج صحيح، علْماً بأنه أعطاها خمسًا وعشرينَ قرشًا مَهرًا؟
على حسب ما يذكره السائل يكون قد توفَّر في هذا العقد:
أولاً: إيجاب الزوجة، وقبول الزوج، فهي تكون قد عرَضت زواج نفسها بنفسها عليه، وهو بنفسه قد قبل الزواج منها.
وثانيًا: المهر وقدره خمسةٌ وعشرون قرشًا.
وثالثًا: شهادة اثنينِ على صحة عقد الزواج.
بينما يكون قد غاب عن هذا العقد وليُّ الزوجة وهي بكْر، بالإضافة إلى أمرينِ آخرين جرَت بهما العادة: إشْهار الزواج والإعلام به، وتوثيق عقد الزواج توثيقًا رسميًّا في سجلات الدولة.
... وغياب وليُّ الزوجة وهي بكر عن عقد الزواج: يُبطل صحة العقد، لحديث صحيح يُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا نِكاح بدونِ وّلِيٍّ"، أيْ لا يصح العقد بدون وليٍّ، وعدم صحته بالنسبة للبكر على سبيل القطْع، والولِي هو الأقرب مِن العَصَبة من النسَب، والأب إنْ كان على قيد الحياة هو أقرب العَصَبة، وهو الوليُّ للبكر، نسَبًا، وإذًا في سؤال السائل لم يكن أبُ الزوجة طرَفًا في العقد معه، وغياب الوليُّ كافٍ الآن في بُطلان العقد.(166/1)
... أما ما عرضه السائل على والد الزوجة من أنه سيقدم الشبكة بعد التخرج، ويعقد القران عليها، ثم ما يَذكره من مُوافقة الوالد على ذلك: فلا تُعتبر مُوافقته هنا تعبيرًا عن الإيجاب المطلوب في عقد الزواج، وهو أن يقول الوليُّ للزوج برِضًى واختيار حُرٍّ: "زوَّجْتك ابنتي فلانة" على المَهر المُسمَّى بيننا، وعلى كتاب الله وسُنة رسوله عليه السلام"، كما يُعبر كلام الطالب السائل لوليِّ الزوج عن قبولٍ للزواج من ابنته، عندما يقول: بعد التخرُّج سنُقدم الشبكة ونعقد القران، بل ما يُروى مِن كلام هذا، وكلام ذاك: لا يخرج عن قولٍ لعابرِ سبيلٍ، لا ينعقد به عقدُ زواجٍ.
... وبناء على غياب وليِّ الزوجة عن عقد الزواج، وبُطلان العقد مُؤسَّسًا عليه: لا يجوز للطالب السائل ولا زميلته: الاختلاط، أو اللقاء، أو الخَلْوة ببعضهما، والحب الذي بينهما لا يُصحِّح لهما أي شيء مِن ذلك.
... والعقد "العُرفيُّ" الذي يَغيب عنه وليُّ الزوجة البكْر لا يُعتد به إذَنْ، وهو فقط مصيدة للمرأة، مهما اعتَدَّت بشخصيتها وادَّعت أنها وَلَيِّةُ أمر نفسها.(166/2)
أما غياب إشهار الزواج ـ وهو عُرفٌ جارٍ ـ عن عقد الزواج: فضرره يعود على طرفي العقد، وهما الزوجة والزوج، فلو فُرض أن الزوجة كانت ثَيِّبًا ولها الحق في أن تزوج نفسها بنفسها، أي لا تحتاج إلى واليها في عقد الزواج، وبالإيجاب منها، وبالقبول من الزوج يتمُّ العقد صحيحًا، وتجوز صحة مُباشرته مِن الزوجين في علاقة شرعية بينهما، إلا أن عدم إعلانه ربما يُحدث تَقَوُّلات وشائعات عن هذا الزواج تضرُّ بالزوجة أو بالزوج، أو بهما معًا: ففي حال اختلاطهما، وفي حال سُكناهما معًا،وفي حال خُروجهما وعودتهما إلى المنزل، وفي أحوال أخرى كذلك، ربما يَسمعان أو يُشاهدان ما يُؤذي سمْعَهما وبَصَرهما، ومن هنا كانت عادة الاحتفال "بالزفاف" أمْرًا مرغوبًا فيه لإعلام المعارف والجيران، والحيلولة دون انتشار إشاعة سيئةٍ أو مُغرضة حول العلاقة بين الزوجين والزوجة، والعقد العُرفيُّ يكاد يكون عقْدًا سِرِّيًّا، أو على الأقل غير مرغوب في الإعلام به.
وغياب التوثيق الرسميِّ لعقد الزواج، عن الزواج العُرفي قد يكون سببًا في إلْحاق الضرر بأحد طرفي العقد، عندما تَنحلُّ الزوجية في سِرِّيَّة، أو عندما يذهب كل منهما إلى حاله، غير مُقدِّر لوَضْع الآخر، فقد تكون الزوجة حاملاً ممَّن؟ سيسأل الناس، ومَا مصيره؟ ستسأل الزوجة ويسأل أهلها معها، وقد تكون مَريضة، أو يكون هو مريضًا بمَرض من الأمراض السرِّيَّة لا قدَّر الله؟
في غياب التوثيق الرسميِّ لعقد الزواج تضيع المسئولية الزوجية أو يُهمَل أمرها، والحب ـ كما يقال ـ الذي يُعتبر مسئولاً إلى حدٍّ كبير عن العقد العُرفي يبقى العامل القويَّ في حلِّ مشاكل الزوجية في ظل هذا العقد، لا يبقَى كأيِّ عامل إيجابي في إبعاد شَبَح القلَق، والرِّيبة، وعدم الاستمرار في ظل هذا العقد.(166/3)
... إن العقد العُرفيَّ إذا توفرت شروطه مصدرُ أمانٍ للزوجة أو لها وللزوج، إذا كانت عندهما تربية إسلامية تعتمد على الخشْية مِن الله، والإيمان به، والطاعة لأوامره ونواهيه، والضمير الحي اليقظ في نفس كلٍّ منهما، وإذا كان الزواج بينهما تمَّ على أساس الصلاحية الإنسانية، وليس على أساس الشهْوة الجامحة، أو الزلَّة الخاطئة، أو التورُّط فيما يَشِينُ.
... إن عقد الزواج العرفي لو كانت له صلاحية شرعية: هو سلاح ذو حدَّينِ: قد يكون مُفيدًا للحيلولة دون مباشرة الفاحشة وارتكاب جريمة الزنا،وقد يكون ضارًّا عندما تتعرض المسئولية الزوجية ـ وهي مسئولية مُتعددة الجوانب ـ للضياع أو للإهمال على الأقل، من جانب مَن لا يُدركها أو مَن لا يُؤمن بالقيَم الإنسانية في علاقات الناس بعضهم ببعض.(166/4)
43 ـ واعظ يُسيءُ مُعاملة زوجته بعد أن أحسنَتْ إليه
تشكو سيدة بإحدى المحافظات:
أوّلاً: أنّها تزوَّجت بزوجها الواعظ الآن بإحدى المراكز في سنة 1966 وأنجبت منه ثلاثة أولاد، وحامل في الرابع.
ثانيًا : أنها تزوَّجته وهو طالب بالثانوي الأزهري، وأنفقتْ عليه مما كانت تملِك إلى أن تخرَّج وعُيِّنَ في وظيفته الحالية، وما إنْ عُيِّن واستطاع أن يُنفِق على نفسه حتى تعلَّق بفتاة أخرى موظّفة، ولها صلة قَرابة به، وأخذ يقسُو على زوجته ويَكيد لها.
ثالثًا: استصدر حُكمًا من إحدى المحاكم لأبيه وأمّه وإخوته بخَصْم سبعة جنيهات مصرية مِن مرتِّبه الشهري، حتى يُقلِّل ممّا تحكم به المَحكمة لها عندما تطلب نفقةً لأولاده وفي الوقت نفسه أرسل لها بوَثيقة الطَّلاق وتركها وهي لا تملِك شيئا تعيش منه وحمَلها على السرقة والانحراف. وتطلب الآن الإنفاق على أولاده، وأن يُعطيَها مؤخَّر الصداق وأثاثها الذي وَضَعه عند بعض أقاربه.
مِن لغة السيدة التي تَعرض شَكواها الآن، فيما كتبت إلينا بها: أنَّ عدم وفاء الزوج لها ـ وهو مِن علماء الوعظ ـ له أثَر عميق في نفسها وفي حُزنها، وفي النظرة السوداء إلى الحياة التي تعيشها الآن مع أولادها الثلاثة والرابع الآخر الذي في بطنها.
ولها الحق في أن تغضب، وفي أن تحزن، وفي أن تتشاءم. فليس زوجها بالرجل العادي بل المفروض فيه أن يعرفَ الإسلام ويعرِف حقَّ الزوجة، وحقَّ أولاده عليه وقبل هذا وذاك يعرف حق الوفاء لإنسان وقف بجانبه، بما يملِك من مال وطاقة على الخدمة والمعاونة، وبما له مِن سَند في أسرته، حتى اجْتاز شدة الحاجة في تعليمه ووَصل إلى ما وصل إليه الآن مِن تَعْيينه واعظًا بمدينة كبيرة.
والمَفروض فيه أيضًا أن يكون في حياته العملية، والزوجية والأُسَريَّة قُدوةً حسنةً لمَا يدعو إليه من تعاليم الإسلام وإلا وجب عليه أن يُباشِرَ وظيفةً أخرى بعيدة عن الدعوة إلى الإسلام.(167/1)
إنه لا ينبغي أن يقسوَ عليها إلى حَدٍّ، يُحوِجها إلى السرقة والانحراف إنه يعرف جيدًا قول الله ـ تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة 229).
والإمساك بالمعروف هو المعاشرة المُهذَّبة القائمة على الاحترام المتبادل بين الزوجينِ والإحسان في التسريح، أو في الفُرْقة. والطلاق هو الإنسانية في مُعاملة الزوجة عند فراقها.. هو تمنِّي الزوج لها أَنْ يرزُقَها الله بخير منه... هو تعبير الزوج لها بما يُفيد اعتذارَه عن فِراقها ودعائه لها بالطمأنينة في حياتها المُقبلة وغير ذلك مما يُعبِّر عن أسفه، وعدم توفيقه معها في حياتهما الزوجية بسببه هو.
وليس من المعاملة الكريمة ولا من التسريح بإحسان أن يُقيمَ الزوج دعوَى أمام المحكمة لخَصْم نصيب مِن مرتَّبه لأبيه وأمه وإخوته حتى لا تستطيع الزوجة أن تأخذ مِن مرتَّبه ما يكفي أولاده.. إنَّهم أولاده.. والواجب عليه أن يفكِّر فيما يكفي النفقة عليهم، قبل أن يُفكِّر في نفسه هو، وقبل التفكير في زوجة ثانيةً وتكوين أسرة جديدة.
إنه يعرف جَيِّدًا أن المُطلَّقة، وهي حامل، على زوجها النفقة عليها حتى تضع مولودَها ثم بعد أن تضع عليه أجر الرَّضاعة منها، وأجرة حَضانته، فالله يقول:
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) (البقرة 223).
فليس كونُها أُمًّا للمولود يُسْقِط حقَّها في أجر الرَّضاعة، والحضانة من زوجها السابق.(167/2)
ولعل المُوظَّفة التي تعلَّق بها الزوج، وطلَّق من أجلها أمَّ أولاده وتركها تُصارع في الحياة من أجل لُقمة العيش لهم، ولا تميِّز الحلال من الحرام في السبيل إلى الحصول عليها.. لعلَّها تكون أجملَ من زوجته السابقة، أو لعل مرتَّب وظيفتها يكون قد أغراه ففعل ما فعل.
وأيُّ عاقل يكون قد أنجب أربعة من الأولاد ويفتِّش عن امرأة ثانية قد تكون أجمل من زوجته؟ إن الأربعة من الأولاد قد تُثقل كاهلَه في الإنفاق عليهم، في رعايتهم، وفي تعليمهم.
إنه يكفيه من أمِّ أولاده أن تكون في خدمتهم وخدمته إنه يعيش معها على ذكريات وفائها أفضل من أن يعيش بين أحضان امرأة أخرى ما أجمل الوفاء لو قَدَّره. إن الإسلام ينصح باحترام القِيَم الإنسانية كالوفاء والمودّة، والتعاون وإيثارها على المادِّيّات كالجمال والمال والعصبية.
وأيُّ عاقل ينتظر من جمال المرأة أن يدوم.. وينتظر من صاحبة المرتَّب أن تُعطيَه إيَّاه وتُشارك به في حياتها مع زوجها؟.
جمال المرأة عَرَضٌ زائل إِنْ وُجِدَ اليوم فلا يوجَد غدًا، ومرتَّب الزوجة الموظَّفة أعزُّ عليها مِن زوجها؛ لأنها تعيش مع زوجها على إغرائه. هي تُغري به زوجها. ولكنها لا تتركه ينزل إلى يده وإلا تفقِد عامل الإغراء ومصدر التأثير عليه. إن المرتَّب في يد الزوجة قد يكون مصدر التَّعاسة في الحياة الزوجية بين الاثنين.
ونصيحة الآن إلى الزوج حامل لواء الدعوة إلى الإٍسلام، والذي تشتكي منه زوجته هنا، أن يُسوِّي مشكلة أمِّ أولاده، فيما يتعلّق بالنفقة ومؤخَّر الصداق، وما لها من الأثاث، وخلاف ذلك وأن يكون رجلاً وإنسانًا في ذلك، وأن يذكر الله عندما يُعاملها.(167/3)
فهي إنسان ضعيف بهموم أولاده وبسُلوكه الشائن معها وليتصوَّرْ أنه طُلِبْ منه أن يفصِل في خلاف مثل هذا بين الزوج وزوجته؛ لأنّه يعرف كتاب الله فليُنفِّذ تعاليم الله أولاً. ولْيكنْ صاحب فضْل وإحسان فيما يلتزم نحو أولاده وأمِّهم فالله يقول: (إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود 114).
والحسنات قبل كل شيء هي المُعاملة الكريمة. يجب أن يذهب إليها ويَطرُق بابها مُعتذِرًا ويُقبل على أولاده هاشًّا باشًّا، ويُعلن عن استعداده لمُساعدتها في أية أزمة لها، وليكُن لها والدًا وأخًا بعد أن كان لها زوجًا. فإن ظَفِرَ منها بدُعاء له، تتوجه به إلى الله ـ جَلَّ جلاله ـ في أن يغفر له ما مضى منه، يجب أن يشعُر بالسعادة. والله الموفِّق.(167/4)
43 ـ سَمِعْتُ أنَّ مَن كمُلت صفاتُه التي تؤهِّله إلى الزواج، ولم يتزوَّج يُعتبر عاصيًا. فما الحكم فيمَن كان كذلك ولا يريد الزواج؟
الصفات التي تُؤَهِّل للزواج هي الاستطاعة البَدَنِيَّة على المُعاشَرة الزوجية، والقُدْرة الماليّة على الإنفاق على الزوجة والأولاد عند إنجابهم.
ولكن توفُّر هاتين الصفتين ليس مُلزِمًا لمَن تتوفَّر فيه على الزواج، مادام هو قادرًا على ضبط سلوكه وعدم ارتكابه فاحشة الزِّنى، ومعصية النظرة الآثمة إلى المرأة.
والإسلام إذا كان يحُثُّ على الزواج في بعض أحاديث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه يَقصِد إلى الحيلولة فحسب دون اقتراف الفاحشة أو الإثم. أي يريد الوقاية منها عن طريق الزواج. كما يُروَى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله:
"يا معشرَ الشباب: مَن استطاع منكم الباءةَ ـ أي معاشرة الزوجة ونفقاتها ـ فليتزوَّج، فإنّه أغضُّ للبَصرِ، وأحصنُ للفرج، ومَن لم يستَطِع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء" أي قاطع لثَوَران الشهوة. (في رواية الخمسة: كتاب التاج ج1 ص310).
وإذا كان النصح بالزواج عند الاستطاعة في هذا الحديث قد جاء في صيغة الأمر "فليتزوّج" فلا يخرج مع ذلك عن حَدِّ النصيحة ولكنّها فقط نصيحة مؤكَّدة، للوقاية من الوقوع في خطأ السلوك. وإلا إذا كان الإنسان يملِك أمر نفسه ـ عن طريق الاطِّلاع والقراءة أو طريق العمل الجادّ المُتواصِل. أو طريق الصوم في بعض الفترات فإنه ليس بحاجة إلى الزواج كوسيلة للوقاية.
الإسلام لا يُوجِب الزواج، ولا يُحَرِّمه، وإنّما يُرشد المؤمن فقط. وعليه أن يختار ما هو أنسب إليه، وما يحميه من الوقوع في خطأ الفاحشة والإثم.(168/1)
إن الإسلام يُحَبِّب إلى الإنسان الزواج، كطريق إلى تحمُّل المسؤولية في الحياة، وكوسيلة إلى الوقاية من الوُقوع في السلوك السيِّئ، وكمُشارَكة في قوة المجتمع واستمراره. ولكنه يحبِّبه إلى الإنسان لهذه الأغراض، بشرط أن يستطيعه بدَنيًّا وماليًّا. وإلا كان الزواج عبئًا وضررًا على الزوج وعلى المجتمع معًا.
والإسلام ـ أيضا ـ في الوقت نفسه يَحُول دون "الرهْبَنة". وهى تحريم الزواج عند القدرة عليه والرغبة فيه؛ لأن الإسلام جاء للطبيعة البشرية في خصائصها الإنسانية من العقل والغرائز معًا. ولذا يُروَى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " أَمَا واللهِ إنِّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأُفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمَن رغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي" (رواه الشيخان والنسائي: كتاب التاج ج1 ص310).
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يرى في عدم تزوُّج النساء وتحريم الزواج طريقًا للقُربَى إلى الله، كما لا يرى ذلك ـ أيضًا ـ في صوم الأيّام كلها، أو في قيام الليل كله للصلاة والعبادة. ويرى أن الطبيعة البشرية هي الطبيعة البشرية لها خصائصها التي لا تفارقها: فالأكل والشرب، والنوم، ومُعاشَرة النساء من متطلَّبات هذه الطبيعة.
ولكن الذي يُريده الإسلام لهذه الطبيعة هو: أن لا تُمعِنَ في كلِّ ذلك. فيجعل الإنسان هدف الحياة أكلاً وشُرْبًا، ونومًا ومعاشرة النساء. وإنَّما مباشرة هذه الأمور وسيلة فقط لهدف أسمى منها، وهو: الكفاح من أجل إنسانية الإنسان.. من أجل تهذيبه في السلوك وصفائه في العلاقات مع غيره، وتعاونه في أمته ومجتمعه.
وأنَّ مَن يَقدِر على الزواج ولم يتزوَّج ليس بعاصٍ، مادام يستطيع أن يَكبح جِماح شهوته، ويحول دون الفاحشة.(168/2)
127ـ الزواج بالثَّيِّبِ ..
شاب في سِنِّ الخامسة والعشرينَ حاصل علي دبلوم الصناعة وله أخٌ وأختٌ كل منهما أكبر منه سِنًّا، وكل منهما متزوج ويَسكن بعيدًا عن منزل الأسرة بينما هو يعيش مع والده المُسِنِّ ووالدته المريضة وأُخته الصغرى في إحدى القرى.
عاد من الخدمة العسكرية إلى هذه القرية، فتعرَّف علي سيدة مات زوجها، وتكبره سِنًّا، ولها ولد، يبلغ ستَّ سنوات. ومِن كثرة تردُّده عليها كانت علاقته بها موضوع حديثٍ ببن أهل القرية. واضطرَّ ـ كما يقول ـ إلى أن يتزوَّجها أمام شاهدينِ مِن شُبان أهل القرية، وربما كان زواجه بها زواجًا غير معروفٍ لهم. ولكنَّه رغم هذا الزواج المَشبوه لم يزل أهل القرية يتَحدَّثون عنه وعن علاقته بهذه السيدة فانفصل عنها وتاب إلى الله، كما يقول.
وتُوفي والده وأصبح المسئول عن والدته المُسنَّة وأُخته الصغرى في بيت القرية. وبعد فترة قصيرة من وفاة والده رجع إلى هذه السيدة تحت تأثير إغْرائها، وعلِم منها أنها حامل وعاد الكلام عنهما مرة أخرى فأجمع أفراد أُسرته علي أن يَبتعد عنها للأسباب التي يذكرها في كتابه.
أولا: إنها تَكْبُره في السِّنِّ.
ثانيا: إن لها طفلاً غير شرعيٍّ.
ثالثا: إن سُمعتها سيئة، وهو يعرف ذلك عن قُرب، كما يذكر في كتابه.
رابعا: أنها تُدخن، وقد سبق لها الاتِّجار بالمُخدرات ، وتُمارسها إنْ وجدت الفرصة.
وأصبح بسبب هذه العلاقة يكره نفسه، وتُشير عليه أسرته بأن يتزوج مَن هي في سِنِّه ومِن مُتعلمة تُعاونه في الحياة.
... ويَسأل الآن هل يتزوَّجها إذا كان هو الحلال أم يتركها ويَرْضَى بترْكه إيَّاها عملاً بوصية أسرته؟.(169/1)
والسؤال هنا الذي يُريد السائل أن نُجيب عليه يُصور لنا أن الشاب واقع تحت تأثير عاملينِ، كلُّ منهما يَشدُّه نحوه بقوة: واقع تحت عامل الإغْراء في مُعاشرتها، فهي تكبره سِنًّا، ولها تجارِب مع غيره في المُعاشرة والاختلاط، وهو غِرٌّ دفَعه القدَر إلى أحضانها، دون أن يتيقَّظ حتى هذه اللحْظة إلى واقع أمْرها. والعامل الثاني هو عامل الأسرة وما تَنصحه به، وسُوء السُّمعة وما يُحاول أن يُنقذ به سُمعته، وتردّده في قوله: "إما أن أتزوَّجَها إذا كان هذا هو الحلال أو أتركها وأُرْضي أسرتي).. يدلُّ على أنه لا يَستطيع أن يتخلَّص مِن أحد هذين العاملين الواقع تحت تأثيرهما معًا، رغم أن الطريق إلى الصواب واضحٌ، ولكنه يَفقد الإرادة التي يَحْسِمُ بها مستقبل هذه العلاقة.
امرأة يَعترف السائل بأن سمعتها سيئة في القرية.
... وأنها تُدخِّن وتَتَّجِرُ في المخدرات وتُمارسها، إنْ وَاتَتْها الفرصة.
... وأن لها طفلاً غير شرعيٍّ، وحامل، ولا يَعرف أنه هو صاحب الحمْل.. امرأة هذا شأنها لا يتردَّد إنسانٌ عاقل في البعد عنها والنجاة بسُمعته، وبخُلقه، ودِينه مِن الاتصال بها.
... والقرآن الكريم إذْ يَنصُّ في قول الله ـ تعالى ـ: (الزَّاني لا يَنْكِحُ ـ أيْ لا يتزوج ـ إلاَّ زانيةً أو مُشركةً والزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أوْ مُشرِكٌ وحُرِّمَ ذَلكَ على المُؤمنينَ). (النور: 3).. ليُبعد الإنسان المؤمن بالله أن يتَّخذ رفيق الحياة زوجًا أو زوجة، أو أمَّ الأولاد، ممَّن هو قد باشَر فاحشةَ الزنا، فالمشرك نجِس في اعتقاده، ومَن باشر فاحِشة الزنا لا يُؤْتَمنُ على شيء ما؛ لأنه انتهكَ حُرْمة العِرْض، وهي أشدُّ أنواع الحُرمات للإنسان عند الله.(169/2)
... (الزَّاني لا إلاَّ زانيةً أو مُشركةً والزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أوْ مُشرِكٌ). أيْ أنه لا يُقبل على الزواج مِن زانية أو مشركة تُؤمن بالوَثنية، إلا زانٍ أو مشرك.. وكذلك لا تُقبل على الزواج مِن زانٍ أو مُشرك إلا زَانيةٌ أو مشركة (وحُرِّمَ ذلكَ على المُؤمنينَ).. أيْ أن المؤمنين بالله مِن شأنهم أن إيمانهم يَحُولُ بينهم وبين اختيار الرجل لزانيةٍ أو مشركة، واختيار المرأة لزانٍ أو مشرك، وفي رأي بعض الفقهاء أن عقد الزواج لو تمَّ بينهما يَستمرُّ ولا يَنفسخ، وإنْ كانت هناك حُرْمة ومَعْصية في الإقْدام عليه.
فهل يَبتعد السائل الآن عن الزواج بهذه المرأة بعد سماع هذه الآية الكريمة؟ أغلب الظنِّ أنه إنِ انقطعَ عنها فترةً مِن الزمن سيَعود إليها مِن جديد في غير عقْد زواجٍ بها، وسيَكون وَضْعه معها مُردَّدًا بين الانقطاع عنها والعودة إليها، وهي تَقبل عودته ولا تأسف على انقطاعه، فليست لها قيَمٌ إنسانية تَحْرصُ على التمسُّك بها، بل هي صاحبة مَنْفَعة خاصة إنْ وَجدتْها لدَيها اقْتَنَصتْها منه، وقْتَ أن تتمكَّن منه ثم تتركه وشأنه.
... وأما هو ـ وقد ساءت سُمعته، وضعفت إرادته ـ فقلَّما يجد مَن تُقبل على الزواج منه، وهي صالحة في ذاتها؛ لأنها تخشى أن يعود إلى المرأة السابقة، وهو حتْمًا سيَعود إليها بحُكم أنه ألِفَ وضْعها واعتاد إلى صُحبتها، وضعْف الإرادة ليس له مِن الاستطاعة البشرية ما يُخرجه عن إلْفِهِ ووضْعه المُعتاد.(169/3)
... وإذَنْ يَستوي عند السائل أن يكون جوابُنا بحِلِّ زواجها، أو بتحريمه، فسيَظلُّ بيْنَ بيْن، ولو فُرض وأنه ترَك القرية، وأقام في مكان بعيدٍ عنها، فلا يلْبث أن يتصل بهذه المرأة في صورةٍ ما، إذْ إن عوامل الإقبال عليها عنده يوم أن أقبلَ عليها في أول الأمر لا تتوفَّر مرة أخرى عند الإقبال على امرأة بعدها، وربما كان تَشجيعها له في أول مَعرفته بها، لا يوجد في كَمِّهِ، وفي نوْعِه، عند امرأة أخرى، فاحتلَّتْ هي المكان الأول في نَفْسه ولم تَزَلْ تحتلُّهُ حتى الآن.
... وهذا ما يدفعه إلى الاتصال بها بعد انقطاع.
ولعل الشاب يَعْتبِر بهذه المأساة الخُلقية الاجتماعية فيَختار صاحبة الدِّين والسلوك الطيِّب إنْ أراد زوجةً وأمًّا لأولاده، وحافظةً لغَيْبَتِه، ومصدر سُرور له في حَضْرتِهِ.(169/4)
56 ـ الإكراه على الزواج، وسُوء عاقبته
زوَّجني أهلي وأنا صغير، استجابةً لرغبة والدتي، ولم تُعجبني زوجتي أبدًا ولم أرضَ عنها، وزادت عُيوبها في نظري عندما لمَستُ جهلَها وعدم استماعها للكلام والنُّصْح حتّى للصلاة، وأنا أريد الانفصال عنها، فمِن العسير الحياة مع إنسان لا تُحِبُّه فما الرأي؟
إن مشكلة السائل تعود إلى بعض العادات الأُسرية في مجتمعاتنا الشرقية التي يجب أن تتغيَّر، تعود إلى رغبة الولد أو الأسرة في التعجيل في أن يَفرح الأهل ـ كما يُقال ـ بزفاف ابنهم الوحيد، أو البكْر قبل وقت النُّضوج لتحمُّل المسئولية واختيار الزوجة وكثيرًا ما تكون الزوجة قريبة للأب أو الأم أو ابنة الجيران.
ومِن نتائج هذه العادة إحساس الزوج بعد فترة من الوقت بعدم الرغبة في مُعاشرة زوجته، أو وُقوع اختياره على زوجة ثانية تكون أقربَ إلى نفسه مِن زوجته الأولَى ولكي يتخلَّصَ من هذه الزوجة الأولى يُسيء عِشْرتها أو يلتمس مِن تصرُّفاتها أسبابًا يُبَرّر بها رغبته في الانفصال عنها أمام أسرته وأهله أو يُقنع بها نفسه في طلاقها.
والجاني ـ إذن ـ على هذه الأسرة في التفرِّقة بين الزوج وزوجته هو تحكُّم هذه العادة، وهي عادة تزويج الابن في سِنٍّ مبكِّرة قبل أن يُدرك الزواج ومسئولياته.
إن الإنسان قبل سِنِّ الرشد يمرُّ بمرحلتينِ: مرحلة الطفولة ومرحلة المراهَقة، وزواج الولد في سِنِّ المراهقة كثيرًا ما يُسيء إلى مصيره ومستقبله كما يُسيء إلى العلاقة الزوجية .
لأنَّه في هذه المرحلة يتصرَّف وينظر إلى الحياة تحت تأثير الغريزة الجنسية وحدها فإذا خَفَّ ضغط هذه الغريزة عليه فيما بعد، ابتدأ يتحوّل في موقفه وفي نظرته إلى الأمور في بيئته وعالَمه، وأول ما يتأثر بهذا التحول مستقبله وعلاقته بزوجته.
فقد يتكشف له خطأ الطريق الذي سلكه في تحديد مُستقبله، كما قد يَخِفُّ في نفسه وزنُ الزوجة التي ظَنَّ يوم أن تزوَّجها أنها شريكة حياته.(170/1)
ومِن هنا ارتباط المُراهقين والمراهِقات بعلاقة ما يسمَّى بالصداقة أملاً في تحويلها إلى علاقة زوجية في وقت متأخِّر ـ هو ارتباط قائم على اندفاع بوَحْي الغريزة الجنسية، فهو ارتباط خادع قلّما يَصدق في مستقبله وغالبًا ما يَنتهي بمآسي تتأثّر بها البنت والولد على السواء.
والعاقل مِن الآباء وأولياء الأمور هو الذي يتريّث في المُوافقة على زواج ابنه أو ابنته إلى ما بعد فترة المُراهَقة وبعد التحسُّس لاستقلال الولد أو البنت في الرأي والموقف من مشاكل الحياة اليومية أولاً.
ورغبة الزوج في طلاق زوجته هنا لا يقف دونها مانع شرعيٌّ مادام هو مُقتنِع بأن استمراره في العلاقة الزوجية معها قد يسيء إليها وإليه معًا، بل على العكس إن تأكَّد أنه سيُسيء إليها إن استمرّت معه في علاقة زوجية فيَجِبُ عليه أن يُطلِّقها منعًا للضرر. فالحياة الزوجية يطلب الإسلام فيها أولاً حُسن المعاشَرة: (وعَاشِروهُنَّ بِالمَعْروفِ) (النساء 19).
ثم الزوج في نظره بعد ذلك مخيَّر بين الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان: (الطّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة 229).
ولا تخشى الزوجة شيئًا الآن من الطلاق فالله هو الذي يتكفّل بها، كما يتكفل به : (وإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) (النساء: 130).(170/2)
169 ـ أحببتُ فتاة وأحبَّتني، ولكن لم نوفَّق للزَّواج. وتزوَّجتْ هي بغيري، وافترقْنا. ثم بعد عشرين عامًا التقينا وأعدْنا الصلة، بعد ما علمتُ أن زوجها تُوفِّي، وهي الآن أرملة وتتقاضى معاشًا صغيرًا. وعرضْتُ عليها الزواج فرفضَتْ بسبب أولادها وكلام الناس. وقالت لي: أنا واهبة لك نفسي أمام الله، وهو يعلم أحوالَنا. فهل معاشرتُها حلال؟
الجواب:
إن تعبير الأرملة بأنَّها واهبة نفسَها لمَن أحبَّته قبل زواجها، وتُحِبُّه الآن بعد وفاة هذا الزوج.. ليس إيجابًا منها بالزواج منه. بدليل أنَّها رفضت الزواج منه، عندما عرضَه عليها، كما جاء في السؤال. وإنَّما هذا التعبير منها كناية عن عدم معارضتِها لما يفعله بها، ولما يطلبه منها، ولو كان معاشرة جِنسيّة. ولذا يسأل السائل في سؤاله: أحلال معاشرتها أم حرام؟
وإذا لم تكن العَلاقة بينهما هي عَلاقة الزوجية فمعاشرتُها ـ إذن ـ حرام. وربَّما يُظَنُّ أنَّ رضا الطَّرفين وموافقتَهما على المعاشرة الجنسية.. يُعتبر زواجًا عرفيًّا.. أي زواجها لم يُشهَر ولم يوثَّق. ولكن الزواج العرفيَّ هو الذي لم يقيَّد فحسْب في الوثائق الرسمية، واقتُصرَ فيه على صيغة الإيجاب والقَبول بين الزوجة والزوج. في حضور الشاهدين. ويُعتبر وجود الشاهدين شرطَ صِحّة في عقد الزواج، سواء: أكان موثَّقًا. أو غير موثَّق، وبدون الشاهدين يُعتبر العقد باطلاً؛ لأنَّ وجود الشاهدين ضمان لإعلام الزوجيّة، وبالتالي ضمانٌ لحقوق الزوجين وما ينتج لهما من أولاد، وإخطار للمجتمع بالعلاقة الأسرية الجديدة. ولذا يروى: "لا نكاحَ ـ أي زواج ـ إلا بشُهود" ..كما يروى عن ابن عبّاس: "لا نكاح إلا ببَيِّنة".(171/1)
أما زواج الخِدان ـ وهو الزواج في غَيبة الشهود، وبين الرجل والمرأة فحسْب ـ فهو زواج السِّرِّ. ويُشبه الزِّنا. وقد ردَّ عمر بن الخطاب زواجًا لم يشهَد عليه إلا رجل وامرأة ـ بدلاً من رجلين ـ واعتبره نكاحَ سِرٍّ. وقال: لا أُجيزه.
والتقاليد أو العادات التي تَحُول دون تنفيذ نظام إسلاميٍّ على وجهه الصحيح يجب عدم الاعتداد بها، فإذا كان الأولاد ينظرون إلى زواج والدتهم بعد عشرين عامًا مرَّت عليها من زواج سابق.. أو إذا كان الجيران ينظرون إلى زواج الأرملة من جديد.. نظرة تقوم على الاستنكار.. فيجب أن لا تدفع نظرة الاستنكار هذه إلى الوقوع في عصيان ومخالَفة لنهج الإسلام.
إنَّ أهمَّ شيء في الزواج ـ في نظر الإسلام ـ هو العلانية؛ لأنَّه يرتبط به حق المجتمع، مع ارتباط حق الزوجين به. وإنَّ السِّرِّيّة فيه تُحوِّله إلى مُخادنةٍ وعشرة سِرِّيّة مَمقوتة عند الله والناس معًا: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ولاَ يَسْتَخْفونَ مِنَ اللهِ وهُوَ مَعَهُمْ) (النساء: 108). ولهذا السائل الذي تمكَّن حبُّه من قلب هذه الأرملة أن يَرعى الله في معاملتِها فإمَّا أن يبتعد عنها كليةً.. أو يعقب عليها في علانية، إن كان يراقِب الله في تصرفاته.(171/2)
92 ـ التهذيب في السلوك والمُعاشرة أمَارة الإيمان
مواطنة من إحدى المحافظات تقول إنها تبلغ من العمر الآن الحادية والخمسين، بينما زوجها يبلغ الثالثة والستين ، وقد مضى على زواجهما ثلاثون عامًا، فتَذْكر أن زوجها قليلَ التقوى ولا يحب أقاربه ويَقطع صِلَته برَحِمه.
وهي تهجر زوجها في الفراش الآن منذ سنتينِ، لقَسْوته في مُعاملتها وحيوانيته عند مُعاشرته لها معاشرةً جنسية: (كذلك معاملته الجنسية والتي فترت تتميز بالعُنْف، وبتعويض ما عليه مِن نقْص، بأن يُباهي بطُرق حيوانية ولا إنسانية لكموله الجنسيِّ، وأنا مُشفقة عليه)..
وتسأل عن أن تعلم، ما هو وزْنها.. وأين هي الآن؟ وتقول: فأنا أحاول التقرُّب منه بشتَّى الوسائل ـ لرضاء الله ورسوله.(172/1)
السائلة تبلغ الآن الحادية والخمسين. فهي تعيش في سن "اليأْس".. أو تدخل في هذه السِّنِّ، وبدخولها في هذه السنِّ تترقَّب مصيرها في الحياة، وهو مصير ينتهي بالشيخوخة ثم الفناء. ومعنى ذلك: أنها لا تنتظر أن تستمتع بمُتَع الحياة المادية، كما تنتظر ذلك امرأة في الخامسة والعشرين، أو في الثلاثين من عُمرها، فهي تُدْبِر.. بينما مَن هو أصغر منها مُقبل على الحياة.. وهي تَستعرض ما مضى من حياتها في سِجلِّ العلاقة الزوجية طوال الثلاثين سنةً التي قضتْها مع زوجها، فإن كان ما سُجل في حياتهما الزوجية مُقنعًا: بأنها أخذت مِن حظِّها من مُتع الدنيوية ما يجعلها غير ساخطةً على ما يَفوتها منها في السنوات القادمة، اطمأنت نفسيًّا واستقبلت هذه السنوات القادمة بالشكر لله. ...
... ولكن في استعراْضها اليوم لعلاقتها مع زوجها تستهجنُ منه سلوكه، وتصِف هذا السلوك بأنه بعيد عن تقوى الله.. كما تستهجن منه طريقته في مُعاشرته الجنسية معها، وتتهمه بالقسوة في معاملتها، وتُبَرِّر ذلك: هجرها له في الفراش ما يَقْرُب من السنتينِ، وبعده عن تقوَى الله في السلوك ـ في نظرها ـ يَصعد به إلى قطْع العلاقة مع ذوي رحِمه. ...
... ومن هذا الاستعراض تُبْرز السائلة أن الثلاثين عامًا التي قطعتْها مع زوجها لم تكن على وِئامٍ معه، فكثيرًا ما اختلفَا، وكثيرًا ما ضربها إن اختلفَا، وتُشير إلى أنها لم ترضَ حاليًا عن علاقتها الجنسية به، ولم تكن كذلك فيما مضى راضيةً عنها، وتَسخر منه في وصْفها لمُمارسته هذه العلاقة معها في سِنِّه الحالية وهي الثالثة والستون، ممَّا يدلُّ على أنه يُحاول إرضاءها كي تُخفِّف هي من نقْدها له. ...
... ثم تعود وتسأل عمَّا يجب أن تتقرَّب به إلى هذا الزوج إرضاءً لله ولرسوله مما يدلُّ على أنها مُضطربة النفس: تَثُور على زوجها، وتَسخر منه، ثم تعود إلى الهدوء فتسأل عمَّا يُقربها إليه، واضطرابها النفسيُّ الآن(172/2)
يُصور شدةَ أزْمتها بدخولها سِنَّ اليأس، فهي تنظر إلى الماضي فلا تجد فيه ما يَشدُّها إليه اعترافًا بآثاره الجميلة عليها في الحياة.. وتَنظر إلى المستقبل فلا تجد فيه إلا ما يُضحِك في نظرها وإلا ما تَسخر منه، فالماضي لا يُشبع.. والحاضر قحْلٌ، لا أملَ فيه.
والسائلة أعرَفُ من المسئول عمَّا تتقرَّب به إلى زوجها إرضاءً لله ولرسوله، يجب أن تُخفِّف من نقْدها له، فما تَسخر منه في كِبَرِ سِنِّه الآن عند المُعاشرة الجنسية، هو مُحاولة منه لإقناعها بأنه لم يزل في رُجولته، وليس مُباهاةً بفُروسيته، عند مَن يُباهي؟ عند زوجته وقد مضى على اتصاله بها في علاقة أُسرية ثلاثون سنة؟ إنَّ الذي يُباهي بشيء مثل هذا يُباهي به عند امرأة لا تعرفه، أما مَن عرفتْه وخَبَرَتْه فلا يدخل عليها خداعه لها. ...
يجب على السائلة أن ترحمه فلا تُسمعه ما يُؤذيه، أو تُحرج كبرياءه في رجولته، إنه يخلد الآن إلى الراحة، وإنَّ أحسنَ شيء تُقدمه إليه: أن تُحدثه عن الذكريات الطيبة التي مرَّت في حياتهما معًا، فهو يجب أن يعيش في هذه السنِّ على مثل هذه الذكريات، أكثر ممَّا يعيش على الطعام والشراب. ...
وسلبيات الحياة كثيرة، وسلبيات الإنسان ـ أيُّ إنسان ـ أكثر، إنه لو يُذكرك بشيء مِن سلبيَّاتِكِ ـ في بدَنِكِ وجسمكِ ـ التي اطَّلع عليها.. وفي سلوككِ ومُعاملاتكِ وفي صوتكِ ومِشْيتك.. وفي عادتك.. وفيمَا تَأتينَ به وقْت ضعْفك أو وقت حاجتك: لا تَهْجريه في فراشه فقط، وإنما تَهجرين المنزل كله، بل ربما الحياة أيضًا.(172/3)
... لِنَدَعَ السائلة: أن تُعيد عقارب الساعة إلى الوراء. ما قبل الخمسينَ في حياتها، ولو أُعيدت لها الآن جميع مُتع الحياة التي تَشتهيها لا تستطيع أن تستمتع بها، فالذي فارَقها في الأمْسِ ليست هي المتع المادية في الحياة وإنما هو طاقتها وإمكانياتها البشرية على الاستمتاع، فأجهزة البدن قد تغيَّرت، والشيء الباقي الذي لم يتغير هو الخيال.. فلا تتركي الخيال يَفرز أحلامًا في اليقَظة فإنها خداع.. وسرابٌ ليس له واقع.
... لا تُصرِّي على أن تكون حياة اليوم مِن عمرك هي حياة الأمس فيه، فعمر الإنسان مَراحل، اللاحِق منها يَختلف عن الماضي فيها، وتلك سُنَّة الله مع الإنسان: (هو الذي خلَقَكُمْ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُم يُخرجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيوخًا ومِنْكُمْ مَن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ ولِتبْلُغُوا أجَلاً مُسَمًّى ولعلَّكمْ تَعْقِلُونَ). ( غافر: 67) ..(172/4)
64 ـ زوج لا يُريد أن يُعاشر زوجته، ولا يُريد أن يُطلِّقها
أحد السائلين من أحد المراكز يسأل:
زوج ترك زوجته وتزوَّج بأخرى فأقَرَّت لها المَحكمة نفقة ضئيلة وهي تعيش دون أن يراها منذ أن تزوَّج عليها فلا هو يُعاشِرها معاشرة الأزواج ولا هو يريد أن يُطلِّقها، وهي مُتضرِّرة بوضعها الذي هي عليه الآن فما الحَلُّ؟ وما حُكم الله؟
الإجابة:
الزواج في الإسلام ليس تملُّكا.. ولا بَيْعًا ولا شراءً.. والمهور التي تدفع ليست ثمنًا، ولا مقابلاً للانتفاع بالمرأة، ففي قول الله في القرآن الكريم: (وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء 4) ما يُفيد أن المهر عطاء خالص من الرجل إلى المرأة، كتعبير عن رغبته في الزواج منها؛ إبقاء على حيائها وحِفظًا لكرامتها، إذ قال: "نِحْلةً"، أي منحة.
والزواج مُماثَلة في الواجبات والحقوق: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بالمَعْروفِ) (البقرة 228).. ودرجة الرجال في قول الله ـ تعالى: (وللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجةٌ) (البقرة 228).. هي درجة الفضل والإحسان فوق المماثَلة في الواجبات والحقوق بين الاثنين.
وعقد الزواج عقد تراضٍ قائم على الإيجاب والقَبول، ومادام هناك تراضٍ بين الطرفين.. ومادام هناك حُسن معاشرة فهو مستمِرٌّ، فإن تضرَّر الزوج فله الطلاق وإن تضرَّرت الزوجة فلها أن تختلع وتفدِي نفسَها برَدِّ الصَّداق كله أو بعضه.
وعندما امتَنَّ الله على الإنسان بخلْق الذكر والأنثى في نوعه رتَّب على هذا الخلق هدفًا يستهدف من الإنسان في حياته وهو السعي إلى الاطمئنان في العلاقة بين الاثنين وإلى المودة وإلى الرحمة يسعى إلى ذلك الرجل وتسعى إليه المرأة أيضًا.
فإذا تَمَّ عقد الزواج بين الاثنين وجب على كُلٍّ من الزوج والزوجة السعي إلى تحقيق السُّكنَى والمودة والرحمة بينهما، وفيما يُنجبان من أولاد.(173/1)
وتعدُّد الزوجات في الإسلام ليس مبدأً لازمًا يجب أن يتحقَّق وإنما هو رُخصة للحيلولة دون مباشرة فاحشة ومنكَر: فاحشة الزنا، ومنكر هَتْك الأعراض. ولذا يقول الزمخشريّ في تفسيره الكشاف لقول الله ـ تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) (النساء 3).
أي إن خفتم ترك العدل في حق اليتامى وأموالِهِنّ فخافوا الزنا فانكحوا ما حَلَّ لكم من النساء ولا تَحُوموا حول الحُرمات.
وتعدُّد الزوجات ـ كرُخصة ـ مشروط بالعدل بين الزوجات فإن كانت هناك خشْية من عدم تحقيق العدل بينهن فيجب أن يُقصر الأمر على واحدة: (فَإِنْ خِفتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدةً) (النساء 2).
هذا هو الزواج في الإسلام.. والزوج المسلم هو الذي يُطبِّق مبادئ الإسلام في حياته.
وقصة الزوج كما يَرويها السائل في سؤاله هنا تُبعد الزوج عن أن يكون قد أحسَّ في ضميره بالإيمان بالإسلام فالإيمان حَقًّا معيار سليم للسلوك الإنساني الكريم، وفق هداية الله في كتابه المَجيد وكثير من المسلمين الآن يُسيئون تطبيق الإسلام فيما يُرشدهم نحو أنفسهم ونحو بعضهم بعضًا، وفي الوقت نفسه يُسيئون إلى الإسلام ذاته.
والمؤمن بالله ليس في حاجة لأنْ تُطالبه زوجته أمام القضاء بالنفقة عليها، فحُكم القاضي مهما كان لا يُواجه الحقيقة التي يُحِسُّ بها الزوج والتي تُحِسُّ بها الزوجة، وإنما هو الذي يُقَدِّر نفقة زوجته، بحيث يكون في تقديره مُحسنًا.
والمؤمن بالله لا يلتمس العدل مِن غيره وإنَّما يُحقِّق العدل من ذاته، فإذا تزوَّج بأخرى بعد زوجته الأولى مُجيزًا لنفسه حقّ استخدام رُخصة التعدُّد يجب أن يرعى بينهما ما يأمر به الله وما يأمر به الله هو العدل أولاً فإن لم يتحقَّق فيجب أن يختار واحدةً من الاثنتين يُمسكها ويُسرِّح الأخرى.(173/2)
المؤمن بالله لا يُهدِر كرامة إنسان معه كزوجة له، شاركته في أسراره الخاصّة فترة من الزمن، فيُهملها. فإذا طالبته بالطلاق رفَض أن يُطلقها. إنه يرتكب إثمًا لكل واحد من الأمرين: بالإهمال.. وبعدم الطلاق. إنه يظلمها بإهمالها ويَسلبها حقًّا لها يجب عليه.
وهو حَقُّ الزوجة على زوجها. وإنه يضرُّ بها بسبب رفضه طلاقها وقد نهى الله عن ذلك في قوله: (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة 231)..
آن الأوان لأن يفهم المسلم أن الإسلام إنسانية، يدعو إلى مستواها في السلوك وأنه يُبغض المادِّية؛ لأنها تقوم على الأنانية والتصرُّف مع الآخرين على أساسٍ منها .. وأن الإسلام إذا طلب مِن الزوجة أن تُطيع زوجها فإنه يطلب مِن الزوج أن يكون ذا قلبٍ رَحيم.(173/3)
39ـ سوء الظن بالزوجة، بعد عِشْرة طويلة:
بعد عِشْرة زوجيةٍ دامت ثلاثينَ عامًا يتَّهم الزوج زوجتَه بالخيانة الزوجية مع كثيرين، حتى مع زوج ابنته؛ ولهذا ـ كما تقول الزوجة صاحبة السؤال ـ امتنعت عن مُعاشَرته كزوجة، فلا تَنام ولا تجلس معه بعد أن أقسمَتْ على المصحف أنّها بريئة ممَّا يدَّعيه.وتسأل الآن عن حُكم الشرع في مَوقفها منه: هل هو حلال أم حرام؟
ليس مِن الحِكمة أن يُعلِن الزوج اتِّهام زوجته بالخيانة الزوجية على نحو ما تذكر الزوجة في سؤالها هنا. فإعلان ذلك في الأسرة كفيل بأنه يقوِّض الحياة الزوجية وحياة الأسرة كلها في المجتمع الذي نعيش فيه.
والأمر ـ على أيّة حال ـ قَذْفٌ بالزِّنا من الزوج لزوجته، وليس بينهما شهود إلا ما يدَّعيه كلٌّ منهما نحو الآخر، فالزوج يدَّعى صِدْقَه فيما يقوله. والزوجة تدَّعي كَذِبَه فيما يتَّهِمها به. والإجراء الشرعي بينهما تجنُّبًا لعِقاب الله في الدنيا والآخرة أن يُقسِم الزوج بالله أربع مرات على أنّه من الصادقين فيما يدَّعيه ثُمَّ في اليمين الخامسة يُقسِم أن عليه اللعنة مِن الله إن كان مِن الكاذبين.
وعندئذٍ ينتقل الأمر إلى الزوجة فهي مَدينة الآن ما لم تُقسِم بالله أربع مرّات على أن زوجها كاذب فيما يدَّعيه، وفي المرة الخامسة على أن عليها غضبَ الله إن كان مِن الصادقين.
وإذا أقسم كل منهما على نحو ما ذُكر هنا، تجنَّب العقاب في الدنيا من الحاكم المسلم إذا كان يُطبِّق حدود الله. ويبقَى بعد ذلك حق الله في عذاب الكاذب منهما في الآخرة.
وليس مِن السهل أن يقذف الرجل زوجتَه بالزِّنا ثم يعود إلى مُعاشَرتها بنفس راضية. وليس مِن السهل أيضًا على الزوجة أن تُواجَهَ مِن زوجها بالاتهام بالزِّنا مع كثيرين ومع مَن هم أشدُّ أقربائها كزوج ابنتها، ثم تسأل بعد ذلك عن عودة مُعاشرته جِنْسيًّا: أهي حلال أم حرام؟(174/1)
إن الأمر في حقيقته قد يكون صدًى لنزاع نفسيٍّ بين الزوج والزوجة. قد يكون اتهامها بالخيانة الزوجية تعبيرًا عن شدة غضبه منها. فهو يريد أن يُهِينَها ردًّا منه على إثارته بما يَجرح كرامته كرجُل في عَلاقته الزوجية بها. إذْ ليس هناك أقسى على نفس الزوج من أن تَعيب عليه زوجته نَقْصَ الرُّجولة فيه عندما تتراخى المُعاشَرة الزوجية بينهما فترة طويلةً، وتنقطع لسبب من الأسباب.
لكن إذا كان الأمر بينهما لا علاقة له بالخيانة الزوجية، فنزول الزوج في إهانته لزوجته إلى مجال الاتهام بالخيانة الزوجية هو لَعِبٌ بالنار، ففوق أنه تجريح لكرامة زوجته ولعلاقتها بمَن يتَّهمهم معها، هو تجريح كذلك له في بقائه معها في علاقة زوجية. والحمقَى من الأزواج هم الذين يُعرِّضون علاقاتِهم بأزواجهم إلى مثل هذا التجريح، وبالتالي يُعرِّضونها إلى التصدُّع والكسْر، بحيث لو بَقِيَتْ بعد ذلك تبقى دون أن تعود إلى ما كانت عليه من بَهاء وجمال.
والسائلة الآن أدرَى بحقيقة الأمر. وعندئذٍ إذا كان الوضع بينهما مبالَغًا فيه، ولا يعدو أن يكون ثورة نفسية دفعتهما إلى هذا الخطأ الفاحش في العلاقة بينهما فليس من مانع شرعًا أن تعود إلى مُعاشَرة زوجها، بل مُقاطعتها إيّاه، عندئذٍ يَبغضها الإسلام، كما جاء في الحديث الشريف، عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا باتَت المرأة مُهاجِرة فراشَ زوجها لعنَتْها الملائكة حتى ترجع"
والإسلام في الحِلِّ والحُرْمة في العلاقة بين اثنينِ يَعتمد على العامل النفسيِّ وضمير الإنسان، قبل كل شيء آخر.(174/2)
115 ـ أنا فتاة في الثامنة عشرة من عمري تقدَّم للزواج منِّي ابن عمِّ لي، وخطبَني من أهلي. ولكنِّي أريد أن أُتِمَّ تعليمي، وأبي يرفض ذلك بحُجَّة أنِّي مخطوبة، مع أن خطيبي في الجيش، ولم يُحدِّد موعد الزِّفاف. فهل من حقِّ والدي أن يحرِمَني من التعليم لهذا السبب؟
الجواب:
الواقع أن المسألة في نظر السائل ليست مسألة "التعليم" بالنسبة لابنته المخطوبة. إنما هي مسألة "الاختلاط" فإذا سمح لها بالتردُّد على قاعات الدروس ـ والتعليم في أغلب أوضاعه مُشتَرَك فإنه يخشى عليها، كما يُظَنُّ، أن تتأثر بعوامل أخرى ربما تُفسد عليها العَلاقة مع خطيبها، وبالأخصِّ أن خطيبها غائب عنها في الجيش لا يراها إلا في فترات طويلة. والوالد حريص على إتمام زواجها ممَّن خطبها. فإذا تَمَّ زواجها أمكنَ لها عندئذٍ أن تستأنف دراستها، إذا كان وضع الزوجية بينهما يسمح بذلك.
أمّا تعليم البنت ـ أو الابن ـ من حيث هو فليس للوالد أن يصُدَّ عنه، طالما هو مقدور؛ إذ تحصيل العلم والمعرفة أول مطلوب لله في أول سورة نزلت على الرسول ـ عليه السلام ـ من سور القرآن. وهى سورة العلق في قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ. الذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ. عَلَّمَ الإنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1ـ5) .. فطلب القرآن كطريق للعلم.(175/1)
ثم إن الله ـ سبحانه ـ قد وصف ذاته بالعلم، فيما يقول: (وهُوَ الذِي فِي السَّمَاءِ إلهٌ وفِي الأرْضِ إلهٌ وهُوَ الحَكِيمُ العَليمُ) (الزخرف: 84).. فأضاف إلى ذاته ـ جلَّ شأنه ـ منتهى الحكمة وغاية العلم. وفي حديث الله عن ذاته للمؤمنين به على هذا النحو دفعٌ لهم على أن ينشُدوا من عبادتهم إياه تحقيق بعض ما لِذاتِه ـ سبحانه ـ من صفات، تحقيقًا نسبيًّا في ذواتهم هم. ومعنى ذلك أنّه يجب على مَن يعبد الله ـ تعالى ـ أن يقترب إليه بالسعي إلى العلم.. والحكمة.. والقدرة.. والغِنَى.. والإتقان والإبداع.. والرحمة مرة.. والشِّدة مرة أخرى.. إلى آخر ما له من صفات. ومن هنا يُمكن فَهم الحديث الشريف المَرويِّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "المؤمن القَوِيُّ خير من المؤمن الضعيف".. فالقوة المطلوبة في المؤمن هي قوة الإيمان.. وقوّة الإعداد والعدّة كذلك. والعلم طريق من إعداد المؤمن القويّ.. والقناعة طريق آخر لها.
ثُمَّ من جانب آخر ليس التعليم وَقْفًا على المَدرسة أو الجامعة، وإنَّما التعليم قد يأتي بقراءة الكتاب غير المدرسي.. بالاستزادة من دراسة اللغات عن طريق "الحاكي" والأشرطة المسجَّلة، أو البرامج الإذاعيّة المُخَصَّصة في محطات الإرسال المختلفة. وهذه وتلك لا تحتاج إلى تردُّد على قاعات الدرس.. ولا على الاختلاط الذي يخشى منه والد السائلة هنا.
ومنع الوالد لابنتِه المخطوبة هنا من إتمام التعليم قد يرجع إلى حبِّها.. وليس إلى عقوبة لها.. أو تحكُّم في إرادتها.
124ـ بين الثراء والتديُّن في قبول الزوج ورفْضه:
طالبة بمدرسة تجارية بإحدى المحافظات، تذكر:
أنها في أثناء الدراسة بالمدرسة تقدم لها خطيبٌ يعمل سائقًا وعلى خُلُق فاضل ومُؤتَمن على دِينه، وليس له عمل آخر يُدِرُّ عليه رِبْحًا إضافِيًّا، ورغم فقره ارتبطت به نفسِيًّا كما تقول:
أولاً: لإيمانه التام بالله ـ سبحانه وتعالى.(175/2)
وثانيًا: لأدبه واحترامِه لي.
ولكن الأهل لم يَرغبوا فيه إطلاقًا بسبب قُصور ماله، ووُجود شخصٍ آخر يعمل في الفِلاحة أكثر منه غنًى وثراء، ويُريدني أن أكون زوجةً له وأنا غير راغبةٍ فيه بتاتًا، فلمَّا تقدم هذا السائق لخِطبتي طلب أهلي منه ألف جنيه مهْرًا، تعجيزًا له ورفْضًا بالتالي لزواجه مني، وهي لا ترغب في الآخر بحالٍ رغم ثَرائه، ولا تُطيق ـ كما تذكر ـ أن تراه بعَينها، فضْلاً عن أن تعيش معه كزوجة وتسأل:
ماذا تفعل؟
وما هو حكم الإسلام فيما أرَى لنفسي وما تَراه أسرتي لي؟
مشكلة هذه الفتاة هي مشكلة كثيرات مِن أمثالها، يأتي إلى الفتاة رجلٌ مُتديِّن، وآخرُ ثريٌّ يَستند في حياته إلى ثرائه فترفض الأسرة الفقير المتديِّن، وتُلِحُّ على الفتاة في قبول الثريِّ صاحب المال، بينما الفَتاة تُريد العكس..تُريد الفقير وترفض الغنيَّ.. ثم تتسع الهُوَّةُ بين الأسرة وفتاتها حتى إذا خضَعت الفتاة لضغط أسرتها وتزوجتْ مَن ترضاه الأسرة لها ودخلت به عادت مِن جديد إلى بيت الأهل والأسرة، بعد شهر أو عام على الأكثر، غاضبةً مُصمِّمة على عدم الرجوع إلى زوجها مرة أخرى، وبذلك تَخسر الأسرة وتُسيء إلى الفتاة بعد أن تُسيئ إلى نفسها.(175/3)
مع أن الإسلام يضع أهميةً على رأي المرأة فيمَن تختاره زوْجًا لها، سواء أكانت ثَيِّبًا أو بِكْرًا فوليُّ المرأة في عقد الزوج لا بد أن يقف على رأي ابنته إنْ كانَ وَلِيًّا لها.. يقف عليه صراحةً إنْ كانت ثَيِّبًا ويكفي السكوت بعد السؤال إنْ كانت بِكْرًا، فيُروى: (لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ ـ أي لا يتمُ عقدُ الزواج على الثيِّب ـ حتى تُستأْمَرَ ـ أي حتى يُؤخذ أمرُها وإذْنها ـ ولا تُنكح البكْر حتى تُستأذَن، وإذْنُها سُكوتُها". ...
وفي رواية أخرى: "إنَّ جاريةً ـ أي فتاة ـ بِكْرًا جاءت إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرتْ: أن أباها زوَّجها وهي كارهة فخيَّرها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيْ أعطاها الخيار في الانفصال عنه أو البقاء معه ـ أعطاها الخيار في إلْغاء عقد الزواج وعدم إتمامه استجابةً لرَغبتها.. أو في المُوافقة عليه".. وعلى أيةِ حال لم يُكرهها على القَبول، كما تَصنع الأُسَر الآن مع فتياتهنَّ اليوم.(175/4)
والإسلام كذلك وضَع ضوابطَ للزوجةِ المَحمودة، وللزوج المَحمود، فالإسلام يُؤْثر"التديُّن" في المرأة والرجل على السواء.. يُؤْثره على المال .. والحسَب.. والجمال في المرأة. فيُروى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "تُنْكَحُ المرأةُ لأربع ـ أيْ يُقبل الرجل على الزواج بالمرأة لسبَب مِن الأسباب الأربعة ـ لمالِها.. ولحسَبها.. ولجَمالها.. ولدِينها.. فاظْفَرْ بذات الدِّينِ تربتْ يَداكَ". وإذا كان العُرف الشائع والمُيول التي تَدْفع الرجل إلى الزواج بامرأةٍ: إمَّا مِن أجل المال فهي ثَرِيَّة.. وإمَّا مِن أجل الحسَب والجاهِ والشرَف فهي مِن أُسرة كبيرة أو كريمة كما يُقال.. وإمَّا مِن أجل جمالِ الوجْه والقوام فهي تصلح لعرْض الأزياء.. وإما للتديُّن: تعرف الله، وتعرف طريق الاستقامة وحقوق الزوج، وحقوق رحِمه، وحقوق الولد في حَضانته وتربيته، وحقوق المنزل في تدبيره وترتبيه.. إذْ كان العُرْف والميول في الرجل تدفعه إلى الاختيار مِن أجل سببٍ مِن هذه الأسباب فالإسلام يَنصح الرجل: أن يختارها على أساسٍ من التديُّن، فالمال ضائع، وقد يُسبب كثيرًا من المشاكل بين الزوجين، والجاه قد يَمضي لسبيله، فما يُعرف اليوم من الحسَب قد يكون في غدٍ حَسْرة. والجمال ذاهب لحاله، فما يكون اليوم موضع فتْنة يُصبح غدًا مصدر نُفْرة، ويُهدد الإسلام الزوج إذا لم يكن التديُّن هو العامل الفاصل في اختيار الزوجة، بسُوء العاقبة.
... وقد سُئل الرسول ـ عليه السلام ـ أي النساء خير؟ قال: "التي تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ إليها وتُطيعه إذا أمَر.. ولا تُخالِفُه في نفسها، ولا مالها بما يَكْرَه"..(175/5)
... كما جاء في اختيار الرجل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "إذا جاءَكمْ مَن تَرْضَوْنَ دِينه وخُلُقه فأَنْكِحُوهُ، إنْ لا تَفعلوهُ تَكُنْ فِتْنةٌ في الأرض وفسادٌ".. قالوا: يا رسول الله: وإنْ كان فيه كذا وكذا. قال: "إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخُلقه فأَنْكحوه، ثلاث مرات".. فالفقر لا يُشين الرجل.. والثَّراء لا يَزِينُهُ.. وإذا أصبح الأمر بين التديُّن، والغِنَى، كما هنا في سؤال الفتاة، فصاحب التديُّن أفضل في واقع الأمر مِن صاحب الثراء عند الله، وفي واقع الأمر.
... مرَّ رجلٌ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "ما تقولون في هذا؟ ـ يسأل الرسول بعض صحابته معه ـ قالوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أنْ يُنكَح.. وإنْ شفَع أن يُشفَّع.. وإنْ قال أنْ يُستَمع؛ لأنه ثريٌّ، ثم سكت. فمرَّ رجلٌ من فقراء المسلمين فقال: ـ أي الرسول عليه السلام ـ: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حريٌّ إنْ خطب أن لا يُنكح.. وإنْ شفع أن لا يُشفَّع..وإنْ قالَ لا يُستَمع، فقال رسول الله: "هذا ـ أي الرجل الفقير ـ خيرٌ مِن مَلْءِ الأرضِ مثل هذا ـ أي الغنيّ ـ فآثَر الرسول ـ عليه السلام ـ الرجل الفقير صاحب الخُلق على الرجل الآخر المُوسر، في أنه إنْ خَطَب تَستجيب له الأسرة في قبوله زوجًا لفَتاتها.
الخُلق.. وحُسن السلوك.. وتَحمُّل المسئولية.. والمروءة، مِن الصفات التي تُرشح الرجل كزوج، وهي مِن صفات المُتديِّن.
... فهل للأسرة أن تعِي ما يَقِيها شرور العبَث والفساد في اختيار الزوج لبناتها؟. الحرْص على الغنيِّ بين الأزواج هو حرْص على الضياع والهموم بين الفتيات.(175/6)
67 ـ زواج الثَّيِّب
اتفقتُ مع ابنة خالي على الزواج، وكنتُ مُحارِبًا في حرب رمضان المجيد، وأثناء القتال أُبلِغْتُ أنها سوف تتزوَّج غيري، فطلبت منهم الصبر حتى تنتهيَ الحرب ولكنَّ والدها تعجّل وزوجها إنسانًا غيري. وعندما حضرت بعد القتال قالت لي: لقد أرغموني ولا أستطيع العيش بدُونك فقلت: لو طُلِّقْت أتزوَّجك. ثُمَّ طُلِّقتْ غير أن أهلي لا يُوافقون بحُجّة أنه لا يليق أن أتزوّج ثَيِّبًا. ومع حُبِّي الشديد لها فإني لا أريد أن أخسر رضاء أهلي فما هو الرأي؟
الجواب :
السائل في سؤاله يذكر ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنه دفع قريبته ـ وهي ابنة خاله ـ إلى الطلاق من زوجها بعد أن عاد من حرب أكتوبر، فطُلِّقتْ.
الأمر الثاني: أن أهله يستنكِفون أن يتزوج ثَيِّبًا .
الأمر الثالث: أنه يؤثر أن لا يخسر أهله بزواجه من قريبته، على أن يَفِيَ بوعده لها فيتزَوَّجها بعد أن طُلِّقتْ.
وهذه الأمور الثلاثة تجعله غير جدير بتحمُّل المسئوليّة في الأسرة. كما تتركه في مواقفه بعيدًا عمّا يَطلبه الدين.
1 ـ فالدِّين لا يرضى عن رجل يحمل امرأة تحت الإغراء بالوعود الخادعة، على أن تُسيء إلى زوجها قصْدًا إلى التخلُّص منه والزواج بغيره، فإذا كان الدين لا يرضى بأن يخطب رجل امرأة على خطبة رجل آخر فبالأولى لا يرضى عن تدخُّل رجل بالتفريق بين زوجين.
2 ـ والدِّين كذلك لا ينظر إلى الثَّيِّب على أنها أقل اعتبارًا ولا أدنى من البكر في قيمة الحياة الزوجية، وإنما العادات هي التي قد تَخلق فرْقًا في الاعتبار بينهما. وهي من عاداتٍ تقوم على نظرة غير صائبة للمرأة.. تقوم على نظرة أنها سلعة يُنقِص من قيمتها أنها تنتقل من يد إلى أخرى.(176/1)
بينما نظرة الإسلام إليها تُوفِّر لها الكرامة البشرية، كما تحفظ عليها حياءها وكِبرياءها، عندما تدعو الرجل إلى أن يمنحها صداقًا؛ ليُعبر به عن رغبته وطلبه لأنْ تكون زوجة له. والمهر قائم في نظر الإسلام للبكر والثيِّب على السواء.
3 ـ والدين إذْ ينصح الرجل بالزواج لحمْله مسئولية الأسرة وهو لا يحمل المسئولية مادام يتَّبع مشورة الأهل... ومادام يَستمرئ خُلْف الوعد في سبيل السَّير في الخط الذي يرسمه الوالدانِ، تحت تأثير عادات لا يُوافق عليها.
والسائل لم يرعَ الله إطلاقًا عندما أفسد على الزوجة حياتها الزوجية بحَمْلها على الطلاق، وترْكها تندب حظَّها بخُلف الوعد معها. ولكنها مع ذلك يجب أن تحمَد الله على أن كشَف لها عن نفسية قريبها السائل. فمَن يحمل مثل نفسيته لا يصلح للزواج لعدم استقلاله، وعلى المدى الطويل يخلق لزوجته مشاكل كثيرة أدناها إملاء الأهل عليها ما يُرضي هواهم ولا يُرضي مصلحتها كزوجة أو كأمٍّ.
وكان المنتظر من السائل ـ وهو جنديٌّ كان في ميدان القتال، ومستعِدٌّ للاستشهاد فيه ـ أن يضحِّيَ بأنانية أهله وبنظرتهم الضيِّقة إلى المرأة والحياة الزوجية ويَحرِص على إسعاد إنسان استجاب لمَا أراد، وإن كان على حساب مُستقبله ومَصيره. ولكنها التربية الأسريّة في ظلال العادات غير الإسلامية.(176/2)
45 ـ شابٌّ يُريد إرضاء نفسه ورَبِّه معًا في الزواج
أنا شابٌّ في السابعة والعشرين من عمري، أعزب وقد أفادَني الأطِبّاء بأنِّي عقيم لا أُنجب أولادًا مع استطاعة المُعاشرة الزوجية على أكمل وجهٍ. وإني أفكر الآن في الزواج ولا أرضى أن أكون غاشًّا لمَن أريد زواجها، ولا أستطيع في الوقت نفسه أن أُخبرَها بأنِّي عَقيم، فما الواجب؟
ليس من المُحتَّم أن يكون من أهداف الزوجية إنجاب الأولاد، أي ليس من الضروري أن تكون إحدى النتائج العملية للزواج هي أن يكون للزوجين أبناء، فالله ـ سبحانه وتعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمً) (الشورى 49).
ولكن الذي يجب أن يصل إليه الزَّوجانِ مِن زواجهما هو سُكْنَى النفوس واطمئنانها والمودّة بين الاثنينِ ورحمة كل منهما للآخر، يقول الله ـ تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم 21).
وما يذكره القرآن هنا في هذه الآية هو خاصٌّ بهدف الزوجية من الذكورة والأنوثة في بني الإنسان، فالزوجية بين الذكورة والأنوثة في خلْق الله للأنعام أو في إخراج النبات ـ هي للكثرة العديدة فقط، أمّا في الإنسان فكما تكون للكَثْرة العدَدية بالنَّسْل تكون للرَّوابط الإنسانية التي تقوم عليها الأسرة ويتكوّن منها المجتمع.
وهي روابط الاستقرار والاطمئنان والمودّة والرحمة بدلاً من فجْوة القطيعة والفُرقة بين الأثرياء وأصحاب الحاجة أو الأقوياء والضُّعفاء.(177/1)
والقرآن يقول في هدف الزوجية في النبات: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (طه 53، 54).
ويقول في هدف الزوجية في الأنعام بجانب الهدف الثاني من الزوجية في الإنسان، وهو هدف الكثرة العددية: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) (الشورى : 11) أي يذرَؤُكم وينمِّي عددَكم عن طريق الزوجية في الخلْق والمفارَقة بين الذكورة والأنُوثة فيه.
وإذن هدف القرآن مِن الزواج أو الزوجية بين الناس ليس في الدرجة الأولى في النسل، والكثرة العددية والنموِّ في الكمِّ، بقدْر ما يُحقِّق الروابط الإنسانية التي تتمثّل في استقرار العلاقات بين الزوجين واطمئنان أحدهما للآخرة ومودّة كلٍّ منهما للثاني ورحمة كل مِن الطرفين للآخر.
والسائل في سؤاله سيُحقِّق في نظر القرآن هدف الزوجية عندما يقترن بزوجة وإنْ حَكَم الأطِبّاء بعد فحوص أوليّة بأنّه عَقيم لا يُنجب أولادًا.
وتجب عليه مُكاشَفة مَن يريد الاقتران بها بحقيقة أمره، فذلك لا يَشينه بحال، وبعض النِّساء ـ ربَّما لظروف خاصة ـ لا ترغب في إنجاب الأطفال، إمّا لوجود أطفال لهُنّ من آخرين في زيجات سابقة، أو لانصرافِهنّ عن الأمومة بعمل ما، على الأقل في فترة طويلة في بداية الزواج.
ومَن يدري لعل الله ـ لسبب مِن الأسباب ـ يحوِّل عُقم هذا السائل إلى خُصوبة في إنجاب الأولاد فهو العليم القدير.
وعلى كل حال فالخداع في عقد الزواج ـ كالخداع في أيِّ عقد من العقود المدنيّة ـ سببٌ من أسباب فَسْخه، إن انكشف الأمر للطرف المَخدوع ورغِبَ هذا الطرف في عدم الاستمرار فيه.
61 ـ الزواج والعقم(177/2)
قال لي الأطِبّاء إني عقيم فهل يجوز لي الزواج؟
إن الحِكمة من خَلق الذكورة والأنوثة بين الناس كما يوضِّحها القرآن الكريم أمرانِ:
الأمر الأول : الكثرة العدَدية، عن طريق استمرار النسْل: (واللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزواجًا "أي ذكورة وأنوثة" وجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ "أي من الذكورة والأنوثة فيما بينكم" بَنِينَ وحَفَدةً). "أي أجيالاً مُتلاحقة" (النحل 72).
الأمر الثاني: الجانب النوعيّ وهو أمر نفسيٌّ يتمثّل في الاطمئنان وفي المودة وفي رحمة كل منهما للآخر: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21).
والقرآن بين الرجل والمرأة يستهدف تحقيق حكمة الله في خلقه الزوجين في الإنسان يستهدف الاطمئنان والمودّة والرحمة مرة، وقد يتحقق به مع ذلك العدد والكَمِّ عن طريق النسل وقد لا يتحقق ذلك: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا) (الشورى 49 ، 50).
فإذا فاتَ مَن به عُقم أن يُحقِّق مِن قِرانه الكَمَّ والعدد، أي النسْل، فإنه لا يفوته أن يحقِّق بهذا القران الهدفَ النفسيَّ له، وهو الاطمئنان والمودّة والرحمة، وهو هدف له قيمته في حياة الإنسان وله أثره فيما يُسمَّى بمَعنويات الإنسان.
ولكن إذا أقبل مَن ثبت مِن الوجهة الطِّبِّيّة أن عنده عُقمًا على خِطبة امرأة يجب أن يُصارِحها بما لدَيه قبل أن يُتِمَّ قِرانه بها؛ فعقد النكاح كأيِّ عقد بين طرفينِ يجب ـ مِن وجهة نظر الإسلام ـ أن لا يكون به جهالة، كما يجب أن يكون بعيدًا عن الخداع.(177/3)
فإذا قبلت المرأة بعد مكاشَفتها بأمر العقم، أن تُتِمَّ قرانها به، كان عقدًا صحيحًا وبالتالي لا ينطوي على ضرر لأي من الطرفين، والعقم من أجل ذلك لا يكون حائلاً دون القران الصحيح إلا من وجهة نظر المرأة حتى لو كاشَفها به الزوج بعد إتمام القران بها ورَضِيَتْ به فإن رضاها عندئذٍ يبعد المانع دون استمرار الزوجية.
وإذا كان الله قد ربط بالقران بين الزوجين هذا الهدف المزدَوج فإن نعمته على الزوجين قد لا تكون بهما معًا؛ لأنه سبحانه عندما يوزِّع نعمه ـ وهي عديدة ـ على الناس لا يُعطيها كلَّها الفردَ، أو لبعض الأفراد دون بعض وإنَّما يعطي ما يشاء منها لمَن يشاء مِن الناس، وهنا يتفاوت الناس في النِّعَم: مَنْ يملِك المال قد لا يملك الصحة.. ومَن له الأولاد النُّجَباء ليس له لا المال.. ولا الجاه.. ومَن ليس عنده أولاد قد يكون صاحب جاهٍ ونفوذ.. ومَن له العلم ليس لدَيه المال والولد..
وهكذا.. سبحانه جلَّتْ قدرته ..(177/4)
124ـ خطب لي والدِي إحدى بنات القرية ووافقت على ذلك، وطلبتُ من خطيبتي أن لا تعمل في غيط والدها أو آخر بأجر، وإلا فلن أتزوَّجَها، وعارضني والدي، وقال: اترُكها تشتغل لتقضيَ حاجتها وتسدِّد التزاماتها، فما الحكم وما الواجب؟
الجواب:
... الأمر بينك وبين والدك، إن كلاًّ منكما نظر إليه من زاوية: فالوالد عندما رضى أن تشتغل خطيبة ابنه وتعمل بأجر خارج منزلها في الحقل، نظر فقط إلى أن الأجر الذي ستحصل عليه في مقابل العمل سيحلُّ بعض مشاكلها المعيشيّة في الحياة. وهو فعلاً قد صرَّح ـ عندما عارَض ابنُه رأيَه ـ بذلك. إذ قال له: اترُكْها تشتغل لتقضيَ حاجتها وتُسَدِّد التزاماتِها. ولم ينظر إلى أن خروجها إلى العمل من منزلها بعد خطبتها قد يتعارَض ـ فيما يظن ـ مع بعض مبادئ الدين من وُجوب محافظة المرأة على حُرْمتها الشخصية وعدم عرضها لمفاتن جسمها.
... والابن عندما عارَض في عمل خطيبته خارج المنزل نظر من الزاوية الثانية التي أغفلها والده عندما اختلف معه في الرأي، وهى زاوية الحُرْمة الشخصية للمرأة، بينما لم ينظر إلى الزاوية الأولى كليةً.
... والإسلام ـ فيما أرى ـ يُفَرِّق في مغادرة المرأة لمنزلِها وخروجها منه بين أمرين:
... ـ أن يكون خروجها لعرْض مفاتن جسمها وإثارة الجنس الآخر وإغرائه.
... ـ أو أن يكون خروجها لضرورة تدعو إليها معيشتها أو تدبير أمر أسرتها.
... ولكي يسهل فَهم الفرق بين الأمرين نسير إلى الوضع الذي كان عليه مجتمع الجاهلية قبل الإسلام كظاهرة من ظواهر العامة التي لم يرها الإسلام لوضع مجتمعه الإسلامي، وهو المجتمع الإنساني الجادُّ الذي يجب أن يحيا حياة سعيدة وهادفة، بعيدة عن الاعتداءات ومثمرة في التعاون والتآلف بين أفراده.(178/1)
... في مجتمع الجاهليّة كانت تتبرَّج المرأة وتكشف عن زينتها مما تعتقد أنه يُثير الرجل ويُغريه ويدفعه إلى التوقُّف ببصره يرنو إليها ويشتهيها فيُقبل عليها. وهى تتحايل إلى ذلك: مرة تكشف عن صدرها، وأخرى تكشف عن ساقَيْها بحركة خاصة تفتعلها. وكلما أصبح ما يُرى منها وما تكشف عنه لإغراء الرجل مألوفًا عنده ضعيفَ الإثارة والإغراء له، تُبَدِّي زينتها ومفاتنها في مواضع أخرى لنفس الغرض، وهو الإغراء والإثارة.
... والرجل في ذلك الوقت كان لا يعنيه من المرأة سوى ما يشتهيه فيها كامرأة، أو سوى ما تملِكه هي من مال. إذا كان يعيش في بيئة عادية، لا تقدر حقَّ قدره إلا ما يهواه فرج الإنسان أو مَعدتُه. ومن أجل ذلك كان يستخفُّ بكل قيمه إنسانية أو رُوحيّة، تحمل الإنسان على تحقيق إنسانيته دون التركيز على حيوانيته. ...
... ودعوة الإسلام ـ عندما جاءت رسالته ـ إلى المُحافَظة على الحُرْمة الشخصية للمرأة اتَّجهت في النداء إليها إلى كِلا الجنسين: الذكر والأنثى، على السواء، فطالَب الرجال والنساء معًا لصيانة الفروج وغضِّ الطرَف والبصر، ثم ناشدت المرأة على الخصوص بتفادي ما كانت عليه المرأة في مجتمع الجاهلية السابق من عَرْض مفاتنها وزينتها لإغراء الرجل وإثارته ودعوته المكشوفة إلى الإقبال عليها.
... فقد يُخاطب القرآن الكريم نساء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم، والمقصود طبعًا نساء المؤمنين جميعًا ـ بقوله: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33).
... يقصد إلى نهيهنَّ عن اتباع ما كانت عليه المرأة في سابق عهدها فقط. وأمرهن هنا بالاستقرار في المنزل ـ في قوله: (وقَرْنَ في بُيوتِكُنَّ) ـ لم يكن هدفه منع خروجهن على الإطلاق. وإنما وُجوب الاستقرار عندما يكون الخروج طريقًا لها لإغراء الرجل وإثارته بعَرْض مفاتن جسمها وما له من زينة طبيعيّة أو صناعية.(178/2)
... وإلا فقد بارَك الرسول عمل المرأة في ميدان القتال، وأجاز الفقهاء مشاركتَها للرجال في صلاة الجماعة. فهل كانت ستؤدِّي عملها في ميدان القتال أو تشارك في صلاة الجماعة وهي مستقِرّة في بيتها؟
... إن المرأة مُحَرَّم عليها عَرْض مفاتنها وزينتها على أجنبي عنها وهي في منزلها دون أن تخرج منه.
... وجائز لها أن تخرج من المنزل طالما تتطلب ظروف حياتها الخروج.
... وإن الشيء الذي يستسيغُه الإسلام من المرأة أن ترى نفسها "سلعة" تحملها قدماها وتسير بها هنا وهناك في كل مكان للعرض والإغراء والمزايدة أو للانقضاض عليها وارتكاب جريمة الغصب معها.(178/3)
3ـ خطَبَنِي أحد الضُّبّاط منذ عامين. وقد تعاهدنا على الوفاء إلى الأبد. ولكنه استشهد في ساحة الشرَف. فهل يلزمني وفاءً له: أن لا أتزوَّج أبدًا؟ وما حكم الهدايا التي قدَّمها لي أثناء الخِطبة؟ ولم يكن بيننا إلا الخِطبة.
هل تعَهّدت السائلة بالوفاء لخطيبها حيًّا ومَيِّتًا؟ أم تعهّدت له بأن لا تتزوَّج غيره، طالما هو على قَيْد الحياة؟
لو أنَّها تعهّدت له بالوفاء في حياته وبعد مماته يكون العهد أو الوعد باطلًا؛ لأنه ليس في مقدورها أن تتحكَّم في مصيرها بعد موته، وما ليس في مقدور الإنسان لا يدخل في نطاق الوعد به والحَلِف عليه.
وإن كانت تعهَّدت له طول حياته فقط، فموته الآن قد أحلَّها من الالتزام بالوفاء له. ولها أن تتزوَّج بعده مَن ترضاه زوجًا لها.
على أن الوعد، أو العهد عن طريق اليمين بالله يُمكِن لمَن حلَف أن يتحلَّل عن يمينه إذا رأى خيرًا في الحلِف وعدم الوفاء بما حلف عليه. لما يروى عن الرسول ـ علية الصلاة والسلام ـ : "مَن حلَف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه" أي فيتخلَّف عن الوفاء ويكفِّر عن حلفه، وليفعل، أي ما رآه خيرًا.(179/1)
وكفّارة اليمين عند عدم الوفاء بها: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تعوَّد عليه الناس من طعام، أو كسوتهم، أو تحرير إنسان في رِقّ مالكٍ له، أو في استعباد نظام حكم أو جماعة ظالمة له. ومَن لم يستطع واحدًا من الثلاثة يصوم ثلاثة أيام. وذلك على نحو ما جاء فى قوله ـ تعالى ـ: (لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُُ باللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ) (المائدة: 89)، أي لا يُحاسبكم على الأيْمان غير المقصودة التي تأتي عقدًا وجَرْيًا على عادة اللسان. (ولكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُمْ الأيْمانَ)، أي ولكن يُحاسبكم فقط على عدم الوفاء بالأيمان المقصودة، (فَكفّارَتُه إِطْعامُ عَشْرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسِطِ مَا تُطعِمونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقبةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ)، أي إذا حنَثْتُم ولم تَفُوا بها. (واحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)، أي لا تتخلفوا عن الوفاء بها إلا إذا كان في عدم الوفاء خير منها كما ذكر في الحديث الشريف.
أما الهدايا التي قدِّمت للسائلة أثناء الخطبة فهي لها ولا تُرَدُّ؛ لأن الهدية منحة في غير مقابل ولا يجوز استردادها ممَّن أعطاها ولا مِن ورثتِه بعد موته. ولمَن يُوهَب له أَنْ يَهَبَ مَنْ وَهَبَ إليه شيئًا آخر، ولكن لا يُجبَر على رَدِّها.(179/2)
30 ـ زواج المسلم بالكتابيّة وآثاره على الأسرة
مواطن بإحدى المحافظات، يروي مشكلةً كالآتي:
هو مسلم تزوَّج بكتابيّة، وأنجب منها طِفلينِ في سِنِّ الحضانة معًا، وتحت تأثير أهل الزوجة عليها أُكْرِهَ على تطليقها بعد أربع سنوات مِن زواج سعيد لم يُكدِّره إلا تَعصُّب أسرتها، وهما يعيشان الآن مُنفصلَين: هو بمحافَظته وحده لظروف عمله وهي بمحافظة أخرى مع طفلَيها.
ويذكر أنَّ ارتباطهما النفسيَّ معًا باقٍ على أشُدِّه، وأنَّ أيًّا منهما لا يستطيع الحياة بدون الآخر، ويَرَيَان أن الحَلَّ هو أن تُشهِرَ إسلامها، وقد كانت على وشك أن تُسلِم، ويسأل:
هل يُؤمَّل أن تُشهر إسلامها وتُصبح زوجةً له مرة أخرى بعد أن أصبحتْ أمَّ ولدَيْه؟
يقول الله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) (آل عمران 72 ـ 73).
فيأمر الله في الآية الثانية المؤمنين أنْ يطمئنوا فقط في تصديق ما يُقال لهم، إلى المتَّبعين دينَهم، فهم وحدهم الذين يُصدِّقونهم في القول، ويُجنِّبونهم الخِداع عن طريقه ويُقاس على الاطمئنان إليهم كذلك في المُعاملة، والعمل، والحكم والخبرة والمشورة.
وأسَّس القرآن هنا أمرَه بذلك على ما كشفه مِن خداع المؤمنين ممّن ليسوا على دينهم إذ أوصى بعضهم بعضًا بالعمل على صرف المؤمنين بالقرآن عن قرآنِهم فيُعلنوا إيمانهم به في وقت، ثُمَّ يعودوا في وقت قريب لاحق فيكفروا به؛ ليُدلِّلوا بذلك على أن القرآن لا يَستحق أن يتبعه الناس فأهل العلم ـ وهم أهل الكتاب هنا ـ كشفوا عن ضعفه بعد أن آمنوا به، فارتدُّوا عنه على أثر أن اتَّضحتْ لهم حقيقته هكذا يكون أسلوبهم في خداع المؤمنين، وفي صرْفهم عن الإيمان بكتاب الله...(180/1)
ولم يزل هذا الأسلوب النفسيّ في الخداع يُستخدم في وسائل الإعلام وفي أسلوب تحويل المؤمنين عن إيمانهم.
والزواج مِن نوع المعامَلة؛ لأنه عَقْدٌ كبقية العقود التي تقوم على التكافؤ وعلى وُجوب الأداء ولكنه أكثر خَطرًا من عقود عديدة؛ لأنَّه عقد تقوم عليه أسرة وتنشأ عنه أولاد فعقد الزواج غير المُتكافِئ كعقد زواج المسلم بمَن هي من أهل الكتاب، قد يكون خطرًا على نشأة الأولاد وتربيتهم، رغم أنَّ أولاد المسلم مِن غير المسلمة يُعتبرون من المسلمين شرعًا. ولكن المسألة ليستْ مسألة انتماء الأولاد إلى الإسلام. إنما هي مسألة الرُّوح الإسلامية التي وراء تَنشئتهم وتربيتهم.
وكثير مِن الشُّبّان المسلمين الذين تزوَّجوا بأوروبيّات وعاشوا معهنَّ في مُجتمعاتهم الإسلامية المعاصرة، خسِروا أولادهم ذكورًا وإناثًا على السواء: إمّا لإهمال تربيتهم تربيةً إسلامية، وقد يكون ذلك عن قصْد، وإما بسبب تَعميدهم سِرًّا وزياراتهم المُستمِرّة في خفاءٍ إلى الكنيسة.
والسائل لم يُداخِلْه شكٌّ في مستقبل أولاده مِن الوجهة الإسلامية، فهو مطمئِنٌّ إلى والدتِهم مِن هذا الجانب، ولا يدخل في اعتباره "تعصُّب" أسرتها الذي يُكرِّره في سؤاله، وأثره في انفصالها عنه، وأنَّ هذا التعصب قد يؤدِّي إلى إبعاد طِفليه عن الإسلام كُليَّة، وبالأخصِّ أنه لم يعد يعرف شيئًا عن الجوِّ الذي يعيشانِ فيه.
ونحن نرى في مشكلة هذا السائل أن يطلب حضانة وَلدَيْه، والقانون يُعطيه الحق في ذلك ولا ضَيْرَ عليه في أن يتزوَّج مرة أخرى، فقد يُوفقه الله إلى مَن ترضَى به زوجًا، وفي الوقت نفسه تعطف على ولديه في حضانتها لهما، وحضانتها لوَلدَيْه هي خير سبيل للحِفاظ على أسرته كأسرة مسلمة.
(ولا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ).. هي المُرشِد للإنسان المسلم في حياته متى يطمئنُّ؟... ومَن يأتمِن ويُصدِّق؟.. ومَن يُعاشر ويَسكن لعِشرته.(180/2)
65ـ سوء معاملة الزوجة وأثره السلبي على الأسرة
ورسالة على لسان زوجة أرسل بها مواطن من إحدى المحافظات تذكر فيها عددًا من الأسئلة، واصفًا لحالتها النفسية بعد أن تغيرت علاقة زوجها بها، فتقول:
كانت تحمل له حُبًّا كبيرًا.. وكانت مخلصة مُتفانية في رعايته.. وهي جميلة في ملامحها، ولكن زوجها أحبَّ امرأةً أخرى متزوجة، فابتدأ يُسيء مُعامَلتها ويُوجِّه لها الأقوال الجارحة طول اليوم. ومع ذلك هو يُصلي ويُؤدي مظاهر التديُّن.
... ولاحظت أنه أثناء معاشرتها جنسيًّا يتخيَّل مَعشوقته ويُوجِّه إليها في غير شعورٍ منه ألفاظ الغزَل، مع أنه في الحقيقة مع زوجته، وتسأل عن رأي الدين في رجل يحب امرأة متزوجة ويَشتهيها، بدلاً من زوجته؟ وهذا أول سؤال تطلب الرد عليه.
ثم تَستطرد فتسأل ثانيةً عن رأي الدين في تهرُّب الزوجة من لقاءات زوجها، وفي عدم تلبيةِ مطالبه كالعادة، بعد ما عرفت حقيقةَ مشاعِرِه نحوها؟. وقد سبَّب لها ذلك آلامًا نفسيةً وجسديةً، وتوتُّرًا عصبيًّا شديدًا، ممَّا نشأ عنه مرضُ الضغط والصداع وخاصةً بعد أن تلتقي به مباشرةً في مُعاشرةٍ جِنْسية، إذ تُحسُّ أن زوجها كان في لقاء معها بجسده فقط، أمَّا قلبه وعقله فكان مع الأخرى .
وتسأل مرة ثالثة عن رأي الدين في أنها فقدت الثقة بالرجال.. وتفكر في أن تُنَشِّئَ بناتِها على عدم الثقة أو الحب للرجال، حتى لا يتعرضْنَ للصدمات النفسية مثلها، فهل حرامٌ إنْ هي أوْعزتْ إلى بناتها بهذا التوجيه، أو أوضحت لهنَّ أنه ليس هناك رجلٌ يستحقُّ انشغالَ المرأة عليه؟(181/1)
ثم تطلب أن تعرف رأي الدين أيضًا في أنها أصبحت تحتقرُ رِباطَ الزوجية وتراه خدعةً كبرى.. كما أصبحت تشعر بالمرارة والحسْرة عندما تسمع آيات القرآن تَذكر: أنه مِن فضْل الله على الإنسان أن جعل الزوجية بين الذكورة والأنوثة مصدرًا للسُّكْنَى، والمودة، والرحمة، بين الزوجين، ويمتدُّ احتقارها لرباط الزوجية: أنها تَبصق على قَسيمة الزواج الخاصة بها كلما وقعت عيناها عليها، وتقول في لحظات الضِّيق: إن الزواج أفشْل أنظمة الأرض.. وتُعيد السؤال مرة أخرى: ما رأي الدين في هذا الشعور وفي هذه التعليقات رغم أن هذا لم يكن رأيها مِن قبل علاقة زوجها بالمرأة الأخرى المُتزوجة من غيرها.
وتنتقل في السؤال من مُحيط الأزمة وآثارها النفسية والعضوية والعقلية عليها.. إلى ما تتصوَّره حلًّا لها. وهنا تسأل: هل مِن حق الزوجة أن تُحب رجلاً آخر غير زوجها حُبًّا طاهرًا، عفيفًا، ولو مِن بعيد؟ أو مِن طرفها فقط؟
هل مِن حق الزوجة أن تهرب من التفكير المُضني والقاتل الذي يُسبِّب لها صُداعًا شديدًا.. إلى أحلام اليقظة فتتخيَّل: أنها أصبحت لرجلٍ آخر في أسرة سعيدة، وزوج مُخلص يرعاها ويَحميها؟ رغم أن هذا التصوُّر أو هذا التخيل لا يتحقَّق بالنسبة لها بسبب وُجود الأولاد في مُحيطها؟
الزوجة التي تحكي هذه الرسالة قصتها، صُدمت صدمةً عنيفة هزَّت أعماق نفسها:
أولاً: لأن زوجها أحبَّ امرأة أخرى غيرها وتعيش في كنَف زوج آخر.
ثانيًا: لأن حبَّه إيَّاها استغرق كل يقظته حتى أنساه الإحساس بوُجوده مع زوجته، عند وقت اللقاء معها في مُعاشرة جنسية، فيتغزَّل تلقائيًّا وقت المعاشرة بألفاظ يُوجهها لمَحبوبته، وكأن زوجته معه جسدٌ لا روح فيه، أو كأنها هيكلٌ لا يتجاوب معه نفسيًّا.
... ولم يكن هذا الوضع المؤلم المفاجئ للزوجة عابرًا، وقع: مرة أو عدة مرات، وانتهى أمره، ولكنه استمر، ويتجدَّد كلما يلتقي بها جنسيًّا.(181/2)
هذه الصدمة النفسية العنيفة كانت لها آثارٌ سلبية على حياة الزوجة، آثار بدنية ونفسية، واجتماعية: فأصبحت تهرب مِن اللقاء مع زوجها عندما يطلب منها اللقاء، فهي لا تُريده؛ لأنها تخرج كل مرة من اللقاء معه بما يُزعجها في العلاقة الزوجية، فهي ليست المرأة التي تملأ فراغ نفسه، وليست المرأة التي يحرص على الحياة معها.. إنها امرأة أخرى بين أحضانه..إنها امرأة أخرى حلَّت محلها بالشبَح والروح معًا.
وبجانب عدم رغبة الزوجة السائلة في اللقاء مع زوجها عندما يطلب منها اللقاء، أُصيبت بتوتُّر عصبيٍّ، وبصداع مستمر، نتيجة خيبة الأمل من جانبها في العلاقة بزوجها، وأصبحت هذه الصدمة مصادر الوَساوس والهواجس النفسية والتشاؤم عندها، فإذا فقدت الثقة في الرجال.. وإذا هي تصورت أن الزواج نظام فاشل في المجتمع.. وإذا هي استطردت في تصورها: أن مستقبل بناتها يتطلب أن يُنَشأْنَ على عدم الثقة بالرجال..وإذا أحسَّت في أعماق نفسها باحتقار رباط الزوجية.. وإن هي بصقت على وثيقة زواجها كلما وقعت تحت نظرها.. كل هذا ونحوه من الآثار السلبية لهذه الصدمة النفسية، التي سبَّبها حُبُّ زوجها لأخرى في صورة غير عادية.
هذه الصدمة النفسية للزوجة السائلة.. وهذه آثارها السلبية على حياتها الوجدانية، والفكرية، وبجانب هذه الآثار السلبية، وهي عوامل هدم في حياتها: يُوجد في هذه الحياة لهذه الصدمة عاملُ بناءٍ، ولكنه ليس عامل بناء في الواقع، ولا في الفكر السليم، وإنما هو عامل بناء في الخيال والأمل الكاذب.. وعلى أية حال هو عامل إيجابي في حياتها.. هو عامل "عوض" لمَا افتقدته أو تفتقده في علاقتها الزوجية الحاضرة.(181/3)
... هي تسعى للبديل عن وضع الزوجية التعِس الذي تعيش فيه. فتراه مرة في تخيُّلها أنها أصبحت زوجةً لرجلٍ آخر في أسرة سعيدة، ومعها زوج مُخلص يرعاها ويَحميها، وتراه مرة أخرى في أن تحب رجلاً آخر حُبًّا طاهرًا عفيفًا ولو مِن بعيد، ومِن طرفها وحدها.
وهذا وذاك تَمَنٍّ فقط تُحسُّ النفس عن طريقة بالراحة المؤقتة والزائفة.
وفي قصة هذه الزوجة ثلاث قضايا تسأل عن رأي الإسلام فيها:
القضية الأولي: حب الزوج لامرأة أجنبيةٍ تحت رجل آخر، ويبدو أن وصف هذا الحب في الرسالة أمرٌ مبالغ فيه، ولو كان مُراهقًا أو غير متزوج لقيل مثَلاً: إن هذه المرأة قد سحرتْه بجمالها أو فَتَنَتْهُ بجاذبيتها، لكنه رجل متزوج ـ ولو كان في سِنِّ الشباب ـ إقباله على المرأة الأجنبية مهما كانت فتنتها له لا يُتصوَّر، وهو له زوجة أن يكون بالصورة التي تحكيها الرسالة هنا، إذا كان ضعيف الشخصية أو كان مريضًا بالميْل إلى النساء وبأن يتبعهن بنظراته، لينتقل من الحسِّ إلى الخيال، ويستعيد فيه ما وقع له من مشاهد.
... وعلى أية حال هو لم يلتزم بغضِّ البصر عن الأجنبيات، وهو ما كُلِّف الرسول ـ عليه السلام ـ من قِبَلِ ربه بتبليغه إلى المؤمنين في قول الله ـ تعالى ـ: (قُلْ للمؤمنينَ يَغُضُّوا مِن أبصارِهمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلكَ أزْكَى لهمْ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بمَا يَصْنَعُونَ). (النور: 30).. وإنما أعطى لنفسه حق مُلاحقة النساء بنظراته المُتفحصة التي تنتهي به إلى الميل والإعجاب والفتنة فلم يأخذ نفسه بأدب القرآن، وهو آثِمٌ بخروجه من هذا الأدب القرآني.
... أما غزله في مَحبوبته وهو مع زوجته في لقاء سريٍّ فأقلُّ ما يُقال فيه: إنه لم يبلغ الرشد بعد، ولم يعرف أدب الزوجية، ولم يَرْعَ إحساس الإنسان الآخر معه، وكافيه مِن العقوبة: حرْص الزوجة على الهُروب منه، وكراهيتها له، واحتقارها للعلاقة الزوجية.(181/4)
... ومع ذلك يُجافي تصرفه هذا: حق الزوجة عليه مِن المشاركة والعمل على اطمئنانها النفسي، والمودة، والرحمة بها. فقد أزعجها بتصرُّفه الشاذِّ وسبَّب لها التوتُّر العصبيَّ وضغط الدم، والقلَق المستمر، ونفَّرها مِن شيء اسمه الزواج وأوحى لها بأن تغرس في نفوس بناتِها كراهيةَ الرجال وما خلق الذكر والأنثى إلا للقاء، والمودة ، والتعارُف…(يا أيُّها الناسُ إنَّا خلقْناكمْ مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعلْنَاكمْ شُعُوبًا وقَبائلَ لِتَعَارَفُوا). (الحجرات: 13)…
... فهو بصنيعه الذي يَصنعه يُسيء إلى امرأته كزوجةٍ، فيسبب لها الأضرار العديدة وكإنسانة فيَضعها في جوٍّ من عذاب القلق وآلام النفس، وهي لها شرعًا الحق في أن تَخلع نفسها مِنه للضرر غير العاديِّ الواقع عليها فعلاً مِن تصرُّف رجلٍ أحمقَ وأهوجَ.
والقضية الثانية: هي الآثار السلبية، وأهم واحدة مِن هذه الآثار: تشاؤُم الزوجة في الحياة، والتشاؤم إنِ اشتد يُؤدي إلى اليأس عند المتشائم، والزوجة هنا شِبه يائسة، ولذا تفكيرها غير مُتَّزِنٍ، وهي تُخطئ خطأ كبيرًا إنْ هي غرست في نفوس بناتها النُّفْرة من الرجال، وكراهيتهم.. وهي تَمْتَهِنُ نظام الزوجية لفشَل العلاقة بينها وبين زوجها.
... ونحن لا نُهوِّن مِن آثار الصدمة النفسية عليها، ولكن نُشير عليها فقط بالصبْر، فالله ـ سبحانه جل جلاله ـ في الوقت الذي تصعد فيه الأزمة عند الإنسان ما إلى قمتها يُبشِّر بانفراجها لدَيه، فيقول لرسوله الكريم: (فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا. إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا). (الشرح:5ـ 6).. وطالما لها الحق في أن تخلع نفسها مِن زوجها بسبب الأضرار التي تُعانيها في علاقتها الزوجية، ليس لدَيها مُبرِّر في الحرص على مُعاشرة زوجها.. وليس لها مبرر كذلك للاستمرار في تشاؤمها ويأْسها، نعم أولادها سببٌ قويٌّ في تَحمُّلها خيبة الأمل في زواجها، ولكن لا يبلغ إلى مستوى اليأس والانْتحار في الحياة.(181/5)
القضية الثالثة: في حياة صاحبة الرسالة: ما تَقترحه كحلٍّ لأزمتها مِن الدخول في حياة الخيال، والبُعد عن حياةِ الواقع المرير، وما تتصوَّره مِن أن تكون في الخيال مع رجلٍ آخر يرعاها ويَحميها.. أو أن تكون في أسرة جديدة وهي سعيدة: هو نوع من الأمانيِّ الكاذبة.. والإسلام لا يُقرُّ المؤمِنَ به على أن يعيش في أوهامه بعيدًا عن الواقع، بل يطلب إليه أن يتعامَل مع الواقع وحْده. فإذا كان واقع صاحبة الرسالة الآن مَريرًا وقاسِيًا فلْتخرج منه ـ بالخُلع من زوجها ـ ولتدخل الواقع مرةً أخرى ـ وربما يتحقَّق لها في واقعها الجديد ما تُؤمِّل أن يتحقَّق لها في الخيال. فيكون لها زوجًا يُسعدها في واقع حياتها ويَقِيها مِن السوء وهموم الحياة.
... والرسالة وإنْ طال أمرها فكل ما فيها أخطاء الزوج في حقِّ زوجته، بسبب عدم الْتزامه بما يُوجبه الإسلام في العلاقة الزوجية،.. وكذلك استسلام الزوجة لهواجس النفس الأمَّارة بالسوء على أثَر علْمها بعلاقة زوجها بالمرأة الأخرى. ولو أنها صبرت واستعاذت بالله مِن الشيطان والهوى، رُبَّما لم يَصل الأمر النفسيُّ عندها إلى ما وصل إليه كما وصفتْه في رسالتها.(181/6)
168 ـ عاشرْتُ امرأةً معاشَرة الأزواج، مع أنَّها متزوِّجة، ولها ثلاثة أطفال. ثم طلَّقها زوجها ـ أبو الأطفال ـ بسببي. والآن لها رغبة في الزواج منِّي. مع أنِّي متزوِّج بامرأتين أخرَيْين. فهل أتزوَّجها حتى يغفرَ الله لي؟ أو ماذا أفعل؟
الجواب:
هل لم تزَل عند السائل بَقيّة من الضمير الآن؟ هل لم يزَل يخشى الله، ويسأل عن مغفرة الله بعد كل ذلك؟ بعد أن حطَّم أسرة أخرى ففرَّق بين الزوج وزوجتِه.. وبعد أن حرَم الأولاد من عطف أمِّهم، منذ أن غادرت منزل الزَّوْجيّة.. وبعد أن أربكَ والدَهم في شؤونهم، وجعله في حَيرة وتردُّد: أيتزوّج بأخرى، وربما عندئذٍ يسيء إلى أولاده.. أم يُمسك عن الزواج وعندئذٍ ربّما لا يستطيع أن يتصرَّف التصرُّف المناسب معهم، ولا التصرُّف السليم مع نفسه.
هل يسأل الآن عن مغفرة الله له، أيسأل المغفرة، عن ارتكابه جريمة الزِّنا حتى عُرِفَ شأنُها بين الزَّوج والناس؟.. أم يسأل المغفرة عن خيانة الزوجتين معه في غَيبتهما؟.. أم يسأل عن المصير السيِّئ الذي صارت إليه الزوجة المحطَّمة، وهي ضعيفة الآن أكثر من أي وقت مضى في حياتها؟.
وأعتقد من أجل ذلك أنَّ الأثر الباقي في نفسه من خشية الله والإيمان به ضَئيلٌ. والمشكلة لديه هي مشكله اجتماعية. قبل أن تكون مشكلة الصلة بينه وبين ربِّه: هي مشكلة الزوجاتِ الثّلاث. لو تزوَّج السيدة المطلَّقة من زوجها بسبب جريمة الزنا: كيف يُعاشِرهم ويوفِّق بينهم؟. كيف يصرِف عليهم ويُدبِّر مصدر الإنفاق؟. أو كيف يترك السيدة المطلَّقة وشأنها في حال عدم تزوُّجها؟ أو أيًّا من الزوجتين معه يطلِّقها لتَحِلَّ الزوجة الجديدة محلَّها. إن لم يستطع أن يحتفظ بثلاثة زوجات؟.(182/1)
أمَّا مشكلة الصلة بينه وبين ربِّه فلا يُسوِّيها زواجُه بالسيدة المطلَّقة. فهو عاصٍ معصية مضاعَفة. والتوبة عن معصيته ليس من السهل قَبولها عند الله، بإعلان التوبة.. والاستغفار له. وإن كان ذلك شأن الله سبحانه وتعالى. ولكنَّ عِظَم الجريمة يتطلَّب الطاعة المطلَقة منذ الآن لأوامره ونواهِيه.. كما يتطلَّب محاولة إصلاح آثار جريمته، بقدْر ما يُمكن وهي من الجرائم الكبرى التي تتعلَّق بحق المجتمع، قبل أن تتعلَّق بحقّ فرْد.. أو فردين.. أو جملة من الافراد، نهى الله عنها في سورة الإسراء. فنهى عن الزِّنا بقوله: (ولاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً).. ونهى عن القتل بقوله: (ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ).. ونهى عن أكل أموال الناس بالباطل في قوله: (ولاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 32 – 34). وفي جعل القرآن الجلد: عقوبة للزِّنا في قوله: (الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ولاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ) (النور: 2). لم يكن ذلك قسوة منه، ولا همجيّة كما يُدَّعى، وإنَّما لآثاره الاجتماعية الشَّنيعة على المجتمع في أُسره. ولذا تطلب الآية هنا أن يشهد عذاب الزّاني والزانية طائفةٌ من المؤمنين؛ لأنَّ حق المجتمع تعلَّق بهذه الجريمة ككلٍّ. وليستْ هي جريمة الرجل والمرأة وحدهما.
21 ـ التوبة وكيف تتمَّ
ويسأل آخر مِن إحدى المحافظات:
كيف يتوب عن جريمة ارتكبها مع امرأة متزوِّجة وطُلِّقت بسببها من زوجها؟
أ ـ هل يُصلِّي صلاة التَّوبة؟
ب ـ هل يصوم مُكفِّرًا عن الذَّنب؟
ج ـ هل يتصدّق؟ وكم يجب أن يتصدَّق به من المال؟(182/2)
إن السائل لم يرتكِب في واقع الأمر جريمةَ الزِّنا وَحْدَها، وإنَّما ارتكب معها جريمتين أخْرَيين:
أولاهما: إغراء امرأة مُحصَنة والمرأة المُحصَنة هي المتزوِّجة وإيقاعها في الإغراء يُضاعِف العذاب للطَّرَفينِ.
وثانيهما: هدْم كيان أسرة قامت على كتاب الله وسُنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطلاق الزوجة مِن زوجها.
وأمام إرادة الله في غفرانه لمَن يشاء لا تقف عقبةٌ ما فهو القائل: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ومَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) (النساء 48).
فالشِّرك بالله وحده هو الجريمة التي لا يَغفرها إلا تحوُّلُ المشرك بالله إلى الإسلام أما ما عدا ذلك فسبحانه يقبل التوبة عنه.
والتوبة ليست صلاةً خاصة تُؤدَّى.. ولا صومًا مُعيَّنًا يُكفِّر به المذنب عن ذنبه... ولا صدقةً بمال يُخرِجُه فاعل الجريمة عوضًا عن جُرمه كما يُشير السائل في سؤاله.. وإنَّما هي تحوُّل إلى الله وإصرار على عدم مباشرة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وندم على ما مضى من الذنوب بحيث يكون وَضْع النَّدم والإصرار على عدم مباشرة المنكَر حالة تُلازِم التائب مُستقبلاً في سلوكه وتصرُّفاته.
ليستْ التوبة أمرًا مُؤقَّتًا ينتهي بالكفِّ عن الجريمة، ويتجدَّد كلما تجدَّدت الجريمة وإنما هي انتهاء مِن حال خاصّة لا تعود إليه النفس أبدًا ـ وهو حال مخالفة الله فيما أمر أو نهى ـ والانتقال إلى حال آخر مستمِرّ، وهو حال البقاء في طاعة الله والخشية منه.
والذين يظنُّون أن التوبة مِمْحاةٌ يَمْحُون بها الخطأ كلَّما وقع يُسيئون إلى الإسلام ذاته، فالإسلام لا يعرف صُكوك الغفران... إنَّما يعرف شيئًا واحدًا فقط هو أن المسلم هو مَن سَلِمَ الناس مِن أذاه.. وسلم هو من شَرِّ نفسه، والأذى كما يكون أذى مادِّيًّا يكون أذًى معنويًّا كذلك.(182/3)
وقد جاء في وصف عباد الله قوله ـ تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا. وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا). (الفرقان 68 ـ71).
فجعل مغفرة الله للإنسان الذي آمَن به مرهونة بالعزم الأكيد منه على عدم الرجوع إلى مباشرة المنكَر والفواحش(فَإِنّه يتوبُ إلى اللهِ مَتَابًا).. وفي الوقت نفسه ربطها بالعمل الصالح، وهو كل ما يتصل بخير الإنسان وخير جماعته: "ومَنْ تَابَ وعَمِلَ صالِحًا" .. على أن يكون أداؤه بصفة مُستمرة لا انقطاع فيها.
والتوبة بهذا المعنى سبيل إلى الإصلاح يوصِّل إلى استقامة النفوس في مَسلَكها وتفكيرها وما تعزِم عليه من عمل أو تتذوّقه بوجدانها.
والسائل بما ذكره في سؤاله يعطي الأمَارة الواضحة على رغبته الأكيدة في العودة إلى الله ولذا يُرجَى منه الخير.. والله سبحانه يؤازر مَن يلجأ إليه ويعيش في طاعته.
27ـ إنها علاقة آثمة في بدايتها ونهايتها
من أحد المواطنين جاءت رسالة يحكي فيها:
أولاً: إنه مُتزوج وله أولاد مِن زوجته التي لم يَزل يُعاشرها.
ثانيًا: إنه تعرَّف على فتاة أخرى غير زوجته، وهي مَعقود قرانها على شاب آخر لم يدخل بها بعد، وأنه أغْراها حتى استسلمت له قُبيل زفافها إلى زوجها، ولكي يُحاول تغطية الأمر على زوجها اتَّفق معها ليلة الزفاف على أن تتصرَّف تَصرُّفًا مُعيَّنًا. وفعْلاً تصرفت ليلة الزفاف كما اتفقَا.(182/4)
ثالثًا: لم يتركها وشأنها بعد أن دخلت بزوجها، بل استمر في الاتصال بها، حتى كُشِف أمرها لزوجها وأهلها، ثم لزوجته هو.
رابعًا: بعد أن علِمت زوجته بالقصة مع هذه الفتاة واجهتْه بأنها تخشى الله على أولادهما ولذا تتوسَّل إليه أن يتزوج هذه الفتاة. وهي لم تزل في عِصْمة زوجها حتى الآن، ثم يقول هذا المواطن أنه راضٍ عن هذا الحل الذي تَقْترحه زوجته، وهو يسأل هل هو حلال أم حرام؟
هل لم يزل في تصوُّر هذا السائل. مكان لمعرفة الحلال والحرام، بعد هذا الاستهتار؟ هل لم يزل يخشَى الله، في الوقت الذي يُصرُّ فيه على استمرار اتصاله المُريب والمُنكر بهذه الفتاة، إلى أن يُطلِّقها زوجها فيتزوجها هو؟
إنسان مُتزوج وله أولاد، لم يكتفِ بزوجته ولا بأولاده في حمل المسئولية عنهم وفي رعايتهم. وإنما يخْدع فتاةً أخرى اقترنت بشاب آخر ينتظر أن تُزَفَّ إليه. وزفافها إليه فرْحة عمره، وكانت هي كذلك يوم أن عقَدت قرانها على هذا الشاب تنتظر فرحةَ العُمر لها، لولا هذا الشيطان الذي ظهر لها في صورة إنسان، وما هو بإنسان!
إنسان يُحطِّم حياة اثنين: يُحَطِّم حياة هذا الشاب الذي يعُدُّ الأيام لزفاف زوجته به ثم يُخيِّب أمله: لا في زواج هذه فحسب: وإنما في زواج أخرى.. وأخرى بعدها.. فسيَعْتَرِيه الشك في كل مَن يُقدِم على زواجها. ويُحطم حياة هذه الفتاة ويَستضعفها حتى تَضعف له ويَسلب منها ما تعتزُّ به من عِفَّة وشرف وكرامة وأمانة لزوجها.(182/5)
أليس يَنطبق على هذا السائل: ما جاء في قول الله ـ تعالى ـ في وصف من اتَّبع هواه وسقط إلى الحضيض في مستوى الإنسانية بسبب اتباع الهوى: (فَمَثَلُهُ كمَثَلِ الكلْبِ إنْ تَحْمِلْ عليهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ). (الأعراف: 176) أيْ: هو كالكلب في أنه لا يَسكن ولا يستريح؛ لأنه نزل إلى الحضيض في مستوى الإنسانية باتباع شهوته، أصبح لا يقنع بزوجته. أمَّا أولاده..أما مسئولياته في الحياة كرجل وإنسان فهي وراء الشهوة والهوى.
إذا كان لا بد أن يجمع السائل بين امرأتينِ أو أكثر في حياته لماذا لا يتزوج ثانية وثالثة، ويُعلن مسئوليته عمن يتزوج بها. والإسلام قد رخَّص له الجمع إلى أربع؟ لماذا يختفي وراء الظلام باسم الحب ويَنتهك عِرْض فتاةً ساذَجةً، ويُفسد علاقتها بزوجها ثم يُهين بهذا الاعتداء: زوجته وأم أولاده.. معها؟
إنه بهذه القصة التي يذكرها هذا السائل في غير خجل. يتباهَى ويفخر بما يحكيه من أنه استطاع أن يجذب إليه فتاةً تُؤَلِّهُهُ، وتترك في سبيله كل رجل عداه، ألم يعلم أنه مُعتدٍ؟.. ألم يعلم أن التغرير بالضعيف لا يدخل في باب الشجاعة أو الرجولة؟.. وإنما يدخل في باب النَّذالة والجُبن والاختلاس.
يسأل السائل هنا عن الحلال والحرام. في ماذا يسأل؟ أيسأل عن إصراره في الاتصال بزوجة الشاب الآخر، رغم علْم زوجها حتى تُطلَّق فيتزوجها؟ وهل الاستمرار في مُباشرة الزنا يحتاج إلى معرفة الحلال والحرام فيه؟ أيسأل عن الحلال ورضاء الله في الزواج منها بعد أن تُطلَّق؟ وهل يرضى الله عن غاصب في صورة مُتعاقد؟ وعن سارق في صورة مُتراض.. وعن ظالم ومُكْرِهٍ في صورة مختار؟
إن السائل هنا من أول خُطوة له مع هذه الفتاة آثِمٌ وعاصٍ لله ـ سبحانه وتعالى ـ وإثْمه تحول إلى فاحشة ومُنكر معها يَبغضه الله بُغضًا شديدًا.. ثم تحوَّل إلى اعتداء على الغير وظلم له، وهو الزوج الثاني، والمُعتدي.. ومُرتكب الفاحشة.؟(182/6)
والظالم لا يتحول شأنه أمام الله بزواجٍ يُنكر الله طريقه، فالله إذا كان لا يرضَى عن خاطبٍ لامرأةٍ يَخطبها على خطبة غيره سبَقه إليها: فكيف يرضى على إكراه زوجٍ على طلاق زوجته ليَتزوجها المُكرِه؟
أما الفتاة الحبيبة لهذا السائل والتي هي الآن زوجةٌ لغيره فسَتَستَيْقظ مِن غفلتها بعد أن تتزوج حبيبها.. وستعرف أن الله لم يُبارك لها في زواجها. وإذا حلَّت المحبة بالأمس في العلاقة التي بينهما ـ كما يدَّعي حبيبها ـ فستحلُّ الكراهيةُ اليومَ محلَّ المحبَّة في العلاقة الجديدة، وهي علاقة الزوجية وسيَندم كلٌّ منهما، ولكن الوِزْرَ الأكبر على هذا العُتُلِّ الزَّنِيمِ وهو السائل الذي لا يُداري وَقاحته وفُجْره.(182/7)
89 ـ تزوَّجت منذ ثمانية أعوام من إحدى قريباتي، ولم تُنجب لي الآن، رغم علاجها. ورغبة منِّي في الأولاد تزوَّجت بأخرى وأحببتها حبًّا شديدًا.
وقد حدث خلاف بين الزوجتين، خرجت بعده الجديدة إلى بيت أهلها، الذين رفضوا رجوعها، إلا بعد طلاق الأولى. وأنا أحب الجديدة جِدًّا، ولا أستطيع طلاقها. والتوفيق بينهما مُستحيل فما رأي الدين؟
يبدو في هذا السؤال أن السائل ليس متضرِّرًا من عشرة زوجته الأولى، التي هي قريبته، وإن كان يحِبُّ الثانية حبًّا شديدًا. كما يبدو أن الزوجة الأولى ليستْ متضرِّرة من عشرة زوجها، وإن اختلفت أو تنازعت مع الزوجة الجديدة. وطلاق الزوج لزوجته شُرِع للتخلص من ضرر المعاشرة الزوجية، سواء أكان المتضرِّر بهذه العشرة أحد الزوجين، أو كلاهما. وإذ يقول الله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (البقرة: 229). يشير إلى التضرُّر بالمعاشرة الزوجية، كدافع إلى الطلاق:
فأولاً: جعْل الطلاق مرة بعد مرة، في قوله: (الطَّلاق مرَّتانِ) يعبِّر عن أنه علاج لمشكلة الضرر في العلاقة الزوجية. ولذا يباشر مرة، وتمُرُّ فترة من الوقت عليه ـ وهي فترة العِدّة ـ كي يراجع كل من الزوجين وضعَه في علاقته بالآخر. ثم إذا لم تنجح هذه المرة في المعالجة للمشكِل يباشر مرة ثانية، وتمُرُّ كذلك فترة من الوقت للمراجعة. فإذا لم يفلح الطلاق الآن كعلاج في المرتين، يكون الأمر بعدها إمّا إلى استمرار المعاشرة الزوجية بالمعروف، أي في غير إكراه ولا مُضارّة. وإمّا إلى انفصال وتسريح مصحوب بالحسنى في المعاملة، وبالأخص للزوجة من قبل الرجُل المطلِّق.
وإذا انتفي الضرر في المعاشرة الزوجية هنا بين الزوج وقريبته، فطلاقها عندئذٍ يكون في غير موضعه. ويكون استعمال الزوج له استعمالاً غير مرغوب فيه عند الله.(183/1)
واشتراط أهل الزوجة الجديدة طلاق الزوجة الأولى، كمقدِّمة لعودة الحياة الزوجية بين ابنتهم والزوج في مجراها العادي، هو اشتراط تعسُّفيٌّ الآن؛ لأنَّهم كانوا يعلمون ـ يوم وافقوا على تزويجها إياه ـ أنَّ لها ضُرّة، كما كانوا يعرفون جيدًا أن العلاقة بين الضُّرّتين ليست هي العلاقة بين الصَّديقتين على الأقل. وإذن كان الخلاف متوقًّعًا بين الاثنين.
وفقط هم يستغِلُّون الآن ما يتحدث عنه الزوج من "حُبٍّ" لابنتهم في حمله على تطليق زوجته الأولى، دون أن يكون هناك تضرُّر في المعاشَرة بينهما.
واستغلال العواطف الإنسانية في انتهاك حُرمة المبادئ الدينية ـ كمبدأ الطلاق هنا ـ أمرٌ مَبْغوض قطعًا عند الله، ومُستكره لدى الناس.
وقول الزوج في سؤاله إنه يستحيل التوفيق بين الزوجتين، هو قول رجل مُغرِض ومتحيِّز. فهو يريد أن يجرَّ بهذا التعبير "رأي الدين" إلى مصلحة في حبِّه للزوجة الجديدة؛ إذ لو سلك أهل الزوجة الجديدة المسلَك الإسلامي ـ وليس المسلك الأنانيَّ ـ لأمكن التوفيق بين الزوجتين في معاشرة زوج واحدٍ، وهو هذا الزوج القريب للزوجة الأولى، والمُحِبُّ للزوجة الثانية.
إن الحياة الزوجية ليستْ حياة جنسية فقط تملأ صدر المرأة بالغَيرة على الرجل. ولكنَّها مع ذلك ـ ربما قبل ذلك ـ حياة إنسانية يمكن أن يُسهم فيها كل واحد من الأطراف الثلاثة هنا، بما يستطيع أن يُسهم به، من تعاون على خير الأسرة ومستقبلها، ومودّة في العلاقة بينهم، وحَلّ لأزماتهم ومشاكلهم التي تَجِدُّ، وتُجَدَّد.
وكذلك لو كانت لهذا الزوج شخصيّة الرجل صاحب الإرادة النافذة، لما جَدَّ خلاف بين الزوجتين أصلاً. ولو جَدَّ لأمكنه معالجته في يُسر.(183/2)
إن الزوج الرجل صاحب الإرادة لا يوغِر صدرَ زوجته القديمة بإعلان حَبِّه لزوجته الجديدة في صورة ما، ولا يجعل زوجته الجديدة ـ لو أحسَّت بإيثارها بحبِّه ـ تتدلَّل بهذا الحُبِّ في معاملة زوجته القديمة، فضلاً عن أن يتدلَّل به أهلها، ويذهبوا في تعسُّفهم إلى حدِّ أن يشترطوا تطليقَ تلك الزوجة التي لم يهَبْها الله القدرةَ على إنجاب الأطفال، ويُضيفوا بذلك حزنًا جديدًا، إلى حزنها النفسي الداخلي على عدم إنجابها الأولاد.
ليراقبْ أهل الزوجة الجديدة اللهَ في معاملتهم للزوجة القديمة؛ خَشيةً من الله وحده الذي لا يريد السوءَ لأحدٍ: (أَفَأَمِنَ الذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتَيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعرونَ) (النحل: 45).(183/3)
164 ـ تَعيب المرأة المعاصرة تعدُّد الزواج. لماذا يرخِّص به الإسلام؟
الجواب:
في تعدُّد الزوجات كرامة للمرأة:
يقول الله تعالى: (وإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدةً) (النساء: 3).
المجتمعات الحضارِيّة المعاصِرة غير الإسلامية ترى قَصْر الزواج على واحدة. ويمارِس الرجال في الوقت نفسه تعدُّدًا في عَلاقات الصّداقة مع المرأة في خفاء أو في علَن. وعن علاقات الصَّداقة العديدة مع المرأة هناك كان للرجل الواحد أولاد شرعيُّون وآخرون غير شرعيِّين، وكان هناك مسؤوليّة معروفة ومسؤوليّات أخرى ضائعة عن الأولاد: هذه، وتلك.
والمرأة الصَّديقة التي أنجبتْ ولدًا غير شرعيٍّ وفقدت مسؤوليّة أبيه عنه وعن كرامتها تعيش في دوّامة الحياة تائهة وكارهة، وتشعر في قَرارة نفسها بالخذلان والابتذال وضياع الاحترام من الغير لها.
ولتفشِّي العَلاقة غير الشرعيّة بين الرجل المتزوِّج وامرأة أخرى غير زوجته في هذه المجتمعات الحضاريّة المعاصرة غير الإسلامية.. أُسقِط الزِّنا من تشريع بعض هذه المجتمعات ـ كالمجتمع الدانماركي ـ كسبب من أسباب الطلاق. وقد كان يُعتبر السبب الأول من ضمن أسباب الطلاق في القوانين السائدة فيها.
ولنمو نسبة الأولاد غير الشرعيّين هناك ـ وبالأخصِّ في المجتمع السويديّ ـ نظَّمَت قوانين الأسرة الجديدة وضع الأولاد غير الشرعيين، وجعلت لهم اعتبارًا اجتماعيًّا مساوِيًّا للأولاد الشرعيّين.(184/1)
وهكذا كان ابتذال المرأة وخَيبة أملها في الرَّجُل. وكان تغيير النظرة إلى جريمة الزِّنا، واعتباره غير موجِب للتفريق بين الزوجة وزوجها.. وكانت زيادة النسبة للأولاد غير الشرعيّين زيادة كبيرة هو نتائج قصْر الزواج على واحدة، مع إباحة تعدُّد الصَّداقة لأكثر من واحدة. وهذا بجانب نفاق الرجل المتزوِّج مع علاقاته من صَديقاته، وعدم مُبالاته بمستقبل الأولاد القادمين عن هذه العلاقة.
ولولا التطور الصناعي وازدهار الاقتصاد القومي الناشيء عنه في هذه المجتمعات.. لبرزَتْ هذه المشكِلة بوضعها الحالي في صورة أكبر، ولكانتْ لها آثار أعمق في ضياع هذه المجتمعات وانحدارها.
والإسلام عندما يُبيح تعدُّد الزوجات ـ ولكنّه لا يوجِبه ولا يلزم به ـ فإنَّما يرخِّص به كحَلٍّ للقضاء على جريمة الزنا، وللحيلولة دون الطفولة غير الشرعية، وللالتزام بالمسؤولية الشخصية في عَلاقة الرَّجُل بالمرأة. فثلاثة أهداف يبتغيها الإسلام من أباحته تعدُّد الزوجات، بدل الزوجة الواحدة مع الخَدينات. وهى أهداف تدفع عوامل الانحلال عن المجتمع الإسلامي، وتكسب له قوة الترابط ووضوح المسؤوليات الفرديّة. وفي قوله تعالى: (فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدةً) (النساء: 3).. يفيد أن تعدُّد الزوجات في إباحته وفي الترخيص به مقيّد بالعدل بين الزوجات. فإذا لم يستطع الزوج أن يعدل بينهنَّ فيجب قصر الزواج على واحدة. ومعنى العدْل بين الزوجات عند تعدُّدهن أن يسوِّي بينهن في الاعتبار البشريِّ، والوضع الاجتماعي، ومستوى المعيشة، والشعور بالمسؤوليّة نحوهن ونحو أولادهن.(184/2)
وشَتّان بين المساواة في كل هذا عند تعدُّد الزوجات في الإسلام.. وبين وضع الخَدينات والخَليلات مع الزوجة الواحدة في عصمة الرجل. فالزوجة تنظر إلى الخَليلات بازدراء واحتقار. والوضع الاجتماعي هناك أيضًا يعتبر هذه الخليلات اللائي يَعشْن في ظلام الحياة مع الزوج مُخرِّبات للأسرة ومتطفِّلات على الرجل. والخليلات من جانبهن ينظرْنْ إلى زوجة عشيقِهن نظرة حقد وعدم تقدير.
وواضح ـ إذن ـ أنَّ في تعدُّد الزوجات ـ على نحو ما يُبيح الإسلام ـ كرامةً للمرأة بينما في قصْر الزواج على واحدة مع إباحة تعدُّد الصديقات كما هو الحال في المجتمعات الحضارية المعاصرة ابتذال للمرأة وحطٌّ من كرامتها.(184/3)
110 ـ كيف تعرف الفتاة أخلاق مَن سيُشارِكُها من غير اتصال في فترة الخطوبة؟
إن مجتمعات أخرى ـ غير المجتمعات الإسلامية ـ تَطُول فيها فترة الاتصال بين الفتى والفتاة.. تمهيدًا للاتفاق على الزواج بينهما. وتُعرَف هذه الفترة بالتجربة السابقة على الزواج، وتُشبِه: "البروفة" لأي شيءٍ يُراد له أن يكونَ ملائمًا للمقياس الخاص به.
ولكن "تجربة الزواج" في تلك المجتمعات صحِبتْها ـ وتصحَبها ـ مآسٍ لا عداد لها، بالنسبة للفتيات، وهى تجربة للتغرير.. أكثر منها تمهيدًا لزواج جادٍّ. رغم ما تقدِّمه فيه الفتاة من صنوف التنازُلات في سبيل حمل فتاها على الزواج بها رسميًّا. وكثيرًا ما تمرُّ شهور، بل سنون، على هذه التجربة ولا تَعرِف الفتاة مَن تُعاشره فيها على حقيقته.
والإسلام يعطي فرصة للفتاة في أن تتعرف على زوجها المرتَقب. وذلك بما يُعرف بالخِطبة، ففي وقت الخِطبة سترى وجهه، وشكله، وقَوامه، وستسمع حديثه.. وستُبادله الحديث. وإذا كانت رؤية الوجه والقَوام تُحَدِّد الرغبة.. أو عدم الرغبة في الشكل الخارجي للإنسان.. فإن الاستماع إلى الصوت في الحديث.. وإن المُبَادَلة فيه تكشف عن مدى الرجولة فيه.. وعن طريقة تفكيره.. والجانب الرئيسي في حياته الذي يشغله، أو الذي يُسيطر عليه. ويجوز أن يتكرَّر وقت الخِطْبة، طالما ليستْ بين الاثنين خَلوة.. أي طالما كان مجلسهما مجلسًا عائليًّا. وفي هذا المجلس يُمكِن أن يتشعَّب الحديث. والزوجة المُقبِلة تسمع أكثر ممّا تتحدَّث.
هذا طريق لمعرفة مَن سيُشارك الفتاة الحياة الزوجية. ومع هذا الطريق طريق آخر. وهو الوقوف بالسماع، وبالسؤال عن مسلَكه: أهو مسلك يتَّسِم بالمسؤوليّة في العمل الذي يباشره؟ أهو مسلك في تصرُّفه الشخصي يَلْتَئِم مع التقاليد الصالحة في المجتمع.. أم يخرج فيه إلى التقليد الأعمى لسلوك المجتمعات الأخرى؟ أهو يؤدِّي واجبه نحو الله: في الصلاة.. والصيام أم لا؟(185/1)
فصاحب المسؤولية في العمل.. هو صاحب مسؤولية في الأسرة؛ لأنَّ الشعور بالمسؤولية لا يتجزَّأ.
والذي يَلْتَئِم مسلكَه الشخصي مع تقاليد المجتمع.. يَتَهَيَّب الانحراف والاندفاع في الخروج عنها.. كما يكون وَفِيًّا لأسرته ولأولاده؛ لأنَّ الوفاء للتقاليد جزء من صفة الوفاء فيه على العموم.
والذي يؤدِّي واجبه نحو الله، وبالأخصِّ واجب الصلاة.. وواجب الصيام.. هو أمين على واجبه.. وأمين على أسرته. فإذا كان يؤدِّي الواجب لمَن لا يراه، وهو الله جلَّ شأنه.. فإن أداءه للأمانة لمَن يراه كأسرته مثلاً يكون ألزمَ.
وهذه الأسئلة الثلاثة إذا كان الجواب عنها بنعَمْ فهناك ثقة في الرجل. إذ هو صاحب المسؤولية.. وصاحب الأمانة.. وصاحب أداء الواجب. وهو الإنسان المُتَديِّن.
والفتاة المُعاصرة ربَّما تَنفِر من كلمة التديُّن. وترى المتديِّن أنَّه المُتَزَمِّت. ولذا ترغب في الرجل العصري، وربَّما تؤثِر: مَن يشرَب.. مَن يقامِر.. مَن لا يَخْجَل من أيِّ عمل قبيح يُباشِرُه.
ولكن الإسلام في نظرته إلى المُتَدَيِّن ينظر إليه على أنه صاحب مسؤولية. والشعور بالمسؤولية وحده كافٍ في حُسْن المعاملة في الأسرة.. وفي أداء الواجب نحو عمله، ونحو مَن يُعاشِرُهم، على المدى القريب والبَعِيد. والزواج مسؤولية، قبل أن يكون عاطفة حبٍّ.. وحياة قد تصحبها أزمات، قبل أن يكون شهرَ عسل، وأحلامًا مستمرة.(185/2)
65 ـ زوجة تشكو الفراغ والضيق النفسيَّ
سيدة من إحدى المحافظات تشكو وَضْعَهَا مع زوجها بعد أن خرج أولادها من المنزل للتعلُّم في الجامعة أو للعمل، فهي تعيش وحدها في ضيق نفسي، وزوجها يُقتِّر عليها ويمنعها من الاختلاط بالجيران وهي ضيِّقة الصدر، وليست لدَيها قوة احتمال وتسأل:
أ ـ هل حلال أم حرام أن تأخذ بعض النقود مِن جيب زوجها، أو تأخذ بعض التموين كالأرز فتَبيعه لتشتريَ ما تحتاج إليه من ملابسَ ومُتطلَّبات؟
ب ـ كيف تتعلم الصبر وقوة التحمُّل على مُعاملة زوجها؟
ج ـ هل حرام أن تسمح لجارتها بأن تدخل منزل الزوجية فتُنَفِّس عن ضيقها وتُسلِّيها في وحدتها؟
الإجابة:
يُوصي الإسلام خيرًا بالزوجة: في مُعاشَرتها.. وفي إطعامها.. وفي كِسوتها وفي مُداعبتها والتفريج عن كُرْبتها حتى في فراقها يطلب الإحسان إليها فيقول القرآن الكريم: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (البقرة 229) ..
فينصح بالإحسان في الفرقة والإحسان في الفرقة هو اليُسر في المعاملة، والوفاء الكريم فيما يجب لها، والثناء عليها وتمنِّي الخير لها. والحديث الشريف في رواية عائشة رضي الله عنها يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "خَيرُكم خَيْرُكم لأهله "أي لزوجته وأولاده" وأنا خيرُكم لأهلي" .. وشُرّاح الحديث يُعلِّقون على ذلك بقولهم: في الحديث تنبيه على أن أعلى الناس رُتبة في الخير، وأحقَّهم بالاتصاف به هو مَن كان خير الناس لأهله.
فإن الأهل هم الأحِقّاء بالبِشْرِ.. وحُسن الخُلق.. والإحسان.. وجلب النفع ودفع الضَّرَر.(186/1)
والسائلة تشكو مِن وَضْع زوجها معها، بعد أن خرج أولادها من المنزل أصبحت ضيِّقة الصدر قليلة الاحتمال بالإضافة إلى ذلك فإن زوجها يُقتِّر عليها، ولو راجع الزوج نفسه في علاقته مع زوجته لتذكَّر في وُضوح أنها قدَّمت له أجلَّ خدمة وهي معاونته على تنشئة الأولاد حتى سلك بعضهم التعليم في الجامعة، وتكسَّب البعض الآخر منهم بالعمل خارج الأسرة.
وهذه الخدمة وحدها كفيلة بأن يكون هو بجانبها: يُعاونها نفسيًّا على أن يكون صدرها منشرحًا، ويُنفِق عليها من غير تقتير أو بسْط. فإذا وقف منها هذا الموقف لم تكن في حاجة إلى أن تأخذ من ماله خفْيةً ما يُساعدها على شراء ما يلزَمها، كما لم تكن في حاجة كذلك إلى أن تترقّب زيارة جارتها مِن وقت لآخر كي تُسلِّيها في وحدتها، كما تذكر الآن في سؤالها.
أما سؤالها عمَّا تأخذه من مال زوجها خفية: أهو حلال أم حرام؟ فأخذ الزوجة من مال زوجها خفية لا يُعَدُّ سرقةً حتى تُقطع به يد السارق، وكذلك أخذ الزوج من مال زوجته خفية لا يقع تحت طائلة عقوبة السرقة؛ لأن مال كلٍّ منهما بالنسبة للآخر ليس محرزًا فيَدُ كُلٍّ منهما تصل إليه. ويدْرَأ حرمة أخذ الزوجة من مال زوجها خفية ـ بعد ذلك ـ لتدفع حاجتها بما تأخذه منه، بسبب شُحِّ الزوج أو تقتيره إنه يجب عليه أن يُنفق عليها.
فإن شَحَّ أو قَتَّر فيُباح لها أن تأخذ كفايتها من ماله، من غير إذنه يروى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن هندًا ـ وكان ذلك في عام الفتح ـ قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شَحيح، وليس يُعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال: "خُذي ما يكفيكِ وولدَك بالمعروف".
ويُعلق بعض الفقهاء على هذا الحديث بقوله: إن فيه ما يدلُّ على أنه يجوز لمَن وجبت له النفقة شرعًا على شخص أن يأخذ من ماله ما يكفيه، إذا لم يقع منه الامْتثال، وأصرَّ على التمرُّد، أي على الامتناع.(186/2)
وهكذا ما تُباشره الزوجة السائلة الآن من أخذ المال خفية مِن غير علْم زوجها ليس فيه حُرمة عليها، مادام هو مُقتِّر في الإنفاق عليها كما أنه لا يُعَدُّ سرقةً.
وأخيرًا ما تسأل عنه من دعوة جارتها إلى دخول بيت الزوجية في غير وُجوده هل هو حلال أم حرام؟ فإن أمر الحِلَّ أو الحرمة يعود إلى موقف الزوج ذاته، فإن أذن لزوجته باستقبال جارتها في المنزل، فلا تكون دعوتها ولا دخول الجارة بالتالي حرامًا وإلاّ حَرُمَ. ففي حديث عمرو بن الأحوص، وقد شهد حجة الوداع مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يروي عن الرسول قوله في بيان حقوق الأزواج على زوجاتهم: "ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمَن تكرهون".. والزوجة العاقلة مهما ضاق صدرها بتصرُّف زوجها فالأولى لها أن لا تزيد في دفعه إلى الحُمق والتصرُّف بفِعْلها ما يكرهه هو وخير لها أن تُفاتِحه في هدوء فيما تكرهه منه، وأن لا تُقصِّر فيما يجب عليها نحوه.
وما أخافه من الزوج هنا في حَلِّ مشكلته مع زوجته ليس إلا شُحَّه: وقد رتَّب القرآن نجاح أي إنسان في حياته وبالأخص في معاملته للآخرين: على حماية ذاته من الشُّحّ فقال: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9، التغابن: 16).(186/3)
طالب بإحدى الجامعات يسأل عن حكم الشَّرع:
في الْتقاء فتًى بفتاة لمرة واحدة في غَيبة أهلها لمعرفة رأيها في الزواج؟
وفي الحدود التي تسمح باللِّقاء بعد الخِطبة؟
وفي مسئوليته عن ظهور العَروس في الفرَح بزِينتِها التي حرَّم الله أمام الناس؟
هما مَرْحلتانِ في حياة الرجل بالمرأة:
المرحلة الأولى: أن يكون الرَّجُل أجنبيًّا عن المرأة والمرأة أجنبيّة عنه في هذه المرحلة لا يجوز أن يخلوَ الرجل بالمرأة ولا أن تخلوَ المرأة بالرجل مهما كانت الغاية شريفة ونَزيهة كمُحاولة التعرُّف على رأيِها في الزواج، وخُلوُّ الرجل بالمرأة معناه أن لا يكون معهما مَحرَم من أهلها.
فإذا كان هناك مَحرَم من أهلها جاز اجتماع الرجل مع المرأة لخِطبتها، وجاز النظر إلى ما ليس مُحرمًا النظر إليه منها، وهو الوجه والكَفّان، وجاز الحديث معها ويجوز أن يتكرَّر هذا الاجتماع حتى يقف الرَّجُلُ على ما يدعوه منها إلى الزواج بها، أو العدول عنه يروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلا مع ذي مَحرَم".
والمرحلة الثانية: أن يُصبح الرجل زوجًا للمرأة وعندئذٍ يَحِلُّ له منها ما كان مُحرَّمًا عليه من قبلُ
وبناء على ذلك الْتقاء الفتى بالفتاة في غيْبة عن أهلها لتعرِف رأيَها في الزواج غير جائز شرْعًا.
والحدود التي تسمع باللقاء بعد الخِطبة هي تلك الحدود التي لا تُجيز للرجل أن يجتمع بامرأة في غير مَحرَم معها.(187/1)
أما مسئولية الزوج عن ظهور العروس في الفرح بزينتِها التي حرَّم الله أمام الناس فهي مسئولية قائمة بالفعل فالمَفروض أن الزوجة لزوجها وليستْ للآخرين غيره.. ومطلوب من المرأة ـ على العموم ـ أن لا تُبديَ زينتها لأجنبيٍّ عنها إلا ما ظهر منها، أي لا تبدي من بدَنها إلا ما تَضطرُّ إليه مِن كشف الوجه واليدينِ تيسيرًا لحَركتها وقضاء مَصالحها: (ولاَ يُبْدِينَ زِينتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: 31). أمّا بالنسبة لزوجها فطبعًا يَحِلُّ لها أن تُبدي زينتها له بل يطلب منها أن تعمل على ما يجذب زوجها نحوها بأن تُبعِدَ كل ما يُنفِّره منها ولذا يُستحَبُّ من الزوج إذا كان غائبًا في سفرٍ، وحضرَ أن لا يدخل المنزل فجأةً بل ينبغي له أن ينبِّه زوجته بعودته قبل دخوله حتى تتهيّأ هي لاستقباله وهي في وضع يُقْبِل عليه ويُسَرُّ منه.
63 ـ الخَلوة بين الرجل والمرأة في غير حضور أحد من مَحارِمها
ما حكم الله في الالْتقاء بفتاة أرغب الزواج منها لأعلم رأيَها، وذلك في غير حَضرة أحد مَحارمها، على أن أخطِبها مِن وليِّها بعد ذلك؟
وما رأي الإسلام في الحدود التي تَسمح بلقائي بالفتاة التي أخطِبها؟
وما مسئوليتي في نظر الشرع عن ظهور العروس في الفرح بزينتها التي حرَّمها الله أمام الناس حتى لو طَلَبْتُ من أهلها ظهورها بلباس يُرضي الله؟
الإجابة:
أما عن الشقِّ الأول، وهو الْتقاء الرجل بالمرأة في غير حَضرة أحد من محارمها فهو مَنهيٌّ عنه، حسبما جاء في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليس معها ذو مَحرم منها فإنَّ ثالثهما الشيطان". فخلوة الرجل بالمرأة لا يُقرُّها الإسلام ولو كانت هذه الخلوة للتعرُّف على رأي كُلٍّ منهما في زواج أحدهما بالآخر.(187/2)
والحديث هنا إذ يُعلِّل النهي عن الخَلوة بقول الرسول فإنَّ ثالثهما الشيطان" .. يُعطي الإشارة إلى أنَّه قد تكون هذه الخلوة بداية فتنة يتورَّط فيها الرجل والمرأة معًا، أو على الأقل تَضعُف فيها المرأة وتُخدَع بسراب الإغراء.
واختبار لجِدِّيّة الرجل فيما يتعلق باختيار المرأة كزوجة أباح الإسلام له أن يتعرَّف عليها في حضرة أحد مَحارمها، وأن يُحدِّثها، وأن ينظر إلى وجهِها وكَفَّيها أكثر من مرة. وسمَّى ذلك خطبة.
والرجل والمرأة على السَّواء كلاهما يُمكن أن يُحِسّ بشعور القَبُول أو الرفض مِن تبادل الحديث أو تبادل النظرة إلى الوجه. بل ينصح الحديث الشريف في قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمُغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ وكان قد خطب امرأة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "انظُرْ إليها فإنَّه أحرى أن يُؤدَم بينكما". ينصح بالنظر كأساس لدوام العلاقة بين الاثنينِ فيما بعدُ إذا ما الْتقيا على القَبول.
وعن الشِّقِّ الثاني من السؤال، وهو الحدود التي تسمح بلقاء الرجل بالمرأة بعد خِطبتها، فهي تلك الحدود التي تُحدِّد جو الخطبة نفسها. أي أن يكون لقاؤهما في حضرة مَحرَم لها.
وربما يبدو رأي الإسلام هنا غريبًا في عالمنا المادِّيّ اليوم الذي يؤكد استقلال المرأة وحريتها في التصرُّف في بدنها ومستقبلها، ولكن الإسلام يريد برأيه هذا أن يوفر للمرأة احترامها، وكرامتها وآدميّتها.
فإن مَن تزوَّجت فقد دخلت العلاقة الزوجية بذات مصونة عن الاستغلال، وبعيدة عن الابتذال وإنْ بَقِيَتْ بغير زواج بَقِيَتْ وهي لا تندم على خطيئة أوصلتْها إلى المهانة أو على حماقة نتيجة إغراء لعديم الإنسانية معها.
أما عن الشقِّ الثالث والأخير من السؤال، وهو مسئولية الزوج عن ظهور زوجته متبرِّجة ليلة زفافها، فالقرآن ينهى عن التبرُّج وهو الإمعان في إظهار مفاتن البدن سواء بتجسيم البدن في الملبس أو بزينة المُزيَّن في الوجه والشعر.(187/3)
فقول الله تعالى والخطاب لزوجات الرسول عليه الصلاة والسلام: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليّةِ الأُولَى) (الأحزاب 23). فنهيُ القرآن هنا عن التبرُّج قائم على أساسين:
الأساس الأول: أن بدن المرأة كله يعتبره زينة لها كما يعتبره مصدر فتنة وإغراء للآخرين ما عدا ما يظهر منه بالضرورة في تحرُّكها؛ ولذا ينهى عن أن تُبدِي المرأة شيئًا من بدنها ممّا سماه زينة: (ولاَ يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور 21).
الأساس الثاني: أن بدن المرأة أمر يخُصُّ الزوج وحده، ولا شأن للآخرين ولذا يقول: (ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ "أي أبدانهنَّ" إِلاّ لِبُعولَتِهِنَّ). "أي أزواجهن" (النور: 31).
والتبرُّج هو عرْض مفاتن البدن في صورة ما، وبأية وسيلة بحيث يكون إغراء الكثيرين من الأجانب عن الزوج ومحارمه. فعرْض المرأة لمَفاتن بدَنها على الآخرين تُشجِّع عليه العادة واتجاه المادية في الحياة، ولكن اتجاه الإنسانية الذي يُطالب به الإسلام في الروابط والعلاقات وفي رعاية الحُرمات الخاصة ـ يُرى في التبرُّج ابتذالاً للمرأة ودعوة مَكشوفة منها للجنس الآخر.
ومسئولية الزوج قائمة منذ عقد قِرانه فإنْ أراد أنَّ تكون زوجته وأسرارها له وحدَه فليُغيِّرْ من عادة الزفاف بما يُعينه على تحقيق هدفه.
73ـ ما يجوز للرجل في علاقته بخَطيبته
مواطن من إحدى المحافظات يسأل :
هل يجوز للخاطب أن يذهب مع خَطيبته إلى الكلية؛ لأنهما طالبانِ؟
وهل يجوز أن يُسافر معها في الرحلات، وما شابهَ ذلك، بدون أخيها؟
وما هي الحدود التي وضعها الإسلام لتعامُل الخاطب مع خطيبته؟
الرجل قبل الخِطْبة أجنبيٌّ عن المرأة، لا يجوز له الاختلاط بها.. ولا الحديث معها.. ولا النظر إليها. ومَطلوب منه أن يَغُضُّ بَصَرَهُ إذا ما وقع النظر عليها: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصَارِهُمْ). (النور: 30) .(187/4)
وعند الخِطْبة يُستثنى ممَّا يَحرم عليه كرجل أجنبية عنه: أن ينظر إلى وجهها ويديها بشرط ـ كما يقول الأحناف ـ أن يَعلم أنه يُجاب في زواجها، أما إذا كان يعلم أنه يُردَّ ولا يُقبل، فلا يَحلُّ له أن يَنظر إليها.
... أما الحنابلة فيَرون أنه يباح للرجل عند الخُطوبة رؤية وجْه المرأة.. ويديها.. ورقبتها، بشرط أن يغلب على ظنِّه أنه مَقبول عندها.. وأن لا يكون في خَلْوة، وله أن يُكرر النظر لما جاء في حديثٍ شريف: (إذا خَطَبَ أحدُكمْ امرأةً، فقُدِّرَ أن يَرَى مِنْها بعضَ ما يَدعوهُ إلى نِكَاحِها فَلْيَفْعَلْ)..
... والشافعية يقولون يُندب لمَن أراد التزوُّج بامرأة: أن ينظر إلى وجْهها، وكفَّيْها ظاهرًا وباطنًا فقط، فلا يجوز النظَر إلى غيرهما، أمَّا المرأة فيُسَنُّ لها: أن تَنظر مِن بدَن الرجل ما تَقْدر على نظره، ما عدا عوْرته؛ لأنها يُعجبها منه ما يُعجبه.
... والخلْوة بين الرجل والمرأة في حال الخِطبة غير جائزة، ويُروى في ذلك حديثٌ شريف: (مَن كان يُؤمن باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يَخْلُوَنَّ بامرأةٍ ليس معَها ذُو مَحرمٍ مِنها، فان الشيطانَ ثَالثهما)..
ويظل وقت الخطبة قائمًا بمُلابساته، لا يَحلُّ شيء جديد بالنسبة للخاطب حتى يتمَّ القران، فلا يحلُّ السيْر معها في الذهاب والعودة مِن الكلية إنْ كانَا طالبينِ..
ولا يحلُّ السفرُ معها في رحلة داخلية أو خارجية.
فإذا تمَّ عقْد القران أصبح الرجل زوْجًا، والخَطيبة زوجةً له، وارتفع كل مُحرَّم بينهما، عدا ما قد يُسيءُ إلى أُنوثتها، أو إنسانيتها.
وهناك آداب للزواج يَذكرها الفقهاء، ومَنِ اتَّبعها كفَل لنفسه حُسن العشرة، وأغناه اتباعها عن الدخول في تجربة الزمن والاختلاط المُحرم.(187/5)
... وفي مقدمة هذه الآداب: ما يُروى عن الرسول ـ عليه السلام ـ: (مَن تزوَّج امرأةً لعِزِّهَا لم يَزِدْهُ اللهُ إلَّا إذْلالاً، ومَن تزوَّجها لمالها لم يَزده اللهُ إلا فقْرًا.. ومَن تزوجها لحسَبها لم يزده الله إلا دناءةً.. ومَن تزوج امرأة لم يُرد بها إلا أن يَغُضَّ بصَره ويُحصن فرْجه،.. أو يَصل رحِمَه، باركَ اللهُ له فيها وباركَ لها فيه)..
... ومنها كذلك: أن تكون أحسن منه خُلقًا، وأدبًا، ووَرَعًا، وجمالاً… وأن يختار أيْسر النِّساء مهْرًا ونفَقة. ...
... وأن تختار المرأة الزوج المتمسك بدِينه، فلا تتزوج فاسِقًا.. وأن تختار الزوج المُوسر صاحب الخُلق الحسن والجود، فلا تتزوج مُعْسرًا لا يستطيع الإنفاق عليها.. أو مُوسرا شحيحًا فتقَع في الفاقَة والبلاء.
الإسلام في تحريم الخلْوة بين الرجل والمرأة، ولو كان لدَيْهما عزْمٌ قويٌّ على الزواج.. ولو كان القصد من اجتماعهما الوصول إلى ما يُساعدهما على الترابُط: يستهدف المحافظة على المرأة في أُنوثتها، وحيائها وكرامتها.. والمحافظة على الرجل في ترفُّعه ونخْوته ومَروءته.. يستهدف عدم وجود الشيطان بينهما بإغرائه فيُفسد مِن شأنها ما يَعِزُّ عليهما استرجاعه.(187/6)
... والحياة المادية المعاصرة التي تُبعد الدين وقيَمه عن أن يكون لها شأنٌ في حياة الإنسان، تُغري بمَنطقها دخول الفتي والفتاة في تجربة، كثيرًا ما تنتهي إلى الأحزان والآلام، تدفع إلى الاختلاط في الذهاب والإياب إلى الدراسة المشتركة في الكلية.. وإلى الاختلاط في السفَر في رحلة تطول وتقصر، وقد تَمضي بلياليها في إقامة مُشتركة في الفنادق والمعسكرات.والمنطق في ذلك هو التعارُف بين الطالب والطالبة.. وهو التفاهُم المشترك.. هو تبادُل وِجهات النظر في شئون الحياة. حتى إذا قامت أسرةٌ أو أُسَرٌ على أساس من هذا الاختلاط كانت المَودة والتعاوُن.. ولكن منطق الواقع هو أن يتمَّ اختلاط.. ويتمّ تعارُف ولكن لا يصلح أن تُقام عليه أسرة مُتماسكة؛ لأن ما تَمَّ نزواتٌ مِن الجانبين انتهت بوَقتها وحسْرةٍ في النفس قد تُفضي إلى نهاية الحياة.(187/7)
إن الحضارة المادية تَنصح بهذه التجربة؛ لأن وضْع الزواج في الأسرة وَضْعٌ أبديٌّ، وإذا انتهى أمره إلى الطلاق فالطلاق لا يُلغي العلاقة الزوجية إلى المَمات. ...
... لكن الإسلام عندما يُعطي فرصة الخِطبة.. وفرصة الزواج.. لا يُؤبد العلاقة بين الزوجين.. وإنما لكلٍّ منهما إن تضرر بعشْرة الآخر، أن يُفارقه، فجعل للرجل الطلاق بإرادته.. وجعل للمرأة حقَّ الخُلع واللجوء إلى القاضي لإنهاء عقد الزواج مع زوجها للضرر. كما جعل لها الحق في أن تُفوِّض مِن زوجها بالطلاق متى شاءت. ...
... فالإسلام بنظامه في الأسرة لا يَحفظ لكلٍّ مِن الرجل والمرأة كرامته فحسب، وإنما يقي المرأة على الخصوص من الزلات، ومن المذلَّة معًا والمرأة إذا احتفظت بكرامتها وعِفَّتِها في ا|لأسرة استطاعت أن تُؤدي الكثير لأولادها وزوجها. ...
... وأخيرًا.. السائل يجب أن يَعلم الآن أن الاختلاط بخَطيبته من غير ذي مَحرم لها أمر لا يُحلُّه الإسلام، سواء أكان في السير إلى الكلية أمْ كان في سفَر الرحلة، وإذا أراد الاختلاط فعليه أن يعقد قرانه عليها، وعندئذٍ تُصبح زوجته على كتاب الله وسُنة رسوله.
74ـ أثَر التفرقة في مُعاملة الأولاد:
طالبة في مدرسة المعلمات ـ لم تذكر المدرسة ولا المنطقة التي بها وسِنُّها الآن: 21 عامًا تشكو:
من أن أختًا لها سنُّها سبع عشرة سنةً، مُفضَّلة عنها عند والديها؛ لأنها كما تقول: جميلة المنظر، رغم أنها شديدة الخُلق، وهي ليست في مدرسة وهي مَخطوبة. ...
عندما تطلب مِن والديها أيَّ طلب يُنفذ فورًا بينما الشاكيَة لا يُجاب لها طلبها إلا بعد لأْيٍ أو إلا إذا أوصت عليه الصغيرة المُدلَّلة.
ووالد البنت الشاكية ووالدتها لا يَحتملانِ أية غلْطة ولا جفْوه في مُعاملتها لأختها الصغيرة، وإنما على الفور يَقومانِ بإهانتها ورفْض أيِّ تبرير منها.(187/8)
ومِن سُوء مُعاملة الشاكية مِن الوالدينِ، وتدليلهما للأخرى الصغيرة حاولت الشاكية أن تنتحر ولكنها استغفرتِ الله، وعادت إلى الإيمان به، ومع ذلك هي تطلب حلَّ مشكلتها حتى تطمئن.
ولذا تسال فتقول: وما الحل؟
الطالبة في مدرسة المعلمات هنا تشكو التفرقة في مُعاملة أبيها لها ولأختها التي هي أصغر منها سِنًّا.. تشكو: أنه يُحب الصغرى أكثر منها: أنه يُدللها: وأنه يُسرع في الدفاع عنها إذا تعرَّضت لنقْد أو لإهانة من أيِّ إنسان في البيت وبالأخصِّ مِن أُختها الشاكية. ...
... وربما أن الشاكية قد تظن أن تقدُّمها في السِّنِّ عن أختها: وأن وُجودها في مدرسة المعلمات الآن وأن نقْصها في الجمال الخُلقي، ربما يُدرُّ عطف والديها عليها إنْ لم يكن أكثر فلا يكون أقلَّ ممَّن سِواها. ...
وعندئذ كان يُمكن أن تجتاز المرحلة الحالية التي تعيشها مع أختها التي خُطبت قلبها والتي هي مُدلَّلة مِن قِبَلِ والديها. ...
... فهناك في جو الشاكية أسباب عديدة تُقرِّبها إلى اليأس مِن الحياة، أو مِن التشاؤُم منها على الأقلِّ:
ـ هناك تقدُّم السِّنِّ عن أختها.
ـ هناك خِطبة شقيقتها التي هي أصغر منها.
ـ هناك عدم شفاعة وُجودها في مدرسة المعلمات في تحسين وضْعها وإقبال الشباب على خِطْبتها والاقتران بها.
فإذا جاء الوالدانِ وجعلاها تحسُّ بنقصٍ فيها فإنهما يُضيفانِ إلى الجو الذي توجد فيه ما يَصعِّب عليها الحياة، فالبنت قد تَقبل أن أخاها يتميَّز عنها مِن الوالدين ولكنها قلَّما تقبل تميُّز شقيقتها عنها، وبالأخصِّ إذا كانت الشقيقة التي تَتميَّز عنها أصغر منها سِنًّا أو أكثر منها جمالاً، كما هو الحال هنا بين الشاكية وأختها.(187/9)
ليس هناك حرَج على الوالدينِ في أن تكون عاطفتهما نحو البنت الأصغر سِنًّا هنا، أكثر حَنانًا؛ لأن الإنسان لا يُطالَب بأن تكون عاطفته نحو أولاده في درجة واحدة، أو ذات مستوى واحد، فهذا أمر لا يَستطيع أن يتحكَّم فيه، وإنما هناك أمرٌ يُمْكنهما أن يتحكَّما فيه، وهو العدْل بين الأولاد: في المُعاملة، وفي القول، وفي إبعاد ما يُسيء، وفي إحساس المساواة، فالشاكية لو وَجدت مِن أبيها عندما تتحدث إليه، قَبولاً وإنْصافًا.. وعندما تُعبِّر له عن ألم نفسيٍّ أصابها بسبب مُعاملة واحدةٍ مِن شقيقاتها: اطمئنانًا لخاطرها، لمَا تبرَّمت بالحياة ولمَا تشاءمت فيها.
والعدل بين الأولاد في المعاملة النفسية، وبالأخصِّ إذا كُنَّ بنات، مصدر التعاطف والتَّحابِّ بينهنَّ مِن جانب، ومع الوالدينِ مِن جانب آخر.
البنت لا ترى في والدها أنه العائل لها فقط، وإنما ترى فيه سنَدها في الحِماية والوقاية. ولذَا تعتزُّ بحمايته لها أنْ أظلها بها. ولحظة أن تراه قد تخلَّي عنها تُحسُّ بظلام الحياة وبفراغٍ لا تستطيع أن تملأه مهما كانت لها مِن قوة أخرى.
... لا عوضَ مُطلقًا عن موقف الإحسان من جانب الوالد نحو بناته. فهو وحده الذي يُوقظ فيهنَّ الرضا بالحياة، والصبر على الآلام، إنْ كانت هناك آلام.
... وموقف الأب مِن الشاكية هنا لا ينطوي على ظُلم فقد ضدها. وإنما هو العامل الرئيسي في يأْسها ومُحاولة انتحارها، إذْ أنها اعتقدت أنها فقدت نَصيرها، ومهما كانت تُؤمن بالله. فالإيمان بالله في مثل هذه الحالة لا يَفعل فعْله؛ لأن الإحساس بظُلم الوالد قد ملأ على الشاكية فراغ نفسها، وهنا تُقدِم على التخلُّص من الحياة.(187/10)
وحلُّ مشكلة الشاكية: أن يسعى والدها إلى تَطمين نفسها.. وأن يُؤكِّد لها أنه يَتمنَّى الخير لها كما يتمناه لشقيقتها.. وأن يَعدل عن الجهْر بتمييز ابنته المدللة، وإلا خسِر الجميع: هذه وتلك، فتدليل الولد سبب لخسرانه. وظلم الولد أيضًا مَدعاةٌ لانحرافه، ويجعل من العدل في معاملة أولاده المنهج الذي لا يتخلف عنه، والعدل المقبول منه هو أن لا يَميل كل الميْل إلى واحدة دون بَقِيَّتِهِنَّ، على غرار ما يَطلب القرآن الكريم في عدْل الزوج بين زوجاته في قول الله ـ تعالى ـ: (ولنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النِّساءِ "وهو العدل في العواطف" ولوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ). (النساء: 129)..
والقرآن يطلب هنا أن لا يكون رُجحان الميزان واضحًا في جانب واحدة منهن دون الأُخريات.
... ولا شك في أن ما يُباشره الأب هنا مع البنت الصغيرة مِن التدليل هو ميْل واضح لها وخُروج عن محيط العدل بالنسبة لغيرها، وما يفعله مع الأخرى الشاكية من الصدِّ وعدم الاستجابة هو كذلك خروج عن محيط العدل، ولكن ضدَّها وليس لمصلحتها.
... إن أسرة الشاكية أسرة واحدة.. ووظيفة الأُبوة رعاية الأولاد جميعًا بحيث يُحسُّ كلُّ واحدٍ منهم أنه في كنَف الأب ورعايته، بدون فارق بينهم، وهذا ما يدعوا إليه الإسلام وتَطلبه التربية السليمة للأولاد.
... وعلى السائلة أن تَصبر، وأن لا تَضيق صدْرًا بأُختها التي هي أصغر منها وأن تتوفَّر على الدراسة وتترك وَساوِسَ الشيطان فيما يتصل بالزواج، فهي لا تعلْم الآن ما هو مُقدَّر لها في علْم الله، ولعلَّه يكون خيرًا يُرضيها ويُحقِّق أُمْنِيَتَهَا.(187/11)
139ـ وضع المرأة بعد قرانها يختلف عن وضعها أثناء الخِطبة
آنسة مِن إحدى المحافظات تقول إنها مُلتزمة بمبادئ الإسلام، وإنها خُطبَت لأحد الشبان في بلدتها مِن متوسطي الحال، وهو شاب متخرج في الجامعة، وطوال فترة الخطوبة كانَا ملتزمَينِ بتطبيق شرع الله في الخطبة، وهو عدم رؤيته منها شيئًا عدا الوجه والكفينِ، وعدم قيام خَلْوة بينهما على الإطلاق، وعندما طلَب عَقْدَ قرانه عليها وافقت مراعاةً لمَا يُرضي الله، ولكن بعد عقد القران أصبح الوضع مختلفًا ووجد من حقِّه أن يجلس معها على انفراد وأن يَخرجَا معًا بدون ثالث.
وتَسترسل في قصتها فتذكر أنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما علْمًا بأنه لم يدخل بها بعدُ.
وترجو توضيح ما عليها لهذا الشاب بعد عقد القران بحيث تُرضي الله، كما ترجو تعميم الردِّ وإشاعته بين بنات جِيلها، إذ إنها قابلت الكثير والكثير ووجدت نفس المشكلة عند كلِّ مَن تريد إرضاء الله.
سبق لنا أن أبدينا الرأيَ في هذه المشكلة في الإذاعة، ونُبدي الرأيَ هنا مرة أخرى بسبب ما وصلنا مِن استفسارات جديدة كثيرة حول هذا الموضوع.
والرأي هو ـ كما لخَّصَتْه السائلة في رسالتها هنا ـ أن الخِطبة تُبيح للرجل أن يَنظر إلى الوجه والكفين، ممَّن يَعزِم خِطبَتَها، كما تُبيح له أن يسمع لحديثها وأن يتبادلاه معًا في مجلسٍ يُشاركهما فيه بعض مَحارمها، وله أن يُكرِّر ما يُباح له مرة وأخرى حتى يطمئن إلى اختيارها.(188/1)
فإذا وافَقَ على عقد قرانه ووافقت هي، ولو بسُكَاتها عندما تُسأل مِن وليِّها، وتَمَّ العقد، أصبحت زوجةً له وأصبح هو زوجًا لها، وينتقل كل منهما إلى مرحلةٍ يُباح فيها ما يباح لكل زوجة مع زوجها، وكل زوج مع زوجته. ...
ودخوله بها أمرٌ يتوقف على إرادتهما وحدهما، فله أن يدخل بها بعد عقد القران مباشرةً، وله أن يُرجئ الدخول إلى حينٍ آخر قريب أو بعيد، وله أن يحتفل بزِفافه على زوجته كما يشاء، وله ألاّ يُسايرَ العُرْف في احتفالٍ مَا عندما يدخل بها، وإن كانت السُّنَّة أن يكون هناك إشهار للزواج وإعلان عنه، سواء أكان عند إتمام القران أو عند دخول الزوج بزوجته، فعائشة رضي الله عنها تروي عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قوله: "أَعلِنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضْرِبوا عليه بالدُّفوف". والفقهاء يَرَونَ أن في إعلان عن الزواج أمْرًا مُميِّزًا للزواج الحلال عن الاختلاط الحرام في السِّرِّ والخفاء.
إذَا ليس هناك مانعٌ شرْعًا في معاشرة الزوجية بين رجل وامرأة تَمَّ عقد قرانهما على كتاب الله وسُنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إثْر إتمام العقد. وإذ أَوصَى الإسلام بالإعلان عن الزواج؛ فلأنه يريد أن يدفع عن الزوجين باطلاً قد يُتَّهَمَان به عندما تحمل الزوجة في غيبة الإعلان عن زواجهما في مُحيط مَعارفهما وأسرتيهما. ...
وما يُتحدث عنه ـ مثلاً ـ من شهر العسل في رحلة ما كافٍ في الإعلان، وكذلك اجتماع الأهل والأقارب والأصدقاء عند عقد القران هو إعلان كذلك عنه، وهكذا، أما حَفلة الزِّفاف فهي تأكيد للإعلان وتمييز له.
إن الإسلام يَحتاط في لقاء المرأة بالرجل قبل الزواج لمَصلحتهما ومصلحة المجتمع في أنسابه، أما بعد الزواج فليس له قُيودٌ على علاقتهما معًا، والعُرْف وحده هو الذي يجعل دخول الزوج بزوجته بداية المُعاشرة الزوجية بينهما وليست البداية هي عقد القران.(188/2)
21 ـ بعد عقْد القران
تسأل سيدتان من إحدى المحافظات، عن نوع العلاقة بين الخَطيبة وخَطيبها، بعد عقد القران بينهما، وقبل الزفاف إليه: أهي علاقة تَسْمح للخطيب بما يَسمح به الزواج للزوج مِن زوجته؛ أي هل تسمح له بأن يُقبِّلها، وأن يَخْتلي بها مِن غير مَحرم لها، وبأن يُعاشرها مُعاشرة زوجية، الخ؟
العلاقة بين الرجل والمرأة في الزواج تمرُّ بمراحلَ ثلاث:
المرحلة الأولى: مرحلة الخِطبة، وفي هذه المرحلة يجوز للرجل، كما يجوز للمرأة: أن يرى كلٌّ مِن الآخر في نطاق الرؤية الشرعية، وأن يسمع كلٌّ منهما لصوت الآخر، ولحديثه، وأن يقف كلٌّ على مَنْطِقه وتفكيره، بما يُكوِّن لدَيْه مِن الأمارات ما يُرجِّح قبول كلِّ واحدٍ منهما للآخر. ونطاق الرؤية الشرعية هو نطاق الوجه والكفين من المرأة، ونطاق وُجود المَحرم للمرأة عند الرؤية والحديث.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد عقد القران، وقبل الدخول بها عُرْفًا. وفي هذه المرحلة يجوز للاثنينِ ما يجوز للزوج مع زوجته المَدخول بها: بها مِن تَقبيل، وخَلْوة من غير محرم، ومُعاشرة زوجية؛ لأن عقد القران يُضفي شرعية الزوجية على العقد بينهما، ويحلُّ لهما الآن ما لا يجوز منهما قبل عقْده، فإذا عاشر الزوج زوجته في هذه المرحلة نشأت بينهما علاقة جنسية فقد دخل بها، والزوجة عندئذٍ مَدْخول بها شرْعًا، يحلُّ لها المهر كله لو طُلِّقت بعد ذلك، فرْضًا.(189/1)
المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد الدخول بها عُرْفًا. في هذه المرحلة يعرف الناس، الأقارب والجيران، أن الزوجة زُفَّتْ إلى زوجها وأصبحت مدخولاً بها. ولا يَسأل أحدٌ منهم بعد ذلك عن مظاهر الوضع الجديد: من السُّكْنَى معًا، ومن الخروج في صُحبة كل منهما للآخر، ومِن كوْن الزوجة حاملًا، ومِن كون لهما ولد أو أولاد. والفرق بين هذه المرحلة والمرحلة السابقة عليها: أن الزوجين يُمارسان علاقة الزوجية في المرحلة السابقة في شِبْهِ سرِّيَّة، بينما هما يُمارسانها في المرحلة الثالثة في صراحةٍ وفي عَلَنٍ لكلِّ مَن يعرفهما.
والعلَن في المرحلة الثالثة جاء ممَّا يُسمَّى "بالزفَّة"، أو "بالدُّخْلة"، والإسلام يُشجع العلَن في الزوجية، حتى يكون نسَب الأولاد واضحًا لكلِّ مَن يعرف الزوجين، وحتى تكون العلاقة بينهما على أساسٍ مِن كتاب الله وسُنَّة رسوله واضحة كذلك، فلا يتقوَّل قائلٌ عليهما، ولا يسأل سائلٌ عمَّا طرَأَ عليهما مِن تغيير لوَضْعهما السابق. وفي الواقع مِن الناحية العملية في العلاقة بين الرجل والمرأة، بعد عقد القران بينهما: لا فرق فيما قبل "الدخلة"، أو فيما بعدها: في الحِلِّ، والحُرْمة، وفيما يجوز ، وفيما لا يجوز. فعقْد القِرآن يُقرِّب بينهما كزوج وكزوجة.(189/2)
والسيدتان السائلتان هنا تسألان فقط عن العُرْف فيما يُسمى "بالدخلة"، فالزوجة بعقد العقد يقضي العُرْف أن تُوفر نفسها فيما يتصل بعلاقة زوجها بها، إلى أن تُزَفَّ، إليه. وليلةُ الزفاف هي ليلة الفرْحة الكبرى بالنسبة للزوجينِ. وبالأخصِّ بالنسبة للزوجة. "فالعُرف" وحده هو الذي يجعل المرأة تُصِرُّ على أن تكون لزوجها ابتداءً مِن ليلة الزفاف، وليس قبلها. وحُكْم الله: أن المرأة لزوجها منذ عقد قرانها. ...
واتباع هذا العُرف يقي المرأة كثيرًا من الهموم أو الأضرار، فباتِّباعه كأنها تُشهد الآخرينَ على تكوين أسرتها الجديدة، فقد وُلدت الأسرة في ضوء، وتعيش كذلك في ضوء، وباتِّباعه أيضًا قد تُعطى لنفسها الفرصة في التعرُّف على زوجها أكثر، فأكثر، تعرف من عاداته، ومن أسلوب حياته ومعيشته، ومن تفكيره، ومن قبْضه للمال وبسْطه له، مدَى ما يُمكِّنها من الملاءمة بين ما لَه وما لَها مِن عادات، وأسلوب في الحياة، والمنطق وهي فرصة تختلف عن فرصة الخطبة، وكذلك عن فرصة ما بعد الدخول بها. فهي ـ مثلاً ـ الآن تُحِسُّ بارتفاع الحرَج في سؤال زوجها عن أمور، تُحرَج كثيرًا إنْ هي سألت عنها في فترة الخُطوبة، أو إنْ هي ناقشتْها بعد الدُّخْلة بها. فصدْر الزوج الآن مفتوح لها ولأَمانيها. وقلَّما يُعقِّب بما يُغضبها إنْ هي تمنَّتْ أكثر من الطاقة المُتاحَة له. ولذا هي تَعرِض الكثير من الأماني، التي يقوم معظمُها على خيال أو رغبات بعيدة المدى. ...
والزوج ـ كما تستفيد الزوجة بالفترة التي هي بينَ بينَ ـ يجب عليه أن يستفيد بها أيضًا في ترتيب منزله وأسرته مستقبلاً، وفي تحديد السبيل الذي يَسلكه مع زوجته. ...
وربما تُعتبَر الفترة التي بين الخطبة والدُّخْلة، بعد عقد القران: هي أمْتع الفترات في حياة الزوجين، وربما العُرف الجاري ـ وهو إصرار المرأة على أن لا تعطي نفسَها عطاءً كاملاً إلا ليلة الزفاف ـ يَزيد من متعة هذه الفترة للزوجين(189/3)
معًا. وليست هناك فترة في حياة الزوجينِ يتلهف فيها كل منهما على الآخر: في لقائه، وفي الحديث إليه سوى هذه الفترة. الأمر الذي يُقلِّل من مُتعة هذه الفترة: أن تَستجيب المرأة لمطلوب الرجل. أو ربما تُصبح بعد ذلك عاديةً أو غير مرغوب كثيرًا فيها، كما كان الوضع أول الأمر. وبالأخصِّ إذا طالت الفترة بعد عقد القران، إلى الزفاف. ...
والخلاصة: أنه ليس بحرامٍ أن يتصل الرجل بالمرأة بعد عقد القران كما يتصل الزوج بزوجته المدخول بها. فهما الآن زوجانِ. ولكن الانتظار إلى ليلة الزفاف ينطوِي على مُميزات نفسية قلَّما تُواتي أيَّ واحد من الزوجينِ.(189/4)
72 ـ لي صديق لم يُنجِب أولادًا من زوجته، ويُريد الزواج ثانية لهذا الغرض. وكلَّف زوجتَه خطبةَ زوجة ثانية له، ولكنها رفضتْ، وقالت لا أستطيع، فما الحكم في رفضها؟
هل تأكد السائل ـ عن طريق الفحص الطبِّي ـ أن الزوجة هي سبب العقم وعدم إنجاب الأولاد؟ فقد لا تكون هي السبب أو شريكة فيه ـ وعندئذٍ لا مجال للتفتيش عن زوجة أخرى جديدة، مادام لا يشكو الزوج من العلاقة الزوجيّة التي بين زوجته وبينه، فيما عدا إنجاب الأولاد.
على أن تكليف الزوجة بخطبة زوجة جديدة لزوجها، وهى باقية في علاقة زوجية معه، أمر لا تستطيعه الزوجة من الناحية النفسيّة بحال. وهو أشبهُ بطلب إنهاء حياتها بيدها. حتى ولو كان حسن النِّيّة والقصد متوفِّرًا، عندما يكلِّفها بذلك، كأنْ يُظهِر لها بهذا التكليف رضاه عنها والعمل على راحتها.
إن مُواجهة الزوجة من زوجها بأيِّ نقص في بدَنها أو في طبيعتها كأنثى، لا يَجرَح إحساسها جرحًا عميقًا فقط، ولا يدَعُها تمرَض بسبب تفكيرها فيما تدفع به النقص عن ذاتها كامرأة وزوجة فحسْب، وإنّما ـ حتّى بعد تنازُل زوجها عن نقده ومحاولة إصلاح ذات البَيْن بينه وبينها ـ سيترك لها هذا الأمر ذِكْرَيَات مريرة، تُشَكِّكها في قيمتها وفي كل تصرُّفات تأتي بها في المستقبل.
وتكليف الزوج زوجتَه بالبحث عن امرأة أخرى تكون زوجة له معها في حياة رجل واحد، يَنْطَوِي على إشعارها بالنقص في طبيعتها كأنثى. وهي لذلك تدور حول نفسها لتبحث عما يرُدُّ عنها هذا النقص، وليس للتفتيش عن ضُرّة مُقْبِلة يؤكِّد وجودها معها النقص في طبيعتها هي.
إنه مع افتراض توفُّر حُسن النية لدى السائل في تكليف زوجته بما كلَّفها به، فإن الأمر من جانبها لا يُستطاع تنفيذه بحال، بغضِّ النظر عن الإيذاء النفسي لها.
ومن هنا رفضها لطلب زوجها يتفق تمامًا وخصائص طبيعة الأنثى والزوجة... يتَّفق مع حياء المرأة وكِبريائها ودواعي وجودها عنده كزوجة.(190/1)
والشأن بعد ذلك هو شأن الزوج السائل. إمّا أن يعاشِرَها بالمعروف: فلا يجرح إحساسها، ولا يكلِّفها بما لا تطيق نفسيًّا وبدنيًّا، ولا يؤذيها في خاصة نفسها. وعسى ما يكرهه منا الآن، وهو عدم إنجاب أولاد، يكون خيرًا في واقع أمره، له ولها على السواء: (وعَاشِروهُنَّ بِالمَعْروفِ فَإْنْ كَرِهْتُموهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19).
وإمّا أن يُطلِّقها موفورةَ الكرامة، وموفّرًا لها يُسْر الحياة وحُسْنَ السُّمْعة في مستقبلها: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229).
ولكن نَصيحتي له هي: أن يُحِدَّ من أنانيته قليلاً، ولا يَتَشَدَّد في طلَب الوُدِّ، مع أنه مُتْعة الحياة؛ لأنّ الولد يُطلَب كزينة، وكنَوْع من العصبية، وكذِكْريّات بشريّة للوالد. وهى أمور يشُقُّ تحقُّقها في عالَمِنا المعاصر اليوم.
وعليه أن يرضَى بما قسمه الله له من زوجة رَضِيّة. وثروتها في أمانتها وفي حسن صحبتها.(190/2)
25ـ إلى أيِّ مدَى ولاية الزوج على زوجته
سؤالانِ يلتقيانِ في المضمون والهدف، مِن شخصين لا علاقة لأحدهما بآخر.
السؤال الأول يتوجه به مواطن من إحدى القرى: فيذكر أنه وقع سوء تفاهم بينه وبين زوجته ووالدها من جهة أخرى، بسبب اختلاف موقف الطرفين من خُروج الزوجة بغير إذْن الزوج، في أيِّ وقت تشاء، وإلى أيِّ مكان تريد الذهاب إليه، وإذا لم تكن للزوجة هذه الحرية الشخصية فتُؤْثر أن تبقى في بيت أبيها، دون العودة إلى منزل الزوجية. وهذا الموقف هو موقف الزوجة وأبيها معًا. ...
أما موقف الزوج فإنه يرى أن خروج زوجته من المنزل رهْنٌ بإذْنه حِفاظًا عليها ووقايةً لها من الاختلاط، وممَّا قد يُسيء إلى العلاقة الزوجية بينه وبين الزوجة. وقد سلك معها كل سبيل لحَمْلها على أن تشاركه هذا الرأي، ولكنها تلتزم برأي أبيها دون رأيه. ويقول: طالمَا هي في عِصْمته فالإذْن لها بالخروج من حقِّه هو، وليس من حق أبيها وأسرتها. كما يذكر: أن اختلاف الأسرة معه في هذا الشأن ليس مِن صالح الزوجة. بل هو عاملُ تهديدٍ لتَماسكها، ثم يَطلب رأي الإسلام في هذا الخلاف.
أما السؤال الثاني فهو لمُواطن من إحدى المحافظات. ويُصيغه في صورة: أنه يَغار على زوجته ويرى أن لا تتحدَّث مع أجنبيٍّ عنها، ولا مَع زوج شَقيقتها، فضلًا عن الزيارة والخروج من المنزل، وبسبب تَشدُّده في الإذْن لزوجته بالخروج من المنزل وقَع بينه وبين أُسرتها خلاف مستمر، دفَعه إلى التفكير في تطليقها وإنهاء الحياة الزوجية معها، رغم أنه أنْجب منها أطفالاً يُحبهم، ورغم أنه يُحبها هي كذلك.
يُوجَد فرق واضح بين ثلاثة مَفاهيم تستخدم في حياة المرأة:(191/1)
المفهوم الأول: الاختلاط ومعنى ذلك: أنه ليس هناك حرَجٌ في نظر القائلين به: في تعرُّف المرأة على الرجل الأجنبيِّ عنها في لقاء، أو في شارع، أو في مُنتدًى، أو في مكان ما، وليس هناك من مانع ـ أيضًا ـ في التحدُّث إليه، وفي ربط علاقة صداقة معه قد تنتهي إلى الزواج أو إلى عدم الزواج منه. ...
هذا الاختلاط لا يُقرُّه الإسلام طبعًا؛ لأنه طريق غير مأمون لاحتفاظ المرأة بعِفَّتِهَا وحيائها، وحُسن علاقتها بزوجها إنْ كانت متزوجة، إذ أخصُّ ما يُطلب من المرأة كزوجة أن تَحفظ غَيْبَة زوجها، ومعنى احتفاظ المرأة بغيْبة الزوج أن تظل نقيَّة أَمينةً على سِرِّها معه. وبقاؤها على هذا النحو أمرٌ مشكوك فيه، إذا ما اختلطت برجالٍ أجانبَ عنها. ...
وعندما طلب القرآن من نساء النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونساء المؤمنين كذلك: الاستقرار في البيوت، في قول الله ـ تعالى ـ: (وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ). (الأحزاب: 33)..(191/2)
لم يقصد إلى تحريم خروج المرأة من المنزل. وإنما يقصد أولاً وبالذات إلى أن تَتَّقِي "الاختلاطَ" الذي هو طريق غير مأمون في حياتِها كامرأة. ...
المفهوم الثاني: الخروج، أيْ خروج المرأة من المنزل لقضاء حاجة، أو لزيارة الأهل والمحارم، وهو أمر مشروع إذا عَرف به الزوج وأقرَّه، فطلب القرآن من الرسول ـ عليه السلام ـ: أن يُبلغ المؤمنات بوُجوب غضِّ البصر في قول الله ـ تعالى ـ: (وقُلْ لِلْمُؤمناتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبْصَارِهِنَّ). (النور: 31).. دليل على جواز خُروجهنَّ من منازلهن؛ لأنه لا يطلب منهن أن يَغضضن الأبصار عن الرجال الأجانب إلا إذا كان هناك احتمال للقاء بين الطرفين، خارج المنزل طبْعًا على نحو ما يَطلب من المؤمنين: أن يغضوا من أبصارهم في قول الله ـ عز وجل ـ: (قُلْ للمُؤمنينَ يَغُضُّوا مِن أَبْصَارِهِمْ). (النور: 30).. فغَضُّ البصر من المؤمن والمؤمنة على السواء يُطلب عندما يلتقي نظر المرأة بأجنبيٍّ عنها أو نظر الرجل بامرأة أجنبية عنه، واحتمال الْتقاء النظر من أيٍّ منهما إلى الآخر إنما يكون خارج المنزل، وليس بداخله. أما إذا كان هذا الالتقاء داخل المنزل فإنه يُعتبَر اختلاطًا. وحُكمه ما سبق.(191/3)
وخروج المرأة للعمل والحرَج فيه أن يصير إلى "الاختلاط" إذِ الحثُّ على خروج المرأة إلى العمل، من جانب "ثورة التحرير للمرأة".. أو من حركة التحرير لها لا يُقصد منه المنفعة الاقتصادية للمرأة بقدْر ما يُقصد منه دفعها إلى الاختلاط في مجالات العمل المختلفة، فالعمل طريق إلى "حرية" المرأة سواء عن طريق استقلالها عن الرجل اقتصاديًّا، بالأجر الذي تحصل عليه من العمل، أو عن طريق مُمارستها هي للعمل في ظل الاختلاط بالأجانب عنها. ...
والمفهوم الثالث: التبرُّج. وهو أن تُلفت المرأة نظر الرجال إليها بما تَصنعه في مَلْبسها أو في عُرْيها، أو في حركتها وسَيْرِها، وطبعًا لا تُلفت المتبرجة نظر الرجال إلى فِتْنتها إلا إذا كانت خارج المنزل وعَرضت نفسها إلى أنظارهم، كي تشدها نحوها. ونظَرًا لارتباط "تبرُّج" المرأة بخروجها من المنزل، كان تحريم التبرج ـ وهو مُحرَّم من غير شك ـ ذا أثر عندما يحكم على خروج المرأة من بعض المتحدثين باسم الإسلام: أنه كذلك حرام على الإطلاق، ولكن ربما يكون الحكم السليم في رأيي على خروج المرأة: أن خروج المرأة مُحرَّم إذا كانت مُتبرجة، تعرض مفاتنها على الرجال، وأنه محرم أيضًا إذا صار أمره إلى الاختلاط، وأنه جائز إذا تَجنَّبتِ المرأة التبرُّج، والاختلاط معًا، وأصبح خروجها طريقًا لقضاء الحاجة أو لمُجاملة الأهل، أو لعيادة المرضَى من المحارم، أو لأداء واجب الدفاع عن دين الله.(191/4)
وقِوامة الرجل على الأسرة ـ وهي مسئوليته عنها في حِمايتها من الأضرار، وفي الإنْفاق عليها، وفي رعايتها ـ تفرض على الزوج أن يُشارك زوجته الرأي في تصرُّفاتها فيما يَخصُّه ويخصُّ أولادَه منها، ولكنه لا يُشاركها الرأي في مالِها وأجْر عملها، فهي مستقلة في شئون المال، وهو غير ذي مسئولية فيه. فبِحُكم المسئولية المشتركة بين الزوجينِ وبحُكم رِيادته وقِوامته على الأسرة يجب على الزوجة أن تَستأذن زوجها في الخروج من المنزل لأداء مهمةٍ مَا. وخروجها بدون إذْنه هنا يُعتبر نَشازًا منها. ...
فإذا وَجد الزوجانِ السائلان هنا: مُعارضة في هذا الحق الذي للزوج، من جانب الزوجة وجانب أبيها وأسرتها، فإن المُعارضة منهم مُتأثرة "بحرية المرأة" وهذه الحرية مفهوم جديد ودخْل على حياة الأسرة المسلمة في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو مفهوم ناتج عن استقلال المرأة في الغرب استقلالاً اقتصاديًّا عن الرجل، بالعمل الذي تُباشره، وتأخذ عليه الأجر، فطالما المرأة ـ في منطق الاستقلال ـ تُنفق على نفسها من عمِلها الخارجي، فذلك الإنْفاق الذاتي يَكْفُل لها الحرية الشخصية، ليس في الخروج إلى العمل، وليس في اختيار نوعه فقط، وإنما كذلك في الصُّحْبة للآخرين، وقضاء العطلة مع أجنبيٍّ عنها في أيِّ مكان تشاء.
ونُكرر: أن على الشاب في اختيار زوجته المُقبلة، وعلى الفتاة في اختيار زوجها المقبل: أن يتحرَّى كل منهما في الآخر قبل عقد الزواج الاتجاه المَرغوب لها وله في حياة الإنسان اليوم في مجتمعاتنا المعاصرة، وبالأخصِّ صاحب الاتجاه الإسلامي أو صاحبة الاتجاه الإسلامي، فيجب أن لا يرْكن أي منهما إلا لمَن عنده الميل نفسه. فذلك أضْمن في المستقبل للأُلْفة والترابط على كتاب الله وسُنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم.(191/5)
وننصح السائلينِ هنا أن يُعالجَا المشكل في هدوء بمنطق المصلحة التي تعود على المشاركة الصريحة والنزيهة بين الزوجينِ، سواء في تماسُك الزوجية أو في استمرارها. إلا إذا كانت زوجةُ أيِّهما لا ترغب في الاستمرار في الزوجية. وتتخذ من "الحرية" الشخصية والإصرار عليها سِتارًا تختفي خلفه للوصول إلى انفصام العلاقة بينهما وبين زوجها. وهذا أمر يجب أن يُدركه الزوج قبل أي إنسان آخر. فالمرأة تُعبر بأحاسيسها وحركاتها، قبل أن تُعبر بكلماتها، عمَّا تُريده وتقصد إلى تحقيقه.(191/6)
112 ـ تزوَّجت إرضاءً لوالدي على غير رغبتي. وذُقت المُرَّ بسبب هذه الزوجة. وهى الآن حامل. فإذا أبقيتُها أشقيتُ حياتي وأرضَيْت أهلي، وإذا خالفتْهم حدث العكس. فما الرأي؟
إن عقد الزواج لا يَتِمُّ في الإسلام إلا مع توفُّر الإرادة الحرة فيه للرجل، والمرأة على السواء. وهنا كان الإيجاب والقَبول ضرورتين فيه، كتعبير عن هذه الإرادة الحرّة. والمرأة مع حيائها لا بدَّ أن تعطي إذنها فيمَن تتزوَّج به. فإن كانت ثَيِّبًا فإذنها قولُها الصريح. وإن كانت بكرًا فإذنُها سكوتها.
نَعَم قد يُؤَثِّر على إرادة الرجل في اختياره المرأة كزوجة له ما لها من مال.. أو حسب.. أو جمال.. أو ترغيب أهله. وقد يُؤَثِّر أي من هذه العوامل كذلك على المرأة في اختيار الرجل زوجًا لها. ولكن المسئول في النهاية عن خطأ الاختيار الواقع تحت التأثير: هو صاحب الإرادة نفسه.
وشُرِعت الخِطبة ـ وهى تعرُّف الرجل على المرأة، على نحو يَرضَى بها كزوجة ـ كطريق لتكوين هذه الإرادة الحرّة عند الرجل والمرأة. فيُروى عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله: "كنتُ عند النبي ـ عليه السلام ـ فأتاه رجل فأخبره بأنّه تزوّج امرأة من الأنصار ـ أي شَرع في زواجها ـ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَنَظَرْتَ إليها؟ قال: لا. قال: "فاذهب، فانظر، إليها؛ فإنَّ في أعين الأنصار شيئًا" إذ يُقال: إنَّ أعيُن الأنصار كانت زرقاءَ.. أو صغيرة" . فالرسول ـ عليه السلام ـ نصح القادم عليه بالنظر إلى مَن يُريد أن يتزوَّجها حتى إذا استبانَ ما بها من صفه خاصة، فيما بعدُ، لا يكون قد خُدِع. وبذلك يكون قَلِقًا في حياته معها.(192/1)
ويُحكَى في الزوجة النموذجية ردُّ الرسول ـ عليه السلام ـ على مَن "قيل له: يا رسول الله: أي النساء خير؟ قال: التي تَسُرُّه إذا نظرَ وتُطِيعُه إذا أمر، ولا تُخالفه في نفسها ولا مالها فيما يَكره". وكظاهرة عامة لحُسْن اختيار الزوجة يُروَى عنه ـ عليه السلام ـ: "أن الدنيا كلها متاع، وخير مَتاع الدنيا المرأة الصالحة"، وهى صاحبة الأهليَّة في تربية الطفل، وتدبير المنزل، واستقامة السلوك، والمُشارَكة بكل ذلك في بناء الأسرة.
كل هذه ـ من الإرادة الحرة في اختيار الزوج أو الزوجة، ومن الخِطبة، ومن الأمارات الدالَّة على أهليّة الزوجة ـ تُعتَبَر مُقَدِّمات ضرورية لتَجَنُّب قسوة الحياة الزوجيّة، وسوء المُعاشرة بين الزوجين، وتَضَرُّر أحدِهما بالآخر.
ومع ذلك إذا تَأَزَّمَتِ الحياة الزوجية، وضاق أحد الزوجين بالآخر، بحيث لا يرى مفرًّا من الفُرقة.. فالطَّلاق لا بديل عنه في إبعاد الضرَر.
ومما ورد في سؤال السائل، إنْ لم يَملِك من قَبْلُ حريةَ الإرادة تحت تأثير والديه في رفض الزواج بزوجته التي يكرَهُها الآن فإنَّه يملِك الآن طلاقها. فهو المُعاشِر.. وهو الزوج، وليس الوالد، وهو المتضرِّر بما أُكره عليه من حياة زوجية، وليس أحد سواه: (فَإِمْساكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسريحٌ بِإِحْسانٍ) (البقرة: 229).(192/2)
65 ـ لماذا تُمْهَر المرأة ممَّن يتزوَّجها؟
كرامة الزوجة في مهرِها:
يقول الله تعالى: (وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلةً) (النساء: 4).
تذكر الآية هنا أمرين:
الأمر الأول: تقديم الرِّجال للنساء عند الزواج بِهِنَّ مهورًا: (وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ).
الأمر الثاني: أن هذه المهور عطايا ومِنَح من الرِّجال، وليست ثمنًا لشيء عند المرأة، (نِحْلَةً) أي هدية.
والأمر بالمهر عند الزواج هو لصيانة المرأة عند الابتذال، ولتكوين الإحساس لديْها بأنَّها مطلوبة الآن من الرَّجل، وليست هي بطالبة إيّاه وساعية نحوه. وإذا توفَّر لديها هذا الإحساس ـ رغم أنّها في واقع الأمر تطلب الرجل نفسيًّا كذلك ـ فإنَّها تدخل العلاقة الزوجيّة مع زوجها وهى مصونةٌ الكَرامة، مُعتزّةً أنها الآن بين يدي مَن يقدِّرها، وقد طلبها، ويحرِص على بقائها معه، طالما قد قدَّرها وطلبها من قبل، معبِّرا تعبيرًا مادِّيًّا بالمهر عن طلبه.
ولو فُرِض العكس وهو أن المرأة تدفع للرجل مهرًا عندما تتزوّجه.. لكان ذلك تعبيرًا منها على الرغبة فيه، والسعي إليه، والإلحاح في طلبه، ممّا يجعل المرأة ـ مع ضعفها في مقاومة صِعاب الحياة نفسيًّا على الأقل ـ تُحِسُّ بالمهانة وبزيادة الضعف. فإذا دخلت العلاقة الزوجيّة تدخلها وهى لا تستطيع أن تشعر بأنها في مستوى زوجها. وعندئذٍ مهما أعلنتْ بأن لها نفس الحقوق وعليها ذات الواجبات التي للرَّجل والأخرى التي عليه فإنّها قلَّما تمارس معنى المساواة بينهما في الحياة الزوجية.(193/1)
أمّا وصف المهر بأنّه هدية ومنحة من قبل الزوج فللخروج به عن معنى الثمن في عقد البيع؛ لأن عقد الزواج وإن كان يقوم على التماثُل والتكافؤ بين الرجل والمرأة فليس المهر ثمنًا لشيءٍ فيها؛ لأن الثمن دائمًا هو مقابل لشيء في عقد المبادَلة. وحرص القرآن على أن يدفع عن المهر معنى الثمن ليؤكِّد الهدف من المهر. والتعبير عن طلب الرجل للمرأة في علاقة زوجية. وإلاّ لو كان المهر ثمنًا لكانت المرأة بالتالي سلعة. وإذا نظر إليها على أنّها سلعة أُهدِرَتْ كرامتها الإنسانية، وتحوّلت إلى أمر مادِّيٍّ يُساوَم عليه وذلك منتهى الإذلال لها.
فمطالبة الرّجل بالمهر للمرأة عند الزواج بها، وإبعاد المهر عن معنى الثمن والدُّخول في المساومات المادية ـ هو لكرامة المرأة وحدها. وقيمة المهر هي ـ إذن ـ في التعبير عن طلب الرجل للمرأة فقط، وليس لكَمِّه المادِّيّ.
والحضارة البشريّة المعاصرة رغم تقدُّمها في الجانب المادِّيّ تقدُّمًا عظيمًا.. فإنها لا تتقدم حتى الآن ـ بما يقرب من نظرة الإسلام إلى المرأة ـ في إبعاد المرأة عن الضعف والمَذلّة، إذا عقدت مع الرجل علاقة زوجية. فما زالت المرأة تُحمَل عند الزواج على أن تكون هي الطالبة للرجل، وأن تكون البادئة في ذلك بما تقدِّمه له من مُغريات عديدة. ولعلَّ أرخص هذه المُغريات ما تسوقه إليه من مال، على أنه أمر واجب ليُنْقِذَها في مقابلة من العُزلة في الحياة.(193/2)
29ـ خيانة الزوجة في غَيْبة زوجها فاحِشة مُبيّنة
سيدة من إحدى المحافظات تقول إن زوجها تغيَّب عنها في الخارج "في بلاد برَّه" لعمل. وسيحضر قريبًا. وهي مع كونها مُؤمنة بالله وتؤدي الصلاة دائمًا فإنها انحرفت في غيْبة زوجها: في حق الله وفي حق نفسها. وهي تخشى زوجها لو اعترفت له بانحرافها. فهو صعيديٌّ وتعرف موقفه مُقدمًا. فقد يُؤذيها.. وقد يكشف أمرها ويَفضحها. ولكن ضميرها يُؤنِّبها. وتسأل: هل تَهْرب مِن منزل الزوجية؟. ولكن معها طفلة منه. إنها تدعو الله أن يُطلقها. وعندئذ تتفرغ لعبادة الله وحده.. إنها حائرة: لا تنام.. ولا تستطيع أن تعيش بأيِّ وضْع وتطلب النصيحة.
أي شيء حمل السائلة على الانحراف؟ وهي تقصد بالانحراف إنها كانت تُعاشر شخصًا آخر مُعاشرة غير شرعية في غيبة زوجها بالخارج.. أي شيء دفع السائلة ـ وهي عندها طفلة ـ أن تبحث عن المُتعة الجسدية مع رجل غير زوجها؟ أو غياب زوجها في الخارج لفترة طويلة ـ كما نظن ـ أغراها بعرض أُنوثتها، أو بقَبولها مُعجَب بها؟ ألم تعرف معنى الوفاء لزوجها إذا غاب عنها؟ والوفاء للزوج الغائب من أهم الصفات البارزة في صلاحية الزوجة وأهليتها في الأسرة. ...
ألم تُدرك معنى الأمانة في عِرْض زوجها في عدم وُجوده معها؟ أليست بينهما في علاقة بعضهما ببعض: كلمةُ الله؟ وكلمة الله هي نداء الله بمسئولية الزوجة على زوجها في أهله وعِرْضه.. وبمسئولية الزوج على زوجته في حقوقها وما يجب عليه أداؤه نحوها؟ ألم تتذكَّر زوجها وهي تحتضن طفلتها.. أو تُناجيها.. أو تُداعبها.. أو ترعاها بصفة عامة؟ أليست الطفلة الرمْز المُجسِّم للعلاقة النفسية بين الزوج وزوجته؟(194/1)
إنها الحضارة المادية المُغرية الفاتنة. إنها صُور التمثيليات والقصص القصيرة المتكررة على الأبصار والأسماع التي تُشيد بعلاقة المرأة بالرجل، القائمة على الحب المُفاجئ أو الوقْتي أو الخاطف، كما يقول رواة هذه القصص. إنه حب النزوات الذي يقتحم الحُرمات ولا يَترك إلا الحسراتِ والأنَّات. ...
إنها الحضارة المادية المُغرية، التي تُحسن الخمر والسُّكر، وتَناول المخدر في أنواعه العديدة كوسيلة لاقتناص اللذَّة.. وتُحسن الرقص واحتكاك الأجسام بالأجسام في حركات عابثة.. وتُحسن الخروج عن القيَم والفضائل الإنسانية؛ لأنها قد مضى عليها الوقت، وانتهى منها الاعتبار! ...
إنها الحضارة المادية المغرية التي صُدِّرت إلينا، والتي نَستوردها الآن تِباعًا في إصرار، بعد ما هلكتْ مجتمعات أخرى، وعوَّدت أفرادها على إدمان المُسكر.. والمخدر.. على ضعف الإرادة واستحسان الفوضَى.. وارتكاب الجرائم، ومباشرة التخريب والاضطرابات كما أضعفت فيهم قُدرة الإخْصاب والاستطاعة على تزويد شُعوبها بالقوى الوطنية العاملة. ...
إنها الحضارة المادية المُغرية الفاتنة، التي طغَت على القيم الإنسانية والحُرُمات التي للأفراد: فلم تعُد بين الأم وابنتها، والأخت وأختها مَثلاً.. حُرمة تمنع النفوس الخبيئة من الاستمتاع بالواحدة بعد الأخرى، أو معهما معًا.(194/2)
هذه الحضارة المادية هي العامل الرئيسي في انْحراف هذه السائلة، بعد أن غاب عنها زوجها، وربما لفترة طويلة نِسْبِيًّا، ومن الأسف أن هذه الحضارة تدفع إلى الانحراف والفساد وإضعاف العلاقات التي يُريد الله لها: أن تَظلَّ قوية ونظيفة، ولكنها لا تُعالج الانحراف والفساد والعبث. ...
هذه السائلة تقترح أن تهجر منزل الزوجية. ولكن إلى أين؟ إلى منزل أو منازل أخرى؟ وكيف يكون إحساسها في مِهْجرها وهي لا تستطيع أن تتزوج؛ لأنها لم تزل في عصْمة زوجها الذي هجَرته. وهي لا تستطيع أيضًا أن ترى طفلتها ولا أن تطمئن على صحتها. ...
إنها تتمنَّى أن تُطلَّق وتُترك لحالها، وعندئذ تتفرغ لعبادة الله، ألم يكن الله مَوجودًا عندها من قبل؟ ألم تتذكَّره فيما مضى لحظةً في غياب زوجها، وهي إن تَذكَّرتْه كانت ولا بد عائدة إليه وبالتالي عائدة على عِفَّتِهَا، وأمانتها، على عِرْض زوجها، وعندئذ كانت في غِنًى عن أن تقترح الهجرة أو عن أن تتمنَّى: أن تُطلق من زوجها وتترك لشأنها.
إن أمام السائلة: التوبة والرجوع إلى الله.. والعمل الصالح لنفسها، ولزوجها ولطفلتها، فإذا أصَرَّت على أن تُسدِل سِتارًا على الماضي بحيث لا يَرِد في تصوُّرها أيُّ أمرٍ من أموره، فضلاً عن أن يَقتحم خيالها بعضٌ منه تتمنَّى وُقوعه من جديد، ثم صمَّمت على أن تسلك الطريق السوي لها ولأسرتها: عندئذ اعتقد أن الله سيقبل توبتها ويَغفر لها، وبذلك تعيش وهي هادئة البال مطمئنة النفس.(194/3)
أمَّا كشْف الأمر لزوجها ـ وهو أمر سيُحرجه إلى درجة ارتكاب الجريمة ـ فقد يُسيء لها، ولنفسه، ثم لطفلتهما، فإذا لم يَرتكب جريمة فهو لا يَقبلها نفسيًّا طول عِشْرته لها، وهنا تَسُوءُ الحياة الزوجية وحياة الطفلة معها. إن الاعتراف من الزوجة للزوج، أو بالعكس، بجريمة الزنا في مجتمعات الحضارة المادية: ناشئ عن صعوبة الطلاق كحلٍّ لمشاكل الزوجية، وقَبُول المُهادَنة بين الطرفين لفترة من الوقت، يَعقبُها، الأخَذ بالثأر، بمُباشرة الزنا مع شخص آخر. ومع ذلك فالاعتراف لا يُعيد العلاقة الزوجية إلى وضْعها السابق عليه.
والله قد قال في كتابه المجيد، بعد ذكر "الفاحشة": (إنَّمَا التوبةُ على اللهِ للذينَ يَعملونَ السُّوءَ بجَهالةٍ "أي مِن غير تفكير في عاقبتهما" ثم يتوبونَ مِن قريبٍ "أي بعد مدة ليست بعيدة من مباشرة الجريمة" فأُولئكَ يتوبُ اللهُ عليهمْ). (النساء: 17). فقد وعد الله بقَبول التوبة ممَّن كان لا يُقدِّر عواقب الجريمة على نفسه، أو على أسرته أو على المجتمع، على نحو ما تجلَّت له بعد ذلك، وفي الوقت نفسه لم يُؤجِّل التوبة استهتارًا منه إلى الوقت الأخير مِن حياته.. والسائلة عليها أن تَلُوذ وتلْجأ إلى الله. وليست بحاجة إلى أن تهجُر منزل الزوجية، ولا تُطلق، وتعيش راهبة وحدها.(194/4)
104ـ نزوات الشباب
شابٌّ متزوج منذ اثنتي عشرة سنة، ومنذ سنة سكَن أخوه في المنزل معه، بالإضافة إلى بعض أفراد أسرته، ثم حصل خلافٌ بينهم وبين زوجته، وعندما راجع هذا الخلاف اتَّضح له أن زوجته تَقف بجانب أخِيه مُخْطئًا أو مُصِيبًا وقد فاجأها بطَرْده من المنزل، وبأن طلب منها الحلِف على المصحف بأنها ليست لها علاقة غير شريفةٍ به، فاهتزَّت وانزعجت، واعترفت بما كان بينها وبين أخيه.
ثم يقول لي منها ولدينِ.. وأنه مِن تاريخ هذا الاعتراف وهو مُرْهَقٌ ومُتْعَبٌ نفسيًّا، بسبب ما وقع بين أخيه وزوجته، ويسأل عن رأي الدين في ذلك كي يَطمئن، فإرْهاقه لا يُحَدُّ.
إن السائل يشقُّ على نفسه أن يُعادي أخاه. ويقف منه موقف الخصومة العنيفة كما يشقُّ على نفسه كذلك: أن يترك زوجته ويُفارقها وهو له منها ولدان، ومن هنا كان تعبُه النفسيُّ وإرهاقه الذي يصفه بأنه غير محدود.
... إنه ينظر الآن إلى الحياة نظرةَ تشاؤمٍ، كيف يَستمر مع زوجته ـ على الأقل مِن أجل ولدَيه ـ ويَطمئن نفسيًّا إلى سلوكها، بعد أن جنَحت عن الطريق السويِّ وعاشرت أخاه معاشرةً بغيضة، أهانت بها زوجها، وألْحقت النقْص بكرامتها، وبأُمومة الولدَينِ؟.
... إن زوجة السائل لم تعُدْ المرأة العزيزة والمُحترمة في نظر زوجها.. ولم تعد الأم الكريمة التي تحتضن أولادها، إنها أصبحت رَخيصة كالسلعة التي يطلبها مَن يَشتريها مُكْرَهًا، دون رغبةٍ فيها لذاتها.
... وأنَّ أخ السائل لم يعد الرجل الذي يَعتمد عليه أخوه في أزماته، بل أصبح الشخص الذي يُسبب له الأزمات، ويُعقد عليه أسلوب الحياة.(195/1)
... السائل ربما لا يُطيق الآن أن يرى زوجته، كما لا يُطيق أن يري أخاه؛ لأنه إن رآها لا يتذكَّر الأيام الجميلة التي قضاها معها، ولا الفترات التي كان يُداعب فيها معها: الأولاد في سِنِّ الطفولة قبل أن يسكن أخاه معه. وإنما يتذكَّر فورًا: المآسي التي سببتْها في مُعاشرتها لأخيه على حساب كرامته بعد أن أقام معه.. وإنْ رأى أخاه لا يَجُول في نفسه الأمل في أُخوته وفي عصبيته له ولولديه كما يُؤمِّل فيه يومًا ما، وإنما يتذكر حالاً: أنه قد دنَّس شرَفَه باعتدائه عليه، لحظة أن أغوَى زوجته أو تأثَّر بإغوائها له.
... إن السائل يُردِّد الآن في نفسه:
هل أخطأ التقدير عندما أباح لأخيه السُّكْنَى والإقامة معه ومع زوجته في مسكن الزوجية؟
هل أخطأ التقدير عندما أحسن الظنَّ بزوجته في تَمسُّكها بالعِفَّة والكرامة كامرأةٍ تحرصُ على استمرار العلاقة معه، شريفةً نقيةً، لم تَمْسسها شائبةٌ من شوائب الخيانة الزوجية.
هل لم يعرف زوجته طوال الاثنتَي عشرةَ سنةً التي مضت، معرفةً تُمكِّنه من الحُكم على اتجاهها في الحياة؟.
ألم يَرَها تُؤدى فروض العبادة لله وحده؟ أوَلمْ يُحسَّ منها: النُّفْرَة، إذا ما ذَكَر الله أمامها؟
وغير ذلك من الأسئلة يدور في خلَده.
كثيرون من الشبان والشابات ينظرون إلى مسألة: "التديُّن" على أنها تتصل بالماضي أكثر من أن يكون لها تأثير في الحاضر أو في المستقبل، وهذه النظرة غير صحيحة، فالتديُّن الصادق هو صِمام الأمان في الإنسان.. هو الوقاية من الانحراف في السلوك.. وهو السبيل إلى معرفة الواجب وأدائه.. وهو السبيل إلى معرفة ما لله، وما للشيطان.. وما يكون لله يُصور القيَم العليا في حياة الناس.. وما يكون للشيطان يُمثل الدنيَّة والحيوانية في نفس الإنسان.(195/2)
التديُّن هو إيمان بقِيَمٍ ومُثل عُلْيَا في حياة الإنسان في علاقة الإنسان بالإنسان. ولو كانت الزوجة متديِّنة لأدركت أن هناك أهدافًا ومُثلاً أخرى في علاقتها بزوجها وبولديها وراء مُتعة البدَن وإغراء الشيطان بشبابٍّ شقيقِ زوجها، لأدركت أنها ترتبط بزوجها بمِيثاق الحماية لكرامة كل منهما، والكرامة لا تُقاس بمُتعة، ولا بمال، وإنما هي معنى يزهو به الإنسان إنْ تحقَّق في نفسه؛ لأنها فوق الضعف، والهوان، هي تصور كبرياء الإنسان وسُموِّه، والمرأة ذات الكبرياء يصعب عليها ـ دون ذلك حياتها ـ أنْ تقبل الإهانة لنزْوَة عابرةٍ، وهي إهانة العار.. وعدم الأمانة.. وعدم العِفَّة.. وعدم الوفاء لغيبة زوجها.. والإحساس لدَيْها بالخِسَّة والحقارة لنفسها في نهاية تلك النزْوة العابرة.
... والتديُّن ليس فيه قديم وجديد، وإنما هو سلوك، ومُعاملة وتفكير، يلتزم فيه الإنسان بالمستوى الفاضل في الإنسانية، وكلَّما بعُد هذا المستوى عن خصائص الحيوانية، كلما اقترب من ميزان الإنسان كإنسان.
إن على الزوج السائل: أن يَصبر وطالما أعلنت زوجته، التوبة عمَّا مضى، وأصرَّت على عدم العودة لمَا كان، فلا يُذكِّرها من وقت لآخر بما وقع منها، وليكنْ حذِرًا في المستقبل في أمر الاختلاط مع زوجته، وليُفتِّشْ علاقته معها إنْ كان يَنقصها شيء.. أو يَفوت عليها أمرٌ ترغب فيه ولا يُؤديه لها، فقد تتَضرَّر الزوجة من عدم وُجود وقت كاف لدَى زوجها لها، وهنا في وحْدتها قد ترتكب الخطأ في شَغل فراغها: إما بالزيارة لجارة لها.. أو بالدردشة من النافذة معها.. أو بمشاهدة المارَّة في الشارع أو في الحارة.. أو بالخروج والتسكُّع في الأسواق المجاورة.. وغير ذلك ممَّا يَقتل الوقت في غير جدوَى، أو فيما قد يُوصِّل إلى ضررٍ لها ولأُسرتها.(195/3)
... وكلما كان الزوج قليل الحديث مع زوجته في أخطاء ارتكبتها كلَّما كان ذلك أشد تأثيرًا عليها.. وبالتالي كلَّما كانت مُتيقِّظة لمَا يدور في مُحيطها.
أما الأخ الذي طُرد من مسكن الزوجية فالأولى بالسائل أن لا يُثير معه علاقته بزوجته.. بل الصمت.. وعدم إظهار العداوة أو الغَضب عليه مِن وسائل العلاج الناجحة لمُشكلة اعتدائه على عِرْضه مع زوجته.
... وليكنِ الزوج في أُسرته قدوةً عملية في أداء ما يَجبُ لزوجته ولأولاده. فإن ذلك أدعَى لاحترامه، وتماسُك بنيان أسرته.
114ـ سُوء مَسْلك الزوجة
مسلم يرجو المَشورة والنصيحة، يَرْوِي قصته ومشكلته، فيقول: إنه مُتزوِّج الآن منذ ثلاثين عامًا وأنه يُباشر عملاً إضافِيًّا بجانب وظيفته في الحكومة، كي يُمكنه أنْ يُنفق في سَعة على أولاده، وبسبب قيامه بالعَملينِ معًا كان يعود في المساء مُتأخِّرًا إلى منزله، وانتقل في مسكنه ثلاث مرات، حتى استقرَّ به المقام في مَسكنه الحالي.
... ثم لاحظ على زوجته ـ في الأيام الأخيرة ـ ما يحسُّ منه: أنها زاهدة فيه.. وإنها ربما تكون على علاقة غير شريفةٍ بغيره، فتوجَّس في نفسه خِيفةً، وشك في سلوكها، فترك العمل الإضافيَّ كي يحضر مبكرًا إلى المنزل.. وأخذ يُراقب الوضْع ـ كما يذكر ـ وذات صباح مبكرًا في الساعة السادسة والنصف خرج مِن منزله، وبالصُّدفة نظر خلفه، فوجد جارًا له يَرْقبه من النافذة، كما وجد زوجته تَرقبه أيضًا من نافذة مسكن الأسرة، وعندما الْتقَى نظرُه بكلٍّ منهما توارتْ هي، وتوارَى الجارُ خلْف النافذة، وهذا الجار يسكن وحده ويعمل على أن تُسافر أسرته إلى قريته أغلب أشهُر السنة.(195/4)
حتى كان يوم عُطلة سمِع طرقًا على الباب في الساعة الثامنة صباحًا فأراد أن يَعرف مَن الطارق؟ فمَنعتْه زوجته بقُوة مِن أن يُغادر الفِراش،وأبطأ بسبب مقاومتها له: في أن يَرَى هذا الطارق، حتى انصرفَ وحصلتْ مُشادَّةٌ بين الزوج السائل وزوجته المشكوك في سلوكها انتهت إلى ترْكها منزل الزوجية والإقامة عند أهلها لمدة ثلاثة أشهر، وقد عمل فيها الزوج كوالدٍ لجملة من الأولاد في مراحل التعليم المختلفة: كل ما وَسِعَه أن يعمله لراحة أولاده: سواء في الإنفاق، أو في مُساعدتهم في دُروسهم، ولكن مع جُهده غير العادي الذي بذَله مِن أجلهم تراءى له في وُجوههم: أنهم غير سعداء لعدم وُجود والدَتهم معهم، وهنا قرَّر أن يذهب إليها ويَعتذر عمَّا تَمَّ منه ويَدْعُوها للعودة فعادت.
... وبعد أن عادت وَجَدَ سُوء معاملتها له قد زاد.. كما وجد تحيُّزًا ظاهرًا من جميع الأولاد ضدَّه.. وأحسَّ بالعُزْلة، وبأنه شخصٌ غير مرغوب في إقامته معهم وابتدأت زوجته تطلب أمرينِ:
أولاً: الطلاق البائن.
ثانيًا: ترْك المنزل لها وللأولاد، وتُصِرُّ عليهما إصرارًا عنيفًا، وهو لا يريد ـ كما يقول ـ أن ينظر الناس إلى أولاده: نظرتَهم إلى أولئكم الأولاد الذين طُلِّقتْ أمهم، ويفكر الآن في تسوية مَعاشه في عمله وفي الهروب مِن المنزل، بحيث لا يَعرفون مكانه، والله كفيلٌ بأن يُعَوِّضَهُ عن زهرة عمره التي ذَبُلَتْ في تربيتهم، كما يشكو.
الهروب مِن المنزل والاختفاء في مكانٍ غير معروف بعيد عن الأسرة والأولاد ليس حَلًّا للمشكلة، كالانتحار بعد اليأس، ليس حلاً أيضًا لأزمة تُواجه الإنسان، فكلٌّ من الهرَب والانتحار، يدلُّ على ضعف مَن يَحْمل نفسَه على أيٍّ منهما، خشْيةَ المُواجهة اللازمة.(195/5)
مشكلة السائل: أنه استغرق في العمل الحكومي: والإضافي معًا، فكان يخرج مبكرًا في الصباح.. ويعود في المساء، مُتْعبًا لا تكاد قدَماه تطآن مسكن الأسرة حتى يُعِدَّ نفسه للنوم، عندما يفرغ مِن تناول العشاء، وهكذا تَنقضي الأيام.. والشهور.. والسنون، وهو وحده.. وزوجته وحدها.. وأولاده مِن دونه.
واختلاطه بزوجته كان قليلاً، أو نادرًا.
ورفقته لأولاده كانت قليلة أو نادرة.
وحديثه مع زوجته.. أو مع أولاده إمَّا كان حديث الأمْر.. والنهي، أو حديث السؤال.. والجواب.. أين حديث العاطفة؟.. أين حديث السمَر والمُداعبة؟.. أين الحديث المَفتوح: من القلب إلى القلب؟. إنه لا يوجد حديثٌ هنا من هذا النوع بين الزوج وزوجته، والأب وأولاده، ولا بين أفراد الأسرة مُجتمعة؛ لأن العمل اليوميَّ: في أدائه.. وفي ترتيبه وتنظيمه.. إذا تحكَّم في نفس الإنسان وتمكَّن من أعصابه، جعل منه إنسانًا يكاد يكون جامدًا، أو قليل الحركة.. يكاد يكون صامتًا أو قليل الكلام.
... وإذا طالَ هذا الحال على وضْع الزوج في علاقته مع زوجته: تَبتدئ تَمَلُّهُ وتَمَلُّ عِشْرته، ثم مع مرور الأيام، والشهور، والسنوات: تنتقل من دائرة الملَل إلى درجة الكراهية له، ثم تأخذ تُفكر في مستقبلها كامرأة أولاً، وتُقارن وَضْعها مع أوضاع أُخرياتٍ يَعِشْنَ معها في محيطها، ولدَيها الآن على الأقل: السبب في الانصراف عن زوجها: إما إلى الإقبال على رجل آخر.. وإما إلى الزُّهْد في الحياة الزوجية القائمة.(195/6)
... وكذلك الأمر مع الأولاد. فإنِ استغرق الوالد في العمل، وحجَبَه هذا العمل عن الأولاد فترة طويلة: فإنهم يُصبحون أجانبَ عنه في الشعور والإحساس: لا يُحسون بمَيْلِ بُنوَّتهم له، وإنْ أحسَّ هو بمَيل الأبوة إليهم، والعلاقة بينه وبينهم عندئذ علاقة غير مُتوازية، فإنْ وقع ما يزيد في القطيعة والفجْوة بينهم وبين والدهم كان تأثُّرهم سلْبِيًّا بما يقع أكثر مِن تأثُّر أبيهم به، كما حدث هنا في الانصراف عن الوالد عندما غضبت الأم ـ وهي زوجته ـ منه، وحرَّضت الأولاد ضدَّ أبيهم، فاستجابوا لها، تحيُّزًا لها أو دِفاعًا عنها. وبسبب الأولاد، ومِن أجلِ مستقبلهم تَرتكب هنا الأم أو الزوجة خطأً كبيرًا، عندما تُحرِّضُهم ضدَّ والدهم؛ لأنها غاضبةٌ عليه أو غير راضية عنه، فالأولاد يجب أن تكون تربيتهم للوالدينِ معًا.. يجب أن يُنَمَّى فيهم معنى العاطفة، ومعنى الرعاية: نحو والدتهم ونحو أبيهم بدُون تَفرِقة، إنَّ التربية الحزبية والتوجيه لأحد الأبوينِ ضارٌّ بالأولاد، وبصاحب النفوذ في التوجيه كذلك، فالأم هنا لا تدري، ماذا يَكشف عنه الغدُ لها إذا كبُر الأولاد وتزوَّجوا: أتَظلُّ أُمُّهم صاحبَ السلطان عليهم، أمْ أنَّ أُسَرَهم تجذبهم بعيدًا عن نُفوذها وربما تبقَى وحدها عاجزةً.
... ولكنه الحُمْق عند الغضب هو الذي يدفع أحد الوالدينِ إلى التوجيه نحو طرفٍ مِن الطرفينِ، إنْ كان الأب، أو الأم، ولهذا ينبغي أن لا تَشْتَطَّ الأم في تجنِيب الأولاد.. وإبعادهم عن أبيهم، فموقف اليأس الذي يَقفه الأبُ الآن يرجع معظمه إلى تحيُّز الأولاد نحو أمهم.. وضدَّه هو.(195/7)
ونعود الآن للسائل نقول له: طالما الهرب لا ينبغي أن يكون حلاً لمشكلته التي تقوم على اتِّهام زوجته بالاتصال بجاره القريب. وهو اتِّهام تدخلُه فيه عواملُ لا تصل به إلى درجة اليقين، فليُحاول الآن أن يكون عادِيًّا في علاقته بها، فلا يتَّهمها بشيءٍ إطلاقًا ولا يُعيد على سمْعها ما يُشير إلى الماضي البغيض، كما يُحاول أن يَسترضيها، فالثلاثون عامًا التي مضت على زواجه بها ليست ثلاثين يومًا أو شهرًا، إنها مدةٌ كافيةٌ في توثيق الروابط بين الزوجينِ، ومهما كان غضَبُ الزوجة فإنها لا تنتظر الآن أن تُطلق منه اليوم لتتزوج غدًا بآخر، وليس من المألوف في حياتنا الاجتماعية هنا: أن الزوجة تُطلق لتُرافق عشيقها، أو لتُساكنه مع ما لها من الأولاد وهو عددٌ لا بأس به، وهم على وعْي واسع بالحياة الآن.
إن الزوجة في طلبها الطلاق... وفي تشدُّدِها في أن يترك زوجها المنزل: تُريد أن تحمله على أن يُدير وجهه إليها، بدلاً من ظَهْره.. تريد أن تعود المياه لمَجاريها ـ كما يُقال ـ والخُطوة الأولى يجب أن تكون من الزوج السائل هنا احتفاظًا للزوجة بكِبريائها، فإنْ هو فعَل هذه الخُطوة.. سيجد منها أول الأمر صَمْتًا.. ثم قَبُولاً..(195/8)
... ولْيَلْتَفِتْ بعد ذلك إلى زوجته وأولاده، وليجعلْ مِن وَقْته ما يُمكنه مِن أن يُوطِّد العلاقة بينه وبينهم، وسهْلٌ عليه أن يملُك عواطف زوجته بشيء من المُداعبة أو العتاب، فهي إنْ غضبت لا تقصد بما تقوله في غضَبها إلا التهديد فقط، إنها في هذه السنِّ.. وبعد هذا الزمن الطويل الذي مرَّ على زواجهما..وبعد إنجابٍ لهؤلاء الأولاد العَديدينَ، وبعد التَّعَبِ والمشقة في تنشئتهم ورعايتهم: لم يَبْقَ لدَيْها كامرأةٍ ما تُغري به رجلاً أجنبيًّا عدا زوجها، ويُؤمَّل أن يَفهم الزوج السائل هذا الوضع ويُراجِع في تفكيره العِشْرة الطويلة بيْنه وبين الزوجة.. وحاجَةُ الأولاد إلى والد معهم في الأسرة.. ويترك نِهائيًّا: فكرة الهرب من المنزل والأسرة، فإنها مِن وَسوسة الشيطان.(195/9)
31 ـ خِداع الزوجة لزَوجها:
يذكر مُواطن أَنَّه عندما عقد قرانه على زوجته الحاليَّة كان يعتقد أنها بِكْرٌ ولكن انكشف الوضع له فيما بعد، وعندئذٍ اتَّفقا معًا على أن يبقى سرًّا بينهما على شرط أن تعود إلى الله وتُصلِّي. فلمَّا أنجبتْ له أطفالاً، ورأت تعلُّقه بأولاده أخذت تسلُك المسلَك السابق على زواجِها بها، وبالتالي لم تعُد تصلِّي، كما يقول فاضطرَّه ذلك إلى أن يَسترسل في الوقوف على ماضيها، وهنا فُوجِئ بأنَّها متزوِّجة من قبل بوَثيقة شرعيّة، وأنَّها طُلِّقت مِن زوجها ولم يُثبَت هذا الطَّلاق في السِّجلّ الرسميّ، والمأذون الذي حضر الطلاق تُوفِّي، ويسأل الآن:
أ ـ ما وضْع أولاده الآن؟ أهُمْ أولاده شرعًا؟
ب ـ وهل يُطلِّقها؟ علمًا بأنَّها لو طلَّقها لسأله أقاربه عن أسباب الطلاق وهي أمر سِرِّيّ حتى الآن؟
إن المشكلة في جوهرها غير هذا، وذلك أن المشكلة كيف يُربِّي أولاده مع وجود أمِّهم في عِصمته، أو مع وُجودها عند طلاقها منه؟ هي زوجة عابثة وقعتْ تحت تأثير ما يُسمَّى "بتحرير المرأة" فهي تُصدِّق ما يُقال، وما يُكتب في كثير من الأحيان عن أن الاتجاه الجديد للمرأة: أن لا تَحفِل بقِيَمٍ انتهت وتغيَّرت، وأن لا تأخذ بمَقاييس الماضي فيما يُسمَّى: "العِفّة" مثلاً. فلم تعُد "البكارة" والمحافَظة عليها قبل الزواج أمرًا جديرًا بالاهتمام ولم تَعُد الخِيانة الزوجية "مع صديق" سببًا من الأسباب التي تُخرج المرأة العصرية عن أن تكون جَديرة بالاحترام.(196/1)
ويوم أن نَدِمت هذه الزوجة وبَكتْ أمام زوجها على فَعْلتها قبل الدخول بها عندما اكتشفَ أنها ثَيِّب، كانت تَسترضيه فقط للسكوت عنها والتستُّر عليها في هذا الوقت الحرِج بالنسبة لها مُؤقّتًا ولم يكن بُكاؤها ولا ندمها: أمارةً على توبة صادقة تكون بعدها زوجةً وَفِيّة وأُمًّا صالحة لأولاده وصلاتها كانت للخداع حتى ظنَّت أنها بإنجابها الأولاد ثم بتعلُّق زوجها بأولاده وارتباطه بهم نفسيًّا أنَّها أصبحت مُتمكِّنة منه وهي ـ إذن ـ ليستْ بحاجة إلى صلاة وليست كذلك في حاجة إلى رضاه عن مَسْلَكها.
فانطلقت كما كانت، في ضلال التوجيه المَسموم الذي يدعو إلى التحرُّر مِن القيود التي تقف في سبيل الرغبة ورغبات النفس هو هواها وشهواتها.
إن الأولاد هم أولاده شرعًا؛ لأنّها أنجبتهم معه في فراشه والولد للفراش كما يُقال. فهم وُلِدُوا في ظل عقد زواج صحيح، رغم أن طلاقها من زوجها السابق لم يُسجَّل في وثيقة رسميّة؛ إذِ العِبْرة بوقوع الطلاق وقد طلِّقت فعلاً بشهادة شهود وتوفِّي المأذون قبل تسجيله.
والسائل يرى الحرَج في مشكلتِه أنَّه لو طلَّقها الآن كعلاج، كوسيلة للتخلُّص من سلوكها وعبَثها لاضْطُرَّ إلى الإفصاح عن أسباب الطلاق لأهله وأصحابه، وهي أسباب في نظره غير مُشرِّفة وبالتالي تُسيء إلى مستقبل الأولاد ولكن إذا كان الطَّلاق هو العلاج في نظره فإنه يُمكنه أن يطلِّقها وليس هناك مِن الأهل والأصدقاء مَن يحمله على توضيح أسباب طلاقه.
ونحن لا نرى ـ إذنْ ـ حرَجًا في تطليقها مِن جانب السِّرِّية والعلنيّة لأسباب الطلاق ولكن الحرَج: كيف يضمن تربية أولاده تربيةً أمينةً في ظل بَقائها كزوجة؟ سواء مع وُجود زوجة أبٍ لهم، أو مع وجود ذات صلة قريبة بأبيهم؟(196/2)
هل ننصح الآن الزوج بالتفاهم مع زوجته من أجل الأولاد؟ هل ننصحه بدفع الشُّكوك والرِّيَب جانبًا وعدم الإشارة في حياتهما اليومية إلى شيء من الماضي حتى لا يُؤذِيَها في إحساسها وكرامتها، إنْ كانت لها بقية من كرامة وإحساس إنسانيّ؟
إن اختيار هذا النصح وقيمته تعود إلى تقدير الزوج نفسه فالزوجة ككلِّ إنسان آخر تتأثر إيجابًا أو سلْبًا بأسلوب مُعيَّن من المُعاملة دون أسلوب آخر.
ولعل الله يُيَسِّر الأمر بين السائل وزوجته، ويُبقي للأولاد حنان الأم وريادة الأب، فهم في حاجة إلى الحنان والقيادة الصالحة معًا قبل حاجتهم إلى الطعام والملبس.
أما الطلاق فهو آخر سبيل لرفْع الأضرار في الحياة الزوجية: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة 229) .. صدق الله العظيم.(196/3)
تذكُر آنسة بإحدى المحافظات تقول إن جارةً لها في المنزل الذي تَسكنه دخلت بزَوجها منذ شهرين وأسرتها وأسرة زوجها تَسكنانِ معًا مُقابل بعضهما بعضًا في المنزل، والأسرتانِ على خلاف قبل الدُّخْلة، ثم ازداد الخلاف بعد دخول الزوج بزوجته، وعندما اشتد الخلاف بين الأسرتين حلَف الزوج بالطَّلاق على زوجته ألاّ تكلِّم أيَّ فردٍ مِن أفراد أسرتِها فأطاعته علمًا بأنَّها تسكن مقابل أهلها وأهله، ثم حدثت معركة بين الأسرتين ورأت الزَّوجة أن زوجَها يُعذِّب أباها في الشارع فما كان منها إلا أن أسرعَت إلى النزول إلى الشارع وأنقذَتْ أباها فنَهرها زوجها ومنَعها من العودة إلى منزل الزوجيّة وحال بينها وبين أخذ ملابسها وتركها في الشارع من غير وِقاية وكل ذلك بناء على رغبة أهله، والزوجة الآن في منزل والدَيْها، وهي حائرة بين طرفينِ: بين الوالدين مِن جانب والزوج من جانب آخر، وكلٌّ من الطرفين له حقٌّ عليها كما تذكر من القرآن والسُّنّة الصحيحة. فهل تعود إلى زوجها خشيةَ تطليقها؟ ولكن عندئذٍ تكون في نظرها عاقّة لوالديها، أم تبقى في منزل والِدَيْهَا وعندئذٍ تُحرَم من النفقة ومؤخَّر الصداق؟ وهل من حقِّها أن تأخذ الأثاث الذي لم يُسدَّد ثمنه بعدُ؟
والسؤال الثاني: وهو الخاصُّ بالجارة التي ساقها القدَر إلى أن تكون ضحية طرفينِ ترتبط بهما ارتباطًا شديدًا في حياتها، وهذا السؤال يتضمن عدة عناصر:
1 ـ الخلاف بين أسرتي الزوجينِ وانعكاسه على العَلاقة الزوجيّة بينهما.
2 ـ تصرُّف الزوج أو الزوجة تحت تأثير هذا الخلاف ومداه في الغلْظة والقسوة.
3 ـ تفكير أحد الزَّوجين في حقوق الآخَر دون اهتمام من الآخر بهذه الحقوق.
4 ـ شدة الاهتمام بالجانب المادِّي كمُؤخَّر الصَّداق والنفقة والأثاث عند مراجعة العلاقة الزوجية، على الجانب الإنسانيّ من حُسن المعاملة وحسن الخُلق وكرَم السلوك والتصرُّف.(197/1)
سبق لنا أن طرَحْنا في الإجابة على بعض الأسئلة الواردة إلينا: أنَّ الخلاف بين أسرتي الزوجين في الشرق الإسلامي ينعكس انعكاسًا واضحًا ـ وقد يكون عميقًا ـ على العلاقة بين زوجةٍ من هذه الأسرة، وزوجٍ من تلك الأسرة.
وقد ينتهي هذا الانعكاس إلى الفُرقة بين الزوجين وإلى أن يفقد الأبناء منهما الحنانَ في الطفولة والتوجيه الحسَن في الطُّفولة المتأخِّرة وفي سِنِّ المراهقة. وهذه ظاهرة تَدلُّ على عدم النُّضوج في مُجتمعاتنا وفي ترابط الأسرة فيها.
كما تدلُّ على عدم الاستقلال الذي يجب أن يُعتبر سببًا رئيسيًّا في الإقبال على تكوين أسرة جديدة غير أسرة الآباء والأمهات السابقة فليس الزواج عَلاقة جنسية، ولا إنجاب ولدٍ فقط. وإنما الزواج صلاحية لبناء أسرة وتوجيه هذه الأسرة وحمايتها مِن الأخطار وفي وقت الأزمات، وليس بالعَضَلات، وإنما بالسَّعْي الدائب والفكر والتريُّث.
وأما التصرُّف الذي تحكي عنه السائلة هنا، وهو من الأسف تصرُّف الزوج ضد زوجةٍ استضعفَها، أو ضدَّ زوجة وَضَعَها القدَر بين حبِّ زوجها والوفاء له وقرابة الدم بينها وبين أهلها وبالأخصِّ أبوها، فهو تصرُّف غير إنساني وغير إسلاميٍّ وغير كريم.
أ ـ ما معنى أن يحلِف زوجها الطلاق عليها: أن لا تُكلم فردًا من أفراد أسرتها، والأسرة تسكُن في مُواجهتها في نفس المنزل؟ أذلك تحتمله النفس البشرية؟ أحقًّا يكون سعيدًا في نفسه لو رأى زوجته لا تكلِّم أهلها؟
ب ـ ما معنى أن يَحُول بينها وبين أن تعود إلى منزل الزوجيّة، إذَا هي أنقذت أباها ـ وهو قطعًا كبيرُ السِّنِّ ـ عن زوجها، من يديه هو، وهو يُهينه على الأقل على مَرأى ومَسمَع المارِّين في الشارع؟ إنه أبو زوجته. أليس له في نفسه احترام الزوجة إن كان لها احترام في نفس زوجها؟ أليست هناك بقية مَحبّة للزوجة في نفس زوجها تجعله يُشفِق على أبيها؟(197/2)
ما معنى أن لا يسمح لها بأن تأخذ من ملابِسِها ما تحتاج إليه، طول إقامتها عند والديها، وقد حال بينها وبين أن تعود إلى منزل الزوجية؟ هل الزوج الكريم على نفسه.. هل الزوج الإنسان يقبل أن يترك زوجتَه في الشارع وليس لدَيْها ما يَقيها من نظَرات الناس إليها على الأقل؟
أمَّا تصرُّف الزوجة نحو زوجها فهو تصرُّف الحائر:
فتقول كيف أجمع بين رضاء والديَّ، وقد أوصاني القرآن بالإحسان إليهما وبين زوجي وقد قرأت هذا الحديث نقلاً عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لو أمرتُ أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجِها لعِظَم حقِّه عليها".
إني أُجيب عن سؤالها بالنِّسبة لمَا رُوي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقول لها: إن الحديث يتحدَّث عن الزوج الإنسان.. عن الزوج المحسِن في عِشرته وفي فِراقه على السواء ... عن الزوج الكريم المُطيع الذي يُقدِّر زوجته حقَّ قدْرها.. الذي يتَّخذ من زوجته الرفيقةَ والناصحةَ، والأمينة، فهي الأمينة على أهل بيته وعلى ماله، وعلى كل شيء من شئونه فلا تَنزعجي فهذا الحديث ليس لأمثال زوجك.
ج ـ وأرى السائلة يُراوِدها التفكير في العودة إلى زوجها من أجل مؤخَّر الصَّداق، ومن أجل النفقة، ومن أجل الأثاث الذي لم يُدفع ثمنُه حتى الآن.
ومن الأسف الشديد أن كثيرًا مِن سيداتنا يُفكِّرْنَ في الجانب المادي في علاقتهن بأزواجهن أكثر مِن التفكير في الجانب الإنساني. يجب أن يفكِّرْنَ أوّلاً في الجانب الإنساني.
ما قيمة مؤخَّر الصَّداق والحِرْص عليه إذا كانت الزَّوجة مُهانة ومُستذلّة. ومُستضْعفة عند زوجها؟ وما قيمة النفقة لبعض الوقت إذا كانت تُعامَل مِن زوجها كتلك الزوجة التي تسأل الآن عن حقوق زوجها وعن مؤخَّر الصداق والنفَقة؟
يوم أن يدعوَ الإسلام إلى الحرص على الزوجة الصالحة والزوج الصالح ـ يستهدف الحرص على الجانب الإنساني في المُعاملة عند الزوجة وعند الزوج.(197/3)
ومن الأسف كلَّما تدعو المرأة إلى التحرير وإلى مزيد من العمل خارج المنزل كلَّما تَفقد مِن هيْبتها، وكلَّما تُعرِّض نفسها للمُساءلة عن الحساب والأُجْرَةِ وعلى مُضيِّ الأيام تَفقد كثيرًا من الأُنُوثة وتركب المركَب الشاقَّ بعد ذلك للوصول إلى قلب الرجل وهيهات.
أيّتُها الجارة السائلة بلِّغي صديقتَك التي هي في أزمة الآن مِن أجل زواجها القصير التَّعِس أنَّها إذا لم يكن لها وَلدٌ من زوجها فلتَبْقَ عند والديها، ولْتَصبر حتى يَعرف زوجها بابها، ويُقدِم عليه في احترام لوالديها أولاً، ولها ثانيًا. فإنْ لم يَتِمّ هذا.. فليتفرَّقَا. وليُغْنِ الله كلاًّ مِن سَعته.(197/4)
د ـ هل الزواج مِن رجل مسيحيٍّ يريد أن يُسلم حرام؟ وما الإجراءات الضرورية لضمان جعل هذا الزواج حلالاً؟
وأخيرًا: إذا أسلم الرجل للزواج مِن امرأة مُسلمة فليس إسلامه صحيحًا؛ لأنه لم يُسلم عن اقتناع، وإنَّما تحت ضغط الرغبة في الزواج مِن مسلمة وزواجه بالمسلمة عندئذٍ أمام الله غير جائز وغير واقع موقع الصحة، أمَّا أمام القضاء وأمام الرَّسْمِيّات فهو زواج مسلم مِن مسلمة.
وليستْ هناك إجراءات ضرورية لضمان جعل هذا الزواج حلالاً سوى أن يكون اعتناق الزواج الإسلام عن حُرِّيّة ومشيئة منه وعن اقتناع ذاتيٍّ.
وإذا كانت صاحبة السؤال قد تورَّطَتْ في مشكلة لم تشأ التصريح بها فحلُّها الآن يَكمُن في الرجوع إلى ذاتها والاحتفاظ بالبقاء على انتسابها إلى أسرتها المسلمة المحافِظة وليس هذا الحل في زيارة الأولياء كما تشاء ولا في إعلان الإسلام من الرجل المسيحيِّ.. ولا في قيمة التوبة التي يذهب بها الشيطان الرجيم في تضليله عندما يدفع إلى تَكرار الجريمة.(198/1)
37ـ لا ينبغي أن يكون هناك لبْسٌ في مُوافقة البنت
فتاة في الثالثة والعشرين من العمر، تقول إنها مُتديِّنة، وأن أباها فصلها من التعليم لتقوم على خدمة أخيها الأكبر في التعليم في بلدة بعيدة عن البلدة التي نشأت فيها أسرتُها. ...
وأن أباها يعيش مع أمها في بلدة أخرى، غير هذه وتلك بسبب أعمال وظيفته، وأن منزل الأسرة بالبلدة يسكن كذلك ـ مع أسرتها ـ ابن عمٍّ لها توفي والده، مع أمه وأخته. وهو الذي يُشرف على الزراعة في الأرض التي تمتلكها الأسرة، من قِبَل والدها وهو غير مُتعلم. فهي استبقت في المنزل، وابن عمِّها استُبقي كذلك فيه. فهُما مُتساوقان ويناسب كل منهما الآخر. ولذا ترى أسرتها أن يَتزوجها ابن عمِّها. ...
ولكنها لا ترغب في الزواج من ابن عمِّها. وتوضح "عدم ارتياحها" لهذا الإنسان بأنه غير أمين "حاول أكثر من مرة أن يفوز بشرفي وعرضي، مما جعلني أنام في قلَق وأعيش في رُعب. وهم يعلمون ذلك كلهم إلا والدي. وبرغم مُحاولته الدنيئة لم أكْرهه. ولكن أتمنَّى أن لا يكون الإنسان الذي أعيش معه ويُعوضني أيام المرض.
وقد أصابها مرضٌ من الحزن على عزْم تزويجها منه، في ساقِها اليُمنى. وطال أجله ولكنها شُفيت منه بفضل الله ورعاية والدها لها، ولكنه خلَّف عندها شيئًا من العرَج وتُحسُّ في نفسها بفضل كبير لأبيها عليها. ...
يتملكها الحياء والخجَل. وعندما أحسَّت أسرتها بعدم رغبتها في أن تكون زوجةً لابن عمِّها، ورشحت الأسرة الأخت الصغرى لتكون زوجته بدلاً منها، لم تُرد أنت أن تُضحي بها وتقطعها عن التعليم. ولذا آثرتْ أن لا تُعلن هي رفضها ولا موافقتها على ابن عمها ليكون زوجًا لها هي. ...
وتُعتبر بين أهل القرية مثَلاً أعلَى للفتاة الناضجة والمُتديِّنة الصالحة وحرْصها على هذه السُّمعة الطيبة بين أهل قريتها يَقف دون أن يُعرف عنها: الرفْض لزواج ابن عمِّها. ...
والآن: ...
1ـ حرْصها على مستقبل أختها الصغرى.(199/1)
2ـ وإحساسها الشديد بفضل والدها عليها أثناء مرَضها.
3ـ وحرْصها على أن تظل بين أهل القرية المثَل الأعلى للفتاة.
4ـ وحياؤها من الإفصاح عن رغبتها الحقيقية.. كل هذه عوامل تمنعها من أن تُعلن الرفض لزواجها من ابن عمها. وفي مقابل هذه العوامل يُوجد الباعث النفسي لدَيها على رفْض الزواج منه بأية حالٍ وهو عدم الرغبة فيه إمَّا لأنه غير أمين على عرْضها فيما مضى.. وإما لوُجود شخص آخر متعلم وهو زميلٌ لأخيها تقدَّم إليها بعد المرض ضمْن كثيرين. فكيف تُواجه الموقف بصراحة.
الآنسة المُعذَّبة السائلة كانت مُتطلعة لأن تكون مُتعلمة، وتتمُّ دراستها في مراحل التعليم المختلفة. ولكنها فُوجئت من أبيها ـ وهي تُكنُّ له الاحترام ـ بفَصلها من المرحلة الابتدائية وإلْحاقها بخدمة أخيها الأكبر في البلدة التي تقع مدرسته فيها، وإرسالها مع أخيها لتقوم على خدمته كانت عادةً شائعة في الريف. وبفَصلها من التعليم وانقطاع أمَلها في إتمامه حصلت الصدمة النفسية. وهزَّت هذه الصدمة كبرياءَها، أو حطَّمت طُموحها في الحياة، ولكنها لم تستطع أن تُفصح عمَّا أصابها نفسيًّا لأسرتها؛ لأنها تحترم أباها وتخشى أن تجرح العلاقة بينها وبين أبيها، إنْ هي عبَّرت له عن ألَمِها بسبب انقطاعها عن التعليم.(199/2)
فإذا أُضيف إلى انقطاعها عن التعليم: عزْم أُسرتها على تَزْويجها من ابن عمِّها وهو غير مُتعلِّم كذلك: تكون قد تلاقت أُمِّيَّتُها مع أمِّيته، رغم أن إحساسها بالحياة، وفهْمها لاتجاهاتها، المُختلفة أعْمق وأدقُّ من نظيرتها. وبهذا العزْم على تزويجها من ابن عمها الأُمِّيِّ: حصلت لها الصدمة النفسية الثانية، وحزِنت حُزْنًا شديدًا. كيف يكون مُستقبل حياتها؟ إنها إذا انقطعت عن التعليم كانت تُؤَمِّل أن يكون رَفيقها في الحياة مُتعلِّمًا فتجد فيه شيئًا من العِوَض. أمَّا أن يكون رفيقُها في الحياة غير مُتعلم وغير مُثقف فذاك هو الطامة الكبرى بالنسبة لها في تصوُّرها. وهنا من كثرة تفكيرها ومِن كثْرة حُزنها على ما سيَلحق بها، أُصيبت بالشلَل في سَاقها اليُمنَى. ولكن شاء الله أن تبرأ منه. وهي إذْ تشكر الله على شفائها فإنها تَذْكر أباها دائمًا بالفضل على رعايتها.. كما تَشكر أخاها الأكبر على استمرار إنْفاقه عليها، بجانب أبيه. ...
فالسائلة مَهزوزةٌ نفسيًّا؛ لأنها صُدمت مرتينِ. مرةً عندما انقطاعها عن إتمام تعليمها.. ومرة أخرى عند اتفاق الأسرة على تزويجها من ابن عمِّها الفلاح. ولولا حياؤها الشديد.. ولولا احترامها العميق لأبيها.. ولولا أن حرْصها قويٌّ على بقاء سُمْعتها طيبة بين أهل قريتها: لأمكنها أن تُصرِّح برغبتها الحقيقية لأهلها. ...
ولكن كيف تُعلل الآن رفْضها للزواج من ابن عمِّها؟ أتقول: إنه حاول اغتصابها أكثر من مرة؟ أتقول أنه غير أمين على عرْضها في وقتٍ كان يجب أن يكون حريصًا كل الحرص على المُحافظة عليها؟
إنَّ أية بنت ريفية لا تستطيع أن تَحكي في وُضوح لأهلها: ما يكون قد وقع من محاولات غير شريفة من قريب لها. فما بالنا بهذه السائلة تَخشى أن تنقد أيَّ وضْع وتخشى أن تُعرِّض أيَّ واحد للحرج! وتخشى أن يَحتمل إنسانًا غيرها: وِزْرًا لها!(199/3)
ومع هذا الوضْع للسائلة فإن لها جانبًا آخر يُمكن أن تَنفُذ منه إلى تحقيق مَوقفها من زواج ابن عمها بها، وهو الرفْض. هذا الجانب هو صِلتها بأخيها الأكبر. فهو الذي قدَّم لها الخطيب الذي تُشير إليه. وهو مُلازم أول، زميل لأخيها، وهناك إذَن ثِقَةٌ منها فيه، كما أن هناك تعاطُفًا بين بعضهما بعضًا. ...
ومن غير أن يكون هناك حرَج أو إحراج لأحد: يُمكن أن توضح لأخيها موقفها من الرجل الذي تُريده رفيقًا لها في حياتها، وتُشير عليه بأن يعرض الأمر على أبيهما. ويبدو من رسالة السائلة: أن أباها يُحبها كثيرًا. وهو عندما اقترح زواجها من ابن عمها لم يُرِد إلا سعادتها. كما يتصوَّر. ولم يَعرف عن ابن عمِّها ما عرفتْه هي وتَحكيه هنا بكل صراحة من عدم الأمانة على عرْضها. ...
ومشكلة السائلة ليست مشكلة عائلية مُعقَّدة. وإنما هي مشكلة لها وحدها. وبيدها الحل. وبيدها الاستمرار في بقائها كمُشكلة، إلى أن يتطور الأمر في غير صالحها بأن تُوضع أمام أمرٍ واقع لا تَرتضيه، والحل هو التحدُّث فورًا بشأنها مع أخيها الأكبر. فلْتتوكل على الله، بعد أن تعزم على مُصارحته.(199/4)
95 ـ جنديٌّ يقول: هل يصح لي اختيار زوجتي، أو هذا من حق أبي؟ لأنه أقسم إذا لم يُطِعْه لا يكون ابنه، ولا يعرفه. يقول الجندي: فماذا أصنع؟
إذا كان الرجل له حقُّ فصل عُرَى الزوجية من زوجته بالطلاق، وجعل الطلاق له، بناء على مسؤوليته التامّة في بناء أسرة الزوجية واستمرار الحياة بينه وزوجته وأولاده في هذه الزِّيجة. أفلا يكون له حق إقامة الأسرة باختيار الزوجة؟
إن الرجل له الحقُّ التام، والمرأة ـ كذلك ـ لها حقُّها الذي لا ينكَر في اختيار الشَّريك في الحياة الزوجية. والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألغى عقد الزواج بخَنساء بنت خِدام، بعد أن شكَت له من أنه عقد عليها من أبيها، وهي كارهة ـ لبيان حق المرأة في اختيار زوجها.
إن الزوجية إقامة أسرة، ومسؤولية مباشرة فيها على كل من الطرفين في عقد الزواج. وتضح هذه المسؤوليّة من قول الله تعالى: (ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بالمَعروفِ) (البقرة: 228). فهناك واجبات وحقوق مُتَكافِئَة للزوج والزوجة، وإن لم تكن من نوع واحد. وهذه الواجبات والحقوق لا تؤدَّى إلا إذا كان هناك شعور واعٍ وتام بالمسؤولية الزوجية أولاً، وإلا إذا كانت هناك ـ أيضًا ـ استطاعة لدى الطرفين لمباشرة هذه المسؤولية، وتنفيذ ما يجب على كل طرف للطرف الآخر.
فهل الوالد هو الذي سيُباشر ما يجب على الرجل لزوجته في الحياة الزوجية؟ إن استطاع الوالد أن يساعِد ابنه في المهر، أو في وليمة العرس، أو تَحَمُّل جزء من النفقة في بَدْء الحياة الزوجية، فإن المجال الذي يُساعد فيه الوالد آنئذٍ على هامش الحياة الزوجية، وربَّما في مجال كوَّنته العادة في المجتمع، ولكن لم يقترِحه الإسلام؛ إذ ما يجري في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم هو من التراث الذي أسهمت فيه عادات وتقاليد، بجانب الإسلام، وربَّما هذه العادات والتقاليد هي مُناوئة أو بعيدة الصِّلَة بالإسلام.(200/1)
إن المُبالَغة في المُهور، وفي الأفراح والساعات الملاح، وفيما يسمَّى تجهيز البنت، وفي تحكُّم الوالد أو الوالدة في اختيار الزوجة للولد، أو في اختيار الزوج للبنت، كل هذه ـ وأمثالها ـ من التقاليد التي تُناوئ الإسلام؛ إذ الإسلام لا ينظر إلى المهر على أنه ثمن، وأن المرأة سلعة يرتفع ويَنْخَفِض ثمنها. بل ينظر إليه على أنه رمز فقط وتعبير عن رغبة الزوج في الزواج بمَن يخطبها. فالمهر تجسيد لهذه الرغبة النفسية لدى الزوج. وجعلها الإسلام من جانب الزوج، ليكون هو البادئ بالتعبير عن رغبة المشاركة بين الاثنين في الحياة الزوجية. بهذا يحفظ الإسلام على المرأة حياءَها من جانب، وكرامتها كأنثى من جانب آخر. والإسلام جاء للمحافظة على القِيَم الإنسانية. فإذا أتى عصر تطلُب فيه المرأة الرجل في صراحة ـ بل وربَّما في إلحاح ـ فإن الإسلام لا يُساعد مثل هذه المرأة على الاحتفاظ بالقيم الإنسانية؛ لأنها الآن اختطَّتْ لنفسها طريق العَرْض المكشوف في الحياة، فيما يتعلق بعلاقتها الجنسية بالطرَف الآخر.
والإسلام لا يعرف إرهاق أسرة الزوجة، ولا يعرف حملها على أن تستدين بما ينغِّص عليها أو يُحرِجها في الحياة المُقبِلَة لبضع سنين، أو يَحُول بينها والإنفاق على بعض ضرورات الحياة فيها، كتعليم بعض الأولاد، أو تمريض بعض المرضى في أعضائها، من أجل تجهيز بيت الزوجية من جانب البنت، وإعداد غُرَف النوم، والأكل، والجلوس للزوجية السعيدة!(200/2)
والإسلام لا يَعرِف تحكُّم الوالد أو الوالدة في اختيار الزوج أو الزوجة. ولكنه يَعرِف عاطفة الأبُوَّة وعاطفة الأمومة نحو الولد أو البِنْت، ويعرف حرصَهما على مصلحة أولادهما، ويثِق بمصدر هذا الحرص لديهما. ومن أجل ذلك لا يَعيب عليهما المشاركة بالرأي السليم في اختيار الزوج أو الزوجة. بل ربّما يطلب هذا الرأي من وليِّ الأمر لابنته إذا كانت ظروفها تتطلب الرشد والتأنّي في الرأي. وإنّما يعيب فقط الغلوَّ منها، والتحكُّم في ذلك. على نحو ما يفعل والد الجندي السائل هنا، معه.
والرأي هو أنَّ للرَّجُل الحقَّ المطلَق في الاختيار. وعليه أن ينفِّذه. وفي الوقت نفسه يجب أن يَستَخْدِم اللَّباقة والحسنى في حمل والده على أن يكون معه، إبقاء على المودّة في الأسرة، ومحافظة على الإحسان في المعاملة للوالدين.(200/3)
39ـ صلة الرحِم واجب إسلامي
سيدة لم تذكر ما يُشير إلى اسمها ومَوطنها، تقول إنه حصل خلافٌ بين زوجها، وهو ابن عمٍّ لها، وبين أخيها، وعن هذا الخلاف يرفضُ زوجها أن يأذن لها لزيارة أخيها أو زوجته أو ابنته، حتى في حال مرضِ أيٍّ منهم واشتداد المرض عليه، وتذكر أن أخاها وزوجته من المُحبين لها ولأسرتها. وتسأل:
أولاً: ما حُكم الإسلام في هذا المَنْع وعدم الإذن؟
ثانيًا: ما حُكم الإسلام في زيارة صديقاتٍ لها على جانب كبير من التديُّن والاستقامة؟(201/1)
الإسلام يرى أن أسرة أيِّ إنسانٍ هي الركيزة الأولى التي يَستند إليها في عَصبيَّته وفي قوته في الحياة، فالتعاون بين أفراد الأسرة يجب أن يكون وَثِيقًا، والمودة يجب أن تكون قائمة. ومن جوانب التعاون مساعدة الأثرياء في الأسرة للفقراء فيها ومن جوانب المودة زيارة الأقرباء بعضهم لبعض. والقرآن في قوله ـ تعالى ـ: (وآتِ ذَا القُرْبَى حقَّه). (الإسراء:26)..عندما يُعبر عن المساعدة التي يُقدمها الغني لصاحب الحاجة في الأسرة الواحدة: "بحق" صاحب الحاجة عند الغني، ولذا يأمره بالإسراع بتسليم هذا الحق له.. القرآن عندما يُعبر على هذا النحو يقصد إلى بيان قوة الترابُط في الأسرة، وإلى أن الأمر في علاقات الأفراد فيها يصل إلى درجة الإلْزام في المساندة والتعاون.
والأقرباء الذين يكونون أصحاب الرحم في الأسرة الواحدة ليسوا فقط أصحاب الدرجة الأولى في القرابة كالوالدينِ والإخوة والأخوات، وإنما هم جميعُ مَن يشملهم عنصر القَرابة في الدم. ويَروي أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "تَعَلَّمُوا مِن أنْسابِكمْ مَا تَصِلُونَ بهِ أرْحَامَكُمْ، فإنَّ صلةَ الرحِم: مَحَبَّةٌ في الأهلِ، مَثْرَاةٌ فِي المالِ، مَنْسَأَةٌ في الأثَرِ".. فالحديث يحثُّ على تعرُّف الأقارب في الأسرة، والتودُّد إليهم، والتعاون معهم. ويرى في صلة الأقارب مهما كانت درجة قرابتهم: أنها تُنشئ المحبة بينهم.. وتساعد على سَعة الرزق.. وعلى طُول العمر. ...
والإنسان إذن بأقربائه.. إنْ توطَّدت المحبة بينهم، كانت سَعةً في الرزق بسبب تعاون بعضهم مع بعض.. وكان طول العمر، عن طريق تجنُّبهم المشقة والتوتُّر في الحياة، بسبب التعاون العام بين الجميع.
ولا تتوطد المحبة بين أفراد الأسرة إلا إذا بدَت الروح الكريمة فيهم، وهي روح المساعدة أو على الأقل روح التودُّد والرغبة في صِلة الرحم، والمحافظة على عدم انقطاعها.(201/2)
وبعض الفلسفات المعاصرة يرى التجمُّع بين أفراد الأسرة صورةً من صور التخلُّف الحضاري..ويرى الترابُط بينهم على أساس من المحبة والمعاونة ضرْبًا من ضروب البُدائية. ولذا يحرص على تمْزيق الأسرة وتَقطيع أوصالها بشتَّى الطرق والأساليب، والإسلام إذْ يُريد القوة للأسرة والمحافظة على روابط الدم بين أفرادها يُريد القوة للمجتمع نفسه. وإذا قَوِيَ المجتمع كان من السهل عليه أن يدفع طغيان أية قوة خارجية تُحاول أن تُطَيِّعه لفلسفة التبعيَّة، بسبيلٍ أو بآخر.
والزيارة التي تُريدها السائلة وتستأذن فيها زوجها لتقوم بأدائها لأخيها ولأسرته هي أقلُّ ما يجب أن يُعمَل في علاقة الأخت بأخيها.. والزوج إذ يمنعها من زيارة أخيها في حال الصحة والمرض على السواء، ومن زيارة زوجته أو ابنته: إنما يمْنعها عن أمرٍ يدعو إليه الإسلام ويطلبه، فيُروَى أن رجلاً سأل رسول الله
ـ عليه السلام ـ فقال: أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة فقال الرسول ـ عليه السلام ـ: "تعبدُ اللهَ لا تُشركُ به شيئًا.. وتُقيمُ الصلاةَ.. وتُؤتي الزكاةَ.. وتَصِلُ الرَّحِمَ". .. فجعل صلة الرحم في القيمة والأثر بمَثابة أداء الصلاة، والزكاة، وأبسط الصور لصِلة الرحم هي الزيارة والتودُّد.. هي ما يُعبِّر عن المحبة والرضا بين الأفراد.
والزوج ـ وهو ابن عمٍّ لأخيها ـ مسئول كذلك أمام الله عن قطْع الصلة بينه وبين صهره. فهما من أُسرة واحدة، وفي درجة قرابة واحدة أيضًا. وإذ يَمنع زوجته من زيارة أخيها تَتضاعف مسئوليته أمام الله ـ سبحانه وتعالى ـ فضلاً عمَّا يُخلفه المنْع في نفس زوجته من عدم الرضا أو من عدم الصفاء النفسي في علاقتها به. والعاقل أولَى به أن لا يكون مَصدرًا لإساءة أحدٍ مهما كانت درجة القرابة إليه، ومهما كان أثر هذه الإساءة مِن التفاهة وانعدام الأثَر الماديّ.(201/3)
أما ما تسأل عنه الزوجة من زيارة صديقاتٍ لها ـ هنَّ على درجة كبيرة من التديُّن والاستقامة ـ فيجب أن يُستَأْذَن زوجها في هذه الزيارة، فربَّما يكون عنده من الأسباب ما يَجعلها تُعيد التفكير في الزيارة أو ربما يكون في وقت الزيارة غير مُهيَّأٍ لترْك زوجته تذهب وحدها لأدائها. وعلى أيةِ حال فمِن حقِّه كشريكٍ لها في الحياة أن يُوافق على خُروجها من المنزل لأداءٍ مهمةٍ تُريدها.(201/4)
130ـ الزوجة ترغب في العودة إلى زوجها بعد الطلاق منه
تذكر إحدى السيدات أنها تزوجت وهي في سِنِّ السادسة عشرة رجلاً كبيرًا، ولم تُشِرْ إلى سِنِّه، واستمرت معه في هذه الزيجة مدة ثماني سنوات، ثم انْفصلَا بعضهما عن بعض بسبب عدم إنجاب الأولاد، وفي الفترة التي قضتْها معه حجَّت بيت الله الحرام، ولم يَنقصها أيُّ شيء ممَّا تستمع به المرأة وتَسعى إلى اقتنائه. والآن يَرغب زوجها السابق في أن يُعيدها إلى عِصْمته، بينما تقدَّم لها رجلٌ آخر في سِنِّ الخمسين وله أولاد مِن زوجة سابقة.
وأمرها يدور في الوقت الحاضر بين ثلاث حالات:
إما أن تعود إلى زوجها السابق، ولكن على غير جدوى بالنسبة لإنجاب أولاد منه وستَظل كذلك طوال حياتها معه. ...
وإما أن تتزوج أبا الأولاد الذي تَقدم لها كذلك، ولكنها تخشى أن تحدث مشاكل مع أولاده لا تستطيع مُواجهتها.
وإما أن تبقى بدون زوْج، رغم أنها في سِنِّ الثامنة والعشرين، وبقاؤها من غير زوج وهي في هذا السن تراه ظُلْما لها.
وتريد حل هذه المشكلة بحُكم الدين والشرْع.
مِن الوجهة الفقهية يجوز للسائلة أن تُقدم على الزواج من أحد الرجلين؛ زوجها السابق أو الرجل الآخر صاحب الأولاد، فليس هناك مانع شرعيٌّ من الزواج بأيِّهما، كما يجوز لها أن تظلَّ مِن غير زواج رغم أنها في سِنِّ الثامنة والعشرين.(202/1)
والمفاضلة بين الرجلينِ في اختيار أحدهما أجْرتها في اختصار، ومَفادها أنها لو عادت لزوجها الأول رغم التجربة السابقة ـ وهى التجربة التي أظهرت حُسن سلوكه ومُعاملاته معها ـ لخاب أملها في إنجاب أولاد منه، والمرأة بحكم خصائص طبيعتها تحنُّ إلى الأمومة، بحيث تحسُّ بنَقْص في حياتها وفي استمتاعها بالحياة الزوجية إنْ ظلَّت بغير ولد منه، وهي تتلهف من اللقاء الأول معه على وجود طفل لها، تُمارس معه حنان الأمومة كما تُمارس متعة الأكل والشرب والملبس ومتعًا أخرى عديدة في حياتها. وخيبة الأمل في في إنجاب الولد تسدُّ عليها منافذ السعادة كما تراه المرأة، وحياة بغير أمل هي حياة يأسٍ مقنعٍ، واليأس إذا سيطر على الإنسان سيطر عليه القلق والتوتر.
ومفاد هذه المفاضلة بالنسبة للرجل الثاني ـ وهو الرجل صاحب الأولاد ـ أنها تَخْشى أن تُحدث مشاكل في علاقتها الزوجية بسبب الأولاد، وهي مشاكل مُتوقَّعة وعديدة، وأخصها مشكلة الصراع بين الزوجة الجديدة وأولاد الزوج مِن غيرها حول الاستئثار به، فالزوجة مِن جانبها تُريد الاحتفاظ به وحدها لمَصلحتها قبل أيَّةِ مصلحة أخرى، والأولاد يُريدون أن يظلَّ أبوهم معهم يرعَى شُئونَهم كما كان قبل الزواج، وإنْ كان على حساب شأن الزوجة الجديدة، والرجل كزوجٍ وكأبٍ يتردَّد عادةً بين الزوجية والأُبُّوة، وموقفه ليس مَوقفًا حاسِمًا، وإنما هو "بيْن بيْن" وهنا تبدو عواطفه مُتقلِّبة؛ مرة إلى جانب الزوجة وأخرى إلى جانب الأولاد، وهذه المشكلة كثيرًا ما تُؤدي إلى غضب الزوجة الجديدة ورغبتها في العودة إلى حياة ما قبل الزواج، تخلُّصًا مِن طول هذا الصراع ومرارته.(202/2)
وتوقُّع المشاكل في الحياة الزوجية بسبب وُجود أولاد للزوج مِن زوجة أخرى سابقة يضع أمام المرأة عقبةً ليس مِن السهل اقْتحامها، وهنا تتردَّد المرأة كثيرًا ـ ويحقُّ لها أن تتردد ـ في الإقدام على قبول زوج له أولاد مِن غيرها، وهذه العقبة وإنْ لم تَنطوِ على خَيْبة أملٍ لدَى الزوجة في حلِّها ـ كما يَنطوي عدم إنجاب الزوج للأولاد لدَى الرجل الأول ـ إلا أنها تنطوِي على انقباض النفس وعدم التفاؤل في المُستقبل في الحياة الزوجية المُقبلة.
فهل السائلة لدَيْها من قوة الإيمان بالله ما يجعلها تعتقد أن إنْجاب الأولاد أو عدم إنجابهم يتعلَّق بقدَر الله وحده للإنسان؟ (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا ويَهَبُ لمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ. أوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإِنَاثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَليمٌ قَديرٌ) ( الشورى: 49 ـ 50) وتتخطَّى باعتقادها هذا تأثيرَ هذا الأمل في نفسها، وعندئذٍ تعيش سعيدةً مع زوجها السابق؛ لأنَّ الأمر الذي يقلق أيَّ إنسان في حياته هو كثرة الآمال وقِلَّة تحقيق ما يتحقَّق منها، أو قوة الأمل ثم تلاشيه، فإنْ هي لم تُركز أملها في إنجاب الولد فمع مرور الزمن يضعف هذا الأمل في آثاره على النفس الإنسانية. إنِ اعتقدت ذلك ودرَّبت نفسها على الاطمئنان إليه والمَعيشة معه كان لها أن تتزوج رجُلها السابق وهي راضية.(202/3)
وهل السائلة لدَيها مِن سَعة الصدر وقوة الحِيلة والصبر ما يُمكِّنها أن تعيش مع أولاد الرجل مِن غيرها في وئامٍ؟ هل لدَيها الاستعداد للتضحية بشيء من أنانيتها بالنسبة للزوج ووالد الأولاد، فتَقبل أن يكون نصيبُها مِن رعايته لها ومن عواطفه أقلَّ مِن نصيب أولاده إلى حينٍ؟ وهل تستطيع أن تحتويَ الأولادَ بين ذراعَيها بالعطف والتسامُح والتوجيه المثمر والأسلوب الرقيق في التعبير والمُعاملة؟ وهل تستطيع أن تنقل حنان الأُمومة لدَيها إلى هؤلاء الأولاد كأنهم أولادها بالتبنِّي؟
إن كانت تستطيع ذلك فلْتُقبِلْ على الزواج مِن أب الأولاد ولْتنتظرْ حياةً سعيدة من الزوج والأولاد معًا. أما الزوج فإنه مع راحته النفسية بما يرى ويُشاهد مِن معاملة الأولاد الحسنة يَشكر لزوجته حنانها وعطفها وحُسن توجيهها، وأما الأولاد فتَنطبع نُفوسهم في أعماقها على حُبِّها، وينقلب الحقد عليها إلى مودَّة في اللقاء وطاعة سهلة لمَا تُوجههم به.
هل مِن بين سيِّداتنا في مُجتمعنا مَن تغلبُ عاطفةُ الأمومة على أنانية الذات؟ إنَّ ذلك هو السبيل إلى عدم انشقاق الأسرة إذا حلَّت فيها زوجةٌ بدل أخرى لسببٍ من الأسباب.(202/4)
47ـ هل من حقِّ البِنْت إبداء الرأي في الرّجُل المتقدِّم لزواجِها؟
نعم.. من حقِّ البنت أن تُبديَ رأيَها في الرجل الذي يتقدَّم لزواجها وبغير أن يُعرَف رأيُها لا يصح عقد الزواج منها. وحديث أبى هريرة في ذلك ـ رضى الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تُنكَح الأيِّم ـ أي لا تتزوَّج المرأةُ الثيِّبُ ـ حتى تُستأمَر ـ أي حتى يؤخَذ أمرها ويُعرَف ـ ولا تُنكَح البِكْر ـ أي لا تتزوَّج البنت التي لم تتزوّج بعدُ ـ حتّى تُستأذَن ـ أي حتى يُؤخَذ إذنها ويعرَف ـ قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها ـ أي إذن البكر ـ قال: أن تسكُتَ". وفي رواية أخرى: "الثيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبِكْر تُستأمَر ـ أي يؤخذ أمرها ويُعرَف ـ وإذنها سكوتها" (كتاب التاج: جـ3 صـ315).
فهذا الحديث ـ وهو حديث مُتَّفَق على روايته في كتُب السُّنّة ـ يُعطِي: أن إذن البنت في زواجها أمر مشروط في صِحّة عقد الزواج منها سواء أكان هذا الإذن صريحًا أو كان تعبيرها عنه بالسكوت عندما تُستأذَن.
والإجابة في الحديث عن "الإذن" بالسكوت هو طبقًا للعادة الجارية آنذاك والتي ما زالت توجَد في بعض المجتمعات. وهى أنَّ البنت يشتَدُّ حياؤها عندما تُسأل عن رغبتها في الزواج، ولذا تُفَضِّل أن تَسكُت، تعبيرًا عن مُوافَقَتِها. وبذلك أصبح السكوت ترجمةً لمعنى الموافقة عندما تسأل عن ذلك.
ولكن إذا تغيَّر هذا العُرْف وأصبحت البنتُ لا تخجَل من الإجابة الصريحة عن رأيها في زوجها المُقبِل ـ وكان سكوتها كذلك ليس كافيًا في معرفة رأيها ـ فإذنها عندئذٍ يكون بموافقتها الصريحة على زواجها ممّن تختاره.
وهكذا الإسلام يَضْمَن للمرأة ـ ثيِّبًا أو بكرًا ـ رأيَها ومشيئتَها في الزواج. والإكراه في نظره مُبطِل لعقد الزواج، كما هو مُبطِل لأيِّ تصرُّف يأتي من الإنسان المُكرَهِ.(203/1)
ووجود وليِّ البنت ليس ضرورة لصِحّة عقد الزواج منها، مادامت هي رشيدة قادرة على الفصل في أمورها الخاصة. ووجود الوليّ مع البكر في الزواج هو أشبهُ بضرورة أُسريّة أو بضرورة اجتماعية. فوجوده يُعتَبَر كضمان فقط لحُسْن اختيار الزوجة لها. فهو أقربُ الناس إليها وأشدُّهم عطفًا وحُنُوًّا عليها، وأكثر منها تجربة في مجال الزوجيّة ومجال الحياة العملية على السواء. ولذا كان العُرْف ـ أو كانت العادة ـ أن يُباشِر الوليُّ عقد الزواج نيابة عنها:
أولاً: لعدم إحراجها وخجلها إذا ما عرَضتْ نفسها على زوجها بقولها: "زَوَّجْتُك نفسي".
ثانيًا: لإشعار الزوج أنه مُشارِك مع ابنته في المسؤوليّة الأدبية لهذا العقد.
ثالثًا: لاطمئنان ابنتِه ـ وهى ستُنْقَل من أسرة نمَتْ وازدهرتْ فيها إلى تجربه جديدة ترجو النجاح فيها، دون أن تَثِق بما يُخبِّئه الغد لها من متاعب وصعوبات وكأنّه بوجوده معها في عقد الزوجية يُقَدِّم لها السنَد المادِّيَّ في حياتها المُقبِلة.
وإذا استغل بعض الأولياء فرصة زواج البنت لمصالح شخصية فإن هذا البعض يكون قد أخلَّ بما يجب عليه نحو ابنته من المحافظة على مصلحتها التي اؤتُمن عليها. وفي الوقت نفسه يكون قد وقع تحت تأثير الهوى وإغراء المنفعة المادِّيّة. والإسلام إذ يمكِّن البنت من اختيار زوجها دون حاجة إلى ولاية أُسريّة أو رسمية يُعطيها الفرصة لحُسن الاختيار مع تحمُّل المسؤوليّة الكاملة، ثم من جهة أخرى يعطيها الحقَّ في منع استغلالها من جانب وليِّ أمرها أو من جانب أي شخص آخر.
أمّا الوالد المستغِلّ ـ أو وليّ الأمر المستغِلّ ـ فالله وحده هو الذي سيسأله عن ذلك، ويَجزيه على إساءته بالسوءى.(203/2)
وعلى البنت أن تدرك فقط أنَّ غرورها بقيمتها الذاتية وبصحة رأيها فيما ترى قد يجُرُّ عليها متاعب لا تُحصَى، ولذا يجب أن تتريّث ولا تظنَّ سوءًا بوليِّ أمرها، إن حال مرة ما دون زواجها بمَن تظنُّ أنه أملُها ورجلها الوحيد في الحياة. فربّما مَظهره لا يعبِّر عن مَخبره. وربما الاندفاع نحوه هو الذي يرسم له الصورة الجميلة في تصوُّرها.(203/3)
119 ـ هل يجوز: إقامة فتاة مع خطيبها في رمضان لتطهوَ له، وذلك قبل عقد الزواج؟
أيضًا إقامة الفتاة مع خطيبها في سكَن واحد هو تقليد غربيٌّ، دفعت إليه عوامل اجتماعية، ودينية، واقتصادية.
أمّا في الإسلام فخطيبة الرجل لم تَزَلْ أجنبية عنه، لا يحِلُّ له أن يخلوَ بها، فضلاً عن أن يسكن معها في سكن واحد. فيُروَى عن جابر: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليس معها ذو محرَم منها، فإن ثالثَهما الشيطان".
ثم إذا كانت الخَلوة الأجنبية في شهر رمضان فإن ذلك يَزِيد من الحُرْمة؛ لأنه انتهاك لحُرمة الشهر المُبارَك، وداعٍ إلى الفتنة فيه، وهو الشهر الذي يتَّقي المؤمن بصومه الفتنة، ويتجنَّب المعاصيَ والانحرافات.
إن خطبة الرجل للمرأة لا تُحِلُّ له سوى النظر إليها والحديث معها، بقدر ما يدعوه إلى زواجها. ومادام عقد الزواج في الإسلام ميسَّر لا تعقيد فيه.. فلا معنى لإطالة الخطبة، فضلاً عن السكن معها ودعوتها لأن تطهوَ له الطعام في معاشرة غير مشروعة.
إن عقد الزواج في الإسلام إيجاب من المرأة أو وليِّ أمرها، وقَبول من الرجل أو مَن ينوب عنه. وتوثيق العقد على يد موثِّق خاص هو عمل إداريٌّ، قُصد به المحافظة على حقوق الطرفين. وهو بذلك عمل تنظيميٌّ لا دَخْلَ له في صحة العقد. والمهر في الإسلام هو تعبير فقط عن رغبة الرجل، وليس ثمنًا: (وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ ـ أي مهورَهن ـ نِحْلةً) (النساء: 4). "أي عطية وهدية". ويجوز لذلك أن يكون المهر غير مادِّي كتعليم المرأة مثلاً. وإذا تعثَّرت العِشْرة الزوجية، بحيث تُصبح ضررًا على الطرفين، أو على أحدهما.. فقد شُرع الطلاق للرجل، والخُلع للمرأة.
وبهذا الوضع للعلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة، لم يعُد هناك مكان لإطالة الخطبة، ولا لاختيار المرأة أثناء خطبتها.(204/1)
ولكن الغرب الذي اتَّخذه المسلمون منذ القرن التاسع عشر مَعْلَمًا، وهاديًا لهم في سبيل الحياة الاجتماعية والسياسية، بدلاً من الإسلام، وهو الذي يعقِّد على الشباب المسلم حياته اليومية، ويُشكِّل علاقة أحد الجنسين بالأخرى، ويدفعه إلى تقليده فيما يسلك، وفيما يفكِّر.(204/2)
120 ـ هل يجوز الاتصال بامرأة قبل عقد الزواج على أساس أنه سيتزوَّجها فيما بعد؟
"زواج التجرِبة" كما يسمَّى، أو الاتصال بالمرأة جنسيًّا قبل عقد الزواج عليها تمهيدًا لاختبار صلاحيتهما معًا في معاشرة زوجية شرعية.. هو أمر وافدٌ من الحضارة الغربية على المجتمعات الإسلامية. ويُعتَبَر نشازًا أو غير واقعي ومنطقي مع مبادئ الإسلام في الزواج والطلاق.
إذ الزواج في الحضارة الغربية ـ وهو الزواج الكاثوليكيّ، أو البروتستنتي، أو الأرثوذكسي ـ يقوم أصلاً على عدم الانفكاك، أو على الدوام المُطلَق. وليس هناك طلاق في الكنيسة الكاثوليكية، وإنما هناك فسخ للعقد يَصدُر من محكمة دينيّة عُلْيَا، بِناءً على أسباب معينة. والإصلاح الديني ـ وهو أساس الكنيسة الإنجيلية أو البروتستنتينية.. أخذ بمبدأ الطلاق، يصدُر به حكم من محكمة بِناءً على توافر مبرِّرات معيّنة أيضًا. ومعنى ذلك أن إنهاء عقد الزواج ليس بيد الزوج وحده، كما هو الحال في الإسلام.
ثم هناك من العادات في هذه الحضارة ما يقلِّل من شأن الرجل المطلِّق أو المرأة المطلِّقة وما يَحُول ـ أيضًا ـ دون تولِّي الرجل المطلِّق بعض الوظائف العامة في الدولة، كأمارة على امتهانه.
ولعدم وجود الطلاق بيد الزوج، أو الخُلع بيد المرأة، ثم لنظرة التقليل إلى الرجل المطلِّق في الحياة الاجتماعية كان هناك نوع من الاحتياط والتريُّث في إتمام عقد الزواج. ثم كان التفسُّخ والتحلُّل في العلاقات الجنسيّة بفعل تكسُّب المرأة ودخولها الحياة في مساواة أو شِبْه مساواة مع الرجل، ساعدَا على أن يتحوَّل الاحتياط والتريُّث في إتمام عقد الزواج الشرعي إلى تجربة في المعاشرة الجنسية، واتصال بالمرأة قبل عقد الزواج.(205/1)
أمّا الإسلام فقد أعطى الرجل حقَّ الطلاق إن تضرَّر بالمعاشرة الزوجية كما جاء في قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).. كما أعطى للمرأة إن تضرَّرت كذلك حق الخُلع، فيما ورد في نفس الآية: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229). وهكذا لا إكراه في الحياة الزوجية، وإنَّما هي معاشرة إنسانية كريمة. ولأنَّ أمر الفُرقة وفَصْم عُرى الزوجية ارتبط بالرجل وبالمرأة، دون ما سواها، لم يكن هنا من داعٍ للدخول في "تجربة" قبل الزواج، تمهيدًا لعقده إن نجحت التجربة.
على أنه من جانب آخر ينظر الإسلام إلى المرأة على أن لها حُرْمة، تتمثَّل في عِرضها، وعفافها، وكرامتها. فإن هي أُخضِعت للتجربة الجنسية أصبحت كالسلعة التي لا يشتريها مشترٍ إلا بعد أن يتذوَّقها. وما جعل المهر في الإسلام كهدية من الرجل للمرأة، إلا للحفاظ على كرامة المرأة. فالمهر في حقيقة أمره ترجمة لطلب الرجل وسؤاله المرأة. وهى بقَبولها المهر كانت مسؤولة منه وليست سائلة له. وهذا مما يوفِّر لها الحياء.
وحديث ابن عباس: "لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرَم" كافٍ في وضوحه في تحريم اتصال الرجل بالمرأة قبل الزواج. والإسلام بتحريمه هذا الاتصال غير الشرعي قبل عقد الزواج كان منطقيًّا في مبادئه: في الطلاق، وفي عقد الزواج معًا. فمبادئه تُساوِق الطبيعة البشرية، ولا تحملها على التحايُل ولا على الخداع.(205/2)
4 ـ زواج الجِنّ من الإنس
طالِب بإحدى المحافظات يسأل: هل يتزوّج الجِنُّ من الإنس؟ وإن كان يَتِمُّ الزواج بينهما فما الدليل؟ وكيف يَتِمُّ بين الزوجين عقد الزواج؟ وهل يكون الأبناء جِنًّا أم إنسًا؟
وردت في القرآن الكريم أربعة مفاهيم يجب الإيمان بها: مفهوم المَلَك، ومفهوم الإنْس، ومفهوم الشيطان، ومفهوم الجِنّ.
والسؤال بعد ذلك: ألهذه المفاهيم الأربعة طبقًا لمَا جاء في القرآن حقائق خارجيّة متقابِلة؟ أيْ لكلِّ مفهوم من المفاهيم الأربعة حقيقة مستقِلّة عن الحقائق الأخرى؟
نرى أنَّ القرآن ورد فيه في سورة الأنعام مثلاً قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرورًا) (الأنعام:112). فجعل الشياطين مفهومًا أعمَّ من الإنس والجنِّ، أيْ يتناول الإنس كما يتناول الجِنَّ، وليست للشياطين حقيقة مستقِلّة عن حقيقة الإنس وعن حقيقة الجنِّ، فالشيطان اسم جنْسٍ عندئذٍ، وهو مفهوم يَندرج تحته الإنس والجِنّ مَعًا.(206/1)
وَرد في القرآن أيضًا في سورة الصافات قول الله تعالى: (وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرونَ). أي لقد علمت الجِنّة أن المشركين لَمَسُوقون إلى جهنم. (الصافات: 158). ولقد جاءت هذه الآية عقب ادِّعاء مُشركي مكة ـ وذكر هذا الادعاء في الآيات في السورة نفسها ـ أنَّ الملائكة بنات الله، في قوله تعالى: (فاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَنَاتُ ولَهُمُ البَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إِنَاثًا وهُمْ شَاهِدُونَ. أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وإِنَّهُمْ لَكَاذِبونَ). (الصافات 149 ـ 152). فإذا قالت الآية بعد هذا الدعاء: (وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنّةِ نَسَبًا). فالمعنى أن المشركين بمكّة في ادعاءاتهم الباطلة جعلوا بين الله والملائكة نسَبًا، على اعتبار أن الملائكة بنات الله. وعبَّر القرآن هنا بالجِنّة. ويقول الزمخشري في تفسيره "الكشّاف" عند ذكر هذه الآية: وجعلوا بين الله وبين الجِنّة وأراد الملائكة (نَسَبًا) وهو زعْمهم أنَّهم بَناته، والمعنى: جعلوا بين الله بما قالوا نِسبةً بين الله وبينهم وأثبتوا له بذلك جِنْسيَّةً جامعةً له وللملائكة. فإن قلتم: لِمَ سمَّى الملائكة جِنّة؟ قلتُ: قالوا: الجنس واحد ولكن مَنْ خَبُثَ من الجِنَّ ومَرَدَ كان شرًّا كله فهو شيطان، ومن طَهُر منهم ونسَك وكان خيرًا كلّه فهو مَلَك. فذكَّرهم في هذا الوضع باسم جِنْسِهم. (الجزء الثاني: ص: 272 الطبعة الأولى المطبعة الشرفية).(206/2)
على أن آية الصّافّات هذه كرَّرت لفظ: "الجِنّة" في قوله تعالى: (ولَقَدْ عَلَمِتِ الجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرونَ). على أن المراد بالجِنّة هنا الملائكة؛ لأن الملائكة وحدها هي التي تقوم على جهنَّم كما تقوم على الجَنّة، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نارًا وَقُودُهَا النّاسُ والحِجارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤمَرونَ) (التحريم:6). (ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاّ مَلائِكَةً ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاّ فِتْنةً للذِينَ كَفَرُوا). (المدثر:31). فالمَلائكة هي التي تَعلم حضور المشركين إلي جهنَّم، وقد سمّاها القرآن هنا الجِنّة.
فكلمة الجن ـ ومعناها: المُستخفي والمُستتِر وغير الظاهر وغير المشاهَد بالرؤية ـ كما تُطلَق على الملائكة وهي مَوجودات خَيِّرة، تُطلَق على غيرها مِن الموجودات الخَفِيّة الشريرة. فهي اسم جنس تُطلَق على الملَك وعلى غيره ممّا شأنه التخفِّي وعدم الظهور. وليستْ للجِنِّ حقيقة مستقِلّة تُقابِل حقيقة الإنْس والمَلَك معًا.(206/3)
وهكذا مِن أربعة المفاهيم التي وردت في القرآن ـ والتي يجب الإيمان بها، وهي مفاهيم الشيطان، والجِنّ، والإنس، والمَلَك ـ مفهومانِ عامّان، وهما مَفهومَا الشَّيطان والجِنِّ، ومَفهومانِ خاصَّان لهما حقيقتانِ مُستقِلّتان، وهما مفهوما الإنْس والملَك. وقد ذكر القرآن هاتين الحقيقتين في سورة الأعراف على لسان إبليس كمَلَكٍ عصى ربَّه، في قول الله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). (الأعراف: 12). وعصيان إبليس كملَك لله لا يُخرِجه مِن طبيعته الملكيّة، كعصيان الإنسان لرَبِّه لا يُخرجه عن طبيعتها الإنسانيّة، وقد عصى آدمُ ربّه هو وحواء، باقترابهما مِن الشجرة وأكْلهما مِن ثمارها، وقد حرَّمها الله عليهما أصْلاً، ومع ذلك لم يَخرُجَا بهذا العصيان عن الطبيعة الإنْسيّة .
فكلمة الجِنّ تَعبير عن الموجود الذي من شأنه ألاّ يُرى، خيرًا أو شرًّا، إنسًا أو ملكًا على السَّواء، وكلمة الشيطان تعبير عن مصدر الشَّرِّ، مُستخفيًا أو مَعهودًا، معروفًا أو غير معروف، جِنًّا أو إنْسًا على السواء، وكلمة الإنس تعبير عن الحقيقة الإنسانية التي خُلِقَتْ أصلاً من طين: (الذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِه وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرونَ). (السجدة: 7 ـ 9).(206/4)
وكلمة الملَك تعبير عن تلك الحقيقة الخالدة الخيِّرة، التي لا تتميّز بذُكورة ولا أُنُوثة، ولا بنَسْلٍ أو عُقْم، ولا بحياة أو موت، فهي باقية في طاعة الله، وقد امتحنها الله في طاعته بالسجود لآدمَ فسَجدت جميعها إلا فرد واحد هو إبليس، أبو الشَّرِّ، ومصدره الأصيل. وهي حقيقة لا تُرَى ولا تُشاهَد: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً). (الإسراء:95) وهكذا، بين الإنس والملَك اختلاف في الطبيعة. وهكذا الجِنُّ قد يُطلَق على الإنسان الشِّرِّير أو الخيِّر غير المعروف والمعهود كما يُطلَق على الملَك. وعندئذٍ: هل يُراد من زواج الإنس بجِنِّيّة زواج الإنسان بإنسانة لم تكشف عن هُوِيّتِها بعدُ؟(206/5)
26 ـ مأساة أسرة بسبب حماقة الأب:
يذكر مواطن من القاهرة:
أولاً: أن شابًّا يبلغ من العمر 20 عامًا، عَقد قرانَه على فتاة في الثامنة عشرة وكانت يتيمةً تعيش مع أمِّها وزوج هذه الأمّ.
ثانيًا: أنَّها من سُوء مُعاملة زوج أمِّها لها انتقلتْ إلى أقارب عريسِها أي إلى منزل أبيه وأمِّه وأقامتْ عندَهم سنةً كاملةً ولم يُعْرَف هل دخل بها زوجُها الشاب في هذه الفترة أم لا؟
ثالثًا: أن مفاجأة قد تمَّت؛ طُلِّقتِ الفتاة من الشابِّ، وهي تدَّعي أنَّها لم تزل بِكْرًا، طَلَّق والد العريس أمَّه التي كانت زوجتَه حتَّى الآن.. يسعى إلى الزواج بحَليلة ابنه مِن صلبه.. أي يسعى إلى الزواج بالفتاة التي طُلِّقت مِن زوجها الشابِّ وهو ابنُه.. ولم يعقِد قِرانه عليها حتى الآن؟
ويسأل الأخ المسلم: ما رأي الإسلام؟
إن والد الشابِّ وهو ربُّ الأسرة يُسيء الآن إلى ثلاثة أشخاص:(207/1)
يُسيء إلى ابنه الذي يبلغ العشرين من عمره وكان قد عقد قرانَه على الفتاة التي طُلِّقت منه الآن وإساءته إلى ولده هذا أنّه حمَله حمْلاً مباشرًا أو غير مباشر على تطليق الفتاة، فغَرَّر الأب بالفتاة بالهدايا وبكُلِّ ما تُحِبُّ أن تحصل عليه في حياتها حتى مالتْ إليه وتدلَّلت عليه، وإذا كانت الفتاة الشابّة تميل إلى فتى شابٍّ مثلها بحُكم بَريق الشَّباب وخداعه، فإنَّها ترغب في قَرارة نفسِها في الرَّجُل الذي هو أكثر تجربةً، وأقْوَى على حمايتها ووقايتها من الأخطار وأقدَر على الإنفاق عليها وتلبية رغباتِها. والأب هنا يُمثِّل دور الرجل المجرِّب القادر على الحماية والوِقاية والذي يستطيع أكثر مِن ابنِه على الإنفاق عليها وتدليلها فالفتاة هنا ارتبطتْ نفسيًّا بوالد العريس، واطمأنتْ إليه ووجدَتْ فيه المِظَلّة التي تَقيها مِن العواصف والأزمات، ولم يَعُدِ الشاب الذي عقد قرانه عليها مصدر إغراء لها ولم يعُد هو ينجذِب إليها وهذا الوضع ليس خاصًّا بهذه الفتاة أو بهذا الشابِّ وإنَّما يكاد يكون ظاهرةً عامّة عندما تترك الفتاة الصغيرة شابًّا في مثل سِنِّها لتتزوَّج بمَن هو أكبر منها سِنًّا، وربما يكون سِنُّه على الضعف من سنِّها لأنَّها تريد: الحماية.. والمال .. وحنان الأبوّة.. وتجربة الرجولة.. وهذه الفتاة كانت يتيمةً، وعاشت مع زوج أمِّها الذي كان يقسو عليها، حتى هجرت أمَّها وهجرتْه معها لتعيش بين أغراب أقوياء.(207/2)
ويُسيء ربُّ الأسرة هذا إلى أمِّ الشاب، وهي زوجته؛ إذ يُطلِّقها بدون مبرِّر سوى أنّه يريد أن يتزوج حليلة ابنه مِن صلبه، وهي أصغر من زوجته وأكثر شبابًا وحيويةً ودَلَعًا منها ويهدم بتطليق زوجته وأم ولده: أسرةً كانت قائمة.. ولا شَكَّ أنها أيضًا كانت سعيدةً بقُرب زفاف الفتاة إلى ابنها الشابِّ، وما هي الآن نظرة الشاب إلى أبيه؟ وما هي نظرة أمِّه إلى زوجها السابق؟ إن هذه وتلك: نظرة الحاقد.. نظرة المتربِّص لمَصائبه.. نظرة الراغب في العمل على هَدْمه.
والشخص الثالث الذي يُسيء إليه ربُّ هذه الأسرة الذي يخلو ضميره من الخَشية من الله هو الفتاة الشابّة نفسها؛ لأنَّها سترى نفسها محرَّمة عليه لأنَّها كانت حليلةَ ابنِه من صُلْبه بعقد الزواج السابق وإنْ لم يدخُل بها، فآية النِّساء التي جاءت تحرِّم الزواج من نساء مُعيّنات وهي قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) (النساء 23) تذكر من بين المحرَّمات: زواج الآباء بزوجات الأبناء مِن الأصلاب، وإن لم يدخُل بِهِنّ عندما تقول: (وحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (النساء 23) أي محرَّم عليكم أيُّها الآباء الزواج بزوجات أبنائكم الذين مِن أصلابكم، وليسوا عن طريق ادعاء بُنوّتهم ولا تُقاس حلائل الأبناء على الرَّبائب اللاتي في حُجور أزواج أمّهاتهِنّ، فإنه يجوز للأزواج إن لم يكون قد دخلوا بأمهات الربائب، أن يتزوَّجوا الربائب أنفسهنّ: (ورَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) (النساء 23).
أي محرَّم عليكم أيُّها الأزواج أن تتزوَّجوا الربائب إذا كنتم دخلتم بأمهاتهِنَّ بالفعل: (فَإِنْ لَمْ تَكونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) (النساء 23).. وفي حالة عدم الدُّخول بأمّهاتِهِنّ يجوز لكم أيها الأزواج أن تتزوّجوا الرَّبائب اللاتي في حُجوركم.(207/3)
وليست إساءة ربِّ الأسرة إلى الفتاة الشابة أَنَّها تُحرَّم عليه الآن أن يتزوّجها فقط.. وإنّما فعلاً قد أساء إلى سُمعتها قبل هذا التحريم وما الادِّعاء بأنَّها لم تزل بكرًا إلا غِطاء على إشاعة سوءٍ نالَتْ منها، في عَلاقتها بوالد زوجها السابق.. وهكذا تَخسر بسبب هذا الوالد مستقبلَها كزوجة وأمّ أولاد لأسرة تبحث عن الشرف والأمانة.
1 ـ ماذا أفاد الوالد الآن مِن هذه المأساة؟
2 ـ ما مقدار جريمته بالنسبة إلى زوجته وابنه وزوجة ابنه السابقة؟
3 ـ ما هي إساءته إلى سُمعتِه وإلى ضميره ـ إن كان له ضمير ـ عندما يُراجِع عناصر هذه المأساة؟
4 ـ بِمَ يُقيم الآن في الحيِّ الذي يسكُنه بين المعارف والأصدقاء والزملاء؟
أيُقيم بأنَّ مستواه الإنساني انحطَّ إلى مستوى الحيوان؟ أيُقيم بأنَّ دَناءة النفس ساقَتْه إلى الوقوع في كارثة إنسانية لا يَخرج منها طول حياته؟
5 ـ أيثِق به أحد الآن؟ أيحترمه إنسان الآن؟
بماذا يواجه ابنه وقد أتعَسَه بتطليق عروسه وأمّه معًا؟ وبخراب الأسرة كُلِّها؟
اللهمَّ اهدِ مثل هؤلاء الرِّجال الطَّريقَ السَّوِيَّ، وجنِّبْهم طغيان الهوى والشهوة، وقُدْهُمْ بحِكمتك وبقُرآنك إلى ما فيه خيرهم وخير أسرهم ومجتمعهم.(207/4)
وتقول إحدى الآنسات مِن الإسكندرية:
إنها فتاة مسلمة تؤدِّي واجبها نحو الله، وإنَّها فقدت أباها منذ الصغر وتكفَّلت بها والدتها حتى التعليم الجامعيّ وهي مَدينة لوالدتها بالشكر، ولكن تُحِسُّ منذ وقت طويل بأن أمَّها لا تَعطف عليها، بل تُحاوِل أن تُشوِّه سمعتَها وأن تَحول دون أن يتقدَّم لخِطبتها أحدٌ.. وتسأل: هل مِن حقِّها أن تتزوَّج رغم مُعارَضة أمِّها لزواجها؟
من الوجهة الفِقْهيّة، ومن جهة صلاحيّة عقد الزوجية على البنت البكر، لا شأن للأمِّ ولا تتوقّف صِحّة العقد على موافقتِها، فالمرأة لا تُزوِّج المرأة وإنَّما وليُّ المرأة في الزواج هو الأب وإن عَلا.. والابن وإنْ نزل والسائلة يتيمة فيُؤخَذ رأيُها في زواج نفسِها للحديث الشريف: "تُستَأمَر اليتيمة في نفسِها. فإن سكتَتْ فهو إذْنُها، وإن أبَتْ فلا جوازَ عليها".
ومذهب الحنفيّة لا يَشترط الوليَّ مُطلقًا بل لها أن تُوَكِّل في عقد زواجها غيره ولها أن تُزوِّج نفسها بنفسها للحديث المرويِّ: "الثَّيِّب أحقُّ بنفسِها مِن وَليِّها، والبِكْرُ تُستأمَر، وإذنُها سُكوتها".
وعلى آية حال لا تتدخل الأم في عقد الزواج على بنتها..
ولكن مِن الوجهة الأُسْريّة والنفسيّة ينبغي على السائلة أن تُعالِج سوء العَلاقة مع والدتها؛ إذ معالجة ذلك ليستْ مُستعصِية عليها فالأمُّ مهما قسَتْ على ابنتها ومهما أظهرت عدم المودّة لها فهي في قَرارة نفسها ترجو لها الخير وتسعى لسعادتها، بالمشارَكة في اختيار الزوج الصالح لها.
إن عاطفة الأمومة أو الأبوّة أقوى بكثير مِن عاطفة البُنوّة نحو الوالدين والطريق إلى كسْب عاطفة الوالدينِ هو تجنُّب المغالَطة في مُعاملتهما والعِناد والتشدُّد في الحديث معهما، والاعتذار عن الخطأ إن وقع في العلاقة معهما.(208/1)
والسائلة في كتابها تعترف بفضل أمِّها عليها منذ الصِّغر منذ كانت تسعى عن طريق الحِياكة في سبيل لُقمة العيش.. إلى أن أصبحتْ مُدرِّسةً تأخذ راتبًا على عملها، وإذا لم تنجَح السائلة في إعادة العلاقة الطيِّبة مع أمها فإنه مِن المشكوك فيه أن تُصبح زوجةً صالحة يَسعَد بها زوجها وتسعَد هي بزواجها منه.(208/2)
35 ـ حَيرة بنت في صلتها بأبيها لإحْساسها بعدم العطف منه:
تقصُّ إحدى الآنسات وقد تخرَّجت في إحدى الكليّات الجامعيّة مشكلتها فتقول:
إنَّ أباها انفصل عن والدتها في سِنٍّ مبكِّرة لها، وبَقِيَتْ مع والدتها فعُنِيَتْ بها إلى أن تخرَّجت في الجامعة وتذكُر لوالدتها أنها رفضت الزواج عدة مرات كي تتفرَّغ إلى تربيتها ولا تذكر لأبيها إلا أنّه سارع للزواج بعد طلاق أمِّها ومن جامعيّة بعد أن حصل على مؤهِّل جامعي بفضل معاوَنة والدتِها له في الحصول عليه، وإلا أنها كذلك لم ترَ منه إطلاقًا ما تُحِسُّ معه حنان الوالد وعطفه على ابنته طول المدة التي عاشتها حتى الآن.
وهي تسأل الآن ـ بعد أن تقدم لخِطْبَتِها شابٌّ ترضى منه خُلقه ورجولته وهو مهندِس وقَريب لوالدتها ـ هل تقبل الزواج منه، رغم معارَضة أبيها بسبب هذه القَرابة فقد بلغت من السِّنّ ومن الاستقلال في الحياة ما يجعلها تُحسِن الاختيار أم تتَّبع رأي أبيها رغم مُقاطعته لها؟
مطلوب من الوالد أن ينظر إلى المسألة هنا نظرةً موضوعيّة، مطلوب منه أن ينظر إلى الشابِّ المهندس الذي تقدَّم لخطبة ابنته والتي انتهت من التعليم الجامعي: هل له الصلاحية والأهلية لزواجها أمْ لا؟ بغَضِّ النظر عن قرابته أو عدم قرابته لأمِّها فالنظرة الموضوعية هي الأقرب إلى تحقيق ما فيه المصلحة لابنته.
إنَّ ابنته وقد بلغت الثالثة والعشرين عامًا مِن عمرها لا تنتظر الآن عملاً تُؤْجَر عليه ويتَّفق مع مُؤهّلها الجامعي بقَدْر ما تنتظر زوجًا يُشاركها الحياة ويُكوِّن معها أسرة جديدة هي رَبَّتُها.(209/1)
وهذا بحُكم الفِطرة البشريّة، فصَدُّها عن الزواج بكُفْءٍ لها ـ كما تعتقد ـ يُثير في نفسها الحقد على أبيها؛ لأنَّه منَعَ عنها مَن ترضاه بسبب شخصيٍّ، وهو كراهيته لأمّها وأقاربها، ومصائر الشباب الأولاد لا يُبَتُّ فيها بالعاطفة وحدها، كما يُجسِّم هذا الحقد عندها أنَّها لا تَرى منه طول حياتها ما يدُلُّ على عاطفة الأُبوّة نحوها.
فهي لا تذكُر له مرة واحدة أن سأل عنها أو جامَلها بزيارة أو هدية أو عُنِيَ بشأن مِن شُئونها وهي تلميذة أو طالبة، وتذكر بالخير لوالدتها اهتمامَها بها وأنَّها كرَّست حياتها ووَقْفتها على تربيتها وحرَمت نفسَها من حياة زوجية أخرى تتطلّع إليها عادةً من هي في سِنِّها بعد الطلاق.
أليس الأولَى للوالد الآن أن يكسب ابنته بعد أن لم تَرَ منه في الماضي الطويل صورة من صور العاطفة الأبوية، وبذلك يُقنِعها بأنها لم تزل في رعايته؟ وسهل عليه أن يفعل ذلك إنْ هو تناول موضوع مُستقبلها مع خطيبها المهندس بصورة جِدِّيّة مجرّدة عن إحساس الكراهية لأمِّها.
إنَّ الآباء يجب أن يكونوا كبارًا في المعاملة لأبنائهم وفي النظرة إلى شئونهم .. يجب أن يبتَعدوا عن ضيق الأفق والحساسية التي تسبِّب لهم ضيق الصدر.
أمّا الحُكم الشرعي الذي تطلبه السائلة منّا هنا: وهو جواز عقد قِرانِها متجاوزة برأي والدها في خطيبها هنا وبدُون اعتماد على ولايته، فرأي أبي حنيفة أنّه لا يُشترط الولي مُطلقًا في عقد النكاح ومعنى ذلك أنها ليست في حاجة إلى مُوافقة والدها ولا إلى ولايته في العقد بل لها أن تُوكِّل غيرَه فيه، ولها كذلك أن تزوِّج نفسها لحديث:"الثَّيِّب أحَقُّ بنفسها" ..
وتُقاسُ البِكْر على الثَّيِّب في الحكم هنا ويؤوِّل الحنفية من أجل ذلك الحديث الوارد عن
عائشة ـ رضي الله عنها ـ فيما ترويه عن الرسول ـ عليه السلام ـ في قوله: لا نِكاح إلا بولِيٍّ".. بمعنى لا نِكاح كاملاً إلا بولِيٍّ.(209/2)
والفقهاء الذين يشترطون "الوليّ" في عقد الزواج وَكيلاً عن الزوجة يقصدون التأكُّد في صِحّة اختيار الزوج فربّما رغبة المرأة المُلحّة في الزواج تدفَعُها إلى سوء الاختيار، وتُضارّ به بعد ذلك، والولي في الزواج هو الأب وإن علا، والابن وإن نزل إلى آخر عَصبة الميراث.
وهكذا لا تحتاج السائلة الآن ـ بناء على رأي الحنفيّة ـ في إتمام عقد قرانها على مَن ترضاه إلى الوالد سواء في إبداء رأيه أو في الولاية عنها.
ولكن علاج الأمور الأُسرِيّة ـ ومنها الزواج ـ يجب أن يستهدف دائمًا ترابُط أفراد الأسرة، وإبقاء المودّة والمحبّة بينهم فقد يكون رأي الفقه ـ كما هنا ـ علاجًا للشرعية والإباحة ومع ذلك هل لو عقَدت السائلة الآن قرانها وتركَت الأب في موقفه وفي نظرتِه إلى خطيبها، تكون قد حافظَتْ على ترابُط الأسرة والمَحبّة بين أفرادها؟ إن الجواب بالقَطْع لا.
ولذا يجب السَّعْيُ من جانب السائلة لإقناع والدها بخَطيبها كما يجب من جانب الوالد أن يتفهّم وضْع ابنته بعد أن انتهتْ من الدراسة وتعيش الآن مع أمِّها يجب أن يفهم أنّها تريد الآن أن تعيش مع رجل في الحلال كما يُقال.
فإذا سعَت السائلة وسعى أبوها إلى ما يجب على كلٍّ منهما يُضيف كل واحد منهما عندئذٍ إلى الشرعية في فقه الفقهاء ما يقوِّي العَلاقة بينهما، وبالتالي ما يقوِّي روابط الأسرة والمحبة بينهما وبين أبيها، وكذلك مستقبلاً بينهما وبين خطيبها وربّما مع أهلها كذلك.(209/3)
حُكم الفقه الإسلاميّ في بعض الهدايا التي تُقدِّمها هي لأختِها أو لأولادها مِن مال الزَّوج بدون إذْنه، نظيرَ بعض الهدايا التي تقدِّمها الأخت لها ولأولادها؟
والجواب على ذلك:
أنه لا يجوز للزوجة أن تأخذ مِن مال زوجها بغير علْمه إلاّ ما يخصُّ نفَقتها أو نفقة أولادها. إذا كان الزوج بخيلاً لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ "هندًا قالت: يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل شَحيح، وليس يُعطيني ما يَكفيني وولدي إلاّ ما أخذتُ منه وهو لا يعلم. فقال: خُذي ما يَكفيكِ ووَلدَكِ بالمَعروف".
ما حُكم الزوجة التي قد تبيع بدون علْم زوجها بعض الأقوات لدَيها لتشتري لأولادها أشياء هم في حاجة إليها لا يُلبِّيها الوالد؟
والزوجة التي تَبيع بعض الأشياء مِن القُوت في بيتها من غير علم زوجها؛ لتشتري بثمن ما تَبيعه بعض الأشياء الأخرى للأولاد، لم يَعْتَدِ الأبُ على شرائها لهم ـ فهذا أمر يعود إلى "تدبير" المنزل. وليس إثْمًا ومَعصية، أو مَكروها ومُبغَضًا عند الله والأم أدرى بحاجة أولادها ورغباتهم، أكثر مِن الأب، فهي مُلازمة لهم، والأولاد يُطلعونها على أسرارهم أكثر مِن إطْلاعهم الوالد عليها.
وتلبية بعض رغبات الأولاد قد تكون سبيلاً إيجابيًّا إلى رِيادتهم نحو الصالح لهم، داخل الأسرة وخارجها.
32ـ علْم الزوج بما تمَّ ضروريٌّ(210/1)
سيدة من إحدى المحافظات، تقول: إنها واحدة من أربع بنات شقيقات، ولهنَّ أخٌ واحد تُوُفِّي، وقد تكلفت أصغرهنَّ ـ وهي عاملة ولم تتزوج بعدُ ـ بنفقة الجنازة والدفن. ثم ساهمتْ الأخوات الثلاث، وهنَّ مُتزوِّجات، كل منهنَّ بما تستطيع، فيما أُنفق بمناسبة موت شقيقهنَّ. وصاحبة الرسالة وهي ـ الأخت الثالثة ـ تقول: إنها ساهمت بمبلغ بسيط مِن غير علْم زوجها. ثم سألت زوجها بعد ذلك: هل يَسمح لها أن تتصدق على أَخيها؟ أيْ بأن تُسهم بشيء في نَفقة جنازته ودفنه. فكان جوابه: "أنا أُسامح في كل شيء صدقةً عليه ولو بِعْتِ ملابسي وتصدَّقتِ بثمنها". وهي تسأل الآن: هل تُخبره بالمبلغ الذي تصدَّقت به بالفعل قبل أن تَسأله؟ ولكن تخشى: أنها لو أبلغته ستُخرب بيْتها بيدها! كما تقول؟ وهل يجوز ما تصدَّقت به على أخيها بالفعل؟ أم هو حرام؟(210/2)
السيدة السائلة أخرجت من مال زوجها قبل إذْنه: ما شاركت به أخواتها في تكلفة الجنازة لشقيقهن، وهذه التكلفة قامت بها: صُغرى الأخوات بينهن. وهي عاملة بسيطة. ثم سألت زوجها عن استعداده للتبرُّع من ماله إسهامًا منه في النفقة، ووجدت عنده الرغبة مُتوفرة وفي أسلوب مُهذَّب: جال في نفسها الآن: أن تُخبره بما ساهمت به فعلاً من قبل. ولكنها تخشَى غضبه؛ لأنها تصرَّفت قبل أن يأذن لها. ثم في الوقت نفسه تخشى أن لا يحوز ما أنفقته: رضاءَ الله؛ لأنه كذلك من مال الزوج قبل إذنه. أن السائلة عندما أقدمت على أخْذ جزء من مال زوجها من غير إذْنه. أن كانت مُحرجة وكانت مدفوعة بعامل الرغبة في تحمُّل نصيب من نفقة الوفاة التي تحملتها وحدها في أول الأمر: الشقيقة الصغرى مع ضعف مَوردها المالي. إذ هي عاملة. إنها كانت حائرة بين أمرين: أنها لا تملك مالاً خاصًّا حتى تستطيع أن تُساهم بشيء منه، وأنه يجب عليها أن تحمل جزءًا ولو يَسيرًا ممَّا تحمَّلته وحدها شقيقتها العاملة فأقدمت على ما أقدمت عليه. وربما تَعتقد أن ما أقدمت عليه هو شِبه سرقة، إن لم يكن هو سرقة، رغم أنها زوجة.. وأن المال ـ مال زوجها ـ تحت يدها.
ولو كانت مُتأكدة: أن زوجها على النحو الذي ظهر عليه من سَعة الصدر، وكرم اليد، وحُسْن التقدير لزوجته والرغبة في مُجاملتها، بعد أن سألته التبرُّع، لمَا أخذت ما أخذتْه مِن ماله خُفْيَةً وبدون علمه.
إن للزوجة أن تأخذ بالمَعْروفِ من مال زوجها لنَفقَتِها ونَفَقَةِ أولادها ما يكْفيها ويكْفي الأولاد، إذا كان شحيحًا، فقد ورَد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: ردًّا على سؤالٍ قِيل فيه: "يا رسول الله: إن أبا سفيان رجلٌ شَحِيح وليس يُعطيني ما يَكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم، فقال: خُذِي ما يكفيك وولدَكِ بالمعروف، والأَخْذُ من مال الزوج عنْدَئِذٍ مِن غير علْمه جائزٌ؛ لأنَّ نفَقة الزوجة والأولاد واجبةٌ عليه.(210/3)
ولكن أَخْذَ السائلة هنا من مال زوجها بغير إذْنِه وإنْ كان لا ينْبَغي لمَا ورَد عن الرسول ـ عليه السلام ـ من قوله: "لا تُنْفِقُ المرأةُ من بيتِ زوجها إلا بإذْنه".. إلا أنه لا يُعَتَبَر سرَقةً؛ لأن شرط السرقة أن يكون المال المسروق في حِرْزٍ.. أيْ في مأمنٍ وفي بُعْدٍ عن أن تناله يدُ السارق. ومال الزوج هنا تحت يدِ الزوجة من السهل أن تأخذ منه.
والسائلة إذْ تَتَرَدَّدُ في إخْبِار زوْجها بما أخذتْه من مالٍ بغير علْمه، خَشْيَةَ أن يغضب: فالرأْي أن تقطع هذا التردُّد، وتُخبره بما تَمَّ.. وأنها كانت في حالة أوجبتْ عليها أن تدفع لشقيقتها جُزءًا ممَّا أَنْفَقتْهُ، قبل أن تَسْتَأذِنَ. ثُمَّ تَتأسَّفُ على عدم استطاعتها أن تأخذ الإذْن مُسبَّقًا. ثِقةً منها بِإِرَادَتِه الخيِّرة.. ورُوحه الطيِّبة في وُقوفه بجانبها. وقد ظَهَرَتْ هذه الروح منه عندما قال لها:" أنا أُسامح في كل شيء صدقةً عليه، ولو بِعْتِ ملابسي وتَصَدَّقْت بثمنها".. إنَّ هذا التعبير يَنُمُّ عن المستوى الفاضل للإنسانية الذي يَأْخُذُ الزوج به نفسه.وإذا كانت المَآسِي لها وجْهُهَا الكئِيب فقد تُخْفي تحت كآبتها: نُورًا من رحمة الله، فالسائلة قد حَزِنَتْ على وفاة شقيقها وَزَادت همومًا بتصرُّفها في مال زوجها، على نحو ما تصرَّفت، ولكن كان وَرَاء ذلك، تلك النفسية الكريمة.. وتلك الشجاعة القليلة بين الرجال.. وتلك المُروءة التي تجلَّت في موقف الزوج منها، عندما سألتْه المُساعدة في نَفَقة الوفاة لشقيقها. ...
إن هذا الموقف للزوج من السائلة يُوجب عليها أن تظلَّ أمينةً وفيَّةً له.. وأن تبذل كل جهدها في تَعْبيد الطريق له في الحياة.. أن تجعل منه أَخًا، وأبًا، بجانب أنه زوج لها، فهو قليل بين الرجال والأزواج في وقْتنا الحاضر. إن هذا الموقف كشف عن مَعدن الزوج، وهو معْدن ثمين بالنسبة للزوجة، فيه البديل عن الأم والأب، والأخ الشقيق لها. وما تسأل عنه(210/4)
أخيرًا من قَبول الله لتبرُّعها من مال الزوج قبل علْمه: فإن الله يَقبله ويَجزي عليه الزوجَ والزوجة معًا. فقد ورَد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: "إذا أَنفقتِ المرأة من كسْب زوجها من غير أمره فلهُ نصفُ أجْره".. والذين يقولون بهذا الرأْي يَحملونه على: أن ما تبرَّعت به الزوجة من غير علْم زوجها، تبرَّعت ممَّا يَخصُّها هي، وممَّا هو مِن نَصيبها من كسْب الزوج، على معنى أن الزوجة كان لها ـ مثلاً ـ نصيبٌ معيَّنٌ من طعام فتبرَّعت بجزء منه لصاحبِ حاجة، ولم تَستأذن زوجها فيما تبرَّعت به. فالتبرُّع مَقبول عند الله والزوج له نصف الثواب؛ لأن المال أصلاً مِن كسْبه ومِن ماله.
والخلاصة: أن السائلة يجب أن تتشجع وتُبلغ زوجها بما تَمَّ. وفي الوقت نفسه تتأسف له: أنها لم تستأذنه قبل أخْذها ما أخذت من مالٍ ساهمت به في نفَقة الجنازة وثواب التبرُّع لها ولزوجها.(210/5)
122 ـ أنا طالبة بالطِّبِّ ولى زميل متديِّن، وأسرته متديِّنة.. تحاببَنْا، ثم خطبني، ووافَق أهلي على الخطبة.. واشترطت أسرته أن لا أُتمِمَ تعليمي، وأن أبقى في المنزل. ولكن أبي رفض هذا الطلب؛ لأن التعليم سلاح وحصن لي. وأنا حائرة، فما الحكم؟!
الجواب:
إن مضمون "البقاء" في المنزل للمرأة ـ حسب العادات المألوفة ـ هو المحافظة عليها وصَوْنُها من الوقوع في أخطاء تَحُول بينها وبين أن تكون أمًّا أو زوجة صالحة.
وإن مفهوم "التعليم" ـ حسب العادات أيضًا ـ هو الخروج والتردُّد على الحياة العامة التي تُعَرِّض الفتاة أو المرأة بالاحتكاك فيها للزَّلَل، وربَّما لعدم الصلاحية مستقبلاً للأمومة والزوجية المستقيمة. ومن هنا ينشأ الخلاف حول البقاء في المنزل، أو الخروج منه.
ولكن ليس البقاء في المنزل بعاصم من الخطأ، ولا الخروج منه للتعليم بداعٍ للزلل. بل العبرة بالتربية وبالتكوين في حياة الطفولة ثم في وقت المُراهقَة؛ لأن المرأة المسلمة إن نُصحت بعدم التبرُّج: (ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليّةِ الأُولَى) (الأحزاب: 33).. فليس التبرُّج هو عدم الخروج من المنزل. وإنّما هو للكشف عن بدَنِها للإثارة الجنسية، أو بإتيان حركات تدفع إليها الرجل الغريب عنها، تحت تأثير إغراء هذه الحركات وحُرمة "التبرُّج" إذن شُرِعَتْ منعًا لاعتداء الرجل على المرأة من جانب، وللحيلولة دون ابتذال المرأة من جانب آخر.
ولكن خروج المرأة من المنزل لعمل جِدِّيٍّ ـ كالتعليم ـ لا يمنعه الإسلام، إلا إذا كان حدُّ الاختلاط من شأنِه أن يؤثِّر على عواطف المرأة ويدفع بها إلى مباشرة ما يسيء إليها مستقبلاً في علاقة أسريّة جديدة لها.(211/1)
والسائلة هنا في مرحلة تعليمها العالي في الطِّبِّ وقد خُطِبت لمَن تُحِبُّه وهو متديِّن ورَضِيَت بتديُّنه.. فإن ذلك عامل قويٌّ يدفعها دائمًا إلى أن تفكِّر في مستقبل أسرتها الجديدة التي ستتكون منها ومن خطيبها كما يرجو هذا الخطيب، وليس في البحث عن زوج آخر.
إذ الأمر الذي تحرِص عليه الفتاة وهي في سِنِّ الزواج ـ أينما تكون ـ هو رجلها المقبل. وقد تزِلُّ قدماها وهى في طريقها إلى هذا الرجل المقبل. ولكنَّها لا تقصد إلى الزَّلل بحال، كما لو تيَّقنت أن الرجل الذي بقُربها لا يكون زوجًا لها في المستقبل، لا تزِلُّ معه إطلاقًا في علاقة ما.
إن الحياة بطبيعتها لا تَستَهْدِف الحياة الجنسية في غير علاقة مشروعة. إلا إذا أُرغمت بسبب ما ـ كالإغراء أو الإكراه ـ على الخروج على هذا المبدأ. وأهم عامل في الإغراء هو الوعد بالزواج، ومِن ثَمَّ ليست للسائلة حاجة للوقاية من الإغراء. إذ الوقاية متوفِّرة لها آنئذٍ.
أمّا التعليم وكونه سلاحًا أو حصنًا فإن أمره يتجلَّى في العالَم المادِّي والعلاقة المادِّيّة القائمة بين الطرَفين، كلاهما ينشُد المُبادَلة المادِّيّة. ولكنِّي أميل إلى أن الزوج المتديِّن ـ كما هو الوضع في سؤال الطالبة ـ يهتمُّ بالتعليم لذاته ولغايته الإنسانية.
وهذا جانب يحرص عليه الإسلام قبل أن يحرص على قيمته المبادلة المادِّيّة.
وتخلص الإجابة إلى:
أن الطرف المُصِرَّ على استمرار التعليم، والطرف الآخر الرافض لهذا الاستمرار، كلاهما في تشدُّدهما في الوقف يفضِّل:
أولاً: أنَّ هناك الآن شبهَ أمان في خروج الفتاة لاستكمال التعليم بسبب العلاقة القائمة بينها وبين رجلها في المستقبل القريب.
ثانيًا: أن التعليم لغاية إنسانية، ولهدف كسْب الرزق في الحياة يُقِرُّه الإسلام ويؤكِّده.(211/2)
وإذن لا تعارُض هنا ـ من وجهة النظر الإسلامية ـ بين ما يطلبه الإسلام من صَون المرأة عن الزَّلل والابتذال، وما يطلبه كذلك من السعي لبلوغ مستوى إنساني كريم عن طريق التعليم.(211/3)
51ـ هل يُؤْثِر الزوج عدم الزواج بثانيةٍ بعد وفاة الأولى
مَواطن مِن إحدى المحافظات يقول إنه فتح عينيه على الدنيا ووجد أبويه كلٌّ منهما انفصل عن الآخر، وتزوجت الأم بغير أبيه، وتزوج الأب بغير أمه، وأثَّر هذا الوضع على مستقبله في التعليم وفي الوظائف العامة، ولكنها استطاع بإيمانه القوي بالله وبالحياة أن يتخطَّى الصعوبات ويُكمل مراحل التعليم ويحصل الآن على وظيفةٍ عامة رئيسية في إدارة التعليم بالمحافظة.
وأن الله ـ بالإضافة إلى زوال الصعوبات في طريقه ـ قد أنعم عليه بزوجة صالحة وفيَّة عاونتْه كثيرًا، وأسعدته بمَنظرها، وبسلوكها ، وبحسن عِشْرتها، وبإخلاصها في رعايته ورعاية أولاده منها.. وأنجب منها ثلاثة أولاد: الولد الأول في الصف الثالث الإعدادي الآن.. والمولودة الثانية في الصف السادس الابتدائي الأزهري.. والمولود الأخير في حضانة عمَّته على نفَقة والده، وقد تُوفِّيتْ والدته عند وضْعها إيَّاه، وتركت للأسرة هذه المشكلة التي يُريد السائل أن يُشركنا معه في حَلِّها. ...
... يذكر أنه يبلغ من العمر الثالثة والخمسين.. وأنه بالإضافة إلى قيامه بأعباء وظيفته العامة على خير وجهٍ يقوم هو شخصيًا في المنزل بالخدمات التي تقدم لأولاده.. ويَحرص تمام الحرص على أن تُقدَّم بالصورة التي كانت زوجته تقدمها بها، بحيث لا يشعر الأولاد بفارق بين الآن وبين ما كان الأمر على عهد والدتهم. ...(212/1)
... ولكنه على أية حال إنسان يُصيبه الكدُّ والتعبُ البدنيُّ والنفسيُّ ويخشى أنه لا يستطيع الاستمرار في الجمع بين الوظيفتينِ: وظيفة المكتب والإدارة.. ووظيفة المنزل في رعاية الأولاد، ولذا اقترح على نفسه أن يَبحث عن زوجة لعلَّ الله يوفقه في اختيار زوجة له وأم لأولاده. ولكن يُراوده الخوف على مستقبل الأولاد فيَحدث لهم في حياتهم ما حدَثَ له شخصيًّا يوم أحسَّ بسوء الوضْع الذي كان فيه، بسبب سوء العلاقة بين والديه، ثم يقول: "وربما تكون حالتي حاليًا رغم ما فيها من إرهاق أحسن مِن حياتي المُقبلة ولا يعلم الغيبَ إلا اللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ حيث لم أجد أمامي حالةً واحدة تُرضي الله في معاملة أولاد الزوج".. ومن أجل ذلك يطلب الاستنارة بالرأي.(212/2)
الرجل في سن السيد المُستوضِح، وفي وضْعه إذا أقدم على الزواج لا يُركز على مُتعة البدن، وإنما بالأحْرَى يسعى للحصول على متعة النفس ومتعة النفس له الآن: في أن يرى ازدهار أولاده في رعايتهم، وفي تعليمهم، وفي تهذيبهم، وسلوكهم، بينما المرأة التي تُقبل على الزواج بمَن هو في سِنِّ الثالثة والخمسين تنشد التعويض عمَّا فاتها في علاقة الرجل بالمرأة ، إنْ كانت لم تزل عانسةً.. أو تَنْشُدُ الخروج من العُزلة والوحدة التي أحسَّت بها وعاشت فيها فترةً من الزمن، إنْ كانت مُطلقة أو متوفى عنها زوجها، فتدخل الحياة الزوجية وهي حريصة على أن تَستأثر بالزوج، كي تتمكَّن مِن تعويض ما فاتها، أو كي تتمكن مِن خلْق جوِّ الحياة الزوجية الذي افْتقدتْهُ يومًا ما. ...
... واستئثار الزوجة بزوجها معناه: طرْد كل إنسان آخر ـ ولو كان ولَدًا له ـ من حياتها كزوجة تحرص على الاستمتاع بزوجها. ...
... ومِن التناقض إذَن أن يطلب الزوج أو أن يَنتظر مِن زوجته، أن ترعى له أولاده على نحو ما يَبغيه في رعايتهم؛ إذْ قلَّما توجد امرأة، ولو عاشت في الديْر سنواتٍ، أن تدخل على زوج له أولاد إلا وتُخطِّط بحُكم أنانيتها على الاستئثار به، ومُطاردة الأولاد مِن حياتهما معًا، والزوج عندئذ إمَّا أن يخضع ويستسلم، وإما أن يُقاوم ويُخاصم زوجته، وفي كلتا الحالتين هو قلِق في حياته.
إننا نعيش الآن في مُجتمعاتنا الإسلامية في عصر ماديٍّ، ننظر إلى المادة على أنها كل شيء في الحياة: نطلب المُتَع المادية والرفاهية المادية.. ونطلب المزيد عمَّا لدَينا منها.. ولذا نظرتنا إلى القيم الرفيعة كحُسن الرعاية.. والإخلاص.. والوفاء.. والمَحبة.. والإنسانية بوجهٍ عام نظرةٌ متخلفة وراء المنفعة المادية، ومَطالب الوجودية الشائعة في السلوك والمُعاملة. ...(212/3)
وحرَص الإسلام على أن يكون من صفات المرآة كزوجة، ومن صفات الرجل كزوج: التديُّن والخشية من الله في الفعل والتصرف.. وفي التفكير والوجدان: حتى لا يكون هناك طغيانُ للمادية في نظْرة المرأة أو في نظرة الرجل إلى الحياة.. وبالتالي حتى تكون هناك إنسانية في مُعاملة أحدهما للآخر.
وحَيْرة السيد السائل وتَردُّده بين أن يُقدِّم رِجْلاً ويُؤخر أخرى في زواجه بامرأة أخرى، بعد زوجته المتوفاة: أمر واضح ومفهوم، فالأولاد مشكلة كبيرة بينه وبين الزوجة المُرتقبة، ونَظرتهما إليهم يختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا، ومِن ثَم: الوِفاق بينهما بعيد، إنْ تَمَّ الزواج. والأولَى للظروف الاجتماعية القائمة، أن يستمر السائل على وضْعه الحالي في قيامه بالوظيفتينِ معًا: الداخلية والخارجية، إذِ التعبُ البدنيُّ يُمكن التغلُّب عليه ثم بعد فترة من الوقت يُصبح عادةً للإنسان.. وأداء ما يُصبح عادةً للإنسان ليس فيه مشقة كبيرة. وفي مُقابل هذا التعب البدني الذي يُمكن أن تحمله ستتوفر له راحةٌ نفسية ليس في قيامه بخدمة الأولاد فقط وعلى أتمِّ وجهٍ.. وإنما قبل ذلك بنُموِّ الأولاد في جميع مجالات حياتهم: النفسية .. والبدنية.. والاجتماعية.. والتعليمية. ...(212/4)
وسوف لا تمرُّ فترة قصيرة على القيام بوظيفة المنزل، بجانب وظيفة المكتب، حتى يرى مُشاركة الأولاد له ـ في مَسَرَّةٍ ـ في أعمال البيت، وهنا يكسب مستقبل الأولاد، ويُوفر لهم عطف الأبوة والأمومة معًا، ولعلَّ الله يُسعده بزوجة صالحةٍ لولده الأكبر تكون سيدةَ البيت في المستقبل. ...
ويُمكن للسائل أن يَستعين الآن بالأجهزة الكهربائية في الخدمات المنزلية، فقد كاد أن ينتهي عهد "الشغَّالة" في أعمال المنزل مِن : تنظيف.. وترتيب.. وطبْخ وغسْل وكيٍّ.. واقترب أن ينتهي كذلك عهد الزوجة المُقيمة في المنزل.. وإذا وُجدت الآن.. فالزوج شريكٌ معها في أعمال الحياة اليومية. ...
ومعنى هذا أن السائل : كان سيُكلَّف مِن طبيعة العصر بالمُشاركة في الرعاية المنزلية يومًا ما. فإذا باشَرَ هذه الرعاية مُبكرًا بحُكم ظرْفه الاجتماعيّ ـ وهو مسرور فعلاً بما يُؤديه لأولاده فعِبْءُ هذه الرعاية ليس شاقًّا. ...
وأخيرًا.. فنحن نُحيي في هذا السائل هذه الروح الإنسانية القوية، ونؤكد له أن إخلاصه لله في عمله.. وجِدَّه في الماضي في تخطِّي الصعاب التي واجهتْه في أزماته.. وجزاء الله له بزوجةٍ وفيَّة صالحة في فترة من فترات حياته: كل ذلك له إيجابيته في أداء مهمته الحاضرة الاجتماعية والوظيفية، على وجْهٍ يُرضي الله ـ جل شأنه ـ والدعاء لله في أن يُوفقه ويُسعده بأولاده، ويُسعدهم بأبيهم.(212/5)
128ـ الزوجة وأثاث بيت الزوجية
مواطن من إحدى القرى يذكر أن امرأةً تزوجت وأنجبت أربع بنات وأخًا لهم، وتُوفِّيَ عنهم والدهم، وتحمَّلت والدتُهم الكثير مِن المتاعب في سبيلِ تربيتهم إلى أن أصبحوا جميعًا قادرينَ على الكسْب وفي سِنِّ الزواج، غير أن واحدةً من البنات أُكرِهَت على الزواج مِن ابن خالتها كما أُكْرِهَ هو على الزواج منها دون أن تكون بين الاثنين علاقةُ مَيْلٍ لكل منهما للآخر، وقد أكرَهَهما على الدخول في العلاقة الزوجية أخوالُهما وأمُّ البنت.
وبعد الدخول بشهر واحد عادت البنت إلى بيت أهلها مُصِرَّةً على الطلاق مِن زوجها واتَّضح أن ابن خالتها ـ وزوجها الآن ـ قد رَضَع على شَقيقتها التي تَكبرها، مِن أمها، وحكمت الأسرة بالفصل بين الزوجينِ على أن يَقتسمَا بينهما مُناصفة أثاثَ الزوجيةِ.
والمواطن يسأل:
أولاً: ما حُكم الله في هذه التسوية الخاصة بقِسمة الأثاث مُناصفة بين الزوجينِ؟
ثانيًا: ما حكم الزواج الذي عُقد بين الطرفينِ بعد أن اتَّضح أن زوجها أخٌ لها في الرَّضاع؟
ثالثًا: مَنِ المسئول فيما تَمَّ بعد تحطيم قلْب هذه الفتاة ومُستقبلها؟
كما هو واضح مِن سؤال السائل هنا أن البنت التي أُكرِهَت على الزواج بمَن لا تُحبُّه قد دخل بها زوجها وأنه استمر معها في المُعاشرة لمدةِ شهر، عادت بعده إلى منزل أهلها تطلب الطلاق وطُلِّقتْ بالفعل، فهي زوجة مَدخول بها تستحقُّ المهر كاملاً، وهو ما يتمثَّل في أثاثها، والحُكم إذًا بقِسمة هذا الأثاث مناصفة بينها وبين زوجها الذي هو ابن خالتها حُكم غير مُنصف للزوجة في حقِّها شرْعًا.(213/1)
وحديث الفقهاء عن استحقاق الزوجة لنِصف المهر هو لغير المَدخول بها، لمَا جاء في قول الله تعالى: (وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ) أيْ مِن قبل الدخول بهنَّ (وقدْ فَرَضْتُمْ لهُنَّ فَرِيضَةً) أي حددتم لهنَّ مهرًا (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أن يَعْفُونَ أو يَعْفُوَ الذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) أي إلا أن يتنازل الأزواج عن حقهم في المهر عندئذ وهو النصف، أو يتنازل أولياء الزوجات عن حقهنَّ وهو النصف أيضا، فيصير المهر كله لمن وقع له التنازل (وأنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وتنازل الأزواج عن حقهم في نصف المهر عندئذ لزوجاتهم المُطلقات أولَى بالتقوَى وأقربُ إلى رضاء الله (ولا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) والواجب أن يتذكَّر الأزواج أن الألْيقَ بهم أن يكونوا أصحاب فضْلٍ فيقع منهم التنازل لزوجاتهم السابقات عن نصف المهر (البقرة:237).
والرضاع الذي يَحرم به ما يَحرم مِن النسب في الزواج هو ما كان في الحولينِ؛ أيْ ما كان في السنتينِ الأُولَيَينِ، ولا يقلُّ عن خمس رضعاتٍ معلومات في رأي جمهور الفقهاء، وتُقبَل شهادة المُرْضِعة وحدها، كما يجب العمل بها. ...
فإذا تأكَّد أن الزوج كان قد رَضَع خمس مرات على شقيقة زوجته التي تكبرها فالزواج باطل منذ العلْم بذلك لأحدِ الزوجينِ أو لكلَيْهما، ومَن يعلم منهما واستمر في الزِّيجة فقدْ عصَى الله بمُمارسته المعاشرة مع الآخر في غير علاقة شرعية.(213/2)
والسائل يسأل أخيرًا عمَّن يَحمل المسئولية في هذا الزواج الفاشل وعمَّا جلَبَه من الهُموم النفسية للزوجة المَغلوبة على أمْرها. ... ...
الإسلام ليس هو المسئول عن ذلك؛ لأن الإسلام يَبغض الإكْراه في كل أمر يأتي به الإنسان، ومهما كان وضْعُ ما يأتي به الإنسان مِن القربَى إلى الله وهو على كُرْهٍ منه فإنه لا يَقبَلُ منه جل جلاله. ...
فالإسلام في العلاقة الزوجية يُتيح الفرصة في خِطبة الزوج لزوجته للتعرُّف والحديث بينهما وتكوُّن الإحساس والميْل إلى القبول أو الرفْض، والمرأة عندئذ لها مُطلق الإرادة في التعبير لولِيِّ أمْرها ولأَهلها عمَّا تختاره، ولا يقع العقْد صَحيحًا إلا إذا كانَ طِبْقًا لإرادة الرجل والمرأة معًا. ...
المسئول هنا عن فشَلِ الزواج بين الاثنينِ في سؤال السائل هو الأم وأخوال الزوج والزوجة. والمسئول هو العادة المُسيطرة على توجيه الرغَبات في الأسرة، فإذا كانت هناك علاقةُ قُربَى بين الرجل والمرأة دفعت هذه العلاقة إلى الربط بينهما عن طريق الزواج، وإنْ لم يكن هناك ميلٌ نفسيٌّ بينهما؛ ميْل المَرأة إلى الرجل وميل الرجل إلى المرأة، على أمَلِ أن يُوجد الميل فيما بعد، وقد لا يُوجد إلا ميل الكراهية، وبالأخصِّ كراهية المرأة للرجل، وفي حديث خنْساء بنت خِدام الأنصارية انَّ أباها زوَّجها وهي ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذلك، فأتت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فردَّ نِكاحها. أي فألْغَى عقد زواجها؛ لأنها أُكرِهَت مِن أبيها على قبوله. ولا فرق بين الثيِّب والبِكْر في الإرادة والاختيار كشرْط لصحة عقد الزواج، إلا في التعبير عنه فقط، الثيب يُطلب منها الصراحة في التعبير، والبكْر لحَيائها يُكتفَى منها بالسكوت عندما يُطلب منها الرأي. فيُروَى عن عائشة رضي الله عنها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "البِكْرُ تُستأذَنُ" قُلتُ: إنَّ البِكْرَ تُستأذَنُ وتَسْتَحِي. قالَ: إذْنُهَا صُمَاتُها" أي سكوتها.(213/3)
وربما الرغبة العنيفة في تزويج الأقارب بعضهم لبعض تُنسي الأطراف المَعنيَّة التنبيه إلى الأسباب الشرعيَّة التي تَحُول دون إتمام عقد الزواج كالرضاعة هنا، أو تَحْمِلُهم على السكوت عنها. ولو تُرك أمرُ بناء الأسَر عن طريق الزواج إلى الأمَارات والحُدود التي وضَعها الإسلام لاختيار الزوج والزوجة، وللأهلية والصلاحية لكلٍّ مِن الزوجينِ طبْقًا للمَشورة التي يُقدِّمها الحديث الشريف ـ لمَا وجَدنا تعثُّرًا في طريق التفاهُم بين الزوجينِ، ولكانَ هذا التفاهُم يخطو خطواتٍ فسيحةً نحو الانْسجام والتوافق بينهما، ولأصبح الزواج اطمئنانًا وسُكْنَى للنفوس ومودَّةً ورحمة بين الزوجينِ، ولم يكن ضَياعًا وهَمًّا وبالأخصِّ للضعيف منهما.(213/4)
66 ـ لماذا يوجِب الإسلام على المطلَّقة، إذا كانت أمًّا لطفل صغير أن ترضِعه لمدة عامين؟
لبن الأمِّ في خدمة الإنسانية:
يقول الله تعالى: (والْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ).
إن الوالدات هنا اللاتي يكلَّفْنَ بإرضاع أولادهن حولين كاملين هن المطلّقات من أزواجهن. ولكن لمصلحة الأولاد يُلزمهن الإسلام ـ إذا شاء الآباء ـ بإرضاع أولادهنَّ عامين كاملين وحضانتهن لهم في هذين العامين. وعلى الآباء في مقابل هذا التكليف للوالدات: أن يتكفّلوا بالنفقة عليهن حسب سَعَتِهم واستطاعتهم على الإنفاق: (وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْروفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلِدِهَا ولاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) (البقرة: 233).(214/1)
والإسلام ـ إذن ـ يُلزم الأمّهاتِ الوالداتِ والمطلَّقات في الوقت نفسه بإرضاع أولادهن من أزواجهن الذين انتهت علاقتهن الزوجية بهم، لمدة عامين.. وبذلك يُضْعُهُنَّ من جديد في خدمة هؤلاء الأزواج السابقين لمصلحة الأولاد من الجانبين. وإذ يصنع ذلك فإنه يرى لِلَّبنِ الأم فائدة في تربية طفلها الذي وَلَدَتْه على الأخص. وهى ليست فائدة مادِّيّة تعود على نمُوِّ بدنه ووقايته من كثير من الأمراض والتوعُّكات فحسب، بل فائدة نفسية.. فائدة إنسانية بشرية. وهى أن الأمَّ تنقل إلى طفلها ـ أو إلى أي طفل أخر تُرضعه منها ـ مع اللبن كغذاء طبيعي: العواطفَ الإنسانية والمعانيَ البشرية الخاصة، من تبادُل الحَنان.. وتبادُل البَسَمات.. وتبادل القيمة بالكائن الإنساني الجديد. فيشِبُّ هذا المولود الصغير وهو يُحِسُّ بكِيانه في المجتمع على أنه عضو فيه؛ لأنه عضو ملحوظ بالرعاية في الأسرة وفي حضانة الأم له. كما يتجاوز بالحنان والبسمات وبالقيمة الإنسانية المتبادَلة غير أمِّه، ممن يعيشون في مُحيطه من الآخرين صغارًا وكبارًا على السواء. وهو إذن ليس معزولاً، ولا منبوذًا، ولا متشائمًا، ولا مُحِسًّا بنقص في اعتباره البشريِّ.
هو طبيعي في استقباله المجتمع، وفي حياته فيه، وفي نظرته إلى الحياة والإقبال عليها؛ لأنه تعود في فترة السنتين اللتين قضاهما مع أمِّه يتغذَّى بلبنها ويلاحظ عواطفها ويتبادل معها الإحساس بالسرور وبالبِشر، ويُحسُّ بالاعتبار البشريّ الذي تمنحه هي له. وفترة السنتين كَفيلة بأنْ تُصبح هذه العواطف عادات لديه، وبأن تتبلور في سلوك لا شعوري في مواجهة الآخرين معه في الأسرة ثم في المجتمع.(214/2)
ونظرة الحضارة المادِّيّة المعاصرة إلى المولود على أنه مركَّب عضويّ، على حساب أنه مركَّب نفسي كذلك ـ جرَّت إلى النصح بعزل الولد عن والدته في الرَّضاعة، وأوصتْ بتغذيته صناعيًّا. وتركت العناية بالجانب النفسي فيه، مما كوَّن لدى كثير من الأطفال الشعور بالعزلة النفسية، أو الشعور بعدم تقدير الآخرين في المجتمع، أو الإحساس الكئيب بالحياة نتيجة عدم تبادله العواطف الإنسانية والمُشرفة مع أقرب الناس إليه. فوالدته تعمل أو تهتم بشؤون أخرى تُهمُّها هي في الدرجة الأولى، وبذلك تشغل فراغها بعيدًا عنه، فإذا عادت إليه عادت على عجل، ومادام مولودها يصيب وجباته الغذائية الصناعية بانتظام.. فالأمر لا خوف ولا حرج فيه بالنسبة له.
وبهذه النظرة المادِّيّة من جانب الحضارة المعاصرة أصبحت هذه الحضارة مسؤولة اليوم عن تفكُّك الأسرة، وعن اللامبالاة واللامسؤولية في نظرة الشباب اليوم إلى الواجبات، وعن نظرة التشاؤم والهرب من الحياة الجادّة في صور وألوان مختلفة من الهَزْل والمجون والسلوك الحيوانيّ والبَربري.
والإسلام بنظرته إلى قيمة لبن الوالدة بالنسبة لمولودِها من الوجهة الإنسانية – يدفع المجتمع البشري إلى أن يكون مجتمعًا إنسانيًّا، له خصائص الإنسانية. ولذلك هو دين الإنسان في تقدُّم مستواه الرفيع.(214/3)
15ـ توجد في القرية قهوة تبيع عصير قصَب حامض ومسكِر. ويشرب منه الشارب ويخرج لا يعرف زوجتَه من ولده.. أو أخته. فهل يُعتبر هذا الشراب محرَّم شرعًا؟
الخمر كُلُّ ما تُرِكَ فاختمر. والاختمار هو تغيير الرِّيح. ويدخل في ذلك ما جرى به العُرف لدى العرب عند نزول القرآن الكريم وهو تخمير العنب، أو ما حدث ويحدث بعد ذلك في الأجيال والأماكن المختلفة، مما من شأنه أن يتغيَّر لو تُرِكَ، ويخامر العقل ويشوِّشُه عند تناوله، وعصير القصب الآن يستوي مع عصير العنب على عهد القرآن في الحكم شرعًا، إذا اختمر كل منهما، أي صار خمرًا.. أي أصبح يخامر العقل ويشوِّشه عند التناول.
وما ذُكر في السؤال من أن شارب عصير القصَب الحامض ـ المتحدَّث عنه هنا ـ إذا خرج من القهوة بعد شُربه لا يعرف زوجته من ولده.. أو أخته.. دليل على أن تخميره وصل إلى مستوى الإسكار.
وجاء تحريم الخمر ـ وهو كل ما يُسكر إذن ـ في قول الله ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ) (المائدة: 90).. فطلب الآية ـ من بين ما طلبت هنا ـ تجنُّب الخمر. وعلَّلت تجنُّبها بأن تناولها أثر من آثار وحي الشيطان البَغيضة. ثم زاد القرآن توضيحًا للآثار السلبية لتناول الخمر على الإنسان وعلى المجتمع في الآية التالية، بعد الآية السابقة، فقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ ـ أي بوسوسته بتناول الخمر وتحسينه، بمباشرة دروب القِمار المختلفة ـ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوةَ والبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة: 91).. فكشفت الآية عن ظاهرتين اجتماعيتين للخمر والقِمار كمرضين من أمراض المجتمع:(215/1)
1 ـ الظاهرة الأولى: وُقوع العداوة والبغضاء في الأسرة وفي المجتمع، بسبب شيوع الخمر في تناولها.
2ـ والظاهرة الثانية: الاعوجاج في السلوك، والبُعد عن هداية الله في العلاقات بين الناس، وهو الانزلاق، إلى الانحلال، والفساد الخلقي.
كما أنذرت المجتمع الذي يتفشَّى فيه هذان المَرضان، وهدَّدته بعواقب خطيرة، إذا لم يكُفَّ عن تناول الخمر، ولعب القمار فقالت: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟
ومن سوء حظِّ البشرية أن الحضارات المادية للمجتمعات المعاصرة تعمل على إشاعة كل منكَر وكلِّ ما يقوِّض المجتمع في علاقاته، وفى القِيَم التي تدعو إلى الترابط والتماسُك فيه، فتُرَوِّج شرب الخمور، وتيسِّر للقمار سُبُلَه بين الشُّبّان، وتجعل من أمارات الحضارة وجود "بار" في المنزل. وإنذار الله للمجتمعات التي تشيع المنكر فيها هو إنذار بالفناء لها مِمّن يملِك الخلق، والموت والحياة: (وإذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16).(215/2)
91 ـ الإيمان والنصر
يقولون: إن الإيمان بالله إذا توفَّر في صدور المُقاتلين أتَوْا بالمُعجزات، وإنَّ الدنيا إذا تمكَّنت من نفوس أعدائهم كانت الهزائمُ حتمًا مِن نَصيبهم، مهما ظاهَرتْهمُ القوة المادية فما رأي الدين؟
نعم: يدعو القرآن الكريم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذا كل وَالٍ عامٍّ للمسلمين بعده.. إلى يوم البعث ـ أن يُحرِّض المؤمنين على القتال دَفْعًا للعدوان والاعتداء مِن أعدائهم إنْ وقعَا عليهم، ويُعلنه تأكيدًا للنصر عليهم..
إن طاقة المُؤمن القويِّ في القتال بسبب إيمانه تُساوي قوة عشرةٍ مِن أعدائه.
لأن الأعداء للمؤمنين الذين يُباشرون الظلم، والصَّدَّ عن سبيل الله، وهو سبيل الحق، ويأخذون الربا وقد نُهُوا عنه، ويأكلون أموال الناس بالباطل، لا يرون الواقع الإنساني ولا يَفهمون ما ينبغي أن يُخطَّط فيه للمَنفعة المُتبادلة والمصلحة العامة بين الناس جميعًا، بدلاً من السلوك اللاإنساني واللاأخلاقي، فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُنْ مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ). "أي لا يُدركون الطريق الأقْوَمَ للنصر الحقيقيِّ" ... (الأنفال: 65)..
وهذا الذي يُعلنه القرآن عن طاقة المؤمن في القتال: رهْنٌ فقط بقوة إيمانه وصبْره وتَحمُّله على مَشاقِّ القتال أثناء مُقاتلة عدوِّه وإلا: مَن يُخْفِ إيمانه من المؤمنين أنفسهم في مُواجهة العدو، لا تَبلغ طاقته هذا المدى الذي يُحدده القرآن، بل ربما يُؤْثِرُ الفِرار مِن القتال على الثبات فيه.(216/1)
وقد وقع ذلك للمؤمنين فقط على عهد الرسول ـ عليه السلام ـ في يوم من أيام قتالهم مع الأعداء ليكونَ عِبرةً لهم، وسجَّله كتاب الله في قوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ "أي عندما كان إيمانكم قويًّا" وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (التوبة: 25)..
ونعم أيضًا إن الدنيا إذا تمكَّنت مِن نفوس الأعداء كانت الهزائم حقًّا مِن نَصيبهم مهما ظاهَرتْهمُ القوة المادية؛ لأن مثل هؤلاء يَعيشون لأنفسهم ولِذَواتهم فقط لا يَعرفون إلا سلامتها، والبحث عن مُتَعِها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ). (محمد: 12) ..
فهم لا يُعطون مِن أنفسهم لأوطانهم، كما ليست لدَيهم قيمٌ عُلْيَا يُضحُّون في تحقيقها بالنفس والمال، أو على الأقل بمُتعة النفس ورفاهية المال. ومَن لا يكون مُستعدًّا لإعطاء وطنه مِن نفسه يُؤثر الهرب والفِرار عندما يُواجه القتال، ويَسلك طُرق الحِيلة للفَكاك مِن ميدانه.
وهذه الظاهرة تُمثل قانونًا من قوانين الحياة البشرية التي لا تتخلَّف باختلاف العهود والأجيال وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (ولوْ قَاتَلَكُمُ الذينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ "أيْ كان مِن شأنهم الفِرار مِن القتال" ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا ولا نَصِيرًا). (الفتح: 22).
"أي لا يَجدون بعد ما جُبلوا عليه في طبيعتهم من الفرار في القتال: سندًا مِن شيء آخر: مِن تدريب رفيع على القتال.. ومِن وَفْرة المُعدات النافذة في القضاء على الأعداء.. ومن إعلان المساندة من الأقوياء الماديين الآخرين.(216/2)
لأن النصر في القتال لا يرتبط فقط بمُعدات الحرب ووسائله وإنما قبل ذلك بمَن يُحرِّك هذه المُعدات، ويدفع بها إلى مُواجهة عَدوِّه فإذا اختفت إرادة المُقاتلة، وحلَّت مَحلها ضرورة الهَرَب والفِرار، وِقايةً للذات ومُحافظة على سلامتها، كانت الهزيمة حتْمًا".
(سُنَّةَ اللهِ التِي قدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ولنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). (الفتح: 23) "أي ولهذا: ارتباط النصر بقوة الإيمان التي تتمثل في التضحية بالذات وارتباط الهزيمة بحب الذات .. كان قانونًا يَحكم أوضاع البشر، ويُمثل إرادةَ الله في مُواجهة بعضهم بَعضًا".(216/3)
135 ـ تنتشر في البيئات الجاهلة معتَقَدات وخُرافات:
من ذلك ما تعتقده المرأة العاقر التي لا تلد أنَّها إذا ذهبت لزيارة أحد "المشايخ" وكتب لها "ورقة" أو زارت بعض الأمكنة ودارت على بئر مخصوص بأحد الأضرحة، فإنَّها ستحمِل. فما الرأي ؟
الجواب:
كثيرًا ما نرى في الأفلام أن "صدمة" لإنسان ما في حادث من الحوادث أنسته الذاكرة. فلا يعود يتذكَّر ماضيَه حتى أقرب الناس إليه، وهم زوجته وأولاده. وأن "صدمة" أخرى بعدها بسبب ما تعيد إليه الذاكرة، يرجع بعضها إلى الماضي القريب والبعيد على السواء.
و"الاعتقاد" في أمر ما عند مباشرته قد يُحدث في "النفس" ما يؤثِّر على غُدد الجسم، مما يُشبه "الصدمة" التي كانت في بادئ أمرها متَّجِهة للبدن ثم تجاوزت إلى "النفس". فالصلة بين البدن والنفس ليست صلة من جانب واحد، وإنّما هي صلة متبادلة؛ فمرض البدن يؤثِّر على أحوال النفس في تفاؤلها وتشاؤمها في نظرتها إلى الحياة. ومرض النفس يؤثِّر على البدن في قلة الشَّهِيّة نحو الأكل والشرب، وفي ضعفه أو هُزاله، وبالأخص في المعدة وقُرحتها.
والنفس القويّة بإرادتها وإيمانها تؤثِّر على شفاء البدن والتعجيل بنقاهته. والنفس الضعيفة في جبنها وهلَعها تؤثِّر على البدن المريض في زيادة المرض وتأخير الشفاء أو النَّقاهة. وكذلك البدن القوِيّ يتحمَّل هِزّات النفس، بينما الضعيف لا يقوَى على احتمالها.
فالعاقر التي تحمِل بعد دوَرَانها حول بئر مهجور، أو بعد حملها ورقة كتبها لها مَن تعتقد فيه من المشايخ، ليس من البعيد أن يكون اعتقادها في ذلك ـ وهو اعتقاد نفسي ـ قد يؤثِّر على بعض الغُدَد الداخلية عندها، ويُحدث تغييرًا في إفرازها أو في نَبَضات القلب المُفاجئة، وربما بذلك يزول ما كان يمنع من الحمل.(217/1)
وعندئذٍ ليست البئر المهجورة، أو ورقة الشيخ هي صاحبة التأثير، وإنما هو اعتقاد المرأة العاقر فيما اعتقدت فيه. والبئر المهجورة وورقة الشيخ كلتاهما لا تضُرُّ ولا تنفع في واقع أمرهما.
ويلتبس عند كثيرات من المتردِّدات ـ أو كثير من المتردِّدين ـ أنه عندما وقع الحمل صدفة، أنَّ البئر أو الورقة هي ذات النفع والأثر. ولذا يتَقرَّبْنَ إلى البئر أو إلى الشيخ بقرابين، كما كان يُتَقَدَّم في الماضي قبل الإسلام بقرابين إلى أصنام لا تضر ولا تنفع، لأمر يقع صدفة، ومِن ثَمَّ تُعبَد، ويصبح الأمر شركًا بالله، سبحانه وتعالى:
ولهذا ينصح الإسلام بعدم التصديق في مثل هذه الأمور، ويُعدُّ التصديق به شركًا لا يغفره أمره. فالله وحده هو صاحب التأثير في الكون كله، وهو صاحب الفعل والخلق: (للهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإِنَاثًا ويَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى: 49ـ50).
إنَّ الإسلام لا يريد لحياة الإنسان أن تَسِير على "الصدفة" ولا يريد للإنسان أن يربط نفسه "بصدفة" يتفاءَل أو يتشاءَم بها. إن إرادة الله تُصَوِّر ما يكون للحياة وللمجتمعات من قوانين: (إنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ولكنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمونَ) (يونس: 44). فعمل الإنسان إذا كان مستقيمًا استتبع نتيجة سارَّة، وإذا كان سيئًا كانت نتيجته هَمًّا وأسًى.
وللعاقر ـ في هذا السؤال ـ أن تتَّجه إلى الطبيب المختَصّ، أولى من أن تتَّجه إلى الشيخ كاتب الورقة أو إلى البئر المهجورة، فخِبْرَةُ الطَّبيب جُزء مِن إرادة الله.(217/2)
126ـ بعض الناس إذا أصابَهم السوء يَدَّعُون أنَّه من الحسَد ولهذا يحملون الأحِجبة والتعاويذ. فما رأي الدين في هذا؟
الحسد حقيقة موجودة. يقول الله تعالى: (قُلْ أَعوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. ومِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ومِنْ شَرِّ النَّفّاثَاتِ فِي العُقَدِ ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (سورة الفلق).
... ولكن كيف تتحقَّق آثاره في الإنسان؟ أو كيف يصل من الحاسد إلى المحسود؟ هذا أمر تفسيره لا يخلو من الهَنات؛ لأن سِرَّ الأرواح والنفوس، وكيف يتصل بعضها ببعض، وكيف يؤثِّر بعضها في بعض؟ لا يعلم به إلا الله وحده عالَم الجهر وما يخفَى.
... وبما أن الحسد شَرٌّ من شرور النفس البشرية فاتِّقاؤه لا يكون بحمل الأحِجبة والتعاويذ. وإنَّما يكون بالاستعانة بالله، ككلِّ أمر يستعين فيه الإنسان بالله على تجنُّبه أو على قضائه.
والاستعانة بالله ليست التعبير عن طلب العَوْن منه. وإنما قبل ذلك أن يكون المستعين مخلصًا لله في دينه وملتزمًا واجباتِه فهو في حقيقة أمره إذ يستعيذ بالله من الحسد متوكِّل عليه في الوقاية منه. والتوكُّل على الله هو قبل كل شيء استنفاذ لطاقة الإنسان في سلوك الطريق المؤدِّي إلى النجاح. ولكي يتِمَّ هذا الطريق إلى نهايته يعتمد على الله ويتوكِّل عليه.
... والأحِجبة والتعاويذ اتَّخذها المسلمون يوم أن ضعُفوا وابتعدوا عن القرآن وعن اعتبار أنه مصدر هداية. واكتَفَوْا بالانتساب إلى الإسلام وبحمل بعض آيات أو صُورٍ قصيرة منه.(218/1)
... إنَّ الحاسد صاحب نفس مظلِمة، وفي الوقت نفسه قصُرت طاقاتُه عن أن يحصل في الحياة من مالها وجاهِها ومُتَعها مثل ما لزملائه وأقرانه. فهو ينفُث السموم حقدًا عليهم ومتمنِّيًا زوالَ ما هم فيه من نِعَم، ومن هنا كانت الاستعانة بالله ينطِق بها المسلم أصابه الحسد أم لم يُصِبْه، لكنَّه يرجو الوِقاية من شرور النفس البشرية في وقت لا تُضمِر العداءَ لإنسان ما ولا زوال النعمة من مال أو جاهٍ لأحد.
150ـ عندما تدخل الهواجس حياة المرأة:
تقول سيدة من إحدى المحافظات:
أولاً: إنها في الرابعة والعشرين من العمر، وأُصيبت منذ سنتينِ بحالة نفسية لم تجد لها علاجًا عند بعض أطباء الأمراض النفسية، وتحسنَّت حالتها بعد أن وجدت بعض المُشتِغلات بالتنجيم والسِّحْر، لبِضعة أشهر، ثم عادت إليها الحالة نفسها بعد أن أغفلت وصيةَ الساحرة بأن تُكرِّر الزيارة لها كل شهر، وتسأل: مات الذي يُشير به الإسلام حتى تتجنَّب طريق السحرة، والوقوع تحت رحْمتهم؟
ثانيًا: هذا أمر، وهناك أمرٌ ثانٍ تَستفسر عنه أيضًا: وهو: هل للشيطان أو الجان سيطرة على الإنسان؟؛ لأنها عندما تستعد لصلاة العصر، والمغرب، والعشاء بعده لا تستطيع الحركة، رغم أنها تحسُّ بالتقصير في حق المولَى ـ سبحانه ـ كما تحسُّ بأن أحدًا ما يُحاول أن يُبعدها عن طريق الله، ويمنع لسانَها مِن ذكْر اسمه ـ جل جلاله.
ثالثًا: وأمر ثالث تريد الرأي فيه، وهو أن شابًّا تقدم لخِطبتها ولا يَعرف عن حالتها النفسية شيئًا فهل ترفُض الزواج منه رغم مُوافقة والدَيها عليه؟ أم ترضَى به استسلامًا للأمر الواقع؟
رابعًا: وأخيرًا تسأل: هل الشرع يحلُّ عدم ردِّ الشبْكة لمَن تقدم بها إليها، إثْر خلاف نشأ بين والدها وخطيبها على امتلاك قِطعة أرض مُعيَّنة؟ علْمًا بأن صاحب الشبكة يُروِّج عنها إشاعات تُبعد كلَّ مَن يتقدَّم إليها لزواجها.(218/2)
السائلة هنا تسأل أربعة أسئلة: تسأل عن تأثير السحر في الإنسان ، وعن أثر الشيطان والجان في إبعاد الإنسان عن التقرُّب إلى الله بالصلاة، وعن مستقبل زواجها وهي في حالتها النفسية الراهنة، وعن عدم ردِّ أبيها الشبكة لخَطيبٍ لها فَسَخ خِطبتَها لخلاف بينه وبين والدها.
... وكان يمكن أن تسأل أكثر من ذلك لأن أسئلتها جميعًا تصدر عن حالة نفسية معينة، وهي حالة سيطرة الوهْم عليها، بسبب حرْصها الشديد على أملٍ لها لم يتحقَّق بعدُ.
... وربما تكون هذه الحالة قد طرأت عليها منذُ فَسَخ خَطيبها السابق خِطبتها بعد أربع سنوات مرت على خِطْبته لها، فقد عاشت أربع سنوات في صراعٍ نفسيٍّ عنيفٍ بين أبيها وخَطيبها، بسبب اختلافهما على امتلاك قطعة الأرض المُتنازَع عليها، وكانت تعيش بين الرجاء في إنهاء الصراع بحيث لا يُؤَثِّر على علاقة خَطيبها بها وبين خيْبة الأمل في انتهائه إلى ما صار إليه من فَسْخ الخطبة والمُطالبة بردِّ الشبكة.
... وبما انتهى إليه النزاع صدمت نفسيًّا ولم تستطع أن تُقاوم هذه الصدمة فخَضعت لتأثيرها وأصبحت تُفكر في مُستقبلها وهي في هذه السن، وتُحاول أن تجد الطريق إلى هذا المستقبل.
... فتسأل مرة عن السحر وتأثيره، لا لتَعرف فحسْب تأثيره على المريض وإنما لتقف على مدَى تأثيره بوجه عام في مستقبل الإنسان وحياته.
... وتسأل عن الخطيب الجديد هل تُوافق والدَيها على الزواج به وترضَى عندئذ بالأمر الواقع؟؛ لأنه ربما لم يَبلغ في تصوُّرها وفي نفسها منزلة الخطيب السابق.
... وتسأل عن ردِّ الشبكة إلى خطيبها السابق، ربما يكون في الموافقة على ردِّها إليه ما يَفتح له الباب مرة أخرى لطلب يدِها، أو على الأقل ما يَحول دون ترويج الإشاعات ضدَّها، وبذلك تزول عقبة في طريق مستقبلها.(218/3)
... فالبنت إذا كانت في سنِّ السادسة عشر مِن عمرها تُملي شروطها على مَن يتقدَّم إليها، فإذا بلغت العشرين تسعى إلى أن تكون هي موضع الرضاء لمَن يأتي لطلبها، فإذا بلغت الخامسة والعشرين أو اقتربت من هذه السن باتت يُراودها الشكُّ في وُجود رجلٍ يُشاركها في بناء الأسرة، ويُمكِّنها مِن الأُمومة التي تُحرّك المرأة كأهمِّ هدف في حياتها.
فالحالة النفسية للسائلة هي خشْيتها أن تَفقد أمَلها في تكوين أسرة، وفي أن تكون أمًّا يومًا ما، وفي نفسها صراع من أجل تحقيق هذا الأمل، وفي الوقت نفسه يتملكها أسفٌ شديد على ما انتهى إليه وضْعُها الذي كاد يُحقِّق لها ما تصبو إليه نفسُ كل بنت وكل امرأة.
وما يَعتريها الآن مِن ألمٍ جِسميٍّ هو ولا شك أثرٌ مِن آثار الصراع النفسي لدَيها، ويوم أن اعتقدت أن الساحرة حرَقت بعض ما يتعلَّق بها مِن أشياء: اطمأنت نفسيًّا إلى أن الجن والشيطان قد ولَّى وانصرف عنها، وبذلك أحسَّتْ بهدوء جسمها وبُعد الألم عنه، ولكن عندما يتحرك الصراع الداخلي مِن جديد يُعاودها الوهْم والألَم، وكذلك عندما تنتهي المدة التي حدَّدتْها الساحرة تحسُّ في وهْمٍ منها: أنها تتألَّم وأنها في حالة مرض أيضًا، أما عدم استطاعتها التحرُّك إلى صلاة العصر والمغرب والعشاء والنطق بذكر الله فيُمثِّل فترةً مِن فترات اليأس وفقدان الأمل في قدرة المولَى ـ جل جلاله ـ وشأنها في ذلك شأن مَن يقدم على الانتحار يأْسًا من مُعاونة الله له، في إنقاذه مِن أزْمته أو أزماته.
أما مَن يعتقد تأثير السحر، أو تأثير الجان في محيط المخلوقات فكمَنْ يعتقد الشرك بالله ـ سبحانه ـ فالشرك بالله هو اعتقاد المشرك أن لله نِدًّا في الكون يُشاركه في الفعل وفي مصير الإنسان، ووحدة الألوهية هي الاعتقاد في الله دون ما سواه، فهو الخالق وحده، وهو القادر وحده، وإليه مصير الوجود والإنسان وحده.(218/4)
... وفي مسألة الشبْكة، فوالد المريضة يجب أن يردَّها إلى خطيب ابنته السابق، والامتناع عن ردِّها إليه كعُقوبة على فسْخ الخِطبة بعد طول أجَل لها، يُمثل سلوكًا لا يُقِرُّه الإسلام، كيف تُقرُّه عين الوالد بإمساك الشبكة بعد هذا النزاع الطويل، إلا إذا كان انتقامًا من خَصْمه فيه، وعندئذ يكون قد اعتدَى عليه.
... على السائلة أن تَطمئن إلى الله في إيمانها وفي حلِّ أزْمتها، وعليها أن تقبل خطيبها الجديد، فربما يكون القدَر قد ساقه إليها علاجًا لأزمتها الحاضرة.(218/5)
84 ـ الانْتحار وجزاؤه
هل إذا انتحر الشخص لسبب ما يُعتبَر كافرًا؟ وما حِسابه في الآخرة؟ وهل يُمكن أن يتوب؟
الذي يُقْدم على الانتحار، يضع حَدًّا لنهاية حياتِه، قاصدًا ومُتعَمِّدًا، هو غير صالح للحياة؛ لأنه فقَدَ أهم صفة من صفات الحياة، وهي صفة الصبر على تحمُّل المَشقَّات. والذي يَفقد الصبر على الحياة يكون قد فقدَ قبلَها صفة الإيمان بالله، فالإيمان بالله مَوطِن الأمل ومَن يَفقِد الإيمان بالله إذنْ ويفقد معه الأمل في الحياة يكون قد يَئِس مِن كل رجاء، وأغلقَ على نفسه كل طريق فيها.
والإسلام إذْ ينصح الإنسان بالصبر ويجعله نصف الإيمان، يُعيد الإنسان بذلك للحياة، بحيث لا يتطرَّق إليه يأسٌ، وبحيث لا يَفقد الأمل في التغلُّب على الصِّعاب فيها.
الإسلام يُعلم الإنسان التغلُّب على الصعاب والمَشاقِّ؛ إذ يُكلِّفه بالحِرمان في صوم رمضان ممَّا يستمتع به الإنسان عادةً من مُتع البدَن، ويقف معه إذْ يضع أمامه: أن جزاء الصوم وثوابه يُباشره الله وحده، ممَّا يُحَوِّلُ لدَيْهِ الحِرمان من المُتَع المادية إلى متعة نفسية تَفُوق كل متعة عداها من المُتع المادية.
وتوجيه الإسلام للإنسان إذن أن يكون الإنسان ذا صلابة في مواجهة الأحداث والمشقات: لا تنال منه، وإنما هو يتغلب عليها، ويسير قُدُمًا في طريقه، مُعبِّرًا عن حيوية إيمانه، وعن مُشاركته في الحياة للآخرين.
والمؤمن إذنْ لا يُقْدِم على الانتحار؛ لأنه أُعِدَّ للتغلُّب على المشقَّات، ولأنه لا يَيْأَسُ مِن رَوْح الله في الوصول إلى هَدفه، بعد أن يجتاز ما يقف في طريقه مِن صعاب.
والمؤمن صابر، وصاحب أملٍ في الله... فلابدَّ أن ينجح في طريقه لا تُرهبه مِحْنة، ولا يُخيفه تَحدٍّ، ولا يَحُول بينه وبين إيمانه العنَتُ مِن أعدائه.(219/1)
أما الذي لا يُؤمن.. أما الكافر بالله فهو مِن أول الأمر جبان يُسارع إلى الانتحار قبل أن يُواجه التحديات، ويُؤْثِر الخلاص مِن نفسه قبل أن يُحاول الخلاص من العقَبات أمامه، إن كانت هناك عقبات، وغالبًا ما تكون عقَبات أمام شهوته وهواه.
ونُصْحُ يعقوب لأولاده في البحث عن أخويهم: يوسف، وبنيامين: يُوضح لهم أن اليأس وعدم الأمَل في الله صِفة من صفات الكُفْر وحده: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). (يوسف: 87).
أما حساب المُنتحِر في الآخرة فهو حساب الكافر، وليس هناك مجال بعد موته لأنْ يتوب عن خَطئه؛ لأن التوبة عن الخطأ أو المعاصي والذنوب تكون في الدنيا، أي في حياة التائبين وهم في دُنياهم، قبل أن يُساقوا إلى قبورهم.
وعلى هذا فالمُنتحر بعيد عن رحمة الله؛ إذ لا يقترب مِن الله إلا أولئكم الذين يَستحقون الحياة: بإيمانهم وأمَلهم في الله، وصبْرهم على التحدِّيات والمَشاق في الحياة.
سائل من إحدى المحافظات يسأل: انتحر حفيدُه الطالب بالثانوية العامة، بسبب خلاف بين والديه، عجَز هو عن إصلاحه، وكان المُنتَحِر صالحًا وصاحب خُلُق، فهل صدَقاتي واستغفاري له يُفيده؟ وهل يَغفر الله له؟
هناك مرحلة نفسية لدَى الإنسان تَسبِق مُباشَرته وضْع حَدٍّ لحياته، وهي مرحلة فُقدان الأمل أو اليأس، فالطالب موضوع السؤال هنا عَزَّ عليه الخِلاف بين أبويه، وحاوَل علاجه، وردَّ العلاقة بينهما إلى الوضع الطبيعيّ. ولكنه لم ينجح والقصور عنده هو أنه تصوَّر أن عدم نَجاحه الآن في محاولته: أمر نهائيٌّ؛ ولذلك يَئِسَ أو فَقَدَ الأمل في النجاح، وربما لو حاول مرة ومرة أخرى، أو استعان ببعض الأقارب والأصدقاء لنَجحت محاولتُه أخيرًا، ولكنه لم يَصبِر.(219/2)
والإسلام إذْ يطلب مِن المؤمن: أن يتوكل على الله، يطلب منه في واقع الأمر أن يَبتعد عن اليأس، وأن لا يَفقد الأمل عند مُواجهته للأحداث والأزَمات والشدائد. وذلك بالصبر والتحمُّل. ولذا يُقال: "الصبرُ نِصْفُ الإيمانِ". والتوكُّل على الله ليس تواكُلاً.
أي ليس مَوقفًا سلبيًّا من المُتوكل، وإنما هو قِمَّة الموقف الإيجابيّ منه.. إذْ عندما يطلب القرآن الكريم من الرسول ـ عليه السلام ـ في قول الله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
يطلب منه أن يعتمد على الله ويَستند إلى عوْنه، بعد أن يُراجع الأمر بينه وبين المؤمنين ويُشاورهم في المشاكل التي تُواجههم، كما تُصرح الآية قبل ذلك، في قول الله تعالى: (وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ). (آل عمران: 159).
فالمُشاورة عملية تطلب عرْض الاتجاهات المختلفة والآثار الإيجابية والسلْبية التي تترتَّب عليها وهي تَستنفذ جُهدًا بشريًّا.
فالإيمان بالله حقًّا لا يَعرِف فُقدان الأمل ولا اليأس، ولذا مَن يُنهي حياته بنفسه يأسًا من الواقع الذي يُواجهه يكون في مرتبة مَن ارتدَّ عن الإيمان نفسه. فهو لم يعمل بمُقتضى الإيمان: لم يصبر على المِحْنة، ولم يتوكل على الله في مُعاونته على اجتيازها، والأمل الذي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليه ليس خيالاً ولا تَصوُّرًا نفسيًّا بعيدًا عن مَجرى الحياة التي يعيش فيها.
إنه من واقع الحياة ذاتها، وإنه قائم على مبدأ الوُجود، لا يختلف إطلاقًا، وقد ذكَّر به الله رسوله الكريم في قوله تعالى: (فإنَّ معَ العُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5).(219/3)
وهو مبدأ: أن كل شيء في الوجود ينطوي على نَقيضه، ويَصير إليه حتْمًا يومًا ما فالعُسر أو الشدة، يَنطوي على اليُسر والانفراج ويتطور إليه حتمًا؛ ولذا يُقال: "اشْتَدِّي أزْمَةُ تَنْفَرِجِي" .. وكذلك يُخرج الحي من الميت، والميت من الحي: (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ). (الأنعام: 95).
وعلى هذا النحو: ينفصل الليل من النهار: (وآيةٌ لهمُ الليلُ نَسْلَخُ منهُ النهارَ فإذا همْ مُظلمونَ) (يس: 37). فالأمل في التغيير أمر قائم، ولذا لا داعي لليأس والانتحار.
أما مغفرة الله لمَن أنهى حياةَ نفسه مُتأزِّمًا، بعيدًا عن الأمل في التغيير، فذلك أمر يتعلق بإرادته هو ـ سبحانه وتعالى ـ ولكن في تصوُّرنا عندما يكون شأنه شأنَ المُرتدِّ عن الإيمان، فما ارتكبه مِن خطأ يَبعد أن تصل إليه مَغفرة المولى جلَّ جلاله.
وعلى نحو المَغفرة تكون الصدَقة وهي لا تقع هنا موقع الكفَّارة والصدَقة هنا تُحسَب للمُتصدِّق، ولكن قلَّما تُزيل جريمةُ الشك في نعمة الله من إنسان آخر، وهو ذلك اليائس المُنتحر وقال يعقوب لبَنيه: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ "بِنيامين" وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن روْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). (يوسف: 87).(219/4)
13ـ يتنبّأ الفلكي بوقوع حادث مُعَيَّن فيقع فعلاً في الزمان والمكان الذي حَدَّده. فما رأي السادة العلماء ورجال الدين في تلك الظاهرة العجيبة؟
كانت هناك قبل الإسلام الكِهانة، وهى ادِّعاء علم الغيب عن طريق الجِنِّ. وكان هناك الخَطُّ على الرِّمال لمعرفة المُستَقْبَل. وكان هناك الطَّرْق أي ضرب الحصى لتحديد الحظوظ. وكان هناك اقتباس العلم من النجوم على أنَّ لها تأثيرًا في الكَوْن ومُجْرَيَات الأحداث فجاء الإسلام وحرَّم كلَّ هذه التنبُّؤات بالغيب، والحظ، والمستقبل. وربط الإنسان بالله وحده، بعد أن يحزم إرادته ويتوكَّل عليه. وجعله يسعى على هذه الأرض وهو ثابت القدم، قويٌّ في تصميمه وتوكُّله، لا يتردَّد في السير لقول كاهن أو عرَّاف. ولا ينتظر ما يتحدَّث به عن مستقبل قريب أو بعيد، استنادًا إلى النجوم، أو ضرب الحصَى، أو الخطِّ على الرمال. ولا يتوقَّف عن الاتجاه إلى اليمين أو الشمال، حتى يرى الطَّيْر يطير يمينًا أو شمالاً.
وكان قول الرسول ـ علية الصلاة والسلام ـ: "مفاتيح الغيب خَمْس لا يعلمها إلا الله:
1ـ لا يعلم ما تفيض الأرحام "أي ما تدفع وتأتى به الأرحام من ذكر أو أنثى" إلا الله.
2ـ ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله.
3ـ ولا يعلم ما يأتي المطر أحد إلا الله.
4ـ ولا تدري نفس بأيِّ أرض تموت إلا الله.
5ـ ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.(220/1)
وكان قوله على الأخصِّ في الاستناد إلى النجوم في علم الغيب: "مَن اقتبس علمًا من النجوم، اقتبس شعبة من السِّحر، زاد ما زاد" (كتاب التاج ج4 ص 235).. في رواية داود وأحمد. "فاعتقاد أن للنجوم تأثيرًا في الكون مذموم: كنجم كذا يَجيء بالأمطار..ونجم كذا يأتي بالرِّياح.. ونجم كذا يأتي بالقَحْط وعلوِّ الأسعار.. ونجم كذا يأتي بالحروب.. ونحو ذلك، أمّا معرفة النجوم على الاهتداء بها إلى عِظَم الخالِق، جل شأنه.. أو إلى الأوقات والقِبلة، والشهور.. أو إلى جهة السير، فهو مطلوب ـ لقوله تعالى ـ: (وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتدونَ) (النحل: 16).
والإسلام بتحريم هذه التنبُّؤات، وبتحريم الاعتقاد فيها، يُريد أن لا يُقِيم الإنسان حياته على الصُّدفة. إذ قد يَصْدُق المُتَنبِّئ مرة عن طريق الصُّدفة. ولكنه ليس دائمَ الصدق فيما يتنبّأ به. وهنا اتباع ما يقوله: انزلاق في متاهة وحيرة.
وجاءت رسالة الإسلام لتحمِل الإنسان على الواقعية، وترشِده إلى القوانين التي تمثل إرادة الله في كونه. وهى قوانين الطبيعة الإنسانية والمجتمع البشري في حياته على الأرض، وقوانين الطبيعة والسعي لتحصيل الرزق وامتلاك ناصية الوضع فيها.(220/2)
109 ـ إنِّي مدرِّس أحببتُ زميلة لي واتفقْنا على الزواج. ولأنِّي أعتقد في "المشايخ" ذهبْتُ لأحدهم أستشيره، ثم طلب اسمها ثم عمل بعض العمليات الحسابيّة وقال: ابتَعِدْ عن هذا الطريق فإنك لن تَسْعَد معها. فما الرأي؟
إن جزءًا أصيلاً في رسالة الإسلام هو القضاء على الخُرافة والاحتراف بالدين والعقيدة. وسورة الأنعام تَحكِي طَرَفًا من الاعتقادات الباطلة التي كانت تُروِّجها الكَهَنة لصالح أنفسهم. فكان الكُهَّان باعتبارهم خدَمة للأصنام يَفرِضون نصيبًا لأنفسهم على ما يخرج للناس من الأرض أو ينتج لهم من الحيوان، باعتبار أنّه نصيب الأصنام، على نحو ما يقول الله تعالى: (وجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ "أي خلق" مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذَا لِشُرَكَائِنَا "وهي الأصنام" فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ومَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمونَ) (الأنعام: 136).. فالقرآن هنا يُنَدِّد بفعل الكُهّان واتخاذهم العقيدة وسيلة للاستغلال المادِّي.
وكذلك يُنَدِّد بخُرافَة أخرى كانت رائجةً وشائعةً بين المشركين بمكة. وكان يروِّجها كُهّانهم. وهي أن ما يخرُج من بطون الحيوان من الأولاد حيًّا لا يَحلُّ للنساء الأكل منه، وحل أكله قاصرًا على الرجال وحدهم. فإن خرج ميتًا فهو شركة بين النساء والرجال في حلِّ الطعام منه (وقَالُوا مَا فِي بُطونِ هَذِهِ الأنْعامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ومُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيْجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ "أي يجازيهم على اختلافهم وتفرقهم في الحل والحرمة بين الذكور والإناث" إِنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 139).(221/1)
كما يُنَدِّد بخُرافة أن الجِنِّ يُشاركون الله في علم الغيب، مع أن الله خلقَهم كما خلق غيرهم: (وجَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ الجِنَّ وخَلَقَهُمْ) (الأنعام: 100). ومقتضى أنَّ الله خالق وهم مخلوقون.. أنّه وحده يتفرّد بالكمال المُطلَق فلا يُشارِكُه أحد سواه فيه. ومن كماله المُطلَق ألاّ يَطَّلِع على الغيب موجود آخرُ بغير إذنه وإرادته: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفَهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) (الجن: 26 ـ 28).
وهكذا بتنديد القرآن الكريم بالخرافة يُفسح الطريق للواقع والعلم، ويُغلقه دون الأوهام والإرهاصات، ودون الظنون والدجَل واستغلال نزعة التصديق في الإنسان.
والجواب على سؤال السائل هو في اتباع ما يُرشِد الله إليه في كتابه العزيز، وليس في مسلك المحترفين بنزعة التصديق في الإنسان.(221/2)
132ـ بعثتْ سيدة تقول: ولدتُ بنتًا جميلة، ماتتْ وعمرها عشرة أشهر بعد زيارة لبعض المعارف. وقيل إنهم حسدوها. فهل الحسد يُقبل؟. ولماذا لا يؤثِّر الحسد إلا في أمثالنا نحن "العربَ"؟
الجواب:
أليس موتُ البنت الجميلة كان صدفة بعد الزيارة لبعض المعارف؟
وهل كان الحسد على التأكيد، هو العِلّة المباشرة لموتها؟
وهل ما قيل: إن المعارف حسَدوا البنت الجميلة ـ كان قولاً صحيحًا وصادقًا؟
كل هذه الاسئلة، تستطيع السيدة التي بعثت بهذا السؤال أن تُجيب عنها على سبيل القطع. وإذنْ ليس هناك ما يُقال عن الحسد من أنّه كان السبب في الوفاة للبنت الجميلة.
والقول الآن عن الحسد في ذاته، وعن قَبول أثره كحقيقة في اعتقاد العرب على وجه الخصوص، كما تدَّعِي السائلة.
والحسد حقيقة لا شكَّ فيها؛ لأن الحسد هو تمنِّي زوال نعمة الغير. الحسد والحقد سواء. هو الرغبة في السُّوء للآخرين. أليس بعض الناس يحقد على بعض. أليس الفقير ومَن لا يملِك يحقد على الثريّ ومَن يملِك؟. أليس قليل الأهليّة والكفاية يحقد على صاحب الصلاحية والكفاية والموهبة؟. أليس الجاهل أو الأُمِّي يحقد على منزلة صاحب المعرفة والخبرة؟. أليس مَن يُصاب بعاهة يحقِد على مَن هو سليم البنية؟.
والحقد إذنْ موجود في حياتنا الدنيويّة، وسيظل موجودًا فيها، طالما يتنافس الناس على الاستمتاع بها، وطالما يختلف سعيها في تحصيل مُتعها، وطالما لا يرحَم كبيرُهم صغيرهم ولا يوقِّر صغيرهم كبيرَهم، ولا يتعاون بعضهم مع بعض.
الحقد يجعل من النفس الحاقدة عاملاً يسعى للهدم دون البناء. وللإيذاء دون النفع. وجعل من النفس الحاقدة نفسًا تتآمر مع السوء والمصائب ولا تفرِّق في تآمرها معه بين قريب أو بعيد أو جارٍ قريب أو بعيد.(222/1)
هل يُقابل الإنسان الذي لا يحقد على غيره مَن يحقد على غيره بنفس تلك الرُّوح الشريرة التي تنطوي عليها نفس الحاقد؟ أم أنه يجب أن ينصرف إلى عمله في الحياة، ويدع الأمر إلى الله ـ جلَّ شأنه ـ يَحميه من سوء الحاقد وتمنيات الحاسد.
الأمر الثاني هو الذي يدعو إليه القرآن الكريم، كما تذكره سورة "الفلق": (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. ومِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. ومِنْ شَرِّ النَّفّاثَاتِ فِي العُقَد. ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (سورة الفلق).
وإذا أطاع الناسُ جميعًا القرآنَ واستمعوا إلى ما يطلبه هنا، وما يطلبه في آيات أخرى من الإنفاق في سبيل الله والتعاون على البِرِّ والتقوى ـ عندئذٍ سيخِفُّ أمر الحقد وأثره في النفوس الحاقدة، وعلى النفوس الأخرى التي تحقد عليها. أمَّا إذا لم يُطيعوا فحرب الحقد في زيادة مستمرّة وعندما تبلغ أوجهها فسوف لا تُبقي ولا تذَر، من أموال، وأناس، وأولاد، وعمارة على الأرض.
أمّا ميل العرب ـ في بُعدهم عن التأثُّر بالإسلام ـ إلى قَبول تصديق "الحسد" فيرجع إلى طبائعِهم وأمزجتهم التي كوَّنتها بيئاتهم الفقيرة، وجوُّهم الحار، ونشأتهم المهملة. ولذا تكثُر بينهم الغِيبةُ والنميمة والحقد والوشاية والتجسُّس والنِّفاق. كل ذلك في سبيل الحصول على الدنيا ومُتعها مع التفاوت الكبير في الطَّاقات على تحصيلها، وضعف الميل إلى العمل في سبيل السعي نحوها.
137 ـ هل يمكن أن يؤدِّي "الحسد" إلى عجز طالب العلم عن استذكار دروسه عجزًا نفسيًّا؟
وما هو العلاج الذي يراه الإسلام في هذه الحالة؟
الجواب:(222/2)
إن الإنسان يُحاول أن يقتحِم بمنطقه "أسرار" الظواهر النفسية ليكشفها ويحدِّد العلاج لها. وهي محاولة يدفع إليها حبُّ الإنسان للبحث والكشف. وقد ينجح في محاولته. ولكن في نجاحه مع ذلك لا يُمكِنُه أن يَدَّعي "اليقين" لِمَا وصل إلى بحثه أو كشفه من نتائج؛ لأنَّ الإنسان ذاته في البحث مُقَيَّد بظروف طبيعته ومعيشته ومِزاجه وأوضاعه في مُحيطه. وهذه كلُّها لها أثر غير مباشر فيما يَستَنْتِجُه أو يتوصَّل إليه.
وقد يدفعه الغُرور إلى الادّعاء أو التوسُّع فيما يَدَّعي، أو يدفعه من جانب آخر إلى إنكار ما لم يصل إليه نفسه. رغم أنه مقيَّد في بحثه بأحوال الإنسانية.
وطالما وُضِع الإنسان ـ أيُّ إنسان هوـ هذا الوضع فالأولى أن يُفسح في حياته مجالاً لهداية الله التي يرسمها كتابه العزيز. وإذا قرأنا في إحدى السُّور القِصار فيه قول الله جل شأنه: (ومِنْ شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ). وجب علينا أن نؤمن بالحسد وبأنه مصدر شَرٍّ وأذى للإنسان، أمّا:
كيف يوجد الحسد؟
وكيف يصل شَرُّه من الحاسد إلى المحسود؟
فهذا أمر لم يستطع الإنسان حتَّى الآن أن يَكشِف عنه، كما يكشف عن "المادة" في بساطتها أو في تركيبها في معمل أو في مختبَر.
وكل ما يُعرَف عن الحاسد أنه إنسان أنانيٌّ امتلأتْ نفسه بحب الذات، بحيث لم يعُد فيها مكان للآخرين. ولذا يَضيق بوجودهم، كما يضيق بالنِّعَم التي أنعم الله بها عليهم ويتمنَّى لو كانت له وحده دونهم، ويُسَرُّ بمصائبهم ونوائبهم وأحداثهم التي تُقلقهم وتسبِّب لهم إزعاجهم. فهو إنسان حاقد يرجو زوال نعمة الغير. وهو بذلك مصدر شَرٍّ للآخرين.
ونفسه ـ إذن ـ لا تنفُث إلا سمومًا وأذًى. وإن "زَفيرَ" نفسه يكاد يُشبه الميكروب الذي ينتشر من حامله فيُصيب الآخرين بأضرار. كما يكاد يكون أثر الحسد في الآخرين يُشبه فعل الميكروب إذا تمكَّن من جسم ضعيف.(222/3)
وهنا الوقاية من الحسد في "التعوُّذ" من شرِّه: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. ومِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. ومِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ. ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد) (سورة الفلق).
والتعوُّذ مِنْ شَرِّ الحَسَدِ هُوَ دُعاء إلى الله بالوِقاية منه. والله لا يَستجيب لمُتَضَرِّع إليه إلا إذا كان هو على الصراط المستقيم في سلوكه وفي إيمانه، وكان مُتَوَكِّلاً على الله، لا متواكِلاً عليه.
والمتوكِّل على الله هو مَن يَسْتَنْفِد إمكانياته البشرية في السعي في عمله أولاً ثُمَّ يستعين بالله على توفيقه فيما يسعى إليه.
وهنا في السؤال: طالب العلم الذي لا يُقبل على استذكار دروسه هل:
(أ)هو مُجِدٌّ في مدرسته؟
(ب) هل هو مُستقيم في سلوكه؟
(ج) هل هو أمين فيما يحكي؟
إنْ كان من هذا النَّوْع، عليه أن يبدأ في الاستذكار، ويتوكَّل على الله ويستعين به في عبادته على أدائه لعمله. والله نصيره بعد ذلك.
وإن لم يكن من هذا النوع فهو من أتباع الهوى والشيطان، قبل أن يكون من ضحايا الحسد والحُسّاد.
81 ـ عين الحسود
في بلدنا رجل مشهور بالحسَد وبمُرور الأيام عهدنا فيه هذه الخَصلة بصورة تُحَيِّر العقول حتى إنه ما تقع عيْنه على إنسان أو حيوان أو زرع إلا أصابه الضرر الشديد، إنْ لم يكن الموت، فما رأيكم؟ وكيف نَتَّقِي عين هذا الحسود؟
إن أسرار الإنسان كثيرة، والكشْف عنها حتى الآن نوع مِن الاحتمال أو التخمين حتى إن بعض العلوم القائمة الآن ـ كعِلْم النفس ـ التي تُنسب إلى منهجها الوقوف على بعض هذه الأسرار، أو كلها: تدور في الواقع في فَلَك الظن باسم العلْم، وترفع شعار التجربة والأمر فيها افْتراض.(222/4)
يُوجد أفراد مِن الناس ـ وهم مَن نُسميهم الحاسدينَ ـ يَنفثون السُّموم في شهيقهم حِقْدًا على الآخرين، ويَرمون بنظراتهم ما لدَى غيرهم مِن خيرٍ فيُشعلون فيه نار الهلاك. هذه حقيقة نلمس آثارها، ولكننا لا نستطيع تعليلها نفسيًّا تعليلاً علميًّا يَقينيًّا.
وهذه الحقيقة ـ وهي حقيقة الحسَد ـ قديمة مع الإنسان قِدَمَ طبيعته، ويختلف الناس في تصوُّرها وفي تحديد العلاج الذي يُحِدُّ مِن آثارِهَا الضارَّة، أو المُخِرِّبَة أحيانًا، حتى إنه صارَ عُرْفًا أو اعتقادًا: أن يتصوَّر الناس الحسد على أنه شخص حلَّت فيه رُوح الشيطان، ويَقصِدون بذلك أنه مصدر شرٍّ، ويتَّقون شرَّه، إما بتَجنُّبه وعدم مُعاشرته أو بالتمويه عليه وخِداعه فيما يتعرَّض له مِن مصالح الآخرين بالحديث أو النظر.
ولحظةَ أن يرى الحاسد شيئًا لآخر معه، يَسرِي القَلِق إلى نفسِ هذا الآخر، ويُحاول أن يدفع شرَّه بالرُّقْية مرة أو بالتقرُّب والدعاء إلى الله مرة أخرى، أو بالالْتجاء إلى شفيعٍ وَسيط مرة ثالثة.
والحسَد إذنْ نعرفه في دائرة الإنسان بآثاره وبما يترُكه في نفسِ مَن أصابتْه عين الحسود، مِن اضطراب وقلق، وقد جاء القرآن الكريم بعِلاج ذلك في سورة مِن سُوره القَصيرة وهي قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِن شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (سورة الفلق).
وهذا العلاج هو أن يُردِّد الإنسان في توجهه إلى الله تعالى قوله: (ومِن شَرِّ حاسدٍ إذا حَسَدَ).
وقد كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قبل نزول هذه السورة يتعوَّذ مِن عين الإنسان، فلمَّا نزلت أخَذ بها وترك ما سواها.(222/5)
ومنْع شَرِّ الحسود يتوقف على مَشيئة الله وحده. فهو صاحب الفِعل والتدبير والدعاء بما جاء في هذه السورة ـ وهو الالْتجاء إلى الله فقط ـ ليَحول ـ جلَّ وعلا ـ دون آثار الحسَد الضارَّة، ولا يعلم مشيئته إلا هو في عَليائه.
وبوجهٍ عامٍ فقد وَعَدَ الله ـ سبحانه ـ في كتابه أنه لا يُضارُّ مَن اتَّبع هُداه؛ إذ يقول: (فمَن تَبِعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38)..
وباتباع هدى الله يأمن الإنسان أشرار هذا الكون. وهي كثيرة ومَصادرها مُحيطة بالإنسان أينما وُجِد.(222/6)
131ـ في بعض القرى يتَّخذ بعض الناس الشعوذة وسيلة للعيش.. فهم يدَّعُون تسخير الجِنِّ لقضاء ما يريدون. وبالسِّحر يفرِّقون بين الأزواج، ويعقدون المحبّة والكراهية للبعض. فما حكم هذا؟
الجواب:
السحر ـ كما يُعرَف في بعض كتُب الأحاديث التي جاءت بحكمه ـ هو مُزاولة النفس الخبيثة لأقوال وأفعال، يترتَّب عليها أمور غير عاديّة.
ويُدَّعَى أنَّ له تأثيرًا في القلوب بالحبِّ والبُغْض.
وفي الأبدان بالألم ونحوه.
والنَّوْع الخاصُّ منه بالحب كان يُسَمَّى في الجاهلية قبل الإسلام بـ"التِّوَلَة" وينقل من الأحاديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنّه شرك؛ لأنّه استعانة بغير الله وتوجُّه من مخلوق من مخلوقات. فيُروى عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: إنَّ الرُّقَى ـ والرُّقية كانت في الجاهلية باسم وثَن، أو جنٍّ، أو شيطان ـ والتَّمائم ـ وهى خَرَزات كانت تعلِّقها العرب تُقاةَ النظر والحسَد ـ والتِّوَلة ـ وهو نوع من السحر يُحَبِّب الرجل في امرأته ـ شِرك. فقالت امرأته ـ امرأة عبد الله بن عمر ـ زينب: كيف هذا؟ والله كانت عيني تقذف ـ أي دمعًا ـ فكنتُ أختلِف إلى اليهودي فيَرْقِيها، فتسكُن. قال: ذلك عمل الشيطان. كان يَنْخَسُها بيده، فإذا رقاها كفَّ عنها. إنَّما كان يَكفِيك أن تقولي: ما كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: أذهِب البأس، ربَّ الناس اشفِ، أنتَ الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادِر سَقَمًا" روى هذا الحديث أبو داوود، وابن ماجة.
والدعاء الذي كان يدعو به الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ هنا على هذا النحو كان قبل نزول المَعوذتين فلمَّا نزلتا اكتفى بهما.
أمّا حكم السحر فيَروي الترمذي والحاكم ـ وصحَّحه ـ عن جُنْدَب ـ رضي الله عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ... "حَدُّ الساحر ـ أي عقابه ـ ضربُه بالسيف".(223/1)
وفي هامش كتاب التاج ـ تعليقًا على هذا الحديث ـ جاء:
"أنَّ مَن سحر فإنه يُقتل بالسيف. وعليه بعض الصحابة، والتابعين، ومالك، وأحمد بل قال مالك: إنه كافر بالسحر فيُقْتَل، ولا يُستتاب فإنَّ توبته لا تُقبل.
وقال الشافعي: لا يُقتل إلا إذا عَمِل في سحره ما يبلُغ به الكفر. فإن قَتَل بسحره فالاجتماعُ على قتله".
ذلك هو السحر في موضوعه وفي حكمه على نحو ما ذكر في الأحاديث السابقة. والظاهر أنَّ عِلّة تحريمه في الإسلام كما يُستفاد من هذه الأحاديث هي أن مباشرته توصِّل إلى الشرك. على معنى أنّه يقوم على الاعتراف بقُوى أخرى في الكون لها قوة تأثير، نفعًا وضرًّا على الناس، بجانب الله جلَّ جلاله، وأبغض شيءٍ في الإسلام هو الشرك بالله؛ لأنه:
ـ يفرِّق بين الناس فيما يعتقدون ويعبدون، فلا تصل بينهم وحده في التوجيه ولا في الهدف.
ـ ولأنّه يذهب بكرامة الإنسان، إذ قد يعتقد الإنسان بقوة التأثير عليه في موجود هو أقلُّ أو أحقر منه، أو هو لا يملِك في الواقع نفعًا أو ضرًّا.
ـ ولأنّه يصرف الناسَ عن العمل الجِدِّيّ، القائم على النشاط البنَّاء للإنسان، إلى التواكل والتراخي.
والقرآن الكريم فيما يقُصُّه من سورة البقرة عن اتباع بعض أهل الكتاب من اليهود ما كان شائعًا من تعلُّم السحر والشعوذة على عهد الإمبراطورِيّة البابليّة، قبل دعوة المسيح، عليه السلام، واستخدام ذلك، كما كان يُعتقد يومَذاك، في التفريق بين المرء وزوجه ـ يُخبر أنّه لا يقع به ضرر لأحد، لم يشأ الله وقوعه، كما يندِّد بالاحتراف به، ويتعَهّد بعقابه بالحرمان من متاع الآخرة:(223/2)
(... ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمونَ النَّاسَ السِّحْرَ ومَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابَلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ ومَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ويَتَعَلَّمونَ مَا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُمْ ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ولَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمونَ) (البقرة: 102).
وهذه كلها عوامل في تحريم السحر أو الشعوذة وجعله شركًا. وهو من مخلَّفات الجاهليّة كضروب الشِّرك الأخرى، التي يجادِل الإسلام بعقيدة "التوحيد" القضاء عليها في المجتمع الإنساني صاحب المستوى الكريم، وصاحب الجِدِّ والاعتزاز بسعيه وعمله الخلاّق.
وما يطلبه الإسلام من التوكُّل على الله في قوله تعالى: (ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا) (الطلاق: 3)...ليس هو التَّواكِل والتَّراخي المنهِيّ عنه. وإنّما هو الاعتماد على الله والاستعانة به في تحقيق ما يعزم الإنسان على تنفيذه من مسعى أو عمل. بعد أن يجمع له طاقاته البشرية، وفي مقدِّمتِها رواية العقل وحسن التقدير للأمور. والغرض الأخير من التوكُّل على الله هو البعد عن البقاء في دائرة الاستناد إلى مخلوق أو موجود قد يكون مصدرًا لمَذَلّة الإنسان، قبل تكريمه والأخذ بيده.
أمّا كيف يَتِمُّ السحر؟ وكيف ينفُذ بتأثير الساحر إلى هدفه في القلوب.. حُبًّا وكُرْهًا والأبدان سقمًا وضعفًا؟ فذلك أمر لم يتضح تمامًا حسب مقاييس المعرفة الجارية التي توحي بالاطمئنان والركون إلى نتائجها في سلوك الإنسان.(223/3)
ما الأمر الذي يُبطل فِعْلَ السِّحْرِ، حيث إن أقاربه يَعُوذونَ برجالٍ مِن الجنِّ للكيْدِ منهم، وإيذائهم؟
وأما عن الأمر الثاني وهو: كيف يُبطل الإنسانُ فِعْلَ السحر، فإذا عرَف أن: مصدر السِّحْرِ مصدرٌ خبيثٌ، وأن النفس الشريرة هي التي تُمارسه، وعرَف بجانب ذلك أن أثَرَهُ لا يصل إلى المَسحور إلا بمَشيئة الله: (ومَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللهِ). (البقرة: 102).
إذا عرف هذا، وذاك، فإنَّ إبطال أثَرِه يكون بالاستعانة بالله سبحانه، وقد جاء في سورة الفلق: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ). (سورة الفلق).
وهو ما يُوضح الطريق إلى إبْطاله عندما يقول: مِن شَرِّ النَّفاثَاتِ في العُقَد.. وهو أن يَلجأ الإنسان إلى الله، ويدعوَه بأن يُعينَه على الوقاية مِن شَرِّهِ.
وتأكيد الله بأن السَّحَرةَ لا يَضرُّونَ أحدًا بسِحرهم إلا بإذن الله يُزيل مِن الطريق أمام المُؤمنين بالله العقباتِ التي يُقيمها الاعتقادُ في الخُرافات والاعتقاد في الخرافات هو الاعتقاد بأنه يُوجد في الكون عدَا الله ما يُؤثر في حياة الناس بالنفع أو الضرر.
إذْ طالمَا أن ضرَرَ السَّحَرةِ هنا مَرهونٌ بمَشيئة الله فلا فِعْلَ لمَوجود سواه، وعلى المؤمنينَ ألا يَعتقدوا إلا في الله وعليهم كذلك إذا تَحدَّاهمْ بعضُ الأشرار مِن أصحاب النفوس الخَبيثة بأيِّ نوعٍ مِن أنواع الدَّجَل أن يَرْكنوا لله وحده ويَستعيذوا به مِن تَحدِّي هؤلاء والله معهم.. ولا شريكَ له في مَلَكوتِهِ.(223/4)
96 ـ إمام مسجد يُسيء إلى جاره
يشكو مواطن بإحدى المحافظات فيقول: لي جارٌ هو إمام مسجد، يَحقد عليَّ ويسعى في تعطيل مَصالحي ويرمي القذارة أمام بيتي وفي داخل فِنائه، وأنا لا أستطيع مُقاومته، كما لم يستطع أن يفعل كبار أُسرته ضدَّه شيئًا على الرغم مِن كثْرة شكوايَ إليهم. فماذا أصنع؟
إمام المسجد وعلاقة الجوار القريب إذا اجتمعتَا في شخص واحد أوجبتَا عليه أن يكون على الأقلِّ غير مُعْتدٍ على واحد من أهل قريته وجارٍ من جيرانه، وبالأخصِّ إذا كان مِن جيرانه الأقربينَ فإمامة المسجد قُدوة صَالحة في السلوك والمُعاملة قبل أن تكون حركاتٍ خاصَّةً في الركوع والسجود في الصلاة.
والجار مَطلوب منه في الإسلام أن يكون مُحسنًا لجِيرانه على معنى أن تكون مُعاملته لهم مُتَّسِمَةً بالحُسن، فضلاً عن أن تكون بعيدةً عن الإيذاء.. فالله يقول: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ "أي الجار القريب أو المُلاصِق" الْجُنُبِ). "وهو الجار البعيد الذي يسمع النداء إذا ارتفع صوت النداء عليه مِن جاره" (النساء: 36).
فتجعل الآية هنا: الجار بمنزلة الوالدينِ في وُجوب مُعاملته بالحُسنى، وهي المُعاملة الإنسانية المُهذَّبة، وفي الحديث الشريف: أن الرسول ـ عليه السلام ـ يَنفي الإيمان عمَّن يُؤذي جاره، ويتسبَّب في ضرره، فيُروى أنه قال: "واللهِ لا يُؤمِنُ.. واللهِ لا يُؤمنُ .. واللهِ لا يُؤمنُ. قيلَ: مَن يا رسول الله؟ قال: مَن لا يأمنُ جارُه بَوَائِقَهُ". أي مَن استحلَّ أَذِيَّةَ الجار، فإكرام الجار مُؤكَّد بكل مُمكن: من السَّتْرِ عليه .. ومُساعدته بالمال، أو بالرأي، أو بالجاه، أو بالسلام عند اللقاء، وبالبشاشة في وَجْهه.(224/1)
وإمام المسجد المَشكوّ هنا: بحِقده على السائل وبإيذائه عن عمْدٍ، بوَضع القذارة أمام باب منزله، ويَرمي الطيور الميتة في فناء هذا المنزل ـ كما يشكو الشاكي ـ لا يكون مُخالفًا لتعاليم القرآن، وسنة الرسول ـ عليه السلام ـ فحسْب، فيما جاءت به مِن الإحسان للجار، وإبعاد الأذى والضرر عنه، ومِن مُعاونته ماديًّا وأدبيًّا.
وإنما يكون غير إنسانيٍّ .. يكون أنانيًّا لا يحب الخير إلا لذاته فحسب، ويَكره أن يكون هناك مِن أحدِ مَعارفه نظيرًا له في المَعيشة والاستقرار في الحياة.
إنه يُناقض رسالته في المسجد بما يُشاكس به جاره إنه يَنتقص شخصيتينِ: شخصية الداعي إلى الخير .. وشخصية المُباشر لفِعْلِ الشرِّ في الوقت نفسه، إنه غير صادق فيما يدعو إليه في المسجد؛ إذْ إنه هو على الحقيقة شرِّيرٌ وخَبيث.
وأقارب هذا الإمام الذين يَقفون موقف المُتفرِّجين مِن سُوء مُعاملة قريبهم لجاره الضعيف ـ وهو الشاكي هنا ـ ليست لدَيهم مُروءة المسلم، ولا نَخْوَةُ مَن يَسْعَوْنَ إلى نجْدة جارهم عندما تُطلب منهم النجدة.
إن الشاكي يقصُّ شكواه أنه كان فَقيرًا وَضَعيفًا، ولكن بسَعْيِهِ وجِدِّهِ في الحياة استطاع أن يَبنيَ بيتًا صغيرًا لنفسه وأسرته، بعد أن كان يسكن في كُوخٍ حقير، ومنذ أن سكن هو وأسرته في هذا البيت الصغير يَلقى العنَتَ من الإمام الذي يَسكن أمامه.
أليس مِن بين أقرباء هذا الإمام مَن يكون له قلب المسلم فيُشاركَ في دفْع العدوان عن الشاكي: إذا أصبح المَشكوُّ منه هنا ليس لدَيْه ضمير يَحُول بينه وبين العدوان على مُستضعف: ليس له جاهٌ ولا عائلة، ولا شَوكة إطلاقًا في مُواجهة أسرة الإمام وأقاربه.
المسلم مَن سلِم الناس مِن يده ولِسانه.. فلا يَعتدي بيده، وقُوَّته، وعَصبيته على ضعيف مُستضعف، ولا يَعتدي ببَذاءة لِسانه، وبإشاعة السُّوء، وبالوِشاية على غيره مِن الناس.(224/2)
كُنْ أيها المُعتدي على جارك القريب مُسلمًا فقط قبل أن تكون إمامًا للمسلمين في مساجد الله، فالله لا يَقبل إمَامَتَكَ، ولا إسلامَك، إذا كانت يدك مُلَطَّخَةً بالقذارة ترمي بها على جارك الضعيف.
ساعِدْهُ، بدلاً مِن عَداوتك عليه شَاركه في الفرَح والمَسَرَّة بمَنزله الجديد الذي أقامه بكَدِّهِ وعَرَقِهِ، بدَلاً من أن تُسبِّبَ له الحُزنَ والغَمَّ والانطواء على نفسه بحِقدك عليه وحَسَدك له.
وأنت أيها الشاكي دَعْ أمرك لله فهو وحده الذي سيُفرِّج كُربتك: "فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا . إنَّ معَ العُسْرِ يُسْرًا). (الشرح: 5 ـ 6).
هو قول الله الأحد الجبَّار المُهيمِن.(224/3)
68 ـ مُمارسة العلم الروحاني في حل مشاكل الناس
مواطن بإحدى المراكز يقول:
إنه ابن شيخ كان يُمارس العلم الروحاني، ويتردد عليه الكثيرون، وكان يحلُّ لهم مشاكلهم، وبعد وفاة أبيه طَلَبَ إلى الابن بعضُ مَن كان يتردَّد على أبيه أن يُمارسَ العلْمَ الرُّوحاني ببَركة والده؛ إذْ هي بركة حالَّة في البيت كله، ولكن الابن اعتذر وانصرف عنه أتباع أبيه، إلا امرأة واحدة ما زالت تتردَّد وتُلِحُّ على الابن في أن يمارس العمل عِوَضًا عن أبيه، والابن يُريد أن يعرف:
1ـ حُكم الإسلام في مُمارَسة العلم الرُّوحاني وكتابة الأحجبة؟
2ـ وكذلك الطريقة التي يُقنع بها هذه المرأة التي ما زالت تتردَّد على منزل المرحوم والده؟
القرآن الكريم يطلب إلى المؤمنين به أن يستعيذوا بالله من الشر في العالم وحدَّد مصادر هذا الشر، على الخُصوص:
أ ـ فيما كان يَعرِفه العرب باسم النفَّاثات في العُقد أو السِّحْر.
ب ـ وفي الحسَد، وهو تمنِّي زوال نعمة الغَيْر.
ج ـ ثم في هوَى النفس وشَهوتها.
د ـ وأخيرًا في رِفاق السوء.
فسورة الفلَق تأمُر بالاستعاذة مِن النفَّاثات في العُقَد، ومن حَسَد الحاسدين، بينما سورة الناس تطلب الاستعاذة مِن الخنَّاس، الذي يُوسوس في صدور الناس مِن قُوى الشر الخفيَّة وفي مُقدمتها شهوة النفس وهواها، ومِن قوى الشر الظاهرة وفي مُقدمتها رفاق السوء.
والله ـ سبحانه ـ يَعِدُ بأن يتكفَّل بالوِقايَة وبالحِفاظ من آثار هذه القوى الشريرة. ولكن على شرط أن يتوكل الإنسان عليه وحده، ومعنى التوكُّل على الله وحده: أن لا يُؤمن المتوكِّل عليه بقوةٍ أخرى في الوجود تُسيء إلى الإنسان من غير إرادة الله سبحانه.(225/1)
ولذا جاء القرآن في وَصْفِ أثَر السحر بقوله: (إِنَّمَا صَعَنُوا كيدُ ساحرٍ ولا يُفلحُ الساحرُ حيثُ أتَى). (طه: 69)... ولم يقُل القرآن ذلك تَطمينًا لموسى ـ عليه السلام ـ وإنما هو يصف واقع السحر وأثره كما جاء في سورة البقرة فيما كان يصنعه المُستكبرون المُعارضون على عهد سليمان ـ وهم أشرار عهدِه وشياطينه ـ من التأثير على الناس ضدَّه بأقوالهم: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) (البقرة: 102).
فأي مصدر من مصادر الشر المذكورة هنا لا يصل أثره إلى الإنسان إلا بإرادة الله وحدها فإرادته هي الفيْصل وليس مصدر الشر نفسه، وواجب الإنسان إذنْ أن يتعامل مع الله دون سواه.. واجبه أن لا يخضع إلا إلى هُدى الله وحده... واجبه أن يَستعيذ دائمًا وأبدًا بالله مِن شرور هذا الكون.
والسائل حين يَعتذر عن مُمارسة ما يسمى بعلم الروحانيات، رغم ثقة أتباع والده فيه: يفعل الصواب، لا لأنه فقط يجهل هذا العلم، كما يقول، ولكن لأن إيمانه بالله وحده يفرِض عليه أن يَكِل أمور الناس إلى الخالق، عز وجل، دون أن يشرك نفسه معه في أمر منها، وممارسة تسخير قوى الشر لصالح بعض الناس أو ضد مصلحتهم ـ كما يَدَّعِي ـ إشراك لغير الله في تدبير هذا الكون، وإن لم يكن يَقصِد الشرك والكفر به سبحانه.
أما السبيل الذي يُطالب به السائل لإبعاد المرأة التي تتردَّد عليه مُعتقدةً أن بركة والده حلَّت فيه، وتطلب إليه أن يُمارس علْم والده فالإصرار على رفْض المُمارسة هو خير السُّبُل لإبعادها؛ لأنه يستحيل ـ إلا ما شاء الله ـ أن تتردَّد عليه، وهو يلقاها بوجه الرافض المُنكِر لمَا تقول.
82 ـ العِلاج بالأحْجبة(225/2)
إني طالبة بالمدارس الثانوية وبعض الناس لا يُحبون لي الخير، وقد يَفعلون ما يَضرُّني، وفي هذه الأيام أقومُ مِن نومي مُرَوَّعةً بالأحلام المُفزِعة، أراها، وأبي وأمي يُريدان مُعالجتي بالأحْجبة، وأنا أرفض ذلك، فما الرأي؟
إن السائلة طالبة بالمدارس الثانوية وهي الآن في سنِّ المُراهقة.. سن الآمال والخيال.. والأوهام.. وربما يَختَلِط عليها الأمل بالوهْم، فبينما يحلُو لها الاسترسال في خيَال الأمل، إذا بها تقف فجأةً وتَصطدِم بوَهم من الأوهام. وقد تَجِد في واقع حياتها مع الآخرينَ: ما يَزِيد في وَهْمِهَا، وفي الرغبة في الحَيْطة منهم.
قد تَنقل إليها همَسات الآخرين عنها.. وقد ترى حركاتٍ لبعضهم تُفسِّرها بأنها تُشير إليها بالذات، وعندئذ تُؤْثر العُزلة، وكلما أمْعَنتْ في العُزلة، زادت في الوهْم، و تصوَّرت أنها مُحاطة بألوان من الحقد، ونوايَا تُضمر لها السوء.. ومن هنا تَعتقد أن الناس لا يُحبونها.. وأنهم يُريدون بها شرًّا تعتقد ذلك في اليقظة، ويتحرك في صورٍ عديدة في اللاشعور عندها في النوم، فتقوم مُرَوَّعَةً بالأحلام المُفزِعة، كما تذكر في سؤالها.
ولكي تُخَفِّف من هذه الأوهام تعود إلى أملها فتَقصره على الدراسة والنجاح فيها. وبالتالي تُحدِّد جانبًا من جوانب التعليم تَحرص على أن تُحقق الهدف منه كأن تكون طبيبةً أو مُربية، أو باحثة اجتماعية.. إلخ. وعندئذ تنزل مِن بُرجها العاجيّ إلى الواقع في الحياة.
وبالتدريب النفسيّ تُحاول أن تُبعد عنها في الوقت الحاضر أمَلَ التعرُّف على شاب يكون لها شريكًا في حياتها المُقبِلَة، وأمل تكوين أسرة جديدة في وقت قريب، وما يتصل بذلك من الأولاد، والاستقلال عن الوالدينِ وبيت العائلة، كما يُقال.(225/3)